الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: ٩
الوفاة: ٨٥٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

23
((باب زكاة الورق))
أي: هذا باب في بيان زكاة الورق، بفتح الواو وكسر الراء، وهو الفضة، ويقال بفتح الواو وبكسرها، وبكسر الراء وسكونها، قدم هذا الباب على سائر الأموال الزكوية لكثرة دوران الفضة في أيدي الناس ورواجها بكل مكان.
7441 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس ذود صدقة من الإبل وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة.
مطابقته للترجمة في قوله: (وليس فيما دون خمس أواق صدقة)، والحديث مضى في باب: ما أدى زكاته فليس بكنز، فإنه أخرجه هناك: عن إسحاق بن يزيد عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن أبيه عن يحيى بن عثمان بن أبي الحسن أنه سمع أبا سعيد، رضي الله تعالى عنه... الحديث، وقد مضى الكلام فيه مستوفى.
حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثني يحيى بن سعيد قال أخبرني عمر و وسمع أباه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بهاذا
هذا طريق آخر في الحديث المذكور، والغرض من هذا بيان التقوية لأنها هي المرتبة الأعلى لعدم احتمال الواسطة بخلاف الإسناد السابق، وهو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه محتمل للواسطة.
وفيه: التحديث والإخبار والسماع، وهناك يروي عمرو بن يحيى عن أبيه بالعنعنة، وهنا صرح بأنه سمع أباه. وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصري، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
وهذا الحديث أخرجه الستة كما ذكرنا في: باب ما أدى زكاته فليس بكنز، وقد حكى ابن عبد البر عن بعض أهل العلم أن حديث الباب لم يأت إلا من حديث أبي سعيد الخدري. قال: وهذا هو الأغلب، إلا أنني وجدته من رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. ومن طريق محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن جابر. انتهى. وقال بعضهم: ورواية سهيل في (الأموال) لأبي عبيد ورواية محمد بن مسلم في (المستدرك). وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن جابر، وجاء أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة وأبي رافع ومحمد بن عبد الله بن جحش. أخرج أحاديث الأربعة الدارقطني، ومن حديث ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة وأبي عبيد أيضا. انتهى.
قلت: حديث سهيل في (كتاب الأموال) لأبي عبيد من حديث
2

معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بمثل حديث أبي سعيد الخدري. وحديث محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار (عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس على الرجل المسلم زكاة في كره ولا في زرعه إذا كان أقل من خمسة أوسق)، أخرجه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورواه البيهقي من هذا الوجه هكذا، ومن هذا الوجه أيضا بزياد أبي سعيد الخدري مع جابر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة في الزرع ولا في الكرم ولا في النخل إلا ما بلغ خمسة أوسق، وذلك مائة فرق). وحديث جابر أخرجه مسلم من طريق ابن وهيب: أخبرني عياض بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة). وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه الدارقطني من رواية عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال: ليس في أقل من خمس ذود شيء، ولا في أقل من الأربعين من الغنم شيء ولا في أقل من البقر شيء ولا في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء ولا في أقل من مائتي درهم شيء، ولا في أقل من خمس أوسق شيء، والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير وما سقى سيحا ففيه العشر، وما سقي بالقرب ففيه نصف العشر)، وعبد الكريم هو ابن أبي المخارق أبو أمية البصري ضعيف. وحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، رواه الدارقطني أيضا من رواية صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، قالت جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوساق زكاة، والوسق ستون صاعا، وذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة. قال الدارقطني: صالح بن موسى ضعيف الحديث، وضعفه أيضا ابن معين وأبو حاتم، وهو من ولد صطلحة بن عبيد الله يقال له: الطلحي. وحديث أبي رافع أخرجه الطبراني من رواية شعبة عن الحكم عن ابن أبي رافع عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة). وحديث محمد بن عبد الله ابن جحش أخرجه الدارقطني من رواية أبي كثير مولى ابن جحش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه، حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا، ومن كل مائتي درهم خمسة دراهم، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة، وليس لهم في الخضروات صدقة). وأبو كثير ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب (الكنى) ممن لا يعرف اسمه، وقال: روى عنه العلاء بن عبد الرحمن، وفيه عبد الله بن شبيب ضعفه ابن حبان. وحديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أخرجه أبو عبيد في (كتاب الأموال) من رواية ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، ورواه أيضا موقوفا عليه
، فقال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر أنه قال مثل ذلك غير مرفوع. قلت: وفي الباب أيضا عن عمرو بن حزم أخرجه ابن حبان في (صحيحه) من رواية سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات...)، فذكر الحديث، وفيه: (وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم)، وما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وليس فيما دون خمس أواق شيء). وقال ابن حبان: سليمان هو ابن داود الخولاني ثقة، وقال النسائي وغيره: الأشبه أنه سليمان بن أرقم، وهو متروك.
33
((باب العرض في الزكاة))
أي: هذا باب في بيان جواز أخذ العرض في الزكاة، والعرض، بفتح العين وسكون الراء: خلاف الدنانير والدراهم التي هي قيم الأشياء، وبفتح العين: ما كان عارضا لك من مال، قل أو كثر، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، فكل عرض بسكون عرض بالفتح بدون العكس، والعرض يجمع على عروض، وقال ابن قرقول: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض)، بفتح الراء: يعني كثرة المال والمتاع ويسمى عرضا لأنه عارض يعرض وقتا ثم يزول ويفنى. ومنه قوله: (يبيع دينه
3

بعرض من الدنيا) أي: بمتاع منها ذاهب فان. والعرض ما عدا العين، قاله أبو زيد. وقال الأصمعي: ما كان من مال غير نقد، قال أبو عبيد، ما عدا الحيوان والعقار والمكيل والموزون. وفي (الصحاح): العرض المتاع وكل شيء فهو عرض سوى الدراهم والدنانير فإنها عين. وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا يكون حيوانا ولا عقارا، والعرض، بكسر العين: النفس، يقال أكرمت عرضي عنه أي: صنت عنه نفسي، وفلان نقي العرض أي: برئ من أن يشتم أو يعاب. وقد قيل: عرض الرجل حسبه، والعرض، بضم العين: ناحية الشيء من أي وجه جئته ورأيته في عرض الناس أي فيما بينهم.
وقال طاوس قال معاذ رضي الله تعالى عنه لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة
مطابقته للترجمة في قوله: (ائتوني بعرض)، وهذا تعليق رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عيينة عن إبراهيم ن ميسرة عن طاووس قال معاذ: ائتوني بخمس، وحدثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم عن طاووس أن معاذا كان يأخذ العروض في الصدقة.
ذكر معناه: قوله: (بعرض ثياب) بغير إضافة على أن قوله: ثياب، إما بدل أو عطف بيان، ويروى بإضافة العرض إلى ثياب من قبيل شجر الأراك، والإضافة بيانية. قوله: (خميص)، بالصاد، كذا ذكره البخاري فيما قاله عياض وابن قرقول، وقال الداودي والجوهري: ثوب خميس، بالسين، ويقال له أيضا: خموص، وهو الثوب الذي طوله خمسة أذرع، يعني: الصغير من الثياب، وقال أبو عمر: وأول من عملها باليمن ملك يقال له الخميس. وفي (مجمع الغرائب): أول من عمله يقال له الخميس. وفي (المغيث): الخميس الثوب المخموس الذي طوله خمس. وقال ابن التين: لا وجه لأن يكون بالصاد، فإن صحت الرواية بالصاد فيكون مذكر الخميصة، فاستعارها للثوب. وقال الكرماني: هو الكساء الأسود المربع له علمان. قوله: (أوليس)، بفتح اللام وكسر الباء الموحدة: بمعنى الملبوس، مثل قتيل ومقتول، وقال ابن التين: ولو كان أراد الاسم لقال: لبوس. لأن اللبوس كل ما يلبس من ثياب ودرع. قوله: (والذرة)، بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء. قوله: (أهون) خبر مبتدأ محذوف أي: هو أهون، أي: أسهل. قوله: (عليكم)، وإنما لم يقل لكم لإرادة معنى تسليط السهولة عليهم.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به أصحابنا في جواز دفع القيم في الزكوات، ولهذا قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل، وقال بعضهم: لكن أجاب الجمهور عن قصة معاذ، رضي الله تعالى عنه. قلت: من جملة ما قالوا: إنه مرسل. وقال الإسماعيلي: حديث طاووس لو كان صحيحا لوجب ذكره لينتهي إليه وإن كان مرسلا فلا حجة فيه، ومنهم من قال: إن المراد بالصدقة الجزية لأنهم يطلقون ذلك مع تضعيف الواجب حذرا من العار. وقال البيهقي: وهذا الأليق بمعاذ، رضي الله تعالى عنه، والأشبه بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ الجنس في الصدقات وأخذ الدينار، وعدله معافر ثياب اليمن في الجزية. قالوا: ويدل عليه نقله إلى المدينة، وذهب معاذ أن النقل في الصدقات ممتنع ويدل عليه إضافتها إلى المهاجرين والأنصار والجزية تستحق بالهجلاة والنصرة وأما الزكاة فتستحق بالفقر والمسكنة وقالوا أيضا أن قوله ائتوني بعرض ثياب معناه آتوني به آخذه منكم مكان الشعير والذرة الذي آخذه شراء بما آخذه فيكون بأخذه قد بلغت محله ثم يأخذ مكان ما يشتريه مما هو واسع عندهم وانفع للآخذ وقالوا لو كانت هذه من الزكاة لم تكن مردودة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة دون غيرهم وكيف كان الوجه في رده عليهم وقد قال له صلى الله عليه وسلم (تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) وأما الجواب عن ذلك كله فهو أن قولهم أنه مرسل فنقول المرسل حجة عندنا وأن قولهم المراد بالصدقة الجزية فالجواب عنه من أربعة أوجه. أولها أنه قال مكان الشعير والذرة وتلك غير واجبة في الجزية بالإجماع. الثاني أن المنصوص عليه لفظ الصدقة، كما في لفظ البخاري، والجزي صغار لا صدقة، ومسميها بالصدقة مكابر. الثالث: قاله حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ زكااهم، وفعله امتثال لما بعث من أجله وسببه هو الزكاة، فكيف يحمل على الجزية؟ الرابع: أن الخطاب مع المسلمين لأنه يبين لهم ما فيه من النفع لأنفسهم وللمهاجرين والأنصار، فلولا أنهم يريدون المهاجرين والأنصار لما قال: خير الأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهم المهاجرون والأنصار، لأن الكفار
4

لا يختارون الخير للمهاجرين والأنصار، وأن قولهم: مذهب معاذ أن النقل من الصدقات ممتنع، لا أصل له لأنه لا ينسب إلى أحد من الصحابة مذهب في حياة رسول
الله، صلى الله عليه وسلمد وأن قولهم: ويدل عليه إضافتها إلى المهاجرين والأنصار... إلى آخره، ليس كذلك، لأنه لم يضف الصدقة إليهم مطلقا، بل أراد أنه خير للفقراء منهم، فكأنه قال: خير للفقراء منهم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وأعربه إعرابه، وما نقل الزكاة إلى المدينة إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه لذلك، ولأنه يجوز نقلها إلى قوم أحوج من الفقراء الذين هم هناك، وفقراء المهاجرين والأنصار أحوج للهجرة وضيق حال المدينة في ذلك الوقت. فإن قلت: قد قيل: إن الجزية كانت يومئذ من قوم عرب باسم الصدقة، فيجوز أن يكون معاذ أراد ذلك في قوله: في الصدقة؟ قلت: قال السروجي: قال هذا القاضي أبو محمد، ثم قال: ما أقبح الجور والظلم منه، وما أجهله بالنقل، إنما جاءت تسمية الجزية بالصدقة من بني تغلب ونصارى العرب بالتماسهم في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: هي جزية فسموها ما شئتم، وما سماها المسمون صدقة قط. قلت: قال الطرطوشي: قال معاذ: للمهاجرين والأنصار بالمدينة، وفي المهاجرين بنو هاشم وبنو عبد المطلب ولا يحل لهم الصدقة، وفي الأنصار أغنياء ولا يحل لهم الصدقة، فدل على أن ذلك الجزية. قلت: قال السروجي: ركة ما قاله ظاهرة جدا، وهو تعلق بحبال الهوى وخبطة العشواء لأنه أراد بالمهاجرين والأنصار من يحل له الصدقة لا من تحرم عليه، وكذا الجزية لا تصرف إلى جميع المهاجرين والأنصار بل إلى مصارفها المعروفين. فافهم. فإن قلت: إن قصة معاذ اجتهاد منه فلا حجة فيها؟ قلت: كان معاذ أعلم الناس بالحلال والحرام، وقد بين له النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن ما يصنع به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم وأما خالد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله
مطابقته للترجمة من حيث أن أدراع خالد وأعتده من العرض، ولولا أنه وقفهما لأعطاهما في وجه الزكاة أو لما صح منه صرفهما في سبيل الله لدخلا في أحد مصارف الزكاة الثمانية المذكورة. في قوله عز وجل: * (إنما الصدقات للفقراء) * (التوبة: 06). فلم يبق عليه شيء، وهذا التعليق ذكره البخاري في: باب قول الله عز وجل * (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله) * (التوبة: 06). وسيأتي بعد أربعة عشر بابا، إن شاء الله تعالى، قال البخاري: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج (عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب رضي الله تعاى عنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ينتقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله وأما خالد فأنكم تظلمون خالدا فقد احتبس أدراعه واعتمده في سبيل الله وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي عليه صدقة ومثلها معها).
ذكر معناه: قوله: (أما خالد)، هو خالد بن الوليد سيف الله. قوله: (احتبس) أي: وقف، وهو يتعدى ولا يتعدى، وحبسته واحتبسته بمعنى. قوله: (أدراعه) جمع درع. قوله: (وأعتده)، بضم التاء المثناة من فوق: جمع: عتد، بفتحتين. ووقع في رواية مسلم أعتاده، وهو جمعه أيضا. قيل: هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة. يقال: فرس عتيد أي صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب، ويروى: (أعبده)، بضم الباء الموحدة، جمع: عبد، حكاها عياض والأول هو المشهور، وهذا حجة أيضا للحنفية. واستدل به البخاري أيضا على إخراج العروض في الزكاة، ووجه ذلك أنهم ظنوا أنها للتجارة فطالبوه بزكاة قيمتها، وسيأتي الكلام في موضعه عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقن ولو من حليكن فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها ولم يخص الذهب والفضة من العروض
مطابقته للترجمة في قوله: (خرصها وسخابها)، لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهن بالصدقة ولم يعين الفرض من غيره، ثم إلقاؤهن الخرص والسخاب وعدم رده صلى الله عليه وسلم إياها منهن دليل على أخذ العروض في الزكاة، ويفهم من كلامه أنه لم يفرق بين مصارف الزكاة
5

وبين مصارف الصدقة، لأن المقصود منها القربة، والمصروف إليه الفقير والمحتاج. وقال الإسماعيلي: هذا حث على الصدقة ولو من أنفس مال، وليس في ذلك فرض، فلو كان من الفرض لقال: أدين صدقة أموالكن. قلت: معنى: تصدقن أدين صدقاتكن، وهن أمرن بالصدقة، وهو يتناول الفرض والنفل، ولكن هذا اللفظ إذا أطلق يكون المراد منه الكمال، وذلك لا يكون إلا في الفرض، ثم هذا التعليق قطعة من حديث لابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أخرجه البخاري موصولا، وقد تقدم في العيدين في: باب العلم الذي في المصلى. قوله: (ولو من حليكن) أي: ولو كانت صدقتكن من حليكن، بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء آخر الحروف: جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام، وهذا للمبالغة. قوله: (فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها) من كلام البخاري. قوله: (خرصها)، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وفي آخره صاد مهملة: وهو الحلقة التي تعلق في الأذن، وقال الكرماني: بكسر الخاء أيضا. قوله: (وسخابها)، بكسر السين المهملة وهي القلادة. قوله: (ولم يخص..) إلى آخره، من كلام البخاري ذكره لكيفية استدلاله على أداء العرض في الزكاة.
8441 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله تعالى عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.
.
مطابقته للترجمة من حيث جواز إعطاء سن من الإبل بدل سن آخر، ولما صح إعطاء العامل الجبران صح العكس أيضا، ولما جاز أخذ الشاة بدل تفاوت سن الواجب جاز أخذ العرض بدل الواجب.
ذكر رجاله: وهم: أربعة: الأول: محمد بن عبد الله ابن المثنى، بضم الميم وفتح الثاء المثلثة والنون. الثاني: أبوه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك.
الثالث: ثمامة، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم: وهو عبد الله بن أنس قاضي البصرة، وقد مر في كتاب العلم. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: أن السند كله بالتحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع، وفيه: أن التحديث مسلل بالأنسبين. وفيه: أنهم كلهم بصريون. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: رواية الراوي عن جده وهو رواية ثمامة عن أنس، فإن أنسا جده. وفيه: رواية الراوي عن عمه، وهو رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس. وفيه: أن عبد الله ابن المثنى من أفراده. وفيه: أنه من رباعيات الحديث.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ذكر صاحب (التلويح) أن هذا الحديث خرجه البخاري في عشرة مواضع من كتابه بإسناد واحد مقطعا من حديث ثمامة عن أنس: أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، وقال الحافظ المزي في (الأطراف): في ستة مواضع من الزكاة، وفي الخمس وفي الشركة وفي اللباس وفي ترك الحيل مقطعا ومطولا عن محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري عن أبيه عن عمه ثمامة بن عبد الله بن أنس عن جده أنس به، وقال في اللباس: وزادني أحمد بن حنبل عن الأنصاري، فذكر قصة الخاتم. وأخرجه أبو داود في الزكاة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة، قال: اخذت من ثمامة بن عبد الله ابن أنس كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين بعثه مصدقا، وكتبه له، فإذا فيه: هذه فريضة الصدقة، فذكره بطوله. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الله بن المبارك، رضي الله تعالى عنهما، وعن عبد الله بن فضالة، رحمه الله تعالى، وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن بشار ومحمد بن مرزوق ثلاثتهم عن محمد ابن عبد الله الأنصاري، نحوه وليس فيه قصة الخاتم.
فنقول: الموضع الأول: من الزكاة هو المذكور ههنا. والثاني: في: باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ثمامة أن أنسا حدثه أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، كتب له الذي فرض له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة). والثالث في: باب ما كان من خليطين: حدثنا محمد بن عبد الله... إلى آخره بالإسناد
6

المذكور. والرابع في: باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، حدثنا محمد بن عبد الله.. إلى آخره، بالإسناد المذكور. والخامس في: باب زكاة الغنم: حدثنا محمد بن عبد الله... إلى آخره، نحوه. والسادس في: باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة، حدثنا محمد بن عبد الله إلى آخره نحوه.
ذكر معناه: قوله: (كتب له النبي)، أي: كتب له الفريضة التي تؤخذ في زكاة الحيوان التي أمر الله تعالى ورسوله بها. قوله: (بنت مخاض)، بفتح الميم وبالخاء المعجمة الخفيفة وفي آخره ضاد معجمة: وهي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني وحملت أمها، والماخض الحامل أي: دخل وقت حملها، وإن لم تحمل، وقال النضر بن شميل في (كتاب الإبل) تأليفه: إن ولد الناقة لا يزال فصيلا سنة، فإذا لقحت أمه انفصل عنه اسم الفصيل وهو ابن مخاض، فإذا بلغت أمه مضربها من رأس السنة فإن ضربت فلقحت فإبنها ابن مخاض، والجماعة: بنات مخاض حتى تلقح أمه من العام المقبل، فإذا نتجت فهو ابن اللبون حتى تضع أمه من آخر سنتين، والأنثى ابنة لبون، وذلك للبن أمه من آخر عامها، والجماعة بنات اللبون، فيكون ابن لبون سنة ثم تكون حقا والأنثى حقة لسنة، والجماعة الحقاق، وثلاثة أحق والإناث ثلاث حقائق، والحقة يقال لها: طروقة، وذلك حين تبلغ أمه اللقاح فتريد الفحل أول ما تريده، يقال لها طروقة الفحل، وإن لم ترد الفحل فهي طروقة على كل حال، فإذا بلغت الحقاقة ولم ترد الفحل فهي الآبية فإذا بلغ رأس الحول فهو الجذع، والأنثى الجذعة والجماعة الجذاع، ويقال الجذعان والجذاع أكثر، وعن الأصمعي: الجذوعة وقت من الزمان ليست بسن، وقيل هو في جميع الدواب قبل أن يثني بسنه، والجمع جذعان وجذان. وفي (المخصص): الحق الذي استحق أن يركب ويحمل عليه، وقيل: الذي استحقت أمه الحمل بعد العام المقبل، وقيل: إذا استحق هو وأخته أن يحمل عليهما فهو حق، وعند سيبويه حقه وحقق وحقق بالضم وحقائق جمع حقة على غير قياس، والحقة يكون مصدرا واسمه.
وقال أبو داود، رضي الله تعالى عنه، في (سننه): سمعته من الرياشي وأبي حاتم وغيرهما، ومن كتاب النضر بن شميل، ومن كتاب أبي عبيد وربما ذكر أحدهم الكلمة، قالوا: يسمى الحوار ثم الفصيل إذا أفصل، ثم يكون بنت مخاض لسنة إلى تمام سنتين، فإذا دخلت في الثالثة فهي ابنة لبون، فإذا تمت له ثلاث سنين فهو حق وحقة إلى تمام أربع سنين لأنها استحقت أن تركب وتحمل عليها الفحل فهي تلقح، ولا يلقح الذكر حتى يثنى، ويقال للحقة طروقه الفحل لأن الفحل يطرقها إلى تمام أربع سنين، فإذا طعنت في الخامسة فهي جذعة حتى يتم لها خمس سنين، فإذا دخلت في السادسة وألقى ثنيته له فهو حينئذ ثني حتى تستكمل ستا فإذا طعن في السابعة سمي الذكر رباعي والأنثى رباعية إلى تمام السابعة، فإذا دخل في الثامنة ألقى السن السديس الذي بعد الرباعية فهو سديس وسدس إلى تمام الثامنة، فإذا دخل في التسع طلع نابه فهو باذل، أي: بذل نابه، يعني طلع حتى يدخل في العاشرة فهو حينئذ مخلف، ثم ليس له اسم، ولكن يقال بازل عام وبازل عامين ومخلف عام ومخلف عامين ومخلف ثلاثة أعوام إلى خمس سنين، والخلفة الحامل.
قوله: (وليست عنده)، جملة حالية أي: والحال أن بنت مخاض ليست بموجودة عنده. قوله: (وعنده بنت لبون)، جملة حالية أيضا أي: والحال أن الموجود عنده بنت لبون. قوله: (فإنها) أي: فإن بنت لبون تقبل منه، أي تؤخذ منه الزكاة ولكن يعطيه، أي: المصدق، وهو الذي يأخذ الزكاة يعطي صاحب الماشية عشرين درهما أو يعطيه شاتين، وذلك ليجبر بها تفاوت سن الإبل، ويسمى ذلك بالجبران. وفي (التوضيح): وعندنا أن الخيار في الشاتين والدراهم لدافعها، سواء كان المالك أو الساعي، وفي قول: إن الخيرة إلى الساعي مطلقا فعلى هذا إن كان هو المعطي راعى المصلحة للمساكين، وكل منهما أصل بنفسه وليس ببدل لأنه خير بينهما بحرف أو فعلم أن ذلك لا يجري مجرى تعديل القيمة لاختلاف ذلك في الأزمنة والأمكنة، وإنما هو فرض شرعي كالغرة في الجنين والصاع في المصراة. انتهى. قلت: قال صاحب (الهداية): ومن وجب عليه سن فلم يوجد عنده أخذ المصدق أعلى منها ورد الفضل أو أخذ دونها وأخذ الفضل. وقال أبو يوسف: إذا وجبت بنت
مخاض ولم توجد أخذ ابن لبون، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة ومحمد: لا يجوز ذلك إلا بطريق القيمة. وفي (المبسوط): يتعين ابن لبون عند عدم بنت مخاض في رواية عن أبي يوسف، وفي (البدائع): قال محمد: في الأصل إن المصدق بالخيار إن شاء أخذ قيمة الواجب
7

وإن شاء أخذ الأدون وأخذ تمام قيمة الواجب من الدراهم. وقال صاحب (البدائع): وقيل: ينبغي الخيار لصاحب السائمة إن شاء دفع الأفضل واسترد الفضل من الدراهم، وإن شاء دفع الأدون ودفع الفضل من الدراهم، لأن دفع القيمة جائز في الزكاة، والخيار في ذلك لصاحب المال دون المصدق إلا في فصل واحد، وهو ما إذا أراد صاحب المال أن يدفع بعض العين لأجل الواجب، فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ذلك وإن شاء لم يأخذه، كما إذا وجبت بنت لبون، فأراد صاحب المال أن يدفع بعض الحقة بطريق القيمة أو كان الواجب الحقة فأراد أن يدفع عنها بعض الجذعة بطريق القيمة فالمصدق بالخيار، إن شاء قبل، وإن شاء لم يقبل لما فيه من عيب التشقيص.
ثم اعلم أن الأصل في هذا الباب أن دفع القيمة في الزكاة جائز عندنا، وكذا في الكفارة وصدقة الفطر والعشر والخراج والنذر، وهو قول عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وطاووس. وقال الثوري: يجوز إخراج العروض في الزكاة إذا كانت بقيمتها، وهو مذهب البخاري، وإحدى الروايتين عن أحمد. ولو أعطى عرضا عن ذهب وفضة، قال أشهب: يجزيه. وقال الطرطوشي: هذا قول بين في جواز إخراج القيم في الزكاة، قال: وأجمع أصحابنا على أنه لو أعطى فضة عن ذهب أجزأه، وكذا إذا أعطى درهما عن فضة عند مالك: وقال سحنون: لا يجزيه وهو وجه للشافعية، وأجاز ابن حبيب دفع القيمة إذا رآه أحسن للمساكين، وقال مالك والشافعي: لا يجوز، وهو قول داود. قلت: حديث الباب حجة لنا لأن ابن لبون لا مدخل له في الزكاة إلا بطريق القيمة لأن الذكر لا يجوز في الإبل إلا بالقيمة، ولذلك احتج به البخاري أيضا في جواز أخذ القيم مع شدة مخالفته للحنفية.
قوله: (على وجهها)، أي: وجه الزكاة التي فرضها الله تعالى بلا تعد. قوله: (ابن لبون)، وفي (التلويح) قال: ابن لبون ذكر، وجعل لفظ الذكر من متن الحديث، ثم قال: ومن المعلوم أنه لا يكون إلا ذكرا، وإنما قاله تأكيدا كقوله تعالى: * (تلك عشرة كاملة) * (التوبة: 06). وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)، وزعم بعضهم أنه احتراز من الخنثى، وقيل: ذكر ذلك تنبيها لرب المال وعامل الزكاة، لتطيب نفس رب المال بالزيادة المأخوذة منه وللمصدق، ليعلم أن سن الذكور مقبول من رب المال في هذا الموضع.
ومما يستفاد من حديث الباب جواز الكتابة في الحديث، وقيل لمالك في الرجل يقول له العالم: هذا كتابي فاحمله عني وحدث بما فيه، قال: لا أراه يجوز، وما يعجبني. وروى عنه غير هذا وأنه قال: كتبت ليحيى بن سعيد مائة حديث من حديث ابن شهاب فحملها عني، ولم يقرأها علي وقد أجاز الكتاب ابن وهب وغيره، والمقاولة أقوى من الإجازة إذا صح الكتاب. وفيه: حجة لجواز كتابة العلم، والله أعلم.
9441 حدثنا مؤمل قال حدثنا إسماعيل عن أيوب عن عطاء بن أبي رباح. قال قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلى قبل الخطبة فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تلقي وأشار أيوب إلى أذنه وإلى حلقه.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر النساء بدفع الزكاة فدفعن الحلق والقلائد، فهذا يدل على جواز أخذ العرض في الزكاة والحديث تقدم عن ابن عباس في أبواب العيدين في: باب العلم الذي بالمصلى، وفي: باب موعظة الإمام النساء، فإنه أخرجه في: باب العلم، من حديث عبد الرحمن بن عابس عن ابن عباس، وفي: باب موعظة الإمام عن طاووس عنه، وهنا أخرجه: عن مؤمل، بلفظ المفعول من التأميل، وهو مؤمل بن هشام أبو هشام البصري ختن إسماعيل بن علية، يروي عن إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب السختياني إلى آخره.
قوله: (لصلى)، بفتح اللامين: اللام الأولى جواب قسم محذوف يتضمنه لفظ: أشهد، لأنه كثيرا ما يستعمل في معنى القسم، تقديره: والله لقد صلى، ومعناه: أحلف بالله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العيد قبل الخطبة. قوله: (فرأى أنه) أي: فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يسمع النساء، من الإسماع، وذلك لبعدهن عنه
8

(فأتاهن)، أي: فجاء إليهم. قوله: (ومعه بلال) الواو فيه واو الحال أي: والحال أن بلالا كان معه. قوله: (ناشر ثوبه)، يجوز بالإضافة وبتركها، وقد علم أن اسم الفاعل يعمل عمل فعله. قوله: (وأشار أيوب) أي: المذكور في سند الحديث إلى أذنه أي: إلى ما في أذنه، وأراد به: الحلق والقرط، وإلى ما في حلقه، وأراد به القلادة.
43
((باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يجمع إلى آخره. قوله: (متفرق)، بتقديم التاء على الفاء وتشديد الراء رواية الكشميهني ورواية غيره: لا يجمع بين مفترق، بتقديم الفاء من الافتراق، صورة: لا يجمع بين متفرق أن يكون لهذا أربعون شاة ولذاك أربعون أيضا، وللآخر أربعون فيجمعوها حتى لا يكون فيها إلا شاة، وصورة: لا يفرق بين مجتمع: أن يكون شريكان ولكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما في مالهما ثلاث شياه، ثم يفرقان غنمهما عند طلب الساعي الزكاة، فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة. قوله: (مجتمع)، بكسر الميم الثانية، قيل: لم يقيد البخاري الترجمة بقوله خشية الصدقة لاختلاف نظر العلماء في المراد بذلك لما سنذكره،
إن شاء الله تعالى عن قريب.
ويذكر عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
أي: يذكر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، أي: مثل لفظ هذه الترجمة، وهذا التعليق ذكره الترمذي موصولا مطولا، فقال: حدثنا زياد بن أيوب البغدادي وإبراهيم ابن عبد الله الهروي ومحمد بن كامل المروزي، والمعنى واحد، قالوا: حدثنا عفان بن العوام عن سفيان بن حسين عن الهروي (عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه فلما قبض عمل به أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، حتى قبض، وعمر حتى قبض...) الحديث، وفيه: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع مخافة الصدقة...) إلى آخره. وقال: حديث ابن عمر حديث حسن، وخرجه أبو محمد الدارمي في كتابه الملقب (بالصحيح) وقال الترمذي في (كتاب العلل): سألت محمدا عن حديث سالم عن أبيه كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة؟ فقال: أرجو أن يكون محفوظا، وسفيان بن حسين صدوق. وقال صاحب (التلويح): كيف ساغ للبخاري أن يعلق هذا الحديث ممرضا، وهو نقض لما يقوله المحدثون. قلت: لا اعتراض عليه في ذلك، فإنه لا يلزم من تحسين الترمذي إياه أن يكون حسنا عنده.
0541 حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله تعالى عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الترجمة عين لفظ الحديث، والإسناد بعينه مضى في الباب الذي قبله، وهو: باب العرض في الزكاة. قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: قدر، قال الخطابي: لأن الإيجاب قد بينه الله تعالى، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون على بابه بمعنى الأمر، يبينه قوله في الرواية التي مضت، وهي التي أمر الله رسوله.
واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فقال مالك في (الموطأ): تفسير (ولا يجمع بين متفرق)، أن يكون ثلاثة أنفس لكل واحد أربعون شاة، فإذا أظلهم المصدق جمعوها ليؤدوا شاة، ولا يفرق بين مجتمع أن يكون لكل واحد مائة شاة وشاة فعليهما ثلاث شياه، فيفرقونها، ليؤدوا شاتين فنهوا عن ذلك، وهو قول الثوري والأوزاعي. وقال الشافعي: تفسيره أن يفرق الساعي الأول ليأخذ من كل واحد شاة، وفي الثاني ليأخذ ثلاثا فالمعنى واحد لكن صرف الخطاب الشافعي إلى الساعي كما حكاه عنه الداودي في (كتاب الأموال)، وصرفه مالك إلى المالك، وهو قول أبي ثور، وقال الخطابي عن الشافعي: إنه صرفه إليهما. وقال أبو حنيفة: معنى لا يجمع بين متفرق أن يكون بين رجلين أربعون شاة، فإذا جمعاها فشاة، وإذا فرقاها فلا شيء، ولا يفرق بين مجتمع أن يكون لرجل مائة شاة وعشرون شاة، فإن
9

فرقها المصدق أربعين فثلاث شياه، وقال أبو يوسف: معنى الأول أن يكون لرجل ثمانون شاة، فإذا جاء المصدق قال: هي بيني وبين إخوتي، لكل واحد عشرون فلا زكاة، أو أن يكون له أربعون ولأخوته أربعون فيقول: كلها لي، فشاة. وفي (المحيط): وتأويل هذا أنه كان له ثمانون شاة تجب فيها واحدة فلا يفرقها ويجعلها لرجلين فيأخذ شاتين، فعلى هذا يكون خطابا للساعي، وإن كانت لرجلين فعلى كل واحد شاة فلا تجمع ويؤخذ منها شاة، والخطاب في هذا يحتمل أن يكون للمصدق بأن يكون لأحدهما مائة شاة وللآخر مائة شاة وشاة فعليهما شاتان فلا يجمع المصدق بينهما، ويقول هذه كلها لك فيأخذ منه ثلاث شياه، ولا يفرق بين مجتمع بأن يكون لرجل مائة وعشرون شاة فيقول الساعي: هي لثلاثة فيأخذ ثلاث شياه، ولو كانت لواحد تجب شاة، ويحتمل أن يكون الخطاب لرب المال، ويقوى بقوله: (خشية الصدقة) أي: فيخاف في وجوب الصدقة فيحتال في إسقاطها بأن يجمع نصاب أخيه إلى نصابه فتصير ثمانين فيجب فيها شاة واحدة، ولا يفرق بين مجتمع بأن يكون له أربعون فيقول نصفها لي ونصفها لأخي فتسقط زكاتها. وفي (المبسوط): والمراد من الجمع والتفريق في الملك لا في المكان لإجماعنا على أن النصاب إذا كان في ملك واحد يجمع وإن كان في أمكنة متفرقة، فدل أن المتفرق في الملك لا يجمع في حق الصدقة. قوله: (خشية الصدقة) مما تنازع فيه الفعلان، والخشية خشيتان: خشية الساعي أن تقل الصدقة، وخشية رب المال أن تكثر الصدقة، فأمر كل واحد منهما أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق. قيل: لو فرض أن المالكين أرادا ذلك لإرادة تكثير الصدقة أو وجوب ما لم يجب عليهما التماسا لكثرة الأجر، أو لإرادة وقوع ما أراد التصدق به تطوعا ليصير واجبا. وثواب الواجب أكثر من ثواب التطوع، فالظاهر جواز ذلك.
ومما يستفاد من الحديث: النهي عن استعمال الحيل لسقوط ما كان واجبا عليه. ويجري ذلك في أبواب كثيرة من أبواب الفقه، وللعلماء في ذلك خلاف في التحريم أو الكراهة أو الإباحة، والحق أنه كان ذلك لغرض صحيح فيه رفق للمعذور وليس فيه إبطال لحق الغير، فلا بأس به من ذلك في قوله تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * (ص: 44). وإن كان لغرض فاسد: كإسقاط حق الفقراء من الزكاة بتمليك ماله قبل الحول لولده، أو نحو ذلك، فهو حرام أو مكروه على الخلاف المشهور في ذلك. وقال بعضهم: واستدل به على أن من كان عنده دون النصاب من الفضة ودون النصاب من الذهب مثلا إنه لا يجب ضم بعضه إلى بعض حتى يصير نصابا كاملا فتجب فيه الزكاة، خلافا لمن قال: يضم على الأجزاء كالمالكية، أو على القيم كالحنفية. انتهى. قلت: هذا استدلال غير صحيح لأن النهي في الحديث معلل بخشية الصدقة، وفيه إضرار للفقراء بخلاف ما قاله المالكية والحنفية فإن فيه نفعا للفقراء وهو ظاهر. وقيل: استدل به لأحمد على أن من كان له ماشية في بلد لا تبلغ النصاب كعشرين شاة، مثلا بالكوفة، ومثلها بالبصرة أنها لا تضم باعتبار كونها ملك رجل واحد ويؤخذ منها الزكاة. قلت: قد ذكرنا عن قريب أن الجمع
والتفريق أن يكون في الملك لا في المكان، وعن هذا قال ابن المنذر: خالفه الجمهور فقالوا: يجب على صاحب المال زكاة ماله ولو كان في بلدان شتى، ويخرج منه الزكاة.
53
((باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية))
أي: هذا باب يذكر فيه ما كان من خليطين إلى آخره، وكلمة: ما، هنا تامة نكرة متضمنة معنى حرف الاستفهام، ومعناها أي: شيء كان من خليطين فإنهما يتراجعان، والخليطان تثنية خليط، واختلف في المراد بالخليط، فذهب أبو حنيفة إلى أنه الشريك، لأن الخليطين في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هما الشريكان اللذان اختلط مالهما ولم يتميز كالخليطين من النبيذ. قاله ابن الأثير، وما لم يختلط مع غيره فليسا بخليطين، هذا ما لا شك فيه، وإذا تميز مال كل واحد منهما من مال الآخر فلا خلطة، فعلى قول أبي حنيفة: لا يجب على أحد من الشريكين أو الشركاء فيما يملك إلا مثل الذي كان يجب عليه لو لم يكن خلط، وذكر في (المبسوط)، وعام كتب أصحابنا: أن الخليطين يعتبر لكل واحد نصاب كامل كحال الانفراد، ولا تأثير للخلطة فيها سواء كانت شركة ملك بالإرث والهبة والشراء ونحوها، أو شركة عقد كالعنان والمفاوضة. ذكره الوبري وقال ابن المنذر: اختلفوا في رجلين بينهما ماشية نصاب واحد، قالت طائفة: لا زكاة عليهما، قال:
10

هذا قول مالك والشافعي والثوري وأبي ثور وأهل العراق، وقال ابن حزم في (المحلى): وبه قال شريك بن عبد الله والحسن بن حي، وقال الشافعي والليث وابن حنبل وإسحاق تجب عليهما الزكاة ولو كانوا أربعين رجلا لكل واحد شاة تجب عليهم شاة، وقال ابن المنذر: الأول أصح، يعني عدم وجوب الزكاة، وقال ابن حزم في (المحلى): الخلطة لا تحيل حكم الزكاة هو الصحيح. وقال الطرطوشي: لا تصح الخلطة إلا أن يكون لكل واحد منهما نصاب كامل، والمعاني المعتبرة فيها: الراعي والفحل والمراح والدلو والمبيت، ذكرها مالك في (المدونة) ومنهم من ذكر: الحلاب، مكان المبيت، وحصول جميعها ليس بشرط، والحلاب معناه أن يكون الحالف واحدا إلا أن يخلط الألبان، ولو كان أحدهما عبدا أو كافرا. قال محمد بن مسلمة: لم تصح الخلطة، وقال ابن الماجشون: تصح ولا تشترط الخلطة في جميع الحول، وقال ابن القاسم: لو اختلطا قبل الحول بشهرين فأقل فهما خليطان. وقال ابن حبيب: أدناه شهر. وقال أبو محمد: إذا لم يقصد الفرار صح، ورأى الأوزاعي ومالك وأبو الحسن بن المفلس من الظاهرية، الخلطة في المواشي لا غير، ورأى الشافعي حكم الخلطة التي قال به جاريا في المواشي والزروع والثمار والدراهم والدنانير، وقال ابن حزم، ورأى أن مائتي نفس لو ملكوا مائتي درهم كل واحد درهما يجب عليهم فيها خمسة دراهم، وقال النووي: الخلطة، بضم الخاء، سواء كانت خلطة شيوع واشتراك في الأعيان، أو خلطة أوصاف وجواز في المكان بشروط تسعة: أن يكون الشركاء من أهل وجوب الزكاة، وأن يكون المال بعد الخلط نصابا، وأن يمضي عليه بعد الخلط حول كامل، وأن لا يتميز أحدهما عن الآخر في المراح وفي المسرح وفي المشرب كالبئر والنهر والحوض والعين، أو كانت المياه مختلفة بحيث لا تختص غنم أحدهما بشيء، والسابع: الراعي، والثامن: الفحل، والتاسع في المحلب، ولا يشترط خلط اللبن. وقال أبو إسحاق المروزي: يشترط فيه فيحلب أحدهما فوق لبن الآخر، قال صاحب (البيان): هو أصح الوجوه الثلاثة، وفي وجه: يشترط أن يحلبا معا ويخلطا اللبن ثم يقتسمانه، وقال صاحب (المفيد): ويشترط عنده اتحاد الدلو والكلب، وقيل: ليس ذلك بمذهبه، وحكى الرافعي عن الحناطي أنه حكى أن خلط الجوار لا أثر لها وغلط، والمسرح المرعى. وقيل: طريقها إلى المرعى. وقيل: الموضع الذي تجتمع فيه لتستريح، والمحلب، بالكسر، هنا وهو الإناء الذي تحلب فيه.
وفي بعض كتب الحنابلة ذكر للخلطة ست شرائط، ثم أنه قد يكون أثر الخلطة في إيجابها، وقد يكون في تكثيرها، وقد يكون في تقليلها. مثال الأول: خمس من الإبل أو أربعون من الغنم بين اثنين تجب فيهما الزكاة، ولو انفردت لا تجب. ومثال الثاني: لكل واحد منهما مائة شاة وشاة تجب على كل واحد شاة ونصف، ولو انفردت تجب على كل واحد شاة، ومثال الثالث: وهو التقليل مائة وعشرون شاة بين ثلاثة يجب على كل واحد ثلث شاة، ولو انفردت لوجب على كل واحد شاة، واستدلوا بحديث الباب السابق، ولنا أنه قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة...) الحديث، وجميع النصوص الواردة في نصب الزكاة تمنع الوجوب فيما دونها، ولأنه لا حق لأحدهما في ملك الآخر، وماله غير زكوي لنقصانه عن النصاب، ومثله مال الآخر، وقال أبو محمد: ورأوا في خمسة أنفس لكل واحد بنت مخاض تجب على كل مسلم خمس شاة، وفي عشرة بينهم خمس من الإبل لكل واحد نصف بعير تجب على كل واحد منهم عشر شاة مع قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في أربع من الإبل شيء) فهذه زكاة ما أوجبها الله تعالى فقط، وحكم بخلاف حكم الله تعالى، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجعلوا لمال أحدهما حكما في مال الآخر، وهذا باطل، وخلاف القرآن والسنن، واشتراط الشروط التسعة المذكورة، وغيرها تحكم بلا دليل أصلا لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب قياس ولا من وجه معقول، وليت شعري من جعل الخلطة مقصورة على الوجوه التي ذكروها دون أن يريد به الخلطة في المنزل أو في الصناعة أو في الشركة أو في المغنم، كما قال طاووس وعطاء. ولو وجبت بالاختلاط في المرعى لوجبت في كل ماشية في الأرض، لأن المراعي متصلة في أكثر الدنيا، إلا أن يقطع بينها بحرا ونهرا وعمارة. قال: وأما تقدير المالكية الاختلاط بالشهر والشهرين فتحكم بارد، وقوله ظاهر الإحالة جدا لأنه خص بها المواشي فقط دون الخلطة في الثمار والزروع والنقدين، وليس ذلك في الخبر. فإن قلت: روى الدارقطني والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي
11

والفحل). قلت: في سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف فلا يجوز التمسك به، كذا ذكره عبد الحق في (الأحكام الكبرى) وأعجب الأمور أن البيهقي إذا كان الحديث لهم يسكت عن ابن لهيعة ومثله، وإذا كان عليهم يتكلم فيهم بالباع والذراع. قوله: (فإنهما يتراجعان) أي: فإن الخليطين يتراجعان بينهما، معناه أن الساعي إذا أخذ من
مال أحدهما جميع الواجب فإنه يرجع على شريكه بحصته، مثلا، إذا كان بينهما أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون، وقد عرف كل منهما عين ماله فأخذ المصدق من أحدهما شاة فإن المأخوذ من ماله يرجع على خليطه بقيمة نصف شاة، وهذه تسمى خلطة الجوار، ويقع التراجع فيها. وقد يقع قليلا في خلطة الشيوع. وقال صاحب (التوضيح): والتراجع مقتضاه من اثنين. قلت: لا نسلم ذلك، لأنه من: باب التفاعل، ومقتضاه من اثنين وجماعة، والذي من اثنين فقط يكون من: باب المفاعلة، كما علم في موضعه.
وقال طاووس وعطاء إذا علم الخليطان أموالهما فلا يجمع مالهما
طاووس بن اليماني وعطاء بن أبي رباح، وهذا تعليق رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن محمد بن بكر عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار عن طاووس، قال: إذا كان كان الخليطان يعلمان أموالهما فلا تجمع أموالهما في الصدقة، وحدثنا محمد ابن أبي بكر عن ابن جريج، قال: أخبرت عطاء عن قول طاووس، فقال: ما أراه إلا حقا، واعترض ابن المنذر، وقال: قول طاووس وعطاء غفلة منهما، إذ غير جائز أن يتراجعا بالسوية والمال بينهما لا يعرف أحد ماله من مال صاحبه. قوله: (إذا علم الخليطان) يعني: لا يكون المال بينهما مشاعا، وهذا يسمى بخلطة الجوار، فمذهب طاووس وعطاء، رضي الله تعالى عنهما، هو خلطة الشيوع.
وقال سفيان لا تجب حتى يتم لهاذا أربعون شاة ولهاذا أربعون شاة
أي: قال سفيان الثوري، رحمه الله تعالى: لا تجب الزكاة. وقال الكرماني: أي لا تثبت الخلطة، ورواه عبد الرزاق عنه، وقال التيمي: كان سفيان لا يرى للخلطة تأثيرا كما لا يراه أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه، وفي (التوضيح): وقول مالك كقول عطاء، رضي الله تعالى عنهما.
1541 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.
.
حديث أنس هذا قطعه البخاري رحمه الله تعالى وذكره في ستة مواضع ههنا بعين هذا الإسناد. الأول: في: باب العرض في الزكاة. والثاني: في: باب لا يجمع بين متفرق. والثالث: في هذا الباب. والرابع: في: باب من بلغت عنده. والخامس: في باب زكاة الغنم. والسادس: في: باب لا يؤخذ في الصدقة هرمة، وقد ذكرنا في: باب العرض في الزكاة أن البخاري أخرج هذا الحديث في عشرة مواضع بإسناد واحد مقطعا، وذكره في كتاب الزكاة في ستة مواضع، والأربعة في الخمس والشركة واللباس، وفي ترك الحيل، وأخرجه أبو داود في موضع واحد بتمامه، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، كتبه لأنس، رضي الله تعالى عنه، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا وكتبه له، فإذا فيه: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه فيما دون خمس وعشرين من الإبل والغنم، في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين، فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت
12

ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فإذا تباين أسنان الإبل في فرائض الصدقات فمن بلغت عنده صدقة الجزعة وليست عنده جزعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، وأن يجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليس عنده حقة وعنده بنت لبون وليست عند اللاحقة فإنها تقبل منه إلى ههنا ثم أيقنت ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون فإنها تقبل منه. قال أبو داود: ومن ههنا لم أضبط عن موسى كما أحب، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليس عنده إلا بنت مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنها تقبل منه وليس معه شيء، ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها، وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على عشريني ومائة ففيها شاتاة إلى أن تبلغ مائتين، فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة شاة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا زادت عوار من الغنم ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.
63
((باب زكاة الإبل))
أي: هذا باب في بيان زكاة الإبل وليس في رواية الكشميهني والحموي لفظ: باب الإبل، بكسر الباء، وقد تسكن ولا واحد لها من لفظها.
ذكره أبو بكر وأبو ذر وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: ذكر حكم زكاة الإبل أبو بكر الصديق وأبو ذر جندب بن جنادة وأبو هريرة عبد الرحمن، رضي الله تعالى عنهم، أما حديث أبي بكر فقد ذكره مطولا كما يأتي بعد باب من رواية أنس عنه، ولأبي بكر حديث آخر مضى في: باب ما يتعلق بقتال مانعي الزكاة. وأما حديث أبي ذر فسيأتي بعد ذكر ستة أبواب من رواية المعرور بن سويد عنه، في وعيد من لا يؤدي زكاة إبله وغيرها، ويأتي معه حديث أبي هريرة.
قلت: وفي الباب عن ابن عمر وبهز بن حكيم عن أبيه عن جده وأبي سعيد الخدري وعمرو بن حزم وسلمة بن الأكوع ورقاد بن ربيعة. وأما حديث ابن عمر فذكره البخاري معلقا في أول: باب لا يجمع بين متفرق، وأخرجه الترمذي موصولا وقد ذكرناه هناك، وأخرجه أبو داود أيضا موصولا مطولا. وأخرجه ابن ماجة أيضا. وأما حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فأخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح إلى بهز، ولفظه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في كل سائمة إبل: في أربعين بنت لبون لا يفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا بها فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، عز وجل، ليس لآل محمد منها شيء. وأما حديث أبي سعيد فأخرجه ابن ماجة من رواية إبراهيم بن طهمان عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، وليس في أربع شيء، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة إلى أن تبلغ تسعا..) الحديث بطوله. وأما حديث عمرو بن حزم فأخرجه الطبراني في (الكبير) وابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (المستدرك) من رواية الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وفي الكتاب: في كل خمس من الإبل سائمة شاة...) الحديث بطوله. وأما حديث سلمة ابن الأكوع فرواه الطبراني من رواية ابن لهيعة عن معاذ بن محمد الأنصاري أن عمرو بن يحيى عن سعيد بن زرارة أخبره
13

عن ابن سلمة بن الأكوع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم الإبل الثلاثون يخرج في زكاتها واحدة وترحل منها في سبيل الله واحدة وتمنح منها واحدة هي خير من الأربعين والخمسين والستين والسبعين والثمانين والتسعين والمائة، وويل لصاحب المائة من المائة. وأما حديث رقاد بن ربيعة فرواه الطبراني أيضا قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أحمد بن كثير البجلي حدثنا يعلى بن الإشدق، وقال: أدركت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم رقاد بن ربيعة قال: أخذ منا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم من المائة شاة فإذا زادت فشاتان، ويعلى بن الأشدق ضعيف جدا متهم بالكذب، وأحمد بن كثير البجلي لا أدري من هو.
55 - (حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيا سأل رسول الله
عن الهجرة فقال ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا)
مطابقته للترجمة في قوله ' فهل لك من إبل تؤدي صدقتها قال نعم '.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول علي بن عبد الله المعروف بابن المديني وقد تكرر ذكره. الثاني الوليد بن مسلم على لفظ الفاعل من الإسلام القرشي. الثالث عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس عطاء بن يزيد مع الزيادة أبو زيد الليثي. السادس أبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في موضع واحد وفيه أن شيخه من أفراده وفيه أن الوليد والأوزاعي شاميان وأن ابن شهاب وعطاء مدنيان
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الهجرة عن علي بن عبد الله وفي الأدب عن سليمان بن عبد الرحمن وفي الهبة عن محمد بن يوسف وأخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن خلاد عن الوليد به وعن عبد الله بن عبد الرحمن وأخرجه أبو داود في الجهاد عن مؤمل بن الفضل وأخرجه النسائي في البيعة وفي السير عن الحسين بن حريث كلاهما عن الوليد به
(ذكر معناه) قوله ' أن أعرابيا ' الأعرابي البدوي وكل بدوي أعرابي وإن لم يكن من العرب وإن كان يتكلم بالعربية وهو من العجم (قلت) فيه عرباني قاله ابن قرقول وقال غيره الأعرابي نسبة إلى الأعراب والأعراب ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة والعربي نسبة إلى العرب وهم الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه وسواء أقام بالبادية والمدن قوله ' فقال ويحك ' قال الداودي ويح كلمة تقال عند الزجر والموعظة والكراهة لفعل المقول له أو قوله ويدل عليه أنه إنما سأله أن يبايعه على ذلك على أن يقيم بالمدينة ولم يكن من أهل مكة الذين وجبت عليهم الهجرة قبل الفتح وفرض عليهم إتيان المدينة والمقام بها إلى موته
وأنه ألح في ذلك قلت الذي ذكره أهل اللغة في ويح أنها كلمة رحمة أو توجع إن وقع في هلكة لا يستحقها قوله ' أن شأنها شديد ' أي أن شأن الهجرة وذلك لا يسأله أن يبايعه على ذلك على أن يقيم بالمدينة ولما علم
أنه لا يهاجر قال له ذلك وكان ذلك قبل الفتح قبل انقضاء الهجرة قوله ' فهل لك من إبل تؤدي صدقتها ' أي زكاتها وإنما خص بصدقة الإبل مع أن أداء جميع الواجبات واجب لأنه كان من أهل الإبل والباقي منقاس عليه قوله ' فاعمل من وراء البحار ' معناه إذا كنت تؤدي فرض الله عليك في نفسك ومالك فلا تبال أن تقيم في بيتك وإن كانت دارك من وراء البحار ولا تهاجر فإن الهجرة من جزيرة العرب ومن كانت داره من وراء البحار لن يصل إليها وقيل المراد من البحار البلاد قيل في قوله تعالى * (ظهر الفساد في البر والبحر) * أنه القرى والأمصار ومنه اصطلح أهل البحيرة يعني في ابن أبي أن يعصبوه يعني أهل المدينة وفي
14

حديث آخر كتب لهم ببحرهم أي ببلدهم وأرضهم وقيل البحار نفسها وفي المطالع قال أبو الهيثم من وراء البحار وهو وهم وقال الكرماني لأنه لا مسكن وراء البحار (قلت) المقصود منه فاعمل ولو من البعد الأبعد من المدينة ولم يرد منه حقيقة ذلك (فإن قلت) فهل لمن أراد الهجرة من مكان لا يقدر فيه على إقامة حد الله ثواب الهجرة حيث تعذرت عليه (قلت) نعم وكذلك كل طاعة كالمريض يصلي قاعدا ولو كان صحيحا لصلى قائما فإن له ثواب صلاة القائم (فإن قلت) لم منعه من الهجرة (قلت) لأنها كانت متعذرة على السائل شاقة عليه وكان الإيجاب حرجا عليه وأضرارا (فإن قلت) لم لا تقول بأن هذه القصة كانت بعد نسخ وجوب الهجرة إذ لا هجرة بعد الفتح (قلت) التاريخ غير معلوم مع أن المنسوخ هو الهجرة من مكة وأما غيرها فكل موضع لا يقدر المكلف فيه على إقامة حدود الدين فالهجرة عليه منه واجبة انتهى كلام الكرماني وقال المهلب كان هذا القول قبل فتح مكة إذ لو كان بعده لقال له لا هجرة بعد الفتح كما قاله لغيره ولكنه
علم أن الأعراب قلما تصبر على لأواء المدينة ألا يرى إلى قلة صبر الأعرابي الذي استقال الهجرة حين مسته حمى المدينة فكأنه قال له إذا أديت الحق الذي هو أكبر شيء على الأعراب ثم منحت منها وحلبتها يوم ورودها لمن ينتظرها من المساكين فقد أديت المعروف من حقها فرضا ونفلا فهو أقل لفتنتك كما افتتن المستقيل البيعة وقال القرطبي يحتمل أن يكون ذلك خاصا بهذا الأعرابي لما علم من حاله وضعفه عن المقام بالمدينة وقال بعضهم كانت الهجرة على غير أهل مكة من الرغائب ولم تكن فرضا وقال أبو عبيد كانت الهجرة على أهل الحاضرة ولم تكن على أهل البادية وقيل إنما كانت الهجرة واجبة إذا أسلم بعض أهل البلد ولم يسلم بعضهم لئلا يجري على من أسلم أحكام الكفار ولأن في هجرته توهينا لمن يسلم وتفريقا لجماعتهم وذلك باق إلى اليوم إذا أسلم في دار الحرب ولم يمكنه إظهار دينه وجب عليه الخروج فأما إذا أسلم كل من في الدار فلا هجرة عليهم لحديث وفد عبد القيس وأما الهجرة الباقية إلى يوم القيامة فقوله
' المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ' قوله ' فإن الله لن يترك من عملك شيئا ' قال ابن بطال لفظ الكتاب يترك بوزن مستقبل ترك رواه بعضهم يترك بكسر التاء وفتح الراء على أن يكون مستقبل وتر يتر ومعناه لن ينقصك وفي القرآن * (ولن يتركم أعمالكم) * أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم وقال ابن التين ضبط في رواية الحسن بتشديد التاء وصوابه بالتخفيف وعند الإسماعيلي وقال الفريابي بالتشديد والله أعلم * -
73
((باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده))
أي: هذا باب يذكر فيه من بلغت عنده.. إلى آخره. قوله: (صدقة)، مرفوع لأنه فاعل: بلغت، وهو مضاف إلى: بنت مخاض. قوله: (وليست عنده)، جملة حالية، وقال ابن بطال: ذكر الحديث ولم يذكر ما بوب له وكأنها غفلة منه، ورد عليه بأنها غفلة ممن ظن به الغفلة، وإنما مقصده أن يستدل على أن من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده هي ولا ابن لبون لكن عنده مثلا: حقه، وهي أرفع من بنت مخاض، لأن بينهما بنت لبون، وقد تقرر أن بين بنت اللبون وبنت المخاض عشرين درهما أو شاتين، وكذلك سائر ما وقع ذكره في الحديث من سن يزيد أو ينقص، إنما ذكر فيه ما يليها لا ما يقع بينهما بتفاوت درجة، فأشار البخاري إلى أنه يستنبط من الزائد والناقص المتصل ما يكون منفصلا بحساب ذلك، فعلى من بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده إلا حقة أن يرد عليه المصدق أربعين درهما أو أربع شياه جبرانا، أو بالعكس، فلو ذكر اللفظ الذي ترجم به لما أفهم هذا الغرض فتدبره. وقيل: إن من أمعن النظر في تراجم هذا الكتاب وما أودعه فيها من أسرار المقاصد استبعد أن يفعل أو يضع لفظا لغير معنى أو يرسم في الباب خبرا يكون غيره به أقعد وأولى، وإنما قصد بذكر ما لم يترجم به أن يقرر أن المقصود إذا وجد الأعلى منه أو الأنقص شرع الجبران كما شرع ذلك فيما يتضمنه هذا الخبر من ذكر الأسنان، فإنه لا فرق بين فقد بنت مخاض ووجود الأكمل منها، قال: ولو جعل العمدة في هذا الباب الخبر المشتمل على ذكر فقد بنت المخاض لكان نصا في الترجمة ظاهرا، فلما تركه واستدل بنظيره أفهم ما ذكرناه من الإلحاق بنفي الفارق وتسويته عين فقد ابنة المخاض، ووجود الأكمل بينها وبين فقد الحقة، ووجود الأكمل منها.
15

انتهى. قلت: هذا تطويل مخل، والأوجه أن يقال: هو جار على عادته في أنه يذكر في الباب حديثا، ويكون أصل ذلك الحديث فيه ما يحتاج إليه في الباب، ولم يذكره ليكل الناظر إلى البحث والنظر.
3541 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله تعالى عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهما ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين.
.
هذا من جملة الحديث الذي ذكره في: باب العرض في الزكاة، عن أنس بهذا الإسناد بعينه. قوله: (كتب له فريضة الصدقة) وفي رواية أبي داود: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال ابن العربي في كتابه (المسالك شرح موطأ مالك): ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الماشية ثلاثة كتب: كتاب أبي بكر، وكتاب آل عمرو بن حزم، وكتاب عمر بن الخطاب، وعليه عول مالك لطول مدة خلافته وسعة بيضة الإسلام في أيامه وكثرة مصدقيه، وما من أحد اعترض عليه فيه، ولأنه استقر بالمدينة وجرى عليه العمل مع أنه رواية سائر أهل المدينة. وقال أبو الحارث: قال أحمد بن حنبل: كتاب عمرو بن حزم في
الصدقات صحيح وإليه أذهب. قوله: (من بلغت عنده) كلمة: من، مبتدأ فيها معنى الشرط. وقوله: (فإنها) خبره. قوله: (صدقة الجذعة) كلام إضافي مرفوع لأنه فاعل: بلغت، والواو في: وليست، وفي: وعنده، للحال، وقد مر تفسير الجذعة والحقة وبنت اللبون وبنت مخاض عن قريب. قوله: (إن استيسرتا) أي: إن وجدتا في ماشيته، يقال: تيسر واستيسر بمعنى. قوله: (أو عشرين) أي: أو يجعل عشرين درهما بدلا من الشاتين. قوله: (ومن بلغت عنده صدقة الحقة) الكلام فيه من حيث المعنى والإعراب مثل الكلام في قوله: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة)، وكذا في لفظ: (ومن بلغت)، في المواضع الثلاثة.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن المنذر: اختلف في المال الذي لا يوجد فيه السن الذي يجب ويوجد دونها فكان النخعي يقول بظاهر هذا الحديث، وهو قول الشافعي وأبو ثور، وروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، يرد عشرة دراهم أو شاتين، وهو قول الثوري، وقال ابن حزم: وهو قول عمر بن الخطاب، وقال القرطبي: وهو قول عبيدة وأحد قولي إسحاق، وقوله الثاني كقول الشافعي. وقيل: تؤخذ فيها قيمة السن الذي يجب عليه، وهو قول مكحول والأوزاعي، وقيل: تؤخذ قيمة السن الذي وجب عليه، وإن شاء أخذ الفضل منها ورد عليه فيه دراهم، وإن شاء أخذ دونها وأخذ الفضل دراهم ولم يعين عشرين درهما ولا غيرها، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: على رب المال أن يبتاع للمصدق السن الذي يجب عليه، ولا خير في أن يعطيه بنت مخاض عن بنت ليون ويزيد ثمنا، أو يعطي بنت لبون عن بنت مخاض ويأخذ ثمنا، وقول أبي يوسف وأحمد مثل قول الشافعي: إذا وجبت عليه بنت مخاض ولم توجد أخذ ابن ليون.
وفيه: في قوله: (أو عشرين)، دليل على أن دفع القيم في الزكاة جائز خلافا للشافعي وأيضا، فإن قوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 301). جعل فيه محل الأخذ ما يسمى مالا، ثم التقييد بأنها شاة أو نحوها زيادة
16

على كتاب الله تعالى، وأنه يجري مجرى النسخ فلا يجوز ذلك بخبر الواحد والقياس، وأما ما ورد من ذكر علين الشاة وذكر عين صنف من أصناف الإبل والبقر فلبيان الواجب بما سمى، وتخصيص المسمى لبيان أنه أبسر على صاحب الماشية ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: في الخمس من الإبل شاة، وحرف، في، حقيقة للظرف، وعين الشاة لا توجد في الإبل، عرفنا أن المراد قدرها من المال. قال الخطابي: وفيه: دليل على أن كل واحدة من الشاة والعشرين درهما أصل في نفسه ليست ببدل، وذلك أنه خيره بحرف: أو. قلنا: لا دليل له على هذا الكلام، بل التخيير يدل على أن الأصل قدرها من المال، كما قررناه.
83
((باب زكاة الغنم))
أي: هذا بيان زكاة الغنم. الغنم، جمع لا واحد له من لفظه، وعن أبي حاتم: هي أنثى، وعن صاحب (العين): الجمع أغنام وأغانم وغنوم، وواحد الغنم من غير لفظها: شاة، وهو يقع على الذكر والأنثى، والأصل: شاهة، حذفت الهاء لاجتماع الهاءين، والجمع: شاء وشياه وشيه وشوي وشواه وأشاوه. وعن سيبوه: شياه، بالألف والتاء، وأرض مشاهة من الشاء، ورجل شاوي ذو شاء، والضائنة منها ذوات الصوف، والضأن والضان والضئن والضين: اسم للجمع، وعن صاحب (العين): أضؤن، جمع ضأن. وعن أبي حاتم: الضأن مؤنثة، الواحد ضائن وضائنة. وقال ابن سيده: الضأن، اسم للجمع وليس بجمع، والماعز والمعز والمعيز اسم للجمع، والمعزاة لغة في المعزى. وعن أبي حاتم السجستاني: يقال: شاة من الظباء، ومن بقر الوحش، ومن حمره، أنشد أبو زيد:
* كأنه شاة من النعام
*
زاد هشام، ويسمى الظبي والظبية والثور والبقرة شاة، كما يقال للمرأة: إنسان، ويقال: شاة للتيس والغنم والكبش. وذكر النحاس: أن الشاة يكنى بها عن المرأة، وفي (الجامع) للقزاز: الشاء اسم للجمع.
4541 حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له هاذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين:
بسم الله الرحمان الرحيم هاذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله فمن سئلها من المسلمين على وجهها ومن سئل فوقها فلا يعط في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم من كل خمس شاة إذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت يعني ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنت لبون فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة
17

إلا أن يشاء ربها فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها وفي الرقة ربع العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها.
.
حديث أنس هذا قد تقدم مقطعا بهذا الإسناد بعينه، وهو مشتمل على بيان زكاة الإبل والغنم والورق، وعبد الله بن المثنى أبو شيخ البخاري احتلف فيه، قول ابن معين،
فقال مرة: صالح، وقال مرة: ليس بشيء. وقال أبو زرعة: قوي، وكذا قال أبو حاتم والعجلي. وقال النسائي: ليس بقوي، وقال العقيلي: لا يتابع في أكثر حديثه. قلت: قد تابعه على حديثه هذا حماد ابن سلمة فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابا، زعم أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا، هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه، وقد سقناه بتمامه في: باب ما كان من خليطين، ورواه أحمد في (مسنده) قال: حدثنا أبو كامل، قال: حدثنا حماد قال أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس: أن أبا بكر.. فذكره، وقال إسحاق بن راهويه في (مسنده): أخبرنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره، فظهر من هذا أن حمادا سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب، فانتفى بذلك تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وكذا انتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه.
ذكر معناه: قوله: (كتب له هذا الكتاب) أي: كتب لأنس، وكان ذلك ما وجهه عاملا على البحرين وهو تثنية: بحر، خلاف البر موضع معروف بين بحري: فارس والهند، ومقارب جزيرة العرب، ويقال: هو اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر، وهكذا يتلفظ بلفظ التثنية، والنسبة إليها بحراني. قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) ذكر التسمية في أول كتابه لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله أبتر). وقال الماوردي: يستدل به على إثبات البسملة في ابتداء الكتب، وعلى أن الابتداء بالحمد ليس بشرط. قلت: كما ورد الابتداء بالبسملة في أول كل أمر، ورد الابتداء بالحمد أيضا، ولكن الجمع بينهما بأن الأولية أمر نسبي فكل ثان بالنسبة إلى ثالث أول. فافهم. قوله: (هذه فريضة الصدقة)، أي: نسخة فريضة الصدقة، فحذف المضاف للعلم به. قوله: (التي)، كذا في غير ما نسخة. وفي بعضها: (الذي)، ومعنى الفرض: الإيجاب، وذلك أن الله تعالى قد أوجبها وأحكم فرضها في كتابه العزيز، ثم أمر رسوله بالتبليغ فأضيف الفرض إليه بمعنى الدعاء إليه، وحمل الناس عليه، وقد فرض الله طاعته على الخلق فجاز أن يسمى أمره وتبليغه عن الله فرضا على هذا المعنى. وقيل: معنى الفرض هنا معنى التقدير، ومنه: فرض القاضي نفقة الأزواج، وفرض الإمام أرزاق الجند، ومعناه راجع إلى قوله: * (لنبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44). وقيل: معنى الفرض هنا السنة، ومنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فرض كذا أي: سنه، وعن ثعلب: الفرض الواجب، والفرض القراءة، يقال: فرضت حزبي، أي: قرأته، والفرض السنة. قوله: (والتي أمر الله بها)، كذا في كثير من النسخ: بها، بالباء ووقع أيضا: منها، بحرف: من، وقيل: وقع في كثير من النسخ بحذف: بها، وأنكرها النووي في (شرح المهذب). وقوله: (والتي) وقع هنا بحرف العطف، ووقع في رواية أبي داود: التي، قد ذكرناه: التي، بدون حرف العطف على أنها بدل من الجملة الأولى. قوله: (فمن سئلها)، بضم السين أي: فمن سئل الصدقة من المسلمين، وهي الزكاة. قوله: (على وجهها)، أي: على حسب ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرض مقاديرها. قوله: (فليعطها)، أي: على هذه الكيفية المبينة في الحديث. قوله: (ومن سئل فوقها)، أي: زائدا على الفريضة المعينة أما في السن أو العدد. قوله: (فلا يعط)، ويروى: (فلا يعطه)، بالضمير أي: فلا يعطي الزائد على الواجب. وقيل: لا يعطي شيئا من الزكاة لهذا المصدق لأنه خان بطلبه فوق الواجب، فإذا ظهرت خيانته سقطت طاعته، فعند ذلك هو يتولى إخراجه أو يعطي لساع آخر. قوله: (في أربع وعشرين من الإبل) إلى آخره شروع في بيان كيفية الفريضة، وبيان كيفية أخذها. وقال الطيبي: في أربع وعشرين استئناف بيان لقوله: (هذه فريضة الصدقة) كأنه أشار بهذه إلى ما في الذهن، ثم أتى به بيانا له. قوله: (في أربع) خبر مبتدأ مقدر مقدما تقديره في أبع وعشرين من الإبل زكاة وكلمة من بيانه قوله: (فما دونها) أي: فما دون أربع وعشرين. وقوله: (من الغنم)، متعلق بالمبتدأ المقدر. قوله: (من كل خمس)، خبر لقوله: (شاة)، وكلمة: من، للتعليل، أي: لأجل كل خمس من الإبل. وقال الطيبي: من الغنم من كل خمس
18

شاة. من الأولى ظرف مستقر لأنه بيان لشاة توكيدا كما في قوله: (في كل خمس ذود من الإبل) و: من، الثانية لغوا ابتدائية متصلة بالفعل المحذوف، أي: ليعط في أربع وعشرين شاة كائنة من الغنم لأجل كل خمس من الإبل. قوله: (من الغنم)، كذا هو بكلمة: من، في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن السكن بإسقاط: من. قيل: هو الصواب، إن شاء الله تعالى، فعلى قوله: (الغنم) مرفوع بالابتداء، وخبره: في أربع وعشرين، ثم بين ذلك بقوله: (من كل خمس شاة)، ويروى: (في كل خمس)، بكلمة: في، عوض: من، وقال ابن بطال: وفي نسخة البخاري بزيادة لفظ: من الغنم، وهو غلط عن بعض الكتبة. وقال الكرماني: وقال الفقهاء: فيه تفسير من وجه وإجمال من وجه، فالتفسير أنه لا يجب في أربع وعشرين إلا الغنم، والإجمال أنه لا يدري قدر الواجب. ثم قال بعد ذلك مفسرا لهذا الإجمال: في كل خمس شاة، فكان هذا بيانا لابتداء النصاب، وقدر الواجب فيه، فأول نصاب الإبل خمس، وقال: إنما بدأ بزكاة الإبل لأنها غالب أموالهم وتعم الحاجة إليها، ولأن أعداد نصبها وأسنان الواجب فيها يصعب ضبطها، وتقديم الخبر على المبتدأ لأن المقصود بيان النصب إذ الزكاة إنما تجب بعد النصاب فكان تقديمه أهم لأنه السابق في السبب، وكذا تقديم الخبر في قوله: (بنت مخاض أنثى)، قوله: (أنثى) للتأكيد، وقيل: احتراز عن الخنثى، وفيه نظر. قوله: (بنت لبون)، أنثى، الكلام فيه كالكلام في: (بنت مخاض أنثى). وقال الطيبي: وصفها بالأنثى تأكيدا كما في قوله تعالى: * (نفخة واحدة) * (الحاقة: 31). أو لئلا يفهم أن البنت هنا والابن في ابن لبون كالبنت في: بنت طبق، والابن في: ابن آوى، يشترك فيه الذكر والأنثى. قوله: (طروقة الجمل)، صفة لقوله: (حقة)، وقد فسرنا الطروقة من: طرقها الفحل إذا ضربها، يعني جامعها. قوله: (فإذا بلغت يعني ستا وسبعين)، كذا في الأصل بزيادة: يعني، وكأن العدد حذف من الأصل اكتفاء بدلالة الكلام عليه، فذكره بعض رواته وأتى بلفظ: يعني، لينبه على أنه مزبدا، وشك أحد رواته فيه. وقال الكرماني: لعل المكتوب لم يكن فيه لفظ: ستا وسبعين، أو ترك الراوي ذكره لظهور المراد ففسره الراوي عنه توضيحا. وقال: يعني. فإن قلت: لم غير الأسلوب حيث لم يقل في جوابه مثل ذلك؟ قلت: إشعارا بانتهاء أسنان الإبل فيه، وتعدد الواجب عنده فغير اللفظ عند مغايرة الحكم. قوله: (إلا أن يشاء ربها)، أي: إلا أن يتبرع صاحبها ويتطوع، وهو كما ذكر في حديث الأعرابي في الإيمان: (
إلا أن تطوع). قوله: (وإذا كانت) في رواية الكشميهني (إذا بلغت) قوله (فازدادت على عشرين ومائة) أي واحدة فصاعد قوله (في سائمتها) أي: راعيتها. قال الكرماني: وهو دليل على أن لا زكاة في المعلوفة، أما من جهة اعتبار مفهوم الصفة، وأما من جهة أن لفظ: في سائمتها، بدل عنه بإعادة الجار، والمبدل في حكم الطرح فلا يجب في مطلق الغنم. فإن قلت: لا يجوز أن يكون: شاة، مبتدأ و: في صدقة الغنم، خبره لأن لفظ الصدقة يأباه، فما وجه إعرابه؟ قلت: لا نسلم، ولئن سلمنا فلفظ: في صدقة، يتعلق بفرض أو كتب مقدرا، أي: فرض في صدقتها شاة أو كتب في شأن صدقة الغنم هذا، وهو إذا كانت أربعين إلى آخره، وحينئذ يكون شاة خبر مبتدأ محذوف، أي: فزكاتها شاة أو بالعكس، أي: ففيها شاة. وقال التيمي: شاة، رفع بالابتداء، و: في صدقة الغنم، في موضع الخبر، وكذك: شاتان، والتقدير: فيها شاتان، والخبر محذوف. قوله: (واحدة)، إما منصوب بنزع الخافض أي: بواحدة، وإما حال من ضمير الناقصة، وفي بعض الرواية: بشاة واحدة، بالجر. قوله: (وفي الرقة)، بكسر الراء وتخفيف القاف: الورق، والهاء عوض عن الواو، نحو: العدة والوعد، وهي: الفضة المضروبة، ويجمع على: رقين. مثل: أرة وأرين. قوله: (فإن لم تكن)، أي: الرقة، قوله: (إلا تسعين ومائة)، قال الخطابي: هذا يوهم أنها إذا زاد عليه شيء قبل أن يتم مائتين كان فيها الصدقة، وليس الأمر كذلك، لأن نصابها المئتان. وإنما ذكر التسعين لأنه آخر فصل من فصول المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود كالعشرات والمئات والألوف، فذكر التسعين ليدل بذلك على أن لا صدقة فيما نقص عن كمال المائتين، يدل على صحته حديث: (لا صدقة إلا في خمس أواق).
ذكر ما يستفاد منه فيه: في قوله: (فلا يعط)، دليل على أن الإمام والحاكم إذا ظهر فسقهما بطل حكمهما، قاله الخطابي. وفيه: في قوله: (من المسلمين)، دلالة على أن الكافر لا يخاطب بذلك. وفيه: في قوله: (فليعطها) دلالة على دفع الأموال الظاهرة إلى الأمام. وفيه: من أول الحديث إلى قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة)، لا خلاف فيه بين الأئمة، وعليها اتفقت
19

الأخبار عن كتب الصدقات التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلاف فيما إذا زادت على مائة وعشرين، فعند الشافعي: في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. واستدل بهذا الحديث، ومذهبه أنه إذا زادت على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون، فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، ثم يدور الحساب على الأربعينات والخمسينات، فيجب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وبه قال إسحاق بن راهويه وأحمد في رواية، وقال محمد بن (إسحاق وأبو عبيد وأحمد في رواية: لا يتغير الفرض إلى ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وبنتا لبون. وعن مالك، رضي الله تعالى عنه، روايتان روى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكم، رحمهما الله تعالى: أن الساعي بالخيار بين أن يأخذ ثلاث بنات لبون أو حقتين، وهو قول مطرف وابن أبي حازم وابن دينار وأصبغ. وقال ابن القاسم، رحمه الله تعالى: فيها ثلاث بنات لبون، ولا يخير الساعي إلى أن يبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقه وابنتا لبون، وهو قول الزهري والأوزاعي وأبي ثور، رضي الله تعالى عنها. وروى عبد الملك وأشهب وابن نافع عن مالك: أن الفريضة لا تتغير بزيادة واحدة حتى تزيد عشرا، فيكون فيها بنتا لبون وحقة، وهو مذهب أحمد. وعند أهل الظاهر: إذا زادت على عشرين ومائة ربع بعير أو ثمنه أو عشره، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، وهو قول الإصطخري. وقال محمد بن جرير: يتخير بين الاسئناف وعدمه لورود الأخبار بهما. ووقع في (النهاية) للشافعية، وفي (الوسيط) أيضا أنه قول ابن جبير، أن بدل، ابن جرير، وهو تصحيف، وحكى السفاقسي عن حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة أن في مائة وخمس وعشرين حقتين وبنت مخاض، وعند أبي حنيفة وأصحابه: تستأنف الفريضة فيكون في الخمس شاة مع الحقتين، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون فإذا بلغت مائة وستا وتسعين ففيها أربع حقاق إلى مائتين، ثم تستأنف الفريضة أبدا كما تستأنف في الخمسين التي بعد المائة والخمسين، وهذا قول ابن مسعود وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأهل العراق، وحكى السفاقسي أنه قول عمر، رضي الله تعالى عنه، لكنه غير مشهور عنه. واحتج أصحابنا بما رواه أبو داود في (المراسيل) وإسحاق بن راهويه في (مسنده) والطحاوي في (مشكله) عن حماد بن سلمة. قلت: لقيس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتابا أخبر أنه من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه لجده، فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث إلى: أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من عشرين ومائة فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة.
وأما الذي استدل به الشافعي فنحن قد عملنا به لأنا قد أوجبنا في الأربعين بنت لبون، فإن الواجب في الأربعين ما هو الواجب في ست وثلاثين، وكذلك أوجبنا في خمسين حقة، وهذا الحديث لا يتعرض لنفي الواجب عما دونه، وإنما هو عمل بمفهوم النص فنحن عملنا بالنصين، وهو أعرض عن العمل بما رويناه. فإن قلت: قال ابن الجوزي: هذا الحديث مرسل، وقال هبة الله الطبري: هذا الكتاب صحيفة ليس بسماع ولا يعرف أهل المدينة كلهم عن كتاب عمرو بن حزم إلا مثل روايتنا، رواها الزهري وابن المبارك وأبو أويس، كلهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مثل قولنا، ثم لو تعارضت الروايتان عن عمرو بن حزم بقيت روايتنا عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وهي في (الصحيح) وبها عمل الخلفاء الأربعة.
وقال البيهقي هذا حديث منقطع بين أبي بكر بن حزم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيس بن سعد، أخذه عن كتاب لا عن سماع، وكذلك حماد بن سلمة أخذه عن كتاب لا عن سماع، وقيس بن سعد وحماد بن سلمة، وإن كانا من الثقات، فروايتهما هذه تخالف رواية الحفاظ عن كتاب عمرو بن حزم وغيره، وحماد بين سلمة ساء حفظه في آخر عمره فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، ويتجنبون ما ينفرد به، وخاصة عن قيس بن سعد وأمثاله. قلت: الأخذ من الكتاب حجة، صرح البيهقي في (كتاب المدخل): أن الحجة تقوم بالكتاب، وإن كان السماع أولى منه بالقبول، والعجب من البيهقي أنه يصرح بمثل هذا القول ثم ينفيه في الموضع الذي تقوم عليه الحجة. وقوله: وعمل بها الخلفاء الأربعة، غير مسلم لأن ابن أبي شيبة روى في (مصنفه): حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن حمزة عن
علي، رضي الله تعالى عنه، قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة يستقبل بها الفريضة، وحدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن منصور عن إبراهي مثله. فإن قلت: قال البيهقي:
20

قال الشافعي في كتابه القديم: راوي هذا مجهول عن علي، رضي الله تعالى عنه، وأكثر الرواة عن ذلك المجهول يزعم أن الذي روى هذا عنه غلط عليه، وأن هذا ليس في حديثه. قلت: الذي رواه عن علي، رضي الله تعالى عنه، هو عاصم بن حمزة كما ذكرناه، وهو ليس بمجهول بل معروف، روى عنه الحكم وأبو إسحاق السبيعي وغيرهما، ووثقه ابن المديني والعجلي، وأخرج له أصحاب السنن الأربعة، وإن أراد الشافعي بقوله: يزعم أن الذي يروى هذا عنه غلط عليه، أبا إسحاق السبيعي فلم يقل أحد غيره إنه غلط، وقد ذكر البيهقي وغيره عن يعقوب الفارسي وغيره من الأئمة أنهم أحالوا بالغلط على عاصم، وأما قول البيهقي وحماد بن سلمة: ساء حفظه في آخر عمره، فالحفاظ لا يحتجون بما يخالف فيه، فصادر عن تعسف وتمحل لأنه لم ير أحد من أئمة هذا الشأن ذكر حمادا بشيء من ذلك، والعجب منه أنه اقتصر فيه فيه على هذا المقدار، لأنه ذكره في غير هذا الموضع بأسوأ منه. وقوله: وخاصة عن قيس بن سعد، باطل، وما لقيس بن سعد فإنه وثقه كثيرون وأخرج له مسلم على أن روايتهم التي يستدلون بها غير سالمة عن النزاع، فإن الدارقطني ذكر في كتاب (التتبع على الصحيحين) أن ثمامة لم يسمعه من أنس ولا سمعه عبد الله بن المثنى من ثمامة. انتهى. وكيف يقول البيهقي: وروينا الحديث من حديث ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس من أوجه صحيحة، وفي (الأطراف) للمقدسي: قيل لابن معين: حديث ثمامة عن أنس في الصدقات؟ قال: لا يصح وليس بشيء، ولا يصح في هذا حديث في الصدقات، وفي إحدى روايات البيهقي: عبد الله بن المثنى، قال الساجي: ضعيف منكر الحديث، وقال أبو داود: لا أخرج حديثه، وذكره ابن الجوزي في (الضعفاء) وقال: قال أبو سلمة: كان ضعيفا في الحديث. وأما قول الظاهرية، الذي قال به ابن حزم أيضا فباطل بلا شبهة إذ لم يرد الشرع بجعل السائمة نصابا بربع بعير أو ثمنه أو عشره، وتعلقوا بقوله: فإذا زادت، وقالوا: الزيادة تحصل بالثمن والعشر.
وفيه: في قوله: (في كل خمس شاة) تعلق مالك وأحمد على تعين إخراج الغنم في مثل ذلك حتى لو أخرج بعيرا عن الأربع والعشرين لم يجزه عندهما، وعند الجمهور، وهو قول الشافعي إنه يجزيه لأنه يجزئ عن خمس وعشرين فما دونها إولى لأن الأصل أن يجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقا بالمالك، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير مثلا دون قيمة أربع شياه ففيه خلاف عند الشافعية وغيرهم، والأقيس أنه لا يجزئ.
وفيه: في قوله: (في أربع وعشرين) دلالة على أن الأربع مأخوذة عن الجميع، وإن كانت الأربع الزائدة على العشرين وقصا، وهو قول الشافعي في (البويطي) وقال في غيره: إنه عفو، ويظهر أثر الخلاف فيمن له تسع من الإبل فتلف منها أربعة بعد الحول، وقبل التمكن حيث قالوا: إنه شرط في الوجوب، وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إذا قالوا: التمكن شرط في الضمان، وقالوا: الوقص عفو. فإن قالوا يتعلق به الفرض وجب خمسة أتساع شاة، والأول قول الجمهور كما نقله ابن المنذر، وعن مالك رواية كالأول.
وفيه: أن ما دون خمس من الإبل لا زكاة فيه وهذا بالإجماع.
وفيه: في قوله: (إلى خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين إلى ستين) دليل على أن الأوقاص ليست بعفو، وأن الفرض يتعلق بالجميع وهو أحد قولي الشافعي. قال صاحب (التوضيح): والأصح خلافه.
وفيه: أن زكاة الغنم في كل أربعين شاة، وقد أجمع العلماء على أن لا شيء في أقل من الأربعين من الغنم، وأن في الأربعين شاة، وفي مائة وعشرين شاتين وثلاثمائة ثلاث شياه، وإذا زادت واحدة فليس فيها شيء إلى أربعمائة ففيها أربع شياه، ثم في كل مائة شاة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في (الصحيح) عنه، والثوري وإسحاق والأوزاعي وجماعة أهل الأثر، وهو قول علي وابن مسعود. وقال الشعبي والنخعي والحسن بن حي: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة يجب فيها خمس شياه، وهي رواية عن أحمد، وهو مخالف للآثار. وقيل: إذا زادت على مائتين ففيها شاتان حتى تبلغ أربعين ومائتين، حكاه ابن التين وفقهاء الأمصار على خلافه.
وفيه: أن شرط وجوب الزكاة في الغنم السوم عند أبي حنيفة والشافعي، وهي الراعية في كلأ مباح، وقال ابن حزم: قال مالك والليث وبعض أصحابنا: تزكى السوائم والمعلوفة والمتخذة للركوب وللحرث وغير ذلك من الإبل والغنم، وقال بعض أصحابنا: أما الإبل فنعم، وأما البقر والغنم فلا زكاة إلا في سائمتها، وهو قول أبي الحسن بن المفلس، وقال بعضهم: أما الإبل والغنم فتزكى سائمتها وغير سائمتها، وأما البقر فلا يزكى إلا سائمتها، وهو قول أبي بكر بن داود، ولم يختلف أحد من أصحابنا في أن سائمة الإبل وغير سائمة الإبل منها
21

تزكى سواء. وقال بعضهم: تزكى غير السائمة عن كل واحدة مرة واحدة في الدهر، ثم لا يعيد الزكاة فيها. وقال أصحابنا الحنفية: وليس في العوامل والحوامل والمعلوفة صدقة، هذا قول أكثر أهل العلم كعطاء والحسن والنخعي وابن جبير والثوري والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر، ويروى عن عمر بن عبد العزيز، وقال قتادة ومكحول ومالك: تجب الزكاة في المعلومة والنواضح بالعمومات، وهو مذهب معاذ وجابر بن عبد الله وسعيد بن عبد العزيز والزهري، وروي عن علي ومعاذ أنه: لا زكاة فيها، وهو قول أبي حنيفة، وحجة من اشترطه كتاب الصديق وحديث عمرو بن حزم مثله، وشرط في الإبل حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. مرفوعا: (في كل سائمة من كل أربعين من الإبل ابنة لبون). رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وقد ورد تقييد السوم وهو مفهوم الصفة، والمطلق يحمل على المقيد إذا كانا في حادثة واحدة، والصفة إذا قرنت بالاسم العلم تنزل منزلة العلة لإيجاب الحكم. وعن علي، رضي الله تعالى عنه
، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في العوامل صدقة)، رواه الدارقطني وصححه ابن القطان، ورواه الدارقطني أيضا من حديث ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن جابر، رضي الله تعالى عنه: (قال: لا يؤخذ من البقر التي يحرث عليها من الزكاة شيء)، ورفعه حجاج عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن أبي الزبير، عنه بلفظ: (ليس في المثيرة صدقة)، وفي (مصنف) ابن أبي شيبة من حديث ليث عن طاووس عن معاذ أنه: كان لا يأخذ من البقر العوامل صدقة، حدثنا هاشم عن مغيرة ابن إبراهيم ومجاهد، قالا: ليس في البقرة العوامل صدقة، ومن حديث حجاج عن الحكم أن عمر بن عبد العزيز، قال: (ليس في العوامل شيء)، وكذا قاله سعيد بن جبير والشعبي والضحاك وعمرو بن دينار وعطاء، وفي (الأسرار) للدبوسي وعلي وجابر وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم: وحجة من منعه ما رواه إسماعيل القاضي في (مبسوطه) عن الليث، قال: رأيت الإبل التي تكرى للحج تزكى بالمدينة، ويحيى بن سعيد وربيعة وغيرهما من أهل المدينة حضور لا ينكرونه، ويرون ذلك من السنة إذا لم تكن متفرقة وعن طلحة بن أبي سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب، وهو خليفة: أن تؤخذ الصدقة من التي تعمل في الريف. قال طلحة: حضرت ذلك وعاينته. وعند أبي حنيفة وأحمد: أن السائمة هي التي تكتفي بالرعي في أكثر الحول لأن اسم السوم لا يزول عنها بالعلف اليسير ولأن العلف البسير لا يمكن التحرز عنه، ولأن الضرورة تدعو إليه في بعض الأحيان لعدم المرعى فيه، واعتبر الشافعي السوم في جميع الحول ولو علفت قدرا أتعيش بدونه بلا ضرر بين وجبت الزكاة. وفي (البدائع): إن أسيمت الإبل أو البقر أو الغنم للحمل أو الركوب أو اللحم فلا زكاة فيها، وإن أسيمت للتجارة ففيها زكاة التجارة حتى لو كانت أربعا من الإبل أو أقل تساوي مائتي درهم يجب فيها خمسة دراهم، وإن كانت خمسا لا تساوي مائتي درهم لا يجب فيها الزكاة. وفي (الذخيرة): من اشترى إبلا سائمة بنية التجارة وحال عليها الحول وهي سائمة تجب فيها زكاة التجارة دون زكاة السائمة.
وفيه: أن الزكاة في الفضة ربع عشرها، مثلا إذا كانت مائتا درهم فزكاتها خمسة دراهم، وفي أربعمائة عشرة دراهم وفي ألف خمسة وعشرون، وفي عشرة آلاف مائتان وخمسون درهما، وفي عشرين ألفا خمسمائة، وفي أربعين ألفا ألف، وفي مائة ألف ألفان وخمسمائة.. وهلم جرا.
وفيه: أن الفضة إن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء لعدم النصاب، إلا أن يتطوع صاحبها.
93
((باب لا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق))
أي: هذا باب يذكر فيه: (لا تؤخذ في الصدقة) أي: في الزكاة (هرمة) بفتح الهاء وكسر الراء: أي: كبيرة سقطت أسنانها، وعن الأصمعي: الهرم، الذي قد بلغ إقصى السن، وقال أبو حاتم: امرأة هرمة ورجال هرمون وهرائم، ونساء هرمات، وربما قيل: شيوخ هرمى، وقد هرم هرما مثال: حذر، وقال صاحب (العين): ومهرما ونساء هرمى. وفي (الكامل) لأبي العباس: وقد أهرمه الدهر وهرمه. قوله: (عوار)، بفتح العين وبضمها: وهو العيب أي: ولا تؤخذ في الصدقة ذات عيب. وقيل: بالفتح العيب وبالضم: العور. قوله: (ولا تيس)، وهو فحل الغنم، وقيده ابن التين أنه من المعز أي: ولا يؤخذ في الصدقة تيس، معناه: إذا كانت ماشية كلها أو بعضها إناثا لا يؤخذ منه الذكر، إنما تؤخذ الأنثى إلا في موضعين وردت بهما السنة. أحدهما:
22

أخذ التبيع من ثلاثين من البقر، والآخر: أخذ ابن اللبون من خمس وعشرين من الإبل، بدل بنت المخاض عند عدمها. وأما إذا كانت ماشية كلها ذكورا فيؤخذ الذكر، وقيل: إنما لا يؤخذ التيس لأنه مرغوب عنه لنتنه وفساد لحمه، أو لأنه ربما يقصد به المالك منه الفحولة فيتضرر بإخراجه. قوله: (إلا ما شاء المصدق) روى أبو عبيد، بفتح الدال، وجمهور المحدثين بكسرها، فعلى الأولى يراد به المعطي ويكون الاستثناء مختصا بقوله: (ولا تيس) لأن رب المال ليس له أن يخرج في صدقته ذات عوار، والتيس وإن كان غير مرغوب فيه لنتنه فإنه ربما زاد على خيار الغنم في القيمة لطلب الفحولة، وعلى الثاني معناه إلا ما شاء المصدق منها، ورأى ذلك أنفع للمستحقين فإنه وكيلهم فله أن يأخذ ما شاء، ويحتمل تخصيص ذلك إذا كانت المواشي كلها معيبة. وقال الطيبي: هذا إذا كان الاستثناء متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا، والمعنى: لا يخرج المزكي الناقص والمعيب لكن يخرج ما شاء المصدق من السليم أو الكامل. وفي (التلويح): قال بعضهم: المصدق، بتشديد الصاد والدال، وقال أصله: المتصدق، فأدغمت التاء في الصاد لقرب مخرجهما. قلت: ليس كذلك، بل أبدلت التاء صادا ثم أدغمت الصاد في الصاد على ما تقتضيه القواعد الصرفية.
5541 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة أن أنسا رضي الله تعالى عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كتب له التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق.
.
قد ذكرنا أن البخاري قطع هذا الحديث قطعا، فترجم لكل قطعة منها ترجمة، وهذا الإسناد بعينه قد ذكر غير مرة، ونفس لفظ الحديث هو عين الترجمة فلا مطابقة بينهما أقوى وأنسب من ذلك، وقد فسرنا ألفاظه. وأما الحكم فيه فعامة الفقهاء على العمل به، فالمأخوذ في الصدقات العدل، وهو ما بين خيار المال ودونه، فإن كان المال كله معيبا يؤخذ الوسط منه، وهو قول الشافعي أيضا. وعند مالك: يكلف بسليم من العيب، وهو مشهور مذهبع، ويؤخذ في الصغيرة التي تبلغ سن الجذع، وعند أبي حنيفة والشافعي: إذا كانت كلها صغارا أو مراضا أخذ منها، ونحا إليه محمد بن الحكم والمخزومي والماجشون ومحمد وأبو يوسف، وقال مطرف: إن كانت عجافا أو ذوات عوار أو تيوسا أخذنها، وإن كانت مواحض أو أكولة أو سخالا لم تؤخذ منها. وقال عبد الملك: يأخذ من ذلك كله إذا لم تكن فيها جذعة أو ثنية إلا أن تكون سخالا فلا يؤخذ منها. وقال محمد بن الحسن: إن السخال والعجاجيل لا شيء فيها.
وتحقيق مذهب الحنفية في هذا الباب ما قاله صاحب (الهداية): وليس في الفصلان والعجاجيل والحملان صدقة، وهذا آخر أقوال أبي حنيفة، وبه قال محمد بن الحسن والثوري والشعبي وداود أبو سليمان، وكان يقول أولا: يجب فيها ما يجب في الكبار من الجذع والتثنية، وبه قال زفر ومالك وأبو عبيد وأبو بكر من الحنابلة، وفي (المغني): في (الصحيح): ثم رجع، وقال: تجب واحدة منها، وبه قال الأوزاعي وإسحاق ويعقوب والشافعي في (الجديد) وصححوه، ثم رجع إلى ما ذكرناه آنفا. وروى عن الثوري: أن المصدق يأخذ مسنة ويرد على صاحب المال فضل ما بين المسنة والصغيرة التي هي في ماشيته، وهو وجه للحنابلة، وهنا قول آخر ضعيف جدا لم ينقل عن غير الحنابلة: أنه يجب في خمس وعشرين من الفصلان واحدة منها، وفي ست وثلاثين منها كسن واحدة منها مرتين، وفي ست وأربعين واحدة سنها مثل سن واحدة منها كسن واحدة منها مرتين، وفي ست وأربعين واحدة سنها مثل سن واحدة منها ثلاث مرات، وفي إحدى وستين واحدة مثل سنها أربع مرات، وفي (شرح المهذب) للنووي: إذا كانت الماشية صغارا أو واحدة منها في سن الفرض يجب سن الفرض المنصوص عليه عند الشافعي، وهو قول مالك وأحمد، فإن هلكت المسنة بعد الحول لا يؤخذ منها شيء في قول أبي حنيفة ومحمد، ويجعل تبعا لها في الوجوب والهلاك، فإذا هلكت بغير صنع أحد تجعل كأنها هلكت مع الصغار، وعند أبي يوسف: يجب تسعة وثلاثون جزأ من أربعين جزأ من حمل هو أفضلها، ويسقط فضل المسنة، كأن الكل كان حملانا وهلك منها حمل، وعند زفر: يجب مثلها من تثنية وسط، وإن هلكت الصغار وبقيت المسنة يجب فيها جزء من شاة وسط اتفاقا. ذكره الوبري.
04
((باب أخذ العناق في الصدقة))
أي: هذا باب في بيان جواز أخذ العناق في الصدقة: أي: الزكاة، والعناق، بفتح العين وتخفيف النون: ولد المعز إذا أتى عليه
23

أربعة أشهر وفصل من أمه وقوي على الرعي، فإن كان ذكرا فهو جدي، وإن كان أنثى فهو عناق، فإذا أتى عليه حول فالذكر ثني والأنثى عنز، ثم يكون جذعا في السنة الثانية. ونقل ابن التين عن القاضي أبي محمد: أن المراد بالعناق الجذعة من المعز، وقال الداودي: واختلف في الجذع من المعز، فقيل: ابن سنة. وقيل: ودخل في الثانية، واختلف في الثني فقيل: إذا أسقط سنة واحدة أو اثنتين أو ثناياه كلها فهو ثني، وقيل: لا يكون سنيا إلا بسقوط ثنتين، وأما الجذع من الضأن ففيه أربعة أقوال عند الملكية: ابن سنة، ابن عشرة أشهر، ابن ثمانية، ابن ستة، والأصح عند الشافعية: ما استكمل سنة ودخل في الثانية.
6541 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري ح وقال الليث حدثنا عبد الرحمان بن خالد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله تعالى عنه فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالقتال فعرفت أنه الحق.
مطابقته للترجمة في قوله: (لو منعوني عناقا...) إلى آخره، وكأنه أشار بهذه الترجمة إلى جواز أخذ الصغير من الغنم في الزكاة، وهذا الحديث قطعة من حديث قصة عمر مع أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، في قتال مانعي الزكاة، وقد مر الحديث بتمامه مطولا في أول الزكاة، أخرجه هناك من طريق واحد عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله آخره، وههنا أخرجه من طريقين: أحدهما عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عبيد الله، والآخر معلق حيث قال: قال الليث... إلى آخره، ووصله الذهلي في الزهريات عن أبي صالح عن الليث.
ذكر ما يستفاد منه: اختلفوا في أخذ العناق والسخال، والبهم إذا كانت الغنم كذلك كلها، أو كان في الإبل فصلان أو في البقر عجاجيل، فقال مالك: عليه في الغنم جذعة أو ثنية، وعليه في الإبل والبقر ما في الكبار منها، وهو قول زفر وأبي ثور، وقال أبو يوسف والأوزاعي والشافعي: يؤخذ منها إذا كانت صغارا من كل صنف واحد منها، وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد: لا شيء في الفصلان ولا في العجاجيل، ولا في صغار الغنم لا منها ولا من غيرها، وذكر ابن المنذر: وكان أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وأحمد يقولون: في أربعين حملا مسنة، وعلى هذا القول هم موافقون لقول مالك، وقد مر تحقيق هذا في الباب السابق، فإن قلت: كيف وجه الاستدلال بهذا الحديث عند من يرى جواز أخذ الصغير إذا كانت الماشية كلها صغارا؟ قلت: قالوا: قول أبي بكر، رضي الله تعالى عنه: (لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها) يدل على أنها مأخوذة في الصدقة، وهو مذهب البخاري أيضا، فلذلك ترجم بالترجمة المذكورة، وأجاب المانعون، بأن تأويله: يؤدون عنها ما يجوز أداؤه، ويشهد له قول عمر، رضي الله تعالى عنه: أعدد عليهم السخلة ولا تأخذها، وإنما خرج قول الصديق على المبالغة بدليل الرواية الأخرى: لو منعوني عقالا، والعقال ليس فيه زكاة، والله تعالى أعلم.
14
((باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا تؤخذ... إلى آخره، والكرائم جمع كريمة، يقال: ناقة كريمة، أي: غزيرة اللبن، ويدخل فيه الحديثة العهد بالنتاج، والسمينة للأكل والحامل.
8541 حدثنا أمية بن بسطام قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله عنه على اليمن قال إنك تقدم على قوم أهل كتاب
24

فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من
أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وتوق كرائم أموال الناس)، وقد مضى هذا الحديث في أول الزكاة، فإنه أخرجه هناك: عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله إلى آخره، وهنا أخرجه: عن أمية بن بسطام، بكسر الباء الموحدة وبفتحها، والأول أشهر، وقال ابن الصلاح: أعجمي لا ينصرف، ومنهم من صرفه العيشي، بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وهو يروي عن يزيد بن زريع مصغر الزرع المرادف للحرث، مر في: باب الجنب يخرج، وهو يروي عن روح، بفتح الراء: ابن القاسم، مر في: باب ما جاء في غسل البول، وهو يروي عن إسماعيل بن أمية الأموي المكي، مات في سنة تسع وثلاثين ومائة، عن يحيى بن عبد الله عن أبي معبد، بفتح الميم واسمه: نافذ، بالنون. والفاء والذال المعجمة، والتفاوت بينهما يسير، وليس في الذي رواه أول الزكاة.
قوله: (وتوق كرائم أموال الناس)، فلنذكر فيه بعض شيء، وإن كان الكلام قد مضى فيه هناك مستوفى، فقوله: (على اليمن)، وهو الإقليم المعروف، وإنما قال: على اليمن، مع أن البعث يتعدى بإلى لأنه ضمن فيه معنى الولاية أي: بعث واليا عليهم. قوله: (تقدم) بفتح الدال من قدم، بالكسر، إذا جاء من السفر. وأما قدم بالضم فمعناه: تقدم. قوله: (أول)، بالنصب لأنه خبر كان، واسمه قوله: (عبادة الله). قوله: (فإذا عرفوا الله) أي: بالتوحيد، ونفي الألوهية عن غيره. وقال الكرماني. فإن قلت: مقتضى الظاهر أن يقال: معرفة الله بقرينة، فإذا عرفوا الحق. فإن قلت: المراد من العبادة المعرفة، كما قيل به في قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 65). أي: ليعرفون. انتهى قلت: معنى العبادة التوحيد، ومعنى قوله: * (إلا ليعبدون) * (الذاريات: 65). إلا ليعرفون. قوله: (وترد على فقرائهم)، معطوف على محذوف تقديره: تؤخذ من أموالهم وترد على فقرائهم، والمحذوف موجود في بعض النسخ. قوله: (توق)، أي: إحذر النفائس وخيار أموالهم. قال صاحب (المطالع): أي: جامعة الكمال الممكن في حقها من: غزارة اللبن، وجمال الصورة، وكثرة اللحم، والصوف.
24
((باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه: ليس فيما دون خمس ذود زكاة، وقد مر تفسيره وشرح حديث الباب أيضا في: باب زكاة الورق، وقد تكلف بعضهم، فقال: هذه الترجمة تتعلق بزكاة الإبل، وإنما اقتطعها من ثم لأن الترجمة المتقدمة مسوقة للإيجاب، وهذه للنفي، فلذلك فصل بينهما بزكاة الغنم وتوابعه. انتهى. قلت: هذا تعسف ليس فيه زيادة فائدة لأنه لا يراعي الترتيب بين الأبواب وإنما أعاد هذا الحديث هنا للاختلاف في سنده، ولأنه ترجم هناك للورق وههنا للإبل.
9541 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمان بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة.
مطابقته للترجمة في الجزء الأخير من الحديث، و محمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، كذا هو في رواية مالك، والمعروف أنه: محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة نسب إلى جده، وجده نسب إلى جده.
قوله: (عن أبيه)، كذا رواه مالك، وروى إسحاق بن راهويه في (مسنده) عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد هذا عن عمرو
25

ابن يحيى وعباد بن تميم كلاهما عن أبي سعيد، ونقل البيهقي عن محمد بن يحيى الذهلي أن محمدا أسمعه من ثلاثة أنفس وأن الطريقين محفوظان.
34
((باب زكاة البقر))
أي: هذا باب في بيان إيجاب زكاة البقر. البقر: جمع بقرة، وهو الباقر أيضا، ويقال لها: باقر إذا كانت جماعة مع الرعاة، والبقر أيضا اسم للجمع، كالكليب والعبيد، والبيقور مثله. وفي (المحكم): البقرة من الأهلي والوحشي تكون للمذكر والمؤنث، والجمع: بقر، وجمع البقرة أبقر، كزمن وأزمن، فأما باقر وبقير وباقورة، فأسماء للجمع. وفي (كتاب الوحوش) لهشام الكرنبائي: يقال للأنثى من بقر الوحش، بقرة ونعجة ومهاة، وقد يقال في الشعر للبقرة: ثورة، ولم يجيء في الكلام: والباقرة جماع بقرة والبقير لا واحد له، وفي (الصحاح)؛ والجمع البقرات، وفي (المغرب) للمطرزي: والباقور والبيقور والأبقور: البقر، وكذا الباقورة.
وقال أبو حميد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأعرفن ما جاء الله رجل ببقرة لها خوار ويقال جؤار تجأرون ترفعون أصواتكم كما تجأر البقرة
مطابقته للترجمة من حيث إن الحديث يتضمن الوعيد فيمن لم يؤد زكاة البقر، فيدل على وجوب زكاة البقر، وقد قلنا: إن التقدير في الترجمة: باب في بيان إيجاب زكاة البقر، وهذا التعليق قطعة من حديث ابن اللتيبة أخرجه مسندا موصولا من طرق، وهذا القدر وقع عنده موصولا في كتاب: ترك الحيل، وأبو حميد، بضم الحاء: الساعدي الأنصاري، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد، مر في استقبال القبلة. قوله: (لأعرفن) أي: لأعرفنكم غدا على هذه الحالة، وفي رواية الكشميهني: لأعرفن، بحرف النفي، أي: ما ينبغي أن تكونوا على هذه الحالة فأعرفكم بها. قال القاضي: رواية النفي أشهر، ورواية: لأعرفن، أكثر. رواه مسلم. قوله: (ما جاء الله رجل) كلمة: ما، مصدرية، ولفظة: الله، منصوبة بقوله: جاء، ورجل مرفوع لأنه فاعل: جاء، وهذه الجملة في محل النصب على أنها مفعول قوله: لأعرفن، وتقدير الكلام: لأعرفن مجيء رجل إلى الله يوم القيامة ببقرة لها خوار، بضم الخاء المعجمة وبغير الهمزة، وهو: صوت البقر. قوله: (
ويقال جؤار)، من كلام البخاري: أي: يقال: جؤار، بضم الجيم وبالهمزة موضع: خوار، بضم الخاء المعجمة. وقال ابن الأثير: المشهور بالخاء المعجمة. وأما: الجؤار، بالجيم والهمزة فمعناه: رفع الصوت، والاستغاثة من جأر يجأر جأرا وجؤارا إذا رفع صوته مع تضرع واستغاثة. قاله في (المحكم): وقال ثعلب: هو رفع الصوت بالدعاء. وفي كتاب (الوحوش) للكرنبائي: الخوار غير مهموز، والجؤار مهموز وهما سواء. قوله: (تجأرون) أشار به إلى المذكور في القرآن في سورة المؤمنين، معناه: ترفعون أصواتكم، وقد جرت عادة البخاري إذا وقف على لفظة غريبة تطابق كلمة في القرآن نقل تفسير تلك الكلمة التي من القرآن تكثيرا للفائدة وتنبيها على ما وقع من ذلك في القرآن، وقد روى ابن أبي حاتم هذا التفسير عن السدي، وروى أيضا من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (تجأرون) قال: تستغيثون.
0641 حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا الأعمش عن المعرور ابن سويد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. قال انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال والذي نفسي بيده أو والذي لا إلاه غيره أو كما حلف ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس.
(الحديث 0641 طرفه في: 8366).
مطابقته للترجمة مثل الذي ذكرناه في الحديث السابق.
ذكر رجاله: وهم: خمسة، كلهم قد ذكروا، والأعمش
26

هو سليمان، والمعرور، بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالراء المكررة، مر في: باب المعاصي، في كتاب الإيمان.
وأخرجه البخاري أيضا في النذور مقطعا. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن أبي كريب وعن أبي معاوية، ثلاثتهم عن الأعمش عنه به، وأخرجه الترمذي فيه عن هناد به وعن محمد بن عبد الله بن المبارك. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد عن وكيع به مختصرا (ما من صاحب إبل...) الحديث.
ذكر معناه: قوله: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم) ويروى: (انتهيت إليه) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا فسره الكرماني، أيضا. وقال صاحب (التلويح): انتهيت إليه يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية مسلم: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية الترمذي: (جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). أما رواية مسلم فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد (عن أبي ذر، قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني، قال: هم الأخسرون ورب الكعبة...) الحديث، وفيه: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأخفافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس). وأما رواية الترمذي، فقال: حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد (عن أبي ذر، قال: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، قال: فرآني مقبلا، فقال: هم الأخسرون ورب الكعبة يوم القيامة...) الحديث، وفيه: (ثم قال: والذي نفسي بيده لا يموت رجل فيدع إبلا أو بقر لم يؤد زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما نفدت..) إلى آخره، نحو رواية مسلم. وقال بعضهم: قوله: قال: انتهيت إليه) هو مقول المعرور، والضمير يعود على أبي ذر، وهو الحالف. انتهى قلت: رواية مسلم والترمذي تظهر غلط هذا القائل، وهذان العمدتان في هذا الأمر يصرحان أن قوله: انتهيت، مقول أبي ذر، وليس بمقول المعرور، وأن الحالف هو النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو كما حلف)، يعني: حالفا بلا خلاف، ولكن أبا ذر تردد بين هذه الألفاظ ولم يضبطها كما وقع. قوله: (ما من رجل) مقول قوله: (قال: والذي نفسي بيده) وهذه الجملة معترضة بين قال ومقولة. قوله: (لا يؤدي حقها) أي: زكاتها، وكذا صرح في رواية مسلم حيث قال: (لا يؤدي مسلم زكاتها). قوله: (أتي بها) بضم الهمزة. قوله: (أعظم)، نصب على الحال. قوله: (وأسمنه)، الضمير فيه يرجع إلى ما يكون. قوله: (وتنطحه)، بكسر عينه وهو الذي اختاره ثعلب في (الفصيح) وماضيه: نطح، بفتح العين. قال القزاز: النطح ضرب الكبش برأسه، وحكى المطرزي في (شرحه) ينطح، بفتح العين في المستقبل وفي الماضي بالتشديد: نطح قلت: ليس هذا من ذلك ولا يأتي من: فعل، بالتشديد إلا بفعل كذلك بالتشديد. وقيل: النطح مخصوص بالكباش، وكان ابن خروف يخطؤه في ذلك، وقد استعمل في غير الكباش، وحكى ابن قتيبة: نطح الكبش والثور، وحكى اللغويون: نطح الشجاع قرنه فصرعه. وفي كتاب (الفصيح): نطح الكبش وغيره ينطح. وفي (المنتهى) لأبي المعاني: وتناطحت الأمواج. وقال ابن درستويه في كتابه (شرح الفصيح): النطح بالقرنين أو الرأسين، ويخص بذلك الكباش لأنها مولعة به، حتى إن الأقران في الحرب تشبه بها، فيقال: تناطحوا وانتطحوا، ونطح فلان قرنه فصرعه. قوله: (بأخفافها) جمع: خف، فالخف للبعير كما أن القرن للبقر والغنم. قوله: (كلما جازت) أي: مرت. قوله: (ردت) على صيغة المجهول ويروى على صيغة المعلوم، فالفاعل أما الأولى، وأما الأخرى. قوله: (عليه) أي: على رجل له إبل، وهو المذكور، ومعناه: يعاقب بهذه العقوبة حتى يقضي بين الناس أي: إلى أن يفرغ الحساب.
رواه بكير عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: روى هذا الحديث بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه. وأخرجه مسلم مطولا موصولا من طريق بكير بهذا الإسناد، فقال: حدثني هارون بن سعيد الأيلي، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرا حدثه عن ذكوان عن أبي هريرة، رضي الله
تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا لم يؤد المرء حق الله أو الصدقة في إبله...) وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه. فإن قلت: لم يذكر البخاري كيفية
27

زكاة البقر، وإنما ذكر ما يدل على وجوبها فقط؟ قلت: قال النووي: الحديث الذي ذكره البخاري أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر، ولم يذكر البخاري في ذلك شيئا. وأراه لم يصح عنده في ذلك حديث. قلت: روى أبو علي الطوسي والترمذي (عن معاذ: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا)، وحسنه الترمذي، ورواه الحاكم. وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وروى الحاكم أيضا من حديث عمرو ابن حزم (عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: في كل أربعين باقورة بقرة). واختلف الناس في زكاة البقر، فقالت الظاهرية: لا زكاة في أقل من خمسين من البقر، فإذا ملك خمسين بقرة عاما قمريا متصلا ففيها بقرة، وفي المائة بقرتان، ثم في كل خمسين بقرة بقرة، ولا شيء في الزيادة حتى تبلغ الخمسين، وقالت طائفة: ليس فيما دون ثلاثين شيء فإذا بلغت ثلاثين ففيها تبيع، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها ففيها بقرة، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ خمسين فإذا بلغتها ففيها بقرة وربع بقرة، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ سبعين، فإذا بلغتها ففيها تبيع ومسنة، وروي ذلك عن إبراهيم، وهي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، والمشهور عن أبي حنيفة: ليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإذا كانت ثلاثين سائمة وحال عليها الحول ففيها تبيع أو تبيعه وهي التي طعنت في الثالثة، فإذا زادت على أربعين ففي الزيادة بقدر ذلك إلى ستين عند أبي حنيفة، ففي الواحدة الزائدة ربع عشر مسنة، وفي الستين نصف عشر مسنة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستين فيكون فيها تبيعان أو تبيعتان، وهي رواية عن أبي حنيفة، وفي سبعين مسنة وتبيع، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة تبيعان ومسنة، وعلى هذا يتغير الفرض في كل عشرة من تبيع إلى مسنة، ومذهبنا مذهب علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري والشعبي وطاووس وشهر بن حوسب وعمر بن عبد العزيز والحسن ومالك والشافعي وأحمد.
44
((باب الزكاة على الأقارب))
أي: هذا باب في بيان الزكاة على الأقارب، وليس المراد من الزكاة ههنا معناها الشرعي الذي هو إيتاء جزء من النصاب الشرعي الحولي إلى فقير مسلم غير هاشمي ولا مولاه بشرط قطع المنفعة عن المزكي لله تعالى، وإنما المراد منها ما أخرجته من مالك لتسد به خلة المحتاج وتكتسب به الأجر والمثوبة عند الله، وللزكاة معان في اللغة: منها ما ذكرناه، فبهذا يلتئم ما في الباب من الأحاديث مع الترجمة، وقد تعسفت جماعة ههنا بما لا طائل تحته ولا مناسبة، منهم الكرماني حيث يقول: فإن قلت: عقد الباب للزكاة وليس فيه ذكرها؟ قلت: لعله أثبت للزكاة حكم الصدقة بالقياس عليها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم له أجران أجر القرابة والصدقة
هذا التعليق أخرجه مسندا في: باب الزكاة على الزوج والأيتام، بعد ثلاثة أبواب من هذا الباب في حديث زينب امرأة عبد الله ابن مسعود، ولكن لفظه فيه: (لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة).
1641 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما أنزلت هاذه الآية * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ ذالك مال رابح ذالك مال رابح
28

وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
.
مطابقته للترجمة تفهم مماذ ذكرنا الآن، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وإسحاق هذا ابن أخي أنس بن مالك، وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في الوصايا عن عبد الله بن يوسف، وفي الوكالة عن يحيى بن يحيى، وفي الوصايا وفي الإشربة عن القعنبي، وفي التفسير عن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الزكاة عن يحيى ابن يحيى. وأخرجه النسائي في التفسير عن هارون بن عبد الله.
ذكر معناه: قوله: (أكثر الأنصار)، بالنصب لأنه خبر: كان. قوله: (مالا)، نصب على التمييز أي: من حيث المال، وكلمة: من، في: (من نخل) للبيان. قوله: (بيرحاء)، اختلفوا في ضبطه على أوجه جمعها ابن الأثير في (النهاية) فقال: يروى بفتح الباء الموحدة، وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمد والقصر، وفي رواية حماد بن سلمة: بريحا، بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على الياء آخر الحروف، وفي (سنن أبي داود) بأريحاء، مثله لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور، وكذا جزم به الصغاني. وقال: إنه فيعلا من: البراح. قال: ومن ذكره بكسر الباء الموحدة وظن أنها: بئر، من أبار المدينة فقد صحف. وقال القاضي: روينا بفتح الباء والراء وضمها مع كسر الباء، ومنهم من قال: من رفع الراء وألزمها حكم الإعراب فقد أخطأ. وقال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس، والروايات فيه القصر، وروينا أيضا بالمد، وهو حائط سمي بهذا الاسم وليس اسم بئر، وقال التيمي: هو بالرفع اسم كان (
وأحب) خبره، ويجوز بالعكس و: حا، مقصور كذا المحفوظ، ويجوز أن يمد في اللغة، يقال: هذه حاء بالقصر والمد، وقد جاء: حا، في اسم قبيلة، وبير حاء، بستان. وكانت بساتين المدينة تدعى بالآبار التي فيها أي البستان التي فيه بئر حا، أضيف البئر إلى: حا، ويروى: بير حا، بفتح الباء وسكون التحتانية وفتح الراء، هو اسم مقصور ولا يتيسر فيه إعراب، أي: فهو كلمة واحدة لا مضاف ولا مضاف إليه. قال: ويجوز أن يكون في موضع رفع، وأن يكون في موضع نصب، ويروى: (وأن أحب أموالي بير حا)، فعلى هذا محله رفع وهو اسم بستان، وقال ابن التين: قيل: حا، اسم امرأة، وقيل: اسم موضع وهو ممدود ويجوز قصره. وفي (معجم أبي عبيد): حا، على لفظ حرف الهجاء موضع بالشام، و: حا، آخر، موضع بالمدينة، وهو الذي ينسبه إليه بئر حا، ورواه حماد بن سلمة عن ثابت، أريحا، خرجه أبو داود ولا أعلم أريحا إلا بالشام. وقيل: سميت بيرحا، بزجر الإبل عنها، وذلك أن الإبل إذا زجرت عن الماء، وقد رويت: حاحا، وقيل: بير حا، من البرح والياء زائدة. وفي (المنتهى): بيرح اسم رجل، زاد في (الواعي): الياء فيه زائدة. قوله: (وكانت) أي: بيرحا (مستقبلة المسجد) أو مقابلته، وقال النووي: وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة، بفتح الجيم وكسر الدال المهملة، قبلي المسجد، وفي (التلويح): هو موضع بقرب المسجد يعرف بقصر بني حديلة، وضبطها بالكتابة: بضم الحاء المهملة وفتح الدال. قلت: الصواب بالجيم. قوله: (من ماء فيها) أي: في بيرحا. قوله: (طيب) بالجر لأنه صفة للماء. قوله: (فلما أنزلت هذه الآية) وهي قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي: بعض ما تحبون من الأموال. وقال الضحاك: يعني لن تدخلوا الجنة حتى تنفقوا مما تحبون، يعني: تخرجون زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم، وفي رواية عن ابن عباس: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الزكاة. قوله: * (وما تنفقوا من شيء) * (آل عمران: 29). يعني: الصدقة وصلة الرحم، * (فإن الله به عليم) * (آل عمران: 29). أي: ما يخفى عليه فيثيبكم عليه، وروي عن عبد الله ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنه اشترى جارية جميلة وهو يحبها، فمكثت عنده أياما فأعتقها فزوجها من رجل فولد لها ولد، فكان يأخذ ولدها ويضمه إلى نفسه، فيقول: إني أشم منك ريح أمك. فقيل له: قد رزقك الله من حلال فأنت تحبها فلم تركتها؟ فقال: ألم تسمع هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). ذكره أبو الليث السمرقندي في (تفسيره) وذكر أيضا عن عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق به، فقيل له: هلا تصدقت بثمنه؟ فقال: لأن السكر أحب إلي، فأردت أن أنفق مما أحب. قوله: (قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
29

أي: قام أبو طلحة منتهيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (برها)، أي: خيرها، والبر اسم جامع لأنواع الخيرات والطاعات، ويقال أرجو ثواب برها. قوله: (وذخرها) أي: أقدمها فأدخرها لأجدها هناك، وعن ابن مسعود: البر في الآية: الجهة، والتقدير على هذا: أبواب البر. قوله: (بخ)، هذه كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء وتكرر للمبالغة، فإن وصلت خففت ونونت وربما شددت كالاسم، ويقال بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة، وقال القاضي: حكي بالكسر بلا تنوين، وروي بالرفع، فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منونا وإسكان الثاني، وقال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه، وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في: هل وبل، ومن نونه شبهه بالأصوات: كصه ومه، وفي (الواعي): قال الأحمر: في بخ أربع لغات: الجزم والخفض والتشديد والتخفيف. وقال ابن بطال: هي كلمة إعجاب، وقال ابن التين: هي كلمة تقولها العرب عند المدح والمحمدة، وقال القزاز: هي كلمة يقولها المفتخر عند ذكر الشيء العظيم، وكلها متقاربة في المعنى. قوله: (مال رابح) بالباء الموحدة أي: يربح فيه صاحبه في الآخرة، ومعناه: ذو ربح كلابن وتامر، أي: ذو لبن وذو تمر، وقال ابن قرقول: وروي بالياء المثناة من تحت من الرواح يعني: يروح عليه أجره. وقال ابن بطال: والمعنى أن مسافته قريبة وذلك أنفس الأموال. وقيل: معناه يروح بالأجر ويغدو به، واكتفى بالرواح عن الغدو، ولعلم السامع، ويقال: معناه أنه مال رائح، يعني من شأنه الرواح أي: الذهاب والفوات فإذا ذهب في الخير فهو أولى. وقال القاضي: وهي رواية يحيى بن يحيى وجماعة، ورواية أبي مصعب وغيره بالباء الموحدة. وقال ابن قرقول: بل الذي رويناه ليحيى بالباء المفردة، وهو ما في مسلم، وفي (التلويح): يحيى الذي أشار إليه ابن قرقول يحيى الليثي المغربي، ويحيى الذي في البخاري هو النيسابوري، وقال أبو العباس الواني في كتابه (أطراف الموطأ): في رواية يحيى الأندلسي بالباء الموحدة، قال: وتابعه روح بن عبادة وغيره، وقال يحيى بن يحيى النيسابوري وإسماعيل وابن وهب وغيرهم: رائح، بالهمزة من الروح، وشك القعنبي فيه، وقال الإسماعيلي: من قال رابح، بالباء، فقد صحف. قوله: (وقد سمعت ما قلت) بوب عليه البخاري في الوكالة: باب إذا قال الرجل لوكيله ضعه حيث أراك الله، وقال الوكيل: قد سمعت، وقال المهلب: دل على قبوله صلى الله عليه وسلم ما جعل إليه أبو طلحة، ثم رد الوضع فيها إلى أبي طلحة بعد مشورته عليه فيمن يضعها. قوله: (أفعل). قال السفاقسي: هو فعل مستقبل مرفوع، وقال النووي: يحتمل أن يقول: إفعل أنت ذاك فقد أمضيته على ما قلت، فجعله أمرا. قوله: (في أقاربه) الأقارب جمع: الأقرب، وقالت الفقهاء: لو قال: وقفت على قرابتي، يتناول الواحد، ويقال: هم قرابتي وهو قرابتي، وفي (الفصيح): ذو قرابتي للواحد وذو قرابتي للإثنين وذو قرابتي للجمع، والقرابة والقربى في الرحم. وفي (الصحاح): والقرابة القربى في الرحم، وهو في الأصل مصدر تقول: بيني وبينه قرابة وقرب وقربى ومقربة ومقربة وقربة وقربة، بضم الراء، وهو قربى وذو قرابتي وهم أقربائي وأقاربي، والعامة تقول: هو قرابتي وهم قراباتي. قوله: (وبني عمه)، من باب عطف الخاص على العام، فافهم.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن الرجل الصالح قد يضاف إليه حب المال وقد يضيفه هو إلى نفسه، وليس في ذلك نقيصة عليه. وفيه: اتخاذ البساتين والعقار، وقال ابن عبد البر: وفيه رد لما يروى عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، إنه قاال: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا). وفيه: إباحة دخول العلماء البساتين. وفيه: دخول الشارع حوائط أصحابه وشربه من مائها. وفيه: أن كسب العقار مباح إذا كان حلالا ولم يكن بسبب ذل ولا صغار، فإن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كره
كسب أرض الخراج ولم ير شراها، وقال لا تجعل في عنقك صغارا. وفيه: إباحة شرب من ماء الصديق وكذا الأكل من ثماره وطعامه. قال أبو عمر: إذا علم أن نفس صاحبه تطيب بذلك. وفيه: دلالة للمذهب الصحيح أنه يجوز أن يقال: إن الله تبارك وتعالى يقول، كما يقال: ءن الله تعالى قال، خلافا لما قاله مطرف بن عبد الله بن الشخير، إذ قال: لا يقال الله وتعالى يقول، إنما يقال: قال الله، أو الله، عز وجل، كأنه ينجر إلى استئناف القول. وقول الله قديم، وكأنه ذهل عن قوله عز وجل * (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) * (الأحزاب: 4). وفيه: استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، ألا ترى أن أبا طلحة حين سمع: * (لن تنالوا البر) * (آل عمران: 29). لم يحتج أن يقف حتى يرد عليه البيان عن الشيء الذي يريد الله عز وجل، أن ينفق عباده منه إما بآية أو سنة تبين ذاك.
30

وفيه: مشاورة أهل العلم والفضل في كيفية وجوه الطاعات وغيرها والإنفاق من المحبوب. وفيه: أن الوقف صحيح وإن لم يذكر سبيله، وهو الذي بوب عليه البخاري في الوصايا. وفيه: أن الوكالة لا تتم إلا بالقبول. وفيه: أن أبا طلحة هو الذي قسمها في أقاربه وبني عمه وقد ذكر إسماعيل القاضي في (المبسوط) عن القعنبي بسنده. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها في أقارب أبي طلحة وبني عمه لا خلاف في ذلك، وقال أبو عمر: هو المحفوظ عند العلماء. قلت: هذا خلاف ما ذكر هنا، ويحتمل أنه إنما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الآمر به. وفيه: في قوله: (فضعها يا رسول الله حيث أراك الله)، جواز أمر الرجل لغيره أن يتصدق عنه، أو يقف عنه وكذلك إذا قال الآخر: خذ هذا المال فاجعله حيث أراك الله من وجوه الخير. وقال مالك: في هذا لا يأخذ منه شيئا وإن كان فقيرا، فقال غيره: وجاز له أن يأخذه كله إذا كان فقيرا. وفيه: صحة الصدقة المطلقة والحبس المطلق، وهو الذي لم يعين مصرفه ثم بعد ذلك يعين. وفيه: جواز أن يعطي الواحد من الصدقة فوق مائتي درهم لأن هذا الحائط مشهور أن ريعه يحصل للواحد منه أكثر من ذلك، قاله القرطبي، ولا فرق بين فرض الصدقة ونفلها في مقدار ما يجوز إعطاؤه المتصدق عليه فيما ذكره الخطابي. وفيه: أن الصدقة إذا كانت جزلة مدح صاحبها لقوله صلى الله عليه وسلم: (بخ ذلك مال رابح). وفيه: أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس إذا كانت صدقة تطوع، ويدل على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم: (لك أجران: أجر القرابة والصدقة). وقال لميمونة حين أعتقت جارية لها (أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) ذكره البخاري، رحمه الله تعالى في الهبة.
تابعه روح
أي: تابع عبد الله بن يوسف روح، بفتح الراء: ابن عبادة البصري عن مالك في قوله: (رابح)، بالباء الموحدة ووصل هذه المتابعة في كتاب البيوع.
وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك رايح
أي: قال يحيى بن يحيى النيسابوري، رحمه الله تعالى، وإسماعيل بن أبي أويس في روايتهما عن مالك، رضي الله تعالى عنه، رايح بالياء آخر الحروف، أما رواية يحيى فستأتي موصولة في الوكالة، وأما رواية إسماعيل فوصلها البخاري رحمه الله تعالى في التفسير.
2641 حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال أيها الناس تصدقوا فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار فقلن وبم ذالك يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء ثم انصرف فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه فقيل يا رسول الله هاذه زينب فقال أي الزيانب فقيل امرأة ابن مسعود قال نعم ائذنوا لها فأذن لها قالت يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم.
.
31

مطابقته للترجمة تفهم من الوجه الذي ذكرناه في صدر الباب فليرجع إليه.
ذكر رجاله: وهم: سبعة: الأول: سعيد ابن أبي مريم وهو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم الجمحي. الثاني: محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري. الثالث: زيد بن أسلم أبو أسامة العدوي. الرابع: عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري الخامس: أبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وهذا الإسناد بعينه قد مر في كتاب الحيض، في: باب ترك الحائض الصوم مع المتن من قوله: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى قوله: (من إحداكن)، وفيه زيادة وهي قوله: (قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى. قال: فذاك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال: فذاك من نقصان دينها..) وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. وبقية الحديث تأتي عن قريب في: باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر.
ذكر معناه: قوله: (جاءت زينب امرأة ابن مسعود)، وقال الطحاوي: زينب هذه هي رائطة قال: ولا نعلم عبد الله تزوج غيرها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلاباذي: رائطة هي المعروفة بزينب، وقال ابن طاهر وغيره: امرأة ابن مسعود زينب. ويقال اسمها: رائطة. وأما ابن سعد وأبو أحمد العسكري وأبو القاسم الطبراني وأبو بكر البيهقي وأبو عمر بن عبد البر وأبو نعيم الحافظ وأبو عبد الله بن منده وأبو حاتم بن حبان فجعلوهما ثنتين. والله أعلم. وقال صاحب (التلويح) ومما يرجح القول الأول ما رويناه عن القاضي يوسف في كتاب الزكاة: حدثنا عبد الواحد بن غياث حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا هشام عن عروة عن عبد الله بن عبد الله الثقفي عن أخته رائطة ابنة عبد الله، وكانت امرأة ابن مسعود، وكانت امرأة صناعا الحديث. قلت: روى أحمد في (مسنده) من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (
عن رائطة امرأة عبد الله بن مسعود وكانت امرأة صناع اليد، قال: فكانت تنفق عليه وعلى ولده من صنعتها..) الحديث، وفيه: (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفقي عليهم فإن لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم)، وإسناده صحيح. قوله: (فقيل: يا رسول الله هذه زينب!) القائل هو بلال كما سيأتي عن قريب. قوله: (فقال: أي الزيانب؟) أي: أية زينب من الزيانب، وتعريف المثنى والمجموع من الأعلام وإنما هو بالألف واللام. قوله: (إيذنوا لها. فأذن لها، قالت: يا نبي الله...) إلى آخره، لم يبين أبو سعيد ممن سمع ذلك، فإن كان حاضرا عند النبي صلى الله عليه وسلم حال المراجعة المذكورة فهو من مسنده وإلا فيحتمل أن يكون حمله عن زينب صاحبة القصة، فيكون فيه رواية الصحابي عن الصحابية.
ذكر ما يستفاد منه: احتج بهذا الحديث الشافعي وأحمد في رواية، وأبو ثور وأبو عبيد وأشهب من المالكية، وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد وأهل الظاهر، وقالوا: يجوز للمرأة أن تعطي زكاتها إلى زوجها الفقير. وقال القرافي: كرهه الشافعي وأشهب واحتجوا أيضا بما رواه الجوزجاني، (عن عطاء، قالت: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: يا رسول الله، إن علي نذرا أن أتصدق بعشرين درهما، وأن لي زوجا فقيرا أفيجزىء عني أن أعطيه؟ قال: نعم كفلان من الأجر). وقال الحسن البصري والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية وأبو بكر من الحنابلة: لا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها من زكاة مالها، ويروى ذلك عن عمر، رضي الله تعالى عنه، وأجابوا عن حديث زينب بأن الصدقة المذكورة فيه إنما هي من غير الزكاة، وقال الطحاوي: وقد بين ذلك ما حدثنا يونس، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا الليث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله، (عن رائطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود، وكانت امرأة صنعا، وليس لعبد الله بن مسعود مال، وكانت تنفق عليه وعلى ولده معها، فقالت: والله لقد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع أن أتصدق معكم بشيء! فقال: ما أحب أنه لم يكن لك في ذلك أجر أن تفعلي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي، وهو، فقالت: يا رسول الله إني امرأة ذات صنعة، أبيع منها وليس لولدي ولا لزوجي شيء، فشغلوني فلا أتصدق، فهل لي فيهم أجر؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم، فأنفقي عليهم..) ففي هذا الحديث أن تلك الصدقة مما لم يكن فيه زكاة، والدليل على أن الصدقة كانت تطوعا كما ذكرنا. قولها: (كنت امرأة صنعا أصنع بيدي فأبيع من ذلك فانفق على عبد الله؟). فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد من الصدقة التطوع في حق ولدها؟ وصدقة الفرض في حق زوجها عبد الله؟ قلت: لا مساغ لذلك لامتناع الحقيقة والمجاز حينئذ،
32

ومما يدل على ما قلنا قولها: وكان عندي حلي فأردت أن أتصدق، ولا تجب الصدقة في الحلي عند بعض العلماء، ومن يجيزه لا يكون الحلي كله زكاة، إنما يجب جزء منه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم)، والولد لا تدفع إليه الزكاة إجماعا، وقال بعضهم: احتج الطحاوي لقول أبي حنيفة. فأخرج من طريق رائطة امرأة ابن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين، فكانت تنفق عليه وعلى ولده، قال: فهذا يدل على أنها صدقة تطوع، وأما الحلي فإنما يحتج به على من لا يوجب فيه الزكاة، وأما من يوجبه فلا. وقد روى الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة، قال: قال ابن مسعود لامرأته في حليها إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة، فكيف يحتج الطحاوي بما لا يقول به؟ قلت: لو فهم هذا القائل موضع احتجاج الطحاوي من هذا الحديث لكان سكت عما قاله، وموضع احتجاجه هو قولها: إني امرأة ذات صنعة أبيع منها... إلى آخره، ما ذكرناه عنه آنفا، فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لها في سؤالها. وليس في احتجاجه بهذا مفتقرا إلى الاحتجاج بأمر الحلي سواء كان فيه الزكاة أو لم يكن. قال هذا القائل أيضا. والذي يظهر لي أنهما قضيتان: إحداهما في سؤالها عن تصدقها بحليها على زوجها وولده، والأخرى: في سؤالها عن النفقة.
قلت: الذي يظهر من هذا الحديث خلاف ما ظهر له لأن في الحديث سؤالها عن الصدقة التي أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، لهن بها، وأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم، فمن أين السؤالان فيه؟ ومن أين الجوابان عنهما؟ وقال هذا القائل أيضا: واحتجوا أيضا بأن ظاهر قوله في حديث ابن سعيد المذكور: (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) دال على أنها صدقة تطوع لأن الولد لا يعطى من الزكاة الواجبة بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وغيره، وفي هذا الاحتجاج نظر، لأن الذي يمتنع إعطاؤه من الصدقة الواجبة من يلزم المعطي نفقته، والأم لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه. قلت: يلزم الأم نفقة ولدها إذا كان أبوه فقيرا عاجزا عن التكسب جدا، وذكر أصحابنا أن الأب إذا كان معسرا كسوبا وله ابن زمن وله أم موسرة هل تؤمر بالإنفاق على الابن؟ اختلف المشايخ فيه، قيل: تؤمر، وقيل: لا ترجع الأم على الأب، وهو مروي عن أبي حنيفة نصا. انتهى. وقيل: قوله: ولدك، محمول على أن الإضافة للتربية لا للولادة، فكأنه ولده من غيرها. قلت: هذا ارتكاب المجاز بغير قرينة وهو غير صحيح وقد خاطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وولدك)، فدل على أنه ولدها حقيقة، ويدل عليه ما جاء في حديث آخر: (أيجزىء عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟) وفي (معجم الطبراني): (أيجزىء أن أجعل صدقتي فيك وفي بني أخي أيتام؟) الحديث، وفي رواية: (يا رسول الله! هل لي من أجر أن أتصدق على ولد عبد الله من غيري؟) وإسنادهما جيد، وللبيهقي: (كنت أعول عبد الله ويتامى)، وقيل: اعتل من منعها من إعطائها زكاتها لزوجها بأنها تعود إليها في النفقة فكأنها ما خرجت عنها، وجوابه: إن احتمال رجوع الصدقة إليها واقع في التطوع أيضا قلت: ليست الصدقة كالزكاة، لأن عود الزكاة إليها في النفقة يضر فتصير كأنها ما خرجت بخلاف الصدقة، فإن احتمال عودها إليها لا يضر، فخروجها وعدمه سواء.
وأما مسألة الحلي ففيها خلاف بين العلماء، فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: تجب فيها الزكاة، وروي ذلك عن عمر ابن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ومجاهد والزهري وطاووس وميمون بن مهران والضحاك وعلقمة والأسود وعمر بن عبد العزيز وذر الهمداني والأوزاعي وابن شبرمة والحسن بن حي، وقال ابن المنذر وابن حزم: الزكاة واجبة بظاهر
الكتاب والسنة، وقال مالك وأحمد وإسحاق والشافعي، رضي الله تعالى عنهم، في أظهر قوليه: لا تجب الزكاة فيها، وروي ذلك عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة والقاسم بن محمد والشعبي، وكان الشافعي يفتي بهذا في العراق وتوقف بمصر، وقال: هذا مما استخير الله فيه. وقال الليث: ما كان من حلي يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وإن اتخذ للتحرز عن الزكاة ففيه الزكاة، وقال أنس: يزكى عاما واحدا لا غير.
واستدل من أسقط الزكاة بحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس في الحلي زكاة، ذكره في (الإمام) وعن جابر أنه كان يرى الزكاة في كثير الحلي دون قليلها، وروى عبد الرزاق: أخبرنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، قال: لا زكاة في الحلي، وروى مالك في (الموطأ): عن عبد الرحمن
33

ابن القاسم عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: كانت تلي بنات أختها يتامى في حجرها فلا تخرج من حليهن الزكاة، وأخرج الدارقطني عن شريك عن علي بن سليمان، قال: سألت أنس بن مالك عن الحلي، فقال: ليس فيه زكاة. وروى الشافعي ثم البيهقي من جهة: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن خالد يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه زكاة؟ فقال جابر: لا، وإن كان يبلغ ألف دينار. وأخرج الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألف.
واحتج من رأى فيها الزكاة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها بنت لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قالت: فخلعتهما فألقيتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله ولرسوله)، رواه أبو داود والنسائي، وقال: ولا يصح في هذا الباب شيء. قلت: قال ابن القطان في كتابه: إسناده صحيح، وقال الحافظ المنذري: إسناده لا مقال فيه، فإن أبا داود رواه عن أبي كامل الجحدري وحميد بن مسعدة وهما من الثقات احتج بهما مسلم، وخالد بن الحارث إمام فقيه احتج به البخاري ومسلم، وكذلك حسين بن ذكوان المعلم احتجا به في (الصحيح) ووثقه ابن المديني وابن معين وأبو حاتم، وعمرو بن شعيب ممن قد علم وهذا إسناد تقوم به الحجة إن شاء الله تعالى. فإن قلت: أخرج الترمذي من حديث ابن لهيعة (عن عمرو بن شعيب عن جده، قال: أتت امرأتان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: أتؤديان زكاة هذا؟ قالتا: لا. فقال: أتحبان أن يسوركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: فأديا زكاته)، وقال الترمذي: ورواه ابن المثنى بن الصباح عن عمر بن شعيب نحو هذا، وابن لهيعة وابن الصباح يضعفان في الحديث، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. قلت: قال المنذري: لعل الترمذي قصد الطريقين اللذين ذكرهما، وإلا فطريق أبي داود لا مقال فيه، واحتجوا أيضا بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، رواه أبو داود من حديث (عبد الله بن شداد بن الهاد أنه، قال: دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت صنعتهن أتزين لك يا رسول الله! قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا أو ما شاء الله، قال: هو حسبك من النار). وأخرجه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قلت: الحديث على شرط مسلم ولا يلزم، من قول الترمذي: لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أن لا يصح عند غيره فافهم.
واحتجوا أيضا بحديث أسماء بنت يزيد، أخرجه أحمد في (مسنده): (حدثنا علي بن عاصم عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد، قالت: دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسورة من ذهب، فقال لنا: أتعطيان زكاتها؟ فقلنا: لا، قال: أما تخافان أن يسوركما الله أسورة من نار؟ أديا زكاتها. فإن قلت: قال ابن الجوزي: وعلي بن عاصم رماه يزيد بن هارون بالكذب، وعبد الله بن خيثم قال ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية، وشهر بن حوشب قال ابن عدي: لا يحتج بحديثه. قلت: ذكر في (الكمال): وسئل أحمد عن علي بن عاصم فقال: هو والله عندي ثقة، وأنا أحدث عنه، وعبد الله بن خيثم قال ابن معين، هو ثقة حجة، وشهر بن حوشب قال أحمد: ما أحسن حديثه ووثقه، وعن يحيى: هو ثقة، وقال أبو زرعة: هو لا بأس به، فظهر من هذا كله سقوط كلام ابن الجوزري وصحة الحديث.
واحتجوا أيضا بحديث فاطمة بنت قيس، رواه الدارقطني في (سننه): عن نصر بن مزاحم عن أبي بكر الهذلي أخبرنا شعيب بن الحجاب (عن الشعبي قال: سمعت فاطمة بنت قيس، تقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت: يا رسول الله خذ منه الفريضة فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال). وقال الدارقطني: أبو بكر الهذلي متروك لم يأت به غيره، واحتجوا أيضا بحديث أم سليمة أخرجه أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا عتاب عن ثابت بن عجلان (عن عطاء عن أم سلمة، قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب، فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال: ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز)، وأخرجه الحاكم أيضا في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ولفظه: (إذا أديت زكاته فليس بكنز). فإن قلت: رواه البيهقي، وقال: تفرد به ثابت بن عجلان، وقال ابن الجوزي في (التحقيق): محمد بن مهاجر، قال ابن حبان: يضع الحديث
34

على الثقات. قلت: قال في (تنقيح التحقيق): لا يضر تفرد ثابت به فإنه روى له البخاري ووثقه ابن معين، وقال فيه أيضا: الذي قيل في محمد ابن مهاجر وهم، فإن محمد بن مهاجر الكذاب ليس هو هذا، فهذا الذي يروي عن ثابت بن عجلان ثقة شامي أخرج له مسلم في (صحيحه) ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة ودحيم وأبو داود وآخرون، وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: كان متقنا، وأما محمد بن مهاجر الكذاب فإنه متأخر، وعتاب بن بشير وثقه ابن معين.
وأما حديث جابر الذي احتجب به الفرقة الأولى فقد قال البيهقي: فهو حديث لا أصل له، وفيه عافية بن أيوب، وهو مجهول، فمن احتج به مرفوعا كان مغرورا بدينه داخلا فيما يعيب به ممن يحتج بالكذابين. قلت: هذا غريب من البيهقي مع تعصبه للشافعي، وقال سبط بن الجوزي: هو حديث ضعيف مع أنه موقوف على جابر.
قوله: (مسكتان)، تثنية مسكة بالفتحات، وهو السوار من الدبل، وهي قرون الأوعال. وقيل: جلود دابة بحرية، والجمع: مسك، وقيل: الدبل ظهر السلحفات البحرية. (والفتخات) بفتح التاء المثناة من فوق وبالخاء المعجمة جمع: فتخة، بالتحريك وهي حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهي خاتم، وقال عبد الرزاق، هي الخواتيم العظام، وقيل: خواتيم عراض الفصوص ليس بمستقيمة، وقيل: خلخل لا جرس له، والفتخ تلبس في الأيدي. وقيل: في الأرجل. (والأوضاح) جمع: وضح، بفتح الضاد المعجمة وفي آخره حاء مهملة، وهو نوع من الحلي يعمل من الفضة، سميت به لبياضها، ثم استعملت في التي يعمل من الذهب أيضا. وقيل: حلي من الدراهم الصحيحة والوضح الدرهم الصحيح، وقيل: حلي من الحجارة، وقيل: الأوضاح: الخلاخل.
ومما يستفاد من الحديث المذكور: استئذان النساء على الرجال. وفيه: أنه إذا لم ينسب إليه من يستأذن سال أن ينسب. وفيه: الحث على الصدقة على الأقارب. وفيه: ترغيب ولي الأمر في أفعال الخير للرجال والنساء. وفيه: التحدث مع النساء الأجانب عند أمن الفتنة.
54
((باب ليس على المسلم في فرسه صدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه ليس على المسلم في فرسه صدقة، واشتقاق الفرس من الفرس وهو الكسر، وقال الجوهري: الفرس يقع على الذكر والأنثى ولا يقال للأنثى فرسه، وجمعه: الخيل، من غير لفظه، والخيل اسم جمع للعراب والبرازين ذكورها وإناثها كالركب، ولا واحد لها من لفظها، وواحدها: فرس، والخيل الفرسان أيضا قال تعالى: * (واجلب عليهم بخيلك) * (الإسراء: 46). والخيل: يجمع على خيول فيكون جمع اسم الجمع: كالقوم والأقوام.
3641 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا عبد الله بن دينار قال سمعت سليمان بن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة.
(الحديث 3641 طرفه في: 4641).
مطابقته للترجمة في عين متن الحديث، غير أن فيه لفظة: وغلامه، زائدة. ورجاله قد ذكروا فيما مضى، فسليمان بن يسار ضد اليمين مر في: باب الوضوء، وعراك بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وفي آخره كاف، مر في: باب الوضوء.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا هنا، عن مسدد عن يحيى بن سعيد، وعن سليمان بن حرب عن وهيب، كلاهما عن خيثم بن عراك بن مالك عن أبيه به، وأخرجه مسلم في الزكاة أيضا، عن يحيى بن يحيى وعن عمرو الناقد وزهير بن حرب وعن قتيبة عن حماد وعن أبي بكر ابن أبي شيبة وعن أبي الطاهر بن السرح وهارون بن سعيد وأحمد بن عيسى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك به وعن محمد بن المثنى ومحمد بن يحيى. وأخرجه الترمذي فيه عن أبي كريب ومحمود بن غيلان. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به وعن عبيد الله بن سعيد وعن محمد بن عبد الله وعن محمد ابن سلمة والحارث بن مسكين وعن محمد بن منصور وعن محمد بن علي. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر اختلاف ألفاظه ومن أخرجه غير الستة: وفي لفظ للبخاري: (ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه)، ولفظ
35

مسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة)، وفي لفظ: (ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر). ولفظ أبي داود: (ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق). وفي لفظ: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة). ولفظ الترمذي: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة). ولفظ النسائي، كلفظ أبي داود الثاني، وفي لفظ: (لا زكاة على الرجل المسلم في عبده ولا في فرسه)، وفي لفظ: (ليس على المرء في فرسه ولا مملوكه صدقة)، وفي لفظ: (ليس على المسلم صدقة في غلامه ولا في فرسه). ولفظ ابن ماجة، كلفظ مسلم الأول، وفي لفظ في (مسند عبد الله بن وهب): (لا صدقة على الرجل في خيله ولا في رقيقه)، وفي لفظ لابن أبي شيبة: (ولا في وليدته) ورواه الشافعي عن سفيان عن يزيد بن يزيد بن جابر عن عراك عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، فوقفه.
وفي الباب عن علي ابن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه الأربعة. فأبو داود والترمذي والنسائي من رواية عاصم بن حمزة عن علي: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، وابن ماجة من رواية الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تجوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق).
وفي الباب أيضا عن عمرو بن حزم، وعمر بن الخطاب، وحذيفة وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن سمرة، وسمرة بن جندب. فحديث عمرو بن حزم رواه الطبراني في (الكبير) من رواية سليمان بن داود: عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات)، وفيه: (أنه ليس في عبده ولا في فرسه شيء)، وسليمان بن داود الحزيبي وثقه أحمد وضعفه ابن معين. وحديث عمر بن الخطاب وحذيفة، رضي الله تعالى عنهما، رواه أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن راشد بن سعد عن عمر بن الخطاب وحذيفة بن اليمان (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من الخيل والرقيق صدقة)، وأبو بكر ضعيف. وحديث ابن عباس رواه الطبراني في (الصغير) و (الأوسط) من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وليس فيما دون المائتين زكاة). وحديث عبد الرحمن بن سمرة رواه الطبراني في (الكبير) والبيهقي من رواية سليمان بن أرقم عن الحسن (عن عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال: (لا صدقة في الكسعة والجبهة والنخة)، وسليمان بن أرقم متروك الحديث. الكسعة، بضم الكاف وسكون السين المهملة بعدها عين مهملة، قال أبو عبيدة وأبو عمرو والكسائي: هي الحمير، وقيل: هي الرقيق. والجبهة، بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة، هي الخيل، والنخة، بضم النون وتشديد الخاء المعجمة هي: الرقيق، قاله أبو عبيدة وأبو عمرو وقال الكسائي: إنها البقر العوامل وذكر الفارسي في (مجمع الغرائب) عن الفراء أن النخة أن يأخذ المصدق دينارا بعد فراغه من الصدقة، وقيل: النخة الحمير، يقال لها: النخة والكسعة. وقال بقية ابن الوليد: النخة المربيات في البيوت، والكسعة البغال والحمير. وحديث سمرة بن جندب رواه البزار، فذكر أحاديث ثم قال: وبإسناده (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن لا تخرج الصدقة من الرقيق) وإسناده ضعيف.
ذكر ما يستفاد منه: استدل بالأحاديث المذكورة سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز ومكحول وعطاء والشعبي والحسن والحكم وابن سيرين والثوري والزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الظاهر، فإنهم قالوا: لا زكاة في الخيل أصلا، وممن قال بقولهم أبو يوسف ومحمد من أصحابنا، وقال الترمذي: والعمل عليه، أي: على حديث أبي هريرة المذكور في الباب عند أهل العلم أنه ليس في الخيل السائمة صدقة ولا في الرقيق إذا كانوا للخدمة صدقة إلا أن يكونوا للتجارة، فإذا كانوا للتجارة ففي أثمانهم الزكاة إذا حال عليها الحول، وقال إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وزفر: تجب الزكاة في الخيل المتناسلة وذكر شمس الأئمة السرخسي، أنه مذهب زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، من الصحابة واحتجوا بما رواه مسلم مطولا من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا حمي عليه في نار جهنم...) الحديث، وفيه: (الخيل ثلاثة فهي: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر). الحديث، ثم قال: (وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا، ولا ينسى حق ظهورها
36

وبطونها في عسرها ويسرها..) الحديث، وهذا المقدار الذي ذكرناه أخرجه الطحاوي وأخرجه البزار أيضا مطولا، ولفظه: (ولا يحبس حق ظهورها وبطونها) وأبو حنيفة ومن معه تعلقوا به في إيجاب الزكاة في الخيل، وقال: إن في هذا دليلا على أن لله فيها حقا، وهو كحقه في سائر الأموال التي تجب فيها الزكاة، واحتجوا أيضا بما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أخرجه الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء. قال: حدثنا جويرية عن مالك عن الزهري أن السائب بن يزيد أخبره، قال: رأيت أبي يقوم الخيل ويدفع صدقتها إلى عمر بن الخطاب، وأخرجه الدارقطني أيضا وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو عمر في (التمهيد) وأخرجه ابن أبي شيبة: عن محمد بن بكر عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن حسين أن ابن شهاب أخبره أن السائب ابن أخت نمرة أخبره أنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقات الخيل، وأخرجه بقي بن مخلد في (مسنده) عنه، وقال أبو عمر: الخبر في صدقة الخيل عن عمر، رضي الله تعالى عنه، صحيح من حديث الزهري عن السائب بن يزيد، وقال ابن رشد المالكي في (القواعد): قد صح عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يأخذ الصدقة عن الخيل، وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده: أن عمر بن الخطاب قال ليعلى بن أمية: تأخذ من كل أربعين شاة شاة، ولا تأخذ من الخيل شيئا؟ خذ من كل فرس دينارا، فضرب على الخيل دينارا دينارا، وروى أبو يوسف عن أبي عبد الله غورك بن الخضرم السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في الخيل في كل فرس دينار)، ذكره في (الإمام) عن الدارقطني ورواه أبو بكر الرازي وروى الدارقطني في (سننه) عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، قال: جاء ناس من أهل الشام إلى عمر فقالوا: إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا وإماء، نحب أن نزكيه، فقال: ما فعله صاحبي قبلي فأفعله أنا، ثم استشار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: حسن، وسكت علي، رضي الله تعالى عنه، فسأله فقال: هو حسن لو لم يكن جزية راتبة يأخذون بها بعدك، فأخذ من الفرس عشرة دراهم، ثم أعاد قريبا منه بالسند المذكور، والقضية. وقال فيه: فوضع على كل فرس دينارا.
وروى محمد بن الحسن في كتاب (الآثار): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه قال: في الخيل السائمة التي تطلب نسلها إن شئت في كل فرس دينار أو عشرة دراهم، وإن شئت فالقيمة، فيكون في كل مأتي درهم خمسة دراهم في كل فرس ذكرا أو أنثى. فإن قلت: قال ابن الجوزي: الجواب عن قوله: (ثم لم ينس حق الله...) إلى آخره من وجهين: أحدهما: أن حقها إعارتها وحمل المنقطعين عليها فيكون ذلك على وجه الندب. والثاني: أن يكون واجبا، ثم نسخ بدليل قوله: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل)، إذ العفو لا يكون إلا عن شيء لازم. قلت: الذي يكون على وجه الندب لا يطلق عليه حق، وأيضا فالمراد به صدقة خيل الغازي، وفي (الأسرار) للدبوسي: لما سمع زيد بن ثابت حديث أبي هريرة هذا قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراد فرس الغازي. وأما ما طلب نسلها ورسلها ففيها الزكاة في كل فرس دينار أو عشرة دراهم، قال أبو زيد: ومثل هذا لا يعرف قياسا، فثبت أنه مرفوع، وأما النسخ فإنه لو كان اشتهر في زمن الصحابة لما قرر عمر الصدقة في الخيل، وأن عثمان ما كان يصدقها. فإن قلت: روى مالك عن ابن شهاب عن سليمان ابن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراج: خذ من خيلنا ورقيقنا صدقة فأبى، ثم كتب إلى عمر فأبى عمر، ثم كلموه أيضا فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر: إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم وارزق رقيقهم، ففي إباء أبي عبيدة وعمر، رضي الله تعالى عنهما، من الأخذ من أهل الشام ما ذكروا من رقيقهم وخيلهم دلالة واضحة أنه لا زكاة في الرقيق ولا في الخيل، ولو كانت الزكاة واجبة في ذلك ما امتنعا من أخذ ما أوجب الله عليهم أخذه لأهله ووضعه فيهم. قلت: هذا يعارضه ما ذكرناه من عمر، رضي الله تعالى عنه، في رواية الدارقطني عنه، وغيره، وفي (شرح مختصر الكرخي) و (شرح التجريد): إن شاء أدى ربع عشر قيمتها، وإن شاء أدى عن كل فرس دينارا. وفي (جامع الفقه): يجب في الإناث والمختلطة عنده لكل فرس دينار، وقيل: ربع عشر قيمتها، وفي (أحكام القرآن) للرازي: إن كانت إناثا أو ذكورا وإناثا يجب، وفي (البدائع): الخيل إن كانت تعلف للركوب أو الحمل أو الجهاد في سبيل الله فلا زكاة فيها إجماعا، وإن كانت للتجارة تجب إجماعا، وإن كانت تسام للدر والنسل وهي ذكور وإناث يجب عنده فيها الزكاة حولا واحدا، وفي الذكور المنفردة والإناث المنفردة روايتان. وفي (المحيط): المشهور عدم الوجوب فيهما.
ومما يستفاد من الحديث المذكور: جواز قول: غلام فلان وجوار فلان. وفي (الصحيح)
37

(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي).
64
((باب ليس على المسلم في عبده صدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه: ليس على المسلم في عبده صدقة، أورد حديث أبي هريرة بترجمتين الأولى: بلفظ: غلامه. والثانية: بلفظ: عبده، الغلام، في اللغة اسم للصبي الذي فطم إلى سبع سنين، وفي اصطلاح الناس يطلق على العبد وعلى الحر الذي يخدم الناس، وفي (المغرب): الغلام الطار الشارب، ويستعار للعبد، وغلام القصار أجيره، والجمع: غلمة وغلمان، والعبد خلاف الحر، ويجمع على: عبيد وأعبد وعباد وعبدان، بالضم، وعبدان، بالكسر، وعبدان مشددة الدال، وعبدا تمد وتقصر ومعبوداء بالمد، وحكى الأخفش: عبد، بضمتين مثل سقف وسقف، والمراد بالغلام في الحديث: العبد الذي في الرقبة.
4641 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن خثيم بن عراك قال حدثني أبي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ح وحدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا وهيب بن خالد قال حدثنا خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه.
(انظر الحديث 3641).
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله سبعة، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وخثيم، بضم الخاء وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء آخر الحروف: ابن عراك بن مالك الغفاري، ووهيب مصغر وهب. قوله: (في عبده) مطلق لكنه مقيد بما ثبت في (صحيح مسلم) ليس في العبد إلا صدقة الفطر، هذا إذا لم يكن للتجارة، وقد مر الكلام فيه مستوفى في الباب السابق، والله أعلم بحقيقة الحال.
74
((باب الصدقة على اليتامى))
أي: هذا باب في بيان الصدقة على اليتامى، وذكر لفظ: الصدقة، لكونها أعم من صدقة التطوع، ومن صدقة الفرض، قيل: عبر بالصدقة دون الزكاة لتردد الخبر بين صدقة الفرض والتطوع، لكون ذكر اليتيم جاء متوسطا بين المسكين وابن السبيل وهما من مصارف الزكاة. قلت: إنما ذكر لفظ الصدقة لعمومها وشمولها القسمين، والصدقة مطلقا مرغوب فيها، ولفاعلها أجر عظيم وثواب جزيل إذا وقعت لمستحقها، وذكر في الحديث هؤلاء الثلاثة أعني: المسكين واليتيم وابن السبيل، فالمسكين وابن السبيل مصرفان للزكاة ولصدقة التطوع، بخلاف اليتيم فإنه إنما يكون مصرفا إذا كان فقيرا، والشارع مدح الذي يتصدق على هؤلاء الثلاثة، وإنما ذكر البخاري لفظ: وخصهم بالذكر دون هذين الاثنين للاهتمام بهم، وحصول الأجر في الصدقة عليهم أكثر من غيرهم، وقد ورد في الحديث: أن الصدقة على اليتيم تذهب قساوة القلب.
5641 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة قال حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله فقال إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ما شأنك تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكلمك فرأينا أنه ينزل عليه قال فمسح عنه الرحضاء فقال أين السائل وكأنه حمده فقال إنه لا يأتي الخير بالشر وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضراء أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ورتعت وإن هاذا المال
38

خضرة حلوة فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون شهيدا عليه يوم القيامة.
مطابقته للترجمة في قوله: (واليتيم)، وذكر وجه تخصيصه بالذكر.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: معاذ، بضم الميم ابن فضالة بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة، مر في باب من اتخذ ثياب الحيض. الثاني: هشام الدستوائي. الثالث: يحيى بن أبي كثير. الرابع: هلال بن أبي ميمونة، ويقال: هلال بن أبي هلال وهو هلال بن علي، ويقال: ابن أسامة الفهري، ومن قال: هلال بن أبي ميمونة ينسبه إلى جد أبيه، وقد ذكر في أول كتاب العلم. الخامس: عطاء بن يسار ضد اليمين، وقد مر في: باب كفران العشير، السادس: أبو سعيد الخدري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه بصري وهشام أهوازي ويحيى طائي يمامي وهلال مدني، وكذا عطاء. وفيه: اثنان مذكوران بلا نسبة. وفيه: من ينسب إلى جد أبيه وهو: هلال.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجهاد: عن محمد بن سنان، وفي الرقاق عن إسماعيل بن عبد الله وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي الطاهر بن السرح وعن علي بن حجر، وأخرجه النسائي عن زياد بن أيوب.
ذكر معناه: قوله: (ذات يوم)، معناه: جلس قطعة من الزمان، فيكون: ذات يوم، صفة للقطعة المقدرة ولم تتصرف لأن إضافتها من قبيل إضافة المسمى إلى الاسم
، وليس له تمكن في الظرفية الزمانية لأنه ليس من أسماء الزمان. قوله: (إن مما أخاف)، كلمة ما يجوز أن تكون موصولة والتقدير أن من الذي أخاف ويجوز أن تكون مصدرية فالتقدير أن من خوفي عليكم وقوله: (ما يفتح عليكم) في محل النصب لأنه اسم: إن (ومما أخاف) مقدما خبره، وكلمة: ما، في: ما يفتح، تحتمل الوجهين أيضا. قوله: (من زهرة الدنيا) أي: من حسنها وبهجتها، مأخوذة من زهرة الأشجار، وهو ما يصغر من أنوارها، وقال ابن الأعرابي: هو الأبيض منها. وقال أبو حنيفة: الزهر والنور سواء، وفي (مجمع الغرائب): هو ما يزهر منها من أنواع المتاع والعين والثياب والزروع وغيرها تغر الخلق بحسنها مع قلة بقائها. وفي (المحكم): زهر الدنيا وزهرتها يعني، بتسكين الهاء وفتحها. وفي (الجامع): وزهرها. قوله: (أو يأتي الخير بالشر؟) الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدر بعد الهمزة، وقال الطيبي: الاستفهام فيه استرشاد منهم، ومن ثمة حمد، صلى الله عليه وسلم، السائل، والباء في: بالشر، صلة يأتي بمعنى: هل يستجلب الخير الشر؟ وجوابه صلى الله عليه وسلم: لا يأتي الخير بالشر، لكن قد يكون سببا له ومؤديا إليه كما يأتي في التمثيل. وفي (التلويح): هذا سؤال مستبعد لما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بركة، وسماه الله تعالى خيرا بقوله: * (وإنه لحب الخير لشديد) * (العاديات: 8). فأجيب بأن هذا الخير قد يعرض له ما يجعله شرا إذا أسرف فيه ومنع من حقه، ولذلك قال: (أو خير هو؟) بهمزة الاستفهام وواو العطف الواقعة بعدها المفتوحة على الرواية الصحيحة، منكرا على من توهم أنه لا يحصل منه شر أصلا، لا بالذات ولا بالعرض، وقال التيمي: أتصير النعمة عقوبة؟ أي: إن زهرة الدنيا نعمة من الله على الخلق أتعود هذه النعمة وبالا عليهم؟ قوله: (فسكت، صلى الله عليه وسلم)، يعني انتظارا للوحي، فلام القوم هذاالسائل، وقالوا له: ما شأنك تكلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يكلمك؟ قوله: (فرأينا) من الرؤية، وفي رواية الكشميهني: فأرينا، بضم الهمزة وكسر الراء، ويروى: فرأينا، بضم الراء، أي: ظننا، وكل ما جاء من هذا اللفظ بمعنى رؤية العين فهو مفتوح الأول، وما كان من الظن والحسبان فهو أري وأريت، بضم الهمزة. قوله: (إنه ينزل عليه) على صيغة المجهول يعني: الوحي. قوله: (فمسح عنه الرحضاء)، بضم الراء وفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة: هو عرق يغسل الجلد لكثرته، وكثيرا ما يستعمل في عرق الحمى والمرضى. وقال الأصمعي: الرحضاء: العرق حتى كأنه رحض جسده من العرق، أي: غسل. ووزنه: فعلاء، بضم الفاء وفتح العين، وجاءت أمثلة على هذا الوزن منها: العدواء: الشغل، والعرواء: الرعدة، والخيلاء من الاختيال والتكبر، والصعداء، من قولهم: هو يتنفس الصعداء، من غم أي: يصاعد نفسه. قوله: (وكأنه حمده) أي: وكأن النبي، صلى الله عليه وسلم، حمد السائل وكان الناس ظنوا أنه، صلى الله
39

عليه وسلم، أنكر مسألته فلما رأوه يسأل عنه سؤال راض علموا أنه حمده، فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر، أي: إن ما قضى الله أن يكون خيرا يكون خيرا، وما قضاه أن يكون شرا يكون شرا، وأن الذي خفت عليكم: تضييعكم نعم الله، وصرفكم إياها في غير ما أمر الله، ولا يتعلق ذلك بنفس النعمة ولا ينسب إليها، ثم ضرب لذلك مثلا فقال: (وإن مما ينبت الربيع..) إلى آخره، ينبت، بضم الياء من الإنبات. قوله: (يقتل أو يلم)، قال القزاز: هذا حديث جرى فيه البخاري على عادته في الاختصار والحذف، لأن قوله (فرأينا أنه ينزل عليه) يريد الوحي، وفي قوله: (وإن مما ينبت الربيع يقتل أو يلم) حذف: ما، أي كلمة: ما، قبل: يقتل، وحذف: حبطا، والحديث: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم)، فحذف: حبطا، وحذف: ما. قال القزاز: وروينا بهما، وفي نسخة صاحب (التلويح) لفظا: حبطا، موجود، وغالب النسخ ليس فيه. وقال الخطابي: سقط في الكلام من ا لرواية: ما، وتقديره: ما يقتل. قلت: لا بد من تقدير كلمة: ما، لأن قوله: (ينبت الربيع)، فعل وفاعل ولا يصلح أن يكون لفظ: يقتل، مفعولا إلا بتقدير: ما، وقوله: (حبطا)، بفتح الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة، وانتصابه على التمييز، وهو داء يصيب الإبل، وقال ابن سيده: هو وجع يأخذ البعير في بطنه من كلاء يستوبله، وقد حبط حبطا فهو حبط، وإبل حباطي وحبطة، وحبطت الشاة حبطا: انتفخ بطنها عن أكل الدرق، وذلك الداء الحباط. قوله: (أو يلم) من الإلمام أي: أو يقرب ويدنو من الهلاك. قوله: (إلا آكلة الخضر)، بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين وفي آخره راء، ووقع في رواية العذري: (إلا آكلة الخضرة)، بالتاء في آخره. وعند الطبري: (الخضرة)، بضم الخاء وسكون الضاد، وفي رواية الحموي: الخضراء، بزيادة ألف قبل الاستثناء مفرغ، والأصل: مما ينبت الربيع ما يقتل آكله إلا آكلة الخضر، وإنما صح الاستثناء المفرغ لقصد التعميم فيه، ونظيره: قرأت إلا يوم كذا. وقال الطيبي: والأظهر أن الاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت، وهو غير جائز عند صاحب (الكشاف) إلا بالتأويل، ولأن ما يقتل حبطا بعض ما ينبت الربيع لدلالة: من، التبعيضية عليه، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا، لكن يجب التأويل في المستثننى، والمعنى: من جملة ما ينبت الربيع شيئا يقتل آكله إلا الخضر منه إذا اقتصد فيه آكله وتحرى دفع ما يؤديه إلى الهلاك. قوله: (فإنها) أي: فإن آكلة الخضر، قال الخطابي: الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منه الماشية فتهلكه أكلا، ولكنه من الجنبة التي ترعى الماشية منها بعد هيج العشب ويبسه، وأكثر ما تقول العرب لما اخضر من الكلاء الذي لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منها شيئا فشيئا، فلا تستكثر منه فلا تحبط بطونها عليه. قوله: (حتى إذا امتدت خاصرتاها) يعني: إذا امتلأت شبعا وعظم جنباها، والخاصرة: الجنب استقبلت الشمس لأنه الحين الذي تشتهي فيه الشمس، وجاءت وذهبت (فثلطت) بفتح الثاء المثلثة أي: ألقت السرقين، وقال ابن التين: ثلطت، ضبطه بعضهم بفتح اللام وبعضهم بكسرها، وفي (المحكم): ثلط الثور والبعير والصبي، يثلط ثلطا: سلح سلحا رقيقا. وفي (مجمع الغرائب): خرج رجيعها عفوا من غير مشقة لاسترخاء ذات بطنها فيبقى نفعها ويخرج فضولها ولا يتأذى بها. وفي (العباب) و (المغيث): وأكثر ما يقال للبعير والفيل. قوله: (ورتعت) أي: رعت، وارتع إبله أي: رعاها في الربيع، وأرتع الفرس وتربع: أكل الربيع، وقال الداودي: رتعت افتعل من الرعي قلت: ليس كذلك، ولا يقول هذا إلا من لم يمس شيئا من علم التصريف. قوله: (وإن هذا المال خضر)، بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وإنما سمي الخضر خضرا لحسنه ولإشراق وجهه، والخضر عبارة عن الحسن، وهي من أحسن الألوان، ويروى: خضرة، بتاء التأنيث، والوجه فيه أن يقال: إنما أنث على معنى تأنيث المشبه به، أي: هذا المال شيء كالخضرة، وقيل: معناه
كالبقلة الخضرة، أو يكون على معنى فائدة المال أي: الحياة به والمعيشة خضرة. وقال الطيبي: يمكن أن يعبر عن المال بالدنيا لأنه أعظم زينتي الحياة الدنيا، قال تعالى: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) * (الكهف: 64). وقال الخطابي يريدان صورة الدنيا حسنة المنظر موثقة تعجب الناظر ولذلك أنث اللفظين يعني خضرة حلوة وقال الكرماني: وله وجه آخر وهو أن تكون التاء للمبالغة، نحو: رجل راوية وعلامة. قوله: (ونعم صاحب المسلم...)، إلى آخره، يقول: إن من أعطي مالا وسلط على هلكته في الحق فأعطى من فضله المسكين وغيره، فهذا المال المرغوب فيه. قوله: (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) شك من يحيى. قوله: (وإنه من يأخذه) أي: وإن المال من يأخذه بغير حقه، بأن جمعه من الحرام
40

أو من غير احتياج إليه ولم يخرج منه حقه الواجب فيه، فهو كالذي يأكل ولا يشبع، يعني: أنه كلما نال منه شيئا ازدادت رغبته واستقل ما في يده، ونظر إلى ما فوقه فينافسه. قوله: (فيكون عليه شهيدا يوم القيامة)، يحتمل البقاء على ظاهره، وهو أنه يجاء بماله يوم القيامة فينطق الصامت منه ما فعل به أو يمثل له بمثال حيوان أو يشهد عليه الموكلون بكتب الكسب والأنفاق وقيل: معنى قوله: (ويكون عليه شهيدا) أي: حجة عليه يوم القيامة، يشهد على صرفه وإسرافه وأنه أنفقه فيما لا يرضاه الله تعالى، ولم يؤد حقه.
ذكر ما يستفاد منه فيه: مثلان ضربهما النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا ومنعها من حقها، والآخر: للمقتصد في أخذها، فأما قوله: (وإن مما ينبت الربيع) فهو مثل المفرط الذي يأخذها بغير حق، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب فتستكثر منها الماشية حتى تنتفخ بطونها، لما قد جاوزت حد الاحتمال، فتنشق أمعاؤها منها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويمنع ذا الحق حقه يهلك في الآخرة بدخوله النار. وأما قوله: (إلا آكلة الخضر) فهو مثل المقتصد، وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي ينبتها الربيع، ولكنها من الجنبة التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول، فضربه صلى الله عليه وسلم مثلا لمن يقتصد في أخذ الدنيا وجمعها ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ناج من وبالها كما نجت آكلة الخضر. وقيل: الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ فهي كلها خير في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها بحيث تنتفخ أضلاعه منه وتمتلىء خاصرتاه، ولا يقلع عنه فيهلكه سريعا، ومن أكل كذا فيشرفه إلى الهلاك، ومن: أكل مسرفا حتى تنتفخ خاصرتاه ولكنه يتوخى إزالة ذلك ويتحيل في دفع مضرتها حتى يهضم ما أكل ومن أكل غير مفرط ولا مسرف يأكل منها ما يسد جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه، ومن أكل ما يسد به رمقه ويقوم به طاعته. الأول: مثال الكافر، ومن ثمة أكد القتل بالحبط أي: يقتل قتلا حبطا، والكافر هو الذي يحبط أعماله. والثاني: مثال المؤمن الظالم لنفسه المنهمك في المعاصي. والثالث: مثال المقتصد. والرابع: مثال السابق الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، هذا الوجه يفهم من الحديث، وإن لم يصرح به، وفي كلام النووي إشعار بهذا.
وفيه: جواز ضرب الأمثال بالأشياء التافهة والكلام الوضيع كالبول ونحوه.
وفيه: جواز عرض التلميذ على العالم الأشياء المجملة، وأن للعالم إذا سئل عن شيء أن يؤخر الجواب حتى يتيقن. وفيه: أن السؤال إذا لم يكن في موضعه ينكر على سائله. وفيه: أن العالم إذا سئل عن شيء ولم يستحضر جوابه أو أشكل عليه يؤخر الجواب حتى يكشف المسألة ممن فوقه من العلماء، كما فعل صلى الله عليه وسلم في سكوته حتى استطلعها من قبل الوحي. وفيه: أن كسب المال من غير حله غير مبارك فيه، والله تعالى يرفع عنه البركة كما قال تعالى: * (يمحق الله الربا) * (البقرة: 672). وقال الشيخ أبو حامد: مثال المال مثال الحية التي فيها ترياق نافع وسم ناقع، فإن أصابها المعزم الذي يعرف وجه الاحتراز من شرها وطريق استخراج ترياقها النافع كانت نعمة، وإن أصابها السوادي الغني فهي عليه بلاء مهلك. وفيه: أن للعالم أن يحذر من يجالسه من فتنة المال، وينبههم على مواضع الخوف، كما قال، صلى الله عليه وسلم: * (إنما أخاف عليكم) * (البقرة: 672). فوصف لهم ما يخاف عليهم ثم عرفهم بمداواة تلك الفتنة، وهي إطعام المسكين ونحوه. وفيه: الحض على الاقتصاد في المال والحث على الصدقة وترك الإمساك. قال الكرماني وفيه: حجة لمن يرجح الغني على الفقر. قلت: هذا الكلام عكس ما نقل عن المهلب، فإنه قال: احتج قوم بهذا الحديث في تفضيل الفقر على الغنى، وليس كما تأولوه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخش عليهم ما يفتح عليهم من زهرة الدنيا إلا إذا ضيعوا ما أمرهم الله تعالى به في إنفاق حقه. قلت: جمع المال غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج عن حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المآكل مسقم من غير تحريم للآكل، ولكن الاقتصاد فيه هو المحمود. وفيه: جلوس الإمام على المنبر عند الموعظة وجلوس الناس حوله. وفيه: خوف المنافسة لقوله: (إنما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا). وفيه: استفهامهم بضرب المثل. وفيه: مسح الرحضاء للشدة الحاصلة. وفيه: دعاء السائل لقوله: (أين السائل؟) وفيه: ظهور البشرى لقوله: (وكأنه حمده) أي: لما رأى فيه من البشرى لأنه كان إذا سر برقت أسارير وجهه. والله أعلم.
41

84
((باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر))
أي: هذا باب في بيان صرف الزكاة على الزوج وعلى الأيتام الذين في حجر المنفق، الحجر، بكسر الحاء وفتحها، والمراد به الحضن. وفي (المطالع) إذا أريد به المصدر فالفتح لا غير، وإن أريد الاسم فالكسر لا غير، وحجر الكعبة بالكسر لا غير، وإنما أعاد الأيتام هنا، مع أنه ذكر في الباب السابق لأن الأول فيه العموم، وفي هذا الخصوص. قيل: وجه الاستدلال بهما على العموم لأن الإعطاء أعم من كونه واجبا أو مندوبا. قلت: لا نسلم عموم جواز الإعطاء، بل الواجب له حكم، والمندوب له حكم. أما الواجب فلأن في إعطاء الزوجة زكاتها فيه خلاف، كما ذكرنا. وكذلك الإعطاء للأيتام إنما يجوز بشرط الفقر، وأما المندوب فلا كلام فيه.
قاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال المذكور من الزكاة على الزوج والأيتام أبو سعيد الخدري، وفي (التلويح): هذا التعليق تقدم مسندا عند البخاري في: باب الزكاة على الأقارب، وقال بعضهم: يشير إلى حديثه السابق موصولا في: باب الزكاة على الأقارب. قلت: ليس فيه ذكر الأيتام أصلا، ولهذا قال الكرماني: قيل: هو الحديث الذي رواه في: باب الزكاة على الأقارب.
6641 حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثني شقيق عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله رضي الله تعالى عنهما. قال فذكرته لإبراهيم فحدثني إبراهيم عن أبي عبيدة عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبد الله بمثله سواء قالت كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام في حجره قال فقالت لعبد الله سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق عليك وعلى أيتامي في حجري من الصدقة فقال سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي فمر علينا بلا ل فقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزي عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري وقلنا لا تخبر بنا فدخل فسأله فقال من هما قال زينب قال أي الزيانب قال امرأة عبد الله قال نعم ولها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: ثمانية: الأول: عمر بن حفص أبو حفص النخعي، وقد تكرر ذكره. الثاني: أبو حفص بن غياث بن طلق. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: شقيق أبو وائل، وقد مر عن قريب. الخامس: عمرو ابن الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة: الخزاعي ثم المصطلقي، بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام وبالقاف: أخو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، له صحبة. السادس: إبراهيم النخعي. السابع: أبو عبيدة، بضم العين: واسمه عامر بن عبد الله بن مسعود، ويقال: اسمه كنيته. الثامن: زينب بنت معاوية، ويقال: بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب الثقفية، ويقال لها: رائطة، وقد ذكرناه في: باب الزكاة على الأقارب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في خمسة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون ما خلا عمرو بن الحارث. وفيه: رواية صحابية عن صحابية وهما عمرو وزينب. وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي في الطريق الأول، وهما: الأعمش وشقيق. وفيه: أربعة من التابعين وهم:
42

الأعمش وشقيق وإبراهيم وأبو عبيدة. وفيه: أن الأعمش روى هذا الحديث عن شيخين، وهما: شقيق وإبراهيم، لأن الأعمش قال في الطريق الأول: حدثني شقيق، وقال في الطريق الثاني: فحدثني إبراهيم، ففي هذه الطريق ثلاثة من التابعين متوالية، وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: لفظ الذكر وهو قوله: قال: فذكرته لإبراهيم، القائل هو الأعمش، أي: ذكرت الحديث لإبراهيم النخعي.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الزكاة عن أحمد بن يوسف السلمي عن عمرو بن حفص بإسناده نحو إسناد البخاري. وأخرجه أيضا عن الحسن بن الربيع عن أبي الأحوط عن الأعمش عن شقيق به، ولم يذكر حديث إبراهيم. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن أبي معاوية عن الأعمش وعن محمود بن غيلان، وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن إبراهيم بن يعقوب عن عمر بن حفص وعن بشر بن خالد، وأخرجه ابن ماجة في الزكاة عن علي بن محمد والحسن بن محمد بن الصباح ببعضه.
ذكر معناه: قوله: (كنت في المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم..) إلى آخره، زيادة على ما في حديث أبي سعيد الذي مضى عن قريب. قوله: (من حليكن)، بفتح الحاء وسكون اللام مفردا، وبضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمعا. قوله: (أيجزي؟) بفتح الياء معناه: هل يكفي عني، لأن الهمزة فيه للاستفهام، وكان الظاهر يقتضي أن يقال: عنا، وكذلك يقال: ننفق، بالنون المصدرة للجماعة، ولكن لما كان المراد كل واحدة منا، ذكرت بذاك الأسلوب أو اكتفت زينب في الحكاية بحال نفسها. قوله: (فوجدت امرأة من الأنصار) وفي رواية الطيالسي: (فإذا امرأة من الأنصار يقال لها: زينب)، وكذا أخرجه النسائي من طريق أبي معاوية عن الأعمش، وزاد من وجه آخر عن علقمة: (عن عبد الله، قال: انطلقت امرأة عبد الله، يعني: ابن مسعود، وامرأة أبي مسعود يعني: عقبة بن عمرو الأنصاري). وقال بعضهم: لم يذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة أنصارية سوى: هزيلة بنت ثابت بن ثعلبة الخزرجية، فلعل لها اسمين أو وهم من سماها زينب انتقالا من اسم امرأة عبد الله إلى اسمها. قلت: عدم ذكر ابن سعد لأبي مسعود امرأة غير هزيلة المذكورة لا يستلزم أن لا يكون له امرأة أخرى. قوله: (وأيتام لي في حجري) وفي رواية الطيالسي: (هم بنو أخيها وبنو أختها)، وفي رواية النسائي من طريق علقمة: (لإحداهما فضل مال وفي حجرها بنو أخ لها إيتام، وللأخرى فضل مال وزوج خفيف اليد). وهو كناية عن الفقر. قوله: (لا تخبر بنا) خطاب لبلال أي: لا تعين إسمنا، ولا تقل إن السائلة فلانة بل قال: يسألك امرأتان مطلقا، قال الكرماني: فإن قلت: فلم خالف بلال قولهما، وهو إخلاف للوعد وإفشاء للسر؟ قلت: عارضه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جوابه واجب متحتم لا يجوز تأخيره، فإذا تعارضت المصلحتان بدىء بأهمهما فإن. قلت: كان الجواب المطابق للفظ هو أن يقال: زينب وفلانة. قلت: الأخرى محذوفة، وهي أيضا اسمها: زينب الأنصارية، وزوجها أبو مسعود الأنصاري، ووقع الاكتفاء باسم من هي أكبر وأعظم منهما. قوله: (لها أجران: أجر القرابة) أي: أجر صلة الرحم، (وأجر الصدقة) أي أجر منفعة الصدقة. قلت: في حديث أبي سعيد الذي في: باب الزكاة على الأقارب: أنها شافهته بالسؤال وشافهها لقوله فيه: (قالت: يا نبي الله). وقوله فيه: (صدقة زوجك)، وههنا لم تشافهه بالسؤال ولا شافهها بالجواب؟ قلت: يحتمل إن تكونا قضيتين، وقيل: يجمع بينهما بأن يجمل هذه المراجعة على المجاز، وإنما كانت على لسان بلال. قلت: فيه نظر لا يخفى، وبقية الأبحاث مضت في: باب الزكاة على الأقارب.
7641 حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن زينب ابنة أم سلمة قالت يا رسول الله ألي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة إنما هم بني فقال أنفقي عليهم فلك أجر ما أنفقت عليهم.
(الحديث 7641 طرفه في: 9635).
مطابقته للترجمة من حيث إنه لما علم منه أن الصدقة مجزية على أيتام هم أولاد المزكي، فبالقياس عليه تجزىء الزكاة على أيتام
43

هم لغيره، أو أن الحديث ذكر في هذا الباب لمناسبة الحديث الأول في كون الإنفاق على اليتيم فقط، والبخاري كثيرا يعمل من ذلك، هكذا ذكره الكرماني، والوجه الثاني هو الأوجه.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: عثمان بن أبي شيبة، بفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة: وهو عثمان بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم أبو الحسن العبسي أخو أبي بكر بن أبي شيبة، مات في سنة تسع وثلاثين ومائتين. الثاني: عبدة، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة: ابن سليمان الكلابي. الثالث: هشام بن عروة. الرابع: أبوه عروة بن الزبير بن العوام. الخامس: زينب بنت أم سلمة، وهي بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري. السادس: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في النفقات عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي كريب وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه كوفيان وهشام وأبوه مدنيان. وفيه: رواية تابعي عن تابعي وهما هشام وأبوه. وفيه: رواية صحابية عن صحابية وهما زينب وأمها أم سلمة. وفيه: رواية الابن عن الأب. وقد مضى فقهه في باب الزكاة على الأقارب.
قولها: (ألي أجر)، الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (على بني أبي سلمة) كانوا أبناءها من أبي سلمة الزوج الذي كان قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: عمر ومحمد وزينب ودرة. قولها: (إنما هم بني) أصله بنون، فلما أضيف إلى ياء المتكلمة سقطت نون الجمع فصار بنوى، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الواو في الياء فصار: بني، بضم النون وتشديد الياء، ثم أبدلت من ضمة النون كسرة لأجل الياء، فصار بني، والله أعلم بحقيقة الحال.
94
((باب قول الله تعالى * (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله) * (التوبة: 06))
أي: هذا باب في بيان المراد من قول الله تعالى: * (وفي الرقاب) * (التوبة: 06). وكذا من قوله: * (وفي سبيل الله) * (التوبة: 06). وهما من آية الصدقات، وهي قوله تعالى: * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين..) * (التوبة: 06). الآية، اقتطعهما منها للاحتياج إليهما في جملة مصارف الزكاة، وهي ثمانية، من جملتها: الرقاب، وهو جمع: رقبة، والمراد: المكاتبون يعانون من الزكاة في فك رقابهم، وهو قول أكثر العلماء، منهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والزهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي والليث، وهو رواية ابن القاسم وابن نافع عن الليث، وفي (المغني): وإليه ذهب أحمد، وقال ابن تيمية: إن كان معه وفاء لكتابته لم يعط لأجل فقره لأنه عبد، وإن لم يكن معه شيء أعطي الجميع، وإن كان معه بعضه تمم، سواء كان قبل حلول النجم أو بعده كيلا يحل النجم وليس معه شيء فتفسخ الكتابة، ويجوز دفعها إلى سيده. وعند الشافعية: إن لم يحل عليه نجم ففي صرفه إليه وجهان، وإن دفعه إليه فأعتقه المولى أو أبرأه من بدل الكتابة أو عجر نفسه والمال في يد المكاتب رجع فيه. قال النووي: وهو المذهب. قوله: * (في سبيل الله) * (التوبة: 06). وهو منقطع الغزاة عند أبي يوسف، ومنقطع الحاج عند محمد، وفي (المبسوط): وفي سبيل الله فقراء الغزاة عند أبي يوسف، وعند محمد: فقراء الحاج. وقال ابن المنذر: وفي (الأشراف) قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: في سبيل الله هو الغازي غير الغني، وحكى أبو ثور عن أبي حنيفة أنه الغازي دون الحاج، وذكر ابن بطال أنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، ومثله النووي في (شرح المهذب). وقال صاحب (التوضيح): وأما قول أبي حنيفة: لا يعطى الغازي من الزكاة إلا أن يكون محتاجا، فهو خلاف ظاهر للكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى: * (وفي سبيل الله) * (التوبة: 06). وأما السنة فروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو لغاز في سبيل الله، أو غني اشتراها بماله، أو فقير تصدق عليه فأهدى لغني أو غارم). وأخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ورواه أبو داود مرسلا فإن قلت: ما أحسن الأدب سيما مع الأكابر، وأبو حنيفة لم يخالف الكتاب ولا السنة، وإنما عمل بالسنة فيما ذهب إليه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل
44

الصدقة لغني)، وقال: المراد من قوله: (لغاز في سبيل الله)، هو الغازي الغني بقوة البدن، والقدرة على الكسب لا الغني بالنصاب الشرعي، بدليل حديث معاذ: وردها إلى فقرائهم.
ويذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعتق من زكاة ماله ويعطي في الحج
علق هذا عن ابن عباس ليشير أن شراء العبد وعتقه من مال الزكاة جائز، وهو مطابق للجزء الأول من الترجمة، وهذا التعليق رواه أبو بكر في (مصنفه): عن أبي جعفر عن الأعمش عن حسان عن مجاهد عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل من زكاته في الحج، وأن يعتق النسمة منها.
وفي (كتاب العلل) لعبد الله بن أحمد عن أبيه: حدثنا أبو بكر بن عياش حدثنا الأعمش عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال ابن عباس: أعتق من زكاتك، وفي رواية أبي عبيد: أعتق من زكاة مالك. وقال الميموني: قيل لأبي عبد الله: يشترى الرجل من زكاة ماله الرقاب فيعتق ويجعل في ابن السبيل؟ قال: نعم، ابن عباس يقول ذلك، ولا أعلم شيئا يدفعه، وهو ظاهر الكتاب. قال الخلال في (علله): هذا قوله الأول، والعمل على ما بينه الجماعة في ضعف الحديث. أخبرنا أحمد بن هاشم الأنطاكي، قال: قال أحمد: كنت أرى أن يعتق من الزكاة، ثم كففت عن ذلك لأني لم أر إسنادا يصح. قال حرب: فاحتج عليه بحديث ابن عباس، فقال: هو مضطرب. انتهى. وبقول ابن عباس في عتق الرقبة من الزكاة قال الحسن البصري وعبد الله بن الحسن العنبري ومالك وإسحاق وأبو ثور. وفي (الجواهر) للمالكية: يشتري بها الإمام الرقاب فيعقتها عن المسلمين والولاء لجميعهم. وقال ابن وهب: هو في فكاك المكاتبين، ووافق الجماعة، ولو اشترى بزكاته رقبة فأعتقها ليكون ولاؤها له لا يجزيه عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، ولا يجزي فك الأسير بها عند ابن القاسم خلافا لابن حبيب، ولا يدفع عند مالك والأوزاعي إلى مكاتب ولا إلى عبد موسرا كان سيده أو معسرا، ولا من الكفارات. وجه قول الجمهور ما رواه البراء بن عازب: (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال: أعتق النسمة، وفك الرقبة، قال: يا رسول الله أوليسا واحدا، قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين في ثمنها). رواه أحمد والدارقطني.
وقال الحسن إن اشترى أباه من الزكاة جاز ويعطي في المجاهدين والذي لم يحج ثم تلا إنما الصدقات للفقراء الآية في أيها أعطيت أجزأت
مطابقته في الجزء الأخير من الترجمة، والحسن هو البصري، هذا التعليق روى بعضه أبو بكر بن أبي شيبة عن حفص عن أشعث بن سوار، قال: سئل الحسن عن رجل اشترى أباه من الزكاة فأعتقه. قال: اشترى خير الرقاب. قوله: (في أيها) أي: في مصرف من المصارف الثمانية أعطيت (أجزت) كذا في الأصل بغير همز أي: قضت. قال الكرماني: أعطيت، بلفظ المعروف والمجهول، وكذلك: أجزأت، من الإجزاء، وذكر ابن التين بلفظ: أجزت، بدون الهمزة، وقال: معناه قضت عنه وقيل: جزأ وأجزأ بمعنى، أي: قضى. ومن قول الحسن يعلم أن اللام في قوله: (للفقراء) لبيان المصرف لا للتمليك. فلو صرف الزكاة في صنف واحد كفى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالدا احتبس أدراعه في سبيل الله
هذا التعليق يأتي في هذا الباب موصولا، والإدراع جمع: درع، ويروى: أدرعه.
ويذكر عن أبي لاس حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة للحج
أبو لاس، بالسين المهملة: خزاعي، وقيل: حارثي يعد في المدنيين، اختلف في اسمه فقيل: زياد، وقيل: عبد الله بن عتمة، بعين مهملة مفتوحة بعدها نون مفتوحة، وقيل: محمد بن الأسود، وله حديثان أحدهما هذا، وليس لهم أبو لاس غيره، وهو فرد. وهذا التعليق رواه الطبراني عن عبيد بن غنام: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحدثنا أبو خليفة حدثنا ابن المديني حدثنا
45

محمد بن عبيد الطنافسي، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس، قال: (حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه! فقال: ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها فاذكروا نعمة الله عليكم كما أمركم الله ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله)، وأخرجه أحمد أيضا وابن خزيمة والحاكم وغيرهم ورجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته.
8641 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل ألا أنه كان فقيرا فأغناه الله ورسوله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه وأعبده في سبيل الله وأما العباس بن عبد المطلب فعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي صدقة ومثلها معها.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأعبده في سبيل الله). ورجال هذا الإسناد قد مضوا غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن حمزة، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، وفي رواية النسائي من طريق علي بن عياش: عن شعيب مما حدثه عبد الرحمن الأعرج مما ذكر أنه سمع أبا هريرة يقول قال عمر، رضي الله تعالى عنه، فذكره، صرح بالحديث في الإسناد وزاد فيه عمر، رضي الله تعالى عنه، والمحفوظ أنه من مسند أبي هريرة، وإنما جرى لعمر فيه ذكر فقط.
ذكر معناه: قوله: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة) أي: بالصدقة الواجبة، يعني: الزكاة لأنها المعهودة بانصراف الألف واللام إليها. وقال القرطبي: الجمهور صاروا إلى أن الصدقة هي الواجبة، لكن يلزم على هذا استبعاد هؤلاء المذكورين لها، ولذلك قال بعض العلماء: كانت صدقة التطوع، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث. وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة...) الحديث، وقال ابن القصار: وهذا أليق بالقصة لأنا لا نظن بأحدهم منع الواجب. قوله: (فقيل: منع ابن جميل) القائل هو عمر، رضي الله تعالى عنه، ووقع في رواية ابن أبي الزناد عند أبي عبيد، فقال بعض من يلمز أي: يعيب وابن جميل بفتح الجيم، ذكره الذهبي فيمن عرف بابنه ولم يسم، قيل: وقع في تعليق القاضي حسين المروزي الشافعي وتبعه الروياني أن اسمه: عبد الله، ووقع في (التوضيح) أن ابن بزيزة سماه حميدا، وليس بمذكور في كتابه، وقيل: وقع في رواية ابن جريج: أبو جهم ابن حذيفة، بدل ابن جميل وهو خطأ لإطباق الجميع على ابن جميل لأنه
أنصاري، وأبو جهم قرشي. قوله: (وخالد بن الوليد) بالرفع عطف على: منع ابن جميل، (وعباس بن عبد المطلب) عطف عليه، ووقع في رواية أبي عبيد: (منع ابن جميل وخالد وعباس أن يعطوا)، وهو مقدر ههنا، لأن: منع، يستدعي مفعولا. وقوله: (أن يعطوا) في محل النصب على المفعولية، وكلمة: أن، مصدرية والتقدير: منع هؤلاء الإعطاء. قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) بيان لوجه امتناع هؤلاء عن الإعطاء فلذلك ذكره بالفاء. قوله: (ما ينقم)، بكسر القاف وفتحها، أي: ما ينكر أي: لا ينبغي أن يمنع الزكاة، وقد كان فقيرا فأغناه الله إذ ليس هذا جزاء النعمة قال ابن المهلب: كان ابن جميل منافقا فمنع الزكاة فاستتابه الله تعالى بقوله: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم) * (التوبة: 47). فقال: استتابني ربي، فتاب وصلحت حاله، انتهى. وفيه تأكيد المدح بما يشبه الذم لأنه إذا لم يكن له عذر إلا ما ذكر من أن الله أغناه فلا عذر له. قوله: (وأما خالد...) إلى آخره، قال الخطابي: قصة خالد تؤول على وجوه: أحدها: أنه قد اعتذر لخالد ودافع عنه بأنه احتبس في سبيل الله تقربا إليه، وذلك غير واجب عليه، فكيف يجوز عليه منع الواجب؟ وثانيها: أن خالدا طولب بالزكاة عن أثمان الأدرع، على معنى أنها كانت عنده للتجارة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا زكاة عليه فيها إذ جعلها حبسا في سبيل الله. وثالثها: أنه قد أجاز له أن يحتسب بما حبسه في سبيل الله من
46

الصدقة التي أمر بقبضها منه، وذلك لأن أحد الأصناف: سبيل الله، وهم المجاهدون، فصرفها في الحال كصرفها في المآل. قوله: (قد احتبس) أي: حبس (أدراعه)، جمع: درع. قوله: (وأعبده)، بضم الباء الموحدة: جمع عبد، حكاه عياض، والمشهور: أعتده، بضم التاء المثناء من فوق، جمع: عتد، بفتحتين. ووقع في رواية مسلم: أعتاده، وهو أيضا جمع: عتد. قيل: هو ما يعده الرجل من الدواب والسلاح، وقيل: الخيل خاصة، يقال: فرس عتيد، أي: صلب أو معد للركوب أو سريع الوثوب. قوله: (وأما العباس بن عبد المطلب) فأخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه عمه، وعم الرجل صنو أبيه، وعن الحكم بن عتيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، مصدقا، فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن الخطاب! أما علمت أن عم الرجل صنو الأب؟ وأنا استسلفنا زكاته عام الأول؟ ومعنى: صنو أبيه: أصله وأصل أبيه واحد، وأصل ذلك أن طلع النخلات من عرق واحد. قوله: (فهي عليه صدقة)، معناه: هي صدقة ثابتة عليه سيتصدق بها ومثلها معها، أي: ويتصدق مثل هذه الصدقة معها كرما منه، إ لا امتناع منه ولا بخل فيه، وقيل: معناه فأمواله هي كالصدقة عليه لأنه استدان في مفاداة نفسه، وعقيل، فصار من الغارمين الذين لا تلزمهم الزكاة، وقيل: إن القصة جرت في صدقة التطوع فلا إشكال عليه، لكنه خلاف المشهور وما عليه الروايات.
ثم إعلم أن لفظة الصدقة إنما وقعت في رواية شعيب عن أبي الزناد كما مرت. وقال البيهقي، في رواية شعيب هذه: يبعد أن تكون محفوظة لأن العباس كان من صلبية بني هاشم ممن تحرم عليه الصدقة، فكيف يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه من صدقة عامين صدقة عليه؟ وقال المنذري: لعل ذلك قبل تحريم الصدقة على آل النبي، صلى الله عليه وسلم، فرأى إسقاط الزكاة عنه عامين لوجه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الخطابي: هذه لفظة لم يتابع عليها شعيب بن أبي حمزة، ورد عليه بأن اثنين تابعا شعيبا: أحدهما: عبد الرحمن بن أبي الزناد، كما سيأتي عن قريب، والآخر: موسى بن عقبة، فيما رواه النسائي عن عمران: حدثنا علي ابن عياش عن شعيب.. وساقه بلفظ البخاري، قال: وأخبرني أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني إبراهيم عن موسى أخبرني أبو الزناد عن الأعرج (عن أبي هريرة، قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بصدقة...) الحديث، وفي آخره: (فهي عليه صدقة ومثلها معها).
واعلم أيضا أنه وقع اختلاف في هذا اللفظ، ففي لفظ وقع: مثلها، في متن حديث الباب، وفي لفظ: (فهي له ومثلها معها)، وفي لفظ: (فهي علي ومثلها معها)، وفي لفظ: (فهي عليه ومثلها معها). أما معنى الذي في متن حديث الباب أي: (فهي عليه صدقة) واجبة فأداها قبلمحلها (ومثلها معها): أي: قد أداها لعام آخر، كما ذكرناه عن الحكم آنفا. وأما معنى: (فهي له ومثلها معها)، وهي رواية موسى بن عقبة، أي: فهي عليه، قيل: عليه وله بمعنى واحد، كما في قوله تعالى: * (ولهم اللعنة) * (غافر: 25). وفي قوله: * (وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7). ويحتمل أن يكون: فهي له، أي فهي له علي، ويحتمل أنها كانت له عليه إذا كان قدمها. وأما معنى قوله: (فهي علي ومثلها معها)، أي: فهذه الصدقة علي بمعنى: أؤديها عنه لما له علي من الحق، خصوصا له، ولهذا قال: عم الرجل صنو أبيه، وأما معنى: (فهي عليه ومثلها معها)، وهي رواية ابن إسحاق، قال أبو عبيد: نراه، والله أعلم، أنه كان أخر الصدقة عنه عامين من أجل حاجة العباس فإنه يجوز للإمام أن يؤخرها على وجه النظرة ثم يأخذها منه بعد، كما فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، بصدقة عام الرمادة، فلما أجبى الناس في العام المقبل أخذ منهم صدقة عامين. وقيل: إنما تعجل منه لأنه أوجبها عليه وضمنها إياه ولم يقبضها منه، فكانت دينا على العباس. ألا ترى قوله: (فإنها عليه ومثلها معه؟) قال ابن الجوزي: قال لنا ابن ناصر: يجوز أن يكون قد قال: هو عليه، بتشديد الياء، وزاد فيها هاء السكت.
ذكر ما يستفاد منه فيه: إثبات الزكاة في أموال التجارة. وفيه: دليل على جواز أخذ القيمة عن أعيان الأموال. وفيه: جواز وضع الصدقة في صنف واحد. وفيه: جواز تأخير الزكاة إذا رأى الإمام فيه نظرة. وفيه: جواز تعجيل الزكاة. وقال أبو علي الطوسي: اختلف أهل العلم في تعجيل الزكاة قبل محلها، فرأى طائفة من أهل العلم أن لا يعجلها، وبه يقول سفيان، وقال أكثر أهل العلم: إن عجلها قبل محلها أجزأت عنه، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو مذهب أبي حنيفة وقال ابن المنذر: وكره مالك والليث بن سعد تعجيلها قبل وقتها، وقال الحسن: من زكى قبل الوقت أعاد، كالصلاة. وفي (التوضيح): وعند مالك في إخراجها قبل الحول بيسير قولان، وحد القليل بشهر ونصف شهر وخمسة أيام وثلاثة. وفيه: تحبيس آلات الحرب والثياب وكل ما ينتفع به مع بقاء عينه والخيل والإبل كالأعبد، وفي تحبيس غير العقار
47

ثلاثة أقوال للمالكية: المنع المطلق في مقابلة الخيل فقط. وقيل: يكره في الرقيق خاصة، وروي أن أبا معقل وقف بعيرا له فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الوقف في شيء إلا أن يحكم به حاكم، أو يكون الوقف مسجدا أو سقاية أو وصية من الثلث. قلت: التحقيق فيه أن أصل الخلاف أن الوقف لا يجوز عند أبي حنيفة أصلا، وهو المذكور في الأصل، وقيل: يجوز عنده إلا أنه لا يلزم بمنزلة العارية حتى يرجع فيه أي وقت شاء، ويورث عنه إذا مات وهو الأصح، وعند أبي يوسف ومحمد: يجوز ويزول ملك الواقف عنه، غير أنه عند أبي يوسف يزول بمجرد القول، وعند محمد حتى يجعل للوقف وليا ويسلمه إليه. وأما وقف المنقول فإما أن يكون فيه تعامل بوقفه أو لا يكون، فالأول: يجوز وقفه كالكراع والسلاح والفأس والقدر والقدوم والمنشار والجنازة وثيابها والمصاحف وكتب الفقه والحديث والأدبية ونحوها. والثاني: لا يجوز وقفه كالزرع والثمر ونحوهما، وعند أبي يوسف: لا يجوز إلا في الكراع والسلاح والكراع الخيل. وفيه: بعث الإمام العمال لجباية الزكوات بشرط أن يكونوا أمناء فقهاء عارفين بأمور الجباية. وفيه: تنبيه الغافل على ما أنعم الله به من نعمة الغنى بعد الفقر ليقوم بحق الله عليه. وفيه: العيب على من منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك. وفيه: تحمل الإمام عن بعض رعيته ما يجب عليه. وفيه: الاعتذار بما يسوغ الاعتذار به. وفيه: إسقاط الزكاة عن الأموال المحبسة. وفيه: التعريض بكفران النعمة والتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.
تابعه ابن أبي الزناد عن أبيه
أي: تابع الأعرج عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان بوجود لفظ الصدقة، وروى هذه المتابعة الدارقطني عن المحاملي: حدثنا علي بن شعيب حدثنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي الزناد عن أبيه أبي الزناد عن الأعرج به، كذا هو في نسخة، وفي أخرى بسقوط: ابن، وهي رواية مسلم، وهي الصحيحة.
وقال ابن إسحاق عن أبي الزناد هي عليه ومثلها معها
قال الكرماني: الظاهر أن ابن إسحاق هو محمد بن إسحاق بن يسار ضد اليمين المدني الإمام صاحب المغازي، مات سنة خمسين ومائة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد، فإنه رواه عن أبي الزناد بحذف لفظ: الصدقة، وروى الدارقطني أيضا هذه المتابعة عن أحمد بن محمد بن زياد: حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا ابن يعيش حدثني يونس بن بكير حدثنا ابن أبي إسحاق عن أبي الزناد، فذكره.
وقال ابن جريج حدثت عن الأعرج بمثله
ابن جريج، هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، بضم الجيم. قوله: (حدثت) بصيغة المجهول. قوله: (بمثله)، أي: بمثل ما روى ابن إسحاق، بدون لفظ: الصدقة.
05
((باب الاستعفاف عن المسألة))
أي: هذا باب في بيان الاستعفاف: هو طلب العفاف، وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، وقيل: التنزه عن السؤال، وفي بعض النسخ عن المسألة.
9641 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطتاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفذ ما عنده فقال ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم
48

ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر.
(الحديث 9641 طرفه في: 0746).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو: محمد بن مسلم الزهري..
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الرقاق عن أبي اليمان عن شعيب. وأخرجه مسلم في الزكاة عن قتيبة عن مالك وعن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر، ثلاثتهم عن الزهري عنه به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك به. وأخرجه النسائي في الزكاة عن قتيبة وفي الرقاق عن قتيبة به وعن الحارث بن مسكين.
ذكر معناه: قوله: (إن ناسا من الأنصار) لم يعرف أسماؤهم، ولكن قال بعضهم: في رواية النسائي ما يدل على أن أبا سعيد منهم، ففي حديثه: (سرحتني أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت فاستقبلني فقال: من استغنى أغناه الله...) الحديث، وزاد فيه: (ومن سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله). قلت: ليت شعري أي: دلالة هذه من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قوله: (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم)، أي: شيئا. وهذه اللفظة في بعض النسخ ثلاث مرات. قوله: (حتى نفد)، بكسر الفاء وبالدال المهملة، أي: فرغ وفني، وقال ابن سيده: وأنفده هو واستنفده. قوله: (ما يكون)، كلمة: ما، فيه موصولة متضمنة لمعنى الشرط. وقوله: (فلم أدخره) جواب الشرط، ومعناه لن أجعله ذخيرة لغيركم معرضا عنكم، والفصيح فيه إهمال الدال وجاء بإعجامها مدغما وغير مدغم، لكن تقلب التاء دالا مهملة ففيه ثلاث لغات. ويقال: معناه لن أحبسه عنكم، ويروى عن مالك: (فلن أدخره). قوله: (ومن يستعف) أي: من طلب العفة عن السؤال ولم يظهر الاستغناء عن الخلق ولم يقبل أن أعطى فهو هو إذ الصبر جامع لمكارم الإخلاق صلى الله عليه وسلم (ومن يستغن) أي ومن يظهر الاستغناء (يغنه الله) (يعفه الله)، أي: يرزقه الله العفة، أي: الكف عن الحرام، يقال: عف يعف عفة فهو عفيف. قال الطيبي: معناه من طلب العفة عن السؤال ولم يظهر الاستغناء (يغنه الله) أي:
يرزقه الغنى عن الناس، فلا يحتاج إلى أحد. قوله: (ومن يتصبر)، أي: من يعالج الصبر، وهو ما باب: التفعل، فيه معنى التكلف (يصبره الله) أي: يرزقه الله صبرا وهو من باب: التفعيل. قوله: (عطاء) أي: شيئا من العطاء. قوله: (خيرا)، بالنصب صفته، ويروى: خير، بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو خير.
ويستفاد منه: إعطاء السائل مرتين والاعتذار إلى السائل والحض على التعفف.
وفيه: الحث على الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا. وفيه: أن الاستغناء والعفة والصبر بفعل الله تعالى. وفيه: جواز السؤال للحاجة وإن كان الأولى تركه والصبر حتى يأتيه رزقه بغير مسألة. وفيه: ما كان عليه، صلى الله عليه وسلم، من الكرم والسخاء والسماحة والإيثار على نفسه.
0741 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن من عمل بهذا الحديث يحصل له الاستعفاف عن المسألة. ورجاله قد تكرروا، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الزكاة عن علي بن شعيب عن معن ابن عيسى عن مالك به.
ذكر معناه: قوله: (لأن يأخذ) اللام فيه للتأكيد، وفي الموطأ: (ليأخذ أحدكم). قوله: (حبله) أي: رسنه. قوله: (فيحتطب) أي: فإن يحتطب أي: يجمع الحطب. قوله: (خير)، مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو خير له. قوله: (فيسأله) أي: فإن يسأله، وفي رواية الدارقطني في رواية ابن وهب: (خير له من أن يأتي رجلا قد أعطاه الله من فضله فيسأله). قوله: (أعطاه أو منعه) لأن حال المسؤول منه إما العطاء ففيه المنة وذل السؤال، وإما المنع ففيه الذل والخيبة
49

والحرمان، وكان السلف إذا سقط من أحدهم سوطه. لا يسأل من يناوله إياه.
وفيه: التحريض على الأكل من عمل يده والاكتساب من المباحات.
واعلم أن مدار الأحاديث في هذا الباب على كراهية المسألة، وهي على ثلاثة أوجه: حرام ومكروه ومباح. فالحرام لمن سأل وهو غني من زكاة أو أظهر من الفقر فوق ما هو به. والمكروه لمن سأل وعنده ما يمنعه عن ذلك ولم يظهر من الفقر ما هو به، والمباح لمن سأل بالمعروف قريبا أو صديقا. وأما السؤال عند الضرورة فواجب لإحياء النفس. وأدخله الداودي في المباح. وأما الأخذ من غير مسألة ولا إشراف نفس فلا بأس به.
وفي هذا الباب أحاديث: عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أغناك الله فلا تسأل الناس شيئا فإن اليد العليا المعطية وإن اليد السفلى هي المعطاء)، رواه ابن عبد البر. وعن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح، قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب). رواه الترمذي، قال: حديث حسن، ورواه بقية الأربعة والحاكم، ورواه ابن أبي الدنيا في (كتاب القناعة) ولفظه: (من سأل الناس عن ظهر غنى جاء يوم القيامة وفي وجهه كدوح أو خموش، قيل: يا رسول الله ما الغنى؟ قال: خمسون درهما أو قيمته من الذهب). وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن. وعن حبيش بن جنادة السلولي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو واقف بعرفة...) الحديث، وفيه: (ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، ورضفا يأكله من جهنم، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر). رواه الترمذي وانفرد به. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أخرجه النسائي وابن ماجة مثل حديث عبد الله بن عمرو. وعن قبيصة بن المخارق الهلالي، قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم...) الحديث، وفيه: (يا قبيصة: إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش. أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصاب فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا). رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وعن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أن رجلا من الأنصار...) الحديث، وفيه: (أن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مقطع، أو لذي دم موجع). رواه أبو داود وابن ماجة. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، رواه البزار والطبراني في (الكبير). وعن عمران ابن حصين، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مسألة الغني شين في وجهه يوم القيامة)، رواه أحمد والبزار. وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شيئا في وجهه يوم القيامة)، رواه أحمد والبزار والطبراني، وإسناده صحيح. وعن مسعود بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فلا يكون له عند الله وجه)، رواه البزار والطبراني في الكبير. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل وهو غني عن المسألة يحشر يوم القيامة وهي خموش في وجهه)، رواه الطبراني في (الأوسط) وعن رجلين غير مسميين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألا منها، فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين، فقال: (إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)، ورجاله في
الصحيحين. وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف، فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية). وفي رواية: (خير من أربعين درهما، فرجعت فلم أسأله). وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما، أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه. وعن سهيل بن الحنظلية قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصين والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه..) الحديث، وفيه: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار، فقالوا: يا رسول الله! وما يغنيه؟ وقال النفيلي: وما الغنى الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يغديه ويعشيه). وقال النفيلي، في موضع آخر: (أن يكون له شبع يوم
50

وليلة أو ليلة ويوم)، رواه أبو داود وابن حبان في (صحيحه) ولفظه: (قالوا: وما يغنيه؟ قال: ما يغديه أو يعشيه). (وعن رجل من بني أسد قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد...) الحديث، وفيه: (من سأل منكم وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا، فقال الأسدي: فقلت: للقحة لنا خير من أوقية)، رواه أبو داود. (وعن الرجل الذي من مزينة، قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسأله الناس، فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب، وهو يقول: من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل إلحافا، فقلت بيني وبين نفسي: لناقة لنا خير من خمسة أواق، ولغلامه ناقة أخرى خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأله)، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وعن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سأل مسألة عن ظهر غنى أستكثر بها من رضف جهنم، قالوا: وما ظهر غنى؟ قال: عشاء ليلة). رواه عبد الله بن أحمد في زياداته على (المسند) ورواه الطبراني في (الأوسط) وابن عدي في (الكامل) وعن زياد بن الحارث الصدائي قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن)، رواه الطبراني، وبعضه عند أبي داود. وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم صاحب المسألة ما له فيها لم يسأل)، رواه الطبراني من رواية قابوس، قال أبو حاتم: لا أحتج به، وقال ابن حبان: رديء الحفظ. ولابن عباس حديث آخر رواه الطبراني والبزار بلفظ: (استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك)، ورجال إسناده ثقات، وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا كاره فيبارك له فيما أعطيته)، رواه مسلم.. وعن سمرة ابن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه)، رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي ذر، قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشترط على أن لا أسأل الناس شيئا، قلت: نعم. قال: ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل فتأخذه)، رواه أحمد ورجاله ثقات، وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يبايع؟ فقال ثوبان: بايعنا رسول الله. قال: على أن لا تسألوا شيئا؟ قال ثوبان: فما له يا رسول الله؟ قال: الجنة. فبايعه ثوبان) رواه الطبراني. وعن عدي الجذامي في أثناء حديث فيه: (فتعففوا ولو بحزم الحطب، ألا هل بلغت؟) ورواه الطبراني، (وعن الفراسي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وإن كنت لا بد سائلا فسل الصالحين)، رواه أبو داود والنسائي، والفراسي، بكسر الفاء وفتح الراء وكسر السين المهملة. قال في (الكمال): روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، وقال المنذري: وله حديث آخر في البحر: (هو الطهور ماؤه والحل ميتته)، كلاهما يرويه الليث بن سعد، (وعن عائذ بن عمرو أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه، فلما وضع رجله على أسكفة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا).
1741 حدثنا موسى ا قال حدثنا وهيب قال حدثنا هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا، وموسى هو ابن إسماعيل التبوذكي، ووهيب هو ابن خالد. وأخرجه البخاري أيضا في الشرب عن معلى بن أسد عن وهيب، وفي البيوع عن يحيى بن موسى عن وكيع. وأخرجه ابن ماجة في الزكاة عن علي ابن محمد وعمرو بن عبد الله الأودي، كلاهما عن وكيع به. قوله: (لأن يأخذ)، اللام فيه إما ابتدائية أو جواب قسم محذوف، والحزمة، بضم الحاء المهملة وسكون الزاي: ما سمي بالفارسية: دستة. قوله: (فيكف الله) أي: فيمنع الله به وجهه من أن يريق ماءه بالسؤال من الناس. قوله: (خير)، مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير له من أن يسأل أي: من سؤال الناس، والمعنى: إن لم يجد إلا الاحتطاب من الحرف، فهو مع ما فيه من امتهان المرء نفسه، ومن المشقة خير له من المسألة.
2741 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة
51

بن الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه. قال سلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم إن هاذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع اليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا فقال عمر إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم إني أعرض عليه حقه من هاذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) لأن المراد من اليد العليا على قول: هي المتعففة وإن كان المشهور هي المنفقة، وقد تقدم الكلام فيه في:
باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى.
ذكر رجاله: وهم: سبعة: الأول: عبدان، هو عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، وعبدان لقبه. الثاني: عبد الله بن المبارك المروزي. الثالث: يونس بن يزيد الأيلي. الرابع: محمد ابن مسلم الزهري المدني. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام المدني. السادس: سعيد بن المسيب المدني. السابع: حكيم، بفتح الحاء: ابن حزام، بكسر الحاء وبالزاي المخففة، وقد مر عن قريب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه مذكور بلقبه. وفيه: اثنان مذكوران مجردين. وفيه: أحدهم مذكور بنسبته إلى قبيلته ويروى عن اثنين. وفيه: ثلاثة من التابعين وهم: الزهري وعروة وسعيد بن المسيب.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الوصايا وفي الخمس عن محمد بن يوسف عن الأوزاعي وفي الرقاق عن علي بن عبد الله عن سفيان كلاهما عن الزهري. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن محمد الناقد، كلاهما عن سفيان به. وأخرجه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك، وأخرجه النسائي في الزكاة عن قتيبة عن سفيان به وعن الربيع بن سليمان وعن أحمد بن سليمان وأعاده في الرقاق عن الربيع بن سليمان.
ذكر معناه: قوله: (خضرة)، التأنيث إما باعتبار الأنواع أو الصورة أو تقديره، كالفاكهة الخضرة الحلوة، شبه المال في الرغبة فيه بها فإن الأخضر مرغوب من حيث النظر، والحلو من حيث الذوق، فإذا اجتمعا زادا في الرغبة، حاصله أن التشبيه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده، فاجتماعهما أشد، وفيه أيضا إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضراوات لا تبقى ولا تراد للبقاء. قوله: (فمن أخذه بسخاوة)، نفس أي: بغير شره ولا إلحاح، وفي رواية: (بطيب نفس). فإن قلت: السخاوة ءنما هي في الإعطاء لا في الأخذ. قلت: السخاوة في الأصل السهولة، والسعة. قال القاضي: فيه احتمالان: أظهرهما أنه عائد إلى الآخذ، أي من أخذه بغير حرص وطمع وإشراف عليه، والثاني: إلى الدافع، أي: من أخذه ممن يدفعه منشرحا بدفعه طيب النفس له. قوله: (بإشراف نفس) الإشراف على الشيء: الاطلاع عليه والتعرض له، وقيل: معنى إشراف نفس أن المسؤول يعطيه عن تكره. وقيل: يريد به شدة حرص السائل وإشرافه على المسألة. قوله: (لم يبارك له فيه) الضمير في: له، يرجع إلى الآخذ، وفي: فيه، إلى المعطى بفتح الطاء، ومعناه: إذ لم يمنع نفسه المسألة ولم يصن ماء وجهه لم يبارك له فيما أخذ وأنفق. قوله: (كالذي يأكل ولا يشبع) أي: كمن به الجوع الكاذب، وقد يسمى بجوع الكلب كلما ازداد أكلا ازداد جوعا لأنه يأكل من سقم كلما أكل ازداد سقما ولا يجد شبعا ويزعم أهل الطب أن ذلك من غلبة السوداء، ويسمونها: الشهوة الكلبية، وهي صفة لمن يأكل ولا يشبع. قلت:
52

الظاهر أنه من غلبة السوداء وشدتها كلما ينزل الطعام في معدته يحترق وإلا فلا يتصور أن يسع في المعدة أكثر ما يسع فيه، وقد ذكر أهل الأخبار أن رجلا من أهل البادية أكل جملا وامرأته أكلت فصيلا ثم أراد أن يجامعها فقالت: بيني وبينك جمل وفصيل كيف يكون ذاك؟ قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، قد مر الكلام فيه مستقصى في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى. قوله: (لا أرزأ)، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الزاي وبالهمزة: معناه لا أنقص ماله بالطلب، وفي (النهاية): ما رزأته أي: ما نقصته، وفي رواية لإسحاق: (قلت: فوالله لا تكون يدي بعدك تحت يد من أيدي العرب. قلت: هذا معنى قوله: (بعدك)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: غيرك، قال الكرماني: فإن قلت: لم امتنع من الأخذ مطلقا وهو مبارك إذا كان بسعة الصدر مع عدم الإشراف؟ قلت: مبالغة في الاحتراز إذ مقتضى الجبلة الإشراف والحرص والنفس سراقة والعرق دساس، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. قوله: (فأبى أن يقبل منه)، أي: فامتنع حكيم أن يقبل عطاء من أبي بكر في الأول، ومن عمر في الثاني، وجه امتناعه من أخذ العطاء مع أنه حقه لأنه خشي أن يقبل من أحد شيئا فيعتاد الأخذ فتتجاوز به نفسه إلى ما لا يريده، ففطمها عن ذلك وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولأنه خاف أن يفعل خلاف ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأنه قال: لا أرزأ أحدا بعدك). حتى روى في رواية: (ولا منك يا رسول الله؟ قال: ولا مني). قوله: (فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: إني أشهدكم) إنما أشهد عمر، رضي الله تعالى عنه، على حكيم لأنه خشي سوء التأويل، فأراد تبرئة ساحته بالإشهاد عليه، وأن أحدا لا يستحق شيئا من بيت المال بعد أن يعطيه الإمام إياه. وفي (التوضيح): وأما قبل ذلك فليس بمستحق له، ولو كان مستحقا له لقضى عمر على حكيم بأخذه، ذلك يدل عليه قول الله تعالى، حين ذكر قسم الصدقات، وفي أي الأقسام يقسم أيضا: * (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7). الآية. فإنما هو لمن أوتيه لا لغيره. وإنما قال العلماء في إثبات الحقوق في بيت المال مشددا على غير المرضى من السلاطين ليغلقوا باب الامتداد إلى أموال المسلمين، والسبب إليها بالباطل، ويدل على ذلك أن من سرق بيت المال أنه يقطع، وزنى بجارية من الفىء أنه يحد، ولو استحق في بيت المال أو في الفيء شيئا على الحقيقة قبل إعطاء السلطان له لكانت شبهة تدرأ الحد عنه. قلت: جمهور الأمة على أن للمسلمين حقا في بيت المال والفيء، ولكن الإمام بقسمه على اجتهاده، فعلى هذا لا يجب القطع ولا الحد للشبهة وسيجئ تحقيقه في: باب الاجتهاد، إن شاء الله تعالى. قوله: (حتى توفي)، زاد إسحاق بن راهويه في (مسنده) من طريق معمر بن عبد الله بن عروة مرسلا: أنه ما أخذ من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا معاوية ديوانا ولا غيره حتى مات لعشر سنين من إمارة معاوية، وزاد ابن إسحاق أيضا في (مسنده) من طريق معمر عن الزهري: فمات حيت مات وأنه لمن أكثر قريش مالا.
ذكر ما يستفاد منه فيه: ما قال المهلب: إن سؤال السلطان الأكبر ليس بعار. وفيه: أن السائل إذا ألحف لا بأس برده وموعظته وأمره بالتعفف وترك الحرص. وفيه: أن الإنسان لا يسأل إلا عند الحاجة والضرورة لأنه إذا كانت يده السفلى مع إباحة المسألة فهو أحرى أن يمتنع من ذلك عند غير الحاجة. وفيه: أن من كان له حق عند
أحد فإنه يجب عليه أخذه إذا أتى، فإن كان مما لا يستحقه إلا ببسط اليد فلا يجبر على أخذه، وفيه: ما قال ابن أبي جمرة: قد يقع الزهد مع الأخذ، فإن سخاوة النفس هو زهدها. تقول: سخت بكذا أي: جادت، وسخت عن كذا أي: لم تلتفت إليه. وفيه: أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق، فظهر أن الزهد يحصل خيري الدنيا والآخرة. وفيه: ضرب المثل بما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير، فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون بالأكل إنما يؤكل ليشبع فإذا أكل ولم يشبع كان عناء في حقه بغير فائدة، وكذلك المال ليست الفائدة في عينه وإنما هي لما يتحصل به من المنافع، فإذا كثر المال عند المرء بغير تحصيل منفعة كان وجوده كالعدم. وفيه: أنه ينبغي للإمام أن لا يبين للطالب ما في مسألته من المفسدة إلا بعد قضاء حاجته لتقع موعظته له الموقع لئلا يتخيل أن ذلك سبب لمنعه حاجته. وفيه: جواز تكرر السؤال ثلاثا. وجواز المنع في الرابعة. وفيه: أن رد السائل بعد ثلاث ليس بمكروه. وأن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.
53

15
((باب من أعطاه الله شيئا من غير مسئلة ولا إشراف نفس))
أي: هذا باب في بيان حكم من أعطاه الله.. إلى آخره، وجواب الشرط محذوف تقديره: فليقبل، وهذا هو الحكم، وإنما حذفه اكتفاء بما دل عليه في حديث الباب، وقال بعضهم: وإنما حذفه للعلم به وفيه نظر، لأن مراده إن كان علمه من الخارج فلا نسلم أنه يعلمه منه، وإن كان من الحديث فلا يقال إلا بما قلنا لأنه الأوجه والأسد. قوله: (من غير مسألة) أي: من غير سؤال، والمسألة مصدر ميمي من سأل. قوله: (ولا إشراف)، بكسر الهمزة وسكون الشين المعجمة، وهو التعرض للشيء والحرص عليه من قولهم: أشرف على كذا إذا تطاول له، ومنه قيل للمكان المتطاول: شرف.
* (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) * (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52).
ليس هذا بموجود عند أكثر الرواة، وفي رواية المستملي الآية مقدمة على قوله: من أعطاه الله شيئا. وقال صاحب (التلويح): باب في قوله تعالى: * (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) * (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52). وكذا في نسخة، وفي أخرى: باب من أعطاه الله... إلى آخره، وكأنه أليق بالحديث. قوله: * (وفي أموالهم) * (الذاريات: 91، المعارج: 42 و 52). أي: وفي أموال المتقين المذكورين قبل هذه الآية وهي قوله: * (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) * (الذاريات: 51 91). والسائل هو الذي يسأل الناس ويستجدي، والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وقيل: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم، وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب، وعن عكرمة: المحروم الذي لا ينمى له مال، وعن زيد بن أسلم: هو المصاب بثمره وزرعه أو ماشيته. وقال محمد بن كعب القرظي: هو صاحب الحاجة، والمحارف، بفتح الراء: المنقوص الحظ الذي لا يثمر له مال، وهو خلاف المبارك، والعوام بكسر الراء، واستدل بهذه الآية الكريمة جماعة من التابعين، ومن الصحابة أبو ذر على أن في المال حقا غير الزكاة. وقال الجمهور: المراد من الحق هو الزكاة، واحتجوا على ذلك بأحاديث: منها: حديث الأعرابي في (الصحيح) (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا إن تطوع) فإن قلت: روى مسلم من حديث أبي سعيد، قال: (بينا نحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سفر إذ جاء رجل على راحلته، فجعل يصرفها يمينا وشمالا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، حتى ظننا أنه لا حق لأحد منا في الفضل). ففيه: إيجاب إنفاق الفضل من الأموال. قلت: الأمر بإنفاق الفضل أمر إرشاد وندب إلى الفضل، وقيل: كان ذلك قبل نزول فرض الزكاة، ونسخ بها كما نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وعاد ذلك فضلا وفضيلة بعدما كان فريضة.
3741 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت عمر يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني فقال خذه إذا جاءك من هاذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك.
مطابقته للترجمة في قوله: (خذه إذا جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل)، ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويونس والزهري قد ذكرا في سند حديث الباب السابق، وأخرجه البخاري أيضا في الأحكام عن أبي اليمان الحكم ابن نافع عن شعيب. وأخرجه مسلم في الزكاة عن هارون بن معروف وحرملة بن يحيى، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن منصور.
ذكر معناه: قوله: (فأقول: أعطه من هو أفقر مني)، زاد في رواية شعيب عن الزهري الآتية في الأحكام: (حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال: خذه فتموله وتصدق به). وذكر شعيب فيه عن الزهري إسنادا آخر، قال: أخبرني السائب
54

بن يزيد أن حويطب بن عبد العزى أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أنه قدم على عمر، رضي الله تعالى عنه، في خلافته، فذكر قصة فيها هذا الحديث، والسائب ومن فوقه صحابة ففيه أربعة من الصحابة في نسق. قوله: (إذا جاءك) شرط وجزاؤه قوله: (فخذه)، وأطلق الأخذ أولا بالأمر، وعلق ثانيا بالشرط، فحمل المطلق على المقيد. قوله: (وأنت غير مشرف)، جملة اسمية وقعت حالا، وقد مضى تفسير الإشراف. قوله: (وما لا) أي: وما لا يكون كذلك بأن لا يجيء إليك وتميل نفسك إليه (فلا تتبعه نفسك) في الطلب واتركه.
ذكر ما يستفاد منه: قال الطبري: اختلف العلماء في قوله: (فخذه) بعد إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد. فقال بعضهم: هو ندب لكل من أعطي عطية أن يقبلها سواء كان المعطي سلطانا أو غيره، صالحا كان أو فاسقا، بعد أن كان ممن تجوز عطيته. روي (عن أبي هريرة أنه قال: ما أحد يهدي إلي هدية إلا قبلتها، فأما أن
أسأل، فلا) وعن أبي الدرداء مثله، وقبلت عائشة، رضي الله تعالى عنها، من معاوية. وقال حبيب بن أبي ثابت: رأيت هدايا المختار تأتي ابن عمر وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، فيقبلانها، وقال عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، جوائز السلطان لحم ظبي زكي، وبعث سعيد بن العاص إلى علي، رضي الله تعالى عنه، بهدايا فقبلها، وقال: خذ ما أعطوك. وأجاز معاوية الحسين بأربعمائة ألف، وسئل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عن هدايا السلطان، فقال: إن علمت أنه من غصب وسحت فلا تقبله، وإن لم تعرف ذلك فاقبله، ثم ذكر قصة بريرة، وقال الشارع: هو لنا هدية، وقال: ما كان من مأثم فهو عليهم، وما كان من مهنأ فهو لك، وقبلها علقمة والأسود والنخعي والحسن والشعبي. وقال آخرون: بل ذلك ندب منه أمته إلى قبول عطية غير ذي سلطان، فأما السلطان فإن بعضهم كان يقول: حرام قبول عطيته، وبعضهم كرهها، وروي أن خالد بن أسيد أعطى مسروقا ثلاثين ألفا فأبى أن يقبلها. فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك؟ فقال: أرأيت لو أن لصا نقب بيتا ما أبالي أخذتها أو أخذت ذلك، ولم يقبل ابن سيرين ولا ابن محيريز من السلطان، وقال هشام بن عروة: بعث إلي عبد الله ابن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، وإلى أخي بخمسمائة دينار، فقال أخي: درها فما أكلها أحد وهو غني عنها إلا أحوجه الله إليها. وقال ابن المنذر: كره جوائز السلطان محمد بن واسع والثوري وابن المبارك وأحمد. وقال آخرون: بل ذلك ندب إلى قبول هدية السلطان دون غيره، وروي عن عكرمة قال: إنا لا نقبل إلا من الأمراء. وقال الطبري: والصواب عندي أنه ندب منه إلى قبول عطية كل معط جائزة لسلطان كانت أو غيرها لحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، فندبه إلى قبول كل ما آتاه الله من المال من جميع وجوهه من غير تخصيص سوى ما استثناه، وذلك ما جاء به من وجه حرام عليه، وعلم به.
ووجه من رد أنه إنما كان على من كان الأغلب من أمره أنه لا يأخذ المال من وجهه، فرأى أن الأسلم لدينه والإبراء لعرضه تركه، ولا يدخل في ذلك ما إذا علم حرمته. ووجه من قبل ممن لم يبال من أين أخذ المال ولا فيما وضعه أنه ينقسم ثلاثة أقسام: ما علم حله يقينا فلا يستحب رده، وعكسه فيحرم قبوله، وما لا فلا يكلف البحث عنه، وهو في الظاهر أولى به من غيره ما لم يستحق.
وأما مبايعة من يخالط ماله الحرام وقبول هداياه فكره ذلك قوم وأجازه آخرون. فممن كرهه: عبد الله بن يزيد وأبو وائل والقاسم وسالم، وروي أنه توفيت مولاة لسالم كانت تبيع الخمر بمصر فترك ميراثها أيضا. وقال مالك: قال عبد الله بن يزيد بن هرمز: إني لا أعجب ممن يرزق الحلال ويرغب في الربح فيه الشيء اليسير من الحرام فيفسد المال كله، وكره الثوري المال الذي يخالطه الحرام، وممن أجازه ابن مسعود، روي عنه أن رجلا سأله فقال في جار: لا يتورع من أكل الربا ولا من أخذ ما لا يصلح، وهو يدعونا إلى طعامه وتكون لنا الحاجة فنستقرضه؟ فقال: أجبه إلى طعامه واستقرضه، فلك المهنأ وعليه المأثم، وسئل ابن عمر عن رجل أكل طعام من يأكل الربا فأجازه، وسئل النخعي عن الرجل يأتي المال من الحلال والحرام، قال: لا يحرم عليه إلا الحرام بعينه. وعن سعيد بن جبير أنه، رضي الله تعالى عنه، مر بالعشارين وفي أيديهم شماريخ، فقال: ناولونيها من سحتكم هذا إنه حرام عليكم وعلينا حلال. وأجاز البصري طعام العشار والضراب والعامل وعن مكحول والزهري: إذا اختلط الحرام والحلال فلا بأس به فإنما يكره من ذلك شيء يعرف بعينه، وأجازه ابن أبي ذئب، وقال ابن المنذر: واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى ذكر اليهود، فقال: * (سماعون للكذب أكالون للسحت) * (المائدة: 24). وقدرهن الشارع درعه عند يهودي، وقال الطبري في إباحة الله تعالى أخذ الجزية من أهل الكتاب مع علمه بأن أكثر
55

أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وهم يتعاملون بالربا أبين الدلالة على أن من كان من أهل الإسلام بيده مال لا يدري أمن حرام كسبه أو من حلال؟ فإنه لا يحرم قبوله لمن أعطاه، وإن كان ممن لا يبالي اكتسبه من غير حله بعد أن لا يعلم أنه حرام بعينه، وبنحو ذلك قالت الأئمة من الصحابة والتابعين، ومن كرهه فإنما ركب في ذلك طريق الورع وتجنب الشبهات والاستبراء لدينه.
ومن فوائد الحديث المذكور أن للإمام أن يعطي الرجل وغيره أحوج إليه منه إذا رأى لذلك وجها، وأن ما جاء من المال الحلال من غير سؤال فإن أخذه خير من تركه، وإن رد عطاء الإمام ليس من الأدب، وقال النووي: اختلفوا فيمن جاءه مال: هل يجب قبوله؟ الصحيح المشهور أنه يستحب في غير عطية السلطان، وأما عطيته فالصحيح أنه إن غلب الحرام فيما في يده فحرام، وإلا فمباح وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان لقوله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7). فإذا لم يأخذه فكأنه لم يأتمر. وقال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام على أغنياء الناس وفقرائهم، فكانت تلك الأموال يعطاها الناس لا من جهة الفقر، ولكن من حقوقهم فيها، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر حين أعطاه قوله: (أعطه من هو أفقر إليه مني) لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر، ثم قال له: خذه فتموله، كذا رواه شعيب عن الزهري، فدل أن ذلك ليس من أموال الصدقات، لأن الفقير لا ينبغي أن يأخذه من الصدقات ما يتخذه مالا كان عن مسألة أو غير مسألة.
25
((باب من سأل الناس تكثرا))
أي: هذا باب في بيان حكم من سأل الناس لأجل التكثر، وجواب الشرط محذوف تقديره: من سأل الناس لأجل التكثر فهو مذموم، ووجه الحذف قد ذكرناه في ترجمة الباب السابق. قيل: حديث المغيرة في النهي عن كثرة السؤال الذي أورده في الباب الذي يليه أصرح في مقصود الترجمة من حديث الباب، وإنما آثره عليه لأن من عادته أن يترجم بالأخفى. قلت: دلالة حديث الباب على السؤال تكثرا غير خفية، لأن قوله: (لا يزال الرجل يسأل الناس) يدل على كثرة السؤال، وكثرة السؤال لا تكون إلا لأجل التكثر على ما لا يخفى، وقال هذا القائل أيضا، أو لاحتمال أن يكون المراد بالسؤال في حديث المغيرة النهي عن المسائل المشكلة كالأغلوطات. أو
السؤال عما لا يعني، أو عما لم يقع مما يكره وقوعه؟ قلت: هذا الوجه بيان اعتذار من جهة البخاري في تركه حديث المغيرة في هذا الباب، ولكن الوجوه الثلاثة التي زعم أن حديث المغيرة في قوله (وكثرة السؤال) تحتملها فيه نظر، لأنها داخلة تحت قوله: (قيل، وقال) وقوله: (وكثرة السؤال) تمحض لسؤال الناس لأجل التكثر، وفيه زيادة فائدة على ما لا يخفى، وقال هذا القائل أيضا: وأشار مع ذلك إلى حديث ليس على شرطه، وهو ما أخرجه الترمذي من طريق حبيش بن جنادة في أثناء حديث مرفوع، وفيه: (من سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر). قلت: لا نسلم أولا وجه هذه الإشارة، ولئن سلمنا فلا فائدة فيها إذ الواقف على هذه الترجمة إن كان قد وقف على حديث حبيش قبل ذلك فلا فائدة في الإشارة إليه، وإلا فيحتاج فيه إلى العلم من الخارج فلا يكون ذلك من إشارته إليه، وقال بعضهم عطيب كلام هذا القائل: وفي (صحيح مسلم) من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة ما هو مطابق للفظ الترجمة، فاحتمال كونه أشار إليه أولى، ولفظه: (من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا...) قلت: هذا الذي ذكره أنما يتوجه إذا كان البخاري قد وقف عليه، ولئن سلمنا وقوفه عليه فلا نسلم التزامه أن تكون المطابقة بين الترجمة، والحديث من كل وجه على ما لا يخفى.
4741 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر قال سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر قال سمعت عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم. وقال إن الشمس
56

تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذالك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم * وزاد عبد الله حدثني الليث حدثني ابن أبي جعفر فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
(الحديث 5741 طرفه في: 8174).
وجه المطابقة بين الترجمة والحديث قد علم مما ذكرنا آنفا.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: يحيى بن بكير. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: عبيد الله بتصغير العبد ابن أبي جعفر، واسمه يسار، مر في: باب الجنب يتوضأ، في كتاب الغسل. الرابع: حمزة، بالحاء المهملة وبالزاي: ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، مر في: باب فضل العلم. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب. السادس: عبد الله بن صالح، كاتب الليث.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه مذكور باسم جده واسم أبيه عبد الله بن بكير، وهو والليث وعبيد الله بن أبي جعفر وعبد الله بن صالح مصريون وحمزة بن عبد الله مدني أما عبد الله بن صالح ففيه مقال: قال ابن عدي: سقيم الحديث، ولكن البخاري روى عنه في صحيحه على الصحيح، ولكنه يدلس، فيقول: حدثنا عبد الله ولا ينسبه، وهو هو، نعم قد علق البخاري، حديثا فقال فيه: قال الليث ابن سعد: حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، حدثنا الليث فذكره ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه.
والحديث أخرجه مسلم، رحمه الله تعالى، عن أبي الطاهر بن السرح وعن أبي بكر بن أبي شيبة، رضي الله تعالى عنه، وأخرجه النسائي، رحمه الله تعالى، فيه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن شعيب ابن الليث عن أبيه به.
ذكر معناه: قوله: (مزعة)، بضم الميم وسكون الزاي وبالعين المهملة: القطعة. وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح الميم والزاي، قال أبو الحسن: والذي أحفظه عن المحدثين الضم. وقال ابن فارس بكسر الميم، واقتصر عليه القزاز في (جامعه) وذكر ابن سيده الضم فقط، وكذا الجوهري قال، وبالكسر: من الريش والقطن، يقال: مزعت اللحم قطعته قطعة قطعة، ويقال: أطعمه مزعة من لحم، أي: قطعة منه. قال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد أنه يأتي ساقطا لا قدر له ولا جاه، أو يعذب في وجهه حتى يسقط لحمه لمشاكلة العقوبة في مواضع الجناية من الأعضاء، لكونه أذل وجهه بالسؤال أو أنه يبعث ووجهه عظم كله فيكون ذلك شعاره الذي يعرف به. وقال ابن أبي جمرة: معناه أنه ليس في وجهه من الحسن شيء لأن حسن الوجه هو مما فيه من اللحم. قوله: (وقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (إن الشمس تدنو) أي: تقرب من الدنو، وهو القرب، ووجه اتصال هذا بما قبله هو أن الشمس إذا دنت يوم القيامة يكون أذاها لمن لا لحم له في وجهه أكثر وأشد من غيره. قوله: (حتى يلغ العرق)، أي: حتى يتسخن الناس من دنو الشمس فيتعرقون فيبلغ العرق نصف الأذن. قوله: (فبيناهم)، قد ذكرنا غير مرة أن أصل: بينا، بين فزيدت الألف بإشباع فتحة النون، يقال: بينا وبينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة فعلية أو اسمية ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه قوله: (استغاثوا)، والأفصح في جوابه أن لا يكون فيه إذ وإذا، كما وقع هنا بدون واحد منهما، وقد يقال: بينا زيد جالس إذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل عليه عمرو. قوله: (ثم بمحمد) أي: ثم استغاثوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه اختصار، إذ يستغاث بغير آدم وموسى أيضا، وسيأتي في الرقاق في حديث طويل في الشفاعة ذكر من يقصدونه بين آدم وموسى وبين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: (وزاد عبد الله) يحتمل التعليق حيث لم يضفه إلى نفسه ولم يقل: زادني. قال الكرماني: ولعل المراد بما حكى الغساني عن أبي عبد الله الحاكم أن البخاري لم يخرج عن عبد ابد الله بن صالح كاتب الليث في (الصحيح) شيئا إنه لم يخرج عنه حديثا تاما مستقلا. قلت: قد ذكرنا عن قريب أنه روى عنه ولم ينسبه على وجه التدليس. قوله: (زاد عبد الله)، هكذا وقع عند أبي ذر، وسقط عند الأكثرين. وفي (التلويح): قول البخاري: وزاد عبد الله، يعني: ابن صالح كاتب الليث بن سعد، قاله أبو نعيم الأصبهاني وخلف في (الأطراف) ووقع أيضا
57

في بعض الأصول منسوبا وفي الإيمان لابن منده من طريق أبي زرعة الراوي عن يحيى بن بكير وعبد الله بن صالح جميعا عن الليث، وساقه بلفظ عبد الله بن صالح،
وقد رواه موصولا من طريق عبد الله بن صالح وحده البزار عن محمد بن إسحاق الصاغاني والطبراني في (الأوسط) عن مطلب بن شعيب وابن منده في كتاب الإيمان من طريق يحيى بن عثمان، ثلاثتهم عن عبد الله بن صالح فذكره، وزاد بعد قوله: (استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك)، وتابع عبد الله بن صالح على هذه الزيادة عبد الله بن عبد الحكم عن الليث أخرجه ابن منده أيضا. قوله: (بحلقة الباب) أي: باب الجنة، أو هو مجاز عن القرب إلى الله. قوله: (مقاما محمودا) هو مقام الشفاعة العظمى التي اختصت به لا شريك له في ذلك، وهو إراحة أهل الموقف من أهواله بالقضاء بينهم والفراغ من حسابهم. قوله: (أهل الجمع) أي: أهل المحشر، وهو يوم مجموع فيه جميع الناس من الأولين والآخرين.
ومما يستفاد منه: ما نقل ابن بطال عن المهلب، فهم البخاري أن الذي يأتي يوم القيامة لا لحم في وجهه من كثرة السؤال، إنه للسائل تكثرا لغير ضرورة إلى السؤال، ومن سأل تكثرا فهو غني لا تحل له الصدقة وإذا جاء يوم القيامة لا لحم على وجهه فتؤذيه الشمس أكثر من غيره، ألا ترى قوله في الحديث: (الشمس تدنو حتى يبلغ العرق)، فحذر صلى الله عليه وسلم من الإلحاف في المسألة لغير حاجة إليها وأما من سأل مضطرا فمباح له ذلك إذا لم يجد عنها بدا ورضي بما قسم له ويرجي أن يؤجر عليها. وقال في موضع آخر: يبلغ عرق الكافر، فإما أن يكون سكت عنه للتتابع في الموعظة ولا يقول إلا الحق، أو سقط عن الناقل أو أخبر في وقت بذلك مجملا ثم حدث به مفسرا.
وقال معلى حدثنا وهيب عن النعمان بن راشد عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسئلة
هذا تعليق ذكره عن معلى، بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد اللام المفتوحة: ابن أسد، مر في: باب المرأة تحيض، عن وهيب تصغير وهب بن خالد عن النعمان بن راشد الجزري الرقي عن عبد الله بن مسلم أخي محمد بن مسلم الزهري عن حمزة ابن عبد الله عن عبد الله بن عمر، ووصل هذا التعليق البيهقي: أخبرنا أبو الحسين القطان حدثنا ابن درستويه حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن النعمان بن راشد عن عبد الله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة بن عبد الله عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال لنا ابن عمر: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما تزال المسألة بالرجل حتى يلقى الله وما في وجهه مزعة لحم).
قوله: (في المسألة) أي: في الجزء الأول من الحديث ولم يرو الزيادة التي لعبد الله بن صالح، وفي هذا الحديث أن هذا الوعيد يحتص بمن أكثر السؤال إلا من ندر ذلك منه، ويؤخذ منه جواز سؤال غير المسلم، لأن لفظ الناس في الحديث يعم، قاله ابن أبي حمزة، ويحكى عن بعض الصالحين أنه كان إذا احتاج سأل ذميا لئلا يعاقب المسلم بسببه لو رده.
35
((باب قول الله تعالى * (لا يسألون الناس إلحافا (البقرة: 372).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله تعالى: * (لا يسألون الناس إلحافا) * (البقرة: 372). لأجل مدح من لا يسأل الناس إلحافا. أي: سؤالا إلحافا أي: إلحاحا وإبراما. قال الطبري: ألحف السائل في مسألته إذا ألح فهو ملحف فيها. وقال السدي: لا يلحفون في المسألة إلحافا، وهذا من آية كريمة في سورة البقرة أولها قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * (البقرة: 372). قال المفسرون: قوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله) * (البقرة: 372). يعني المهاجرين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم. * (ولا يستطيعون ضربا في الأرض) * (البقرة: 372). يعني: سفرا للتسبب في طلب المعاش، والضرب في الأرض هو السفر. قال تعالى: * (وآخرون يضربون في الأرض) * (المزمل: 02). ومعنى عدم استطاعتهم أنهم كانوا يكرهون المسير لئلا
58

تفوتهم صحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوله: * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * (البقرة: 372). في لباسهم وحالهم ومقالهم. قوله: * (تعرفهم بسيماهم) * (البقرة: 372). إنما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى: * (سيماهم في وجوههم) * (الفتح: 92). وقيل: الخطاب للنبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل راغب في معرفة حالهم، يقول: تعرف فقرهم بالعلامة في وجوههم من أثر الجوع والحاجة، وفي (تفسير النسفي): هم أصحاب الصفة، وكانوا أربعمائة إنسان لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا يخرجون في كل سرية بعثها النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعون إلى مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، قوله: * (وما تنفقوا من خير) * (البقرة: 372). من أبواب القربات * (فإن الله به عليم) * (البقرة: 372). لا يخفى عليه شيء منه ولا من غيره، وسيجزي عليه أوفى الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكونون إليه.
وكم الغنى؟
أي: مقدار الغنى الذي يمنع السؤال؟ و: كم، هنا استفهامية تقتضي التمييز، والتقدير: كم الغنى؟ أهو الذي يمنع السؤال أم غيره؟ والغنى، بكسر الغين وبالقصر: ضد الفقر وإن صحت الرواية بالفتح وبالمد فهو: الكفاية، وقد تقدم في حديث ابن مسعود (يا رسول الله ما الغنى؟ قال: خمسون درهما). وقد ذكرنا في: باب الاستعفاف في المسألة، جملة أحاديث عن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، في هذا الباب.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا يجد غنى يغنيه
بالجر عطف على ما قبله من المجرور، وهذا جزء من حديث رواه عن أبي هريرة، يأتي في هذا الباب، وفيه: (ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه)، والظاهر أنه إنما ذكر هذا كأنه تفسير لقوله: (وكم الغنى؟) ليكون المعنى: إن الغنى هو الذي يجد الرجل ما يغنيه، وفسر هذا ما رواه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا: (من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل: يا رسول الله! وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب). والأحاديث يفسر بعضها بعضا، وإنما لم يذكره البخاري لأنه ليس على شرطه، لأن فيه مقالا.
لقوله تعالى * (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض) * إلى قوله * (فإن الله به عليم) * (البقرة: 372).
هذا تعليق لقوله: (ولا يجد غنى يغنيه)، لأنه قال في الحديث: المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس. ووصف المسكين بثلاثة أوصاف: منها عدم قيامه للسؤال، وذلك لا يكون إلا لتعففه وحصر نفسه عن ذلك وعلل ذلك المسكين الموصوف بهذه الأوصاف الذي ذكر منها البخاري: عدم وجدان الغنى، واكتفى به بقوله تعالى: * (للفقراء الذين أحصروا) * (البقرة: 372). الآية، وكان حصرهم لأنفسهم عن السؤال للتعفف، وعدم ضربهم في الأرض خوفا من فوات صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن قريب، وأما: اللام، التي في قوله: * (للفقراء الذي أحصروا) * (البقرة: 372). فلبيان مصرف الصدقة وموضعها لأنه قال قبل هذا: * (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) * (البقرة: 272). ثم بين مصرف ذلك وموضعه بقوله: * (للفقراء) * (البقرة: 372). إلى آخره، وقد تصرف الكرماني هنا تصرفا عجيبا لا يقبله من له أدنى معرفة في أحوال تراكيب الكلام، فقال: * (للفقراء) * (البقرة: 372). عطف على * (لا يسألون) * (البقرة: 372). وحرف العطف مقدر، أو: هو حال بتقدير لفظ: قائلا، ثم قال: فإن قلت: في بعضها لقول الله تعالى: * (للفقراء) * (البقرة: 372). قلت: معناه شرط في السؤال عدم وجدان الغنى لوصف الله الفقراء بلا يستطيعون ضربا في الأرض، إذ من استطاع ضربا فيها فهو واجد لنوع من الغنى. انتهى. قلت: كان في نسخة: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولا يجد غنى يغنيه للفقراء الذين.. فقال: هذا عطف على: لا يسألون، فليت شعري أي وجه لهذا العطف، ولا عطف هنا أصلا، وأي ضرورة دعت إلى ارتكابه تقدير حرف العطف الذي لا يجوز حذف حرف العطف إلا في موضع الضرورة على الشذوذ، أو في الشعر كذلك، ولا ضرورة هنا أصلا! ثم لما وقف على نسخة فيها لقول الله عز وجل: * (للفقراء) * (البقرة: 372). سأل السؤال المذكور وأجاب بالجوابين المذكورين اللذين تمجهما الأسماع ويتركهما أهل اليراع، وقال بعضهم: اللام في قوله: لقول الله، لام التعليل لأنه أورد الآية تفسيرا لقوله في الترجمة، وكم
59

الغنى؟ قلت: وهذا أعجب من ذلك، لأن التعليل لا يقال له: التفسير، ويفرق بينهما من له أدنى مسكة في التصرف في علم من العلوم، وباقي الكلام في الآية الكريمة تقدم آنفا.
6741 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان ولاكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحيي ولا يسأل الناس إلحافا.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا يسأل الناس إلحافا). ورجاله أربعة وهو من الرباعيات.
قوله: (المسكين)، مشتق من السكون وهو عدم الحركة فكأنه بمنزلة الميت ووزنه، مفعيل، وقال ابن سيده: المسكين والمسكين الأخيرة نادة لأنه ليس في الكلام: مفعيل، يعني بفتح الميم. وفي (الصحاح): المسكين الفقير، وقد يكون بمعنى المذلة والضعف، يقال: تمسكن الرجل وتمسكن، وهو شاذ، والمرأة مسكينة، وقوم مساكين ومسكينون، والإناث مسكينات، والفقير مشتق من قولهم: فقرت له فقرة من مالي، والفقر والفقر ضد الغنى، وقدر ذلك أن يكون له ما يكفي عياله، وقد فقر فهو فقير، والجمع: فقراء، والأنثى فقيرة من نسوة فقائر، وقال القزاز: أصل الفقر في اللغة من فقار الظهر كأن الفقير كسر فقار ظهره، فبقي له من جسمه بقية. قال القزاز: الفقر والفقر، والفتح أكثر. قوله: (الأكلة والأكلتان)، بضم الهمزة فيهما، وقال ابن التين: الأكلة، ضبطها بعضهم بضم الهمزة بمعنى: اللقمة، فإن فتحتها كانت المرة الواحدة. وفي (الفصيح) لأحمد بن يحيى: الأكلة: اللقمة، والأكلة، بالفتح: الغذاء والعشاء. قوله: (ليس له غنى)، زاد في رواية الأعرج: (غنى يغنيه). قوله: (ويستحي) بالياءين وبياء واحدة زاد في رواية الأعرج: (ولا يفطن به)، وفي رواية الكشميهني: (له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس)، وهو بنصب: يتصدق، ويسأل. قوله: (ولا يسأل) ويروى: (وأن لا يسأل). وقال الكرماني: كلمة: لا، زائدة في: (وأن لا يسأل). قوله: (إلحافا) أي: إلحاحا، وقد مر تفسيره عن قريب. وقال ابن بطال: يريد: ليس المسكين الكامل لأنه بمسألته يأتيه الكفاف، وإنما المسكين الكامل في أسباب المسكنة من لا يجد غنى ولا يتصدق عليه، أي: ليس فيه نفي المسكنة بل نفي كمالها، أي: الذي هو أحق بالصدقة وأحوح إليها.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن الإرشاد لموضع الصدقة، وأن يتحرى وضعها فيمن صفته التعفف دون الإلحاح. وفيه: حسن المسكين الذي يستحي ولا يسأل الناس. وفيه: استحباب الحياء في كل الأحوال.
7741 حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل بن علية قال حدثنا خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي قال حدثني كاتب المغيرة بن شعبة قال كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إلي بشىء سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فكتب إليه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وكثرة السؤال).
ورجاله ثمانية: يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، وإسماعيل بن علية، بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف، وهو إسماعيل بن إبراهيم البصري، وعلية اسم أمه، وخالد هو ابن مهران الحذاء البصري، وقد مر غير مرة، وابن أشوع، بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الواو وفي آخره عين مهملة: وهو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني الكوفي قاضي الكوفة، نسب لجده. والشعبي هو عامر بن شراحيل، وكاتب المغيرة هو: وراد، بفتح الواو وتشديد الراء وفي آخره دال مهملة، والمغيرة بن شعبة مولاه، ومعاوية ابن أبي سفيان. وفيه: تابعيان وصحابيان، وقد ذكرنا في: باب الذكر بعد الصلاة، تعدد ذكره ومن أخرجه غيره.
ذكر معناه: قوله: (عن قيل وقال)، هما إما فعلان: الأول، يكون بناء المجهول من الماضي، والثاني يكون بناء الفاعل، وإما مصدران، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا. وحينئذ يكونان منونين، وإما إسمان. قال ابن السكيت: هما إسمان لا مصدران،
60

وقال الخطابي: إما أن يراد بهما حكاية أقاويل الناس، كما يقال: قال فلان كذا، وقيل له: كذا، من باب ما لا يعني. وأما ما كان من أمر الدين ينقله بلا حجة وبيان يقلد ما يسمعه ولا يحتاط فيه. وقال ابن الجوزي: المراد به حكاية شيء لا تعلم صحته فإن الحاكي يقول: قيل وقال: وعن مالك: هو الإكثار من الكلام والإرجاف، نحو قول القائل: أعطي فلان كذا ومنع من كذا، أو الخوض فيما لا يعني. وقال ابن التين: له تأويلان: أحدهما: أن يراد به حكاية أقوال الناس وأحاديثهم والبحث عنها لينمي فيقول: قال فلان كذا وفلان كذا، مما لا يجر خيرا، إنما هو ولوع وشغب، وهو من التجسس المنهي عنه. والثاني: أن يكون في أمر الدين فيقول: قيل له فيه كذا، وقال فلان فيقلد ولا يحتاط بمواضع الاحتياط بالحجج. قوله: (وإضاعة المال)، هو رواية الكشميهني وفي رواية غيره: (إضاعة الأموال)، وهو أن يتركه من غير حفظ له فيضيع، أو يتركه حتى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيرا كبرا عن تناوله، أو بأن يرضى بالغبن، أو ينفقه في البناء واللباس والمطعم بإسراف، أو ينفقه في المعاصي، أو يسلمه لخائن أو مبذر، أو يموه الأواني بالذهب أو يطرز الثياب به، أو يذهب سقوف البيت، فإنه من التضييع الفاحش لأنه لا يمكن تخليصه منه وإعادته إلى أصله، ومنه قسمة ما لا ينتفع بقسمته كاللؤلؤة، ومنه الصدقة وإكثارها وعليه دين لا يرجو له وفاء دينه، ومنه سوء القيام على ما يملكه كالرقيق إذا لم يتعهده ضاع، ومنه أن يتخلى الرجل من كل ماله وهو محتاج إليه غير قوي على الصبر والإطاقة، وقد يحتمل أن يؤول معنى الإضاعة على العكس مما تقدم بأن يقال: إضاعته: حبسه عن حقه والبخل به على أهله كما قال الشاعر:
* وما ضاع مال أورث المجد أهله
* ولكن أموال البخيل تضيع
*
وقال الداودي: إضاعة المال تؤدي إلى الفقر الذي يخشى منه الفتنة، وكأن الشارع، صلى الله عليه وسلم، يتعوذ من الفقر وفتنته. وقال المهلب في إضاعة المال: يريد السرف في إنفاقه وإن كان فيما يحل، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم رد تدبير المعدم لأنه أسرف على ماله فيما يحل ويؤجر فيه، لكنه أضاع نفسه، وأجره في نفسه آكد من أجره في غيره. قوله: (وكثرة السؤال)، أما السؤال إما أن يكون من سؤال الناس أموالهم والاستكثار منه، أو سؤال المرء عما نهي عنه من المتشابه الذي تعبدنا بظاهره، أو السؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور لم يكن لهم بها حاجة. وقال الخطابي: المسائل في كتاب الله تعالى على ضربين: أحدهما محمود كقوله: * (يسألونك ماذا ينفقون) * (البقرة: 512 و 912). ونحوه من الإشياء المحتاج إليها في الدين، ولهذا قال تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * (النحل: 34، الأنبياء: 7). والآخر مذموم كقوله: * (يسألونك عن الروح) * (الإسراء: 58). ونحوه مما لا ضرورة فيه لهم إلى علمه، ولهذا قال تعالى: * (ولا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * (المائدة: 101). وقال النووي: يحتمل إن يراد بكثرة السؤال سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره، لأنه يتضمن حصول الحرج في حق المسؤول عنه، فإنه لا يريد إخباره بأحواله، فإن أخبره شق عليه وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب. ويقال: في كثرة السؤال وجهان ذكرا عن مالك: الأول: سؤال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: (ذروني ما تركتكم). والثاني: سؤال الناس، وهو الذي فهمه البخاري وبوب عليه، وقال ابن التين فيه وجوه: أحدها: التعرض لما في أيدي الناس من الحطام بالحرص والشره، وهو تأويل البخاري. ثانيها: أن يكون في سؤال المرء عما نهى عنه من متشابه الأمور على مذهب أهل الزيغ والشك وابتغاء الفتنة. ثالثها: ما كانوا يسألون الشارع صلى الله عليه وسلم عن الشيء من الأمور من غير حاجة بهم إليه فتنزل البلوى بهم، كالسائل عمن يجد مع امرأته رجلا أشد الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يكن حراما فحرم من أجل مسألته.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الدلالة على الحجر، واختلف العلماء في وجوب الحجر على البالغ المضيع لماله، فجمهور العلماء يوجب الحجر عليه صغيرا كان أو كبيرا، روي ذلك عن علي وابن عباس وابن الزبير وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وهو قول مالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقال النخعي وابن سيرين وبعدهما أبو حنيفة وزفر: لا حجر على البالغ الحديث الذي يخدع في البيوع ولم يمنعه صلى الله عليه وسلم من التصرف. وفيه: دليل على فضل الكفاف على الفقر والغنى، لأن ضياع المال يؤدي إلى الفتنة بالفقر وكثرة السؤال، وربما يخشى من الغنى الفتنة، قال تعالى: * (كلا إن الإنسان
61

ليطغى أن رآه استغنى) * (العلق: 6 و 7). والفقر والغنى محنتان وبليتان كان الشارع يتورع منهما، ومن عاش فيهما بالاقتصاد فقد فاز في الدنيا والآخرة. وفيه: الكتاب بالسؤال عن العلم والجواب عنه. وفيه: قبول خبر الواحد وقبول الكتاب وهو حجة في الإجازة. وفيه: أخذ بعض الصحابة عن بعض. وفيه: دليل على أن قلة
السؤال لا تدخل تحت النهي خصوصا إذا كان مضطرا يخاف على نفسه التلف بتركه، بل السؤال في هذه الحالة واجب لأنه لا يحل له إتلاف نفسه وهو يجد السبيل إلى حياتها.
8741 حدثنا محمد بن غزير الزهري قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال أخبرني عامر بن سعد عن أبيه قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم قال فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إلي فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساورته فقلت مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما قال فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم فيه فقلت يا رسول الله ما لك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما قال فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم فيه فقلت يا رسول الله مالك عن فلان والله لأراه مؤمنا قال أو مسلما يعني فقال إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه.
(انظر الحديث 72).
مطابقته للترجمة من حيث إن الرجل الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعطه شيئا، وهو أيضا ترك السؤال أصلا مع مراجعة سعد، رضي الله تعالى عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه ثلاث مرات، وقد مضى الحديث في كتاب الإيمان في: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، فإنه أخرجه هناك: عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن سعد، رضي الله تعالى عنه، وهنا أخرجه: عن محمد بن غرير، بضم الغين المعجمة وفتح الراء الأولى وسكون الياء آخر الحروف: الزهري، بضم الزاي وسكون الهاء، وقد تقدم في: باب ما ذكر في ذهاب موسى في كتاب العلم. وقد مضى الكلام فيه مستوفى في كتاب الإيمان.
وعن أبيه عن صالح عن إسماعيل بن محمد أنه قال سمعت أبي يحدث هاذا فقال في حديثه فضرب رسول الله بيده فجمع بين عنقي وكتفي ثم قال أقبل أي سعد إني لأعطي الرجل
هذا طريق آخر في الحديث المذكور. قوله: (وعن أبيه)، عطف على المذكور أولا في الإسناد أي: قال يعقوب عن أبيه إبراهيم عن صالح بن كيسان عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري، وقال الكرماني: فإن قلت: أبوه محمد فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة إذ لا بد من توسط ذكر سعد حتى يصير مسندا متصلا؟ قلت: لفظ، هذا، هو إشارة إلى قول سعد، فهو متصل وبهذا السند رواه مسلم عن الحسن بن علي الحلواني عن يعقوب عن أبيه عن صالح عن إسماعيل بن محمد، قال: سمعت محمد بن سعد يحدث بهذا... يعني حديث الزهري المذكور، فقال في حديثه: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده بين عنقي وكتفي ثم قال: أقتالا أي سعد إني لأعطي الرجل؟ وفي الجمع للحميدي في أفراد مسلم: عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن أبيه عن جده بنحو حديث الزهري عن عامر بن سعد. قوله: (يحدث)، هذا إشارة إلى قول سعد كما ذكرنا. قوله: (في حديثه) أي: في جملة حديثه. قوله: (فجمع)، بفاء العطف، وفعل الماضي، وقال ابن التين: رواية أبي ذر: فجمع، وفي رواية غيره: جمع، بدون الفاء، ويروى: (فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فجمع بين عنقي وكتفي). قال ابن قرقول: أي: حيث يجتمعان، وكذلك مجمع البحرين حيث يجتمع بحر وبحر، وتوجيه هذه الرواية إن يكون لفظ: بين، اسما لا ظرفا، كقوله تعالى: * (لقد تقطع بينكم) * (الأنعام: 49). على قراء الرفع فيكون
62

لفظ: مجمع، مضافا إليه، ويروى: (فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يجمع بين عنقي وكتفي)، بالباء الجارة وضم الجيم وسكون الميم، ومحله نصب على الحال تقديره: ضرب بيده حال كونها مجموعة، ويجوز في الكتف ثلاث لغات. قوله: (ثم قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم: (أقبل) بفتح الهمزة، أمر من الإقبال أو بكسر الهمزة وفتح الباء من القبول، حسب الروايتين. قال التيمي: في بعضها أقبل بقطع الألف، كأنه لما قال ذلك تولى ليذهب فقال له: أقبل لأبين لك وجه الإعطاء والمنع، وفي بعضها بوصل الإلف أي: أقبل ما أنا قائل لك ولا تعترض عليه. قلت: ويدل عليه باقي رواية مسلم: (أقتالا أي سعد) أي: أتقاتل قتالا؟ أي: أتعارضني فيما أقول مرة بعد مرة كأنك تقاتل؟ وهذا يشعر أنه صلى الله عليه وسلم كره منه إلحاحه عليه في المسألة. قوله: (أي سعد) يعني: يا سعد إني لأعطي، اللام فيه للتأكيد، وإنما أعطي الرجل ليتألفه ليستقر الإيمان في قلبه وعلم أنه إن لم يعطه قال قولا أو فعل فعلا دخل به النار، فأعطاه شفقة عليه، ومنع الآخر علما منه رسوخ الإيمان في صدره ووثوقا على صبره.
وقال ابن بطال: فيه: الشفاعة للرجل من غير أن يسألها ثلاثا. وفيه: النهي عن القطع لأحد من الناس بحقيقة الإيمان وأن الحرص على هداية غير المهتدي آكد من الإحسان إلى المهتدي. وفيه: الأمر بالتعفف والاستغناء وترك السؤال.
قال أبو عبد الله فكبكبوا قلبوا مكبا أكب الرجل إذا كان فعله غير واقع على أحد فإذا وقع الفعل قلت كبه الله لوجهه وكببته أنا
قال أبو عبد الله، هو البخاري نفسه، وقد جرت عادته أنه إذا كان في القرآن لفظ يناسب لفظ الحديث يذكره استطرادا فقوله: (فكبكبوا)، مذكور في سورة الشعراء معناه: فكبوا بلفظ المجهول من الكب، وهو الإلقاء على الوجه. وفي بعضها: قلبوا بالقاف واللام والباء الموحدة. قوله: (مكبا)، بضم الميم هو المذكور في سورة الملك، وهو قوله: * (أفمن يمشي مكبا على وجهه) * (الملك: 22). قوله: (أكب الرجل) يعني: وقع على وجهه، وهو لازم أشار إليه بقوله: (إذا كان فعله غير واقع على أحد)، وذلك أنهم يسمون الفعل الذي لا يتعدى: لازما وغيره واقع. قوله: (فإذا وقع الفعل)، يعني: إذا وقع على أحد يكون متعديا: ويسمى واقعا أيضا، أشار إليه بقوله: (قلت كبه الله لوجهه)، وهذا من نوادر الكلمة حيث كان ثلاثيه متعديا والمزيد فيه لازما، عكس القاعدة التصريفية. قوله: (وكببته أنا) متعد
أيضا، أي: كببت أنا فلانا على وجهه، وأتى بالمثالين أحدهما من الغائب والآخر من المتكلم، وكببته يجوز فيه أن تبدل الياء من الباء الثانية فنقول: كبيته، على ما علم في موضعه.
قال أبو عبد الله: صالح بن كيسان أكبر من الزهري وهو قد أدرك ابن عمر رضي الله تعالى عنهم
أبو عبد الله هو البخاري نفسه. قوله: (صالح بن كيسان) هو المذكور في الإسنادين. قوله: (أكبر) أي: أكبر سنا، كان عمره مائة وستين سنة. قوله: (من الزهري) يعني من محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. قوله: (وهو) أي: صالح ابن كيسان (قد أدرك عبد الله بن عمر)، يعني: أدرك السماع منه. وأما الزهري فمختلف في لقيه له، والصحيح أنه لم يلقه وإنما يروى عن أبيه سالم عنه، والحديثان اللذان وقع في رواية معمر عنه أنه سمعهما من ابن عمر ثبت ذكر سالم بينهما في رواية غيره.
9741 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولاكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس.
(انظر الحديث 6741 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا يقوم فيسأل الناس).
ورجاله تقدموا غير مرة، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
وأخرجه النسائي أيضا في الزكاة عن قتيبة عن مالك به، وقد مر الكلام في معناه
63

في باب الاستعفاف في المسألة. قوله: (ولا يفطن به) أي: لا يكون للناس العلم بحالة فيتصدقون عليه، ويروى (ولا يفطن له) باللام، قوله: (فيسأل) بالنصب، وكذا: (فيتصدق) وهو على صيغة المجهول.
0841 حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو أحسبه إلي الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس.
مطابقته للترجمة في قوله: (خير له من أن يسأل الناس)، والحديث مضى في: باب الاستعفاف في المسألة، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة... الحديث، وهنا أخرجه: عن عمر بن حفص عن أبيه حفص بن غياث عن سليمان الأعمش عن أبي صالح ذكوان الزيات عن أبي هريرة.
قوله: (ثم يغدو) أي: ثم يذهب والغدو الذهاب في أول النهار قوله: (أحسبه) أي قال أبو هريرة أطن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلى الجبل موضع الحطب. قوله: (فيحتطب فيبيع)، بالفاء فيهما لأن الاحتطاب يكون عقيب الغدو إلى الجبل، والبيع يكون عقيب الاحتطاب. قوله: (ويتصدق)، بواو العطف ليدل على أنه يجمع بين البيع والصدقة، يعني: إذا باع يتصدق منه.
وفيه: استحباب الاستعفاف عن المسألة. واستحباب التكسب باليد. واستحباب الصدقة من كسب يده.
45
((باب خرص التمر))
أي: هذا باب في مشروعية خرص التمر، الخرص، بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها صاد مهملة: مصدر من خرص العدد ويخرصه من باب: نصر ينصر وضرب يضرب، خرصا وخرصا بالفتح والكسر إذا حزره، ويقال بالفتح مصدر وبالكسر اسم. وفي (الصحاح): هو حزر على النخل من الرطب تمرا. وقال ابن السكيت: الخرص والخرص لغتان في الشيء المخروص، وحكى الترمذي عن بعض أهل العلم: أن تفسيره أن الثمار إذا أدركت من الرطب والعنب مما يجب فيه الزكاة بعث السلطان خارصا ينظر فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبا وكذا ثمرا فيصيه، وينظر مبلغ العشر فيثبته عليهم ويخلي بينهم وبين الثمار فإذا جاء وقت الجذاذ أخذ منهم العشر.
1841 حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا وهيب عن عمرو بن يحيى عن عباس الساعدي عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فلما جاء وادي القرى إذا امرأة في حديقة لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه اخرصوا وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق فقال لها أحصي ما يخرج منها فلما أتينا تبوك قال أما إنها ستهب الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد ومن كان معه بعير فليعقله فعقلناها وهبت ريح شديدة فقام رجل فألقته بجبل طيىء وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا وكتب له ببحرهم فلما أتى وادي القرى قال للمرأة كم جاء حديقتك قالت عشرة أوسق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني متعجل إلى المدينة فمن أراد منكم أن يتعجل معي فليتعجل فلما قال ابن بكار كلمة معناها أشرف على المدينة. قال هاذه طابة فلما رأي أحدا قال هاذا جبيل يحبنا ونحبه ألا أخبركم بخير دور الأنصار قالوا بلى قال دور بني النجار ثم دور بني عبد الأشهل ثم دور بني ساعدة أو دور بني الحارث بن الخزرج وفي كل دور الأنصار يعني خيرا. وقال سليمان بن بلال حدثني
64

عمر و ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة وقال سليمان عن سعد بن سعيد عن عمارة بن غزية عن عباس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أحد جبل يحبنا ونحبه
.
مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: (اخرصوا وخرص رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: سهل بن بكار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الكاف وبالراء: أبو بشر الدارمي. الثاني: وهيب بن خالد أبو بكر. الثالث: عمرو بن يحيى بن عمارة. الرابع: عباس، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن سهل بن سعد، مات زمن الوليد بالمدينة. الخامس: أبو حميد، بضم الحاءر المهملة وفتح الميم: اسمه المنذر أو عبد الرحمن بن سعد الساعدي، مر في: باب فضل استقبال القبلة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: عن عمرو بن يحيى، ولمسلم من وجه آخر عن وهيب حدثنا عمرو بن يحيى. وفيه: عباس وفي رواية أبي داود: عن العباس الساعدي، يعني ابن سهل بن سعد، وفي رواية الإسماعيلي من وجه آخر: عن وهيب أخبرنا عمرو بن يحيى حدثنا عباس ابن سهل الساعدي. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه بصريان وعمرو بن يحيى وعباس بن سهل مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج وفي المغازي بتمامه وفي فضل الأنصار ببعضه: (خير دور الأنصار)، عن خالد ابن مخلد، وأخرجه مسلم في فضل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وفيه وفي الحج عن القعنبي عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو داود في الخراج عن سهل بن بكار به.
ذكر معناه: قوله: (غزوة تبوك)، بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة المخففة وفي آخره كاف، منصرف بينها وبين المدينة أربع عشرة مرحلة من طرف الشام، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة. وفي (المحكم): تبوك اسم أرض وقد يكون: تبوك، تفعل، وزعم ابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في غزوة تبوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فقال: ما زلتم تبوكونها بعد؟ فسميت: بتبوك، ومعنى: تبوكون تدخلون فيه السهم وتحركونه ليخرج ماؤه. قلت: هذا يدل على أنه معتل، وذكرها ابن سيده في الثلاثي الصحيح. قوله: (حسيها)، أي: حشي تبوك، بكسر الحاء وسكون السين المهملتين، وفي آخره ياء آخر الحروف: ما تنشفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته فيحفر عنه الرمل فتستخرجه وهو الاحتساء، ويجمع الحسي على أحساء، وغزوة تبوك تسمى العسرة والفاضحة، وكانت في رجب يوم الخميس سنة تسع، وقال ابن التين: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول يوم من رجب إليها ورجع في سلخ شوال. وقيل: في شهر رمضان. وقال الداودي: هي آخر غزواته، لم يقدر أحد أن يتخلف عنها، وكانت في شدة الحر وإقبال الثمار، ولم يكن فيها قتال ولم تكن غزوة إلا ورى النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا غزوة تبوك، ومكرت طائفة من المنافقين في هذه الغزوة برسول الله، صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يلقوه من العقبة فنزل فيهم ما في سورة براءة. قوله: (وادي القرى)، ذكر السمعاني أنها مدينة قديمة بالحجاز مما يلي الشام، وذكر ابن قرقول، أنها من أعمال المدينة، وهذا قريب. قوله: (إذا امرأة في حديقة)، قال ابن مالك في (الشواهد): لا يمتنع الابتداء بالنكرة المحضة على الإطلاق، بل إذا لم تحصل فائدة نحو: رجل يتكلم، إذ لا تخلو الدنيا من رجل يتكلم، فلو اقترن بالنكرة قرينة تتحصل بها الفائدة جاز الابتداء بها، ومن تلك القرائن الاعتماد على: إذا، المفاجأة نحو: انطلقت فإذا سبع في الطريق، والحديقة، بفتح الحاء المهملة، قال ابن سيده: هي من الرياض كل أرض استدارت. وقيل: الحديقة كل أرض ذات شجرة بثمر ونخل. وقيل: الحديقة البستان والحائط وخص بعضهم به الجنة من النخل والعنب، وقيل: الحديقة حفرة تكون في الوادي تحبس الماء في الوادي، وإن لم يكن الماء في بطنه فهو حديقة، والحديقة أعمق من الغدير، والحديقة القطعة من الزرع من كراع، وكله في معنى الاستدارة. وفي (الغريبين): يقال للقطعة من النخل: حديقة. قوله: (اخرصوا) بضم الراء زاد سليمان: (فخرصنا). قوله: (عشرة أوسق) على وزن أفعل، بضم العين: جمع وسق بفتح الواو وهو ستون صاعا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلا عند أهل العراق، على اختلافهم في
65

مقدار الصاع والمد. قوله: (احصى)، بفتح الهمزة من الإحصاء وهو العد، ومعناه: احفظي عدد كيلها. وفي رواية سليمان: (إحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله تعالى). وأصل الإحصاء العد بالحصى لأنهم كانوا لا يحسنون الكتابة، فكانوا يضبطون العدد بالحصى. قوله: (أما إنها) أما، بفتح الهمزة بالتخفيف، وهي حرف استفتاح بمنزلة ألا، ويكون بمعنى: حقا. قوله: (ستهب الليلة)، زاد سليمان: (عليكم)، وستهب، بضم الهاء والسين فيه علامة الاستقبال، وأصله من: هب يهب، ككب يكب، وهذا الباب إذا كان متعديا يكون عين الفعل فيه مضموما إلا: حبه يحبه، فإنه مكسور. وأحرف نادرة جاء فيها الوجهان إذا كان لازما مثل: ضل يضل. قوله: (فليعقله) أي: يشده بالعقال، وهو الحبل، وفي رواية سليمان: (فليشد عقاله)، وفي رواية ابن إسحاق في (المغازي): عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عباس بن سهل: (ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له). قوله: (بجبل طي)، وفي رواية الكشميهني: (بجبلي طي)، وفي رواية: (فحملت الريح حتى ألقته بجبلي طيء)، وفي رواية الإسماعيلي من طريق عفان عن وهيب: (فلم يقم فيها أحد غير رجلين ألقتهما بجبلي طيء)، وفيه نظر تبينه رواية ابن إسحاق، ولفظه: (ففعل الناس ما أمرهم إلا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعى الذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قدم من تبوك). وأما جبلا طيء فقد ذكر الكلبي في كتابه (أسماء البلدان) أن سلمى بنت حام بن حمى بن برارة من بني عمليق كانت لها حاضنة يقال لها العوجاء، وكانت الرسول بينها وبين أجأ بن عبد الحي من العماليق، فعشقها فهرب بها وبحاضنتها إلى موضع جبل طييء، وبالجبلين قوم من عاد، وكان لسلمى أخوة فجاؤوا في طلبها فلحقوهم بموضع الجبلين، فأخذوا سلمى فنزعوا عينها ووضعوها على الجبل، وكتف أجأ، وكان
أول من كتف ووضع على الجبل الآخر، فسمي بها الجبلان، أجأ وسلمى. وقال البكري: أجأ، بفتح أوله وثانيه على وزن فعل يهمز ولا يهمز ويذكر ويؤنث، وهو مقصور في كلا الوجهين من همزه وترك همزه. وقال بعضهم: ويقال: إن الجبلين سميا باسم رجل وامرأة من العماليق، قلت: الكلبي قد سماهما كما ذكرنا. قوله: (ملك أيلة)، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وباللام: اسم بلدة على ساحل البحر آخر الحجاز وأول الشام. قلت: أيلة على وزن: فعلة، مدينة على شاطىء البحر في منصف ما بين مصر ومكة، شرفها الله تعالى، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد روى أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر. وفي (التلويح): وملك أيلة اسمه يوحنا بن روبة، وفي رواية سليمان عند مسلم: (وجاء رسول ابن العلما صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء). قلت: يوحنا، بضم الياء آخر الحروف وسكون الواو وفتح الحاء المهملة وتشديد النون مقصور. وروبة، بضم الراء وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء، والظاهر أن علما اسم يوحنا، واسم البغلة: دلدل. قوله: (وكتب له ببحرهم)، أي: ببلدهم، والمراد بأهل بحرهم لأنهم كانوا سكانا بساحل البحر، ويروى: (ببحرتهم)، أي: ببلدتهم، وقيل: البحرة الأرض، كان، صلى الله عليه وسلم، أقطع هذا الملك من بلاده قطائع، وفوض إليه حكومتها، وذكر ابن إسحاق الكتاب، وهو بعد البسملة: (هذه أمنة من الله ومن محمد النبي رسول الله ليوحنا بن روبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله، ومحمد النبي)، وساق بقية الكتاب. قوله: (كم جاء حديقتك) أي: قدر ثمر حديقتك؟ وفي رواية مسلم: (فسأل المرأة عن حديقتها: كم بلغ ثمرها؟). قوله: (قالت عشرة أوسق)، بنزع الخافض، أي جاء بمقدار عشرة أوسق، أو نصب على الحال، ويجوز أن يعطى لقوله: جاء، حكم الأفعال الناقصة، فيكون عشرة خبرا له، والتقدير: جاءت عشرة أوسق. قوله: (خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم)، خرص، مصدر بالنصب على أنه بدل من قوله: (عشرة أوسق)، لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد خرصها عشرة أوسق لما جاء وادي القرى، أو عطف بيان لعشرة، ويجوز الرفع في عشرة وفي خرص، والتقدير: الحاصل عشرة أوسق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز الرفع في: خرص، وحده على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: العشرة خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فلما قال ابن بكار) كلمة: فلما، مقول ابن بكار، وهو سهل
66

شيخ البخاري، ولفظ ابن بكار مقول البخاري. و: كلمة، بالنصب مقول ابن بكار، معناها: أي معنى هذه الكلمة أشرف أي النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة معناه: قرب منها واطلع إليها، وكأن البخاري شك في هذه اللفظة، فقال هذا. قوله: (قال هذه طابة) جواب لما، أي: قال صلى الله عليه وسلم وأشار إلى المدينة بقوله: (هذه طابة)، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، ومعناها الطيبة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم وكان اسمها يثرب. قوله: (فلما رأى أحدا) أي: الجبل المسمى بأحد. قوله: (يحبنا ونحبه)، يعني: أهل الجبل، وهم الأنصار لأنه لهم، فيكون مجازا كما في قوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 28). ولا منع من حقيقته فلا حاجة إلى إضمار فيه، وقد ثبت (أنه ارتج تحته فقال له: إثبت، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان). وحن الجذع اليابس إليه حتى نزل فضمه، وقال: لو لم أضمه لحن إلى يوم القيامة. وكلمه الذئب، وسجد له البعير، وسلم عليه الحجر، وكلمه اللحم المسموم أنه مسموم فلا ينكر حب الجبل له، وحب النبي صلى الله عليه وسلم إياه لأن به قبور الشهداء، ولأنهم لجأوا إليه يوم أحد وامتنعوا. قوله: (ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟) كلمة: ألا، للتنبيه، والخطاب لمن كان معه من الصحابة، ودور جمع: دار، نحو أسد وأسد، ويريد به القبائل الذين يسكنون الدور، يعني: المحال. قوله: (بني النجار)، بفتح النون وتشديد الجيم وبالراء: وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج. قيل: سمي النجار لأنه اختتن بقدوم، وقيل: بل نجر وجه رجل بالقدوم فسمي النجار. قوله: (بني عبد الأشهل)، بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة: ابن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، وهو: النبيت بن مالك بن الأوس، والأوس أحد جذمي الأنصار لأنهم جذمان: الأوس والخزرج، وهما أخوان وأمهما: قبيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة. وقيل: قبيلة بنت كاهل بن عدي بن سعد بن قضاعة. قوله: (بني ساعدة)، ساعدة بن كعب بن الخزرج. قوله: (يعني خيرا)، أي: كان لفظ خيرا محذوفا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه أراده.
قوله: (وقال سليمان بن بلال)، أبو أيوب، ويقال: أبو محمد القرشي التيمي مولى عبد الله بن أبي عتيق، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ويقال: مولى القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وهذا تعليق وصله أبو علي بن خزيمة في (فوائده) قال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن سليمان، أي: ابن بلال، حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال، فذكره، وأوله: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من المدينة أخذ طريق غراب لأنها أقرب طريق إلى المدينة، وترك الأخرى...) فساق الحديث ولم يذكر أوله. قوله: (حدثني عمرو)، هو عمرو بن يحيى المذكور في إسناد الحديث. قوله: (وقال سليمان)، هو ابن بلال المذكور. قوله: (سعيد بن سعيد)، هو الأنصاري أخو يحيى بن سعيد الأنصاري. قوله: (عن عمارة)، بضم العين ابن غزية، بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء آخر الحروف: المازني الأنصاري. قوله: (عن عباس) هو عباس بن سهل وأبوه سهل ابن سعد، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الخرص الذي ذكرنا تفسيره، واختلف العلماء فيه. فذهب الزهري وعطاء والحسن وعمر بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق ومروان والقاسم بن محمد والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد إلى جواز الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو إصلاحها. وقال ابن رشد: جمهور العلماء على إجازة الخرص فيها، ويخلى بينها وبين أهلها يأكلونه رطبا. وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط، وقال الشافعي: إذابدا صلاح ثمار النخل والكرم فقد تعلق وجوب الزكاة بهما ووجب خرصهما للعلم بمقدار زكاتهما، فيخرصهما رطبا. وينظر الخارض كم يصير تمرا، ثم يخبر رب المال فيها، فإن شاء كانت مضمونة في يده وله التصرف فيها، فإذا تصرف فيها ضمنها، ويستفاد بالخرص العلم بقدر الزكاة فيها واستباحة رب المال التصرف في الثمرة، بشرط الضمان. قال الماوردي: وبه قال أبو بكر، وعمر
رضي الله تعالى عنهما. وقال الشافعي: وهو سنة في الرطب والعنب، ولا خرص في الزرع، وهو قول أحمد. وذكر ابن بزيزة، قال الجمهور: يقع الخرص في النخل والكرم.
واختلف مذهب مالك: هل يخرص الزيتون أم لا؟ فيه قولان: الجواز قياسا على الكرم، والمنع لوجهين: الأول: لأن أوراقه تستره. والثاني: أن أهله لا يحتاجون إلى أن يأكلوه رطبا، فلا معنى لخرصه وقد اختلفوا هل هو واجب أو مستحب، فحكى الضميري عن الشافعية وجها بوجوبه، وقال الجمهور: هو مستحب إلا أن تعلق به حق لمحجور مثلا، أو كان شركاؤه غير مؤتمنين، فيجب لحفظ مال الغير. واختلفوا أيضا: هل يختص بالنخل أو يلحق به العنب أو يعم كل ما ينتفع به رطبا وجافا؟ وبالأول قال
67

شريح القاضي وبعض الظاهرية. والثاني: قول الجمهور، وإلى الثالث نحى البخاري، وهل يمضي قول الخارص أو يرجع ما آل إليه الحال بعد الجفاف؟ الأول: قول مالك وطائفة. والثاني: قول الشافعي ومن تبعه. وهل يكفي خارص واحد عارف ثقة أم لا بد من اثنين؟ وهما قولان للشافعي والجمهور على الأول، واختلف أيضا هل هو اعتبار أو تضمين، وهما قولان للشافعي أظهرهما الثاني، وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص.
واختلفوا في الخرص هل هو شهادة أو حكم؟ فإن كان شهادة لم يكتف بخارص واحد، وإن كان حكما اكتفى به، وكذلك اختلفوا في القائف والطبيب يشهد في العيوب، وحاكم الجزاء في الصيد، واختلفوا: هل يحاسب أصحاب الزرع والثمار بما أكلوا قبل التصفية والجذاذ أم لا؟ وكذلك اختلفوا: هل يؤخذ قدر العواري والضيف وما في معناه أم لا؟ واختلفوا أيضا إذا غلط الخارص.
ومحصل الأمر فيه أنه: إن لم يكن من أهل المعرفة بالخرص فالرجوع إلى الخارج لا إلى قوله، وإن كان من أهل المعرفة ثم تبين أنه أخطأ فهل يؤخذ بقوله أو بما تبين؟ فيه خلاف على اختلافهم في المجتهد يخطئ هل ينقض حكمه أم لا؟ قال ابن قدامة: ويلزم الخارص أن يترك الثلث أو الربع في الخرص توسعة على أرباب الأموال، وبه قال إسحاق والليث لحديث سهل بن أبي خيثمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع، رواه الترمذي، واستدل من يرى الخرص في النخل والكرم بما رواه ابن المسيب عن عتاب بن أسيد، قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا)، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب، وقال الماوردي: الدليل على جواز الخرص ورود السنة قولا وفعلا وامتثالا: أما القول فحديث عتاب، وأما الفعل فحديث البخاري في هذا الباب، وأما الامتثال فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له خراصون، كأنه يعني ما رواه أبو داود عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص حين يطيب قبل أن يؤكل. وعن ابن عمر في (صحيح ابن حبان): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلب أهل خيبر على الأرض والزرع والنخل فصالحوه، وفيه: فكان ابن رواحة يأتيهم فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر. وفي (المصنف) بسند صحيح عن جابر قال: خرصها عليهم ابن رواحة يعني: خيبرا أربعين ألف وسق.
واستدل من يرى الخرص مطلقا في النخيل وغيره بما رواه أبو داود من حديث جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر الحديث، وفيه: (فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحرز النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص). الحديث. وبما رواه البيهقي من حديث الصائت بن زبيد عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الخرص، فقال: أثبت لنا النصف وأبق لهم النصف فإنهم يسرفون، ولا تصل إليهم) الحديث.
وقال الشعبي والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: الخرص مكروه. وقال الشعبي: الخرص بدعة. وقال الثوري خرص الثمار لا يجوز. وفي (أحكام ابن بزيزة): قال أبو حنيفة وصاحباه: الخرص باطل. وقال الماوردي: احتج أبو حنيفة بما رواه جابر مرفوعا: (نهى عن الخرص)، وبما رواه جابر بن سمرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع كل ثمرة بخرص)، وبأنه تخمين، وقد يخطئ، ولو جوزنا لجوزنا خرص الزرع، وخرص الثمار بعد جذاذها أقرب إلى الإبصار من خرص ما على الأشحار، فلما لم يجز في القريب لم يجز في البعيد، ولأنه تضمين رب المال بقدر الصدقة، وذلك غير جائز لأنه بيع رطب بتمر، وأنه بيع حاضر بغائب، وأيضا فهو من المزابنة المنهي عنها وهو بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، وهو أيضا من: باب بيع الرطب بالتمر نسيئة، فيدخله المنع بين التفاضل وبين النسيئة. وقالوا: الخرص منسوخ بنسخ الربا. وقال الخطابي: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان يفعل تخويفا للمزارعين لئلا يخونوا، لا ليلزم به الحكم، لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا والقمار ثم تعقبه الخطابي بأن تحريم الربا والميسر متقدم، والخرص عمل به في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات ثم أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا الشعبي، قال: وأما قولهم إنه تخمين وغرور فليس، كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير. قلت: قوله: تحريم الربا والميسر متقدم، يحتاج إلى معرفة التاريخ، وعندنا ما يدل على صحة النسخ
68

وهو ما رواه الطحاوي من حديث جابر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخرص، وقال: أرأيتم إن هلك التمر أيحب أحدكم أن يأكل مال أخيه بالباطل؟) والحظر بعد الإباحة علامة النسخ. وقوله: والخرص عمل به... إلى قوله: إلا الشعبي، مسلم لكنه ليس على الوجه الذي ذكروه، وإنما وجهه أنهم فعلوا ذلك ليعلم مقدار ما في أيدي الناس من الثمار فيؤخذ مثله بقدره في أيام الصرام لا أنهم يملكون شيئا ما يجب لله فيه ببدل لا يزول ذلك البدل. وأما قولهم: إنه تخمين... إلى
آخره، ليس بكلام موجه لأنه لا شك أنه تخمين وليس بتحقيق، وعيان، وكيف يقال له: هو اجتهاد، والمجتهد في الأمور الشرعية قد يخطئ؟ ففي مثل هذا أجدر بالخطأ، ثم الجواب عن حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك معرفة مقدار ما في نخل تلك المرأة خاصة، ثم يأخذ منها الزكاة وقت الصرام على حسب ما تجب فيها، وأيضا فقد خرص حديقتها وأمرها أن تحصي، وليس فيه أنه جعل زكاته في ذمتها وأمرها أن تتصرف في ثمرها كيف شاءت، وإنما كان يفعل ذلك تخويفا لئلا يخونوا، وأن يعرفوا مقدار ما في النخل ليأخذوا الزكاة وقت الصرام هذا معنى الخرص، فأما أنه يلزم به حكم شرعي، فلا.
وأما حديث عتاب بن أسيد، فإن الذي رواه سعيد بن المسيب، فعتاب توفي سنة ثلاث عشرة وسعيد ولد في سنة خمس عشرة، وقيل: سنة عشرين، وقال أبي: علي بن السكن لم يرو هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه غير هذا، وهو من رواية عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح عن ابن شهاب عن سعيد، وكذا رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، وخالفهما صالح بن كيسان فرواه عن الزهري عن سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عتابا، ولم يقل: عن عتاب، وسئل أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان فيما ذكره أبو محمد الرازي عنه، فقالا: هو خطأ. وقال أبو حاتم: الصحيح: عن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم... مرسلا. وقال أبو زرعة: الصحيح عندي: عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم... ولا أعلم أحدا تابع عبد الرحمن بن إسحاق في هذه الرواية. فإن قلت: زعم الدارقطني أن الواقدي رواه عن عبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد عن المسور بن مخرمة عن عتاب، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص أعناب الثقيف كخرص النخل، ثم يؤدى زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا، فهذا ليس فيه انقطاع؟ قلت: سبحان الله، إذا كان الواقدي فيما يحتجون به يسكتون عنه، وإذا كان فيما يحتج به عليهم يشنعون بأنواع الطعن، ومع هذا قال أبو بكر بن العربي: لم يصح حديث سعيد، ولا حديث سهل بن أبي خيثمة، ولا في الخرص حديث صحيح إلا حديث البخاري. قال: ويليه حديث ابن رواحة.
قلت: قد مر الجواب عن حديث البخاري، وأما حديث ابن رواحة الذي رواه أبو داود من حديث عائشة ففي إسناده رجل مجهول، لأن أبا داود قال: حدثنا يحيى بن معين أخبرنا حجاج عن ابن جريج، قال: أخبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت، وهي تذكر شأن خيبر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص النخل حتى يطيب قبل أن يؤكل منه. وأما حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود، وحديث الصلت بن زبيد الذي رواه البيهقي وغيرهما، فداخل تحت قول ابن العربي: ولا في الخرص حديث صحيح، ويقال: إن قصة خيبر مخصوصة لأن الأرض أرضه والعبيد عبيده، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم ما بأيديهم من الثمار فيترك لهم منها قدر نفقاتهم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أقرهم ما أقرهم الله، فلو كان على وجه المساقاة لوجب ضرب الأجل والتقييد بالزمان، لأن الإجارة المجهولة محرمة. وقال الطحاوي: قال الذين لا يرون بالخرص: أن ليس في شيء من الآثار التي وردت فيه أن الثمرة كانت رطبا في وقت ما خرصت، وكيف يجوز أن يكون رطبا حينئذ فيجعل لصاحبها حق الله فيها بكيله ذلك تمرا يكون عليه نسيئه؟ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر كيلا، ونهى عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وقد يجوز أن يصيب الثمرة بعد ذلك آفة فتتلفها، أو نار فتحرقها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها بدلا من حق الله مأخوذا منه بدلا مما لم يسلم له، واعترض عليه بأن القائلين به لا يضمنون أرباب الأموال ما تلف بعد الخرص. قال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ فلا ضمان. قلت: إذا لم يكن ضمان بعد تلف المخروص فلا فائدة في الخرص حينئذ، والأظهر عند الشافعي: أن الخرص تضمين حتى لو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص، فإذا كان نفس الخرص تضمينا ينبغي أن لا يفارق الأمر بين التلف والإتلاف، وقال ابن العربي: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم خرص النخل إلا على اليهود، لأنهم كانوا شركاء وكانوا غير أمناء، وأما المسلمون فلم يخرص عليهم.
69

ومن الذي يستفاد من حديث الباب: ظهور معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الريح التي تهب، وما ذكر في تلك القصة. وفيه: تدريب الأتباع وتعليمهم وأخذ الحذر مما يتوقع الخوف منه. وفيه: فضل المدينة. وفيه: فضل أحد. وفيه: فضل الأنصار، رضي الله تعالى عنهم. وفيه: قبول هدية الكفار. وفيه: جواز الإهداء لملك الكفار وجواز إقطاع أرض لهم. وفيه: أن المخالفة لما قاله الرسول تورث شدة وبلاء.
قال أبو عبد الله كل بستان عليه حائط فهو حديقة وما لم يكن عليه حائط لم يقل حديقة
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، وفي بعض النسخ: قال أبو عبيد الله، هو القاسم بن سلام الإمام المشهور صاحب (الغريب) وقد ذكر هذا فيه، وقد مر الكلام فيه مستوفى عن قريب.
55
((باب العشر فيما يسقى من ماء السماء وبالماء الجاري))
أي: هذا باب في بيان حكم أخذ العشر في الأرض التي تسقى من ماء السماء وهو المطر. قوله: (والماء الجاري) أي: ومن الذي يسقى بالماء الجاري، وإنما اختار لفظ: الماء الجاري، والحال أن المذكور في حديث الباب هو العيون لعمومه وشموله العيون والأنهار، وهذا كما وقع في (سنن أبي داود): (فيما سقت السماء والأنهار والعيون...) الحديث.
ولم ير عمر بن عبد العزيز في العسل شيئا
مطابقته للترجمة من حيث إن العسل فيه جريان، ومن طبعه الانحدار فيناسب الماء من هذه الجهة. وقيل: المناسبة فيه من جهة أن الحديث يدل على أن لا عشر فيه لأنه خص العشر أو نصفه بما يسقى، فأفهم أن ما لا يسقى لا يعشر، وفيه نظر، لأن ما لا يعسر مما لا يسقى كثير، فما وجه ذكر العسل؟ وقيل: إدخاله العسل فيه
للتنبيه على الخلاف فيه، وأنه لا يرى فيه زكاة، وإن كانت النحل تغتذي مما يسقى من السماء. قلت: هذا أبعد من الأول على ما لا يخفى على المتأمل.
وهذا الموضع يحتاج إلى بيان ما ورد فيه من الأخبار، وما ذهب إليه الأئمة، فنقول بحول الله وقوته وتوفيقه.
قال الترمذي: باب ما جاء في زكاة العسل، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري حدثنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي عن صدقة بن عبد الله عن موسى ابن يسار عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في العسل في كل عشرة أزق زق). ثم قال: وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سيارة المنعي، وعبد الله بن عمرو، قال أبو عيسى: حديث ابن عمر في إسناده مقال، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير شيء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في العسل شيء. انتهى. قلت: انفرد الترمذي بحديث ابن عمر هذا، وروى البيهقي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن أن يؤخذ من العسل العشر)، وفي إسناده عبد الله بن المحرر، بتشديد الراء المفتوحة وتكرارها، وهو متروك. قال ابن معين: ليس بثقة، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال الجوزجاني: هالك، وقال ابن حبان: من خيار عباد الله إلا أنه كان يكذب ولا يعلم، ويقلب الأخبار ولا يفهم. وروى أبو داود الطيالسي حديث أبي سيار المنعي، قال: (قلت: يا رسول الله إن لي نخلا! قال: إذن تعشر؟ قلت: إحم لي جبلة، فحماه لي) ورواه البيهقي، وقال: وهذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه، وهو منقطع. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا فقال: حديث مرسل، وإنما قال: مرسل، لأن فيه سليمان بن موسى يروي عن أبي سيارة، وسليمان لم يدركه، ولا أحدا من الصحابة، وأبو سيارة المتعي اسمه: عميرة بن الأعلم، وقيل: عمير بن الأعلم، ذكره أبو عمر في (كتاب الأنساب). وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: جاء أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور بحل له، وكان سأله أن يحمي واديا يقال له: سلبة، فحمى له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك الوادي، فلما ولي عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، يسأله عن ذلك؟ فكتب عمر، رضي الله
70

تعالى عنه: إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من عشور نحله فاحم له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من شاء. وسلبة، بفتح السين المهملة واللام والباء الموحدة، كذا قيده البكري.
وقال شيخنا زين الدين: ووقع في سماعنا من السنن، بسكون اللام، وقال شيخنا أيضا: حكى الترمذي عن أكثر أهل العلم وجوب الزكاة في العسل، وسمى منهم: أحمد وإسحاق، وفيه نظر، فإن الذين لم يقولوا بالوجوب: مالك والشافعي وسفيان الثوري ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأبو بكر بن المنذر وداود، وبه قال من الصحابة: عبد الله بن عمر، ومن التابعين: المغيرة بن حكيم وعمر بن عبد العزيز. وقال: وفرق أبو حنيفة بين أن يكون النحل في أرض العشر وبين أن يكون في أرض الخراج، فإن كان في أرض العشر ففيه الزكاة، وإن كان في أرض الخراج فلا زكاة فيه، قل أو كثر. وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه إذا كان في أرض العشر ففي قليل العسل وكثيره العشر، وحكى عن أبي يوسف ومحمد أنه ليس فيما دون خمسة أوسق من العسل عشر، وحكى ابن حزم عن أبي يوسف أنه إذا بلغ العسل عشرة أرطال ففيه رطل واحد، وكذا ما زاد ففيه العشر، والرطل هو الفلفلي. قال: وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ العسل خمسة أفراق ففيه العشر، وإلا فلا. قال: والفرق ستة وثلاثون رطلا فلفلية. وحكى صاحب (الهداية) عن أبي يوسف: أنه يعتبر فيه القيمة كما هو أصله، وعنه: أنه لا شيء فيه حتى يبلغ عشر قرب، وعنه: خمسة أمناء. قلت: تحقيق مذهبنا فيه أن عند أبي حنيفة: يجب في قليله وكثيره لأنه لا يشترط النصاب في العشر، وعن أبي يوسف: إذا بلغت قيمته خمسة أوساق، وعنه أنه قدره بعشرة أرطال، قال في (المبسوط): وهي رواية الأمالي، وهي: خمسة أمناء. وعنه أنه اعتبر فيه عشر قرب، وعن محمد ثلاث روايات إحداها: خمس قرب، والقربة خمسون منا، ذكره في (الينابيع) وفي (المغني): القربة مائة رطل. والثانية: خمسة أمناء. والثالثة: خمسة أواق. وقال السرخسي: وهي تسعون منا.
واحتجت أصحابنا بما رواه ابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ من العسل العشر، وبرواية أبي داود أيضا عن عمرو بن شعيب، وقد ذكرناه، وبما رواه القرطبي أيضا عنه عمرو بن شعيب عن أبيه عن حده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل من كل عشر قرب قربة من أوسطها. قال: هو حديث حسن. وبما رواه الترمذي أيضا عن ابن عمر، وقد ذكرناه، وبما رواه أبو هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كتب إلى أهل اليمن أن يؤخذ عن العسل العشر، ذكره في (الإمام). فإن قلت: ذكروا عن معاذ، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل عن العسل في اليمن؟ قال: لم أومر فيه بشيء. قلت: لا يلزم من عدم أمر معاذ أن لا يجب فيه العشر، وإثبات أبي هريرة مقدم على نفي أمر معاذ. وبما رواه عبد الرحمن بن أبي ذئاب عن أبيه: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، (أمره في العسل بالعشر)، رواه الأثرم، ورواه الشافعي في (مسنده) والبزار والطبراني والبيهقي. قال الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذئاب عن أبيه (عن سعد بن أبي ذئاب، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعملني عليهم، ثم استعملني أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: وكان سعد من أهل السراة، قال: تكلمت قومي في العسل فقلت زكاة فإنه لا خير في ثمرة لا تزكى، فقالوا: كم؟ قال: قلت: العشر، فأخذت منهم العشر وأتيت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فأخبرته بما كان، قال: فقبضه عمر فباعه ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين). وبما رواه عطاء الخراساني عن سفيان بن عبد الله الثقفي، قال لعمر: إن عندنا واديا فيه عسل كثير، فقال: عليهم في كل عشرة أفراق فرق، ذكره حميد بن زنجويه في (كتاب الأموال) وقال الأثرم: قلت لأحمد: أخذ عمر العشر من العسل كان على أنهم تطوعوا به، قال: لا بل أخذه منهم حقا. فإن قلت: فقد روي عن عبد الله بن عمر العمري عن
نافع عن ابن عمر، قال: ليس في الخيل ولا في الرقيق ولا في العسل صدقة؟ قلت: العمري ضعيف لا يحتج به. فإن قلت: قال البخاري: ليس في زكاة العسل حديث يصح؟ قلت: هذا لا يقدح ما لم يبين علة الحديث والقادح فيه، وقد رواه جماعة منهم أبو داود، ولم يتكلم عليه، فأقل حاله أن يكون حسنا وهو حجة، ولا يلزمنا قول البخاري لأن الصحيح ليس موقوفا عليه، وكم من حديث صحيح
71

لم يصححه البخاري، ولأنه لا يلزم من كونه غير صحيح أن لا يحتج به، فإن الحسن، وإن لم يبلغ درجة الصحيح، فهو يحتج به، ولأن النحل تتناول من الأنوار والثمار وفيها العشر.
3841 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر.
مطابقته للترجمة في قوله: (فيما سقت السماء)، ورجاله قد تكرر ذكرهم، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري يروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
والخديث أخرجه أبو داود في الزكاة أيضا عن هارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن الحسن الترمذي عن سعيد بن أبي مريم به. وأخرجه النسائي وابن ماجة جميعا فيه عن هارون بن سعيد به.
ذكر معناه: قوله: (فيما سقت السماء) أي: المطر لأنه ينزل منه قال تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 84). وهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال. قوله: (أو كان عثريا)، بفتح العين المهملة والثاء المثلثة المخففة وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف: وهو ما يشرب بعروقه من غير سقي، قاله الخطابي، وقال الداودي: وهو ما يسيل إليه ماء المطر وتحمله إليه الأنهار، سمي بذلك لأنه يكسر حوله الأرض ويعثر جريه إلى أصول النخل بتراب هناك يرتفع، وقال صاحب (المطالع): قيل له ذلك لأنه يصنع له شبه الساقية يجتمع فيه الماء من المطر إلى أصوله، ويسمى ذلك: العاثور، وفي (المغيث) لأبي موسى: هو الذي يشرب بعروقه من ماء يجتمع في حفير، وسمي به لأن الماشي يتعثر فيه، وقال ابن فارس: العثري ما سقي من النخل سيحا، وكذا قاله الجوهري وصاحب (الجامع) و (المنتهى) ولفظ الحديث يرد عليهم لأنه عطف العثري على قوله: (فيما سقت السماء والعيون) والمعطوف غير المعطوف عليه، والصواب ما قاله الخطابي. وقال الهجري: يجوز فيه تشديد الثاء المثلثة، وحكاه ابن سيده في (المحكم) عن ابن الأعرابي، ورده ثعلب. وفي (المثنى والمثلث) لابن عديس: فيه ضم العين وفتحها وإسكان الثاء. قلت: هو منسوب إلى العثر، بسكون الثاء، لكن الحركة من تغييرات النسب. قوله: (العشر) مبتدأ وخبره هو قوله: (فيما سقت السماء)، تقديره: العشر واجب، أو: يجب فيما سقت السماء. قوله: (أو كان) الضمير فيه يرجع إلى لفظ: مسقي مقدر تقديره: أو كان المسقي عثريا، ودل على ذلك قوله: (فيما سقت). قوله: (وفيما سقي بالنضح) تقديره: وفيما سقي بالنضح (نصف العشر) أي: يجب أو واجب، و: النضح، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة وفي آخره حاء مهملة: وهو ما سقي بالسواني، وقال بعضهم: النضح ما سقي بالدوالي والرشاء، والنواضح الإبل التي يستقى عليها، وأحدها: ناضح، والأنثى: ناضحة، وقال بعضهم: بالنضح أي: بالسانية، وهي رواية مسلم. قلت: رواية مسلم عن جابر، رضي الله تعالى عنه، ولفظه: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر). وأما حديث ابن عمر فرواه أبو داود، ولفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر، وفيما سقي بالسواني والنضح نصف العشر). قوله: (أو كان بعلا)، بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وفي آخره لام: وهو ما يشرب من النخل بعروقه من الأرض من غير سقي سماء ولا غيرها والسواني: جمع سانية، وهي الناقة التي يستقى عليها. وقيل: السانية الدلو العظيمة، والأنهار التي تستقى بها، والنضح قد مر تفسيره. فإن قلت: قد علمت أن النضح هو السانية، فكيف وجه رواية أبي داود بالسواني أو النضح؟ قلت: الظاهر أن هذا شك من الراوي بين السواني والنضح، أراد أن لفظ الحديث أما فيما سقي بالسواني، وأما فيما سقي بالنضح، وأما العشر، فقد قال ابن بزيزة في (شرح الأحكام): وهو بضم العين والشين وسكونها، ومنهم من يقول: العشور، بفتح العين وضمها أيضا. وقال القرطبي: وأكثر الرواة بفتح العين، وهو اسم للقدر المخرج. وقال الطبري: العشر، بضم العين وسكون الشين، ويجمع على: عشور، قال: والحكمة في فرض العشر أنه يكتب بعشرة أمثاله، فكأن المخرج للعشر تصدق بكل ماله. فافهم.
72

ذكر ما يستفاد منه: بظاهر الحديث المذكور أخذ أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيه مقدارا، فدل على وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض قل أو كثر. فإن قلت: هذا الحديث مجمل يفسره قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). قلت: لا نسلم أنه مجمل، فإن المجمل ما لا يعرف المراد بصيغته لا بالتأمل ولا بغيره، وهذا الحديث عام فإن كلمة: ما، من ألفاظ العموم. فإن قلت: سلمنا أنه عام، ولكن الحديث المذكور خصصه؟ قلت: إجراء العام على عمومه أولى من التخصيص لأن فيه إخراج بعض ما تناوله العام أن يكون مرادا، ولو صلح هذا الحديث أن يكون مخصصا أو مفسرا لحديث الباب لصلح حديث ما عز أن يكون مخصصا أو مفسرا لحديث أنيس في الإقرار بالزنا، فحينئذ يحمل قوله صلى الله عليه وسلم على أن المراد بالصدقة هي الزكاة، وهي زكاة التجارة بقرينة عطفها على زكاة الإبل والورق، إذ الواجب في العروض والنقود واحد، وهو الزكاة. وكانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الخمسة أوساق كانت مائتي درهم في ذلك الوقت غالبا، فأدير الحكم على ذلك.
واعلم أن العلماء اختلفوا في هذا الباب على تسعة أقوال:
الأول: قول أبي حنيفة، وقد ذكرناه، واحتج بظاهر الحديث كما ذكرنا، وبعموم قوله تعالى: * (ومما أخرجنا لكم من الأرض) * (البقرة: 762). وقوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). واستثنى أبو حنيفة من ذلك: الحطب والقصب والحشيش والتبن والسعف، وهذا لا خلاف فيه لأحد، وذكر في (المبسوط): الطرفاء عوض الحطب. والسعف: ورق جريد النخل الذي تصنع منه المراوح ونحوها، والمراد بالقصب الفارسي، وهو يدخل بالأبنية وتتخذ منه الأقلام: قيل: هذا إذا كان القصب نابتا في الأرض، وأما إذا اتخذ الأرض مقبة فإنه يجب فيه العشر، ذكره الاسبيجابي والمرغيناني وغيرهما، ويجب في قصب السكر والذريرة وقوائم الخلاف، بتخفيف اللام، وقال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قاله غير نعمان. وقال السروجي: لقد كذب في ذلك، فإنه لا يخفى عنه من قاله غيره، وإنما عصبيته تحمله على ارتكاب مثله قلت: قول أبي حنيفة مذهب إبراهيم النخعي ومجاهد وحماد وزفر وعمر بن عبد العزيز، ذكره أبو عمر، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول داود وأصحابه فيما لا يوسق، وحكاه يحيى بن آدم بسند جيد عن عطاء: ما أخرجته الأرض فيه العشر أو نصف العشر، وقاله أيضا حفص بن غياث عن أشعث عن الحكم، وعن أبي بردة: في الرطبة صدقة، وقال بعضهم: في دستجة من بقل، وعن الزهري: ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت والزيتون فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه، رواه ابن المبارك عن يونس عن الزهري، وقال ابن بطال: وقول أبي حنيفة خلاف السنة، والعلماء، قال: وقد تناقض فيها لأنه استعمل المجمل والمفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: (في الرقة ربع العشر)، مع قوله: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة)، ولم يستعمله في حديث الباب مع ما بعده، وكان يلزمه القول به. انتهى. قلت: قوله: خلاف السنة، باطل لأنه احتج فيما ذهب إليه بحديث الباب، كما ذكرنا، والذي ذهب إليه ابن بطال خلاف القرآن، لأن عموم قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). يتناول القليل والكثير، كما ذكرناه. وقوله: وخلاف العلماء، أيضا باطل، لأن قول أبي حنيفة هو قول من ذكرناهم الآن، فكيف يقول بترك الأدب خلاف العلماء؟ وقوله: وقد تناقض، غير صحيح، لأن من نقل ذلك من أصحابه لم يقل أحد منهم إنه استعمل المجمل والمفسر، وأصحابه أدرى بما قاله وبما ذهب إليه، ولما نقل صاحب (التوضيح) ما قاله ابن بطال أظهر النشاط بذلك، وقال: وفي حديث جابر: لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق، فإذا بلغها ففيه الزكاة، ذكرها ابن التين، وقال: هي زيادة من ثقة فقبلت، وفي مسلم من حديث جابر: (وليس فيما دون خمسة أوساق من التمر صدقة)، وفي رواية من حديث أبي سعيد: (ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة). وفي رواية: (ليس في حب ولا تمر صدقة)، حتى يبلغ خمسة أوساق. انتهى. قلت: قد ذكرنا أن المراد من الصدقة في هذه الأحاديث زكاة التجارة، وكذلك المراد من قوله: (لا زكاة في شيء)، أي: لا زكاة في التجارة، ونحن نقول به حينئذ، وقال ابن التين: روى أبان بن أبي عياش عن أنس مرفوعا: (فيما سقت السماء العشر في قليله وكثيره)، قال: ورواه أبو مطيع البلخي وهو مجهول عند أهل النقل، والمروي عن أبي حنيفة عن أبان عن رجل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضعيف عن رجل مجهول. وقال النووي: لا خلاف بين المسلمين أنه لا زكاة فيما دون خمسة أوسق إلا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف: إنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره، وهذا مذهب باطل، منابذ لصريح
73

الأحاديث الصحيحة. قلت: ليت شعري كيف تلفظ بهذا الكلام مع شهرته بالزهد والورع؟ وعجبي كل العجب يقول هذا مع اطلاعه على مستنداته من الكتاب والسنة، ولا ينفرد حطه على أبي حنيفة وحده، بل على كل من كان مذهبه مثل مذهبه.
القول الثاني: يجب فيما له ثمرة باقية إذا بلغ خمسة أوسق، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولا يجب في الخضراوات ولا في البطيخ والخيار والقثاء. ونص محمد على أنه: لا عشر في السفرجل، ولا في التين والتفاح والكمثري والخوخ والمشمش والإجاص، وفي الينابيع، ويجب في كل ثمرة تبقى سنة كالجوز واللوز والبندق والفستق. وفي (المبسوط): وأوجبا في الجوز واللوز وفي الفستق على قول أبي يوسف، وعلى قول محمد: لا يجب، وفي المرغيناني عن محمد: أنه لا عشر في التين والبندق والتوت والموز والخرنوب، وعنه: يجب في التين. قال الكرخي: هو الصحيح عنه، ولا في الإهليلجة وسائر الأدوية والسدر والأشنان، ويجب فيما يجيء منه ما يبقى سنة: كالعنب والرطب، وعن محمد: إن كان العنب لا يجيء منه الزبيب لرقته لا يجب فيه العشر، ولا يجب في السعتر والصنوبر والحلبة، وعن أبي يوسف أنه أوجب في الحناء، وقال محمد: لا يجب فيه كالرياحين، وعن محمد روايتان في الثوم والبصل، ولا عشر في التفاح والخوخ الذي يشق وييبس، ولا شيء في بذر البطيخ والقثاء والخيار والرطبة، وكل بذر لا يصلح إلا للزراعة، ذكره القدوري. ويجب في بذر القنب دون عيدانه، ويجب في الكمون والكراويا والخردل لأن ذلك من جملة الحبوب. وفي (المحيط): ولا عشر فيما هو تابع للأرض: كالنخل والأشجار، وأصله أن كل شيء يدخل في بيع الأرض تبعا فهو كالجزء منها فلا شيء فيه، وما لا يدخل إلا بالشرط يجب فيه: كالثمر والحبوب.
القول الثالث: يجب فيما يدخر ويقتات كالحنطة والشعير والدخن والذرة والأرز والعدس والحمص والباقلاء والجلبان والماش واللوبيا ونحوها، وهو قول الشافعي. وفي (شرح الترمذي) أطلق القول في وجوب الزكاة في كل شيء يجري فيه الوساق والصاع، ولا شك أنه أراد مما يزرع ويستنبت وإلا فلا يجري فيه الوسق والصاع، ولا زكاة فيه. وإنما اختلف العلماء في أشياء مما يستنبت، فمذهب الشافعي، كما اتفق عليه الأصحاب: أن يكون قوتا في حال الاختيار، وأن يكون من جنس ما ينبته الآدميون، وشرط العراقيون أن يدخر وييبس. قال الرافعي: لا حاجة إليهما لأنهما ملازمان لكل مقتات مستنبت وهو الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والجاورش، بالجيم وفتح الواو، وفسره بأنه: حب صغار من جنس الذرة، وكذلك القطنية، بكسر القاف وجمعها القطاني، وهي العدس والحمص والماش والباقلاء، وهو الفول واللوبيا والهرطمان وهو الجلبان، ويقال له الخلر، بضم الخاء المعجمة وتشديد اللام وفتحها وآخره راء، لأنها تصلح للاقتيات وتدخر للأكل، واحترز الأصحاب بقولهم: في حال الاختيار عن حب الحنظل وعن القت، وبه مثله الشافعي، وفسره المزني وغيره: بحب الغاسول، وهو الأشنان وسائر بذور البراري،
قالوا: ولا تجب الزكاة في الثفاء، وهو حب الرشاد، ولا في الترمس والسمسم والكمون والكراويا والكزبرة وبذر القطونا وبذر الكتاب وبذر الفجل وما أشبه ذلك من البذورات، ولا شيء في هذه عندنا بلا خلاف، وإن جرى فيه الكيل بالصاع ونحوه، إلا ما حكاه العراقيون أن في الترمس قولا قديما في وجوب الزكاة فيه، وإلا ما حكاه الرافعي عن ابن كج من حكاية قول قديم في بذر الفجل، ولا زكاة عند الشافعي في التين والتفاح والسفرجل والرمان والخوخ والجوز واللوز والموز وسائر الثمار سوى الرطب والعنب، ولا في الزيتون في الجديد.
وفي الورس في الجديد وواجبها في القديم من غير شرط النصاب في قليله وكثيره ولا تجب في الترمس في الجديد.
القول الرابع: قول مالك مثل قول الشافعي، وزاد عليه: وجوب العشر في الترمس والسمسم والزيتون، وأوجب المالكية في غير رواية ابن القاسم في بذر الكتاب وبذر السلجم لعموم نفعهما بمصر والعراق، مع أنه لا يؤكل بذرهما.
القول الخامس: قول أحمد: يجب فيما له البقاء واليبس والكيل من الحبوب والثمار، سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والسلت وهو نوع من الشعير. وفي المغرب: شعير لا قشر له يكون بالغور والحجاز، والأرز والدهن والعلس وهو نوع من الحنطة يزعم أهله أنه إذا أخرج من قشره لا يبقى بقاء غيره من الحنطة، ويكون منه حبتان وثلاث في كمام واحد، وهو طعام أهل صنعاء وفي المغرب هو بفتحتين حية سوداء إذا أجدب الناس خلطوها وأكلوها. وقال ابن القاسم المالكي: ليس هو من نوع الحنطة، وتجب في الأرز والذرة وفي القطنيات كالعدس والباقلاء والحمص والماش، وفي الإبازير كالكزبرة والكمون، وفي البذور كبذر
74

الكتان والقثاء والخيار ونحوها، وفي البقول كالرشال والفجل، وفي القرطم والترمس والسمسم، وتجب عنده في التمر والزبيب واللوز والبندق والفستق، دون الجوز والتين والمشمش والتفاح والكمثري والخوخ والإجاص، دون القثاء والخيار والباذنجان وألقت والجزر، ولا تجب في ورق السدر والخطمي والأشنان والآس، ولا في الأزهار كالزعفران والعصفر، ولا في القطن.
القول السادس: تجب في الحبوب والبقول والثمار، وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة.
القول السابع: ليس في شيء من الزرع زكاة إلا في التمر والزبيب والحنطة والشعير، حكاه العبدري عن الثوري وابن أبي ليلى، وحكاه ابن العزى عن الأوزاعي وزاد: الزيتون.
القول الثامن: يؤخذ من الخضراوات إذا بلغت مائتي درهم، وهو قول الحسن والزهري.
القول التاسع: أن ما يوسق يجب في خمسة أوسق منه، وما لا يوسق يجب في قليله وكثيره، وهو قول داود الظاهري وأصحابه.
قال أبو عبد الله هاذا تفسير الأول لأنه لم يوقت في الأول يعني حديث ابن عمر وفيما سقت السماء العشر وبين في هاذا ووقت والزيادة مقبولة والمفسر يقضي على المبهم إذا رواه أهل الثبت كما روي الفضل ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في الكعبة وقال بلال قد صلى فأخذ بقول بلال وترك قول الفضل.
هذا كله وقع في رواية أبي ذر ههنا عقيب حديث ابن عمر المذكور، وفي نسخة الفربري وقع في الباب الذي بعد هذا الباب بعد حديث أبي سعيد، وكذا وقع عند الإسماعيلي، وجزم أبو علي الصدفي بأن ذكره عقيب حديث ابن عمر من قبل بعض نساخ الكتاب. قلت: وكذا قال التيمي، ونسبه إلى غلط من الكاتب، ولا احتياج إلى هذه المشاححة، ولكل ذلك وجه لا يخفى، ولكن رجح بعضهم كونه بعد حديث أبي سعيد لأنه هو المفسر لحديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، ولا حاجة إلى هذا الترجيح أيضا لأنا نمنع الإجمال والتفسير ههنا، وقد ذكرناه عن قريب.
قوله: (قال أبو عبد الله)، هو البخاري نفسه. قوله: (هذا تفسير الأول)، أشار بهذا إلى حديث أبي سعيد الذي يأتي وأراد بالأول حديث ابن عمر، فهذا يدل على أن هذا الكلام من البخاري إنما كان بعد حديث أبي سعيد، وهو ظاهر. قوله: (لأنه لم يوقت في الأول) أي: لم يعين شيئا في حديث ابن عمر، وهو قوله: (فيما سقت السماء العشر). قوله: (وبين في هذا) أي: في حديث أبي سعيد، ووقت أي: عين، وهو قوله: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، وقد عين فيه بأن النصاب خمسة أوسق. قوله: (والزيادة) يعني: تعيين النصاب (مقبولة) يعني: من الثقة. قوله: (والمفسر)، بفتح السين يعني: المبين، وهو الخاص (يقضي) أي: يحكم (على المبهم) أي العام، وسمى البخاري الخاص بحسب تصرفه مفسرا لوضوح المراد منه، وسمى العام مبهما لاحتمال إرادة الكل والبعض منه، وغرضه أن حديث ابن عمر عام للنصاب، ودونه وحديث أبي سعيد، وهو: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)، خاص بقدر النصاب، والخاص والعام إذا تعارضا يخصص الخاص العام، وهو معنى القضاء عليه، وهذا حاصل ما قاله البخاري. قلت: قد ذكرنا عن قريب أن إجراء العام على عمومه أولى من التخصيص، فارجع إليه.
والتحقيق في هذا المقام أنه: إذا ورد حديثان أحدهما عام والآخر خاص فإن علم تقديم العام على الخاص خص العام بالخاص، كمن يقول لعبده: لا تعط لأحد شيئا، ثم قال له: أعط زيدا درهما، وإن علم تقديم الخاص على العام ينسخ العام للخاص، كمن يقول لعبده: أعط زيدا درهما، ثم قال له: لا تعط أحدا شيئا، فإن هذا ناسخ للأول، هذا مذهب عيسى بن أبان، وهو المأخوذ به، وإذا لم يعلم فإن العام يجعل آخرا لما فيه من الاحتياط، وهنا لم يعلم التاريخ فيجعل العام آخرا احتياطا، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى الصدقة ولم ينف العشر، وقد كان في المال صدقات نسختها آية الزكاة، والعشر ليس بصدقة مطلقة إذ فيه معنى المؤونة، حتى وجب في أرض الوقف ولا تجب الزكاة في الوقف. وقال الكرماني: مذهب الحنفي أن الخاص المتقدم منسوخ بالعام المتأخر، ولعله ضبط التاريخ وعلم تقديم حديث أبي سعيد، فلهذا لا يشترط النصاب فيه. قلت: فيلزم عليه أن يقول بمثله في الورق، إذ مر في: باب زكاة الغنم، في الرقة ربع العشر، انتهى. قلت: لا يلزمه ذلك لأنه لم يدع
ضبط
75

التاريخ، ولا تقدم حديث أبي سعيد، وإنما الأصل عنده التوقف إذا جهل التاريخ والرجوع إلى غيرهما، أو يرجح أحدهما بدليل، ومن جملة ترجيح العام هنا هو أنه إذا خص لزم إخراج بعض ما تناوله أن يكون مرادا، ومنها الاحتياط في جعله آخرا كما ذكرنا، وقال ابن بطال: ناقض أبو حنيفة حيث استعمل المجمل والمفسر في مسألة الرقة، ولم يستعمل في هذه المسألة، كما أنه أوجب الزكاة في العسل وليس فيه خبر ولا إجماع. قلت: كيف يستعمل المجمل والمفسر في هذه المسألة وهو غير قائل به هنا لعدم الإجمال فيه، ومن أين الإجمال ودلالته ظاهرة، لأن دلالته على إفراده كدلالة الخاص على فرد واحد، فلا يحتاج إلى التفسير، ولفظ الصدقة في الزكاة أظهر من العشر فصرفه إليها أولى، ولا كذلك صدقة الرقة. ولم يفهم ابن بطال الفرق بينهما، وكيف يقول ابن بطال: كما أنه أوجب الزكاة وليس فيه خبر؟ وقد ذكرنا عن الترمذي حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، (في العسل في كل عشرة أزق زق)، وذكرنا فيما مضى عن قريب جملة أحاديث تدل على الوجوب، وقوله: ولا إجماع، كلام واه، لأن المجتهد لا يرى بالوجوب في شيء إلا إذا كان فيه إجماع، وهذا لم يقل به أحد. قوله: (أهل الثبت)، بتحريك الباء الموحدة أي: أهل الثبات. قوله: (كما روى الفضل بن عباس) أي: عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكره صورة اجتماع النفي والإثبات، لأن الفضل ينفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة لما حج عام الفتح، وبلال يثبت ذلك، فأخذ بقول بلال لكونه يثبت أمرا، وترك قول الفضل لأنه ينفيه، والأصل في ذلك أن النفي متى عرف بدليله يعارض المثبت وإلا فلا، وههنا لم يعرف النفي بدليل، فقدم عليه الإثبات، وذكر بعض أصحابنا هذه الصورة بخلاف ما قاله البخاري، وهي: أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة، ورجحنا روايته على رواية بلال أنه: لم يصل في جوف الكعبة عام الفتح في تلك الأيام.
65
((باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، أي: زكاة.
4841 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى قال حدثنا مالك قال حدثني محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمان بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس فيما أقل من خمسة أوسق صدقة ولا في أقل من خمسة من الإبل الذود صدقة ولا في أقل من خمس أواق من الورق صدقة.
مطابقته للترجمة من حيث إن الترجمة الجزء الأول من الحديث، وقد مضى الحديث في: باب زكاة الورق، رواه عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، قال: سمعت أبا سعيد الخدري... إلى آخره، ولكن في المتن اختلاف في التقديم والتأخير. وأخرجه أيضا في: باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، رواه عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن محمد بن عبد الرحمن إلى آخره، وههنا رواه عن مسدد عن يحيى القطان عن مالك.
قوله: (فيما أقل)، كلمة: ما، زائدة و: أقل، في محل الجر، وقال ابن بطال: الأوسق الخمسة هي المقدار المأخوذ منه، وأوجب أبو حنيفة في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، فإنه خالف الإجماع. قلت: ليت شعري كيف يتلفظ بهذا الكلام؟ ومن أين الإجماع حتى خالفه أبو حنيفة؟ وقد ذكرنا عن جماعة ذهبوا إلى ما قاله أبو حنيفة، قال: وكذلك أوجبها في البقول والرياحين وما لا يوسق كالرمان، والجمهور على خلافه. قلت: أوجب أبو حنيفة في البقول، يعني: الخضروات بعموم حديث ابن عمر المذكور عن قريب، وبعموم حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر)، رواه مسلم والنسائي وأبو داود وأحمد، فدل عمومها على وجوب العشر في جميع ما أخرجته الأرض من غير قيد وإخراج لبعض الخارج عن الوجوب وإخلائه عن حقوق الفقراء، وقال ابن العربي في (عارضة الأحوذي): وأقوى المذاهب في المسألة
76

مذهب أبي حنيفة دليلا، وأحفظها للمساكين، وأولاها قياما بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث، وقد رام الجويني أن يخرج عموم الحديث من يدي أبي حنيفة بأن قال: إن هذا الحديث لم يأت للعموم، وإنما جاء لتفصيل الفرق بين ما يقل ويكثر مؤونته وأبدى، في ذلك وأعاد، وليس بممتنع أن يقتضي الحديث الوجهين: العموم والتفصيل، وذلك أكمل في الدليل وأصح في التأويل. انتهى. وقال القرافي في (الذخيرة المالكية) والظاهر أنه نقله من كلام الجويني: إن الكلام إذا سيق لمعنى لا يحتج به في غيره، وهذه قاعدة أصولية، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الماء من الماء)، لا يستدل به على جواز الماء المستعمل، لأنه لم يرد إلا لبيان حصر الوجوب للغسل، فكذا قوله: (فيما سقت السماء العشر) ورد لبيان جزء الواجب لا لبيان محل الوجوب، فلا يستدل به عليه. انتهى. قلت: النص اشتمل على جملتين: شرطية وجزائية، فالجملة الشرطية لعموم محل الواجب، فإلغاء عمومها باطل، والجملة الجزائية لبيان مقدار الواجب، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا فله سلبه)، فالجملة الشرطية وهي الأولى وردت لبيان سبب استحقاق القاتل، وعموم من فعل ذلك. والجملة الثانية: الجزائية، وردت لبيان ما يستحقه، وهو سلب المقتول، واختصاصه به، فلا يجوز إبطال مدلول الشرط كما لا يجوز إبطال مدلول الجزاء، وليس هذا نظير ما استشهد به القرافي، وقد يساق الكلام لأمر وله تعلق بغيره وإيماء به وإشارة إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن) * (البقرة: 332). سيقت الآية لبيان وجوب نفقة المطلقات وكسوتهن إذا أرضعن أولادهن، وفيه إشارة إلى أن للأب تأويلا في نفس الولد وماله حتى لا يستوجب العقوبة بوطىء جاريته، ولا بسببه، ذكره السرخسي في (أصوله)، وقاعدة القرافي هذه إن كانت صحيحة أبطلت عليه قاعدة مذهبه ومدركه لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صدقة في حب ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق) سيق لبيان تقدير النصاب، ونفى الوجوب عما دون الخمسة الأوسق، فلا يدل حينئذ على عموم الحب والثمر، وقد قال: هو عام في الحبوب والثمار. فإن قلت: روى
الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضروات وهي: البقول، فقال: ليس فيها شيء! قلت: قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وروى الدارقطني أيضا عن عائشة قالت: جرت السنة من النبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة، وفي سنده صالح بن موسى، ضعفه الدارقطني، وروى الدارقطني أيضا عن جابر، قال: لم يكن المقاثي فيما جاء به معاذ، وليس في المقاثي شيء، وقد تكون عندنا المقثاة تخرج عشرة الآن، فلا يكون فيها شيء، قلت: في سنده عدي بن الفضل، وهو متروك.
قال أبو عبد الله هاذا تفسير الأول إذا قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة لكونه لم يبين ويؤخذ أبدا في العلم بما زاد أهل الثبت أو بينوا
أبو عبد الله هو البخاري، وأراد بالأول حديث أبي سعيد، وقد مر هذا عن قريب. قوله: (ويؤخذ أبدا...) إلى آخره، يرد عليه ما بينه أبو حنيفة من استدلاله بعموم حديث ابن عمر، وهو من أهل العلم الكبار المجتهدين، وقد بين هذا، فينبغي أن يؤخذ به، والمكابرة مطروحة.
75
((باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل وهل يترك الصبي فيمس تمر الصدقة))
أي: هذا باب في بيان أخذ الصدقة من التمر عند صرام النخل، بكسر الصاد المهملة، وهو: الجذاذ والقطاف وزنا ومعنى، وصرام النخل أوان إدراكه، وأصرم: حان صرامه، والصرامة: ما صرم من النخل، ونخل صريم مصروم، ذكره ابن سيده. وفي (المغيث): قد يكون الصرام النخل لأنه يصرم أي: يجتنى ثمره، والصرام التمر بعينه أيضا لأنه يصرم، فسمى بالمصدر. وقال الإسماعيلي: قوله: عند صرام النخل، يريد بعد أن يصير تمرا لأنه يصرم النخل وهو رطب فيثمر في المربد، ولكن ذاك لا يتطاول، فحسن أن ينسب إليه. قوله: (وهل يترك الصبي؟) ترجمة أخرى، وللترجمة الأولى تعلق بقوله
77

تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). واختلفوا في قوله: * (حقه) * (الأنعام: 141). فعن ابن عباس: هي الواجبة، وعن ابن عمر: هو شيء سوي الزكاة، وبه قال عطاء وغيره، وللترجمة الثانية تعلق بالترك، ولكنه ذكره بلفظ الاستفهام لاحتمال أن يكون النهي خاصا بمن لا يحل له تناول الصدقة. فإن قلت: الصبي لا يتوجه إليه الخطاب؟ قلت: وليه يخاطب بتأديبه وتعليمه. قوله: (فيمس)، بالنصب لأنه جواب الاستفهام.
5841 حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي قال حدثنا أبي قال حدثنا إبراهيم بن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالتمر عند صرام النخل فيجيء هاذا بتمره وهاذا من تمره حتى يصير عنده كوما من تمر فجعل الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما يلعبان بذالك التمر فأخذ أحدهما تمرة فجعله في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه فقال أما علمت أن آل محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون الصدقة.
مطابقته للترجمتين ظاهرة لأن مطابقته للأولى في قوله: (عند صرام النخل)، وللثانية في قوله: (فجعل الحسن..) إلى آخره.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عمر بن محمد بن الحسن المعروف بابن التل، بفتح الثاء المثناة من فوق وتشديد اللام: الأسدي، بسكون السين المهملة. وحكى الغساني: الأزدي، بالزاي بدل السين، مات سنة خمسين ومائتين. الثاني: أبوه محمد بن الحسن أبو جعفر، مات سنة مائتين. الثالث: إبراهيم بن طهمان، بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء، مر في: باب القسمة وتعليق القنو في المسجد. الرابع: محمد بن زياد، بكسر الزاي وخفة الياء آخر الحروف، مر في: باب غسل الأعقاب. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه أول ما ذكره هنا وأنه وأباه كوفيان وإبراهيم هروي سكن نيسابور، ثم سكن مكة وأن محمد بن زياد مدني. وفيه: رواية الابن عن الأب.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد أخرج البخاري، رحمه الله تعالى، هذا الحديث من طريق شعبة: عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن قريب يأتي في: باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضا في الجهاد: عن محمد بن بشار. وأخرجه مسلم من طريق شعبة هذا عن محمد هو: ابن زياد، سمع أبا هريرة يقول: (أخذ الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنهما، تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ كخ إرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟) وفي رواية له: (أنا لا تحل لنا الصدقة). وأخرجه النسائي في (السير): عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن شعبة.
وفي الباب عن أبي رافع، وأنس وأبي هريرة والحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن علقمة ومعاوية بن حيدة وعبد المطلب بن ربيعة وأبي ليلى وبريدة بن حصيب وسلمان الفارسي وهرمز أو كيسان مولى النبي صلى الله عليه وسلم ورشيد بن مالك وميمون أو مهران والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم. فحديث أبي رافع أخرجه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا شعبة عن الحكم عن ابن رافع (عن أبي رافع: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: إصحبني فإنك تصيب منها. فقال: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فأتاه فسأله، فقال: مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة)، واسم أبي رافع: إبراهيم أو أسلم أو ثابت أو هرمز مولى النبي صلى الله عليه وسلم، واسم ابنه عبيد الله، كاتب علي، رضي الله تعالى عنه. قوله: (ورجلا)، هو الأرقم بن أبي الأرقم القرشي المخزومي. وأخرجه النسائي أيضا عن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة. وحديث أنس أخرجه الشيخان، وسنذكره إن شاء الله تعالى. وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم، ولفظه: (والله إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي. أو
78

في بيتي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها). وحديث الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنهما، رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في (الكبير) من رواية أبي الحوراء، قال: كنا عند الحسن بن علي، فسئل: ما عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنت أمشي معه، فمر على جرين من تمر الصدقة، فأخذت تمرة فألقيتها في فمي، فأخذها بلعابها، فقال بعض القوم: وما عليك لو تركتها؟ فقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة). وإسناده صحيح. وحديث ابن عباس رواه أبو يعلى والطبراني في (الكبير) من حديث عكرمة عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الأرقم ابن أبي الأرقم على السعاية، فاستتبع أبا رافع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا أبا رافع! إن الصدقة حرام علي وعلى آل محمد، وإن مولى القوم من أنفسهم). وحديث عبد الله بن عمرو رواه أحمد، حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة! قال: إني وجدت تمرة فأكلتها. وكان عندنا تمر من تمر الصدقة فخشيت أن تكون منه). وحديث عبد الرحمن بن علقمة أخرجه النسائي عنه، قال: (قدم وفد الثقيف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعهم هدية، فقال: أهدية أم صدقة...؟) الحديث. وفيه: (قالوا: لا، بل هدية، فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسائلونه حتى صلى الظهر مع العصر). وحديث معاوية بن حيدة رواه الترمذي عن بندار محمد بن بشار حدثنا مكي بن إبراهيم ويوسف ابن سعد الضبعي، قالا: حدثنا بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بشيء سأل: أصدقة هي أم هدية؟ فإن قالوا: صدقة، لم يأكل وإن قالوا: هدية، أكل). وجد بهز بن حكيم اسمه معاوية بن حيدة القريشي وأخرجه النسائي أيضا. وحديث عبد المطلب بن ربيعة رواه مسلم وأبو داود والنسائي مطولا. وفيه: (إن الصدقة لا تنبغي إنما هي أوساخ الناس)، وفي رواية: (إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)، الحديث. وحديث أبي ليلى رواه الطبراني في (الكبير) من رواية شريك عن عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى (عن أبي ليلى قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيت الصدقة ومعه الحسن، رضي الله تعالى عنه، فأخذ تمرة فوضعها في فيه، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه فأخرجها من فيه، ثم قال: إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة). وحديث بريدة بن حصيب رواه أحمد والترمذي في الشمائل من رواية الحسن بن واقد (عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: جاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة بمائدة عليها رطب، فوضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا سلمان؟ قال: صدقة عليك وعلى أصحابك. قال: إرفعها فإنا لا نأكل الصدقة). وحديث سلمان، رضي الله تعالى عنه، رواه أحمد والحاكم في (المستدرك) من رواية أبي ذر الكندي عن سلمان، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة...) الحديث، وفيه: (فسأله: أصدقة أم هدية؟ فقال: هدية، فأكل). اللفظ للحاكم، وروى أحمد من رواية أبي الطفيل (عن سلمان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة). وحديث هرمز أو كيسان رواه الطحاوي: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا ورقاء بن عمر (عن عطاء بن السائب، رضي الله تعالى عنه، قال: دخلت على أم كلثوم بنت علي، رضي الله تعالى عنهما، فقالت: إن مولى لنا يقال له هرمز أو كيسان أخبرني أنه مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني فجئت، فقال: يا فلان إنا أهل بيت قد نهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم، فلا تأكل الصدقة). وأخرجه أحمد في (مسنده) وقال: مهران، وأخرجه البغوي في (معجم الصحابة) وقال: هرمز، وأخرجه ابن أبي شيبة، وقال: كيسان، وأخرجه عبد الرزاق وقال: ميمون أو مهران. وحديث رشيد، بضم الراء وفتح الشين المعجمة: ابن مالك بن عميرة السعدي التميمي الصحابي، عداده في الكوفيين، ويكنى بأبي عميرة، بفتح العين وكسر الميم، أخرجه الطحاوي عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بطبق عليه تمر، فقال: أصدقة أم هدية؟ قال: بل صدقة، فوضعه بين يدي القوم والحسن يتعفر بين يديه، وأخذ الصبي تمرة فجعلها في فيه، فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه فجعل يترفق به، فأخرجها فقذفها، ثم قال: إنا آل محمد لا نأكل الصدقة). وأخرجه الكجي في (مسنده) نحوه. قوله: (يتعفر)، أي: يتمرغ بالتراب، لأنه كان صغيرا يلعب. وحديث ميمون أو مهران رواه عبد الرزاق، وقد
79

ذكرناه الآن. وحديث الحسين بن علي، رضي الله تعالى عنهما، رواه أحمد في (مسنده): حدثنا وكيع، قال: حدثنا ثابت ابن عمارة عن ربيعة بن شيبان، قال: قلت للحسين بن علي: ما تعقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صعدت غرفة فأخذت تمرة فلكتها في في قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألقها، فإنا لا تحل لنا الصدقة، وقد تقدم حديث الحسن بن علي على نحو هذا، وكلاهما من رواية أبي الحوراء عنه، وأبو الحوراء هو ربيعة بن شيبان، قال شيخنا زين الدين: الظاهر أنهما واقعتان لكل واحد واحدة، فالحسن مر على جرين تمر، والحسين صعد غرفة فيها تمر الصدقة، ورواه الطبراني، وفي روايته الحسن مكبر، وطرق حديثه أكثر من طرق حديث الحسين، والله أعلم.
ذكر معناه: قوله: (عند صرام النخل) أي: عند جذاذه، وهو قطع التمرة منه، وقد ذكرناه. قوله: (كوما)، بفتح الكاف وسكون الواو، وهو معروف، وأصله: القطع العظيمة من الشيء، والمراد به: ما اجتمع من التمر كالصرمة. وقال الكرماني: كوما، بضم الكاف. وقال الجوهري: يقال: كومت كومة، بالضم: إذا جمعت قطعة من تراب ورفعت رأسها، وهو في الكلام بمنزلة قولك: صبرة من الطعام. قال: وفي بعض الرواية بالفتح. وانتصاب كوما على أنه خبر: يصير، أي: حتى يصير التمر عنده كوما ويروى: كوم، بالرفع على أنه اسم: يصير، ويكون: يصير، تامة فلا تحتاج إلى خبر. قوله: (من تمر) كلمة: من، بيانية، وقال الكرماني: قال أولا بثمرة يعني بالباء، وهنا قال: من تمر، يعني بكلمة: من، لأن في الأول ذكر المجبىء به، وفي الثاني المجىء عنه، وهما متلازمان وإن تغايرا مفهوما. قوله: (فأخذ أحدهما) وهو الحسن مكبر كما سيأتي بعد بابين من رواية شعبة عن محمد بن زياد بلفظ: فأخذ الحسن بن علي. قوله: (فجعله) إنما ذكر الضمير الذي يرجع إلى: التمرة، باعتبار المأخوذ، وفي رواية الكشميهني: فجعلها، أي: التمرة على الأصل. قوله: (في فيه) أي: في فمه، وفي الفم تسع لغات
: تثليث الفاء مع تخفيف الميم والنقص وفتح الفاء وضمها مع تشديد الميم وفتحها وضمها وكسرها مع التخفيف والقصر. قوله: وحكى ابن الأعرابي في تثنيته: فموان وفميان، وحكى اللحياني أنه يقال: فم وأفمام، واللغة التاسعة: النقص واتباع الفاء الميم في الحركات الإعرابية، تقول: هذا فمه، ورأيت فمه، ونظرت إلى فمه. قوله: (أما علمت؟) ويروى بدون همزة الاستفهام لكنها مقدرة. قوله: (إن آل محمد) آل النبي صلى الله عليه وسلم بنو هاشم خاصة عند أبي حنيفة ومالك، وعند الشافعي: هم بنو هاشم وبنو المطلب، وبه قال بعض المالكية. قال القاضي: وقال بعض العلماء: هم قريش كلها. وقال إصبغ المالكي: هم بنو قصي، وبنو هاشم هم آل علي، وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب، وهاشم هو ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة فافهم. وفي (التوضيح): وقالت المالكية: بنو هاشم آل، وما فوق غالب ليس بآل، وفيما بينهما قولان. وقال إصبغ: هم عترته الأقربون الذين ناداهم حين أنزل الله * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 412). وهم آل عبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي وغالب، وقد قيل: قريش كلها. وقال ابن حبيب: لا يدخل في آله من كان فوق بني هاشم من بني عبد مناف أو من قصي أو غيرهم، وكذا فسر ابن الماجشون ومطرف، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة. وعلى قول إصبغ: لا يأخذها الحلفاء الثلاثة الأول ولا عبد الرحمن ولا سعيد بن أبي وقاص ولا طلحة ولا الزبير ولا سعد ولا أبو عبيدة. وقال: الأصح عندنا إلحاق مواليهم بهم، وبه قال الكوفيون والثوري، وعند المالكية قولان لابن القاسم وإصبغ. قال إصبغ: احتججت على ابن القاسم بالحديث: مولى القوم منهم، فقال: قد جاء حديث آخر: ابن أخت القوم منهم، فكذلك حديث المولى، وإنما تفسير: مولى القوم منهم، في البر كما في حديث: (أنت ومالك لأبيك)، أي في: البر لا في القضاء واللزوم، ونقل ابن بطال عن مالك والشافعي وابن القاسم الحل، وما حكاه عن الشافعي غريب.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن الصدقة لا تحل لآل محمد، وفي (الذخيرة) للقرافي: إن الصدقة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إجماعا. وفي (المغني): الظاهر أن الصدقة فرضها ونفلها كانت محرمة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال ابن شداد في (أحكامه): اختلف الناس في تحريم الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن تيمية في الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهين، وللشافعي قولين. قال: وإنما تركها تنزها. وعن أحمد: حل صدقة التطوع له، وفي (نهاية المطلب) يحرم
80

فرضها ونفلها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والأئمة على تحريمها على قرابته، صلى الله عليه وسلم. وقال الأبهري المالكي: يحل لهم فرضها ونفلها، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقال الإصطخري: إن منعوا الخمس جاز صرف الزكاة إليهم، وروى ابن أبي سماعة عن أبي يوسف أن زكاة بني هاشم تحل لبني هاشم، ولا يحل ذلك لهم من غيرهم. وفي (الينابيع): يجوز للهاشمي أن يدفع زكاته للهاشمي عند أبي حنيفة، ولا يجوز عند أبي يوسف، وفي (جوامع الفقه): يكره للهاشمي عند أبي يوسف، خلافا لمحمد، وروى أبو عصمة عن أبي حنيفة جواز دفعها إلى الهاشمي في زمانه. قال الطحاوي: هذه الرواية عن أبي حنيفة ليست بالمشهورة. وفي (المبسوط): يجوز دفع صدقة التطوع والأوقاف إلى بني هاشم، مروي عن أبي يوسف ومحمد في (النوادر) وفي (شرح مختصر الكرخي) و (الإسبيجابي) و (المفيد) إذا سموا في الوقف، وفي الكرخي: إذا أطلق الوقف لا يجوز لأن حكمهم حكم الأغنياء. وفي (شرح القدوري): الصدقة الواجبة كالزكاة والعشر والنذور والكفارات لا تجوز لهم، وأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع فلا بأس، وجوز بعض المالكية صدقة التطوع لهم، وعن أحمد روايتان، وعند الشافعية فيها وجهان، وفي النذور خلاف عندهم، ذكر ذلك إمام الحرمين في (النهاية). وفي (التوضيح)، وفي الحديث دلالة واضحة على تحريم الصدقة على آله صلى الله عليه وسلم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وللمالكية في إعطائهم من الصدقة أربعة أقوال: الجواز، والمنع، ثالثها: يعطون من التطوع دون الواجب، رابعها: عكسه، لأن المنة قد تقع فيها، والمنع أولاها، وقال الطبري، في مقالة أبي يوسف: لا القياس أصاب ولا الخبر اتبع، وذلك أن كل صدقة وزكاة أوساخ الناس وغسالة ذنوب من أخذت منه هاشميا أو مطلبيا، ولم يفرق الله ولا رسوله بين شيء منها بافتراق حال المأخوذ ذلك منه، قال: وصاحبه أشد قولا منه، لأنه لزم ظاهر التنزيل، وهو * (إنما الصدقات للفقراء) * (التوبة: 06). الآية، وأنكر الأخبار الواردة بتحريمها على بني هاشم، فلا ظاهر التنزيل لزموا ولا بالخبر قالوا. قلت: هذا كلام صادر من غير روية ناشيء عن تعصب باطل، وأبو يوسف من أعرف الناس بموارد التنزيل وأعلمهم بتأويل الأخبار ومداركها، وهذا الطحاوي الذي هو من أكبر أئمة الحديث وأدرى الناس بمذهب أبي حنيفة وأقوال صاحبه نقل عن أبي يوسف: أن التطوع يحرم على بني هاشم، فإذا كان التطوع حراما فالفرض أشد حرمة، ثم إنكار الطبري على صاحب أبي يوسف: أن التطوع يحرم على بني هاشم، فإذا كان التطوع حراما فالفرض أشد حرمة، ثم إنكار الطبريي على صاحب أبي يوسف الذي هو الإمام أبو حنيفة أشد شناعة وأقبح إشاعة حيث يقول: إنه أنكر الأخبار الواردة بتحريمها، ففي أي موضع ذكر هذا عنه على هذه الصيغة؟ والمنقول عنه أنه قط لا يذهب إلى القياس إلا عند عدم النص من الشارع، فعادة هؤلاء المتعصبين أن ينسبوا رواية سقيمة أو شاذة إلى إمام من الأئمة الثلاثة، رضي الله تعالى عنهم، ثم ينكروا عليه بذلك بما لا تحل نسبته إلى أحد منهم.
وفيه: من الفوائد: دفع الصدقات إلى السلطان. وفيه: أن السنة أخذ صدقة التمر عند جذاذة لقوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). فإن أخرجها عند محلها فسرقت، فقال أبو حنيفة ومالك، رضي الله تعالى عنهما: يجزي عنه، وهو قول الحسن، وقال الزهري والثوري وأحمد: هو ضامن لها حتى يضعها مواضعها. وقال الشافعي: إن كان بقي له من ماله ما فيه زكاة زكاه، وأما إذا أخر إخراجها حتى هلكت؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إذا أمكن الأداء بعد حلول الحول وفرط حتى هلك المال، فعليه الضمان. وفيه: أن المسجد قد ينتفع به في أمر جماعة المسلمين في غير الصلاة، ألا يرى أنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه الصدقات وجعله مخرجا لها، وكذلك أمر أن يوضع فيه مال البحرين حتى قسمه فيه، وكذلك كان يقعد فيه للوفود والحكم بين الناس، ومثل ذلك مما هو أبين منه: لعب
الحبشة بالحراب وتعلم المثاقفة، وكل ذلك إذا كان شاملا لجماعة المسلمين، وأما إذا كان العمل لخاصة نفسه فيكره مثل: الخياطة ونحوها، وقد كره قوم التأديب فيه لأنه خاص، ورخص فيه آخرون لما يرجى من نفع تعلم القرآن فيه. وفيه: جواز دخول الأطفال فيه واللعب فيه بغير ما يسقط حرمته إذا كان الأطفال إذا نهوا انتهوا. وفيه: أنه ينبغي أن يتجنب الأطفال ما يتجنب الكبار من المحرمات. وفيه: أن الأطفال إذا نهوا عن الشيء يجب أن يعرفوا لأي شيء نهوا عنه ليكونوا على علم إذا جاءهم أوان التكليف. وفيه: أن لأولياء الصغار المعاتبة عليهم والحول بينهم وبين ما حرم الله على عباده، ألا يرى أنه صلى الله عليه وسلم استخرج التمر من الصدقة من فم الحسن وهو طفل لا تلزمه الفرائض ولم تجر عليه الأقلام؟ فبان بذلك أن الواجب على ولي الطفل والمعتوه، إذا رآه يتناول خمرا يشربها، أو لحم خنزير يأكله، أو مالا لغيره يتلفه، أن يمنعه من فعله ويحول بينه وبين ذلك. وقال صاحب
81

(التوضيح): وفيه: الدليل الواضح على صحة قول القائل: إن على ولي الصغيرة المتوفى عنها زوجها أن يجنبها الطيب والزينة والمبيت عن المسكن الذي تسكنه، والنكاح وجميع ما يجب على البالغات المعتدات اجتنابه، وعلى خطأ قول القائل: ليس ذلك على الصغيرة اعتلالا منهم بأنها غير متعبدة بشيء من الفرائض، لأن الحسن كان لا يلزمه الفرائض، فلم يكن لإخراج التمرة من فيه معنى إلا من أجل ما كان على النبي صلى الله عليه وسلم من منعه ما على المكلفين منه من أجل أنه وليه. قلت: يلزمهم على هذا أن يجتنبوا عن إلباسهم الصغار الحرير، ومع هذا جوزوا ذلك، وقياسهم المسألة المذكورة على قضية الحسن غير صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم ما منع الحسن عن ذلك إلا لأجل أنه من جزئه، وليس ذلك لأجل ما كان عليه من منعه ما على المكلفين من ذلك، والتعليل بأنها غير متعبدة بشيء من الفرائض صحيح لا نزاع فيه لأحد، واعترافهم بصحة السند يلزمهم باعتراف الحكم به على ما لا يخفى على المتأمل.
85
((باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه وقد وجب فيه العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحد ولم يخص من وجب عليه الزكاة ممن لم تجب))
أي: هذا باب في بيان حكم من باع ثماره أو باع نخله أو باع أرضه أو باع زرعه، والحال أنه قد وجب فيه العشر أو الصدقة، أي: الزكاة، فأدى الزكاة من غير ما باع من هذه الأشياء، أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة، وهو تعميم بعد تخصيص، والمراد من النخل التي عليها الثمار، ومن الأرض التي عليها الزرع، لأن الصدقة لا تجب في نفس النخل والأرض، وهذا يحتمل ثلاثة أنواع من البيع. الأول: بيع الثمرة فقط. الثاني: بيع النخل فقط. الثالث: بيع التمر مع النخل، وكذا بيع الزرع مع الأرض أو بدونها أو بالعكس، وجواب: من، محذوف تقديره: من باع ثماره... إلى آخره جاز بيعه فيها، فدلت هذه الترجمة على أن البخاري يرى جواز بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، سواء وجب عليه الزكاة أم لا. وقال ابن بطال: غرض البخاري الرد على الشافعي حيث قال بمنع البيع بعد الصلاح حتى يؤدي الزكاة منها، فخالف إباحة النبي صلى الله عليه وسلم له. قوله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم)، بالجر عطف على قوله: (من باع)، لأنه مجرور محلا بالإضافة، والتقدير: وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تبيعوا... الحديث، وهذا معلق سنده من حديث ابن عمر على ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى. قوله: (لا تبيعوا الثمرة) يعني بدون النخلة، (حتى يبدو) أي: حتى يظهر صلاحها، وإنما قدرنا هذا لجواز بيعها معها قبل بدو الصلاح إجماعا. قوله: (فلم يحظر) من كلام البخاري، وهو بالظاء المعجمة، من الحظر، وهو المنع والتحريم، وهو على بناء الفاعل، والضمير الذي فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم البيع بعد الصلاح على أحد، سواء وجبت عليه الزكاة أو لا. وأشار إليه بقوله: (ولم يخص) أي: النبي صلى الله عليه وسلم من وجبت عليه الزكاة ممن لم تجب عليه، وبهذا رد البخاري على الشافعي في أحد قوليه: إن البيع فاسد، لأنه باع ما يملك وما لا يملك، وهو نصيب المساكين، ففسدت الصفقة، وإنما ذكر قوله: (فلم يحظر) بالفاء لأنه تفسير لما قبله.
6841 حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الله بن دينار قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وكان إذا سئل عن صلاحها قال حتى تذهب عاهته.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه أسند ذلك الذي علقه فيما قبل، وهو قوله: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها).
ذكر رجاله: وهم: أربعة قد ذكروا غير مرة، والحجاج هو ابن المنهال.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في
82

موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد. وفيه: السماع، وهو من الرباعيات.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في البيوع عن محمد بن المثنى عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الله بن دينار إلى آخره نحوه، وفي لفظ له: (نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع). وفي لفظ: نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري. وفي لفظ: لا تبتاع الثمرة حتى يبدو صلاحها وتذهب عنها العاهة. وقال: بدو صلاحه حمرته وصفرته. وفي لفظ: (لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه). وأخرجه أبو داود من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر مثل رواية مسلم وفي لفظ له مثل رواية مسلم الثالثة وأخرجه الترمذي في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو)، وبهذا الإسناد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري
وأخرجه النسائي من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر نحوه. وأخرجه ابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها البائع والمشتري) ولما أخرجه الترمذي قال: وفي الباب عن أنس وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وجابر وأبي سعيد وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم. فحديث أنس عند البخاري ومسلم. وحديث عائشة عند أحمد: حدثنا الحكم حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا ثماركم حتى يبدو صالحها وتنجو من العاهة). وحديث أبي هريرة عند مسلم، ولفظه: (لا تبتاعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها). وحديث ابن عباس. وحديث جابر عند البخاري على ما يأتي، ولفظه عند أبي داود: (نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار). وحديث أبي سعيد عند البزار، ولفظه: (لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها. قيل: وما صلاحها؟ قال: تذهب عاهتها وتخلص صلاحها). وحديث زيد بن ثابت عند أبي داود، (فلا تبتاعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها).
ذكر معناه: قوله: (حتى يبدو) أي: حتى يظهر، وهو بلا همز. قوله: (وكان إذا سئل) قال الكرماني: وفاعله إما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما ابن عمر، وقائله: إما ابن عمر وإما عبد الله بن دينار. قلت: صرح في مسلم أن قائله ابن عمر حيث قال بعد أن روى حديث عبد الله بن عمر من طريق شعبة: وزاد شعبة، فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته، أي: آفته وهو أن يصير إلى الصفة التي يطلب كونه على تلك الصفة، كظهور النضج ومبادي الحلاوة وزوال العفوصة المفرطة، وذلك بأن يتموه ويلين، أو يتلون بالإحمرار أو الاصفرار أو الإسوداد ونحوه، والمعنى الفارق بينهما أن الثمار بعد البدو تأمن من العاهات لكبرها وغلظ نواها، بخلافها قبله لضعفها، فربما تلفت فلم يبق شيء في مقابلة الثمن، فكان ذلك من قبيل أكل المال بالباطل، وظاهره يمنع البيع مطلقا، وخرج عنه البيع المشروط بالقطع للإجماع على جوازه فيعمل به فيما عداه. قوله: (عاهته) أي: عاهة التمر، وفي رواية الكشميهني: عاهتها، ووجه التأنيث يكون باعتبار أن التمر جنس، وأصل عاهة: عوهة، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، يقال: عاه القوم وأعوهوا: إذا أصاب ثمارهم وماشيتهم العاهة، ومادته: عين وواو وهاء.
ذكر ما يستفاد منه: اختلف العلماء في هذه المسألة، فقال مالك: من باع حائطه أو أرضه وفي ذلك زرع أو تمر قد بدا صلاحه وحل بيعه، فزكاة ذلك التمر على البائع إلا أن يشترطها على المبتاع. وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار بين إنفاذ البيع ورده، والعشر مأخوذ من التمرة لأن سنة الساعي أن يأخذها من كل ثمرة يجدها، فوجب الرجوع على البائع بقدر ذلك، كالعيب الذي يرجع بقيمته. وقال الشافعي، في أحد قوليه: إن البيع فاسد لأنه باع ما يملك وما لا يملك وهو نصيب المساكين، ففسدت الصفقة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي: أنه إذا باع أصل الثمرة وفيها ثمر لم يبد صلاحه إن البيع جائز والزكاة على المشتري، لقوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الأنعام: 141). وأما الذي ورد فيه النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها
83

وهو بيع الثمرة دون الأصل، لأنه يخشى عليه العاهة، فيذهب مال المشتري من غير عوض، وإذا ابتاع رقبة الثمرة وكان فيها ثمر لم يبد صلاحه فهو جائز، لأن البيع وقع على الرقبة ولم يظهر بعد، فهذا هو الفرق بينهما. وفيه: جواز البيع من الثمرة التي وجبت زكاتها قبل أداء الزكاة، ويتعين حينئذ أن يؤدي الزكاة من غيرها، خلافا لمن أفسد البيع، وعن مالك: الزكاة على البائع إلا أن يشترط على المشتري، وبه قال الليث. وعن أحمد، رضي الله تعالى عنه: على البائع مطلقا، وبه قال الثوري والأوزاعي، رضي الله تعالى عنهما.
7841 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا، ويزيد من الزيادة، والحديث أخرجه أبو داود رحمه الله تعالى أيضا، وقد ذكرناه.
8841 حدثنا قتيبة عن مالك عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى قال حتى تحمار.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وحميد بضم الحاء هو الطويل، والحديث أخرجه البخاري أيضا في البيوع عن عبد الله بن أبي يوسف، وأخرجه مسلم في البيوع عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين.
قوله: (حتى تزهى) أي: تتلون، قال ابن الأعرابي: يقال: زهى النخل إذا ظهرت ثمرته، وأزهء إذا: احمر أو اصفر. وقال الأصمعي: لا يقال: أزهى، إنما يقال: زهى، وقال الخليل: زهى: إذا بدا صلاحه، وقال ابن الأثير: منهم من أنكر: تزهى، كما أن منهم من أنكر: يزهو، أقول الحديث الصحيح يبطل قول منكر الإزهاء. قوله: (حتى تحمار) تفسير لقوله: (حتى تزهي)، وأصل: تحمار، لأنه من حمر فأدغمت الراء في الراء.
95
((باب هل يشتري صدقته))
أي: هذا باب يذكر فيه هل يشتري الرجل الذي تصدق بشيء صدقته؟ وجواب الاستفهام محذوف، وهو: لا يشتري، وإنما حذف الجواب لأن في الجواب وجهين: أحدهما: لا يشتري أصلا. والثاني: أنه يكره، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ولا بأس أن يشتري صدقته غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى المتصدق خاصة عن الشراء ولم ينه غيره
توضيحه حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: (هو لها صدقة ولنا هدية)، فإذا كان هذا جائزا بغير عوض فبالعوض أجوز.
9841 حدثنا حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يحدث أن عمر بن الخطاب تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يشتريه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأمره فقال لا تعد في صدقتك فبذالك كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يترك أن يبتاع شيئا تصدق به إلا جعله صدقة.
.
84

مطابقته للترجمة من حيث إن تقديرها لا يشتري في جواب الاستفهام كما ذكرناه. ورجاله ستة قد ذكروا كلهم، وعقيل، بضم العين: ابن خالد، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وأخرجه النسائي في الزكاة عن محمد بن عبد الله المخزومي ورواه معن بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وكذا رواه أبو قلابة عن بشر بن عمر عن مالك، رضي الله تعالى عنه. ورواه عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن عمر، وقال الدارقطني: والأشبه بالصواب قول من قال: عن ابن عمر أن عمر، وفي رواية للبخاري (عن ابن عمر أن عمر حمل على فرس في سبيل الله أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحمل عليها، فحمل عليها رجلا...) وفي رواية ابن عبد البر: (لا تشتره ولا شيئا من نتاجه). وفي (العلل) لابن أبي حاتم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تصدقت بصدقة فأمضها، لقد تصدقت بتمر على مساكين فوجدت تمرة، فأدخلت يدي في في ثم لفظتها خشية أن تكون من الصدقة). وفي (المصنف): فرآه عمر، رضي الله تعالى عنه، أو شيئا من نسله يباع في السوق، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أتركه حتى يوافيك يوم القيامة. وعن الزبير بن العوام أن رجلا حمل على فرس في سبيل الله تعالى، فرأى فرسه أو مهره يباع بنسب فرسه فنهى عنها). وعن أسامة بسند جيد: (أنه حمل على مهر له في سبيل الله تعالى، فرآه بعد ذلك يباع، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم عنه فنهاني عنه). وروى الشعبي عن زياد بن حارثة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أسامة.
ذكر معناه: قوله: (تصدق بفرس)، أي: حمل عليه رجلا، ومعناه أنه ملكه له، فلذلك ساغ له بيعه. وقال ابن عبد البر: أي حمله على فرس حمل تمليك وغزا به فله أن يفعل فيه ما شاء في سائر أمواله، وقيل: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، قد حبسه، وفي هذا الوجه إنما ساغ للرجل بيعه لأنه انهزل وعجز لأجله عن اللحاق بالخيل، وانتهى إلى حالة عدم الانتفاع به. وقال ابن سعد: كان اسم هذا الفرس: الورد، وكان لتميم الداري فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه لعمر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (في سبيل الله)، المراد به جهة الغزاة. وقال الكرماني: المفهوم من السبيل الوقف فكيف يصح الابتياع؟ قلت: تمليكه للغازي، والمتبادر إلى الذهن من سبيل الله: الجهاد. قلت: لا نسلم أن المفهوم من السبيل الوقف، بل المراد من سبيل الله الغازي أو الحاج، وفيه خلاف. قوله: (يباع)، على صيغة المجهول، جملة حالية لأن وجده بمعنى أصابه. قوله: (فاستأمره) أي: استشاره. قوله: (فلا تعد) أي: فلا ترجع في صدقتك، ولو كان حبسا لعلله به، وبهذا يرد على من قال: إنه كان محبسا، ولئن كان حبسا يحتمل أن عمر، رضي الله تعالى عنه، ظن أنه يجوز له هذا، ويباح له شراء الحبس، غير أن منعه صلى الله عليه وسلم من شرائه وتعليله بالرجوع دليل على أنه لم يكن حبسا. قوله: (فبذلك) أي: فبسبب (ذلك كان ابن عمر) يعني: عبد الله. قوله: (لا يترك)، كذا هو بحرف النفي في رواية أبي ذر، ويروى: يترك، ووجهه ظاهر. وإما وجه: لا يترك، فهو أن الترك بمعنى التخلية، وكلمة: من، مقدرة أي: لا يخلي الشخص من أن يبتاعه في حال إلا حال جعله صدقة أو لغرض إلا لغرض الصدقة.
ذكر ما يستفاد منه فيه: كراهة شراء الرجل صدقته، وقال ابن بطال: كره أكثر العلماء شراء الرجل صدقته لحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي، وسواء كانت الصدقة فرضا أو تطوعا، فإن اشترى أحد صدقته لم يفسخ بيعه، وأولى به التنزه عنها، وكذا قولهم فيما يخرجه المكفر في كفارة اليمين. وقال ابن المنذر: رخص في شراء الصدقة الحسن وعكرمة وربيعة والأوزاعي، قال ابن القصار: قال قوم: لا يجوز لأحد أن يشتري صدقته ويفسخ البيع، ولم يذكر قائل ذلك، وكأنه يريد به أهل الظاهر. وأجمعوا أن من تصدق بصدقة ثم ورثها أنها حلال له، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني تصدقت على أمي بجارية وأنها ماتت، قال: وجب أجرك وردها على الميراث، وقال ابن التين: وشذت فرقة من أهل الظاهر فكرهت أخذها بالميراث ورأوه من باب الرجوع في الصدقة وهو سهو لأنها تدخل قهرا، وإنما كره شراؤها لئلا يحابيه المصدق بها عليه فيصير عائدا في بعض صدقته، لأن العادة أن الصدقة التي تصدق بها عليه يسامحه إذا باعها، ويقال: لا يكون الحبس إلا أن ينفق عليه المحبس من ماله، وإذا خرج خارج إلى الغزو ودفعه إليه مع نفقته على أن يغزو به ويصرفه إليه فيكون موقوفا على مثل ذلك، فهذا لا يجوز بيعه بإجماع وأما إذا جعله في سبيل الله وملكه الذي دفعه إليه فهذا يجوز بيعه، وقال جماعة من العلماء: كان عمر، رضي الله تعالى عنه: لا يكره أن
85

يشتري الرجل صدقته إذا خرجت من يد صاحبها إلى غيره، رواه الحسن عنه، وقال به هو وابن سيرين.
0941 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تشتر ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وزيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب يروي عن أبيه أسلم يكنى أبا خالد، كان من سبي عين اليمن، ابتاعه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى
عنه، بمكة سنة إحدى عشرة، مات وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الهبة عن يحيى بن قزعة، وفي الجهاد عن إسماعيل، وفي الجهاد والهبة عن الحميدي: وأخرجه مسلم في الفرائض عن القعنبي وعن زهير بن حرب وعن ابن أبي عمرو عن أمية ابن خالد. وأخرجه النسائي في الزكاة عن الحارث بن مسكين ومحمد بن سلمة. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (فأضاعه) أي: لم يكن يعرف قدره فكان يبيعه بالوكس، كذا فسره الكرماني، وقيل: أي يترك القيام عليه بالخدمة والعلف ونحوهما، وهذا التفسير هو الأوجه. قوله: (لا تشتره) أي: الفرس المذكور، ويروى: (لا تشتريه)، بإشباع كسرة الراء ياء. قوله: (وإن أعطاكه بدرهم) مبالغة في رخصه، وكان هو الحامل على شراه. قوله: (فإن العائد) الفاء فيه للتعليل. قوله: (كالعائد في قيئه) الغرض من التشبيه تقبيح صورة ذلك الفعل أي: كما يقبح أن يقيء ثم يأكل كذلك يقبح أن يتصدق بشيء ثم يجره إلى نفسه بوجه من الوجوه.
وفيه: كراهة الرجوع في الهبة، وفضل الحمل في سبيل الله، والإعانة على الغزو بكل شيء والخيل الضائعة الموقوفة إذا رجى صلاحها والانتفاع بها في الجهاد كالضعيف المرجو رده، منع ابن الماجشون بيعه وأجازه ابن القاسم ويوضع ثمنه في ذلك الوجه. وقال القاضي أبو محمد: لا بأس أن يركب الفرس الذي جعله في سبيل الله تعالى.
06
((باب ما يذكر في الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان الحكم الذي يذكر في الصدقة لأجل النبي صلى الله عليه وسلم يعني في حقه، وفي حق آله، وقد مر تفسير الآل، وفي بعض النسخ: من الصدقة، عوض: في الصدقة، وإنما أبهم الحكم لكونه مشهورا.
1941 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه. قال أخذ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إنا لا نأكل الصدقة)، والحديث مضى بأتم منه في: باب أخذ صدقة التمر عند صرام النخل، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به وهنا زيادة، وهي قوله: (كخ كخ)، بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء المعجمة ويجوز كسرها مع التنوين، فتصير ست لغات، وإنما كرر للتأكيد، وهي كلمة تزجر بها الصبيان عند مناولة ما لا ينبغي الإتيان به، قيل: هي عربية، وقيل: أعجمية. وقال الداودي: هي معربة، وقد أوردها البخاري في: باب من تكلم بالفارسية، والمعنى هنا: اتركه وارم به. قوله: (أما شعرت؟) هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم ونحوه، وإن لم يكن المخاطب عالما به أي: كيف خفي عليك مع ظهور تحريمه، وهذا أبلغ في الزجر عنه بقوله: لا تفعله فإن قلت: روى أحمد من رواية حماد بن سلمة عن محمد
86

ابن زياد: (فنظر إليه فإذا هو يلوك تمرة، فحرك خده، وقال: ألقها يا بني ألقها يا بني). فما التوفيق بينه وبين قوله: (كخ كخ؟) قلت: هو أنه كلمة أولا بهذا، فلما تمادى قال: كخ كخ إشارة إلى استقذار ذلك، وقد ذكرنا الحكمة في تحريمها عليهم أنها مطهرة للملاك ولأموالهم، قال تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) * (التوبة: 301). فهي كغسالة الأوساخ، وأن آل محمد منزهون عن أوساخ الناس وغسالاتهم، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الصدقة أوساخ الناس)، كما رواه مسلم، وأما إن أخذها مذلة، واليد السفلى، ولا يليق بهم الذل والافتقار إلى غير الله تعالى، ولهم اليد العليا وأما أنها لو أخذوها لطال لسان الأعداء بأن محمدا يدعونا إلى ما يدعونا إليه ليأخذ أموالنا ويعطيها لأهل بيته. قال تعالى: * (قل، لا أسألكم عليه أجرا) * (الأنعام: 09، الشورى: 32). ولهذا أمر أن تصرف إلى فقرائهم في بلدهم. قوله: (إنا لا نأكل الصدقة)، وفي رواية مسلم: (إنا لا تحل لنا الصدقة) وفي رواية معمر: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد)، وفي رواية الطحاوي: (إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة).
16
((باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان حكم الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أي: على عتائقهن. قيل: لم يترجم لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا موالي النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يثبت عنده فيه شيء؟ قلت: روى الأئمة الأربعة وصححه الترمذي وابن حبان وغيره عن أبي رافع مرفوعا: (إنا لا تحل لنا الصدقة وأن موالي القوم من أنفسهم). وإليه ذهب أبو حنيفة وأحمد وابن الماجشون المالكي، وهو الصحيح عند الشافعية، وقال غيرهم: يجوز لهم لأنهم ليسوا منهم حقيقة، فإذا كان الأمر كذلك ما كان ينبغي الاعتذار عن البخاري في تركه الترجمة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا لمواليه بقوله لأنه لم يثبت عنده فيه شيء لأن البخاري لم يلتزم أن يذكر كل صحيح عنده أو عند غيره، وقيل: إنما أورد البخاري هذه الترجمة ليحقق أن الأزواج لا يدخلن ولا تحرم عليهن الصدقة، وكذا قال ابن بطال: إن الأزواج لا يدخلن في ذلك باتفاق الفقهاء، فإذا لم يدخلن هن فمواليهن أحرى بعدم الدخول. قلت: روى الخلال من طريق ابن أبي مليكة (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة)، ذكره ابن قدامة، وقال: هذا يدل على تحريمها، وكذا رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) حدثنا وكيع عن شريك عن
ابن أبي مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص أرسل إلى عائشة شيئا من الصدقة، فردته فقالت: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة.
2941 حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال وجد النبي صلى الله عليه وسلم شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة قال النبي صلى الله عليه وسلم هلا انتفعتم بجلدها قالوا إنها ميتة قال إنما حرم أكلها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة)، فإن مولاة ميمونة أعطيت صدقة فلم ينكر عليها، فدل على أن موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تحل لهم الصدقة، وبهذا علم أن مراد البخاري من هذه الترجمة التنبيه على ذلك، لا ما قاله الإسماعيلي: هذه الترجمة مستغنى عنها، فإن تسمية المولى لغير فائدة، وإنما هو لسوق الحديث على وجهه فقط.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: سعيد بن عفير، بضم العين المهملة وفتح الفاء، مر في باب من يرد الله به خيرا. الثاني: عبد الله ابن وهب. الثالث: يونس ين يزيد. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عبيد الله، بضم العين: ابن عبد الله، بفتح العين: ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه منسوب إلى جده لأنه سعيد بن كثير بن عفير وأنه وابن وهب مصريان، وأن يونس أيلي وأن ابن شهاب وعبيد الله مدنيان، وقال
87

أبو عمر: روى هذا الحديث غير واحد عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسلا، والصحيح اتصاله، كذا رواه معمر ويونس والزبيدي وعقيل، كلهم عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في البيوع، وفي الذبائح عن زهير بن حرب. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي الطاهر وحرملة، وعن الحسن بن علي وعبد بن حميد وعن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد. وأخرجه أبو داود في اللباس عن عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن أحمد، وعن مسدد. وأخرجه النسائي في الذبائح عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين وعن عبد الملك بن شعيب وروى مسلم من حديث عطاء: (عن ابن عباس عن ميمونة أخبرته: أن داجنا كانت لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به؟) وفي رواية أبي داود: (مر النبي صلى الله عليه وسلم برجال من قريش يجرون شاة، فقال: لو أخذتم إهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: يطهره الماء والقرظ). وفي رواية لأحمد (عن ابن عباس: ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلان، يعني الشاة، فقال: لولا أخذتم مسكها؟ فقالت: تأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال: إنكم لا تطعمونه تنتفعون به. قال: فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته واتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها). وعند البخاري (عن سودة: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها...) الحديث موقوف، وعند مسلم عنه مرفوعا (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)، وفي لفظ: (دباغه طهوره)، وعند ابن شاهين سئل عن جلود الميتة فقال: طهورها دباغها، وفي لفظ مرفوع: (استمتعوا بجلود الميتة إذا دبغت ترابا كان أو رمادا أو ملحا أو ما كان، بعد أن يزيد صلاحه). قال الدارقطني: في إسناده معروف بن حسان منكر الحديث، وفي كتاب ابن سعد: قال محمد بن الأشعث لعائشة: ألا نجعل لك فروا تلبسيه فإنه أدفأ لك؟ قالت: إني لأكره جلود الميتة. فقال: أنا أقوم عليه ولا أجعله إلا ذكيا، فجعله لها فكانت تلبسه، رواه معن ومطرف، قالا: حدثنا مالك عن نافع عن القاسم بن محمد به، وروى أبو داود بسند جيد من حديث قتادة عن الحسن عن الجون بن قتادة (عن سلمة بن المحبق أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر ببيت بفنائه قربة معلقة، فاستسقى فقيل: إنها ميتة، فقال: زكاة الأديم دباغه). وفي رواية: في غزوة تبوك. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعند أحمد بسند جيد (عن جابر: كنا نصيب مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في مغانمنا من المشركين الأسقية والأوعية فنقسمها وكلها ميتة). وروى الدارقطني من حديث أم سلمة: أنها ماتت لها شاة، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: أفلا انتفعتم بإهابها؟ فقالوا: إنها ميتة. فقال: إن دباغتها يحل كما يحل الخمر الملح. قال: تفرد به الفرج بن فضالة وهو ضعيف، ورواه أيضا من حديث يوسف بن السفر، قال: وهو متروك، ومن حديث أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن أم سلمة أو زينب أو غيرهما من أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن ميمونة ماتت لها شاة...) الحديث.
فإن قلت: جاءت أحاديث تخالف الأحاديث المذكورة. منها: حديث رواه أحمد في (مسنده) من حديث حبيب بن أبي ثابت عن رجل عن أم سلمان الأشجعية أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها وهي في قبة، فقال: ما أحسن هذه إن لم يكن فيها ميتة؟ قالت: فجعلت أتتبعها. ومنها: حديث رواه ابن حبان في (صحيحه) عن عبد الله بن عكيم، قال: (كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب)، ثم قال: ذكر البيان بأن ابن عكيم شهد قراءة كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بأرض جهينة، ثم ذكر عنه، قال: قرىء علينا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما رواه أحمد في مسنده قال: ما أصلح إسناده. ومنها: حديث رواه أبو حفص بن شاهين من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتفع من الميتة بعصب أو إهاب. ومنها: حديث جابر رواه ابن شاهين أيضا من حديث أبي الزبير عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينتفع من الميتة بشيء) ورواه ابن جرير الطبري أيضا. ومنها: حديث رواه أبو داود والترمذي وصححه: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع أن تفترش.
قلت: حديث أم سلمان محمول على أنه لم يكن مدبوغا. وحديث ابن عكيم معلول بأمور ثلاثة: الأول: أنه مضطرب سندا ومتنا وقد بيناه في شرحنا للهداية. والثاني: الاختلاف في صحبته، فقال البيهقي وغيره لا صحبة له. والثالث: أنه روى عنه أنه سمع من الناس الداخلين عليه وهم مجهولون، ولئن صح فلا
88

يقاوم حديث ابن عباس. وحديث ابن عمر أن عامة من في إسناده مجهولون. وحديث جابر في إسناده زمعة وهو ممن لا يعتمد على نقله. وأما النهي عن جلود السباع فقد قيل: إنها كانت تستعمل قبل الدباغ. وقال ابن شاهين: هذه الأحاديث لا يمكن ادعاء نسخ شيء منها بالآخر. فإن قلت: حديث ابن عكيم قبل الوفاة بشهر؟ قلت: يمكن أن يقال: يجوز أن يكون الأمر قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بجمعة، والأولى هنا هو الأخذ بالحديثين جميعا وهو أن يحمل المنع على ما قبل الدباغ والأخبار بالطهارة بعده على أن الإهاب في قوله صلى الله عليه وسلم: (إيما إهاب دبغ فقد طهر)، اسم للجلد الذي لم يدبغ، فبعد الدباغ لا يسمى إهابا، وإنما يسمى أديما أو جلدا أو جرابا.
ذكر معناه: قوله: (مولاة)، أي: عتيقة وارتفاعها على أنها مفعول ما لم يسم فاعله للإعطاء، وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولميمونة صفة لمولاة. قوله: (من الصدقة)، يتعلق بأعطيت أو صفة لشاة. قوله: (إنما حرم أكلها) اتفق معمر ومالك ويونس على قوله: (إنما حرم أكلها)، إلا أن معمرا قال: لحمها ولم يذكر واحد منهم زيادة دباغ أهلها طهورها وكان ابن عيينة يقول: لم أسمع أحدا يقول: (إنما حرم أكلها) إلا الزهري، واتفق الزبيدي وعقيل وسليمان بن كثير والأوزاعي على ذكر الدباغ في هذا الحديث عن الزهري، وكان ابن عيينة مرة يذكره ومرة لا يذكره، وقال محمد بن يحيى النيسابوري: لست أعتمد في هذا الحديث على ابن عيينة لاضطرابه فيه، وأما ذكر الدباغ فلا يوجد إلا عن يحيى بن أيوب عن عقيل، ومن رواية بقية عن الزبيدي، ويحيى وبقية ليسا بالقويين، ولم يذكر مالك ولا يونس الدباغ، وهو الصحيح في حديث الزهري، وبه كان يفتي، وأما من غير رواية الزهري فصحيح محفوظ عن ابن عباس، وقال الكرماني: فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال يعني في قوله: (إنما هو حرام أكلها) قلت: الأكل غالب في اللحم، فكأنه قال: اللحم حرام لا الجلد. قلت: لو اطلع الكرماني على ما ذكرنا الآن لما احتاج إلى هذا السؤال ولا إلى الجواب.
ذكر ما يستفاد منه: احتجت بالحديث المذكور جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين على أن جلد الميتة يطهر بالدباغ، فممن قال ذلك ابن مسعود وابن المسيب وعطاء بن أبي رباح والحسن والشعبي والنخعي وسالم وابن جبير وقتادة والضحاك ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه وإسحاق. وفيه: دليل على بطلان قول من قال: إن الجلد من الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وبطل أيضا قول من قال إن جلد الميتة وإن لم يدبغ يستمتع به وينتفع به، وهو قول مروي عن ابن شهاب والليث بن سعد، وهو مشهور عنهما على أنه قد روى عنهما خلافه، قال معمر: وكان الزهري ينكر الدباغ، ويقول: مستمتع به على كل حال، قال أبو عبد الله المروزي: ما علمت أحدا قال ذلك قبل الزهري، وكان الزهري يذهب إلى ظاهر الحديث في قوله: (إنما حرام أكلها)، قال الطحاوي: قال الليث: لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في الانتفاع بها، والبيع من الانتفاع، قال أبو جعفر: لم يحك عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث. قال ابن عمر: يعني من الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار بعد التابعين، لأن ابن شهاب ذاك عنه صحيح، وقد ذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب في ذلك، قال: من اشترى جلد ميتة فدبغه فقطعه نعالا فلا يبيعه حتى ييبس، فهذا يدل على أن مذهبه يجوز بيع جلد الميتة قبل الدباغ وبعده، وهو ظاهر مذهب مالك وغيره. وفي (التوضيح): ومجموع ما ذكر في دباغ جلد الميتة وطهارتها سبعة أقوال: أحدها: أنه يطهر به جميع جلود الميتة إلا الكلب والخنزير، والفرع ظاهرا وباطنا، ويستعمل في اليابس والمائع، وسواء مأكول اللحم وغيره، وبه قال علي وابن مسعود وهو مذهب الشافعي. ثانيها: لا يطهر منها شيء به، روي عن جماعة من السلف، قيل: منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وهي أشهر الروايتين عن أحمد، ورواية عن مالك. ثالثها: يطهر به جلد مأكول اللحم دون غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور، رابعها: يطهر جميعها إلا الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة. خامسها: يطهر الجميع إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه ويستعمل في اليابسات دون المائعات، ويصلى عليه لا فيه، وهو مشهور مذهب مالك، رحمه الله تعالى، فيما حكاه عنه أصحابه. سادسها: يطهر الجميع والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا، وهو مذهب داود وأهل الظاهر، وحكي عن أبي يوسف.
89

سابعها: أنه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ، ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات، وهو وجه شاذ لبعض الشافعية.
3941 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا الحكم عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق وأراد مواليها إن يشترطوا ولاءها فذكرت عائشة للنيي صلى الله عليه وسلم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق قالت وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقلت هاذا ما تصدق به على بريرة فقال هو صدقة ولنا هدية.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (هذا ما تصدق به على بريرة...) إلى آخره، والترجمة في الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبريرة من جملة مواليات عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق عليها بصدقة فأخبر صلى الله عليه وسلم أنها كانت لها صدقة ولهم هدية، لأنها تحولت عن معنى الصدقة بملك المتصدق عليه بها، وانتقلت إلى معنى الهدية الحلال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الحديث في أوائل كتاب الصلاة في: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد رواه عن علي بن عبد الله عن سفيان عن يحيى عن عمرة عن يحيى عن عائشة، قالت: أتتها بريرة... الحديث، غير أنه لم يذكر فيه قوله: قالت عائشة، وأتي النبي صلى الله عليه وسلم... إلى آخره، وهنا رواه عن آدم بن أبي إياس عن شعبة عن ابن الحجاج عن الحكم بفتحتين ابن عتبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة.
وأخرجه البخاري أيضا في كفارة الإيمان عن سليمان بن حرب، وفي الطلاق عن عبد الله بن رجاء وفيه أيضا عن آدم وفي الفرائض عن حفص بن عمر. وأخرجه النسائي في الزكاة عن عمرو بن يزيد وفي الصلاة عن عمرو بن علي وفي الفرائض عن بنداء عن غندر، الكل عن شعبة.
ذكر معناه: قوله: (بريرة)، بفتح الباء الموحدة وكسر الراء الأولى. قوله: (مواليها) أي: ساداتها، وكانت لعتبة بن أبي لهب، وقال أبو عمر: كانت مولاة لبعض بني هلال فكاتبوها ثم باعوها من عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الكرماني: فإن قلت: المولى جاء بمعنى المعتق والعتيق والناصر وابن العم والجار والحليف لا بمعنى السيد؟ قلت: جاء أيضا بمعنى المولى والمتصرف في الأمر. انتهى. قلت: لا وجه لهذا السؤال، لأن لفظ المولى مشترك بين المولى الأعلى والمولى الأسفل، وبريرة مولاة سفلى ومواليها موالي عليا. قوله: (اشتريها) أي: بما يريدون، أي: من الاشتراط بكون الولاء لهم. قوله: (تصدق)، بلفظ المجهول، قال الكرماني: والفرق بين الصدقة والهبة أن الصدقة هبة لثواب الآخرة، والهدية هبة تنقل إلى المتهب إكراما له قلت: الصدقة قد تكون هبة، والهبة قد تكون صدقة، وإن الصدقة على الغني هبة، والهبة للفقير صدقة.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به بعض المالكية على أن عائشة اشترتها شراء فاسدا فأنفذ الشارع عتقها، ومعلوم أن شرط الولاء لغير المعتق يوجب فساد العقد، ثم أنفذ الشارع العتق. قلت: الذي كان من أهل بريرة في هذا الحديث لم يكن شرطا في بيع، لكن في أداء عائشة إليهم عن بريرة، وهم تولوا عقد تلك الكتابة، ولم يتقدم ذلك الأداء من عائشة ملك، فذكرت ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا يمنعك ذلك منها، أي: لا ترجعي بهذا المعنى عما كنت نويت عتاقها من الثواب، اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق، وكان ذلك الشراء هنا ابتداء من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليس ما كان قبل ذلك بين عائشة وبين أهل بريرة في شيء، وفي (التوضيح): واستدل به بعض أصحاب أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، على أنها ملكت بالقبض ملكا تاما، وهو بعيد لأنه، صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث وغيره أمر عائشة بالشراء ولم يكن ليأمر بفاسد. قلت: جواب هذا يفهم مما قبله مما ذكرنا على أن بعض أصحابنا قالوا: إنها خصت بذلك كما خص غيرها بخصائص قيل: هذا بعيد، لأن ذلك لو وقع لنقل. قلت: قال النووي: هذا من خصائص عائشة ولا عموم لها. فإن قلت: فيه صورة المخادعة؟ قلت: لم يكن هذا إلا للزجر والتوبيخ، لأنه كان بين لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما ألحوا في اشتراطه ومخالفة الأمر، قال لعائشة هذا بمعنى: لا تبالي سواء شرطته أم لا،
90

فإنه شرط باطل لأنه قد سبق بيان ذلك لهم وليس لفظ: اشترطي، هنا للإباحة، وقد تكلمنا في هذا الحديث في: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، في أوائل كتاب الصلاة، واستقصينا الكلام فيه.
26
((باب إذا تحولت الصدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا تحولت الصدقة يعني: إذا خرجت من كونها صدقة بأن دخلت في ملك المتصدق به عليه، وفي رواية أبي ذر: إذا حولت الصدقة، على بناء المجهول، وجواب: إذا، محذوف تقديره: إذا حولت الصدقة يجوز للهاشمي تناولها.
4941 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا خالد عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية الأنصارية رضي الله تعالى عنها قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال هل عندكم شيء فقالت لا ألا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت بها من الصدقة فقال إنها قد بلغت محلها.
(انظر الحديث 6441 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إن نسيبة أرسل إلى عائشة من الشاة التي أرسلها إليها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فلما قبلتها نسيبة دخلت في ملكها وخرجت من كونها صدقة، فهذا معنى التحول، كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني: يزيد من الزيادة ابن زريع، مصغر زرع ضد الجدب، وقد مر في: باب الجنب يخرج. الثالت: خالد الحذاء. الرابع: حفصة بنت سيرين أخت محمد بن سيرين سيدة التابعيات. الخامس: أم عطية، بفتح العين المهملة واسمها: نسيبة، بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة، وقد مر ذكرها غير مرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: رواية التابعية عن الصحابية. وفيه: رواية الحديث لصحابية مذكورة بكنيتها.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الزكاة عن أحمد بن يونس عن أبي شهاب الحناط، وفي الهبة عن محمد بن مقاتل عن خالد بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الزكاة عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن علية عن خالد الحذاء.
ذكر معناه: قوله: (هل عندكم شيء) أي: من الطعام. قوله: (فقالت: لا) أي: لا شيء. (إلا شيء)، والمستثنى منه محذوف وهو اسم: لا، التي لنفي الجنس، أي: لا شيء من الطعام إلا شيء كذا. قوله: (بعثت به نسيبة)، جملة من الفعل والفاعل صفة لقوله: شيء، وكلمة: من، في: من الشاة، للبيان مع الدلالة على التبعيض. قوله: (بعثت بها) على صيغة المخاطب أي: التي بعثت بها أنت إليها قوله: (إنها) أي: إن الصدقة (قد بلغت محلها)، بكسر الحاء من حل إذا وجب، قال الزمخشري في * (حتى يبلغ الهدي محله) * (البقرة: 691). أي: مكانه الذي يجب فيه نحوه، وقال التيمي: بلغت محلها، أي: حيث يحل أكلها فهو مفعل من حل الشيء حلالا، وقال: معناه أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى أم عطية شاة من الصدقة فبعثت هي من تلك الشاة إلى عائشة هدية، وهذا معنى
قول البخاري: إذا تحولت الصدقة، إذ كانت عليها صدقة ثم صارت هدية.
ذكر ما يستفاد منه فيه: دلالة كما قال الطحاوي على جواز استعمال الهاشمي، ويأخذ جعله على ذلك وقد كان أبو يوسف يكره ذلك إذا كانت جعالتهم منها، قال: لأن الصدقة تخرج من ملك المتصدق إلى غير الأصناف التي سماها الله تعالى فيملك المتصدق بعضها وهي لا تحل له، واحتج بحديث أبي رافع في ذلك، وخالفه فيه آخرون، فقالوا: لا بأس أن يجعل منها للهاشمي لأنه يجعل على عمله، وذلك قد يحل للأغنياء، فلما كان هذا لا يحرم على الأغنياء الذين يحرم عليهم غناؤهم الصدقة، كان ذلك أيضا في النظر لا يحرم ذلك على بني هاشم الذين يحرم عليهم نسبهم الصدقة، فلما كان ما تصدق به على بريرة جاز للشارع أكله لأنه إنما أكله بالهدية فجاز أيضا للهاشمي أن يجتعل من الصدقة لأنه إنما يملكها بعمله لا بالصدقة، هذا هو النظر عندنا، وهو أصح مما ذهب إليه أبو يوسف. قلت: أراد الطحاوي بقوله: آخرون، مالكا والشافعي في قول، وأحمد في رواية
91

ومحمد بن الحسن فإنهم قالوا: لا بأس أن يكون العامل هاشميا ويأخذ عمالته منها، لأن ذلك على عمله، ولقائل أن يقول: هذا القياس ليس بصحيح: لأن الغني إذا كان عاملا يكون متفرغا لذلك صارفا نفسه وحابسها لأجل ذلك فيستحق الجعالة في مقابلة هذا الفعل، وذلك في الحقيقة يكون لحاجته إلى ذلك، فيصير كابن السبيل تباح له الصدقة، وإن كان غنيا، بخلاف الهاشمي فإنه إنما تحرم عليه الصدقة لكونها أوساخ الناس ولأجل لحوق الذلة والهوان لشرف نسبه، فهذا المعنى موجود دائما سواء كان الذي يأخذه من الصدقة على وجه الاعتمال والاجتعال أو غير ذلك. وفيه: دليل على تحويل الصدقة إلى هدية لأنه لما كان يجوز التصرف للمتصدق عليه فيها بالبيع والهبة لصحة ملكه لها، حكم لها بحكم الهبة، وخروجها عن معنى الصدقة فصارت حلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يأكل الهدية دون الصدقة لما في الهدية من التألف والدعاء إلى المحبة، وقال: تهادوا تحابوا)، وجائز أن يثبت عليها وأفضل منها فيرفع الذلة والمنة بخلاف الصدقة. وفيه: بيان أن الأشياء المحرمة لعلل معلومة إذا ارتفعت عنها تلك العلل حلت وأن التحريم في الأشياء ليس لعينها.
5941 حدثنا يحيى بن موسى ا قال حدثنا وكيع قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلحم تصدق به على بريرة فقال هو عليها صدقة وهو لنا هدية.
(الحديث 5941 طرفه في: 7752).
مطابقته للترجمة من حيث أن الصدقة التي تصدق بها على بريرة صارت هدية لملكها إياها.
ورجاله قد ذكروا ويحيى بن موسى بن عبد ربه أبو زكريا السختياني البلخي يقال له: خت، قد مر في آخر كتاب الصلاة، وهو من أفراد البخاري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الزهد عن يحيى بن موسى عن وكيع، وفي الهبة عن بندار عن غندر. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن وكيع وعن أبي موسى وبندار كلا من غندر وعن عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وأخرجه أبو داود فيه عن عمرو بن مرزوق. وأخرجه النسائي في العمري عن إسحاق بن إبراهيم عن وكيع.
قوله: (هو عليها صدقة)، قد لفظ: (عليها) ليفيد الحصر أي: عليها صدقة لا علينا، وحاصله أنها إذا قبضها المتصدق زال عنها وصف الصدقة وحكمها، فيجوز للغني شراها للفقير، وللهاشمي أكله منها.
وقال أبو داود أنبأنا شعبة عن قتادة سمع أنسا رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أبو داود هو سليمان الطيالسي الحافظ، كتب عنه بأصفهان أربعون ألف حديث، ولم يكن معه كتاب، مات سنة أربع ومائتين بالبصرة. وهذا التعليق أسنده أبو نعيم في (المستخرج) فقال: حدثنا عبد الله حدثنا يونس حدثنا أبو داود يعني الطيالسي قال: أنبأنا شعبة، فذكره وفائدته تصريح قتادة بسماعه إياه من أنس، ولما كان قتادة مدلسا قوي الإسناد الأول بهذا حيث قال: سمع أنسا، إذ فيه التصريح بسماعه. قوله: (أنبأنا) أي: أخبرنا. قال الخطيب البغدادي: درجة أنبأنا أحط من درجة أخبرنا، وهو قليل في الاستعمال، وثلاثية من النبأ وهو الخبر.
36
((باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا))
أي: هذا باب في بيان أخذ الصدقة، أي: الزكاة، من الأغنياء، فإذا أخذت ما يكون حكمها أشار إليه بقوله: (وترد في الفقراء) وترد، بنصب الدال بتقدير: أن، ليكون في حكم المصدر، ويكون التقدير: وأن ترد، أي: والرد في الفقراء حاصله: باب في أخذ الصدقة، وفي ردها في الفقراء حيث كان الفقراء. قوله: (حيث كانوا)، يشعر بأنه اختار جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وفيه خلاف، فعن الليث بن سعد وأبي حنيفة وأصحابه جوازه، ونقله ابن المنذر عن الشافعي واختاره، والأصح عند الشافعية والمالكية ترك النقل، فلو نقل أجزأ عند المالكية على الأصح، ولم يجزئ عند الشافعية على الأصح إلا إذا فقد المستحقون لها. وقال الكرماني: الظاهر أن غرض البخاري بيان الامتناع، أي: ترد على فقراء أولئك الأغنياء، أي: في موضع
92

وجد لهم الفقراء، وإلا جاز النقل، ويحتمل أن يكون غرضه عكسه. قلت: ليس الظاهر ما قاله، فإنه قال: ترد حيث كانوا، أي: الفقراء، وهو أعم من أن يكونوا في موضع كان فيه الأغنياء أو في غيره، فالعجب منه العكس حيث جعل الامتناع ظاهرا وهو محتمل، وجعل الظاهر عكسا. فافهم، وقد مر الكلام فيه مستوفى في حديث معاذ في أوائل الزكاة.
6941 حدثنا محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله ابن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذالك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذالك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذالك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، وهذا الحديث قد مضى في أول: باب وجوب الزكاة، فإنه أخرجه هناك عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن زكرياء بن إسحاق.. إلى آخره، وهنا أخرجه عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى، وههنا زيادة، وهي قوله: (فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم...) إلى آخره، ولنذكر هنا ما لم نذكره هناك. فقوله: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن)، هكذا هو في جميع الطرق إلا ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع، فقال فيه: عن ابن عباس (عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن...) فعلى هذا فهو من مسند معاذ، وسائر الروايات غير هذه من مرسل ابن عباس. وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث معاذا، وكذا أخرجه إسحاق بن راهويه عن وكيع نحوه، وكذا رواه أحمد في (مسنده) عن وكيع، وأخرجه عنه أبو داود، وأخرجه البخاري في المظالم عن يحيى بن موسى عن وكيع كذلك. وأخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) عن محمد بن عبد الله المخزومي، وجعفر بن محمد الثعلبي والإسماعيلي من طريق أبي خيثمة، وموسى بن المسندي والدارقطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وإسحاق ابن إبراهيم البغوي، كلهم عن وكيع كذلك، ولا يستبعد حضور ابن عباس لذلك لأنه كان في أواخر حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو إذ ذاك مع أبويه.
قوله: (ستأتي قوما) توطئة للوصية ليقوي همته عليها لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلذلك خصهم بالذكر تفضيلا لهم على غيرهم. قوله: (أهل كتاب)، بدل لا صفة، وكان في اليمن أهل الذمة وغيرهم. وحكى ابن إسحاق في أول (السيرة): إن أصل دخول اليهود في اليمن في زمن أسعد أبي كرب، وهو تبع الأصفر. قوله: (فإذا جئتهم) إنما ذكر لفظة: إذا، دون: أن، تفاؤلا بحصول الوصول إليهم. قوله: (فادعهم إلى شهادة أن لا إلاه إلا الله وأن محمدا رسول الله)، كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وفي رواية روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية: (فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى، فإذا عرفوا الله). وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: (إلى أن يوحدوا الله، وإذا عرفوا ذلك). قوله: (فإن هم أطاعوا لك بذلك) أي: شهدوا وانقادوا، وفي رواية ابن خزيمة: (فإن هم أجابوا لذلك)، وفي رواية الفضل ابن العلاء: (فإذا عرفوا ذلك)، وإنما عدى: أطاعوا، باللام وإن كان يتعدى بنفسه لتضمنه معنى: انقادوا قوله (فإياك) كلمة تحذير (وكرائم) منصوب بفعل مضمر لا يجوز إظهاره قال ابن قتيبة ولا يجوز حذف
93

الواو، أما عدم جواز إظهار الفعل فللقرينة الدالة عليه ولطول الكلام، وقيل: لأن مثل هذا يقال عند تشديد الخوف، وأما عدم جواز حذف الواو لأنها حرف عطف، فيختل الكلام بحذفه، والكرائم جمع: كريمة وهي النفيسة. قوله: (واتق دعوة المظلوم) أي: تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وقيل: هو تذييل لاشتماله على الظلم الخاص وهو أخذ الكرائم وعلى غيره. قوله: (فإنه) أي: فإن الشان، وهو تعليل للاتقاء، وتمثيل للدعوة كمن يقصد إلى السلطان متظلما فيم يحجب عنه.
ذكر ما يستفاد منه فيه: عظة الإمام وتخويفه من الظلم قال تعالى: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * (هود: 81). ولعنة الله إبعاده من رحمته، والظلم محرم في كل شريعة، وقد جاء: (إن دعوة المظلوم لا ترد وإن كانت من كافر). وروى أحمد في (مسنده)، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: (دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا، ففجوره على نفسه). ومعنى ذلك أن الرب سبحانه وتعالى لا يرضى ظلم الكافر كما لا يرضى ظلم المؤمن، وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يظلم الناس شيئا، فدخل في عموم هذا اللفظ جميع الناس من مؤمن وكافر، وحذر معاذا، رضي الله تعالى عنه، من الظلم مع علمه وفضله وورعه، وأنه من أهل بدر وقد شهد له بالجنة، غير أنه لا يأمن أحدا، بل يشعر نفسه بالخوف، وفوائده كثيرة ذكرناها في حديث معاذ، رضي الله تعالى عنه، في أول الزكاة.
46
((باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة وقوله * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) *))
أي: هذا باب في بيان صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، والمراد من الصلاة الدعاء لأن معناها اللغوي ذلك، وإنما عطف لفظ الدعاء على الصلاة لئلا يفهم أن الدعاء بلفظ الصلاة متعين، بل إذا دعي بلفظ يؤدي معنى الثناء والخير فإنه يكفي، مثل أن يقول: آجرك فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت أو يقول: اللهم اغفر له وتقبل منه، ونحو ذلك، والدليل عليه ما رواه النسائي من حديث وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه وفي إبله. قيل: إنما ذكر لفظ الإمام في الترجمة ردا لشبهة أهل الردة في قولهم لأبي بكر الصديق: إنما قال الله عز وجل لرسوله: * (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 301). وادعوا خصوصية ذلك بالرسول، فأراد أن كل إمام داخل فيه، ولهذا ذكر هذه الآية الكريمة حيث قال فيه: وقوله، بالجر عطف على ما قبله من المجرور أعني: لفظ الصلاة والدعاء، أمر الله تعالى رسوله أن يأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وأمره أن يصلي عليهم بقوله: * (وصل عليهم) * (التوبة: 301). أي: ادع لهم واستغفر لهم، كما يأتي في حديث الباب: (عن عبد الله ابن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم
، فأتاه أبي بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى). وفي حديث آخر: (إن امرأة قالت: يا رسول الله، صل علي وعلى زوجي! فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك). قوله: * (إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 301). قال ابن عباس: أي سكن لهم، وقال قتادة: وقار وقرئ: * (إن صلواتك) * على الجمع. قوله: * (والله سميع عليم) * (التوبة: 301). أي: سميع لدعائك عليم من يستحق ذلك منك، ومن هو أهل له. وقال ابن بطال: معناه صل عليهم إذا ماتوا صلاة الجنازة لأنها في الشريعة محمولة على الصلاة أي: العبادة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، أو أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم ينقل أحد أنه أمر السعاة بذلك، ولو كان واجبا لأمرهم به ولعلمهم كيفيته، وبالقياس على استيفاء سائر الحقوق إذ لا يجب الدعاء فيه. انتهى. قلت: لم ينحصر معنى قوله تعالى: * (وصل عليهم) * (التوبة: 301). على ما ذكره ابن بطال من الصلاة على الجنازة، بل جمهور المفسرين فسروا قوله: * (وصل عليهم) * (التوبة: 301). مثل ما ذكرنا، وعن هذا قال الخطابي: أصل الصلاة في اللغة الدعاء إلا أن الدعاء يختلف بحسب المدعو له، فصلاته عليه السلام لأمته دعاء لهم بالمغفرة، وصلاة الأمة له دعاء له بزيادة القربة والزلفة، وبظاهر الآية أخذ أهل الظاهر، وقالوا: الدعاء واجب، وخالفهم جميع العلماء، وقالوا: إنه مستحب لأنها تقع الموقع وإن لم يدع، ولو كان واجبا، لأمر السعاة به، كما ذكرنا.
7941 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن عمر و عن عبد الله بن أبي أوفى قال
94

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي أوفى.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على من يأتي بصدقته أي: زكاته، والترجمة في صلاة الإمام لصاحب الصدقة.
ذكر رجاله وهم: أربعة: الأول: حفص بن عمر بن الحارث أبو حفص الحوضي. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: عمرو بن مرة، بضم الميم وتشديد الراء: ابن عبد الله بن طارق المرادي، وقد مر في تسوية الصفوف. الرابع: عبد الله بن أبي أوفى، بفتح الهمزة وسكون الواو وفتح الفاء وبالقصر: واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي المدني من أصحاب بيعة الرضوان، روي له خمسة وتسعون حديثا للبخاري خمسة عشر، وهو آخر من بقي من أصحابه بالكوفة، مات سنة سبع وثمانين وهو أحد الصحابة السبعة الذين أدركهم أبو حنيفة سنة ثمانين، وكان عمره سبع سنين، سن التمييز والإدراك من الأشياء. وقيل: مولده سنة إحدى وستين، وقيل سنة سبعين، والأول أصح وأشهر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: عن عمرو عن عبد الله وفي المغازي عن عمرو: وسمعت ابن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو كوفي وشعبة واسطي وعمرو بن مرة كوفي تابعي صغير لم يسمع من الصحابة إلا من ابن أبي أوفى، وقال: شعبة كان لا يدلس.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن آدم، وفي الدعوات عن مسلم ابن إبراهيم وسليمان بن حرب فرقهما. وأخرجه مسلم في الزكاة عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، أربعتهم عن وكيع، وعن عبد الله بن معاذ عن أبيه وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن عبد الله بن إدريس. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر وأبي الوليد. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن يزيد عن بهز بن أسد. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد عن وكيع كلهم عن شعبة به.
ذكر معناه: قوله: (إذا أتي بصدقة)، أي: بزكاة. قوله: (صل على آل فلان)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: (صل على فلان). قوله: (صل على آل أبي أوفى)، يريد به: أبا أوفى، وأما لفظ آل، فمقحم، وأما إن المراد به ذات أبي أوفى لأن الآل يذكر ويراد به ذات الشيء، كما قال صلى الله عليه وسلم في قصة أبي موسى الأشعري: (لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود). يريد به داود عليه السلام، وقيل: لا يقال ذلك، إلا في حق الرجل الجليل القدير، كآل أبي بكر وآل عمر، رضي الله تعالى عنهما، وقيل: آل الرجل: أهله، والفرق بين الآل والأهل: أن الآل قد خص بالأشراف، فلا يقال آل الحائك ولا آل الحجام. فإن قلت: كيف قيل: آل فرعون؟ قلت: لتصوره بصورة الأشراف، وفي الصحاح: أصل آل: أول، وقيل: أهل، ولهذا يقال في تصغيره: أهيل.
ذكر ما يستفاد منه: احتج بالحديث المذكور من جوز الصلاة على غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، بالاستقلال وهو قول أحمد أيضا. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي والأكثرون: إنه لا يصلي على غير الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام استقلالا، فلا يقال: اللهم صل على آل أبي بكر ولا على آل عمر أو غيرهما، ولكن يصلى عليهم تبعا. والجواب عن هذا أن هذا حقه، عليه الصلاة والسلام، له أن يعطيه لمن شاء، وليس لغيره ذلك. وفيه: جواز أن يقال: آل فلان، يريد به فلانا، وفيه: استحباب الدعاء للمتصدق، كما ذكرناه مشروحا.
56
((باب ما يستخرج من البحر))
أي: هذا باب يذكر في بيان حكم ما يستخرج من البحر، وفيه حذف تقديره: هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ والمحذوف في نفس الأمر خبر، لأن كلمة: (ما)، موصولة. (ويستخرج) صلتها. وكلمة (من) بيانية، ولا بد للموصول من عائد، وهو صفة لشيء محذوف تقديره:
95

باب في بيان حكم الشيء الذي يستخرج من البحر: هل تجب فيه الزكاة؟ كما ذكرناه.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ليس العنبر بركاز هو شيء دسره البحر
مطابقته للترجمة في كون العنبر مما يستخرج من البحر، والعنبر بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة: ضرب من الطيب، وهو غير العبير، بفتح العين وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، فإنه أخلاط تجمع بالزعفران. وقال الكرماني: الظاهر أن العنبر زبد البحر، وقيل: هو روث دابة بحرية. وقيل: إنه شيء ينبت في قعر البحر فيأكله بعض الدواب، فإذا امتلأت منه قذفته رجيعا. وقال ابن سينا: هو نبع عين في البحر. وقيل: إنه من كور النخل يخرج في السنبل ببعض الجزاير، وقال الشافعي في كتاب السلم من الأم: أخبرني عدد ممن أثق بخبره: أنه نبات يخلقه الله تعالى في جنبات البحر. وحكى ابن رستم عن محمد بن الحسن أنه ينبت في البحر بمنزلة الحشيش في البر. وقيل: إنه شجر ينبت في البحر فينكسر فيلقيه الموج إلى الساحل. وقال ابن سينا: وما يحكى من أنه روث دابة أو قيؤها أو من زبد البحر بعيد. قوله: (بركاز) الركاز، بكسر الراء وتخفيف الكاف وفي آخره زاي، وهو يقال للمعدن والكنز جميعا، والمعدن خاص لما يكون في باطن الأرض خلقة، والكنز خاص لما يكون مدفونا. والركاز يصلح لهما، كما قلنا. وفي (مجمع الغرائب): الركاز المعادن وقيل: هو كنوز الجاهلية. وفي (النهاية) لابن الأثير: كنوز الأرض الجاهلية المدفونة في الأرض، وهي المطالب في العرف عند أهل الحجاز، وهو المعادن عند أهل العراق، والقولان تحتملهما اللغة، وقال النووي: الركاز بمعنى المركوز، كالكتاب بمعنى المكتوب. قلت: من ركز في الأرض إذا أثبت أصله، والكنز يركز في الأرض كما يركز الرمح. قوله: (دسره) أي: دفعه ورمى به إلى الساحل. ثم هذا التعليق رواه البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا الحميدي وابن قعنب وسعيد قالوا: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أذينة، قال: سمعت ابن عباس قال: ليس العنبر بركاز. وفي (المصنف): حدثنا وكيع عن سفيان بن سعيد عن عمرو بن دينار عن أذينة عن ابن عباس: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شيء دسره البحر، وأذينة مصغر أذن تابعي ثقة. فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس، سئل في العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس. قلت: قال البيهقي: علق القول فيه في هذه الرواية، وقطع بأن لا زكاة فيه في الرواية الأولى، والقطع أولى. وقال ابن التين: قول ابن عباس قول أكثر العلماء. فإن قلت: روي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه أخذ الخمس من العنبر؟ قلت: هو محمول على الجيش، يدخلون أرض الحرب فيصيبون العنبر في ساحلها وفيه الخمس لأنه غنيمة.
وقال الحسن: في العنبر واللؤلؤ الخمس
الحسن هو البصري، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن أنه كان يقول: في العنبر الخمس، وكذلك كان يقول: في اللؤلؤ، واللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فعلى هذا أصله ماء، ولا شيء في الماء. وقيل: إن الصدف حيوان يخلق فيه اللؤلؤ. وفي (كتاب الأحجار) لأبي العباس التيغاشي: إن حيوان الجوهر الذي يتكون فيه منه الكبير ويسمى الدر، ومنه الصغير ويسمى اللؤلؤ. وهذا الحيوان يسمى باليونانين: أرسطورس، يعلو لحم ذلك الحيوان صدفتان ملتصقتان بجسمه، والذي يلي الصدفتين من لحمه أسود، وله فم وأذنان وشحم من داخلها إلى غاية الصدفتين، والباقي رغوة وزبد وماء. وقيل: إن البحر المحيط يلحق آخره أول البحر المسلوك، وإن الرياح تصفق الذي فيه الدر في وقت ريح الشمال، فيصير لموجه رشاش فيلتقمه الصدف عند ذلك إلى قعر البحر، فيتغرس هناك ويضرب بعروق فيتشعب مثل الشجر ويصير نباتا بعد أن كان حيوانا ذا نفس، فإذا تركت هذه الصدفة حتى يطول مكثها تغيرت وفسدت. واللؤلؤ: بهمزتين وبواوين، ويقال: الثاني بالواو، والأول بالهمز، وبالعكس قال النووي: أربع لغات. قلت: لا يقال لتخفيف الهمزة لغة، وقال ابن قدامة: ولا زكاة في المستخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه في ظاهر قول الخرقي، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء ومالك والثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والشافعي وأبو حنيفة ومحمد وأبو ثور وأبو عبيد، وعن أحمد رواية أخرى: أن فيه الزكاة، لأنه خارج من معدن التبر، وبه قال
96

أبو يوسف وإسحاق. وقال الأوزاعي: أن وجد عنبرة في صفة البحر خمست، وإن غاص عليها في مثل بحر الهند فلا شيء فيها لا خمس ولا نفل ولا غيره، وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي الزبير عن جابر قال: ليس في العنبر زكاة، وإنما هو غنيمة لمن أخذه.
إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس ليس في الذي يصاب في الماء
هذا من كلام البخاري، يريد به الرد على الحسن، ووجهه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، إنما جعل الخمس في الركاز لا في الشيء الذي يصاب في الماء، ويأتي الحديث موصولا عن قريب، وقد لفظ في الركاز للحصر. قوله: (يصاب) أي: يوجد في الماء كالسمك.
8941 وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل بأن يسلفه ألف دينار فدفعها إليه فخرج في البحر فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار فرمى بها في البحر فخرج الرجل الذي كان أسلفه فإذا بالخشبة فأخذها لأهله حطبا فذكر الحديث فلما نشرها وجد المال.
.
الكلام في هذا الحديث على أنواع.
الأول: في وجه إيراده هذا الحديث في هذا الباب، فقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث شيء يناسب الترجمة، رجل اقترض قرضا فارتجع قرضه، وكذا قال الداودي: حديث الخشبة ليس من هذا الباب في شيء، وأجاب عن ذلك من ساعده ووجه كلامه منهم عبد الملك فقال: إنما أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب لأنه يريد أن كل ما ألقاه البحر جاز التقاطه ولا خمس فيه إذا لم يعلم أنه من مال المسلمين، وأما إذا علم أنه منه فلا يجوز أخذه لأن الرجل إنما أخذ خشبة على الإباحة
ليملكها، فوجد فيها المال، ولو وقع هذا اليوم كان كاللقطة لأنه معلوم أن الله تعالى لا يخلق الدنانير المضروبة في الخشبة. قلت: ينبغي أن يقيد عادة، لأن قدرة الله تعالى صالحة لكل شيء عقلا، ومنهم ابن المنير، فقال: موضع الاستشهاد إنما هو أخذ الخشبة على أنها حطب، فدل على إباحة مثل ذلك مما يلفظه البحر، أما مما ينشأ فيه كالعنبر أو مما سبق فيه ملك وعطب وانقطع ملك صاحبه منه على اختلاف بين العلماء في تمليك هذا مطلقا أو مفصلا، وإذا جاز تمليك الخشبة، وقد تقدم عليها ملك متملك، فنحو العنبر الذي لم يتقدم عليه ملك أولى. قلت: الترجمة ما يستخرج من البحر، والحديث يدل على ما يستخرج من البحر، فالمطابقة في مجرد الاستخراج من البحر مع قطع النظر عن غيره، وأدنى الملابسة في التطابق كاف.
النوع الثاني: أنه ذكر هذا الحديث هنا معلقا مختصرا، ووقع في بعض نسخه عقيبه: حدثني بذلك عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، ذكره الحافظ المزي، قال: وهو ثابت في عدة أصول من كتاب البيوع من الجامع من رواية أبي الوقت عن الداودي عن أبي حمويه عن الفربري عنه، وقال الطرقي: أخرجه محمد في خمسة مواضع من الكتاب، فقال: قال الليث) قلت: أخرجه هنا أعني في الزكاة وفي الكفالة وفي الاستقراض وفي اللقطة وفي الشروط وفي الاستئذان، وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، وقال في: باب التجارة في البحر، في البيوع. وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن الأعرج (عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل خرج في البحر فقضى حاجته)، وساق الحديث. حدثني عبد الله ابن صالح، قال: حدثني الليث بهذا، وأخرجه النسائي في اللقطة عن علي بن محمد بن علي عن داود بن منصور عن الليث نحوه.
أما الذي أخرجه في الكفالة فهو في: باب الكفالة في القرض والديون، ولفظه: قال أبو عبد الله، وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: إيتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا. قال: فاتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في االبحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا
97

يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأحل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى به إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا، فرضي بك، وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا، فرضي بك، وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعتكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرتك إني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا.
وأما الذي في الاستقراض فأخرجه مختصرا في: باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى، فقال: وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه (عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه، فدفعها إليه إلى أجل مسمى...) فذكر الحديث.
وأما الذي في اللقطة، فأخرجه في: باب إذا وجد خشبة في البحر أو سوطا أو نحوه، وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل)، وساق الحديث (فخرج ينظر لعل مركبا قد جاء بماله فإذا هو بالخشبة، فأخذها لأهله حطبا فلما نشرها وجد المال والصحيفة.
وأما الذي في الشروط فأخرجه في: باب الشروط في الفرض مختصرا، وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر رجلا سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فدفعها إليه إلى أجل مسمى).
وأما الذي في الاستئذان فأخرجه في: باب بمن يبدأ في الكتاب، وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل أخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة منه إلى صاحبه)، وقال عمر ابن أبي سلمة (عن أبيه عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نجر خشبة فجعل المال في جوفها وكتب إليه صحيفة من فلان إلى فلان).
النوع الثالث: في معاني الحديث، فقوله: (أن يسلفه)، بضم الياء، من أسلف إسلافا، يقال: سلفت تسليفا وأسلفت إسلافا، والاسم السلف، وهو في المعاملات على وجهين: أحدهما القرض الذي لا منفعة فيه للمقرض غير الأجر والشكر، وعلى المقترض رده، والعرب تسمي القرض سلفا. والثاني: هو أن يعطي مالا في سلعة إلى أجل معلوم بزيادة في السعر الموجود عند السلف، وذلك منفعة للمسلف، ويقال له: سلم، والمراد ههنا هو المعنى الأول. قوله: (فلم يجد مركبا)، أي: سفينة يركب عليها ويجيء إلى صاحبه أو يبعث فيها شيئا إليه لقضاء دينه. قوله: (فأخذ خشبة) والخشبة واحدة الخشب. قوله: (فنقرها) أي: قورها. قوله: (ورمى بها)، أي: الخشبة المنقورة قاصدا وصولها إلى صاحب المال. قوله: (فإذا بالخشبة) أي: فإذا هو مفاجىء بالخشبة. قوله: (حطبا)، نصب على أن أخذ من أفعال المقاربة، فيعمل عمل كان، ويجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره فأخذها يجعلها حطبا، يعني: يستعملها استعمال الحطب في الوقيد. قوله: (بالشهداء)، جمع شهيد بمعنى: شاهد، قوله: (يقدم)، بفتح الدال من قدم يقدم من: باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي، وفتحها في الغابر. قوله: (فأحل فيها) من الإحلال، وهو الإنزال والمراد وضع في الخشبة المنقورة ألف دينار. قوله: (وصحيفة) بالنصب عطف على ألف دينار، والمراد منها المكتوب. قوله: (ثم زجج موضعها)،
أي: أصلح موضع النقرة وسواه، قيل: لعله من تزجيج الحواجب وهو التقاط زوائد الشعر الخارج عن الخدين، وإن أخذ من الزج وهو سنان الرمح فيكون النقر قد وقع في طرف من الخشبة فسد عليه رجاء أن يمسكه ويحفظ ما في بطنه. قوله: (تسلفت)، من باب التفعل معناه: افترضت. قوله: (جهدت) من باب: فعل يفعل، بالفتح فيهما أي: تحملت المشقة. قوله: (ولجت)، من الولوج وهو: الدخول. قوله: (فلما نشرها) أي: قطعها بالمنشار. قوله: (بالألف دينار)، هو جائز على رأي الكوفيين. قوله: (راشدا) نصب على الحال من فاعل: انصرف.
98

ذكر ما يستفاد منه: قال الخطابي: لفظ: (أجل) فيه دليل على جواز دخول الآجال في القرض. وفيه: في قوله: (أخذها لأهله حطبا) دليل على أن ما يوجد في البحر من متاع البحر وغيره أنه لا شيء فيه، وهو لمن وجده حتى يستحق ما ليس من متاع البحر من الأموال كالدنانير والثياب وشبه ذلك، فإذا استحق رد إلى مستحقه، وما ليس له طالب ولم يكن له كثير قيمة، وحكم بغلبة الظن بانقطاعه كان لمن وجده ينتفع به، ولا يلزمه تعريفه إلا أن يوجد فيه دليل يستدل به على مالكه: كاسم رجل معلوم أو علامة، فيجتهد ملتقطها في أمر التعريف له، قاله المهلب. وفيه: أن من توكل على الله فإنه ينصره، فالذي نقر الخشبة وتوكل حفظ الله تعالى ماله، والذي أسلفه وقنع بالله كفيلا أوصل الله تعالى ماله إليه. وفيه: جواز ركوب البحر بأموال الناس والتجارة. وفيه: أن الله تعالى متكفل بعون من أراد أداء الأمانة، وأن الله يجازي أهل الإرفاق بالمال بحفظه عليهم مع أجر الآخرة، كما حفظه على المسلف.
66
((باب في الركاز الخمس))
أي: هذا باب يذكر فيه في الركاز الخمس، والخمس مرفوع بالابتداء، وفي الركاز مقدما خبره، وقد مر تفسير الركاز.
وقال مالك وابن إدريس الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيره الخمس وليس المعدن بركاز
مطابقته للترجمة ظاهرة ومالك هو ابن أنس صاحب المذهب المشهور، وابن إدريس هو محمد بن إدريس، فقال ابن التين: قال أبو ذر: يقال: هو محمد بن إدريس الشافعي، يعني صاحب المذهب، ويقال: عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي، وهو الأشبه، وقد جزم أبو زيد المروزي أحد الرواة عن الفربري بأنه الشافعي، يعني صاحب المذهب. وتابعه البيهقي وجمهور الأئمة. قيل: يؤيد ذلك أنه وجد في عبارة الشافعي دون الأودي، فروى البيهقي في (المعرفة) من طريق الربيع، قال: قال الشافعي: والركاز الذي فيه الخمس دفن الجاهلية ما وجد في غير ملك لأحد، وأما في قليله وكثيرة الخمس فهو قوله في القديم، كما نقله ابن المنذر عنه، واختاره. وأما في الجديد فقال: لا يجب فيه الخمس حتى يبلغ نصاب الزكاة، والتعليق عن مالك رواه أبو عبيد في (كتاب الأموال): حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير عن مالك، قال: المعدن بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزرع تؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الزرع حين يحصد. قال: وهذا ليس بركاز، وإنما الركاز دفن الجاهلية الذي يوجد من غير أن يطلب بمال ولا يتكلف له كثير عمل. انتهى. قوله: (دفن الجاهلية)، بكسر الدال، بمعنى: المدفون. قوله: (في قليله)، هو الذي لا يبلغ نصابا، وفي كثيره ما بلغ نصابا، قوله: (وليس المعدن بركاز) فيجب فيه ربع العشر لا الخمس لأنه يحتاج إلى عمل ومعالجة واستخراج، بخلاف الركاز، وقد جرت السنة أن ما غلظت مؤنته خفف عنه في مقدار الزكاة، وما خفف زيد فيه، وسمي المعدن لإقامة التبر فيه، لأنه من العدن وهو الإقامة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المعدن جبار وفي الركاز الخمس
هذا من جملة كلام مالك وابن إدريس فيما ذهبا إليه، أراد أنه صلى الله عليه وسلم فرق بين المعدن والركاز، فجعل المعدن جبارا وأوجب في الركاز الخمس، وهذا التعليق أسنده في هذا الباب، فعن قريب يأتي إن شاء الله تعالى، والجبار، بضم الجيم وتخفيف الباء الموحدة وفي آخره راء: وهو الهدر ليس فيه شيء.
وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مائتين خمسة
أي: خمسة دراهم وهو ربع العشر، وهذا التعليق وصله أبو عبيد في (كتاب الأموال) من طريق الثوري عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم نحوه، وروى البيهقي من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن عمر بن عبد العزيز جعل المعدن بمنزلة الركاز يؤخذ منه الخمس، ثم عقب بكتاب آخر فجعل فيه الزكاة، قال: وروينا عن عبد الله بن أبي بكر أن عمر بن عبد العزيز
99

أخذ من المعادن من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وعن أبي الزناد قال: جعل عمر بن عبد العزيز في المعادن أرباع العشر إلا أن يكون ركزه، فإذا كان ركزه ففيها الخمس.
وقال الحسن ما كان من ركاز في أرض الحرب ففيه الخمس وما كان من أرض السلم ففيه الزكاة
الحسن هو البصري، قوله: (السلم) بكسر السين وسكون اللام، وهو: الصلح، وهذه التفرقة لم تعرف عن غيره، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عنه بلفظ: (إذا وجد الكنز في أرض العدو ففيه الخمس، وإذا وجد في أرض العرب ففيه الزكاة).
وإن وجدت اللقطة في أرض العدو فعرفها وإن كانت من العدو ففيها الخمس
هذا من تتمة كلام الحسن، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عباد بن العوام عن هشام عن الحسن: الركاز الكنز العادي وفيه الخمس، واللقطة، بفتح القاف وسكونها، لكن القياس أن يقال بالفتح للاقط، وبسكون القاف للملقوط، وإن كانت اللقطة مال العدو فلا حاجة إلى التعريف، بل يملكها ويجب فيها الخمس، ولا يكون لها حكم اللقطة بخلاف ما لو كانت في أرض العدو والمحتملة لكونها للمسلمين.
وقال بعض الناس المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال أركز المعدن إذا خرج منه شيء قيل له قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحا كثيرا أو كثر ثمره أركزت ثم ناقض وقال لا بأس أن يكتمه فلا يؤدي الخمس
قال ابن التين: المراد ببعض الناس هو أبو حنيفة. قلت: جزم ابن التين بأن المراد به هو أبو حنيفة من أين أخذه فلم لا يجوز أن يكون مراده هو سفيان الثوري من أهل الكوفة، والأوزاعي من أهل الشام، فإنهما قالا مثل ما قال أبو حنيفة: أن المعدن كالركاز وفيه الخمس في قليله وكثيره، على ظاهر قوله، صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس)، ولكن الظاهر أن ابن التين لما وقف على ما قاله البخاري في (تاريخه) في حق أبي حنيفة مما لا ينبغي أن يذكر في حق أحد من أطراف الناس، فضلا أن يقال في حق إمام هو أحد أركان الدين، صرح بأن المراد ببعض الناس أبو حنيفة، ولكن لا يرمى إلا شجر فيه ثمر، وهذا ابن بطال قال: ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب: أركز الرجل إذا أصاب ركازا، وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن، وهذا قول صاحب العين، وأبي عبيد. وفي (مجمع الغرائب): الركاز المعادن. وفي (النهاية): لابن الأثير: المعدن والركاز واحد، فإذا علم ذلك بطل التشنيع على أبي حنيفة.
قوله: (مثل دفن الجاهلية) بكسر الدال كما ذكرنا عن قريب بمعنى: المدفون. قوله: (لأنه يقال، أركز المعدن إذا خرج منه شيء)، والضمير في: لأنه، ضمير الشأن، وأشار به إلى تعليل من يقول: إن المعدن هو الركاز، وليس كذلك، لأنه لم ينقل عنهم ولا عن العرب أنهم قالوا: أركز المعدن، وإنما قالوا: أركز الرجل، فإذا لم يكن هذا صحيحا فكيف يتوجه الإلزام بقول القائل: قد يقال لمن وهب له... إلى آخره؟ أراد أنه يلزم أن يقال: كل واحد من الموهوب والربح والثمر ركاز، فيجب فيه الخمس، وليس كذلك بل الواجب فيه العشر، ومعنى: أركز الرجل صار له ركاز من قطع الذهب، كما ذكرنا، ولا يلزم منه أنه إذا إذا وهب له شيء أن يقال له: أركزت، بالخطاب، وكذلك إذا ربح ربحا كثيرا أو كثر ثمره، ولو علم المعترض أن معنى: أفعل، ههنا ما هو، ولما اعترض ولا أفحش فيه، ومعنى: أفعل، هنا للصيرورة يعني: لصيرورة الشيء منسوبا إلى ما اشتق منه الفعل، كأغد البعير. أي: صار ذا غدة. ومعنى: أركز الرجل، صار له ركاز من قطع الذهب، كما ذكرناه، ولا يقال إلا بهذا القيد، أعني من قطع الذهب، ولا يقال: أركز الرجل مطلقا. قوله: (ثم ناقض) أي:
100

ناقض هذا القائل قوله، وجه هذه المناقضة على زعمه أنه قال، أولا: المعدن يجب فيه الخمس، لأنه ركاز، وقال ثانيا: إنه لا يؤدى الخمس في الركاز، وهو متناول للمعدن. قوله: (أن يكتمه) أي: عن الساعي حتى لا يطالب به. قلت: هذا ليس بمناقضة لأنه فهم من كلام هذا القائل غير ما أراده فصدر هذا عنه بلا تأمل ولا ترو.
بيان ذلك أن الطحاوي حكى عن أبي حنيفة أنه قال: من وجد ركازا فلا بأس أن يعطي الخمس للمساكين وإن كان محتاجا جاز له أن يأخذه لنفسه، قال: وإنما أراد أبو حنيفة أنه تأول أن له حقا في بيت المال، ونصيبا في الفيء، فلذلك له أن يأخذ الخمس لنفسه عوضا من ذلك، ولقد صدق الشاعر:
* وكم من عائب قولا صحيحا
* وآفته من الفهم السقيم
*
والكرماني أيضا مشى في مشيهم، ولكنه اعترف أن النقض تعسف، حكاه عن ابن بطال، ورضي به. وقال بعضهم: نقل الطحاوي عن أبي حنيفة أيضا أنه: لو وجد في داره معدنا فليس عليه شيء، ثم قال: وبهذا يتجه اعتراض الطحاوي. قلت: معناه: لا يجب عليه شيء في الحال إلا إذا حال الحول وكان نصابا يجب فيه الزكاة، وبه قال أحمد، وعند أبي يوسف ومحمد: يجب الخمس في الحال، وعند مالك والشافعي: الزكاة في الحال، وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول)، وقال هذا القائل أيضا: والفرق بين المعدن والركاز أن المعدن يحتاج إلى عمل ومؤونة ومعالجة، بخلاف الركاز. قلت: هذا شيء عجيب لأنه ليس بهذا يعرف حقيقة كل واحد منهما ما هي، والفرق بين الأشياء ببيان ماهياتها وحقائقها، والذي ذكره هذا من اللوازم الخارجية عن الماهية.
9941 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس.
.
الترجمة هي عين متن الجزء الأخير من الحديث، ورجاله قد ذكروا غير مرة.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحدود عن محمد بن رافع عن إسحاق بن عيسى. وأخرجه النسائي في الزكاة وفي الركاز عن قتيبة. وأخرجه مسلم أيضا وأصحاب السنن من رواية ابن عيينة عن الزهري، وأورده البخاري في الأحكام وليس في روايته، والنسائي من طريق ابن عيينة ذكر لأبي سلمة، وإنما هو عن ابن المسيب فقط، ورواه مسلم من رواية الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ؛ (البئر جرحها جبار والمعدن جرحه جبار وفي الركاز الخمس). واتفق عليه الشيخان من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: (العجماء عقلها جبار...) الحديث، وقد ذكر الدارقطني في (العلل) وقد سئل عن هذا الحديث: إنه اختلف فيه على الزهري في كونه عن ابن المسيب وأبي سلمة، أو عن سعيد فقط، أو عن أبي سلمة فقط، أو عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أو عن عبيد الله وحده، وأنه اختلف فيه على الليث وعلى مالك وعلى ابن عيينة وعلى يونس ابن يزيد، فقيل: عن الليث عن الزهري عن سعيد وحده، ورواه القعنبي ومصعب عن مالك عن الزهري عن سعيد فقط، وقال ابن وهب: عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة وحده، ورواه شبيب بن سعيد عن يونس عن الزهري عن سعيد
وأبي سلمة ورواه ابن وهب عن يونس عن الزهري عن سعيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، ورواه إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبيد الله وحده. قال: والصحيح عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة. قال: وحديثه عن عبيد الله غير مدفوع لأنه قد اجتمع عليه اثنان، ولما رواه الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار...) الحديث.
قال: وفي الباب عن أنس بن مالك وعبد الله بن عمرو وعبادة بن الصامت وعمرو بن عوف المزني وجابر. قلت: وفي الباب أيضا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وزيد بن أرقم وأبي ثعلبة الخشني، رضي الله تعالى عنهم، وسراء بنت نبهان الغنوية. فحديث أنس عند أحمد والبزار مطولا، وفيه: (هذا ركاز وفيه الخمس). وحديث عبد الله بن عمر وعند
101

الشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة جاهلية: (إن وجدته في قرية مسكونة أو سبيل ميتا فعرفه، فإن وجدته في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس). وحديث عبد الله بن الصامت رواه ابن ماجة من رواية إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، رضي الله تعالى عنه، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعدن جبار وجرحها جبار). والعجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر لا يغرم، وهذا منقطع لأن إسحاق لم يدرك عبادة. وحديث عمرو بن عوف المزني رواه ابن ماجة أيضا من رواية ابن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (العجماء جرحها جبار والمعدن جبار)، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) بهذا الإسناد مقتصرا على قوله: (وفي الركاز الخمس). وحديث جابر رواه أحمد والبزار من رواية مجالد عن الشعبي عن جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السائبة...) الحديث، وفيه: (في الركاز الخمس). وحديث ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير من رواية علقمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار والسائمة جبار وفي الركاز الخمس). وحديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، عند ابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية عكرمة عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم في الركاز الخمس. وحديث زيد بن أرقم رواه الطبراني في (الكبير) من رواية الشعبي عن رجل عن زيد بن أرقم، قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا عاملا على اليمن، فأتى بركاز فأخذ منه الخمس ودفع بقيته إلى صاحبه، فبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبه) وهذا منقطع لأجل الرجل الذي لم يسم. وحديث سراء بنت نبهان الغنوية رواه الطبراني في (الكبير) من حديث ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية، قالت: (احتفر الحي في دار كلاب فأصابوا بها كنزا عاديا، فقالت كليب: دارنا، وقال الحي: احتفرنا، فنافروهم في ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بهم للحي وأخذ منهم الخمس)، الحديث فيه أحمد بن الحارث الغساني، قال البخاري فيه نظر، وقال أبو حاتم: متروك.
ذكر معناه: قوله: (العجماء) أي: البهيمة، وسميت العجماء لأنها لا تتكلم، وعن أبي حاتم: يقال لكل من لم يبين الكلام من العرب والعجم والصغار: أعجم ومستعجم، وكذلك من الطير والبهائم كلها، والاسم: العجمة. قوله: (جبار)، بضم الجيم وتخفيف الباء الموحدة وفي آخره راء: وهو الهدر، يعني: ليس فيه ضمان. وفي (التلويح): الجبار الهدر الذي لا قود فيه ولا دية، وكل ما أفسد وأهلك جبار، ذكره ابن سيده، وفيه حذف لا بد من تقديره، وهو فعل: العجماء جبار، لأن المعلوم أن نفس العجماء لا يقال لها هدر، وبلا تقدير لا يرتبط الخبر بالمبتدأ. قوله: (والبئر جبار)، معناه الرجل يحفر بئرا بفلاة أو بحيث يجوز له من العمران فيسقط فيها رجل أو يستأجر من يحفر له بئرا في ملكه فينهار عليه فلا شيى عليه، وكذا المعدن إذا استأجر من يحفره، وكذا في قوله: والبئر جبار، حذف تقديره: وسقوط البئر على الشخص جبار، أو: سقوط الشخص في البئر، وكذا التقدير في المعدن، والمشهور في البئر، بكسر الباء الموحدة بعدها همزة ساكنة، ويجوز تسهيلها. وقال ابن العربي: رواه بعضهم: النار جبار، وقال أهل اليمن يكتبون: النار، بالباء ومعناه عندهم أن من استوقد نارا يما يجوز له فتعدت إلى ما لا يجوز فلا شيء فيه، وروي في حديث جابر، والجب جبار، وهذا يدل على أن المراد: البئر لا النار، كما هو في الكتب الستة المشهورة، وورد في بعض طرق الحديث: الرجل جبار، فاستدل به من فرق في حالة كون راكبها معها بين أن يضرب بيدها أو يرمح برجلها، فإن أفسدت بيدها ضمنه، وإن رمحت برجلها لا يضمن. قوله: (وفي الركاز الخمس) أي: يجب، أو واجب.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: مسألة العجماء، ظاهر الحديث مطلق، ولكنه محمول على ما إذا أتلفت شيئا بالنهار وأتلفت بالليل من غير تفريط من مالكها، أو أتلفت ولم يكن معها أحد، والحديث محتمل أيضا أن تكون الجناية على الأبدان، أو على الأموال، فالأول أقرب إلى الحقيقة، لأنه ورد في (صحيح مسلم) وفي (البخاري) أيضا في الديات: العجماء جرحها جبار، وفي لفظ: (عقلها جبار)، لما مر، وعلى كل تقدير لم يقولوا بالعموم في إهدار كل متلف من بدن أو مال عن ما بين في كتب الفروع، والمراد بجرح العجماء إتلافها، سواء كان بجرح أو غيره، وقال عياض: أجمع العلماء على أن جناية البهائم بالنهار لا ضمان فيها إذا
102

لم يكن معها أحد، فإن كان معها راكب أو سائق أو قائد، فجمهور العلماء على ضمان ما أتلفت، وقال داود وأهل الظاهر: لا ضمان بكل حال، سواء كان برجل أو بقدم لإطلاق النص، إلا أن يحملها الذي فوقها على ذلك، أو يقصده فيكون حينئذ كالآلة، وكذا إذا تعدى في ربطها أو إرسالها في موضع لا يجب ربطها فيه. وقالت الشافعية بالإطلاق، يعني سواء كان إتلافها بيدها أو رجلها أو فمها، ونحوه، فإنه يجب ضمانه في مال الذي هو معها، سواء كان مالكها أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا أو مودعا أو وكيلا أو غيره، إلا أن تتلف آدميا فتجب ديته على عاقلة الذي معها، والكفارة في ماله. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا ضمان فيما إذا أصابته بيدها أو رجلها، وعند أبي حنيفة أنه: لا ضمان فيما رمحت برجلها دون يدها لإمكان التحفظ من اليد دون الرجل، وأما إذا أتلفت بالنهار وكانت معروفة بالإفساد ولم
يكن معها أحد، فإن مالكها يضمن، لأن عليه ربطها والحالة هذه، وأما جنايتها بالليل فقال مالك: يضمن صاحبها ما أتلفته، وقال الشافعي وأصحابه: إن فرط في حفظها ضمن وإلا فلا. وقال أبو حنيفة: لا ضمان فيما رعته نهارا. وقال الليث وسحنون: يضمن، وقد ورد حديث صحيح مرفوع في إتلافها بالليل دون النهار في المزارع، وإنه يضمن كما قاله مالك، أخرجه أبو داود والنسائي من حديث حرام بن محيصة عن البراء، ومن حديث حرام عن أبيه: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
الوجه الثاني: مسألة البئر، وقد ذكرناه.
الوجه الثالث: مسألة الركاز، وفيه وجوب الخمس وهو إجماع العلماء إلا ما روي عن الحسن وقد ذكرناه. وقد ذكرنا أيضا أن الركاز قطع من الذهب تخرج من المعادن. وقال الكرماني: هل في الحديث ما يدل على أن المعدن ليس بركاز؟ قلت: نعم حيث عطف الركاز على المعدن، وفرق بينهما بواو فاصلة فصح أنهما مختلفان، وأن الخمس في الركاز لا فيه. قلت: الكرماني حفظ شيئا وغابت عنه أشياء، وروى البيهقي في (المعرفة) من حديث حبان بن علي عن عبد الله بن سعيد بن أبي عن أبيه عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الركاز الذهب الذي ينبت بالأرض)، ثم قال: وروي عن أبي يوسف عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن جده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (في الركاز الخمس، قيل: وما الركاز يا رسول الله؟ قال: الذهب الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقت). انتهى. وهذا ينادي بأعلى صوته أن الركاز هو المعدن، وأصرح منه ما رواه الدارقطني في (العلل) وإن كان تكلم فيه حديث أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الركاز الذي ينبت على وجه الأرض)، وذكر حميد بن زنجويه النسائي في (كتاب الأموال) عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أنه جعل المعدن ركازا وأوجب فيه الخمس، ومثله عن الزهري، وروى البيهقي من حديث مكحول أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، جعل المعدن بمنزلة الركاز فيه الخمس. فافهم.
الوجه الرابع في المعدن، وهو أنواع ثلاثة: ما يذوب بالنار ولا ينطبع، كالجص والنورة والكحل والزرنيخ والمغرة. وما يوجد في الجبال، كالياقوت والزمرد والبلخش والفيروزج، ونحوها. وما يكون مائعا: كالقار والنفط والملح المائي ونحوها، فالوجوب يختص بالنوع الأول دون النوعين الأخيرين عندنا، وأوجب أحمد في الجميع، ومالك والشافعي في الذهب والفضة خاصة، وعموم الحديث حجة عليه.
الوجه الخامس أنه يجب في قليله وكثيره، ولا يشترط فيه النصاب عندنا، واشترط مالك والشافعي وأحمد أن يكون الموجود نصابا ولم يشترطوا الحول. وقالوا: كم من حول قد مضى عليه؟ وضعف هذا الكلام ظاهر، لأن الأحوال التي مضت عليه في غير ملك الواجد، فكيف يحسب عليه؟ واختار داود وإسحاق وابن المنذر وأحمد والمزني والشافعي والبويطي اشتراط النصاب والحول في ذلك، ولنا النصوص خالية عن اشتراط النصاب، فلا يجوز اشتراطه بغير دليل سمعي.
الوجه السادس: في مكانه إن وجد المسلم أو الذمي في داره معدنا فهو له ولا شيء فيه عند أبي حنيفة وأحمد إلا إذا حال عليه الحول وهو نصاب ففيه الزكاة، وعند أبي يوسف ومحمد: يجب الخمس في الحال، وعند مالك والشافعي: الزكاة في الحال
103

والحانوت والمنزل كالدار، والذهب والفضة والعنبر واللؤلؤ يستخرج من البحر لا خمس فيها ولا زكاة عند أبي حنيفة ومحمد، بل جميعها للواجد، وبه قال مالك، كذا في الجواهر لابن شاس. وعن أبي يوسف: يجب فيها الخمس، وعند الشافعي وأحمد: تجب الزكاة، لكن عند الشافعي في الذهب والفضة خاصة وإن وجده في الفلاة والجبال والموات ففيه الخمس وباقيه للواجد، وإن كان في العامر وكان الإمام اختطه للغازي ففيه الخمس وأربعة أخماس لصاحب الخطة أو لورثته أو ورثة ورثته إن عرفوا وإلا يعطي أقصى مالك الأرض أو ورثته، وإن لم يعرفوا، فلبيت المال. وقال أبو يوسف: للواجد، وهو استحسان وإن لم يكن مملوكا لأحد كالجبال والمفاوز ونحوهما فأربعة أخماسه للواجد اتفاقا.
الوجه السابع في الواجد، ويستوي عندنا مسلما كان أو ذميا أو مستأمنا أو امرأة أو مكاتبا أو عبدا إلا الحربي: قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه على وجوب الخمس فيما وجده ذمي، منهم الشافعي ورده أصحابه، والكافر لا تؤخذ منه الزكاة، نصوا على هذا في كتبهم.
الوجه الثامن: في مصرفه، ومصرفه مصرف خمس الغنيمة والفيء عندنا، وبه قال مالك وأحمد في رواية، والمزني وأبو حفص بن الوكيل من الشافعية، وعن محمد: يصرف منه إلى حملة القرآن ودواء المرضى وكتبة الأمراء ودواب البرد، وعند الشافعي: يصرف في مصارف الزكاة وإن تصدق بنفسه أمضاه الإمام لأنه لم يدخل في جبايته، وبه قال أحمد وابن المنذر، وقال أبو ثور: بضمنة الإمام لو فعل، وللمحتاج أن يصرفه إلى نفسه. وقال في (التحفة): إذا لم يغنه أربعة الأخماس، ورده عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهما، على واجده، رواه أحمد وابن المنذر، واختاره القاضي وابن عقيل من الحنابلة، ولم يجوزه الشافعي لكونه زكاة على أصله، ويجوز صرفه إلى من شاء من أولاده وآبائه المحتاجين، بخلاف الزكاة والعشر وصدقة الفطر والكفارات والنذور، ذكرها الاسبيجابي، رحمه الله، وفي (المبسوط): ولا يسقط عن الركاز والمعدن وإن كان الواحد مدنيا أو فقيرا لإطلاق النص، ولا فرق بين أرض العنوة وأرض الصلح وأرض العرب. وهو قول الشافعي وأحمد. وقال مالك: الركاز في أرض العرب للواجد بعد الخمس، وفي أرض الصلح لأهل تلك البلاد، ولا شيء فيه للواجد، وما يوجد في أرض العنوة لمن افتتحها بعد الخمس، وأما ما يوجد من الجوهر والحديد والرصاص ونحوه فإنه كان يقول: فيه الخمس، ثم رجع عنه فقال: لا شيء فيه.
76
((باب قول الله تعالى * (والعاملين عليها) * (التوبة: 06). ومحاسبة المصدقين مع الإمام))
أي: هذا باب قول الله تعالى: * (والعاملين عليها) * (التوبة: 06). أي: على الصدقات، وهذا مذكور في آية الصدقات. ذكره لأنه روى في هذا الباب حديث أبي حميد، رضي الله تعالى عنه. وفيه: محاسبة الإمام مع المصدق، وأشار إليه بقوله، ومحاسبة المصدقين، بلفظ الفاعل جمع مصدق بالتشديد، وهو الذي يأخذ الصدقات، وهو الساعي الذي يعينه الإمام بقبضها.
0051 حدثنا يوسف بن موسى ا قال حدثنا أبو أسامة قال أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه. قال استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتبية فلما جاء حاسبه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن ابن اللتبية كان عاملا للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء من عمله أخذ عنه الحساب وأبو أسامة اسمه حماد بن أسامة، وأبو حميد بضم الحاء المهملة، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر، وقيل: إنه عم سهل بن سعد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرج البخاري طرفا منه في كتاب الجمعة في: باب من قال في الخطبة بعد التشهد أما بعد. حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عروة (عن أبي حميد الساعدي أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة فتشهد وأثني على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد..). وأخرجه في الهبة عن عبد الله بن محمد، وفي الأحكام عن علي بن عبد الله، وفي النذور عن أبي اليمان عن شعيب، وفي الجمعة كذلك، وفي ترك الحيل عن عبيد الله بن إسماعيل وفي الأحكام عن محمد بن عبدة. وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن محمد الناقد وابن أبي عمر وعن
104

إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد وعن ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان وعن أبي كريب وعبدة بن سليمان وعبد الله ابن نمير وأبي معاوية وعن ابن أبي عمرو عن إسحاق بن إبراهيم وأخرجه أبو داود في الخراج عن أبي الطاهر بن السرح ومحمد ابن أحمد كلاهما عن سفيان بن عيينة عن الزهري.
ذكر معناه: قوله: (من الأسد) بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، قال التيمي: الأسد والأزد يتعاقبان. قال الرشاطي: الأسدي بسكون السين في كهلان هو الأسد بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، وقال أيضا: الأزدي في كهلان ينسب إلى الأزد بن الغوث. ثم قال: يقال له الأزد، بالزاي، والأسد بالسين. قوله: (يدعى ابن اللتيبة)، بضم اللام وسكون التاء المثناة من فوق بعدها الباء الموحدة: واسمه عبد الله وكان من بني لتب، حي من الأزد. وقال ابن دريد: قيل: إن اللتيبة كانت أمه فعرف بها، وقيل: اللتيبة، بفتح اللام. وفي (التوضيح): ويقال له: ابن الأتيبة.
ذكر ما يستفاد منه: اتفق العلماء على أن العلماء على الصدقات هم السعاة المتولون في قبض الصدقات، وأنهم لا يستحقون على قبضها جزأ منها معلوما: سبعا أو ثمنا، وإنما له أجر عمله على حسب احتهاد الإمام. وفيه: من الفقه جواز محاسبة المؤتمن، وأن المحاسبة تصحح أمانته، وهو أصل فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، في محاسبة العمال، وإنما فعل ذلك لما رأى ما قالوه من كثرة الأرباح، وعلم أن ذلك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إنما كان بالمسلمين، فرأى مقاسمة أموالهم واقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فيرى أيهدى له شيء أم لا؟). ومعناه: لولا الإمارة لم يهد له شيء، وهذا اجتهاد من عمر، رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذ منهم ما أخذ لبيت مال المسلمين لا لنفسه. وفيه: أيضا: أن العالم إذا رأى متأولا أخطأ في تأويله يعم الناس ضرره أن يعلم الناس كافة بموضع خطئه، ويعرفهم بالحجة القاطعة لتأويله كما فعل صلى الله عليه وسلم بابن اللتيبة في خطبته للناس. وفيه: توبيخ المخطىء وتقديم الأدنون إلى الإمارة والأمانة والعمل، وثم من هو أعلى منه وأفقه، لأنه صلى الله عليه وسلم قدم ابن اللتيبة وثمة من صحابته من هو أفضل منه. قال ابن بطال: وفيه: أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله.
86
((باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل))
أي: هذا باب في بيان استعمال إبل الصدقة واستعمال ألبانها، والمراد من استعمال ألبانها شربها، وكلا الاستعمالين لأبناء السبيل. قال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب إثبات وضع الصدقة في صنف واحد من الأصناف الثمانية خلافا للشافعي الذي لا يجوز القسمة إلا على الثمانية، والحجة قاطعة لأنه صلى الله عليه وسلم أفرد أبناء السبيل بالانتفاع بإبل الصدقة وألبانها دون غيرهم. وقال الكرماني: ليس حجة قاطعة ولا غير قاطعة إذ الصدقة لم تكن منحصرة عليها بالانتفاع، إذ الرقبة تكون لغيرهم، ولا الانتفاع بتلك المدة ونحوها. قلت: لا وجه لدفع كلام ابن بطال لأنه صلى الله عليه وسلم لما أفرد هؤلاء العرنيين بالانتفاع بإبل الصدقة وشرب ألبانها فقد أفرد صنفا واحدا من الثمانية. فدل على جواز الاقتصار على صنف واحد. وقال بعضهم عقيب كلام ابن بطال: وفيما قاله نظر لاحتمال أن يكون ما أباح لهم من الانتفاع إلا بما هو قدر حصتهم. قلت: سبحان الله، هذا نظر عجيب، هل كانت ههنا قسمة بين هؤلاء وغيرهم من الأصناف الثمانية حتى أباح لهم ما يخصهم؟
1051 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثنا قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانه وأبوالها فقتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم بالحرة يعضون الحجارة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم رخص لهم من شرب ألبان إبل الصدقة وأبوالها، والحديث قد مضى في كتاب الطهارة في: باب أبوال الإبل والدواب
فإنه أخرجه هناك عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن
105

أبي قلابة (عن أنس قال: قدم أناس من عكل أو عرينة) الحديث، وههنا أخرجه عن مسدد عن يحيى القطان إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (اجتووا) بالجيم من باب الافتعال، يقال: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه. قوله: (الذود) بفتح الذال المعجمة وهو الإبل. قوله: (بالحرة)، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: أرض ذات حجارة سود كأنها احترقت بالنار. قوله: (يعضون)، بفتح العين من باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي، وفتحها في المغابر. وقيل: هو من باب نصر ينصر، ولغة القرآن مثل الأول: * (ويوم بعض الظالم على يديه) * (الفرقان: الآية: 72).
تابعه أبو قلابة وحميد وثابت عن أنس
أي: تابع أبو قلابة، بكسر القاف: عبد الله بن زيد الحرمي، وحميد الطويل، وثابت، بالثاء المثلثة: البناني قتادة في رواياتهم عن أنس. أما متابعة أبي قلابة فقد مرت في كتاب الطهارة، وأما متابعة حميد فوصلها مسلم والنسائي وابن خزيمة، وأما متابعة ثابت فوصلها البخاري في كتاب الطب.
96
((باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده))
أي: هذا باب في ذكر وسم الإمام، وهو الإمام الأعظم، والوسم بفتح الواو وهو: التأثير بعلامة نحو: كية وقطع الأذن، وأصله من السمة وهي العلامة، كذا قاله الكرماني. قلت: كيف يكون الوسم من السمة وكلاهما مصدر؟ يقال: وسم يسم وسما وسمة. أصله وسمة. فلما حذفت الواو منه اتباعا لفعله، لأن أصل يسم يوسم حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة فحذفت في سمة أيضا وعوضت عنها التاء، كما فعل هكذا في باب: وعد يعد عدة؟ قوله: (وقطع الأذن) فيه نظر، لأن قطع الأذن من المثلة ولا يسمى وسما، يقال: وسمه، إذا أثر فيه بكي.
2051 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمر و الأوزاعي قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. قال غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر، بضم الميم وسكون النون وكسر الذال المعجمة: من الإنذار ضد الإبشار، وكنيته أبو إسحاق الحزامي، بالزاي: القرشي الأسدي. الثاني: الوليد بن مسلم، أبو العباس الأموي القرشي مولاهم. مات سنة خمس وتسعين ومائة. الثالث: أبو عمرو الأوزاعي، واسمه عبد الرحمن بن عمرو. الرابع: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، واسمه: زيد بن سهل الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك، يكنى أبا يحيى. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده، وأنه ذكر منسوبا إلى جده، واسم أبيه: عبد الله بن المنذر، وأنه وإسحاق مدنيان وأن الوليد والأوزاعي دمشقيان. وفيه: أحد الرواة مذكور بكنيته ونسبته وهو الأوزاعي. وفيه: رواية الراوي عن عمه وهو إسحاق.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في اللباس عن هارون بن معروف وفي بعض النسخ: عن هرمز بن معروف.
ذكر معناه: قوله: (غدوت) من الغدو، وهو الرواح من أول النهار. قوله: (ليحنكه)، من التحنيك، وهو أن يمضغ التمرة ويجعلها في فم الصبي ويحك بها في حنكه بسبابته حتى يتحلل في حنكه، والحنك أعلى داخل الفم. قوله: (فوافيته)، من الموافاة: وهو الإتيان. يقال: وافيته إذا أتيته. قوله: (الميسم) بكسر الميم وفتح السين المهملة، وهو المكوى، وهو الآلة التي يكوى بها وقيل بالشين المعجمة والمهملة، وقيل بينهما فرق، فبالمهملة يكون الكي في الوجه، وبالمعجمة في سائر الجسد.
106

وفي (الجامع): الميسم: الحديدة التي يوسم بها، والجمع: مواسم، وأصل ميسم: موسم، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، وهذه قاعدة مطردة، ولم يبين في هذه الرواية الموضع الذي كان صلى الله عليه وسلم يسم فيه إبل الصدقة، وبين ذلك في رواية أخرى فإذا هو في مربد الغنم.
ذكر ما يستفاد منه فيه: إباحة الكي في الحيوان. وقال قوم من الشافعية: الكي مستحب في نعم الزكاة والجزية وجائز في غيرها، والمستحب أن يسم الغنم في آذانها والإبل والبقر في أصول أفخاذها، وفي رواية لأحمد وابن ماجة: يسم الغنم في آذانها، ووسم الآدمي حرام، وغير الآدمي في الوجه منهي عنه، وفائدته تمييز الحيوان بعضه من بعض، وليرده من أخذه ومن التقطه يعرفه، وإذا تصدق به لا يعود إليه، ويستحب أن يكتب في ماشية الزكاة: زكاة أو صدقة، ونقل ابن الصباغ وغيره إجماع الصحابة على ذلك، وقال بعضهم: وفي حديث الباب حجة على من كره الوسم من الحنفية بالميسم لدخوله في عموم النهي عن المثلة، وقد ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه مخصوص من العموم المذكور للحاجة، كالختان في الآدمي. قلت: ذكر أصحابنا في كتبهم: لا بأس بكي البهائم للعلامة، لأن فيه منفعة، وكذا لا بأس بكي الصبيان إذا كان لداء أصابهم، لأن ذاك مداواة. وقال المهلب وغيره في هذا الحديث: إن للإمام أن يتخذ مبسما وليس للناس أن يتخذوا نظيره. وهو كالخاتم. وفيه: اعتناء الإمام بأموال الصدقة وتوليها بنفسه. وفيه: جواز إيلام الحيوان للحاجة. وفيه: قصد أهل الفضل والصلاح لتحنيك المولود لأجل البركة. وفيه: مباشرة أعمال المهنة وترك الاستطابة فيها للرغبة في زيادة الأجر ونفي الكبر.
بسم الله الرحمان الرحيم
((أبواب صدقة الفطر))
أي: هذه أبواب صدقة الفطر، وفي بعض النسخ: صدقة الفطر، بدون قوله: أبواب، والتقدير فيه أيضا: أبواب صدقة الفطر، أو: باب صدقة الفطر، وإضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى شرطه، كحجة الإسلام. وقيل: أضيفت الصدقة إلى الفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان، وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس، مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة، والأول أظهر، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق الحديث: (زكاة الفطر من رمضان) ثم أعلم أن هذا الباب يحتاج إلى خمسة عشرة معرفة.
الأولى: معرفة صدقة الفطر لغة وشرعا. فقال النووي: هي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة بل هي اصطلاحية للفقهاء. كأنها من الفطرة التي هي النفوس والخلقة. أي: زكاة الخلقة، ذكرها صاحب (الحاوي) والمنذري. قلت: ولو قيل: لفظة إسلامية كان ولى لأنها ما عرفت إلا في الإسلام، ويؤيد هذا ما ذكره ابن العربي: هو اسمها على لسان صاحب الشرع، ويقال لها: صدقة الفطر وزكاة الفطر وزكاة رمضان وزكاة الصوم، وفي حديث ابن عباس، صدقة الصوم، وفي حديث أبي هريرة: (صدقة رمضان)، وتسمى أيضا صدقة الرؤوس وزكاة الأبدان سماها الإمام مالك، رحمه الله تعالى، أما شرعا فإنها اسم لما يعطى من المال بطريق الصلة ترحما مقدرا، بخلاف الهبة فإنها تعطى صلة تكرما لا ترحما، ذكره في (المحيط). الثانية: معرفة وجوبها، فبأحاديث الباب على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. الثالثة: معرفة سبب وجوبها، فهو رأس يمونه مؤونة تامة ويلي عليه ولاية تامة لما في الحديث: (عمن تمونون). الرابعة: معرفة شرط وجوبها، فالإسلام والحرية والغنى على ما يأتي بالخلاف فيه. الخامسة: معرفة ركنها، فالتمليك. السادس: معرفة شرط جوازها بكون المصرف إليه فقيرا. السابعة: معرفة من تجب عليه، فتجب على الأب عن أولاده الصغار الفقراء، وعلى السيد عن عبده ومدبره ومدبرته وأم ولده. الثامنة: معرفة الذي تجب من أجله، فأولاده الصغار ومماليكه للخدمة دون مكاتبه وزوجته. التاسعة: معرفة مقدار الواجب فيها، فنصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. العاشرة: معرفة الكيل الذي تجب به، فهو الصاع، وسنذكر الاختلاف فيه. الحادية عشرة: معرفة وقت وجوبها، فوقته طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر، وفيه
107

الخلاف على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. الثانية عشر: معرفة كيفية وجوبها، فتجب وجوبا موسعا على الأصح. الثالثة عشر: معرفة وقت استحباب أدائها، فقد اتفقت الأئمة الأربعة في استحباب أدائها بعد فجر يوم الفطر، قبل الذهاب إلى صلاة العيد. الرابعة عشر: معرفة جواز تقديمها على يوم الفطر، فعند أبي حنيفة: يجوز تقديمها لسنة وسنتين، وعن خلف ابن أيوب: يجوز لشهر، وقيل: بيوم أو يومين. الخامسة عشر: معرفة وقت أدائها، فيوم الفطر من أوله إلى آخره وبعده، يجب القضاء عند بعض أصحابنا، والأصح أن يكون أداء.
07
((باب فرض صدقة الفطر))
أي: هذا باب بيان فرض صدقة الفطر، وفي بعض النسخ: هذا المقدار موجود وما قبله غير موجود إلا في رواية المستملي.
ورأى أبو العالية وعطاء وابن سيرين صدقة الفطر فريضة
أبو العالية من العلو على وزن: فاعلة اسمه رفيع بن مهران الرياحي، بالياء آخر الحروف، وعطاء بن أبي رباح، وابن سيرين هو محمد بن سيرين. قوله: ورأى، ويروى: وروي عن أبي العالية، فتعليق أبي العالية وابن سيرين رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن وكيع عن عاصم عن أبي العالية وابن سيرين أنهما قالا: صدقة الفطر فريضة، وتعليق عطاء وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء.
ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في صدقة الفطر: هل هي فرض أو واجبة أو سنة أو فعل خير مندوب إليه، فقالت طائفة: هي فرض وهم الثلاثة المذكورون هنا: الشافعي ومالك وأحمد، وقال أصحابنا: هي واجبة، وقالت طائفة: هي سنة، وهو قول مالك في رواية ذكرها صاحب الذخيرة، وقال بعضهم: هي فعل خير قد كانت واجبة ثم نسخت، واستدلوا على هذا بحديث قيس بن سعد بن عبادة: (قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله). رواه النسائي وابن ماجة والحاكم في (المستدرك) من رواية أبي عمار الهمداني عن قيس، واسم أبي عمار عريب بن حميد، كوفي ثقة. قاله أحمد وابن معين، وبحديث قيس بن سعد أيضا من وجه آخر أخرجه الحاكم من حديث القاسم بن مخيمرة عن عمرو بن شرحبيل (عن قيس بن سعد بن عبادة، قال: كنا نصوم عاشوراء ونؤدي صدقة الفطر، فلما نزلت رمضان ونزلت الزكاة لم نؤمر به ولم ننه عنه، ونحن نفعله). وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال البيهقي: إن هذا لا يدل على سقوط فرضيتها، لأن نزول فرض لا يوجب سقوط آخر، وقد أجمع أهل العلم على وجوب زكاة الفطر، وإن اختلفوا في تسميتها فرضا فلا يجوز تركها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على فرضية صدقة الفطر. قلت: فيه نظر لما ذكرنا من الاختلاف فيها.
3051 حدثنا يحيى بن محمد بن السكن قال حدثنا محمد بن جهضم قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: يحيى بن محمد بن السكن، بفتح السين المهملة وفتح الكاف وفي آخره نون: ابن حبيب أبو عبيد الله البزار، بالزاي ثم بالراء: القرشي. الثاني: محمد بن جهضم، بفتح الجيم وسكون الهاء وفتح الضاد المعجمة: ابن عبد الله أبو جعفر الثقفي. الثالث: إسماعيل بن جعفر بن كثير أبو إبراهيم الأنصاري. الرابع: عمر بن نافع، مولى عبد الله بن عمر. الخامس: أبوه نافع. السادس: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
108

ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه محمد بن جهضم بصريان ومحمد هذا يمامي ثم خراساني، ثم سكن البصرة فعد من أهلها، وعمر وأبوه مدنيان، وفيه: رواية الابن عن أبيه. وفيه: أن عمر ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في النهي عن الفزع. وفيه: أن شيخه مذكور باسم أبيه واسم جده.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه أبو داود والنسائي عن يحيى بن محمد شيخ البخاري. وأخرجه الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع (عن ابن عمر: قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير. قال: فعدل الناس إلى نصف صاع من بر)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقال أيضا: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري حدثنا معن عن مالك عن نافع (عن عبد الله ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعآ من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين) وقال: حديث حسن صحيح.
ذكر معناه: قوله: (فرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم) قال أبو عمر: قوله: (فرض)، يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر: فرض بمعنى أوجب، والآخر: فرض بمعنى قدر. كما تقول: فرض القاضي نفقة اليتيم أي: قدرها، والذي أذهب إليه أن لا يزال قوله: (فرض) عن معنى الإيجاب إلا بدليل الإجماع، وذلك معدوم، فإن القول بأنها غير واجبة شذوذ أو في معنى الشذوذ. وقال أصحابنا: بأنها واجبة على حقيقتها الاصطلاحية، وهي أن تكون بين الفرض والسنة. وقال الشافعي: فرض بناء على أصله أنه لا فرق بين الواجب والفريضة. وقال تاج الشريعة من أصحابنا: هي واجبة حتى لا يكفر جاحدها، وهو الفرق بين الفريضة والواجب. وقال ابن دقيق العيد: أصل معنى الفرض في اللغة التقدير، ولكن نقل في عرف الشرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى، يعني: من الحمل على معناه الأصلي، وقد ذكرنا أن بعضهم ذهبوا إلى أنه سنة لأنهم قالوا: معنى فرض في الأحاديث التي وردت قدر، وحملوه على معناه الأصلي. وقال الكرماني: المفهوم من لفظ: فرض، بحسب عرف الشرع: الوجوب، ولا يجوز للراوي أن يعبر بالفرض عن المندوب مع علمه بالفرق بينهما. قلت: يرد عليهم أنهم لم يفرقوا بين الفرض والواجب مع علمهم بالفرق بينهما بحسب اللغة.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه:
الأول: أن صدقة الفطر من التمر والشعير صاع، ومذهب داود ومن تبعه أنه: لا يجوز إلا من التمر والشعير، ولا يجزئ عنده قمح ولا دقيقه ولا دقيق شعير ولا سويق ولا خبز ولا زبيب ولا غير ذلك، واحتج في ذلك بهذا الحديث، قال: لأنه ذكر فيه ابن عمر التمر والشعير ولم يذكر غيرهما. وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن الشعير والتمر لا يجزئ من أحدهما إلا صاع كامل أربعة أمداد.
الثاني: قوله: (على العبد) تعلق به داود في وجوبها على العبد وأن السيد يجب عليه أن يمكنه من كسبها كما يمكنه من صلاة الفرض، ومذهب الجماعة وجوبها على السيد حتى لو كان للتجارة، وهو مذهب مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال عطاء والنخعي والثوري والحنفيون: إذا كان للتجارة لا تلزمه فطرته، وأما المكاتب فالجمهور أنها لا تجب عليه، وعن مالك قولان: يخرجها عن نفسه، وقيل: سيده، ولا تجب على السيد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وقال ميمون بن مهران وعطاء وأبو ثور: يؤدي عنه سيده، واستدل لمن قال: لا تجب على السيد بما رواه البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان يؤدي زكاة الفطر عن كل مملوك له في أرضه وأرض غيره، وعن كل إنسان يعوله من صغير وكبير، وعن رقيق امرأته وكان له مكاتب بالمدينة فكان لا يؤدي عنه. وقال البيهقي: وفي رواية الثوري عن موسى: كان لابن عمر مكاتبان فلا يعطي عنهما الزكاة يوم الفطر، ورواه ابن أبي شيبة عن حفص عن الضحاك بن عثمان عن نافع.
الثالث: قوله: (والأنثى) ظاهره وجوبها على المرأة، سواء كان لها زوج أو لا، وأما المرأة المزوجة فلا تجب فطرتها على زوجها عند أبي حنيفة والثوري وابن المنذر ومالك. وقال الشافعي ومالك في (الصحيح) وإسحاق: تلزم على الزوج، مستدلين بقول ابن عمر: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير ممن تمونون). وقال البيهقي: إسناده غير قوي.
الرابع: قوله: (والصغير)، جمهور
109

العلماء على وجوبها على الصغير وإن كان يتيما، قال ابن بزيزة: وقال محمد بن الحسن وزفر: لا يجب على اليتيم زكاة الفطر كان له مال أو لم يكن، فإن أخرجها عنه وصيه ضمن، قال: وأصل مذهب مالك وجوب الزكاة على اليتيم مطلقا، وذكر صاحب (الهداية): يخرج عن أولاده الصغار فإن كان لهم مال أدى من مالهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد، وقال ابن بزيزة: قال الحسن: هي على الأب فإن أعطاها من مال الابن ضمن. قال: وهل يجب إخراجها عن الجنين أم لا؟ فالجمهور أنها غير واجبة عليه. قال: ومن شواذ الأقوال أنها تخرج عن الجنين، روينا ذلك عن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، وسليمان بن يسار. وفي (المصنف): حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة قال: كانوا يعطون حتى عن الحمل. قال ابن بزيزة: قال قوم من سلف العلماء: إذا أكمل الجنين في بطن
أمه مائة وعشرين يوما قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر وجب إخراج زكاة الفطر عنه كأنه اعتمد على حديث ابن مسعود: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين صباحا) الحديث.
الخامس: قوله: (من المسلمين): تكلم العلماء فيه، قال الشيخ في (الإمام): وقد اشتهرت هذه اللفظة من رواية مالك حتى قيل: إنه تفرد بها. قال أبو قلابة: عبد الملك بن محمد ليس أحد يقول فيه من المسلمين غير مالك، وقال الترمذي بعد تخريجه له: زاد مالك (من المسلمين)، وقد رواه غير واحد عن نافع عن ابن عمر ولم يقولوا فيه: من المسلمين، وتبعهما على ذلك القول جماعة. قال الشيخ: وليس بصحيح، فقد تابع مالكا هذه اللفظة من الثقات سبعة، وهم: عمر بن نافع رواه البخاري في هذا الباب، والضحاك بن عثمان رواه مسلم عنه عن نافع (عن ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين..) الحديث، والمعلى بن أسد رواه ابن حبان في (صحيحه) عنه عن نافع (عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير عن كل مسلم...) الحديث، وعبد الله بن عمر رواه الحاكم في (مستدركه) عنه عن نافع (عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من بر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين، وصححه)، وكثير بن فرقد رواه الحاكم أيضا عنه عن نافع (عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر...) لحديث وفيه: (من المسلمين) ورواه الطحاوي في (مشكل الآثار) والدارقطني في (سننه)، وعبيد الله بن عمر العمري أخرجه الدارقطني عنه عن ابن عمر نحوه سواء، ويونس بن يزيد رواه الطحاوي في (مشكله) عنه أن نافعا أخبره قال: (قال عبد الله بن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل إنسان ذكر أو أنثى حرا أو عبدا من المسلمين)، وبهذا احتج مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور على أنه لا تجب صدقة الفطر على أحد من عبده الكافر، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه عليه أن يؤدي صدقة الفطر من عبده الكافر.
وهو قول عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والنخعي، وروي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، واحتجوا في ذلك بما رواه الدارقطني من حديث عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدوا صدقة الفطر عن كل صغير وكبير وذكر أو أنثى يهودي أو نصراني، حر أو مملوك، نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير). فإن قلت: قال الدارقطني: لم يسند هذا الحديث غير سلام الطويل وهو متروك، ورواه ابن الجوزي في (الموضوعات) وقال: وقال زيادة اليهودي والنصراني فيه موضوعة انفرد بها سلام الطويل وكأنه تعمدها واغلظ فيه القول عن النسائي وابن حبان جازف ابن الجوزي في مقالته من غير دليل، وقد أخرج الطحاوي في (مشكله) ما يؤيد هذا: عن ابن المبارك عن ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج (عن أبي هريرة، قال: كان يخرج صدقة الفطر عن كل إنسان يعول من صغير وكبير حر أو عبد ولو كان نصرانيا مدين من قمح أو صاعا من تمر). وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة، سيما رواية ابن المبارك عنه ولم يتركه أحد، ويؤيده أيضا ما رواه الدارقطني: عن عثمان بن عبد الرحمن عن نافع (عن ابن عمر: أنه كان يخرج صدقة الفطر عن كل حر وعبد صغير وكبير ذكر أو أنثى كافرا أو مسلم...) الحديث. قال الدارقطني: وعثمان هذا هو الوقاص، وهو متروك. وأخرج عبد الرزاق في (مصنفه) عن ابن عباس (قال: يخرج الرجل زكاة الفطر عن كل مملوك له وإن كان يهوديا أو نصرانيا) وأخرج ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن إسماعيل بن عياش عن عمر بن
110

مهاجر عن عمر بن عبد العزيز، قال: سمعته يقول: يؤدي الرجل المسلم عن مملوكه النصراني صدقة الفطر، حدثنا عبد الله ابن داود عن الأوزاعي، قال: بلغني عن ابن عمر أنه كان يعطي عن مملوكه النصراني صدقة الفطر، وروى عن إبراهيم مثله، والجواب عن قوله: (من المسلمين) أن معناه من يلزمه إخراج الزكاة عن نفسه وعن غيره، ولا يكون إلا مسلما. وأما العبد فلا يلزمه في نفسه زكاة الفطر، وإنما يلزم مولاه المسلم عنه. وجواب آخر: ما قاله ابن بزيزة، وهو: إن قوله: (من المسلمين) زيادة مضطربة من غير شك من جهة الإسناد، والمعنى: لأن ابن عمر راويه كان من مذهبه إخراج الزكاة عن العبد الكافر، والراوي إذا خالف ما رواه كان تضعيفا لروايته. وجواب آخر: أن في صدقة الفطر نصان: أحدهما: جعل الرأس المطلق سببا، وهو الرواية التي ليس فيها: من المسلمين. والآخر: جعل الرأس المسلم سببا، ولا تنافي في الأسباب كما عرف كالملك يبث بالشراء والهبة والوصية والصدقة والإرث فإذا امتنعت المزاجمة وجب الجمع بإجراء كل واحد من المطلق والمقيد على سننه من غير حمل أحدهما على الآخر، فيجب أداء صدقة الفطر عن العبد الكافر بالنص المطلق وعن المسلم بالمقيد. فإن قلت: إذا لم يحمل المطلق على المقيد أدى إلى إلغاء المقيد، فإن حكمه يفهم من المطلق، فإن حكم العبد المسلم يستفاد من إطلاق اسم العبد فلم يبق لذكر المقيد فائدة؟ قلت: ليس كذلك، بل فيه فوائد، وهي: أن يكون المقيد دليلا على الاستحباب والفضل، أو على أنه عزيمة والمطلق رخصة، أو على أنه أهم وأشرف حيث نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق، كتخصيص صلاة الوسطى وجبريل وميكائيل، عليهما السلام، في مطلق الصلوات، ودخولهما في مطلق اسم الملائكة، وقد أمكن العمل بهما. واحتمال الفائدة قائم لا يجوز إبطال صفة الإطلاق.
السادس: قوله: (وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، وهذا أمر استحباب، وهو قول ابن عمر وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي والقاسم وأبي نضرة وعكرمة والضحاك والحكم بن عيينة وموسى بن وردان ومالك والشافعي وإسحاق وأهل الكوفة، ولم يحك فيه خلاف، وحكى الخطابي الإجماع فيه، وقال ابن حزم: الأمر فيه للوجوب فيحرم تأخيرها عن ذلك الوقت.
17
((باب صدقة الفطر على العبد وغيره من المسلمين))
أي: هذا باب في بيان وجوب صدقة الفطر على العبد، فظاهر هذه الترجمة أنه كان يرى وجوبها على العبد وإن كان سيده يتحملها عنه، وقال الكرماني فإن قلت: العبد لا يملك المال، فكيف يجب عليه شيء؟ قلت: أوجبت طائفة على نفس العبد وعلى السيد تمكينه من كسبها كتمكينه من صلاة الفرض والجمعة على سيده عنه، ثم افترقوا فرقتين، فقالت طائفة: على السيد ابتداء، وكلمة: على، بمعنى: عن، وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض، وقال آخرون: تجب على العبد، ثم يحملها سيده عنه. فكلمه الاستعلاء جارية على ظاهرها.
4051 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أو عبد..) إلى آخره، وقد مضى هذا الحديث في الباب الذي قبله، وإنما ذكره هنا لوجهين: أحدهما أنه رواه ههنا: عن عبد الله بن يوسف، وهناك: عن يحيى بن محمد، والآخر لأجل الترجمة المذكورة لينبه على أنه ممن يرى وجوبها على العبد. وقال الطيبي: المذكورات جاءت مزدوجة على التضاد للاستيعاب لا للتخصيص، فكأنه قال: فرض على جميع المسلمين، وأما كونها فيم وجبت؟ وعلى من وجبت؟ فيعلم من نصوص أخر.
111

27
((باب صدقة الفطر من شعير))
أي: هذا باب في بيان أن صدقة الفطر صاع من شعير إذا أداها منه. قوله: (صاع)، بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هي صاع من شعير، ويجوز أن تكون: صدقة الفطر، مبتدأ إذا قطع باب عن الإضافة، فيكون التقدير: هذا باب يذكر فيه صدقة الفطر صاع من شعير، ويروى: (صاعا من شعير)، بالنصب ووجهه أن يقدر فيه فعل الإخراج، وتقديره: هذا باب إخراج صدقة الفطر صاعا، قيل: على سبيل الحكاية مما في لفظ الحديث، يعني المذكور في الباب السابق.
37
((باب صدقة الفطر صاعا من طعام))
أي: هذا باب في بيان إخراج صدقة الفطر صاعا من طعام ويروى صاع بالرفع ووجهه ما ذكرناه في الباب السابق.
6051 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يقول كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب.
مطابقته للترجمة في قوله: (صاعا من طعام).
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع والقول في موضع.
ذكر معناه: قوله: (زكاة الفطر) أي: صدقة الفطر، ويستعمل كل منهما في موضع الآخر. قوله: (من طعام) الطعام هو البر بدليل ذكر الشعير معه، وقيل: أراد به التمر لأن البر كان قليلا عندهم لا يتسع لإخراج زكاة الفطر. قلت: هذا لا يتأتى إلا في الرواية التي ليس فيها ذكر التمر، وذلك أن حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، هذا قد روي بوجوه مختلفة: فأخرجه الطحاوي من تسع طرق بأسانيد مختلفة وألفاظه متباينة. الأول: مثل طريق البخاري: عن علي بن شيبة عن قبيصة عن سفيان عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله (عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نعطي زكاة الفطر من رمضان صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط)، وهذا ليس فيه ذكر التمر، وبقية طرقه فيها ذكر التمر، فلا يتأتى أن يفسر الطعام بالتمر، والطعام في أصل اللغة عام في كل ما يقتات به من الحنطة والشعير والتمر وغير ذلك، وسنبسط الكلام فيه عن قريب مع بيان اختلاف الأئمة فيه. قوله: (من أقط)، بفتح الهمزة وكسر القاف وفي آخره طاء مهملة، وهو: لبن مجفف يابس مستحجر يطبخ به، وربما تسكن قافه في الشعر، يقال: ايتقطت، أي اتخذت الأقط،
112

وهو افتعلت، وأقط طعامه يأقطه أقطا: عمله بالأقط، وهو مأقوط، ويقال له بالفارسية: ماستينه، وبالتركية: قراقرط، وبالتركمانية: قرط، بضم القاف والراء، بلا لفظ: قرا.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: احتج به الشافعي على أن صدقة الفطر من القمح صاع، وقال: المراد بالطعام البر في العرف، وقال أصحابه، لا سيما في رواية الحاكم: صاعا من حنطة، أخرجها في (مستدركه) من طريق أحمد بن حنبل عن ابن علية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام (عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد وذكر عنده صدقة الفطر، فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من حنطة أو صاعا من شعير، فقال له رجل من القوم: أو مدين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها). وصححه الحاكم، ورواه الدارقطني في (سننه) من حديث يعقوب الدورقي عن ابن علية سندا ومتنا كما ذكرناه، ومن الشافعية من جعل هذا الحديث حجة لنا من جهة أن معاوية جعل نصف صاع من الحنطة عدل صاع من التمر والزبيب. وقال النووي: هذا الحديث معتمد أبي حنيفة، ثم أجاب عنه بأنه فعل صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه واعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر معاوية بأنه رأى لا قول سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما قولهم: إن الطعام
في العرف هو البر فممنوع، بل الطعام يطلق على كل مأكول، كما ذكرناه، بل أريد به ههنا غير الحنطة، والدليل عليه ما وقع في رواية أبي داود: (صاعا من طعام صاعا من أقط). فإن قوله: (صاعا من أقط) بدل من قوله: (صاعا من طعام) أو بيان عنه، ولو كان المراد من قوله: (صاعا من طعام) هو البر لقال: أو صاعا من أقط بحرف: أو، الفاصلة بين الشيئين. فإن قلت: في رواية الطحاوي بأو الفاصلة بين الشيئين كما مر؟ قلت: كفى لنا حجة رواية أبي داود على ما ادعينا مع صحة حديثه بلا خلاف، ومما يؤيد ما ذكرناه ما جاء فيه عند البخاري: (عن أبي سعيد، قال: كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام. قال أبو سعيد: وكان طعامنا: الشعير والزبيب والأقط والتمر). وأما ما رواه الحاكم فيه (أو صاعا من حنطة)، فقد قال أبو داود: إن هذا ليس بمحفوظ، وقال ابن خزيمة فيه: وذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم، وقول الرجل له: أو مدين من قمح؟ دال على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ، ووهم، لو كان صحيحا إذ لم يكن لقوله: أو مدين من قمح؟ معنى. وقد عرف تساهل الحاكم في تصحيح الأحاديث المدخولة، وأما قول النووي: إنه فعل صحابي، قلنا: قد وافقه غيره من الصحابة الجم الغفير بدليل قوله في الحديث: (فأخذ الناس بذلك)، ولفظ: الناس، للعموم، فكان إجماعا، والله أعلم.
واعلم أن مذهب مالك وأحمد وإسحاق مثل مذهب الشافعي في تقديره بالصاع في البر، وقال الأوزاعي: يؤدي كل إنسان مدين من قبح بمد أهل بلده، وقال الليث: مدين من قمح بمد هشام وأربعة أمداد من التمر والشعير والأقط. وقال أبو ثور: الذي يخرج في زكاة الفطر صاع من تمر أو شعير أو طعام أو زبيب أو أقط إن كان بدويا، ولا يعطي قيمة شيء من هذه الأصناف، وهو يجدها. وقال أبو عمر: سكت أبو ثور، رحمه الله تعالى، عن ذكر البر، وكان أحمد، رضي الله تعالى عنه، يستحب إخراج التمر. والأصل في هذا الباب اعتبار القوت وأنه لا يجوز إلا الصاع منه. والوجه الآخر: اعتبار التمر والشعير والزبيب أو قيمتها على، ما قاله الكوفيون، وقال صاحب (الهداية) رحمه الله تعالى: الفطرة نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو زبيب، أو صاع من تمر أو شعير. وقال أبو يوسف ومحمد: الزبيب بمنزلة الشعير، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، والأول رواية محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وهي رواية (الجامع الصغير) ونصف صاع من بر مذهب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وابن الزبير وابن عباس ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر الصديق وسعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز وطاووس والنخعي والشعبي وعلقمة والأسود وعروة وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبي قلابة عبد الملك بن محمد التابعي والأوزاعي والثوري وابن المبارك وعبد الله بن شداد ومصعب بن سعيد. قال الطحاوي: وهو قول القاسم وسالم وعبد الرحمن ابن قاسم والحكم وحماد، ورواية عن مالك ذكرها في الذخيرة، واحتج أصحابنا في هذا بما رواه أبو داود من حديث
113

ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صاع من بر أو قمح على كل اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه). وأبو صعير، بضم الصاد وفتح العين المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، ويقال: ثعلبة بن عبد الله بن صعير العذري، حليف بني زهرة. وقال ابن معين: ثعلبة ابن عبد الله بن أبي صعير، وثعلبة بن أبي مالك جميعا رأيا النبي صلى الله عليه وسلم قال في (الكمال): روى ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر، روى عنه ابنه عبد الله، وفيه اضطراب كثير عند الرواة، وروي عن ثعلبة بن عبد الله بن صعير عن أبيه، ويروى: ثعلبة ابن عبد الله بن أبي صعير عن أبيه، ويروى: عبد الله بن ثعلبة بن صعير. وقال صاحب (الإمام): في رواية محمد بن يحيى الجزم بقوله: عبد الله بن ثعلبة بن صعير، وكذا رواية ابن جريج عن الزهري، وقال ابن ماكولا: صوابه: ثعلبة بن صعير العذري، أو ابن أبي صعير. فإن قلت: قال مهنا: ذكرت لأحمد حديث ثعلبة بن أبي صعير في صدقة الفطر نصف صاع من بر، فقال: ليس بصحيح إنما هو مرسل، يرويه معمر وابن جريج عن الزهري مرسلا. قلت: رواه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري عن حماد ابن زيد، روى له الجماعة، عن النعمان بن راشد قال البخاري هو في الأمر صدوق روى له الجماعة والبخاري مستشدا عن الزهري روى له الجماعة وعلى كل حال الحديث خبر الواحد يثبت به الوجوب.
ومما احتجوا به حديث ابن عباس رواه أبو داود من حديث حميد أخبرنا عن الحسن، قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة، فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا، قال: من ههنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون، فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة، صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع قمح...) الحديث. فإن قلت: قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: الحسن لم يسمع ابن عباس قلت: جاء في (مسند أبي يعلى الموصلي) في حديث عن الحسن، قال: أخبرني ابن عباس، وهذا أن ثبت دل على سماعه منه، وقال البزار في (مسنده) بعد أن رواه: لا نعلم روى الحسن عن ابن عباس غير هذا الحديث، ولم يسمع الحسن من ابن عباس. قلت: ولئن سلمنا هذا فالحديث مرسل وهو حجة عندنا، ويؤيده طريق آخر عن ابن عباس، رواه الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن جريج عن عطاء، (عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث صارخا بمكة صاح: إن صدقة الفطر حق واجب مدان من قمح أو صاع من شعير أو تمر)، وصححه الحاكم، ورواه البزار بلفظ: (أو صاع مما سوى ذلك من الطعام). وطريق آخر عن ابن عباس أخرجه الدارقطني عن الواقدي: حدثنا عبد الله بن عمران بن أبي أنس عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو مدين من قمح). وأعله بالواقدي، فما للواقدي؟ وهو إمام مشهور وأحد مشايخ الشافعي؟ وطريق آخر عن ابن عباس أخرجه الدارقطني. عن سلام الطويل عن زيد العمي عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صدقة الفطر عن كل صغير وكبير ذكر أو أنثى نصف صاع من بر...) الحديث وأعله بسلام.
ومما احتجوا به ما رواه الترمذي عن سالم بن نوح عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في فجاج مكة
: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، وفيه مدان من قمح)، وقال: حسن غريب وأعله ابن الجوزي بسالم بن نوح، قال: قال ابن معين: ليس بشيء، وتعقبه صاحب (التنقيح) فقال: صدوق، روى له مسلم في (صحيحه)، وقال أبو زرعة: صدوق ثقة، ووثقه ابن حبان. وطريق آخر أخرجه الدارقطني عن علي بن صالح عن ابن جريج (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر صائحا فصاح: إن صدقة الفطر حق واجب على كل مسلم مدان من قمح). قال ابن الجوزي: علي بن صالح ضعفوه قال صاحب (التنقيح): هذا خطأ منه ولا نعلم أحدا ضعفه لكنه غير مشهور الحال، وقيل: هو مكي معروف، وهو أحد العباد، وكنيته أبو الحسن.
ومما احتجوا به حديث آخر رواه أحمد في (مسنده) من طريق ابن المبارك أخبرنا ابن لهيعة عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن فاطمة بنت المنذر (عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، قالت: كنا نؤدي زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدين من قمح بالمد الذي نقتات به)، وضعفه ابن الجوزي بابن لهيعة. وقال صاحب (التنقيح): وحديث ابن لهيعة يصلح للمتابعة سيما إذا كان من رواية إمام مثل ابن المبارك عنه.
ومما احتجوا به حديث آخر أخرجه الدارقطني عن أبي بكر بن عياش
114

عن أبي إسحاق عن الحارث (عن علي، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاع من تمر والحارث معروف). وقال الدارقطني: والصحيح موقوف. ومما احتجوا به في حديث زيد بن ثابت قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من كان عنده شيء فليتصدق بنصف صاع من بر..) الحديث، رواه الدارقطني، وفيه سليمان ابن أرقم وهو متروك الحديث، وحديث جابر بن عبد الله رواه الطبراني في (الأوسط) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صدقة الفطر على كل إنسان مدان من دقيق أو قمح، ومن الشعير صاع، ومن الحلو زبيب أو تمر صاع صاع). وفيه الليث ابن حماد وهو ضعيف.
الوجه الثاني: في قوله: (أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر)، وهذا لا خلاف فيه غير أن ابن حزم لم يجوز صدقة الفطر إلا من الشعير والتمر، والحديث حجة عليه.
الوجه الثالث: في قوله: (أو صاعا من أقط) قال النووي: اختلفوا في الأقط، قيل: لا يجزيه لأنه لا يجب فيه العشر، وقال الماوردي: الخلاف فيه في أهل البادية أما أهل الحضر فلا يجزيهم قولا واحدا. وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله تعالى: وقد اختالف في قول الشافعي في الأقط، وقال الشيخ تقي الدين في (شرح العمدة): قد صح الحديث به. وهو يرد قول الشافعي، وقال النووي في (شرح مسلم): ويجزي الأقط على المذهب وعندنا: تجوز صدقة الفطر بالأقط، وفي (التحفة): في الأقط تعتبر القيمة. وقال مالك: تجب صدقة الفطر من تسعة أشياء، وهي: القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والتمر والزبيب والأقط، وزاد ابن حبيب: العلس، فصارت عشرة.
الوجه الرابع: في قوله: (أو صاعا من زبيب) وهذا أيضا لا خلاف فيه أن الصدقة منه صاع، قيل: هذا حجة على أبي حنيفة حيث اكتفى في إخراج الزبيب بنصف صاع، كما قال في القمح. قلت: هذا رواية عن أبي حنيفة والرواية الأخرى صاع.
الوجه الخامس: احتج بالحديث المذكور بعضهم على أن صدقة الفطر فريضة كالزكاة بظاهر اللفظ والجمهور على أنها واجبة، والحديث يخبر عما كانوا يفعلونه والوجوب ثبت بدلائل أخرى.
الوجه السادس: أنه يدل على أنهم كانوا يخرجون صدقة الفطر عن أنفسهم فلا يجب إخراجها عن الجنين، واستحبه أحمد في رواية، وأوجبه في رواية وهي مذهب داود وأصحابه، وروي عن عثمان أنه كان يعطي عن الحمل. وقال أبو قلابة: كانوا يخرجون عن الحمل، وقد أدرك الصحابة. وفي (الإمام) كان عثمان، رضي الله تعالى عنه. يعطي صدقة رمضان عن الخيل، وقال أبو قلابة: كانوا يعطون عن الخيل، وفي (الوبري): لا يجب عن فرسه ولا عن غيره من سائر الحيوانات غير الرقيق، وما روي عن عثمان وغيره محمول على التطوع، والله أعلم.
47
((باب صدقة الفطر صاعا من تمر))
أي: هذا باب في بيان أن صدقة الفطر صاع من تمر، هذا التقدير على كون لفظ الباب مضافا إلى صدقة الفطر، وإذا قطع عن الإضافة يكون صدقة الفطر مبتدأ أو خبره قوله: صاع، ووقع في رواية أبي ذر: باب صدقة الفطر صاعا، بالنصب، وقد ذكرنا وجهه في: باب صدقة الفطر صاعا من شعير.
7051 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير قال عبد الله رضي الله تعالى عنه فجعل الناس عدله مدين من حنطة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (من تمر).
ورجاله قد ذكروا غير مرة، والليث عنعن هنا، وسماعه من نافع صحيح، وفي رواية الطحاوي والدارقطني والحاكم وآخرين من طريق يحيى بن بكير عن الليث عن كثير بن فرقد عن نافع وزاد فيه: (من المسلمين)، فدل على أن الليث سمعه من نافع بدون هذه الزيادة، ومن كثير بن فرقد عنه بهذه الزيادة.
وأخرجه مسلم في الزكاة عن قتيبة ومحمد بن رمح وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن رمح به.
قوله: (أمر) استدل به على وجوب صدقة الفطر، قال بعضهم: فيه
115

نظر لأنه يتعلق بالمقدار لا بأصل الإخراج. قلت: إذا كان المقدار واجبا فبالضرورة يدل على وجوب الأصل لأن وجوب المقدار مبني عليه. قوله: (قال عبد الله) أي: عبد الله بن عمر. قوله: (فجعل الناس) أراد به معاوية ومن تبعه، ووقع ذلك صريحا في حديث أيوب عن نافع أخرجه الحميدي في (مسنده) عن سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب ولفظه: (صدقة الفطر صاع من شعير أو صاع من تمر، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر بصاع من شعير...) وهكذا أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) من وجه آخر عن سفيان، وقال أبو داود: حدثنا الهيثم بن خالد الجهني، حدثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة حدثنا عبد العزيز بن أبي داود (عن نافع عن عبد الله بن عمر، قال: كان الناس يخرجون صدقة الفطر على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صاعا من شعير أو تمر أو سلت أو زبيب، قال عبد الله: فلما كان عمر، رضي الله تعالى عنه، وكثرت الحنطة جعل عمر نصف صاع حنطة مكان صاع من تلك الأشياء). وقال مسلم في (كتاب التمييز). عبد العزيز وهم فيه وأعله ابن الجوزي به، وقال صاحب (التنقيح): وعبد العزيز هذا، وإن كان ابن حبان تكلم فيه، فقد وثقه يحيى القطان وابن معين وأبو حاتم الرازي وغيرهم، والموثقون له أعرف من المضعفين، وقد أخرج له البخاري استشهادا. وقال الطحاوي، رحمه الله: حدثنا فهد، قال: حدثنا عمرو بن طارق، قال: حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس بن يزيد أن نافعا أخبره قال: (قال عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما: فرض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل إنسان ذكر أو أنثى حر أو عبد من المسلمين)، وكان عبد الله بن عمر يقول: جعل الناس عدله مدين من حنطة، فقول ابن عمر: جعل الناس عدله مدين من حنطة إنما يريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يجوز تعديلهم ويجب الوقوف عند قولهم، فإنه قد روي عن عمر مثل ذلك في كفارة اليمين أنه قال ذلك، فأطعم عني عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير، ويروى عن علي، رضي الله تعالى عنه، مثل ذلك مع أنه قد روي عن عمر وعن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما أيضا، وعن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، في صدقة الفطر أنها من الحنطة نصف صاع. وقال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلم حدثنا داود يعني ابن قيس عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج، إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجا أو معتمرا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم الناس أن قال: إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعا من تمر، فأخذ بذلك الناس، فقال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه أبدا ما عشت). وقال النووي: هذا الحديث معتمد أبي حنيفة، قال بأنه فعل صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره من الصحابة ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر معاوية بأنه رأي رآه، لا قول سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: إن قوله: فعل صحابي، لا يمنع لأنه قد وافقه غيره من الصحابة الجم الغفير بدليل قوله في الحديث: فأخذ الناس بذلك، ولفظ الناس للعموم، فكان إجماعا. ولا تضر مخالفة أبي سعيد لذلك بقوله: أما أنا فلا أزال أخرجه، لأنه لا يقدح في الإجماع، سيما إذا كان فيه الخلفاء الأربعة، أو نقول: أراد الزيادة على قدر الواجب تطوعا. قوله: (من سمراء الشام)، بفتح السين المهملة وسكون الميم وبعدها راء ممدودة، وهو البر الشامي، وينطلق على كل بر. قوله: (عدله)، بفتح العين وكسرها، قاله الكرماني، والأظهر أنه بالكسر أي: نظيره. وقال الأخفش: العدل، بالكسر المثل، وبالفتح مصدر عدلته بهذا، وقال الفراء، بالفتح ما عادل الشيء من غير جنسه، وبالكسر: المثل. قوله: (مدين)، تثنية مد، وهو ربع الصاع.
57
((باب صاع من زبيب))
أي: هذا باب قوله: (صاع)، مبتدأ، وقوله: (من زبيب) صفته أي: صاع كائن من زبيب، وخبره محذوف تقديره: صاع من زبيب في صدقة الفطر مجزىء، ولما كان حديث أبي سعيد الخدري مشتملا على خمسة أصناف وضع لكل صنف ترجمة، غير الأقط تنبيها على جواز التخيير بين هذه الأشياء في دفع الصدقة، ولم يذكر الأقط كأنه لا يراه مجزئا عند وجود غيره، كما هو مذهب أحمد.
116

8051 حدثنا عبد الله بن منير سمع يزيد العدني قال حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم قال حدثني عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. قال كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال أري مدا من هاذا يعدل مدين.
مطابقته للترجمة في قوله: (أو صاعا من زبيب)، وعبد الله بن منير، بضم الميم وكسر النون وبالراء، مر في: باب الوضوء، ويزيد من الزيادة ابن أبي حكيم، بفتح الحاء: العدني، بالمهملتين المفتوحتين وبالنون، مات سنة ست وأربعين ومائة، وسفيان هو الثوري.
قوله: (عن أبي سعيد)، وقد تقدم من رواية مالك بلفظ: إنه سمع أبا سعيد. قوله: (كنا نعطيها) أي: صدقة الفطر. قوله: (في زمان النبي صلى الله عليه وسلم)، هذا حكمه حكم الرفع لإضافته إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، وفيه إشعار بأنه، صلى الله عليه وسلم، اطلع على ذلك وقرره له خصوصا في هذه الصورة التي كانت توضع عنده وتجمع بأمره، وهو الآمر بقبضها وتفريقها. قوله: (صاعا من طعام)، قال الخطابي: المراد بالطعام هنا: الحنطة، وأنه اسم خاص له، ويستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل: إذهب إلى سوق الطعام، فهم منه سوق القمح، وإذا غلب العرف نزل اللفظ عليه، ورد عليه ابن المنذر: بأن هذا غلط منه،
وذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أكد كلامه بما رواه حفص بن ميسرة عن زيد عن عياض على ما يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب وفيه: (وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر). قلت: ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة من طريق فضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، قال: لم تكن الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التمر والزبيب والشعير ولم تكن خاصة وقال ابن المنذر أيضا: لا نعلم في القمح خبرا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد عليه، ولم يكن البر بالمدينة في ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه، فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من شعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم، ثم روى بإسناده عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم، بأسانيد صحيحة: أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح، وقال بعضهم: لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة، خلافا للطحاوي.
قلت: روى الطحاوي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه من بعده وعن تابعيهم من بعدهم في: أن صدقة الفطر من الحنطة نصف صاع، ومما سوى الحنطة صاع، ثم قال: ما علمنا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامن التابعين روى عنه خلاف ذلك، فلا ينبغي لأحد أن يخالف ذلك، إذ كان قد صار إجماعا في زمن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهم، إلى زمن من ذكرنا من التابعين، وكان قد ذكر: النخعي ومجاهدا وسعيد بن المسيب والحكم ابن عينة وحماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن القاسم، ونهض هذا القائل فقال: فلا إجماع في المسألة خلافا للطحاوي، وسنده في هذا هو أن أبا سعيد وابن عمر لم يوافقا على ذلك. قلت: أما أبو سعيد فإنه لم يكن يعرف في الفطرة إلا التمر والشعير والأقط والزبيب، والدليل عليه ما روي عنه في رواية: (كنا نخرج على عهد
117

رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير...) الحديث، (لا نخرج غيره) فإن قلت: في روايته الأخرى: (كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام؟) قلت: قد بينت فيما مضى أن الطعام اسم لما يطعم مما يؤكل ويقتات، فيتناول الأصناف التي ذكرها في حديثه. وجواب آخر: أن أبا سعيد إنما أنكر على معاوية على إخراجه المدين من القمح لأنه ما كان يعرف القمح في الفطرة، وكذلك ما نقل عن ابن عمر. وجواب آخر: أن أبا سعيد كان يخرج النصف الآخر تطوعا، وقال هذا القائل أيضا: أما من جعل نصف صاع فيها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد، وفي حديث أبي سعيد ما كان عليه من شدة الاتباع والتمسك بالآثار وترك العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص. قلت: مع وجود الأحاديث الصحيحة الصريحة أن الصدقة من الحنطة نصف صاع، كيف يكون الاجتهاد؟ وأبو سعيد هو الذي اجتهد حتى جعل الطعام برا، مع قوله: (كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير..) الحديث، ولا نخرج غيره، ومع مخالفته الآثار التي فيها نصف صاع من بر، كيف ترك العدول إلى الاجتهاد؟ وقوله: مع وجود النص غير مسلم، لأنه لم يكن عنده نص غير صاع من طعام، ولم يكن عنده نص صريح على أن الصدقة من البر صاع؟ فإن قلت: كيف تقول: ولم يكن عنده نص صريح على أن الصدقة من البر صاع؟ وقد روى الحاكم حديثه، وفيه: (أو صاعا من حنطة؟) قلت: ذكر ابن خزيمة أن ذكر الحنطة في هذا الخبر غير محفوظ، ولا أدري ممن الوهم. وقول الرجل له: أو مدين من قمح، دال على أن ذكر الحنطة في أول الخبر خطأ ووهم، إذ لو كان صحيحا لم يكن لقوله: أو مدين من قمح، معنى. وقد عرف تساهل الحاكم في تصحيح الأحاديث المدخولة، وكذلك أشار أبو داود في (سننه) أن هذا ليس بمحفوظ، وقد ذكرنا هذا فيما مضى مفصلا.
67
((باب الصدقة قبل العيد))
أي: هذا باب في بيان أن صدقة الفطر قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، وقد ذكرنا فيما مضى أن وقت وجوب صدقة الفطر عند أبي حنيفة بطلوع الفجر يوم الفطر، وهو قول الليث بن سعد ومالك في رواية ابن القاسم وابن وهب وغيرهما، وفي رواية عنه: تجب بآخر جزء من ليلة الفطر وأول جزء من يوم الفطر. وفي رواية أشهب: تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق والشافعي في الجديد، وكان قال في القديم ببغداد: إنما تجب بطلوع فجر يوم الفطر، وبه قال أبو ثور، رحمه الله تعالى، ومع هذا كله يستحب أن يخرجها قبل ذهابه إلى صلاة العيد، دل عليه حديث الباب.
9051 حدثنا آدم قال حدثنا حفص بن ميسرة قال حدثنا موسى ابن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة من التقرير الذي ذكرنا عندها.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: آدم هو ابن أبي إياس، وحفص ابن ميسرة ضد الميمنة أبو عمر بدون الواو الصنعاني نزل الشام، مات سنة إحدى وثمانين ومائة.
وأخرجه مسلم، رضي الله تعالى عنه، في الزكاة عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن عبد الله بن محمد النفيلي. والترمذي، رحمه الله تعالى، فيه عن مسلم بن عمر. والنسائي فيه عن محمد بن معدان وعن محمد بن عبد الله بن بزيع.
قوله: (أمر)، ظاهره يقتضي وجوب الأداء قبل صلاة العيد، ولكنه محمول على الاستحباب، وذلك ليحصل الغناء للفقراء في هذا اليوم ويستريحون عن الطواف. ووقع في حديث أخرجه ابن سعد عن ابن عمر قال: (إغنوهم)، يعني: المساكين، (عن طواف هذا اليوم). وذكر ابن العربي في (العارضة): وفي كتاب مسلم:
(فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الناس وقال: إغنوهم عن سؤال هذا اليوم)، وقال: هذا قوى في الأثر، ولكنه وهم في عزوه لمسلم، وهذا لم يخرجه مسلم أصلا، وإنما أخرجه الدارقطني والبيهقي. ويستحب إخراجها يوم الفطر قبل الخروج إلى الصلاة، وهو قول ابن عمر وابن عباس وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي والقاسم ومسلم بن يسار وأبي نضرة وعكرمة والضحاك والحكم بن عيينة وموسى بن وردان ومالك والشافعي وإسحاق وأهل كوفة، ولم يحك الترمذي فيه خلافا لما أخرج هذا الحديث، وحكى الخطابي الإجماع فيه، فقال في (معالم السنن): وهو قول عامة أهل العلم، ونقل الاتفاق في استحباب إخراجها في الوقت المذكور. أما جواز تقديمها عليه وتأخيرها عنه، فالخلاف فيه مشهور، وقد ذكرناه فيما مضى.
0151 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا أبو عمر عن زيد عن عياض بن عبد الله بن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر صاعا من طعام. وقال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (يوم الفطر)، ولكن لا يدل على إخراجها قبل الخروج إلى الصلاة صريحا، كما
118

في حديث ابن عمر السابق. ومعاذ، بضم الميم: ابن فضالة، بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة، وقد مر في الصلاة. وأبو عمر، بضم العين: هو حفص بن ميسرة وقد مر الآن، وزيد هو زيد بن أسلم وقد مر عن قريب.
قوله (وكان طعامنا الشعير) يدل صريحا على أن المراد من قوله: (صاعا من طعام) أنه أحد الأصناف المذكورة، وقد حققنا الكلام فيه فيما مضى، وقال الكرماني: قوله: (قال أبو سعيد) مناف لما تقدم من قولك: إن الطعام هو الحنطة، ثم أجاب عن هذا نصرة لمذهبه بقوله: لا نزاع في أن الطعام بحسب اللغة عام لكل مطعوم، إنما البحث فيما يعطف عليه الشعير وسائر الأطعمة، فإن العطف قرينة لإرادة المعنى العرفي منه، وهو البر بخصوصه. قلت: لا نسلم أن معنى هذا العطف هو الذي قاله، بل هذا العطف يدل على أن الطعام الذي ذكره أبو سعيد هو أحد الأصناف التي ذكرها فيه، لأنه مثل التفسير لما قبله، والأصل استعمال الألفاظ في معانيها اللغوية، كما عرف في موضعه. ثم قال الكرماني أيضا: لم لا يكون من باب عطف الخاص على العام نحو: * (فاكهة ونخل ورمان) * (الرحمن: 86). وأجاب بأن هذا العطف إنما هو فيما إذا كان الخاص أشرف، وهذا بعكس ذلك. قلت: لا نسلم دعوى عكس الأشرفية فيما نحن فيه، ولا يخلو هذا أما من حيث اللغة أو الشرع أو العرف، وكل منها منتف، أما اللغة فليس فيها ذلك، وأما الشرع فعليه البيان فيه، وأما العرف فهو مشترك. فافهم.
77
((باب صدقة الفطر على الحر والمملوك))
أي: هذا باب في بيان وجوب صدقة الفطر على الحر والمملوك، وكأنه أراد بهذه الترجمة أن الحر والمملوك يستويان في صدقة الفطر، لكن بينهما فرق في جهة الوجوب، لأن الحر تجب على نفسه والمملوك على سيده، ولكن فيه أيضا فرق وهو أنه إذا كان للخدمة تجب على سيده، وإن كان للتجارة فلا تجب خلافا للشافعي. وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: إذا كان: قلنا بقول الجمهور، أن صدقة الفطر على سيد العبد لا على العبد، فهل وجبت على السيد ابتداء أو وجبت على العبد وتحملها السيد بالانتقال عنه؟ قال الروياني: ظاهر المذهب هو الأول. قال الإمام: وذكر طائفة من المحققين أن هذا الخلاف في فطرة الزوجة، وأما فطرة العبد فتجب على السيد ابتداء بلا خلاف، وتجب على السيد سواء كان العبد مرهونا أو مستأجرا أو خائنا أو ضالا أو مغصوبا أو آبقا، لأن ملكه لا ينقطع بذلك. وقال ابن المنذر: أجمع من يحفظ عنه من أهل العلم أن لا صدقة على الذمي عن عبده المسلم، وكذا ذكر في (المحيط) لأن الفطرة زكاة فلا تجب على الكافر زكاة، وقال أبو ثور: تجب عليه إن كان له مال، لأن العبد يملك عنده، وإن كان عبده آبقا أو مأسورا أو مغصوبا مجحودا لا تجب هكذا في (البدائع) و (الينابيع) وبه قال أبو ثور والشافعي وابن المنذر، وعن أبي حنيفة: تجب في الآبق، وبه قال عطاء والثوري، وقال الزهري وأحمد وإسحاق: تجب إن كان في دار الإسلام، وفي المرهون على المشهور إن فضل له بعد الدين تجب، وعن أبي يوسف: لا تجب حتى يفتكه وإن هلك قبله، ولا صدقة على الراهن بخلاف عبده المستغرق بالدين، والذي في رقبته جناية. قال أبو يوسف: ورقيق الأحباس ورقيق القوام الذين يقومون على زمزم ورقيق الفيء والغنيمة والسبي والأسر قبل القسمة لا فطرة فيهم، والعبد الموصى برقبته لإنسان وبخدمته لآخر تجب على الموصى له بالرقبة دون الخدمة، كالعبد المستعار. وقال ابن الماجشون: تجب على مالك الخدمة، وتجب عن عبيد العبيد، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا شيء فيهم. وفي معتق البعض أقوال ستة. الأول: لا شيء فيه، وهو قول أبي حنيفة. والثاني: تجب على المعتق لأن له أن يعتقه كله إن كان له مال، وهو قولهما لأنه حر عندهما، والثالث: يؤدي المالك نصف صدقة فطره، ولا شيء على العبد فيما عتق. والرابع: تجب عليهما صدقة كاملة إذا ملكا فضلا عن قوتهما، قاله أبو ثور والشافعي. والخامس: يؤدي الذي يملك نصيبه صدقة كاملة، وهو قول ابن الماجشون. والسادس: على سيده بقدر ما يملكه، وفي ذمة المعتق بقدر حريته، فإن لم يكن له مال يزكى سيده كله.
وقال الزهري في المملوكين للتجارة يزكى في التجارة ويزكى في الفطر
مطابقته للترجمة ظاهرة، الزهري وهو محمد بن مسلم بن شهاب، وهذا التعليق وصل بعضه أبو عبيد في (كتاب الأموال)
119

وقال: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: ليس على المملوك زكاة، ولا يزكي عنه سيده إلا زكاة الفطر قوله: للتجارة، يجوز أن يكون للحال، وأن يكون صفة أي في المملوكين المعدين للتجارة، فعلى الأول محله النصب وعلى الثاني الجر. قوله: (يزكى)، أي: يؤدي الزكاة في مماليك التجارة من جهتين، ففي رأس الحول تجب زكاة قيمتهم، وفي صدقة الفطر زكاة بدنهم.
1151 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يعطي التمر فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرا فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى كان يعطي عن بني وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يعطيها الذين يقبلونها وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (والمملوك)، ورجاله ذكروا غير مرة، وأبو النعمان محمد بن الفضل وأيوب السختياني، وقد مضى الكلام في صدر الحديث فيما مضى عن قريب.
قوله: (فعدل الناس) أي: معاوية ومن كان معه، وقال الكرماني: (الناس) أي: معاوية، ثم قال: فإن قلت: التخصيص به خلاف الظاهر، فيكون المراد به الصحابة فيصير إجماعا سكوتيا. ثم قال: قلت: الأصل في: اللام، أن تكون للجنس الصادق على القليل والكثير والاستغراق مجازا. انتهى. قلت: هذا تعسف، فلو قال من الأول مثل ما قلنا ما كان يحتاج إلى هذا التطويل، مع أن قوله الأصل في: اللام، أن تكون للجنس ليس كذلك، بل الأصل في اللام أن تكون للعهد كما قاله المحققون. قوله: (فكان ابن عمر يعطي التمر) وفي رواية مالك في (الموطأ) عن نافع: (كان ابن عمر لا يخرج إلا التمر في زكاة الفطر إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا). وفي رواية ابن خزيمة من طريق عبد الوارث عن أيوب: (كان ابن عمر إذا أعطى أعطى التمر إلا عاما واحدا). قوله: (فأعوز)، بالعين المهملة والزاي: أي: احتاج. تقول: أعوزني الشيء إذا احتجت إليه ولم تقدر عليه. قال الكرماني: فأعوز بلفظ المعروف والمجهول: يقال: أعوزه الشيء إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه، وعوز الشيء إذا لم يوجد، وأعوز أي: افتقر. قوله: (حتى أن كان) قال الكرماني ما محصله: إنه روى: ان، بكسر الهمزة وفتحها، وشرط المخففة المكسورة، اللام، وشرط المفتوحة: قد، ونحوه وقد يكون واحد منهما مقدرا، أو أن: ان، مصدرية و: كان، زائدة. قلت: هذا تعسف، والأوجه أن يقال: أن، مخففة من المثقلة، وأصله حتى إنه، كان، أي: حتى أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كان يعطي. قوله: (بني) أصله بنون لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم صار: بنيي، بياءين فأدغمت الياء في الياء فصار: بني، قال الكرماني: قوله: بني هو قول نافع يعني: كان ابن عمر يعطي عن أولادنا وهم موالي عبد الله وفي نفقته، فكان يعطي عنهم الفطرة. قلت: قوله: (بني) هو قول نافع، ليس قول نافع لفظ بني فقط، وإنما قوله من قوله: (فكان ابن عمر..) إلى آخر الحديث من كلام نافع، قوله: (وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها)، وهم الذين ينصبهم الإمام لقبض الزكوات، وقيل: معناه من قال: أنا فقير، وقال بعضهم: الأول أظهر. قلت: بل الثاني أظهر على ما لا يخفى. قوله: (وكانوا) أي: الناس، يعطونها أي: صدقة الفطر، قبل الفطر: أي يوم الفطر، بيوم أو يومين.
ذكر ما يستفاد منه فيه: صدقة الفطر من التمر والشعير صاع، وفيه: أنهم عدلوا الصاع من التمر بنصف صاع من البر، فأعطوه، وهو حجة للحنفية من أن صدقة الفطر من البر نصف صاع. وفيه: أن الذكر والأنثى والحر والعبد سواء في الفطرة. وفيه: جواز تقديم صدقة الفطر قبل يوم الفطر بيوم أو يومين، وقد استقصينا الكلام فيه. وفيه: قال ابن بطال: لا يجوز إلا أن يعطي من قوته، لأن التمر كان به جل عيشهم، فحين لم يجدوا كانوا أعطوا الشعير. وفيه: أن أي من قال: أنا فقير فأقبلها يعطيه ولا يسأل عن حقيقة فقره.
120

87
((باب صدقة الفطر على الصغير والكبير))
أي: هذا باب في بيان وجوب صدقة الفطر على الصغير والكبير، قيل: هذه الترجمة تكرار. قلت: فيه التنبيه على أن الصغير والكبير سواء في صدقة الفطر، غير أن الجهة مختلفة على ما لا يخفى.
2151 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (على الصغير والكبير)، ويحيى هو القطان، وعبيد الله، بضم العين بتصغير العبد: ابن عمر العمري. وأخرجه أبو داود أيضا عن مسدد نحوه، وقال أبو داود: ورواه سعيد الجمحي عن عبيد الله عن نافع قال فيه: (من المسلمين)، والمشهور عن عبد الله ليس فيه: (من المسلمين). وفي رواية لأبي داود عن موسى بن إسماعيل: (والذكر والأنثى). وبقية الكلام فيه قد مرت غير مرة. والله أعلم، والحمد لله وحده.
بسم الله الرحمان الرحيم
52
((كتاب الحج))
هذا كتاب في بيان الحج، وقد ذكرنا أول الكتاب أن الكتاب يشتمل الأبواب، والأبواب تشمل الفصول، ولم يقع في ترتيب البخاري الفصول، وإنما يوجد في بعض المواضع لفظة: باب، مجردا ويريد به الفصل عما قبله، لكنه من جنسه كما ستقف عليه في أثناء الكتاب.
والكلام هنا على أنواع.
الأول: ذكر كتاب الحج عقيب كتاب الزكاة، وكان المناسب ذكر كتاب الصوم عقيب كتاب الزكاة، كما قدمه ابن بطال على كتاب الحج كما وقع في الخمس الذي بني الإسلام عليها، ولكن لما كان للحج اشتراك مع الزكاة في كونهما عبادة مالية ذكره عقيب الزكاة. فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر الصوم عقيب الصلاة لأن كلا منهما عبادة بدنية. قلت: نعم، كان القياس يقتضي ذلك ولكن ذكرت الزكاة عقيب الصلاة لأنها ثانية الصلاة وثالثة الإيمان في الكتاب والسنة.
النوع الثاني: أنه قد وقع في رواية الأصيلي: كتاب المناسك، كما وقع هكذا في (صحيح مسلم) ووقع في كتاب الطحاوي: كتاب مناسك الحج، وهو جمع منسك، بفتح السين وكسرها وهو المتعبد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك، والمنسك: المذبح، وقد نسك ينسك نسكا إذا ذبح، والنسيكة الذبيحة، وجمعها نسك، والنسك أيضا الطاعة والعبادة، وكل ما تقرب به إلى الله، عز وجل، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع وما نهت عنه. والناسك العابد، وسئل ثعلب عن الناسك ما هو؟ فقال: هو مأخوذ من النسيكة، وهي سبيكة الفضة المصفاة، كأن الناسك صفي نفسه لله تعالى.
النوع الثالث في معنى الحج لغة وشرعا أما لغة: فمعناه القصد، من حججت الشيء أحجه حجا إذا قصدته. وقال الأزهري: وأصل الحج من قولك: حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى. فقيل: حج البيت، لأن الناس يأتونه كل سنة، ومنه قول المخبل السعدي:
* واشهد من عوف حلولا كثيرة
* يحجون سب الزبرقان المزعفرا
*
يقول: يأتونه مرة بعد أخرى لسؤدده وسبه: عمامته، وقال صاحب (العين): السب الثوب الرقيق، وقيل: غلالة رقيقة يمنية، والزبرقان، بكسر الزاي وسكون الباء الموحدة وكسر الراء وبالقاف المخففة وفي آخره نون: وهو في الأصل اسم القمر، ولقب به الحصين لصفرة عمامته. وأما شرعا: الحج قصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعال مخصوصة، وسببه البيت، لأنه يضاف إليه، ولهذا لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لعدم تكرار السب، والحج، بفتح الحاء وكسرها. وقال الزجاج:
121

يقرأ بفتح الحاء وكسرها، يعني: في القرآن، والأصل الفتح. قلت: قرىء بهما في السبعة وأكثرهم على الفتح. وفي (أمالي الهجري) أكثر العرب يكسرون الحاء فقط، وقال ابن السكيت: بفتح الحاء: القصد، وبالكسر: القوم الحجاج، والحجة، بالفتح: الفعلة من الحج، وبكسر الحاء: التلبية والإجابة. قلت: يقال في الفعلة بالفتح المرة، وبالكسر الحالة، والهيأة، والحاج الذي يحج، وربما يظهرون التضعيف في ضرورة الشعر قال:
* بكل شيخ عامر أو حاجج
*
ويجمع على: حجج، بالضم نحو: بازل وبزل، وعائذ وعوذ.
النوع الرابع: في وقت ابتداء فرضه، فذكر القرطبي أن الحج فرض سنة خمس من الهجرة، وقيل: سنة تسع، قال: وهو الصحيح. وذكر البيهقي أنه كان سنة ست، وفي حديث ضمام بن ثعلبة ذكر الحج، وذكر محمد بن حبيب أن قدومه كان سنة خمس من الهجرة، وقال الطرطوشي: وقد روي أن قدومه على النبي صلى الله عليه وسلم كان في سنة تسع، وذكر الماوردي أنه فرض سنة ثمان، وقال إمام الحرمين: سنة تسع أو عشر، وقيل: سنة سبع، وقيل: كان قبل الهجرة وهو شاذ.
1
((باب وجوب الحج وفضله))
أي: هذا باب في بيان وجوب الحج وبيان فضله، قد ذكرنا أن الكتاب يجمع الأبواب، فهذا هو شروع في بيان أفعال الحج وما يتعلق به من الأبواب، فذكر بابا بابا بحسب قصده بالتناسب، والبسملة مذكورة في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره لم تذكر، وكذا لم يذكر لفظ: الباب.
وقول الله تعالى * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * (آل عمران: 79).
وقع في بعض النسخ: باب وجوب الحج وفضله، وقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * (آل عمران: 79). وهذا أوجه، وأشار بذكر هذه الآية الكريمة إلى أن وجوب الحج قد ثبت بهذه الآية، هذا عند الجمهور، وقيل: ثبت وجوبه بقوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (البقرة: 691). والأول أظهر. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد (عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا. فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه). رواه مسلم. وفي روايته: (فقام الأقرع بن حابس، فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟...) الحديث. وعن أحمد في روايته: (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال لما نزلت: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 79). قالوا: يا رسول الله في كل عام؟...) الحديث. وفي رواية ابن ماجة: (عن أنس بن مالك
، قال: قالوا: يا رسول الله الحج في كل عام؟ قال: لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لو تقوموا بها لعذبتم). وفي (الصحيحين) من حديث جابر (أن سراقة بن مالك، قال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا أم للأبد؟ قال: بل للأبد؟ قال: بل للأبد). قوله: (حج البيت) مرفوع على الابتداء، وخبره مقدما، قوله: (ولله على الناس) أي: ولله فرض واجب * (على الناس حج البيت) * (آل عمران: 79). لأن: اللام، لام الإيجاب. قوله: * (من استطاع) * (آل عمران: 79). بدل: من الناس، في محل الجر، والتقدير: ولله على من استطاع من الناس حج البيت، والاستطاعة هي: الزاد والراحلة وتخلية الطريق، وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السبيل: الزاد والرحلة)، رواه الحاكم، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وروى الترمذي من حديث ابن عمر قال: (قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال: الشعث الثقل، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ فقال العج والثج، فقام آخر، فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والرحلة). وقال ابن أبي حاتم، وقد روي عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك، وقد روى ابن
122

جرير عن ابن عباس في قوله: * (من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 79). قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلا). وعن عكرمة مولاه، قال: (من استطاع إليه سبيلا: السبيل: الصحة). وعن الضحاك عن ابن عباس. (قال: من استطاع إليه سبيلا) قال: الزاد والبعير، قوله: * (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) * (آل عمران: 79). قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي: ومن جحد فرضية الحج فقد كفر، والله غني عنه. وقيل: من لم يرج ثوابه ولم يخف عقابه تركه، وقيل: إذا أمكنه الحج ولم يحج حتى مات، وروى ابن مردويه من حديث الحارث عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا، وذلك بأن الله تعالى قال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 79). إلى آخره. ورواه الترمذي أيضا، وقال: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال مجهول يعني في رواية الحارث يضعف في الحديث، وروى الإسماعيلي الحافظ من حديث عبد الرحمن بن غنم، سمع عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، يقول: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا). وهذا إسناد صحيح إلى عمر، قاله ابن كثير في تفسيره. قوله: * (غني عن العالمين) * (آل عمران: 79). أي: لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم.
3151 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذالك في حجة الوداع.
.
مطابقته للترجمة تدرك بدقة النظر، وذلك أن الحديث يدل على تأكيد الأمر بالحج حتى إن المكلف لا يعذر بتركه عند عجزه عن المباشرة بنفسه، بل يلزمه أن يستنيب غيره، وهذا يدل على أن في مباشرته فضلا عظيما، فمن هذا تؤخذ المطابقة بين الترجمة والحديث، وسيأتي باب مستقل في فضل الحج، إن شاء الله تعالى.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسليمان ابن يسار ضد اليمين تقدم في الوضوء.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا عن القعنبي عن مالك، وعن موسى بن إسماعيل في المغازي، وقال محمد بن يوسف: حدثنا الأوزاعي، وفيه وفي الاستئذان عن أبي اليمان عن شعيب، كلهم عن الزهري. وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به، وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع عن روح بن عبادة وليس فيه صدر الحديث وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين وعن قتيبة وعن أبي داود الحراني وعن عثمان بن عبد الله وعن مجاهد بن موسى وعن محمود بن خالد. وأخرجه ابن ماجة عن عبد الرحمن ابن إبراهيم الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي... الحديث.
ذكر ما قيل في هذا الحديث: قال أبو العباس الطرقي: مدار هذا الحديث على ابن شهاب، وقد اختلف عنه في إسناده، رواه ابن جريج عنه عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس وهو الصحيح عندي، والحديث حديث الفضل لأنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة النحر من المزدلفة إلى منى، وعبد الله بن عباس قدمه النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من جمع بليل، وروي عنه أنه قال: مشيت على رجلي في سياق إلى منى، فقد دل غير شاهد واحد على أن عبد الله لم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وإنما سمع ذلك من الفضل، كما جاء في حديث ابن عباس حين دفعوا عشية عرفة: عليكم بالسكينة، قال عبد الله: وأخبرني الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وكذلك روى مسلم قال: حدثني علي بن خشرم، قال: أخبرنا عيسى عن ابن جريج عن ابن شهاب، قال: حدثنا سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النبي
123

صلى الله عليه وسلم: فحجي عنه. وأخرج مسلم أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو رواية البخاري، وقال الترمذي: وروي عن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: فسألت محمدا عن هذه الروايات فقال: أصح شيء في هذا ما روي عن ابن عباس عن الفضل ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال محمد: ويحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى هكذا فأرسله ولم يذكر الذي سمعه منه، قال أبو عيسى: وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث. قيل: قول الترمذي: وروي عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني عن عمته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيه نظر من حيث إن الموجود بهذا الإسناد هو حديث آخر في المشي إلى الكعبة لا عن الكبير العاجز، رواه الطبراني من رواية عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن كريب عن كريب عن ابن عباس عن سنان بن عبد الله الجهني، أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله توفيت أمي وعليها مشي إلى الكعبة نذرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستطيعين أن تمشين عنها؟ قالت: نعم، قال: فامشي عن أمك. قالت: أو يجزيء ذلك عنها؟ قال: نعم، أرأيت لو كان عليها دين ثم قضيتيه عنها هل كان يقبل منك؟ قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فالله أحق بذلك). وأجيب عنه بأنه أراد أن يبين الاختلاف في هذا الحديث عن ابن عباس في المتن والإسناد معا، وهذا اختلاف في متنه. وقال الترمذي في (العلل الكبير) عن محمد: الصحيح الزهري عن سليمان عن ابن عباس عن الفضل. قلت: كان عبد الله يرويه عن الفضل وعن حصين بن عوف قال: أرجو أن يكون صحيحا، ويحتمل أن يكون عبد الله روى هذا عن غير واحد ولم يذكر الذي سمعه منه، ويحتمل أن يكون كله صحيحا قلت: حديث حصين رواه ابن ماجة عن ابن نمير عن أبي خالد الأحمر عن محمد بن كريب عن أبيه (عن ابن عباس أخبرني حصين، قلت: يا رسول الله إن أبي أدركه الحج ولا يستطيع أن يحج إلا معترضا. فصمت ساعة، ثم قال: حج عن أبيك).
ذكر معناه: قوله: (كان الفضل) هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو عبد الله، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو العباس المدني ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث ابن حزن الهلالية، وكان شقيق عبد الله بن عباس رواه عنه أخوه عبد الله بن عباس وغيره، وقيل: لم يسمع منه سوى أخيه عبد الله وأبي هريرة ومن عداهما، فروايته عنه مرسلة، قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وقيل: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود: قتل بدمشق، وقال الواقدي: مات بالشام في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقال ابن سعد: كان اسن ولد عباس، رضي الله تعالى عنهما، خرج إلى الشام مجاهدا فمات بناحية الأردن في طاعون عمواس في سنة ثماني عشرة من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. قوله: (رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو الذي يركب وراء الراكب، وقد جمع ابن منده الأصفهاني كتابا فيه أسماء من أردفه سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، معه على الدابة فبلغ بهم نيفا وثلاثين رجلا. قوله: (فجاءت امرأة من خثعم) بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة، وهي قبيلة باليمن، وفي رواية: (وقالت امرأة من جهينة)، وهاتان القبيلتان لا تجتمعان لأن جهينة هو ابن زيد بن ليث بن الأسود بن أسلم بن ألحاف بن قضاعة. وخثعم هو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان. وفي (التوضيح): هذه المرأة يجوز أن تكون غاثية أو غايثة، بالغين المعجمة فيهما. واعلم أنه قد اختلفت طرق الأحاديث في السائل عن ذلك: هل هو امرأة أو رجل؟ وفي المسؤول عنه أن يحج عنه أيضا: هل هو أب أو أم أو أخ؟ فأكثر طرق الأحاديث الصحيحة دالة على أن السائل امرأة، وأنها سألت عن أبيها، كما هو في أكثر طرق حديث الفضل، وأكثر طرق عبد الله بن عباس، وكذلك في حديث علي، رضي الله تعالى عنه: قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة...) الحديث، وفيه: (فاستفتته جارية شابة من خثعم. فقالت: إن أبي شيخ كبير...) الحديث. وفي رواية للنسائي في حديث الفضل أن السائل رجل سأل عن أمه، وفي (صحيح ابن حبان) في حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه: أن السائل رجل سأل عن أبيه، وعند النسائي أيضا: أن امرأة سألته عن أبيها مات ولم يحج، وفي حديث بريدة أخرجه الترمذي: أن امرأة سألت عن أمها، وفي حديث حصين بن عوف
124

رواه ابن ماجة وفي حديث أبي رزين العقيلي أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وفي حديث سودة رواه أحمد في (مسنده) وفي حديث عبد الله بن الزبير أخرجه النسائي: أن السائل رجل سأله عن أبيه. وفي حديث سنان بن عبد الله أن عمته حدثته رواه الطبراني، وقد ذكرناه عن قريب، وفيه: (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله توفيت أمي...) الحديث. والجمع بين هذه الروايات ما قاله شيخنا زين الدين، رحمه الله: إن السؤال وقع مرات: مرة من امرأة عن أبيها، ومرة من امرأة عن أمها، ومرة عن رجل عن أمه، ومرة من رجل عن أبيه، ومرة من رجل عن أخيه، ومرة في السؤال عن الشيخ الكبير، ومرة في الحج عن الميت. فإن قلت: هل يعلم السائل عن هذا رجلا كان أو امرأة؟ قلت: أما الرجل فقد سمي من السائلين، من ذلك حصين بن عوف، كما ذكره ابن ماجة وسمى منهم: أبو رزين لقيط بن عامر، كما هو عند أصحاب السنن، وأما النساء فلم يسم منهن أحد إلا في رواية سنان بن عبد الله الجهني أن عمته حدثته أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وعمته لم تسم، وفي حديث النسائي (إن أحد النساء، امرأة سنان بن سلمة الجهني، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمها ماتت) الحديث. والمرأتان ذكرتا في الحج عن الميت لا عن المعضوب، وهو بالعين المهملة والضاد المعجمة: الزمن الذي لا حراك به. قوله: (فجعل الفضل)، كلمة: جعل، من أفعال المقاربة، وجعل وضع لدنو الخبر على وجه الشروع فيه، والأخذ في فعله. وقوله: (الفضل) اسم جعل وقوله: (ينظر إليها) في محل النصب خبره إلى المرأة المذكرة قوله (وتنظر إليه) أي تنظر المرأة إلى الفضل والكلام في قوله: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف) مثل الكلام في: (جعل الفضل). قوله: (إلى الشق) أي: إلى الجنب الآخر، وهو بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف. قوله: (شيخا)، نصب على الحال وكبيرا صفة شيخا. وقوله: لا يثبت أيضا في محل النصب على الحال، فهما حالان متداخلتان، ويجوز أن يكون: لا يثبت، صفة لشيخا، ومعناه: وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ، وحصل له المال في هذه الحالة. قوله: (أفأحج عنه؟) الهمزة للاستفهام، والفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة، والتقدير: أنوب عنه فأحج؟ وإنما قدرنا هكذا لأن الهمزة تقتضي الصدارة والفاء تقتضي عدمها. قوله: (وذلك في حجة الوداع)، بكسر الحاء وفتحها، وسميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وليست هذه الإضافة للتقييد التمييزي لأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وهي هذه الحجة.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، والإرداف للسادة والرؤساء سائغ، ولا سيما في الحج لتزاحم الناس، ومشقة سير الرجالة، ولأن الركوب فيه أفضل كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وفيه: دلالة على أن المرأة تكشف وجهها في الإحرام، وهو إجماع كما حكاه أبو عمر، ويحتمل كما قال ابن التين: أنها سدلت ثوبا على وجهها. وفيه: في نظر الفضل مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الشهوات. وفيه: أن العالم يغير ما أمكنه إذا رآه واستدل ابن المنذر من حديث ابن عباس، قال: (كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فجعل الفضل يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي هذا يوم، من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له). ولم ينقل أنه نهى المرأة عن النظر إليه، وكان الفضل، وسيما، أي: جميلا، ويحتمل أن يكون الشارع اجترأ بنفع الفضل لما رأى أنها تعلم بذلك منع نظرها إليه، لأن حكمهما واحد، أو تنبهت لذلك، أو كان ذلك الموضع هو محل نظره الكريم فلم يصرف نظرها، وقال الداودي: فيه: احتمال أن ليس على النساء غض أبصارهن عن وجوه الرجال، إنما تغضضن عن عورتهن. وقال بعض المالكية: ليس على المرأة تغطية وجهها لهذا الحديث، وإنما على الرجل غض البصر، وقيل: إنما لم يأمرها بتغطية وجهها لأنه محل إحرامها، وصرف وجه الفضل بالفعل أقوى من الأمر، وذهب ابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، إلى أن المراد في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * (النور: 13). أي: الوجه والكفان. وفيه: جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك والليث والحسن بن صالح: لا يحج أحد عن أحد إلا عن ميت لم يحج حجة الإسلام، وحاصل ما في مذهب مالك ثلاثة أقوال مشهورها: لا يجوز، ثانيها: يجوز من الولد. ثالثها: يجوز إن أوصى به، وعن النخعي وبعض السلف: لا يصح الحج عن ميت ولا عن غيره، وهي رواية
125

عن مالك، وإن أوصى به، وفي (مصنف) ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: لا يحج أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد، وكذا قال إبراهيم النخعي وقال الشافعي والجمهور: يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره، سواء أوصى به أو لم يوص، وهو واجب في تركته. وقال صاحب (التوضيح): وعندنا يجوز الاستنابة في حجة التطوع على أصح القولين، والحديث حجة على الحسن بن حي في قوله: إن المرأة لا يجوز أن تحج عن الرجل، وهو حجة لمن أجازه.
وقال الخطابي: فيه: جواز الحج عن غيره إذا كان معضوبا، ولم يجزه مالك، وهو راوي الحديث، وهو حجة عليه. وقال صاحب (الهداية): الأصل أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صدقة أو صوما أو غيرها، عند أهل السنة والجماعة، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين أحدهما عن نفسه، والآخر عن أمته.
والعبادات أنواع: مالية محضة، كالزكاة، وبدنية: كالصلاة، ومركب منهما: كالحج، والنيابة تجزىء في النوع الأول ولا تجزىء في الثاني بحال، وتجزيء في النوع الثالث عند العجز، ولا تجزيء عند القدرة، والشرط العجز الدائم إلى وقت الموت، وظاهر المذهب أن الحج يقع عن المحجوج عنه لحديث الخثعمية، وعند محمد: أن الحج يقع عن الحاج، وللآخر ثواب النفقة. وقال ابن بطال: اختلفوا في المريض يأمر بمن يحج عنه، ثم يصح بعد ذلك فقال الكوفيون والشافعي وأبو ثور: لا يجزيه، وعليه أن يحج. وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الحج عنه، وكذا من مات من مرضه وقد حج عنه، فقال الكوفيون وأبو ثور: يجزيه عن حجة الإسلام. وللشافعي قولان: أحدهما هذا، والآخر: لا يجزيء عنه وهو أصح القولين.
وقال ابن عبد البر: اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث، فإن جماعة منهم ذهبوا إلى أن هذا الحديث مخصوص به أبو الخثعمية لا يجوز أن يتعدى به إلى غيره بدليل قوله تعالى: * (من استطاع إليه سبيلا) * وإن الأصل في الاستطاعة هي القوة في البدن قال تعالى (فما اسطاعوا أن يظهروه وما اسطاعوا له نقبا (آل عمران: 79). وكان أبوها ممن لا يستطيع فلم يكن عليه الحج، فلما لم يكن عليه لعدم استطاعته كانت ابنته مخصوصة بذلك الجواب، وممن قال ذلك مالك وأصحابه لأن الحج عندهم من عمل البدن فلا ينوب فيه أحد عن أحد قياسا على الصلاة، وذكر ابن حزم من حديث إبراهيم بن محمد العدوي أن امرأة قالت: إن أبي شيخ كبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنه، وليس لأحد بعده، وكذا رواه محمد بن حبان الأنصاري أن امرأة قالت... الحديث، وفيه: ليس لأحد بعده، وضعفهما بالإرسال وغيره. وقال ابن التين: الاستطاعة أن يقدر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادة، فمن كان عادته السفر ماشيا لزمه أن يمشي، وإن لم يجد راحلة، ومن كان عادته تكفف الناس وأمكنه التوصل به لزمه، وإن لم يجد زادا، ومن عادته الركوب والغناء عن الناس لم يلزمه حج إلا بوجدان ذلك، وقال ابن بطال: وإلى هذا ذهب ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وعند أبي حنيفة والشافعي: لا يلزم إلا من وجد زادا وراحلة، وهو قول الحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وعبد العزيز بن أبي سلمة وسحنون، وظاهر قول ابن حبيب. وقال القرطبي: مالك وأصحابه رأوا أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لقوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * (آل عمران: 79). أي: ما قدروا ولاقووا، فإذا قال القائل: فلان مستطيع أو غير مستطيع، فالظاهر منه السابق إلى الفهم هي القدرة وإتيانها، فلما عارض ظاهر الحديث ظاهر القرآن العزيز رجح مالك ظاهر القرآن، والجواب أن حديث الزاد والراحلة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، منها صحيح ومنها حسن.
فإن قلت: قال ابن حزم: الأخبار في ذلك في أحدها إبراهيم الجوزي وهو ساقط مطروح، وفي الثاني: الحارث الأعور، وهو مذكور بالكذب. والثالث: مرسل ولا حجة فيه، والروايات في ذلك عن الصحابة واهية كلها، وتبعه على ذلك ابن العربي وغيره، وقال أبو عمر: روي ذلك من وجوه منها: مرسلة. ومنها: ضعيفة، والجواب عن هذا أن حديث أنس الذي مضى ذكره في أول باب وجوب الحج أخرجه الحاكم على شرط مسلم وهو حديث صحيح. فإن قلت: قال البيهقي، وذكر رواية حماد وسعيد: لا أرى إلا وهما لأن ابن أبي عروبة روى عن قتادة عن الحسن مرسلا وهو المحفوظ، وكذا رواه يونس بن عبيد. قلت: هذا ظن منه وتوهم من غير جزم
، والظن لا تضعف به الأحاديث ولا تقوى. وقوله: وكذا رواه يونس غير موجه لأن الدارقطني روى من حديث حصين بن مخارق عنه عن الحسن عن أنس، رضي الله تعالى عنه، الحديث مسندا بلفظ: (يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة). فإن قلت: قال ابن المنذر: الحديث
126

الذي فيه ذكر الزاد والراحلة ليس بمتصل؟ قلت: الحديث الذي ذكرناه متصل. فإن قلت: قال ابن المنذر أيضا: والدليل على عدم اعتبار الراحلة حديث: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة؟ قلت: لا نسلم ذلك، فإن الحديث مفسر للاستطاعة في الآية، وهو مبين عن الله تعالى: فإن قلت: قال إسماعيل بن إسحاق: لو أن رجلا كان في موضع يمكنه المشي إلى الحج وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج لأنه مستطيع إليه سبيلا. قلت: لا نسلم ذلك، لأن الاستطاعة فسرت بالزاد والراحلة. فإن قلت: ما روي عن السلف في ذلك أن السبيل الزاد والراحلة، وإنما أرادوا به التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج قلت: لا نسلم ذلك، بل أرادوا به التشريع؟
وفيه: ما يدل على أنه ما يجوز للرجل إن يحج عن غيره، وإن لم يكن حج عن نفسه لإطلاق الحديث ولم يسأله صلى الله عليه وسلم أحججت عن نفسك أم لا؟ وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، ويحكى كذلك عن الحسن وإبراهيم وأيوب وجعفر بن محمد، وقال الأوزاعي والشافعي وإسحاق: ليس لمن لم يحج حجة الإسلام أن يحج عن غيره، فإن فعل وقع إحرامه عن حجة الإسلام. وقال عبد العزيز: يقع الحج باطلا ولا يصح عنه، ولا عن غيره، وروي ذلك عن ابن عباس، وفي (مسند الشافعي): حدثنا سعيد بن سالم عن سفيان بن سعيد عن طارق بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: سألته عن الرجل لم يحج إيستقرض للحج؟ قال: لا. واحتجوا بما رواه أبو داود (عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي؟ فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، وحج عن شبرمة). وروي أيضا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرورة في الإسلام)، والجواب عنه ما قاله الطحاوي: إن حديث شبرمة معلول، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس، والذي يصح في هذا المعنى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من رواية ابن عباس: سئل عن رجل لم يحج أيحج عن غيره؟ فقال: دين الله، عز وجل، أحق أن يقضيه، وليس فيه أنه لو أحرم عن غيره كان ذلك الإحرام عن نفسه، وقال بعضهم: يحمل على الندب لقوله، صلى الله عليه وسلم: (إبدأ بنفسك ثم بمن تعول). وقال الأثرم: قال أبو عبد الله: رفعه عبدة بن سليمان وهو خطأ، وقد رواه عدة موقوفا على ابن عباس ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية همام عن قتادة عن سعيد بن جبير موقوف، وكذا قال أبو قلابة عن ابن عباس وقال: منهيء، قلت: لأبي عبد الله حديث عبدة بن سليمان عن سعيد عن قتادة عن عزرة عن ابن جبير عن ابن عباس: سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، رجلا يلبي عن شبرمة، قال: ليس بصحيح، إنما هو عن ابن عباس، حدثني غير واحد عن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن ابن عباس مرسلا، ورواه روح عن حماد بن مسلمة عن أيوب عن عكرمة، ورواه عن ابن عباس مرسلا، ورواه إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ابن عباس. فإن قلت: قال أبو عمر: الذي رفعه حافظ حفظ ما قصر عنه غيره، فوجب قبول زيادته. وقال ابن قطان: الرافعون له ثقات فلا يضرهم وقف الواقفين له، إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظه أولئك، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رواية وأولئك رواية. قلت: هذا الحديث مما يعلم بالضرورة توقيفه لأن الحج إنما كان في سنة عشر سنة حج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمع الرجل يلبي عن غيره في تلك الحجة، فكيف يسوغ؟ قوله: (أحججت عن نفسك؟) إيحج أحد إلى غير البيت؟ وفي غير ذلك الوقت؟ فليتأمل هذا فإنه واضح. وروى الدارقطني من حديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاووس: (عن ابن عباس: سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، رحلا يلبي عن نبيشة، فقال: أيها الملبي عن نبيشة، هذه عن نبيشة، واحجج عن نفسك). قال الدارقطني: الحسن متروك الحديث، والمحفوظ الصحيح عن ابن عباس حديث شبرمة. وذكر أبو نعيم الأصبهاني: شبرمة هذا في كتاب الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وذكر له هذا الحديث، وأنه توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: (لا صرورة في الإسلام) فقد قال الخطابي: إن الصرورة هو الذي أقلع عن النكاح بالكلية وأعرض عنه كرهبان النصارى، وله معنى آخر، وهو أنه: الذي لم يحج فيكون معناه: أن سنة الدين أن لا يبقى من الناس من يستطيع الحج إلا ويحج، وهذا ليس فيه دليل على أن من لم يحج
127

عن نفسه لا يحج عن غيره. وقال النووي: هذا مبني على أن الحج على الفور أو التراخي، فذهب الشافعي إلى أنه على التراخي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن، وهو المروي عن ابن عباس وأنس وجابر وعطاء وطاووس. وقال مالك وأبو يوسف: هو على الفور، وهو قول المزني وقول جمهور أصحاب أبي حنيفة، ولا نص لأبي حنيفة في ذلك. وقال أبو يوسف: مذهبه يقتضي أنه على الفور، وهو الصحيح، ذكره الطرطوشي واحتج لهم بما رواه الحاكم من حديث مهران بن أبي صفوان عن ابن عباس يرفعه: (من أراد الحج فليعجل) وقال أبو زرعة: مهران لم يعرف، وقال الحاكم: كان مولى لقريش ولا يعرف بجرح، وذكره ابن حبان في (الثقات) وصحح حديثه أيضا أبو محمد الإشبيلي، وفي لفظ لأبي داود، من حديث إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي فيه لين، عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله، أو عن الفضل أو أحدهما عن الآخر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة). وفي (مسند أحمد): (تعجلوا إلى الحج، يعني الفريضة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له). واحتج الشافعي وأصحابه بأن فريضة الحج نزلت بعد الهجرة، وكان الفتح في رمضان سنة ثمان، فأقام عتاب للناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة ومعه عامة أصحابه، ثم غزا تبوك سنة تسع ولم يحج، وكان انصرافه عنها قبل الحج، فبعث أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، فأقام للناس الحج تلك السنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معتمر هو وأزواجه وأصحابه مع القدرة على الحج، ثم حج سنة عشر، فدل على جواز التأخير.
وفيه: دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل، وهو حجة علي الحسن بن حي، رحمه الله تعالى، في منعه عن ذلك،
وفيه: بر الوالدين بالقيام بمصالحهما من قضاء الديون وغيره.
وفيه: جواز أن يقال: حجة الوداع بدون كراهة.
2
((باب قول الله تعالى * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم) * (الحج: 72).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله تعالى: * (يأتوك...) * (الحج: 72). إلى آخره. وإنما ذكر هذه الآية مترجما بها تنبيها على أن اشتراط الراحلة في وجوب الحج لا ينافي جواز الحج ماشيا مع القدرة على الراحلة وعدم القدرة، لأن الآية اشتملت على المشاة والركبان، وذلك أن سبب نزول الآية أنهم كانوا لا يركبون على ما روى الطبراني، رحمه الله تعالى، من طريق عمرو بن ذر، رحمه الله تعالى. قال: قال مجاهد، رضي الله تعالى عنه: كانوا لا يركبون، فأنزل الله تعالى: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) * (الحج: 72). فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر، وأول الآية: * (وأذن في الناس بالحج يأتوك...) * (الحج: 72). الآية. قال المفسرون: لما فرغ إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، من بناء البيت أمره الله تعالى أن يؤذن. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: يا رب وما يبلغ أذاني؟ قال: أذن وعلي البلاغ. فقام بالمقام، وقيل: على جبل أبي قبيس، وأدخل إصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا، وقال: يا أيها الناس! إن الله يدعوكم إلى الحج ببيته الحرام، فاسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ممن سبق في علم الله تعالى أن يحج، فأجابوا: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ بعدد حج على قدره، قيل: أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجا، وهذا قول الجمهور. وقال قوم: المأمور بالتأذين محمد صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، والتوفيق بين القولين أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره الله بذلك إحياء لسنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. قلت: * (يأتوك) * (الحج: 72). على القول الأول خطاب لإبراهيم، صلى الله عليه وسلم، وعلى القول الثاني لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مجزوم لأنه جواب الأمر، وهو قوله: * (أذن) * (الحج: 72). قوله: * (رجالا) * (الحج: 72). نصب على الحال من الضمير الذي في * (يأتوك) * (الحج: 72). وهو جمع راجل، كذا قاله أبو عبيد في (كتاب المجاز) نحو: صحاب وصاحب، وعن ابن عباس رجالا، رجالة، وقرأ عكرمة مشددا، وقرأ مجاهد مخففا. وقال الجوهري: جمع الراجل رجل، مثل صاحب وصحب، ورجالة ورجال، والأراجيل جمع الجمع. قوله: * (وعلى كل ضامر) * (الحج: 72). من الضمور، وهو الهزال، وقال أبو الليث: * (وعلى كل ضامر) * (الحج: 72). يعني: الإبل وغيرها، فلا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا
128

وقد ضمر من طول الطريق، وضامر بغير هاء يستعمل للمذكر والمؤنث. وقال النسفي في (تفسيره) * (وعلى كل ضامر) * (الحج: 72). حال معطوفة على: رجال، كأنه قيل: رجالا وركبانا، والضامر البعير المهزول. قوله: * (يأتين) * (الحج: 72). صفة لكل ضامر، لأن: كل ضامر، في معنى الجمع أراد النوق. قوله: * (من كل فج عميق) * (الحج: 72). أي: من كل طريق بعيد، ومنه قيل: بئر عميقة. وقرأ ابن مسعود: معيق، فقال: بئر بعيدة القعر. قوله: * (ليشهدوا) * (الحج: 72). أي: ليحضروا منافع لهم هي التجارة، وقيل: منافع الآخرة، وقيل: منافع الدارين جميعا، وتمام الآية * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) * (الحج: 72). قوله: * (ويذكروا) * (الحج: 72). أي: وليذكروا اسم الله في أيام معلومات يعني: يوم النحر ويومين بعده، وقال مجاهد وقتادة: المعلومات: الأيام العشر، والمعدودات: إيام التشريق. قوله: * (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * (الحج: 72). متعلق بذكروا، والمعنى: ويذكروا اسم الله على ذبح أنعامهم، والمراد بالذكر التسمية، وهي قوله: بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك عن فلان، كان الكفار يدعون ويذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الله تعالى أن الواجب الذبح على اسمه: * (بهيمة الأنعام) * (الحج: 72). الإبل والبقر والغنم. قوله: * (فكلوا منها) * (الحج: 72). فهو أمر إباحة، وكان أهل الجاهلية لا يرون ولا يستحلون الأكل من ذبائحهم. قوله: * (وأطعموا البائس) * (الحج: 72). أي: الذي اشتد فقره، وقال أبو الليث: البائس الصرير الزمن، والفقير الذي ليس له شيء. وقال الزجاج: البائس الذي أصابه البؤس وهو الشدة، وما يتعلق بذلك من الفقه عرف في موضعه.
فجاجا: الطرق الواسعة
قد جرت عادة البخاري أنه إذا وقعت لفظة في الحديث أو في الآية يذكر نظيرها مما وقع في الحديث أو القرآن، وذكر هنا: فجاجا، يريد به ما وقع في قوله تعالى: * (لتسلكوا منها سبلا فجاجا) * (الحج: 72). ثم فسر الفجاج بقوله: الطرق الواسعة، وهكذا فسرها الفراء في (المعاني) في سورة نوح، عليه الصلاة والسلام، وهو: جمع فج. قال ابن سيده: الفج الطريق الواسع في جبل أو في قبل جبل، وهو أوسع من الشعب. وقال ثعلب: هو ما انخفض من الطرق، وجمع على فجاج، وأفجة، الأخيرة نادرة. وقال صاحب (المنتهي): فجاج الأرض نواحيها. وفي (التهذيب): * (من كل فج عميق) * (الحج: 72). أي: واسع غامض.
4151 حدثنا أحمد بن عيسى ا قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله قال أخبره أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب رحلته بذي الحليفة ثم يهل حتى تستوي به قائمة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه ذكر الركوب وذكر الفج العميق. أما الركوب فهو قوله: (يركب راحلته)، وأما الفج العميق فهو، ذو الحليفة، لأنه لا شك أن بينها
وبين مكة عشر مراحل، وهو فج وعميق، وسنبسط الكلام فيها عن قريب، إن شاء الله تعالى، وبما ذكرنا سقط اعتراض الإسماعيلي، حيث قال: ليس في الحديثين شيء مما ترجم الباب به، ولو وقع في خاطره ما ذكرنا من المطابقة الواضحة لما أقدم إلى الاعتراض.
ذكر رجاله: وهم: ستة: أحمد بن عيسى أبو عبد الله التستري مصري الأصل، ولكنه كان يتجر إلى تستر فنسب إليها، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، كذا وقع في رواية أبي ذر بنسبته إلى أبيه، ووافقه أبو علي الشبوي، وأهمله الباقون، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وقال صاحب (التلويح): والذي رأيت في (مسند عبد الله بن وهب) رواية يونس بن عبد الأعلى عنه: أنبأنا يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبيا، وابن شهاب محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
وأخرجه مسلم عن حرملة، والنسائي عن عيسى بن إبراهيم. ذكر معناه: قوله: (يركب راحلته)، والراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت. قوله: (بذي الحليفة)، بضم الحاء المهملة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الفاء، وفي
129

آخره هاء وهي شجرة منها يحرم أهل المدينة. وهي من المدينة على أربعة أميال ومن مكة على مائتي ميل غير ميلين، وقيل: بينها وبين المدينة ميل أو ميلان والميل ثلث فرسخ وهو أربعة آلاف ذراع، وبذي الحليفة عدة آبار ومسجدان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الكبير الذي يحرم منه الناس، والمسجد الآخر: مسجد المعرس. وقال ابن التين: هي أبعد المواقيت من مكة تعظيما لإحرام النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثم يهل)، بضم الياء: من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية. قوله: (حتى تستوي) أي: الراحلة. قوله: (قائمة)، نصب على الحال.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الركوب في سفر الحج والركوب فيه والمشي سواء في الإباحة، والكلام في الأفضلية، فقال قوم: الركوب أفضل اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولفضل النفقة فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، كما أخرجه أحمد من حديث بريدة، وصحح جماعة أن المشي أفضل وبه قال إسحاق لأنه أشد على النفس، وفي حديث صححه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا: (من حج إلى مكة ماشيا حتى رجع كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: كل حسنة بمائة ألف حسنة). وروى محمد بن كعب عن ابن عباس، قال: ما فاتني شيء أشد علي إلا أن أكون حججت ماشيا، لأن الله تعالى يقول: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) * (الحج: 72). أي: ركبانا، فبدأ بالرجال قبل الركبان، وذكر إسماعيل ابن إسحاق عن مجاهد قال: أهبط آدم صلى الله عليه وسلم بالهند فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، حجا ماشيين، وحج الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنهما، خمسة وعشرين حجة ماشيا وأن النجائب لتقاد بين يديه، وفعله ابن جريج والثوري. وفي (المستدرك) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، قال: (حج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، ثم قال اربطوا على أوساطكم مآزركم وامشوا مشيا خلط الهرولة). ثم قال: صحيح الإسناد.
وفيه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أهل حين استوت راحلته قائمة، واستواؤها كمال قيامها، وبه احتج مالك وأكثر الفقهاء على أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة، واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقيب الصلاة إذا سلم منها، وقال الشافعي: يهل إذا أخذت ناقته في المشي، ومن كان يركب راحلته قائمة كما يفعله كثير من الحاج اليوم فيهل على مذهب مالك إذا استوى عليها راكبا. وقال عياض: جاء في رواية: (أهل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا استوت الناقة). وفي رواية أخرى: (حتى إذا استوت به صلى الله عليه وسلم راحلته)، وفي أخرى (حتى تنبعث به صلى الله عليه وسلم ناقته)، ولا يفهم منه أخذها في المشي وقال أكثر أصحاب مالك يستحب أن يهل إذا استوت به ناقته إن كان راكبا وإن كان راجلا فحين يأخذ في المشي، وقال الشافعي: إن كان راكبا فكذلك.
5151 حدثنا إبراهيم قال أخبرنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي سمع عطاء يحدث عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته.
مطابقته للترجمة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الحج راكبا، وهو مطابق لقوله: * (وعلى كل ضامر) * (الحج: 72).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زادان التميمي الفراء أبو إسحاق تقدم في: باب غسل الحائض رأسها. الثاني: الوليد بن مسلم القرشي الأموي. مر في: باب وقت المغرب. الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع: عطاء بن أبي رباح، وإن كان عطاء بن يسار روى عن جابر، لكن الأوزاعي لم يرو إلا عن أبي رباح. الخامس: جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإخبار كذلك في موضع. وفيه: السماع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: التحديث بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: أن شيخه مذكور في رواية الأكثرين بلا نسبة
130

إلى أبيه وفي رواية أبي ذر: حدثنا إبراهيم بن موسى. وفيه: أنه رازي والوليد والأوزاعي دمشقيان وعطاء مكي.
رواه أنس وابن عباس رضي الله تعالى عنهما
أي: روى الحديث المذكور أنس بن مالك وعبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهم، أما حديث أنس فسيأتي في: باب من بات بذي الحليفة، وحديث ابن عباس سيأتي في: باب ما يلبس المحرم.
3
((باب الحج على الرحل))
أي: هذا باب في بيان فضل الحج على الرحل، وهو بفتح الراء وسكون الحاء المهملة وفي آخره لام، وهو للبعير كالسرج للفرس، وفي (المخصص): الرحل مركب للبعير لا غير، ويجمع على أرحل ورحال، يقال: رحلت الرحل أرحله رحلا: وضعته على البعير، وكذلك: ارتحلته، أي: وضعت عليه الرحل، ورحلته رحلة: شددت عليه أداته، وقد أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن ترك التزين والتزوق أفضل كما يجيء الآن أن عبد الرحمن حمل أختها عائشة، رضي الله تعالى عنها على قتب.
6151 وقال أبان حدثنا مالك بن دينار عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معها أخاها عبد الرحمان فأعمرها من التنعيم وحملها على قتب.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (على قتب) لأن القتب هو الرحل الصغير على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، وأبان بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وبالنون منصرفا وغير منصرف: ابن يزيد العطار البصري، ومالك بن دينار الزاهد البصري التابعي الناجي، بالنون والجيم وياء النسبة، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، ولم يخرج البخاري له غير هذا الحديث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
وهذا تعليق وصله أبو نعيم في (المستخرج) وقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي حدثنا سهل بن أحمد وعلي بن العباس البجلي ويحيى بن صاعد، قالوا: حدثنا عبدة بن عبد الله حدثنا حرمي ابن عمار حدثنا أبان يعني: ابن يزيد العطار حدثنا مالك فذكره. قوله: (معها)، أي: مع عائشة، رضي الله تعالى عنها، قوله: عبد الرحمن هو ابن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وكان شقيق عائشة، وأمها أم رومان بنت عامر، وكان اسم عبد الرحمن في الجاهلية عبد العزى، وقيل: عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الرحمن، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أحاديث اتفقا على ثلاثة، مات بالحبشي على اثني عشر ميلا من مكة، فحمل ودفن في مكة في إمرة معاوية سنة ثلاث وخمسين. قوله: (فأعمرها)، أي: حملها على العمرة. قوله: (من التنعيم)، بفتح التاء المثناء من فوق وسكون النون وكسر العين المهملة: موضع عند طرف حرم مكة من جهة المدينة على ثلاثة أميال من مكة. قوله: (على قتب)، بفتح التاء المثناء من فوق وفي آخره باء موحدة: وهو رحل صغير على قدر السنام، والجمع: أقتاب، ويجوز تأنيثه عند الخليل. وفي (المحكم): القتب والقتب: إكاف البعير. وفي (المخصص): وقيل: القتب لبعير الحمل، والقتب بالكسر لبعير السانية.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به قوم منهم عمرو بن دينار على أن وقت العمرة لمن كان بمكة هو التنعيم، وقال جمهور العلماء من التابعين وغيرهم، منهم أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون: وقت العمرة لمن كان بمكة الحل، وهو خارج الحرم: فمن أي الحل أحرموا بها جاز، سواء ذلك التنعيم أو غيره من الحل. وقال الطحاوي: إنه قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصد إلى التنعيم لأنه كان أقرب المحل منها، لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو، ويحتمل أيضا أن يكون أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة، فنظرنا في ذلك فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا أبو عامر صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف وأنا أبكي، فقال: ما ذاك؟ قلت: حضت. قال: فلا تبكي، إصنعي ما يصنع الحاج، فقدمنا مكة ثم أتينا منى ثم غدونا إلى عرفة ثم رمينا الجمرة، تلك الأيام، فلما كان يوم النفر فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلا من أجلي، فأمر عبد الرحمن بن أبي
131

بكر، رضي الله تعالى عنه فقال: إحمل أختك فأخرجها من الحرم. قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم فلتهل بعمرة، فكان أدناها من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، ثم أتينا فارتحل، فأخبرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد لما أراد أن يعمرها إلا إلى الحل لا إلى موضع منه بعينه خاصا، وأنه إنما قصد بها عبد الرحمن التنعيم لأنه كان أقرب الحل إليهم لا لمعنى فيه يبين به من سائر الحل غيره، فثبت بذلك أن وقت نزول أهل مكة لعمرتهم الحل، وأن التنعيم في ذلك وغيره سواء.،
وقال عمر رضي الله تعالى عنه: شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الرحال جمع رحل، وقد ذكرنا أن القتب هو الرحل الصغير. وهذا التعليق وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي (عن عابس بن ربيعة أنه سمع عمر، رضي الله تعالى عنه، يقول وهو يخطب: إذا وضعتم السروج فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة فإنه أحد الجهادين). سماه جهادا لأنه يجاهد فيه نفسه بالصبر على مشقة السفر وترك الملاذ ودرء الشيطان عن الشهوات، وعابس بكسر الباء الموحدة وبالسين المهملة.
وقال محمد بن أبي بكر قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا عزرة بن ثابت عن ثمامة بن عبد الله بن أنس. قال حج أنس على رحل ولم يكن شحيحا وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته.
مطابقته للترجمة واضحة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد بن أبي بكر المقدمي، بفتح الدال المشددة، وهو شيخ البخاري وقد علق عنه هنا، ووقع كذلك في غير ما نسخه، وذكره عنه
غير واحد، ووقع في بعض النسخ: حدثنا محمد بن أبي بكر. الثاني: يزيد من الزيادة ابن زريع مصغر زرع وقد تقدم. الثالث: عزرة، بفتح العين المهملة وسكون الزاي وبالراء: ابن ثاب، بالثاء المثلثة ثم بالباء الموحدة: الأنصاري. الرابع: ثمامة، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم، مر في: باب من أعاد الحديث ثلاثا. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: رواية الرجل عن جده، وقد ذكرنا أنه معلق بما فيه من الخلاف، وقد ولى له الإسماعيلي فرواه عن يوسف القاضي وأبي يعلى والحسن، قالوا: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، ورواه أبو نعيم عن علي بن هارون، وأبو الفرج النسائي، قالا: حدثنا يوسف القاضي حدثنا محمد، فذكره. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع: حدثنا زريع عن زيد بن أبان (عن أنس، قال: حج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على رحل وقطيفة تسوأن، وقال: لا تساوي إلا أربعة دراهم). ورواه ابن ماجة، قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة). وقال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل فاهتز، وقال مرة: فاحتج فقال: لا عيش إلا عيش الآخرة. قوله: (ولم يكن شحيحا) أي: بخيلا، أي: لم يكن تركه الهودج والاكتفاء بالقتب للبخل، بل لمتابعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (وكانت)، أي: وكانت الراحلة التي ركبها زاملته، ودل على هذا قوله: (على رحل)، والزاملة، بالزاي: البعير الذي يستظهر به الرحل، يحمل متاعه وطعامه عليه، وهي من الزمل وهو الحمل، والحاصل أنه لم يكن معه غير راحلته لحمل متاعه وطعامه وهو راكب عليها، فكانت هي الراحلة والزاملة. وقال ابن سيده: الزاملة هي الدابة التي يحمل عليها من الإبل وغيرها، والزوملة: البعير التي عليها أحمالها، فأما العير فهي ما كان عليها أحمالها، وما لم يكن. وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة، قال: كان الناس يحجون وتحتهم أزوادهم، وكان أول من حج وليس تحته شيء عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه.
8151 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا أيمن بن نابل قال حدثنا
132

القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله اعتمرتم ولم أعتمر فقال يا عبد الرحمان اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم فأحقبها على ناقة فاعتمرت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فأحقبها)، لأن معناه: حملها على حقيبة الرحل.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عمرو، بفتح العين: ابن علي الفلاس. الثاني: أبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد. الثالث: أيمن، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الميم وفي آخره نون: ابن نابل، بالنون وبعد الألف باء موحدة وباللام: العابد الزاهد الفاضل، وكان لا يفصح لما فيه من اللكنة. الرابع: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. الخامس: عائشة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه بصري وشيخ شيخه أيضا، ولكنه روى عنه بالواسطة وهو أيضا بصري، وأيمن مكي تابعي والقاسم مدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية. وفيه: رواية الرجل عن عمته.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الحج عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر (عن أيمن نحوه، أنها قالت: يا رسول الله! تخرج نساؤك بعمرة وحجة وأنا أخرج بحجة؟ قال: يا عبد الرحمن..) فذكره.
ذكر معناه: قوله: (فأعمرها)، بقطع الهمزة أمر من الإعمار. قوله: (فأحقبها) أي: أردفها أي: أحقب عبد الرحمن عائشة، ومنه سمي المردف: الحقب، والمحقب حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير.
4
((باب فضل الحج المبرور))
أي: هذا باب في بيان فضل الحج المبرور أي: المقبول، قاله ابن خالويه، وقال غيره: الحج المبرور الذي لا يخالطه شيء من المأثم، وهو من البر وهو اسم جامع للخير، يقال: بر عمله وبر عمله، بفتح الباء وضمها، بريرا وبرورا، وأبره الله تعالى. قال الفراء: بر حجة، فإذا قالوا: أبر الله حجك قالوه بالألف. وقال ثعلب: بر حجك لأن العامة تقول: بر حجك، بفتح الباء، يجعلون الفعل للحج، وإنما الحج مفعول به مبرور وليس ببار، وحكى أبو عبيد واللحياني وابن التياني وأبو المعاني وأبو نصر في آخرين: بر، بفتح الباء.
9151 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال إيمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال جهاد في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور.
(انظر الحديث 62).
مطابقته للترجمة ظاهرة. والحديث تقدم في كتاب الإيمان في: باب من قال إن الإيمان هو العمل، فإنه أخرجه هناك: عن أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل كلاهما
عن إبراهيم بن سعد إلى آخره، وههنا أخرجه: عن عبد العزيز بن عبد الله ابن يحيى بن عمرو أبو القاسم القرشي العامري الأويسي المدني. وهو من أفراد البخاري وبقية الكلام مرت هناك.
0251 حدثنا عبد الرحمان بن المبارك قال حدثنا خالد قال أخبرنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله نري الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال لا لاكن أفضل الجهاد حج مبرور.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله العيشي، بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة. الثاني: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان. الثالث: حبيب ابن أبي عمرة، بفتح العين المهملة وسكون الميم وفتح الراء وفي آخرها هاء: القصاب. الرابع: عائشة بنت طلحة بنت
133

عبيد الله التميمية القرشية، وكانت من أجمل نساء قريش، أصدقها مصعب بن الزبير ألف ألف درهم. الخامس: أم المؤمنين عائشة الصديقة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه ليس أخا لعبد الله بن المبارك الفقيه المشهور فإنه مروزي وشيخ البخاري بصري من بني عيش. وفيه: أن خالدا واسطي وأن حبيبا كوفي وأن عائشة بنت طلحة مدنية. وفيه: رواية التابعية عن الصحابية. وفيه: روايتها عن خالتها، فإن عائشة الصديقة خالة عائشة بنت طلحة لأن أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجهاد: عن مسدد عن خالد بن عبد الله، وفي الحج أيضا: عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد، وفي الجهاد أيضا: عن قبيصة عن سفيان. وأخرجه النسائي في الحج عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير عن حبيب بن أبي عمرة نحوه. وأخرجه ابن ماجة، رضي الله تعالى عنه، فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (أفلا نجاهد؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (قال: لا)، أي: لا تجاهدن، قوله: (لكن)، في رواية الأكثرين بضم الكاف والنون لجماعة النساء خطابا لهن، وقال القابسي: هذا هو الذي تميل إليه نفسي، وفي رواية الحموي: (ولكن)، بكسر الكاف وزيادة الألف قبلها بلفظ الاستدراك. قلت: فعلى هذه الرواية اسم لكن هو قوله: (أفضل الجهاد) بالنصب وخبرها هو قوله: (حج مبرور)، والمستدرك منه يستفاد من السياق تقديره: ليس لكن الجهاد ولكن أفضل الجهاد في حقكن حج مبرور، وعلى الرواية الأولى: أفضل الجهاد مرفوع على الابتداء وخبره هو قوله: لكن، تقديره: أفضل الجهاد لكن حج مبرور، وفي لفظ النسائي: (ألا نخرج فنجاهد معك؟.. فإني لا أرى عملا في القرآن العظيم أفضل من الجهاد؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور). وفي رواية ابن ماجة: (عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قلت: يا رسول الله! هل على النساء جهاد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة). وعنده أيضا عن أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد كل ضعيف). وفي رواية النسائي رحمه الله تعالى، بسند لا بأس به عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة). وإنما قيل للحج جهاد لأنه يجاهد في نفسه بالكف عن شهواتها والشيطان ودفع المشركين عن البيت باجتماع المسلمين إليه من كل ناحية.
ذكر ما يستفاد منه: قال المهلب: في هذا وفي إذن عمر، رضي الله تعالى عنه، لهن بالحج إبطال إفك المشغبين وكذب الرافضة فيما اختلقوه من الكذب من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: هذه، ثم ظهور الحصر) وهذا ظاهر الاختلاق لأنه حضهن على الحج وبشرهن أنه أفضل جهادهن، وإذن عمر لهن، وسير عثمان معهن حجة قاطعة على ما كذب به على النبي، صلى الله عليه وسلم في أمر أم المؤمنين، وكذا قولهم عنه: إنه قال لها: تقاتلي عليا وأنت له ظالمة، فإنه لا يصح. انتهى.
قوله: (وأذن عمر لهن وسير عثمان معهن) أراد به الحديث الذي رواه البخاري، رحمه الله تعالى في: باب حج النساء في أواخر كتاب الحج، قال: قال لي أحمد بن محمد: (حدثنا إبراهيم عن أبيه عن جده: أذن عمر، رضي الله تعالى عنه، لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعص معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله تعالى عنهم). قلت: إنكار المهلب قوله صلى الله عليه وسلم: هذه ثم ظهور الحصر لا وجه له، فإن أبا داود رواه في (سننه) وقال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبي واقد الليثي عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر، قال ابن الأثير: وفي الحديث (أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور ثم لزوم الحصر). وفي رواية أنه قال لأزواجه: (هذه ثم لزوم الحصر) أي: إنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر، هي: جمع الحصير الذي يبسط في البيت، وتضم الصاد وتسكن تخفيفا.
وأما حديث: تقاتلي عليا وأنت له ظالمة، فليس بمعروف، والمعروف أن
134

هذا قاله للزبير بن العوام، والله أعلم، وسند حديثه ضعيف، وقال المهلب أيضا، قوله: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) تفسير قوله: * (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن) * (الأحزاب: 33). الآية ليس على الفرض لملازمة البيوت كما زعم من أراد تنقيص أم المؤمنين في خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها، لأنه قال: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور) فدل أن لهن جهادا غير الحج، والحج أفضل منه. فإن قيل: النساء لا يحل لهن الجهاد؟
قيل له: قالت حفصة، رضي الله تعالى عنهما: قدمت علينا امرأة غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات، وقالت: كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى. وفي (الصحيح): وكان صلى الله عليه وسلم إذا إراد الغزو أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها غزا بها. وقال ابن بطال: وإنما جعل الجهاد حديث أبي هريرة أفضل من الحج لأن ذلك كان في أول الإسلام وقلته، وكان الجهاد فرضا متعينا على كل أحد، فأما إذا ظهر الإسلام وفشا وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: (أفضل جهادكن الحج)، لما لم تكن من أهل الغناء والجهاد للمشركين، فإن حل العدو ببلدة واجتيج إلى دفعه وكان له ظهورة وقوة وخيف منه فرض الجهاد على الأعيان كان أفضل من الحج.
1251 حدثنا آدم حدثنا شعبة قال حدثنا سيار أبو الحكم قال سمعت أبا حازم قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه. قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (رجع كما ولدته أمه).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: آدم بن أبي إياس. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: سيار، بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبعد الألف راء على وزن فعال، فقال أبو الحكم: بفتحتين، مر في أول التيمم. الرابع: أبو حازم، بالحاء المهملة والزاي: اسمه سليمان الأشجعي مات في أيام عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، وأما أبو حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد فلم يسمع من أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السماع في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: راويان مذكوران بالكنية أحدهما باسمه. وفيه: راويان ذكرا بلا نسبة إلى الأب، وفيه: أن شيخه من خراسان وسكن عسقلان وشعبة وسيار واسطيان وأبو حازم كوفي.
والحديث أخرجه مسلم عن هشيم بن منصور.
ذكر معناه: قوله: (من حج لله)، وفي رواية للبخاري: (من حج هذا البيت)، وفي رواية مسلم من طريق جرير عن منصور: (من أتى هذا البيت)، وفي رواية الدارقطني من طريق الأعمش عن أبي حازم بلفظ: (من حج أو اعتمر)، وفي رواية الترمذي من حديث ابن مسعود: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور ثواب دون الجنة). وفي رواية أحمد من حديث جابر: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قالوا: يا رسول الله! ما الحج المبرور؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام، وفيه مقال)، وقال أبو حاتم: هذا حديث منكر يشبه الموضوع، وفي رواية الحاكم من حديث جابر: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما بر الحج؟ قال إطعام الطعام وطيب الكلام). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قوله: (فلم يرفث)، بضم الفاء وكسرها، الفاء فيه عطف على الشرط، أعني قوله: (من)، ويرفث بضم الفاء وكسرها وفتحها، والأفصح الفتح في الماضي، والضم في المستقبل. وقال ابن سيده: الرفث: الجماع، وقد رفث إليها ورفث في كلامه يرفث رفثا وأرفث: أفحش، والرفث: التعريض بالنكاح. وفي (الجامع): الرفث اسم جامع لكل شيء مما يريد الرجل من المرأة. قوله: (ولم يفسق)، الفسق العصيان والترك لأمر الله تعالى، والخروج عن طريق الحق. فسق يفسق ويفسق فسقا وفسوقا، وفسق، بالضم عن اللحياني، وقال: رواه الأحمر ولم يعرفه الكسائي. وقيل: الفسق الخروج عن الدين، ورجل فاسق وفسيق وفسق، ويقال في المرء: يا فسق، وللأنثى يا فساق، والفسق الخروج عن الأمر، ذكره ابن سيده. وقال القزاز: أصله من قولهم: انفسقت
135

الرطبة إذا أخرجت من قشرها، فسمي بذلك الفاسق لخروجه من الخير وانسلاخه منه. وقيل: الفاسق الجائز. قالوا: والفسق والفسوق في الدين اسم إسلامي لم يسمع في الجاهلية ولا يوجد في أشعارهم، وإنما هو محدث سمي به الخارج عن الطاعة بعد نزول القرآن العظيم. وقال ابن الأعرابي: لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم: فاسق، وهذا عجيب، وهو كلام عربي. قوله: (رجع كيوم ولدته أمه) أي: رجع مشابها لنفسه في البراء من الذنوب في يوم ولدته أمه، ورجع بمعنى: صار، جواب الشرط. ولفظ: (كيوم) يجوز فيه البناء على الفتح. فإن قلت: ذكر هنا الرفث والفسوق ولم يذكر الجدال، كما في القرآن؟ قلت: اعتمادا على الآية، والله أعلم.
5
((باب فرض مواقيت الحج والعمرة))
أي: هذا باب في بيان فرض مواقيت الحج والعمرة، والفرض هنا يجوز أن يكون بمعنى التقدير، وأن يكون بمعنى الوجوب. وقال بعضهم: الظاهر بمعنى الوجوب وهو نص البخاري، واستدل عليه بقوله في: باب ميقات أهل المدينة: ولا يهلوا قبل ذي الحليفة. قلت: قوله: (ولا يهلوا، قبل ذي الحليفة) لا يدل على عدم جواز الإهلال من قبل ذي الحليفة، لاحتمال أن يكون ذلك ترك الاستحباب في الإهلال قبل ذي الحليفة، وأن يكون معنى قوله: (ولا يهلوا): ولا يستحب لهم أن يهلوا قبل ذي الحليفة ألا ترى أن الجمهور جوزوا التقدم على المواقيت، على أن ابن المنذر نقل الإجماع على الجواز في التقدم عليها. ومذهب طائفة من الحنفية والشافعية: الأفضل في التقدم، والمنقول عن مالك كراهة ذلك لا يدل على أنه يرى عدم الجواز، وكذلك المنقول عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، أنه كره أن يحرم من خراسان. فإن قلت: نقل عن إسحاق وداود عدم الجواز. قلت: مخالفتهما للجمهور لا تعتبر، ولئن سلمنا ذلك فمن أين علم أن البخاري معهما في ذلك؟ فإن قلت: تنصيصه في الترجمة على لفظ الفرض يدل على أنه يرى ذلك. قلت: لا نسلم لاحتمال أن يكون أراد بالفرض معنى التقدير، بل الراجح هذا لأنه وقع في بعض النسخ: باب فضل مواقيت الحج والعمرة، وقال هذا القائل أيضا: ويؤيده القياس على الميقات الزماني، فقد أجمعوا على أنه لا يجوز التقدم عليه. قلت: لا نسلم صحة هذا القياس لوجود
الفارق وهو أن الميقات الزماني منصوص عليه بالقرآن، بخلاف الميقات المكاني. ثم إعلم أن المواقيت جمع: ميقات، على وزن: مفعال، وأصله موقات قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، من: وقت الشيء يقته، إذا بين حده، وكذا وقته يوقته، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان، فقيل للموضع: ميقات، والميقات يطلق على الزماني والمكاني، وههنا المراد المكاني.
2251 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا زهير قال حدثني زيد بن جبير أنه أتى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في منزله وله فسطاط وسرادق فسألته من أين يجوز أن أعتمر قال فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل نجد قرنا ولأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، فإن فيه بيان توقيت لأهل هذه الأماكن الثلاثة.
ذكر رجاله: وهم: أربعة: الأول: مالك بن إسماعيل أبو غسان، مر في: باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. الثاني: زهير، بضم الزاي وفتح الهاء مصغر الزهر: ابن معاوية الجعفي، مر في: باب لا يستنجي بروث. الثالث: زيد بن جبير، بضم الجيم وفتح الباء الموحدة: ابن حرمل الجشمي، من بني جشم بن معاوية. الرابع: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: السؤال. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته الثلاثة كوفيون. وفيه: أن زيد بن جبير ليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وفي الرواة زيد بن جبيرة، بفتح الجيم وزيادة هاء في آخره، لم يخرج له البخاري شيئا.
وهذا الحديث بهذا الوجه من أفراد البخاري، رحمه الله.
136

ذكر معناه: قوله: (وله فسطاط)، هو بيت من شعر، وفيه ست لغات: فسطاط وفستاط وفساط، بالضم والكسر فيهن، وقد بسطنا الكلام فيه فيما مضى. قوله: (وسرادق)، هي واحدة السرادقات التي تحد فوق صحن الدار، وكل بيت من كرسف فهو سرادق، وكل ما أحاط بشيء فهو سرادق، ومنه: * (وأحاط بهم سرادقها) * (الكهف: 9). وقيل: السرادق ما يجعل حول الخباء بينه وبينه فسحة كالحائط، ونحوه، وظاهره أن ابن عمر كان معه أهله وأراد سترهم بذلك لا للتفاخر. قوله: (فسألته)، فيه التفات لأنه قال أولا: إنه أتى ابن عمر، فكان السياق يقتضي أن يقول: فسأله، ووقع عند الإسماعيلي: فدخلت عليه فسألته. قوله: (فرضها)، أي: قدرها وبينها، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى المواقيت بالقرينة الحالية، قال بعضهم: ويحتمل أن يكون المراد: أوجبها، وبه يتم مراد المصنف، ويؤيده قرينة قول السائل: من أين يجوز؟ قلت: من أين علم أن البخاري فرض الإهلال من ميقات من المواقيت حتى يكون تفسير قوله: فرضها، بمعنى: أوجبها حتى يتم مراده.
قوله: (لأهل نجد)، النجد في اللغة: ما أشرف من الأرض واستوى، ويجمع على: أنجد وأنجاد ونجود ونجد، بضمتين. وقال القزاز: سمي نجدا لعلوه. وقيل: سمي بذلك لصلابة أرضه وكثرة حجارته وصعوبته، من قولهم: رجل نجد إذا كان قويا شديدا. وقيل: يسمى نجد الفزع من يدخله لاستيحاشه واتصال فزع السالكين له، من قولهم: رجل نجد، إذا كان فزعا، ونجد مذكر. ولو أنثه أحد ورده على البلد لجاز له ذلك، والعرب تقول: نجد ونجد، بفتح النون وضمها. وقال الكلبي في (أسماء البلدان): ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب إلى الطائف، فالطائف من نجد وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان، وقال أبو عمر: نجد، ما بين جرش إلى سواد الكوفة، وحده مما يلي المغرب: الحجاز، وعن يسار الكعبة اليمن، ونجد كلها من عمل اليمامة. وقال ابن الأثير: نجد ما بين العذيب إلى ذات عرق وإلى اليمامة وإلى جبل طيء وإلى وجرة وإلى اليمن، والمدينة لا تهامية ولا نجدية، فإنها وفق الغور ودون نجد. وقال الحازمي: نجد: اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن والعراق والشام. وقال السكري: حد نجد ذات عرق من ناحية الحجاز، كما يدور الجبال معها إلى جبال المدينة، وما وراء ذلك ذات عرق إلى تهامة. وقال الخطابي نجد ناحية المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهلها. وذكر في (المنتهى): نجد من بلاد العرب، وهو خلاف الغور أعني: تهامة وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. قوله: (قرنا) بفتح القاف وسكون الراء، وقال الجوهري: هو بفتحها، وغلطوه، وقال القابسي: من قال بالسكون أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يعرف منه، فإنه موضع فيه طرق متفرقة. وقال ابن الأثير في (شرح المسند): وكثيرا ما يجيء في ألفاظ الفقهاء وغيرهم بفتحها، وليس بصحيح. وقال ابن التين: روناه بالسكون، وعن الشيخ أبي الحسن أن الصواب فتحها، وعن الشيخ أبي بكر بن عبد الرحمن: إن قلت: قرن المنازل، أسكنته، وإن قلت: قرنا، فتحت. قلت: لما قاله الجوهري بالفتج، ومنه أويس القرني، وقال النسابون: أويس منسوب إلى قرن، بالفتج: اسم قبيلة، وهو على يوم وليلة من مكة. وقال ابن قرقول: هو قرن المنازل وقرن الثعالب وقرن غير مضاف، وقال الكرماني: وفي بعض الرواية كتبت بدون الألف، فهو إما باعتبار العلمية والتأنيث، وإما على اللغة الربيعية حيث يقفون على المنون بالسكون فيكتب بدون الألف، لكن يقرأ بالتنوين. انتهى. قلت: على الوجه الأول هو غير منصرف للعلمية والتأنيث، فلا يقرأ بالتنوين.
قوله: (ذا الحليفة) أي: عين لأهل المدينة ذا الحليفة، وقد فسرناها عن قريب. قوله: (ولأهل الشام الجحفة)، أي: قدر الجحفة، وهي بضم الجيم وسكون الحاء المهملة. وقال أبو عبيد: هي قريبة جامعة بها منبر، بينها وبين البحر ستة أميال، وغدير خم على ثلاثة أميال منها، وهي ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب، وهي على ثلاثة مراحل من مكة أو أكثر، وعلى ثمانية مراحل من المدينة، سميت بذلك لأن السيول أجحفت بما حولها. وقال الكلبي: أخرجت العماليق بني عبيل، وهم أخوة عاد، من يثرب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها: مهيعة، فجاءهم السيل فأجحفتهم، فسميت الجحفة، وفي كتاب (أسماء البلدان): لأن سيل الجحاف نزل بها. فذهب بكثير من الحاج وبأمتعة الناس ورحالهم، فمن ذلك سميت: الجحفة. وقال أبو عبيد، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهيعة، بفتح الميم وسكون
الهاء وفتح الياء آخر الحروف والعين المهملة، وقال القرطبي: قال بعضهم
137

بكسر الهاء. وقال ابن حزم، رحمه الله تعالى: الجحفة ما بين المغرب والشمال من مكة، ومنها إلى مكة اثنان وثمانون ميلا والله تعالى أعلم.
ذكر ما يستفاد منه فيه: رد على عطاء والنخعي والحسن في زعمهم أن لا شيء على من ترك الميقات ولم يحرم، وهو يريد الحج والعمرة، وهو شاذ. ونقل ابن بطال عن مالك وأبي حنيفة والشافعي أنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع: هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك والثوري في رواية: لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرما، وهو قول ابن المبارك. وقال أبو حنيفة: إن رجع إليه فلبى فلا دم عليه برجوعه إليه محرما، وإن لم يلب فعليه دم. وقال الثوري في رواية، وأبو يوسف ومحمد والشافعي: لا دم عليه إذا رجع إلى الميقات بعد إحرامه على كل وجه أي: قبل أن يطوف، فإن طاف فالدم باق، وإن رجع. قال الكرماني: فإن قلت: الإحرام بالعمرة لا يلزم أن يكون من المذكورات، بل يصح من الجعرانة، ونحوها. قلت: هي للمكي وأما الآفاقي فلا يصح له الإحرام بها إلا من المواضع المذكورة.
6
((باب قول الله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791).))
أي: هذا باب في بيان التزود المأمور به في قول الله تعالى: * (وتزودوا) * (البقرة: 791). وإنما أمر بالتزود ليكف الذي يحج وجهه عن الناس. قال العوفي: عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه: (كان أناس يخرجون من أهليهم ليس معهم زاد، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس) وروى ابن جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: (كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنزل الله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791). فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق، ثم لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة، وهو استصحاب التقوى إليها، وذكر أنه خير من هذا وأنفع. قال عطاء الخراساني: في قوله: * (فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791). يعني: زاد الآخرة، وروى الطبراني من حديث قيس عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من تزود في الدنيا ينفعه في الآخرة). ثم قال: * (واتقون يا أولي الألباب) * (البقرة: 791). يقول: اتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني، ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والأفهام.
3251 حدثنا يحيى بن بشر قال حدثنا شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا المدينة سلوا الناس فأنزل الله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين سبب نزول الآية التي ترجم بها الباب.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: يحيى بن بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: أبو زكريا أحد عباد الله الصالحين، مات سنة ثنتين وثلاثين ومائتين. الثاني: شبابة، بفتح الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف باء أخرى: ابن سوار الفزاري، مر في: باب الصلاة على النفساء، في كتاب الحيض. الثالث: ورقاء مؤنث الأورق، ابن عمرو بن كليب أبو بشر اليشكري، مر في: باب وضع الماء في الخلاء، الرابع: عمرو، بفتح العين: ابن دينار، مر في: باب كتاب العلم. الخامس: عكرمة مولى ابن عباس. السادس: عبد الله ابن عباس، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: إن شيخه من أفراده وإنه بلخي وأن شبابة مدائني وأن أصل ورقاء من خوارزم، وقيل؛ من الكوفة، سكن المدائن، وأن عمرو بن دينار مكي وأن عكرمة مدني وأصله من البربر.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه أبو داود في الحج عن أبي مسعود أحمد بن الفرات ومحمد بن عبد الله المخرمي، كلاهما عن شبابة. وأخرجه النسائي في السير وفي التفسير عن سعيد ابن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (فإذا قدموا المدينة)، هذه رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (فإذا
138

قدموا مكة) وهو الأصوب، كذا أخرجه أبو نعيم من طريق محمد بن عبد الله المخرمي عن شبابة، وهو الأصح. قوله: (التقوى) أي: الخشية من الله تعالى.
وفيه: من الفقه: ترك سؤال الناس من التقوى، ألا يرى أن الله تعالى مدح قوما، فقال: * (لا يسألون الناس إلحافا) * (البقرة: 372). وكذلك معنى آية الباب، أي: تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم في أذاهم بذلك. وفيه: أن التوكل، لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل على الله بدون استعانة بأحد في شيء، ويبين ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، وهم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)، فهذه أسباب التوكل وصفاته، وقال الطحاوي: لما كان التزود ترك المسألة المنهي عنها في غير الحج، وكانت حراما على الأغنياء قبل الحج، كانت في الحج أوكد حرمة. وفيه: زجر عن التكفف وترغيب في التعفف والقناعة بالإقلال، وليس فيه مذمة للتوكل، نعم المذلة على سؤالهم إذ ما كان ذلك توكلا بل تأكلا، وما كانوا متوكلين بل متأكلين، إذ التوكل هو قطع النظر عن الأسباب مع تهيئة الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (قيدها وتوكل).
رواه ابن عيينة عن عمر و عن عكرمة مرسلا.
أي: روى هذا الحديث المذكور سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة مرسلا، يعني: لم يذكر ابن عباس، وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة، وكذا أخرجه الطبري عن عمرو بن علي وابن أبي حاتم عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، كلاهما عن ابن عيينة مرسلا. قال ابن أبي حاتم: وهو أصح من رواية
ورقاء، واختلف فيه على ابن عيينة، فأخرجه النسائي، رحمه الله تعالى، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه موصولا بذكر ابن عباس، رضي الله تعالى عنه. وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم كما ذكرناه مرسلا.
7
((باب مهل أهل مكة للحج والعمرة))
أي: هذا باب في بيان مهل أهل مكة، أي: موضع إهلالهم، لأن لفظ: مهل، بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام، والإهلال رفع الصوت بالتلبية هنا. وقال ابن الجوزي، رحمه الله تعالى: وإنما يقوله بفتح الميم من لا يعرف. قلت: هو بضم الميم اسم مكان من الإهلال واسم زمان أيضا، ويكون مصدرا أيضا كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والأخراج، وأصل هذه المادة لرفع الصوت، ومنه استهل الصبي إذا صاح عند الولادة، وأهل بالتسمية عند الذبيحة، وأهل الهلال واستهل: إذا تبين، وأهل المعتمر إذا رفع صوته بالتلبية.
4251 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذالك فمن حيث أنشأ حتى أهل أهل مكة من مكة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (حتى أهل أهل مكة من مكة)، يعني: لا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام، بل مهلهم للحج أي: موضع إهلالهم لأجل الحج هو مكة، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وقال الكرماني: غرض البخاري بيان أن الإحرام لا بد وأن يكون من هذه المواقيت، فما وجه دلالته عليه إذ ليس فيه إلا أن التلبية من ثمة؟ قلت: التلبية إما واجبة في الإحرام أو سنة فيه، وعلى التقديرين فالإحرام لا يخلو منها، فالمهل هو الميقات. انتهى. قلت: ليس غرضه ما ذكره الكرماني، وإنما غرضه بيان مهل أهل مكة، ولهذا ترجم بقوله: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، ومحل الشاهد هو قوله: (حتى أهل مكة من مكة) كما ذكرنا، وهذا بظاهره يدل على أن مهلهم هو مكة، سواء كان للحج أو العمرة، ولكن مهل أهل مكة للعمرة الحل، كما سيجيء بيانه.
139

ذكر رجاله: وهم: خمسة، قد ذكروا، ووهيب هو ابن خالد البصري، وابن طاووس هو عبد الله بن طاووس، يروي عن أبيه طاووس اليماني.
أخرجه البخاري أيضا عن معلى بن أسد، ومسلم بن إبراهيم فرقهم، وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي فيه عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وعن يعقوب بن إبراهيم.
ذكر معناه: قوله: (وقت) أي: عين وقت، من التوقيت، وهو التعيين وأصل التوقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به، وقال عياض: وقت أي حدد، وقد يكون بمعنى: أوجب، ويؤيده الرواية الماضية بلفظ: فرض. قوله: (قرن المنازل)، قد ذكرنا تفسير القرن في: باب فرض مواقيت الحج، وكذلك ذكرنا تفسير ذي الحليفة والجحفة، وهناك ذكر لفظ: القرن، فقط وههنا ذكر بلفظ: قرن المنازل، وهو جمع منزل. قال الكرماني: والمركب الإضافي هو اسم المكان، وقد يقتصر على لفظ المضاف، كما في الحديث المتقدم. قلت: النكتة في ذكره هنا بهذه اللفظة هي أن المكان الذي يسمى القرن موضعان أحدهما في هبوط، وهو الذي يقال له: قرن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له: قرن الثعالب، والمعروف الأول. وذكر في (أخبار مكة) للفاكهي: أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد منى ألف وخمسمائة ذراع. وقيل له: قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت، وقد وقع ذكره في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، في إتيان النبي صلى الله عليه وسلم الطائف يدعوهم إلى الإسلام وردهم عليه. قال: فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب... الحديث، ذكره ابن إسحاق في (السيرة النبوية). قوله: (ويلملم) بفتح الياء آخر الحروف وباللامين وسكون الميم الأولى، غير منصرف. وقال عياض: ويقال: ألملم، وهو الأصل والياء بدل منه، وهي على ميلين من مكة، وهو جبل من جبال تهامة. وقال ابن حزم: هو جنوب مكة، ومنه إلى مكة ثلاثون ميلا. وفي (المحكم): يلملم وألملم جبل. وقال البكري: أهله كنانة وتنحدر أوديته إلى البحر وهو في طريق اليمن إلى مكة. وهو من كبار جبال تهامة. وقال الزمخشري: هو واد به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه عسكرت هوازن يوم حنين. فإن قلت: ما وزنه؟ قلت: فعمعل: كصمحمح، وليس هو من: لملمت، لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة في أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها. نحو: مدحرج. قلت: فعلى هذا الميم الأولى واللام الثانية زائدتان؟ ولهذا قال الجوهري في: باب الميم وفصل الياء: يلم، ثم قال: يلملم لغة في ألملم، وهو ميقات أهل اليمن. وحكى ابن سيدة فيه: يرمرم، براءين بدل اللامين، وقد جمع واحد مواقيت الإحرام بنظم، وهو قوله:
* قرن يلملم ذو الحليفة جحفة
* قل: ذات عرق كلها ميقات
*
* نجد تهامة والمدينة مغرب
* شرق وهن إلى الهدى مرقات
*
قوله: (هن لهن) أي: هذه المواقيت لهذه البلاد، والمراد أهلها. وكان الأصل أن يقال: هن لهم، لأن المراد الأهل، وقد ورد ذلك في بعض الروايات في (الصحيح). وقال القرطبي: هن، ضمير جماعة مؤنث العاقل في الأصل، وقد يعاد على ما لا يعقل، وأكثر ذلك في العشرة فما دونها، فإذا جاوزها قالوه بهاء المؤنث، كما قال الله تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا) * (التوبة: 63). ثم قال: * (منها أربعة حرم) * (التوبة: 63). أي: من الاثني عشر، ثم قال: * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * (التوبة: 63). أي: في هذه الأربعة، وقد قيل: في الجميع، وهو ضعيف شاذ. قوله: (ولمن أتى عليهن)، أي: على هذه المواقيت (من غيرهن) أي: من غير أهلهن، مثلا إذا أتى الشامي إلى ذي الحليفة، يكون مهله ذا الحليفة، وكذا الباقي نحوه. قوله: (ومن كان دون ذلك) يعني من كان بين الميقات ومكة. قوله: (فمن حيث أنشأ)، الفاء جواب الشرط أي: فمهله من حيث قصد الذهاب إلى مكة، يعني يهل من ذلك الموضع. قوله: (حتى أهل مكة من مكة) يعني: إذا قصد المكي الحج فمهله من مكة، وأما إذا قصد العمرة فمهله من الحل لقضية عائشة، رضي الله تعالى عنها، حين أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحريم منه. فإن قلت: قوله: (حتى أهل مكة من مكة) أعم من أن يكون المكي قاصدا للحج والعمرة، ولهذا ترجم البخاري بقوله: باب مهل أهل مكة للحج والعمرة. قلت: قضية عائشة، رضي الله تعالى عنها، تخصص هذا! ولكن الظاهر أن البخاري نظر إلى عموم اللفظ حتى ترجم بهذه الترجمة.
140

ذكر ما يستفاد منه فيه: أن هذه المواقيت المذكورة لأهل هذه البلاد، واختلفوا هل الأفضل التزام الحج منهن. أو من منزله، فقال مالك وأحمد وإسحاق: إحرامه من المواقيت أفضل، واحتجوا بحديث الباب وشبهه. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وآخرون: الإحرام من المواقيت رخصة، واعتمدوا في ذلك على فعل الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، فإنهم أحرموا من قبل المواقيت، وهم ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم، قالوا: وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أنه لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه. قال أبو عمر: مالك أن يحرم أحد قبل الميقات، وروي عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات. وفي تعليق للبخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان، وكره الحسن وعطاء بن أبي رباح الإحرام من الموضع البعيد، وقال ابن بزيزة: في هذا ثلاثة أقوال: منهم من جوزه مطلقا، ومنهم من كرهه مطلقا، ومنهم من أجازه في البعيد دون القريب. وقال الشافعي وأبو حنيفة الإحرام من قبل هذه المواقيت أفضل لمن قوي على ذلك، وقد صح أن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمران بن حصين وابن عباس وابن عمر أحرموا من المواضع البعيدة، وعند ابن أبي شيبة أن عثمان بن العاص أحرم من المنجشانية، وهي قرية من البصرة، وعن ابن سيرين أنه أحرم هو وحميد بن عبد الرحمن ومسلم بن يسار من الدارات، وأحرم أبو مسعود من السيلحين. وعن أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أهل بعمرة من بيت المقدس غفر له، وفي رواية أبي داود: من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ووجبت له الجنة. شك عبد الله أيتهما قال. قلت: عبد الله هو ابن عبد الرحمن أحد رواه الحديث، وقال أبو داود: يرحم الله وكيعا، أحرم من بيت المقدس، يعني: إلى مكة، وأحرم ابن سيرين مع أنس من العقيق ومعاذ من الشام ومعه كعب الحبر، وقال ابن حزم: ولا يحل لأحد أن يحرم بالحج أو بالعمرة قبل المواقيت، فإن أحرم أحد قبلها وهو يمر عليها فلا إحرام له ولا حج، ولا عمرة له إلا أن ينوي إذا صار في الميقات تحديد إحرام، فذلك جائز، وإحرامه حينئذ تام.
وفيه: من أتى على ميقات من المواقيت لا يتجاوز غير محرم عند أبي حنيفة سواء قصد دخول مكة أو لم يقصد. وقال القرطبي: أما من مر على الميقات قاصدا دخول مكة من غير نسك، وكان ممن لا يتكرر دخوله إليها، فهل يلزمه دم أو لا؟ اختلف فيه أصحابنا، وظاهر الحديث أنه إنما يلزم الإحرام من أراد مكة لأحد النسكين، خاصة وهو مذهب الزهري وأبي مصعب في آخرين، وقال ابن قدامة: أما المجاوز للميقات ممن لا يريد النسك فعلى قسمين: أحدهما: لا يريد دخول مكة بل يريد حاجة فيما سواها، فهذا لا يلزمه الإحرام بلا خلاف، ولا شيء عليه في تركه الإحرام لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بدرا مرتين ولم يحرم، ولا أحد من أصحابه، ثم بدأ لهذا الإحرام وتجدد له العزم عليه أن يحرم من موضعه، ولا شيء عليه، هذا ظاهر كلام الحرقي، وبه يقول مالك والثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة، وحكى ابن المنذر عن أحمد في الرجل يخرج لحاجة وهو لا يريد الحج، فجاوز ذا الحليفة ثم أراد الحج يرجع إلى ذي الحليفة فيحرم؟ وبه قال إسحاق. القسم الثاني: من يريد دخول الحرم إما إلى مكة أو غيرها، فهم على ثلاثة أضرب: أحدها من يدخلها لقتال مباح أو من خوف أو لحاجة متكررة كالحشاش والحطاب وناقل الميرة، ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها، فهؤلاء لا إحرام عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة حلالا وعلى رأسه المغفر، وكذا أصحابه، ولا نعلم أن أحدا منهم أحرم يومئذ، ولو وجب الإحرام على من يتكرر دخولها أفضى إلى أن يكون جميع زمنه محرما، وبهذا قال الشافعي.
8
((باب ميقات أهل المدينة ولا يهلون قبل ذي الحليفة))
أي: هذا باب في بيان ميقات أهل المدينة. قوله: (ولا يهلوا) يجوز أن يقدر فيه: أن، الناصبة فيكون التقدير: وأن لا يهلوا، وتكون الجملة معطوفة على ما قبلها، والتقدير: وفي بيان أن لا يهلوا قبل ذي الحليفة، والضمير الذي فيه يرجع إلى أهل المدينة، فإذا كان أهل المدينة ليس لهم أن يهلوا قبل ذي الحليفة، فكذلك من يأتي إليها من غير أهلها، ليس لهم أن يهلوا قبلها، فهذه العبارة تشير إلى أن البخاري ممن لا يرى تقديم الإهلال قبل المواقيت.
141

5251 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشأم من الججفة وأهل نجد من قرن. قال عبد الله وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ويهل أهل اليمن من يلملم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة)، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وتفسير ألفاظه قد مر عن قريب.
قوله: (قال عبد الله) هو ابن عمر. قوله: (وبلغني)، ورواية سالم عنه بلفظ: (زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولم أسمعه)، وتقدم في العلم من وجه آخر بلفظ: (لم ألقه هذه من النبي صلى الله عليه وسلم)، ومع هذا هو ثبت من حديث ابن عباس، كما ذكر في الباب الذي قبله، ومن حديث جابر وعائشة والحارث بن عمرو السهمي. وأما حديث جابر فرواه مسلم من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر: الجحفة، ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن يلملم. وأما حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فرواه النسائي من رواية القاسم عنها، قالت: (وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة من ذي الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن يلملم. وأما حديث الحارث بن عمرو فرواه أبو داود عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو عرفات... الحديث.
وفيه: وقت ذات عرق لأهل العراق. وفيه: البلاغ، هل هو حجة أو هو من قبيل المجهول؟ لأن راويه غير معلوم، فالذي قاله أهل الفن: إنه لا يقدح به لأن الظاهر أنه لا يرويه إلا عن صحابي آخر، والصحابة كلهم عدول. فإن قلت: قالوا: عمر بن الخطاب هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق، لأن العراق في زمانه افتتحت، ولم تكن العراق في عهده صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا تغفل، بل الذي وقت لأهل العراق ذات عرق، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح به في رواية أبي داود المذكورة آنفا، وكذلك وقت لأهل الشام ومصر الجحفة، ولم تكونا افتتحتا في زمنه صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن سيفتح الله تعالى على أمته الشام ومصر والعراق وغيرها من الأقاليم، ويؤيد ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم، منعت العراق دينارها ودرهما، ومنعت الشام إردبها بمعنى: ستمنع، وذات عرق ثنية أو هضبة؟ بينها وبين مكة يومان وبعض يوم، والله تعالى أعلم.
9
((باب مهل أهل الشام))
أي: هذا باب في بيان مهل أهل الشام.
6251 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة لأهل الشأم الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم فهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: لأهل الشام: الجحفة، والحديث مر عن قريب، وحماد هو: ابن زيد. قوله: (دونهن) أي: أقرب إلى مكة. قوله: (فمهله)، بضم الميم أي: مكان إحرامه من دويرات أهله قوله: (وكذلك)، ويروى: وكذاك أي: وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب، حتى إن أهل مكة يكون مهلهم من مكة.
01
((باب مهل أهل نجد))
أي: هذا باب في بيان موضع إهلال أهل نجد.
142

7251 حدثنا علي قال حدثنا سفيان حفظناه من الزهري عن سالم عن أبيه وقت النبي صلى الله عليه وسلم تكرار تراجم هذا الباب والذي قبله والذي بعده مع تكرير حديث ابن عمر وحديث ابن عباس لاختلاف مشايخه واختلاف الطرق في حديثها وفي بعض المنون كما تراه وأورد حديث ابن عمرهنا من طريقين أحدهما هذا عن علي بن عبد الله المعروف بابن المديني عن سفيان عن عتيبة عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر والآخرين أحمد حيث يقول لمديني عن سفيان بن عيينة عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، والآخر: عن أحمد حيث يقول.
8251 حدثنا أحمد قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله تعالى عنه. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مهل أهل المدينة ذو الحليفة ومهل أهل الشأم مهيعة وهي الجحفة وأهل نجد قرن. قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولم أسمعه ومهل أهل اليمن يلملم.
[/ نه
.
مطابقته للترجمة في قوله: وأهل نجد قرن، وأحمد هو أحمد بن عيسى التستري. قال الجياني: كذا نسبه أبو ذر، وفي هذا الموضوع يعني: صرح به بأنه ابن عيسى
، وقال الكلاباذي: قال لي أبو أحمد محمد بن محمد بن إسحاق الحافظ أحمد عن ابن وهب في (جامع البخاري): هو ابن أخي ابن وهب. وقال أبو عبد الله الحاكم: هذا وهم وغلط. وقال الكلاباذي: قال لي أبو عبد الله ابن منده كلما قال البخاري في (الجامع): حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح، ولم يخرج، هو ابن أخي ابن وهب في (الصحيح) شيئا، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه. قوله: (ابن وهب) هو عبد الله بن وهب المصري، و (يونس) هو ابن يزيد الأيلي، و (ابن شهاب)، هو محمد بن مسلم الزهري. قوله: (مهل)، بضم الميم وسكون الهاء وفتح الياء آخر الحروف وبالعين المهملة. وقيل: بكسر الهاء، والصحيح المشهور هو الأول، وقد فسرها بقوله: وهو الجحفة، ومهيعة تسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياها. قوله: (وأهل نجد قرن)، أي: ومهل أهل نجد قرن المنازل. قوله: (زعموا) أي: قالوا، والزعم يستعمل بمعنى القول المحقق. قوله: (ولم أسمعه)، جملة معترضة بين قوله: قال ومقوله، على النسخة التي فيها لفظ قال بعد قوله: ولم أسمعه، وأما على النسخة التي عندنا فهي جملة حالية فافهم. والفرق بين الجملة المعترضة والجملة الحالية أن الجملة المعترضة لا محل لها من الإعراب، والجملة الحالية محلها النصب على الحال.
11
((باب مهل من كان دون المواقيت))
أي: هذا باب في بيان مهل، أي: موضع إهلال من كان دون المواقيت، أراد من كان وطنه بين المواقيت ومكة.
9251 حدثنا قتيبة قال حدثنا حماد عن عمر و عن طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرنا فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمن أهله حتى إن أهل مكة يهلون منها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فمن كان دونهن)، وحماد، هو ابن زيد وعمرو هو ابن دينار، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
21
((باب مهل أهل اليمن))
أي: هذا باب في بيان موضع إهلال أهل اليمن.
143

0351 حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولكل آت عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة فمن كان دون ذالك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولأهل اليمن يلملم) قوله: (من غيرهم) ويروى: من غيرهن، وكذا وقع في رواية أبي داود. قوله: (حتى أهل مكة)، يجوز في لفظ: أهل، الجر لأن: حتى، تكون حرفا جارا بمنزلة: إلى، ويجوز فيه الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: حتى أهل مكة يهلون من مكة، كما في قولك: جاء القوم حتى المشاة، أي: حتى المشاة جاؤوا.
31
((باب ذات عرق لأهل العراق))
يجوز في: باب، الإضافة والقطع. أما الأول: فتقديره: هذا باب في بيان أن ذات عرق مهل أهل العراق، وأما تقدير الثاني: هذا باب يذكر فيه ذات عرق لأهل العراق، وذات غرق بكسر العين، وقد فسرناها في: باب ميقات أهل المدينة، سمي بذلك لأن فيه عرقا، وهو الجبل الصغير، وهي أرض سبخة تنبت الطرفاء. وقال الكرماني في مناسكه: ذات عرق أول بلاد تهامة ودونها بميلين ونصف مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي لبني هلال بن عامر بن صعصعة، وبها بركة تعرف بقصر الوصيف، وبها من الآبار الكبار ثلاثة آبار وآبار صغار كثيرون وبقربه قبر أبي رغال، وبالقرب منها بستان منه إلى مكة ثمانية عشر ميلا.
وفي (الموعب) لابن التياني: العراق الذي يجعل على ملتقى طرفي الجلد إذا خرز في أسفل القربة، وبه سمي العراق لأنه بين البر والريف، وقال الجوهري: العراق بلاد تذكر وتؤنث، ويقال: هو فارسي معرب، وزعم ابن حوقل في (كتاب البلدان) تأليفه: أن حد العراق من تكريت إلى عبادان، وعرضه من القادسية إلى الكوفة وبغداد إلى حلوان، وعرضه بنواحي واسط من سواد واسط إلى قريب الطيب، وبنواحي البصرة من البصرة إلى حدود جيء، والذي يطيف بحدوده من تكريت فيما يلي المشرق حتى يجوز بحدوده شهر زور، ثم يمر على حدود حلوان وحدود السيروان والضميرة والطيب والسوس حتى ينتهي إلى حدود جيء، ثم إلى البحر فيكون في هذا الحد من تكريت إلى البحر تقويس، ويرجع على حد الغرب من وراء البصرة في البادية على سواد البصرة وبطائحها إلى واسط، ثم على سواد الكوفة وبطائحها إلى الكوفة، ثم على ظهر الفرات إلى الأنبار ثم من الأنبار إلى حد تكريت بين دجلة والفرات من هذا الحد من البحر على الأنبار إلى تكريت تقويس أيضا، فهذا المحيط بحدود العراق، وهو من تكريت إلى البحر مما يلي المشرق على تقويسه نحو شهر، ومن البحر راجعا في حد المغرب على تقويسه إلى تكريت إلى البحر بنحو شهر أيضا، وعرضه على ما سمعت بغداد من حلوان إلى القادسية إحدى عشرة مرحلة، وعلى قسمه سر من رأى من دجلة إلى شهر زور والجبل نحو خمس
مراحل، والعرض بواسط إلى نواحي خورستان نحو أربع مراحل.
1351 حدثني علي بن مسلم قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال لما فتح هاذان المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا وإنا أردنا قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم ذات عرق.
مطابقته للترجمة في قوله: فحد لهم ذات عرق.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: علي بن مسلم، بلفظ اسم الفاعل من الإسلام: ابن سعيد أبو الحسن، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين. الثاني: عبد الله بن نمير، بضم النون وفتح الميم، مصغر
144

نمر، مر في أول: باب التيمم. الثالث: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أبو عثمان القرشي العدوي. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب. السادس: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الإفراد في موضع واحد وبصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه طوسي سكن بغداد وعبد الله بن نمير كوفي وعبيد الله ونافع مدنيان.
ذكر معناه: قوله: (لما فتح هذان المصران) فتح في رواية الأكثرين بضم الفاء على بناء ما لم يسم فاعله، وفي رواية الكشميهني بفتح الفاء على البناء للفاعل، وهذين المصرين، مفعوله، وطوى ذكر الفاعل للعلم به، والتقدير: لما فتح الله هذين المصرين، وكذا ثبت في رواية أبي نعيم في (المستخرج)، وبه جزم القاضي عياض. وقال ابن مالك: تنازع فيه الفعلان، وهما: فتح وأتوا، وأعمل الثاني. والمصران تثنية مصر، وأراد بهما: البصرة والكوفة. فإن قلت: هما من تمصير المسلمين، وبنيتا في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أما الكوفة فإنها بنيت سنة أربع عشرة وأما البصرة فكذلك مدينة إسلامية بنيت في أيام عمر ابن الخطاب في سنة سبع عشرة، وكيف يقال لما فتح هذان المصران؟ قلت: المراد بفتحهما غلبة المسلمين على مكان أرضهما، وبين البصرة والكوفة ثمانون فرسخا، وليس فيها مزدرع على المطر أصلا لكثرة أنهارها، والكوفة على ذراع من الفرات خارج جانبي الفرات وغربيها. قوله: (وهو جور)، بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره راء أي: ميل، والجور: الميل عن القصد. قوله: (فانظروا حذوها) بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح الواو، بمعنى: الحذاء، والمعنى اعتبروا ما يقابل من الأرض التي تسلكونها من غير ميل فاجعلوها ميقاتا. قوله: (فحد لهم) أي: حد ذات عرق لهم أي لهؤلاء الذين سألوا.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به طاووس وابن سيرين وجابر بن زيد على أن أهل العراق لا وقت لهم كوقت سائر البلدان، وإنما يهلون من الميقات الذي يأتون عليه من المواقيت المذكورة. وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على القول بظاهر حديث ابن عمر، واختلفوا فيما يفعل من مر بذات عرق، فثبت أن عمر، رضي الله تعالى عنه، وقته لأهل العراق ولا يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: والصحيح الذي عليه الإثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وقته على حسب ما علمه بالوحي من فتح البلدان والأقطار لأمته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها). وقال جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: إن ميقات أهل العراق ذات عرق، إلا أن الشافعي استحب أن يحرم العراقي من العقيق الذي بحذاء ذات عرق، وقال في (الأم): لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس، وهذا يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا عليه. وبه قطع الغزالي والرافعي في (شرح المسند) والنووي في شرح مسلم وكذا وقع في المدونة لمالك رضي الله تعالى عنه قلت: صححت الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والراقعي في (الشرح الصغير) والنووي في (شرح المهذب): أنه منصوص عليه، واحتجوا على ذلك بما رواه الطحاوي: حدثنا محمد بن علي بن داود، قال: حدثنا خالد بن يزيد وهشام بن بهرام المدائني، قالا: حدثنا المعافي بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق، ولأهل اليمن بلملم. وأخرجه النسائي: أخبرنا عمرو بن منصور، قال: حدثنا هشام بن بهرام إلى آخره، وبحديث جابر أخرجه مسلم، وفيه: مهل أهل العراق ذات عرق، وأخرجه الطحاوي أيضا ولفظه: ولأهل العراق ذات عرق. وأخرج الطحاوي أيضا من حديث أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل البصرة ذات عرق، ولأهل المدائن العقيق. وأخرجه الطبراني أيضا، ثم قال الطحاوي: فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآثار من وقت أهل العراق، كما ثبت من وقت من سواهم. وقال ابن المنذر: اختلفوا في المكان الذي يحرم من أتى من العراق على ذات عرق، فكان أنس يحرم من العقيق، واستحب ذلك الشافعي، وكان مالك وإسحاق وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق. وقال أبو بكر: الإحرام من ذات عرق يجزيء، وهو من العقيق أحوط. وقد كان الحسن بن صالح
145

يحرم من الربذة، وروي ذلك عن حصيف والقاسم بن عبد الرحمن، والعقيق، بفتح العين المهملة وكسر القاف. وقال البكري: على وزن فعيل: عقيقان، عقيق بني عقيل على مقربة من عقيق المدينة الذي بقرب البقيع على ليلتين من المدينة. وقال ياقوت: العقيق عشرة مواضع، وعقيقا المدينة أشهرها وأكثر ما يذكر في الأشعار فإياهما، وقال الحسن بن محمد المهلبي: بين العقيق والمدينة أربعة أميال، وعن الأصمعي: الأعقة الأودية. وفي (التلويح): حدثنا عبد الله بن عروة حدثنا زهير بن محمد العابد حدثني أبو عاصم عن سفيان عن يزيد عن محمد بن علي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق بطن العقيق. قال أبو منصور: أراد العقيق الذي بحذاء ذات عرق.
41
((باب))
أي: هذا باب، وأراد به الفصل كما جرت به عادة المصنفين، يذكرون بابا ثم يذكرون فيه: فصل، أي: هذا فصل، وإنما يفعلون هكذا لتعلق المسألة المذكورة بما قبله، وههنا كذلك لأنه ذكر فيه: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالبطحاء بذي الحليفة، وهذا له تعلق بالإحرام من حيث إن الصلاة بركعتين عند إرادة الإحرام مستحبة. وقال بعضهم: وقد ترجم عليه بعض الشارحين: باب نزول البطحاء والصلاة بذي الحليفة. قلت: أراد ببعض الشارحين صاحب (التوضيح) وحكى قطب الدين الحلبي أنه في بعض النسخ، قال: وسقط في نسخة سماعنا لفظ: باب، وفي (شرح ابن بطال): الصلاة بذي الحليفة.
2351 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلى بها وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذالك.
رجاله قد ذكروا غير مرة، وأخرجه مسلم أيضا في الحج عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين: كلاهما عن أبي القاسم وعن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب الكل عن مالك.
قوله: (أناخ)، بالنون والخاء المعجمة، أي: أبرك بعيره، والمعنى: أنه نزل بالبطحاء الذي بذي الحليفة، وإنما قيد بهذا لأن في مكة أيضا بطحاء، وبذي قار أيضا بطحاء، وبطحاء أزهر، فهذه أربعة، وبطحاء أزهر نزل به، صلى الله عليه وسلم، في بعض غزواته وبه مسجد، وهذه البطحاء المذكورة هنا يعرفها أهل المدينة بالمعرس، وأناخ بها، صلى الله عليه وسلم، في رجوعه من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: نزوله، صلى الله عليه وسلم، فيهما يحتمل أن يكون في الذهاب، وهو الظاهر من تصرف المصنف، ويحتمل أن يكون في الرجوع، ويؤيده حديث ابن عمر الذي بعده بلفظ: وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى أصبح، ويمكن الجمع بأنه كان يفعل الأمرين ذهابا وإيابا. انتهى. قلت: قوله: وهو الظاهر، غير ظاهر، بل الظاهر أنه كان يصلي في رجوعه لأنه صلى الله عليه وسلم أري في النوم وهو معرس في هذه البطحاء أنه قيل له: إنك ببطحاء مباركة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها تبركا بها. ويجعلها عند رجوعه من مكة موضع مبيته ليبكر منها إلى المدينة ويدخلها في صدر النهار، وتتقدم أخبار القادمين على أهليهم فتتهيأ المرأة، وهو في معنى كراهية الطروق ليلا من السفر، ثم هذه الصلاة ليست الصلاة التي تصلى وقت الإحرام، لأن الذي يصلي وقت الإحرام سنة، وهذه الصلاة مستحبة. وقال ابن عبد البر: وهذا عن مالك وغيره من أهل العلم مستحب مستحسن مرغب فيه، وليس بسنة من سنن الحج ولا المناسك التي تجب بها على تاركها فدية أو دم، ولكنه حسن عند جميعهم إلا ابن عمر، فإنه جعله سنة. وقال النووي: قال أصحابنا: لو ترك هذه الصلاة فاتته الفضيلة ولا إثم عليه.
51
((باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة))
أي: هذا باب في بيان خروج النبي، صلى الله عليه وسلم، على طريق الشجرة، قال المنذري: هي على ستة أميال من
146

المدينة، وعند البكري هي من البقيع، وقال عياض: هو موضع معروف على طريق من أراد الذهاب إلى مكة من المدينة كان صلى الله عليه وسلم يخرج منها إلى ذي الحليفة فيبيت بها، وإذا رجع بات بها أيضا.
3351 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة وإذا رجع صلى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح.
مطابقته للترجمة في قوله: كان يخرج من طريق الشجرة. ورجاله قد ذكروا، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. وأخرجه البخاري أيضا عن أحمد بن الحجاج فرقهما.
قوله: (كان يخرج)، أي: من المدينة (من طريق الشجرة) التي عند مسجد ذي الحليفة ويدخل المدينة من طريق العرس وهو أسفل من مسجد ذي الحليفة. قوله: (المعرس) بلفظ اسم المفعول من التعريس وهو موضع النزول عند آخر الليل، وقيل: موضع النزول مطلقا. وقال التيمي: يخرج من مكة من طريق الشجرة ويدخل مكة من طريق المعرس، عكس ما شرحناه، وتمام الحديث لا يساعده. قوله: (وبات) أي: بذي الحليفة (حتى يصبح) ثم يتوجه إلى المدينة وذلك لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلا، وقال ابن بطال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما يفعل في العيد، يذهب من طريق ويرجع من أخرى، وقيل: كان نزوله هناك لم يكن قصدا. وءنما كان اتفاقا، والصحيح أنه كان قصدا.
61
((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العقيق واد مبارك))
أي: هذا باب في بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: العقيق واد مبارك. قوله: (العقيق) مبتدأ. وقوله: واد، خبره و: مبارك، صفته، و: مبارك نكرة. ويروى: المبارك، بالألف واللام، وبإضافة واد إليه أي: واد الموضع المبارك، وقد مر تفسير العقيق عن قريب. قال الجوهري: هو واد بظاهر المدينة. وقيل: يدفق ماؤه في غور تهامة.
4351 حدثنا الحميدي قال حدثنا الوليد وبشر بن بكر التنيسي قالا حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى قال حدثني عكرمة أنه سمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول إنه سمع عمر رضي الله تعالى عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هاذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة.
مطابقته للترجمة في قوله: الوادي المبارك.
ذكر رجاله: وهم: ثمانية: الأول: الحميدي، بضم الحاء المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبالدال المهملة: وهو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام مر في أول الصحيح. الثاني: الوليد بن مسلم، مر في وقت المغرب في كتاب الصلاة. الثالث: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: التنيسي، بكسر التاء المثناة وتشديد النون وسكون الياء آخر الحروف، وبالسين المهملة نسبة إلى: تنيس، بلدة كانت في جزيرة في وسط بحيرة تعرف ببحيرة تنيس هذه شرقي أرض مصر، مر في: باب من أخف الصلاة. الرابع: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، تكرر ذكره. الخامس: يحيى بن أبي كثير. السادس: عكرمة مولى ابن عباس. السابع: عبد الله بن عباس. الثامن: عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأن نسبته إلى أحد أجداده وأن الوليد والأوزاعي دمشقيان. وأن يحيى يمامي طائي وأن عكرمة مدني. وفيه: ثلاثة مذكورون بالنسبة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه
147

البخاري أيضا في المزارعة عن إسحاق بن إبراهيم، وفي الاعتصام عن سعيد بن الربيع. وأخرجه أبو داود في الحج عن النفيلي. وأخرجه ابن ماجة فيه عن دحيم عن الوليد وعن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله (بوادي العقيق)، حال، والباء بمعنى: في. قوله: (آت)، هو جبريل، عليه الصلاة والسلام، قالوا، هكذا، قلت: يحتمل أن يكون ملكا من الملائكة غير جبريل لأن إسرافيل أيضا نزل إليه مدة، ولكن صرح في رواية البيهقي أنه جبريل عليه الصلاة والسلام. قوله: (من ربي) جملة في محل الرفع لأنها صفة لقوله: آت، وآت فاعل أتى، وأصله: آتى، فأعل إعلال: قاض، قوله: (صل) أمر بالصلاة. قال الكرماني: ظاهره أن هذه الصلاة صلاة الإحرام. وقيل: كانت صلاة الصبح، والأول أظهر. قوله: (وقل: عمرة في حجة) عمرة، منصوب في رواية أبي ذر، ومرفوع في رواية الأكثرين، وأما وجه النصب فبفعل مقدر تقديره: قل جعلت عمرة في حجة، وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: قل هذه عمرة في حجة، وقال الخطابي: إما أن تكون: في، بمعنى: مع، كأنه قال: عمرة معها حجة، وإما أن يراد: عمرة مدرجة في حجة، على مذهب من رأى أن عمل العمرة مضمن في عمل الحج يجزيه لهما طواف واحد. قلت: هذا بعيد، وأبعد منه من قال: إنه يعتمر في تلك السنة بعد فراغ حجة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وقال الطبري: يحتمل أن يكون أمرا بأن يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القرآن، وهو كقوله: دخلت العمرة في الحج، ورد عليه بأنه ليس نظيره، لأن قوله: دخلت... إلى آخره، تأسيس قاعدة، وقوله: عمرة في حجة، بالتنكير يستدعي على الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع في القرآن إذ ذاك، والآن نحرر هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
ذكر ما يستفاد منه فيه: فضل العقيق لفضل المدينة، وفيه: فضل الصلاة فيه ومطلوبيتها عند الإحرام لا سيما في هذا الوادي المبارك، وهو مذهب العلماء كافة إلا ما روي عن الحسن البصري فإنه استحب كونها بعد فرض. وقال الطبري: ومعنى الحديث الإعلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه لقيام الإجماع على أن الصلاة في هذا الوادي ليست بفرض. قال: فبان بذلك أن أمره بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة في مسجده ومسجد قبا. قلت: الصلاة بركعتين من سنة الإحرام لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أمر إرشاد، وأنه صلى ركعتين ولا يصليهما في الوقت المكروه. وقال النووي: فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يصلهما، هذا هو المشهور. وفيه: وجه لبعض أصحابنا أنه: يصليهما فيه لأن سببهما إرادة الإحرام، وقد وجد ذلك. وفيه: استحباب نزول الحاج في منزلة قريبة من البلد ومبيتهم بها ليجتمع إليهم من تأخر عنهم ممن أراد مرافقتهم، وليستدرك حاجته من نسيها فيرجع إليها من قريب. وفيه: أفضلية القرآن والدلالة على وجوده، وعلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان قارئا في حجة الوداع، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم، أمر أن يقول: عمرة في حجة، فيكون مأمورا بأنه يجمع بينهما من الميقات، وهذا هو عين القرآن، فإذا كان مأمورا به استحال أن يكون حجة خلاف ما أمر به. فإن قلت: لا نسلم ذلك ولا يدل ذلك على أفضلية القرآن، ولا على كون النبي صلى الله عليه وسلم قارئا لأنه جاء في رواية أخرى: قل عمرة وحجة، ففصل بينهما بالواو، فحينئذ يحتمل أن يريد أن يحرم بعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال: إذا حججت فقل: لبيك بعمرة وتكون في حجتك التي حججت، أو يكون محمولا على معنى تحصيلهما معا قلت: رواية البخاري وغيره: قل عمرة في حجة، وهذه هي الصحيحة، وهي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يجعل العمرة في الحجة، وهي صفة القرآن، والرواية التي بواو العطف تدل على ما قلنا أيضا لأن الواو لمطلق الجمع، والجمع بين الحج والعمرة هو القرآن، فيدل أيضا على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارئا، وما ذكروه من الاحتمال بعيدد وصرف اللفظ إلى غير مدلوله، فلا يقبل. والله أعلم.
5351 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا فضيل بن سليمان قال حدثنا موسى بن عقبة قال حدثني سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رؤي وهو في معرس بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له إنك ببطحاء مباركة وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ الذي كان عبد الله ينيخ يتحرى معرس رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو أسفل من المسجد الذي ببطن الوادي
148

بينهم وبين الطريق وسط من ذالك.
مطابقته للترجمة في قوله: (إنك ببطحاء مباركة).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد بن أبي بكر علي بن عطاء بن مقدم أبو عبد الله المعروف بالمقدمي. الثاني: فضيل بن سليمان النميري. الثالث: موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي. الرابع: سالم بن عبد الله. الخامس:: أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، وهذا الإسناد بعينه ذكر في: باب المساجد التي على طرق المدينة! وقد ذكرنا لطائفة هناك.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن عبد الرحمن بن المبارك، وفي المزارعة عن قتيبة. وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن محمد بن بكار، وشريح بن يونس وعن محمد بن عباد وأخرجه النسائي فيه عن عبدة ابن عبد الله عن سويد بن عمرو.
ذكر معناه: قوله: (إنه رئي)، بضم الراء وكسر الهمزة أي: رآه غيره، هذه رواية كريمة، وفي رواية غيرها: أري بضم الهمزة وكسر الراء. وقال الكرماني: رأى بلفظ الماضي المعروف من الرؤيا، وفي بعضها: ورؤي، بلفظ المجهول من الإراءة مقلوبا وغير مقلوب. قلت: في رواية مسلم: أتى: (في معرس) قوله: (وهو معرس)، جملة حالية، ومعرس، بكسر الراء على لفظ اسم الفاعل من التعريس، وهذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: وهو في معرسه، وكذا في رواية مسلم: وهو في معرسه من ذي الحليفة في بطن الوادي، وهنا الراء مفتوحة لأنه اسم مكان من التعريس. قوله: (وقد أناخ بنا سالم مقول موسى بن عقبة الراوي عنه قوله (يتوخى) جملة حالية أي يتحرى ويقصد قوله بالمناخ بضم الميم وهو المبرك قوله ينيخ من أناخ إناخة أي: يبرك بعيره. قوله: (يتحرى) جملة حالية أي: يقصد. قوله: (مرس رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الراء لأنه اسم مكان من التعريس. قوله: (وهو أسفل) لفظة: هو، مبتدأ، و: أسفل، خبره. وقوله: (بينه وبين الطريق) خبر ثان، قوله: (وسط) خبر ثالث، ويجوز أن يكون بدلا. وقوله: (بينه) أي: بين المعرس بكسر الراء وهو بإفراد الضمير رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي: (بينهم)، أي: بين المعرسين، بكسر الراء جمع المعرس. قوله: (وسط) بفتح السين أي: متوسط بين بطن الوادي وبين الطريق. وفي رواية أبي ذر: وسطا من ذلك، بالنصب، ووجهه أن يكون حالا بمعنى: متوسطا. وقال الكرماني: فإن قلت: ما فائدة الثالث: يعني قوله: وسط، وهو معلوم من الثاني يعني: من قوله بينه وبين الطريق؟ قلت: بيان أنه في حلق الواسط لا قرب له إلى أحد الجانبين، كما هو المشهور من الفرق بين الوسط، بتحريك السين، والوسط بسكونها.
71
((باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب))
أي: هذا باب في بيان غسل الخلوق، وهو بفتح الخاء المعجمة وضم اللام المخففة، وبالقاف ضرب من الطيب يعمل فيه الزعفران.
حدثنا قال أبو عاصم أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء عن صفوان بن يعلى أخبره أن يعلى قال لعمر رضي الله تعالى عنه أرني النبي صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه قال فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة ومعه نفر من أصحابه جاءه رجل فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي فأشار عمر رضي الله تعالى عنه إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وهو يغط ثم سري عنه فقال أين الذي سأل عن العمرة فأتي برجل فقال اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك قلت لعطاء أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات قال نعم.
149

مطابقته للترجمة في قوله: (اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات) قال الإسماعيلي: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثواب، كما في الترجمة، وإنما فيه أن الرجل ان متضمخا. وقوله له: (اغسل الطيب الذي بك) يوضح أن الطيب لم يكن في ثوبه، وإنما كان على بدنه، ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام. انتهى. قلت: قوله: ليس في حديث الباب أن الخلوق كان على الثوب، كما في الترجمة، غير مسلم، لأن في الحديث: وهو متضمخ بطيب، أعم من أن يكون على بدنه أو على ثوبه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (اغسل الطيب الذي بك) أعم من أن يكون على بدنه أو على ثوبه، على أن الخلوق في العادة يكون في الثوب، والدليل على ما قلنا ما سيأتي في محرمات الإحرام من وجه آخر: بلفظ: عليه قميص فيه أثر صفرة، وروى أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن شعبة عن قتادة عن عطاء بلفظ: رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق، وروى مسلم: حدثني إسحاق بن منصور قال: أخبرنا أبو علي عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا رباح بن أبي معروف، قال: سمعت عطاء، قال: أخبرني صفوان بن يعلى عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل عليه جبة بها أثر من خلوق، فقال: يا رسول الله إني أحرمت بعمرة، فكيف أفعل؟ فسكت عنه فلم يرجع إليه، وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، يستره إذا نزل عليه الوحي، يظله، فقلت لعمر: إني أحب إذا نزل عليه الوحي أن أدخل رأسي معه في الثوب، فجئته فأدخلت رأسي معه في الثوب فنظرت إليه صلى الله عليه وسلم فلما سري عنه قال: أين السائل آنفا عن العمرة؟ فقام إليه الرجل، فقال: إنزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك، وهذا ينادي بأعلى صوته أن أثر الخلوق كان على ثوب الرجل، ولم يكن على بدنه، وفي رواية أبي علي الطوسي: عليه جبة فيها ردع من زعفران... الحديث، وروى البيهقي من حديث أبي داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن قتادة عن عطاء عن يعلى مرفوعا: رأى رجلا عليه جبة عليها أثر خلوق أو صفرة فقال: إخلعها عنك واجعل في عمرتك ما تجعل في حجك
. قال قتادة: فقلت لعطاء: كنا نسمع أنه قال: شقها، قال: هذا فساد، والله لا يحب الفساد. وعند أبي داود: فأمره أن ينزعها نزعا ويغسلها مرتين أو ثلاثا. وعنده: فخلعها من رأسه، وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك ومنصور وغيرهما عن عطاء عن يعلى بن أمية أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أحرمت وعلي جبتي هذه، وعلى جبته درع من خلوق... الحديث، وفيه: فقال: إخلع هذه الجبة واغسل هذا الزعفران، فهذه الأحاديث كلها ترد على الإسماعيلي أن الطيب لم يكن على ثوبه، وإنما كان على بدنه، فإن قلت: سلمنا هذا كله، وكيف توجد المطابقة بين الحديث والترجمة وفيها لفظ الخلوق وليس في حديث الباب إلا لفظ الطيب؟ قلت: جرت عادة البخاري أن يبوب بما يقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وإن لم يخرجه وهو أبواب العمرة بلفظ: وعليه أثر الخلوق، على أن الخلوق ضرب من الطيب كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: أبو عاصم النبيل، واسمه الضحاك بن مخلد وهو من شيوخ البخاري من أفراده، وهذا بصورة التعليق، وبذلك جزم الإسماعيلي فقال: ذكره عن أبي عاصم بلا خبر. وقال أبو نعيم: ذكره بلا روية، وقال الكرماني: وفي بعض النسخ العراقية: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو عاصم. فهو إما محمد بن المثنى المعروف بالزمن، وإما محمد ابن معمر البحراني، وإما محمد بن بشار، بإعجام الشين. الثاني: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد تكرر ذكره. الثالث: عطاء بن أبي رباح كذلك. الرابع: صفوان بن يعلى بن أمية، ذكره ابن حبان في الثقات، وروى له الجماعة سوى ابن ماجة. الخامس: أبوه يعلى بن أمية بن أبي عبيدة التميمي أبو خلف، وأبو خالد أو أبو صفوان، وهو المعروف بيعلى بن منية، بضم الميم وسكون النون وفتح الياء آخر الحروف، ويقال: منية جدته وهي: منية بنت غزوان أخت عتبة بنت غزوان، ويقال: منية بنت جابر، أسلم يوم الفتح وشهد الطائف وحنينا وتبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه وعن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، تسعة عشر حديثا، قتل بصفين.
ذكر لطائف إسناده: فيه: قال أبو عاصم، وهو تعليق. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن أبا عاصم بصري والبقية مكيون، وهذا الإسناد منقطع لأنه قال: إن يعلى قال لعمر، ولم يقل إن يعلى أخبره أنه قال لعمر، اللهم إلا إذا كان صفوان حضر مراجعتهما، فيكون متصلا. وقال ابن عساكر: رواه عباس بن الوليد النرسي عن داود العطار عن ابن جريج عن عطاء عن يعلى بن أمية، أو صفوان بن يعلى بن أمية: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل
150

عن أبيه، ورواه قيس عن عطاء عن صفوان عن أبيه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة هو مصفر لجبته ورأسه وعليه جبة، وفي رواية همام عن عطاء عن صفوان عن أبيه... الحديث، وفيه: جبة عليها خلوق أو أثر صفرة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا عن أبي الوليد في فضائل القرآن عن أبي نعيم وفي المغازي عن يعقوب بن إبراهيم وفي فضائل القرآن أيضا عن مسدد، وأخرجه مسلم في الحج عن شيبان بن فروخ، وعن زهير ابن حرب وعن عبد بن حميد وعن علي بن حشرم وعن محمد بن يحيى وعن إسحاق بن منصور وعن عقبة بن مكرم ومحمد بن رافع. وأخرجه أبو داود فيه عن عقبة بن مكرم وعن محمد بن كثير وعن محمد بن عيسى وعن يزيد بن خالد. وأخرجه الترمذي فيه عن أبي عمر به. وأخرجه النسائي فيه وفي فضائل القرآن عن روح بن حبيب وعن حبيب وعن محمد بن منصور وعبد الجبار وعن محمد بن إسماعيل وعن عيسى بن حماد.
ذكر معناه: قوله: أرني) من الإراءة، يقتضي مفعولين أحدهما هو نون المتكلم، والآخر هو قوله: النبي. قوله: (بينما النبي) قد مر غير مرة أن أصل: بينما، بين زيدت فيه الميم والألف، وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة، وكذلك: بينا، بدون الميم ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل أو مبتدأ أو خبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وهنا الجملة مبتدأ وخبر، وهما قوله: (النبي بالجعرانة)، وقوله: (جاء رجل) جوابه، و: الجعرانة، بكسر الجيم والعين المهملة وتشديد الراء، قال البكري: كذا يقول العراقيون، ومنهم من يخفف الراء ويسكن العين، وكذا الخلاف في الحديبية، وهما بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أدنى. وقال ابن الأثير: وهي قريب من مكة، وهي في الحل وميقات الإحرام. وقال ياقوت: هي غير الجعرانة التي بأرض العراق. قال سيف بن عمر: نزلها المسلمون لقتال الفرس، وقال يوسف بن ماهك. اعتمر بها ثلاثمائة نبي، عليهم الصلاة والسلام، يعني: بالجعرانة التي بقرب مكة. قوله: (ومعه نفر من أصحابه) الواو فيه للحال، أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه وكان هذا بالجعرانة كما ثبت هنا، وفي غيره: في منصرفه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، وفي ذلك الموضع قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها، وذلك في سنة ثمان كما ذكره ابن حزم وغيره، وهما موضعان متقاربان. قوله: (جاءه رجل) وفي لفظ للبخاري سيأتي: جاءه أعرابي، ولم يعرف اسمه. ونقل بعضهم في (الذيل) عن (تفسير الطرطوشي): أن اسمه عطاء بن منبه. فقال: إن ثبت هذا فهو أخو يعلى راوي الخبر، قيل: يجوز أن يكون خطأ من اسم الراوي، فإنه من رواية عطاء عن صفوان بن يعلى بن منبه عن أبيه، ومنهم من لم يذكر بين عطاء ويعلى أحدا. وقال صاحب (التوضيح): هذا الرجل يحوز أن يكون: عمرو بن سواد، إذ في (كتاب الشفاء) للقاضي عياض، عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق)، فقال: ورس ورس حط حط، وغشيني بقضيب بيده في بطني فأوجعني... الحديث. لكن عمرو هذا لا يدرك ذا، فإنه صاحب ابن وهب، انتهى. واعترض بعض تلامذته عليه من وجهين: أما أولا: فليست هذه القضية شبيهة بهذه القضية حتى يفسر صاحبها بها، وأما ثانيا: ففي الاستدراك غفلة عظيمة، لأن من يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخيل فيه أنه صاحب ابن وهب وصاحب مالك، بل إن ثبت فهو آخر وافق اسمه اسمه، واسم أبيه، والغرض أنه لم يثبت. قال: لأنه انقلب على شيخنا، وإنما الذي في (الشفاء): سواد بن عمرو. انتهى. قلت: رأيت بخط بعض من أخذ عنه هذا المعترض، على هامش الورقة التي في هذا الموضع من (كتاب التوضيح)، قال: فائدة الذي في الشفاء سواد بن عمرو، وذكره في الباب الثاني من القسم الثالث، ولفظه: وأما حديث سواد بن عمرو: أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم وأنا متخلق، فقال: ورس ورس حط حط وغشيني بقضيب في يده فأوجعني، فقلت: القصاص يا رسول الله، فكشف لي عن بطنه، إنما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمنكر رآه، ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه، ولما ذكر هذا أنكر عليه ونسبه إلى التخبط وإلى كلام لا معنى له. قوله: (وهو متضمخ بطيب)، الواو فيه للحال، ومتضمخ، بالضاد والحاء المعجمتين، يقال: تضمخ بالطيب إذا تلطخ به وتلوث به. قوله: (وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، الواو فيه للحال. قوله: (قد أظل به)، بضم الهمزة وكسر الظاء المعجمة، أي: جعل عليه كالظلة، وهذه الجملة حالية، ويجوز أن تكون محلها الرفع على أنه صفة لثوب. قوله: (فإذا رسول الله) كلمة: إذا، للمفاجأة. قوله: (وهو يغظ). الواو فيه للحال، ويغط بفتح الياء وكسر الغين المعجمة بعدها طاء مهملة،
151

أي ينفخ، وهو من الغطيط، وهو صوت النفس المتردد من النائم. ويقال: الغطيط صوت به بحوحة وهو كغطيط النائم، أي شخيره وصوته الذي يردده في حلقه ومع نفسه، وسبب ذلك شدة الوحي ونقله، وهو كقوله تعالى: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * (المزمل: 5). قوله: (ثم سري عنه) بضم السين المهملة وكسر الراء المشددة، أي: كشف عنه شيئا بعد شيء بالتدريج. وقال الكرماني: روي بتخفيف الراء المكسورة وتشديدها، والرواية بالتشديد أكثر. قوله: (اغسل الطيب الذي بك) قد قلنا: إنه أعم من أن يكون بثوبه أو بدنه. قوله: (ثلاث مرات)، مبالغة في الإزالة، ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل كان كثيرا. ويؤيده قوله: (متضمخ) قلت: لأن باب التفعل وضع للمبالغة. قال القاضي: يحمل قوله: ثلاث مرات على قوله: فاغسله، فكأنه قال: إغسله إغسله إغسله ثلاث مرات، يدل على صحته ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا. انتهى. وفي رواية أبي داود: أمره أن ينزعها نزعا ويغتسل مرتين أو ثلاثا. قوله: (واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك)، وفي رواية الكشميهني: (كما تصنع)، وفي لفظ للبخاري في أبواب العمرة: (كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي.
وفي مسلم، من طريق قيس بن سعد عن عطاء: (وما كنت صانعا في حجتك فاصنع في عمرتك)، ويدل هذا على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك. وقال ابن العربي: كأنهم كانوا في الجاهلية يخلعون الثياب ويجتنبون الطيب في الإحرام إذا حجوا، وكانوا يتساهلون في ذلك في العمرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن مجراهما واحد. وقال ابن بطال: أراد الأدعية وغيرها مما يشترك فيه الحج والعمرة. وقال النووي، كما قاله: وزاد: ويستثنى من الأعمال ما يختص به الحج، وقال الباجي: المأجور غير نزع الثوب وغسل الخلوق، لأنه صرح له بهما فلم يبق إلا الفدية. وفيه نظر، لأن فيه حصرا وقد تبين فيما رواه مسلم من أن المأمور به الغسل والنزع، وذلك في روايته من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: رجلا، وهو بالجعرانة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطفات، يعني: جبة وهو متضمخ بالخلوق، فقال: أني أحرمت بالعمرة، وعلى هذا: وأنا متضمخ بالخلوق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك. قوله: (فقلت لعطاء) القائل هو ابن جريج.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جواز نظر الرجل إلى غيره وهو مغطى بشيء وإدخال رأسه في غطائه إذا علم أنه لا يكره ذلك منه، فإن يعلى أدخل رأسه فيما أظل به، صلى الله عليه وسلم، لأنه علم أنه لا يكره ذلك في ذلك الوقت، لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حال الوحي الكريم، وكذلك عمر، رضي الله تعالى عنه، علم ذلك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى قال للرجل: تعالى فانظر. وفيه: أن المفتي إذا لم يعلم حكم المسألة أمسك عن جوابها حتى يعلمه. وفيه: أن من الأحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحي لا يتلى. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بالفدية، فأخذ به الشافعي والثوري وعطاء وإسحاق وداود وأحمد في رواية، وقالوا: إن من لبس في إحرامه ما ليس له لبسه جاهلا، فلا فدية عليه، والناسي في معناه. وقال أبو حنيفة والمزني في رواية عنها: يلزمه إذا غطى رأسه ووجهه متعمدا أو ناسيا يوما إلى الليل، فإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة يتصدق بها. وعن مالك: يلزمه إذا انتفع بذلك أو طال لبسه عليه. وفيه: المبالغة في الإنقاء من الطيب. وفيه: أن المحرم إذا كان عليه مخيط نزعه ولا يلزمه تمزيقه ولا شقه، خلافا للنخعي والشعبي حيث قالا: لا ينزعه من قبل رأسه لئلا يصير مغطيا رأسه، أخرجه ابن أبي شيبة عنهما، وعن علي، رضي الله تعالى عنه، نحوه، وكذا عن الحسن وأبي قلابة، وقد وقع عند أبي داود، رضي الله تعالى عنه، بلفظ: (إخلع عنك الجبة، فخلعها من قبل رأسه). وعن أبي صالح وسالم: يخلعه من قبل رجليه، وعن جعفر بن محمد عن علي، رضي الله تعالى عنه: إذا أحرم وعليه قميص لا ينزعه من رأسه، بل يشقه ثم يخرج منه، وفيه: اختلف العلماء في استعمال الطيب عند الإحرام، واستدامته بعده، فكرهه قوم ومنعوه، منهم مالك ومحمد بن الحسن، ومنعهما عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن أبي العاص وعطاء والزهري، وخالفهم في ذلك آخرون، فأجابوه منهم أبو حنيفة والشافعي تمسكا بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنه: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت)، ولمسلم: بذريرة في حجة الوداع، وفي رواية للبخاري كما سيأتي: (وطيبته بمنى قبل أن يفيض). وعنها: (كأني
152

أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم). والوبيص، بالصاد المهملة: البريق واللمعان. قالا: وحديث يعلى إنما أمره بغسل ما عليه لأن ذلك الطيب كان زعفرانا، وقد نهى الرجال عن الزعفران، وجواب آخر بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة كما ثبت في هذا الحديث، وهي في سنة ثمان بلا خلاف، وحديث عائشة المذكور في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر. فإن قلت: إن ذلك الوبيص الذي أبصرته عائشة إنما كان بقايا ذلك الطيب وقد تعذر قلعها فبقي بعد أن غسل، وأيضا: كان ذلك من خواصه لأن المحرم، إنما منع من الطيب لئلا يدعوه إلى الجماع، والشارع معصوم. وأيضا كان مما لا تبقى رائحته بعد الإحرام. قلت: قد ذكرنا أن ذلك الطيب كان زعفرانا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الزعفران مطلقا، سواء كان في الحل أو الحرمة، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وقد روى ابن حزم من طريق حماد بن يزيد عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله عن عائشة، رضي الله تعالى عنها،
أنها قالت: (طيبته صلى الله عليه وسلم بيدي)، وروي: أنهن كن يضمخن جباههن بالمسك ثم يحرمن ثم يعرقن فيسيل على وجوههن، فيرى ذلك صلى الله عليه وسلم فلا ينكره.
81
((باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن))
أي: هذا باب في بيان جواز الطيب عند إرادة الإحرام، وجواز ما يلبس الشخص إذا أراد الإحرام. قوله: (ويترجل) بالرفع، عطف على قوله: وما يلبس، ويروى بالنصب ووجهه أن يكون منصوبا بأن، المقدرة كما في قول الشاعر:
* للبس عباءة وتقر عيني
* أحب إلي من لبس الشفوف
*
وقوله: (ويترجل)، من الترجل على وزن: التفعل، وهو أن يسرح شعره، من: رجلت رأسي: إذا مشطته بالمشط. قوله: (ويدهن)، بفتح الهاء من الثلاثي، يعني: من دهن يدهن، وبكسرها من ادهن على وزن: افتعل، إذا تطلى بالدهن، وأصله يتدهن، فأبدلت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال، وهو عطف أيضا على: يلبس، وقد تكلم الشراح هنا بما لا طائل تحته، فتركناه.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشم المحرم الريحان وينظر في المرآة ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن
هذا التعليق في شم المحرم الريحان وصله البيهقي بسند جيد إلى سفيان،: حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا للمحرم أن يشم الريحان، وروى الدارقطني بسند صحيح عنه: المحرم يشم الريحان ويدخل الحمام وينزع سنه ويفقأ القرحة، وإن انكسر ظفره أماط عنه الأذى.
واختلف الفقهاء في الريحان. فقال إسحاق: يباح، وتوقف أحمد فيه، وقال الشافعي: يحرم، وكرهه مالك والحنفية. ومنشأ الخلاف أن كل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا، وروى بن أبي شيبة عن جابر أنه قال: لا يشم المحرم الريحان، وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عمر: أنه كان يكره شم الريحان للمحرم. وعن أبي الزبير: سمع جابرا يسأل عن الريحان أيشمه المحرم والطيب والدهن؟ فقال: لا. وعن جابر: إذا شم المحرم ريحانا أو مس طيبا إهراق لذلك دما. وعن إبراهيم: في الطيب الفدية. وعن عطاء: إذا شم طيبا كفر، وعنه: إذا وضع المحرم على شيء دهنا فيه طيب فعليه الكفارة. والريحان: ما طاب ريحه من النبات كله سهلية وجبلية، والواحدة ريحانة. وفي (المحكم): الريحان أطراف كل كل بقلة طيبة الريح إذا خرج عليها أوائل النور، والريحانة: طاقة من الريحان.
وأما النظر في المرآة، فقال النووي في (جامعه): رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لا بأس أن ينظر في المرآة وهو محرم، وروى ابن أبي شيبة عن ليث عن طاووس: لا ينظر.
وأما التداوي. قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد الأحمر وعباد بن العوام عن أشعث عن عطاء عن ابن عباس: أنه كان يقول: يتداوى المحرم بما يأكل. وقال أيضا: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس، قال: إذا تشققت يد المحرم أو رجلاه فليدهنهما بالزيت أو السمن. وروى أيضا من حديث ابن عمر: يتداوى المحرم بأي دواء شاء إلا دواء فيه طيب، وكان الأسود يضمد رجله
153

بالشحم وهو محرم. وعن أشعث بن أبي الشعثاء: حدثني من سمع أبا ذر يقول: لا بأس أن يتداوى المحرم بما يأكل، وفي رواية: حدثني مرة بن خالد عن أبي ذر، وعن معتب البجلي قال: أصابني شقاق وأنا محرم فسألت أبا جعفر؟ فقال: ادهنه بما تأكل. وكذا قاله ابن جبير وإبراهيم وجابر بن زيد ونافع والحسن وعروة. وقال أبو بكر: حدثنا وكيع حدثنا حماد عن فرقد السنجي عن ابن جبير عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يدهن بالزيت عند الإحرام. قال الزهري: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث فرقد، ولفظه: بالزيت وهو محرم غير المقتت. قال أبو عيسى: المقتت المطيب. قلت: المقتت، بضم الميم وفتح القاف وتشديد التاء الأولى المثناة من فوق.
قوله: (يشم)، بفتح الشين المعجمة على الأشهر، وحكى ضمها، وذكر في (الفصيح) بفتح الشين في المضارع وكسرها في الماضي، والعامة تقول: شممت، بالفتح في الماضي، وفي المستقبل بالضم وهو خطأ. وعن الفراء وابن الأعرابي: يقال: شممت أشم، شممت أشم والأولى أفصح، ويقال في مصدره: الشم والشميم وتشممته تشمما. وقال الزمخشري: وقد جاء في مصدره: شميمي على وزن: فعيلي كالخطيطي. وقال ابن درستويه: معنى الشم استنشاق الرائحة، وقد يستعار في غير ذلك في كل ما قارب شيئا أدنى منه. قوله: (ويتداوى بما يأكل) أي: بالذي يأكل منه قوله: (الزيت والسمن) بالجر فيهما. قال الكرماني: لأنه بدل أو بيان لما يأكل. وقال ابن مالك: بالجر عطف على: ما، الموصولة فإنها مجرورة بالباء أعني: في قوله بما قيل. وقع بالنصب وليس المعنى عليه لأن الذي يأكل هو الآكل لا المأكول. لكن يجوز على الاتساع. قلت: لا حاجة إلى هذا التعسف، بل يكون منصوبا على تقدير: أعني الزيت والسمن، عطف عليه، ويجوز الرفع فيهما على أن يكون الزيت خبر مبتدأ محذوف أي: هو الزيت والسمن، عطف عليه.
وقال عطاء يتختم ويلبس الهميان
عطاء: ابن أبي رباح. قوله: (يتختم) أي: يلبس الخاتم، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع حدثنا هشام بن الغاز عن عطاء، قال: لا بأس بالخاتم
للمحرم. وحدثنا المحاربي عن العلاء عن عطاء، قال: لا بأس بالخاتم للمحرم. وحدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عنه، وعن ابن عباس بسند صحيح: لا بأس بالخاتم للمحرم. وعن أبي الهيثم عن النخعي ومجاهد مثله. وقال خالد بن أبي بكر: رأيت سالم بن عبد الله يلبس خاتمه وهو محرم، وكذا قاله إسماعيل بن عبد الملك عن سعيد بن جبير. قوله: (ويلبس الهميان)، بكسر الهاء معرب، هو شبه تكة السراويل تجعل فيها الدراهم وتشد على الوسط. وفي (المغيث): قيل هو فعلان من: همى، إذا سال لأنه إذا أفرغ همي ما فيه، وفسر ابن التين الهميان: بالمنطقة، وأخرج الدارقطني من طريق شريك عن أبي إسحاق عن عطاء. ربما ذكره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم. وأخرجه الطبراني وابن عدي من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف. وقال ابن عبد البر: وأجمع عوام أهل العلم على أن للمحرم أن يشد الهميان على وسطه. وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن المسيب والقاسم وعطاء وطاووس والنخعي وهو قول مالك والكوفيين والشافعي وأحمد وأبي ثور غير إسحاق فإنه قال: لا يعقده ويدخل السيور بعضها في بعض. وسئلت عائشة عن المنطقة، فقالت: أوثق عليك نفقتك. وقال ابن علية: قد أجمعوا على أن للمحرم أن يعقد الهميان والإزار على وسطه وكذلك المنطقة. وقول إسحاق لا يعد خلافا ولاحظ له في النظر لأن الأصل النهي عن لباس المخيط وليس هذا مثله، فارتفع أن يكون له حكمه. وقال ابن التين: إنما ذلك ليكون نفقته فيها، وأما نفقة غيره فلا، وإن جعلها في وسطه لنفقته ثم نفدت نفقته وكان معها وديعة ردها إلى صاحبها، فإن تركها افتدى، وإن كان صاحبها غاب بغير علمه فينفقها ولا شيء عليه، ويشد المنطقة من تحت الثياب.
وطاف ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو محرم وقد حزم على بطنه بثوب
الواو في: وهو، وقد حزم، للحال. أي: شد، وهذا التعليق وصله الشافعي من طريق طاووس، قال: رأيت ابن عمر يسعى وقد حزم على بطنه بثوب. وعن سعيد عن إسماعيل بن أمية أن نافعا أخبره أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه، إنما غرز طرفه
154

على إزاره. وعن ابن أبي شيبة: حدثنا ابن فضيل عن ليث عن عطاء وطاووس، قالا: رأينا ابن عمر وهو محرم وقد شد حقويه بعمامة. وحدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب: سمعت ابن عمر يقول: لا تعقد عليك شيئا وأنت محرم، وحدثنا ابن علية عن هشام بن حجير، قال: رأى طاووس ابن عمر قد يطوف وقد شد حقويه بعمامة. وروى الحاكم بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة، فقال: اربطوا على أوساطكم مآزركم، وامشوا خلط الهرولة. وفي (التوضيح): اختلف في الرداء الذي يلتحف به على مئزره، فكان مالك لا يرى عقده ويلزمه الفدية إن انتفع به، ونهى عنه ابن عمر وعطاء وعروة، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وكرهه الكوفيون وأبو ثور، وقالوا: لا بأس عليه إن فعل. وحكي عن مالك أنه رخص للعامل أن يحزم الثوب على منطقته، وكرهه لغيره.
ولم تر عائشة رضي الله تعالى عنها بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها
التبان، بضم التاء المثناة من فوق وتشديد الباء الموحدة وبعد الألف نون: وهو سراويل قصير جدا وهو مقدار شبر ساتر للعورة الغليظة فقط، ويكون للملاحين والمصارعين قوله: (يرحلون) بفتح الياء وسكون الراء وفتح الحاء المهملة، قال الجوهري: تقول: رحلت البعير أرحله، بفتح أوله، رحلا، إذا شددت على ظهره الرحل. قوله: (هودجها)، بفتح الهاء وبالجيم، وهو مركب من مراكب النساء مقتب وغير مقتب، وتعليق عائشة، رضي الله تعالى عنها وصله سعيد بن منصور من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: أنها حجت ومعها غلمان لها، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون. وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ: يشدون هودجها، وفي هذا رد على ابن التين في قوله: أرادت النساء، لأنهن يلبسن المخيط بخلاف الرجال، وكأن هذا رأي رأته عائشة وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم. وفي (التوضيح): التبان لبسه حرام عندنا كالقميص والدراعة والخف ونحوها، فإن لبس شيئا من ذلك مختارا عامدا أثم وأزاله وافتدى، سواء قصر الزمان أو طال.
7351 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن منصور عن سعيد بن جبير قال كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يدهن بالزيت فذكرته لإبراهيم قال ما تصنع بقوله. حدثني الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
[/ نه
مطابقته للترجمة من حيث إن وبيص هذا الطيب كان من الطيب الذي تطيب به صلى الله عليه وسلم عند إرادة الإحرام.
ذكر رجاله: وهم ثمانية كلهم قد ذكروا، ومحمد بن يوسف هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وإبراهيم هو النخعي والأسود هو ابن زيد، ورجال هذا الإسناد كلهم كوفيون ما خلا ابن عمر.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحج عن قتيبة وعن إسحاق بن إبراهيم. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن الصباح البزار. وأخرجه النسائي فيه عن أحمد بن منصور وعن محمد بن عبد الله المخرمي. وأخرجه الطحاوي من ثمانية عشر طريقا عن الأسود عن عائشة مثل رواية البخاري، غير أن لفظه: في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه عن عائشة: أنها كانت تطيب النبي، صلى الله عليه وسلم، بأطيب ما تجد من الطيب، قالت: حتى أرى وبيض الطيب في رأسه ولحيته. وعن عروة عن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأطيب ما أجد. وعن القاسم عنها، قالت: طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدي لإحرامه قبل أن يحرم. وعن ابن عمر عنها، قالت: كنت أطيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالغالية الجيدة عند إحرامه. وعن القاسم عنها، قالت: طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحرمه حين أحرم. وعن عطاء، عنها: طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للحل والإحرام. وفي
رواية الترمذي من حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عائشة، قالت:
155

طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك. وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن أبي إسحاق عن الأسود عنها: كان يتطيب قبل أن يحرم فيرى أثر الطيب في مفرقه بعد ذلك بثلاث. وروى أيضا عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن إبراهيم عن الأسود عنها: (رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث وهو محرم) وعند النسائي: (بعد ثلاث وهو محرم)، وفي أخرى: (في أصول شعره)، وفي لفظ: (إذا أراد أن يحرم ادهن بأطيب دهن يجده حتى أرى وبيصه في رأسه ولحيته). وعند الدارقطني من حديث ابن عقيل عن عروة عنها: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان ودهنه بزيت غير كثير). وفي (مسند أبي محمد الدارمي): (طيبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لحرمه وطيبته بمنى قبل أن يفيض). وعند أبي علي الطوسي: (طيبته قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك).
ذكر معناه: قوله: (يدهن بالزيت) أي: عند الإحرام بشرط أن لا يكون مطيبا. وقال الكرماني. (يدهن بالزيت) أي: لا يتطيب. وتقدم في: باب من تطيب، في كتاب الغسل أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا. قوله: (فذكرته) أي: قال منصور: ذكرت امتناع ابن عمر من التطيب لإبراهيم النخعي. قوله: (ما تصنع بقوله؟) أي: بقول ابن عمر، أي: ماذا تصنع بقوله حيث ثبت ما ينافيه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال الكرماني: يجوز أن يكون الضمير في: بقوله، عائدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: فإن قلت: هذا فعل الرسول وتقريره لا قوله قلت: فعله في بيان الجواز، كقوله. قوله: (كأني أنظر) أرادت بذلك قوة تحققها لذلك، بحيث أنها لشدة استحضارها له كأنها ناظرة إليه. قوله: (إلى وبيص)، بفتح الواو وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره صاد مهملة، وهو: البريق، والمراد: أثر الطيب لا جرمه. وقال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق، والمراد به: التلألؤ، وهو يدل على وجود عين قائمة، لا الربح فقط. قوله: (في مفارق) جمع: مفرق، وهو وسط الرأس، وإنما جمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها. وقال الجوهري: قولهم للمفرق مفارق كأنهم جعلوا كل موضع منه مفرقا. قوله: (وهو محرم)، الواو في للحال.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر في أن المحرم إذا تطيب قبل إحرامه بما شاء الطيب مسكا كان أو غيره، فإنه لا بأس به، ولا شيء عليه سواء كان مما يبقى عليه بعد إحرامه أو لا ولا يضره بقاؤه عليه، وبه قال الشافعي وأصحابه وأحمد والثوري والأوزاعي، وهو قول عائشة راوية الحديث، وسعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير، وابن جعفر وأبي سعيد الخدري، وجماعة من التابعين بالحجاز والعراق، وفي (شرح المهذب): استحبه عند إرادة الإحرام معاوية وأم حبيبة وابن المنذر وإسحاق وأبو ثور، ونقله ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير عمر بن عبد العزيز وإبراهيم في رواية، وذكره ابن حزم عن البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي ذر والحسين بن علي وابن الحنفية والأسود والقاسم وسالم وهشام بن عروة وخارجة بن زيد وابن جريج. وقال آخرون، منهم عطاء والزهري وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن: لا يجوز أن يتطيب المحرم قبل إحرامه بما يبقى عليه رائحته بعد الإحرام، وإذا أحرم حرم عليه الطيب حتى يطوف بالبيت، وإليه ذهب محمد بن الحسن، واختاره الطحاوي، وهذا مذهب عمر وعثمان وابن عمر وعثمان بن العاص. وقال الطرطوشي: يكره الطيب المؤنث كالمسك والزعفران والكافور والغالية والعود ونحوها، فإن تطيب وأحرم به فعليه الفدية، فإن أكل طعاما فيه طيب، فإن كانت النار مسته فلا شيء عليه، وإن لم تمسه النار ففيه وجهان، وأما غير المؤنث مثل الرياحين والياسمين والورد فليس من ذلك ولا فدية فيه أصلا، والطيب المؤنث طيب النساء: كالخلوق والزعفران، قاله شمر. وأما شم الريحان ففي (شرح المهذب): الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس فيها قولان: أحدهما: يجوز شمها لما روي عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل عن المحرم يدخل البستان قال: نعم ويشم الريحان. والثاني: لا يجوز لأنه يراد للرائحة، فهو كالورد والزعفران، والأصح تحريم شمها ووجوب الفدية، وبه قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور إلا أن أبا حنيفة ومالكا يقولان: يحرم ولا فدية. وقال ابن المنذر
156

واختلف في الفدية عن عطاء وأحمد، وممن جوزه وقال: هو حلال ولا فدية فيه عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وإسحاق، رضي الله تعالى عنهم، قال العبدري: وهو قول أكثر العلماء، وفي (التوضيح): الحناء عندنا ليس طيبا، خلافا لأبي حنيفة، وعند مالك وأحمد: فيه الفدية. وقالت عائشة: وكان صلى الله عليه وسلم يكره ريحه، أخرجه ابن أبي عاصم في (كتاب الخضاب) وكان يحب الطيب فلو كان طيبا لم يكرهه. قلت: روى أبو يعلى في (مسنده) عن أنس، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اختضبوا بالحناء، فإنه طيب الريح يسكن الدوخة. وأما الطيب بعد رمي الجمرة فقد رخص فيه ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وابن الزبير وعائشة وابن جبير والنخعي وخارجة بن زيد، وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وكرهه سالم ومالك، وقال ابن القاسم: ولا فدية لما جاء في ذلك، ولما كان الطحاوي مع محمد بن الحسن فيما ذهب إليه أجاب عن حديث الباب الذي احتج به أبو حنيفة وأبو يوسف وآخرون، فقال: وكان من الحجة له أي: لمحمد بن الحسن في ذلك أن ما ذكر في حديث عائشة من تطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الإحرام إنما فيه أنها كانت تطيبه إذا أراد أن يحرم، فقد يجوز أن يكون كانت تفعل ذلك به ثم يغتسل إذا أراد أن يحرم فيذهب بغسله عنه ما كان على بدنه من طيب ويبقى فيه ريحه. وادعى ابن القصار والمهلب: أنه كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، وزاد المهلب معنى آخر: أنه خص به لمباشرته الملائكة بالوحي وغيره، وقد ذكرناه.
9351 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت.
.
وهذا طريق آخر في حديث عائشة. وقال أبو عمر: حديث عائشة هذا صحيح ثابت لا يختلف أهل العلم في صحته وثبوته، وقد روي عن عائشة من وجوه. قلت: قد ذكرنا أن الطحاوي أخرجه من ثمانية عشر طريقا. قوله: (لإحرامه) أي: لأجل إحرامه، وفي رواية مسلم والنسائي (حين أراد أن يحرم). قوله: (ولحله) أي: ولتحلله من محظورات الإحرام، وذلك بعد أن يرمي ويحلق. وقد ذكرنا الخلاف فيه عن قريب.
وقيل: استدل بقول عائشة: كنت أطيب...، على أن: كان، لا تقتضي التكرار لأنها لم يقع ذلك منها إلا مرة واحدة، وقد صرحت في رواية عروة عنها بأن ذلك كان في حجة الوداع، وكذا استدل به النووي في (شرح مسلم) واعترض بأن المدعى تكراره إنما هو التطيب لا الإحرام، ولا مانع من أن يتكرر التطيب لأجل الإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة. وقال الإمام فخر الدين: إن: كان، لا تقتضي التكرار ولا الاستمرار، وجزم ابن الحاجب بأنها تقتضيه. وقال بعض المحققين، تقتضي التكرار، ولكن قد تقع قرينة تدل على عدمه. قلت: كان، تقتضي الاستمرار بخلاف: صار، ولهذا لا يجوز أن يقال في موضع: كان الله، أن يقال. صار. وقال بعضهم: هذا اللفظ يعني لفظ: كنت، في قول عائشة: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم تتفق الرواة عنها عليها، فسيأتي للبخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم شيخ مالك فيه هنا بلفظ: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الطرق ليس فيها صيغة: كان. قلت: في رواية مسلم عن الأسود عن عائشة: إني كنت لأنظر إلى وبيص الطيب، وفي رواية النسائي: عن عروة عنها، قالت: كنت أطيب... وفي رواية الطحاوي عن ابن عمر عنها قالت كنت أطيب وفي رواية الطحاوي أيضا: عن الأسود عنها: أنها كانت تطيب... رواها من طريق الفريابي عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن الأسود عنها، وكذا روى من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه عنها: كانت تطيب، وهذا القائل كأنه لم يطلع على هذه الروايات، فلهذا ادعى بقوله: وسائر الطرق ليس فيها صيغة: كان، وهذه التي ذكرناها فيها صيغة: كان وكنت.
وفيه: استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وجواز استدامته بعد الإحرام، كما ذكرناه مفصلا، وعن مالك: يحرم، وعنه في وجوب الفدية قولان.
واحتجت المالكية فيه بأشياء: منها: أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل بعد أن تطيب كما في حديث إبراهيم بن المنتشر الذي تقدم في الغسل، ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما، والمراد من الطواف: الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة، فالضرورة
157

ذهاب أثر الطيب، ورد هذا بحديث: ثم أصبح محرما ينضح طيبا، وهذا لا يشك أن: نضح الطيب، وهو رائحته كان في حال إحرامه. فإن قلت: إن فيه تقديما وتأخيرا، والتقدير: طاف على نسائه ينضح طيبا، ثم أصبح محرما؟ قلت: هذا خلاف الظاهر: ويرده أيضا ما في رواية مسلم: كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد، ثم أراه في رأسه ولحيته بعد ذلك، وفي رواية النسائي وابن حبان: رأيت الطيب في مفرقه بعد ثلاث، وهو محرم، فإن قلت: كان الوبيص بقايا الدهن المطيب فزال وبقي أثره من غير رائحة؟ قلت: قول عائشة: ينضح طيبا، يرد هذا. فإن قلت: بقي أثره لا عينه؟ قلت: ليس في شيء من طرق حديث عائشة أن عينه بقيت، قاله ابن العربي. قلت: قد روى أبو داود وابن أبي شيبة من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم، ثم نحرم فتعرق فيسيل على وجوهنا، ونحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا. وفي رواية: كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجوهنا فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا فهذا صريح في بقاء عين الطيب. فإن قلت: هذا خاص بالنساء؟ قلت: لا نسلم ذلك، لأن النساء والرجال سواء في تحريم استعمال الطيب، إذا كانوا محرمين. فإن قلت: كان ذلك الطيب لا رائحة له، دل عليه رواية الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: بطيب لا يشبه طيبكم، قال بعض رواته: يعني لا بقاء له، أخرجه النسائي قلت: يرد هذا ما رواه مسلم من رواية منصور بن زادان عن عبد الرحمن بن القاسم: بطيب فيه مسك، وفي رواية الطحاوي عن عائشة: بالغالية الجيدة، كما ذكرناه، فهذا يدل على أن معنى قولها: بطيب لا يشبه طيبكم: أطيب من طيبكم، لا كما فهمه بعض رواته. ومنها: أنهم ادعوا أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وقد أجبنا عن ذلك عن قريب. ومنها: ما قاله بعضهم: بأن عمل أهل المدينة على خلافه، ورد بما رواه النسائي من طريق أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أن سليمان بن عبد الملك لما حج جمع ناسا من أهل مكة منهم القاسم بن محمد وخارجة بن زيد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلهم أمروه به، فهؤلاء فقهاء أهل المدينة من التابعين قد اتفقوا على ذلك، فكيف يدعي مع ذلك العمل على خلافه؟ وفيه: الدلالة على حل الطيب وغيره من محرمات الإحرام بعد رمي جمرة العقبة، وقد ذكرناه عن قريب.
91
((باب من أهل ملبدا))
أي: هذا باب في بيان من أحرم حال كونه ملبدا. من: لبد شعره، بمعنى: جعل فيه شيئا نحو الصمغ ليجتمع شعره، لئلا يتشعث في الإحرام أو يقع فيه القمل.
0451 حدثنا أصبغ قال أخبرنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا.
.
مطابقته للترجمة هي عين متن الحديث.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: أصبغ، بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره غين معجمة: ابن الفرج أبو عبد الله مولى عبد العزيز بن مروان، وراق عبد الله بن وهب، مات سنة ست وعشرين ومائتين. الثاني: عبد الله بن وهب. الثالث: يونس بن يزيد. الرابع: محد بن مسلم بن شهاب الزهري.
الخامس: سالم بن عبد الله. السادس: أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: أن شيخة من أفراده وأنه وابن وهب مصريان، وأن يونس أيلي وابن شهاب وسالم مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن حبان بن موسى وأحمد بن محمد. وأخرجه مسلم فيه عن حرملة عن ابن وهب. وأخرجه أبو دأود فيه عن سليمان بن داود المهري. وأخرجه النسائي فيه عن أحمد بن عمرو
158

ابن السرح والحارث بن مسكين وعن عيسى بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجة عن أحمد بن عمرو مختصرا.
ذكر معناه: قوله: (أهل) من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية. قوله: (ملبدا) أي: حال كونه ملبدا رأسه. وفي رواية البخاري أيضا عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هدبي فلا أحل حتى أنحر). وروى أبو داود من حديث ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لبد رأسه بالعسل) ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال ابن الصلاح: يحتمل أن لفظ العسل، بالمهملتين، ويحتمل من حيث المعنى: إن الغسل، بكسر الغين المعجمة، وهو ما يغسل به الرأس من خطمي أو غيره. وقال بعضهم: ضبطناه في روايتنا من (سنن أبي داود) بالمهملتين. قلت: ليت شعري ممن ضبطه؟ وقد قال ابن الصلاح الرواية بالعين المهملة، لم تضبط، والعقل أيضا يشهد بلا إهمال. فافهم.
ومما يستفاد منه: أن الشافعي وأصحابه نصوا على استحباب التلبيد للرفق، وقال ابن بطال: قال جمهور العلماء: من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلق، كما فعل النبي، صلى الله عليه وسلم، وبذلك أمر الناس عمر وابنه، رضي الله تعالى عنهما، وهو قول مالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وكذا لو ضفر رأسه أو عقص شعره كان حكمه حكم التلبيد، وقال أبو حنيفة: من لبد رأسه أو ضفره فإن قصر ولم يحلق أجزأه، لما روي عن ابن عباس أنه كان يقول: (من لبد رأسه أو عقص أو ضفر فإن كان نوى الحلق فليحلق، وإن لم ينوه فإن شاء حلق وإن شاء قصر). فإن قلت: روى ابن عدي من حديث عبد الله بن رافع عن أبيه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لبد رأسه للإحرام فقد وجب عليه الحلق). قلت: عبد الله بن رافع ضعيف، وقال الدارقطني: ليس بالقوي. والله أعلم.
02
((باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة))
أي: هذا باب في بيان حكم الإهلال عند مسجد ذي الحليفة لمن أراد أن يحج من المدينة.
1451 حطثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا موسى بن عقبة قال سمعت سالم بن عبد الله قال سمعت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما (ح) وحدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه يقول ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يغني مسجد ذي الحليفة.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجال الطريقين قد ذكروا غير مرة، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، و موسى بن عقبة، بضم العين وسكون القاف.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحج، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك: عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: بيداؤكم: هذه التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد، يعني ذا الحليفة. قال: (و): حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا حاتم يعني: ابن إسماعيل عن موسى بن عقبة عن سالم قال: كان ابن عمر إذا قيل له الإحرام من البيداء قال: البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره، وأخرجه أبو داود فيه، وقال: حدثنا القعنبي عن مالك، نحو رواية مسلم عن، يحيى عن مالك. وأخرجه الترمذي فيه، وقال: حدثنا قتيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل... إلى آخره نحو رواية مسلم الثانية. وأخرج النسائي أيضا عن قتيبة نحوه، وقال الترمذي أيضا: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله، قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج أذن في الناس فاجتمعوا، فلما أتى البيداء أحرم وقال: حديث جابر حديث حسن صحيح. وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة في حديث طويل، قال الترمذي: وفي الباب عن: ابن عمر وأنس والمسور بن مخرمة. قلت: وفي الباب أيضا عن: سعد بن أبي وقاص وابن عباس.
159

فحديث أنس وأخرجه الستة، خلا ابن ماجة، من رواية محمد بن المنكدر عن أنس، في حديث له قال فيه: فلما ركب راحلته واستوت به أهل. ولأبي داود والنسائي من رواية الحسن، فلما أتى على جبل البيداء أهل، وروى ابن ماجة من رواية عبد الله بن عبيد بن عمير عن ثابت عن أنس في حديث: فلما استوت به ناقته، قال: لبيك بعمرة وحجة معا. وحديث المسور بن مخرمة أخرجه البخاري وأبو داود في قصة الحديبية، وفيه: فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها. وحديث سعد رواه أبو داود من طريق إسحاق عن أبي الزناد عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، قالت: قال سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته. وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء. وحديث ابن عباس، رواه مسلم من رواية أبي حسان الأعرج عنه، وفيه: ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج، وفي رواية الدارقطني من حديث ابن عباس: ثم قعد على بعيره، فلما استوى على البيداء أهل بالحج.
وعن هذا اختلف العلماء في الموضع الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: إنه أهل من مسجد ذي الحليفة. وقال آخرون: لم يهل إلا بعد أن
استوت به راحلته بعد خروجه من المسجد، وروى ذلك أيضا عن ابن عمر وأنس وابن عباس وجابر، وقال آخرون: بل أحرم حين أظل على البيداء. قال الطحاوي: وأنكر قوم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البيداء، روي ذلك عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه قال: ما أهل إلا من ذي الحليفة، قالوا: وإنما كان ذلك بعدما ركب راحلته، واحتجوا بما رواه ابن أبي ذئب عن الزهري عن نافع عن ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يهل إذا استوت به راحلته قائمة، وكان ابن عمر يفعله. قالوا: وينبغي أن يكون ذلك بعدما تنبعث به راحلته، واحتجوا بما رواه مالك عن المقبري عن عبيد بن جريج عن ابن عمر قال: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته قائمة. انتهى. قلت: أراد الطحاوي بقوله: وأنكر قوم الزهري وعبد الملك بن جريج وعبد الله بن وهب، فإنهم قالوا: ما أحرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا من عند المسجد. قال الطحاوي: فلما اختلفوا في ذلك أردنا أن ننظر من أين جاء اختلافهم، فروى سعيد بن جبير، قال قلت: لابن عباس: كيف اختلف الناس في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت طائفة: أهل في مصلاه، وقالت طائفة: حين استوت به راحلته، وقالت طائفة: حين علا البيداء؟ وساق بقية كلامه نحو ما ذكره أبو داود، ولفظه: عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: يا أبا العباس، عجبت لاختلاف الصحابة في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى في مسجد ذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظوه عنه، ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا شرف البيداء، وأيم الله، لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا شرف البيداء. قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول ابن عباس: أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه. وقال الطحاوي: فبين ابن عباس الوجه الذي جاء فيه اختلافهم، وأن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ابتدأ الحج ودخل فيه، كان في مصلاه، فبهذا نأخذ، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم. وقال الأوزاعي وعطاء وقتادة: المستحب الإحرام من البيداء. وقال البكري: البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، وفي أول البيداء بئر ماء.
12
((باب ما لا يلبس المحرم من الثياب))
أي: هذا باب في بيان ما لا يلبس المحرم، أي: ما لا يجوز لبسه للمحرم، سواء كان محرما بحج أو بعمرة، أو كان متمتعا أو قارنا. وقوله: (من الثياب)، بيان لما قبله.
2451 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر
160

رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (لا يلبس القميص...) إلى آخره، وهذا الحديث قد مر في آخر كتاب العلم في: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، فإنه أخرجه هناك: عن آدم عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم والمغايرة بينهما في بعض المتن، فإنه، صلى الله عليه وسلم، ذكر هذه الأشياء هناك بصيغة الإفراد، وذكر هنا بصيغة الجمع، وهناك: فإن لم يجد النعلين وهنا (ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين) وهناك: (وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين) وهنا: (أسفل من الكعبين) وليس هناك: ولا تلبسوا... إلى آخره. ولنتكلم هنا على ما لم يسبق فيما مضى.
فقوله: (قال يا رسول الله! ما يلبس المحرم) وسيأتي من طريق الليث عن نافع بلفظ: ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ وفي رواية النسائي من طريق عمر بن نافع عن أبيه: ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟ وهذا يدل على أن السؤال عن ذلك كان قبل الإحرام. وقد حكى الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري أن في رواية ابن جريج والليث عن نافع أن ذلك كان في المسجد. وأخرج البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب، ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء عن عبد الله بن عون، كلاهما عن نافع عن ابن عمر، قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بذلك المكان، وأشار نافع إلى مقدم المسجد، فذكر الحديث، وظهر من ذلك أنه كان في المدينة. فإن قلت: قد وقع في حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج أنهصلى الله عليه وسلم خطب بذلك في عرفات. قلت: يحمل على التعدد. قوله: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس...) إلى آخره. قال النووي: قالت العلماء: هذا من بديع الكلام وجزله، لأن ما لا يلبس منحصر، فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر، فحصل التصريح به، وأما الملبوس الجائز فغير منحصر فقال: (لا يلبس) كذا... أي: ويلبس ما سواه. وقال البيضاوي: سئل عما يلبس فأجاب بما لا يلبس، ليدل بالالتزام من طريق المفهوم على ما يجوز، وإنما عدل عن الجواب لأنه أخصر وأحصر. وقال الطيبي: ودليله أنه نبه بالقمص والسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان مخيطا أو معمولا على قدر البدن أو العضو كالجوشن والتبان وغيرهما، ونبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره، حتى العصابة فإنها حرام. ونبه بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس وجورب وغيرها. وقال ابن دقيق العيد: يستفاد منه
أن المعتبر في الجواب ما يحصل منه المقصود كيف كان، ولو بتغيير أو زيادة، ولا يشترط المطابقة، قوله ولا تشترط المطابقة. قلت: ليس على الإطلاق، بل الأصل اشتراطها ولكن ثم موضع يكون العدول عنها إلى غيره وهو الأهم كما في قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) ونحو ذلك. قوله: (ما يلبس المحرم؟) أي: الرجل المحرم، والدليل على اختصاص الحكم بالرجال توجيه الخطاب نحوهم بقوله: ولا تلبسوا. فإن قلت: واو الضمير يستعمل متنا، و: لا، للقبيلتين على التغليب. قلت: نعم، ولكن فيه اختصاص بالمذكرين، والدليل عليه في آخر حديث الليث الآتي في آخر الحج: (ولا تنتقب المرأة). قوله: (ولا يلبس)، خبر في معنى النهي. قوله: (القمص)، بضم القاف وسكون الميم وضمها جمع: قميص، ويجمع أيضا على أقمصة وقمصان. قوله: (والعمائم) جمع عمامة، يقال: اعتم بالعمامة وتعمم بها، والسراويلات جمع سراويل، والبرانس جمع برنس، وهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من ذراعه، أو جبة أو ممطر أو غيره. وقال الجوهري: هي قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، وهو من البرس، بكسر الباء، وهو القطن، والنون زائدة، وقيل: إنه غير عربي، والخفاف، بكسر الخاء: جمع خف. قوله: (إلا أحد)، المستثنى منه محذوف تقديره: لا يلبس المحرم الخفين إلا أحد لا يجد نعلين فإنه يلبس الخفين بشرط أن يقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين فيكون حينئذ كالنعلين. وقوله: (لا يجد نعلين) في محل الرفع لأنه صفة لأحد. قيل: فيه دليل على أن لفظ: أحد، يجوز استعماله في الإثبات خلافا لمن قال: لا يجوز ذلك إلا لضرورة الشعر، والمراد من قوله: (وليقطعهما أسفل
161

من الكعبين) كشف الكعبين في الإحرام، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة عن جرير عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: إذا اضطر المحرم إلى الخفين خرق ظهورهما وترك فيهما قدر ما يستمسك رجلاه. وقال بعضهم: وقال محمد بن الحسن ومن تبعه من الحنفية: الكعب هنا هو العظم الذي في وسط القدم عند معقد الشراك. وقيل: إن ذلك لا يعرف عند أهل اللغة. قلت: الذي قال: لا يعرف عند أهل اللغة، هو ابن بطال، والذي قاله هو لا يعرف، وكيف والإمام محمد بن الحسن إمام في اللغة والعربية؟ فمن أراد تحقيق صدق هذا فلينظر في مصنفه الذي وضعه على أوضاع يعجز عنه الفحول من العلماء والأساطين من المحققين، وهو الذي سماه (الجامع الكبير) والذي قاله هو الذي اختاره الأصمعي، قاله الإمام فخر الدين. قوله: (لا تلبسوا) يدخل فيه الإناث أيضا، ذكره ليشمل الذكور والإناث. قوله: (مسه الزعفران) جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنه صفة لقوله: (شيئا)، والزعفران اسم أعجمي، وقد صرفته العرب فقالوا: ثوب مزعفر، وقد زعفر ثوبه يزعفره زعفرة، ويجمع على: زعافر. وقال أبو حنيفة: لا أعلمه ينبت شيء منه من أرض العرب، والورس، بفتح الواو وسكون الراء وفي آخره سين مهملة، وقال أبو حنيفة: الورس يزرع بأرض اليمن زرعا، ولا يكون بغير اليمن، ولا يكون منه شيء بريا، ونباته مثل حب السمسم، فإذا جف عند إدراكه تفتق فينفض منه الورس ويزرع سنة فيجلس عشر سنين أن يقيم في الأرض ينبت ويثمر. وقال الجوهري: الورس نبت أصفر يكون باليمن يتخذ منه الغمرة للوجه، تقول منه: أورس المكان وورست الثوب توريسا: صبغته بالورس، وملحفة وريسة: صبغت بالورس. وقال ابن بيطار في (جامعه): يؤتى بالورس من الصين واليمن والهند وليس بنبات يزرع كما زعم من زعم، وهو يشبه زهر العصفر، ومنه شيء يشبه نشارة البابونج، ومنه شيء يشبه البنفسج، ويقال: إن الكركم عروقه.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه:
الأول: يحرم على المحرم لبس القميص، ونبه به في الحديث على كل مخيط من كل معمول على قدر البدن أو العضو، وذلك مثل الجبة والقفازين، وقال الترمذي: باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص أو جبة، ثم قال: حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا عبد الله بن إدريس عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن يعلى بن أمية. قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيا قد أحرم وعليه جبة، فأمره أن ينزعها. وفي بعض طرقه: قميص، بدل: الجبة، وهي رواية (الموطأ). وفي رواية مقطعات، وفي أخرى: أخلاق، والقصة واحدة، ولا يجب قطع القميص والجبة على المحرم إذا أراد نزعها، بل له أن ينزع ذلك من رأسه وإن أدى إلى الإحاطة برأسه، خلافا لمن قال: يشقه، وهو قول الشعبي والنخعي، ويروى ذلك أيضا عن الحسن وسعيد بن جبير، وذهب الجمهور إلى جواز نزع ذلك من الرأس، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، والحديث حجة لهم، ولو ارتدى بالقميص لا يضره.
الثاني: يحرم عليه السراويل ولا يجب عليه قطعه عند عدم الإزار، كما ورد في الخف، وبه قال أحمد، وهو الأصح عند أكثر الشافعية، قاله الرافعي. وقال إمام الحرمين والغزالي: إنه لا يجوز لبس السراويل إلا إذا لم يتأت فتقه وجعله إزارا، فإن تأتى ذلك لم يجز لبسه، فإن لبسه لزمه الفدية. قال الخطابي: ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يشق السراويل ويتزر به، وفي شرح الطحاوي، فإن لم يجد رداء فلا بأس أن يشق قميصه ويرتدي به، وإذا لم يجد الإزار فتق السراويل، فإن لبسه ولم يفتقه لزمه دم.
الثالث: لا يتعمم، قال الخطابي: ذكر العمامة والبرنس معا ليدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس، لا بالمعتاد ولا بالنادر. قال: ومن النادر المكتل يحمله على رأسه. قلت: مراده أن يجعله على رأسه كلبس القبع، ولا يلزم شيء بمجرد وضعه على رأسه كهيئة الحامل لحاجته، ولو انغمس في الماء لا يضره، فإنه لا يسمى لابسا، وكذا لو ستر رأسه بيده.
الرابع: الخفاف، الشرط في الخفين القطع، خلافا لأحمد فإنه أجاز ليس الخفين من غير قطع، وهو المشهور عنه، وحكى عن عطاء مثله. قال: لأن في قلعهما فسادا. قال الخطابي: يشبه أن يكون عطاء لم يبلغه حديث ابن عمر، وإنما الفساد أن يفعل ما نهت عنه الشريعة، فأما ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بفساد. قال: والعجب من أحمد في هذا فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه. وقلت: سنة لم تبلغه، ويشبه أن يكون إنما ذهب إلى حديث ابن عباس الآتي في أواخر الحج بلفظ: (
من لم يجد نعلين فليلبس خفين). قلت: أجابت الحنابلة عنه بأشياء: منها: دعوى النسخ في حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فإن البيهقي روى عن عمرو بن دينار، قال: لم يذكر ابن عباس
162

القطع، وقال ابن عمر: وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين، فلا أدري أي الحديثين نسخ الآخر. وروى الدارقطني عن عمرو قال: أنظروا أيهما قبل؟ حديث ابن عمر أو حديث ابن عباس؟ قال البيهقي: فحملهما عمرو بن دينار على نسخ أحدهما الآخر. قال البيهقي، وبين في رواية ابن عون وغيره عن نافع عن ابن عمر أن ذلك كان بالمدينة قبل الإحرام، وبين في رواية شعبة عن عمرو عن أبي الشعثاء، وجابر بن زيد عن ابن عباس أن ذلك كان بعرفة، وذلك بعد قصة ابن عمر، وأجاب الشافعي عن هذا في (الأم) فقال: كلاهما حافظ صادق، وزيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس لاحتمال أن يكون عزب عنه، أو شك فيه، فلم يؤده. وإما سكت عنه وإما أداه فلم يؤد عنه. ومنها: ما قالوا: منهم ابن الجوزي: إن حديث ابن عمر اختلف في وقفه ورفعه، وحديث ابن عباس لم يختلف في رفعه. وأجيب: عن هذا بأنه لم يختلف على ابن عمر في رفع الأمر بالقطع إلا في رواية شاذة، على أنه اختلف في حديث ابن عباس أيضا، فرواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ولا يشك أحد من المحدثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس، لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد، وصف بكونه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ، منهم: نافع وسالم: بخلاف حديث ابن عباس، فلم يأت مرفوعا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، حتى قال الأصيلي: إنه شيخ بصري لا يعرف. ومنها: أن بعضهم قاسوه على السراويل، ورد بأن القياس مع وجود النص فاسد الاعتبار. ومنها: أن بعضهم احتجوا بقول عطاء: إن القطع فساد، والله لا يحب الفساد. وقد أجيب: عنه بما ذكرناه عن قريب. ومنها: ما قاله ابن الجوزي: إن الأمر بالقطع يحمل على الإباحة لا على الاشتراط، عملا بالحديثين. وأجيب: بأنه تعسف، واستعمال اللفظ في غير موضعه، والأحسن في هذا أن يقال: إن حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قد ورد في بعض طرقه الصحيحة موافقته لحديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، في قطع الخفين، رواه النسائي في سننه، قال: أخبرنا إسماعيل بن مسعود، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا أيوب عن عمرو عن جابر بن زيد عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وهذا إسناد صحيح، وإسماعيل بن مسعود الجحدري وثقه أبو حاتم وغيره، وباقيهم رجال الصحيح، والزيادة من الثقة مقبولة على المذهب الصحيح.
الخامس: الزعفران والورس، وظاهر الحديث أنه لا يجوز لبس ما مسه الورس والزعفران، سواء انقطعت رائحته وذهب ردعه بحيث لا ينفض، أو مع بقاء ذلك. وفي (الموطأ) أن مالكا سئل عن ثوب مسه طيب ثم ذهب ريح الطيب منه، هل يحرم فيه؟ قال: نعم، لا بأس بذلك ما لم يكن فيه صباغ زعفران أو ورس. قال مالك: وإنما يكره لبس المشبعات لأنها تنفض، وذهب الشافعي إلى أنه إن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت الرائحة منه لم يجز استعماله، وحكى إمام الحرمين فيما إذا بقي اللون فقط وجهين مبنيين على الخلاف في أن مجرد اللون هل يعتبر؟ قال الرافعي: والصحيح أنه لا يعتبر، وقال أصحابنا: ما غسل من ذلك حتى صار لا ينفض فلا بأس بلبسه في الإحرام، وهو المنقول عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وطاووس وقتادة والنخعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ومعنى: لا ينفض، لا يتناثر صبغه. وقيل: لا يفوح ريحه، وهما منقولان عن محمد بن الحسن، والتعويل على زوال الرائحة، حتى لو كان لا يتناثر صبغه، ولكنه يفوح ريحه يمنع من ذلك، لأن ذلك دليل بقاء الطيب، إذ الطيب ما له رائحة طيبة. وقد روى الطحاوي عن فهد عن يحيى بن عبد الحميد عن أبي معاوية وعن ابن أبي عمران عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي عن أبي معاوية عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا ثوبا مسه ورس أو زعفران. يعني: في الإحرام، إلا أن يكون غسيلا). وأخرجه أبو عمر أيضا من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني. فإن قلت: ما حال هذه الزيادة؟ أعني قوله: إلا أن يكون غسيلا؟ قلت: صحيح، لأن رجاله ثقات، وروى هذه الزيادة أبو معاوية الضرير، وهو ثقة ثبت. فإن قلت: قال ابن خزم: ولا نعلمه صحيحا، وقال أحمد بن حنبل: أبو معاوية مضطرب الحديث في أحاديث عبيد الله، ولم يجيء أحد بهذه غيره؟ قلت: قال الطحاوي: قال ابن أبي عمران: رأيت يحيى بن معين وهو متعجب من الحماني إذ حدث بهذا الحديث، فقال عبد الرحمن بن صالح الأزدي: هذا
163

الحديث عندي، ثم وثب من فوره فجاء بأصله، فأخرج منه هذا الحديث عن أبي معاوية كما ذكره يحيى الحماني، فكتب عنه يحيى بن معين، وكفى لصحة هذا الحديث شهادة عبد الرحمن وكتابة يحيى بن معين ورواية أبي معاوية، وأما قول ابن حزم: ولا نعلمه صحيحا، فهي نفي لعلمه بصحته، فهذا لا يستلزم نفي صحة الحديث في علم غيره، فافهم. وقد روى أحمد، رحمه الله تعالى، في (مسنده) من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، حديثا يدل على جواز لبس المزعفر للمحرم إذا لم يكن فيه نفض ولا ردع.
ومما يستفاد من ظاهر الحديث: جواز لبس المزعفر والمورس لغير الرجل المحرم، لأنه قال ذلك في جواز السؤال عما يلبس المحرم، فدل على جوازه لغيره، فإن قلت: أخرج الشيخان من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل؟ قلت: قال شيخنا زين الدين، رحمه الله: الجمع بين الحديثين أنه يحتمل أن يقال: إن جواب سؤالهم انتهى عند قوله: أسفل من الكعبين، ثم استأنف بهذا لا تعلق له بالمسؤول عنه، فقال: ولا تلبسوا شيئا من الثياب... إلى آخره، ثم ذكر حكم المرأة المحرمة. انتهى. قلت: هذا الاحتمال فيه بعد، بل الأوجه أن المراد من النهي عن تزعفر الرجل أن يزعفر بدنه، فأما لبس الثوب المزعفر لغير المحرم فلا بأس به، والدليل على ذلك ما رواه النسائي من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزعفر الرجل جلده، وإسناده صحيح، والحديث الذي ينهي النهي عن مطلق التزعفر، ويحمل المطلق على المقيد الذي فيه بأن يزعفر الرجل جلده، ويؤيد ذلك ما ورد في جواز لبس الثياب المزعفرة
والمورسة للرجال، فيما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث قيس بن سعد، قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فوضعنا له ما يتبرد فاغتسل، ثم أتيته بملحفة صفراء فرأيت أثر الورس عليه، لفظ ابن ماجة. وروى أبو داود من حديث ابن عمر مرفوعا: كان يصبغ بالصفرة ثيابه كلها حتى عمامته، ورواه النسائي، وفي لفظ له: إن ابن عمر كان يصبغ ثيابه بالزعفران، فأصله في (الصحيح) ولفظه: أما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها. وجمع الخطابي بأن ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي، ووافقه البيهقي على هذا، فإن قلت: قد علم أن المحرم قد منع من لبس الثوب المصبوغ بالزعفران أو الورس، فما حكمه إذا توسد عليه أو نام؟ قلت: قال أبو يوسف في (الإملاء): لا ينبغي لمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران ولا الورس، ولا ينام عليه لأنه يصير مستعملا للطيب، فكان كاللبس، وقال شيخنا زين الدين: اختلف أهل العلم في الورس هل هو طيب أم لا؟ فذكر ابن العربي أنه ليس بطيب، فقال: والورس، وإن لم يكن طيبا فله رائحة طيبة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين تجنب الطيب المحض، وما يشبه الطيب في ملايمة الشم واستحسانه. وقال الرافعي: هو فيما يقال: أشهر طيب في بلاد اليمن، وفي كلام النووي أيضا ما يشعر أنه طيب. وقال الطيبي: نبه النبي صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران على ما في معناهما مما يقصد به الطيب فهي حرام على القبيلتين، فيكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب، وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البوادي كالشيخ والقيصوم وغيرهما فليس بحرام.
22
((باب الركوب والارتداف في الحج))
أي: هذا باب في بيان جواز الركوب والارتداف في الحج، والارتداف أن يركب الراكب خلفه آخر.
4451 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أسامة رضي الله تعالى عنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
(الحديث 3451 طرفه في: 6861).
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا. وعبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي المعروف بالمسندي وهو من أفراد البخاري، ووهب هو ابن جرير بن حازم يروي عن أبيه جرير، والزهري هو محمد مسلم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
164

مسعود أبو عبد الله الهزلي أحد الفقهاء السبعة، مات سنة ثمان وتسعين.
وأخرجه مسلم من حديث كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات... الحديث، وفيه: قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس عن الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة. وروى من حديث عطاء قال: أخبرني ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل من جمع، قال: فأخبرني ابن عباس أن الفضل أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
ذكر معناه: قوله: (ردف النبي صلى الله عليه وسلم) بكسر الراء وسكون الدال المهملة وفي آخره فاء، بمعنى: الرديف، وهو الذي يركب خلف الراكب، وكذلك الرديف، وهكذا في رواية أحمد. قوله: (من عرفة) أي: من عرفات، وهو اسم لموضع الوقوف. قوله: (إلى المزدلفة)، بلفظ الفاعل من الإزدلاف، وهو التقرب والتقدم لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها، أي: تقربوا منها وتقدموا إليها، وسميت بذلك لمجيء الناس في زلف من الليل، وهو موضع بحرم مكة. قوله: (الفضل) هو ابن عباس بن عبد المطلب. قوله: (فكلاهما) أي: أسامة والفضل. قوله: (حتى رمى جمرة العقبة)، أي: إلى أن رمى جمرة العقبة، وهي حد منى من الجانب الغربي من جهة مكة. ويقال له أيضا: الجمرة الكبرى، والجمرة والحصاة، وهنا اسم لمجتمع الحصى.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن الحج راكبا أفضل، وقد مر الخلاف فيه في: باب الحج على الرجل. وفيه: إرداف العالم. وفيه: التواضع بالإرداف للرجل الكبير والسلطان الجليل. وفيه: حجة لأبي حنيفة وصاحبيه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود بن علي وأبي عبيد والطبري في قولهم: يلبي الحاج ولا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وهو المنقول أيضا عن عطاء بن أبي رباح وطاووس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن حي، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وميمونة، رضي الله تعالى عنهم. ثم اختلف بعض هؤلاء، فقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها من جمرة العقبة. وقال أحمد وإسحاق وطائفة من أهل النظر والأثر: لا يقطعها حتى يرمي جمرة العقبة بأسرها، قالوا: وهو ظاهر الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) ولم يقل: حتى رمى بعضها. قلت: روى البيهقي من حديث شريك عن عامر بن شقيق عن أبي وائل (عن عبد الله: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة). فإن قلت: أخرج ابن خزيمة في (صحيحه): عن الفضل بن عباس قال: (أفضت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة). قلت: قال البيهقي: هذه زيادة غريبة ليست في الروايات عن الفضل، وإن كان ابن خزيمة قد اختارها. وقال الذهبي: فيه نكارة. وقوله: (يكبر مع كل حصاة)، يدل على أنه قطع التلبية مع آخر حصاة. وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن أبي بكر الثقفي ومالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة: (الحاج لا يلبي فيعرفة بل يكبر ويهلل). وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله.
ثم اختلفوا متى يقطع التلبية؟ فقال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك أصحابه: يقطعها إذا توجه إلى عرفات، وروي نحو ذلك عن عثمان وعائشة، وروي عنهما خلاف ذلك، فقال الزهري والسائب بن يزيد وسليمان بن يسار وابن المسيب في رواية: (يقطعها حين يقف بعرفات)، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، واحتج هؤلاء بحديث أسامة بن زيد، أخرجه الطحاوي عنه أنه قال: (كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فكان لا يزيد على التكبير والتهليل، وكان إذا وجد فجوة نص). قوله: (فجوة)، بفتح الفاء وضمها: وهي ما اتسع من الأرض وقد روى في (الموطأ): فرجة. قوله: (نص)، أي: رفع في سيره وأسرع، والنص منتهى الغاية في كل شيء، قاله في (المطالع) وفي رواية أحمد: (فإذا التحم عليه الناس أعنق، وإذا وجد فرجة نص). قوله: (أعتق)، من العنق وهو: السير اليسير الذي تمد فيه الدابة عنقها للاستعانة، وهو دون الإسراع. وأجيب: بأن ذلك لا يدل على نفي التلبية وخروج وقتها، وقوله: لا يزيد على التكبير والتهليل، يعني: الزيادة من جنسها.
165

32
((باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر))
أي: هذا باب في بيان ما يلبس ولما بين ما لا يلبس، شرع في بيان ما يلبس، وكلمة: ما، يجوز أن تكون موصولة أي: باب في بيان الشيء الذي يلبس المحرم، ويجوز أن تكون مصدرية أي: في بيان لبس المحرم، وكلمة: من، في: من الثياب، بيانية وهو جمع ثوب، والأردية جمع رداء، والأزر بضم الهمزة والزاي جمع إزار، ويجوز تسكين الزاي وضمها اتباعا للهمزة، والرداء للنصف الأعلى، والإزار للنصف الأسفل، وعطف الأربعة على الثياب من باب عطف الخاص على العام.
ولبست عائشة رضي الله تعالى عنها الثياب المعصفرة وهي محرمة وقالت لا تلثم ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران
مطابقته للترجمة في صدر هذا التعليق أعني قوله: (ولبست عائشة الثياب المعصفرة) أي: المعصفرة أي: المصبوغة بالعصفر. قوله: (وهي محرمة) جملة اسمية وقعت حالا، ووصل هذا التعليق سعيد بن المنصور من طريق القاسم بن محمد، قال: (كانت عائشة تلبس المعصفرة). وأخرج البيهقي من طريق ابن أبي مليكة: (أن عائشة كانت تلبس الثياب المورد بالعصفر الخفيف وهي محرمة) وقيل: الثوب المورد: المصبوغ بالورد. قوله: (وقالت) أي: عائشة: لا تلثم، بتاء مثناة واحدة وفتح اللام وتشديد الثاء المثلثة، وأصله: تتلثم، فحذفت إحدى التاءين كما في: تلظى، وفي رواية أبي ذر: لا تلتثم، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون اللام وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الثاء المثلثة: من الالتثام، من باب الافتعال، والأول من باب التفعل، وسقط هذا من الأصل في رواية الحموي، وكلاهما من اللثام، وهو ما يغطي الشفة. والمعنى ههنا: لا تغطي المرأة شفتها بثوب. قوله: (ولا تتبرقع) أي: ولا تلبس البرقع، بضم الباء وسكون الراء وضم القاف وفتحها، وهو ما يغطي الوجه. وعن الحسن وعطاء مثل ما روي عن عائشة، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفة) عن عبد الأعلى عن هشام عن الحسن وعطاء، قالا: لا تلبس المحرمة القفازين والسراويل ولا تبرقع ولا تلثم وتلبس ما شاءت من الثياب إلا ثوبا ينفض عليها ورسا أو زعفرانا. قوله: (ولا تلبس ثوبا بورس وزعفران) أي: مصبوغا بورس وزعفران، وقد روى أبو داود من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مسه الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو قميص أو سراويل.
وقال جابر: لا أرى المعصف طيبا
أي: قال جابر بن عبد الله الصحابي: أي: لا أراه مطيبا لأنه لا يصح أن يكون المفعول الثاني معنى، والأول عينا، ووصل هذا التعليق الشافعي، ومسدد بلفظ: (لا تلبس المرأة ثياب الطيب، ولا أرى المعصفر طيبا).
ولم تر عائشة بأسا بالحلي والثوب الأسود والمودد والخف للمرأة
الحلي، بضم الحاء وكسر اللام، جمع الحلى. والثوب المورد المصبوغ بالورد، يعني: على لون الورد، وروى البيهقي من طريق ابن باباه المكي أن امرأة سألت عائشة: ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة: تلبس من خزها وبزها وأصباغها وحليها. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف وإن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها تسدل عليه الثوب سدلاف خفيفا تستتر به عن نظر الرجال، ولا تخمره إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما. تعني: جدتها. قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلا كما جاء عن عائشة، قالت: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا مر بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوز رفعنا. قلت: فيما أخرجه الجماعة: ولا تنتقب المرأة المحرمة فيه دليل على أنه يحرم على المرأة ستر وجهها في الإحرام. وقال المحب الطبري: مفهومه يدل على إباحة تغطية الوجه للرجل وإلا لما كان في التقييد بالمرأة فائدة. قلت: قد ذهب إلى جواز تغطية الرجل المحرم وجهه عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن
166

الحكم ومجاهد وطاووس، وإليه ذهب الشافعي وجمهور أهل العلم، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى المنع من ذلك، واحتجا بحديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته، فقال صلى الله عليه وسلم لا تخمروا وجهه ولا رأسه، رواه مسلم، ورواه النسائي بلفظ: وكفنوه في ثوبين خارجا وجهه ورأسه. وقال ابن العربي: وهذا أمر فيه خفاء على الخلق وليسوا على الحق. قال: ولقد رأيت بعض أصحابنا من أهل العلم ممن يتعاطى الفقه والحديث يبني المسألة على أن الوجه من الرأس أم لا؟ فعجبت لضلالته عن دلالته ونسيانه لصنعته، وقال شيخنا زين الدين: لا أدري ما وجه إنكاره على من بنى المسألة على ذلك، وما قاله واضح في قول ابن عمر الذي رواه مالك، وقد جاء عن عطاء بن أبي رباح التفرقة بين أعلى الوجه وأسفله، فروى سعيد بن منصور في (سننه) بإسناده إليه قال: يغطي المحرم وجهه ما دون الحاجبين، وفي
رواية له: ما دون عينيه، ويحتمل أن يريد بذلك الاحتياط لكشف الرأس، ولكن هذا أمر زائد على الاحتياط لذلك، والاحتياط يحصل بدون ذلك.
وقال إبراهيم لا بأس أن يبدل ثيابه
أي: إبراهيم النخعي، ووصله أبو بكر، قال: حدثنا جرير عن مغيرة بن شعبة عن إبراهيم قال: يغير المحرم ثيابه ما شاء بعد أن يلبس ثياب المحرم، قال: وحدثنا إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال: غير النبي، صلى الله عليه وسلم، ثوبيه بالتنعيم. وحدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم ويونس عن الحسن وحجاج عن عبد الملك وعطاء أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه، وكذا قاله طاووس وسعيد بن جبير، سئل: أيبيع المحرم ثيابه؟ قال: نعم. وقال ابن التين: مذهب مالك وأصحابه أنه يجوز له الترك للباس الثوب، ويجوز له بيعه. وقال سحنون: لا يجوز له ذلك لأنه يعرض القمل للقتل بالبيع.
5451 حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال حدثنا فضيل بن سليمان قال حدثني موسى بن عقبة قال أخبرني كريب عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه وقلد بدنته وذالك لخمس بقين من ذي القعدة فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يحل من أجل بدنه لأنه قلدها ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون وهو مهل بالحج ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا وذالك لمن لم يكن معه بدنة قلدها ومن كانت معه امرأته فهي له حلال والطيب والثياب.
مطابقته للترجمة قوله: (فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس).
ورجاله قد ذكروا، والمقدمي، بتشديد الدال المفتوحة، وفضيل مصغر فضل، وهذا الحديث من أفراد البخاري، ورواه مختصرا أيضا.
ذكر معناه: قوله: (ترجل) أي: سرح شعره. قوله: (وادهن) أي: استعمل الدهن، وأصله: ادتهن، لأنه من باب الافتعال، فأبدلت الدال من التاء وأدغمت الدال في الدال. قوله: (هو)، ضمير فصل. قوله: (تردع)، بالراء والدال المهملتين أي: تلطخ الجلد، يقال: تردع إذا التطخ، والردع أثر الطيب، وردع به الطيب إذا لزق بجلده، وقال ابن بطال: وقد روي: ترذع، بالذال المعجمة، من قولهم: أرذعت الأرض أي: كثرت منافع المياه فيها، والرذع بالمعجمة الطين. قوله: (التي تردع على الجلد)، هكذا وقع في الأصل. وقال
167

ابن الجوزي: الصواب حذف على. قوله: (فأصبح بذي الحليفة) أي: وصل إليها نهارا فبات بها، كما سيأتي صريحا في الباب الذي بعده من حديث أنس، رضي الله تعالى عنه. قوله: (بدنته) قال الجوهري هي: ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، والجمع بدن بالضم، وقال الأزهري: تكون البدنة من الإبل والبقر والغنم، وقال النووي: هي البعير ذكرا كان أو أنثى بشرط أن يكون في سن الأضحية، وهي التي استكملت خمس سنين. قوله: (فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته)، وفي (صحيح مسلم) عنه أنه صلى الله عليه وسلم (صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم وقلدها بنعلين، ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج). وقال ابن حزم: فهذا ابن عباس يذكر أنه صلى الظهر في ذي الحليفة، وأنس يذكر أنه صلاها بالمدينة، وكلا الطريقين في غاية الصحة، وأنس، رضي الله تعالى عنه، أثبت في هذا المكان لأنه ذكر أنه حضر ذلك بقوله: صلى الظهر بالمدينة، ثم إن ابن عباس لم يذكر حضورا فيها أنها كانت يوم خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، إنما عنى به اليوم الثاني، فلا تعارض. وعند النسائي: عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم (صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء، وأهل بالحج والعمرة). ولا تعارض، فإن البيداء وذا الحليفة متصلتان بعضهما مع بعض، فصلى الظهر في آخر ذي الحليفة وهو أول البيداء. قوله: (وذلك لخمس بقين من ذي القعدة)، ذلك إشارة إلى المذكور من ركوبه صلى الله عليه وسلم راحلته واستوائه على البيداء وإهلاله وتقليده بدنته لخمس بقين من ذي القعدة، وهو بكسر القاف وفتحها، وكذا في ذي الحجة بكسر الحاء وفتحها، والفتح هنا أشهر. وقال صاحب (التلويح) قوله: وذلك لخمس بقين من ذي القعدة يحتمل أنه أراد الخروج، ويحتمل الإهلال، فأردنا أن نعرف أيهما أراد، فوجدنا عائشة روت في صحيح مسلم: (خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لخمس بقين من ذي القعدة). وفي الإكليل من حديث الواقدي عن ابن أبي سبرة عن سعيد بن محمد بن جبير عن أبيه محمد بن جبير بن مطعم أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم (من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة عشر، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين) وزعم ابن حزم أنه: (خرح صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة نهارا بعد أن تغدى وصلى الظهر بالمدينة، وصلى العصر من ذلك اليوم بذي الحليفة، وبات بذي الحليفة ليلة الجمعة، وطاف على نسائه ثم اغتسل ثم صلى بها الصبح، ثم طيبته عائشة ثم أحرم ولم يغسل الطيب، وأهل حين انبعثت به راحلته من عند مسجد ذي الحليفة بالقرآن: العمرة والحج معا، وذلك قبل الظهر بيسير، ثم لبى ثم نهض وصلى الظهر بالبيداء، ثم تمادى واستهل هلال ذي الحجة. قال: فإن قلت: كيف قال: إنه خرج من المدينة لست بقين من ذي القعدة، وقد ذكر مسلم من حديث عمرة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج؟ قلت: قد ذكر مسلم أيضا من طريق عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، موافين لهلال ذي الحجة، فلما اضطربت الرواية عنها رجعنا إلى من لم تضطرب الرواية عنه في ذلك، وهما: عمر بن الخطاب وابن عباس، فوجدنا ابن عباس ذكر أن اندفاع النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة بعد أن بات بها كان لخمس بقين من ذي القعدة، وذكر عمر، رضي الله تعالى عنه، أن يوم عرفة كان يوم الجمعة في ذلك العام، فوجب أن استهلال ذي الحجة كان ليلة يوم الخميس، وأن آخر يوم من ذي القعدة كان يوم الأربعاء، فصح أن خروجه كان يوم الخميس لست بقين من ذي الحجة، ويزيده وضوحا حديث أنس، رضي الله
تعالى عنه: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فلو كان خروجه لخمس بقين لذي القعدة لكان بلا شك يوم الجمعة، والجمعة لا تصلى أربعا، فصح أن ذلك كان يوم الخميس. وعلمنا أن معنى قول عائشة: لخمس بقين من ذي القعدة، إنما عنت اندفاعه صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة، فلم تعد المرحلة القريبة، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر لم يخرج إلا يوم الخميس، فبطل خروجه يوم الجمعة، وبطل أن يكون يوم السبت، لأنه كان يكون حينئذ خارجا من المدينة لأربع بقين من ذي القعدة، وصح أن خروجه كان لست بقين، واندفاعه من ذي الحليفة لخمس بقين من ذي القعدة، وتألفت الروايات. قوله: (فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة) قال الواقدي: حدثنا أفلح بن حميد عن أبيه عن ابن عمر أن هلال ذي الحجة كان ليلة الخميس، اليوم الثامن من يوم خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، ونزل بذي طوى، فبات
168

بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة، وصلى الصبح بها، ودخل مكة نهارا من أعلاها صبيحة يوم الأحد. قوله: (ولم يحل) أي: لم يصر حلالا، إذ لا يجوز لصاحب الهدي أن يتحلل حتى يبلغ الهدى محله. قوله: (الحجون)، بفتح الحاء المهملة وضم الجيم على وزن فعول: موضع بمكة عند المحصب، وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذي يلي شعب الجزارين إلى ما بين الحوضين اللذين في حائط عوف، وهو مقبرة أهل مكة، وهو من البيت على ميل ونصف. قوله: (ولم يقرب الكعبة)، لعله منعه الشغل عن ذلك، وإلا فله أن يتطوع بالطواف ما شاء. قوله: (وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت)، يعني الذي لم يسوقوا الهدي، لأنه قال ذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، قوله: (ثم يقصروا)، بالتشديد، والتقصير هنا لأجل أن يلحقوا بمنى. قوله: (ثم يحلوا)، وذلك لأنهم كانوا متمتعين، ولم يكن معهم الهدي، فلهذا حل لهم النساء والطيب وسائر المحرمات. قوله: (وذلك) إشارة إلى قوله: ثم يحل قوله: (والطيب)، مرفوع على أنه مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: والطيب حلال له. قوله: (والثياب)، عطف عليه أي: والثياب كذلك حلال لهم.
ومما يستفاد منه: أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا لأنه جمع بين العمرة والحج في سفرة واحدة، وهو صفة القرآن، وأنه أفضل من الإفراد والتمتع، وسنحرر البحث في ذلك فيما يأتي، إن شاء الله تعالى.
42
((باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح))
أي: هذا باب في بيان أمر من بات بذي الحليفة حتى أصبح إذا كان حجة من المدينة، لأن ميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، ومراده من هذه الترجمة مشروعية المبيت بالميقات، وأنه إذا بات فيه لا يكون فيه تأخير الإحرام، ولا يشبه بمن يتجاوز بغير إحرام.
قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال عبد الله بن عمر: أمر البيتوتة في ذي الحليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأشار به إلى ما تقدم في: باب خروج النبي صلى الله عليه وسلم على طريق الشجرة، وفيه صلى بذي الحليفة ببطن الوادي، وبات حتى يصبح.
6451 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا ابن جريج قال حدثنا محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم بات حتى أصبح) أي: ثم بات بذي الحليفة، إلى أن أصبح.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا، وعبد الله ابن محمد المعروف بالمسندي، وهشام بن يوسف أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج، ومحمد بن المنكدر، بلفظ الفاعل من الإنكدار، ابن عبد الله أبو بكر، ويقال: أبو عبد الله.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع في نسخة وفي أخرى بصيغة الجمع، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه بخاري، وهشام يماني صنعاني وابن جريج مكي، ومحمد بن المنكدر مدني. وفيه: حدثنا محمد بن المنكدر، أو حدثني محمد بن المنكدر، كما ذكرنا. هكذا رواه الحفاظ من أصحاب ابن جريج عنه، وخالفهم عيسى بن يونس فقال: عن ابن جريج عن الزهري عن أنس، وقد توهم في ذكر الزهري، والصحيح أنه من رواية ابن جريج عن ابن المنكدر، قاله الدارقطني في (علله) وقال المزي: أخرجه أبو داود في الصلاة، والصواب أنه في الحج رواه عن أحمد بن حنبل عن محمد بن بكر عن ابن جريج.
ذكر معناه: قوله: (أربعا) أي: أربع ركعات، وهي صلاة الظهر.. قوله: (ركعتين) أي: وصلى بذي الحليفة ركعتين وهما صلاة العصر على سبيل القصر، لأنه كان منشأ للسفر، وذلك كان في صلاة العصر. قوله: (ثم بات) أي: بذي الحليفة حتى أصبح أي
169

حتى دخل في الصباح. قوله: (أهل) أي: رفع صوته بالإهلال، ثم اعلم أن هذا المبيت ليس من سنن الحج، وإنما هو من جهو الرفق بأمته ليلحق به من تأخر عنه في السير، ويدركه من لم يمكنه الخروج معه، وأما قصر صلاة العصر فلأنه كان مسافرا، وإن لم يبلغ إلى موضع المشقة منه، فإذا خرج عن مصره قصر، وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أحرم إثر المكتوبة لأنه إذا صلى الصبح لم يركع بعدها للإحرام لأنه وقت كراهة.
7451 حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا
وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين قال وأحسبه بات حتى أصبح.
.
هذا طريق آخر عن قتيبة بن سعيد عن عبد الوهاب بن عبد المجيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة، بكسر القاف: عبد الله بن زيد الجرمي عن أنس. وأخرجه مسلم والنسائي على هذا. قوله: قال: وأحسبه أي: قال أبو قلابة: وأحسبه، الشك من أبي قلابة، ورواية محمد بن المنكدر الماضية عقيب هذا بغير شك، وسيأتي من طريق أبي أيوب بأتم من هذا.
52
((باب رفع الصوت بالإهلال
((
أي: هذا باب في بيان رفع الصوت بالإهلال أي التلبية، وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به.
52
((باب رفع الصوت بالإهلال
((
أي: هذا باب في بيان رفع الصوت بالإهلال أي التلبية، وكل رافع صوته بشيء فهو مهل به.
8451 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا.
.
هذا طريق آخر مع زيادة فيه، وفي قوله: (وسمعتهم يصرخون) أي: يرفعون أصواتهم بهما، أي: بالحج والعمرة.
وفيه: دليل على أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان قارنا. وأنه أفضل من التمتع والإفراد. وقال المهلب: إنما سمع أنس من قرن خاصة، وليس في حديثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرخ بها، وإنما أخبر بذلك عن قوم. وقد يمكن أن يسمع قوما يصرخون بحج وقوما يصرخون بعمرة. قلت: هذا تحكم وخروج عما يقتضيه الكلام، فإن الضمير في: يصرخون، يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه، والباء في: بهما، يتعلق: بيصرخون، فكيف يفرق مرجع الضمير إلى بعضهم بشيء، وإلى الآخرين بشيء غير ذلك؟ ولو لم يكن الصراخ بهما عن الكل لكان أنس فرقه، وبين من يصرخ بالحج ومن يصرخ بعمرة ومن يصرخ بهما، لأنه في صدد الإخبار بصورته التي وقعت. وقال الكرماني أيضا: يحتمل أن يكون على سبيل التوزيع بأن يكون بعضهم صارخا بالحج، وبعضهم بالعمرة، وكل هذا التعسف منهما أن لا يكون الحديث حجة عليهما، ومع هذا هو حجة عليهما وعلى كل من كان في مذهبهما، ولا يوجد في الرد عليهم أقوى من قوله صلى الله عليه وسلم: لبيك بحجة وعمرة معا، كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
وفيه: حجة للجمهور في استحباب رفع الأصوات بالتلبية، وقد جاءت أحاديث في رفع الصوت بالتلبية. منها: حديث خلاد بن السائب، رواه الأربعة، فأبو داود من طريق مالك عن عبد الله ابن أبي بكر والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة، كما رواه الترمذي، وقال: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام عن خلاد بن السائب عن أبيه، قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل، عليه السلام، فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية. ومنها: حديث زيد بن خالد، أخرجه ابن ماجة ولفظه: (جاءني جبريل، فقال: يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعائر الحج). ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد في (مسنده)
170

ولفظه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرني جبريل، عليه السلام، برفع الصوت بالإهلال، وقال: إنه من شعائر الحج)، ورواه البيهقي أيضا. ومنها: حديث ابن عباس أخرجه أحمد أيضاعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال: إن جبريل، عليه السلام، أتاني فأمرني أن أعلن بالتلبية). ومنها: حديث جابر، أخرجه سعيد بن منصور في (سننه) من رواية أبي الزبير عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة أصوات يباهي الله، عز وجل، بهن الملائكة: الأذان، والتكبير في سبيل الله، ورفع الصوت بالتلبية). وقال المحب الطبري، غريب من حديث أبي الزبير عن جابر. ومنها: حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخرجه البيهقي عنها، قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغنا الروحاء حتى سمعنا عامة الناس وقد بحت أصواتهم). ومنها: حديث أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، أخرجه الترمذي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سئل: أي الحج أفضل؟ قال: العج والثج)، العج بالعين المهملة رفع الصوت بالتلبية، وقد عج يعج عجا فهو عاج وعجاج، والثج، بفتح الثاء المثلثة: سيلان دم الأضاحي، يقال ثجه يثجه ثجا. ومنها: حديث سهل بن سعد أخرجه الحاكم عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى منقطع الأرض من هنا وهنا، يعني: عن يمينه وشماله). وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وروى ابن أبي شيبة من حديث المطلب بن عبد الله. قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تثج أصواتهم) وقال عبد الله بن عمر: (إرفعوا أصواتكم بالتلبية) وعن ابن الزبير مثله. وقال ابن بطال: رفع الصوت بالتلبية مستحب، وبه قال أبو حنيفة
والثوري والشافعي، واختلفت الرواية عن مالك، ففي رواية ابن القاسم: لا ترفع الأصوات بالتلبية إلا في المسجد الحرام ومسجد منى وقال الشافعي في قوله القديم لا يرفع الصوت بالتلبية في مساجد الجماعات إلا المسجد الحرام ومسجد منى ومسجد عرفة. وقوله الجديد: استحبابه مطلقا وفي (التوضيح): وعندنا أن التلبية المقترنة بالإحرام لا يجهر بها، صرح به الجويني من أصحابنا.
وأجمعوا أن المرأة لا ترفع صوتها بالتلبية، وإنما عليها أن تسمع نفسها كأنهم لمحوا ما رواه ابن أبي شيبة عن معن عن إبراهيم بن أبي حبيبة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية، ومن حديث أبي الجويرية عن حماد عن إبراهيم مثله، وعن عطاء كذلك، ومن حديث عدي ابن أبي عيسى عن نافع عن ابن عمر: ليس على النساء أن يرفعن أصواتهن بالتلبية، لكن يعارضه ما رواه بسند كالشمس: عن ابن مهدي عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، قال: خرج معاوية ليلة النفر فسمع صوت تلبية، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة اعتمرت من التنعيم، فذكرت ذلك لعائشة، فقالت: لو سألني لأخبرته. وعند وكيع: حدثنا إبراهيم بن نافع، قال: قدمت امرأة أعجمية فخرجت مع الناس ولم تهل، إلا أنها كانت تذكر الله تعالى، فقال عطاء: لا يجزيها. وفي (الأشراف) لابن المنذر: وقد روينا عن ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها كانت تجهر بالتلبية، واستدل بعضهم على جواز رفع المرأة صوتها بالإهلال بحديث رواه ابن حزم من طريق أبي سعيد بن الأعرابي عن زينب الأحمسية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها، في امرأة حجت معها مصمتة: قولي لها تتكلم، فإنه لا حج لمن لا يتكلم، وليس فيه دليل لأمرين: الأول: لا تعرض فيه للتلبية. الثاني: قال ابن القطان: ليس هو خبرا، إنما هو أثر عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك فيه مجهولان، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالإهلال، ولا بد وهو فرض ولو مرة، واستدل بحديث خلاد ابن السائب المذكور. قال: وفيه أمر، والأمر للوجوب. وفي (التوضيح): قام الإجماع على مشروعية التلبية، وفيه مذاهب أحدها: أنها سنة، قاله الشافعي والحسن بن حي. الثاني: أنها واجبة يجب بتركها دم. قاله أصحاب مالك لأنها نسك، ومن ترك نسكا أراق دما. الثالث: أنها من شروط الإحرام، لا يصح إلا بها، قاله الثوري وأبو حنيفة، قال أبو حنيفة: لا يكون محرما حتى يلبي ويذكر ويسوق هديه، قالا: كالتكبير للصلاة، لأن ابن عباس قال: * (فمن فرض فيهن الحج) * (البقرة: 791). قال: الإهلال، وعن عطاء وعكرمة وطاووس: هو التلبية. قال: وعندنا قول: إنه لا ينعقد إلا بها، لكن يقوم مقامها سوق الهدي والتقيد والتوجه معه، وفيه رد لقول أهل الظاهر في إجازتهم تقصير الصلاة في مقدار ما بين المدينة وذي الحليفة، وفي أقل من ذلك لأنه إنما قصرها لأنه كان خارجا إلى مكة، فلذلك قصرها بها.
171

62
((باب التلبية))
أي: هذا باب في بيان كيفية التلبية، وهي مصدر من لبى يلبي، وأصله: لبب على وزن: فعلل، لا: فعل، فقلبت الباء الثالثة ياء استثقالا لثلاث ياءات، ثم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. وقال صاحب (التلويح): وقولهم لبى يلبي، مشتق من لفظ: لبيك، كما قالوا: حمدل وحوقل. قلت: هذا ليس بصحيح، وإنما الصحيح الذي تقتضيه القواعد التصريفية أن لفظ: لبى، مشتق من لفظ: التلبية، وقياس ذلك على: حمدل وحوقل، في غاية البعد من القاعدة، لأن حمدل، لفظة مبنية من: الحمد لله، وحوقل من: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقيل فيه: حولق، بتقديم اللام على القاف، ومعنى التلبية الإجابة، فإذا قال الرجل لمن دعاه: لبيك، فمعناه أجبت لك فيما قلت: واختلف في لفظ: لبيك، ومعناه. أما لفظه فتثنية عند سيبويه يراد بها التكثير في العدد والعود مرة بعد مرة، لا أنها لحقيقة التثنية بحيث لا يتناول إلا فردين! وقال يونس: هو مفرد، والياء فيه كالياء في: لديك وعليك وإليك، يعني في انقلابها ياء، لاتصالها بالضمير. وأما معناه فقيل: معناه إجابة بعد إجابة أو إجابة لازمة. قال ابن الأنباري: ومثله: حنانيك، أي تحننا بعد تحنن، وقيل: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة من ألب بالمكان كذا، ولب به إذا أقام به ولزمه. وقيل: معناه إتجاهي إليك من قولهم داري تلب بدارك، أي: تواجهها. وقيل: محبتي لك من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لزوجها أو عاطفة على ولدها. وقيل: معناه إخلاصي لك، من قولهم: حسب لباب، أي: خالص. وقيل: قربا منك من الإلباب وهو القرب. وقيل: خاضعا لك، والأول منها أظهر وأشهر، لأن المحرم مجيب لدعاء الله إياه في حج بيته، وعن الفراء: لبيك، منصوب على المصدر، وأصله لبا لك، فثنى للتأكيد أي إلبابا بعد إلباب، وقال عياض: وهذه إجابة لإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج) * (الحج: 72). والداعي هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما دعى الناس إلى الحج على جبل أبي قبيس، وعلى حجر المقام. وقيل: عند ثنية كداء، وزعم ابن حزم أن التلبية شريعة أمر الله بها لا علة لها إلا قوله تعالى: * (وليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (هود: 7، الملك: 2).
9451 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها في كيفية التلبية، وهذه التي رواها ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، هي كيفية التلبية، ولم يتعرض البخاري لحكم التلبية، وفيها أقوال على ما نذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى.
والحديث أخرجه مسلم في الحج أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن مالك، والكلام فيه على وجوه.
الأول: في معناه قوله: (لبيك اللهم)، يعني: يا الله أجبناك فيما دعوتنا. وقيل: إنها إجابة للخليل، عليه الصلاة والسلام، كما ذكرناه، وقد روى ابن أبي حاتم من
طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: (لما فرغ إبراهيم، عليه السلام من بناء البيت، قيل له: * (وأذن في الناس بالحج) * (الحج: 72). قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ. قال: فنادى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون)؟ ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: وفيه: (وأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم صلى الله عليه وسلم يومئذ). قوله: (إن الحمد) روى بكسر الهمزة وفتحها، أما وجه الكسر فعلى الاستئناف، وهو ابتداء كلام، كأنه لما قال: لبيك، استأنف كلاما آخر فقال: إن الحمد والنعمة لك، وهو الذي اختاره محمد بن الحسن والكسائي، رحمهما الله تعالى. وأما وجه الفتح فعلى التعليل كأنه يقول: أجبتك، لأن الحمد والنعمة لك، والكسر أجود عند الجمهور، قال ثعلب: لأن من كسر جعل معناه: إن الحمد لك على كل حال، ومن فتح قال: معناه، لبيك لهذا السبب. وقال الخطابي: لهج العامة بالفتح، وحكاه الزمخشري عن الشافعي، وقال ابن عبد البر:
172

المعنى عندي واحد، لأن من فتح أراد لبيك لأن الحمد لك على كل حال، واعترض عليه لأن التقييد ليس في الحمد، وإنما هو في التلبية. وقال ابن دقيق العيد: الكسر أجود لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة، وأن الحمد والنعمة لله على كل حال، والفتح يدل على التعليل، فكأنه يقول: أجبتك لهذا السبب، والأول أعم وأكثر فائدة. قوله: (والنعمة لك) المشهور فيه النصب، قال عياض: ويجوز فيه الرفع على الابتداء، ويكون الخبر محذوفا، والتقدير أن الحمد لك والنعمة مستقرة لك، نقله عن ابن الأنباري. قوله: (والملك)، أيضا بالنصب على المشهور، ويجوز الرفع وتقديره: والملك كذلك، والملك بضم الميم، والفرق بينه وبين الملك بكسر الميم.
الوجه الثاني: أن الحكمة في مشروعية التلبية هي التنبيه على إكرام الله تعالى لعباده، بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه، عز وجل، فإن قلت: لم قرن الحمد بالنعمة وأفرد الملك؟ قلت: لأن الحمد متعلق بالنعمة، ولهذا يقال: الحمد لله على نعمه، فجمع بينهما كأنه قال: لا حمد، إلا لك، لأنه لا نعمة إلا لك وأما الملك، فهو معنى مستقل بنفسه، ذكر لتحقيق: أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك.
الوجه الثالث: في حكم التلبية، ففيه أربعة أقوال، قد ذكرناها في أواخر الباب السابق.
الوجه الرابع: في الزيادة على ألفاظ التلبية المروية عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث المذكور. قال أبو عمر: أجمع العلماء على القول بهذه التلبية، واختلفوا في الزيادة فيها، فقال مالك: كره الزيادة فيها على تلبية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أنه: لا بأس أن يزاد فيها ما كان ابن عمر يزيده، قلت: روى هذه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن تلبية رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. وقال الثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن، له أن يزيد فيها ما شاء وأحب. وقال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: لا بأس بالزيادة. وقال الترمذي: قال الشافعي: إن زاد في التلبية شيئا من تعظيم الله تعالى فلا بأس إن شاء الله، وأحب إلي إن يقتصر. وقال أبو يوسف والشافعي، في قول: لا ينبغي أن يزاد فيها على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة، وإليه ذهب الطحاوي واختاره، وقد زاد جماعة في التلبية، منهم: ابن عمر، ومنهم أبوه عمر بن الخطاب، زاد هذه الزيادة التي جاءت عن ابنه عبد الله بن عمر، ولعل عبد الله أخذها من أبيه، فإنه رواها عنه كما هو متفق عليه، ومنهم ابن مسعود، فروي عنه أنه لبى، فقال: لبيك عدد الحصى والتراب. وروى أبو داود وابن ماجة من حديث جابر، قال: أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر التلبية، قال: والناس يزيدون: ذا المعارج، ونحوه من الكلام والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئا. وروى سعيد بن المنصور في (سننه) بإسناده إلى الأسود بن يزيد أنه كان يقول: لبيك غفار الذنوب لبيك. وفي (تاريخ مكة) للأزرقي، صفة تلبية جماعة من الأنبياء، عليهم السلام، رواه من رواية عثمان بن ساج، قال: أخبرني صادق أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد مر بفج الروحاء سبعون نبيا تلبيتهم شتى، منهم يونس بن متى، وكان يونس يقول: لبيك فراج الكرب لبيك، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك أنا عبدك لديك لبيك. قال: وتلبية عيسى، عليه السلام: أنا عبدك وابن أمتك بنت عبديك لبيك، وروى الحاكم في (المستدرك) من رواية داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات، فلما قال: لبيك اللهم لبيك، قال إنما الخير خير الآخرة، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وروى الدارقطني في العلل من رواية محمد بن سيرين عن يحيى بن سيرين عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لبيك حجا حقا، تعبدا ورقا. وفي هذا الحديث نكتة غريبة، وهو أنه اجتمع فيه ثلاثة أخوة يروي بعضهم عن بعض، ولا يعرف هذا في غير هذا الحديث. قوله في حديث مسلم وسعديك، معناه: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. قوله: والرغباء، قال أبو المعاني في (المنتهى) الرغب والرغبة والرغب، بالتحريك: اتساع الإرادة، ورغبت فيه أوسعته إرادة، وأرغبت لغة، والرغبى والرغباء مثل: النعمى والنعماء، إسمان منه إذا فتحت مددت، وإذا ضممت قصرت. وفي (المحكم): الرغب والرغب والرغب والرغبة والرغبوت والرغبي والرغبا والرغباء: الضراعة والمسألة، وقد رغب إليه ورغب إليه هو عن ابن الأعرابي، ودعا الله رغبة ورغبة. وقيل: هي الرغبى مثل سكرى. والعمل فيه حذف، تقديره: والعمل إليك، أي إليك القصد به، والانتهاء به إليك لنجازى عليه.
173

0551 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن عمارة عن أبي عطية عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إني لأعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك.
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق.
وهذا الحديث من أفراده. ومحمد بن يوسف الفريابي وسفيان هو الثوري والأعمش هو سليمان، وعمارة بن عمير، بضم العين فيهما وتخفيف الميم، مر في: باب رفع البصر إلى الإمام، وأبو عطية، بفتح العين المهملة: اسمه مالك بن عامر الهمداني الوادغي، والرجال كلهم كوفيون إلا شيخه.
تابعه أبو معاوية عن الأعمش
أي: تابع سفيان الثوري أبو معاوية الضرير، واسمه محمد بن حازم. بالمعجمتين، ووصل هذه المتابعة مسدد في مسنده عنه، وكذلك أخرجها الجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم عنه.
وقال شعبة أخبرنا سليمان قال سمعت خيثمة عن أبي عطية سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها
سليمان هو الأعمش، وخيثمة، بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة: ابن عبد الرحمن الجعفي الكوفي، ورث مائة ألف وأنفقها على أهل العلم، وهذا التعليق وصله أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن شعبة، ولفظه مثل لفظ سفيان إلا أنه زاد فيه: ثم سمعتها تلبي، وليس فيه قوله: لا شريك لك، وكذا أخرجه أحمد عن غندر عن شعبة، وللأعمش فيه شيخان، ورجح أبو حاتم في (العلل) رواية الثوري، ومن تبعه على رواية شعبة، فقال: إنها وهم.
72
((باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة))
أي: هذا باب في بيان ذكر التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال، أي: التلبية. قوله: (عند الركوب) أي: بعد الاستواء على الدابة لا حال وضع الرجل في الركاب، وقال صاحب (التوضيح): غرض البخاري بهذه الترجمة الرد على أبي حنيفة، في قوله: من سبح أو كبر أو هلل أجزأه من إهلاله. قلت: هذا كلام واه صادر عن غير معرفة بمذاهب العلماء، فإن مذهب أبي حنيفة الذي استقر عليه في هذا الباب أنه لا ينقص شيئا من ألفاظ تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وإن زاد عليها فهو مستحب، وهذا هو الذي ذكر في الكتب المعتمدة فيها، ولئن سلمنا أن يكون ما ذكره منقولا عن أبي حنيفة فلا نسلم أن الترجمة تدل على الرد عليه أطلقها ولم يقيدها بحكم من الجواز وعدمه، فبأي دلالة من أنواع الدلالات دل على ما ذكره؟
144 - (حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه. قال صلى رسول الله
ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج قال ونحر النبي
بدنات بيده قياما وذبح رسول الله
بالمدينة كبشين أملحين)
مطابقته للترجمة في قوله حمد الله وسبح وكبر وموسى بن إسماعيل هو أبو سلمة التبوذكي ووهيب مصغر ابن خالد وأيوب السختياني وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا عن سهل بن بكار فرقهما كلاهما عن وهيب وعن مسدد عن إسماعيل بن علية وأخرجه أيضا في الحج وفي الجهاد عن سليمان بن حرب وعن قتيبة بن سعيد مقطعا وأخرجه
174

مسلم في الصلاة عن خلف بن هشام وعن قتيبة بن سعيد وأبي الربيع الزهراني ثلاثتهم عن حماد بن زيد به وعن زهير بن حرب ويعقوب بن إبراهيم الدورقي كلاهما عن إسماعيل بن أمية به وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به مقطعا بعضه في الحج وبعضه في الأضاحي وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة بن سعيد عن حماد بن زيد به
(ذكر معناه) قوله ' نحن ' الواو فيه للحال قوله ' ثم بات بها ' أي بذي الحليفة قوله ' حتى استوت به راحلته ' أي قامت به ناقته يعني رفعته مستويا على ظهرها ولفظ به حال أي استوت ملتبسة برسول الله
قوله ' على البيداء ' وقد ذكرنا أنه الشرف الذي قدام ذي الحليفة قوله ' ثم أهل بحج وعمرة ' يعني جمع بينهما وهذا هو القران قوله ' وأهل الناس ' أي الذين كانوا معه بهما أي بالحج والعمرة قوله ' فلما قدمنا ' أي مكة قوله ' أمر الناس فحلوا ' أي أمر الناس الذين كانوا معه ولم يسوقوا الهدي بالتحلل فحلوا أي صاروا حلالا وسأل الكرماني سؤالا فقال كيف جاز للقارن أن يحل قبل إتمام الحج وما ذاك إلا للمتمتع ثم أجاب بأن العمرة كانت عندهم منكرة في أشهر الحج كما هو رسم الجاهلية فأمرهم بالتحلل من حجهم والانفساخ إلى العمرة تحقيقا لمخالفة رسمهم وتصريحا بجواز الاعتمار في تلك الأشهر انتهى (قلت) هذا ليس بجواب والجواب الصواب أنه إنما أمرهم بالتحلل لأنهم لم يسوقوا الهدي ولم يقل أحد أنهم كانوا قارنين في هذه الحالة حتى يرد هذا السؤال وإنما كان النبي
هو القارن وقوله العمرة كانت عندهم منكرة إنما كان إنكارهم قبل هذا بمدة في الجاهلية وفي هذه الحالة لم يكونوا منكرين فمن ادعى بخلاف ذلك فعليه البيان قوله ' حتى كان يوم التروية ' برفع يوم لأن كان تامة فلا تحتاج إلى خبر ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة وسميت بالتروية لأنهم كانوا يروون دوابهم بالماء ويحملونه معهم أيضا في الذهاب من مكة إلى عرفات قوله ' قياما ' أي قائمات وانتصابه على الحال قوله ' أملحين ' تفنية أملح وهو الأبيض الذي يخالطه سواد وكان النحر للبدنات في مكة والذبح للكبش الذي للأضحية في المدينة يوم العيد
(ذكر ما يستفاد منه) فيه أن الذي يريد السفر له أن يقصر الرباعية من بعد خروجه. وفيه أن للمحرم أن يحمد الله ويسبحه ويكبره قبل الإهلال. وفيه التصريح بأنه
كان قارنا بقوله ثم أهل بحج وعمرة وهذا هو عين القران والمنكر هنا معاند وقد ثبت بأحاديث أخر صحيحة أنه
كان قارنا على ما نذكر إن شاء الله تعالى (فإن قلت) قد رد ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هذا القول على أنس وقال كان أنس حينئذ يدخل على النساء فنسب إليه الصغر وقلة الضبط حتى نسب إلى رسول الله
بالقران وقال المهلب رد ابن عمر على أنس رضي الله تعالى عنه قوله هذا فقال مثل ذكرنا (قلت) هذا فيه نظر لأن حجة الوداع كانت وسن أنس رضي الله تعالى عنه نحو العشرين فكيف يدخل على النساء وقد جاء في الصحيح أنه منع من الدخول عليهن حين بلغ خمس عشرة سنة وذلك قبل الحجة بنحو خمس سنين وأيضا فسنه نحو سن ابن عمر ولعله لا يكون بينهما إلا نحو من سنة أو دونها (فإن قلت) قال ابن بطال ومما يدل على قلة ضبط أنس قوله في الحديث فلما قدمنا أمر النبي
فحلوا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج وهذا لا معنى له ولا يفهم أنه كان النبي
قارنا كما قال والأمة متفقة على أن القارن لا يجوز له الإحلال حتى يفرغ من عمل الحج كله فلذلك أنكر عليه ابن عمر وإنما حل من كان أفرد الحج وفسخه في عمرة ثم تمتع (قلت) ولو قال ابن بطال ومن يقول مثل قوله لا ينهضون أن ينفوا صفة القران عن النبي
في حجه وذلك لأن الذين رووا الإفراد اختلف عنهم ومن روى القران لم يختلف عليه فالأخذ بقول من لم يختلف عليه أولى ولأن معه زيادة وهي مقبولة من الثقة وقال ابن حزم وروى القران عن جميع من روى الإفراد وهم عائشة وجابر وابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال ووجدنا أيضا عن علي بن أبي طالب وعمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما وروى عنهما التمتع وروى عنهما القران قال ووجدنا أم المؤمنين حفصة والبراء بن عازب وأنس بن مالك لم تضطرب الرواية عنهم ولا اختلاف عنهم في ذلك فيترك رواية كل من قد اضطربت الرواية عنه ويرجع إلى رواية من لا تضطرب عنه وهذا وجه العمل على قول
175

من يرى إسقاط ما تعارض من الروايات والأخذ بما لم يتعارض منها وأما من ذهب إلى الأخذ بالزائد فهو وجه يجب استعماله إذا كانت الألفاظ والأفعال كلها منسوبة إلى سيدنا رسول الله
ولم تكن موقوفة على من دونه ولا تنازعا ممن سواه فوجهه أنا وجدنا من روى الإفراد إنما اقتصر على ذكر الإهلال بعمرة وحدها دون حج معها ووجدنا من روى القران قد جمع الأمرين معا فزاد على من ذكر الحج وحده عمرة وزاد على من ذكر العمرة وحدها حجا فكانت هذه زيادتا علم لم يذكرهما الآخرون وزيادة حفظ ونقل على كلتي الطائفتين المتقدمتين وزيادة العدل مقبولة وواجب الأخذ بها لا سيما إذا روجع فيها فثبت عليها ولم يرجع كما ثبت في الصحيح من حديث بكر عن أنس رضي الله تعالى عنه سمعت النبي
يلبي بالحج والعمرة قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال أنس ما يعدوننا إلا صبيانا سمعت رسول الله
يقول ' لبيك عمرة وحجا ' وفي لفظ جمع بينهما بين الحج والعمرة وفي حديث يحيى بن أبي إسحق وعبد العزيز بن صهيب وحميد سمعوا أنسا قال سمعت النبي
أهل بهما ' لبيك عمرة وحجا ' وسيأتي عند البخاري اختلاف علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وقول علي ما كنت لأدع سنة النبي
لقول أحد ثم أهل بهما لبيك بعمرة وحجة وعند مسلم من حديث عمران بن حصين أن رسول الله
جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وعند أبي داود بسند صحيح عن البراء بن عازب عن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي
لما قدم من اليمن قال ' إنه قد سقت الهدي وقرنت ' وعن الصبي بن معبد بسند صحيح في حديث قال ' أهللت بالحج والعمرة فقال لي عمرة هديت لسنة النبي
قالها مرتين ' رواه الطبراني في الأوسط قال الدارقطني في العلل هو حديث صحيح وقال ابن عمر جيد الإسناد رواه الثقات الأثبات عن أبي وائل عن الصبي عن عمر ومنهم من يجعله عن أبي وائل عن عمر رضي الله تعالى عنه والأول مجود ورواته أحفظ وعن أبي قتادة ' إنما قرن رسول الله
بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها ' قال الحاكم صحيح على شرطهما ولم يخرجاه وفي الاستذكار روى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول بالكوفة إنما جمع
بين الحج والعمرة لأنه علم أنه لا يحج بعدها وعن سراقة بسند صالح عند أحمد قال ' قرن رسول الله
في حجة الوداع ' وعن أبي طلحة ' أن رسول الله
جمع بين الحج والعمرة ' رواه ابن ماجة من حديث الحجاج بن أرطاة وعند الترمذي محسنا عن جابر أن رسول الله
قرن الحج والعمرة وقال ابن حزم صح عن عائشة وحفصة أمي المؤمنين أنه
كان قارنا (قلت) يريد بذلك ما رواه أبو داود عن الربيع بن سليمان أنبأنا محمد بن إدريس عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن عائشة أن النبي
قال لها طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك قال ابن حزم فصح أنها كانت قارنة وعند أحمد بسند جيد عن أم سلمة سمعت رسول الله
يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج وعند أبي داود من حديث خيوان أن معاوية قال للصحابة هل تعلمون أن النبي
نهى أن يقرن بين الحج والعمرة فقالوا لا وفي سنن الكجي حدثنا سليمان بن داود حدثنا يحيى بن ضريس عن عكرمة بن عمار عن الهرماس بن زياد قال سمعت النبي
على ناقته قال لبيك حجة وعمرة معا واعلم أن الطحاوي رحمه الله قد أخرج في تفضيل القران وأنه
كان قارنا من عشرة أنفس من الصحابة وهم عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن حصين وأبو طلحة وسراقة بن مالك وعائشة وأم سلمة زوجي النبي
وأخرج عن أنس بعدة طرق وفي الباب أيضا عن أبي قتادة وجابر ومعاوية والهرماس بن زياد وأبي هريرة والكل قد ذكرناه إلا حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن عباس وحديث أبي هريرة. أما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه الطحاوي عن نافع عنه أن ابن عمر خرج من المدينة إلى مكة مهلا بالعمرة مخافة الحصر ثم قال ما شأنهما إلا واحدا أشهدكم أني أوجبت إلى عمرتي هذه حجة ثم قدم فطاف لهما طوافا وقال هكذا فعل رسول الله
وأخرجه الشيخان مطولا ففيه دليل على تفضيل القران وعلى أنه
كان قارنا وذلك لأنه أضاف إلى عمرته حجة قبل أن يطوف لها فهذا هو
176

القران ثم قال هكذا فعل رسول الله
أراد أنه
كان قد قرن إلى عمرته حجا. وأما حديث عبد الله بن عباس فأخرجه الطحاوي أيضا عن عكرمة عنه قال اعتمر رسول الله
أربع عمر عمرة الحديبية وعمرته من العام القابل وعمرته من الجعرانة وعمرته مع حجته وحج حجة واحدة ورواه أبو داود أيضا وفي لفظه والرابعة التي قرن مع حجته وأخرجه الترمذي أيضا وفي لفظه نحوه (فإن قلت) كيف يقبل هذا عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عباس وقد روي عن ابن عباس أنه
تمتع وروي عن عبد الله بن عمر أنه
تمتع (قلت) قال الطحاوي يجوز أن يكون رسول الله
أحرم في بدء أمره بعمرة فمضى فيها متمتعا بها ثم أحرم بحجة قبل طوافه فكان في بدء أمره متمتعا وفي آخره قارنا. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه عن النبي
أنه قال والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم عليهما السلام بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنيهما وقال ابن حزم ستة عشر من الثقات اتفقوا على أنس رضي الله تعالى عنه على أن لفظ النبي
كان إهلالا بحجة وعمرة معا وصرحوا عن أنس أنه سمع ذلك منه
وهم بكر بن عبد الله المزني وأبو قلابة وحميد الطويل وأبو قزعة وثابت البناني وحميد بن هلال ويحيى بن أبي إسحق وقتادة وأبو أسماء والحسن البصري ومصعب بن الزبير بن الزبرقان وسالم بن أبي الجعد وأبو قدامة وزيد بن أسلم وعلي بن زيد (قلت) قد أخرجه الطحاوي عن تسعة منهم. أولهم بكر بن عبد الله وقد مر في أثناء كلام ابن حزم وأخرجه مسلم حدثنا شريح بن مسلم قال حدثنا هشيم قال حدثنا حميد عن بكر عن أنس قال سمعت النبي
يلبي بالحج والعمرة جميعا الحديث والثاني أبو قلابة عن أنس وهو حديث الباب والثالث حميد الطويل عن أنس أخرجه الطحاوي وابن حبان في صحيحه عنه عن أنس بن مالك قال سمعت النبي
لبيك بعمرة وحجة. والرابع أبو قزعة عن أنس أخرجه الطحاوي عنه عن أنس قال سمعت النبي
يقول لبيك بعمرة وحجة وأخرجه ابن حزم نحوه. والخامس ثابت البناني عن أنس أخرجه الطحاوي والعدني في مسنده نحو حديث قزعة. والسادس حميد بن هلال أخرجه الطحاوي والبزار عنه عن أنس قال كنت ردف أبي طلحة وإن ركبته لتمس رسول الله
وهو يلبي بالحج والعمرة. والسابع يحيى بن أبي إسحق أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه عن أنس يقول سمعت رسول الله
يقول لبيك بعمرة وحجة معا وأخرجه ابن أبي شيبة نحوه وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة نحوه. والثامن قتادة عنه عن أنس أخرجه الطحاوي نحو حديث يحيى وأخرجه البخاري. والتاسع أبو أسماء عنه عن أنس أخرجه الطحاوي أيضا عن أنس قال خرجنا نصرح بالحج فلما قدمنا مكة أمرنا رسول الله
أن نجعلها عمرة وقال لو استقبلت من أمر ما استدبرت لجعلتها عمرة ولكن سقت الهدي وقرنت الحج والعمرة وأخرجه أحمد نحوه وأخرجه النسائي ولفظه سمعت رسول الله
يلبي بهما. والعاشر الحسن البصري عنه عن أنس أخرجه البزار عنه عن أنس أن النبي
أهل هو وأصحابه بالحج والعمرة الحديث. والحادي عشر مصعب بن سليم عنه عن أنس أخرجه العدني في مسنده حدثنا وكيع عن مصعب بن سليم أنه سمع أنس بن مالك يقول أهل رسول الله
بحجة وعمرة. والثاني عشر مصعب بن عبد الله عنه عن أنس أخرجه العدني أيضا عنه عن أنس قال سمعت النبي
يقول لبيك بحجة وعمرة أو بعمرة وحجة معا. والثالث عشر سالم بن أبي الجعد عنه عن أنس أخرجه أحمد في مسنده عن أنس أنه يرفعه إلى النبي
أنه جمع بين العمرة والحج فقال لبيك بحجة وعمرة. والرابع عشر الواقدي أبو قدامة أخرجه أيضا أحمد عنه عن أنس قال (قلت) لأنس بأي شيء كان رسول الله
يهل فقال سمعته سبع مرار بعمرة وحجة. والخامس عشر زيد بن أسلم عنه عن أنس أخرجه البزار في مسنده عنه أن النبي
أهل بحج وعمرة. والسادس عشر علي بن زيد أخرجه البزار أيضا عنه عن أنس أن النبي
لبى بهما جميعا فقال القاضي عياض قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث من علمائنا وغيرهم فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف
177

ومن مطيل مكثر ومن مقتصد مختصر وأوسعهم نفسا في ذلك أبو جعفر الطحاوي الحنفي المصري فإنه تكلم في ذلك عن ألف ورقة وتكلم في ذلك أيضا معه أبو جعفر الطبري وبعدهم أبو عبد الله بن أبي صفرة وأخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم ما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبي
أباح للناس فعل هذه الثلاثة أشياء لتدل على جواز جميعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره لا يجزئ وإذا كان لم يحج سوى هذه الحجة فأضيف الكل إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي
إما لأمره بذلك أو لتأويله عليه انتهى (قلت) لا نزاع في جواز هذه الثلاثة ولهذا قال الخطابي جواز القران بين الحج والعمرة إجماع من الأئمة ولا يجوز أن يتفقوا على جواز شيء منهي عنه ولكن النزاع أن أي هذه الأشياء أفضل وأن النبي
على أي واحد من هذه حج فقد دلت الأحاديث الصحيحة أن القران أفضل وأنه
كان قارنا ولأن القارن يجمع بين النسكين في سفرة واحدة ولا شك أن العبادتين أفضل من عبادة واحدة وقد عمل به الأصحاب بعده
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال سمعت أصحاب محمد
يهلون بحجة وعمرة معا. ومن فوائد حديث الباب أن السنة في الإبل النحر فلو ذبح كره وأن السنة نحرها وهي قائمة لأنه أمكن لنحرها لأنه يطعن في لبتها وتكون معقولة اليد اليسرى وقال ابن حبيب وهو تفسير قوله تعالى صواف وروى محمد عن مالك لا يعقلها إلا من خاف أن يضعف عنها والأفضل أن يتولى نحرها بنفسه كما فعل
وقال هنا بدنات وقال ابن التين وفي غير هذا الموضع أنها كانت سبعين بدنة وفي الموطأ عن علي رضي الله تعالى عنه أنه
نحر بعض هديه بيده ونحر بعضه غيره وروي أن عليا نحر باقيها ويقال أهدى مائة بدنة فنحر ثلاثا وستين بيده كل واحد عن سنة من عمره. وفيه إشارة إلى قدر عمره وأعطى عليا فنحر الباقي قوله ' وذبح بالمدينة كبشين أحدهما ذبحه عن أهل بيته والآخر عمن لم يضح من أمته '
(قال أبو عبد الله قال بعضهم هذا عن أيوب عن رجل عن أنس)
أبو عبد الله هو البخاري نفسه قال بعضهم إلى آخره هكذا وقع عند الكشميهني قيل المراد من البعض المبهم هو إسماعيل بن علية وقيل يحتمل أن يكون حماد بن سلمة فقد أخرجه الإسماعيلي من طريقه عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس فعرف أنه المبهم وقد تابعه عبد الوهاب الثقفي على حديث ذبح الكبشين الأملحين عن أيوب عن أبي قلابة كما سيأتي في الأضاحي إن شاء الله تعالى * -
82
((باب من أهل حين استوت به راحلته))
أي: هذا باب في بيان من أهل بالتلبية حين رفعته راحلته مستويا على ظهرها.
2551 حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة.
.
مطابقته للترجمة هي عين الحديث، وقد مر الكلام فيه قريبا، وأبو عاصم الضحاك بن مخلد، وابن جريج عبد الملك ابن عبد العزيز، وصالح بن كيسان أبو محمد أو أبو الحارث القاري مولاهم، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه.
92
((باب الإهلال مستقبل القبلة))
أي: هذا باب في بيان الإهلال، وزاد المستملي: الغداة بذي الحليفة.
178

3551 حدثنا وقال أبو عمر حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن نافع قال كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا صلى بالغداة بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب فإذا استوت به استقبل القبلة قائما ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ثم يمسك حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح فإذا صلى الغداة اغتسل وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذالك.
.
مطابقته للترجمة قوله: (فإذا استوت به استقبل القبلة). وأبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد البصري، وعبد الوارث بن سعيد وأيوب السختياني، والكل قد ذكروا غير مرة. وهذا تعليق وصله أبو نعيم في (المستخرج) من طريق عباس الدوري عن أبي معمر، وقال: ذكره البخاري بلا رواية، ورواه مسلم في (صحيحه) عن أبي الربيع عن حماد عن أيوب.
قوله: (إذا صلى بالغداة)، أي: إذا صلى الصبح بوقت الغداة، وفي رواية الكشميهني: إذا صلى الغداة، أي: صلاة الغداة وهي الصبح. قوله: (فرحلت)، بناء
على المجهول بالتخفيف. قوله: (قائما) نصب على الحال، أي: منتصبا غير مائل على ناقته، وقيل: وصفه بالقيام لقيام راحلته، وقيل: روي بلفظ: فإذا استوت به راحلته قائمة، وقال الداودي: أي استقبل القبلة قائما في الصلاة. وفي السياق تقديم وتأخير، والتقدير: أمر راحلته فرحلت، ثم استقبل القبلة قائما، أي: فصلى ثم ركب، ورد بأنه تعسف فلا حاجة إلى هذا التقدير لعدم ذكر صلاة الإحرام فيه، والاستقبال إنما وقع بعد الركوب، وقد رواه ابن ماجة وأبو عوانه في (صحيحه) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع بلفظ: كان إذا أدخل رجله في الغرز فاستوت به ناقته قائمة أهل. قوله: (ثم يمسك) أي: عن التلبية، وليس المراد بالإمساك عن التلبية تركها أصلا، وإنما المراد التشاغل بغيرها من الطواف وغيره، وقد روي أن ابن عمر كان لا يلبي في طوافه، كما رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من طريق عطاء، قال: كان ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، يدع التلبية إذا دخل الحرم، ويراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والمروة. قوله: (ثم يلبي حتى يبلغ الحرم)، أي: بعدما ركب راحلته يلبي ولا يقطعها حتى يبلغ الحرم. وقال الكرماني: فإن قلت: وقت الإمساك هو صبيحة يوم العيد في منى لا بلوغ الحرم؟ قلت: ليس الغرض منه ههنا بيان وقت على الخصوص، فلهذا أجمل، أو أراد بالحرم منى أو كان ذلك عند التمتع، واعترض عليه بأنه يشكل عليه، قوله في رواية إسماعيل بن علية: (إذا دخل أدنى الحرم). قلت: إذا أريد بالحرم ظاهره لا يبقى الإشكال، وقال بعضهم: المراد بالإمساك ترك تكرار التلبية لا تركها أصلا. قلت: مذهب ابن عمر أنه كان يتركها إذا دخل الحرم، ولا يفهم من ظاهر الكلام إلا تركها، لا ترك تكرارها، لأن بين تركها وبين ترك تكرارها فرقا، وتارك تكرارها لا يسمى تاركا للتلبية. قوله: (ثم يمسك حتى إذا جاء) هي غاية لقوله: استقبل. وقال الكرماني: أو يكون المراد بالحرم هو المتبادر إلى الذهن، وهو أول جزء منه، يعني: يمسك فيما بين أوله وذي طوى، فحتى على هذا الوجه غاية لقوله: يمسك قوله: (ذا طوى)، منصوب لأنه مفعول جاء، وذي طوى، بضم الطاء وفتحها وكسرها، وقيدها الأصيلي بكسرها وبتخفيف الواو: واد معروف بقرب مكة. وقال النووي: هو موضع عند باب مكة بأسفلها في صوب طريق العمرة المعتادة ومسجد عائشة، ويعرف اليوم بآبار الزاهدة، يصرف ولا يصرف، وقال أيضا: إنه مقصور منون. وفي (التوضيح): و ربض من أرباض مكة، وطاؤه مثلثة مع الصرف وعدمه والمد أيضا، وقال السهيلي: واد بمكة في أسفلها وذو طواء ممدودا، وموضع بطريق الطائف. وقيل: و (وقال الكرماني: ويروي حتى إذا حاذى طوى من المحاذاة وبحذف كلمة ذي والأول هو الصحيح لأن اسم الموضع ذو طوى لا: طوى. وفي كتاب (الأذواء): ذو طوى موضع بظاهر مكة به بئاء يستحب لمن يدخل مكة أن يغتسل منها. قوله: (بات به)، أي: بذي طوى أي: فيه.، قوله: (حتى يصبح) أي: إلى أن يدخل في الصباح. قوله: (فإذا صلى الغداة)، أي: صلاة الغداة وهي الصبح. قوله: (اغتسل) جواب: إذا، قوله: (وزعم) أي: قال، ويطلق الزعم على القول الصحيح، وسيأتي في: باب الاغتسال عند دخول مكة، فقال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع: كان ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية، ثم يبيت بذي طوى، ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، وروى الحاكم
179

من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: اغتسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لبس ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره. فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج، وقال: صحيح الإسناد.
ومما يستفاد من الحديث: استقبال القبلة عند الإهلال لاستقبال دعوة إبراهيم، صلى الله عليه وسلم، بمكة، فلذلك يلبي الداعي أبدا بعد أن يستقبل بالوجه، لأنه لا يصلح أن يولي المجيب ظهره من يدعوه ثم يلبيه، بل يستقبله في موضعه الذي دعي منه. وفيه: استحباب الإحرام عقيب الصلاة، وفي (التلويح): لا خلاف أن المبيت بذي طوى ودخول مكة نهارا ليس من المناسك، لكن إن فعله اقتداء بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وتبعا لآثاره كان ثوابه في ذلك جزيلا. وفي (شرح المهذب): لمن هي طريقه مستحب، ودخول مكة نهارا أفضل من الليل، وهو الصحيح عند الأكثرين من الشافعية. وقال بعض الشافعية: هما سواء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في عمرة الجعرانة ليلا. قلت: هو المذكور في (الهداية) عن أبي حنيفة. وفيه: الاغتسال، وقال النووي: الاغتسال المذكور سنة، قال: فإن عجز عنه تيمم وتكون نيته في ذلك غسل دخول مكة. وقال في (مناسك الكرماني): هذا الغسل مستحب لكل أحد حتى الحائض والنفساء والصبي، وقال ابن حزم: لا يلزم الغسل فرضا في الحج إلا المرأة تهل بعمرة تريد التمتع فتحيض قبل الطواف بالبيت، فهذه تغتسل ولا بد، والمرأة تلد قبل أن تهل بالعمرة أو بالقرآن ففرض عليها أن تغتسل وتهل. وفي (الاستذكار): ما أعلم أحدا من المتقدمين أوجب الاغتسال عند الإحرام بالعمرة أو الحج إلا الحسن بن أبي الحسن، وقد روي عن عكرمة إيجابه كقول أهل الظاهر، وروي عنه أن الوضوء يكفي منه. وقال أبو عمر: هو سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه لا يرخصون في تركه إلا من عذر، وعن عبد الملك: هو لازم، إلا أنه ليس في تركه ناسيا ولا عامدا دم ولا فدية. وقال ابن خوازمند: هو عند مالك أوكد من غسل الجمعة. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري: يجزيه الوضوء، وهو قول إبراهيم، وفي (سنن سعيد بن منصور): حدثنا جرير عن مغيرة قال: ذكر عن إبراهيم إذا قدم الحاج أمسك عن التلبية ما دام يطوف بالبيت. فقال إبراهيم: لا، بل يلبي قبل الطواف وفي الطواف وبعد الطواف، ولا يقطعها حتى يرمي الجمرة، وهو قول أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وداود، إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا: يقطع التلبية مع أول حصاة يرميها في الجمرة، وقد استقصينا الكلام فيه فيما مضى. وقال قوم: يقطع المعتمر التلبية إذا دخل الحرم، وقال آخرون: لا يقطعها حتى يرى بيوت مكة. وقالت طائفة: حتى يدخل بيوت مكة. وقال أبو حنيفة: لا يقطعها حتى يستلم الحجر، لما رواه أحمد عن هشيم: حدثنا حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذي القعدة، يلبي حتى يستلم الحجر. وقال الليث: إذا بلغ الكعبة قطع التلبية. وقال الشافعي: لا يقطعها حتى يفتتح الطواف، وقال مالك: من أحرم من الميقات قطع التلبية إذا دخل أول الحرم، فإن أحرم من الجعرانة أو من التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة. أو إذا دخل المسجد. وروي عن ابن عباس: لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الركن، وكان ابن عمر يقطعها إذا رأى بيوت مكة.
تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل
أي: تابع عبد الوارث إسماعيل بن علية عن أيوب السختياني في أمر الغسل، ووصل البخاري هذه المتابعة في: باب الاغتسال عند دخول مكة، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
4551 حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع قال حدثنا فليح عن نافع قال كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هاكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
مطابقته للترجمة من حديث أنه داخل في ضمن الحديث السابق، وسليمان قد مر في: باب علامات المنافق، وفليح
180

بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان، واسمه: حنين، وفليح لقبه غلب عليه، مر في أول كتاب العلم. فإن قلت: أليس هذا بتكرار؟ قلت: لا، وإنما أورده لزيادة فيه على الحديث السابق، وهو الإدهان، وإنما كان يدهن بغير الطيب ليمنع بذلك القمل والدواب، وكان يجتنب ما له رائحة طيبة صيانة للإحرام.
03
((باب التلبية إذا انحدر في الوادي))
أي: هذا باب في بيان التلبية إذا انحدر المحرم في الوادي، وقد ورد في الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود.
5551 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني ابن أبي عدي عن ابن عون عن مجاهد قال كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فذكروا الدجال أنه قال مكتوب بين عينيه كافر فقال ابن عباس لم أسمعه ولكنه قال أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبى.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا انحدر في الوادي يلبي).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد بن المثنى بن عبيد، أبو موسى يعرف بالزمن العنبري. الثاني: محمد بن أبي عدي، بفتح العين المهملة وكسر الدال وتشديد الياء آخر الحروف: واسم أبي عدي: إبراهيم، مات سنة أربع وتسعين ومائة. الثالث: عبد الله بن عون، بفتح العين المهملة والنون، مر في: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رب مبلغ. الرابع: مجاهد. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن الرواة الثلاثة بصريون وأن مجاهدا مكي. وفيه: اثنان مذكوران بالإبن وواحد مجرد..
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن محمد بن المثنى، وفي أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن بيان ابن عمرو. وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن المثنى به.
ذكر معناه: قوله: (أنه) بفتح الهمزة أي: أن الدجال. قوله: (مكتوب بين عينيه: كافر) في محل الرفع على أنه خبر: أن. وقوله: (كافر) مرفوع بقوله: مكتوب، واسم المفعول يعمل عمل فعله كاسم الفاعل. قوله: (ولكنه قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (كأني أنظر إليه) جواب: أما، والفاء فيه محذوفة، والأصل: فكأني، وهو حجة على النحاة حيث لم يجوزوا حذفها، كذا قالوا. قلت: يحتمل أن يكون حذف الفاء من الراوي. قوله: (إذا انحدر)، كذا وقع في الأصول بكلمة إذا، وحكى عياض أن بعض العلماء أنكر إثبات الألف وغلط رواته، وقال: وهو غلط منه إذ لا فرق بين إذا وإذ، هنا لأنه وصفه حالة انحداره فيما مضى. وقال المهلب: ذكر موسى، عليه السلام، هنا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت أثر ولا خبر أن موسى، عليه الصلاة والسلام، حي، وأنه سيحج، وإنما أتي ذلك عن عيسى، عليه الصلاة والسلام، فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: (ليهلن ابن مريم بفج الروحاء) وأجيب عنه: بأنه سيأتي في اللباس بالإسناد المذكور وبزيادة: ذكر إبراهيم فيه: أفيقال إن الراوي غلط فيه فزاده؟ وقد روى مسلم هذا الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ: كأني أنظر إلى موسى هابطا من التثنية واضعا إصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي وله جؤار إلى الله بالتلبية. وكذلك جاء ذكر يونس في هذا الحديث، أفيقال إن الراوي الآخر غلط فيه؟ وقال الكرماني في الرد: أما من روى إذ انحدر، بلفظ: إذ للماضي فيصح موسى بأن يراه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أو يوحى إليه بذلك، وسلم الغلط في رواية إذا، لأنه إخبار عما يكون في المستقبل. قلت: لو اطلع الكرماني على حقيقة الحديث لما قسم هذا التقسيم، فلا يحتاج إلى هذا التكليف، لأن الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، أحياء عند ربهم يرزقون. فلا مانع أن يحجوا في هذه الحال كما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم: رأى موسى قائما في قبره يصلي. فإن قلت: ما الداعي إلى عبادتهم بعد الموت وموضع العبادة دار الدنيا؟ قلت: حببت إليهم العبادة فهم متعبدون بما يجدونه بما يجدونه من دواني أنفسهم لا بما يلزمون به، وذلك كما يلهم أهل الجاهلية الذكر، ويؤيده أن أعمال الآخرة ذكر ودعاء. كقوله تعالى: * (دعواهم فيها سبحانك اللهم...) * (يونس: 01). الآية، ويجوز
181

أن يكون مثلت لهم أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبودا وكيف حجوا وكيف لبوا، ولهذا قال: كأني، ويحتمل أن يكون إخباره ذلك بالوحي عنه، ويحتمل أن يكون ذلك في المنام، ومنام الأنبياء وحي، وحديث مسلم المذكور حجة على المهلب، ورد لما قاله وقال الكرماني: المناسب لذكر الدجال ذكر عيسى، عليه الصلاة
والسلام، قلت: قال ذلك بالنظر إلى أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، هو الذي يقتل الدجال، ولو كان له اطلاع على الحديث المذكور لما ادعى هذه المناسبة.
13
((باب كيف تهل الحائض والنفساء))
أي: هذا باب في بيان كيفية إهلال الحائض والنفساء، والمراد بالإهلال الإحرام.
أهل تكلم به واستهللنا وأهللنا الهلال كله من الظهور واستهل المطر خرج من السحاب وما أهل لغير الله وهو من استهلال الصبي
جرى البخاري على دأبه أنه إذا رأى مادة من الكلام تستعمل في معان كثيرة مما جاء في الكتاب أو في السنة يذكر ذلك ويبينه، وذكر أشياء منها، قوله: (أهل: تكلم به) يعني: إذا تكلم أظهره ما في قلبه. ومنها قوله: (استهللنا وأهللنا الهلال)، يعني: طلبنا ظهوره، ويقال: أهل الهلال واستهل، على ما لم يسم فاعله، ويقال أيضا: استهل على صيغة المعلوم، ومعناه: تبين، ولا يقال أهل. ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل وهو قياسه. ومنها: (استهل المطر) إذا ظهر نزوله من السحاب بصوت، ويقال: تهلل وجه الرجل من فرحه، واستهل إذا ظهر سروره، وتهللت دموعه إذا سالت، وانهلت السماء: صبت، وانهل المطر إنهلالا إذا سال بشدة، ومنها قوله: * (وما أهل لغير الله) * معناه: إذا نودي عليه بغير اسم الله، وأصله رفع صوت الذابح عند الذبح. ومنها قوله: (وهو من استهلال الصبي) وهو ظهور صياحه عند الولادة، ومنه: أهل المعتمر، إذا رفع صوته بالتلبية. قوله: (كله من الظهور) أي: كل واحد من أهل واستهللنا، وأهللنا من الظهور، وهذا كان محله أن يذكر بعد قوله: (وهو من استهلال الصبي)، لأن جميع ما ذكره من المواد المذكورة من الظهور، وذكره بعد قوله: (وأهللنا الهلال) في غير محله.
6551 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال النبي من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمان بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال هاذا مكان عمرتك قالت فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحلوا ثم طافوا طوافا واحدا بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (انقضي رأسك وامتشطي) إلى قوله: (هذه مكان عمرتك).
ورجاله قد تكرر ذكرهم، وعبد الله بن مسلمة، بفتح الميمين: هو القعنبي، وابن شهاب: هو محمد بن مسلم الزهري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرج البخاري هذا الحديث في الحيض، وعقد له بابا بقوله: باب كيف تهل الحائض بالحج والعمرة: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم... الحديث، وبين الطريقين والمتن
182

تفاوت يسير يعرف بالنظر، وأخرجه البخاري أيضا في الحج عن عبد الله بن يوسف، وفي المغازي عن إسماعيل بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك. وأخرجه الترمذي عن أبي مصعب عن مالك. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين وعن محمد بن يحيى النيسابوري، وعن يعقوب الدورقي، وفيه وفي الطهارة عن محمد بن عبد الله، وفي الطهارة أيضا عن يونس بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة عن هشام بن عمار وأبي مصعب، كلاهما عن مالك.
ذكر معناه: قوله: (في حجة الوداع)، وكانت في سنة عشر من الهجرة، ولم يحج صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد الهجرة غيرها وما قبلها لما كان بمكة حج حججا لا يعلم عددها إلا الله، وسميت: حجة الوداع: لأنه صلى الله عليه وسلم وعظهم وودعهم، فسميت بذلك حجة الوداع. قوله: (فأهللنا بعمرة) قال الكرماني: فإن قلت: تقدم في: باب الحيض، وسيجئ في: باب التمتع، أنهم كانوا لا يرون إلا الحج؟ قلت: معناه: ولا يرون عند الخروج إلا ذلك فبعد ذلك أمرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالاعتمار رفعا لما اعتقدوا من حرمة العمرة في أشهر الحج. انتهى. قلت: لو وقف الكرماني على الروايات التي رويت عن عائشة لما احتاج إلى هذا السؤال ولا إلى الجواب عنه: فإن الروايات اختلفت في إحرام عائشة اختلافا كثيرا، فههنا فأهللنا بعمرة، وفي أخرى: فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج. قالت: ولم أهل إلا بعمرة. وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلا الحج، وفي أخرى: لبينا بالحج، وفي أخرى: مهلين بالحج، والكل صحيح. وفي رواية: وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي. وقال أبو عمر: والأحاديث عن عائشة في هذا مضطربة جدا، وكذا قال القاضي عياض، وذكر أن في الروايات عنها اختلافا شديدا. وقال ابن عبد البر في (تمهيده): دفع الأوزاعي والشافعي وأبو ثور وابن علية حديث عروة هذا، وقالوا: هو غلط لم يتابع عروة على ذلك أحد من أصحاب عائشة. وقال إسماعيل بن إسحاق: اجتمع هؤلاء يعني: القاسم والأسود وعمرة على أن أم المؤمنين كانت محرمة بحجة لا بعمرة، فعلمنا بذلك أن الرواية التي رويت عن عروة غلط، لأن عروة قال في رواية حماد بن سلمة عن هشام عنه: حدثني غير واحد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لها: دعي عمرتك، فدل على أنه لم يسمع الحديث منها. وقال ابن حزم: حديث أبي الأسود عن عروة عن عائشة، وحديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنها منكران وخطآن عند أهل العلم بالحديث، وقد سبقنا إلى تخطئة حديث أبي الأسود هذا أحمد بن حنبل، وقال مالك: ليس العمل عندنا على حديث عروة عنها قديما ولا حديثا. قوله: (من كان معه هدي) بسكون الدال أو
بكسرها وتشديد الياء وإسكان الدال أفصح، وسوى بينهما ثعلب، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم، وواحد الهدي: هدية، وقد قرى مبهما جميعا في قوله: * (حتى يبلغ الهدي محله) * (البقرة: 691). وهو ما يهدي إلى الحرم من النعم. قوله: (منهما) أي: من الحج والعمرة. قوله: (فقدمت)، بضم التاء، وهو إخبار عائشة عن نفسها. قوله: (وأنا حائض)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (ذلك) أي: ترك الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة بسبب الحيض. قوله: (انقضي رأسك) من النقض، بالنون والقاف والضاد المعجمة، وقال الكرماني: ويجوز بالفاء إن صحت الرواية. قلت: لأن كلا منهما بمعنى، ولكن رواية الفاء ما ثبتت. قوله: (وامتشطي)، من امتشاط الشعر وهو: تسريحه. قوله: (ودعي العمرة) يدل على أنها كانت قارنة. قوله: (ففعلت) أي: نقض الرأس والامتشاط. قوله: (مع عبد الرحمن بن أبي بكر)، هو أخوها شقيقها، وأمهما أم رومان بنت عامر. قوله: (إلى التنعيم)، قد مر تفسيره مرة، وهو طرف حرم مكة من ناحية الشام، وهو المشهور بمساجد عائشة، رضي الله تعالى عنها. قوله: (هذه مكان عمرتك) برفع مكان على أنه خبر، أي: عوض عمرتك الفائتة، ويجوز بالنصب على الظرف، قيل: النصب أوجه، ولا يجوز غيره، والعامل فيه محذوف تقديره: هذه كائنة مكان عمرتك أو مجعولة مكانها. قال القاضي عياض: والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف، إنما أراد عوض عمرتك، فمن قال: كانت قارنة، قال: مكان عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة، ومن قال: كانت مفردة، قال: مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها ولم تتمكني من الإتيان بها للحيض، وكان ابتداء حيضها يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة بسرف، وطهرت يوم السبت وهو يوم النحر. قوله: (وبين الصفا والمروة)
183

أي: وطافوا بين الصفا والمروة، وأراد به السعي بينهما. قوله: (طوافا واحدا) في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والجرجاني: (طوافا آخر). وقال عياض هو الصواب.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الحجة لمن يقول بأفضلية القرآن لقوله: فمن كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، وهذا هو القرآن، لأن فيه الجمع بين النسكين في سفرة واحدة. وقال القرطبي: ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقرآن. وقوله: (ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) هذا هو حكم القرآن بلا نزاع، وممن ذهب إلى تفضيل القرآن به وبالأحاديث التي ذكرناها الدالة على أفضلية القرآن، وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجة الوداع: شقيق بن سلمة والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وإسحاق والمزني من أصحاب الشافعي، وأبو إسحاق المروزي وابن المنذر، وهو قول علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وفي (المجرد). وإما حج النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف فيه بحسب المذاهب، والأظهر قول أحمد: لا أشك أنه كان قارنا، والمتعة أحب إلي. فإن قلت: قد روي: أنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، وروي: أنه تمتع، وروي: أنه قرن، فما التوفيق فيها؟ قلت: قال الطحاوي: طريق التوفيق فيها أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعمرة في بدء أمره فمضى فيها متمتعا، ثم أحرم بحجة قبل طوافه وإفرادها بالإحرام، فصار بها قارنا. فإن قلت: فيه إدخال الحج على العمرة فما حكمه؟ قلت: قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز إدخال الحج على العمرة، وشذ بعض الناس فمنعه، وقال: لا يدخل بإحرام على إحرام، كما في الصلاة. واختلفوا في عكسه، وهو إدخال العمرة على الحج، فجوزه أبو حنيفة والشافعي في القديم، ومنعه آخرون، وقالوا: هذا كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل.
وفيه: أن المتمتع إذا فرغ من أعمال العمرة لم يحل حتى يحرم بالحج إذا كان معه هدي، وهو مذهب أصحابنا عملا بقوله، صلى الله عليه وسلم، لها بنقض رأسها ثم بالامتشاط، فقال الشافعي: تأويله أنه أمر لها أن تدع العمرة وتدخل عليها الحج فتصير قارنة. وقال ابن حزم: والصحيح أنها كانت قارنة. وقال الخطابي: الحديث مشكل جدا إلا أن يؤول على الترخص لها أن تدع العمرة وتدخل على الحج، فتكون قارنة. لا أن تدع العمرة نفسها. فإن قلت: يوهن هذا التأويل لفظ: (انقضي رأسك وامتشطي). قلت: لا، لأن نقض الرأس والامتشاط جائزان في الإحرام بحيث لا تنتف شعرا، وقد يتأول بأنها كانت معذورة بأن كان برأسها أذى، فأباح لها كما أباح لكعب بن عجرة للأذى. وقيل: المراد بالامتشاط تسريح الشعر بالأصابع لغسل الإحرام بالحج، ويلزمه منه نقضه.
وفيه: في قولها: (فقدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) قال ابن الجوزي: فيه دلالة على أن طواف المحدث لا يجوز، ولو كان ذلك لأجل المسجد لقال: لا يدخل المسجد، وقد اختلفوا فيه، فعن أحمد: طواف المحدث والجنب لا يصح، وعنه: يصح. وقال أصحابنا: الطهارة ليست بشرط فلو طاف وعليه نجاسة أو طاف محدثا أو جنبا صح طوافه، لقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 92). أمر بالطواف مطلقا، وتقييده بالطهارة بخبر الواحد زيادة على النص فلا يجوز، ولكن إن طاف محدثا فعليه شاة، وإن طاف جنبا فعليه بدنة، ويعيده ما دام في مكة، وعن داود: الطهارة له واجبة. فإن طاف محدثا أجزأه إلا الحائض. وعند الشافعي: الطهارة شرط فلا يصح بدونها، ومذهب الجمهور: أن السعي يصح من المحدث والجنب والحائض. وعن الحسن: أنه إن كان قبل التحلل أعاد السعي، وإن كان بعده فلا شيء عليه.
وفيه: حجة لمن قال: الطواف الواحد والسعي الواحد يكفيان للقارن، وهو مذهب عطاء والحسن وطاووس، وبه قال مالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور وداود، وقال مجاهد وجابر بن زيد وشريح القاضي والشعبي ومحمد بن علي بن حسين والنخعي والأوزاعي والثوري والأسود بن يزيد والحسن بن حي وحماد بن سلمة وحماد ابن سليمان والحكم بن عيينة وزياد بن مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: لا بد للقارن من طوافين وسعيين، وحكي ذلك عن عمر وعلي وإبنيه: الحسن والحسين، وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهم، هو رواية عن أحمد. وروى مجاهد عن ابن عمر أنه جمع بين الحج والعمرة، وقال: سبيلهما واحد، وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصنع كما صنعت، وعن علي: أنه جمع بينهما، وفعل ذلك ثم قال: هكذا رأيت
رسول الله
184

صلى الله عليه وسلم، وكذا عن علقمة عن ابن مسعود قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته وحجته طوافين وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي، ورواه الدارقطني أيضا من حديث عمران بن حصين وضعفه، والله أعلم.
23
((باب من أهل في زمن النبي كإهلال النبي قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان من أهل، أي: أحرم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار بهذا إلى جواز الإحرام على الإيهام ثم يصرفه المحرم لما شاء لكون ذلك وقع في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عن ذلك، وقيل: كان البخاري لما لم ير إحرام التقليد ولا الإحرام المطلق ثم يعين بعد ذلك أشار بهذه الترجمة بقوله: باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلاله، إلى أن هذا خاص بذلك الزمن، فليس لأحد أن يحرم ما أحرم به فلان، بل لا بد أن يعين العبادة التي يراها، ودعت الحاجة إلى الإطلاق والحوالة على إحرامه صلى الله عليه وسلم، لأن عليا وأبا موسى لم يكن عندهما أصل يرجعان إليه في كيفية الإحرام، فأحالا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما الآن فقد استقرت الأحكام وعرفت مراتب كيفيات الإحرام. انتهى. قلت: هذا الذي قاله سلمناه في بعضه، ولا نسلم في قوله: كان البخاري لم ير إحرام التقليد ولا الإحرام المطلق، أشار بهذه الترجمة إلى هذا خاص بذلك الزمن، لأنه ذكر في الترجمة مطلقا. من أهل كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أين تأتي هذه الإشارة إلى ما ذكره؟ فالترجمة ساكتة عن ذلك ولا يعلم رأي البخاري في هذا الحكم ما هو؟ فافهم. قوله: (قال ابن عمر) أي: قال هذا المذكور الذي هو الترجمة عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، ويشير به إلى ما أخرجه في: باب بعث علي، رضي الله تعالى عنه، إلى اليمن، في (كتاب المغازي) من طريق بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر، فذكر حديثا فيه: (فقدم علينا علي بن أبي طالب من اليمن حاجا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بم أهللت فإن معنا أهلك؟ فقال: أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم..) الحديث. وإنما قال له: (فإن معنا أهلك) لأن فاطمة، رضي الله تعالى عنها، كانت قد تمتعت بالعمرة وأحلت، كما بينه مسلم في حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، وهو قوله: (وقدم علينا علي من اليمن ببدن النبي، صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة، رضي الله تعالى عنها، ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت إلى أن قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك. قال: فإن معي الهدي فلا تحل). وفي هذا دليل لمذهب الشافعي ومن وافقه، فإنه يصح الإحرام معلقا بأن ينوي إحراما كإحرام زيد، فيصير هذا المعلق كإحرام زيد، فإن كان زيد أحرم بحج كان هذا بحج أيضا، وإن كان بعمرة فبعمرة، وإن كان بهما فبهما، فإن كان زيد أحرم مطلقا صار هذا محرما وإحراما مطلقا، فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف، قاله النووي: وحكى الرافعي وجها أنه يلزمه موافقته في الصرف، والصواب الأول، ولا يجوز عند سائر العلماء والأئمة، رحمهم الله، الإحرام بالنية المبهمة. لقوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (البقرة: 691). ولقوله: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33). ولأن هذا كان لعلي، رضي الله تعالى عنه، خصوصا، وكذا لأبي موسى الأشعري، وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.
7551 حدثنا المكي بن إبراهيم عن ابن جريج قال عطاء قال جابر رضي الله تعالى عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه أن يقيم على إحرامه وذكر قول سراقة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقيم على إحرامه)، وذلك أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان قد أرسله إلى اليمن قبل حجة الوداع، وكان علي أحرم كإحرام النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال له: بم أهللت؟ فقال: بإهلالك يا رسول الله، فأمره أن يقيم على إحرامه ولا يحل لأنه كان معه هدي.
ذكر رجاله: وهم: أربعة: الأول: المكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد الحنظلي التميمي البلخي أبو السكن، وهو من جملة من روى عن أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، مات سنة أربع عشر ومائتين ببلخ، وقد قارب مائة سنة، وقال الكرماني: هو المنسوب إلى مكة
185

المشرفة، وقد اعترض عليه بعضهم بأن قال: منسوب إلى مكة وليس كذلك، بل هو اسمه، وهو من بلخ قلت: أراد به الكرماني أنه على صورة النسبة إلى مكة ولم يدع أنه منسوب إلى مكة حقيقة. الثاني: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الثالث: عطاء بن أبي رباح. الرابع: جابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بلخي وان ابن جريج وعطاء مكيان. وفيه: قال عطاء وقال جابر وهو صورة التعليق، وهو من رباعيات البخاري.
ذكر معناه: قوله: (أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عليا أن يقيم على إحرامه)، وذلك حين قدم علي من اليمن كما ذكرناه الآن، وأمره أن يقيم على إحرامه الذي كان أحرم به كإحرام النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا يحل لأن معه الهدي قوله: (وذكر قول سراقة)، أي: ذكر جابر في حديثه قول سراقة. وقال الكرماني: فاعل ذكر إما المكي، وإما جابر، فقائله إما البخاري، وإما عطاء. وسراقة، بضم السين المهملة وتخفيف الراء بعد الألف قاف: ابن مالك بن جعشم، بضم الجيم
وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة، وقيل بفتجها الكناني، بالنونين: المدلجي، بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام وبالجيم: الحجازي، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة عشر حديثا، روى البخاري منها واحدا، مات في أول خلافة عثمان، رضي الله تعالى عنه، سنة أربع وعشرين، وقول سراقة ما ذكره البخاري في: باب عمرة التنعيم، من حديث حبيب المعلم عن عطاء (حدثني جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي، صلى الله عليه وسلم، وطلحة، وكان علي، رضي الله تعالى عنه، قدم من اليمن ومعه هدي..) الحديث. وفيه: (أن سراقة لقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال لا، بل لأبد الأبد). ورواه مسلم في (صحيحه) عن محمد ابن حاتم: حدثنا يحيى القطان أخبرنا ابن جريج (أخبرني عطاء، سمعت جابرا قال: قدم علي، رضي الله تعالى عنه، من سعايته، فقال: بم أهللت؟ قال: بما أهل به النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال له: فامكث حراما. قال: وأهد له هديا؟ فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لأبد). فقال صاحب (التلويح): وذكره البخاري أيضا في: باب بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنهما، من (كتاب المغازي) عن المكي بسنده، ولم يذكر المزني، رحمه الله تعالى، ولا من سلفه أن البخاري، رضي الله تعالى عنه، خرجه فيه وهو ثابت فيه، فيما رأيت من نسخ البخاري، رحمه الله تعالى.
8551 حدثنا الحسن بن علي الخلال الهذلي قال حدثنا عبد الصمد قال حدثنا سليم بن حيان قال سمعت مروان الأصفر عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه. قال قدم علي رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لولا أن معي الهدي لأحللت.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: الحسن بن علي الخلال، بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام الأولى: أبو علي الهذلي، بضم الهاء وفتح الذال المعجمة، مات في مكة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. الثاني: عبد الصمد بن عبد الوارث، وقد مر. الثالث: سليم، بفتح السين وكسر اللام: ابن حيان، بفتح الهاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره نون، مر في: باب التكبير على الجنازة. الرابع: مروان الأصفر. ويقال: الأحمر أبو خلف، ويقال: اسم أبيه خاقان، وليس له في البخاري عن أنس سوى هذا الحديث، وهو من أفراد الصحيح. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه حلواني، بضم الحاء المهملة، نسبة إلى حلوان، سكن مكة وأن عبد الصمد وسليمان ومروان بصريون، وفيه: أن شيخه مذكور بنسبته إلى القبيلة وهي هذيل بن مدركة وإلى الحرفة. وفيه: أحد الرواة مذكور بلقبه.
ذكر من
186

أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحج أيضا عن محمد بن حاتم وعن حجاج بن الشاعر. وأخرجه الترمذي فيه عن عبد الوارث ابن عبد الصمد، وقال: حسن غريب.
ذكر معناه: قوله: (بما أهللت؟) أي: بما أحرمت، وقال ابن التياني: كذا وقع، أي: لفظ: (بما أهللت؟). وفي الأمهات بالألف وصوابه بغير ألف لأنه استفهام. قوله: (بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم) أي: بالذي أهل به، أي: أحرم به النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (لولا أن معي الهدي لأحللت) أي: من الإحرام، وتمتعت لأن صاحب الهدي لا يمكنه التحلل حتى يبلغ الهدي محله، وهو في يوم النحر. قوله: (لأحللت) اللام فيه للتأكيد، و: أحللت، من أحل من إحرامه فهو محل وحل. قال الله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2). وقال صاحب (التوضيح): اعلم أن في حديث أنس موافقة لرأي الجماعة في إفراده صلى الله عليه وسلم، قال المهلب: ويردهم حديث أنس، أنه، صلى الله عليه وسلم، قرن، واتفاقه مع الجماعة أولى من الاتباع مما انفرد به وخالفهم فيه، فتسويغ الشارع لنفسه لولا الهدي يدل أنه كان مفردا لأنه لا يجوز للقارن الإحلال، وإن لم يكن معه الهدي حتى يفرغ من الحج. قلت: قال الخطابي: في حديث سليم دلالة على أن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان قارنا لأن الهدي لا يجب على غير القارن أو المتمتع، ولو كان متمتعا لحل من إحرامه للعمرة ثم استأنف إحراما للحج، وبالحديث المذكور احتج الشافعي على جواز الإحرام المبهم وقد ذكرناه.
وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج قال له النبي صلى الله عليه وسلم بم أهللت يا علي قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال فأهد وامكث حراما كما أنت
أي: زاد محمد بن بكر البرساني الذي مر ذكره في: باب تضييع الصلاة، في كتاب المواقيت عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن عطاء عن جابر، وهذا تعليق وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وأبو عوانة في (صحيحه) عن عمار، كلاهما عن محمد بن بكر به، وقال الكرماني: هذا تعليق من ابن جريج أو داخل تحت الإسناد الأول. قلت: إذا كان داخلا في الإسناد الأول لا يكون تعليقا إلا بحسب الصورة.
قوله: (فاهد)، بفتح الهمزة لأنها همزة القطع من الرباعي. قوله: (وامكث)، أمر من: مكث يمكث مكثا إذا لبث، وذلك لأجل سوق الهدي، ومن ساقه لا يحل حتى يتم الحج. قوله: (حراما)، نصب على الحال أي: محرما. قوله: (كما أنت) أي: على ما أنت عليه، وللنحويين في هذا المثال أعاريب: أحدها: أن: ما، موصولة، وأنت، مبتدأ محذوف خبره. والثاني: أنها موصولة و: أنت، خبر حذف مبتدؤه أي: كالذي هو أنت. والثالث: أن: ما، زائدة ملغاة، والكاف جارة، وأنت ضمير مرفوع أنيب عن المجرور كما في قولهم: ما أنا كأنت، والمعنى: كن فيما تستقبل مماثلا لنفسك فيما مضى. والرابع: أن، ما، كافة، وأنت مبتدأ حذف خبره أي: عليه، أو كائن وقال الكرماني: وقالوا: فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، إذ وجوب الهدي إنما هو على القارن والمتمتع لا المفرد، وليس
متمتعا لأن لفظ: أمكث يدل على عدمه.
9551 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى ا رضي الله تعالى عنه. قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بم أهللت قلت أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي فقدم عمر رضي الله تعالى عنه. فقال إن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام قال الله وأتموا الحج والعمرة لله وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يحل حتى نحر الهدي.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أهللت بإهلال النبي، صلى الله عليه وسلم).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف التنيسي أبو محمد. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: قيس بن مسلم بلفظ الفاعل من الإسلام الجدلي. الرابع: طارق
187

ابن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي، وقد مر في: باب زيادة الإيمان. الخامس: أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده وأصله من دمشق والثلاثة الذين بعده كوفيون. وفيه: قيس بن مسلم عن طارق وفي رواية أيوب بن عائد في المغازي عن قيس بن مسلم: سمعت طارق بن شهاب، وفيه: طارق عن أبي موسى، وفي رواية أيوب المذكور: حدثني أبو موسى.
وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن أبي موسى وبندار به، وعن عبد الله بن معاذ وعن إسحاق بن منصور وعبد بن حميد. وأخرجه النسائي فيه عن أبي موسى وعن محمد بن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن)، كان بعثه صلى الله عليه وسلم إياه إلى اليمن في السنة العاشرة من الهجرة قبل حجة الوداع، وعن أبي بردة قال: (بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا موسى ومعاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنهما، إلى اليمن، وبعث كل واحد منهما على مخلاف). قال: واليمن مخلافان، والمخلاف بكسر الميم في اليمن كالرستاق في العراق، وجمعه: مخاليف. قوله: (وهو بالبطحاء) الواو في: وهو، للحال، والبطحاء: بطحاء مكة، وهو المحصب، وهو في الأصل مسيل واديها، وبطحاء الوادي حصاة اللين في بطن المسيل. قال أبو عبيد: هو من حديد خيف بني كنانة، وحده من الحجون ذاهبا إلى منى، وفي رواية شعبة عن قيس الآتية في: باب متى يحل المعتمر وهو منيخ، أي: نازل بها. قوله: (فأمرني فطفت)، وفي رواية شعبة: (طف بالبيت وبالصفا والمروة). قوله: (فأحللت) من: أحل يحل إحلالا، ومعناه: خرجت من الإحرام. قوله: (فأتيت امرأة من قومي)، وفي رواية شعبة: (امرأة من قيس)، وليس المراد منه قيس غيلان لأنه لا نسبة بينهم وبين الأشعريين، ولكن المراد منه أبوه قيس بن سليم، والدليل عليه رواية أيوب بن عائد: (امرأة من بني قيس)، وهو أبو أبي موسى، وقال بعضهم: وكانت المرأة زوجة بعض إخوة أبي موسى، رضي الله تعالى عنه، وكان له من الإخوة: أبو رهم وأبو بردة ومحمد. قلت: قال الكرماني: (فأتيت امرأة) محمول على أن هذه المرأة كانت محرما له، وامرأة الأخ ليست بمحرم، فالصواب مع الكرماني، فيحمل حينئذ على أن المرأة كانت بنت بعض أخوته. قوله: (أو غسلت رأسي، بالشك) وفي رواية مسلم: (وغسلت)، بواو العطف. قوله: (فقدم عمر، رضي الله تعالى عنه) لم يكن قدوم عمر، رضي الله تعالى عنه، في تلك الحجة على ما يفهم من ظاهر الكلام بل المراد من قدومه ما كان في خلافته، اختصره البخاري وبسطه مسلم، فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب (عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: حججت؟ فقلت: نعم. فقال: بم أهللت؟ قلت: لبيت بإهلال كإهلال النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس، فغسلت رأسي ثم أهللت بالحج، فكنت أفتي به الناس حتى كان في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال له رجل: يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا، قال: فقدم عمر، رضي الله تعالى عنه، فذكرت له ذلك، فقال: إن نأخذ بكتاب الله تعالى، فإن كتاب الله تعالى يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى يبلغ الهدي محله)، وأخرجه النسائي، وفي لفظه: (فكنت أفتي الناس بذلك إمارة أبي بكر وإمارة عمر، رضي الله تعالى عنهما، وإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك..) الحديث. قوله: (به) في رواية مسلم، وبذلك في رواية النسائي أي: بفسخ الحج إلى العمرة. قوله: (رويدك بعض فتياك)، ويروى: (رويد بعض فتياك)، و: رويد، اسم فعل، ومعناه: أمهل. قوله: (فليتئذ)، أي: فليتأن وليصبر، من اتأد إذا تأنى، وأصله من: تئد يتأد تأدا. قوله: (إن نأخذ) بنون الجماعة ظاهر، وهذا من عمر إنكار فسخ الحج إلى العمرة وإتمام الحج، واحتج بالآية وهي قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة صلى الله عليه وسلم) * (البقرة: 691). أمر الله تعالى بإتمام أفعالهما بعد الشروع فيهما، وعن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وطاووس: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (البقرة: 691). أن يحرم من دويرة أهله. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: بلغنا أن عمر، رضي الله تعالى
188

عنه، قال في قول الله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (البقرة: 691). قال: من تمامها أن يفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن يعتمر في غير أشهر الحج
، إن الله تعالى يقول: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 791). قوله: (فإنه) أي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (لم يحل) أي: لم يخرج من إحرامه (حتى نحر الهدي) في منى.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الدلالة على جواز الإحرام المعلق، وبه أخذ الشافعي، وقد ذكرناه مع الجواب عنه. وفيه: فسخ الحج إلى العمرة، ونهى عمر، رضي الله تعالى عنه، عن المتعة. وقال المازري: قيل: إن المتعة التي نهى عنها عمر، رضي الله تعالى عنه، فسخ الحج إلى العمرة، وقيل: ونهى عمر عن العمرة في أشهر الحج، ثم الحج من عامة، وعلى الثاني: إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها. وقال عياض: الظاهر أنه نهى عن الفسخ، ولهذا كان يضرب الناس عليها، كما رواه مسلم، بناء على أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة. وقال النووي: والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج، ثم الحج من عامة، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة. وقيل: علة كراهة عمر المتعة أن يكون معرسا بالمرأة ثم يشرع في الحج ورأسه يقطر، وذلك أنه كان من رأيه عدم الترفه للحاج بكل طريق، فكره لهم قرب عهدهم بالنساء لئلا يستمر الميل إلى ذلك، بخلاف من بعد عهده منهن، ويدل على ذلك ما رواه مسلم عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة، فقال رجل: رويدك ببعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين بعد، حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: قد علمت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم. وفيه: حجة لأبي حنيفة وأحمد من أن المعتمر إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. وقال مالك والشافعي: إنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هديا أم لا. والحديث حجة عليهما. فإن قلت: كيف أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أبا موسى في هذا الحديث بالإحلال ولم يأمر عليا، رضي الله تعالى عنه، والحال أن كلا منهما قال: إهلالي كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لأن أمره لأبي موسى بالإحلال على معنى ما أمر به غيره بالفسخ بالعمرة لمن ليس معه هدي، وأمره لعلي، رضي الله تعالى عنه، أن يهدي ويمكث حراما إما لأنه والله تعالى أعلم كان معه هدي، أو قد يكون قد اعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهدي عنه، أو يكون خصه بذلك، أو لما كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره بسوق هذه البدن من اليمن فكان كمن معه هدي، ولا يظن أن هذه البدن من السعاية والصدقة بوجه، إذ لا يحل للنبي صلى الله عليه وسلم الصدقة، ولا يهدي منها. والأشبه أن عليا اشتراها باليمن كما اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بقيتها، وجاء بها من المدينة على ما جاء في حديث أيضا: أنه اشترى هديه بقديد، وفي حديث ابن عمر: فساق الهدي معه من ذي الحليفة، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد أعلمه أنه سيعطيه هديا منها، وفي حديث جابر: أنه قدم ببدن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أنه كان له فيها هدي لم يحتج إلى ذكرها في الحديث، فلم يمكنه أن يحل. ويدل على هذا سؤال النبي، صلى الله عليه وسلم، لأبي موسى: هل ساق هديا؟ ولم يسأل علي، فدل على علمه بأنه كان ممن أهدى أو ممن حكمه حكم من أهدى، والله أعلم.
33
((باب قول الله تعالى * (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج))
أي: هذا باب في بيان تفسير قول الله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * الكلام فيه على أنواع:
الأول في إعرابها: فقوله: * (الحج) * مبتدأ. وقوله: * (أشهر) * خبره. وقوله: * (معلومات) * صفة الأشهر، ومن شرط الخبر أن يصح به الإخبار عن المبتدأ فلا يصح أن يخبر بالأشهر عن الحج، فلذلك قدر فيه حذف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات، ويقال: تقديره الحج حج أشهر معلومات، فعلى الأول المقدر قبل المبتدأ، وعلى الثاني قبل الخبر، وإن كان يصلح فيه تقدير كلمة: في، فلا يقال إلا بالرفع، وكذلك كلام العرب يقولون: البرد شهران، فلا ينصبونه، وقال الواحدي: يمكن حمله على غير إضمار، وهو أن الأشهر جعلت نفس الحج اتساعا لكون الحج يقع فيها، كقولهم: ليل نائم. قوله: (أشهر) جمع شهر، وليس المراد منه ثلاثة أشهر كوامل، ولكن المراد
189

شهران وبعض الثالث، ووجهه أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4). ولو قال: الحج ثلاثة أشهر كان يتوجه السؤال وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنما رآه في ساعة منها. قوله: (معلومات) يعني: معروفات عند الناس لا تشكل عليهم. قال الزمخشري: وفيه: أن الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه، وإنما جاء مقررا له. قوله: * (فمن فرض فيهن الحج) * (البقرة: 791). أي: فمن ألزم نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه. وقوله: * (فلا رفث) * هو جواب: من، الشرطية.، وقال القتبي: الفرض هو وجوب الشيء، يقال: فرضت عليكم أي أوجبت. قال الله تعالى: * (فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 732). فمن: أهل فيهن بالحج. قوله: (فلا رفث)، نفي، ومعناه النهي أي: فلا ترفثوا، وقرأ ابن كثير وأبو عمر * (فلا رفث ولا فسوق) * (البقرة: 791). أي ألزمتم أنفسكم وقال ابن عباس الفرض التلبية وقال الضحاك هو الإحرام قال عطاء فمن فرض فيهن بالرفع مع التنوين، وقرأ الباقون بالنصب بغير تنوين، واتفقوا في قوله: * (ولا جدال) * بالنصب غير أبي جعفر المدني فإنه قرأه بالرفع، وهذا يقال له: لا، التبرئة ففي كل موضع يدخل فيه: لا، التبرئة فصاحبه بالخيار، إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمه بالتنوين، وقال الزمخشري: والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لا تكون، وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب والرفع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير، رضي الله تعالى عنهما، الأولين بالرفع والآخر بالنصب، لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قال: ولا شك ولا خلاف في الحج.
النوع الثاني: في معناها: قوله: (الحج) في اللغة: القصد، من حججت الشيء أحجه حجا: إذا قصدته. وقال الأزهري: وأصل الحج من قولك: حججت فلانا أحجه حجا إذا عدت إليه مرة بعد أخرى، فقيل: حج البيت، لأن الناس يأتونه كل سنة، والحج في اصطلاح الشرع: قصد إلى زيارة البيت الحرام على وجه التعظيم بأفعال مخصوصة. قوله: (أشهر) جمع شهر، جمع قلة، لأنه على وزن: أفعل، بضم العين، والشهر عبارة عن الزمان الذي بين الهلالين، واشتقاقه من الشهرة، والهلال أول ليلة من الشهر والثانية والثالثة، ثم هو قمر بعد ذلك إلى آخر الشهر، وفي الليلة الرابعة عشر يقال له: بدر، لتمامه. وقال الجوهري: إنما سمي بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع. وقال الفراء: هو في أول ليلة هلال، ثم قمير ثم قمر ثم بدر. قوله: * (فلا رفث) *: الرفث الجماع، كما في قوله تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * (البقرة: 781). وهو حرام على المحرم، وكذلك دواعيه من المباشرة والتقبيل. ونحو ذلك، وكذا التكلم بحضرة النساء، وقال ابن جرير: حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك بين الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم. وقال ابن وهب: وحدثني أبو صخر عن محمد بن كعب مثله، وقال عبد الله بن طاووس عن أبيه: سألت ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، عن قوله تعالى: * (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * (البقرة: 791). قال: الرفث التعرض بذكر الجماع، وهي: العرابة، في كلام العرب، وهو أدنى الرفث. وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينار، وقال: وكانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض بذكر الجماع وهو محرم، وقال طاووس: هو أن يقول للمرأة إذا حللت أصبتك، وكذا قال أبو العالية، وقال ابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم: الرفث غشيان النساء، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطية والربيع والزهري والسدي ومالك بن أنس ومقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك والحسن وقتادة والضحاك وآخرون. قوله: (ولا فسوق)، قال مقسم وغير واحد عن ابن عباس: هي المعاصي، وكذا قال عطاء ومجاهد وطاووس وسعيد بن جبير والحسن والنخعي وقتادة والزهري ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار ومقاتل بن حيان، وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، قال: الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيدا أو غيره، وروى ابن وهب عن يونس عن نافع: أن عبد الله ابن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله تعالى في الحرم. وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب، قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد والسدي وإبراهيم والحسن، وقد تمسك هؤلاء بما في (الصحيحين): (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وروى
190

ابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق ههنا الذبح للأصنام، وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب. قوله: * (ولا جدال في الحج) * (البقرة: 791). فيه قولان: أحدهما: ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه. والثاني: أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة، وعن ابن مسعود في قوله: * (ولا جدال في الحج) * (البقرة: 791). قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه، وعن ابن عباس: الجدال المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك. وعن ابن عمر: الجدال المراء والسباب والخصومات.
النوع الثالث: في الأحكام المتعلقة بأشهر الحج: قال الله تعالى: * (أشهر معلومات) * (البقرة: 791). وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهو قول أكثر العلماء، وهو المنقول عن عطاء وطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وابن سيرين ومكحول وقتادة والضحاك والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي يوسف وأبي ثور، واختاره ابن جرير، ويحكى عن عمر، وعلي وابن مسعود وعبد الله بن الزبير وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وقال مالك والشافعي في القديم: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضا ابن وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر، قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقال ابن أبي حاتم في (تفسيره): حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج، قال: قلت لنافع: سمعت عبد الله بن عمر يسمى شهور الحج؟ قال: نعم، كان عبد الله يسمي شوال وذا القعدة وذا الحجة. قال ابن جريج: وقال ذلك ابن شهاب وعطاء وجابر بن عبد الله صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج، وحكي هذا أيضا عن مجاهد وطاووس وعروة بن الزبير والربيع بن أنس وقتادة، قال ابن كثير في (تفسيره): وجاء فيه حديث مرفوع، ولكنه موضوع رواه الحافظ ابن مردويه من طريق حصين بن المخارق، وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهر معلومات: شوال وذو القعدة وذو الحجة)، وهذا كما رأيت لا يصح رفعه، واحتج الجمهور بما علقه البخاري على ما يجيء، قال ابن عمر: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ورواه ابن جرير: حدثني أحمد بن حازم بن أبي عزرة حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار (عن ابن عمر: أشهر الحج معلومات؟ قال: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة) إسناده صحيح، ورواه الحاكم أيضا في (مستدركه) عن الأصم عن الحسن بن علي بن عفان عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر فذكره. وقال: على شرط الشيخين. وعن الحاكم رواه البيهقي في (المعرفة) بإسناده ومتنه، ومما احتج به مالك ما رواه الدارقطني في (سننه) عن شريك عن أبي إسحاق عن الضحاك (عن ابن عباس، قال: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة)، ورواه أيضا عن ابن مسعود نحوه، وعن عبد الله بن الزبير نحوه. وقال الطبري: إنما أراد من قال: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة، أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي للحج وإن كان الحج ينقضي بانقضاء إيام منى. قلت: الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها، وإن كان صحيحا. والقول بصحة الإحرام في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وهو مذهب إبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعيد، ومذهب الشافعي: أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرة؟ فيه قولان عنه: والقول بأنه: لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج مروي عن ابن عباس وجابر، وبه يقول طاووس وعطاء ومجاهد. فإن قلت: هل يدخل
يوم النحر في عشر ذي الحجة أم لا؟ قلت: قال أبو حنيفة وأحمد: يدخل، وقال الشافعي: لا يدخل، وهو المشهور المصحح عنه، وقال بعض الشافعية: تسع من ذي الحجة، ولا يصح في يوم النحر ولا ليلته، وهو شاذ.
* (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) * (البقرة: 981).
وقوله: * (ويسألونك عن الأهلة) * (البقرة: 981). عطف على: قول الله تعالى أي: وفي بيان تفسير قول الله تعالى. وقال العوفي: عن ابن عباس، سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم، وقال أبو جعفر: عن الربيع عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة) * (البقرة: 981). وقال
191

الواحدي: عن معاذ: يا رسول الله إن اليهود تغشانا، ويكثرون مسألتنا، فأنزل الله هذه الآية. وقال النسفي في (تفسيره): نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ومعاذ بن جبل سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهلال، فنزلت أي: يسألونك عن الأهلة ما لها تبدو صغيرة ثم تصير بدورا ثم تعود كالعرجون؟ وما معنى تغير أحوالها؟ وقال الكلبي: نزلت في معاذ وثعلبة بن غنمة الأنصاريين، قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد ثم ينقص؟ فنزلت، والأهلة: جمع هلال، وهو إذا كان لليلة أو ليلتين، وسمي به لأن الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته. فإن قلت: ما وجه ذكر الحج بالخصوص من بين العبادات؟ قلت: لكونه أهم وأشق، ولهذا ذكره البخاري بعد هذه الآية.
وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة
هذا التعليق وصله ابن جرير، وقد ذكرناه عن قريب، ووصله الطبري والدارقطني أيضا من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار، عنه، قال: (الحج أشهر معلومات، شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة). فإن قلت: روى مالك في الموطأ) عن عبد الله بن دينار (عن ابن عمر، قال: من اعتمر في أشهر الحج شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة قبل الحج فقد استمتع)؟ قلت: لعله تجوز في ذكر ذي الحجة بكماله، وبهذا يجمع بين الروايتين.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج
هذا التعليق وصله ابن خزيمة والحاكم والدارقطني من طريق الحكم عن مقسم عنه، قال: (لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج). وقال الحاكم: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وقال الكرماني: من السنة أي من الشريعة، إذ هو واجب ولا ينعقد الإحرام بالحج إلا في أشهره عند الشافعي، وأما عند غيره: فلا يصح شيء من أفعال الحج إلا فيها. قلت: هذا تفسير على مساعدة ما قاله إمامه، ولكن لا يساعده هذا فإن قوله: (من السنة)، لا يدل على الوجوب قطعا، إذ يحتمل أن يكون من السنة التي إذا فعلها كان له أجر، وإذا تركها لا يفسد ما فعله من الإحرام قبل أشهر الحج. وأيضا قوله: وأما عند غيره، فليس بقسيم لما قبله مما قاله الشافعي، لأن قسيمه أن يقال: وأما عند غيره فينعقد الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، والذي ذكره متفق عليه، أفعال الحج أفعال الحج قبل أشهر الحج لا تصح بلا خلاف.
وكره عثمان رضي الله تعالى عنه أن يحرم من خراسان أو كرمان
وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن عبد الأعلى عن يونس عن الحسن: أن ابن عامر أحرم من خراسان فعاب عليه وعيره فكرهوه، وروى أحمد بن سيار في (تاريخ مرو): من طريق داود بن أبي هند، قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرما فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لأمه على ما صنع. قلت: عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي، ابن خال عثمان ابن عفان، ولد حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغفل في فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنابه عثمان على البصرة بعد أبي موسى الأشعري وولاه بلاد فارس بعد عثمان بن أبي العاص وعمره إذ ذاك خمس وعشرون سنة، ففتح خراسان كلها وأطراف فارس وكرمان وسجستان وبلاد غزية، وقتل كسرى في أيامه وهو يزدجرد، مات في سنة ثمانية وخمسين من الهجرة، وأما خراسان فإقليم واسع من الغرب المفازة التي بينها وبين بلاد الجبل وجرجان، ومن الجنوب مفازة واصلة بينها وبين فارس وقومس، ومن الشرق نواحي سجستان وبلاد الهند، ومن الشمال بلاد ما وراء النهر وشئ من تركستان. وخراسان يشتمل على كور كثيرة كل كورة منها نحو إقليم، ولها مدن كثيرة، منها: بلخ في وسط خراسان، خرج منها خلق من الأئمة والعلماء والصالحين لا يحصون. ومنها: جرجان وطالعان وطابران وكشمهين ونسا وهراة، وأما كرمان، فبفتح الكاف وقيل بكسرها، وفي (المشترك): هو صقع كبير بين فارس وسجستان، وحدها يتصل بخراسان، ومن بلادها المشهورة: زرند والسيرجان، وهو أكبر مدن كرمان.
192

0651 حدثنا محمد بن بشار قال حدثني أبو بكر الحنفي قال حدثنا أفلح بن حميد قال سمعت القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا بسرف قالت فخرج إلى أصحابه فقال من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا قالت فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه قالت فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة قالت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك يا هنتاه قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة قال وما شأنك قلت لا أصلي قال فلا يضيرك إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقيكها قالت فخرجنا في حجته حتى قدمنا منى فظهرت ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت قالت ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمان بن أبي بكر فقال اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم
افرغا ثم ائتيا هاهنا فاني أنظر كما حتى تأتياني قالت فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر فقال هل فرغتم فقلت نعم فآذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجها إلى المدينة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة: الملقب ببندار، وقد تكرر ذكره. الثاني: أبو بكر الحنفي واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد. الثالث: أفلح بن حميد، بضم الحاء: ابن نافع الأنصاري، مر في: باب هل يدخل الجنب يده. الرابع: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. الخامس: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن الاثنين الأولين بصريان والاثنين الآخرين مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا عن أبي نعيم، وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير، وأخرجه النسائي فيه عن هناد بن السري.
ذكر معناه: قوله: (وحرم الحج)، بضم الحاء المهملة وضم الراء، ويروى بضم الحاء وفتح الراء، فالمعنى على الأول: أزمنة الحج وأمكنته وحالاته، وعلى الثاني: محرمات الحج وممنوعاته لأنه جمع حرمة. فإن قلت: كان مقتضى التركيب أن يقال: أشهر الحج ولياليه وحرمه، بالإضمار في الآخرين. قلت: بلى، د ولكن لما قصد بذلك التعظيم له والتفخيم ذكر بالظاهر موضع المضمر. قوله: (بسرف)، بفتح السين المهملة وكسر الراء وفي آخره فاء. وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بقعة قريبة من مكة، وأول حدودها. قوله: (فخرج) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من قبته التي ضربت له إلى أصحابه. قوله: (فليفعل) أي: فليفعل العمرة، وهذا يدل على أن الأمر بذلك لمن كانوا مفردين بالحج، لأنه إنما أمر بالفسخ لمن أفرد لا لمن قرن، ولا لمن أهل بعمرة، فأمرهم بذلك ليتمتعوا بالعمرة إلى الحج، فعلم من ذلك أن الأمر بالفسخ كان بسرف، وإنما أرادت فسخ الحج فمنعت من ذلك، وقال عياض: والذي تدل عليه النصوص من أحاديث الصحيحين وغيرهما إنما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد إحرامهم بالحج، ويحتمل أنه كرر الأمر بذلك في الموضعين، وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بالفسخ إلى العمرة. قوله: (فلا) أي: فلا يفعل. قوله: (فالآخذ بها)، مرفوع على أنه مبتدأ و (التارك) عطف عليه وخبره هو قوله: (من أصحابه) ويجوز أن يكون مرفوعا بتقدير
193

كان التامة أي: فكان الآخذ بها والتارك لها، والضمير في: بها ولها، يرجع إلى العمرة. وقال القرطبي: ظاهره التخيير، فلذلك كان منهم الآخذ والتارك، لكن لما ظهر منه صلى الله عليه وسلم العزم حين غضبه، قالوا: تحللنا وسمعنا وأطعنا، وكان ترددهم لأنهم ما كانوا يرون العمرة في أشهر الحج جائزة، وأنها من أفجر الفجور، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم جواز ذلك. قوله: (وأنا أبكي) جملة حالية. قوله: (يا هنتاه) يعني: يا هذه من غير أن يراد به مدح أو ذم، وأصل هذا مأخوذ من: هن، على وزن: أخ، وهو كناية عن شيء لا تذكره باسمه، وتقول في النداء: يا هن، للرجل وللمرأة يا هنة، ولك أن تذخل فيهما الهاء لبيان الحركة فتقول: يا هنة ويا هنته، وإذا أشبعت الحركة تتولد الألف فتقول حينئذ: يا هناه ويا هنتاه، ولا يستعملان إلا في النداء وقال السفاقسي: ضبط في رواية أبي ذر بإسكان النون، وفي رواية أبي الحسن بفتحها. وقال ابن الأثير: تضم الهاء الآخرة وتسكن وتقول في التثنية للمذكر: هنان، وللجمع: هنون وللمؤنث هنتان وهنات، وقيل: معنى يا هنتاه: يا بلهاء، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم. وقال التيمي: الألف والهاء في آخره كالألف والهاء في الندبة. قوله: (قلت لا أصلي) كناية عن أنها حاضت، وفيه رعاية الأدب وحسن المعاشرة. قوله: (فلا يضيرك)، من الضير بالضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء الضرر وهذه رواية الكشميهني وفي رواية (لا يضرك) بتشديد الراء من الضرر. قوله: (أن يرزقيكها) أي: العمرة. قوله: (في النفر الآخر)، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، والنفر الأول هو الثاني عشر منه، وقال الكرماني: النفر، بسكون الفاء وفتحها. قوله: (حتى نزل المحصب)، بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة المفتوحة وفي آخره باء موحدة: وهو مكان متسع بين مكة ومنى، وسمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل، وأنه موضع منهبط، وهو الأبطح والبطحاء، وحدوه بأنه ما بين الجبلين إلى المقابر وليست المقبرة منه، وفيه لغة أخرى: الحصاب، بكسر الحاء. وقال أبو عبيد: هو من حدود خيف بني كنانة، وحده من الحجون ذاهبا إلى منى. وقال في موضع آخر: وهو الخيف. قال ياقوت: وهو غير المحصب موضع رمي الجمار بمنى. قوله: (فلتهل) بضم التاء المثناة من فوق: من الإهلال، وهو الإحرام. قوله: (ثم أفرغا) أمر لعبد الرحمن وعائشة كليهما أي: أفرغا من العمرة، وهذا يدل على أن عبد الرحمن أيضا اعتمر مع عائشة. قوله: (ههنا) أي: المحصب. قوله: (فإني أنظركما) بمعنى: انتظركما، وفي رواية للكشميهني: (انتظركما)، من الانتظار. قوله: (حتى تأتياني) وفي غالب النسخ، تأتيان، بنون الوقاية وحذف الياء التي للمتكلم والاكتفاء بالكسرة عنها. قوله: (حتى إذا فرغت وفرغت) بالتكرار وصلة الأول محذوفة أي: فرغت من العمرة وفرغت من الطواف، وحذف الأول للعلم به، ويروى: (حتى إذا فرغت وفرغ)، بلفظ الغائب أي: حتى إذا فرغت أنا من العمرة وطواف الوداع وفرغ عبد الرحمن أيضا. قوله: (بسحر)، بفتح الراء بدون التنوين وبجرها مع التنوين، وهو عبارة عن قبيل الصبح الصادق، فإذا أردت به سحر ليلتك بعينه لم تصرفه لأنه معدول عن السحر، وهو علم له، وإن أردت نكرة صفة فهو منصرف، والأولى هنا هو الأول. قوله: (هل فرغتم؟) خطاب لعبد الرحمن ولعائشة ومن معهما
في ذلك الإعمار، وإلا فالقياس أن يقال: هل فرغتما، أو نقول: إن أقل الجمع اثنان. قوله: (فآذن بالرحيل) أي: فاعلم الناس بالارتحال. قوله: (متوجها) أي: حال كونه صلى الله عليه وسلم متوجها نحو المدينة.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها الحل، وإنما وجب الخروج إليه ليجمع في نسكه بين الحل والحرم، كما يجمع الحاج بينهما، فإن عرفات من الحل. وفيه: النزول بالمحصب، فظاهره أن النزول فيه سنة كما قال أبو حنيفة، وهو قول إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وطاووس، وقال ابن المنذر: كان ابن عمر يراه سنة، وقال نافع: حصب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، أخرجه مسلم، وزعم ابن حبيب أن مالكا كان يأمر بالتحصيب ويستحبه، وبه قال الشافعي، وقال عياض: هو مستحب عند جميع العلماء، وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين، وأجمعوا أنه ليس بواجب، وأخرج مسلم عن نافع (عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، كانوا ينزلون بالأبطح)، وأخرجت الأئمة الستة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمحصب ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة، فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله.
194

ضير من ضار يضير ضيرا ويقال ضار يضور ضورا وضر يضر ضرا
لما كانت روايتان في قوله: (فلا يضيرك) إحداهما: (فلا يضيرك) والأخرى: (فلا يضرك) أشار بقوله: (ضير) بالأجوف اليائي إلى أن مصدر: لا يضيرك، ضير وأشار إلى أن فيه لغتين إحداهما: (ضار يضير) من: باب باع يبيع، والأخرى: ضار يضور) من باب، قال يقول، وأشار إلى الرواية الثانية بقوله: (وضر يضر ضرا) من: باب فعل يفعل، بفتح العين في الماضي، وضمها في المستقبل، وضرا مصدره بضم الضاد، ويجيء أيضا مصدره ضررا بفتحتين. وفي (المطالع): الضرر والضير والضر والضر والضرار كل ذلك بمعنى قلت: وفي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فعلى ما ذكره يكون هذا للتأكيد، وفرق بعضهم بينهما فقال: الضرر وما تضر به صاحبك مما تنتفع أنت به، والضرار أن تضره من غير أن تنفع نفسك، ومتى قرن بالنفع لم يكن فيه إلا الضر والضر لا ضير.
43
((باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي))
أي: هذا باب في بيان التمتع، وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم بعد الفراغ منها يحرم بالحج في تلك السنة. قوله: (والإقران)، بكسر الهمزة من أقرن بين العمرة والحج، وهو أن يحرم بهما بأن يقول: لبيك بعمرة وحجة معا، وهكذا وقع في رواية أبي ذر، يعني بكسر الهمزة في أوله، قال عياض: وهو خطأ من حيث اللغة. وفي (المطالع): القرن في الحج جمعه بين الحج والعمرة في الإحرام، يقال منه: قرن، ولا يقال: أقرن. قلت: روي عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن القران إلا أن يستأذن أحدكم صاحبه. قال ابن الأثير: ويروى عن الإقران فإذا روى الإقران في كلام الفصيح كيف يقال إنه غلط؟ وكيف يقال يقال منه: قرن، ولا يقال: أقرن؟ فالقران من الثلاثي والإقران من المزيد، من قرن يقرن من: باب ضرب يضرب، قاله ابن التين: وفي (المحكم) و (الصحاح) من: باب نصر ينصر. قوله: (والإفراد بالحج)، وهو الإحرام بالحج وحده. قوله: (وفسخ الحج) هو أن يحرم بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة فيصير متمتعا، أما القران والإفراد بالحج فلا خلاف في جوازهما، وأما فسخ الحج ففي جوازه خلاف، وقال بعضهم: وظاهر تصرف المصنف إجازته، فإن تقدير الترجمة: باب مشروعية التمتع... إلى آخره. قلت: لا نسلم هذا التقدير، بل الظاهر أن التقدير في بيان التمتع.. إلى آخره، وهو أعم مما ذكره قوله: (لمن لم يكن معه هدي)، قيد به لأن من ساق الهدي معه لا يجوز له فسخ الحج إلى العمرة.
1651 حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نري إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فحضت فلم أطف بالبيت فلما كانت ليلة الحصبة قالت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال وما طفت ليالي قدمنا مكة قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك كذا وكذا قالت صفية ما أراني إلا حابستهم قال عقرى حلقى أو ما طفت يوم النحر قالت قلت بلى قال لا بأس انفري قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها.
.
مطابقته للترجمة في الجزء الأخير منها، وهو قوله: (وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي) في قوله: (فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم،
195

من لم يكن ساق الهدي أن يحل) أي: من الحج إلى العمرة، وهذا هو فسخ الحج.
ورجاله قد ذكروا في: باب من سأل، في كتاب العلم، وعثمان هو ابن أبي شيبة، وجرير، بفتح الجيم: ابن عبد الحميد، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، والأسود بن يزيد خال إبراهيم وكلهم كوفيون.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن أبي النعمان عن أبي عوانة عن جرير، وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير به. وأخرجه أبو داود فيه عن عثمان بن أبي شيبة به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن قدامة عن جرير به.
ذكر معناه: قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم)، وكان خروجهم في أشهر الحج كما قد بينه في الحديث الذي مضى في الباب السابق. قوله: (ولا نرى)، بضم النون أي: ولا نظن، وقال ابن التين: ضبطه بعضهم بفتح النون وبعضهم بضمها، وقال القرطبي: كان هذا قبل أن يعلمن بأحكام الإحرام وأنواعه، وقيل:
يحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد بقولها: لا نرى حكاية عن فعل غيرها من الصحابة، وهم كانوا لا يعرفون غيره، وزعم عياض أنها كانت أحرمت بالحج ثم أحرمت بالعمرة، ثم أحرمت بالحج، ويدل على أن المراد بقولها: لا نرى إلا الحج، من فعل غيرها، قوله: (فلما قدمنا تطوفنا بالبيت)، تعني بذلك: النبي صلى الله عليه وسلم والناس غيرها لأنها لم تطف بالبيت في ذلك الوقت لأجل حيضها، وفي رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة: (خرجنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم، مهلين بالحج) وفي رواية مسلم من طريق القاسم عنها: (لا تذكر إلا الحج) وفي رواية للبخاري أيضا كذلك، وقد مضت في كتاب الحيض، وله أيضا من هذا الوجه: (لبينا بالحج)، وظاهر هذا يقتضي أن عائشة كانت مع الصحابة أولا محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها هنا: (فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج). فإن قلت: ما وجه هذا؟ قلت: يحمل الأول على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتمار في أشهر الحج فيخرجون لا يعرفون إلا الحج، قالت: مهلين بالحج، ولا نرى إلا أنه الحج، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج. فإن قلت: قد مر في كتاب الحيض أنها قالت: أهللت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكنت فيمن تمنع ولم يسق الهدي؟ قلت: الجواب عنه ما قاله عياض الذي قد ذكرناه آنفا، وكذلك الجواب عن قولها: وكنت ممن أهل بعمرة، وقد مضى في كتاب الحيض، وسيأتي في المغازي، وادعى إسماعيل القاضي وغيره أن هذا غلط من عروة وأن الصواب رواية الأسود والقاسم وعروة عنها أنها أهلت بالحج مفردا، ورد عليه بأن قول عروة صريح أنها أهلت بعمرة، وقول الأسود وغيره عنها: لا نرى إلا الحج، فليس بصريح في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما بما ذكرناه، فلا يحتاج إلى تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها. قوله: (أن يحل أي: بأن يحل من الحج، وهو بضم الياء من الإحلال، وهو الخروج من الإحرام، قال الكرماني: ويروى بأن يحل، بفتح الياء أي: يصير حلالا، والأول يناسب قولها: فأحللن، والثاني: يناسب قولها: فحل فإن قلت: قوله: (فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم) الفاء فيه تقتضي التعقيب، فتدل على أن الأمر كان بعد الطواف مع أنه قد سبق الأمر بهذا؟ قلت: أجاب الكرماني أنه قال مرتين: قبل القدوم وبعده، فالثاني تكرار للأول وتأكيد له. قوله: ونساؤه لم يسقن) أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقن الهدي، فلذلك أحللن قوله: (فلم أطف) قال الكرماني: هذا مناف لقوله: (تطوفنا)، ثم أجاب بقوله: المراد بلفظ الجمع الصحابة، وهذا تخصيص لذلك العام. قلت: قد ذكرنا أنها تعني النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، لأنها لم تطف ولم تدخل نفسها فيهم، فكيف يكون تخصيصا لذلك العام؟ ثم قال أيضا: فكيف صح حجها بدون الطواف؟ فأجاب بأنه ليس المراد طواف ركن الحج، بدليل قولها في حديث الباب السابق: (ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت). قوله: (ليلة الحصبة) أي: الليلة التي بعد ليالي التشريق التي ينزل الحجاج فيها في المحصب، والمشهور في الحصبة سكون الصاد، وجاء فتحها وكسرها، وهي أرض ذات حصى. قوله: (وأرجع أنا بحجة)، وفي رواية الكشميهني: (وأرجع لي بحجة)، قال الكرماني: فما قول من قال: إنها كانت قارنة؟ فأجاب بقوله: إنهم يرجعون بحج منفرد وارجع ليس لي عمرة منفردة؟ قوله: (قالت صفية) هي أم المؤمنين، سبقت في: باب المرأة تحيض بعد الإفاضة. قوله: (ما أراني) أي: ما أظن نفسي إلا حابسة القوم عن التوجه إلى المدينة، لأني حضت وما طفت بالبيت، فلعلهم بسببي
196

يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة، وإسناد الحبس إليها على سبيل المجاز. قوله: (عقري حلقي) قال أبو عبيد: معناه عقرها الله وأصابها وجع في حلقها، هذا على ما يرويه المحدثون، والصواب: عقرا وحلقا أي: مصدرين بالتنوين فيهما، وقيل له لم لا يجوز: فعلى؟ قال: لأن: فعلى، يجيء نعتا، ولم يجيء في الدعاء، وهذا دعاء. وقال صاحب (المحكم): معناه عقرها الله وحلق شعرها أو أصابها في حلقها بالوجع، فعقرى ههنا مصدر كدعوى، وقيل: معناه تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها، وهو جمع عقير، وهو مثل: جريح وجرحى لفظا ومعنى. وقيل: عقرى عاقر لا تلد، وحلقى أي مشؤمة. قال الأصمعي: يقال: أصبحت أمه حالقا أي ثاكلا، وقال النووي: وعلى الأقوال كلها هي كلمة اتسعت فيها العرب فصارت تلفظها ولا تريد بها حقيقة معناها التي وضعت له: كتربت يداه، وقاتله الله. قال: إن المحدثين يروونه بالألف التي هي ألف التأنيث، ويكتبونه بالياء، ولا ينونونه. وقيل: معناه مشؤمة مؤذية. وقال الأصمعي: يقال ذلك لأمر يعجب منه، ويقال: امرأة حالق إذا حلقت قومها بشؤمها. وقال الداودي: يريد: أنت طويلة اللسان لما كلمته بما يكره، وهو مأخوذ من الحلق الذي يخرج منه الكلام. قوله: (انفري)، بكسر الفاء أي: ارجعي واذهبي، إذ لا حاجة لك إلى طواف الوداع لأنه ساقط عن الحائض. قوله: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره الواو في قوله: (وهو مصعد) للحال، وكذا الواو في قوله: (وأنا منهبطة)، إنما حكت الأمر على وجهه، وشك المحدث أي الكلمتين قالت، وإنما لقيها وهو يريد المحصب وهو يهبط إلى مكة، والمصعد في اللغة المبتدىء في السير، والصاعد الراقي إلى الأعلى من الأسفل.
ذكر فوائد فيه: ذكر الحج والتمتع، فالحج إذا ذكر مطلقا يتناول المفرد وغيره من التمتع والقرآن، والتمتع الجمع بين الحج والعمرة، يتحلل بينهما إن لم يكن سائقا للهدي. قال ابن سيده: المتعة ضم العمرة إلى الحج، وقد تمتع واستمتع، وقال القزاز في (جامعه): المتعة هو أن يدخل الرجل مكة في أشهر الحج بعمرة، ثم يقيم فيها حتى يحج وقد خرج من إحرامه، وتمتع بالنساء والطيب. وقال ابن الأثير: التمتع الترفق بأداء النسكين على وجه الصحة في سفرة واحدة من غير أن يلم بأهله إلماما صحيحا، ولهذا لم يتحقق من المكي، وقيل: سمي تمتعا لأنهم يتمتعون بالنساء والطيب بين العمرة والحج، قاله عطاء وآخرون، والمحرمون عشرة: مفرد بالحج. مفرد بالعمرة. قارن متمتع. مطلق. متطوع بحج: متطوع بعمرة. متطوع بقران. متمتع. مطلق. معلق يعني: كإحرام فلان، والكل جائز عند أهل العلم كافة إلا ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهما، أنهما كانا ينهيان عن التمتع، وقيل: كان نهي تنزيه، وقيل: إنما نهينا عن فسخ الحج إلى العمرة، لأن ذلك كان خاصا بالصحابة، وذهب أحمد إلى جواز فسخ الحج إلى العمرة، وقد استقصينا الكلام في الأفضل من الإفراد والتمتع والقران عن قريب.
2651 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمان ابن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة عمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر.
.
هذا وجه آخر من حديث عائشة، وقد مر الكلام فيه مستقصى. قال الكرماني: قالت عائشة: لا نرى إلا أنه الحج، فكيف أهلوا بالعمرة؟ وأجاب بقوله: ذلك الظن كان عند الخروج، وأما الانقسام إلى هذه الثلاثة من التمتع والقران والإفراد فهو بعد ذلك. قلت: قد ذكرنا في هذا عن قريب بأحسن من هذا وأبسط، وقد ذكرنا أن الروايات عن عائشة مختلفة فيما أحرمت به، حتى قال مالك: ليس العمل عندنا على حديث عروة عن عائشة قديما ولا حديثا، وقال أبو عمر: الأحاديث عنها مضطربة.
2651 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمان ابن نوفل عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة عمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة لم يحلوا حتى كان يوم النحر.
.
هذا وجه آخر من حديث عائشة، وقد مر الكلام فيه مستقصى. قال الكرماني: قالت عائشة: لا نرى إلا أنه الحج، فكيف أهلوا بالعمرة؟ وأجاب بقوله: ذلك الظن كان عند الخروج، وأما الانقسام إلى هذه الثلاثة من التمتع والقران والإفراد فهو بعد ذلك. قلت: قد ذكرنا في هذا عن قريب بأحسن من هذا وأبسط، وقد ذكرنا أن الروايات عن عائشة مختلفة فيما أحرمت به، حتى قال مالك: ليس العمل عندنا على حديث عروة عن عائشة قديما ولا حديثا، وقال أبو عمر: الأحاديث عنها مضطربة.
3651 حدثنا محمد بن بشار قال حأقنا غندر حدثنا شعبة عن الحكم عن علي بن حسين
197

عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا رضي الله تعالى عنهما وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد.
(الحديث 3651 طرفه في: 9651).
مطابقته للترجمة في قوله: (أهل بهما)، أي: بالعمرة والحج، وهذا هو القران، وغندر هو محمد بن جعفر، والحكم بفتحتين هو ابن عتيبة، بضم العين المهملة وفتح الثاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة: الفقيه الكوفي، وعلي بن الحسين هو زين العابدين. وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (شهدت عثمان وعليا) كان شهوده إياهما بعسفان على ما يأتي. قوله: (وعثمان) الواو فيه للحال. قوله: (عن المتعة) اختلفوا في المتعة التي نهى عنها. فقيل: هي فسخ الحج إلى العمرة لأنه كان مخصوصا بتلك السنة التي حج فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان تحقيقا ما عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج، وقيل: هو التمتع المشهور، والنهي للتنزيه ترغيبا للإفراد. قوله: (وأن يجمع بينهما) أي: بين العمرة والحج، قال الكرماني: أي القران، ثم قال: ما المراد منه؟ ثم أجاب: بأنه قال ابن عبد البر: القران أيضا نوع من التمتع لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون الواو في قوله: (وأن يجمع بينهما)، عاطفة فيكون النهي عن التمتع والقران معا، ويحتمل إن تكون تفسيرية، وذلك لأن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا. انتهى. قلت: الواو هنا عاطفة قطعا، ولا إجمال في المعطوف عليه حتى يقال: إنها تفسيرية، وهو قد رد على نفسه كلامه بقوله: إن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعا، فإذا كان كذلك يكون عطف التمتع على المتعة، وهو غير جائز. قوله: (فلما رأى علي) مفعوله محذوف تقديره: فلما رأى علي النهي (أهل بهما) أي: بالعمرة والحج. وقوله: (أهل) جواب لما، وفي رواية سعيد بن المسيب: (فقال علي، رضي الله تعالى عنه، ما تريد إلى أن تنهي عن أمر فعله، صلى الله عليه وسلم). وفي رواية الكشميهني: (إلا أن تنهى)، بحرف الاستثناء، وفي رواية مسلم من هذا الوجه زيادة، وهي: (فقال عثمان: إني لا أستطيع أن أدعك). قوله: (لبيك بعمرة وحجة) مقول لمقدر، والتقدير: أهل بهما حال كونه قائلا: لبيك. قوله: (قال: ما كنت) أي: قال علي، وهو استئناف كأن قائلا يقول: لم خالفه، فقال: ما كنت... إلى آخره، وحاصله أنه مجتهد لا يجوز عليه أن يقلد مجتهدا آخر، لا سيما مع وجود السنة، وفي رواية النسائي والإسماعيلي: (فقال عثمان: تر أني أنهى الناس وأنت تفعله؟ فقال: ما كنت لأدع)، أي: لأترك، اللام فيه للتأكيد.
ذكر ما يستفاد منه فيه: إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره ومناظرته ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد منا صحة المسلمين. وفيه: البيان بالفعل مع القول، لأن عليا، رضي الله تعالى عنه أمر وفعل ما نهاه عنه عثمان: وفيه: ما كان عليه عثمان من الحلم أنه لا يلوم مخالفه. وفيه: أن القوم لم يكونوا يسكتون عن قول يرون أن غيره أمثل منه إلا بينوه. وفيه: أن طاعة الإمام إنما تجب في المعروف، وفيه: أن معظم القصد الذي بوب عليه هو مشروعية المتعة لجميع الناس. فإن قلت: روي عن أبي ذر أنه قال: كانت متعة الحج لأصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم، خاصة في (صحيح مسلم)؟ قلت: قالوا: هذا قول صحابي يخالف الكتاب والسنة والإجماع، وقول من هو خير منه. أما الكتاب فقوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 691). وهذا عام، وأجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار، وإنما اختلفوا في فضله. وأما السنة، فحديث سراقة: (المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ قال: بل هي للأبد). وحديث جابر المذكور في (صحيح مسلم) في صفة الحج نحو هذا، ومعناه: أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع، ولا يرون العمرة في أشهر الحج، فجوزا، فبين النبي، صلى الله عليه وسلم، أن الله قد شرع العمرة في أشهر الحج، وجوز المتعة إلى يوم القيامة، رواه سعيد بن منصور من قول طاووس، وزاد فيه: (فلما كان الإسلام
أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة)، وقد خالف أبا ذر علي وسعد وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وسائر الصحابة وسائر المسلمين، قال عمران: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فيه القرآن ولم ينهنا عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم ينسخها شيء، فقال فيها رجل برأيه ما شاء، متفق عليه.
198

وقال سعد بن أبي وقاص: (فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: المتعة، وهذا يعني الذي نهى عنها يومئذ كافر بالعرش، يعني بيوت مكة) رواه مسلم. فإن قلت: روى أبو داود عن سعيد بن المسيب أن رجلا من الصحابة أتى عمر، رضي الله تعالى عنه، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المتعة قبل الحج؟ قلت: أجيب عن هذا بأنه حالة مخالفة للكتاب والسنة والإجماع، كحديث أبي ذر، بل هو أدنى حالا منه، فإن في إسناده مقالا. فإن قلت: قد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية قلت: قد أنكر عليكم علماء الصحابة وخالفوهم في فعلها، والحق مع المنكرين عليهم دونهم.
4651 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب حدثنا ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل قال حل كله.
مطابقته للترجمة في قوله: (فأمرهم أن يجعلوها عمرة)، وهي فسخ الحج إلى العمرة، ورجال الحديث قد تقدموا غير مرة، ووهيب مصغر وهب ابن خالد، وابن طاووس هو عبد الله، يروي عن أبيه طاووس.
وأخرجه ابخاري أيضا في أيام الجاهلية عن مسلم بن إبراهيم. وأخرجه مسلم في الحج عن محمد بن حاتم. وأخرجه النسائي فيه عن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (كانوا) أي: أهل الجاهلية. قوله: (يرون)، أي: يعتقدون أن العمرة إلى آخره، وروى داود (عن ابن عباس، قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش من دان دينهم كانوا يقولون: إذا عفا الأثر وبرأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر، وكان يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم). ورواه ابن حبان أيضا، ففي هذا تعيين القائلين المذكورين في قوله: ويقولون: قوله: (من أفجر الفجور)، أي: من أعظم الذنوب، وهذا من تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل، والفجور: الانبعاث في المعاضي، يقال: فجر يفجر فجورا من: باب نصر ينصر. قوله: (ويجعلون المحرم صفرا) أي: يجعلون الصفر من الأشهر الحرم، ولا يجعلون المحرم منها. قوله: (صفر) قال بعضهم: كذا هو في جميع الأصول من الصحيحين، وقال صاحب (التلويح) قوله: (صفرا) هو الصحيح لأنه مصروف بلا خلاف، ووقع في مسلم، رحمه الله تعالى: صفر بغير ألف. قلت: هذا يرد ما قاله بعضهم، وقال صاحب (التوضيح): قوله: صفر، كذا هو بغير ألف في أصل الدمياطي، رحمه الله تعالى. وفي مسلم: الصواب صفرا بالألف. وقال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف، ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبا لأنه منصرف. وقال الكرماني: اللغة الربيعية أنهم يكتبون المنصوب بلا ألف. وقال: وتقرأ هذه الألفاظ كلها ساكنة الآخر موقوفا عليها، لأن مرادهم السجع. وفي (المحكم) وكان أبو عبيدة لا يصرفه، فقيل له: لم لم تصرفه؟ لأن النحويين قد أجمعوا على صرفه وقالوا لا يمنع الحرف من الصرف إلا العلتان فأخبرنا بالعلتين فيه؟ فقال: نعم، العلتان المعرفة والساعة. وقال: أبو عمر المطرز، يرى أن الأزمنة كلها ساعات، والساعات مؤنثة، وقال عياض: قيل صفر داء يكون في البطن كالحيات إذا اشتد جوع الإنسان عضه، وقال رؤبة: هي حية تلتوي في البطن، وهي أعدى من الجرب عند العرب قلت: هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم لا صفر، وههنا غير مناسب، وقال النووي: قالت العلماء: المراد الإخبار عن النسيء الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، فكانوا يسمون المحرم صفرا، ويحلونه، ويؤخرون تحريم المحرم إلى نفس صفر، لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة، فيضيق عليهم فيها ما اعتادوه من المقاتلة والغارة والنهب، فضللهم الله في ذلك فقال: * (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) * (التوبة: 73). وقال الزمخشري، النسيء، هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر وربما زادوا في عدد الشهر فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، وقال الطيبي: إن العرب كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر، وهو النسيء المذكور في القرآن، قال تعالى: * (إنما النسيء زيادة في الكفر) * (التوبة: 73). وقال الكلبي: أول من نسأ القلمس واسمه: حذيفة
199

ابن عبيد الكناني، ثم ابنه عباد، ثم ابنه قلع بن عباد، ثم أمية بن قلع، ثم عوف بن أمية، ثم جنادة بن أمية وعليه قام الإسلام. وقيل: أول من نسأ نعيم بن ثعلبة، ثم جنادة، وهو الذي أدركه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: مالك بن كنانة، وقيل: عمرو بن طيء. وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام: المحرم، وفي (المحكم): قال بعضهم: سمي صفرا لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع، وقال بعضهم: سمي بذلك لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا، وروى عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرا لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرا من المتاع، وذلك إذا كان صفر بعدالمحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرا، فإذا جمعوه مع المحرم قالوا: صفران والجمع أصفار. وقال القزاز: قالوا إنما سموا الشهر صفرا لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى البلاد، يقال لها الصفرية، يمتارون منها. وقيل: لأنهم كانوا يخرجون إلى الغارة فتبقى بيوتهم صفرا، وفي العلم المشهور لأبي الخطاب: العرب تقول: صفر وصفران وصفارين وأصفار. قال: وقيل: إن العرب كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرا يسمونه صفرا الثاني، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (السنة اثني عشر شهرا) وكانوا يتطيرون به ويقولون: (إن الأمور فيه منغلقة، والآفات فيه واقعة. قوله: (إذا برأ الدبر)، برأ، بفتح الباء الموحدة معناه: إذا أفاق، والدبر، بفتح الدال والباء الموحدة ثم الراء، وهو ما يتأثر في ظهر الإبل بسبب اصطكاك القتب والحمل عليها في السفر. وقال الخطابي:
يحتمل أن يكونوا أرادوا برء الدبر في ظهر الإبل إذا انصرفت من الحج. وقال ابن سيده: الجمع أدبار، ودبر دبرا، فهو دبر وأدبر، والأنثى: دبرة ودبراء، وإبل دبراء، وقد أدبرها الحمل، قال عياض: وقيل: هو أن يقرح خف البعير. قوله: (وعفا الأثر) أي: ذهب أثر الدبر، يقال: عفا الشيء بمعنى درس، ووقع في (سنن أبي داود) وعفا الوبر: يعني كثر وبر الإبل الذي حلقته رحال الحاج، وعفى من الأضداد، وقال الكرماني: المعروف في عامة الروايات: عفا الوبر يعني بالواو كما في رواية أبي داود، قال تعالى: * (حتى عفوا وقالوا) * (الأعراف: 59). أي: كثروا. قوله: (حلت العمرة) أي: صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزا. وقال الكرماني: ما وجه تعلق انسلاخ صفر بالاعتمار في أشهر الحج الذي هو المقصود من الحديث، والمحرم وصفر ليسا من أشهر الحج؟ فأجاب بقوله: لما سموا المحرم صفرا. وكان من جملة تصرفاتهم فعل السنة ثلاثة عشر شهرا، صار صفر على هذا التقدير آخر السنة وآخر أشهر الحج، إذ لا برء في أقل من هذه المدة غالبا. وأما ذكر انسلاخ صفر الذي من الأشهر الحرم بزعمهم فلأجل أنه لو وقع قتال في الطريق، وفي مكة لقدروا على المقاتلة، فكأنه قال: إذا انقضى شهر الحج وأثره، والشهر الحرام، جاز الاعتمار، أو يراد بالصفر المحرم، ويكون إذا انسلخ صفر كالبيان والبدل لقوله: (إذا برأ الدبر) فإن الغالب أن البرى لا يحصل من أثر سفر الحج إلا في هذه المدة، وهي ما بين أربعين يوما إلى خمسين، ونحوه. قوله: (قدم النبي، صلى الله عليه وسلم)، كذا وقع في هذه الرواية، ووقع في رواية عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب في أيام الجاهلية بلفظ: فقدم، بزيادة فاء العطف، وكذا في رواية مسلم من طريق بهز بن أسد والإسماعيلي من طريق إبراهيم بن الحجاج، كلاهما عن وهيب وهو الوجه. قوله: (صبيحة رابعة) أي: ليلة رابعة من ذي الحجة، وهي يوم الأحد. قوله: (مهلين) نصب على الحال، أي: حال كونهم مهلين بالحج، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: وهم يلبون بالحج، وهذه الرواية تفسر قوله: مهلين، قوله: (فتعاظم ذلك) أي: الاعتمار في أشهر الحج، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر ذلك عندهم، أراد أنه تعاظم عندهم مخالفة العبادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج. قوله: (أي الحل) معناه: أي شيء من الأشياء يحل علينا، لأنه قال: اعتمروا وأحلوا، فقال: حل كله، يعني جميع ما يحرم على المحرم حتى الجماع، وذلك تمام الحل، كأنهم يعرفون أن للحج تحليلين، فأرادوا بيان ذلك بقولهم: أي الحل، فبين لهم صلى الله عليه وسلم الحل كله، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد، ووقع في رواية الطحاوي: (أي الحل نحل؟ قال: الحل كله).
ذكر ما يستفاد منه فيه: فسخ الحج إلى العمرة الذي بوب عليه. وفيه: استحباب دخول مكة نهارا، وهو المروي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، وبه قال عطاء والنخعي وإسحاق وابن المنذر، وهو أصح الوجهين لأصحاب الشافعي، والوجه الثاني: دخولها ليلا ونهارا سواء لا فضيلة لأحدهما على الآخر، وهو قول طاووس والثوري، وعن عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز: دخولها ليلا أفضل من النهار. وقال مالك: يستحب دخولها نهارا، فمن جاءها ليلا فلا بأس به. قال: وكان عمر بن
200

عبد العزيز يدخلها لطواف الزيارة ليلا. وفيه: حجة لمن قال: كان حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا، ومن قال: كان قارنا لا يلزم من إهلاله بالحج أن لا يكون أدخل عليه العمرة.
5651 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا غندر حدثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى ا رضي الله تعالى عنه قال قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالحل.
.
هذا الحديث أورده هنا مختصرا، وقد مضى بتمامه في: باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه هناك عن محمد بن يوسف عن سفيان عن قيس بن مسلم إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك مبسوطا. قوله: (فأمره بالحل)، رواية الكشميهني على الالتفات، وفي رواية غيره: (فأمرني بالحل).
6651 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك (ح) وحدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر عن حفصة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت يا رسول الله ما شأن الناس حلزا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر.
.
هذان طريقان: أحدهما: عن سليمان بن أبي أويس واسمه عبد الله الأصبحي المدني، ابن أخت مالك بن أنس، يروي عن مالك عن نافع. والآخر: عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك عن نافع، وفيه رواية الصحابي عن الصحابية عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواية الأخ عن أخته لأن حفصة بنت عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر أخوها.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في موضعين: في الحج عن عبد الله بن يوسف، وفيه، وفي اللباس عن إسماعيل، وفي الحج أيضا عن مسدد عن يحيى بن سعيد، وفي المغازي عن إبراهيم بن المنذر، وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن محمد بن عبد الله وعن محمد بن المثنى وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك به. وأخرجه النسائي فيه عن عبيد الله بن سعيد وعن محمد ابن سلمة: وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
ذكر معناه: قوله: (حلوا بعمرة)، لم يقع لفظة بعمرة في رواية مسلم، وقال أبو عمر: زعم بعض الناس أنه لم يقل أحد في هذا الحديث: عن نافع، ولم تحلل أنت
عن عمرتك إلا مالك وحده، قال: وهذه اللفظة قالها عن نافع جماعة منهم عبيد الله بن عمر، وأيوب بن أبي تميمة، وهما ومالك حفاظ أصحاب نافع. وقال أبو عمر: لما لم يكن لأحد من العلماء سبيل إلى الأخذ بكل ما تعارض وتدافع من الآثار في هذا الباب، ولم يكن بد من المصير إلى وجه واحد منها صار كل واحد إلى ما صح عنده بمبلغ اجتهاده، وقال السفاقسي في قولها: (ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟) يحتمل أن تريد، من حجتك، لأن معناهما متقارب، يقال: حج الرجل البيت إذا قصده، فعبرت بأحدهما عن الآخر، وإن كان كل واحد منهما يقع على نوع مخصوص من القصد والنسك. وقيل: إنها لما سمعته يأمر الناس بسرف بفسخ الحج في العمرة ظنت أنه فسخ الحج فيها، وقيل: اعتقدت أنه كان معتمرا. وقال القرطبي: قولها وقول ابن عباس: من عمرتك، أي: بعمرتك، كما قال تعالى * (يحفظونه من أمر الله) * أي: بأمر الله، عبر بالإحرام بالعمرة عن القرن لأنها السابقة في إحرام القارن قولا ونية، ولا سيما على ما ظهر من حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا. قوله: (ولم تملك) بكسر اللام الأولى أي لم تحل وفك فيه الإدغام وقد غلم أن في مثل هذا الموضوع يجوز الوجهان الإدغام وفكه قوله: (لبدت)، بكسر اللام الموحدة من التلبيد، وهو أن يجعل المحرم في رأسه شيئا من الصمغ ليجتمع الشعر، ولئلا يقع فيه القمل. قوله: (وقلدت) من تقليد الهدي، وهو تعليق شيء في عنق الهدي من النعم ليعلم أنه هدي، قوله: (حتى أنحر) أي: الهدي.
201

ذكر ما يستفاد منه فيه: أن من ساق الهدي لا يتحلل من عمل العمرة حتى يهل بالحج ويفرغ منه. وفيه: أنه لا يحل حتى ينحر هديه، وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وفيه: استحباب التلبيد والتقليد. وفيه: دليل أنه، صلى الله عليه وسلم، كان قارنا لأن ثمة عمرة. قال الكرماني: فما دخل التلبيد في الإحلال وعدمه؟ ثم أجاب بقوله: الغرض بيان: أني مستعد من أول الأمر بأن يدوم إحرامي إلى أن يبلغ الهدي محله.
7651 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال أخبرنا أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي قال تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبلة فأخبرت ابن عباس فقال سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أقم عندي فأجعل لك سهما من مالي قال شعبة فقلت لم فقال للرؤيا التي رأيت.
(الحديث 7651 طرفه في: 8861).
مطابقته للترجمة في قوله: (فأمرني)، أي: ابن عباس أمرني بالتمتع.
ورجاله قد ذكروا، وأبو جمرة، بالجيم وبالراء: اسمه نصر، بفتح النون وسكون الصاد المهملة: الضبعي، بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة، وقد مر في: باب أداء الخمس من الإيمان.
وأخرجه البخاري أيضا عن إسحاق بن منصور. وأخرجه مسلم عن ابن المثنى وابن بشار، كلاهما عن غندر به.
ذكر معناه: قوله: (فأمرني)، أي: فأمرني ابن عباس بالتمتع، وكانت هذه القضية في زمن عبد الله بن الزبير، وكان ينهى عن التمتع كما رواه مسلم من حديث ابن الزبير عنه، وعن جابر، ونقل ابن أبي حاتم عن ابن الزبير: أنه كان لا يرى التمتع إلا للمحصر، ووافقه علقمة وإبراهيم، وقال الجمهور: لا اختصاص بذلك للمحصر. قوله: (حج مبرور) ارتفاع حج على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا حج، ومبرور، صفته أي: مقبول، وفي رواية أحمد ومسلم من طريق غندر (عن شعبة: فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك، فأمرني بها ثم انطلقت إلى البيت فأتاني آت في منامي فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور. قال: فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: الله أكبر الله أكبر سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم). قوله: (سنة النبي صلى الله عليه وسلم) كلام إضافي مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز فيه النصب على تقدير: وافقت سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فقال لي) أي: قال لي ابن عباس. قوله: (فأجعل لك) أي: فأنا أجعل لك، ويروى: وأجعل لك، بالواو التي تدل على الحال، ويروى: اجعل، بدون الفاء والواو. وقال الكرماني: وفي بعضها: اجعل، بالنصب. قلت: وجهه أن يكون منصوبا بأن المقدرة أي: بأن أجعل لك، ويجوز الجزم بأن يكون جوابا للأمر، قوله: (سهما)، أي: نصيبا. قوله: (قال شعبة: فقلت)، يعني لأبي جمرة. قوله: (لم؟) استفهام عن سبب ذلك. قوله: (فقال) أي: أبو جمرة. قوله: (للرؤيا) أي: لأجل الرؤيا المذكورة التي رأيت، وهو بلفظ المتكلم، وسببه أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
وفيه: ما كانوا عليه من التعاون على البر والتقوى، وحمدهم لمن يفعل الخير، فخشي أبو جمرة من تمتعه هبوط الأجر ونقص الثواب للجمع بينهما في سفر واحد، وإحرام واحد، وكان الذين أمروا بالإفراد إنما أمروه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه لينفرد الحج وحده، ويخلص عمله من اشتراك فيه، فأراه الله الرؤيا ليعرفه أن حجه مبرور وعمرته متقبلة، ولذلك قال ابن عباس: أقم عندي ليقص على الناس هذه الرؤيا المبينة لحال التمتع. وفيه: دليل الرؤيا الصادقة شاهدة على أمور اليقظة، وكيف لا وهو جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة؟ وفيه: أن العالم يجوز له أخذ الأجرة على العلم.
8651 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا أبو شهاب قال قدمت متمتعا مكة بعمرة فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام فقال لي أناس من أهل مكة تصير الآن حجتك مكية فدخلت على عطاء أستفتيه فقال حدثني جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد
202

أهلوا بالحج مفردا فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولاكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأبو نعيم، بضم النون: هو الفضل بن دكين، وأبو شهاب الأكبر الحناط، بفتح الحاء المهملة وتشديد النون، واسمه موسى بن نافع الهذلي الكوفي، وأخرجه مسلم في الحج عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبي نعيم به.
ذكر معناه: قوله: (متمتعا) حال من الضمير الذي في قدمت. قوله: (بعمرة) أيضا حال، أي: ملتبسا بعمرة. قوله: (مكية) أي: قليلة الثواب لقلة مشقتها، وقال ابن بطال: معناه أنك تنشيء حجك من مكة كما ينشئ أهل مكة منها، فيفوتك فضل الإحرام من الميقات وقوله: (حجتك مكية)، هكذا هو رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (حجا مكيا). قوله: (على عطاء)، هو عطاء بن أبي رباح المكي. قوله: (استفتيه)، من الأحوال المقدرة. قوله: (يوم ساق البدن)، بضم الباء الموحدة وضم الدال وسكونها، جمع بدنة، وذلك في حجة الوداع. وفي رواية مسلم بلفظ: (عام ساق الهدي). قوله: (وقد أهلوا بالحج مفردا) بفتح الراء وبكسرها، قال الكرماني: باعتبار كل واحد. قلت: لا ضرورة في كونه حالا من الحج، وما قاله بالتأويل. قوله: (فقال لهم) أي: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أحلوا من إحرامكم بالطواف، أي: اجعلوا حجكم عمرة وتحللوا منها بالطواف والسعي، أو التقدير: اجعلوا إحرامكم عمرة ثم أحلوا منه بالطواف. قوله: (وبين الصفا والمروة) أي: وبالسعي بين الصفا والمروة، وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة، وقال ابن التين: هذا الحديث أبين ما في هذه من فسخ الحج إلى العمرة. قوله: (وقصروا) أمرهم بالتقصير لأنهم يهلون بعد قليل بالحج، وأخر الحلق لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط. قوله: (حلالا)، نصب على الحال بمعنى: محلين. قوله: (واجعلوا التي) أي: الحجة المفردة التي أهللتم بها (متعة) أي: عمرة، وأطلق على العمرة: متعة، مجازا، والعلاقة بينهما ظاهرة. قوله: (ولكن لا يحل مني حرام)، بكسر حاء يحل، والمعنى: لا يحل مني ما حرم علي، ووقع في رواية مسلم: (لا يحل مني حراما)، بالنصب على المفعولية، لكن بضم الياء في: لا يحل، وفاعله محذوف، وتقديره: لا يحل طول المكث، ونحو ذلك مني شيئا حراما (حتى يبلغ الهدي محله) وهو منى، فينحر فيه.
قال أبو عبد الله أبو شهاب ليس له مسند إلا هاذا
أبو عبد الله: هو البخاري نفسه، أي لم يرو أبو شهاب حديثا مرفوعا إلا هذا الحديث، وقيل: المراد ليس له مسند عن عطاء إلا هذا لا مطلقا. قال صاحب (التلويح) كأنه يقول: من كان هكذا لا يجعل حديثه أصلا من أصول العلم، وهذا طرف من حديث جابر بن عبد الله الذي رواه مطولا جدا، ولأبي بكر إبراهيم بن المنذر عليه كتاب سماه: (التخيير) استنبط منه مائة نوع ونيفا وخمسين نوعا من وجوه العلم، والبخاري، رضي الله تعالى عنه، ذكر جل حديث جابر الذي انفرد به مسلم، رحمه الله تعالى، في مواضع متفرقة. ومن فوائد هذه القطعة التي ساقها البخاري، رضي الله تعالى عنه: التقصير للمعتمر ليتوفر السفر للحلاق يوم النحر.
9651 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهما بعسفان في المتعة فقال علي ما تريد إلا أن تنتهي عن أمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم قال فلما رى ذلك علي أهل بهما جميعا.
(انظر الحديث 3651).
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة.
قوله: (وهم بعسفان)، جملة حالية أي: كائنان بعسفان، وهو بضم العين وسكون السين المهملتين وبالفاء وبعد الألف نون: وهي قرية جامعة بها منبر على ستة وثلاثين ميلا من مكة، ويقال: على
203

قدر مرحلتين من مكة قوله: (ما نريد إلا أن تنهى) أي: ما تريد إرادة منتهية إلى النهي، أو ضمن الإرادة معنى الميل. قوله: (فعله النبي، صلى الله عليه وسلم) جملة في محل الجر لأنها وقعت صفة. لقوله: (عن أمر). قوله: (أهل بهما) أي: بالعمرة والحج، وهذا هو القران. فإن قلت: كيف تقول: هذا قران؟ والاختلاف بينهما كان في التمتع؟ قلت: من وجوه التمتع أن يتمتع الرجل بالعمرة والحج، وهو أن يجمع بينهما فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها، يقول: لبيك بعمرة وحجة معا، وهذا هو القران، وإنما جعل القران من باب التمتع لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة، وإلى الحج أخرى، ويتمتع بجمعهما، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته، وضم الحج إلى العمرة، فدخل تحت قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * (البقرة: 691).
53
((باب من لبى بالحج وسماه))
أي: هذا باب في بيان أمر من قال: لبيك بالحج، وسماه أي: عينه.
0751 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال سمعت مجاهدا يقول حدثنا جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول لبيك اللهم لبيك بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (لبيك اللهم لبيك بالحج) فإنه لبى وسماه أي: عينه بقوله: بالحج، ويؤخذ منه أن التعيين أفضل وأن يسميه في تلبيته سواء كان مفردا أو متمتعا أو قارنا. وأيوب هو السختياني. والحديث أخرجه مسلم رحمه الله تعالى عن خلف بن هشام وأبي الربيع وقتيبة عن حماد بن زيد، رضي الله تعالى عنهم، ويؤخذ منه فسخ الحج إلى العمرة، وقد ذكرنا أنه منسوخ عند الجمهور.
63
((باب التمتع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان من تمتع في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهكذا هو في رواية أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، وفي رواية غيره: باب التمتع، فقط، وفي رواية بعضهم لفظ: باب مجرد بغير ذكر ترجمة، وكذا ذكره الإسماعيلي ورواية أبي ذر أولى.
1751 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا همام عن قتادة قال حدثني مطرف عن عمران رضي الله تعالى عنه قال تمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن قال رجل برأيه ما شاء.
(الحديث 1751 طرفه في: 8154).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي. الثاني: همام بن يحيى بن دينار العوذي. الثالث: قتادة بن دعامة. الرابع: مطرف، بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء المشددة وبالفاء ابن الشخير. الخامس: عمران بن الحصين، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين، وفيه: أن رواته كلهم بصريون.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في الحج عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد ابن عبد الوارث عن همام قتادة عن مطرف، (عن عمران بن حصين قال: تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه القرآن: قال رجل برأيه ما شاء). وفي لفظ له: (ولم تنزل آية تنسخ ذلك)، وفي لفظ: (ولم ينزل فيه قرآن يحرمه)، وفي لفظ: (ثم لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم)، وفي لفظ: (ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج).
قوله: (فنزل القرآن)، وهو قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 691). الآية، ولم تنزل بعد هذه الآية آية تنسخ هذه الآية، وألفاظ مسلم كلها تخبر
204

بذلك. قوله: (قال رجل)، قال الكرماني: ظاهر سياق هذا الكلام يقضي أن يكون المراد به عثمان، رضي الله تعالى عنه، وقال ابن الجوزي: كأنه يريد عثمان، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أبا بكر أو عمر أو عثمان، وفيه تأمل، لا يخفى. وقال النووي والقرطبي: يعني عمر بن الخطاب، وحكى الحميدي أنه وقع في البخاري في رواية أبي رجاء عن عمران، قال البخاري: يقال: إنه عمر، أي الرجل الذي عناه عمران بن حصين قيل: الأولى أن يفسر بها عمر، فإنه أول من نهى عنها، وأما من نهي بعده في ذلك فهو تابع له. وقال عياض. وغيره جازمين بأن المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهما، هي فسخ الحج إلى العمرة، لا العمرة التي يحج بعدها. قلت: يرد عليهم ما جاء في رواية مسلم في بعض طرقه التصريح بكونها متعة الحج، وقد ذكرناه عن قريب، وفي رواية له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمر بعض أهله في العشر، وفي رواية له: جمع بين حج وعمرة، ومراده التمتع المذكور، وهو الجمع بينهما في عام واحد.
ومما يستفاد منه: وقوع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة، وإنكار بعض المجتهدين على بعض بالنص.
73
((باب تفسير قول الله تعالى * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * (البقرة: 691).))
أي: هذا باب في بيان قول الله عز وجل: * (ذلك لمن لم يكن..) * (البقرة: 691). إلى آخره. قوله: (ذلك) إشارة إلى التمتع لأنه سيق فيها، وهو قوله: * (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * (البقرة: 691). قوله: * (فإذا أمنتم) * (البقرة: 691). أي: إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن تمتع بالعمرة أي: فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا، فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هوالتمتع الخاص. والتمتع العام يشمل القسمين. قوله: * (فما استيسر) * (البقرة: 691). أي: فعليه ما قدر عليه من الهدي يذبحه، وأقله شاة. قوله: * (فمن لم يجد) * أي: هديا: * (فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج) * أي: في أيام المناسك. قوله: * (وسبعة إذا رجعتم) * أي: وعليه صيام سبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وقيل: إذا فرغتم عن مناسككم. قوله: * (تلك عشرة كاملة) * تأكيد، كما تقول: رأيت بعيني وسمعت بأذني وكتبت بيدي. قوله: * (ذلك) * أي: التمتع * (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * وأصله: حاضرين، فلما أضيف إلى المسجد سقطت النون للإضافة، وسقطت الياء في الوصل لسكونها وسكون اللام في المسجد.
وقد اختلف العلماء في: * (حاضري المسجد الحرام) * من هم؟ فذهب طاووس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم، وبه قال داود، وقالت طائفة: من أهل مكة بعينها، روي هذا عن نافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وهو قول مالك: هم أهل مكة ذي طوى وشبهها، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل: قديد ومر الظهران، وعسفان فعليهم الدم. وذهب أبو حنيفة إلى: أنهم أهل المواقيت، فمن دونهم إلى مكة، وهو قول عطاء ومكحول، وهو قول الشافعي بالعراق، وقال الشافعي أيضا، وأحمد: من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام، وعند الشافعي وأحمد ومالك وداود: أن المكي لا يكره له التمتع ولا القران، وإن تمتع لم يلزمه دم وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع والقران، فإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرا، وهما في حق الأفقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرا.
وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري قال حدثنا أبو معشر حدثنا عثمان بن غياث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل
المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي. طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ونسكنا مناسك وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل
205

بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى * (فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم) * (البقرة: 691). إلى أمصاركم الشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس غير أهل مكة قال الله ذالك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى شوال وذو القعدة وذو الحجة فمن تمتع في هاذه الأشهر فعليه دم أو صوم والرفث الجماع والفسوق والمعاصي والجدال المراء.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا تعليق وصله الإسماعيلي، قال: حدثنا القاسم المطرز حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو كامل فذكره بطوله، لكنه قال: عثمان بن سعد، بدل عثمان بن غياث، وكلاهما بصريان لهما رواية عن عكرمة، لكن عثمان بن غياث ثقة، وعثمان بن سعد ضعيف.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. الثاني: أبو معشر، بفتح الميم: واسمه يوسف بن يزيد البراء، بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء، وكان يبري العود، العطار أيضا البصري. الثالث: عثمان بن غياث، بكسر الغين المعجمة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف ثاء مثلثة: الراسبي، بالباء الموحدة: الباهلي. الرابع: عكرمة مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله بن عباس.
وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (حجة الوداع)، بفتح الحاء والواو وكسرهما. قوله: (فلما قدمنا مكة)، أي: فلما قربنا من مكة، لأن ذلك كان بسرف. قوله: (اجعلوا)، خطاب لمن كان أهل بالحج مفردا لأنهم كانوا ثلاث فرق. قوله: (طفنا)، وفي رواية الأصيلي: (فطفنا)، بالفاء العاطفة، قال بعضهم: هو الوجه. قلت: كلاهما موجه. أما الرواية بالفاء فظاهرة، وأما الرواية المجردة عنها فوجهها أنه استئناف، ويجوز أن يكون جواب. (فلما قدمنا). قوله: (وقال)، جملة حالية، و: قد، مقدرة فيها لأن الجملة الفعلية إذا كان فعلها ماضيا ووقعت حالا فلا بد أن يكون فيها كلمة: قد، إما ظاهرة أو مقدرة. قوله: (ونسكنا المناسك) أي: من الوقوف والمبيت بمزدلفة وغير ذلك. قوله: (وأتينا النساء)، وابن عباس غير داخل فيه، لأنه حينئذ لم يكن مدركا، وإنما هو يحكي ذلك عنهم. قوله: (ثم أمرنا)، بفتح الراء أي: ثم أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (عشية التروية) أي: بعد الظهر ثامن ذيي الحجة. قوله: (فإذا فرغنا من المناسك) أي: الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ورمي يوم العيد والحلق. قوله: (فقد تم حجنا)، وفي رواية الكشميهني، وقد تم بالواو، ومن ههنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس، ومن أوله إلى هنا مرفوع. قوله: (كما قال الله تعالى: * (فما استيسر من الهدي) * (البقرة: 691).) قد فسرناه عن قريب. قوله: (إذا رجعتم إلى أمصاركم) تفسير من ابن عباس بمعنى: الرجوع. قوله: (الشاة تجزي) تفسير من ابن عباس، و: تجزي، بفتح التاء المثناة من فوق أي: تكفي لدم التمتع. فإن قلت: ما وقعت هذه الجملة أعني: (الشاة تجزي). قلت: جملة حالية وقعت حالا بلا واو وهو جائز كما في قولك: كلمته فوه إلى في. قوله: (بين نسكين) وهما: الحج والعمرة. قوله: (بين الحج والعمرة) فائدة ذكرهما البيان والتأكيد لأنهما نفس النسكين، وهو بإسكان السين. قال الجوهري: النسك، بالإسكان العبادة، وبالضم الذبيحة. قوله: (فإن الله أنزله) أي: أنزل الجمع بين الحج والعمرة أخذا من قوله: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 691). قوله: (وسنه) أي: شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمر به أصحابه. قوله: (وأباجه) أي: وأباح التمتع للناس غير أهل مكة ويجوز في غير النصب والجر، أما النصب فعلى الاستثناء، وأما الجر فعلى أنه صفة للناس. وقال بعضهم بنصب: غير، ويجوز كسره. قلت: الكسر لا يستعمل إلا في المبني، وفي المعرب لا يستعمل إلا بالجر. قوله: (ذلك) أي: التمتع. وقال الكرماني: هذا دليل للحنفية في أن لفظ ذلك للتمتع لا لحكمه، ثم أجاب بقوله: قول الصحابي ليس بحجة عند الشافعي، إذ المجتهد لا يجوز له تقليد المجتهد؟ قلت: هذا جواب واه مع إساءة الأدب، ليت شعري ما وجه هذا القول الذي يأباه العقل؟ فإن مثل ابن عباس كيف لا يحتج بقوله؟
206

وأي مجتهد بعد الصحابة يلحق ابن عباس أو يقرب منه حتى لا يقلده؟ فإن هذا عسف عظيم. قوله: (التي ذكر الله تعالى) أي: في الآية التي بعدها آية التمتع، وهو قوله تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * (البقرة: 791). قوله: (في هذه الأشهر) وفائدة هذا التقييد هو التنبيه على أن التمتع الذي يوجب الدم أو الصوم الذي في أشهر الحج. قوله: (شوال)، مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة. قوله: (والرفث...) إلى آخره، قد مر بيانه مستقصى. قوله: (والفسوق)، المعاصي فيه إشعار أن الفسوق جمع فسق لا مصدر، وتفسير الأشهر، وسائر الألفاظ زيادة للفوائد باعتبار أدنى ملابسة بين الآيتين.
ذكر ما يستفاد منه فيه: دليل على مشروعية التمتع، وأن المتمتع على قسمين: أحدهما: أن يكون سائق الهدي، فلا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله، والآخر: غير سائق الهدي، فإنه يتحلل إذا فرغ عن عمرته، ثم يحرم بالحج. وفيه: أن المكي لا تمتع عليه، وعند الجمهور: التمتع أن يجمع الشخص بين العمرة والحج في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد، وأن يقدم العمرة، وأن لا يكون مكيا، فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا. وفيه: صوم ثلاثة أيام في الحج لمن لا يجد الهدي، والأفضل عند أبي حنيفة أن يصوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة، رجاء أن يقدر على الهدي الذي هو الأصل، والمستحب في السبعة أن يكون صومها بعد رجوعه إلى أهله، إذ جواز ذلك مجمع عليه، ويجوز إذا رجع إلى مكة بعد أيام التشريق في مكة، وفي الطريق، وهو محكي عن مجاهد وعطاء، وهو قول مالك، وجوزه أيضا في أيام التشريق، وهو قول ابن عمر وعائشة والأوزاعي والزهري، ولم يجوزه علي بن أبي طالب للنهي عن ذلك. وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وقال إسحاق: يصومها في الطريق، وللشافعي أربعة أقوال: أصحها: عنه رجوعه إلى أهله. الثاني: الرجوع هو التوجه من مكة. الثالث: الرجوع من منى
إلى مكة. الرابع: الفراغ من أفعال الحج، فإن فاته صوم الثلاثة حتى أتى يوم النحر لم يجزه عند أبي حنيفة إلا الدم. روي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وطاووس ومجاهد والحسن وعطاء، وجوز صومها بعد أيام التشريق حماد والثوري، وللشافعي ستة أقوال: أحدها: لا يصوم وينتقل إلى الهدي. الثاني: عليه صوم عشرة أيام يفرق بيوم. الثالث: عشرة أيام مطلقا. الرابع: يفرق بأربعة أيام فقط. الخامس: يفرق بمدة إمكان السير. السادس: بأربعة أيام، ومدة إمكان السير، وهو أصحها عندهم، وخرج ابن شريح وأبو إسحاق المروزي قولا: أن الصوم يسقط ويستقر في ذمته. والله أعلم.
83 باب الإغتسال عند دخول مكة
أي: هذا باب في بيان استحباب الاغتسال عند دخول مكة، شرفها الله تعالى.
3751 حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية قال أخبرنا أيوب عن نافع قال كان بن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذالك.
مطابقته للترجمة في قوله: (ويغتسل بذي طوى لدخول مكة). وقد أخرج البخاري هذا الحديث بأتم منه معلقا في: باب الإهلال مستقبل القبلة، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى. وابن علية هو إسماعيل بن علية، بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف.
قوله: (أدنى الحرم) أي: أول موضع منه. قوله: (أمسك عن التلبية)، أي: يتركها، والظاهر أن هذا كان مذهبه، وإلا فالإمساك عنها في يوم العيد أو كان يستأنفها، ذلك أو كان تركها لسبب من الأسباب. قوله: (ويغتسل) أي: يغتسل بذي طوى. قوله: (ذلك)، إشارة إلى ما فعله من الإمساك عن التلبية إذا دخل أدنى الحرم والبيتوتة بذي طوى والاغتسال فيه. وقال ابن المنذر: الاغتسال لدخول مكة مستحب عند جميع العلماء، إلا أنه ليس في تركه عامدا عندهم فدية. وقال أكثرهم: الوضوء يجزئ فيه. وكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يتوضأ أحيانا ويغتسل أحيانا. وروى ابن نافع عن مالك. أنه استحب الأخذ بقول ابن عمر: يتوضأ أحيانا ويغتسل أحيانا للإهلال بذي الحليفة وبذى طوى لدخول
207

مكة وعند الرواح إلى عرفة. قال: ولو تركه تارك من عذر لم أر شيئا. وأوجبه أهل الظاهر فرضا على من يريد الإحرام، والأمة على خلافهم، وروي عن الحسن أنه إذا نسي الغسل للإحرام يغتسل إذا ذكر، واختلف فيه عن عطاء، فقال مرة: يكفي منه الوضوء، وقال مرة غير ذاك، والغسل لدخول مكة ليس لكونها محرما، وإنما هو لحرمة مكة حتى يستحب لمن كان حلالا أيضا، وقد اغتسل لها، صلى الله عليه وسلم، عام الفتح وكان حلالا، أفاد ذلك الشافعي، رضي الله تعالى عنه في (الأم). فإن قلت: لم أمسك ابن عمر، رضي الله تعالى عنه عن التلبية من أول الحرم وكان محرما بالحج. قلت: تأول أنه قد بلغ إلى الموضع الذي دعى إليه، ورأى أن يكبر الله ويعظمه ويسبحه إذا سقط عنه معنى التلبية بالبلوغ، وكره مالك، رضي الله تعالى عنه، التلبية حول البيت. وقال ابن عيينة: ما رأيت أحدا يقتدي به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب، وروي عن سالم أنه كان يلبي في طوافه، وبه قال ربيعة وأحمد وإسحاق، وكل واسع. وقال ابن حبيب: إذا اغتسل المحرم لدخولها يغسل جسده دون رأسه، وحكى محمد عن مالك أن المحرم لا يتدلك في غسل دخول مكة ولا الوقوف بعرفة، ولا يغسل رأسه إلا بالماء وحده يصبه صبا ولا يغيب رأسه في الماء.
93
((باب دخول مكة نهارا أو ليلا))
أي: هذا باب في بيان مشروعية دخول مكة في النهار أو في الليل.
بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعله
هذا متن حديث ابن عمر، يذكره الآن، وقد ترك سنده أولا ثم رواه بسنده، وهو قوله.
4751 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى ا عن عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال بات النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعله.
يحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وقد مر الكلام فيه مستقصى في: باب الإهلال مستقبل القبلة. وقال الكرماني: فإن قلت: هذا صريح في أنه دخل نهارا، وذكر في الترجمة أنه دخل ليلا أيضا؟ قلت: كلمة: ثم، للتراخي فهو أعم من أن يدخلها نهار تلك الليلة أو ليلته التي بعدها. قلت: هذا لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، لأن دخوله، مكة ليلا لم يعلم إلا عمرة الجعرانة، وهو أنه، صلى الله عليه وسلم، أحرم منها ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا، فأصبح بالجعرانة كبائت. وقال النسائي: دخول مكة ليلا: أخبرني عمران بن يزيد الدمشقي عن شعيب يعني ابن إسحاق قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني مزاحم بن أبي مزاحم عن عبد العزيز بن عبد الله عن محرش الكعبي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، خرج ليلا من الجعرانة حتى أمسى معتمرا فأصبح بالجعرانة كبائت، حتى إذا زالت الشمس خرج عن الجعرانة في بطن سرف حتى جامع الطريق، طريق المدينة من سرف، ولما ورد في الحديث الدخول نهارا وليلا جميعا، ذكرهما في الترجمة، وذكر حديث الدخول نهارا لكونه على شرطه، وسكت عن حديث الدخول ليلا لعدم كونه على شرطه، ونبه بذكره ليلا على ذلك، ويمكن أن يقال: إن ذكر، ليلا، وقع منه اتفاقا لا قصدا.
04
((باب من أين يدخل مكة))
أي: هذا باب فيه جواب من يسأل ويقول: من أين يدخل المحرم مكة؟ وكلمة: أين، للاستفهام عن المكان. فإن قلت: أين زيد؟ معناه: في الدار، أو: في السوق؟
5751 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني معن قال حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى.
(الحديث 5751 طرفه في: 6751).
208

مطابقته للترجمة من حيث إنه جواب للسؤال الذي فيها.
ذكر رجاله: وهم: خمسة، والكل قد ذكروا، وإبراهيم بن المنذر أبو إسحاق الحزامي المديني من أفراده، ومعن، بفتح الميم وسكون العين المهملة: ابن عيسى بن يحيى أبو يحيى القزاز، بالقاف وتشديد الزاي الأولى: المدني.
قوله: (من الثنية العليا) يعني: يدخل مكة من الثنية العليا التي ينزل منها إلى المعلى، مقبرة أهل مكة، يقال لها: كداء، بالفتح والمد، ويخرج من الثنية السفلى وهي التي أسفل مكة عند باب شبيكة، يقال لها: كدى، بضم الكاف مقصور، بقرب شعب الشاميين وشعب ابن الزبير عند قعيقعان. وقال ابن المواز: كدى التي دخل منها صلى الله عليه وسلم هي العقبة الصغرى التي بأعلى مكة التي يهبط منها على الأبطح، والمقبرة منها على يسارك، وكذا التي خرج منها هي العقبة الوسطى التي بأسفل مكة، وعند أبي ذر: القصر في الأول مع الضم، وفي الثاني: الفتح مع المد، عن عروة، من حديث عبد الوهاب: أكثر ما يدخل من كدى، مضموم مقصور للأصيلي والحموي وأبي الهيثم، ومفتوح مقصور للقابسي والمستملي، ومن حديث أبي موسى: دخل من كدى، مقصور مضموم، وعند محمد دخل من كدى، وخرج من كدى، كذا لكافتهم، وللمستملي عكس ذلك، وهو أشهر. وعند مسلم دخل يوم الفتح من كداء من أعلاها، بالمد للرواة إلا السمرقندي، فعنده: كدى، بالضم والقصر، وقال القرطبي اختلف في ضبط هاتين الكلمتين والإكثر منهم على أن العليا بالفتح والمد والسفلى بالضم والقصر وقيل بالعكس، والحكمة في الدخول من العليا والخروج من السفلى أن نداء أبينا إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، كان من جهة العلو، وأيضا فالعلو تناسب للمكان العالي الذي قصده، والسفلى تناسب لمكانه الذي يذهب إليه. وقيل: ءن من جاء من هذه الجهة كان مستقبلا للبيت، وقيل: لأنه صلى الله عليه وسلم لما كان خرج مختفيا من العليا أراد أن يدخلها ظاهرا، وقيل: ليتبرك به كل من في طريقته ويدعو لهم، وقيل: ليغيظ المنافقين بظهور الدين وعز الإسلام، وقيل: ليري السعة في ذلك. وقيل: فعله تفاؤلا بتغير الأحوال إلى أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان.
14
((باب من أين يخرج من مكة))
أي: هذا باب فيه جواب من يسأل ويقول: من أين يخرج الخارج من مكة؟
6751 حدثني مسدد بن مسرهد البصري قال حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى.
(انظر الحديث 5751).
مطابقته للترجمة من الوجه الذي ذكرناه في الباب السابق، ويحيى هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
والحديث أخرجه مسلم في الحج أيضا عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل ومسدد. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي.
قوله: (من كداء)، بفتح الكاف والمد. قوله: (وخرج من الثنية)، بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف، وكل عقبة في جبل أو طريق عال فيه تسمى ثنية.
قال أبو عبد الله كان يقال هو مسدد كاسمه قال أبو عبد الله سمعت يحيى بن معين يقول سمعت يحيى بن سعيد يقول لو أن مسددا أتيته في بيته فحدثته لاستحق ذالك وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، وأشار بكلامه هذا إلى المبالغة في توثيق مسدد بن مسرهد حيث قال: هو مسدد أي: محكم من التسديد، وهو الإحكام، ومنه السداد وهو القصد في الأمر والعدل فيه، والسداد الاستقامة أيضا، ومنه المسدد، وهو لازم الطريق المستقيمة، واشتقاق السد أيضا منه لأنه البناء المحكم القوي، ولم يكتف بتوثيقه إياه بنفسه حتى نقل عن يحيى بن معين
209

الإمام في باب الجرح والتعديل حيث نقل عن يحيى بن سعيد القطان، إنه قال: لو أن مسددا... إلى آخره، وهذا منه غاية في التعديل ونهاية في التوثيق.
8751 حدثنا محمود بن غيلان المروزي قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء وخرج من كدا من أعلى مكة.
.
هذا طريق آخر في حديث عائشة، ولكن أبا أسامة حماد بن أسامة قلب في روايته حيث ذكر أن دخوله، صلى الله عليه وسلم، كان من كداء، بالفتح والمد، وأنه خرج من كدى، بالضم والقصر، فجعل كدى الذي هو بالضم والقصر من أعلى مكة، وكذاء الذي بالفتح والمد من أسفل مكة، والصواب ما رواه غيره بالعكس. وقد روى أحمد أن أبا أسامة رواه على الصواب، فهذا يدل على أن القلب ممن دون أبي أسامة.
9751 حدثنا أحمد قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا عمر و عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح من كداء أعلى مكة قال هشام وكان عروة يدخل على كلتيهما من كداء وكدا وأكثر ما يدخل من كداء وكانت أقربهما إلى منزله.
.
هذا طريق آخر في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن أحمد. قيل: هو أحمد بن عيسى التستري. وقال ابن منده: كل ما قال البخاري: أحمد عن ابن وهب، وهو أحمد بن صالح المصري عن عبد الله بن وهب المصري عن عمرو بن الحارث المصري. وأخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أحمد.
قوله: (قال هشام)، هو ابن عروة، قال بالإسناد المذكور. قوله: (وكان عروة يدخل على كلتيهما)، الضمير فيه يرجع إلى الثنية العليا والثنية السفلى، وبين كلتيهما بقوله: (من كدا، وكدى) وفي الأصيلي: كليهما والصواب: كلتيهما، وقال ابن التين في الأمهات: كلتاهما. قوله: (وأكثر ما يدخل) أي: عروة: (من كداء) بالفتح والمد لأنها كانت أقرب إلى منزله. وفي (التوضيح): قال هشام: أكثر ما كان أبي يدخل من كدى بالضم، كذا رويناه، ورواه غيري بالمد والفتح، وفي قول هشام: وكانت أقربهما إلى منزله، اعتذار لأبيه عروة، لأنه روى الحديث وخالفه، لأنه رأى أن ذلك ليس بلازم حتم، وكان ربما فعله، وكثيرا ما يفعل غيره لقصد التيسير.
0851 حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا حاتم عن هشام عن عروة قال دخل
210

النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة أكثر ما يدخل من كداء وكان أقربهما إلى منزله.
.
هذا موقوف على عروة، وقد اختلف على هشام بن عروة في وصل هذا الحديث وإرساله، وذكر البخاري الوجهين منبها على أن رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل لأن الذي وصله حافط، وهو سفيان بن عيينة، وقد تابعه ثقتان: عمرو وحاتم المذكوران، وعبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي البصري، وهو من أفراد البخاري، وحاتم، بالحاء المهملة وبالتاء المثناة من فوق المكسورة: ابن إسماعيل أبو إسماعيل الكوفي، سكن المدينة، وقد مر في: باب استعمال فضل الوضوء. قوله: (من كداء)، بالفتح والمد في الموضعين، وقال النووي: وأكثر دخول عروة من كداء، بالفتح والمد.
1851 حدثنا موسى قال حدثنا وهيب قال حدثنا هشام عن أبيه دخل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء وكان عروة يدخل منهما كليهما وأكثر ما يدخل من كداء أقربهما إلي منزله.
.
هذا طريق آخر من مراسيل عروة يرويه البخاري عن موسى بن إسماعيل المنقري عن وهيب، بضم الواو: ابن خالد عن هشام عن أبيه عروة بن الزبير. قوله: (من كداء)، بالفتح والمد. قوله: (منهما) أي: كداء بالفتح، وكدا بالضم. قوله: (كليهما) وفي بعض النسخ، كلاهما بالألف، وهو على مذهب من يجعلهما في الأحوال الثلاث على صورة واحدة. قوله: (أقربهما) بجر الأقرب إما بيان أو بدل.
قال أبو عبيد الله كداء وكدا موضعان
أبو عبد الله هو البخاري، فسر كدا وكدي بقوله: موضعان، وهذا تفسير لا يفيد شيئا لأنهما علما مما مضى أنهما موضعان، وهذا لم يقع إلا في رواية المستملي وحده، وتركها أجدر على ما لا يخفى، والله أعلم.
24
((باب فضل مكة وبنيانها))
أي: هذا باب في بيان فضل مكة، شرفها الله وفي بنيانها. فإن قلت: ليس في أحاديث الباب ذكر لبيان بنيان مكة، فلم لم يقتصر على قوله: باب فضل مكة؟ قلت: لما كان بنيان الكعبة سببا لبنيان مكة وعمارتها اكتفى به.
ولكنهم اختلفوا في أول من بنى الكعبة، فقيل: أول من بناها آدم، عليه السلام، ذكره ابن إسحاق: وقيل: أول من بناها شيث. عليه السلام، وكانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم صلى الله عليه وسلم ويأنس بها، لأنها أنزلت إليه من الجنة. وقيل: أول من بناها الملائكة، وذلك لما قالوا: * (أتجعل فيها من يفسد فيها) * (البقرة: 03). الآية، خافوا وطافوا بالعرش سبعا يسترضون الله ويتضرعون إليه، فأمرهم الله تعالى أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة، وأن يجعلوا طوافهم له لكونه أهون من طواف العرش ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا. وروي أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها، وقذفت منها حجارة أمثال الإبل، فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، البيت، فلما جاء الطوفان رفعت وأودع الحجر الأسود أبا قبيس، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء
وطور سيناء، وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب، وروى البيهقي في بناء الكعبة في (دلائل النبوة) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: بعث الله جبريل إلى آدم وحواء، عليهما السلام، فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم عليه السلام، ثم أمر بالطواف به. وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت يوضع للناس. وقال ابن كثير: إنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة، وهي ضعيف والأشبه أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى
211

إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير. وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) *. (البقرة: 521 821).
وقوله، بالجر عطف على: قوله فضل مكة، والتقدير وفي بيان تفسير قوله تعالى: * (وإذ جعلنا) * (البقرة: 521 821). الخ وهذه أربعة آيات سيقت كلها في رواية كريمة، وفي رواية الباقين بعض الآية الأولى، وفي رواية أبي ذر كل الآية الأولى: ثم قالوا: إلى قوله * (التواب الرحيم) * (البقرة: 521 821)
[/ ح.
قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت) * أي: واذكر إذ جعلنا البيت، والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا. قوله: (مثابة) أي: مباءة ومرجعا للحجاج والعمار، فينصرفون عنه ثم يثوبون إليه. قال الزجاج: أصل مثابة مثوبة نقلت حركة الواو إلى الثاء وقلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل، وانفتاح ما قبلها. وقال الزمخشري: وقرئ مثابات. وقال ابن جرير: قال بعض نحاة البصرة: ألحقت الهاء في المثابة لما كثر من يثوب إليه كما يقال: سيارة ونسابة، وقال بعض نحاة الكوفة: بل المثاب والمثابة بمعنى واحد نظير المقام والمقامة، فالمقام ذكر على قوله لأنه أريد به الموضع الذي يقام فيه، وأنثت المقامة لأنه أريد بها البقعة، وأنكر هؤلاء أن تكون المثابة نظيرة للسيارة والنسابة، وقالوا: إنما أدخلت الهاء في السيارة والنسابة تشبيها لها بالداهية، والمثابة مفعلة من ثاب القوم إلى الموضع إذا رجعوا إليه، فهم يثوبون إليه مثابا ومثابة وثوابا، بمعنى: جعلنا البيت مرجعا للناس ومعادا يأتونه كل عام ويرجعون إليه، فلا يقضون منه وطرا، ومنه أثاب إليه عقله إذا رجع إليه بعد عزوبه عنه. فإن قلت: البيت، مذكر، ومثابة مؤنثة، والتطابق بين الصفة والموصوف شرط؟ قلت: ليست التاء فيه للتأنيث، بل هو كما يقال: درهم ضرب الأمير، والمصدر قد يوصف به. يقال: رجل عدل رضي، أي: معدل مرضى، وقيل: الهاء فيه للمبالغة لكثرة من يثوب إليه، مثل: علامة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: مثابة، قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. قال: وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير في رواية وعطاء والحسن وعطية والربيع بن أنس والضحاك نحو ذلك، وقال سعيد بن جبير في رواية أخرى، وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني: * (مثابة للناس) * أي: مجمعا. قوله: * (وأمنا) * أي: موضع أمن. كقوله تعالى: * (حرما أمنا ويتخطف الناس من حولهم) * (العنكبوت: 76). ولأن الجاني يأوي إليه فلايتعرض له حتى يخرج. وقال الضحاك عن ابن عباس، أي: أمنا للناس. وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية يعني: أمنا من العدو، وأن يحمل فيه السلام. قوله: * (واتخذوا) *، قال الزمخشري: واتخذوا على إرادة القول، أي: وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهي على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب، وقرأ نافع وابن عامر: واتخذوا، على صيغة الماضي، وقرأ الباقون على صيغة الأمر.
واختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شبه النمري حدثنا أبو خلف يعني: عبد الله بن عيسى حدثنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس، قال: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * قال: مقام إبراهيم الحرم كله، وعن ابن عباس: مقام إبراهيم الحج له، ثم فسره عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة والمشعر ومنى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة. وقال سفيان عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير، قال: الحجر مقام إبراهيم، فكان يقوم عليه ويتناول إسماعيل الحجارة. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل، عليه السلام، تحت قدم إبراهيم، عليه السلام، حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي، وضعفه. وحكاه الرازي في (تفسيره) عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له، رضي الله تعالى عنه: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم، قال: أفلا تتخذه مصلى؟ فأنزل الله عز وجل: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * وقد كان المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب
212

الباب مما يلي الحجر، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وقال عبد الرزاق: عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد، قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب.
قوله * (وعهدنا إلى إبراهيم) * قال أبو الليث في تفسيره: أي: أمرنا إبراهيم وإسماعيل أن طهرا، بأن طهرا البيت، أي: بالتطهير من الأوثان، ويقال: من جميع النجاسات، للطائفين أي: لأجل الطائفين الذين يطوفون الغرباء، والعاكفين وهم أهل الحرم المقيمون بمكة من أهل مكة وغيرهم. قوله: (والركع) أهل الصلاة، وهو جمع راكع. وقوله: (السجود) مصدر، وفيه حذف أي: الركع ذوي السجود. قوله: * (وإذ قال إبراهيم) * أي: واذكر إذ قال إبراهيم: * (رب اجعل هذا) * أي: الحرم. * (بلدا آمنا) * وقال الزمخشري: أي: اجعل بلدا ذا أمن. كقوله: عيشة راضية وآمنا من فيه، كقولك: ليل نائم، وفي (خلاصة البيان): والبلد
ينطلق على كل موضع من الأرض عامر مسكون أو خال، والبلد في هذه الآية مكة، وقد صارت مكة حراما بسؤال إبراهيم، وقبله كانت حلالا. قلت: فيه قولان: أحدهما هذا، والآخر: أنها كانت حراما قبل ذلك بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرام يوم خلق السماوات والأرض) قوله: * (وارزق أهله من الثمرات) * يعني: أنواع الثمرات، فاستجاب الله دعاءه في المسألتين. قال المفسرون: إن الله تعالى بعث جبريل، عليه السلام، حين اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة، فسميت الطائف. قوله: * (من آمن منهم) * بدل: من أهله، قال أبو الليث: وإنما اشترط هذا الشرط لأنه قد سأل الإمامة لذريته، فلم يستجب له في الظالمين، فخشي إبراهيم أن يكون أمر الرزق هكذا فسأل الرزق للمؤمنين خاصة، فأخبر الله تعالى أنه يرزق الكافر والمؤمن، وأن أمر الرزق ليس كأمر الإمامة. قالوا: لأن الإمامة فضل والرزق عدل، فالله تعالى يعطي فضله لمن يشاء ممن كان أهلا لذلك، وعدله لجميع الناس لأنهم عباده، وإن كانوا كفارا. قوله: * (ومن كفر) * قال الزمخشري: وارزق من كفر فأمتعه، ويجوز أن يكون من: كفر، مبتدأ متضمنا معنى الشرط. وقوله: فأمتعه، جواب الشرط أي: ومن كفر فأنا أمتعه، وقرئ: فأمتعه فاضطره فالزه إلى عذاب النار لز المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه. وقرأ أبي: * (فنمتعه قليلا ثم نضطره) * وقرأ يحيى بن وثاب: * (فاضطره) * بكسر الهمزة، وقرأ ابن عباس: * (فأمتعه قليلا ثم أضطره) * على لفظ الأمر. قوله: * (وإذ يرفع) * أي واذكر إذ يرفع * (إبراهيم القواعد) *، وهي جمع قاعدة، وهي السارية والأساس. قوله: (من البيت) أي: الكعبة. وقال مقاتل: في الآية تقديم وتأخير، معناه: وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت، ويقال: إن إبراهيم، عليه السلام، كان يبني وإسماعيل، عليه السلام، يعينه والملائكة يناقلون الحجر من إسماعيل، وكانوا ينقلون الحجر من خمسة أجبل: طور سينا، وطور زيتا وجودي ولبنان وحراء. قوله: (ربنا) أي: قالا: ربنا * (تقبل منا) * أعمالنا * (إنك أنت السميع) * لدعائنا، العليم بنياتنا، وقال جبريل، عليه السلام، لإبراهيم، عليه السلام، قد أجيب لك فاسأل شيئا آخر: * (قالا ربنا واجعلنا مسلمين لك) * د يعني: مخلصين لك، ويقال: واجعلنا متثبتين على الإسلام، ويقال: مطيعين لك، ثم: * (قالا ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * يعني: اجعل بعض ذريتنا من يخلص لك ويثبت على الإسلام، ثم قال: * (وأرنا مناسكنا) * يعني: علمنا أمور مناسكنا، ذكر الرؤية وأراد به العلم، ثم قال: * (وتب علينا) * يعني: تجاوز عنا الزلة * (إنك أنت التواب) * المتجاوز * (الرحيم) * بعبادك.
2851 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرني ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك على رقبتك فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال أرني إزاري فشده عليه.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (لما بنيت الكعبة)، فإن قلت: الترجمة بنيان مكة، وفي الحديث بنيان الكعبة؟ قلت: قد ذكرت في أول الباب أن بنيان الكعبة كان سببا لبنيان مكة، وبين السبب والمسبب ملائمة، فيستأنس بهذا وجه المطابقة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عبد الله بن محمد الجعفي المعروف بالمسندي. الثاني: أبو عاصم النبيل، واسمه: الضحاك
213

بن مخلد. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الرابع: عمرو، بفتح العين: ابن دينار. الخاسم: جابر بن عبد الله الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، ويروى بصيغة الإفراد في التحديث عن شيخه. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه بخاري، وأبو عاصم بصري، وابن جريج وعمرو مكيان. وفيه: أن أحدهم مذكور بكنيته والآخر بنسبته إلى جده من غير ذكر اسمه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في بنيان الكعبة عن محمود عن عبد الرزاق. وأخرجه مسلم في الطهارة عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم. كلاهما عن محمد بن بكر وعن إسحاق بن منصور ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق، وهذا الحديث من مراسيل جابر لأنه لم يدرك هذه القصة، ولكن يحتمل أن يكون سمعها من النبي، صلى الله عليه وسلم، أو ممن حضرها من الصحابة. وفي (التوضيح): ومرسله حجة، وقد ذكرنا ذلك في أوائل كتاب الصلاة في: باب كراهية التعري في الصلاة، فإن البخاري أخرجه هناك عن مطر بن الفضل عن روح عن زكريا بن إسحاق (عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره) الحديث.
ذكر معناه: قوله: (لما بنيت الكعبة) اشتقاق الكعبة من الكعب، وكل شيء علا وارتفع فهو كعب، ومنه سميت الكعبة للبيت الحرام لارتفاعه وعلوه، وقيل: سميت به لتكعبها أي: تربيعها. وقال الجوهري: الكعبة البيت الحرام، سمي بذلك لتربيعه. وعن مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء، وسمي البيت الحرام لأن الله تعالى حرمه وعظمه، وأما مكة فهو اسم بلدة في واد بين غير ذي زرع، وقال السهيلي: أما مكة فمن تمككت العظم، أي: اجتذبت ما فيه من المخ، وتمكك الفصيل ما في ضرع الناقة، فكأنها تحتذب ما من نفسها في البلاد والأقوات التي تأتيها في المواسم، وقيل: لما كانت في بطن واد فهي تمكك الماء من جبالها وأخشابها عند نزول المطر، وتنجذب إليها السيول. وقال الصغاني: مكة البلد الحرام واشتقاقها من: مك الصبي ثدي أمه يمكه مكا إذا استقصى مصه، وسميت مكة لقلة الماء بها، ولأنهم يمتكون الماء أي: يستخرجونه باستقصاء. ويقال: سميت مكة، لأنها كانت تبك من ظلم بها، أي: تهلكه. ويقال أيضا: بكة، بالباء الموحدة، وقيل: بكة اسم موضع الطواف، وقيل: بكة مكان البيت، ومكة سائر البلد، وسميت بكة لأن الناس يبك بعضهم بعضا في الطواف، أي: يدفع. وقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا
فيها بظلم، وقيل: من المتباك وهو الازدحام، قال الراجز:
* إذا الفصيل أخذته أكة
* فحله حتى يبك بكة
*
الأكة، بفتح الهمزة وتشديد الكاف: الشدة، وقال العتبي: مكة وبكة شيء واحد، والباء تبدل من الميم كثيرا، ولمكة أسامي: منها: الناسة، بالنون والسين المهملة: من النس، سميت لقلة مائها، وفي (المنتخب): الكراع النساسة، وعن الأعرابي: النباسة، وعند الخطابي: الباسة، بالباء الموحدة، ويروى: الناشة، بالنون والشين المعجمة: تنش من ألحد فيها، أي: تطرده وتنفيه. ومنها: الرأس، وصلاح، وأم صبح وأم رحم، بضم الحاء وسكونها وأم رحم وأم زحم بالزاي من الازدحام فيها. وطيبة ونادر وأم القرى والحاطمة والعرش. والقادس، والمقدسة، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته: البلدة، وفي (أمالي ثعلب): عن ابن الأعرابي، سأل رجل عليا، رضي الله تعالى عنه، من أهلكم يا أمير المؤمنين؟ فقال علي: نحن قوم من كوثى، فقالت طائفة: أراد كوثى، وهي المدينة التي ولد بها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وقالت طائفة: أراد بكوثى مكة، وذلك لأن محلة بني عبد الدار يقال لها: كوثى، مشهورة عند العرب، فأراد بقوله: كوثى أنا مكيون من أم القرى، وقد ذكرنا الاختلاف في أول من بناها.
قوله: (اجعل إزارك على رقبتك)، وفي (صحيح الإسماعيلي) من حديث عبد الرزاق أنبأنا ابن جريج، (وأخبرني عمرو بن دينار، سمع جابرا لما بنت قريش الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي، صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتي من الحجارة، ففعل، فخر إلى الأرض وطمحت. قال الإسماعيلي: قد جعل عبد الرزاق وضع الإزار
214

على رقبة العباس. قوله: (فخر إلى الأرض)، من الخرور، وهو الوقوع، وفي رواية زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار الذي مضى في: باب كراهية التعري في أوائل كتاب الصلاة، (فحله فجعله على منكبيه فسقط مغشيا عليه). وفي (طبقات ابن سعد) من حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، دخل حديث بعضهم في حديث بعض (قالوا: بينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينقل معهم الحجارة يعني للبيت، وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وكانوا يضعون أزرهم على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلبط: (أي: سقط) من قيام، ونودي: عورتك، فكان ذلك أول ما نودي، فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابني إلا في تعري). وقال ابن إسحاق: حدثني والدي عمن حدثه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال، فيما يذكر من حفظ الله تعالى إياه إني لمع غلمان وهم أسناني، قد جعلنا أزرنا على أعناقنا لحجارة نلقها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة، ثم قال: اشدد عليك إزارك، وعند السهيلي في خبر آخر: لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء: أن اشدد عليك إزارك يا محمد، قال: وإنه أول ما نودي. وروى البيهقي في (الدلائل) من حديث سماك بن حرب، (عن عكرمة عن ابن عباس: حدثني العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش الكعبة انفردنا رجلين رجلين ينقلون الحجارة، وكنت أنا وابن أخي، فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع، فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء، قال فقلت: يا ابن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا، قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته). ورواه أبو نعيم من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس، وليس فيه العباس، وقال في آخره: (فكان أول شيء رأى من النبوة)، وقال صاحب (التلويح): وكان ابن عباس أراد بقوله: أول شيء رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم من النبوة أن قيل له: استتر، وهو غلام، هذه القصة، ورواه الطبراني عن ابن لهيعة عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا: هل يقوم الرجل عريانا؟ فقال: أخبرني النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه لما انهدمت الكعبة نقل كل بطن من قريش، وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، نقل مع العباس: رضي الله تعالى عنه، فكانوا يضعون ثيابهم على العواتق، فيتقوون بها أي: عل حمل الحجارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاعتقلت رجلي، فحررت وسقط ثوبي، فقلت للعباس: هلم ثوبي فلست أتعرى بعدها إلا لغسل. وابن لهيعة فيه مقال، وفي رواية أن الملك نزل فشد عليه إزاره. قوله: (فطمحت عيناه) أي: شخصتا وارتفعتا، وقال ابن سيده: طمح ببصره يطمح طمحا، شخص وقيل، رمي به إلى الشيء، ورجل طماح بعيد الطرف، وفي رواية عبد الرزاق عن أبي جريج في أوائل (السيرة النبوية): ثم أفاق. قوله: (أرني إزاري)، قال ابن التين: ضبطه بإسكان الراء وبكسرها، قال والكسر أحسن عند بعض أهل اللغة، لأن معناه: أعطني، وليس معناه من الرؤية، ووقع في (شرح ابن بطال): إزاري إزاري، مكررا ومعناه صحيح إن ساعدته الرواية، قوله: (فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق: (فما رؤي بعد ذلك عريانا).
3851 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم قال لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت. فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه لئن كانت عائشة رضي الله تعالى عنها سمعت هاذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركعتين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم.
.
حديث عائشة هذا رواه من أربعة طرق على ما يأتي، فإن قلت: ما وجه إيراده في: باب فضل مكة، والحديث في شأن الكعبة؟ قلت: قد ذكرنا في أول الباب أن بنيان
الكعبة، لما كان سببا لبنيان مكة، اكتفى به، وما كان من فضل الكعبة فمكة داخلة فيه، والله تعالى ذكر فضل مكة في غير موضع من كتابه، ومن أعظم فضلها أنه، عز وجل، فرض على عباده حجها، وألزمهم قصدها، ولم
215

يقبل من أحد صلاة إلا باستقبالها، وهي قبلة أهل دينه أحياء وأمواتا.
ورجال هذا الطريق قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وعبيد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم السلام، عن عبد الله بن يوسف وفي التفسير عن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن هارون بن سعيد الأيلي وأبي الطاهر ابن السرح، كلاهما عن ابن وهب. وأخرجه النسائي فيه، وفي العلم وفي التفسير عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك به.
ذكر معناه: قوله: (أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر)، ووقع في رواية مسلم: أبي بكر بن قحافة. قوله: (أخبر عبد الله بن عمر) بنصب، عبد الله على المفعولية، والفاعل مضمر. قوله: (عن عائشة)، متعلق بقوله: (أخبر)، وظاهر هذا الكلام يقتضي حضور سالم، لذلك فيكون من روايته عن عبد الله بن محمد. قوله: (ألم تري) أي: ألم تعرفي. قوله: (أن قومك)، هم قريش. قوله: (اقتصروا عن قواعد إبراهيم، عليه السلام) والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس أصل ذلك، وما روى (عن عبد الله بن عمر قال: لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة، قال: إني مهبط معك أو منزل معك بيتا يطاف حوله، كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده، كما يصلى عند عرشي، فلما كان زمن الطوفان رفع، فكانت الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله تعالى لإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وأعلمه مكانه). فبناه من خمسة أجبل كما ذكرناه.
وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم أن الله تعالى لما بوأ لإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مكان البيت خرج إليه من الشام ومعه إسماعيل، وأمه وهو طفل يرضع، وحملوا على البراق، ومعه جبريل، عليه السلام، يدله على مواضع البيت، ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقربه إلا قال: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول: جبريل أمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه سلم وسمر وبها أناس، ويقال لهم: العماليق، خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل، عليهما السلام، أههنا أمرت أن أضعهما، قال: نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر، فأنزلهما فيه وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا ثم رجع إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، إلى أهله، والقصة طويلة عرفت في موضعها. ثم إنه بدا لإبراهيم فقال لأهله: أني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلا له، فقال يا إسماعيل: إن ربك، عز وجل، أمرني أن أبني له بيتا، فقال: أطع ربك، عز وجل، قال: إنه أمرني أن تعينني عليه، قال: إذا افعل أو كما قال، قال: فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وعن السدي أخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحا يقال لها: الحجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فدلت لهما ما حول البيت على أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، فلما بنيا القواعد وبلغا مكان الركن قال: يا إسماعيل، أطلب لي حجرا حسنا أضعه هنا، قال: يا أبه، إني لغب. قال: علي ذلك، فانطلق يتطلب حجرا، وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام بالحجر الأسود من الهند، وكان ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم عليه الصلاة والسلام، هبط به من الجنة، فلما جاء إسماعيل الحجر، قال: يا أبه من جاءك بهذا؟ قال: من هو أنشط منك. وفي (الدلائل) للبيهقي: عن عبد الله بن عمرو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بعث الله عز وجل، جبريل، عليه الصلاة والسلام، إلى آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فحط لهما جبريل، عليه الصلاة والسلام، فجعل آدم يحفر، وحواء تنقل حتى أصابه الماء نودي من تحت حسبك يا آدم، فلما بناه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح. عليه السلام، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه. وفي كتاب (التيجان): لما عبث قوم نوح، عليه السلام، وهدموا الكعبة قال الله تعالى له: انتظر الآن هلاكهم إذا فار التنور. وفي كتاب الأزرقي: جعل إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، طول بناء الكعبة في السماء تسعة أذرع، وطولها في الأرض ثلاثين ذراعا، وعرضها في الأرض اثنين وعشرين ذراعا، وكانت بغير سقف، ولما بنتها قريش جعلوا طولها ثماني عشر ذراعا في السماء، ونقصوا من طولها في الأرض ستة أذرع وشير، وتركوها في الحجر، ولما بناها ابن الزبير جعل طولها في السماء عشرين ذراعا، ولم يغير الحجاج طولها حين هدمها، وهو إلى الآن على ذلك، وقيل: إنه بنى في أيام جرهم مرة أو مرتين، لأن السيل كان قد صدع حائطه، وقيل: لم يكن بنيانا إنما كان إصلاحا لما وهى منه، وجدار بني
216

بينه وبين السيل بناه عامر الجادر.
وعن علي، لما بناه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، مر عليه الدهر فانهدم، فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته قريش ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومئذ شاب. وصحح الحاكم أصل هذا الحديث. وقال ابن شهاب: لما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحلم أجمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرتها في باب الكعبة، فاحترقت، فهدموها. فلما اختلفوا في وضع الركن دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بثوب... الحديث، وفيه: فوضعه هو في مكانه ثم طفق لا يزداد على ألسن الأرض حتى دعوه الأمين، وعند موسى بن عقبة: كان بنيانها قبل البعثة بخمس عشرة سنة، وكذا روي عن مجاهد وعروة ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم. وقال محمد بن إسحاق في (السيرة): ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين أجمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون لذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند
دويك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم، في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم، فتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون ذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا أخزلت، وكشطت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها، فبينما هي يوم تشرف على جدار الكعبة، كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا، فاختطفها، فذهب بها فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى، رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وكفانا الله الحية، ثم اجتمعت القبائل من قريش فجمعوا الحجارة لبنائها، كل قبيلة على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، يعني: الحجر الأسود، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، فآخر الأمر إن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمران بن مخزوم كان عامئذ أسن قريش كلهم، فقال: يا معشر قريش إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، فقالوا: وكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا، فأتي له، فأخذ الركن يعني: الحجر الأسود فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لولا حدثان قومك)، الحدثان، بكسر الحاء المهملة وبالثاء المثلثة، بمعنى: الحدوث، معناه: قرب عهدهم بالكفر، وخبر المبتدأ محذوف. قوله: (لفعلت)، أي: لرددتها على قواعد إبراهيم. قوله: (قال) أي: عبد الله بالإسناد المذكور، ويروى: فقال: وقال، بالفاء والواو، ويروى: قال عبد الله. قوله: (لئن كانت عائشة)، ليس هذا اللفظ منه على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك في صدقها، لأنها كانت صديقة حافظة ضابطة، غاية ما يمكن بحيث لا تستراب في حديثها، ولكن كثيرا يقع في كلام العرب صورة التشكيك، والمراد به التقرير واليقين. كقوله تعالى: * (وإن أدري لعله فتنة لكم) * (الأنبياء: 111). و * (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) * (سبأ: 05). قوله: (ما أرى)، بضم الهمزة أي: ما أظن، وهي رواية معمر، وزاد في آخر الحديث: (ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك) قوله: (استلام الركنين) الاستلام افتعال من السلام، يقال: استلم الحجر إذا لمسه، والمراد: لمس الركنين بالقبلة أو باليد. قوله: (يليان الحجر)، أي: يقربان من الحجر، بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم، وهو معروف على صفة نصف الدائرة، وقدرها تسع وثلاثون ذراعا وقالوا: ستة أذرع منه محسوب من البيت بلا خلاف، وفي الزائد خلاف. قوله: (إلا أن البيت)، أي: الكعبة (لم يتمم على قواعد إبراهيم التي رفعها)، يريد: أن كان عبد الله بن محمد بن أبي بكر سلم من السهو في نقله عن عائشة، وكانت عائشة، رضي الله تعالى عنها، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك ذلك... إلى آخره، فأخبر ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ترك استلامهما، ومقتضاه أنه قصد تركهما، وإلا فلا يسمى تاركا في العرف من أراد من الكعبة شيئا فمنعه منه مانع، فكان ابن عمر علم ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستلام ولم يعلم علته، فلما أخبره عبد الله بن محمد بخبر عائشة هذا عرف علة ذلك، وهو كونهما ليس على القواعد، بل أخرج منه بعض الحجر ولم يبلغ به ركن البيت الذي من تلك الجهة، والركنان اللذان اليوم من
217

جهة الحجر لا يستلمان كما لا يستلم سائر الجدر، لأنه حكم مختص بالأركان، وعن عروة ومعاوية: استلام الكل، وأنه ليس من البيت شيء مهجور، وذكر عن ابن الزبير أيضا، وكذا عن جابر وابن عباس والحسن والحسين، رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو حنيفة: لا يستلم إلا الركن الأسود خاصة، ولا يستلم اليماني لأنه ليس بسنة، فإن استلمه فلا بأس.
4851 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا الأشعث عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذالك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض.
.
هذا طريق ثان في حديث عائشة رواه عن مسدد عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي عن الأشعث بن أبي الشعثاء المحاربي عن الأسود بن يزيد.
وأخرجه مسلم أيضا في الحج عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وكذا أخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
ذكر معناه: قوله: (عن الجدر)، بفتح الجيم وسكون الدال المهملة: كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: الجدار، وقال الخليل: الجدر لغة في الجدار، وقال الكرماني: وبضم الجيم أيضا، والظاهر أنه وهم، لأن المراد الحجر، وفي (مسند الطيالسي): عن أبي الأحوص شيخ مسدد فيه الجدر أو الحجر بالشك، وعند أبي عوانة من طريق شيبان عن الأشعث: الحجر بلا شك. قوله: (أمن البيت هو؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (وهو) أي: الجدر. قوله: (قال نعم) أي: قال، عليه الصلاة والسلام: نعم الجدر من البيت، هذا يدل على أن الحجر كله من البيت، وبذلك كان يفتي عبد الله بن عباس، كما رواه عبد الرزاق عن أبيه عن مرثد بن شرحبيل، قال: سمعت ابن عباس، يقول: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت، فلم يطاف به إن لم يكن من البيت؟ وروى الترمذي: قال: حدثنا قتيبة حدثنا عبد العزيز بن محمد عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه (عن عائشة، رضي الله تعالى عنهما، قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدي فأدخلني الحجر، فقال: صلي في الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال علقمة ابن أبي علقمة بن بلال. قلت: أما أمه فاسمها مرجانة، ذكرها ابن حبان في (الثقات)، وأخرجه أبو داود عن القعنبي، ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي، وقد رواه
أبو داود من رواية سعيد بن جبير (أن عائشة قالت: يا رسول الله، كل نسائك دخل الكعبة غيري؟ قال: فانطلقي إلى قرابتك شيبة يفتح لك الكعبة، فأتته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما فتحت بليل قط في جاهلية ولا إسلام، وإن أمرتني أن أفتحها فتحتها. قال: لا، ثم قال: إن قومك قصرت بهم النفقة فقصروا في البنيان، وإن الحجر من البيت فاذهبي فصلي فيه). وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله تعالى، في هذا الحديث: أن الحجر كله من البيت، وهو ظاهر نص الشافعي في (المختصر). ومقتضى كلام جماعة من أصحابه كما قال الرافعي وقال النووي: إنه الصحيح، وعليه نص الشافعي، وبه قطع جماهير أصحابنا، قال: وهذا هو الصواب، وكذا رجحه ابن الصلاح قبله، وقال الرافعي: الصحيح أن ليس كله من البيت، بل الذي هو من البيت قدر ستة أذرع متصل بالبيت، وبه قال الشيخ أبو محمد الجويني وابنه إمام الحرمين والغزالي والبغوي، والدليل عليه ما رواه مسلم في (صحيحه) من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض، د ولجعلت لها بابين: بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة).
وقال ابن الصلاح اضطربت الروايات، فيه، ففي رواية في (الصحيحين): الحجر من البيت، وروي ستة أذرع أو نحوها، وروي خمسة أذرع،
218

وروي قريبا من سبع. قال ابن الصلاح: وإذا اضطربت الروايت تعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين.
وقال بعضهم: بعد أن ذكر حديث الترمذي الذي ذكرناه، وبعد أن قال: ونحوه لأبي داود من طريق صفية بنت شيبة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، ولأبي عوانة من طريق قتادة عن عروة عن عائشة ولأحمد من طريق سعيد بن جبير عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: هذه الروايات كلها مطلقة، وقد جاءت روايات أصح منها مقيدة. لمسلم من طريق أبي قزعة عن الحارث بن عبد الله عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: في حديث الباب: حتى أزيد فيه من الحجر، وله من وجه آخر عن الحارث عنها: (فإن بدا لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوه منه، فأراها قريبا من سبعة أذرع)، ثم ذكر الروايات المضطربة فيه التي ذكرناها عن قريب، ثم قال: وهذه الروايات كلها تجتمع على أنها فوق الستة ودون السبعة انتهى. قلت: قوله: وقد جاءت روايات أصح منها، غير مسلم، لأن حديث الباب يدل على أن الحجر كله من البيت، وأصرح منه حديث الترمذي الذي لفظه: (إن الحجر من البيت)، فكل ذلك صحيح، وترجيح رواية الحارث عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، على رواية الأسود بن يزيد عنها بالأصحية لا دليل عليه، ثم تكلف في الجمع بين هذه الروايات بالكسر والجبر. فالأوجه والأصوب فيه ما قاله ابن الصلاح، وهو الذي ذكرناه آنفا. ثم إن ثبت أن الحجر كله أو بعضه من البيت فلا تصح صلاة كل مستقبل شيئا منه، وهو غير مستقبل لشيء من الكعبة، وذلك لأن الأحاديث في هذا آحاد، إنما تفيد الظن، وقد أمرنا باستقبال المسجد الحرام يقينا على ما هو معروف في التفصيل بين الحاضر والبعيد، وهذا هو المذهب عند الحنفية والمالكية، وهو الذي صححه الرافعي والنووي أنه لا يصح استقبال شيء من الحجر في الصلاة مع عدم استقبال شيء من الكعبة.
قوله: (قصرت بهم النفقة)، بفتح الصاد المشددة أي النفقة الطيبة التي أخرجوها، ويروى، قصرت، بضم الصاد المخففة، وروى أبو إسحاق في (السيرة): عن عبد الله بن أبي نجيح أنه أخبر عن عبد الله بن صفوان بن أمية أن وهب بن عائد بن عمران بن مخزوم، وهو جد جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبا، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة من أحد من الناس. قوله: (ليدخلوا)، من الإدخال، وفي رواية المستملي: يدخلوا، بغير لام، وفي لفظ مسلم: (هل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: قلت: لا. قال: تحرزا أن لا يدخلها إلا من أرادوا، وأفكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط؟) قوله: (حديث عهدهم)، بتنوين: حديث، و: العهد، مرفوع لأنه فاعله، ويروى بإضافة: حديث، إلى: عهدهم. قوله: (بالجاهلية) بالألف واللام في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: بجاهلية، بدون الألف واللام. فإن قلت: أين جواب: لولا؟ قلت: محذوف تقديره: لأدخلت الجدر في البيت. قوله: (فأخاف أن تنكر قلوبهم)، وفي رواية شيبان عن أشعث: تنفر، بالفاء بدل الكاف، ونقل ابن بطال عن بعض علمائهم أن النفرة التي خشيها، صلى الله عليه وسلم، أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم. قوله: (أن أدخل الجدر). كلمة: أن، مصدرية تقديره: أخاف إنكار قلوبهم بإدخال الجدر في البيت. قوله: (وأن ألصق)، عطف على ما قبله، أي: وبأن ألصق أي: وبإلصاق بابه بالأرض.
5851 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن قريشا استقصرت بناءه وجعلت له خلفا قال أبو معاوية حدثنا هشام خلفا يعني بابا.
.
هذا طريق ثالث في طريق عائشة، رضي الله تعالى عنها، رواه عن عبيد، بضم العين: ابن إسماعيل، واسمه في الأصل: عبد الله، يكنى أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراد البخاري، يروي عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة ابن الزبير عن عائشة، رضي الله تعالى عنها.
قوله: (عن أبيه عن عائشة)، كذا رواه مسلم أيضا من طريق أبي معاوية، والنسائي من
219

طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر، وأحمد عن عبد الله بن نمير، كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة، أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح لأن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير وجه كذا قاله بعضهم. قلت: لا مانع أن يكون عروة قد سمع من عائشة بدون واسطة، وسمع أيضا عن أخيه عنها بواسطة. قوله: (وجعلت)، بضم التاء على صيغة المتكلم عطفا على قوله: (لبنيته)، وضبطها القابسي: بفتح اللام وسكون التاء عطفا على قوله: (استقصرت). قوله: (خلفا)، بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام بعدها فاء، أي: بابا، وضبطه
الحربي في (الغريب) بكسر الخاء. قوله: (قال أبو معاوية)، وهو محمد بن خازم، بالخاء المعجمة وبالزاي: الضرير، حدثنا هشام هو ابن عروة خلفا يعني بابا، يعني فسهر بالباب، وهذا معلق وصله مسلم، قال: حدثنا يحيى ابن يحيى، قال: أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالت: (لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، عليه السلام، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفا)، ورواه النسائي أيضا.
6851 حدثنا بيان بن عمر و قال حدثنا يزيد قال حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا يزيد ابن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم فذالك الذي حمل ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما على هدمه. قال يزيد وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير فقلت له أين موضعه قال أريكه الآن فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان فقال هاهنا قال جرير فحزرت من الحجر ستة أذرع.
.
هذا طريق رابع في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: بيان، بفتح الباء الموحدة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف نون: ابن عمرو، بالواو، وقد مر في: باب تعاهد ركعتي الفجر، الثاني: يزيد من الزيادة ابن هارون، وقد مر في: باب التبرز في البيوت. الثالث: جرير، بفتح الجيم ابن حزم، بالحاء المهملة وبالزاي. الرابع: يزيد من الزيادة ابن رومان، بضم الراء وسكون الواو وتخفيف الميم وبعد الألف نون: مولى آل الزبير بن العوام. الخامس: عروة بن الزبير. السادس: عائشة، أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده من أهل بخارء من قصر كج خارج الدرب، وإن يزيد بن هارون واسطي وأن جرير بن حازم بصري وأن يزيد بن رومان وعروة مدنيان.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الحج عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام عن يزيد بن هارون عن جرير ابن حازم.
قوله: (عن عروة)، هكذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، وكذا عند أحمد بن حنبل وأحمد ابن سنان وأحمد بن منيع في (مسانيدهم) وكذا عند النسائي والزعفراني والإسماعيلي، كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحارث ابن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون، فقال: عن عبد الله بن الزبير، بدل: عروة بن الزبير، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه. قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد ابن رومان سمعه من الأخوان.
ذكر معناه: قوله: (حديث عهد)، بالإضافة عند جميع الرواة، قال المطرزي: لا يجوز حذف الواو في مثل هذا، والصواب: حديثوا العهد. قوله: (ما أخرج منه)، في محل النصب لأنه مفعول. قوله: (فأدخلت)، و (ما أخرج منه)، هو
220

المسمى بالحجر. قوله (وألزقته)، أي: ألصقته بحيث يكون بابه على وجه الأرض غير مرتفع. قوله: (بابا شرقيا)، هو مثل الموجود اليوم، ففيه ثلاث تصرفات على خلاف ما بنى إبراهيم، عليه السلام. قوله: (فذلك الذي حمل ابن الزبير) أي عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، على هدمه أي: هدم البيت، وزاد وهب في روايته: وبنائه. قوله: (قال يزيد)، هو ابن رومان، أي: قال بالإسناد المذكور. قوله: (وشهدت ابن الزبير) إلى قوله: (كأسنمة الإبل)، هكذا ذكره يزيد ابن رومان مختصرا، وقد رواه مسلم من طريق عطاء بن أبي رباح مطولا، فقال: حدثنا هناد بن السري، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن أبي سليمان (عن عطاء قال: لما احترق البيت، زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يخزيهم أو يحزنهم على أهل الشام، فلما صدر الناس قال: يا أيها الناس! أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها وأصلح ما وهى منها؟ فقال ابن عباس: فأني قد فرق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه، وأحجارا أسلم الناس عليها، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم؟ إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضه، فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور تى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: سمعت عائشة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر، وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له بابا يدخل منه الناس، وبابا يخرجون منه. قال: فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس. قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء، وكان ذول الكعبة ثمانية عشر ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل له ما بين أحدهما بابين: يدخل منه، والآخر يخرج منه، فلما قتل ابن الزبير، رضي الله تعالى عنه، كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد من طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه. قوله: (وبناه) أي: بنى البيت. قال ابن سعد: لم يبن ابن الزبير الكعبة حتى حج بالناس سنة أربع وستين، ثم بناها حين استقبل سنة خمس وستين، وحكي عن الواقدي أنه رد ذلك، وقال: الأثبت أنه ابتدأ بناءها بعد رحيل
الجيش لسبعين يوما. وقال الأزرقي: كان ذلك في نصف جمادي الآخرة سنة أربع وستين، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون ابتداء البناء في ذلك الوقت، وامتد أمده إلى الموسم ليراه أهل الآفاق، ليشنع بذلك على بني أمية، وفي (تاريخ المسجى): كان الفراغ من بناء البيت في سنة خمس وستين، وزاد المحب الطبري أنه: كان في شهر رجب. قلت: الجيش هو جيش الشام من قبل يزيد بن معاوية، وكان أميرهم الحصين بن نمير، وما ارتحلوا من مكة حتى أتاهم موت يزيد بن معاوية، وذلك بعد أن أفسدوا في حرم الله تعالى وسفكوا الدماء وأوهنوا الكعبة من حجارة المجانيق. قوله: (وقد رأيت)، الرائي يزيد بن رومان. قوله: (كأسنمة الإبل)، الأسنمة: جمع سنام، وفي (كتاب مكة) للفاكهي، من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان. فكشفوا له، أي لابن الزبير، عن قواعد إبراهيم، عليه السلام، وهي صخر أمثال الخلف من الإبل، ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض، وفي رواية عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن يزيد: أنهم كشفوا عن القواعد، فإذا الحجر مثل الخلقة، والحجارة مشبك بعضها ببعض، وفي رواية للفاكهي عن عطاء، قال: كنت في الأبناء الذين جمعوا على حفره، فحفروا قامة ونصفا، فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة، فضربوه فارتجت قواعد البيت، فكبر الناس، فبنى عليه، وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق: فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض، فتركه مكشوفا ثمانية أيام ليشهدوا عليه، فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل، وجه حجر ووجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العثلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر. قلت: الخلف، بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وفي آخره فاء، قال الجوهري: الخلف المخاض، وهي
221

الحوامل من النوق، الواحدة: خلفة. قوله: (قال جرير)، هو جرير بن حازم المذكور في السند. قوله: (فحزرت)، بتقديم الزاي على الراء، أي: قدرت ستة أذرع، وقد ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الطريق الثاني، في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، والله أعلم.
34
((باب فضل الحرم))
أي: هذا باب في بيان فضل الحرم، أي: حرم مكة، وهو ما أحاطها من جوانبها، جعل الله حكمه في الحرمة تشريفا لها، وحده من المدينة على ثلاثة أميال، ومن اليمن والعراق على سبعة، ومن الجدة على عشرة. وقال الأزرقي: حد الحرم من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت تعار على ثلاثة أميال من مكة، ومن طريق اليمن طرف أضاة على سبعة أميال من مكة، ومن طريق الطائف إلى بطن بيرة على أحد عشر ميلا، ومن طريق العراق، إلى ثنية رحل عشرة أميال، ومن طريق جعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد على خمسة أميال، ومن طريق جدة منقطع الأعناس، ومن الطائف سبعة أميال عند طرف عرنة، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلا. وقيل: إن الخليل، عليه الصلاة والسلام، لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء منه نور وصلى إلى أماكن الحدود، فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام، فبناها الخليل، عليه الصلاة والسلام، حاجزا. رواه مجاهد عن ابن عباس، وعنه أن جبريل، عليه الصلاة والسلام، أرى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، موضع أنصاب الحرم، فنصبها ثم جددها إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما ولي عمر، رضي الله تعالى عنه، بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم. وقال ابن الجوزي في (المنتظم): وأما حدود الحرم: فأول من وضعها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وكان جبريل يريه، ثم لم يجدد حتى كان قصي فجددها، ثم قلعتها قريش في زمان نبينا صلى الله عليه وسلم، فجاء جبريل، عليه الصلاة والسلام، فقال: إنهم سيعيدونها، فرأى رجال منهم في المنام قائلا يقول: حرم أكرمكم الله به نزعتم أنصابه؟ الآن تختطفكم العرب، فأعادوها. فقال جبريل عليه الصلاة والسلام: قد أعادوها. فقال: قد أصابوا. قال: ما وضعوا منها نصبا إلا بيد ملك، ثم بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عام الفتح تميم بن أسد فجددها، ثم جددها عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، ثم جددها معاوية، رضي الله تعالى عنه، ثم جددها عبد الملك بن مروان. فإن قلت: ما السبب في بعد بعض الحدود وقرب بعضها منه؟ قلت: إن الله عز وجل، لما أهبط على آدم، عليه الصلاة والسلام، بيتا من ياقوتة، أضاء له ما بين المشرق والمغرب، فنفرت الجن والشياطين، وأقبلوا ينظرون، فجاءت ملائكة فوقفوا مكان الحرم إلى موضع انتهاء نوره، وكان آدم، عليه الصلاة والسلام، يطوف به ويأنس به.
ونفسر الألفاظ التي وقعت هنا، فنقول: تعار، بكسر التاء المثناة من فوق وتخفيف العين المهملة وبعد الألف راء: وهو جبل من جبال أبلى، على وزن: فعلى، بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة على طريق الآخذ من مكة إلى المدينة على بطن نخل، وتعار جبل لا ينبت شيئا، وقال كثير:
* أجيبك ما دمت بنجد وشيخه
* وما ثبتت إبلي به وتعار
*
والتنعيم على لفظ المصدر من: نعمته تنعيما، وهو بين مر وسرف، بينه وبين مكة فرسخان، ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة. وسمي التنعيم لأن الجبل عن يمينه يقال له: نعيم، والذي عن يساره يقال له: ناعم، والوادي نعمان. ومر، بفتح الميم وتشديد الراء: مضاف إلى الظهران، بالظاء المعجمة المفتوحة، بينه وبين البيت ستة عشر ميلا، وسرف، بفتح السين المهملة وكسر الراء، وفي آخره فاء، وقال البكري: بسكون الراء، وهو ماء على ستة أميال من مكة، وهنا أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة مرجعه من مكة حتى قضى نسكه، وهناك ماتت ميمونة، رضي الله تعالى عنها، لأنها اعتلت بمكة. فقالت: أخرجوني من مكة، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بها، فحملوها حتى أتوا بها سرفا إلى الشجرة التي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها موضع القبة فماتت هناك، سنة ثمان وثلاثين، وهناك عند قبرها سقاية، وروى الزهري أن عمر، رضي الله تعالى عنه، حمى السرف والربذة، هكذا أورد في الحديث: السرف، بالألف
واللام، ذكره البخاري. والأضاة، بفتح الهمزة والضاد المعجمة، قال الجوهري:
222

هو الغدير، وقال السهيلي: بينها وبين مكة عشرة أميال. وقال البكري: أضاة بني غفار بالمدينة. قوله: (بيرة).
وقوله تعالى: * (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين) * (النمل: 19).
وقوله، بالجر عطفا على ما قبله المجرور بالإضافة. وجه تعلق هذه الآية بالترجمة من جهة أنه اختصها من بين جميع البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأعظمها عنده، حيث أن حرمها لا يسفك فيها دم حرام، ولا يظلم فيها أحد ولا يهاج صيدها، ولا يختلى خلاها. ولما بين الله تعالى قبل هذه الآية المبدأ والمعاد ومقدمات القيامة وأحوالها، وصفة أهل القيامة من الثواب والعقاب، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين، ذكر هذه الآية وختم ما قبله بهذه الخاتمة، فقال: قل يا محمد: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، أي: أني أخص رب هذه البلدة بالعبادة، ولا اتخذ له شريكا. والبلدة: مكة، وقال الزجاج: قرىء: هذه البلدة، التي، وهي قليلة، وتكون التي في موضع خفض من نعت للبلدة، وفي قراءة: الذي، يكون: الذي، في موضع نصب من نعت رب، وأشار إليها إشارة تعظيما لها وتقريبا دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص، وصفها فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو، ووصفها بأنها محرمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضاد لربه، وله كل شيء خلقا وملكا، وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته، و: أمرت، الثاني عطف على: أمرت، الأول يعني: أمرت أن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام.
وقوله جل ذكره * (أو لم تمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولاكن أكثرهم لا يعلمون) * (القصص: 75).
وقوله، بالجر عطف على قوله الماضي. وتعلق هذه الآية أيضا بالترجمة من حيث: إن الله تعالى وصف الحرم بالأمن، ومن على عباده بأن مكن لهم هذا الحرم، وروى النسائي في التفسير: (أن الحارث بن عامر بن نوفل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: * (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) * (القصص: 75). فأنزل الله، عز وجل، ردا عليه: * (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) * (القصص: 75). الآية، معناه: جعلهم الله في بلد أمين وهم منه في أمان في حال كفرهم، فكيف لا يكون لهم أمن بعد أن أسلموا وتابعوا الحق. وقال النسفي في (تفسيره): ونزلت هذه الآية في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنه أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا لنعلم أن الذي تقول حق، ولكن يمنعنا من اتباعك أن العرب تتخطفنا من أرضنا لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فحكى أولا عن قولهم بقوله: * (وقالوا: إن نتبع الهدي معك نتخطف من أرضنا) * (القصص: 75). ثم رد عليهم بقوله: * (أو لم نمكن لهم..) * (القصص: 75). الآية، أي: أو لم نسكنهم حرما ونجعله مكانا لهم؟ ومعنى: آمنا، ذو أمن يأمن الناس فيه، وذلك أن العرب في الجاهلية كانت يغير بعضهم على بعض، وأهل مكة آمنون في الحرم من السبي والقتل والغارة، أي: فكيف يخافون إذا أسلموا وهم في حرم آمن؟ قوله: (يجيء) قرأ نافع بالتاء من فوق، والباقون بالياء، قوله: * (إليه) * أي: إلى الحرم، أي: تجلب وتحمل من النواحي * (ثمرات كل شيء رزقا من لدنا) * (القصص: 75). أي: من عندنا، ولكن أكثر أهل مكة لا يعلمون أن الله تعالى هو الذي فعل بهم فيشكرونه.
7851 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هاذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إن هذا البلد حرمه الله)، وفيه تعظيم له، وتعظيمه يدل على فضله واختصاصه من بين سائر البلاد، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعلي بن عبد الله هو المعروف بابن المديني البصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه
223

البخاري أيضا في الجزية عن علي بن عبد الله، وأخرجه في الحج أيضا عن عثمان بن أبي شيبة، وفي الجهاد عن آدم وعن علي بن عبد الله وعمرو بن علي، كلاهما عن يحيى بن سعيد. وأخرجه مسلم في الجهاد عن يحيى بن يحيى، د وفيه وفي الحج عن إسحاق بن إبراهيم وفيهما أيضا عن محمد بن رافع، وفي الجهاد أيضا عن أبي بكر وأبي كريب وعن عبد بن حميد، وأخرجه أبو داود فيهما عن عثمان به مقطعا. وأخرجه الترمذي في السير عن أحمد بن عبدة الضبي. وأخرجه النسائي في الحج في البيعة عن إسحاق ابن منصور، وفي الحج عن محمد بن قدامة.
ذكر معناه: قوله: (حرمه الله) أي: جعله حراما، ولفظ البخاري في: باب غزوة الفتح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفتح، فقال: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحراح الله تعالى إلى يوم القيامة..) الحديث. وقال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عباس من غير وجه. فإن قلت: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها) أي: لابتي المدينة، يعارض هذا الحديث؟ قلت: ليس الأمر كذلك، لأن معنى قوله: (إن إبراهيم حرم مكة)، أعلن بتحريمها وعرف الناس بأنها حرام بتحريم الله، إياها، فلما لم يعرف تحريمها إلا في زمانه على لسانه أضيف إليه. وذلك كما في قوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس) * (الزمر: 24). فإنه أضاف إليه التوفي. وفي آية أخرى: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11). أضاف إليه التوفي، وقال في آية أخرى: * (الذين تتوفاهم الملائكة) * (النحل: 82). فأضاف إليهم التوفي. وفي الحقيقة المتوفي هو الله عز وجل، وأضاف إلى غيره لأنه ظهر على أيديهم. قوله: (لا يعضد شجرها) أي: لا يقطع، من عضدت الشجر أعضده عضد، أمثال: ضرب، إذا قطعته، وفي (المحكم)
: الشجر معضود وعضيد. وقال الطبري: معنى: لا يعضد لا يفسد ويقطع، وأصله من عضد الرجل الرجل إذا أصاب عضده بسوء. قوله: (ولا ينفر صيده) أي: لا يزعج من مكانه. وهو تنبيه من الأدنى إلى الأعلى، فلا يضرب ولا يقتل بالطريق الأولى. قوله: (ولا يلتقط) على صيغة المعلوم، ولقطته منصوب به. قوله: (إلا من عرفها)، أي: إلا من عرف أنها لقطة فيلتقطها ليردها إلى صاحبها ولا يتملكها.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن مكة حرام فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بالإحرام، وهو قول عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبي حنيفة وأصحابه: ومالك في رواية، وهي قوله الصحيح، والشافعي في المشهور عنه، وأحمد وأبي ثور، وقال الزهري والحسن البصري والشافعي في قول، ومالك في رواية، وداود بن علي وأصحابه من الظاهرية: لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام، وإليه ذهب البخاري أيضا، قاله عياض، واستدلوا بما رواه مسلم من حديث جابر: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء)، وبما رواه البخاري من حديث أنس: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل مكة وعلى رأسه مغفر..) الحديث. وأجيب: عن هذا: بأن دخوله، صلى الله عليه وسلم، مكة كان وهي حلال ساعتئذ، فكذلك دخلها وهو غير محرم، وأنه كان خاصا للنبي، صلى الله عليه وسلم، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة، فلا يجوز دخولها لأحد بغير إحرام.
وفيه: أنه لا يجوز قطع شوكة ولا قطع شجرة، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم، وقال الإمام: اختلف الناس في قطع شجر الحرم: هل فيه جزاء أم لا؟ فعند مالك: لا جزاء فيه، وعند أبي حنيفة والشافعي: فيه الجزاء، وجزاؤه عند الشافعي في الدوحة بقرة وما دونها شاة، وعند أبي حنيفة: يؤخذ منه قيمة ذلك، يشترى به هدي، فإن لم تبلغ ثمنه ذلك تصدق به بنصف صاع لكل مسكين، وقال الشافعي: في الخشب وما أشبه قيمته بالغة ما بلغت، والمحرم والحلال في ذلك سواء، وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس في الحرم من البقول والزروع والرياحين وغيرها، واختلفوا في أخذ السواك من شجر الحرم، فعن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم رخصوا في ذاك، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنا يستمشي به ولا ينزع من أصله، ورخصوا فيه عمرو بن دينار، وفيه أنه لا يجوز رفع لقطتها إلا المنشد، قال القاضي عياض: حكم اللقطة في سائر البلاد واحد، وعند الشافعي: أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد، وأنها لا تحل إلا لمن يعرفها، ومذهب الحنفية كمذهب مالك لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة)، من غير فصل.
224

44
((باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في مسجد الحرام سواء خاصة))
أي: هذا باب في بيان حكم توريث دور مكة وبيعها وشرائها، وإنما لم يبين الحكم بالجواز أو بعدمه لمكان الاختلاف فيه. وقال بعضهم: أشار بهذه الترجمة إلى تضعيف حديث علقمة بن نضلة، قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، وما ترعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن، رواه ابن ماجة، قلت: ليت شعري ما وجه هذه الإشارة؟ والإشارة لا تكون إلا للحاضر. وروى هذا الحديث الطحاوي من طريقين برجال ثقات، ولكنه منقطع، لأن علقمة بن نضلة ليس بصحابي، ولفظ الطحاوي في أحد الطريقين، عن علقمة بن نضلة، قال: كانت الدور على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم: ما تباع ولا تكرى ولا ترعى إلا السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. وأخرجه البيهقي أيضا، ولفظه عن علقمة بن نضلة الكناني، قال: كانت بيوت مكة ترعى السوائب، لم يبع رباعها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. قوله: السوائب، جمع سائبة، وأصلها من تسييب الدواب، وهو: إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، وأراد بها: أنها كانت سائبة لكل أحد من شاء كان يسكنها فإذا فرغ منها أسكن غيره فلا بيع ولا إجازة، والرباع جمع ربع، وهو المنزل، قال الجوهري: الربع الدار بعينها حيث كانت، وجمعها: رباع وأربع وربوع وأرباع والربع: المحلة، أيضا وروى الطحاوي أيضا من حديث مجاهد عن عبد الله بن عمرو، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها. ورواه البيهقي أيضا ثم قال الطحاوي: فذهب قوم إلى هذه الآثار فقالوا: لا يجوز بيع أرض مكة ولا إجارتها، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة ومحمد والثوري. قلت: أراد بالقوم هؤلاء، عطاء بن أبي رباح ومجاهدا ومالكا وإسحاق وأبا عبيد، ثم قال: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس ببيع أرضها وإجارتها، وجعلوها في ذلك كسائر البلدان، وممن ذهب إلى هذا القول أبو يوسف. قلت: أراد بالآخرين طاووسا وعمرو بن دينار والشافعي وأحمد وابن المنذر معهم، واحتج هؤلاء بحديث الباب، على ما يأتي. قوله: (فإن الناس)، عطف على قوله: (في دور مكة)، والتقدير: وفي بيان أن الناس في مسجد الحرم سواء أي: متساوون. قال الكرماني: أي في نفس المسجد، لا في سائر المواضع من مكة. قلت: هذا ميل منه إلى ترجيح مذهبه، والمراد من المسجد الحرام: الحرم كله، ورد ذلك عن ابن عباس وعطاء ومجاهد. أخرجه ابن أبي حاتم وغيرهم عنهم، وكذا روي عن ابن عمر: أن الحرم كله مسجد ويروى في المسجد الحرام، بالألف واللام في المسجد قوله: (خاصة) قيد للمسجد الحرام، وقد قلنا إن المسجد الحرام كله حرم.
لقوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) * (الحج: 52).
هذا تعليل لقوله: (وإن الناس في المسجد الحرام سواء). قوله: * (إن الذين كفروا) * يعني: أهل مكة. قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * أي: ويصرفون الناس عن دين الإسلام. وقال الزمخشري: الصدود منهم مستمر دائم للناس، أي للذين يقع عليهم اسم الناس من غير فرق بين حاضر وباد وناى وظارىء مكي وآفقي
وقد استشهد به أصحاب أبي حنيفة قائلين بأن المراد من المسجد الحرام مكة على امتناع بيع دور مكة وإجارتها. وقال أبو الليث السمرقندي في (تفسيره) وهذه الآية مدنية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة منعهم المشركون عن المسجد الحرام، ثم وصف المسجد الحرام فقال: * (اللذين جعلناه للناس سواء) * للمؤمنين جميعا، ثم قال: * (العاكف فيه والبادي) * يعني: سواء المقيم في الحرم، ومن دخل مكة من غير أهلها، ويقال: المقيم والغريب سواء. وقرأ عاصم في رواية حفص: * (سواء) * بالنصب يعني: جعلناه سواء، وقرأ الباقون بالضم سواء، على معنى الابتداء، وقال الزمخشري: وجه النصب أنه ثاني مفعولي: جعلناه، أي: جعلناه مستويا العاكف فيه والبادي، وفي القراءة بالرفع الجملة مفعول ثان. قوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد) * الباء فيه صلة، وأصله: ومن يرد فيه إلحادا كما في قوله تعالى: * (تنبت بالدهن) * (المؤمنون: 02). وقال الزمخشري: ومفعول: يرد، متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما، وقرئ: يرد، بفتح الياء من الورود، ومعناه: من أتى فيه بإلحاد ظالما
225

الإلحاد العدول عن القصد، وقيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته، وعن سعيد بن جبير: الاحتكار، وقيل: الظلم، وقال مقاتل: نزلت الآية في عبد الله بن أنيس بن خطل القرشي، وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلين أحدهما مهاجري والآخر أنصاري، فافتخرا في الأنساب. فنضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري، ثم ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتله فقتل. قوله: * (بإلحاد بظلم) * حالان مترادفان، وعن الحسن: ومن يرد إلحاده بظلم، أراد إلحادا فيه، فأضافه على الاتساع في الظرف، كمكر الليل ومعناه: من يرد أن يلحذ فيه ظالما، وخبر: أن، محذوف لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: أن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام يذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.
الباد الطارى معكوفا محبوسا
هذا تفسير من البخاري بالمعنى، ومعنى الطاري المسافر، كما أن معنى العاكف المقيم، وقال الكرماني: قوله: معكوفا، إشارة إلى ما في قوله تعالى: * (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * (الحج: 52). قلت: ليست هذه الكلمة في الآية المذكورة، فلا مناسبة لذكرها هنا، ولكن يمكن أن يقال: إنما ذكر المعكوف لكون العاكف مذكورا ههنا، وفيه ما فيه.
8851 حدثنا أصبغ قال أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أنه قال يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة فقال وهل ترك عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله تعالى عنهما شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل مطالب كافرين فكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول لا يرث المؤمن الكافر. قال ابن شهاب وكانوا يتأولون قول الله تعالى: * (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولائك بعضهم أولياء بعض) * (الأنفال: 27). الآية.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهل ترك عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب) إلى قوله: (قال ابن شهاب)، رضي الله تعالى عنه.
ذكر رجاله: وهم: سبعة: الأول: أصبغ، بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره غين معجمة: ابن الفرج أبو عبد الله. الثاني: عبد الله بن وهب. الثالث: يونس بن يزيد. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، الخامس: علي بن الحسين المشهور بزين العابدين. السادس: عمرو بن عثمان بن عفان أمير المؤمنين. السابع: أسامة ابن زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في خمسة مواضع. وفيه: القول في موضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه وابن وهب مصريان وأن يونس أيلي والبقية مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن محمود عن عبد الرزاق، وفي المغازي عن سليمان بن عبد الرحمن. وأخرجه مسلم في الحج عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب به، وعن محمد بن مهران وابن أبي عمر وعبد بن حميد وعن محمد بن حاتم، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن رافع وعن إسحاق بن منصور وعن يونس بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق وفي الفرائض عن أبي الطاهر بن السرح به.
ذكر معناه: قوله: (أين تنزل في دارك؟) قال بعضهم: حذفت أداة الاستفهام
226

من قوله: في دارك. قلت: هذا كلام من لا يفهم العربية ولا استنباط المعاني من الألفاظ، وقوله: أين، كلمة استفهام، فلم يبق وجه لتقدير حرف الاستفهام، فما وجه قوله: حذفت أداة الاستفهام من قوله: في دارك؟ والاستفهام عن النزول في الدار لا عن نفس الدار؟ فافهم. وفي رواية للبخاري ستأتي في المغازي: أين تنزل غدا. قوله: (وهل ترك عقيل؟) وفي رواية مسلم وغيره، (وهل ترك لنا؟) قوله: (من رباع؟)، جمع ربع، وقذ ذكرناه عن قريب. قوله: (أو دور؟) للتأكيد إذا فسر الربع بالدار أو وهو شك من الراوي، قوله: (وكان عقيل)، إدراج من بعض الرواة، ولعله من أسامة، كذا قاله الكرماني: وعقيل بفتح العين المهملة. قوله: (هو) أي: عقيل. قوله: (وطالب) أي: ورث طالب مع عقيل أباهما أبا طالب، واسم أبي طالب: عبد مناف، وكنى بابنه طالب، قوله: (ولم يرثه جعفر)، وهو المشهور بالطيار ذي الجناحين، وطالب أسن من عقيل، وهو من جعفر وهو من علي، والتفاوت بين كل واحد والآخر عشر سنين، وهو من النوادر. قوله: (كافرين) نصب على أنه خبر: كان، أي: وكان كلاهما كافرين عند وفاة أبيهما، ولأن عقيلا أسلم بعد ذلك عند الحديبية قيل: لما كان أبو طالب أكبر ولد عبد المطلب
احتوى على أملاكه وحازها وحده على عادة الجاهلية من تقديم الأسن، فتسلط عقيل أيضا بعد هجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال الداودي: باع عقيل ما كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، ولمن هاجر من بني عبد المطلب، كما كانوا يفعلون بدور من هاجر من المؤمنين، وإنما أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصرفات عقيل كرما وجودا، وإما استمالة لعقيل، وإما تصحيحا بتصرفات الجاهلية، كما أنه يصحح أنكحة الكفار، وقالوا: فقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها، وقيل: ولم تزل الدار بيد أولاد عقيل إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف بمائة ألف دينار، وكان علي ابن الحسين، رضي الله تعالى عنهما، يقول: من أجل ذلك بتركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب. قوله: (فكان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، يقول: لا يرث المؤمن الكافر) هذا موقوف على عمر، رضي الله تعالى عنه، وقد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد، وهو عند البخاري في المغازي من طريق محمد بن أبي حفصة ومعمر عن الزهري، وأخرجه مفردا في الفرائض من طريق ابن جريج عنه، وفي رواية الإسماعيلي: فمن أجل ذلك كان عمر، رضي الله تعالى عنه، يقول... قوله: (قال ابن شهاب) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، هو المذكور في إسناد الحديث. قوله: (وكانوا يتأولون) أي: السلف كانوا يفسرون الولاية في هذه الآية بولاية الميراث. قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * (الأنفال: 27). أي: صدقوا بتوحيد الله تعالى، وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، والقرآن * (وهاجروا) * من مكة إلى المدينة * (وجاهدوا) * العدو * (بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) * أي: في طاعة الله، وفيما فيه رضى الله تعالى، ثم ذكر الأنصار فقال: * (والذين آووا) * يعني أووا المهاجرين: يعني: أنزلوهم وأسكنوهم في ديارهم * (ونصروا) * رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالسيف * (أولئك بعضهم أولياء بعض) * يعني في الميراث وفي الولاية. قوله: (الآية)، يعني الآية بتمامها، أو: إقرأ الآية، وتمامها: * (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعملون بصير) * (الأنفال: 27). قوله: * (ولم يهاجروا) * يعني: إلى المدينة * (ما لكم من ولايتهم من شيء) * في الميراث * (حتى يهاجروا) * إلى المدينة، وقالوا: يا رسول الله! هل نعينهم إذا استعانوا بنا؟ يعني: الذين آمنوا ولم يهاجروا؟ فنزل: * (وإن استنصروكم في الدين) * يعني: إن استغاثوا بكم على المشركين فانصروهم * (فعليكم النصر) * على من قاتلهم * (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) * أي: عهد يعني إلا أن يقاتلوا قوما بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تنصروهم عليهم وأصلحوا بينهم * (والله بما تعملون بصير) * في العون والنصرة، وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وبالمؤاخاة التي وآخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتوارثون بالإسلام وبالهجرة، وكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه، فنسخ ذلك بقوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * (الأنفال: 57)
[/ ح.
ذكر ما يستفاد منه: قال الخطابي: احتج بهذا الحديث الشافعي على جواز بيع دور مكة بأنه صلى الله عليه وسلم أجاز بيع عقيل الدور التي ورثها، وكان عقيل وطالب ورثا أباهما لأنهما إذ ذاك كانا كافرين فورثا، ثم أسلم عقيل وباعها. قال الخطابي: وعندي أن تلك الدور، وإن كانت قائمة على ملك عقيل، لم ينزلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأنها دور هجروها لله تعالى. وقال القرطبي: ظاهر هذه الإضافة أنها كانت ملكه، يدل عليه قوله: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) فأضافها إلى نفسه، وظاهرها الملك، فيحتمل أن عقيلا أخذها وتصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين. فإن قلت: يعارض هذا الحديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن
227

النبي صلى الله عليه وسلم (قال: لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها)، رواه الطحاوي والبيهقي أيضا، ولفظه: (مكة مناخ لا تباع رباعها ولا يؤاجر بيوتها). قلت: الأصل في باب المعارضة التساوي، وحديث عبد الله بن عمرو لا يقاوم حديث أسامة، لأن في سند حديث عبد الله بن عمر وإسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، ضعفه يحيى والنسائي، وعن يحيى مرة: لا شيء، فحينئذ يسقط حديث عبد الله بن عمرو، ولئن سلمنا المساواة فلا يكتفي بها، بل يكشف وجه ذلك من طريق النظر، فوجدنا أن ما يقضي به حديث أسامة أولى وأصوب من حديث عبد الله، بيان ذلك أن المسجد الحرام وغيره من المساجد وجميع المواضع التي لا تدخل في ملك أحد لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء، أو يحتجر موضعا منها، ألا ترى أن موضع الوقوف بعرفة لا يجوز لأحد أن يبني فيها بناء، وكذلك منى لا يجوز لأحد أن يبني فيها دارا لحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله ألا تتخذ لك بمنى بيتا تستظل فيه؟ فقال: يا عائشة! إنها مناخ لمن سبق) أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والطحاوي، ووجدنا مكة على خلاف ذلك، لأنه قد أجيز فيها البناء، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم دخل مكة: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فهذا يذل على أن مكة مما يبنى فيها الدور، ومما يغلق عليها الأبواب، فإذا كان كذلك يكون صفتها صفة المواضع التي تجري عليها الأملاك، وتقع فيها المواريث، فحينئذ يجوز بيع الدور التي فيها، ويجوز إجارتها، وقال ابن قادمة: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الدار إلى أبي سفيان إضافة ملك، يقول: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم دور بمكة: دار لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وللزبير وحكيم بن حزام وغيرهم مما يكثر تعدادهم، فبعض بيع وبعض في يد أعقابهم إلى اليوم، وأن عمر، رضي الله تعالى عنه، اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف درهم، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة: إحداهما بستين ألف درهم، والأخرى بأربعين ألف درهم، وهذه قصص اشتهرت فلم تنكر، فصارت إجماعا، ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة، فجاز بيعها كسائر الأراضي، وقال الطحاوي: فإن احتج محتج في ذلك بقوله تعالى: * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي) * (الحج: 52). قيل له: قد روي في تأويل هذا عن المتقدمين ما حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: * (سواء العاكف فيه والبادي) * قال: خلق الله فيه سواء، فثبت بذلك أنه إنما قصد بذلك إلى البيت أو إلى المسجد الحرام لا إلى سائر مكة، فإذا كان كذلك لا يتساوى الناس في غير المسجد الحرام، لأن بعضهم يكونون ملاكا وبعضهم يكونون سكانا، فالمالك يجوز له بيع ملكه
وإجارته ونحوهما، ويخدش هذا ما روي عن ابن عباس أيضا، قال: كانوا يرون الحرم كله مسجدا سواء العاكف فيه والبادي، وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء، وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج، وروى ابن أبي نجيح عن عبيد الله بن عمر، قال: من أكل كراء بيوت أهل مكة، فإنما يأكل نارا في بطنه.
وفيه من الفوائد: أن فيه: دليلا على بقاء دور مكة لأربابها، وفيه: دليل على أن المسلم لا يرث الكافر، وفقهاء الأمصار على ذلك إلا ما حكي عن معاوية ومعاذ والحسن البصري وإبراهيم النخعي وإسحاق: أن المسلم يرث الكافر، وأجمعوا على أن الكافر لا يرث المسلم.
54
((باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم مكة))
أي: هذا باب في بيان نزول النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ومراده بيان موضع نزوله صلى الله عليه وسلم.
9851 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد قدوم مكة منزلنا غدا إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (منزلنا غدا...) إلى آخره.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن أبي حمزة، والزهري هو محمد بن مسلم.
وأخرجه البخاري أيضا في الهجرة عن عبد العزيز بن عبد الله، وفي المغازي عن موسى
228

بن موسى بن إسماعيل.
قوله: (حين أراد قدوم مكة)، يعني: حين رجوعه من منى وتوجهه إلى البيت. قوله: (منزلنا) مرفوع على الابتداء. (وغدا) نصب على الظرف. و (إن شاء الله) كلام معترض بين المبتدأ وخبره، ذكره للتبرك والامتثال لقوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا..) * (الكهف: 32). الآية. قوله: (بخيف بني كنانة) أي: في خيف، وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء، وهو ما انحدر من الجبل وارتفع عن المسيل، و: كنانة، بكسر الكاف وتخفيف النون الأولى. قوله: (حيث تقاسموا) أي: تحالفوا على الكفر. قال النووي: معنى تقاسمهم على الكفر تحالفهم على إخراج النبي، صلى الله عليه وسلم، وبني هاشم والمطلب من مكة إلى هذا الشعب، وهو خيف بني كنانة، وكتبوا بينهم الصحيفة المشهورة فيها أنواع من الباطل، فأرسل الله عليها الأرضة فأكلت ما فيها من الكفر وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى، فأخبر جبريل النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فأخبر به عمه أبا طالب، فأخبرهم عن النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فوجدوه كما قاله، والقصة مشهورة، نوضحها بأكثر من ذلك عن قريب، إن شاء الله تعالى.
0951 حدثنا الحميدي قال حدثنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني ذالك المحصب وذالك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
.
هذا طريق آخر في حديث أبي هريرة، رواه عن عبد الله بن الزبير الحميدي المكي عن الوليد بن مسلم القرشي الأموي الدمشقي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن محمد بن مسلم الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
قوله: (من الغد) أصله: من الغدو، فحذفوا اللام وهو أول النهار، وقال الجوهري: الغدوة، بضم الغين: ما بين الصبح وطلوع الشمس. قوله: (يوم النحر)، نصب على الظرف، أي: قال: في غداة يوم النحر. قوله: (وهو بمنى)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (نحن نازلون)، مقول قوله: قال النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (يعني ذلك المحصب)، هكذا هو في رواية المستملي، وفي رواية غيره: (يعني بذلك المحصب). وقال الكرماني: فإن قلت: النزول في المحصب هو في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة لا في اليوم الثاني من العيد الذي هو الغد حقيقة؟ قلت: تجوز عن الزمان المستقبل القريب بلفظ الغد، كما يتجوز بالأمس عن الماضي. قوله: (وذلك أن قريشا وكنانة)، عطف على قريش مع أن قريشا هم أولاد النضر بن كنانة، فيكون من باب التعميم بعد التخصيص، ويحتمل أن يراد بكنانة غير قريش، فقريش قسيم له لا قسم منه قيل: لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. قوله: (أو بني المطلب) كذا وقع عنده بالشك، ووقع عند البيهقي من طريق أخرى عن الوليد. (وبني المطلب) بغير شك. وقال الداودي قوله: (بني عبد المطلب). وهم قوله: (تحالفت) كان القياس فيه: تحالفوا، ولكن أفرده بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة. قوله: (أن لا يناكحوهم)، يعني: لا يقع بينهم عقد نكاح بأن لا يتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وبني عبد المطلب، ولا يزوجوا امرأة منهم إياهم، وكذلك المعنى في قوله: (ولا يبايعوهم)، بأن لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وفي رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي عند أحمد: (أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم). وفي رواية الإسماعيلي: (ولا يكون بينهم وبينهم شيء)، وهذا أعم. قوله: (حتى يسلموا)، بضم الياء. وكانت هذه القصة فيما ذكر في (الطبقات): لما بلغ قريشا فعل النجاشي بجعفر
وأصحابه، وإكرامه لهم، كبر ذلك عليهم جدا وغضبوا وأجمعوا على قتل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا كتابا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، وكان الذي كتب الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري فشلت يده، وفي الأنساب للزبير بن أبي بكر، اسمه: بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وقال الكلبي: هو
229

منصور بن عامر بن هاشم أخو عكرمة بن عامر بن هاشم، ثم ذكر في (الطبقات): وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وقال بعضهم: بل كانت عند أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين النبوة، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبة، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمارة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، فأقاموا فيه ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم وأن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور وظلم. وبقي ما كان فيها من ذكر الله، عز وجل، وفي لفظ: (ختموا على الكتاب ثلاثة خواتيم) فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني، ولم يكذبني قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور وظلم وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر، وقد بان الأمر؟ فتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، منهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البحتري بن هاشم وزهير بن أبي أمية، ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم، وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة.
وقال سلامة عن عقيل ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي: أخبرني ابن شهاب وقالا بني هاشم وبني المطلب. قال أبو عبد الله بني المطلب أشبه
سلامة هو ابن روح، بفتح الراء: الأيلي، هو يروي عن عمه عقيل، بضم العين: ابن خالد الأيلي، وهذا التعليق وصله ابن خزيمة في (صحيحه) من طريقه. قوله: (ويحيى عن الضحاك)، هكذا وقع في رواية أبي ذر، وكريمة بلفظ: عن الضحاك، والصحيح: ويحيى بن الصحاك، وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي، بباءين موحدتين الثانية مضمومة وبعدها اللام المضمومة وبعدها تاء مثناة من فوق مشددة، نسبة إلى: بابلت، قال ابن السمعاني: وظني أنها موضع بالجزيرة، وقال الرشاطي: موضع بالري، ونسبة يحيى هذا إلى جده وليس له رواية في البخاري إلا في هذا الموضع، وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وقال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي، والله لم يسمع من الأوزاعي شيئا، وذكر الهيثم بن خلف الدوري أن أمه كانت تحت الأوزاعي، فإذا كان كذلك فلا يبعد سماعه منه، لأنه في حجره، وقال عنبسة بن خالد: لم يكن لسلامة ابن روح من السن ما يسمع من عقيل بن خالد، وتعليق يحيى عن الضحاك وصله أبو عوانة في (صحيحه) والخطيب في (المدرج). قوله: (وقالا)، أي: سلامة ويحيى أن روايتهما عن شيخهما عن ابن شهاب هو بني المطلب دون لفظ: عبد، بخلاف رواية الوليد فإنها مترددة بين المطلب وعبد المطلب. قوله: (قال أبو عبد الله) هو البخاري نفسه بني المطلب أشبه بالصواب يعني بحذف العبد، لأن عبد المطلب هو ابن هاشم، ولفظ هاشم مغن عنه، وأما المطلب فهو أخو هاشم وهما ابنان لعبد مناف، فالمقصود أنهم تحالفوا على بني عبد مناف.
[با 64
((باب قول الله تعالى * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * الآية (إبراهيم: 53).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله عز وجل * (وإذ قال إبراهيم) * (إبراهيم: 53). إلى آخره إنما لم يذكر البخاري في هذه الترجمة حديثا، فقال
230

بعضهم: كأنه أشار إلى حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في قصة إسكان إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، هاجر وابنها في مكان مكة. وقال الكرماني، رحمه الله تعالى، لعل غرضه منه الإشعار بأنه لم يجد حديثا بشرطه مناسبا لها، أو ترجم الأبواب أولا ثم ألحق بكل باب كل ما اتفق ولم يساعده الزمان بإلحاق حديث بهذا الباب، وهكذا حكم كل ترجمة هي مثلها. قلت: الوجه الأول: من الوجهين اللذين ذكرهما الكرماني بعيد، وأبعد منه ما ذكره بعضهم، لأن الإشارة لا تكون إلا للحاضر، فالذي يطلع على هذه الترجمة كيف يقول: هذه إشارة إلى حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه وهو لم يطلع عليه ولا عرفه؟ ولا أقرب في هذا من الوجه الثاني: الذي قاله الكرماني، فافهم. قوله: * (وإذ قال إبراهيم) * (إبراهيم: 53). أي: أذكر * (إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد) * أي: مكة * (آمنا) * من القتل والغارة، ويقال من الجذام والبرص. * (واجنبني وبني) * أي: احفظني، وبني * (أن نعبد الأصنام) * وذلك أن إبراهيم، عليه السلام، لما فرغ من بناء البيت سأل ربه أن يجعل البلد آمنا، وخاف على بنيه لأنه رأى قوما يعبدون الأصنام والأوثان، فسأل أن يجتنبهم عن عبادتها. قوله: * (أن نعبد) * أي: بأن نعبد أي: عبادة الأوثان، لأن: أن، مصدرية. قوله: * (رب) * يعني: يا رب. * (إنهن) * أي: الأصنام * (أضللن كثيرا من الناس) * لأنهن كن سببا لضلالهم، فنسب الضلال إليهن، وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة، وقيل: كان الإضلال منهن لأن الشيطان كان يدخل في جوف الأصنام ويتكلم قلت: هذا أيضا ليس منهن في الحقيقة. قوله: * (فمن تبعني) * يعني من آمن بي * (فإنه مني) * أي: على ديني، ويقال: فهو من أمتي * (ومن عصاني) * فلم يطعني ولم يوحدك * (فإنك غفور رحيم) * إن تاب أو توفقه حتى يسلم. قوله: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي) * أي: أنزلت بعض ذريتي، وهو إسماعيل، عليه السلام، بواد غير ذي زرع
، وهو مكة وهو: قوله: * (عند بيتك المحرم) * يعني: الذي فيه حرم القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام. قوله: * (ربنا ليقيموا الصلاة) * يعني: وفقهم ليقيموها، وإنما ذكر الصلاة لأنها أولى العبادات وأفضلها، قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس) * أي: قلوبا، وهو جمع فؤاد * (تهوى إليهم) * أي: تشتاق إليهم وتسرع إليهم. وقال سعيد بن جبير: لو قال: أفئدة الناس، يعني بغير: من، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه خص قوله: * (وارزقهم من الثمرات) * يعني: من الثمرات التي تكون في بلاد الريف، يجيء بها الناس. قوله: * (لعلهم يشكرون) * أي: لكي يشكروا فيما ترزقهم.
0951 حدثنا الحميدي قال حدثنا الوليد قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني ذالك المحصب وذالك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
.
هذا طريق آخر في حديث أبي هريرة، رواه عن عبد الله بن الزبير الحميدي المكي عن الوليد بن مسلم القرشي الأموي الدمشقي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن محمد بن مسلم الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.
قوله: (من الغد) أصله: من الغدو، فحذفوا اللام وهو أول النهار، وقال الجوهري: الغدوة، بضم الغين: ما بين الصبح وطلوع الشمس. قوله: (يوم النحر)، نصب على الظرف، أي: قال: في غداة يوم النحر. قوله: (وهو بمنى)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (نحن نازلون)، مقول قوله: قال النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (يعني ذلك المحصب)، هكذا هو في رواية المستملي، وفي رواية غيره: (يعني بذلك المحصب). وقال الكرماني: فإن قلت: النزول في المحصب هو في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة لا في اليوم الثاني من العيد الذي هو الغد حقيقة؟ قلت: تجوز عن الزمان المستقبل القريب بلفظ الغد، كما يتجوز بالأمس عن الماضي. قوله: (وذلك أن قريشا وكنانة)، عطف على قريش مع أن قريشا هم أولاد النضر بن كنانة، فيكون من باب التعميم بعد التخصيص، ويحتمل أن يراد بكنانة غير قريش، فقريش قسيم له لا قسم منه قيل: لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلهذا وقعت المغايرة. قوله: (أو بني المطلب) كذا وقع عنده بالشك، ووقع عند البيهقي من طريق أخرى عن الوليد. (وبني المطلب) بغير شك. وقال الداودي قوله: (بني عبد المطلب). وهم قوله: (تحالفت) كان القياس فيه: تحالفوا، ولكن أفرده بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة. قوله: (أن لا يناكحوهم)، يعني: لا يقع بينهم عقد نكاح بأن لا يتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وبني عبد المطلب، ولا يزوجوا امرأة منهم إياهم، وكذلك المعنى في قوله: (ولا يبايعوهم)، بأن لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وفي رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي عند أحمد: (أن لا يناكحوهم ولا يخالطوهم). وفي رواية الإسماعيلي: (ولا يكون بينهم وبينهم شيء)، وهذا أعم. قوله: (حتى يسلموا)، بضم الياء. وكانت هذه القصة فيما ذكر في (الطبقات): لما بلغ قريشا فعل النجاشي بجعفر وأصحابه، وإكرامه لهم، كبر ذلك عليهم جدا وغضبوا وأجمعوا على قتل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا كتابا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم، وكان الذي كتب الصحيفة منصور بن عكرمة العبدري فشلت يده، وفي الأنساب للزبير بن أبي بكر، اسمه: بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وقال الكلبي: هو منصور بن عامر بن هاشم أخو عكرمة بن عامر بن هاشم، ثم ذكر في (الطبقات): وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وقال بعضهم: بل كانت عند أم الجلاس بنت مخربة الحنظلية، خالة أبي جهل، وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين النبوة، وانحاز بنو المطلب بن عبد مناف إلى أبي طالب في شعبة، وخرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني هاشم وبني المطلب، وقطعوا عنهم الميرة والمارة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد، فأقاموا فيه ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم وأن الأرضة أكلت ما كان فيها من جور وظلم. وبقي ما كان فيها من ذكر الله، عز وجل، وفي لفظ: (ختموا على الكتاب ثلاثة خواتيم) فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني، ولم يكذبني قط، أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من جور وظلم وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقا نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذبا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: علام نحبس ونحصر، وقد بان الأمر؟ فتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم، منهم مطعم بن عدي وعدي بن قيس وزمعة بن الأسود وأبو البحتري بن هاشم وزهير بن أبي أمية، ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم، ففعلوا، فلما رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم، وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة.
231

وقال سلامة عن عقيل ويحيى بن الضحاك عن الأوزاعي: أخبرني ابن شهاب وقالا بني هاشم وبني المطلب. قال أبو عبد الله بني المطلب أشبه
سلامة هو ابن روح، بفتح الراء: الأيلي، هو يروي عن عمه عقيل، بضم العين: ابن خالد الأيلي، وهذا التعليق وصله ابن خزيمة في (صحيحه) من طريقه. قوله: (ويحيى عن الضحاك)، هكذا وقع في رواية أبي ذر، وكريمة بلفظ: عن الضحاك، والصحيح: ويحيى بن الصحاك، وهو يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي، بباءين موحدتين الثانية مضمومة وبعدها اللام المضمومة وبعدها تاء مثناة من فوق مشددة، نسبة إلى: بابلت، قال ابن السمعاني: وظني أنها موضع بالجزيرة، وقال الرشاطي: موضع بالري، ونسبة يحيى هذا إلى جده وليس له رواية في البخاري إلا في هذا الموضع، وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وقال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتي، والله لم يسمع من الأوزاعي شيئا، وذكر الهيثم بن خلف الدوري أن أمه كانت تحت الأوزاعي، فإذا كان كذلك فلا يبعد
سماعه منه، لأنه في حجره، وقال عنبسة بن خالد: لم يكن لسلامة ابن روح من السن ما يسمع من عقيل بن خالد، وتعليق يحيى عن الضحاك وصله أبو عوانة في (صحيحه) والخطيب في (المدرج). قوله: (وقالا)، أي: سلامة ويحيى أن روايتهما عن شيخهما عن ابن شهاب هو بني المطلب دون لفظ: عبد، بخلاف رواية الوليد فإنها مترددة بين المطلب وعبد المطلب. قوله: (قال أبو عبد الله) هو البخاري نفسه بني المطلب أشبه بالصواب يعني بحذف العبد، لأن عبد المطلب هو ابن هاشم، ولفظ هاشم مغن عنه، وأما المطلب فهو أخو هاشم وهما ابنان لعبد مناف، فالمقصود أنهم تحالفوا على بني عبد مناف.
[با 64
((باب قول الله تعالى * (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب أنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم. ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) * الآية (إبراهيم: 53).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله عز وجل * (وإذ قال إبراهيم) * (إبراهيم: 53). إلى آخره إنما لم يذكر البخاري في هذه الترجمة حديثا، فقال بعضهم: كأنه أشار إلى حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في قصة إسكان إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، هاجر وابنها في مكان مكة. وقال الكرماني، رحمه الله تعالى، لعل غرضه منه الإشعار بأنه لم يجد حديثا بشرطه مناسبا لها، أو ترجم الأبواب أولا ثم ألحق بكل باب كل ما اتفق ولم يساعده الزمان بإلحاق حديث بهذا الباب، وهكذا حكم كل ترجمة هي مثلها. قلت: الوجه الأول: من الوجهين اللذين ذكرهما الكرماني بعيد، وأبعد منه ما ذكره بعضهم، لأن الإشارة لا تكون إلا للحاضر، فالذي يطلع على هذه الترجمة كيف يقول: هذه إشارة إلى حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه وهو لم يطلع عليه ولا عرفه؟ ولا أقرب في هذا من الوجه الثاني: الذي قاله الكرماني، فافهم. قوله: * (وإذ قال إبراهيم) * (إبراهيم: 53). أي: أذكر * (إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد) * أي: مكة * (آمنا) * من القتل والغارة، ويقال من الجذام والبرص. * (واجنبني وبني) * أي: احفظني، وبني * (أن نعبد الأصنام) * وذلك أن إبراهيم، عليه السلام، لما فرغ من بناء البيت سأل ربه أن يجعل البلد آمنا، وخاف على بنيه لأنه رأى قوما يعبدون الأصنام والأوثان، فسأل أن يجتنبهم عن عبادتها. قوله: * (أن نعبد) * أي: بأن نعبد أي: عبادة الأوثان، لأن: أن، مصدرية. قوله: * (رب) * يعني: يا رب. * (إنهن) * أي: الأصنام * (أضللن كثيرا من الناس) * لأنهن كن سببا لضلالهم، فنسب الضلال إليهن، وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة، وقيل: كان الإضلال منهن لأن الشيطان كان يدخل في جوف الأصنام ويتكلم قلت: هذا أيضا ليس منهن في الحقيقة. قوله: * (فمن تبعني) * يعني من آمن بي * (فإنه مني) * أي: على ديني، ويقال: فهو من أمتي * (ومن عصاني) * فلم يطعني ولم يوحدك * (فإنك غفور رحيم) * إن تاب أو توفقه حتى يسلم. قوله: * (ربنا إني أسكنت من ذريتي) * أي: أنزلت بعض ذريتي، وهو إسماعيل، عليه السلام، بواد غير ذي زرع، وهو مكة وهو: قوله: * (عند بيتك المحرم) * يعني: الذي فيه حرم القتال والاصطياد، وأن يدخل فيه أحد بغير إحرام. قوله: * (ربنا ليقيموا الصلاة) * يعني: وفقهم ليقيموها، وإنما ذكر الصلاة لأنها أولى العبادات وأفضلها، قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس) * أي: قلوبا، وهو جمع فؤاد * (تهوى إليهم) * أي: تشتاق إليهم وتسرع إليهم. وقال سعيد بن جبير: لو قال: أفئدة الناس، يعني بغير: من، لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه خص قوله: * (وارزقهم من الثمرات) * يعني: من الثمرات التي تكون في بلاد الريف، يجيء بها الناس. قوله: * (لعلهم يشكرون) * أي: لكي يشكروا فيما ترزقهم.
74
((باب قول الله تعالى * (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذالك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم) * (المائدة: 79).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله تعالى، عز وجل: جعل الله... إلى آخره، ووقع في شرح ابن بطال بأنه ضم الباب السابق إلى هذا وجعلهما واحدا، فقال بعد قوله: * (لعلهم يشكرون) * (إبراهيم: 53). وقول الله تعالى: * (جعل الله الكعبة) * (المائدة: 79). إلى آخره، قال بعضهم: كأنه يشير إلى أن المراد بقوله: * (قياما) * أي: قواما، وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم.
قلت: السر في هذا والتحقيق أنه جعل هذه الآية الكريمة ترجمة وأشار بها إلى أمور. الأول: أشار فيه إلى أن قوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة المشرفة يدل على قوله * (قياما للناس) * (المائدة: 79). فإذا زالت الكعبة على يد ذي السويقتين تختل أمورهم، فلذلك أورد حديث أبي هريرة فيه مناسبة لهذا، فتقع به المطابقة بين الحديث والترجمة. والثاني: أشار به إلى تعظيم الكعبة وتوقيرها، يدل عليه قوله: * (البيت الحرام) * حيث وصفها بالحرمة، فأورد حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فيه مناسبة لهذا، فتقع به المطابقة بين الحديث والترجمة، وذلك في قوله: (وكان يوما تستر فيه الكعبة). والثالث: أشار به إلى أن الكعبة لا تنقطع الزوار عنها، ولهذا تحج بعد خروج يأجوج ومأجوج الذي يكون فيه من الفتن والشدائد ما لا يوصف، فلذلك أورد حديث أبي سعيد الخدري فيه مناسبة لهذا، وهو قوله: (ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)، ويدل على هذا الوجه أيضا قياما، فتقع به المطابقة بين الحديث والترجمة. قوله: (البيت الحرام)، نصب على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على التوضيح كما تجيء الصفة، كذلك قاله الزمخشري. قوله: (قياما) أي: عمادا للناس في أمر دينهم ودنياهم ونهوضا إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم، وروي عن عطاء بن أبي رباح: لو تركوها عاما واحدا
231

لم ينظروا ولم يتجروا، وقرأ ابن عامر: قيما، وقرأ الباقون قياما، وأصله: قواما، ويقال معني: قياما، معالم للحق، وقال مقاتل: يعني علما لقبلتهم يصلون إليها، وقال سعيد بن جبير صلاحا لدينهم. قوله: * (والشهر الحرام) * وهو الشهر الذي يؤدي فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأن اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه، شأنا عرفه الله تعالى، وقيل: عنى به جنس أشهر الحرم. قوله: * (والهدي) * وهو ما يهدي به قوله: * (والقلائد) * يعني المقلدات أو ذات القلائد، والمعنى: جعل الله الشهر الحرام والهدي والقلائد أمنا للناس لأنهم إذا توجهوا إلى مكة وقلدوا الهدي أمنوا من العدو، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم، فمن لقوه على هذه الحالة لم يتعرضوا له. قوله: (ذلك)، إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره،، قوله: * (وإن الله بكل شيء عليم) * أي: من السر والعلانية.
1951 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة.
(الحديث 1951 طرفه في: 6951).
مطابقته للترجمة قد ذكرناها آنفا. ورجاله ستة: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وسفيان بن عيينة، وزياد، بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف ابن سعد بن عبد الرحمن، يكنى أبا عبد الرحمن الخراساني من أهل بلخ يقال إنه من العرب سكن مكة وانتقل منها إلى اليمن فسكن في قرية اسمها: عك، ومات بها، يروي عن محمد بن مسلم الزهري.
والحديث أخرجه مسلم في الفتن عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر. وأخرجه النسائي في الحج، وفي التفسير عن قتيبة بن سعيد.
ذكر معناه: قوله: (يخرب الكعبة) فعل ومفعول (وذو السويقتين) فاعله، وهذه تثنية سويقة، والسويقة مصغر الساق، وألحق بها التاء في التصغير لأن الساق مؤنثة، والتصغير للتحقير، والإشارة إلى الدقة لأن في سيقان الحبشة دقة وخموشة، والتقدير: يخرب الكعبة ضعيف من هذه الطائفة. قوله: (من الحبشة) كلمة: من، بيانية أي من هذا الجنس من بني آدم. قالوا: الحبش جنس من السودان، وهم الأحبش والحبشان والحبشة، ليس بصحيح في القياس لأنه لا واحد له على مثال فاعل، فيكون مكسرا على فعله، والأحبوش جماعة الحبش قال العجاج.
* كأن صيران المهى الأخلاط
* والرمل أحبوش من الأنباط
*
وقيل: هم الجماعة أيا كانوا لأنهم إذا اجتمعوا اسودوا. وفي (الصحاح): الحبش والحبشة جنس من السودان، وقال ابن دريد: فأما قولهم: الحبشة، فعلى غير قياس، وقد قالوا: حبشان أيضا، ولا أدري كيف هو. قلت: إنكارهم لفظ الحبشة على هذا الوزن لا وجه له لأنه ورد في لفظ الفصيح، بل أفصح الناس، وقال الرشاطي: وهم من ولد كوش بن حام، وهم أكثر ملوك السودان وجميع ممالك السودان يعطون الطاعة للحبش.
وقال أبو حنيفة الدينوري: كان أولاد حام سبعة أخوة كأولاد سام: السند والهند والزنج والقبط والحبشة والنوبة وكنعان، فأخذوا ما بين الجنوب والدبور والصبا. وروى سفيان بن عيينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا خير في الحبش، إن جاعوا سرقوا، وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم حسنتين إطعام الطعام وإلباس يوم البأس). وقال ابن هشام في (التيجان): أول من جرى لسان الحبشة على لسانه سحلب بن أداد بن ناهس بن سرعان بن حام بن نوح، عليه السلام، ثم تولدت من هذا اللسان ألسن استخرجت منه، وهذا هو الأصل.
وجاء في تخريب الكعبة أحاديث. منها: حديث ابن عباس وعائشة، بوب عليه البخاري بقوله: باب هدم الكعبة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: ما رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح في: يبايع لرجل بين الركن والمقام، وأول من يستحل هذا البيت أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تجيء الحبشة فيخربونه خرابا لا يعمر بعده، وهم الذين يستخرجون كنزه، وذكر الحليمي: أن ذلك في زمن عيسى، عليه السلام، وأن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين قد سار إلى البيت يهدمه فيبعث، إليه عيسى، عليه الصلاة والسلام، طائفة بين الثمان إلى التسع. ومنها: ما رواه أبو نعيم بسند فيه مجهول: كأني أنظر إلى أصيلع أقرع أفحج على ظهر الكعبة يهدمها بالكرزنة. ومنها: ما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: اتركوا الحبشة
232

ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة. ومنها: ما رواه أحمد من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلب حليها ويجردها من كسوتها، وكأني أنظر إليه أصيدع أفيدع يضرب عليها مسحاته ومعوله). ومنها: ما رواه ابن الجوزي من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا فيه طول، وفيه: (وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن معه أصحابه، ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني: الكعبة إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع وخراب اليمن من الجراد). وفي (كتاب الغريب) لأبي عبيد: عن علي، رضي الله تعالى عنه: (استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع وأصمع حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم). وخرجه الحاكم مرفوعا (وفيه: أصمع أقرع بيده معول وهو يهدمها حجرا حجرا). وذكر الغزالي في (مناسكه): لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به أحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من
الأرض، فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة ليس منها أثر، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ثم، يرفع القرآن العظيم من المصاحف، ثم من القلوب، ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية، ثم يخرج الدجال وينزل عيسى، عليه الصلاة والسلام، وفي (كتاب الفتن) لنعيم بن حماد: حدثنا بقية عن صفوان عن شريح (عن كعب: تخرج الحبشة خرجة ينتهون فيها إلى البيت، ثم يتفرغ إليهم أهل الشام فيجدونهم قد افترشوا الأرض، فيقتلونهم أودية بني علي، وهي قريبة من المدينة، حتى إن الحبشي يباع بالشملة). قال صفوان: وحدثني أبو اليمان (عن كعب، قال: يخربون البيت وليأخذن المقام فيدركون على ذلك، فيقتلهم الله تعالى. وفيه (ويخرجون بعد يأجوج). (وعن عبد الله بن عمرو: تخرج الحبشة بعد نزول عيسى، عليه الصلاة والسلام، فيبعث عيسى طائفة فيهزمون)، وفي رواية: (يهدم مرتين ويرفع الحجر في المرة الثالثة)، وفي رواية، ويرفع في الثانية. وفي رواية (ويستخرجون كنز فرعون بمنوف من الفسطاط، ويقتلون بوسيم) وفي لفظ: (فيأتون في ثلاثمائة ألف عليهم أسيس أو أسيس). وقال القرطبي: وقيل: إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف، وذلك بعد موت عيسى، عليه الصلاة والسلام، وهو الصحيح.
فإن قلت: قال تعالى: * (حرما آمنا) * (القصص: 75). وهو يعارض ما ذكرتم من هذه الأشياء؟ قلت: قالوا: لا يلزم من قوله: * (حرما آمنا) * (القصص: 75). أن يكون ذلك دائما في كل الأوقات، بل إذا حصلت له حرمة وأمن في وقت ما، صدق عليه هذا اللفظ وصح المعنى، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعنى في وقت آخر. فإن قلت: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أحل لي مكة ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة). قلت: الحكم بالحرمة والأمر لا يرتفع إلى يوم القيامة، أما وقوع الخوف فيها وترك الحرمة فقد وجد من ذلك في أيام يزيد وغيره كثيرا، وقال عياض: * (حرما آمنا) * (القصص: 75). أي: إلى قرب القيامة، وقيل: يختص منه قصة ذي السويقتين. وقال ابن الجوزي: إن قيل ما السر في حراسة الكعبة من الفيل ولم تحرس في الإسلام مما صنع بها الحجاج والقرامطة وذو السويقتين؟ فالجواب: إن حبس الفيل كان من أعلام النبوة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلائل رسالته لتأكيد الحجة عليهم بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الحبس أيضا دلالة على وجود الناصر.
2951 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها (ح) وحدثني محمد بن مقاتل قال أخبرني عبد الله هو ابن المبارك قال أخبرنا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان وكان يوما تستر فيه الكعبة فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أن يصومه فليصمه ومن شاء أن يتركه فليتركه.
.
قد مر وجه المطابقة بين الحديث والترجمة، ووجه آخر وهو: أن المشركين كانوا يعظمون الكعبة قديما بالستور
233

والكسوة، ويقومون إليها كما يقوم المسلمون، وبين الله تعالى في الآية المذكور أنه جعل الكعبة بيتا حراما، ومن حرمتها تعظيمها فعظمها المسلمون، ومن جملة تعظيمهم إياها أنهم كانوا يكسونها في كل سنة يوم عاشوراء الذي هو من الأيام المعظمة، فمن هذه الحيثية حصلت المطابقة بين الآية التي هي ترجمة وبين الحديث.
ذكر رجاله: وهم: تسعة: الأول: يحيى بن بكير، بضم الباء الموحدة: أبو زكريا المخزومي. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: عقيل، بضم العين: ابن خالد، الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: محمد بن مقاتل، بضم الميم على وزن اسم الفاعل من المقاتلة: أبو الحسن المجاور بمكة. السابع: عبد الله بن المبارك. الثامن: محمد بن أبي حفصة، واسمه ميسرة، ضد الميمنة. التاسع: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في سبعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه يحيى والليث مصريان، وأن عقيلا أيلي، وأن ابن شهاب وعروة مدنيان، وأن شيخه محمد بن مقاتل من أفراده، وأنه وابن المبارك مروزيان، ومحمد بن أبي حفصة بصري. وفيه: أنه رواه من طريقين، وقال الإسماعيلي: جمع البخاري بين رواية عقيل وابن أبي حفصة في المتن، وليس في رواية عقيل ذكر الستر، ثم ساقه بدونه من طريق عقيل، وهو كما قال، وعادة البخاري التجوز في مثل هذا. وقيل: أراد من حديث عقيل التصريح بسماع ابن شهاب من عروة. قلت: ليس لما ذكره فإنه لم يأت به، نعم هو عند الإسماعيلي وأبي نعيم، وقد روى الفاكهي من طريق ابن أبي حفصة، وصرح بسماع الزهري له من عروة.
ذكر معناه: قوله: (كانوا)، أي: المسلمون كانوا يصومون يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من محرم، وكان فرضا، فلما نزل فرض رمضان نسخ صوم يوم عاشوراء، وهو ممدود غير منصرف، وقال أبو علي القالي في (كتاب الممدود والمقصور): عاشوراء على وزن فاعولاء، ولا نعلم من هذا المثال غيره. قوله: (وكان) أي كان يوم عاشوراء يوما تستر فيه الكعبة، وكانت تكسى في كل سنة مرة يوم عاشوراء، ثم إن معاوية كان يكسوها مرتين، ثم المأمون كان يكسوها ثلاثا الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان، وذكر محمد بن إسحاق في (السير) أن تبان أسعد أبو كرب وهو تبع الآخر ابن كلكيكرب بن زيد، وهو تبع الأول ابن عمرو، وساق نسبه إلى يعرب بن قحطان، ثم قال: كان هو وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، توجه إلى مكة حتى إذا كان بين عسفان وأمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة، فقالوا: ألا ندلك على بيت مال داثر؟ قال: بلى. قالوا: مكة، وإنما أراد الهذليون هلاكه، لما عرفوا هلاك من أراده من الملوك، فقال له حبران كانا معه: إنما إراد هؤلاء هلاكك. قال: فبماذا تأمراني, قالا: نصنع عنده ما يصنع أهله، نحلق عنده ونطوف وننحر، ففعل فأقام بمكة ستة أيام ينحر للناس ويطعمهم، فأري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك
فكساه الملاء، والوصائل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت، وذكر ابن قتيبة أن هذه القصة كانت قبل الإسلام بتسعمائة سنة. وفي (معجم الطبراني) من حديث ابن لهيعة: حدثنا أبو زرعة عمرو سعمت سهل بن سعد رفعه: (لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم). وفي (مغايض الجوهر في أنساب حمير): كان يدين بالزبور، وذكر ابن أبي شيبة في (تاريخه): أول من كساها عدنان بن أدد، وزعم الزبير أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وذكر الماوردي: أن أول من كساها الديباج خالد بن جعفر بن كلاب أحمد لطيمة يحل البر، ووجد فيها إنماطا فعلقها على الكعبة، وذكر الحافظ: أن أول من علقها عبد الله بن الزبير وفي كتاب ابن إسحاق: أول من حلاها عبد المطلب بن عبد مناف لما حفرها بالفزالين اللذين وجدهما من ذهب فيها. وعن ليث بن أبي سليم، قال: كانت كسوة الكعبة على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأنطاع والمسوح. وقال ابن دحية: كساها المهدي القباطي والخز والديباج، وطلى جدرانها بالمسك والعنبر من أسفلها إلى أعلاها. وقال ابن بطال: قال ابن جريج: زعم بعض علمائنا أن أول من كساها إسماعيل، عليه السلام، وحكى البلاذري: أن أول من كساها الأنطاع عدنان بن أدد، وروى الواقدي عن إبراهيم بن أبي ربيعة، قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع، ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثياب اليمانية، ثم كساه عمر وعثمان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وقال
234

ابن إسحاق: بلغني أن البيت لم يكس في عهد أبي بكر وعمر، يعني: لم يجدد له كسوة. وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرت أن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان يكسوها القباطي. وأخبرني غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كساها القباطي والحبرات، وأبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم، وأول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان، وأن أول من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا: أصاب، ما نعلم لها من كسوة أوفق منه وروى أبو عروبة في (الأوائل) له: عن الحسن، قال: أول من لبس الكعبة القباطي النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الدارقطني في (المؤتلف): أن أول من كسا الكعبة الديباج تنيلة بنت جنان والدة العباس بن عبد المطلب، كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة الديباج، وذكر الزبير بن بكار أنها أضلت ضرارا ابنها، فرده عليها رجل من جذام، فكست الكعبة ثيابا بيضاء، وهو محمول على تعدد القصة، وكسيت في أيام الفاطميين الديباج الأبيض، وكساها السلطان محمود بن سبكتكين ديباجا أصفر، وكساها ناصر العباسي ديباجا أخضر، ثم كساها ديباجا أسود، فاستمر إلى الآن، ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر في سنة نيف وخمسين وسبعمائة، قرية بنواحي القاهرة، ولم تزل تكسى من هذا الوقف.
3951 حدثنا أحمد قال حدثنا أبي قال حدثنا إبراهيم عن الحجاج بن حجاج عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج.
قد مر وجه المطابقة في أول الب أب.
ذكر رجاله: وهم: سبعة: الأول: أحمد بن أبي عمرو، واسمه حفص بن عبد الله بن راشد أبو علي السلمي، مات سنة ستين ومائتين. الثاني: أبوه حفص أبو عمرو، قاضي نيسابور، الثالث: إبراهيم بن طهمان أبو سعيد. الرابع: الحجاج بن الحجاج الأسلمي الباهلي الأحول. الخامس: قتادة بن دعامة. السادس: عبد الله بن أبي عتبة، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة. مولى أنس بن مالك. السابع: أبو سعيد الخدري، سعد بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في خمسة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده، وأنه ذكر في بعض النسخ مجردا، وفي بعضها أحمد بن حفص، وأنه وأباه نيسابوريان وأن إبراهيم هروي سكن نيسابور ثم سكن مكة، مات سنة ستين ومائة، وأن الحجاج وقتادة وعبد الله بصريون.
وهذا الحديث من أفراده.
قوله: (ليحجن)، بضم الياء وفتح الحاء والجيم على صيغة المجهول، مؤكدا بالنون الثقيلة، وكذلك قوله: (ليعتمرن). قوله: (يأجوج ومأجوج) إسمان أعجميان بدليل منع الصرف، وقرئ في القرآن مهموزين، وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم، وقيل: هم على صنفين: طوال مفرطوا الطول، وقصار مفرطوا القصر.
تابعه أبان وعمران عن قتادة
أي: تابع عبد الله بن أبي عتبة أبان بن يزيد العطار عن قتادة، وكذلك تابعه عمران القطان عن قتادة، ومتابعتهما على لفظ المتن. أما متابعة أبان فوصلها الإمام أحمد: عن عفان وسويد بن عمرو الكلبي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ثلاثتهم عن أبان، فذكر مثله، وأما متابعة عمران فوصلها أحمد أيضا: عن سليمان بن داود الطيالسي عنه، وكذا أخرجه ابن خزيمة وأبو يعلى من طريق الطيالسي، وقد تابع هؤلاء سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، أخرجه عبد بن حميد عن روح بن عبادة عنه، ولفظه: (أن الناس ليحجون ويعتمرون ويغرسون النخل بعد خروج يأجوج ومأجوج).
وقال عبد الرحمان عن شعبة قال لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت
أي: قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن قتادة بهذا السند: لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت، وهذا التعليق وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه.
والأول أكثر
235

أراد البخاري بالأول من تقدم ذكرهم قبل شعبة، وإنما قال: أكثر، لاتفاق أولئك على اللفظ المذكور، وانفراد شعبة بما يخالفهم، وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض، لأن الأول يدل على أن البيت يحج بعد أشراط الساعة. والثاني: يدل على أنه لا يحج، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: لا يلزم من حج الناس بعد خروج يأجوج
ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة، والذي يظهر، والله أعلم، أن يكون المراد بقوله: (ليحجن البيت) أي: مكان البيت، ويدل على ذلك ما روي أن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك على ما يأتي، إن شاء الله تعالى، وقال التيمي: قال البخاري: والأول أكثر، يعني: البيت يحج إلى يوم القيامة.
سمع قتادة عبد الله وعبد الله أبا سعيد
وفي بعض النسخ قال أبو عبد الله أي: البخاري نفسه، سمع قتادة عبد الله بن أبي عتية المذكور في سند الحديث المذكور، وأشار بهذا إلى أن قتادة لما كان مدلسا صرح بأن عنعنته مقرونة بالسماع. قوله: (وعبد الله) أي: سمع عبد الله بن أبي عتبة أبا سعيد الخدري.
84
((باب كسوة الكعبة))
أي: هذا باب في بيان حكم التصوف في كسوة الكعبة.
4951 حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا سفيان قال حدثنا واصل الأحدب عن أبي وائل قال جئت إلي شيبة (ح) وحدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن واصل عن أبي وائل قال جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال لقد جلس هاذا المجلس عمر رضي الله تعالى عنه فقال لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته قلت أن صاحبيك لم يفعلا قال هما المرآن أقتدي بهما.
(الحديث 4951 طرفه في: 5727).
مطابقته للترجمة من وجوه:
الأول: أنه معلوم أن الملوك في كل زمان كانوا يتفاخرون بكسوة الكعبة برفيع الثياب المنسوجة بالذهب وغيره، كما يتفاخرون بتسبيل الأموال لها، فأراد البخاري أن عمر بن الخطاب لما رأى قسمة الذهب والفضة صوابا، كان حكم الكسوة حكم المال يجوز قسمتها، بل ما فضل من كسوتها أولى بالقسمة.
الثاني: أنه يحتمل أن يكون مقصود البخاري التنبيه على أن كسوة الكعبة مشروعة، والحجة فيها أنها لم تزل تقصد بالمال فيوضع فيها على معنى الزينة إعظاما لها، فالكسوة من هذا القبيل.
الثالث: أنه يحتمل أن يكون أراد ما في بعض طرق الحديث كعادته، ويكون هناك طريق موافقة للترجمة وتركه إياه إما لخلل شرطه وإما لتبحر الناظر فيه.
الرابع: أنه يحتمل أن يكون أخذه من قول عمر، رضي الله تعالى عنه، لا أخرج حتى أقسم مال الكعبة، فالمال يطلق على كل ما يتمول به، فيدخل فيه الكسوة.
الخامس: أنه لعل الكعبة كانت مكسوة وقت جلوس عمر، رضي الله تعالى عنه، فحيث لم ينكره وقررها دل على جوازها، والترجمة يحتمل أن يقال فيها: باب في مشروعية الكسوة كما ذكرنا.
السادس: أنه يحتمل أن يكون الحديث مختصرا طوى فيه ذكر الكسوة.
فمن هذه الوجوه يتوجه الرد على الإسماعيلي في قوله: ليس في حديث الباب لكسوة الكعبة ذكر، يعني فلا يطابق الترجمة.
ذكر رجاله: وهم: ثمانية: الأول: عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي. الثاني: خالد بن الحارث أبو عبد الله الحجبي. الثالث: سفيان الثوري في الطريقين. الرابع: وأصل بن حيان الأحدب الأسدي. الخامس: أبو وائل شقيق ابن سلمة. السادس: شيبة بن عثمان الحجبي، بالحاء المهملة والجيم المفتوحتين، العبدري، أسلم يوم الفتح وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم له ولابن عمه عثمان بن طلحة مفتاح الكعبة، وقال: خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة إلى يوم القيامة، لا يأخذ منكم
236

إلا ظالم، وهو الآن في يد بني شيبة، مات سنة تسع وخمسين. السابع: قبيصة بن عقبة أبو عامر السوائي. الثامن: عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ستة مواضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن شيخه في الطريق الأول من أفراده، وقدمه مع أنه نازل لتصريح سفيان فيه بالتحديث، وأنه بصري. وفيه: أن خالدا أيضا من أفراده، وأنه أيضا بصري وسفيان وواصل وأبو وائل كوفيون، وفي الطريق الثاني شيخه قبيصة وهو أيضا من أفراده، وهو كوفي. وفيه: صحابيان شيبة وعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما. وهذا الحديث جعله الحميدي وأبو مسعود الدمشقي وقبلهما الطبراني في مسند شيبة، وذكره المزي أيضا في مسند شيبة، وذكره غيرهم في مسند عمر، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن عمرو بن العباس. وأخرجه أبو داود في الحج عن أحمد بن حنبل. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (على الكرسي)، الكرسي واحد الكراسي، وربما قالوا: كرسي بكسر الكاف، قاله الجوهري. وقال الزمخشري: الكرسي: ما يجلس عليه ولا يفضل عن القاعد، وليست الياء فيه للنسبة، وإنما هو موضوع على هيئة النسبة كما في زفني وقلطي وبختي وبردي. قوله: (أن لا أدع) أي: أن لا أترك. قوله: (فيها) أي: في الكعبة. قوله: (صفراء ولا بيضاء) أي: ذهبا ولا فضة، قال القرطبي: غلط من ظن أن المراد بذلك حلية الكعبة، وإنما أراد الكنز الذي بها، وهو ما كان يهدى إليها فيدخر ما يزيد عن الحاجة. وأما الحلي فمحبسة عليها كالقناديل، فلا يجوز صرفها إلى غيرها. وقال ابن الجوزي: كانوا في الجاهلية يهدون إلى الكعبة تعظيما لها فيجتمع فيها. قوله: (إلا قسمته)، ذكر الضمير باعتبار المال، وفي رواية عمرو بن شيبة في (كتاب مكة): عن قبيصة شيخ البخاري فيه: (إلا قسمتها)، وفي رواية عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عند البخاري في الاعتصام (إلا قسمتها بين المسلمين). وعند الإسماعيلي من هذا الوجه: (لا أخرج حتى أقسم
مال الكعبة بين فقراء المسلمين). قوله: (قلت: إن صاحبيك لم يفعلا). القائل هو شيبة، وأراد بالصاحبين، النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، رضي الله تعالى عنه، وفي رواية عبد الرحمن ابن مهدي: (قلت: ما أنت بفاعل! قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك). وفي رواية الإسماعيلي من هذا الوجه، (قال: ولم ذاك؟ قلت: لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد رأى مكانه وأبو بكر، وهما أحوج منك إلى المال، فلم يحركاه). قوله: (قال: هما المرآن) أي: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: هما أي: النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله تعالى عنه، مرآن يعني: رجلين كاملين في المروءة. قوله: (أقتدي بهما) أي: بالمرأين المذكورين، وهما النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله تعالى عنه، ومعناه لا أفعل ما لم يفعلا، ولا أتعرض لما لم يتعرضا، وبمثل هذه القضية وقع بين أبي بن كعب وعمر، رضي الله تعالى عنهما، وروى عبد الرزاق من طريق الحسن (عن عمر: أراد أن يأخذ كنز الكعبة فينفقه في سبيل الله، فقال له أبي بن كعب: قد سبقك صاحباك، فلو كان فضلا لفعلا). وفي لفظ: (فقال له أبي بن كعب: والله ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قال: أقره رسول الله، صلى الله عليه وسلم). وقال ابن بطال: أراد عمر لكثرته إنفاقه في سبيل الله وفي منافع المسلمين، ثم لما ذكر بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يتعرض له أمسك.
ذكر ما يستفاد منه فيه: التنبيه على مشروعية الكسوة. وفيه: ما يدل من قول عمر أن صرف المال في الفقراء والمساكين آكد من صرفه في كسوة الكعبة، لكن الكسوة في هذه الأمة أهم، لأن الأمور المتقادمة تتأكد حرمتها في النفوس، وقد صار ترك الكسوة في العرف عضا في الإسلام، وإضعافا لقلوب المسلمين. وقال ابن بطال: ما جعل في الكعبة وسبل لها يجري مجرى الأوقاف، فلا يجوز تغييره من وجهه، وفي ذلك تعظيم الإسلام، وترهيب للعدو. وفي (شرح التهذيب): قال صاحب (التلخيص): لا يجوز بيع أستار الكعبة المشرفة، وكذا قال أبو الفضل بن عبد، لأنه لا يجوز قطع أستارها ولا قطع شيء من ذلك، ولا يجوز نقله، ولا بيعه ولا شراؤه. قال: ومن عمل شيئا من ذلك كما يفعله العامة، يشترونه من بني شيبة، لزمه رده ووافقه على ذلك الرافعي، وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفه في مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما ذكره الأزرقي: أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة، فيقسمها على الحاج، وعند الأزرقي عن ابن عباس وعائشة، أنهما قالا: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت
237

إليه من حائض وجنب وغيرهما، وكذا قالته أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، وذكر ابن أبي شيبة عن ابن أبي ليلى، وسئل عن رجل سرق من الكعبة، فقال: ليس عليه قطع؟ ويقال: الظاهر جواز قسمة الكسوة العتيقة إذ بقاؤها تعريض لفسادها بخلاف النقدين.
94
((باب هدم الكعبة))
أي: هذا باب في ذكر هدم الكعبة في آخر الزمان.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم يغزو جيش الكعبة فيخسف بهم
هذا طرف من حديث ذكره البخاري موصولا في أوائل البيوع من طريق نافع بن جبير عن عائشة بلفظ: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم) وسيأتي الكلام فيه هناك، إن شاء الله تعالى.
قوله: (قالت عائشة)، هكذا وقع في رواية الأكثرين بغير واو، وفي رواية أبي ذر: وقالت، بالواو، ومطابقة هذا المعلق للترجمة من حيث أن غزو الكعبة في هذا مقدمة لهدمها، لأن غزوها يقع مرتين، ففي الأولى: هلاكهم، وفي الثانية: هدمها، ومقدمة الشيء تابعة له. فافهم.
5951 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا عبيد الله بن الأخنس قال حدثني ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: عمرو، بفتح العين: ابن علي بن يحيى بن كثير أبو حفص الباهلي الصيرفي. الثاني: يحيى بن سعيد القطان. الثالث: عبيد الله بتصغير عبد بن الأخنس، بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون وفي آخره سين مهملة: أبو مالك النخعي. الرابع: عبد الله بن أبي مليكة، بضم الميم وفتح اللام: هو عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي مليكة، واسمه زهير التيمي الأحول، القاضي على عهد ابن الزبير. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه ويحيى بصريان وعبيد الله بن الأخنس كوفي وابن أبي مليكة مكي.
ذكر معناه: قوله: (كأني به)، الكلام في الضمير في لفظ: به، يحتمل ثلاثة أوجه: الأول: أن يعود إلى البيت، والقرينة الحالية تدل عليه، أي: كأني ملتبس به. الثاني: أن يعود إلى القالع بالقرينة الحالية أيضا. الثالث: ما قاله الطيبي، وهو أنه ضمير مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز، كقوله تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات) * (فصلت: 21). فإن ضمير: هن، هو المبهم المفسر: بسبع سماوات، وهو تمييز، وهذه الأوجه صحيحة ماشية على قاعدة العربية، فلا يحتاج إلى تقدير حذف، كما قال بعضهم، والذي يظهر أن في الحديث شيئا حذف، ثم أكد كلامه بقوله: ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي، رضي الله تعالى عنه، في (غريب الحديث) لأبي عبيدة من طريق أبي العالية: (عن علي، قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت، قبل أن يحال بينكم وبينه، فكأني برجل من الحبشة أصلع أو قال: أصمع حمش الساقين، قاعد عليها وهي تهدم). ورواه الفاكهي من هذا الوجه، ولفظه: أصعل، بدل: أصلع، وقال: قائما عليها يهدمها بمسحاته، ورواه يحيى
الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا. انتهى. قلت: إنما يقدر الحذف في موضع يحتاج إليه للضرورة، ولا ضرورة ههنا، ودعواه الظهور غير ظاهرة لأنه لا وجه في تقدير محذوف لا حاجة إليه بما جاء في أثر عن صحابي، ولا يقال الأحاديث يفسر بعضها بعضا، لأنا نقول: هذا إنما يكون عند الاحتياج إليه، فلا احتياج ههنا إلى ذلك. قوله: (أسود)، مرفوع، وفي رفعه وجهان: أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبره قوله: (يقلعها)، والجملة حال بدون الواو، وهذا على تقدير أن يكون الضمير في: به، للبيت، والوجه الآخر: أن يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، على أن يكون الضمير للقالع، والتقدير: كأني بالقالع هو أسود. وقوله: (أفحج)، خبر بعد خبر، ويجوز
238

أن يكون أسود أفحج، حالين متداخلين أو مترادفتين من الضمير في: به، ويروى أسود منصوبا على الذم أو الاختصاص، وليس من شرط المنصوب على الاختصاص أن لا يكون نكرة، فهذا الزمخشري قال في قوله تعالى: * (قائما بالقسط) * (آل عمران: 81). أنه منصوب على الاختصاص، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير الذي في: به، ويجوز إبدال المظهر من المضمر الغائب، نحو: ضربته زيدا، قوله: (أفحج)، على وزن: أفعل، بفاء ثم حاء مهملة ثم جيم من الفحج، وفي (المنتهى)؛ هو تداني صدور القدمين وتباعد العقبين، وقد فحج يفحج من باب علم يعلم، فهو أفحج، ودابة فحجاء، وهو عيب في الخيل، والفحج، بالكسر، مشية الأفحج، وقد فحج يفحج من باب ضرب يضرب، وفحج يفحج من باب، فتح يفتح، ويقال: الفحج بالتحريك: تباعد ما بين الساقين، ومن الدواب ما بين العرقوبين. وفي (المحكم): فحج فحجا، وعن اللحياني فحجة أيضا. وقال الهروي: الفحج تباعد ما بين الفخذين. وقال ابن دريد: هو تباعد ما بين الرجلين، وفي (المجمل): هو تباعد ما بين الساقين في الإنسان والدابة. قوله في حديث علي: أصلع، وهو الذي ذهب شعر مقدم رأسه، والأصلع الصغير الرأس، والأصمع الصغير الأذنين. قوله: (حمش الساقين)، بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وفي آخره شين معجمة، أي: دقيق. قوله: (حجرا حجرا)، نصب على الحال نحو: بوبته بابا بابا أي: مبوبا، وقال الكرماني: أو بدل من الضمير يعني الضمير المنصوب في يقلعها.
6951 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة.
(انظر الحديث 1951).
قد مضى هذا الحديث عن قريب في: باب قول الله عز وجل: * (جعل الله الكعبة البيت الحرام) * (المائدة: 79). فإنه رواه هناك عن علي بن عبد الله عن سفيان عن زياد بن سعد عن الزهري، وههنا رواه عن يحيى بن أبي بكير المخزومي المصري، عن الليث بن سعد المصري، عن يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب، هو محمد بن مسلم الزهري، والله أعلم.
05
((باب ما ذكر في الحجر الأسود))
أي: هذا باب في بيان ما ذكر في شأن الحجر الأسود، وهو الذي في ركن الكعبة القريب بباب البيت من جانب الشرق، ويقال له: الركن الأسود، ارتفاعه من الأرض ذراعان وثلثا ذراع، وقال الأزهري: ارتفاعه من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبع أصابع.
7951 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
مطابقته للترجمة من حيث إن الذي عنده على شرطه هذا الحديث، وإلا ففيه وردت أحاديث كثيرة صحيحة وضعيفة على ما سنذكر شيئا من ذلك.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: محمد بن كثير ضد القليل أبو عبد الله العبدري، مر في كتاب العلم. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: إبراهيم بن يزيد النخعي. الخامس: عابس، بالعين المهملة وبعد الألف باء موحدة وفي آخره سين مهملة: ابن ربيعة، بفتح الراء: النخعي. السادس: عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه بصري والبقية كلهم كوفيون. قوله: (عن إبراهيم) هو النخعي، وفي رواية مسلم: عن إبراهيم ابن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة عن عمر، رضي الله تعالى عنه.
239

ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب أربعتهم عن أبي معاوية عن الأعمش به، وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن كثير به، وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن أبي معاوية به. وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم.
ذكر معناه: قوله: (أني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع)، تكلم الشارحون في مراد عمر، رضي الله تعالى عنه، بهذا الكلام، فقال محمد بن جرير الطبري: إنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي عمر، رضي الله تعالى عنه، أن يظن الجهال بأن استلام الحجر، هو مثل ما كانت العرب تفعله، فأراد عمر، رضي الله تعالى عنه، أن يعلم أن استلامه لا يقصد به إلا تعظيم الله، عز وجل، والوقوف عند أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك من شعائر الحج التي أمر الله بتعظيمها، وأن استلامه مخالف لفعل الجاهلية في عبادتهم الأصنام، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فنبه عمر على مخالفة هذا الاعتقاد، وأنه لا
ينبغي أن يعبد إلا من يملك الضرر والنفع، وهو الله جل جلاله، وقال المحب الطبري: أن قول عمر لذلك طلب منه للآثار وبحث عنها وعن معانيها. قال: ولما رأى أن الحجر يستلم ولا يعلم له سبب يظهر للحس، ولا من جهة العقل، ترك فيه الرأي والقياس، وصار إلى محض الاتباع، كما صنع في الرمل. وقال الخطابي: في حديث عمر من الفقه أن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، واجبة وإن لم يوقف فيها على علل معلومة وأسباب معقولة، وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها، ومن المعلوم أن تقبيل الحجر إكرام وإعظام لحقه. قال: وفضل الله بعض الأحجار على بعض، كما فضل بعض البقاع على بعض، وبعض الليالي والأيام على بعض. وقال النووي: الحكمة في كون الركن الذي فيه الحجر الأسود يجمع فيه بين التقبيل والاستلام، كونه على قواعد إبراهيم، وفيه الحجر الأسود، وأن الركن اليماني اقتصر فيه على الاستلام لكونه على قواعد إبراهيم ولم يقبل، وإن الركنين الغربيين لا يقبلان ولا يستلمان لفقد الأمرين المذكورين فيهما. قوله: (ولا تضر ولا تنفع) يعني إلا بإذن الله، وروى الحاكم من حديث أبي سعيد: (حججنا مع عمر، رضي الله تعالى عنه، فلما دخل الطواف استقبل الحجر، فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك، ثم قبله، فقال علي، رضي الله تعالى عنه، إنه يضر وينفع. قال: بم؟ قال: بكتاب الله تعالى. عز وجل * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسكم ألست بربكم؟ قالوا: بلى) * (الأعراف: 271). وذلك أن الله لما خلق آدم مسح يده على ظهره فقررهم بأنه الرب، وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم، وكتب ذلك في رق، وكان لهذا الحجر عينان ولسان، فقال: إفتح، ففتح فاه فألقمه ذلك الرق، فقال: أشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، وأني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان دلق يشهد لمن يستلمه بالتوحيد، فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: أعوذ بالله من قوم لست فيهم يا أبا الحسن). وفي سنده أبو هارون، عمارة بن جوين ضعيف، ورواه الأزرقي أيضا في (تاريخ مكة) وفي لفظه: (أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم).
ومن الحكمة في تقبيل الحجر الأسود غير ما ذكر عن علي، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أحجار الجنة على، ما يأتي، فإذا كان كذلك فالتقبيل ارتياح إلى الجنة وآثارها. ومنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أنه يمين الله في الأرض)، رواه أبو عبيد في (غريب الحديث). وفي (فضائل مكة) للجندي من حديث ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس: (إن هذا الركن الأسود هو يمين الله في الأرض، يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه). ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عنه زيادة: (فمن لم يدرك بيعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله). وفي (سنن ابن ماجة) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فاوض الحجر الأسود فكأنما يفاوض يد الرحمن). وقال المحب الطبري: والمعنى في كونه يمين الله، والله أعلم، أن كل ملك إذا قدم عليه قبلت يمينه، ولما كان الحاج والمعتمر أول ما يقدمان يسن لهما تقبيله، فنزل منزلة يمين الملك، ويده، ولله المثل الأعلى، ولذلك من صافحه كان له عند الله عهد، كما أن الملك يعطي العهد بالمصافحة.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن تقبيل الحجر الأسود سنة، وقال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم يستحبون
240

تقبيل الحجر، فإن لم يمكنه ولم يصل إليه استلم بيده، وقيل يده، وإن كان لم يصل إليه استقبله إذا حاذى به وكبر، وهو قول الشافعي انتهى. وخالف مالك في تقبيل اليد، فقال: يستلمه ولا يقبل يده، وهو أحد القولين عنه، والجمهور على أنه يستلمه ثم يقبل يده، وهو قول ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير ومجاهد وعمرو بن دينار، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد، وروى الحاكم من حديث جابر: (بدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء وقبله، ووضع يده عليه ومسح بهما وجهه). وروى النسائي من حديث ابن عباس عنه أنه قبله ثلاثا. وعند الحاكم: وسجد عليه، وصحح إسناده، وفيه كراهة تقبيل ما لم يرد الشرع بتقبيله من الأحجار وغيرها. وقال شيخنا زين الدين: وأما قول الشافعي: ومهما قبل من البيت فحسن، فإنه لم يرد بالحسن مشروعية ذلك، بل أراد إباحة ذلك، والمباح من جملة الحسن، كما ذكره الأصوليون. قلت: فيه نظر لا يخفى، وقال أيضا: وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك، وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية، وقد سأل أبو هريرة الحسن، رضي الله تعالى عنه، أن يكشف له المكان الذي قبله، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سرته، فقبله تبركا بآثاره وذريته، صلى الله عليه وسلم، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس، رضي الله تعالى عنه، حتى يقبلها، ويقول: يد مست يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال أيضا: وأخبرني الحافظ أبو سعيد ابن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ، أن الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، وتقبيل منبره، فقال: لا بأس بذلك، قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية فصار يتعجب من ذلك، ويقول: عجبت أحمد عندي جليل يقوله؟ هذا كلامه أو معنى كلامه؟ وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنه غسل قميصا للشافعي وشرب الماء الذي غسله به، وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة؟ وكيف بآثار الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؟ ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:
* أمر على الديار ديار ليلى
* أقبل ذا الجدار وذا الجدار
*
* وما حب الدار شغفن قلبي
* ولكن حب من سكن الديارا
*
وقال المحب الطبري: ويمكن أن يستنبط من تقبيل الحجر واستلام الأركان جواز تقبيل ما في تقبيله تعظيم الله تعالى، فإنه إن لم يرد فيه خبر بالندب لم يرد بالكراهة. قال: وقد رأيت في بعض تعاليق جدي محمد بن أبي بكر، عن الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الصيف: أن بعضهم كان إذا رأى المصاحف قبلها، وإذا رأى أجزاء الحديث قبلها، وإذا رأى قبور الصالحين قبلها، قال: ولا يبعد هذا، والله أعلم في كل ما فيه تعظيم لله تعالى.
وفيه: في قول عمر، رضي الله تعالى عنه، التسليم للشارع في أمور الدين وحسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها. وقال الخطابي: فيه: تسليم الحكمة وترك طلب العلل وحسن الاتباع فيما لم يكشف لنا عنه من المعنى، وأمور الشريعة على ضربين: ما كشف عن علته وما لم يكشف، وهذا ليس فيه إلا التسليم.
وفيه: قاعدة عظيمة في اتباع النبي، صلى الله عليه وسلم، فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة فيه. وفيه: دفع ما وقع لبعض الجهال من أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته. وفيه: بيان السنن بالقول والفعل. وفيه: أن للإمام إذا خشي على أحد من فعله فسادا اعتقاده أن يبادر إلى بيان الأمر ويوضح ذلك.
فائدة: روى الترمذي من حديث ابن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحجر الأسود: (وإنه ليبعثه الله تعالى يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق). ورواه ابن ماجة أيضا، وابن حبان في (صحيحه)، وروى الحاكم في (المستدرك) والطبراني في (المعجم الأوسط) من حديث عبد الله ابن عمرو: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (يؤتى الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان يتكلم عمن استلمه بالنية، وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه). قال الحاكم: صحيح. وفيه: جواز كلام الجمادات، ومنه تسبيح الحصى وكلام الحجر ووجود اللسان والعينين للحجر الأسود هل يخلقه الله تعالى فيه يوم القيامة أو هو موجود فيه قبل ذلك؟ وإنما هو أمر خفي غامض يحتمل الأمرين. وفي حديث علي، رضي الله تعالى عنه، الموقوف عليه أن هذا الوصف كان موجودا له من يوم * (لست بربكم) * (الأعراف: 271). قوله: (يشهد على من استلمه)، على: هنا بمعنى: اللام، وقد ورد في رواية الأحمد والدارمي في مسنديهما يشهد لمن استلمه بحق وكذلك
241

في (صحيح ابن حبان). وقوله: (بحق)، يحتمل أن يتعلق بقوله: يشهد، ويحتمل أن يتعلق بقوله: استلمه، وروى معمر عن رجل عن المنهال ابن عمرو عن مجاهد أنه قال: يأتي الحجر والمقام يوم القيامة كل واحد منهما مثل أحد، فيناديان بأعلى صوتهما يشهدان لمن وافاهما بالوفاء، وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة. قال الحاكم: صحيح الإسناد، وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب). أخرجه الحاكم، وأخرجه البيهقي بسند على شرط مسلم، وزاد: (ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم، ما مسهما من ذي عاهة إلا شفي، وما على الأرض من الجنة غيره). وعن ابن عباس رفعه: (لولا ما طبع الله الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها وأيدي الظلمة والأئمة لاستشفي به من كل عاهة، ولألقاه الله كهيئته يوم خلقه تعالى، وإنما غيره الله تعالى بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة، وأنه لياقوتة من ياقوت الجنة بيضاء، وضعه لآدم حيث أنزله في موضع الكعبة، والأرض يومئذ طاهرة لم يعمل فيها شيء من المعاصي، وليس لها أهل ينجسونها، ووضع لها صفا من الملائكة على أطراف الحرم يحرسونه من جان الأرض، وسكانها يومئذ الجن، وليس ينبغي لهم أن ينظروا إليه لأنه شيء من الجنة، ومن نظر إلى الجنة دخلها فهم على أطراف الحرم حيث أعلامه ليوم يحدقون به من كل جانب، بينه وبين الحرم، وروى الطبراني عن عائشة: (استمتعوا من هذا الحجر الأسود قبل أن يرفع فإنه خرج من الجنة، وأنه لا ينبغي لشيء خرج من الجنة أن لا يرجع إليها قبل يوم القيامة). وفي رواية الجندي عن مجاهد: الركن من الجنة ولو لم يكن منها لفني. وعند الجندي عن سعيد بن المسيب: (الركن والمقام حجران من حجارة الجنة).
أخرى: كان أبو طاهر القرمطي من الباطنية وقال بسوء رأيه: هذا الحجر مغنطيس بني آدم، فجاء إلى مكة وقلع الباب وأصعد رجلا من أصحابه ليقطع الميزاب، فتردى على رأسه إلى جهنم وبئس المآب، وأخذ أسلاب مكة والحاج وألقى القتلى في بئر زمزم فهلك تحت الحجر من مكة إلى الكوفة أربعون جملا، فعلقه لعنة الله عليه على الأسطوانة السابعة من جامع الكوفة من الجانب الغربي ظنا منه أن الحج ينتقل إلى الكوفة، قال ابن دحية: ثم حمل الحجر إلى هجر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وبقي عند القرامطة اثنتين وعشرين سنة إلا شهرا، ثم رد لخمس خلون من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، وكان يحكم التركي بذل لهم في درهم خمسين ألف دينار، فما فعلوا وقالوا: أخذناه بأمر ولا نرده إلا بأمر وقيل: إن القرمطي باع الحجر من الخليفة المقتدر بثلاثين ألف دينار، ثم أرسل الحجر إلى مكة على قعود أعجف، فسمن تحته وزاد حسنه إلى مكة، شرفها الله تعالى.
15
((باب إغلاق البيت ويصلي في أي نواحي البيت شاء))
أي: هذا باب يذكر فيه إغلاق باب الكعبة البيت الحرام، يقال: أغلقت الباب فهو مغلق، والأسم الغلق، وغلقت الباب غلقا لغة رديئة، قاله الجوهري، وغلقت الأبواب شدد للكثرة. قوله: (ويصلي) أي: الداخل في البيت يصلي في أي ناحية شاء من نواحي البيت، وكل ناحية من نواحي البيت من داخله سواء، كما أن كل نواحيه من خارجه في الصلاة إليه سواء. وفي (التوضيح): قال الشافعي: من صلى في جوف البيت مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو باب البيت وكان مغلقا، فكذلك وإن كان مفتوحا فباطلة، لأنه لم يستقبل شيئا منها، فكأنه استدل على ذلك بغلق باب الكعبة حين صلوا. وقد يقال: إنما أغلقه لكثرة الناس عليه فصلوا بصلاته، ويكون ذلك عندهم من مناسك الحج، كما فعل في صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن يكتب عليهم، ومتى فتح، وكانت العتبة قدر ثلثي ذراع
صحت أيضا، ولا يرد عليه ما إذا انهدمت وصلى كما ألزمنا ابن القصار به، لأنه صلى إلى الجهة. انتهى. قال النووي: إذا كان الباب مسدودا أو له عتبة قدر ثلثي ذراع يجوز، هذا هو الصحيح، وفي وجه: يقدر بذراع، وقيل: يكفي شخوصها، وقيل: يشترط قدر قامة طولا وعرضا، ولو وضع بين يديه متاعا واستقبله لم يجزه. قلت: الصلاة في الكعبة جائزة فرضها ونفلها، وهو قول عامة أهل العلم، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يصلى في البيت والحجر فريضة ولا ركعتا الطواف الواجبتان ولا الوتر ولا ركعتا الفجر، وغير ذلك، لا بأس به، ذكره في ذخيرتهم. وذكر القرطبي في (تفسيره): عن مالك أنه: لا يصلي الفرض ولا السنن، ويصلي التطوع، فإن صلى فيه مكتوبة
242

أعاد في الوقت كمن صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد. وعند ابن حبيب وأصبغ: يعيد أبدا، وبقول مالك قال أحمد، وقال ابن عبد الحكم: لا يعيد مطلقا، ومحمد بن جرير الطبري منع الجميع فيها.
8951 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين العمودين اليمانيين.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أغلقوا عليهم) فإن قلت: من جملة الترجمة قوله: (ويصلي في أي نواحي البيت شاء)، وهذا يدل على التخيير، وفي الحديث بين اليمانيين، وهو يدل على التعيين فلا يطابق الترجمة. قلت: لم تكن صلاته صلى الله عليه وسلم في ذلك الموضع قصدا، وإنما وقع اتفاقا، وهذا لا ينافي التخيير، ولئن سلمنا أنه كان قصدا، ولكن لم يكن قصده تحتما وإنما كان اختيارا لذلك الموضع لمزية فضلة على غيره، فلا يدل على التعيين.
ورجال الحديث قد تكرر ذكرهم. وأخرجه مسلم أيضا في الحج عن قتيبة، ومحمد بن رمح. وأخرجه النسائي فيه وفي الصلاة عن قتيبة.
ذكر معناه: قوله: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت) أي: الكعبة، وكان ذلك في عام الفتح، كما جاء في رواية يونس بن يزيد عن نافع عند البخاري، كما في كتاب الجهاد. ولفظه: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته)، وفي رواية فليح عن نافع في المغازي: وهو مردف أسامة يعني ابن زيد على القصواء، ثم اتفقا، ومعه بلال وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد، وفي رواية فليح: عند البيت، وقال لعثمان: ائتنا بالمفتاح، فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل، وفي رواية مسلم وعبد الرزاق من رواية أيوب عن نافع: ثم دعى عثمان بن طلحة بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من صلبي، فلما رأت ذلك أعطته، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الباب. وظهر من رواية فليح أن فاعل: فتح، هو عثمان المذكور، ولكن روى الفاكهي من طريق ضعيف عن ابن عمر قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده، وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له: الحجبي، بفتح الحاء المهملة والجيم، ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان هذا لا ولده، وله أيضا صحبة ورواية، واسم أم عثمان المذكور: سلافة، بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الفاء. قوله: (هو وأسامة)، هو: ضمير الفصل يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر هؤلاء الثلاثة أنهم دخلوا البيت مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم من طريق آخر: ولم يدخلها معهم أحد، وفي رواية النسائي من طريق ابن عدي عن نافع: ومعه الفضل بن عباس فيكونون أربعة، وفي رواية أحمد في حديث ابن عباس: حدثني أخي الفضل، وكان معه حين دخلها، أنه لم يصل في الكعبة. قوله: (فأغلقوا عليهم)، أي: الباب، وفي رواية حسان بن عطية عن نافع عند أبي عوانة: من داخل، وزاد يونس: فمكث نهارا طويلا، وفي رواية فليح: زمانا، بدل: نهارا. وفي رواية جويرية عن نافع التي مضت في أوائل الصلاة في: باب الصلاة بين السواري: فأطال، وفي رواية مسلم من رواية ابن عون عن نافع: فمكث فيها مليا وله من عبيد الله عن نافع، فأجافوا عليهم الباب طويلا، ومن رواية أيوب عن نافع، (فمكث فيها ساعة)، وفي رواية النسائي من طريق ابن أبي مليكة: (فوجدت شيئا فذهبت، ثم جئت سريعا فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم خارجا منها). فإن قلت: وقع في (الموطأ) فأغلقاها عليه، والضمير لعثمان وبلال، ووقع في رواية مسلم من طريق ابن عون عن نافع: (فأجاف عليهم عثمان الباب. قلت: كان عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته، والظاهر أن بلالا كان ساعده في ذلك، فأضيف إليه لكونه مساعدا. قوله: (فلما فتحوا كنت أول من ولج)، أي: دخل، من الولوج، وهو الدخول، وفي رواية فليح: (ثم خرج فابتدر الناس: الدخول، فسبقتهم). وفي رواية أيوب: (وكنت رجلا
243

شابا قويا فبادرت الناس فبدرتهم). وفي رواية جويرية: (كنت أول الناس ولج على إثره). وفي رواية ابن عون: (فرقيت الدرجة فدخلت البيت)، وفي رواية مجاهد التي مضت في: باب قول الله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521). في أوائل كتاب الصلاة عن ابن عمر وأجد بلالا قائما بين الناس، وذكر الأزرقي في كتاب مكة أن خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، كان على الباب يذب عنه الناس، وكأنه جاء بعدما دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأغلق. قوله: (فلقيت بلالا فسألته). وفي رواية مالك عن نافع التي مضت في: باب الصلاة بين السواري، في أوائل كتاب الصلاة، فسألت بلالا، رضي الله تعالى عنه، حين خرج ما صنع النبي، صلى الله عليه وسلم، الحديث. وفي رواية جويرية ويونس وجمهور أصحاب نافع فسألت بلالا أين صلى؟ اختصروا أول السؤال، وثبت في رواية سالم المذكور في حديث الباب حيث قال: هل صلى فيه؟ قال: نعم. وكذا في رواية مجاهد وابن أبي مليكة عن ابن عمر، فقلت: أصلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في الكعبة؟ قال: نعم، فظهر أنه استثبت أولا: هل صلى أم لا؟ ثم سأل عن موضع صلاته من البيت، ووقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند
مسلم: فأخبرني بلال أو عثمان بن طلحة، على الشك، والمحفوظ أنه سأل بلالا، كما في رواية الجمهور، ووقع عند أبي عوانة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر: أنه سأل بلالا وأسامة بن زيد حين خرجا: أين صلى النبي، صلى الله عليه وسلم فيه؟ فقالا: على جهته، وكذا أخرجه البزار نحوه، وفي رواية أحمد والطبراني من طريق أبي الشعثاء عن ابن عمر، فقال: أخبرني أسامة أنه صلى فيه ههنا. وفي رواية مسلم والطبراني من وجه آخر (فقلت: أين صلى النبي، صلى الله عليه وسلم؟) فقال: فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال، كما تقدم تفصيله، ثم أراد زيادة الاستثباب في مكان الصلاة، فسأل عثمان أيضا وأسامة. فإن قلت: كيف هذا وقد أخرج مسلم من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أن أسامة بن زيد أخبره أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يصل فيه، ولكنه كبر في نواحيه؟ قلت: وجه الجمع بينهما أن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم ير النبي، صلى الله عليه وسلم، حين صلى، وجواب آخر أنه يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة، فلم يشهد صلاته، وبه أجاب المحب الطبري، ويدل عليه ما رواه ابن المنذر من حديث أسامة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رأى صورا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به الصور، فقد أخبر أسامة أنه كان يخرج لنقل الماء، وكان ذلك كله يوم الفتح، وقال ابن حبان الأشبه عندي أن يحمل الخبران على دخولين متغايرين: أحدهما يوم الفتح وصلى فيه، والآخر: في حجة الوداع ولم يصل فيه) من غير أن يكون بينهما تضاد، ومما يرجح به إثبات صلاته، صلى الله عليه وسلم، في البيت على من نفاها كثرة الرواة لها، فالذين أثبتوها بلال وعمر بن الخطاب وعثمان بن طلحة وشيبة بن عثمان، والذين نفوها أسامة والفضل بن عباس وعبد الله بن العباس، وأما الفضل فليس في الصحيح أنه دخل معهم، وأما ابن عباس فإنه أخبر عن أخيه الفضل ولم يدخل مع النبي، صلى الله عليه وسلم، البيت. ومن الأجوبة أن القاعدة تقديم المثبت على النافي. قوله: (بين العمودين اليمانيين)، وفي رواية جويرية: (بين العمودين المقدمين)، وفي رواية مالك عن نافع: (جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره). ووقع في رواية فليح الآتية في المغازي: (بين ذينك العمودين المقدمين)، وكان البيت على ستة أعمدة، شطرين صلى بين العمودين من الشطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره، وقال في آخر روايته: (وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء)، وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم، ويبنى في زمن ابن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، قوله: (اليمانيين)، بتخفيف الياء لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النسبة، وجوز سيبويه التشديد.
ذكر ما يستفاد منه فيه: مشروعية الدخول البيت بدليل دخوله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ومشروعية الصلاة فيه، وفي (شرح المهذب): يستحب دخول الكعبة والصلاة فيها، وأقل ما يصلى ركعتين، زاد في المناسك: جافيا، وروى البيهقي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له). وفي سنده عبد الله بن المؤمل وفيه مقال، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) وجعله من قول مجاهد، وحكى القرطبي عن بعض العلماء أن دخول البيت من مناسك الحج، ورده بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دخله عام الفتح ولم يكن حينئذ محرما، يستحب للداخل أن لا يرفع بصره إلى السقف
244

قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: عجبا للمرء إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف، يدع ذلك إجلالا لله تعالى، وإعظاما لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة خلف بصره موضع سجوده، حتى خرج منها. قال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا حديث منكر. وفي (التلويج) وقد أسف النبي صلى الله عليه وسلم على دخولها. قالت عائشة: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وهو حزين، فقلت: يا رسول الله! خرجت من عندي وأنت قرير العين طيب النفس، فما بالك؟ فقال: إني دخلت الكعبة، وودت أني لم أكن فعلته إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي) قلت: الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه، والحاكم وصححه، وابن خزيمة في (صحيحه) وقال البيهقي: هذا الدخول في حجته، ولا يخالف حديث ابن أبي أوفى أنه لم يدخل، لأن حديثه في العمرة على ما رواه مسلم من حديثه أنه سئل: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ فقال: لا، وإنما لم يدخل في عمرته لما كان في البيت من الأصنام والصور، وكان إذ ذاك لا يتمكن من إزالتها بخلاف عام الفتح، والله أعلم.
25
((باب الصلاة في الكعبة))
أي: هذا باب في بيان مشروعية الصلاة في الكعبة.
9951 حدثنا أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه حين يدخل ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاث أذرع فيصلي يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه وليس على أحد بأس في أن يصلي في أي نواحي البيت شاء.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث قد مر في: باب الصلاة بين السواري في كتاب الصلاة، فإنه أخرجه هناك عن إبراهيم ابن المنذر عن أبي ضمرة عن موسى بن عقبة، وهنا أخرجه عن أحمد بن محمد بن موسى أبي العباس السمسار المروزي، وقد مر في كتاب الوضوء عن عبد الله هو ابن المبارك المروزي. قوله: (قبل الوجه)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، بمعنى المقابل، قوله: (قريبا) نصب على أنه خبر، قوله: يكون، واسمه محذوف تقديره: حتى يكون المقدار أو المسافة قريبا من ثلاثة أذرع. قوله: (يتوخى)، جملة وقعت حالا من الضمير الذي في: فيصلي، وهو بتشديد الخاء المعجمة أي: يقصد، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
35
((باب من لم يدخل الكعبة))
أي: هذا باب في ذكر من لم يدخل الكعبة حين حج، وكأنه أشار بهذا إلى الرد على من زعم أن دخول الكعبة من مناسك الحج، وذكر في الاحتجاج في ذلك فعل ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، لأنه أشهر من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فلو كان دخولها عنده من المناسك، لما أخل به مع كثرة أتباعه.
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحج كثيرا ولا يدخل
وصل هذا المعلق سفيان الثوري في (جامعه) رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن حنظلة عن طاووس، قال: كان ابن عمر يحج كثيرا ولا يدخل البيت. وفي (التلويح): هذا معارض لما ذكره البخاري قبل: (كان ابن عمر إذا دخل الكعبة مشى...) الحديث. قلت: لا معارضة لأنه يحمل على وقت دون وقت، وروى مسلم عن ابن عباس: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله: أخبرني أسامة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت
245

ركعتين، وقال: هذه القبلة، وزاد الحاكم: قال عطاء لم يكن ينهي عن دخوله، ولكن سمعته يقول: أخبرني أسامة، وعند ابن أبي شيبة: قال ابن عباس: يا أيها الناس! إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شيء، وسنده صحيح، وعن إبراهيم: إن شاء دخل وإن شاء لم يدخل. وقال خيثمة: لا يضرك والله أن لا تدخله.
0061 حدثنا مسدد قال حدثنا خالد بن عبد الله قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس فقال له رجل أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة قال لا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله أربعة، وخالد بن عبد الله هو الطحان البصري، وهذا الإسناد نصفه بصري ونصفه كوفي.
وأخرجه البخاري أيضا عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير، وفي المغازي أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير، وعن علي بن عبد الله عن سفيان. وأخرجه أبو داود في الحج عن مسدد عن خالد وعن تميم بن المنتصر عن إسحاق بن يوسف عن شريك، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد وعن إبراهيم بن يعقوب. وأخرجه ابن ماجة فيه عن ابن نمير.
قوله: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، المراد به عمرة القضاء، فكانت في سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة. قوله: (خلف المقام) أي: مقام إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، والواو في (ومعه) للحال. قوله: (أدخل؟) الهمزة للاستفهام، وقال النووي: قال العلماء: سبب ترك دخوله ما كان في البيت من الأصنام والصور، ولم يكن المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان الفتح أمرنا بإزالة الصور ثم دخلها، وقال القرطبي: كانت الأصنام ثلاثمائة وستين صنما، لأنهم كانوا يعظمون كل يوم صنما ويخصون أعظمها بصنمين، وروى الإمام أحمد، رضي الله تعالى عنه، في (مسنده) (عن جابر، قال: كان في الكعبة صور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أن يمحوها فبل عمر ثوبا ومحاها به، فدخلها صلى الله عليه وسلم وما فيها شيء).
45
((باب من كبر في نواحي الكعبة))
أي: هذا باب يذكر فيه من كبر في نواحي الكعبة.
1061 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب قال حدثنا عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أما والله قد علموا أنهما لم يستقسما بها فدخل البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فكبر في نواحيه)، وأبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمر، والمقعد البصري وعبد الوارث بن سعيد، وأيوب السختياني، وفي (التوضيح): والحديث من أفراد البخاري وليس كذلك، بل أخرجه أبو داود أيضا في الحج عن أبي معمر به.
قوله: (لما قدم) أي: مكة. قوله: (أبى أن يدخل البيت) أي: امتنع عن دخول البيت. قوله: (وفيه) أي: والحال أن في البيت: (الآلهة) أي: الأصنام التي لأهل الجاهلية، أطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون. قوله: (فأمر بها فأخرجت) وفي رواية: (تأتي في الأنبياء: (حتى أمر بها فمحيت). قوله: (فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام)، وفي رواية له أيضا في باب: * (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * (النساء: 521). دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم، فقال: أما هم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، هذا إبراهيم مصور، فما باله يستقسم. قوله: (الأزلام) جمع: زلم، وهي الأقلام.
وقال ابن التين: الأزلام: القداح، وهي أعواد نحتوها وكتبوا في إحداها: إفعل، وفي الآخر: لا تفعل، ولا شيء في الآخر فإذا أراد أحدهم سفرا أو حاجة ألقاها، فإن خرج: إفعل، فعل، وإن خرج: لا تفعل، لم
246

يفعل، وإن خرج الآخر أعاد الضرب حتى يخرج له: إفعل، أو: لا تفعل. فكانت سبعة على صفة واحدة مكتوب عليها: لا. نعم، منهم، من غيرهم، ملصق،
العقل، فضل العقل، وكان بيد السادن فإذا أرادوا خروجا أو تزويجا أو حاجة ضرب السادن، فإن خرج: نعم، ذهب، فإن خرج: لا، كف، وإن شكوا في نسب أتوا به إلى الصنم، فضرب بتلك الثلاثة التي هي: منهم، من غيرهم، ملصق، فإن خرج: منهم، كان من أوسطهم نسبا، وإن خرج: من غيرهم، كان حليفا، وإن خرج ملصق لم يكن له نسب ولا حلف، وإذا جنى أحد جناية واختلفوا على من العقل، ضربوا فإن خرج: العقل، على من ضربه عليه عقل وبرىء الآخرون، وكانوا إذا عقلوا العقل وفضل الشيء منه واختلفوا فيه أتوا السادن فضرب، فعلى من وجب أداه، وقال ابن قتيبة: كانت الجاهلية يتخذون الأقلام ويكتبون على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها، نعم، وعلى بعضها: لا، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غيره دفعوها إلى بعضهم حتى يقبضها، فإن خرج القدح الذي عليه: أمرني ربي، مضى، أو: نهاني، كف.
والاستقسام ما قسم له من أمر يزعمه، وقيل: كان إذا أراد أحدهم أمرا أدخل يده في الوعاء الذي فيه الأقلام فأخرج منها زلما وعمل بما عليه، وقيل: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها، والاستقسام استفعال من قسم الرزق والحاجات، وذلك طلب أحدهم بالأزلام على ما قسم له في حاجته التي يلتمسها من نجاح أو حرمان، وأبطل الرب تعالى ذلك، وأخبر أنه فسق لأنهم كان يستقسمون عند ألهتهم التي يعتقدونها، ويقولون: يا إل
1764; هنا أخرج الحق في ذلك، ثم يعملون بما خرج فيه، فكان ذلك كفرا بالله تعالى لإضافتهم ما يكون من ذلك من صواب أو خطأ إلى أنه من قسم آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، وأخبر الشارع عن إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، أنهما لم يكونا يفوضان أمورهما إلا إلى الله الذي لا يخفى عليه علم ما كان، وما هو كائن، لأن الآلهة لا تضر ولا تنفع، ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم: (لقد علموا أنهم لم يستقسما بها قط). لأنهم قد علموا أن أباءهم أحدثوها، وكان فيهم بقية من دين إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، منها: الختان، وتحريم ذوات المحارم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين.
قوله: (قاتلهم الله) أي: لعنهم الله. قال التيمي: يعني قاتل الله المشركين الذين صوروا صورة إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام، ونسبوا إليهما الضرب بالقداح، وكانا بريئين من ذلك، وإنما هو شيء أحدثه الكفار الذين غيروا دين إبراهيم، عليه السلام، وأحدثوا أحداثا. قوله: (أما والله). وفي رواية الأكثرين: أم والله، وحذف الألف منه للتخفيف، وكلمة: أما، لافتتاح الكلام. قوله: (قد علموا) ويروى: (لقد علموا)، بزيادة اللام لزيادة التأكيد، قيل: وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون اسم أول من أحدث الاستقسام بالأزلام، وهو عمرو بن لحي، فكانت نسبتهم الاستقسام بالأزلام إلى إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام، افتراء عليهما. قوله: (لم يستقسما) أي: إبراهيم وإسماعيل، عليهما الصلاة والسلام. قوله: (بها)، أي: بالأزلام، ويروى: بهما، مثنى، وهو باعتبار أن الأزلام على نوعين: خير وشر، وقد ذكرنا أن الاستقسام طلب القسم، يعني: طلب معرفة ما قسم له وما لم يقسم له بالأزلام، وكذا معرفة ما أمر به وما نهي عنه، وقيل: هو قسمهم الجزور على الأنصباء المعلومة. قوله: (فدخل البيت) أي: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، (فكبر في نواحيه) أي: في جوانب البيت: (ولم يصل فيه) صلاة. فهذا ابن عباس نفى الصلاة وأثبت التكبير، وبلال أثبت الصلاة ولم يتعرض للتكبير، وقد ذكرنا وجه ذلك مستقصى في: باب إغلاق البيت، وهذا البخاري صحح حديث ابن عباس مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثبات الصلاة. فإن قلت: كيف وجه هذا يصححه ويتركه؟ قلت: لم يترك لا حديث ابن عباس، ولا حديث بلال، وترجم هنا بحديث ابن عباس لأجل الزيادة فيه، وهو التكبير في نواحي البيت، ولكنه قدم حديث ابن عباس لوجهين: أحدهما: أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وإنا أسند نفي الصلاة تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل، مع أنه لم يثبت كون الفضل معهم إلا في رواية شاذة. والوجه الآخر: إن قول المثبت يرحج لأن فيه زيادة العلم، والله تعالى أعلم.
55
((باب كيف كان بدء الرمل))
أي: هذا باب يذكر فيه كيفية ابتداء مشروعية الرمل في الطواف، والرمل، بفتح الراء والميم: هو سرعة المشي مع تقارب
247

في الخطوة. وفي (المحكم): رمل يرمل رملا ورملا: إذا مشى دون العدو. قال القزاز: هو العدو الشديد. وفي الجمهرة: شبيه بالهرولة وفي (الصحاح): هو الهرولة، وفي (المغيث) هو الخبب، وقيل: هو أن يهز منكبه ولا يسرع العدو، وفي (كتاب المسالك) لابن العربي: هو مأخوذ من التحرك، وهو أن يحرك الماشي منكبيه لشدة الحركة في مشيه.
2061 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المشركون إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
(الحديث 2061 طرفه في: 6524).
مطابقته للترجمة من حيث إن المذكور فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر القادمين معه إلى مكة أن يرملوا، وكان هذا هو ابتداء مشروعية الرمل، ورجاله قد تكرروا.
وأعاد البخاري هذا الحديث في المغازي عن سليمان بن حرب أيضا. وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن أبي الربيع الزهراني. وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سليمان لوبن.
ذكر معناه: قوله: (قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه) أي: مكة. قوله: (فقال المشركون إنه يقدم عليكم) بفتح الدال، والضمير في: أنه، يرجع
إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي: وهنهم، لأصحابه، وله وجه آخر يأتي بيانه عن قريب، وفي لفظ مسلم: (فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا). وفي لفظ للبخاري: (والمشركون من جبل قعيقعان)، وفي لفظ لمسلم: (وكانوا يحسدونه)، وفي لفظ: (وكان أهل مكة قوما حسدا)، وفي رواية الإسماعيلي: (يقدم عليكم قوم عراة، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمرهم أن يرملوا وأن يمشوا). وفي رواية ابن ماجة: (قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين أرادوا دخول مكة في عمرته بعد الحديبية: إن قومكم غدا سيرونكم، فليرونكم جلدا. فلما دخلوا المسجد الحرام استلموا الركن ورملوا وهو معهم)، وللطبراني عن عطاء عن ابن عباس، قال: من شاء فليرمل ومن شاء فلا يرمل، إنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمل ليرى المشركون قوته، وفي رواية الطبراني في (تهذيبه): لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن أهل مكة يقولون: إن بأصحابه هزالا. فقال لهم حين قدم: شدوا مآزركم وأعضادكم، وارملوا حتى يقول قومكم: إن بكم قوة، قال ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرمل، قالوا: وإنما رمل في عمرة العقبة، وفي إسناده حجاج بن أرطاة، وفي رواية أبي داود: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من جعرانة، يعني في عمرة القضاء، فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قدموها على عواتقهم اليسرى، وفي لفظ: (كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا، ثم إذا اطلعوا عليهم يرملون، تقول قريش: كأنهم الغزلان). قوله: (قد وهنهم) ويروى (وقد وهنهم) بواو العطف، وحرف التقريب، والجملة حالية، وهذا بحرف العطف وبحذفها رواية ابن السكن. وقال ابن قرقول: رواية الكافة بالفاء، وهو الصواب يعني: وفد بمعنى الجماعة القادمين، فعلى هذا يكون ارتفاعه على أنه فاعل. قوله: (يقدم)، ويكون قوله وهنهم في محل الرفع لأنها تكون صفة لوفد، وعلى هذا يكون الضمير في قوله (إنه يقدم)، ضمير الشان، وعلى رواية ابن السكن: يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا عن قريب، ويروى: وهنهم، بالتشديد من التوهين. وقوله: (حمى يثرب) بالرفع فاعله، والوهن الضعف، يقال: وهن يهن مثل: وعد، ووهن ورم، والواهن الضعيف في قوته لا بطش عنده، وعن صاحب (العين): الوهن الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم، وهن الشيء وأوهنه، والوهن بفتح الهاء لغة في الوهن بالتسكين، ورجل واهن في الأمر والعمل، وموهون في العظم والبدن، وعن ابن دريد: وهن يوهن. قوله: (يثرب) اسم مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجاهلية. قوله: (أن يرملوا)، بضم الميم أي: وأن يرملوا، و: أن، مصدرية، والتقدير: يأمرهم بالرمل. قوله: (الأشواط) جمع شوط، بفتح الشين وهو الطلق، وهو مأخوذ من قولهم: جرى الفرس شوطا إذا بلغ مجراه، ثم عاد، فكل من أتى موضعا ثم انصرف عنه فهو شوط، والمراد ههنا: الطوفة حول الكعبة، وانتصاب الأشواط على الظرف. قوله: (وأن يمشوا)، عطف على قوله: (أن يرملوا). قوله: (ما بين الركنين) أي: اليمانيين. قوله: (إلا الإبقاء)، بكسر الهمزة وبالباء الموحدة والقاف، وهو الرفق
248

والشفقة، أي: لم يمنعه صلى الله عليه وسلم من أمرهم بالرمل في الكل إلا الرفق بهم، وقال القرطبي: رويناه بالرفع على أنه فاعل يمنعهم، ويجوز النصب على أن يكون مفعولا من أجله.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الرمل في الطواف. واختلف العلماء فيه: هل هو سنة من سنن الحج لا يجوز تركها؟ أوليس بسنة لأنه كان لعلة وقد زالت، فمن شاء فعله اختيارا؟ فروي عن عمر وابن مسعود وابن عمر: أنه سنة، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. وقال آخرون: ليس بسنة، فمن شاء فعله ومن شاء تركه، روى ذلك عن جماعة من التابعين منهم طاووس وعطاء والحسن والقاسم وسالم، وروي ذلك عن ابن عباس وجمهور العلماء، على أن الرمل من الحجر إلى الحجر، وفي (التوضيح): ثم الجمهور على أنه يستوعب البيت بالرمل، وفي قول: لا يرمل بين الركنين اليمانيين، والمرأة لا ترمل بالإجماع لأنه يقدح في الستر وليست من أهل الجلد ولا تهرول أيضا بين الصفا والمروة في السعي، ورواه الشافعي عن ابن عمر وعائشة وجماعة، فإن ترك الرمل في الطواف والهرولة في السعي بين الصفا والمروة، ثم ذكر وهو قريب، فمرة قال مالك: يعيد، ومرة قال: لا يعيد، وبه قال ابن القاسم، واختلف أيضا هل عليه دم أم لا. وفيه: جواز تسمية الطوفة شوطا. ونقل عن الشافعي كراهته. وفي (الأم): قال الشافعي: لا يقال شوط ولا دور، وعن مجاهد: لا تقولوا شوطا ولا شوطين، ولكن قولوا: دورا اودورين. وفيه: ما يؤخذ جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء. وفيه: جواز المعاريض بالفعل، كما يجوز بالقول، وربما يكون بالفعل أولى.
65
((باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثا))
أي: هذا باب في بيان استلام الحجر الأسود، والاستلام هو المسح باليد، مشتق من السلام الذي هو التحية. وقيل: من السلام بكسر السين، وهو الحجارة. وقال ابن سيدة: استلم الحجر واستلأمه، بالهمزة، أي: قبله أو اعتنقه، وليس أصله الهمز، ويقال استلمت الحجر إذ لمسته. كما يقال: اكتحلت من الكهل، وفي (الجامع) وقيل: هو استفعل من اللأمة، واللأمة هي الدرع والسلاح وإنما يلبس اللامة ليمتنع بها من الأعداء، فكان هذا إذا لمس الحجر فقد تحصن من العذاب. قوله: (أول)، منصوب على الظرف، ظرف للاستلام. قوله: (ثلاثا) أي: ثلاث مرات.
3061 حدثنا أصبغ بن الفرج قال أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة جدا لأن معناه معنى الترجمة سواء، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، ويونس بن يزيد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وسالم بن عبد الله بن عمر يروي عن أبيه عبد الله.
وأخرجه مسلم في الحج أيضا عن أبي الظاهر. وحرملة، وأخرجه النسائي فيه عن أبي الطاهر وسليمان بن داود، كلهم عن ابن وهب به.
قوله: (إذا استلم) ظرف لا شرط، وبدل عن قوله: (حين يقدم). قوله: (أول)، نصب على الظرف مضاف إلى كلمة: ما، المصدرية. قوله: (يخب) في محل النصب على أنه مفعول ثان لقوله: (رأيت)، وهو بفتح ياء المضارعة وكسر الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة: من الخبب، وهو ضرب من العدو. وقيل: خب الفرس إذا نقل أيامنه وإياسره جميعا. وقيل: هو أن يراوح بين يديه، وقيل: الخبب السرعة، وقد خبت الدابة تخب خببا وخبيبا وأخبت وقد أخبها ذكره ابن سيده. وفي (المنتهى) يقال: خب خبيبا وأخبه صاحبه إخبابا. وفي (الجمهرة) وأخببته أنا، وفي الكفاية لأبي إسحاق الأجداني: إذا ارتفع سير البعير حتى يكون عدوا يراوح بين يديه، فذلك الخبب. قوله: (ثلاثة)، وإن كان مبهما، لكن المقصود منه الثلاثة الأول. قوله: (من السبع) أي: الطوفات السبع، ويروى: السبعة، باعتبار الأطواف. وقالت النحاة: إذا كان المميز غير مذكور جاز في العدد التذكير والتأنيث.
249

ذكر ما يستفاد منه: إن سنة الداخل إلى المسجد الحرام أن يبدأ بالحجر الأسود فيقبله، ثم الخبب، إنما يشرع في طواف يعقبه سعي ويتصور ذلك في طواف القدوم والإفاضة، ولا يتصور في طواف الوداع لأن شرطه أن يكون قد طاف طواف الإفاضة، فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم، وفي نيته أن يسعى بعده استحب الرمل فيه، وإن لم يكن هذا في نيته لم يرمل في طواف الإفاضة. وقال النووي: وثمة قول آخر، وهو أنه يرمل في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا، وروى الحاكم عن عطاء عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه، وقال عطاء: لا رمل فيه. وقال الكرماني: فإن قلت: يفهم منه أن الرمل إنما هو في جميع المطاف، ومن الحديث الأول حيث قال فيه: (وليمشوا بين الركنين) أنه في بعضه. قلت: قال النووي، ذلك منسوخ لأنه كان في عمرة القضاء سنة سبع، قبل الفتح، وكان بالمسلمين ضعف في أبدانهم، وإنما رملوا إظهارا للقوة والاحتياج إليه كان في غير الركنين اليمانيين، لأن المشركين كانوا جلوسا في الحجر ولا يرونهم من هذين الركنين، ويرونهم فيما سواهما، فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر رمل من الحجر إلى الحجر، فوجب الأمر بالمتأخر.
75
((باب الرمل في الحج والعمرة))
أي: هذا باب في بيان مشروعية الرمل في بعض الطواف، وأشار بهذا إلى أن الذي عليه الجمهور هذا، وذلك لأنه روى عن ابن عباس أنه: ليس بسنة، من شاء رمل ومن شاء لم يرمل.
4061 حدثني محمد قال حدثنا سريح بن النعمان قال حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (في الحج والعمرة).
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد، ذكر غير منسوب وذكر فيه أربعة أقوال: الأول: قول الحاكم هو محمد بن يحيى الذهلي. الثاني: هو محمد بن رافع حكاه الجياني. الثالث: محمد بن سلام حكاه أبو علي ابن السكن. الرابع: محمد بن عبد الله بن نمير حكاه أبو نعيم في (مستخرجه) قيل: الصواب أنه ابن سلام، كما نسبه أبو ذر، وحكاه ابن السكن. لا يقال إنه اشتباه يقدح، لأنا نقول: إنه روى عنهم، فلا بأس بهذا الاشتباه فلا قدح. الثاني: سريج، بضم السين المهملة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم ابن النعمان الجوهري البغدادي. الثالث: فليح، بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان، وقد مر في أول كتاب العلم. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخ شيخه شيخه أيضا لأنه روى عن سريج أيضا. وقد قيل: إن المراد من قوله: حدثني محمد هو البخاري نفسه، فعلى هذا يكون راويا عن شيخه سريج بن النعمان. وفيه: أن فليحا اسمه عبد الملك وغلب عليه لقبه فليح، وكنيته أبو يحيى وهو مدني.
قوله: (سعي) أي: رمل في الطوفات الثلاث الأول. قوله: (في الحج) أي: في حجة الوداع. قوله: (والعمرة) وهي عمرة القضية، لأن الحديبية لم يمكن فيها من الطواف، والجعرانة لم يكن ابن عمر معه فيها، ولهذا أنكرها.
تابعه الليث قال حدثني كثير بن فرقد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع سريجا الليث بن سعد، وهذه المتابعة رواها النسائي من طريق شعيب بن الليث عن أبيه فذكره، ورواها البيهقي من طريق يحيى بن بكير عن الليث، قال: حدثني... فذكره بلفظ: أن عبد الله بن عمر كان يخب في طوافه حين يقدم في حج أو عمرة ثلاثا ويمشي أربعا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
5061 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد بن أسلم
250

عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال للركن أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك فاستلمه ثم قال فما لنا وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري وزيد بن أسلم أبو أسامة يروي عن أبيه أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يكنى أبا خالد، كان من سبي اليمن، مات وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون. وأخرجه مسلم فيه عن هارون بن سعيد. وأخرجه النسائي فيه عن عيسى بن إبراهيم الغافقي.
قوله: (قال للركن) أي: للحجر الأسود خاطبه بذلك ليسمع الحاضرون. قوله: (ثم قال) أي: بعد استلامه. قوله: (ما لنا وللرمل)، ويروى: والرمل، بغير لام، والنصب فيه على الأفصح. وفي رواية أبي داود من طريق هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم: (فيم الرمل والكشف عن المناكب؟) الحديث. قوله: (إنما كنا راءينا) من المراءاة، أي: أردنا أن نظهر القوة للمشركين بالرمل ليعلموا أنا لا نعجز عن مقاومتهم، ولا نضعف عن محاربتهم، وقد أهلكهم الله تعالى فما لنا حاجة اليوم إلى ذلك؟ وقال عياض: راءينا، بوزن: فاعلنا، من الرؤية أي: أريناهم بذلك أنا أقوياء. وقال ابن مالك: من الرياء، أي: أظهرنا القوة ونحن ضعفاء ولهذا روى: رايينا، بياءين حملا له على الرياء. قلت: الذي قاله ابن مالك هو على منهج الصواب دون ما قاله عياض يظهر بالتأمل. قوله: (وقد أهلكهم الله)، الواو فيه للحال. قوله: (شي صنعه النبي)، ارتفاع: شيء، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذا شيء صنعه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: لا يجوز أن يكون: شيء مبتدأ؟ وقوله: (فلا نخب) خبره؟ قلت: شرط المبتدأ الذي يتضمن من معنى الشرط أن لا يكون معينا نحو: كل رجل يأتيني فله درهم، وهذا شيء معين، اللهم، إلا أن يقال: المعنى: كل شيء صنعه النبي، صلى الله عليه وسلم، إنما صنعه لإظهار الجلد والقوة للمشركين، فلما أهلكهم الله لا حاجة به، ثم استدرك فقال: لما فعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه اتباعا له. قال الخطابي: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، طلوبا للآثار، بحوثا عنها وعن معانيها لما رأى الحجر يستلم ولا يعلم فيه سببا يظهر للحس، أو يتبين في العقل، ترك فيه الرأي وصار إلى الاتباع، ولما رأى الرمل قد ارتفع سببه الذي كان قد أحدث من أجله في الزمان الأول هم بتركه، ثم لاذ باتباع السنة متبركا به، وقد يحدث شيء من أمر الدين بسبب من الأسباب فيزول ذلك السبب ولا يزول حكمه، كالعرايا والاغتسال للجمعة. وقال الطبري: ثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، رمل في حجته ولا مشرك يومئذ يراه، فعلم أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من ترك عامدا ولا ساهيا قضاء ولا فدية، لأن من تركه فليس بتارك العمل، وإنما هو تارك لهيئته وصفته كالتلبية التي فيها رفع الصوت، فإن خفص صوته بها كان غير مضيع لها ولا تاركها، وإنما ضيع صفة من صفاتها ولا شيء عليه.
ذكر ما يستفاد منه فيه: دليل على أن أفعال النبي، صلى الله عليه وسلم، على الوجوب حتى يقوم دليل على خلافه. وفيه: أن في الشرع ما هو تعبد محض وما هو معقول المعنى. وفيه: دليل على غاية اتباع عمر، رضي الله تعالى عنه، للآثار، وفيه: دليل على أن الرمل لا يترك، ولكن إن تركه لا يوجب شيئا. وفي (التوضيح): قام الإجماع على أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها، واختلفوا في أهل مكة: هل عليهم رمل؟ فكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، لا يراه عليهم، وبه قال أحمد واستحبه مالك والشافعي للمكي.
6061 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال ما تركت استلام هاذين الركنين في شدة ولا رخاء منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلمهما قلت لنافع أكان ابن عمر يمشي بين الركنين قال إنما كان يمشي ليكون أيسر لاستلامه.
(الحديث 6061 طرفه في: 1161).
مطابقته للترجمة ظاهرة من حيث إن نافعا لما سئل، أكان ابن عمر يمشي بين الركنين؟ قال: (إنما كان يمشي ليكون إيسر
251

لاستلامه)، فيدل على أن الباقي من البيت كان بخلاف المشي وهو الرمل، فهذا يرد على الإسماعيلي، قوله: ليس هذا الحديث من هذا الباب في شيء ويحيى هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، أبو عثمان القرشي العدوي المدني. وقد تكرر ذكره.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في الحج عن زهير بن حرب ومحمد ابن المثنى وعبيد الله بن سعيد به. وأخرجه النسائي فيه عن عبيد الله بن سعيد، رضي الله تعالى عنه.
قوله: (هذين الركنين) أي: اليمانيين دون غيرهما، فكان يرمل في غيرهما. قوله: (قلت لنافع)، القائل هو: عبيد الله الراوي. قوله: (أكان؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (إنما كان يمشي) أي: لا يرمل. (ليكون أيسر) أي: أرفق ليقوى على الاستلام عند الازدحام، والله أعلم بالصواب.
85
((باب استلام الركن بالمحجن))
أي: هذا باب في بيان استلام الركن أي الحجر الأسود. قوله: (بالمحجن)، بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وفي آخره نون: وهو عطا في طرفه اعوجاج، وهو مثل الصولجان. وفي (المحكم): هو العصا المعوجة، وكل معطوف معوج كذلك، وقال الأصمغي: المحجن عصاه معوجة الرأس. وفي (مجمع الغرائب): هو شبه الصولجان يجذب به الشيء، وقال ابن سيده: حجن العود يحجنه حجنا وحجنه) عطفه، والحجن والحجنة والتحجن: اعوجاج الشيء.
7061 حدثنا أحمد بن صالح ويحيى بن سليمان قالا حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يستلم الركن بمحجن).
ذكر رجاله: وهم: سبعة: الأول: أحمد بن صالح أبو جعفر، توفي في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين ومائتين. الثاني: يحيى بن سليمان أبو سعيد الجعفي. الثالث: عبد الله بن وهب. الرابع: يونس بن يزيد. الخامس: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. السادس: عبيد الله، بضم العين: ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود. السابع: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن له شيخين أحمد بن صالح مصري، ويحيى بن سليمان كوفي سكن مصر، وكلاهما من أفراده، وابن وهب مصري ويونس أيلي وابن شهاب وعبيد الله مدنيان.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في الحج أيضا عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن صالح، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي الطاهر، وأخرج مسلم أيضا: (عن أبي الطفيل: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن). وروى مسلم أيضا عن جابر: (طاف النبي، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه لأن يراه الناس، وليشرف ليسألوه). وروى عن عائشة أيضا قالت: (طاف النبي، صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهية أن يصرف الناس عنه). وروى أبو داود عن صفية بنت شيبة، قالت: (لما اطمأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة عام الوداع، طاف على بعيره يستلم الركن بمحجن في يده، قالت: وأنا أنظر إليه). قلت: هذا يرد قول النسائي والبرقاني أن صفية ليست لها صحبة، وروى ابن أبي حاتم من حديث أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله قال: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يطوف بالبيت يستلم الحجر بمحجنه، وخرجه الحاكم من حديث أبي عاصم عن أيمن، قال: صحيح على شرط البخاري، وروى أبو أحمد الجرجاني من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه: (رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يطوف حول البيت، فإذا ازدحم الناس عليه استلم الركن بمحجن بيده).
252

ذكر معناه: قوله: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير) قال ابن بطال: استلامه بالمحجن راكبا يحتمل أن يكون لشكوى به. قلت: روى أبو داود: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، فلما أتى على الركن استلم بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين). وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال. قوله: (يستلم) جملة وقعت حالا. قوله: (الركن) أي: الحجر الأسود، وقال النووي: قال أصحابنا: الأفضل أن يطوف ماشيا ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن يحتاج إلى ظهوره ليستفتي ويقتدي به، فإن كان لغير عذر جاز بلا كراهة، لكنه خلاف الأولى، وقال أمام الحرمين: من أدخل البهيمة التي لا يؤمن من تلويثها المسجد بشيء. فإن أمكن الاستيثاق فذاك، وإلا فإدخالها المسجد مكروه، وجزم جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبا من غير عذر، منهم الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب والعبدري، والمشهور الأول والمرأة والرجل في ذلك سواء، والمحمول على الأكتاف كالراكب، وبه قال أحمد وداود وابن المنذر، وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكبا لعذر أجزأه، ولا شيء عليه، وإن كان لغير عذر فعليه دم. قال أبو حنيفة: وإن كان بمكة أعاد الطواف، فلو طاف زحفا مع القدرة على القيام فهو صحيح، لكنه يكره، وقال أبو الطيب في (التعليقة): طوافه زحفا كطوافه ماشيا منتصبا، لا فرق بينهما، واعتذروا عن ركوب سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأن الناس كثروا عليه وغشوه بحيث إن العواتق خرجن من البيوت لينظرن إليه، أو لأنه يستفتى، أو لأنه كان يشكو كما تقدم، واستدل المالكيون بأن في الحديث دلالة على طهارة بول البعير، وذهب أبو حنيفة والشافعي في آخرين إلى نجاسته.
ذكر ما يستفاد منه: أنه إذا عجز عن تقبيل الحجر استلمه بيده أو بعصا، ثم قبل ما استلم به، كما مر في (صحيح مسلم) من حديث أبي الطفيل. وقال القاضي عياض: وانفرد مالك عن الجمهور، فقال: لا يقبل يده، وإذا عجز عن الاستلام أشار بيده أو بما في يده، ولا يشير إلى القبلة بالفم، لأنه لم ينقل ويراعى ذلك في كل طوفة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه. قال المهلب: واستلامه صلى الله عليه وسلم بالمحجن يدل على أنه ليس بفرض، وإنما هو سنة. ألا ترى إلى قول عمر، رضي الله تعالى عنه: لولا أني رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبلك ما قبلتك.
ومما يستفاد منه: أن في قوله في حجة الوداع ردا على من كره تسمية حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حجة الوداع والمنكر غالط. وقال المهلب: وفيه: أنه لا يجب أن يطوف أحد في وقت صلاة الجماعة إلا من وراء الناس، ولا يطوف بين المصلين وبين البيت، فيشغل الإمام والناس ويؤذيهم، وترك أذى المسلم أفضل من صلاة الجماعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا).
تابعه الدراوردي عن ابن أخي الزهري عن عمه
أي: تابع يونس عن ابن شهاب عبد العزيز الدراوردي، بفتح الدال المهملة والراء وفتح الواو وسكون الراء وكسر الدال، وقد تقدم في: باب الصلوات الخمس كفارة، وهو يروى عن محمد بن عبد الله ابن أخي محمد بن مسلم الزهري، وتقدم هو في: باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وأخرج هذه المتابعة الإسماعيلي عن الحسن: حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن ابن أخي الزهري عن عمه عن عبيد الله (عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت
يستلم الركن بالمحجن).
95
((باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين))
أي: هذا باب يذكر فيه من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، أي: دون الركنين الشاميين، والياء في اليمانيين مخففة على المشهور، لأن الألف فيه عوض عن ياء النسبة، فلو شددت يلزم الجمع بين العوض والمعوض، وجوز سيبويه التشديد، وقال: إن الألف زائدة كما زيدت النون في صنعاني، وهما: الركن الأسود والركن اليماني الذي يليه، فقيل لهما: اليمانيان، تغليبا، كما يقال: الأبوان.
253

8061 وقال محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء أنه قال ومن يتقي شيئا من البيت وكان معاوية يستلم الأركان فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنه لا يستلم هاذان الركنان فقال ليس شيء من البيت مهجورا وكان ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما يستلمهن كلهن.
مطابقته للترجمة في قوله: (لا يستلم هذان الركنان) أي: الركنان الشاميان، فإذا لم يستلما ينحصر الاستلام على الركنين اليمانيين، وهذا الحديث معلق، علقه عن محمد بن بكر البرساني، بضم الباء الموحدة وسكون الراء وبالسين المهملة وبالنون: نسبة إلى برسان، حي من الأزد، وقد تقدم في: باب تضييع الصلاة، وهو يروى عن عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد أبي الشعثاء، مؤنث الأشعث، وقد تقدم في: باب الغسل بالصاع، وقد وصل هذا التعليق الإمام أحمد في (مسنده) فقال: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر والثوري (و) حدثنا روح حدثنا الثوري عن ابن خيثم (عن أبي الطفيل، قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له عبد الله بن عباس: لا يستلم هذا الركنان) (ح) قال: وحدثنا روح، حدثنا سعيد وعبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أبي الطفيل (و) حدثنا مروان بن شجاع حدثني خصيف عن مجاهد عن ابن عباس، فذكره.
وأخرجه مسلم من حديث عمرو بن الحارث عن قتادة دون قصة معاوية بلفظ: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين)، ووصله الترمذي والحاكم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الطفيل، قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الحجر واليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجور، أو روى أحمد أيضا من طريق شعبة عن قتادة (عن أبي الطفيل، قال: حج معاوية وابن عباس، فجعل ابن عباس يستلم الأركان كلها، فقال معاوية إنما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذين الركنين اليمانيين، فقال ابن عباس: ليس من أركانه شيء مهجور)، قال عبد الله بن أحمد في (العلل): سألت أبي عنه فقال: قلبه شعبة، يقول: الناس يخالفونني في هذا، ولكنه سمعته من قتادة هكذا. انتهى. وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة على الصواب أخرجه أحمد أيضا.
ذكر معناه: قوله: (ومن يتقي شيئا؟) كلمة: من، استفهامية على سبيل الإنكار، فلذلك لم يحذف الياء من: يتقي، ويجوز أن تكون شرطية على رواية من يروي: فكان معاوية، بالفاء، وذلك على لغة من لا يوجب الجزم فيه. قوله: (وكان معاوية يستلم الأركان) أي: الأركان الأربعة، أي: اليمانيان والشاميان، والركن الأسود فيه فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، واليماني فيه الفضيلة الثانية فقط. وأما الشاميان فليس شيء من الفضيلتين، فلذا اختص الأسود بشيئين: الاستلام والقبلة، وأما اليماني فيستلم ولا يقبل، لأن فيه فضيلة واحدة. وأما الآخران فلا يستلمان ولا يقبلان، وقال التيمي: الركنان اللذان يليان الحجر ليسا بركنين أصليين، لأن وراء ذلك الحجر، وهو من البيت فلو رفع جدار الحجر وضم إلى الكعبة في البناء كما كان على بناء إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، لكان يستلمان. والله أعلم. قوله: (إنه)، أي: إن الشان. قوله: (لا يستلم)، على صيغة المجهول الغائب، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي والمستملي: (لا نستلم هذين الركنين)، بالنون في أوله على صيغة المتكلم. وقوله: (هذين الركنين) بالنصب مفعوله. قوله: (مهجورا)، بالنصب ويجوز رفعه على أن يكون صفة لقوله: شيء. قوله: (وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن) أي: وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، يستلم الأركان كلها، وهذا وصله ابن أبي شيبة من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير: أنه رأى أباه عبد الله بن الزبير يستلم الأركان كلها، وقال: إنه ليس شيء منه مهجورا وفي مسند الشافعي رحمه الله أنبأنا موسى الربذي عن محمد بن كعب أن ابن عباس كان يمسح على الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها، ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجورا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء عن يعلى بن أمية، ورآه عمر، رضي الله تعالى عنه، يستلم الأركان كلها: يا يعلى ما نفعل؟
254

قال استلمها كلها لأنه ليس شيء من البيت يهجر، فقال عمر: أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم منها إلا الحجر؟ قال يعلى: بلى، قال: فما لك أسوة؟ قال: بلى.
ذكر ما يستفاد منه: يستفاد من هذا الحديث مذهبان: الأول: من يستلم الأركان كلها، وهو مذهب معاوية وعبد الله ابن الزبير وجابر بن زيد وعروة بن الزبير وسويد بن غفلة، وقال ابن المنذر: وهو مذهب جابر بن عبد الله والحسن والحسين وأنس بن مالك. الثاني: مذهب ابن عباس وعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، ومذهبهما أنه: لا يستلم إلا الركن الأسود والركن اليماني، وهو مذهب أصحابنا الحنفية أيضا لأنهما على قواعد إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. وقال ابن المنذر: وقال أكثر أهل العلم: لا يسن استلام الركنين الشاميين. وروى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير عن حجاج عن عطاء قال: أدركت شيخنا ابن عباس وجابرا وأبا هريرة وعبيد بن عمير لا يستلمون غيرهما من الأركان، يعني: الأسود واليماني. قال: وحدثنا عبيد الله عن عثمان بن أبي الأسود عن مجاهد، قال: الركنان اللذان يليان
الحجر لا يستلمان. وفي كتاب الحميدي، من حديث النخعي عن عائشة مرفوعا: (ما مررت بالركن اليماني قط إلا وجدت جبريل، عليه السلام، قائما عنده). ومن حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس مثله، بزيادة قوله: (يا محمد أدن فاستلم). وفي حديث أبي هريرة (وكل الله به سبعين ألف ملك). وفي حديث ابن عمر مرفوعا: (مسحهما كفارة للخطايا)، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، والله أعلم.
06
((باب تقبيل الحجر))
أي: هذا باب في بيان مشروعية تقبيل الحجر وهو بفتح الحاء والجيم وهو الحجر الأسود.
0161 حدثنا أحمد بن سنان قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا ورقاء قال أخبرنا زيد بن أسلم عن أبيه قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قبل الحجر وقال لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك.
(انظر الحديث 7951 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر هذا الحديث بأتم منه في: باب الرمل في الحج والعمرة. أخرجه عن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن جعفر عن زيد بن أسلم عن أبيه إلى آخره، ومر أيضا في: باب ما ذكر في الحجر الأسود، أخرجه عن محمد ابن كثير عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عابس بن ربيعة عن عمر إلى آخره، وأخرجه هنا عن أحمد بن سنان، بكسر السين المهملة وتخفيف النون الأولى: أبو جعفر القطان الواسطي صاحب المسند إمام زمانه، مات بعد البخاري سنة تسع وخمسين ومائتين، عن يزيد بن هارون الواسطي، وقد مر في: باب وضع الماء عند الخلاء، عن زيد بن أسلم، بلفظ الماضي، الحبشي البجاوي، بفتح الباء الموحدة والجيم: مولى عمر، رضي الله تعالى عنه، مات بالمدينة زمن عبد الملك، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
1161 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن الزبير بن عربي قال سأل رجل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن استلام الحجر فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله قال قلت أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت قال اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.
(انظر الحديث 6061).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: مسدد، وقد تكرر ذكره. الثاني: حماد بن زيد. الثالث: زبير بن عربي، بفتح العين المهملة وبالراء وبالباء الموحدة المكسورة ثم ياء النسبة، ووقع عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني الزبير بن عدي، بدال مهملة مكسورة بعدها ياء مشددة. وقال الغساني هو وهم. الرابع: الرجل المجهول ظاهرا ولكن هو الزبير بن عربي الراوي، كذلك وقع في رواية أبي داود الطيالسي عن حماد حدثنا الزبير سألت ابن عمر.
255

الخامس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: السؤال. وفيه: أن شيخه ومن بعدهما بصريون. وفيه: أن حمادا ذكر مجردا في رواية الأكثرين وفي رواية أبي الوقت ذكر باسم أبيه حماد بن زيد.
والحديث أخرجه الترمذي والنسائي جميعا في الحج عن قتيبة، كلاهما عن حماد بن زيد عنه به.
ذكر معناه: قوله: (يستلمه) أي: يمسحه باليد. قوله: (أرأيت) أي: أخبرني. قوله: (إن زحمت)، بضم الزاي على صيغة المجهول، ويروى: (إن زوحمت)، بزيادة الواو من المزاحمة. قوله: (إن غلبت)، بضم الغين المعجمة على صيغة المجهول للمتكلم، أي: أخبرني عن حكمه عند الازدحام والغلبة. قوله: (قال) القائل هو عبد الله بن عمر. قوله: (أرأيت باليمن؟) أي: اجعل لفظ أرأيت باليمن، وكان السائل يمنينا. وقوله: أرأيت في محل النصب لأنه مفعول: اجعل، بالتأويل المذكور. وقوله: (باليمن) في محل النصب على الحال. حاصل هذا الكلام: إذا كنت طالب السنة فاترك الرأي. وقولك: أرأيت ونحوه باليمن، واتبع السنة ولا تتعرض لغير ذلك، وإنما قال ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي. قوله: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) من كلام ابن عمر، أعاده للتأكيد وفهم منه أنه لا يرى الزحام عذرا في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد، قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمي، وروى الفاكهي من طرق عن ابن عباس كراهة المزاحمة، وقاله: لا تؤذي ولا تؤذى.
وقال محمد بن يوسف الفربري وجدت في كتاب أبي جعفر. قال أبو عبد الله الزبير بن عدي كوفي والزبير بن عربي بصري
لما وقف البخاري على التصحيف في الزبير بن عربي، بالراء، حيث روي بالدال، نبه عليه بقوله الزبير بن عربي بالراء، بصري، والزبير بن عدي بالدال كوفي، وهما راويان تابعيان، ونقل ذلك الفربري. وقال محمد بن يوسف الفربري، وهو أحد الرواة المشهورين عن البخاري. قوله: (وجدت في كتاب أبي جعفر) وهو محمد بن أبي حاتم وراق البخاري. قوله: (قال أبو عبد الله)، مقول قول الفربري، والمراد منه البخاري نفسه، وأشار به إلى أنه فرق بين الزبير لأن الزبير بن عربي بالراء بصري والزبير بن عدي بالدال كوفي، وأراد به أن الراوي هنا السائل عن عبد الله بن عمر هو الزبير بن عربي بالراء، وقال الترمذي أيضا: الزبير، هذا يعني الذي يروي عنه حماد هو ابن عربي، يعني بالراء، والزبير بن عدي بالدال كوفي يكنى أبا سلمة، وذكر البخاري وأبو حاتم وغيرهما أن أبا سلمة كنية الزبير بن عربي، والزبير بن عدي كنيته أبو عدي، ولما ذكر أبو داود هذا الحديث من رواية حماد حدثنا الزبير بن العربي قال: سألت ابن عمر، وذكر ابن العربي بالألف واللام
، وهذا أيضا مما يزيل الإشكال، ويؤيده أن الراوي هنا هو ابن عربي، بالراء لا بالدال.
16
((باب من أشار إلى الركن إذا أتى إليه))
أي: هذا باب يذكر فيه من أشار إلى الركن أي: الحجر الأسود إذا أتى إليه من الطواف.
2161 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر هذا الحديث في: باب استلام الركن بمحجن، وفيه: يستلم الركن بمحجن، وليس فيه: كلما أتى على الركن أشار إليه، وقال ابن التين: تقدم أنه كان يستلمه بمحجن، فدل على قربه من البيت، لكن من طاف راكبا، يستحب له أن يبعد إن خاف أن يؤذي أحدا فيحمل فعله صلى الله عليه وسلم على الأمن من ذلك، وأن يكون في حال إشارته بعيدا حيث خاف ذلك.
ورجال الحديث المذكور: محمد بن المثنى بن عبيد أبو موسى، يعرف بالزمن البصري، وعبد الوهاب بن عبد المجيد البصري، وخالد بن مهران الحذاء البصري، ووقع خالد هنا مجردا، ووقع في بعض الرواية: خالد الحذاء.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج عن إسحاق الواسطي ومسدد وفي
256

الطلاق أيضا عن عبد الله بن محمد، وأخرجه الترمذي في الحج، والنسائي أيضا كلاهما عن بشر بن هلال. قوله: (أشار إليه) أي: بالمحجن الذي في يده، وإن لم يكن في يده شيء يشير إليه بيده. فإن قلت: هذا الحديث صريح بجواز الطواف على البعير، وهل يجوز على الخيل فيقاس على البعير أم لا. قلت: قد ورد عن عمر، رضي الله تعالى عنه، منع الطواف على الخيل فيما رواه سعيد بن منصور عن عمرو بن دينار، قال: طاف رجل على فرس فمنعوه، وقال: أتمنعوني أن أطوف على كوكب؟ قال: فكتب بذلك إلى عمر، فكتب عمر: أن امنعوه، وهذا منقطع. قال المحب الطبري: ولعل المنع في الخيل من الخيلاء والتعاظم. قلت: فعلى هذا لا يمنع من الطواف على الحمار، اللهم إلا إذا كان المنع من جهة الخوف من تلويثه بما يخرج منه.
26
((باب التكبير عند الركن))
أي: هذا باب في بيان استحباب التكبير عند الركن أي: الحجر الأسود.
3161 حدثنا مسدد قال حدثنا خالد بن عبد الله قال حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر.
.
هذا طريق آخر في حديث عبد الله بن عباس، أخرجه عن مسدد عن خالد بن عبد الله الطحان عن خالد بن مهران الحذاء، وفيه زيادة على حديثه الماضي في الباب السابق، وهي قوله: (بشيء كان عند فكبر) فدل هذا على استحباب التكبير عند الركن الأسود في كل طوفة.
تابعه إبراهيم بن طهمان عن خالد الحذاء
أي: تابع خالد بن عبد الله الطحان إبراهيم بن طهمان الهروي أبو سعيد عن خالد الحذاء في التكبير، وقد وصله البخاري في كتاب الطلاق.
36
((باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ثم صلى ركعتين ثم خرج إلى الصفا))
أي: هذا باب يذكر فيه بيان من طاف بالبيت... إلى آخره، وكلمة: من، موصولة، ومراده بهذه الترجمة بيان أن: من قدم مكة حاجا أو معتمرا أن يطوف بالبيت ثم يصلي ركعتين، ثم يخرج إلى الصفا ويسعى بينه وبين المروة، فإن كان معتمرا حل وحلق، وإن كان حاجا ثبت على إحرامه حتى يخرج إلى منى يوم التروية لعمل الحج، وقال ابن بطال: غرضه بهذه الترجمة الرد على من زعم أن المعتمر إذا طاف حل قبل أن يسعى بين الصفا والمروة. قلت: مذهب ابن عباس: أن المعتمر يحل من عمرته بالطواف بالبيت، ولا يحتاج إلى السعي بين الصفا والمروة، وروي عنه أنه قال: العمرة الطواف، وبه قال ابن راهويه، فأراد البخاري رد هذا القول، وبين أن العمرة هي الطواف بالبيت وصلاة ركعتين بعده، ثم الخروج إلى الصفا للسعي بينه وبين المروة، وأشار بقوله: (من طاف بالبيت) إلى آخره أن صورة العمرة هي هذا، وبينها بثلاثة أشياء: أولها: هو قوله: (من طاف بالبيت إذا قدم مكة)، فعلم من هذا أن من قدم مكة ودخل المسجد لا يشتغل بشيء، بل يبدأ بالطواف ويقصد الحجر الأسود، وهو تحية المسجد الحرام، ثم الابتداء بالطواف مستحب لكل أحد سواء كان محرما أو غيره، إلا إذا خاف فوت الصلاة المكتوبة عن وقتها، أو فوتها مع الجماعة، وإن كان الوقت واسعا أو كان عليه مكتوبة فائتة، فإنه يقدم هذا كله على الطواف، ثم هذا الطواف يسمى طواف القدوم، وهو سنة، فلو تركه صح حجه ولا شيء عليه إلا فوت الفضيلة. وفي (شرح المهذب): هذا هو المذهب، وذكر جماعة من الخراسانيين وغيرهم وجوبه في وجه ضعيف شاذ، ويلزم بتركه دم
. الثاني: هو قوله: (ثم صلى ركعتين)، لما في حديث جابر الطويل: (لما فرغ من ركعتي الطواف رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا والسعي بينهما). الثالث: هو قوله: (ثم خرج إلى الصفا) يعني للسعي بينه وبين المروة.
257

4161 حدثنا أصبغ عن ابن وهب قال أخبرني عمر و عن محمد بن عبد الرحمن ذكرت لعروة. قال فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توض ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما مثله ثم حججت مع أبي الزبير رضي الله تعالى عنهما فأول شيء بدأ به الطواف ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا.
مطابقته للترجمة في قوله: (إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف).
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: أصبغ ابن الفرج، وقد مر عن قريب، الثاني: عبد الله بن وهب، وقد تكرر ذكره. الثالث: عمرو، بفتح العين: ابن الحارث. الرابع: محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود النوفلي المعروف بيتيم عروة. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع والإخبار بصيغة الإخبار في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: الذكر. وفيه: أن الثلاثة الأول من الرواة مصريون والاثنان الآخران مدنيان.
أخرجه مسلم في الحج عن هارون بن سعيد الأيلي على ما نذكره الآن.
ذكر معناه: قوله: (ذكرت لعروة) أي: ذكرت لعروة ما قيل في حكم القادم إلى مكة، وحذف البخاري صورة السؤال وجوابه، واقتصر على المرفوع منه، وقد ذكره مسلم مكملا فقال: حدثني هارون بن سعيد الأيلي قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو، وهو ابن الحارث، (عن محمد بن عبد الرحمن: أن رجلا من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أو لا؟ فإن قال لك: لا يحل، فقل له: إن رجلا يقول في ذلك فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج. قلت: فإن رجلا كان يقول ذلك، قال: بئس ما قال، فتصداني الرجل فسألني، فحدثته، فقال: قل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك؟ قال: فجئته فذكرت له ذلك، فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري. قال: فما باله لا يأتيني نفسه يسألني؟ أظنه عراقيا؟ قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب، قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت، ثم حج أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، وكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم عمر، رضي الله تعالى عنه، مثل ذلك، ثم حج عثمان، رضي الله تعالى عنه، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهم، ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، ثم لم ينقضها بعمرة، وهذا ابن عمر عندهم، أفلا يسألونه؟ ولا أحد ممن مضى كانوا يبدأون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدآن بشيء أول من البيت تطوفان به، ثم لا تحلان، وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط، فلما مسحوا الركن حلوا، وقد كذب فيما ذكر من ذلك). وإنما سقت هذا بتمامه لأنه كالشرح لحديث البخاري، ونشرح حديث مسلم ليظهر لك المراد من حديث البخاري الذي اقتصر منه على المرفوع.
قوله: (إن رجلا)، مبهم لم يدر. قوله: (أيحل؟) الهمزة للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (فتصداني)، أي: تعرض لي، هكذا هو في جميع النسخ بالنون، والأشهر في اللغة: تصدى لي، باللام. قوله: (ثم لم يكن غيره هكذا)، هو في جميع النسخ بالغين المعجمة والياء آخر الحروف، قال عياض: هو تصحيف، وصوابه، ثم لم تكن عمرة، بضم العين المهملة وبالميم، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من يرى، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع، فأعلمه عروة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يفعل ذلك بنفسه ولا من جاء بعده، وقال النووي:
258

ليس هو كما قال، بل هو صحيح في الرواية صحيح المعنى لأن قوله: (غيره)، يتناول العمرة وغيرها ويكون تقدير الكلام: ثم حج أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره أي: غير الحج، ولم يفسخه إلى غيره لا عمرة ولا قران. قوله: (ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام)، أي: مع والدي، وهو الزبير. وقوله: (الزبير) بدل من أبي، قاله النووي، والأظهر أنه عطف بيان. قوله: (فلما مسحوا الركن) أي: الحجر الأسود (حلوا) أي: صاروا حلالا. قال النووي: المراد بالماسحين من سوى عائشة، وإلا فعائشة، رضي الله تعالى عنها، لم تمسح الركن قبل الوقوف بعرفات في حجة الوداع، بل كانت قارنة، ومنعها الحيض من الطواف قبل يوم النحر.
ثم جئنا إلى شرح حديث البخاري. فقوله: (بدأ) وقوله: (قدم) تنازعا في العمل. قوله: (ثم لم تكن عمرة)، قال عياض: كان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك، فأعلمه عروة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده، وفي إعراب: عمرة، وجهان: الرفع على أن: كان، تامة ويكون معناه: ثم لم تحصل عمرة، والنصب على أن: كان، ناقصة ويكون معناه: ثم لم تكن تلك الفعلة عمرة، وقد ذكرنا أنه وقع في رواية مسلم: غيره، بدل: عمرة، وقد مضى الكلام فيه آنفا. قوله: (مثله) أي: مثل حج النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثم حججت مع أبي الزبير) أي: حجة مصاحبة مع أبي، أي: مع والدي وهو الزبير بن العوام. وقوله: (الزبير)، بدل من أبي أو عطف بيان، وهكذا وقع في رواية مسلم، وقد ذكرناها آنفا، ووقع في رواية الكشميهني: (ثم حججت مع ابن الزبير) يعني: أخاه عبد الله بن الزبير، قال عياض: وهو تصحيف، وجه ذلك أنه وقع في طريق آخر في الحديث على
ما يأتي: مع أبي الزبير بن العوام، وفيه بعد ذكر أبي بكر وعمر ذكر عثمان ثم معاوية وعبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهم، قال: ثم حججت مع أبي الزبير، فذكره، وقد عرف أن قتل الزبير كان قبل موت معاوية وابن عمر، وكان قتل الزبير ابن العوام يوم الجمل في جمادي الأولى سنة ست وثلاثين، وقبره بوادي السباع ناحية البصرة، وكان موت معاوية بن أبي سفيان في رجب سنة تسع وخمسين، وموت عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما كان سنة ثلاث وسبعين. وقال الواقدي: سنة أربع وسبعين، وكانت وفاتخ بمكة المشرفة. قوله: (وأخبرتني أمي)، وهي: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأختها عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنهم. فإن قلت: لم تطف عائشة في تلك الحجة لأجل حيضها، فما وجه ذكرها هنا؟ قلت: يحمل على أنه أراد حجة أخرى غير حجة الوداع، وقد حجت عائشة، رضي الله تعالى عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا. قوله: (فلما مسحوا الركن)، أي: الحجر الأسود، ومسحه يكون في أول الطواف، ولكن لا يحصل التحلل بمجرد المسح في أول الطواف، فلا بد من التقدير، وتقديره: فلما مسحوا الركن وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا حلوا، وحذفت هذه المقدرات للعلم بها لظهورها، وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل تمام الطواف.
تم مذهب الجمهور أنه لا بد أيضا من السعي بعده ثم الحلق أو التقصير، وقال الكرماني: لا حاجة إلى التأويل، إذ مسح الركن كناية عن الطواف، سيما والمسح يكون أيضا في الأطواف السبعة، فالمراد: لما فرغوا من الطواف حلوا، وأما السعي والحلق فهما عند بعض العلماء ليسا بركنين. انتهى. قلت: لا بد من التأويل لأن الكلام على مذهب الجمهور، كما ذكرناه، وأراد بقوله: عند بعض العلماء ما ذهب إليه ابن عباس وابن راهويه من أن المعتمر يتحلل بعد الطواف، فلا حاجة إلى السعي، وقد ردوا عليهما ذلك، وقال ابن التين قوله: (فلما مسحوا حلوا) يريد ركن المروة، وأما ركن البيت فلا يحل بمسحه حتى يسعى بين الصفا والمروة، وقال بعضهم، وهو متعقب برواية أبي الأسود عن عبد الله مولى أسماء: (عن أسماء قالت: اعتمرت أنا وعائشة والزبير، وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا) وسيأتي هذا في أبواب العمرة. انتهى. قلت: يقدر هنا أيضا ما قدر في قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا) فلا اعتراض حينئذ.
ذكر ما يستفاد منه فيه: مطلوبية الوضوء للطواف، واختلفوا هل هو واجب أو شرط؟ فقال أبو حنيفة: ليس بشرط، فلو طاف على غير وضوء صح طوافه، فإن كان ذلك للقدوم فعليه صدقة، وأن كان طواف الزيارة فعليه شاة، وقال مالك والشافعي وأحمد: هو شرط. وفيه: أن أول شيء يفعله داخل الحرم الابتداء بالطواف للقدوم، واستثنى الشافعي من هذا المرأة الجميلة والشريفة التي لا تبرز للرجال، فيستحب لها تأخير الطواف ودخول المسجد إلى الليل، لأنه أستر لها وأسلم من الفتنة. وقال
259

ابن المنذر: سن الشارع للقادمين المحرمين بالحج تعجيل الطواف والسعي بين الصفا والمروة عند دخولهم، وفعل هو ذلك على ما روته عائشة، وأمر من حل من أصحابه أن يحرموا إذا انطلقوا إلى منى، وأما من أحرم من مكة من أهلها أو غيرهم فهم يؤخرون طوافهم وسعيهم إلى يوم النحر، بخلاف القادمين التفريق السنة بين الفريقين، وكان ابن عباس يقول: يا أهل مكة إنما طوافكم بالبيت وبين الصفا والمروة يوم النحر.
حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أبو ضمرة أنس قال حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم يسعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة
مطابقته للترجمة في قوله: (أول ما يقدم يسعى..) إلى آخره، وأبو ضمرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم هو أنس بن عياض..
قوله: (أول)، نصب على أنه ظرف، والعامل فيه: يسعى. قوله: (أربعة) أي: أربعة أطواف. قوله: (سجدتين) أي: ركعتين للطواف، وهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
7161 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف ويمشي أربعة وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.
.
هذا وجه آخر في حديث ابن عمر المذكور، كلاهما من رواية نافع عن ابن عمر، لكن الأول: عن موسى بن عقبة عن نافع، والثاني: عن عبيد الله بن عمر عن نافع، والراوي عنهما واحد وهو أنس عن عياض.
قوله: (الطواف الأول)، يريد به طوافا بعده سمي احترازا عن مثل طواف الوداع. قوله: (يخب)، بضم الخاء المعجمة أي: يرمل. قوله: (يسعى) أي: بعد وقوله: (بطن المسيل)، منصوب على الظرف، والمسيل بالوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قدر معروف، وذلك قبل الوصول إلى الميل الأخضرين اللذين أحدهما بفناء المسجد، والآخر بدار العباس، رضي الله تعالى عنه.
46
((باب طواف النساء مع الرجال))
أي: هذا باب في بيان حكم طواف النساء مع الرجال، هل يختلطن بالرجال أو يطفن معهم على حدة من غير اختلاط بهم أو ينفردن؟
(وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال قال كيف تمنعهن وقد طاف نساء النبي
مع الرجال قلت أبعد الحجاب أو قبل قال إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب قلت كيف يخالطن الرجال قال لم يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت عنك وأبت فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن
وأخرج الرجال وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير وهي مجاورة في جوف ثبير قلت وما حجابها قال هي في قبة تركية لها غشاوة وما بيننا وبينها غير ذلك ورأيت عليها درعا موردا)
260

مطابقته للترجمة ظاهرة وهو من أفراده وهو من باب العرض والمذاكرة وقد سقط في بعض النسخ وهو موجود في الأصول وأطراف خلف وذكره البيهقي وصاحبا المستخرجين وقال أبو نعيم هو حديث عزيز ضيق المخرج وأخرجه أولا من طريق البخاري ثم أخرجه من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج قال مثله غير قصة عطاء مع عبيد بن عمير وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج بتمامه * ورجاله أربعة عمرو بن علي بن بحر أبو حفص الباهلي البصري الصيرفي وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد المكي وعطاء ابن أبي رباح المكي * ومن لطائف هذا السند أن البخاري يذكر عن شيخه عمرو بن علي وهو يروي عن شيخ البخاري أيضا وهو أبو عاصم
(ذكر معناه) قوله ' إذ منع ' أي حين منع ابن هشام وهو في محل النصب على أنه مفعول ثان لأخبرني وقال الكرماني المفعول الثاني هو قال كيف تمنعهن وقال يجوز أن يكون إذ منع مفعولا ثانيا والتقدير أخبرني بزمان المنع قائلا كيف تمنعهن وابن هشام هو إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم خال هشام بن عبد الملك بن مروان ووالي المدينة كما قاله الكلبي وأخوه محمد بن هشام وكانا خاملين قبل الولاية وقيل ابن هشام في الخبر هو محمد أخو إبراهيم تولى محمد إمرة مكة وأخوه إبراهيم إمرة المدينة وفوض هشام لإبراهيم إمرة الحج بالناس في خلافته وقال خليفة بن خياط في تاريخه وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر الثقفي فقدم عليه فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدا وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل بن إبراهيم المخزوميين وأمره بقتلهم فعذبهم حتى قتلهم ثم الظاهر أن الذي منع النساء الطواف مع الرجال هو هذا ابن هشام وقد روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال نهى عمر رضي الله تعالى عنه أن يطوف الرجال مع النساء قال فرأى رجلا معهن فضربه بالدرة قال الفاكهي ويذكر عن ابن عيينة أول من فرق بين الرجال والنساء في الطواف خالد بن عبد الله القسري (قلت) الأول اسم لفرد سابق وكل واحد أول بالنسبة إلى ما بعده وكانت إمرة خالد في مكة في زمن عبد الملك بن مروان وذلك قبل ابن هشام بمدة طويلة ' قال كيف تمنعهن ' بلفظ الخطاب وبلفظ الغيبة أي كيف يمنعهن المانع قوله ' وقد طاف نساء النبي
مع الرجال ' يعني طفن في وقت واحد غير مختلطات بالرجال لأن سنتهن أن يطفن ويصلين من وراء الرجال وقال ابن بطال من السنة إذا أراد النساء دخول البيت أن يخرج الرجال منه بخلاف الطواف به قوله ' أبعد الحجاب ' مقول ابن جريج والهمزة في أبعد للاستفهام وهو رواية المستملي وفي رواية غيره بدون الاستفهام ومعنى بعد الحجاب بعد آية الحجاب وهو قوله تعالى * (قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) * أو قوله تعالى * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * قوله ' أو قبل ' بالضم أو بالتنوين قوله ' أي لعمري ' بكسر الهمزة بمعنى نعم قوله ' أدركته ' أي قال عطاء أدركت طواف النساء معهم وإنما ذكر ذلك عطاء لدفع وهم من يتوهم أنه حمل ذلك عن غيره ودل على أنه رأى ذلك منهن قوله ' كيف يخالطن ' وفي رواية المستملي ' يخالطهن ' في الموضعين والرجال بالرفع على الفاعلية قوله ' حجرة ' بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم بعدها راء أي ناحية من الناس معتزلة قال القزاز هو مأخوذ من قولهم نزل فلان حجرة من الناس أي معتزلا وقيل بمعنى محجورا بينها وبين الرجال بثوب ونحوه وقال ابن قرقول هو بسكون الجيم وفتح الحاء لا غير وفيه نظر لأن ابن عديس ذكر في كتابه المثنى تعد حجرة وحجرة بالفتح والضم أي ناحية وقال ابن سيده وجمعها حواجر على غير قياس وفي رواية الكشميهني حجزة بالزاي وفي رواية عبد الرزاق هكذا بالزاي قوله ' فقالت امرأة ' وزاد الفاكهي في روايته معها ولم يدر اسمها وقيل يحتمل أن يكون دقرة بكسر الدال المهملة وسكون القاف امرأة روى عنها يحيى بن أبي كثير أنها كانت تطوف مع عائشة بالليل فذكر قصة ذكرها الفاكهي قوله ' تستلم ' بالرفع والجزم ويروى ' تستلمي ' بحذف النون قوله ' انطلقي عنك ' أي عن جهة نفسك ولأجلك قوله ' وأبت ' أي منعت عائشة الاستلام قوله ' يخرجن ' وفي رواية الفاكهي ' وكن يخرجن ' إلى آخره قوله ' متنكرات ' قال وفي رواية عبد الرزاق مستترات قوله ' إذا دخلن البيت قمن ' وفي رواية الفاكهي ' سترن ' قوله ' حين يدخلن ' وفي رواية الكشميهني ' حتى يدخلن ' وقال
261

الكرماني ما معنى هذا التركيب إذ هو غير ظاهر ثم قال أي إذا أردن الدخول وقفن قائمات حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه قوله ' وأخرج الرجال ' بلفظ أخرج على صيغة المجهول قوله ' وكنت آتي عائشة ' أي قال كنت أجيء إلى عائشة أنا وعبيد بن عمير الليثي الحجازي قاضي مكة ولد في زمن النبي
قوله ' وهي مجاورة ' الواو للحال أي مقيمة قوله ' ثبير ' بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء وهو جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى منى وعلى يمين الذاهب من منى إلى عرفات وهو منصرف وذكر ياقوت أن بمكة سبعة جبال كل منها يسمى ثبيرا الأول أعظم جبال مكة بينها وبين عرفة وقال الأصمعي هو ثبير حراء وهو المراد بقولهم في الجاهلية أشرق ثبير كيما تغير. الثاني ثبير الزنج لأن الزنج كانوا يلعبون عنده. الثالث ثبير الأعرج. الرابع ثبير الحضراء. الخامس ثبير النصع وهو جبل المزدلفة. السادس ثبير عيناء كل هذه جبال مكة. السابع ثبير ما في ديار مزينة أقطعه رسول الله
شريح بن ضمرة المزني وقال البكري السابع ثبير الأحدب على الإضافة وحكاه ابن الأنباري على النعت وقال الزمخشري ثبيران جبلان مفترقان تصب بينهما أفاعية وهي واد يصب من منى يقال لأحدهما ثبير عيناء والآخر ثبير الأعرج قوله ' وما حجابها ' زاد الفاكهي حينئذ قوله ' هي قبة ' أي عائشة فالقبة وهي خيمة في الأصل والقبلة التركية تعمل من لبود تضرب في الأرض قوله ' ورأيت عليها ' أي على عائشة ' درعا موردا ' أي قميصا أحمر لونه لون الورد وفي رواية عبد الرزاق ' درعا معصفرا وأنا صبي ' فبين بذلك سبب رؤيته
إياها ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقا لا قصدا
(ذكر ما يستفاد منه) فيه طواف النساء متنكرات. وفيه طواف الليل. وفيه ستر نساء النبي
بعد ذلك وحجبهن وفيه رواية المرأة عن المرأة. وفيه المجاورة بمكة وهو نوع من الاعتكاف وهو ضربان مجاورة ليلا ونهارا أو مجاورة نهارا فقط. وفيه جواز المجاورة في الحرم كله وإن لم يكن في المسجد الحرام كذا قاله ابن بطال وفيه نظر لأن ثبيرا خارج من مكة. وفيه طواف النساء من وراء الرجال * -
9161 حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك عن محمد بن عبد الرحمان بن نوفل عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلي الصبح إلى جنب البيت وهو يقرأ والطور وكتاب مسطور.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (طوفي من وراء الناس). ورجاله قد ذكروا غير مرة. وإسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك، ومحمد هو يتيم عروة، وزينب هي بنت أم سلمة ربيبة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان اسمها برة فسماها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب، ولدت بأرض الحبشة وأبوها أبو سلمة واسمه عبد الله بن عبد الأسد، وأمها أم سلمة، واسمها: هند بنت أبي أمية.
وقد مضى هذا الحديث في: باب إدخال البعير في المسجد في كتاب الصلاة، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك... إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (إني أشتكي) أي: شكوت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرضي وإني ضعيفة. قوله: (وأنت) الواو فيه للحال، وكذلك الواو في: ورسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (يصلي)، جملة فعلية وقعت حالا، وكذا الواو في قوله: (وهو يقرأ) للحال، وإنما أمرها بالطواف من وراء الناس لأن سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف، ولأن قربها يخاف منه تأذي الناس بدابتها، وإنما طافت في حال صلاته، صلى الله عليه وسلم، ليكون أستر لها، وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح.
وفيه: الصلاة بجنب البيت والجهر بالقراءة.
262

56
((باب الكلام في الطواف))
أي: هذا باب في بيان إباحة الكلام في الطواف، وإنما أطلق ولم يبين الحكم فيه من حيث إن المراد مطلق الإباحة من الكلام الذي ليس فيه المؤاخذة، كما ورد في الحديث المشهور عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، موقوفا ومرفوعا: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله تعالى أباح الكلام فيه، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير)، رواه الحاكم. وفي لفظ: (الطواف مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير)، ورواه ابن حبان في (صحيحه) من حديث فضيل بن عياض عن عطاء بلفظ: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير)، ورواه الترمذي من حديث طاووس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير). وقال أبو عيسى: وقد روي عن ابن طاووس وغيره عن ابن عباس موقوفا، ولا نعرفه مرفوعا، ألا من حديث عطاء بن السائب. وقال النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس قال: (الطواف بالبيت صلاة، فأقلوا به الكلام). وقال الشافعي: حدثنا سعيد بن سالم عن حنظلة عن طاووس عن ابن عمر أنه قال: (أقلوا الكلام في الطواف، فإنما أنتم في صلاة)، وعنده أيضا عن إبراهيم بن نافع قال: (كلمت طاووسا في الطواف فكلمني). وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أنهم يستحبون أن لا يتكلم الرجل في الطواف إلا بحاجة أو بذكر الله أو من العلم. وقال أبو عمر عن عطاء: أنه كان يكره الكلام في الطواف إلا الشيء اليسير، وكان مجاهد يقرأ عليه القرآن في الطواف. وقال مالك: لا أدري ذلك، وليقبل على طوافه. وقال الشافعي: أنا أحب القراءة في الطواف وهو أفضل ما يتكلم به الإنسان. وفي (شرح المهذب): يكره للإنسان الطائف الأكل والشرب في الطواف، وكراهة الشرب أخف، ولا يبطل الطواف بواحد منهما ولا بهما جميعا. وقالالشافعي: روى عن ابن عباس أنه شرب وهو يطوف، وقال ابن بطال: كره جماعة قراءة القرآن في الطواف، منهم عروة والحسن ومالك، وقال: ما ذاك من عمل الناس ولا بأس به إذا أخفاه، ولا يكثر منه، وقال عطاء: قراءة القرآن في الطواف محدث.
0261 حدثنا إبراهيم بن موسى قال حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني سليمان الأحول أن طاووسا أخبره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال قده بيده.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (قده بيده)، فإنه تكلم وهو طائف.
ذكر رجاله: وهم: ستة: الأول: إبراهيم بن موسى ابن يزيد الفراء أبو إسحاق يعرف بالصغير. الثاني: هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج. الرابع: سليمان بن أبي مسلم الأحول. الخامس: طاووس بن كيسان. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في
موضع واحد. وفيه: أن شيخه رازي وهشاما صنعاني يماني قاضيها وأن ابن جريج وسليمان مكيان وأن طاووسا يماني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الإيمان والنذور عن أبي عاصم النبيل، وكذا أخرجه عنه في الحج. وأخرجه أبو داود في الأيمان والنذور عن يحيى بن معين. وأخرجه النسائي فيه وفي الحج عن يوسف بن سعيد بن مسلم.
ذكر معناه: قوله: (وهو يطوف) الواو فيه للحال. قوله: (بإنسان) يتعلق بقوله: مر، وفي رواية أحمد عن عبد الرزاق عن ابن جريج إلى إنسان آخر، وفي رواية النسائي: (بإنسان قد ربظ يده بإنسان). قوله: (بسير)، بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، وهو ما يقد من الجلد، والقد الشق طولا، يقال: قددت السير أقده. قيل: إن أهل الجاهلية كانوا
263

يعتقدون أنهم يتقربون بمثله إلى الله تعالى. قوله: (وبشيء غير ذلك) كأن الراوي لم يضبط ما كان مربوطا به، فلأجل ذلك شك فيه، وغير السير والخيط نحو المنديل الذي يربط به أو الوتر أو غيرهما. قوله: (قده)، بضم القاف: أمر من قاده يقوده من القيادة أو القود، وهو الجر والسجب، ويروى: (قد بيده)، بدون الضمير في: قده، وفي رواية أحمد والنسائي: قده، بالضمير. وفي (التلويح) بخط مصنفه: خذ بيده، قيل: ظاهر الحديث أن المقود كان ضريرا، ورد بأنه يحتمل أن يكون لمعنى آخر، وقال الكرماني: قيل: اسم الرجل المقود ثواب ضد العقاب وقال بعضهم: ولم أر ذلك لغيره، ولا أدري من أين أخذه. قلت: إن هذا مما يتعجب منه، فلا يلزم من عدم رؤيته كذلك، عدم رؤية الغير، ولا اطلع هو على المواضع المتعلقة بهذا جميعا جتى يستغرب ذلك.
ذكر ما يستفاد منه فيه: إباحة الكلام بالخير في الطواف. وفيه: أنه يجوز للطائف فعل ما خف من الأفعال. وفيه: أنه إذا رأى منكرا فله أن يغير بيده. وفيه: أن من نذر مالا طاعة لله فيه لا يلزمه، ذكره الداودي واعترضه ابن التين، فقال: ليس هنا نذر ذلك، وغفل أنه ذكره في النذر، وقد روى أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك رجلين وهما مقترنان، فقال: ما بال القران؟ قالا: إنا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة. فقال: أطلقا أنفسكما، ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغي به وجه الله). وروى الطبراني من طريق فاطمة بنت مسلم: (حدثني خليفة بن بشر عن أبيه أنه أسلم، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ماله وولده، ثم لقيه هو وابنه طلق بن بشر مقترنين بحبل، فقال: ما هذا؟ فقال: حلفت لئن رد الله علي مالي وولدي لأحجن بيت الله مقرونا. فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقطعه، وقال لهما: حجا، إن هذا من عمل الشيطان). وقال النووي: قطعه صلى الله عليه وسلم السير محمول على أنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه.
فروع ذكرها الشافعية: وهي: يجوز له إنشاد الشعر والرجز في الطواف إذا كان مباحا، قاله الماوردي، وتبعه صاحب (البحر) ويكره أن يبصق فيه أو يتنخم أو يغتاب أو ينم فلا يفسد طوافه بشيء من ذلك، وإن أثم صرح به الماوردي، وقيل: لا يكره له التعليم فيه كما في الاعتكاف، قاله الروياني، ويكره أن يضع يده على فمه كما في الصلاة، قاله الروياني، ولو احتاج إليه للتثاوب فلا بأس بذلك، ولو طافت المرأة متنقبة وهي غير محرمة، قال في (التوضيح): فمقتضى مذهبنا كراهته كما في الصلاة. وحكى ابن المنذر عن عائشة أنها كانت تطوف متنقبة، وبه قال أحمد وابن المنذر، وكرهه طاووس وغيره، والله أعلم.
66
((باب إذا رأى سيرا أو شيئا يكره في الطواف قطعه))
أي: هذا باب يذكر فيه أن شخصا إذا رأى سيرا ربط به آخر في الطواف وهو يقاد به قطعه. قوله: (أو رأى شيئا يكره فعله في الطواف منعه) قوله: (يكره) على صيغة المجهول، صفة لقوله: شيئا، ويروى: يكرهه الرائي من فعل منكرا أو قول منكر، وقوله: (قطعه) بصيغة الماضي جواب إذا، ولكن معناه في السير على الحقيقة، وفي الشيء الذي يكره بمعنى المنع كما ذكرناه.
1261 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يطوف بالكعبة بزمام أو غيره فقطعه.
.
هذا وجه آخر من حديث ابن عباس المذكور. أخرجه عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن سليمان بن أبي مسلم الأحول إلى آخره. قوله: (أو غيره) شك من الراوي.
76
((باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يطوف... إلى آخره.
2261 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال يونس قال ابن شهاب حدثني حميد بن عبد الرحمان أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
.
264

مطابقته للترجمة ظاهرة، ويحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، والليث هو ابن سعيد المصري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي وابن شهاب هو
محمد بن مسلم الزهري وحميد، بضم الحاء: ابن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله تعالى عنه، وقطعة وافرة من الحديث مضت في: باب ما يستر من العورة، في كتاب الصلاة فإنه أخرجه هناك: عن إسحاق ابن إبراهيم عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن أخي ابن شهاب عن معن عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة.
ذكر معناه: قوله: (بعثه) أي: بعث أبا هريرة. قوله: (في الحجة البيت أمره عليها)، بتشديد الميم، أي: جعله أميرا عليها. وقال التيمي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، سنة تسع من الهجرة ليحج بالناس، وكان معه أبو هريرة. وقال السهيلي: كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم من تبوك أراد الحج، فذكر مخالطة المشركين للناس في حجهم وتلبيتهم بالشرك وطوافهم عراة بالبيت، وكانوا يقصدون بذلك أن يطوفوا، كما ولدوا بغير الثياب التي أذنبوا فيها وظلموا، فأمسك صلى الله عليه وسلم عن الحج في ذلك العام، وبعث أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، بسورة براءة لينبذ إلى كل ذي عهد عهده من المشركين إلا بعض بني بكر الذين كان لهم عهد إلى أجل خاص، ثم أردف بعلي، رضي الله تعالى عنه، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أنزل في قرآن؟ قال: لا، ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي. قال أبو هريرة: فأمرني علي، رضي الله تعالى عنه، أن أطوف في المنازل من منى ببراءة، فكنت أصيح حتى صحل حلقي، فقيل له: بم كنت تنادي؟ قال: بأربع: أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن لا يحج بعد العام مشرك، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد فله أجل أربعة أشهر. ثم لا عهد له. وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي، رضي الله تعالى عنه: سترون بعد الأربعة أشهر بأنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب، ثم إن الناس في تلك المدة رغبوا في الإسلام حتى دخلوا فيه طوعا وكرها. وقال ابن عبد البر: لما خرج أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى الحج نزل صدر براءة بعده، فقيل: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال: إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا، رضي الله تعالى عنه، فأرسله، فخرج راكبا على ناقة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بالعرج، فقال له: أبو بكر: استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟ قال: لا ولكن بعثني بقراءة براءة على الناس.
قالوا: والحكمة في إعطاء براءة لعلي، رضي الله تعالى عنه، لأن فيها نقض العهد، وكانت سيرة العرب أنه لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة. وقيل: إن في سورة براءة فضيلة لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وهي * (ثاني اثنين) * (براءة (التوبة): 04). فأراد صلى الله عليه وسلم أن يكون يقرأها غيره.
قوله: (يوم النحر)، ظرف لقوله: بعثه. قوله: (في رهط) أي: في جملة رهط، والرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى الأربعين، ولا يكون فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، ويجمع على: أرهط وأرهاط وأراهط جمع القول. قوله: (يؤذن)، الضمير فيه راجع إلى الرهط باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات، وهو من الإيذان وهو الإعلام. قوله: (ألا لا يحج)، كلمة: ألا، بفتح الهمزة، واللام المخففة تأتي على أوجه، ولكن هنا للتنبيه، فتدل على تحقق ما بعدها. قوله: (لا يحج) نفي، وفاعله، قوله: مشرك، ويروى: أن لا يحج، بالنصب بكلمة: أن، وفي رواية للبخاري في التفسير: أن لا يحجن، بنون التأكيد، وفي بعض النسخ: ألا بفتح الهمزة: يحج، وبتشديد اللام، وعليه تكلم الكرماني، فقال: إن أصله: أن لا يحج، وأن مخففة من الثقيلة أي: أن الشأن. قلت: تقديره أنه لا يحج، فيكون: لا يحج، مرفوعا على كل حال. قوله: (ولا يطوف)، بالرفع عطفا على: لا يحج، وعلى رواية: أن لا يحج، يكون بالنصب عطفا عليه. وقوله: (عريان) فاعل: لا يطوف، وفي مسلم عن هشام عن أبيه عروة، قال: كانت العرب يطوفون عراة، إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وروى مسلم والنسائي من رواية مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، وتقول:
* اليوم يبدو بعضه أو كله
* فما بدا منه فلا أحله
*
فنزلت: * (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 13). وذكر الأزرقي من حديث ابن عباس، قال: كانت قبائل العرب من بني عامر وغيرهم يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، فإذا بلغ أحدهم باب المسجد قال للحمس: من يعير معوزا؟ فإن أعاره
265

أحمسي ثوبه طاف فيه، وإلا ألقى ثيابه بباب المسجد ثم طاف سبعا عريانا، وكانوا يقولون: لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب. وكان بعض نسائهم تتخذ سيورا تعلقها في حقويها وتستر بها، وفيه تقول العامرية:
* اليوم يبدو بعضه أو كله
* وما بدا منه فلا نحله
*
ثم من طاف منهم في ثيابه لم يحل له أن يلبسها أبدا، ولا ينتفع بها، وللرياشي زيادة في البيت المذكور:
* كم من لبيب لبه يضله
* وناظر ينظر ما يمله
*
* جهم من الجثم عظيم ظله
*
قلت: كانت هذه المرأة ضباعة بنت عامر، وكانت تحت عبد الله بن جدعان، وطافت بالبيت عريانة وهي واضعة يديها على فخذيها، وقريش أحدثت بها وهي تقول هذه الأبيات، وطافت بالبيت الحرام أسبوعا. وفي (تاريخ ابن عساكر): كانت تغطي جسدها بشعرها، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيا لعظم خلقها. وفي (صحيح مسلم) عن ابن عباس: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة، تقول: من يعيرني تطوافا، يعني: ثوبا تطوف به، تجعله على فرجها، وتقول:
اليوم يبدون... إلى آخره.
ذكر ما يستفاد منه فيه: حكمان: الأول: لا يحج بعد العام مشرك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنداء بذلك حين نزلت * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (التوبة: 82). والمراد بالمسجد الحرام هنا، الحرم كله، فلا يمكن مشرك من دخول الحرم بحال، وكذلك لا يمكن أهل الذمة من الإقامة بعد ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم فإن قلت: إن الحبشة يخربون الكعبة حجرا حجرا. قلت: لفظ الحديث نهي لا خبر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا) في حديث علي، رضي الله تعالى عنه، رواه الترمذي، وانفرد به، فقال: حدثنا علي ابن خشرم أخبرنا سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق (عن زيد بن أشبع قال: سألت عليا، رضي الله تعالى عنه، بأي شيء بعثت؟ قال: (بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا..) الحديث. الحكم الثاني: أن لا يطوف بالبيت عريان، واحتج مالك والشافعي وأحمد في رواية بهذا، فقالوا باشتراط ستر العورة، وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية إلى أنه لو طاف عريانا يجبر بدم.
86
((باب إذا وقف في الطواف))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وقف الطائف في طوافه هل ينقطع طوافه أم لا ينقطع؟ وإنما أطلق لوجود الاختلاف فيه، فعند الجمهور: إذا عرض له أمر في طوافه فوقف يبني ويتمه ولا يستأنف طوافه، وقال الحسن: إذا أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه، فإنه يستأنفه ولا يبني على ما مضى. وقال ابن المنذر: ولا أعلم قاله غيره، وقال ابن بطال: جمهور العلماء يرون لمن أقيمت عليه الصلاة البناء على طوافه إذا فرغ من صلاته، روي هذا عن ابن عمر والنخعي وعطاء وابن المسيب وطاووس، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وفي (شرح المهذب): فإن حضرت جنازة في أثناء الطواف فمذهب الشافعي ومالك إتمام الطواف أولى، وبه قال عطاء وعمرو بن دينار، وقال أبو ثور: لا يخرج، وإن خرج استأنف، وقال أبو حنيفة والحسن بن صالح: يخرج لها.
وقال عطاء فيمن يطوف فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه إذا سلم يرجع إلى حيث قطع عليه فيبني
عطاء هو ابن أبي رباح، وقال الكرماني: إنما لم يذكر البخاري حديثا يدل على الترجمة إشارة إلى أنه لم يجد في الباب حديثا بشرطه. قلت: لم يلزم البخاري ما ذكره، فإنه إذا ذكر ترجمة وأتى بأثر من صحابي أو تابعي مطلق للترجمة فإنه يكفي، وذكر ما قاله عطاء، وهو تابعي كبير بين مراده من الترجمة، وهو أن الطائف إذا حصل له شيء فقطع طوافه فإنه يبنى على ما مضى ولا يستأنفه، ووصل هذا المعلق عبد الرزاق عن ابن جريج، قلت لعطاء: الطواف الذي تقطعه على الصلاة، واعتد به يجزئ؟ قال: نعم. وأحب إلي أن ألا يعتد به. فأردت أن أركع قبل أن أتم سبعي! قال: لا أوف سبعك إلا أن يمنع من الطواف. وقال سعيد بن
266

منصور: حدثنا هشيم حدثنا عبد الملك عن عطاء أنه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه ثم تحضر الجنازة يخرج فيصلي عليها، يرجع فيقضي ما بقي عليه من طوافه. قوله: (فيبنى) أي: على طوافه، أي: يعتبره ما سلف منه ويتم الباقي ولا يستأنف الطواف.
ويذكر نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمان بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم
أي: يذكر نحو ما قاله عطاء عن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. أما ما روي عن ابن عمر فقد وصله سعيد ابن منصور: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن جميل بن زيد، قال: رأيت ابن عمر طاف بالبيت، فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم ثم قام فبنى على ما مضى من طوافه. وأما ما روي عن عبد الرحمن بن أبي بكر فقد وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن عبد الرحمن بن أبي بكر طاف في إمارة عمرو بن سعيد على مكة يعني في خلافة معاوية، فخرج عمرو إلى الصلاة فقال له عبد الرحمن أنظرني حتى أنصرف على وتر، فانصرف على ثلاثة أطواف، يعني ثم صلى ثم أتم ما بقي.
96
((باب صلى النبي لسبوعه ركعتين))
أي: هذا باب يذكر فيه: صلى النبي، صلى الله عليه وسلم.... إلى آخره. قوله: (لسبوعه) بضم السين المهملة والباء الموحدة بمعنى: الأسبوع يقال: طفت بالبيت أسبوعا أي: سبع مرات، وسبوع بدون الهمزة لغة قليلة فيه. وقيل: هو جمع سبع أو سبع كبرد وبرود، وضرب وضروب.
وقال نافع كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي لكل سبوع ركعتين
مطابقته للترجمة من حيث إنه، صلى الله عليه وسلم، كما كان يصلي لسبوعه ركعتين فكذلك ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كان يصلي لكل سبوعه ركعتين. قوله: (وقال نافع)، معلق وصله عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر أنه كان يطوف بالبيت سبعا ثم يصلي ركعتين، وعن معمر عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يكره قرن الطواف، ويقول: على كل سبع صلاة ركعتين.، وكان لا يقرن.
وقال إسماعيل بن أمية قلت للزهري إن عطاء يقول تجزئه المكتوبة من ركعتي الطواف فقال السنة أفضل لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم سبوعا قط إلا صلى ركعتين
مطابقته للترجمة ظاهرة، وإسماعيل بن أمية، بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف: ابن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، وقد مر في كتاب الزكاة، والزهري هو محمد بن مسلم المدني، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي، وهذا المعلق وصله عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، ووصله ابن أبي شيبة عن يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن الزهري، قال: مضت السنة أن مع كل أسبوع ركعتين، وروى الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد الرازي في (فوائده): حدثنا أحمد بن القاسم بن المفرح بن مهدي البغدادي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبدة القاضي حدثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي حدثنا عدي بن الفضل عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال: سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكل أسبوع ركعتين. وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا حفص بن غياث عن عمرو، عن الحسن، قال: مضت السنة أن مع كل أسبوع ركعتين لا يجزئ منهما تطوع ولا فريضة. قوله: (تجزئة المكتوبة) بفتح التاء وضمها، يقال: أجزاني الشيء أي كفاني، والمكتوبة الفريضة. قوله: (السنة أفضل) يعني: مراعاة السنة، وهي أن تصلي بعد كل أسبوع ركعتين غير المكتوبة والتطوع، كما مر عن الحسن البصري هكذا آنفا.
3261 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عمر و قال سألنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيقع الرجل على امرأته في العمرة قبل أن يطوف بين الصفا والمروة قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
267

فطاف بالبيت سبعا ثم صلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة وقال: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 32).. قال وسألت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقال لا يقرب امرأته حتى يطوف بين الصفا والمروة.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 32). لأبن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أراد بهذا أن السنة أن يصلي بعد الأسبوع ركعتين قبل أن يطوف بين الصفا والمروة، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعل ذلك، وقد مضى هذا الحديث بعينه في باب قول الله عز وجل * (اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521). في كتاب الصلاة، فإنه أخرجه هناك عن الحميدي عن سفيان إلى آخره نحوه، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو بن دينار وقد مضى الكلام فيه مستوفى هناك.
قوله: (أيقع؟) الهمزة فيه للاستفهام، ويقع من الوقاع وهو: الجماع. قوله: (قبل أن يطوف بين الصفا والمروة) قيل فيه: تجوز، لأنه يسمى سعيا لا طوافا، إذ حقيقة الطواف الشرعية فيه غير موجودة. قلت: لا نسلم ذلك، لأن حقيقة الطواف هي الدوران، وهو موجود في السعي. قوله: (قال وسألت)، القائل هو عمرو بن دينار الراوي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
07
((باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الأول))
أي: هذا باب في بيان شأن من لم يقرب الكعبة أي: من لم يطف طوافا آخر غير طواف القدوم، لأن الحاج لا طواف عليه غير طواف القدوم حتى يخرج إلى عرفات، وينصرف ويرمي جمرة العقبة. قوله: (حتى يخرج) أي: إلى أن يخرج. قوله: (ويرجع)، بالنصب عطف على: يخرج. قوله: (بعد الطواف الأول)، أي: طواف القدوم، وقرب الشيء بالضم يقرب إذا دنا، وقربته بالكسر أقربه أي: دنوت منه.
5261 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا فضيل قال حدثنا موسى بن عقبة قال أخبرني كريب عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم: خمسة: الأول: محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم أبو عبد الله الثقفي مولاهم المعروف بالمقدمي. الثاني: فضيل، بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة: ابن سليمان النمري، يكنى أبا سليمان. الثالث: موسى بن عقبة بن أبي عباس الأسدي أبو محمد. الرابع: كريب، بضم الكاف: مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضع. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه مصريان، وموسى وكريب مدنيان، وهذا الحديث من أفراد البخاري.
ذكر ما يستفاد منه: ظاهر هذا الحديث أن لا طواف بعد طواف القدوم، ولكن لا يمنع منه، لأنه، صلى الله عليه وسلم، لعله ترك الطواف بعد طواف القدوم خشية أن
يظن أحد أنه واجب، وكان يحب التخفيف على أمته، واعتمد الكرماني على ظاهر الحديث وقال: المقصود أن الحاج لا يطوف بعد طواف القدوم، وليس كذلك، لما قلنا. ومالك اختار أن لا يتنفل بطواف بعد طواف القدوم حتى يتم حجه، وقد جعل الله له في ذلك سعة، فمن أراد أن يطوف بعد طواف القدوم فله ذلك ليلا كان أو نهارا لا سيما إن كان من أقاصي البلدان ولا عهد له بالطواف، وقد قال مالك: الطواف بالبيت أفضل من النافلة لمن كان من البلاد البعيدة لقلة وجود السبيل إلى البيت، وروي عن عطاء والحسن: إذا قام الغريب بمكة أربعين يوما كانت الصلاة له أفضل من الطواف. وقال أنس: الصلاة للغرباء أفضل. وقال الماوردي: الطواف أفضل من الصلاة، وقال ابن عباس وغيره: الصلاة لأهل مكة أفضل
268

والطواف للغرباء أفضل. وأما الاعتمار والطواف إيهما أفضل؟ ففي (التوضيح): فحكى بعض المتأخرين منا ثلاثة أوجه: ثالثها إن استغرقه الطواف وقت العمرة كان أفضل، وإلا فهي أفضل.
17
((باب من صلى ركعتي الطواف خارجا من المسجد))
أي: هذا باب في بيان جواز صلاة من صلى ركعتي الطواف حال كونه خارجا من المسجد الحرام، وحاصله أنه ليس لركعتي الطواف موضع معين، بل يجوز إقامتهما في أي موضع أراد الطائف وإن كان ذلك خلف المقام أفضل، ولذلك ذكر عقيب هذا الباب باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام. فإن قلت: لم أطلق ولم يبين الحكم. قلت: لأنه ذكر في هذا الباب أثر عمر وحديث أم سلمة، رضي الله تعالى عنهما، أما عمر فإنه إنما أخر ركعتي الطواف لكونه طاف: بعد الصبح وكان لا يرى التنفل بعد الصبح مطلقا. وأما: أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، فلأن تركها ركعتي الطواف لكونها شاكية، فاحتمل أن يكون ذلك مختصا بمن له عذر.
وصلى عمر رضي الله تعالى عنه خارجا من الحرم
أي: صلى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، ركعتي الطواف خارج الحرم، وهذا التعليق وصله البيهقي من حديث مالك، رحمه الله تعالى، عن ابن شهاب، رضي الله تعالى عنه، عن حميد بن عبد الرحمن: أن عبد الرحمن بن عبد القاري أخبره أنه كان مع عمر ابن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، بعد صلاة الصبح بالكعبة، فلما قضى طوافه نظر فلم ير الشمس، فركب حتى أناخ بذي طوى فسبح ركعتين.
6261 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمان عن عروة عن زينب عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثني محمد بن حرب قال حدثنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني عن هشام عن عروة عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة طافت بالبيت وأرادت الخروج فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذالك فلم تصل حتى خرجت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فلم تصل حتى خرجت)، أي: فلم تصل ركعتي الطواف حتى خرجت من الحرم، أو من المسجد، ثم صلت. فدل هذا على جواز تأخير ركعتي الطواف إلى خارج الحرم وأن تعيينها بموضع غير لازم، لأن التعيين لو كان شرطا لازما لما أقر النبي، صلى الله عليه وسلم، أم سلمة على ذلك، وفي رواية الإسماعيلي من رواية حسانن: (إذا قامت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك من وراء الناس وهم يصلون. قالت: ففعلت ذلك ولم أصل حتى خرجت) أي: فصليت.
ذكر رجاله: وهم تسعة، لأنه أخرجه عن طريقين: الأول: عن عبد الله بن يوسف التنيسي، وهو من أفراده، عن مالك، عن محمد بن عبد الرحمن ابن نوفل بن الأسود الأسدي القرشي المدني، يتيم عروة، عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة. والطريق الثاني: عن محمد بن جرب ضد الصلح ابن حربان أبي عبد الله الشامي، عن أبي مروان يحيى بن أبي زكريا الغساني الشامي، عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير، عن أم سلمة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين أحدهما في روايته عن شيخه، والآخر: عن شيخ شيخه وبصيغة الإفراد عن شيخه الآخر. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في في سبعة مواضع. وفيه: مالك ومحمد وهشام وعروة مدنيون، ومحمد بن حرب وأبو مروان شاميان. وفيه: رواية الابن عن أبيه. وفيه: رواية الصحابية عن الصحابية
269

وهي رواية البنت عن الأم. وفيه: رواية عروة عن أم سلمة، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة، وزينب زائدة في هذا الطريق.
ذكر ما قيل في هذا الحديث: وهو أن البخاري قد تجوز فيه حيث عطف الطريق الثاني على الطريق الأول، والحال أن اللفظين مختلفان، فإنه أخرج هذا الحديث بالطريق الأول بعين هذا الإسناد في باب إدخال البعير في المسجد للعلة عن عبد الله بن يوسف عن مالك إلى آخره نحوه، وكذلك أخرجه في: باب طواف النساء بالرجال، عن قريب عن إسماعيل عن مالك إلى آخره، وقد قلنا: إن زينب في رواية الأصيلي زائدة، لأن أبا علي بن السكن أخرجه: عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب شيخ البخاري، وليس فيه ذكر زينب. وقال الدارقطني في (كتاب التتبع): في طريق يحيى بن أبي زكريا المذكور هذا منقطع، فقد رواه حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة ولم يسمعه عروة من أم سلمة، وقال الغساني: هكذا رواه أبو علي بن السكن عن الفربري مرسلا، لم يذكر بين عروة وأم سلمة زينب، وكذا هو في نسخة عبدوس الطليطلي عن أبي زيد المروزي، ووقع في نسخة الأصيلي عروة عن زينب عنها متصلا، ورواية ابن
السكن المرسلة أصح في هذا الإسناد، وهو المحفوظ. قيل: سماع عروة عن أم سلمة ممكن، لأن مولده سنة ست وعشرين، وتوفيت أم سلمة قريبا من الستين، وهو قطين بلدها فما المانع من أن يكون سمعه أولا من زينب عنها، ثم سمعه منها؟ وقال أبو علي الجياني: ووقع لأبي الحسن القابسي في إسناد هذا الحديث تصحيف في نسب يحيى بن أبي زكريا، قال العشاني، بضم العين المهملة وبالشين المعجمة المخففة. وقال ابن التين: يعني نسبة إلى بني عشانة، وقيل: هو بالهاء بلا نون نسبة إلى بني عشاة. وقيل: هو العثماني، وكل ذلك تصحيف، والصواب: الغساني، بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة، نسبة إلى بني غسان.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن المنذر: اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى خرج من الحرم أو رجع إلى بلاده. فقال عطاء والحسن: يركعهما حيث ما ذكر من حل أو غيره، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو موافق لحديث أم سلمة هذا، لأنه ليس فيها أنها صلتهما في الحرم أو في الحل. وقال الثوري: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم. وقال مالك: إن لم يركعهما حتى تباعد ورجع إلى بلاده فعليه دم، وفي (المدونة): من طاف في غير أبان صلاة إخر الركعتين، وإن خرج إلى الحل ركعهما فيه وتجزيانه ما لم ينتقض وضوؤه، وإن انتقض قبل أن يركعهما وكان طوافه ذلك واجبا فابتدأ بالطواف بالبيت، وركع لأن الركعتين من الطواف توصلا به إلى أن يتباعد، فليركعهما ويهدي ولا يرجع، وقال ابن المنذر: ليس ذلك أكثر من الصلاة المكتوبة، وليس على من تركها إلا قضاؤها حيث ما ذكرها. وقال أصحابنا: وإذا فرغ من الطواف يصلي ركعتين في مقام إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وفي (السراجية)، وهو الأفضل: وإن لم يقدر هناك يصلي حيث تيسر له من المسجد، وفي (الخانية): وإن صلى في غير المسجد جاز، وهاتان الركعتان واجبتان عندنا. وقال الشافعي: سنة، ولنا أنهصلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم، عليه السلام، قرأ قوله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521). فصلى ركعتين فقرأ فيهما فاتحة الكتاب، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد. ثم عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج إلى الصفا. رواه مسلم وأحمد، فنبه صلى الله عليه وسلم أن صلاته كانت امتثالا لأمر الله تعالى، والأمر للوجوب، وبه قال الشافعي في قول، وأصح القولين عنه: أنهما سنة وليستا بواجبتين. وقال شيخنا زين الدين: وفي المسألة قول ثالث: أنهما واجبتان في طواف الفرض، سنتان في طواف التطوع، وقال الرافعي: إن في طرق الأئمة ما يقتضي أنها ركن أو شرط في الطواف، وهذا قول رابع.
27
((باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام))
أي: هذا باب في الطائف الذي صلى ركعتي الطواف خلف المقام، وكلمة: من، هذه موصولة وليست بشرطية، فحديث الباب يدل عليه.
7261 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر رضي
270

الله تعالى عنهما يقول قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى الصفا وقد قال الله تعالى * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 32).
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد تكرر ذكرهم. وقد مضى هذا الحديث في باب قول الله عز وجل: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521). عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار الحديث، وقد مضى أيضا قبل هذا ببابين، والمقام حجر، وقال مالك في (العتبية): سمعت أهل العلم يقولون: إن إبراهيم، عليه السلام، قام بهذا المقام، فيزعمون أن ذلك أثر مقامه، فأوحى الله عز وجل إلى أن تفرج عنه حتى يرى أثر المناسك.
37
((باب الطواف بعد الصبح والعصر))
أي: هذا باب في بيان حكم الطواف بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، هذا تقدير الكلام بحسب الظاهر، ولكن يقدر هكذا: باب في بيان حكم الصلاة عقيب الطواف بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، وإن لم يقدر. هكذا لا تقع المطابقة بين الترجمة وبين أحاديث الباب، وإنما أطلق ولم يبين الحكم لورود الآثار المختلفة في هذا الباب، وقال بعضهم: ويظهر من صنيعه أنه يختار التوسعة. وكأنه أشار إلى ما رواه الشافعي وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيره من حديث جبير بن مطعم: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (يا بني عبد مناف، من ولي منكم من أمر الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار). وإنما لم يخرجه لأنه ليس على شرطه. انتهى. قلت: ليت شعري من أين يظهر صنيعه بذلك، والترجمة مطلقة، ومن أين علم أنه أشار إلى ما رواه الشافعي، رحمه الله؟ ومن أين علم أنه وقف على حديث جبير بن مطعم حتى اعتذر عنه بأنه لم يخرجه لعدم شرطه؟
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس
مطابقته للترجمة إنما تتوجه من حيث التقدير الذي قدرناه آنفا. وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء أنهم صلوا الصبح فغلس وطاف ابن عمر بعد الصبح سبعا، ثم التفت، إلى أفق السماء، فرأى أن عليه غلسا. قال: فاتبعته حتى أنظر أي شيء يصنع، فصلى ركعتين. قال: وحدثنا داود العطار عن عمرو بن دينار ورأيت ابن عمر طاف سبعا بعد الفجر، وصلى ركعتين وراء المقام. انتهى. وبهذا قال عطاء وطاووس والقاسم وعروة بن الزبير والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك في رواية إلى كراهة الصلاة للطواف بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، واحتجوا في ذلك بعموم حديث عقبة بن عامر الجهني، قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نصلي فيهن...
) الحديث، وقد مر في: مواقيت الصلاة، ومع هذا روى الطحاوي بإسناد صحيح عن ابن عمر خلاف ما علقه البخاري. قال: حدثنا ابن خزيمة حدثنا حجاج حدثنا همام حدثنا نافع أن ابن عمر قدم عند صلاة الصبح فطاف ولم يصل إلا بعدما طلعت الشمس، وقال سعيد بن أبي عروبة في (المناسك) عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر كان لا يطوف بعد صلاة العصر ولا بعد صلاة الصبح، وأخرجه ابن المنذر أيضا من طريق حماد عن أيوب أيضا، من طريق أخرى عن نافع: كان ابن عمر إذا طاف بعد الصبح لا يصلي حتى تطلع الشمس، وإذا طاف بعد العصر لا يصلي حتى تغرب الشمس. فإن قلت: روى الدارقطني والبيهقي في (سننيهما) من رواية سعيد بن سالم القداح عن عبد الله بن المؤمل المخزومي عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعيد عن مجاهد، قال: قدم أبو ذر فأخذ بعضادة باب الكعبة، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصلين أحد بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا بمكة). فهذا يرد عموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. قلت: عبد الله بن المؤمل ضعيف، ومجاهد لم يسمع من أبي ذر. فإن قلت: روى الطبراني في (الأوسط) من حديث عطاء (عن ابن عباس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب إن وليتم هذا الأمر فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت فصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار). قلت: قال
271

الطبراني: لم يروه عن جريج عن عطاء عن ابن عباس إلا سليم بن مسلم.
وطاف عمر بعد صلاة الصبح فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى
هذا التعليق وصله مالك في (الموطأ) عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر به، وروى الأثرم عن أحمد عن سفيان عن الزهري مثله، إلا أنه قال: عن عروة، بدل: حميد، قال أحمد: أخطأ فيه سفيان. قال الأثرم: وقد حدثني به نوح بن يزيد من أصله عن إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري، كما قال سفيان. وقال الطحاوي: فهذا عمر، رضي الله تعالى عنه، أخر الصلاة إلى أن يدخل وفتها، وهذ بحضرة جماعة من الصحابة ولم ينكره عليه منهم أحد، ولو كان ذلك الوقت عنده وقت صلاة الطواف لصلى، ولما أخر ذلك لأنه لا ينبغي لأحد طاف بالبيت إلا أن يصلي حينئذ إلا من عذر، وروى أحمد في (مسنده) بسند صحيح من حديث أبي الزبير عن جابر، قال: (كنا نطوف ونمسح الركن الفاتحة والخاتمة، ولم نكن نطوف بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تطلع الشمس في قرني شيطان)، وفي (سنن) سعيد بن منصور وفي (مصنف) ابن أبي شيبة: عن أبي سعيد الخدري أنه طاف بعد الصبح، فلما فرغ جلس حتى طلعت الشمس. وقال سعيد بن منصور: وكان سعيد بن جبير والحسن ومجاهد يكرهون ذلك أيضا.
8261 حدثني الحسن بن عمر البصري قال حدثنا يزيد بن زريع عن حبيب عن عطاء عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن ناسا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح ثم قعدوا إلى المذكر حتى إذا طلعت الشمس قاموا يصلون فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي تكره فيها الصلاة قاموا يصلون.
مطابقته للترجمة لا تتأتى إلا من حيث التقدير الذي قدرناه في الترجمة، وقال بعضهم: وجه تعلق أحاديث هذا الباب بالترجمة إما من جهة أن الطواف صلاة، فحكمهما واحد، أو من جهة أن الطواف مستلزم للصلاة التي تشرع بعده. قلت: هذا أخده من كلام الكرماني، ومع هذا ليس بوجه سديد، ولا نسلم أن الطواف صلاة، والذي ورد في الحديث: (أن الطواف بالبيت صلاة) مجاز ليس بحقيقة، ولا نسلم أن حكمهما واحد، فإن الطهارة شرط في الصلاة دون الطواف، ودعوى الاستلزام ممنوعة كما لا يخفى.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: الحسن بن عمر بن شقيق البصري قدم بلخ فأقام بها نحو خمسين سنة ثم خرج منها إلى البصرة في سنة ثلاثين ومائتين ومات بها بعد ذلك الثاني يزيد من الزيادة ابن زريع مصغر زرع وقد مر غير مرة. الثالث: حبيب، بفتح الحاء المهملة: ابن أبي قريبة المعلم، نص عليه هكذا المزي في (الأطراف)، مات سنة اثنتين وأربعين ومائة. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: عروة بن الزبير. السادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو وحبيب ويزيد بصريون وعطاء مكي وعروة مدني. وفيه: ثلاثة مذكورون من غير نسبة.
وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (المذكر) بتشديد الكاف المكسورة: اسم فاعل من التذكير، وهو الوعظ، قوله: (حتى طلعت الشمس) يعني: إلى أن طلعت الشمس، يعني: كان قعودهم منتهيا إلى طلوع الشمس. قوله: (حتى إذا كانت الساعة) أي: عند الطلوع، وسأل الكرماني ههنا سؤالا على قاعدة مذهبه، وهو أن المكروه منها يعني في هذه الساعة صلاة لا سبب لها، وهذه الصلاة لها سبب، وهو الطواف ثم أجاب بقوله: هم كانوا يتحرون ذلك الوقت ويؤخرونها إليه قصدا، فلذلك ذمته، يعني عائشة، رضي الله تعالى عنه، والتحري له وإن كان لصلاة لها سبب مكروه. انتهى. قلت: هذا الذي ذكره إنما يمشي إذا كانت عائشة ترى أن الطواف سبب لا يكره مع وجوده الصلاة في الأوقات المنهية، وليس كذلك، لأن النهي عندها على العموم، والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن محمد بن فضيل عن عبد الملك عن عطاء (عن عائشة، رضي
272

الله تعالى عنها: أنها قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف، وأخر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع فصل لكل أسبوع ركعتين).
9261 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أبو ضمرة قال حدثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن
الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها.
.
مطابقته للترجمة قد علمت فيما مضى، ومباحثه قد تقدمت في كتاب الصلاة في المواقيت، وإبراهيم بن المنذر أبو إسحاق الخزامي المديني، وأبو ضمرة، بالضاد المعجمة المفتوحة: اسمه أنس بن عياض المدني، وكان قد قدم بلخ في ولاية نصر بن سيار، مات سنة ثمانين ومائة.
0361 حدثني الحسن بن محمد هو الزعفراني قال حدثنا عبيدة بن حميد قال حدثني عبد العزيز بن رفيع قال رأيت عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما يطوف بعد الفجر ويصلي ركعتين. قال عبد العزيز ورأيت عبد الله بن الزبير يصلي بعد العصر ويخبر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حدثته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيتها إلا صلاهم.
.
قد مر وجه المطابقة في أول الباب ولأجل اختلاف الحكم في هذا الباب لاختلاف الآثار فيه، أطلق الترجمة كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: الحسن بن محمد بن الصباح أبو علي الزعفراني، مات يوم الاثنين لثمان بقين من رمضان سنة ستين ومائتين. الثاني: عبيدة، بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة ابن حميد، بضم الحاء المهملة وفتح الميم التيمي. وقيل: الضبي النحوي، مات ببغداد سنة تسعين ومائة. الثالث: عبد العزيز بن رفيع، بضم الراء وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وبالعين المهملة، أتى عليه نيف وتسعون سنة، وكان يتزوج فلا يمكث حتى تقول المرأة فارقني، من كثرة جماعه. الرابع: عبد الله بن الزبير بن العوام. الخامس: عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الإفراد في مواضع ثلاثة وبصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: الرؤية في موضعين. وفيه: أن شيخه بغدادي وعبيدة كوفي وعبد العزيز مكي سكن الكوفة. وفيه: أنه أوضح شيخه بقوله: هو الزعفراني لأن في الرواة في الكتاب الحسن بن محمد الحراني، والحسن بن محمد بن علي، والزعفراني نسبة إلى قرية تحت كلواذا وإليها ينسب درب الزعفران ببغداد، وكثير من المحدثين ينسب إلى هذا الدرب، وجماعة منهم ينسبون إلى بيع الزعفران، وفي نواحي همدان قرية تسمى: الزعفرانية، ومنهم من ينسب إلى الزعافر. وفيه: أن شيخه مات بعده بأربع سنين لأن وفاته في سنة ست وخمسين ومائتين، ووفاة شيخه سنة ستين ومائتين، كما ذكرناه الآن. وفيه: رواية الصحابي عن الصحابية. وفيه: رواية الراوي عن خالته لأن عائشة خالة عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهم. وفيه: أن هذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (يطوف) جملة وقعت حالا. قوله: (قال عبد العزيز) هو عبد العزيز بن رفيع الراوي، يعني: قال بالإسناد المذكور، وليس بمعلق. قوله: (إلا صلاهما) أي: الركعتين بعد العصر، وقد مر الكلام فيه مستوفى في: باب ما يصلى بعد العصر.
47
((باب المريض يطوف راكبا))
أي: هذا باب في بيان حكم المريض حال كونه يطوف راكبا. قوله: (يطوف) و (راكبا) حالان مترادفتان أو متداخلتان.
2361 حدثني إسحاق الواسطي قال حدثنا خالد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس
273

رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر الحديث عن قريب في: باب التكبير عند الركن. أخركه عن مسدد عن خالد... إلى آخره. وأخرجه أيضا في: باب من أشار إلى الركن عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن خالد، وهنا أخرجه عن إسحاق الواسطي وهو إسحاق بن شاهين أبو بشر، وفي بعض النسخ هكذا: إسحاق بن شاهين، بنسبته إلى أبيه، وهو من أفراده يروي عن خالد بن عبد الله الطحان عن خالد بن مهران الحذاء، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
3361 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا مالك عن محمد بن عبد الرحمان بن نوفل عن عروة عن زينب ابنة أم سلمة عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر الحديث عن قريب في: باب طواف النساء مع الرجال، فإنه أخرجه هناك: عن إسماعيل ابن أبي أويس ابن أخت مالك عن مالك، وهنا أخرجه: عن عبد الله بن مسلمة، بفتح الميمين القعنبي عن مالك، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى. والله أعلم.
57
((باب سقاية الحاج))
أي: هذا باب في ذكر سقاية الحاج، والسقاية بكسر السين ما يبنى للماء، وأما السقاية التي في قوله تعالى: * (أجعلتم سقاية الحاج) * (التوبة: 91). فهو مصدر
، والتي في قوله تعالى: * (جعل السقاية في رحل أخيه) * (يوسف: 07). مشربة الملك. وقال الجوهري: هي الصواع الذي كان الملك يشرب فيه. وقال ابن الأثير: سقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه الحاج من الزبيب المنبوذ في الماء وكان يليها عباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام، وقال الفاكهي: حدثنا أحمد بن محمد حدثنا الحسن بن محمد بن عبيد الله حدثنا ابن جريج عن عطاء، قال: سقاية الحاج زمزم. وقال الأزرقي: كان عبد مناف يتحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في حياض من أدم بفناء الكعبة للحاج، ثم فعله ابنه هشام بعده، ثم عبد المطلب، فلما حفر زمزم كان يشتري الزبيب فنبذه في ماء زمزم. ويسقي الناس. وقال ابن إسحاق: لما ولي قصي بن كلاب أمر الكعبة كان إليه الحجابة والسقاية واللواء والوفادة ودار الندوة، ثم تصالح بنوه على أن لعبد مناف السقاية والوفادة، والبقية للآخرين. ثم ذكر نحو ما تقدم. قال: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل بيده حتى قام الإسلام، وهي بيده، وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه فهي اليوم إلى بني العباس.
3461 حدثنا عبد الله بن أبي الأسود قال حدثنا أبو ضمرة قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال استأذن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (من أجل سقايته) لأن السقاية كانت بيده بعد أبيه عبد المطلب كما ذكرناه آنفا. والحديث من أفراده، وعبد الله بن محمد بن أبي الأسود ضد الأبيض. وقد مر في: باب فضل اللهم ربنا لك الحمد، وأبو ضمرة بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وبالراء، واسمه أنس بن عياض الليثي المدني، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم.
قوله: (ليالي منى) هي: ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، وقال النووي: هذا يدل على مسألتين:
274

إحداهما: أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به، وهل هو واجب أو سنة؟ قال أبو حنيفة: سنة. والآخرون: واجب. والثانية: يجوز لأهل السقاية أن يتركوا هذا المبيت ويذهبوا إلى مكة ليستقوا بالليل الماء من زمزم، ويجعلوه في الحياض مسبلا للحاج، ولا يختص ذلك عند الشافعي بالعباس، بل كل من تولى السقاية كان له ذلك، وقال بعض أصحابنا: تختص الرخصة بالعباس، وقال بعضهم: بآل العباس. انتهى. قلت: قال بعضهم: تختص ببني هاشم من آل عباس وغيرهم، وقال أصحابنا: يكره أن لا يبيت بمنى ليالي الرمل لأنه صلى الله عليه وسلم بات بها، وكذا عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وكان يؤدب على تركه، فلو بات في غيره متعمدا لا يلزمه شيء. وقال بعضهم: المبيت في هذه الليالي سنة عندنا، وبه قال أهل الظاهر. قال القرطبي: روي نحوه عن ابن عباس والحسن، وقال ابن بطال: رواه ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس.
وقال القرطبي: المبيت بمنى ليالي التشريق من سنن الحج بلا خلاف، إلا لذوي السقاية أو الرعاة، ومن تعجل بالنفر في ترك ذلك في ليلة واحدة أو جميع الليالي كان عليه دم عند مالك، وقال السفاقسي: المبيت بها مأمور به، وإلا فكان يجوز للعباس وغيره ذلك دون إرخاص، وهو أن يبيت من جمرة العقبة إليها، وقال مالك: من بات وراء الجمرة فعليه الفدية ووجهه أنه يبيت بغير منى وهو مبيت مشروع في الحج فلزم الدم بتركه كالمبيت بالمزدلفة. وعند ابن أبي شيبة عن زيد بن حباب أنبأنا إبراهيم بن نافع أنبأنا عمرو ابن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا رميت الجمار بت حيث شئت. حدثنا زيد بن حباب أنبأنا إبراهيم حدثنا ابن أبي نجيح عن عطاء، قال: لا بأس أن يبيت الرجل بمكة ليالي منى إذا كان في ضيعته. ومن حديث ليث عن طاووس عن ابن عباس أنه قال لا يبيتن أحد من وراء العقبة ليلا بمنى أيام التشريق. ومن حديث عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان ينهى أن يبيت أحد من وراء العقبة، وكان يأمرهم أن يدخلوا منى. ومن حديث حجاج عن عطاء أن ابن عمر كان يكره أن ينام أحد أيام منى بمكة. ومن حديث ليث عن مجاهد: لا بأس أن يكون أول الليل بمكة وآخره بمنى، ولا بأس أن يكون أول الليل بمنى وأخره بمكة. وعن محمد بن كعب من السنة إذا زرت البيت أن لا تبيت إلا بمنى. وعن أبي قلابة: إجعلوا أيام منى بمنى. وعن عروة: لا يبيتن أحد من وراء العقبة أيام التشريق. وقال إبراهيم: إذا بات دون العقبة اهراق لذلك دما. وعن عطاء: يتصدق بدرهم أو نحوه. وعن سالم: يتصدق بدرم، والأسانيد إليهم صحيحة.
وفي (شرح المهذب): ومن المعذورين من له مال يخاف ضياعه إن اشتغل بالمبيت، أو يخاف على نفسه، أو كان به مرض أو له مريض يطلب آبقا وشبه ذلك، ففي هؤلاء وجهان، الصحيح المنصوص: يجوز لهم ترك المبيت، ولا شيء عليهم بسببه، ولهم النفر بعد الغروب ولو ترك البيات ناسيا كان كتركه عامدا. وفي (التوضيح): لا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وفي قول: إن الاعتبار بوقت بطلوع الفجر، وفي (المدونة): من بات عنها كل الليل فعليه دم. وقال ابن عباس: من كان له مناخ بمكة يخشى عليه ضياعه بات بها، ومقتضاه إباحته للعذر، وعليه دم على مقتضى قول ابن نافع في (مبسوطه): من زار البيت فمرض وبات بمكة فعليه هدي يسوقه من الحل إلى الحرم، وإن بات الليالي كلها بمكة قال الداودي: فقيل: عليه شاة، وقيل: بدنة.
5361 حدثنا إسحاق قال حدثنا خالد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فات رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني قال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال إسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هاذه يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه.
مطابقته للترجمة في قوله: (جاء إلى السقاية)، هذا الأسناد بعينه مضى في أول: باب المريض يطوف راكبا، وإسحاق هو ابن
275

شاهين الواسطي. وقال صاحب (التلويح): هو إسحاق بن بشر، وهو وهم، وخالد الأول: هو ابن عبد الله الطحان، والثاني: خالد ابن مهران الحذاء.
وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (جاء إلى السقاية)، قد ذكرنا أن السقاية ما يبنى للماء، وهو الموضع الذي يسقى فيه الماء، وفي (المجمل): هو الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم وغيره. قوله: (فاستسقى) أي: طلب الشرب. قوله: (يا فضل)، هو ابن العباس أخو عبد الله، وأمهما لبابة بنت الحارث الهلالية. قوله: (إنهم يجعلون إيديهم فيه) وفي رواية الطبري عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة (عن ابن عباس، قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو في السقاية فقال: إسقوني. قال العباس: إن هذا قد مرت يعني: قد مرس أفلا أسقيك مما في بيوتنا؟ قال: لا، ولكن إسقوني مما يشرب الناس، فأتى به فذاقه، فقطب ثم دعا بماء فكسره، ثم قال: إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء، وتقطيبه منه إنما كان لحموضة فقط، وكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل ذلك يحمل على ما روي عن عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهم، فيه لا غير. وروى مسلم من حديث بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله، ما بنا من حاجة ولا بخل، قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا، ولا نزيد ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (قال: اسقني) ويروى: (فقال)، الفاء فيه فصيحة أي: فذهب فأتى بالشراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إسقني. قوله: (وهم يسقون)، جملة حالية أي: يسقون الناس. قوله: (ويعملون فيها)، أي: ينزحون منها الماء. قوله: (لولا أن تغلبوا)، بضم التاء على صيغة المجهول، أي: لولا أن يجتمع عليكم الناس، ومن كثرة الزحام تصيرون مغلوبين. وقال الداودي: أي أنكم لا تتركوني أستقي ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون فتغلبوا. وقيل: معناه لولا أن تقع عليكم الغلبة بأن يجب عليكم ذلك بسبب فعلي. وقيل. معناه: لولا أن تغلبوا بأن ينتزعها الولاة منكم حرصا على حيازة هذه المكرمة. وروى مسلم من حديث جابر (أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: إنزغوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزغت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه). وذكر ابن السكن أن الذي ناوله الدلو هو العباس بن عبد المطلب.
ذكر ما يستفاد منه فيه: دليل على أن الظاهر أن أفعاله فيما يتصل بأمور الشريعة على الوجوب، فتركه الفعل شفقة أن يتخذ سنة، قاله الخطابي. وفيه: الشرب من سقاية الحاج، وقال طاووس: الشرب من سقاية العباس من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وأن الرجل ليشرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهبت الحرية وولى العبيد تهاونوا بالشراب واستخفوا به، وروى ابن أبي شيبة عن السائب بن عبد الله أنه أمر مجاهدا مولاه بأن يشرب من سقاية العباس ويقول: إنه من تمام السنة. وقال الربيع بن سعد: أتى أبو جعفر السقاية فشرب وأعطى جعفرا فضله، وممن شرب منها: سعيد بن جبير وأمر به سويد بن غفلة: وروى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج، وكذا روى خالد ابن أبي بكر أنه حج مع سالم ما لا يحصى، فلم يره يشرب من نبيذ السقاية. وفيه: إثبات أمر السقاية للحاج، وأن مشروعيته من باب إكرام الضيف واصطناع المعروف. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحرم عليه الصدقات التي سبيلها المعروف كالمياه التي تكون في السقايات تشربها المارة. وقال ابن التين: شربه صلى الله عليه وسلم لا يخلو أن يكون ذلك من مال الكعبة الذي كان يؤخذ لها من الخمس، أو من مال العباس الذي عمله للغني والفقير، فشرب منه صلى الله عليه وسلم ليسهل على الناس. وفيه: أنه لا يكره طلب السقي من الغير. وفيه: رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من بيته لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه: الترغيب في سقي الماء خصوصا ماء زمزم. وفيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: حرص أصحابه صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به. وفيه: كراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وفيه: أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله، صلى الله عليه وسلم، من الشراب الذي غمست فيه الأيدي، قاله ابن التين، والله أعلم بحقيقة الحال.
276

((باب ما جاء في زمزم))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في ذكر زمزم من الآثار. قيل: ولم يذكر ما جاء فيه من فضله، لأنه كان لم يثبت عنده بشرطه، واكتفى بذكره مجردا. قلت: لا نسلم ذلك، فإن حديث الباب يدل على فضلها، لأن فيه: (ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم)، وهذا يدل قطعا على فضلها حيث اختص غسل صدره، عليه الصلاة والسلام، بمائها دون غيرها، وذلك لأنها ركضة جبريل، عليه الصلاة والسلام، وسقيا إسماعيل صلى الله عليه وسلم وفي (معجم ما استعجم): هي بفتح الأول وسكون الثاني وفتح الزاي الثانية، قال: ويقال بضم الأول وفتح الثاني وكسر الزاي الثانية، ويقال بضم أوله وفتح ثانيه وتشديده وكسر الزاي الثانية. وفي (كتاب الأزهري) عن ابن الأعرابي: زمزم وزمم وزمزام، وتسمى: ركضة جبريل، عليه السلام، وهمزمة جبريل، وهزمة جبريل، بتقديم الزاي، وهزمة الملك، وتسمى: الشباعة. قال الزمخشري: ورواه الخازرنجي: شباعة، وقال صاعد في (الفصوص) ومن أسمائها: تكتم، وقال الكلبي: إنما سميت زمزم لأن بابل بن ساسان حيث سار إلى اليمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة في موضع بئر زمزم، فلما احتفرها عبد المطلب أصاب السيوف والحلي فيه سميت زمزم. وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: سميت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على وجه الأرض حتى ملأ كل شيء. وقال الحربي: سميت بزمزمة الماء، وهو حركته، وقال أبو عبيد: قال بعضهم: إنها مشتقة من قولهم: ماء زمزوم وزمزام أي: كثير. وفي (الموعب): ماء زمزم وزمازم، وهو الكثير وعن ابن هشام: الزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع، وذكر المسعودي أن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول، والزمزمة صوت تخرجه الفرس من خياشيمها.
ومن فضائلها: ما رواه مسلم: شرب أبو ذر منها ثلاثين يوما وليس له طعام غيرها. وأنه سمن، فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال: إنها مباركة، إنها
طعام طعم وزاد أبو داود الطيالسي في (مسنده) وشفاء سقم، وروى الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، مرفوعا: (ماء زمزم لما شرب له)، رجاله ثقات إلا أنه اختلف في إرساله ووصله، وإرساله أصح. وعن أم أيمن، قالت: (ما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شكى جوعا قط ولا عطشا، كان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربه، فربما عرضنا عليه الطعام فيقول: لا أنا شبعان شبعان). ذكره في (المصنف الكبير) في شرف المصطفى، صلى الله عليه وسلم. وعن عقيل ابن أبي طالب، قال: كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام قال لنا أبي ائتوا زمزم فنأتيها فنشرب منها فنجتزىء، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: (وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل)، وذكر الزمخشري في (ربيع الأبرار) أن جبريل، عليه السلام، أنبط بئر زمزم مرتين: مرة لآدم، عليه السلام، حتى انقطعت زمن الطوفان، ومرة لإسماعيل عليه السلام، وروى ابن ماجة بإسناد جيد: (أن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، عز وجل، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم). وروى الدارقطني أن عبد الله كان إذا شرب منها، قال: اللهم إني أسأك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء. وروى أحمد بإسناد جيد من حديث جابر في ذكر حجته، عليه السلام، ثم عاد إلى الحجر ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه، ثم رجع فاستلم الركن... الحديث.
5361 حدثنا إسحاق قال حدثنا خالد عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل اذهب إلى أمك فات رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني قال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال إسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هاذه يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه.
مطابقته للترجمة في قوله: (جاء إلى السقاية)، هذا الأسناد بعينه مضى في أول: باب المريض يطوف راكبا، وإسحاق هو ابن شاهين الواسطي. وقال صاحب (التلويح): هو إسحاق بن بشر، وهو وهم، وخالد الأول: هو ابن عبد الله الطحان، والثاني: خالد ابن مهران الحذاء.
وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (جاء إلى السقاية)، قد ذكرنا أن السقاية ما يبنى للماء، وهو الموضع الذي يسقى فيه الماء، وفي (المجمل): هو الموضع الذي يتخذ فيه الشراب في الموسم وغيره. قوله: (فاستسقى) أي: طلب الشرب. قوله: (يا فضل)، هو ابن العباس أخو عبد الله، وأمهما لبابة بنت الحارث الهلالية. قوله: (إنهم يجعلون إيديهم فيه) وفي رواية الطبري عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة (عن ابن عباس، قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو في السقاية فقال: إسقوني. قال العباس: إن هذا قد مرت يعني: قد مرس أفلا أسقيك مما في بيوتنا؟ قال: لا، ولكن إسقوني مما يشرب الناس، فأتى به فذاقه، فقطب ثم دعا بماء فكسره، ثم قال: إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء، وتقطيبه منه إنما كان لحموضة فقط، وكسره بالماء ليهون عليه شربه، ومثل ذلك يحمل على ما روي عن عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهم، فيه لا غير. وروى مسلم من حديث بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة، فأتاه أعرابي فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن حاجة بكم أم من بخل؟ فقال ابن عباس: الحمد لله، ما بنا من حاجة ولا بخل، قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا، ولا نزيد ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (قال: اسقني) ويروى: (فقال)، الفاء فيه فصيحة أي: فذهب فأتى بالشراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إسقني. قوله: (وهم يسقون)، جملة حالية أي: يسقون الناس. قوله: (ويعملون فيها)، أي: ينزحون منها الماء. قوله: (لولا أن تغلبوا)، بضم التاء على صيغة المجهول، أي: لولا أن يجتمع عليكم الناس، ومن كثرة الزحام تصيرون مغلوبين. وقال الداودي: أي أنكم لا تتركوني أستقي ولا أحب أن أفعل بكم ما تكرهون فتغلبوا. وقيل: معناه لولا أن تقع عليكم الغلبة بأن يجب عليكم ذلك بسبب فعلي. وقيل. معناه: لولا أن تغلبوا بأن ينتزعها الولاة منكم حرصا على حيازة هذه المكرمة. وروى مسلم من حديث جابر (أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: إنزغوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزغت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه). وذكر ابن السكن أن الذي ناوله الدلو هو العباس بن عبد المطلب.
277

ذكر ما يستفاد منه فيه: دليل على أن الظاهر أن أفعاله فيما يتصل بأمور الشريعة على الوجوب، فتركه الفعل شفقة أن يتخذ سنة، قاله الخطابي. وفيه: الشرب من سقاية الحاج، وقال طاووس: الشرب من سقاية العباس من تمام الحج، وقال عطاء: لقد أدركت هذا الشراب، وأن الرجل ليشرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فلما ذهبت الحرية وولى العبيد تهاونوا بالشراب واستخفوا به، وروى ابن أبي شيبة عن السائب بن عبد الله أنه أمر مجاهدا مولاه بأن يشرب من سقاية العباس ويقول: إنه من تمام السنة. وقال الربيع بن سعد: أتى أبو جعفر السقاية فشرب وأعطى جعفرا فضله، وممن شرب منها: سعيد بن جبير وأمر به سويد بن غفلة: وروى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر لم يكن يشرب من النبيذ في الحج، وكذا روى خالد ابن أبي بكر أنه حج مع سالم ما لا يحصى، فلم يره يشرب من نبيذ السقاية. وفيه: إثبات أمر السقاية للحاج، وأن مشروعيته من باب إكرام الضيف واصطناع المعروف. وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تحرم عليه الصدقات التي سبيلها المعروف كالمياه التي تكون في السقايات تشربها المارة. وقال ابن التين: شربه صلى الله عليه وسلم لا يخلو أن يكون ذلك من مال الكعبة الذي كان يؤخذ لها من الخمس، أو من مال العباس الذي عمله للغني والفقير، فشرب منه صلى الله عليه وسلم ليسهل على الناس. وفيه: أنه لا يكره طلب السقي من الغير. وفيه: رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، لأن رده لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من بيته لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه: الترغيب
في سقي الماء خصوصا ماء زمزم. وفيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: حرص أصحابه صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به. وفيه: كراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وفيه: أن الأصل في الأشياء الطهارة لتناوله، صلى الله عليه وسلم، من الشراب الذي غمست فيه الأيدي، قاله ابن التين، والله أعلم بحقيقة الحال.
((باب ما جاء في زمزم))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في ذكر زمزم من الآثار. قيل: ولم يذكر ما جاء فيه من فضله، لأنه كان لم يثبت عنده بشرطه، واكتفى بذكره مجردا. قلت: لا نسلم ذلك، فإن حديث الباب يدل على فضلها، لأن فيه: (ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم)، وهذا يدل قطعا على فضلها حيث اختص غسل صدره، عليه الصلاة والسلام، بمائها دون غيرها، وذلك لأنها ركضة جبريل، عليه الصلاة والسلام، وسقيا إسماعيل صلى الله عليه وسلم وفي (معجم ما استعجم): هي بفتح الأول وسكون الثاني وفتح الزاي الثانية، قال: ويقال بضم الأول وفتح الثاني وكسر الزاي الثانية، ويقال بضم أوله وفتح ثانيه وتشديده وكسر الزاي الثانية. وفي (كتاب الأزهري) عن ابن الأعرابي: زمزم وزمم وزمزام، وتسمى: ركضة جبريل، عليه السلام، وهمزمة جبريل، وهزمة جبريل، بتقديم الزاي، وهزمة الملك، وتسمى: الشباعة. قال الزمخشري: ورواه الخازرنجي: شباعة، وقال صاعد في (الفصوص) ومن أسمائها: تكتم، وقال الكلبي: إنما سميت زمزم لأن بابل بن ساسان حيث سار إلى اليمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة في موضع بئر زمزم، فلما احتفرها عبد المطلب أصاب السيوف والحلي فيه سميت زمزم. وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: سميت زمزم لأنها زمت بالتراب لئلا يأخذ الماء يمينا وشمالا، ولو تركت لساحت على وجه الأرض حتى ملأ كل شيء. وقال الحربي: سميت بزمزمة الماء، وهو حركته، وقال أبو عبيد: قال بعضهم: إنها مشتقة من قولهم: ماء زمزوم وزمزام أي: كثير. وفي (الموعب): ماء زمزم وزمازم، وهو الكثير وعن ابن هشام: الزمزمة عند العرب الكثرة والاجتماع، وذكر المسعودي أن الفرس كانت تحج إليها في الزمن الأول، والزمزمة صوت تخرجه الفرس من خياشيمها.
ومن فضائلها: ما رواه مسلم: شرب أبو ذر منها ثلاثين يوما وليس له طعام غيرها. وأنه سمن، فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال: إنها مباركة، إنها طعام طعم وزاد أبو داود الطيالسي في (مسنده) وشفاء سقم، وروى الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، مرفوعا: (ماء زمزم لما شرب له)، رجاله ثقات إلا أنه اختلف في إرساله ووصله، وإرساله أصح. وعن أم أيمن، قالت: (ما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شكى جوعا قط ولا عطشا، كان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربه، فربما عرضنا عليه الطعام فيقول: لا أنا شبعان شبعان). ذكره في (المصنف الكبير) في شرف المصطفى، صلى الله عليه وسلم. وعن عقيل ابن أبي طالب، قال: كنا إذا أصبحنا وليس عندنا طعام قال لنا أبي ائتوا زمزم فنأتيها فنشرب منها فنجتزىء، وروى الدارقطني من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: (وهي هزمة جبريل وسقيا إسماعيل)، وذكر الزمخشري في (ربيع الأبرار) أن جبريل، عليه السلام، أنبط بئر زمزم مرتين: مرة لآدم، عليه السلام، حتى انقطعت زمن الطوفان، ومرة لإسماعيل عليه السلام، وروى ابن ماجة بإسناد جيد: (أن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال لرجل: إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة، واذكر اسم الله، عز وجل، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم). وروى الدارقطني أن عبد الله كان إذا شرب منها، قال: اللهم إني أسأك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء. وروى أحمد بإسناد جيد من حديث جابر في ذكر حجته، عليه السلام، ثم عاد إلى الحجر ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه، ثم رجع فاستلم الركن... الحديث.
6361 وقال عبدان أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال أنس بن مالك كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فرج سقفي وأنا بمكة فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا افتح قال من هاذا قال جبريل.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم غسله بماء زمزم)، فإن ذكر زمزم جاء في الحديث وهو يدل على فضل زمزم حيث اختص غسله
277

بها دون غيرها من المياه، كما ذكرناه عن قريب. وقد أخرج هذا الحديث في: باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، في أول كتاب الصلاة مسندا عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنهما، قال: كان أبو ذر يحدث... إلى آخره، وذكره هنا مختصرا معلقا عن عبدان، واسمه عبد الله بن عثمان المروزي عن عبد الله ابن المبارك المروزي عن يونس بن يزيد الأيلي عن محمد بن مسلم الزهري، رضي الله تعالى عنه... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
7361 حدثنا محمد هو ابن سلام قال أخبرنا الفزاري عن عاصم عن الشعبي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حدثه قال سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم قال عاصم فحلف عكرمة ما كان يومئذ إلا على بعير.
(الحديث 7361 طرفه في: 7165).
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه ذكر زمزم.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن سلام بن الفرج أبو عبد الله البيكندي. الثاني: الفزاري، بكسر الفاء بعدها الزاي، وهو مروان بن معاوية. الثالث: عاصم
بن سليمان الأحول. الرابع: عامر بن شراحيل الشعبي. الخامس: عكرمة مولى ابن عباس. السادس: عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه ذكر مجردا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: هو ابن سلام، بذكر أبيه. وفيه: أن الفزاري والشعبي كوفيان، وأن عاصما بصري. وفيه: أن الفزاري والشعبي مذكوران بالنسبة، وأن شيخه في أكثر الرواية وعاصما مذكوران مجردين عن النسبة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الأشربة عن أبي نعيم عن سفيان الثوري. وأخرجه مسلم في الأشربة عن أبي كامل الجحدري، وعن محمد بن عبد الله بن نمير، وعن شريح بن يونس وعن يعقوب الدورقي وإسماعيل بن سالم وعن عبد الله بن معاذ وعن محمد بن بشار وعن محمد بن المثنى. وأخرجه الترمذي في الأشربة عن أحمد بن منيع، وفي الشمائل عن علي بن حجر. وأخرجه النسائي في الحج عن علي بن حجر به، وعن زياد بن أيوب وعن يعقوب الدورقي. وأخرجه ابن ماجة في الأشربة عن سويد بن سعيد.
ذكر معناه: قوله: (وهو قائم)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (فحلف عكرمة: ما كان) أي: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يعني يوم سقى ابن عباس، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من ماء زمزم، وفي لفظ ابن ماجة، قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة فحلف بالله ما فعل! أي: ما شرب قائما لأنه كان حينئذ راكبا.
ذكر ما يستفاد منه فيه: الرخصة في الشرب قائما. وقيل: إن الشرب من زمزم من غير قيام يشق لارتفاع ما عليها من الحائط. وقال ابن بطال: أراد البخاري أن الشرب من ماء زمزم من سنن الحج. فإن قلت: روى ابن جرير عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يشرب منها في الحج قلت: لعله إنما تركه لئلا يظن أن شربه من الفرض اللازم، وقد فعله أولا مع أنه كان شديد الاتباع للآثار، بل لم يكن أحدا تبع لها منه، ونص أصحاب الشافعي على شربه، وقال وهب بن منبه: نجدها في كتاب الله: شراب الأبرار، وطعام طعم وشفاء سقم، لا تنزح ولا تزم، من شرب منها حتى يتضلع أحدثت له شفاء وأخرجت عنه داء.
واعلم أنه روي في الشرب قائما أحاديث كثيرة. منها: النهي عن ذلك، وبوب عليه مسلم بقوله: باب الزجر عن الشرب قائما. وحدثنا هداب بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، زجر عن الشرب قائما، وفي لفظ له عن أنس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة: فقلنا: فالأكل؟ قال: ذاك أشد وأخبث. وفي رواية عن أبي سعيد الخدري أن النبي، صلى الله عليه وسلم، زجر عن الشرب قائما. وفي لفظ: نهى عن الشرب قائما، وفي رواية له عن أبي هريرة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستق). وروى الترمذي من حديث الجارود بن المعلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن الشرب قائما. ومنها: إباحة الشرب قائما، فمن ذلك
278

ما رواه البخاري وبوب عليه: باب الشرب قائما، على ما يأتي، فقال: حدثنا أبو نعيم حدنا مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال، قال: أتى علي.، رضي الله تعالى عنه، على باب الرحبة بماء، فشرب قائما، فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فعل كما رأيتموني فعلت). ورواه أبو داود أيضا، وروى الترمذي من حديث ابن عمر، قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام). وقال: هذا حديث صحيح غريب، وروى أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا). وقال: هذا حديث حسن، وروى الطحاوي، وقال: حدثنا ربيع الجيزي قال: حدثنا إسحاق ابن أبي فروة المدني، قال: حدثتنا عبيدة بنت نابل عن عائشة بنت سعد...) عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائما). ورواه البزار أيضا في (مسنده) نحوه، وروى الطحاوي أيضا، فقال: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الكريم ابن مالك: (قال: أخبرني البراء بن زيد أن أم سليم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب وهو قائم في قربة). وفي لفظ له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وفي بيته قربة معلقة، فشرب من القربة قائما. وأخرجه أحمد والطبراني أيضا. وقال النووي: إعلم أن هذه الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء، حتى قال فيها أقوالا باطلة، والصواب منها: أن النهي محمول على كراهة التنزيه، وأما شربه قائما فلبيان الجواز، ومن زعم نسخا فقد غلط، فكيف يكون النسخ مع إمكان الجمع، وإنما يكون نسخا لو ثبت التاريح فأنى له ذلك؟ وقال الطحاوي ما ملخصه: أنه صلى الله عليه وسلم أراد بهذا النهي الإشفاق على أمته، لأنه يخاف من الشرب قائما الضرر، وحدوث الداء، كما قال لهم: أما أنا فلا آكل متكئا. انتهى. قلت: اختلفوا في هذا الباب بحسب اختلاف الأحاديث فيه، فذهب الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة: إلى كراهة الشرب قائما. وروي ذلك عن أنس، رضي الله تعالى عنه، وذهب الشعبي وسعيد بن المسيب وزادان وطاووس وسعيد بن جبير ومجاهد إلى أنه لا بأس به، ويروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وسعد وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله وابن الزبير وعائشة، رضي الله تعالى عنهم.
77
((باب طواف القارن))
أي: هذا باب في بيان طواف القارن، فهل يكتفي بطواف واحد. أو لا بد له من طوافين، وإنما لم يبين ذلك، بل أطلق للاختلاف فيه على ما يجيىء بيانه، إن شاء الله تعالى.
8361 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما فقدمت مكة وأنا حائض فلما قضينا حجنا أرسلني مع عبد الرحمان إلى التنعيم فاعتمرت فقال صلى الله عليه وسلم هاذه مكان عمرتك فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة) لأنه هو القارن، فيه بيان طوافه أنه واحد، والحديث قد مضى في: باب كيف تهل الحائض والنفساء، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن مسلمة عن مالك، وهنا: عن عبد الله ابن يوسف عن مالك، وقد مر الكلام فيه مستقصى، ولكن نتكلم فيه للرد على بعضهم في رده على الإمام أبي جعفر الطحاوي من غير وجه لأريحية العصبية فيه.
فنقول أولا ما ذكره الطحاوي، فقال: باب القارن كم عليه من الطواف لعمرته ولحجته؟ حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ومحمد بن إدريس المكي قالا: حدثنا سعيد بن منصور، قال: حدثنا عبد العزيز
279

ابن محمد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحرم بالحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد، ثم لا يحل حتى لا يحل منهما جميعا، ثم قال: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: على القارن بين الحج والعمرة طواف واحد لا يجب عليه من الطواف غيره، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يطوف لكل واحد منهما طوافا واحدا ويسعى سعيا واحدا، وكان من الحجة لهم في ذلك أن هذا الحديث خطأ أخطأ فيه الدراوردي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أصله عن ابن عمر نفسه، هكذا رواه الحفاظ وهم مع هذا لا يحتجون بالدراوردي، عن عبيد الله أصلا، فلم يحتجون له في هذا، فأما ما رواه الحفاظ من ذلك عن عبيد الله، فما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: حدثنا سعيد ابن منصور، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا عبد الله عن نافع عن ابن عمر، أنه كان يقول: إذا قرن طاف لهما طوافا واحدا، فإذا فرق طاف لكل منهما طوافا، وسعى سعيا انتهى. ثم قال هذا القائل، بعد أن نقل كلام الطحاوي، وهو تعليل مردود، فالدراوردي صدق، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره، فلا مانع أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين. انتهى. قلت: المردود ما قاله وذهب إليه من غير تحقيق النظر فيه، فهل يحل رد ما لا يرد لأجل ما قصر فيه فهمه، وكثر تعنته ومصادمته للحق الأبلج؟ أفلا وقف هذا على ما قاله الترمذي بعد أن ذكر الحديث المذكور؟ وقد رواه غير واحد عن عبيد الله ولم يرفعوه، وهو أصح. وقال أبو عمر في (الاستذكار): لم يرفعه أحد عن عبيد الله غير الدراوردي وكل من رواه عنه غيره، أوقفه على ابن عمر، وكذا رواه مالك عن نافع موقوفا، وقال أبو زرعة: الدراوردي سئ الحفظ، ذكره عنه الذهبي في (الكاشف). وقال النسائي: ليس بالقوي، وحديثه عن عبيد الله منكر، وقال ابن سعد: كان كثير الحديث يغلط.
ثم قال هذا القائل: واحتجت الحنفية بما روي عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، وطريقه عن علي عند عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما ضعيفة، وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك، وفيه: الحسن بن عمارة وهو متروك. انتهى. قلت: حديث علي، رضي الله تعالى عنه، رواه النسائي في (سننه الكبرى) عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري (عن إبراهيم بن محمد، قال: طفت مع أبي، وقد جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين، وسعى لهما سعيين، وحدثني أن عليا، رضي الله تعالى عنه، فعل ذلك، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
فإن قلت: قال صاحب (التنقيح) وحماد: هذا ضعفه الأزدي؟ قلت: ذكره ابن حبان في (الثقات) وأخرجه الدارقطني من وجوه عن الحسن ابن عمارة، ثم قال: وهو متروك، وعن حفص بن أبي داود عن ابن أبي ليلى. وقال حفص: ضعيف، وعن عيسى بن عبد الله ابن علي، ثم قال: وهو متروك، قلت: إذا كثرت طرق الحديث، ولو كان فيها ضعفاء تتعاضد وتتقوى.
وروى الطحاوي أيضا (عن أبي النضر، قال: أهللت بالحج فأدركت عليا فقلت له: إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضيف إليه عمرة؟ قال: لا لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج ضممته. قال: قلت: كيف أصنع إذا أردت ذلك؟ قال: تصب عليك إداوة ماء، ثم تحرم بهما جميعا وتطوف لكل واحد منهما طوافا)، وعنه عن علي وعبد الله قالا: القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين ثم اعترض هذا القائل أيضا على الطحاوي حيث قال، في قول عائشة: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافا واحدا، أن مرادها جمعوا بين الحج والعمرة جمع متعة لا جمع قران، بقوله: وإني لكثير التعجب منه في هذا الموضع، كيف ساغ له هذا التأويل؟ وحديث عائشة مفصل للحالتين، فإنها صرحت بفعل من تمتع، ثم بمن قرن حيث، قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى، فهؤلاء أهل التمتع، ثم قالت: وأما الذين جمعوا، إلى آخره، فهؤلاء أهل القران، وهذا أبين من أن يحتاج إلى بيان. انتهى. قلت: هذا الذي ذكره متعجبا أخذه من كلام البيهقي، فإنه شنع على الطحاوي في كتاب (المعرفة) بغير معرفة، حيث قال: وزعم بعض من يدعي في هذا تصحيح الأخبار على مذهبه، إنما أرادت بهذا الجمع جمع متعة لا جمع قران. قالت: فإنما طافوا طوافا واحدا في حجتهم، لأن حجتهم كانت مكية، والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة، وكيف استجاز لدينه أن يقول مثل هذا، وفي حديثها أنها أفردت من جمع بينهما جمع متعة أولا بالذكر، فذكرت كيف طافوا في عمرتهم ثم كيف طافوا في حجتهم، ثم لم يبق إلا المفردون والقارنون،
280

فجمعت بينهم في الذكر، وأخبرت أنهم إنما طافوا طوافا واحدا، وأنها أرادت بين الصفا والمروة، ولما ذكرنا من الدلالة مع كونه معقولا، ولو اقتصرت على اللفظة
الأخيرة لم يجز حملها أيضا، لأنها تقتضي اقتصارا على طواف واحد لكل ما حصل به الجمع، والجمع إنما حصل بالعمرة والحج جميعا، فيقتضي اقتصارا على طواف واحد لهما جميعا لا لأحدهما، والمتمتع لا يقتصر على طواف واحد بالإجماع، فدل على أنها أرادت بهذا الجمع جمع قران. انتهى. قلت: لم يتأمل البيهقي كلام الطحاوي لغشيان التعصب على فكره، ألا ترى كيف يؤول قولها: فإنما طافوا طوافا واحدا أنها أرادت بهذا السعي بين الصفا والمروة، فما الضرورة إلى تأويل الطواف بالسعي؟ بل المراد الطواف بالبيت. وقوله: تقتضي اقتصارا على طواف واحد... إلى آخره، ليس كذلك لأنه قال: إن حجتهم تلك صارت مكية والحجة المكية يطاف لها بعد عرفة، فإذا كان كذلك لا يقتصر المتمتع على طواف واحد، على أنا نقول: أحاديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، في هذا الباب مضطربة جدا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم. وقد قالت في رواية: أهللنا بعمرة وفي أخرى فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج. قالت: ولم أهل إلا بحج، وفي أخرى: خرجنا لا نريد إلا الحج، وفي أخرى لبينا بالحج، وفي أخرى: مهلين بالحج، والكل صحيح. وفي رواية: وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي حتى، قال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة قديما وحديثا.
وسأل الكرماني عن وجه الجمع بين هذه الروايات، ثم قال: قالوا وجهه أنهم أحرموا بالحج، ثم لما أمرهم بالفسخ إلى العمرة أحرم أكثرهم متمتعين، وبعضهم بسبب الهدي بقوا على ما كانوا عليه، وبعضهم صاروا قارنين، ثم قال هذا القائل المعترض: قال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل، قال: حلف طاووس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجه وعمرته إلا طوافا واحدا، وهذا إسناد صحيح. وفيه: بيان ضعف ما روى عن علي وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهما من ذلك، انتهى. قلت: ليس شعري ما وجه هذا البيان؟ وعجبي كيف يلهج هذا القائل بهذا القول الذي لا يجديه شيئا؟ ونقل هذا اليمين عن طاووس كاد أن يكون محالا لعدم القدرة على الإحاطة على أطوفة الصحابة أجمعين، والكلام أيضا في الرواة من دون عبد الرزاق.
قوله: (فلما قضينا حجنا)، وذلك بعد أن طهرت وطافت بالبيت أرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخيها عبد الرحمن ابن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، إلى التنعيم، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون، وبالعين المهملة المكسورة، وهو على ثلاثة أميال من مكة. قوله: (مكان عمرتك)، نصب على الظرف أي بدل عمرتك، وقيل: إنما قال ذلك تطييبا لقلبها، ويقال: معناه مكان عمرتك التي تركتها لأجل حيضك. قوله: (فإنما طافوا)، وفي كثير من النسخ طافوا بدون لفظ، فإنما، وبدون الفاء في طافوا، وهذا دليل جواز حذف الفاء في جواب: أما، مع أن النحاة صرحوا بلزوم ذكره إلا في ضرورة الشعر، وقال بعضهم: لا يجوز حذف الفاء مستقلا، لكن يجوز حذفها مع القول، كما في قوله تعالى: * (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتهم بعد إيمانكم) * (آل عمران: 601). إذ تقديره: فالقول لهم هذا الكلام، وقال ابن مالك، هذا الحديث وأخواته كقوله، صلى الله عليه وسلم: (أما موسى كأني أنظر إليه)، وأما بعد: ما بال رجال يشترطون شروطا)، فمخالف لهذه القاعدة، فعلم أن من خصه بما إذا حذف القول معه فهو مقصر في فتواه، عاجز عن نصرة دعواه.
9361 حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال فيصدوك عن البيت فلو أقمت فقال قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ثم قال أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حجا قال ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فطاف لهما طوافا واحدا)، وهذا طواف القارن عنده كما ذهب إليه الشافعي، ومن قال بقوله.
ذكر
281

رجاله: وهم خمسة: الأول: يعقوب بن إبراهيم بن كثير الدورقي، يكنى بأبي يوسف. الثاني: إسماعيل بن علية، بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف: وهو اسم أمه، وأبوه إبراهيم بن سهم، وقد مر غير مرة. الثالث: أيوب السختياني وقد مر غير مرة. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه هو شيخ مسلم أيضا وينسب إلى دورق فيقال له الدورقي، وليس من بلد دورق، وإنما كانوا يلبسون قلانس تسمى الدورقية، فنسبوا إليها. وفيه: أن ابن علية وأيوب بصريان ونافعا مدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج عن أبي النعمان عن حماد، وأخرجه مسلم فيه عن أبي الربيع وأبي كامل وعن علي بن حجر وزهير بن حرب.
ذكر معناه: قوله: (دخل ابنه) أي: ابن عبد الله بن عمر. قوله: (عبد الله بن عبد الله) هو بيان له. قوله: (وظهره) بالرفع مبتد وقوله: (في الدار)، خبره، والجملة وقعت حالا، والمراد من الظهر مركوبه الذي يركبه من الإبل، وحاصل المعنى أن عبد الله بن عمر كان عازما على الحج، وأحضر مركوبه ليركب عليه، ويتوجه فقال له ابنه عبد الله، إني لا آمن أن يكون العام، أي: في هذا العام قتال فيصدوك أي يمنعوك عن البيت، وذلك كان في عام نزل الحجاج لقتال عبد الله بن الزبير، وصرح بذلك مسلم في روايته، فقال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، وهو القطان عن عبيد الله قال: (حدثني نافع أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير قالا: لا يضرك أن لا تحج العام؟ فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت. قال: إن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا معه: حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت أشهدكم أني قد أوجبت عمرة: فانطلق...) الحديث. قوله: (إني لا
آمن) بالمد، وفتح الميم المخففة أي: أخاف، هذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي (إني لا أيمن)، بكسر الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الميم، وهي لغة تميم، فإنهم يكسرون الهمزة في أول مستقبل ماضيه على: فعل، بالكسر ولا يكسرون إذا كان ماضيه بالفتح إلا أن يكون فيه حرف حلق نحو: إذهب والحق. وقيل: قوله: (لا أيمن)) بالكسر إمالة، ووقع في بعض الكتب: لا أيمن، بالفتح والياء، ولا وجه له فاعلم. قوله: (فلو أقمت) يحتمل أن يكون كلمة: لو، للتمني فلا تحتاج إلى جواب، ويحتمل أن تكون للشرط وجزاؤه محذوف أي: فلو أقمت: في هذه السنة، وتركت الحج لكان خيرا لعدم الأمن. قوله: (فقال) أي: عبد الله بن عمر لأبنه عبد الله. قوله: (إفعل) بالجزم، لأنه جزاء، والجزم فيه واجب، ويجوز فيه الرفع على تقدير: أنا أفعل. قوله: (كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني في الحديبية حين منعوه عن دخول مكة وقصته مشهورة. قوله: (ثم قدم) أي: إلى مكة. قوله: (لهما)، أي: للعمرة والحج، وبه احتج الشافعي ومن معه في أن القارن يكفي له طواف واحد، ولا حجة لهم فيه، لأن المراد من هذا الطواف طواف القدوم.
0461 حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال وإنا نخاف أن يصدوك فقال لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد اشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي وأهدى هديا اشتراه بقديد ولم يزد على ذالك فلم ينحر ولم يحل من شيء حرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في قوله بطوافه الأول، وهذا طريق ثان للحديث السابق، رواه عن قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد عن نافع إلى قوله: (عام نزل الحجاج)، عام، منصوب على الظرف، والحجاج هو ابن يوسف الثقفي، كان متولي العراقين
282

من جهة الملك عبد الملك بن مروان، وأمره عبد الملك أن يتوجه إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، لأنه دعى له بالخلافة فلم يطع عبد الملك، فقدم الحجاج إلى مكة في سنة اثنتين وسبعين، وأقام الحصار عليه من أول شعبان منها، وقصته مشهورة. قوله: (بابن الزبير)، أي: نزل الحجاج ملتبسا به على وجه المقاتلة. قوله: (فقيل له) أي: لابن عمر، وقد صرح في (صحيح مسلم) أن عبد الله وسالما ابني عبد الله بن عمر هما القائلان بذلك، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى، وهو القطان عن عبيد الله إلى آخره، وقد ذكرناه عن قريب في هذا الباب. قوله: (كائن بينهم قتال)، جملة في محل الرفع لأنها خبر إن، وقتال مرفوع بأنه فاعل كائن، ويجوز أن ينتصب على التمييز أو على الاختصاص. قوله: (إذا) كلمة: إذن، حرف جواب وجزاء وشرط إعمالها أن تتصدر، فإن وقعت حشوا أهملت، وإن كان السابق عليها واوا أو فاء جاز النصب نحو: وإذا لا يلبثوا فأذن لا يؤتوا، والغالب الرفع، وإذا كان فعلها مستقبلا يجب الرفع كما هو هنا. قوله: (إني أشهدكم) إنما قال هذا ولم يكتف بالنية ليعمله من أراد الاقتداء به. قوله: (البيداء) موضع بين مكة والمدينة قدام ذي الحليفة، وهو في الأصل الأرض الملساء والمفازة. قوله: (إلا واحد)، بالرفع ويروى: واحدا، بالنصب على مذهب يونس، فإنه جوزه مستشهدا بقوله:
* وما الدهر إلا منجنونا بأهله
* وما صاحب الحاجات إلا معذبا
*
يعني: حكمهما واحد في جواز التحلل منهما بالإحصار. قوله: (وأهدى) فعل ماض من الإهداء. قوله: (بقديد)، بضم القاف وفتح الدال المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وهو اسم موضع بين مكة والمدينة، وهو في الأصل اسم ماء هناك. قوله: (ولم يزد على ذلك)، لأنه لم يجب عليه دم بارتكاب محظورات الإحرام. قوله: (حتى كان)، لفظ: حتى، غاية للأفعال الأربعة. قوله: (قضى)، معناه: أدى. قوله: (كذلك فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم) أي: طاف طوافا واحدا. وقال الكرماني: وهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا. قلت: غرضه من هذا أن القارن يكتفي بطواف واحد لأنه قال: لا يجوز أن يراد بقوله: الطواف الأول طواف القدوم، بل معناه أنه لم يتكرر الطواف للقرآن، بل يكتفى بطواف واحد. والتحقيق في هذا المقام أن يقال لمن احتج بهذا الحديث في اكتفاء القارن بطواف واحد، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا، كيف تعملون به؟ وقد روى الزهري عن سالم أن عبد الله بن عمر قال: تمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى وساق الهذي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، الحديث بطوله، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، على ما يأتي عن البخاري في موضعه إن شاء الله تعالى. قال الطحاوي: فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في حجة الوداع متمتعا وأنه بدأ بالعمرة، وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن بكر بن عبد الله عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قدموا ملبين بالحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي فأخبر ابن عمر في حديث بكر هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يلبي بالحج، وقد أخبر في حديث سالم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ فأحرم بالعمرة، فهذا معناه عندنا، والله أعلم، أنه كان أحرم أولا بحجة على أنها حجة، ثم فسخها فصيرها عمرة، فلبى بالعمرة ثم تمتع بها إلى الحج، حتى يصح حديث سالم وبكر، هذين ولا يتضادان، وفسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه هو بعد طوافهم بالبيت فاستحال
بذلك أن يكون الطواف الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله للعمرة الني انقلبت إليها حجته مجزيا عنه من طواف حجته التي أحرم بها بعد ذلك، ولكن وجه ذلك عندنا، والله تعالى أعلم أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر في الحجة إنما يفعل للقدوم لا لأنه من صلب الحجة، فاكتفى ابن عمر بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته، وهذا مثل ما روي عن ابن عمر أيضا من فعله: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان إذا قدم مكة يرمل بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة، وإذا لبى من مكة بها لم يرمل بالبيت، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر، وكان لا يرمل يوم النحر، فدل ما ذكرنا أن ابن عمر كان إذا أحرم بالحجة من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر، فكذلك ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخ حجته
283

الأولى لم يكن طاف لها إلى يوم النحر، فليس في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حكم طواف القارن لعمرته وحجته شيء، وثبت بما ذكرنا ما ذهبنا إليه من أن القارن لا يكتفي بطواف واحد، والله أعلم بالصواب.
87
((باب الطواف على وضوء))
أي: هذا باب في بيان الطواف على الوضوء، وإنما أطلق ولم يبين أن الوضوء مشرط في الطواف أم لا لمكان الاختلاف فيه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
1461 حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمان بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير فقال قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر رضي الله تعالى عنه فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك ثم حج عثمان رضي الله تعالى عنه فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع ابن الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة وهاذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا يحلان. وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ)، وقد مر الحديث في: باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة، فإنه أخرجه هناك: عن إصبغ عن ابن وهب المصري إلى آخره مختصرا. وأخرجه هنا بأتم منه عن أحمد بن عيسى أبي عبد الله التستري، مصري الأصل، وكان يتجر إلى تستر، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين. يروي عن عبد الله ابن وهب المصري.
قوله: (سأل عروة بن الزبير) فقال: فيه حذف تقديره سأل عروة بن الزبير كيف بلغه خبر حج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي: عروة، قد حج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (حين قدم) أي: مكة. قوله: (ثم لم تكن عمرة) بالرفع والنصف على تقدير كون: لم تكن، تامة أو ناقصة. قوله: (ثم عمر) أي: ثم حج عمر، رضي الله تعالى عنه، مثل ذلك أي: مثل ما حج أبو بكر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فرأيته أول شيء) لفظ أول بالنصب لأنه بدل عن الضمير. قوله: (الطواف) بالنصب أيضا لأنه مفعول ثان. قوله: (ثم معاوية) أي: ثم حج معاوية بن أبي سفيان. قوله: (مع أبي الزبير) ليس بكنية، بل قوله: الزبير، بالجر بدل من قوله: (أبي)، لأن عروة يقول: (ثم حججت مع أبي)، هو الزبير بن العوام. قوله: (ثم لم ينقضها عمرة) أي: ثم لم ينقض حجتها عمرة أي لم يفسخها إلى العمرة. قوله: (فلا يسألونه؟) الهمزة فيه مقدرة أي: أفلا يسألون عبد الله بن عمر. قوله: (ولا أحد)، عطف على فاعل لم ينقضها أي: لم ينقض ابن عمر حجته ولا أحد من السلف الماضين. قوله: (ما كانوا يبدأون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف)، قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ: أول، بعد لفظ: أقدامهم، وقال الكرماني: الكلام صحيح بدون زيادة إذ معناه ما كان أحد منهم يبدأ بشيء آخر حين يضع قدمه في المسجد لأجل الطواف، أي: لا يصلون تحية المسجد ولا يشتغلون بغير الطواف، وصوب بعضهم كلام ابن بطال، لأن جعل: من، بمعنى: من أجل، قليل وأيضا فقد ثبت
284

لفظ أول في بعض الروايات. قلت: وقوله: لأن جعل: من، بمعنى: من أجل، قليل، غير مسلم، بل هو كثير في الكلام لأن أحد معاني: من، للتعليل كما عرف في موضعه. وقوله: وأيضا فقد ثبت لفظ أول في بعض الروايات مجرد دعوى فلا تقبل إلا ببيان. وقوله: حتى يضعوا، بكلمة: حتى التي للغاية رواية الكشميهني، وفي رواية غيره حين يضعون ففي الأول حذفت النون من: يضعون، لأن أن الناصبة مقدرة بعد كلمة: حتى، وعلامة النصب في الجمع سقوط النون، وسأل الكرماني في هذا الموضع: بأن المفهوم من هذا التركيب أن السلف كانوا يبتدئون بالشيء الآخر إذ نفي النفي إثبات، وهو نقيض المقصود؟ ثم أجاب بقوله: إن لفظ: ما كانوا، تأكيد للنفي السابق أو هو ابتداء الكلام. قوله: (أمي)، هي أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، زوجة الزبير، رضي الله تعالى عنه. قوله: (وأختها) أي: أخت أمي، وهي: عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فلما مسحوا الركن حلوا)، معناه: طافوا وسعوا وحلقوا حلوا، وإنما حذفت هذه المقدرات للعلم بها. وقال الكرماني: فإن قلت: هذا مناف لقوله: إنهما لا يحلان، وما الفائدة في ذكره؟ قلت: الأول في الحج والثاني في العمرة وغرضه أنهم كانوا إذا أحرموا بالعمرة يحلون بعد الطواف ليعلم أنهم إذا لم يحلوا بعده لم يكونوا معتمرين ولا فاسخين للحج إليها، وذلك لأن الطواف في الحج للقدوم وفي العمرة للركن، ثم إعلم أن
الداودي قال: ما ذكر من حج عثمان هو من كلام عروة، وما قبله من كلام عائشة، وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله: ثم لم تكن عمرة، ومن قوله: ثم حج أبو بكر... إلى آخره من كلام عروة. قلت: على قول الداودي يكون الحديث كله متصلا، وعلى قول أبي عبد الملك: يكون بعضه منقطعا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر، بل أدرك عثمان، رضي الله تعالى عنه.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به من يرى بوجوب الطهارة للطواف كالصلاة، ولا حجة لهم في ذلك، لأن قلوه: إنه توضأ لا يدل على وجوب الطهارة قطعا لاحتمال أن يكون وضوءه عليه الصلاة والسلام على وجه الاستحباب. وقال صاحب (التوضيح): الدليل على الوجوب أن الطواف مجمل في قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 92). وفعله صلى الله عليه وسلم خرج مخرج البيان. قلت: لا نسلم أنه مجمل، إذ معناه الدوران حول البيت فإن قلت قال صلى الله عليه وسلم (الطواف) بالبيت صلاة قلت التشبيه لا عموم له ولهذا لا ركوع فيها ولا سجود ولو كان حقيقة لكان احتاج إلى تحليل وتسليم واحتج به أيضا من يرى أن الأفراد بالحج هو الأفضل ولا حجة لهم في ذلك لوجود أحاديث كثيرة دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وقد ذكرنا الاختلاف فيه في هذا الكتاب والله أعلم.
((باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله))
أي هذا باب في بيان وجوب السعي بين الصفا والمروة وإنما قدرنا هكذا لأن الوجوب يتعلق بالأفعال لا بالذوات قال الجوهري الصفا موضع بمكة وهو في الأصل جمع صفاة وهي صخرة ملساء ويجمع على أصفاء وصفا وصغى على وزن فعول. والصفا أيضا اسم بالبحرين والصفا بالمد خلاف الكدر.
والمروة مروة السعي التي تذكر مع الصفا وهو أحد رأسيه الذي يتنهي السعي إليهما وهو في الأصل حجر أبيض براق وقيل هي التي يقدح منها النار قوله (وجعل) على صيغة المجهول أي جعل وجوب السعي بين الصفا والمروة كما ذكرنا وقال صاحب التلويح وجعل من شعائر الله كذا في نسخة السماع وفي أخرى وجعلا أي الصفا والمروة والشعائر جمع شعيرة وقيل هي جمع شعارة بالكسرة كذا في الموعب وقال الجوهري الشعائر أعمال الحج وكل ما جعل علما لطاعة الله تعالى وقال أبو عبيد واحدة الشعائر شعيرة وهو ما ؤشعر لهى إلى البيت الله تعالى وقال الزجاج هي جميع متعبدات الله التي أشعرها الله أي جعلها أعلى ما لنا وهي كل ما كنا من موقف أو مسعى أو مذبح وإنما قيل الشعائر لكل عمل مما تعبد به لأن قولهم شعرت به علمته فلهذا سميت الأعلامالتي هي متعبدات لله شعائر. وقال الحسن شعائر الله دين الله تعالى.
حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال عروة سألت عائشة رضي الله
285

عنها فقلت لها أرأيت قول الله تعالى * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * (البقرة: 851). فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة قالت بئس ما قلت يا ابن أختي إن هاذه لو كانت كما أولتها عليه أن لا يتطوف بهما ولاكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذالك قالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمان فقال إن هاذا لعلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا يا رسول الله كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة فأنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية قال أبو بكر فأسمع هاذه الآية نزلت في الفريقين كليهما في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذالك بعد ما ذكر الطواف بالبيت.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، والزهري هو محمد بن مسلم، وأخرجه النسائي في الحج وفي التفسير.
ذكر معناه: قوله: (أرأيت؟) أخبريني عن مفهوم هذه الآية، إذ مفهومها عدم وجوب السعي بين الصفا والمروة إذ فيه عدم الإثم على الترك، فقالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: مفهومها ليس ذلك، بل عدم الإثم على الفعل، ولو كان على الترك لقيل: أن لا يطوف، بزيادة: لا، والتحقيق هنا أن عروة، رضي الله تعالى عنه، أول الآية بأن لا شيء عليه في تركه، لأن هذا اللفظ أكثر ما يستعمل في المباح دون الواجب، وأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أجابت بأن الآية ساكتة عن الوجوب وعدمه، لأنها ليست بنص في سقوط الواجب، ولو كانت نصا لكان يقول: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، لأن هذا يتضمن سقوط الإثم عمن ترك الطواف، ولم يكن ذلك إلا بسبب الأنصار، وقد يكون الفعل واجبا، ويعتقد المعتقد أنه منع من إيقاعه على صفه، وهذا كمن عليه صلاة ظهر، فظن أن لا يسوغ له إيقاعها بعد المغرب، فسأل فقيل: لا حرج عليك إن صليت، فيكون الجواب صحيحا، ولا يقتضي نفي وجوب الظهر عليه، وقد وقع في القراءة الشاذة، فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، كما قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها، حكاه الطبري وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر وغيرهم عن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وأجاب الطبري: أنها محمولة على القراءة المشهورة، وكلمة: لا، زائدة، وكذا قال الطحاوي: وقيل: لا حجة في الشواذ إذا خالفت المشهورة، وقال الطحاوي أيضا: لا حجة لمن قال إن السعي مستحب بقوله: * (فمن تطوع خيرا) * (البقرة: 481). لأنه راجع إلى أصل الحج والعمرة لا إلى خصوص السعي لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع، والله أعلم. قوله: (يهلونه) أي: يحجونه. قوله: (لمناة)، بفتح الميم
286

وتخفيف النون وبعد الألف تاء مثناة من فوق، وهو اسم صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو ابن لحي بجهة البحر فكانوا يعبدونها، وقيل: هي صخرة لهذيل بقديد وسميت مناة لأن النسائك كانت تمنى بها أي: تراق. وقال الحازمي: هي على سبعة أميال من المدينة وإليها نسبوا زيد مناة. قوله: (الطاغية)، صفة لمناة إسلامية، وهي على زنة فاعلة من الطغيان، ولو روي: لمناة الطاغية، بالإضافة ويكون الطاغية صفة للفرقة وهم الكفار لجاز. قوله: (عند المشلل)، بضم الميم وفتح الشين المعجمة، وتشديد اللام الأولى المفتوحة اسم موضع قريب من قديد من جهة البحر، ويقال: هو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر، وقال البكري: هي ثنية مشرفة على قديد. وقال السفاقسي: هي عند الجحفة، وفي رواية لمسلم عن سفيان عن الزهري بالمشلل من قديد، وفي رواية للبخاري في تفسير البقرة من طريق مالك (عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قلت لعائشة: وأنا يومئذ حديث السن...) فذكر الحديث، وفيه: (كانوا يهلون لمناة، فكانت مناة حذو قديد) أي: مقابله، وقد مر أن قديدا، بضم القاف: قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه، قاله البكري. قوله: (يتحرج) أي: يحترز من الحرج، ويخاف الإثم. قوله: (فلما أسلموا) أي: الأنصار. قوله: (عن ذلك) أي: الطواف بالصفا والمروة. قوله: (إنا كنا نتحرج...) إلى آخره، وفي رواية مسلم: أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وكان ذلك سنة في آبائهم، من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، وإنما كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما: أساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعونه في الجاهلية، فأنزل الله تعالى الآية. وفي لفظ إذا أهلوا لمناة لا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، ويقال: إن الأنصار قالوا: إنما أمرنا بالطواف ولم نؤمر بالسعي بين الصفا والمروة، فنزلت الآية وقال السدي: كان في الجاهلية تعرف الشياطين في الليل بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نضعه في الجاهلية، فنزلت الآية. وفي (الأسباب) للواحدي، قال ابن عباس: كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له: أساف، وعلى المروة صورة امرأة تدعى: نائلة، يزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة مسخهما الله تعالى حجرين، فوضعا على الصفا ليعتبر بهما فلما طالت المدة، عبدا، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فنزلت هذه الآية: وروى الطبري وابن أبي حاتم في التفسير بإسناد حسن من حديث ابن عباس قال: قالت الأنصار: إن السعي بين الصفا والمروة من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * (البقرة: 851). قوله: (وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: شرع وقال الكرماني: وجعل ركنا. وقال بعضهم: أي فرضه بالسنة، وليس مراد عائشة نفي فريضتها ويؤيده قولها لم يتم الله حج أحد ولا عمرته لم يلطف بينهما قلت قول الكرماني جعل ركنا غير موجه لأن لفظ سن لا يدل على معنى أنه جعله ركنا وإلا لا يبقى فرق بين السنة و الركن وكيف نقول أنه ركن وركن الشيء ما هو داخل في ذات الشيء ولم يقل أحد أن السعي بين الصفا والمروة داخل في ماهية الحج وكذا قول بعضهم أي فرضه بالسنة ليس مدلول اللفظ. وقوله ليس مراد عائشة نفي فرضيتها فنقول وكذا ألا يدل على إثبات فضيتها وقوله يؤيده قولها إلى آخره لا يؤيده أصلا ولا يدل على مدعاه لأن نفي إتمام الشيء لا يدل على نفي وجوده فعلى كل حال لا يثبت الفرضية غاية ما في الباب يدل على أنه سنة مؤكدة وهي في قوة الواجب ونحن نقول به وسيجئ بيان الخلاف قوله (ثم أجزت أبا بكر بن عبد الرحمن) المخبر هو الزهري أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ويقال له راهب قريش لكثرة صلاته ولد في خلافه عمر بن الخطاب ومات سنة أربع وتسعين قاله عمر وبن علي وفي روايته مسلم عن سفيان عن الزهري قال الزهري فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام، فأعجبه ذلك، قوله: (إن هذا العلم)، بفتح اللام التي هي للتأكيد، وتنكير العلم، وهي رواية الكشميهني وفي رواية الأكثرين أن هذا العلم أشار به إلى كلام عائشة. وقوله: (ما كنت سمعته) وقع خبرا لأن، ولفظ: كنت، بلفظ المتكلم، وكلمة: ما، نافية، وعلى رواية الكشميهني. قوله: (لعلم) خبر: إن، وكلمة: ما، موصولة. ولفظ: كنت، بلفظ المخاطب
287

وقال الكرماني، ما: موصولة منصوب على الاختصاص، أو مرفوع بأنه صفة له أو خبر بعد خبر. قوله: (ولقد سمعت رجالا) القائل بهذا هو أبو بكر بن عبد الرحمن المذكور. قوله: (إلا من ذكرت عائشة)، هذا الاستثناء معترض بين اسم: إن، وخبرها واسم: إن، هو قوله: (الناس) في قوله: إن الناس، وخبرها هو قوله: (ممن كان يهل بمناة)، ولفط مسلم: (ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية). وقال آخرون من الإنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * (البقرة: 851). قال أبو بكر بن عبد الرحمن، فأراها قد أنزلت في هؤلاء وهؤلاء. فإن قلت: ما وجه هذا الاستثناء؟ قلت: وجهه أنه أشار به إلى أن الرجال من أهل العلم الذين أخبروا أبا بكر بن عبد الرحمن أطلقوا ولم يخصوا بطائفة، وأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، خصت الأنصار بذلك، كما رواه الزهري عن عروة عنها، وهو في صدر الحديث، وهو قولها: ولكنها نزلت في الأنصار. قوله: (أن يطوف بالصفا)، بتشديد الطاء، وأصله: أن يتطوف، فأبدلت التاء طاء لقرب مخرجهما، ثم أدغمت الطاء في الطاء. قوله: (فاسمع هذه الآية) وهي قوله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) وقوله: (فأسمع)، بفتح الهمزة وضم العين على صيغة المتكلم من المضارع، وهكذا هو في أكثر الروايات، وضبطه الدمياطي في نسخته بدرج الهمزة وسكون العين على صيغة الأمر، فرواية مسلم: فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء، كما ذكرناه الآن تدل على أن رواية العامة أصوب. قوله: (في الفريقين)، وهما من الأنصار وقوم من العرب كما صرح به مسلم على ما ذكرناه. قوله: (كليهما)، يعني: كلا الفريقين، ويروى: كلاهما، قال الكرماني: هو على مذهب من يجعل المثنى في الأحوال كلها بالألف، ثم قال: والفريق الأول: هم الأنصار الذين يتحرجون احترازا من الصنمين، والثاني: هم غيرهم الذين يتحرجون بعدما كانوا يطوفون لعدم ذكر الله له. قوله: (حتى ذكر ذلك)
، أي: الطواف بينهما بعد ذكر الطواف بالبيت، وذكر الطواف بالبيت هو قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 92). وذكر الطواف بين الصفا والمروة هو قوله: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله) * (الحج: 92). بعد قوله: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * (الحج: 92). ووقع في رواية المستملي وغيره، حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت، قال بعضهم: وفي توجيهه عسر قلت: لا عسر فيه، فهذا لكرماني وجهه فقال: لفظ ما ذكره يدل عن ذلك، أو أن: ما، مصدرية والكاف مقدر كما في: زيد أسد، أي: ذكر السعي بعد ذكر الطواف كذكر الطواف واضحا جليا ومشروعا مأمورا به.
ذكر ما يستفاد منه: احتجت به الحنفية على أن السعي بين الصفا والمروة واجب، لأن قول عائشة، رضي الله تعالى عنهما، وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما، يدل على الوجوب، ورفع الجناح في الآية والتخيير ينفي الفرضية، لا سيما من مذهب عائشة، فيما حكاه الخطابي أن السعي بينهما تطوع، وما ذهب إليه الحنفية هو مذهب الحسن وقتادة والثوري، حتى يجب بتركه دم، وعن عطاء: سنة لا شيء فيه، وقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود: هو فرض لا يصح الحج إلا به، ومن بقي عليه شيء منه يرجع إليه من بلده، فإن كان وطئ النساء قبل أن يرجع كان عليه إتمام حجه أو عمرته، ويحج من قابل، ويهدي.. كذا حكاه ابن بطال عنهم، ونقل المروزي عن أحمد: أنه مستحب، واختار القاضي وجوبه وانجباره بالدم، وقال ابن قدامة: وهو أقرب إلى الحق، وعن طاووس: من ترك منه أربعة أشواط لزمه دم، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع، وليس هو بركن. وذكر ابن القصار عن القاضي إسماعيل أنه ذكر عن مالك فيمن تركه حتى تباعد، وأصاب النساء أنه يجزيه ويهدي، وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله تعالى في (شرحه للترمذي): اختلفوا في السعي بين الصفا والمروة للحاج على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه ركن لا يصح الحج إلا به. وهو قول ابن عمر وعائشة وجابر، وبه قال الشافعي ومالك في المشهور عنه، وأحمد في أصح الروايتين عنه وإسحاق وأبي ثور لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من رواية صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجرأة بإسناد حسن، وقال عبد العظيم: إنه حديث حسن قلت: قال ابن حزم في (المحلى): إن حبيبة بنت أبي تجرأة مجهولة، وقال شيخنا: هو مردود لأنها صحابية، وكذلك صفية بنت شيبة صحابية، والقول الثاني: إنه واجب يجبر بدم، وقال الثوري وأبو حنيفة ومالك في (العتبية) كما حكاه ابن العربي. والقول الثالث: إنه ليس بركن ولا واجب، بل هو سنة ومستحب، وهو قول ابن عباس وابن سيرين وعطاء ومجاهد وأحمد في رواية، ومن
288

طاف فقد حل. وقال شيخنا: قد يستدل برفع قوله: (خذوا عني مناسككم) على اشتراط الموالاة بين الطواف والسعي بحيث يضر الفصل الطويل، وهو أحد قولين فيما حكاه المتولي. وقال الرافعي: والظاهر أنه لا يقدح، قاله القفال وغيره.
08
((باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في السعي، أي: من كيفيته بين الصفا والمروة.
وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما السعي من دار بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين
مطابقته للترجمة من حيث إنه جاء في السعي بين الصفا والمروة أنه من دار بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين، وهذا تعليق وصله ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن عثمان بن الأسود عن مجاهد وعطاء: قال: رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إلى زقاق بني أبي حسين، وعزوا ذلك إلى ابن عمر، وذكره الفاكهي بأوضح منه من طريق ابن جريج: أخبرني نافع قال: نزل ابن عمر من الصفا حتى إذا حاذى باب بني عباد إلى زقاق ابن أبي حشين، قال سفيان: هو بين هذين العلمين. قوله: (بني عباد)، بفتح العين وتشديد الباء الموحدة، وزقاق، بضم الزاي وبالقافين، وقال الجوهري: الزقاق السكة يذكر ويؤنث، قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وبنو تميم يذكرون هذا كله، والجمع: الزقاق والزقان والأزقة، مثل: حوار وحوران وأحورة.
4461 حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون قال حدثنا عيسى بن يونس عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة فقلت لنافع إكان عبد الله يمشي إذا بلغ الركن اليماني قال لا إلا أن يزاحم على الركن فإنه كان لا يدعه حتى يستلمه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان يسعى بطن المسيل)، والحديث مضى في باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة فإنه أخرجه هناك عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله.. إلى آخره، وهنا أخرجه بأتم من ذلك عن محمد بن عبيد بن ميمون، وفي رواية أبي ذر محمد بن عبيد بن حاتم، وكذا قال الجياني ناقلا عن نسخة أبي محمد بخطه: حدثنا محمد بن عبيد بن حاتم حدثنا عيسى بن يونس، قيل: الصواب هو الأول، وبه جزم أبو نعيم، وعيسى هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الكوفي، مات بالحرف أول سنة إحدى وتسعين ومائة، وعبد الله بن عمر العمري.
قوله: (كان إذا طاف الطواف الأول) أي: طواف القدوم. وقال الكرماني: الطواف الأول سواء كان للقدوم أو للركن. قوله: (خب) أي: رمل في الأشواط الثلاث. قوله: (ومشى) أي: لا يرمل. قوله: (وكان يسعى بطن المسيل) أي: المكان الذي يجتمع فيه السيل، و: بطن، منصوب على الظرف. قوله: (فقلت لنافع) إلى هنا مرفوع عن ابن عمر، ومن قوله: (فقلت) إلى آخره موقوف، والقائل لنافع هو عبيد الله المذكور فيه. قوله: (أكان؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (لا يدعه) أي: لا يتركه، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
5461 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال سألنا عمر رضي الله تعالى عنهما عن رجل طاف بالبيت في عمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته فقال قدم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين فطاف بين الصفا والمروة سبعا لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وسألنا جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقال لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فطاف بين الصفا والمروة سبعا)، والحديث مضى أيضا في: باب صلى النبي، صلى الله عليه
289

وسلم، لسبوعه ركعتين، فإنه رواه هناك عن قتيبة بن سعيد عن سفيان عن عمرو بن دينار إلى آخره، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة.
قوله: (أيأتي؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (قدم النبي، صلى الله عليه وسلم) أي: قدم مكة، وهذا جواب لسؤال عمرو بن دينار، ومن معه، قال الكرماني: فإن قلت: ما وجه مطابقة الجواب السؤال؟ قلت: معناه لا يحل له، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب المتابعة، وهو لم يتحلل من عمرته حتى سعى. انتهى. قلت: لا يحتاج إلى هذا التقدير، لأن هذا جواب مطابق للسؤال مع زيادة، أما الجواب فهو قوله: (فطاف بين الصفا والمروة سبعا)، وأما الزيادة فهو قوله: (فطاف بالبيت سبعا)، وصلى خلف المقام ركعتين، وفائدة الزيادة هي أن السؤال عن المعتمر إذا لم يسع، والجواب أن العمرة هي الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، فلا يجوز له قربان امرأته حتى يأتي بالطواف والسعي. قوله: (لقد كان لكم...) إلى آخره، من تتمة الجواب.
7461 حدثنا المكي بن إبراهيم عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت ثم صلى ركعتين ثم سعى بين الصفا والمروة ثم تلا * (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة) * (الأحزاب: 32).
.
هذا طريق آخر للحديث المذكور، رواه عن المكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد البلخي أبو السكن، ولفظ المكي اسمه على صورة النسبة، وليس بمنسوب إلى مكة، وهو يروى عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ومضى هذا الحديث أيضا في: باب من صلى ركعتي الطواف خلف المقام، رواه عن آدم عن شعبة عن عمرو بن دينار، وهذه الأحاديث الثلاثة عن ابن عمر دلت على أن العمرة عبارة عن الطواف بالبيت سبعا، والصلاة بركعتين خلف المقام، والسعي بين الصفا والمروة..
وفي (التوضيح): واجبات السعي عندنا أربعة: قطع جميع المسافة بين الصفا والمروة، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه، ولو كان راكبا اشترط أن يسير دابته حتى تضع حافرها على الجبل، وإن صعد على الصفا والمروة فهو أكمل، وكذا فعله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة بعده، وليس هذا الصعود فرضا ولا واجبا، بل هو سنة مؤكدة، وبعض الدرج مستحدث، فالحذر من أن يخلفها وراءه فلا يصح سعيه حينئذ، وينبغي أن يصعد على الدرج حتى يستيقن، ولنا وجه شاذ، أنه يجب الصعود على الصفا والمروة قدرا يسيرا، ولا يصح سعيه إلا بذلك ليستيقن قطع جميع المسافة، كما يلزم غسل جزء من الرأس بعد غسل الوجه ليستيقن. ثانيها: الترتيب، فلو بدأ بالمروة لم يجزه لأنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) وقال صاحب (التوضيح): قال في (المحيط) من كتب الحنفية: لو بدأ بالمروة وختم بالصفا أعاد شوطا ولا يجزيه ذلك، والبداءة بالصفا شرط، ولا أصل لما ذكره الكرماني من أن الترتيب في السعي ليس بشرط حتى لو بدأ بالمروة وأتى الصفا جاز، وهو مكروه لترك السنة، فيستحب إعادة ذلك الشوط قلت: الكرماني له كتاب في المناسك ذكر هذا فيه، وكيف يقول صاحب (التوضيح): لا أصل لما ذكره الكرماني بل لا أصل لما ذكره لأنه يحتج بقوله صلى الله عليه وسلم (ابدأوا بما بدأ الله به)، فكيف يستدل بخبر الواحد على إثبات الفرضية، والحديث إنما يدل على أنه سنة، وقد عمل الكرماني به حيث قال: ولو بدأ بالمروة يكون مكروها لتركه السنة، حتى يستحب إعادته، وهذا هو الأصل في الاستدلال بخبر الواحد، وكذا الجواب عما قيل، وحكى عن أبي حنيفة أنه لا يجب الترتيب، ويجوز البداءة بالمروة، والحديث حجة عليه، وأراد بالحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به)، رواه جابر وأخرجه النسائي. الثالث: يحسب من الصفا إلى المروة مرة، ومن المروة إلى الصفا مرة حتى يتم سبعا هذا هو الصحيح. الرابع: يشترط أن يكون السعي بعد طواف صحيح، سواء كان بعد طواف قدوم أو إفاضة، ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع، فلو سعى وطاف أعاده، وعند غيرنا أعاده إن كان بمكة، فإن رجع إلى أهله بعث بدم، وشذ إمام الحرمين فقال: قال بعض أئمتنا: لو قدم السعي على الطواف اعتد بالسعي، وهذا غلط. ونقل الماوردي وغيره الإجماع في اشتراط ذلك، وقال عطاء: يجوز السعي من غير تقدم طواف وهو غريب. وفي (التوضيح): أيضا الموالاة
290

بين مرات السعي سنة، فلو تخلل بيسير أو طويل بينهن لم يضر، وكذا بينه وبين الطواف، ويستحب السعي على طهارة من الحدث والنجس ساترا عورته، والمرأة تمشي ولا تسعى لأنه أستر لها. وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل، وموضع المشي والعدو معروف، والعدو يكون قبل وصوله إلى الميل الأخضر، وهو العمود المبني في ركن المسجد بقدر ستة أذرع إلى أن يتوسط بين العمودين المعروفين، وما عدا ذلك فهو محل المشي فلو هرول في الكل لا شيء عليه، وكذا لو مشى على هينة، وعن سعيد بن جبير قال: رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة، ثم قال: إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وإن سعيت فقد رأيته يسعى، وأنا شيخ كبير، أخرجه أبو داود. وفي رواية كان يقول لأصحابه: أرملوا فلو استطعت الرمل لرملت، وعنه قال: رأيت عمر، رضي الله تعالى عنه يمشي أخرجها سعيد بن منصور، وقال ابن التين: يكره للرجل أن يقعد على الصفا إلا لعذر، وضعف ابن القاسم في روايته عن مالك رفع يديه على الصفا والمروة، وقال ابن حبيب: يرفع، وإذا قلنا يرفع، فقال ابن حبيب: يرفعهما حذو منكبيه وبطونهما إلى الأرض، ثم يكبر ويهلل ويدعو. وقال غيره من المتأخرين: الدعاء والتضرع إنما يكون وبطونهما إلى السماء، ولو ترك السعي ببطن المسيل ففي وجوب الدم قولان عن مالك.
8461 حدثنا أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عاصم قال قلت لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة قال نعم لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتى أنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
(الحديث 8461 طرفه في: 6944).
مطابقته للترجمة من حيث إن الآية المذكورة فيها إثبات السعي بين الصفا والمروة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أحمد بن محمد، قال الدارقطني: هو أحمد بن محمد بن ثابت شبويه. قلت: أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان بن مسعود بن يزيد أبو الحسن الخزاعي المروزي المعروف بابن شبويه، مات بطرسوس سنة ثلاثين ومائتين، قاله الحافظ الدمياطي. الثاني: عبد الله بن المبارك. الثالث: عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع والإخبار كذلك في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه وشيخه مروزيان وأن عاصما بصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن محمد بن يوسف عن الثوري. وأخرجه مسلم في المناسك عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد. وأخرجه النسائي في الحج عن يعقوب بن إبراهيم.
ذكر معناه: قوله: (أكنتم؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (قال: نعم) ويروى: (فقال: نعم)، بزيادة فاء العطف أي: نعم كنا نكره، وعلل الكراهة بقوله: (لأنها كانت من شعائر الجاهلية) وإنما أنث الضمير باعتبار جمع السعي وهي سبع مرات، والمراد من الشعائر العلامات التي كانوا يتعبدون بها، وقد مر الكلام في الشعائر عن قريب قيل: إنما خص السعي والطواف أيضا من شعائرهم. قلت: لا نسلم ذلك بخلاف السعي وكان لهم الصنمان اللذان ذكرناهم يتمسحون بهما ويعبدونهما في تلك البقعة.
9461 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمر و عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته.
(الحديث 9461 طرفه في: 7524).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد مروا غير مرة، وعلي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وسفيان بن عيينة وعمرو بن دينار، وفي بعض النسخ عن عمرو. وهو ابن دينار، وعطاء هو ابن أبي رباح، وقد تقدم الكلام فيه في: باب كيف كان بدء الرمل.
291

زاد الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمر و قال سمعت عطاء عن ابن عباس مثله
وقول ابن عباس: (ليري المشركين قوته)، فيه حصر السبب فيما ذكره على ما هو المشهور في: إنما، من إفادة الحصر، وقد جاء عن ابن عباس سبب آخر وهو سعي أبينا إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فيجوز أن يكون هو المقتضي لمشروعية الإسراع على ما رواه أحمد في (مسنده) من حديث ابن عباس، قوله: (قال: إن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، لما أمر بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي، فسبقه فسابقه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام). وقد ورد أيضا سبب آخر، وهو: سعي هاجر عليها السلام، على ما صرح به البخاري (عن ابن عباس، قال: جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام...) الحديث، وفيه: (فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها وسعت سعي إنسان مجهود حتى جاوزت الوادي...) الحديث، وفيه: (ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما). فإن كان المراد بقوله: فلذلك سعى الناس بينهما: الإسراع في المشي فهذه العلة من نص الشارع، فهي أولى ما يعلل به السعي، وإن أراد بالسعي مطلق الذهاب فلا، ويدل عليه رواية الأزرقي، فلذلك طاف الناس بين الصفا والمروة، والله أعلم.
قوله: (الحميدي)، بضم الحاء نسبة إلى: حميد أحد أجداد عبد الله بن الزبير بن عبد الله القرشي المكي شيخ البخاري، ومن أفراده، ومعنى هذه الزيادة أن الحميدي صرح بالتحديث في روايته عن عمرو بن دينار، وصرح عمرو بالسماع من عطاء بن أبي رباح، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في (المستخرج). وقال الكرماني: زاد لفظ: حدثنا وسمعت، بدل المعنعن، وفائدته الخروج عن الخلاف في القبول، سيما وسفيان من المدلسين. قوله: (مثله)، أي: مثل ما روي عن ابن عباس في الحديث السابق.
18
((باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت))
أي: هذا باب يذكر فيه: تقضي الحائض... إلى رخره، وأراد بالمناسك أفعال الحج ووصرح بالحكم في هذا وهو أن الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت للمنع الوارد فيه على ما يأتي في حديث الباب، وإنما صرح به لعدم الخلاف فيه.
وإذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة
هذا أيضا من الترجمة أي: وإذا سعى الحاج أو المعتمر بين الصفا والمروة وهو على غير وضوء، وإنما لم يذكر الحكم فيه لأجل الخلاف فيه، فإن الحسن البصري اشترط الطهارة للسعي، وقال ابن المنذر: لم يذكر عن أحد من السلف اشتراط الطهارة للسعي إلا عن الحسن البصري، وروي ذلك أيضا عن الحنابلة في رواية.
0561 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة قالت فشكوت ذالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إفعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إفعلي كما يفعل الحاج...) إلى آخره، وقد مضى هذا الحديث في: باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، في كتاب الحيض عن أبي نعيم عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة، وأخرجه أيضا في: باب كيف كان بدء الحيض في أول كتاب الحيض، بأتم منه، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله المديني عن سفيان، قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم سمعت القاسم، يقول: سمعت عائشة، رضي الله تعالى عنها، تقول: خرجنا لا نرى إلا الحج... الحديث. قوله: (حتى تطهري)، بفتح التاء والطاء المهملة المشددة وتشديد الهاء أيضا. وأصله: تتطهري، فحذفت إحدى التاءين، ومعناه: حتى تغتسلي وتطهري بالغسل، ويؤيده أن في رواية مسلم: (حتى تغتسلي)، وقال ابن بطال: العلماء مجمعون أن الحائض تشهد المناسك كلها غير الطواف بالبيت، وقال المهلب: إنما منعت الحائض
292

من الطوا على غير طهارة تنزيها للمسجد عن النجاسات، ولأمره صلى الله عليه وسلم الحيض في العيدين بالاعتزال. وقال ابن التين: وقول عائشة: ولم أطف بالبيت، تريد أن طواف العمرة منعها منه حيضها. قوله: (كما يفعل الحاج) لا يكون إلا بأن يردف الحج على العمرة، قال: وقيل: كانت حاجة، ذكره ابن عبد الملك، ولا يصح لها السعي، وإن كان يصح فعله بغير طهارة كان الطواف قبله، وذلك لا يصح حتى تطهر، ولا يكون السعي مفردا، ويصح إفراد الطواف. وقال صاحب (التلويح): وكان البخاري فهم أن قوله صلى الله عليه وسلم لها: (إفعلي كما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي) أنها تسعى، فبوب: (وإذا سعى على غير وضوء). انتهى. قلت: ليس الأمر كما ذكره، وإنما قوله: (وإذا سعى..) إلى آخره من الترجمة كما ذكرنا، وأشار بها إلى الخلاف في اشتراط الطهارة في السعي، فلذلك لم يجزم بالحكم، غير أنه لم يذكر في الباب شيئا يدل عليه، واكتفى بمجرد ذكر هذه الترجمة، فافهم.
1561 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال وقال لي خليفة حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا حبيب المعلم عن عطاء عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أهل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وقدم علي من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر منيا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وحاضت عائشة رضي الله تعالى عنها فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت طافت بالبيت قالت يا رسول الله تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمان بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لا تخفى.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن المثنى بن عبيد المعروف بالزمن، وقد مر غير مرة، الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي. الثالث: خليفة، بفتح الخاء المعجمة وبالفاءين خياط، من خياطة الثياب، وقد مر في: باب الميت يسمع خفق النعال. الرابع: حبيب بن ابن قريبة المعلم بلفظ اسم الفاعل من التعليم. الخامس: عطاء بن أبي رباح. السادس: جابر بن عبد الله الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أنه ذكر هذا الإسناد من طريقين: الأول: عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن حبيب، والثاني: أنه ذكره على سبيل المذاكرة حيث قال: وقال لي خليفة لا على سبيل التحمل، فلذلك لم يقل: حدثنا خليفة مع أنه شيخه، وهو من أفراده. وفيه: أنهم كلهم بصريون إلا عطاء فإنه مكي، وأخرجه أبو داود في الحج عن أحمد بن حنبل عن الثقفي به.
ذكر معناه: قوله: (قال وقال) فاعل قال الأول البخاري، وفاعل الثاني ظاهر، وهو خليفة. قوله: (أهل) أي: أحرم. قوله: (وليس مع أحد) الواو فيه للحال. قوله: (وطلحة) بالرفع عطف على غير النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (علي)، هو ابن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وكان صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن. قوله: (ومعه هدي)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (أن يجعلوها)، أي: الحجة التي أهلوا بها. قوله: (ويطوفوا) أي: بالبيت، وبين الصفا والمروة. قوله: (ويحلوا) أي: ويصيرون حلالا. قوله: (يقطر) أي: منيا بسبب قرب عهدنا بالجماع أي: كنا متمتعين بالنساء. قوله: (فبلغ) أي: الشأن يعني: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، هذا وهو أنهم تمتعوا به، وقلوبهم لا تطيب به، لأنه صلى الله عليه وسلم غير متمتع، وكانوا يحبون موافقته صلى الله عليه وسلم. قوله: (فقال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم (لو استقبلت من أمري) أي: لو عرفت في أول الحال ما عرفت آخرا، من جواز العمرة في أشهر الحج (لما أهديت) أي: لكنت متمتعا إرادة لمخالفة أهل الجاهلية (ولأحللت) من الإحرام لكن امتنع الإحلال لصاحب الهدي هو
293

المفرد أو القارن حتى يبلغ الهدي إلى محله، وذلك في أيام النحر لا قبلها، ويقال: معناه لو استقبلت هذا الرأي، وهو الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من أول أمري لم أسق الهدي. قوله: (فنسكت المناسك كلها) أي: أتت بأفعال الحج كلها غير الطواف بالبيت. قوله: (فلما طهرت)، بفتح الهاء وضمها.
ذكر ما يستفاد منه: قال النووي: احتج به من قال: إن التمتع أفضل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتمنى إلا الأفضل. وقال الكرماني: فأجاب القائلون بتفضيل الإفراد أنه
صلى الله عليه وسلم إنما قال من أجل فسخ الحج إلى العمرة الذي هو خاص بهم في تلك السنة فقط، مخالفة للجاهلية. وقال هذا الكلام تطييبا لقلوب أصحابه، لأن نفوسهم كانت لا تسمح بفسخ الحج قلت: قال الطبري: وجملة الحال له أنه لم يكن متمتعا، لأنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت) يعني ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولا كان مفردا لأن الهدي كان واجبا كما قال، وذلك لا يكون إلا للقارن. وفيه: فسخ الحج إلى العمرة، لكن نقول: إنه كان مخصوصا بهم في تلك السنة، وأنه لا يجوز اليوم إلا عند ابن عباس، وبه قال أحمد وداود والظاهري. وفيه: دليل على جواز الأمرين، وأنه لولا ما سبق من سوقه صلى الله عليه وسلم الهدي لحل معهم، إلا أن السنة فيمن ساق الهدي أنه لا يحل إلا بعد بلوغ الهدي محله، وهو نحره يوم النحر. قال القاضي: وفيه: دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مهلا بالحج. قلت: يعني لم يكن معتمرا، بل كان قارنا، كما قاله الطبري. وقال الطحاوي، رحمه الله: احتج بهذا الحديث قوم على جواز فسخ الحج في العمرة، وقالوا: من طاف من الحجاج بالبيت قبل وقوفه بعرفة ولم يكن ممن ساق الهدي فإنه يحل قلت: أراد بهؤلاء القوم جماعة الظاهرية، وأحمد، ثم قال: وخالفهم آخرون، فقالوا: ليس لأحد دخل في حجة أن يخرج منها إلا بتمامها، ولا يحله شيء منها قبل يوم النحر من طواف ولا غيره. قلت: أراد بالآخرين جماهير التابعين والفقهاء منهم أحمد وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم، ثم أجاب عن ذلك بمثل ما ذكرنا الآن أنه كان خاصا لهم في حجتهم تلك دون سائر الناس بعدهم، ثم قال: والدليل على أن ذلك كان خاصا للصحابة الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم حديث بلال بن الحارث، قال: (قلت: يا رسول الله أرأيت فسخ حجنا هذا لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لكم خاصة). وأخرجه أبو داود وابن ماجة.
2561 حدثنا مؤمل بن هشام قال حدثنا إسماعيل عن أيوب عن حفصة قالت كنا نمنع عواتقنا أن يخرجن فقدمت امرأة فنزلت قصر بني خلف فحدثت أن أختها كانت تحت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة وكانت أختي معه في ست غزوات قالت كنا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى فسألت أختي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت هل على إحدانا بأس إن لم يكن لها جلباب أن لا تخرج قال لتلبسها صاحبتها من جلبابها ولتشهد الخير ودعوة المؤمنين فلما قدمت أم عطية رضي الله تعالى عنها سألنها أو قالت سألناها فقالت وكانت لا تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قالت بأبي فقلنا أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا قالت نعم بأبي فقال لتخرج العواتق ذوات الخدور أو العواتق وذوات الخدور والحيض فيشهدن الخبر ودعوة المسلمين ويعتزل الحيض المصلى فقلت آلحائض فقالت أوليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (أوليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا وتشهد كذا؟) لأن معناه: تشهد الوقوف بعرفة، وتشهد الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك من أفعال الحج غير الطواف بالبيت، وهذا موافق لقول جابر، رضي الله تعالى عنه، فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، وهذا الحديث قد مضى في: باب شهود الحائض
294

العيدين في كتاب الحيض، فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن سلام عن عبد الوهاب عن أيوب عن حفصة إلى آخره، وأخرجه أيضا في: باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد في أبواب العيدين عن أبي معمر عن عبد الوارث عن أيوب عن حفصة إلى آخره، وأخرجه هنا: عن مؤمل بلفظ اسم المفعول من التأميل ابن هشام، وقد مر في كتاب التهجد في: باب عقد الشيطان، عن إسماعيل بن علية عن أيوب السختياني عن حفصة بنت سيرين، وهؤلاء كلهم بصريون، وقد مر الكلام فيه في كتاب الحيض مستوفى.
28
((باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي وللحاج إذا خرج إلى منى))
أي: هذا باب في بيان الإهلال بكسر الهمزة أي: الإحرام من البطحاء، أي من وادي مكة وغيرها، أي: ومن غير بطحاء مكة، وهو سائر أجزاء مكة. قوله: (للمكي) أي: الذي من أهل مكة، وأراد الحج. قوله: (وللحاج)، أي: وللحاج الذي هو الآفاقي الذي يريد التمتع إذا خرج من مكة إلى منى، وإنما قيد بهذا لأن شرط الخروج من مكة ليس إلا للتمتع، فالحاصل من هذه الترجمة أن مهل المكي والمتمتع للحج هو نفس مكة، ولا يجوز تركها ومهل الذي يريد الإحرام بالحج خارج نفس مكة، سواء الحل والحرم. وقوله: (إلى منى)، كذا وقع في طريق أبي الوقت وفي معظم الروايات: (إذا خرج من منى) بكلمة: من، فوجه كلمة إلي ظاهر، وأما وجه كلمة: من، فيحتمل أن يكون إشارة إلى الخلاف في ميقات المكي في مذهب الشافعي، فعنده ميقات أهل مكة نفس مكة، وقيل: مكة وسائر الحرم، والصحيح الأول، ومذهب أبي حنيفة أن ميقات أهل مكة في الحج الحرم، ومن المسجد أفضل، وفي مناسك الحصيري: الأفضل لأهل مكة أن يحرموا من منازلهم ويسعهم التأخر إلى آخر الحرم بشرط أن يدخلوا الحل محرمين، فلو دخلوا من غير إحرام لزمهم دم، كالآفاقي، وقال المهلب: من أنشأ الحج من مكة فله أن يهل من بيته ومن المسجد الحرام ومن البطحاء وهو طريق مكة أو من حيث أحب مما دون عرفة، ذلك كله واسع، لأن ميقات أهل مكة منها، وليس عليه أن يخرج إلى الحل لأنه خارج في حجته إلى عرفة، فيحصل له بذلك الجمع بين الحل والحرم، وهو بخلاف منشيء العمرة من مكة.
وسئل عطاء عن المجاور يلبي بالحج قال وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يلبي يوم التروية إذا صلى الظهر واستوى على راحلته
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إن الاستواء على الراحلة كناية عن السفر، فابتداء الاستواء هو ابتداء الخروج من البلد. قوله: (عطاء) هو عطاء بن أبي رباح. قوله: (عن المجاور) أي: المجاور بمكة، وهو المقيم بها. قوله: (يلبي) جملة وقعت حالا، قوله: (يوم التروية) هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء بلفظ: (رأيت ابن عمر في المسجد، فقيل له: قد رؤي الهلال). فذكر قصة منها: (فأمسك حتى كان يوم التروية، فأتى البطحاء، فلما استوت به راحلته أحرم).
وقال عبد الملك عن عطاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قدمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأحللنا حتى يوم التروية وجعلنا مكة
295

بظهر لبينا بالحج
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (لبينا)، فإنه جملة حالية ومعناها: جعلنا مكة من وراءنا في يوم التروية حال كوننا ملبين بالحج، فعلم أنهم حين الخروج منها كانوا محرمين. قوله: (وقال عبد الملك)، قال الكرماني: عبد الملك هذا هو ابن عبد العزيز بن جريج، وقال بعضهم: الظاهر أنه هو عبد الملك بن أبي سليمان. قلت: يحتمل كلا منهما، ولكن هذا وصله مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح (عن جابر: أهللنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة، فكبر ذلك علينا...) الحديث، وفيه: (حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج). قوله: (حتى يوم التروية)، يوم، منصوب على الظرفية، أي: حتى في يوم التروية. قوله: (بظهر) أي: جعلنا مكة وراء ظهورنا.
وقال أبو الزبير عن جابر أهللنا من البطحاء
أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الدال المهملة وضم الراء وفي آخره سين مهملة، المكي، وقد مر في: باب من شكا إمامه، وهذا تعليق وصله أحمد في (مسنده) ومسلم في (صحيحه) من طريق ابن جريج عنه (عن جابر، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى، قال: فأهللنا من الأبطح).
وقال عبيد بن جريج لإبن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يوم التروية فقال لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته
عبيد بضم العين، وجريج بضم الجيم مر ذكره في: باب غسل الرجلين في النعلين في كتاب الوضوء، وهذا التعليق وصله البخاري في: باب غسل الرجلين في النعلين مطولا، فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعا... الحديث، وقال ابن بطال: أما وجه احتجاج ابن عمر بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، وهو غير مكي، على من أنشأ الحج من مكة، أنه يجب أن يهل يوم التروية، وهي قصة أخرى، فوجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل من ميقاته في حين ابتدائه في عمل حجته من أصل عمله، ولم يكن فيهما مكث يقطع به العمل، فكذلك المكي لا يهل إلا يوم التروية الذي هو أول عمله ليتصل له عمله تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما لو أهل من أول الشهر، وقد قال ابن عباس: لا يهل أحد من مكة بالحج حتى يريد الرواح إلى منى، والله أعلم.
38
((باب أين يصلي الظهر يوم التروية))
أي: هذا باب يبين فيه أين يصلي الظهر، أي: في أي مكان يصلي صلاة الظهر يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، والتروية، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الراء وكسر الواو وتخفيف الياء آخر الحروف: سميت بذلك لأنهم كانوا يتروون بحمل الماء معهم من مكة إلى عرفات، وقيل: إلى منى، وقيل: لأن آدم، عليه السلام، رأى فيه حواء، عليها السلام، وقيل: لأن جبريل، عليه السلام أرى فيه إبراهيم، عليه الصلاة والسلام،، المناسك، وقيل: لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه، وقيل: لأن إبراهيم، عليه السلام، رأى تلك الليلة في منامه أنه يذبح ولده بأمر الله تعالى، فلما أصبح كان يروي في النهار كله، أي: يتفكر. وقيل: هو من الرواية، لأن الإمام يروي للناس مناسكهم. قلت: ذكره الجوهري في: باب روى، معتل العين واللام، وذكر فيه مواد كثيرة، ثم قال: وسمي يوم التروية لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعد، ويكون أصله من: رويت من الماء بالكسر أوري ريا وريا، وروى أيضا مثل، رضي وتكون التروية مصدرا من باب التفعيل، تقول: رويته الماء تروية، وأما قول من قال: لأن آدم، عليه الصلاة والسلام، رأى فيه حواء فغير صحيح من حديث الاشتقاق، لأن رأى الذي هو من الرؤية مهموز العين معتل اللام، نعم، جاء من هذا الباب ترئية وترية، ولم يجيء: تروية فالأول من قولك: رأت المرأة ترئية إذا رأت الدم القليل عند الحيض، والثاني اسم الخرقة التي تعرف بها المرأة حيضها من طهرها، وأما بقية الأقوال فكون أصلها من الرؤية غير مستبعد، ولكن لم يجئ لفظ التروية منها لعدم المناسبة بينهما في الاشتقاق. وأما قول من قال: هو من الرواية، فبعيد جدا لأنه لم يجيء تروية من هذا الباب لعدم الاشتقاق بينهما، وقال بعضهم: قيل في تسمية التروية أقوال شاذة، وذكر هذه الأقوال. قلت: هذا يدل على أن أصلها صحيح في الاشتقاق، لأن الشاذ ما يكثر استعماله، ولكنه على خلاف القياس، ولكن هذا القائل لو عرف الاشتقاق بين المصدر والأفعال التي تشتق منه لما صدر منه هذا الكلام في غير تأمل وترو.
296

3561 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا إسحاق الأزرق قال حدثنا سفيان عن عبد العزيز بن رفيع قال سألت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قلت أخبرني بشيء عقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم أين صلى الظهر والعصر يوم التروية قال بمنى قلت فأين صلى العصر يوم النفر قال بالأبطح ثم قال افعل كما يفعل أمراؤك.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر الجعفي المعروف بالمسندي. الثاني: إسحاق بن يوسف الأزرق، مات سنة ست وتسعين
ومائة. الثالث: سفيان الثوري. الرابع: عبد العزيز بن رفيع، بضم الراء وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره عين مهملة، قد مر في أبواب الطواف. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الإفراد في موضع وبصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: السؤال. وفيه: أن شيخه بخاري وأنه من أفراده وإسحاق واسطي وسفيان كوفي وعبد العزيز مكي سكن الكوفة، رحمه الله. وفيه: أنه ليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في (الصحيحين) إلا هذا الواحد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج عن محمد بن المثنى، وعن علي وإسماعيل بن أبان، وأخرجه مسلم فيه عن زهير بن حرب. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن إبراهيم. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع ومحمد بن الوزير الواسطي. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن إسماعيل وعبد الرحمن بن محمد.
ذكر معناه: قوله: (عقلته)، أي: أدركته وفهمته، وهي جملة في محل الجر لأنها وقعت صفة لقوله: شيء. قوله: (أين صلى الظهر)، يعني في: أي مكان صلاها. قوله: (قال: بمنى) أي: صلاها بمنى. قوله: (يوم النفر)، بفتح النون وسكون الفاء، وهو الرجوع من منى. قوله: (بالأبطح) هو مكان متسع بين مكة ومنى، والمراد به: المحصب. قوله: (ثم قال)، أي: أنس، رضي الله تعالى عنه.
ذكر ما يستفاد منه فيه: استحباب إقامة صلاة الظهر والعصر يوم التروية بمنى لأنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى منى قبل الظهر وصلى فيه الظهر والعصر، وذكر أبو سعد النيسابوري في (كتاب شرف المصطفى): أن خروجه صلى الله عليه وسلم يوم التروية كان ضحى. وفي سيرة الملا: أنه، صلى الله عليه وسلم، خرج إلى منى بعدما زاغت الشمس. وفي (شرح الموطأ) لأبي عبد الله القرطبي: خرج، صلى الله عليه وسلم، إلى منى عشية يوم التروية، وقال النووي: ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح بمكة حيث يصلون الظهر في أول وقتها، هذا هو الصحيح المشهور من نصوص الشافعي. وفيه: قول ضعيف أنهم يصلون الظهر بمكة ثم يخرجون، وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر..) الحديث، وروى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم، من حديث ابن عباس، قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية، والفجر يوم عرفة بمنى)، ولأحمد من حديثه: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى خمس صلوات)، ولأحمد عن ابن عمر: أنه كان يحب إذا استطاع أن يصلي الظهر بمنى، يوم التروية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، وحديث ابن عمر في (الموطأ): عن نافع عنه موقوف، ولابن خزيمة والحاكم من طريق القاسم ابن محمد عن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر وما بعدها، والفجر بمنى، ثم يغدون إلى عرفة، وقال المهلب: الناس في سعة من هذا يخرجون متى أحبوا ويصلون حيث أمكنهم، ولذلك قال أنس: صلى حيث يصلي أمراؤك، والمستحب في ذلك ما فعله الشارع، صلى الظهر والعصر بمنى، وهو قول مالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال ابن حبيب: إذا مالت الشمس يطوف سبعا ويركع ويخرج، وإن خرج قبل ذلك فلا حرج، وعادة أهل مكة أن يخرجوا إلى منى بعد صلاة العشاء، وكانت عائشة، رضي الله تعالى عنها، تخرج ثلث الليل، وهذا يدل على التوسعة، وكذلك المبيت عن منى ليلة
297

عرفة ليس فيه حرج إذا وافى عرفة ذلك الوقت الذي يخير، وليس فيه جبر كما يجبر ترك المبيت بها بعد الوقوف أيام رمي الجمار، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور.
4561 حدثنا علي سمع أبا بكر بن عياش قال حدثنا عبد العزيز قال ل قيت أنسا (ح) وحدثني إسماعيل بن أبان قال حدثنا أبو بكر عن عبد العزيز قال خرجت إلى منى يوم التروية فلقيت أنسا رضي الله تعالى عنه ذاهبا على حمار فقلت أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم هاذا اليوم الظهر فقال انظر حيث يصلي أمراؤك فصل.
(انظر الحديث 3561 وطرفه).
هذا طريق آخر أورده من رواية أبي بكر بن عياش، الظاهر أنه أورده تأكيدا لطريق إسحاق الأزرق، فإن الترمذي لما أخرج حديث إسحاق قال: صحيح يستغرب من حديث إسحاق الأزرق عن الثوري، أراد أن إسحاق تفرد به، ورواه البخاري من طريقين: الأول: عن علي هو ابن المديني، قاله الكرماني: وقال بعضهم: والذي يظهر لي أنه ابن المديني؟ قلت: أخذه من الكرماني ثم نسبه إلى نفسه، وأبو بكر بن عياش، بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة: ابن سالم الأسدي الكوفي الحناط، بالنون، المقري، قيل: اسمه محمد، وقيل: عبد الله وقيل: سالم، وقيل غير ذلك، والصحيح ان اسمه كنيته، وعبد العزيز هو ابن رفيع المذكور. والطريق الثاني: عن إسماعيل بن أبان، بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وفي آخره نون، وهو منصرف على الأصح، وقد مر في: باب من قال في الخطبة: أما بعد. وإنما قدم الطريق الأول لتصريحه فيه بالتحديث بين أبي بكر بن عياش وعبد العزيز، والطريق الثاني بالعنعنة.
قوله: (ذاهبا) نصب على الحال، وفي رواية الكشميهني: راكبا. قوله: (هذا اليوم) أي: يوم التروية. قوله: (فقال) أي: أنس لعبد العزيز: انظر. قوله: (فصل) أمر يخاطب به أنس لعبد العزيز.
وفيه: إشارة إلى متابعة أولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة، وكان الأمراء لا ينزلون بالأبطح، وكانوا لا يصلون الظهر والعصر إلا بمنى كما فعله الشارع، فلذلك استحبت الأئمة الأربعة وغيرهم ذلك، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
48
((باب الصلاة بمنى))
أي: هذا باب في بيان كمية الصلاة الرباعية في منى هل تصلي على حالها أو تقصر؟ وأورد فيه ثلاثة أحاديث ذكرها في: أبواب تقصير الصلاة بترجمة بعين هذه الترجمة، وهو: باب الصلاة بمنى ويبين كل واحد الآن.
5561 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان صدرا من خلافته.
(انظر الحديث 2801).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرجه في الباب المذكور عن مسدد عن يحيى عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع (عن عبد الله ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهم، صدرا من إمارته، ثم أتمها). قوله: (ركعتين) أي: المقصورتين من الفريضة الرباعية. قوله: (وعثمان صدرا) أي: صلى ركعتين صدرا، أي: في صدر من أيام خلافته، أي: في أوائل خلافته، وإنما ذكر صدرا. وقيد به لأن عثمان أتم الصلاة بعد ست سنين، وبقية مباحثه تقدمت هناك.
6561 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق الهمداني عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله تعالى عنه قال صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى ركعتين.
(انظر الحديث 3801).
298

أخرجه هناك، فقال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأنا أبو إسحاق، قال: سمعت حارثة بن وهب، قال: (صلى بنا النبي، صلى الله عليه وسلم، آمن ما كان بمنى ركعتين). وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني المشهور بالسبيعي الكوفي، وحارثة، بالحاء المهملة وبالراء والثاء المثلثة، والخزاعي، بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وبالعين المهملة: نسبة إلى خزاعة حي من الأزد. قوله: (ونحن ما كنا أكثر)، جملة وقعت حالا، فقوله: نحن، مبتدأ وكلمة: ما، نافية خبره، وقوله: (أكثر) منصور على أنه خبر كان، وكلمة: قط، متعلقة بمحذوف، والتقدير: ونحن ما كنا قط في وقت أكثر منا في ذلك الوقت ولا آمن منا فيه، ويجوز أن تكون: ما، مصدرية ومعناه الجمع، لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعا، قوله: (وآمنه) عطف على أكثر، والضمير فيه يرجع إلى: ما، والتقدير: صلى بنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددا وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنا. وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، قيل: وعلى هذا كما قلنا: قط، متعلق بمحذوف، لأن: قط، يختص بالماضي المنفي، ولا منفي ههنا، تقديره: ما كنا أكثر من ذلك ولا آمنه قط. قلت: قال ابن مالك: استعمال قط غير مسبوقة بالنفي مما خفي على كثير من النحويين، وقد جاء في هذا الحديث بدونه، وله نظائر، وقيل: إنه بمعنى: أبدا، على سبيل المجاز، وقال الكرماني: قوله: (وآمنه)، بالرفع ويجوز النصب بأن يكون فعلا ماضيا وفاعله الله تعالى. قلت: فحينئذ يكون ضمير المفعول هو النبي صلى الله عليه وسلم، والتقدير: وآمن الله تعالى نبيه، صلى الله عليه وسلم، حينئذ. وقال الطيبي: هذا على أن يكون: أكثر، خبر كان، إذ لا يستقيم أن يعطف: وأمنه، على: أكثر، وهو متعسف جدا. قوله: (بمنى) أي: في منى، والعامل فيه قوله: صلى.
7561 حدثنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمان ابن يزيد عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ركعتين ومع عمر رضي الله تعالى عنه ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فيا ليت حظي من أربع ركعتان متقلبتان.
(انظر الحديث 4801).
أخرجه في الباب المذكور عن قتيبة بن سعيد عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش إلى آخره، فانظر إلى التفاوت بينهما في المتن والإسناد، ولكن الحاصل واحد.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسفيان هو الثوري، وإبراهيم هو النخعي، و عبد الرحمن ابن يزيد بن قيس أخو الأسود، رضي الله تعالى عنه، الكوفي النخعي، مات في الجماجم سنة ثلاث وثمانين، و عبد الله هو ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه.
قوله: (ثم تفرقت بكم الطرق)، يعني: اختلفتم في قصر الصلاة وإتمامها، فمنكم من يقصر ومنكم من لا يقصر. قوله: (فيا ليت حظي من أربع) أي: فيا ليت نصيبي الذي يحصل لي من أربع ركعات، ركعتان يقبلهما الله تعالى. قوله: (ركعتان) في كثير من النسخ: ركعتين، وهو على مذهب الفراء، فإنه جوز نصب خبر: ليت، كاسمه. وأما وجه: ركعتان، بالرفع فهو الأصل، لأنه خبر: ليت، وخبره مرفوع. وقال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا تجزىء الأربع فاعلها، وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده. وقيل: يريد أنه لو صلى أربعا فيا ليتها تقبل كما تقبل الركعتان. وقال الكرماني: قالوا: غرضه ليت عثمان، رضي الله تعالى عنه، صلى ركعتين بدل الأربع، كما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحباه يفعلونه. وقيل: معناه أنا أتم متابعة لعثمان، رضي الله تعالى عنه، وليت الله قبل مني من الأربع ركعتين.
وفيه: كراهة مخالفة ما كانوا عليه، وبقية المباحث تقدمت هناك.
58
((باب صوم يوم عرفة))
أي: هذا باب في بيان الصوم في يوم عرفة، ولم يبين حكمه لمكان الاختلاف فيه.
8561 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن الزهري قال حدثنا سالم قال
299

سمعت عميرا مولى أم الفضل عن أم الفضل شك الناس يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فبعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراب فشربه.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه بيان ترك النبي، صلى الله عليه وسلم، الصوم في يوم عرفة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: علي بن المديني. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: سالم بن أبي أمية أبو النضر، بالضاد المعجمة: مولى عمر بن عبيد الله بن معمر. الخامس: عمير، مصغر عمرو، مولى ابن عباس. السادس: أم الفضل أم عبد الله ابن عباس، واسمها: لبابة، بضم اللام وتخفيف الباء الموحدة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه بصري وأنه من أفراده. وفيه: أن سفيان مكي وأن الزهري وسالما وعميرا مدنيون..
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الحج عن القعنبي، وفي الصوم عن عبد الله بن يوسف وعن مسدد، وفي الأشربة عن الحميدي، وعن مالك بن إسماعيل وعن عمرو بن القاسم. وأخرجه مسلم في الصوم عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمرو عن زهير بن حرب وعن هارون بن سعيد الأيلي. وأخرجه أبو داود في الصوم عن القعنبي به.
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يصم يوم عرفة؟ فإن قلت: في (صحيح مسلم) أن صومه يكفر سنتين؟ قلت: هذا في غير الحجيج، أما في الحجيج فينبغي لهم أن لا يصوموا لئلا يضعفوا عن الدعاء، وأعمال الحج اقتداء بالشارع، وأطلق كثير من الشافعية كراهته، وإن كان الشخص بحيث لا يضعف بسبب الصوم فقط، فقال المتولي: الأولى أن يصوم حيازة للفضيلة. قال صاحب (التوضيح): ونسب غيره هذا إلى المذهب، وقال: الأولى عندنا لا يصوم بحال. وقال الروياني في (الحلية): إن كان قويا، وفي الشتاء، ولا يضعف بالضعف عن الدعاء، فالصوم أفضل. وقال البيهقي في (المعرفة): قال الشافعي في القديم: لو علم الرجل أن الصوم بعرفة لا يضعفه فصامه كان حسنا، واختار الخطابي هذا. قال صاحب (التوضيح): والمذهب عندنا استحباب الفطر مطلقا، وبه قال جمهور أصحابنا، وصرحوا بأنه لا فرق. ولم يذكر الجمهور الكراهة، بل قالوا: يستحب فطره، كما قاله الشافعي، ونقل الماوردي وغيره استحباب الفطر عن أكثر العلماء، وحكى ابن المنذر عن جماعة منهم: استحباب صومه، وحكى صاحب البيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه يجب عليه الفطر بعرفة. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في صومه، فقال ابن عمر: لم يصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان وأنا لا أصومه. وقال ابن عباس: يوم عرفة لا يصحبنا أحد يريد الصيام فإنه يوم تكبير. وأكل وشرب، واختار مالك وأبو حنيفة والثوري: الفطر، وقال عطاء: من أفطر يوم عرفة ليتقوى به على الذكر كان له مثل أجر الصائم، وكان ابن الزبير وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، يصومان يوم عرفة، وروى أيضا عن عمر، رضي الله تعالى عنه، وكان إسحاق يميل إليه، وكان الحسن يعجبه صومه ويأمر به الحاج، وقال: رأيت عثمان بعرفة في يوم شديد الحر صائما وهم يروحون عنه، وكان أسامة بن زيد وعروة بن الزبير والقاسم ومحمد وسعيد بن جبير يصومون بعرفات. وقال قتادة: لا بأس بذلك إذا لم يضعف عن الدعاء، وبه قال الداودي. وقال الشافعي: أحب صيامه لغير الحاج، أما من حج فأحب أن يفطر ليقويه على الدعاء، وقال عطاء: أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف. وفيه: أن الأكل والشرب في المحافل مباح ليبين معنى: أودعت الصورة فيه. وفيه: جواز قبول الهدية من النساء، ولم يسألها أن كان من مالها، أو من مال زوجها إن كان مثل هذا القدر لا يشاحح الناس فيه.
68
((باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة))
أي: هذا باب في بيان مشروعية التلبية والتكبير إذا غدا، أي: إذا ذهب من منى إلى عرفة.
9561 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن محمد بن أبي بكر الثقفي أنه سأل أنس بن مالك
300

وهما غاديان من منى إلى عرفة كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه.
(انظر الحديث 079).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد ذكروا. وأما الثقفي فليس له في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث، وقد تقدم هذا الحديث في أبواب العيدين في: باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة، أخرجه عن أبي نعيم عن مالك بن أنس قال: حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي، قال: سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية، كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان يلبي الملبي لا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه، فانظر التفاوت بينهما في السند والمتن والمعنى واحد. وقوله
: في هذا الطريق: (كان يلبي منا الملبي)، يوضح معنى قوله: (كان يهل منا المهل) لأن الإهلال رفع الصوت بالتلبية. قوله: (وهما غاديان) جملة اسمية وقعت حالا. أي: ذاهبان غدوة. قوله: (كيف كنتم تصنعون؟) أي: من الذكر طول الطريق، وفي رواية مسلم من طريق موسى بن عقبة، قال: حدثني محمد بن أبي بكر، قال: قلت لأنس بن مالك غداة عرفة: ما تقول في التلبية في هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمنا المكبر ومنا المهل، لا يعيب أحدنا على صاحبه. قوله: (فلا ينكر عليه)، بضم الياء على صيغة المجهول من المضارع، وقد مرت بقية الكلام هناك.
78
((باب التهجير بالرواح يوم عرفة))
أي: هذا باب في بيان التهجير، وهو السير في الهاجرة، وكذلك الهجر والهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحر، وكذلك الهجر، ومنه يقال: هجر النهار، والمراد بالتهجير بالرواح: أن يهجر من نمرة إلى موضع الوقوف بعرفة، والنمرة، بفتح النون وكسر الميم: موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرف وطرف عرفات.
0661 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم قال كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج فجاء ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سرادق الحجاج فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال مالك يا أبا عبد الرحمان فقال الرواح إن كنت تريد السنة قال هاذه الساعة قال نعم قال فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فجعل ينظر إلى عبد الله فلما رأى ذلك عبد الله قال صدق.
مطابقته للترجمة تستفاد من قوله: (هذه الساعة) لأنه أشار به إلى زوال الشمس، وهو وقت الهاجرة، وهو وقت الرواح إلى الموقف لما روى أبو داود من حديث ابن عمر، (قال: غدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة، فنزل نمرة وهو منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عنده صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس ثم راح فوقف). وأخرجه أحمد أيضا. وظاهر هذا الحديث أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، لكن في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم أن توجهه صلى الله عليه وسلم منها كان بعد طلوع الشمس، ولفظه: (فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت، فأتى بطن الوادي فخطب الناس..) الحديث بطوله.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهم.
وأخرجه النسائي في الحج أيضا عن يونس بن عبد الأعلى وعن أحمد بن عمرو بن السرح.
قوله: (كتب عبد الملك) هو ابن مروان الأموي الخليفة، والحجاج هو ابن يوسف الثقفي، وكان واليا بمكة حينئذ لعبد الملك وأميرا على الحاج. قوله: (أن لا يخالف) بلفظ النهي والنفي. قوله: (في الحج) أي: في أحكام الحج، وفي رواية النسائي من طريق أشهب عن مالك: في أمر الحج. قوله:
301

(فجاء ابن عمر) القائل هو سالم والواو في: وأنا، للحال. قوله: (معه) أي: مع ابن عمر، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري: (فركب هو وسالم وأنا معهما)، وفي رواية عبد الرزاق أيضا عن معمر، قال ابن شهاب: (وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة). واختلف الحفاظ في رواية معمر هذه، فقال يحيى بن معين: هي وهم وابن شهاب لم ير ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، ولا سمع منه. وقال الذهلي: لست أدفع رواية معمر لأن ابن وهب روى عن العمري عن ابن شهاب، رحمه الله تعالى، نحو رواية معمر، وروى عنبسة بن خالد عن يونس عن ابن شهاب، رضي الله تعالى عنه.. قال: وفدت إلى مروان وأنا محتلم، قال الذهلي: ومروان مات سنة خمس وستين، وهذه القصة كانت سنة ثلاث وسبعين. انتهى. وقال غيره: إن رواية عنبسة هذه أيضا وهم، وإنما قال الزهري: وفدت على عبد الملك، ولو كان الزهري وفد على مروان لأدرك جلة الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ممن ليست له عنهم رواية إلا بواسطة، وقد أدخل مالك وعقيل، وإليهما المرجع في حديث الزهري، بينه وبين ابن عمر في هذه القصة سالما، فهذا هو المعتمد. قوله: (عند سرادق الحجاج)، السرادق، بضم السين. قال الكرماني: وتبعه غيره أنه هو الخيمة وليس كذلك، وإنما السرادق هو الذي يحيط بالخيمة وله باب يدخل منه إلى الخيمة ولا يعمل هذا غالبا إلا للسلاطين والملوك الكبار، وبالفارسية يسمى: سرابردة. قوله: (ملحفة)، بكسر الميم: الإزار الكبير. قوله: (معصفرة) أي: مصبوغة بالعصفر. قوله: (يا أبا عبد الرحمن) هو كنية عبد الله بن عمر. قوله: (الرواح)، بالنصب أي: رح الرواح أو عجل، قاله الكرماني، والأصوب أن يقال: إنه منصوب على الإغراء أي: ألزم الرواح، والإغراء تنبيه المخاطب على أمر محمود ليفعله. قوله: (إن كنت تريد السنة) وفي رواية ابن وهب: (إن كنت تريد أن تصيب السنة). وقال أبو عمر في (التقصي): هذا الحديث يدخل عندهم في المسند لقوله: (إن كنت تريد السنة)، فالمراد سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا أطلقها غيره ما لم تضف إلى صاحبها، كقولهم: سنة العمرين، وما أشبه ذلك. انتهى. وهذه مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول، والجمهور على ما قال ابن عبد البر، وهي طريقة البخاري ومسلم، ويقويه قول سالم لابن شهاب، إذ قال له: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل تتبعون في ذلك إلا سنته؟ قوله: (فأنظرني) بفتح الهمزة وكسر الظاء المعجمة من الأنظار وهو الإمهال معناه أمهلني وفي رواية الكشميهني (وانظرني) بهمزة الوصل وضم الظاء ومعناه: انتظرني. قوله: (حتى أفيض على رأسي) حتى اغتسل لأن إفاضة الماء على الرأس إنما تكون غالبا في الغسل. قوله: (ثم أخرج)، بالنصب عطف على قوله: (حتى أفيض)، وأصله: حتى أن أفيض، وقال ابن التين: صوابه أفض لأنه جواب الأمر. قوله: (فنزل) أي: ابن عمر، كما صرح به في رواية أخرى على ما يأتي بعد بابين، إن شاء الله تعالى،
وهذا يدل على أنه كان راكبا. قوله: (فسار بيني وبين أبي) أي: سار الحجاج بين سالم وأبيه عبد الله بن عمر، ويحتمل أن يكونوا ركبانا، لأن السنة الركوب حينئذ لمن له راحلة. قوله: (وعجل الوقوف)، قال أبو عمر: رواية يحيى وابن القاسم وابن وهب ومطرف: وعجل الصلاة، وقال القعنبي وأشهب: فأتم الخطبة وعجل الوقوف، جعلا موضع الصلاة الوقوف. قال أبو عمر: وهو عندي غلط، لأن أكثر الرواة عن مالك على خلافه. قيل: رواية القعنبي لها وجه، لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة، ومع هذا وافق القعنبي عبد الله بن يوسف كما ترى، وقال بعضهم: الظاهر أن الاختلاف فيه عن مالك. قلت: هذا ليس بظاهر، وما الدليل عليه؟
ذكر ما يستفاد منه فيه: أن تعجيل الصلاة يوم عرفة سنة مجمع عليها في أول وقت الظهر، ثم يصلى العصر بإثر السلام والفراغ. وفيه: أن إقامة الحج إلى الخلفاء ومن جعلوا ذلك إليه، وهو واجب عليهم يقيموا من كان عالما به. وفيه: الصلاة خلف الفاجر من الولاة ما لم تخرجه بدعته عن الإسلام. وفيه: أن الرجل الفاضل لا يؤاخذ عليه في مشيه إلى السلطان الجائر فيما يحتاج إليه. وفيه: أن تعجيل الرواح للإمام للجمع بين الظهر والعصر بعرفة في أول وقت الظهر سنة. وفيه: الغسل للوقوف بعرفة. وفيه: خروج الحجاج وهو محرم وعليه ملحفة معصفرة ولم ينكر ذلك عليه ابن عمر. وفيه: حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم. وفيه: جواز تأمير الأدنى على الأفضل والأعلم. وفيه: ابتداء العالم بالفتيا قبل أن يسأل عنه. وفيه: الفهم بالإشارة والنظر. وفيه: أن اتباع الشارع هو السنة وإن كان في المسألة أوجه جائز غيرها. وفيه: فتوى التلميذ بحضرة أستاذه عند السلطان وغيره. وفيه: جواز الذهاب من العالم إلى السلطان، سواء كان جائرا أو غير جائر، لأجل إرشاده إياه إلى الخير
302

وإيقافه على ما لا يعلم من السنة. وفيه: صياح العالم عندما كان السلطان فيه ليسرع إليه في الإجابة. وفيه: أن السلطان أو نائبه يعمل في الدين بقول أهل العلم ويرجع إلى قولهم. وفيه: تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس. وفيه: احتمال المفسدة القليلة لتحصيل المصلحة الكبيرة، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه. وفيه: الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به. وفيه: الخطبة فعند أبي حنيفة، يخطب خطبتين بعد الزوال وبعد الأذان قبل الصلاة كخطبة الجمعة، ولو خطب قبل الزوال جاز، وعند أصحابنا في الحج ثلاث خطب: أولها: في اليوم السابع من ذي الحجة، وهو قبل يوم التروية بيوم، يعلم الناس فيها الخروج إلى منى. والثانية: يوم عرفة، وهو التاسع من الشهر يعلم الناس فيها ما يجب من الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار والنحر وطواف الزيارة. والثالثة: بمنى بعد يوم النحر، وهو الحادي عشر من الشهر، يحمد الله ويشكره على ما وفق من قضاء مناسك الحج، ويحض الناس على الطاعات، ويحذرهم عن اكتساب الخطايا، فيفصل بين كل خطبتين بيوم. وقال زفر: يخطبها في ثلاثة أيام متواليات: يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر. وعند الشافعي: في الحج أربع خطب مسنونة: إحداها بمكة يوم السابع، والثانية: يوم عرفة والثالثة: يوم النحر بمنى، والرابعة: يوم النفرالأول بمنى، وعند مالك: ثلاث خطب، الأولى: يوم السابع بمكة بعد الظهر خطبة واحدة ولا يجلس فيها. الثانية: بعرفات بعد الزوال بجلسة في وسطها. والثالثة: في اليوم الحادي عشر. وعند أحمد كذلك ثلاث خطب، ولا خطبة في اليوم السابع بمكة، بل يخطب بعرفات بعد الزوال، ثم يخطب بمنى يوم النحر في أصح الروايتين، ثم كذلك ثاني أيام منى بعد الظهر. وقال ابن حزم: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحد ثاني يوم النحر، وهو مذهب أبي حنيفة أيضا وهو يوم النفر وفيه حديث في (سنن أبي داود) وآخر في (مسند أحمد) والدارقطني، وقال ابن حزم: وقد روى أيضا أنه خطبهم يوم الاثنين وهو يوم الأكارع، وأوصى بذوي الأرحام خيرا. قال ابن قدامة: وروي عن أبي هريرة أنه كان يخطب العشر كله، وروي عن ابن الزبير كذلك، رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه).
88
((باب الوقوف على الدابة بعرفة))
أي: هذا باب في بيان الوقوف راكبا على الدابة في عرفة.
1661 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي النضر عن عمير مولى عبد الله ابن العباس عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهو واقف على بعيره)، وقد مضى الحديث قبل هذا الباب ببابين، فإنه أخرجه هناك: علي بن عبد الله عن سفيان عن الزهري عن سالم.. إلى آخره، وهنا: عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن أبي النضر، بسكون الضاد المعجمة. وهو سالم بن أبي أمية إلى آخره، فانظر التفاوت بينهما في المتن والسند، ولكن الحاصل واحد.
قوله: (عن عمير)، بضم العين، وذكر هناك أنه مولى عبد الله بن عباس، وفي ذاك الباب قال: مولى أم الفضل، ووجهه أنه إما كان مولى لهما جميعا، أو كان مولى لأم الفضل ونسب إلى عبد الله مجازا، أو بالعكس. واسم أم الفضل: لبابة، وقد مر هناك. قوله: (فأرسلت) بلفظ التكلم، وبلفظ الغيبة، كما في ذاك الباب، كذلك في قوله: (فبعثت).
واختلف أهل العلم أن الركوب أفضل أو تركه بعرفة، فذهب الجمهور إلى أن الركوب أفضل لكونه صلى الله عليه وسلم وقف راكبا، ولأن في الركوب عونا على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب هناك. وفيه: قوة، وهو ما اختاره مالك والشافعي، وعنه قول: إنهما سواء. وفيه: أن الوقوف على ظهر الدابة مباح إذا كان
بالمعروف ولم يجحف بالدابة، والنهي الوارد: (لا تتخذوا ظهورها منابر)، محمول على الأغلب الأكثر بدليل هذا الحديث، وقال ابن التين: من سهل عليه بذل المال وشق عليه المشي فمشيه أكثر أجرا له، ومن شق عليه
303

بذله وسهل عليه المشي فركوبه أكثر أجرا له، وهذا على اعتبار المشقة في الأجور.
98
((باب الجمع بين الصلاتين بعرفة))
أي: هذا باب في بيان جواز الجمع بين الصلاتين أي: الظهر والعصر بعرفة يوم عرفة، ولم يبين الحكم اكتفاء بما في حديث الباب، أو لمكان الخلاف فيه، فإن مالكا والأوزاعي قالا: يجوز الجمع بعرفة والمزدلفة لكل أحد، وهو وجه للشافعية، وقول أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة: لا يجمع بينهما إلا من صلاها مع الإمام، وهو مذهب النخعي والثوري وعند الشافعي ومالك وأحمد، سبب هذا الجمع السفر، حتى لا يجوز لأهل مكة ولا لمن كان مقيما هناك أن يجمع. وفي (الروضة): أما الحجاج من أهل الآفاق فيجمعون بين الظهر والعصر بعرفة في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء، وذلك الجمع بسبب السفر على المذهب الصحيح، وقيل: بسبب النسك، فإن قلنا بالأول ففي جمع المكي قولان، لأن سفره قصير ولا يجمع العرفي بعرفة ولا المزدلفي بمزدلفة لأنه وطنه، وهل يجمع كل واحد منهما بالبقعة الأخرى؟ فيه القولان كالمكي، وإن قلنا بالثاني جاز الجمع لجميعهم، ومن الأصحاب من يقول: في جمع المكي قولان: الجديد منعه، والقديم جوازه، وعلى القديم في العرفي والمزدلفي وجهان، والمذهب جمعهم على الإطلاق، وحكم الجمع في البقعتين حكمه في سائر الأسفار، ويتخير في التقديم والتأخير، والاختيار التقديم بعرفة والتأخير بمزدلفة.
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا فاتته الصلاة مع الإمام جمع بينهما
مطابقته للترجمة ظاهرة، فإن فيه الجمع بين الصلاتين، وهذا تعليق وصله إبراهيم الحربي في المناسك له، قال: حدثنا الحوضي عن همام أن نافعا حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله، وأخرجه الثوري في (جامعه) برواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع مثله، وأخرجه ابن المنذر من هذا الوجه.
وقال الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سالم أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير رضي الله تعالى عنهما سأل عبد الله رضي الله تعالى عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة فقال سالم إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة فقال عبد الله بن عمر صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة فقلت لسالم أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سالم وهل تتبعون في ذالك إلا سنته. مطابقته للترجمة في قوله: (كانوا يجمعون بين الظهر والعصر)، والليث هو ابن سعد، وعقيل بضم العين ابن خالد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر. وهذا تعليق وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح جميعا عن الليث.
قوله: (عام نزل بابن الزبير)، وهو عبد الله بن الزبير، وكان نزوله في سنة ثلاث وسبعين. قوله: (سأل عبد الله)، أي سأل الحجاج عبد الله بن عمر. قوله: (فهجر) أمر من التهجير أي: صل بالهاجرة، وهي شدة الحر. قوله: (في السنة)، بضم السين وتشديد النون أي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحل هذه نصب على الحال من فاعل: يجمعون، أي: متوغلين في السنة، إنما قال ذلك تعريضا بالحجاج. وقال الكرماني: ما وجه مطابقة كلام عبد الله لكلام ولده سالم؟ ثم أجاب بقوله، لعله أراد من الصلاة صلاة الظهر والعصر كليهما، فكأنه أمر بتهجير الصلاتين، فصدقه عبد الله في ذلك. قوله: (فقلت لسالم) القائل هو ابن شهاب. قوله: (أفعل ذلك؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (وهل تتبعون؟) بتشديد التاء المثناة من فوق وكسر الباء الموحدة بعدها عين مهملة: من الاتباع، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: تبتغون، بفتح التائين المثناتين من فوق بينهما باء موحدة وبالغين المعجمة: من الابتغاء، وهو الطلب. قوله: (في ذلك) أي: في ذلك الفعل، وفي رواية
304

الحموي بحذف كلمة: في، وهي مقدرة، ويروى بذلك، وقال الكرماني: أي في الجمع أو التهجير.
09
((باب قصر الخطبة يوم عرفة))
أي: هذا باب في بيان قصر الخطبة في يوم عرفة.
3661 حدثنا عبد الله بن مسلمة أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وأنا معه حين زاغت الشمس أو زالت فصاح عند فسطاطه أين هاذا فخرج إليه فقال ابن عمر فقال الآن قال نعم قال أنظرني أفيض علي ماء فنزل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر صدق.
(انظر الحديث 0661 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (فاقصر الخطبة)، وهذا الحديث قد مضى عن قريب في: باب التهجير بالرواح يوم عرفة فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن
مالك، وهنا عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
قوله: (أن يأتم) أي: يقتدى. قوله: (زاغت) أي: مالت. قوله: (أو زالت) شك من الراوي. قوله: (عند فسطاطه) وهو بيت من شعر، وفيه لغات تقدمت. قوله: (أفيض)، هو استئناف كلام، ويروى: أفض، بالجزم لأنه جواب الأمر، قوله: (إن كنت تريد) الخطاب للحجاج، ويروي: لو كنت، فكلمة: لو، على هذه بمعنى: أن، يعني لمجرد الشرطية بدون ملاحظة الامتناع. فافهم.
((باب التعجيل إلى الموقف))
هكذا وقع هذا الباب بهذه الترجمة عند الأكثرين بغير حديث فيه، وسقط من رواية أبي ذر أصلا، وقال الكرماني: واعلم أنه وقع في بعض النسخ هنا زيادة: وهو باب التعجيل إلى الموقف، وقال أبو عبد الله: يراد في هذا الباب: هم هذا الحديث حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا، أقول: هذا تصريح من البخاري بأنه لم يعد حديثا في هذا الجامع ولم يكرر شيئا منه، وما اشتهر أن نصفه تقريبا مكرر، فهو قول إقناعي على سبيل المسامحة، وأما عند التحقيق فهو لا يخلو إما من تقييد أو إهمال أو زيادة أو نقصان أو تفاوت في الإسناد ونحوه، وكلمة: هم، بفتح الهاء وسكون الميم، قيل: إنها فارسية، وقيل: عربية، ومعناها قريب من معنى لفظ أيضا. انتهى. قلت: أراد بقوله: وقال أبو عبد الله البخاري نفسه لأن كنيته أبو عبد الله قوله: (هذا الحديث) أراد به حديث مالك الذي رواه عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهو الذي رواه البخاري من طريقين: أحدهما: طريق عبد الله بن يوسف. والآخر: طريق عبد الله بن مسلمة كلاهما عن مالك. وقوله: (معادا) أي: مكررا، وحاصل هذا الكلام أنه قال: زيادة الحديث المذكور وكانت مناسبة أن تدهل في هذا الباب، أعني باب التعجيل إلى الموقف، ولكني ما أدخلته فيه لأني لا أدخل فيه مكررا، وكأنه لم يظفر بطريق آخر فيه غير الطريقين المذكورين، فلذلك لم يدخله، وهذا يدل على أنه لا يعيد حديثا ولا يكرره في هذا الكتاب إلا لفائدة من جهة الإسناد، أو من جهة المتن، قال: وإن وقع شيء خارج من ذلك يكون اتفاقيا لا قصدا، ومع ذلك فهو نادر قليل الوقوع، وأما قول الكرماني، وكلمة هم... إلى رخره، فهو تصرف من عنده، تصرف فيها حين وقف على النسخة التي قال فيها: وقع في بعض النسخ، ونقل عنها أنه قال: هم هذا الحديث، والظاهر أنه وقع منه هذه اللفظة في كلامه من غير قصد، فنقل منه على هذا الوجه، وأن هذه اللفظة فارسية وليست بعربية. والله تعالى أعلم.
305