الكتاب: عون المعبود
المؤلف: العظيم آبادي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٢٩
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤١٥
المطبعة: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

عون المعبود
شرح سنن أبي داود
للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي
مع شرح الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية
محتوى الجزء الثاني
تتمة كتاب الطهارة - كتاب الصلاة.
دار الكتب العلمية
بيروت لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
(باب في الغسل للجمعة)
هل هو واجب يأثم بتركه أم لا
(بينا هو يخطب) وفي بعض النسخ بينما. وبينا أصله بين وأشبعت فتحة النون فصار
بينا وقد تبقى بلا إشباع، ويزاد فيها ما فتصير بينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجآت (إذ
دخل رجل) هو عثمان بن عفان ففي رواية مسلم: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم
الجمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرض به عمر. وقوله إذ دخل رجل جواب بينا (فقال عمر
أتحتبسون عن الصلاة) أي في أول وقتها فإنكار عمر رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه
لأجل احتباسه عن التبكير (فقال الرجل) أي عثمان (ما هو) أي الاحتباس (إلا أن سمعت
النداء) أي الأذان (فتوضأت) وحضرت الصلاة ولم أشتغل بشئ بعد أن سمعت الأذان إلا
بالوضوء (فقال عمر الوضوء) هذا إنكار آخر على ترك الواجب أو السنة المؤكدة وهي الغسل.
وقوله: الوضوء جاءت الروايات فيها بالواو وحذفها، ففي رواية البخاري: والوضوء بالواو، وفي
رواية الموطأ: الوضوء بحذف الواو. قال الحافظ ابن حجر: والوضوء في روايتنا بالنصب،
والمعنى أي تتوضأ الوضوء مقتصرا عليه، وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ حذف خبره أي
الوضوء تقتصر عليه أو هو خبر مبتدؤه محذوف أي كفايتك الوضوء (أيضا) منصوب على أنه
مصدر من أض يئيض أي عاد ورجع. قال ابن السكيت: تقول فعلته أيضا إذا كنت قد فعلته بعد
شئ آخر كأنك أفدت بذكرهما الجمع بين الأمرين أو الأمور. ذكره العلامة العيني. قال
3

السيوطي: فيه دليل على أن لفظ أيضا عربية وقد توقف به جمال الدين بن هشام. قلت: وفي
حديث سمرة في الكسوف: (أن الشمس اسودت حتى آضت) قال أبو عبيد: أي صارت
ورجعت. وقد أثبته أهل اللغة كما يظهر من اللسان. والمعنى ألم يكفك أن فاتك فضل المبادرة
إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل واقتصرت على الوضوء أيضا (أو لم تسمعوا) بهمزة
الاستفهام والواو العاطفة (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) الفاء للتعقيب وظاهره أن الغسل
يعقب المجئ وليس ذلك المراد، وإنما التقدير: إذا أراد أحدكم، وقد جاء مصرحا به في رواية
عند مسلم بلفظ: (إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل) قال الحافظ ابن حجر: ونظير
ذلك قوله تعالى: (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) فإن المعنى: إذا أردتم
المناجاة بلا خلاف. قال الخطابي في المعالم: وفيه دلالة على أن غسل يوم الجمعة غير
واجب ولو كان واجبا لأشبه أن يأمر عمر عثمان أن ينصرف فيغتسل، فدل سكوت عمر ومن
حضره من الصحابة على أن الأمر به على سبيل الاستحباب دون الوجوب وليس يجوز على
عمرو عثمان ومن بحضرتهما من المهاجرين والأنصار أن يجتمعوا على ترك واجب. انتهى.
قال الحافظ في الفتح: وعلى هذا الجواب عول أكثر المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة
والطبراني والطحاوي وابن حبان وابن عبد البر وهلم جرا، وزاد بعضهم فيه أن من حضر من
الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعا منهم، على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة
وهو استدلال قوي. انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من
حديث عبد الله بن عمر عن أبيه.
(غسل يوم الجمعة واجب) قال الخطابي: معناه وجوب الاختيار والاستحباب دون
وجوب الفرض كما يقول الرجل لصاحبه حقك على واجب وأنا أوجب حقك وليس ذلك بمعنى
اللزوم والذي لا يسع غيره ويشهد لصحة هذا التأويل حديث عمر الذي تقدم ذكره انتهى. قال
ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة وهم
محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة
الوجوب على التأكيد كما يقال إكرامك على واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان
4

المعارض راجحا على هذا الظاهر وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث (من توضأ يوم
الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل) ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث انتهى.
(على كل محتلم) أي بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب وتفسيره بالبالغ مجاز لأن
الاحتلام يستلزم البلوغ والقرينة الماسة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه
الإنزال موجب للغسل سواء كان يوم الجمعة أم لا. ذكره الزرقاني. قال المنذري: وأخرجه
البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(رواح الجمعة) الرواح ضد الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل كذا
ذكر جماعة من أئمة اللغة، لكن أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال،
ونقل أن العرب تقول راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في الغريبين نحوه (وعلى كل من راح الجمعة الغسل) الغسل مبتدأ مؤخر وعلى كل
من راح الجمعة خبره. وهذا الحديث عام مخصوص منه البعض فإن صلاة الجمعة لا تجب على
المسافر والمريض وغير ذلك وإن كانوا بالغين قال المنذري: حسن وأخرجه النسائي (إذا
اغتسل الرجل بعد طلوع الفجر أجزأه من غسل الجمعة وإن أجنب) وأما قبل طلوع الفجر فلا
لأن طلوع الفجر أول اليوم شرعا فمن اغتسل قبل طلوع الفجر لا يجزئ عن الجمعة لأنه
اغتسل قبل مجئ الوقت. قال ابن المنذر: أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون يجزئ
غسلة واحدة للجنابة والجمعة. وقال ابن بطال رويناه عن ابن عمر ومجاهد ومكحول والثوري
والأوزاعي وأبي ثور. وقال أحمد: أرجو أن يجزيه. وهو قول أشهب وغيره وبه قال المزني وعن
أحمد لا يجزيه عن غسل الجنابة حتى ينويها وهو قول مالك في المدونة، وذكره ابن عبد
الحكم. وذكر ابن المنذر عن بعض ولد أبي قتادة أنه قال من اغتسل يوم الجمعة للجنابة اغتسل
للجمعة. قاله العيني في عمدة القاري.
5

(وهذا حديث محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق) الحاصل أن يزيد وعبد العزيز
كلاهما يرويان عن محمد بن سلمة، وأما موسى فيروي عن حماد ثم محمد بن سلمة
وحماد بن سلمة كلاهما يرويان عن محمد بن إسحاق، لكن هذا الحديث المروي هو لفظ
محمد بن سلمة وليس لفظ حماد (قال يزيد وعبد العزيز في حديثهما) عن محمد بن سلمة عن
محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عن
أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا) وأما موسى بن سلمة فخالف في بعض الاسناد (ولبس
من أحسن ثيابه) وفيه استحباب التجمل والزينة يوم الجمعة الذي هو عيد للمسلمين (فلم يتخط
أعناق الناس) أي لم يتجاوز رقاب الناس ولم يؤذهم وهو كناية عن التبكير أي على المصلي أن
يبكر فلا يتخطى رقاب الناس ولا يفرق بين اثنين ولا يزاحم رجلين فيدخل بينهما لأنه ربما ضيق
عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس (ثم صلي ما كتب الله له) أي يصلي ما شاء.
وفيه دليل على أنه ليس قبل الجمعة مخصوصة مؤكدة ركعتان أو أربع ركعات مثلا كالسنة
بعد الجمعة، فالمصلي إذا دخل المسجد يوم الجمعة فله أن يصلي ما شاء متنفلا. وأما ما رواه
ابن ماجة عن ابن عباس قال: (كان النبي يركع من قبل الجمعة أربعا لا يفصل في شئ
منهن) ففي إسناده بقية ومبشر بن عبيد والحجاج ابن أرطاة وعطية العوفي وكلهم متكلم فيه (ثم
أنصت) يقال: أنصت إذا سكت وأنصته إذا أسكته فهو لازم ومعتد والأول المراد ههنا (حتى
يفرغ من صلاته) أي يفرغ المصلي أو الامام، والأول أظهر (كانت) هذه المذكورات من
الغسل، ولبس أحسن الثياب ومس الطيب وعدم التخطي والصلاة النافلة والإنصات (كفارة لما
بينها) أي الجمعة الحاضرة (وبين جمعته التي قبلها) قال الإمام الخطابي: يريد بذلك ما بين
الساعة التي يصلي فيها الجمعة إلى مثلها من الجمعة الأخرى لأنه لو كان المراد به ما بين
الجمعتين على أن يكون الطرفان وهما يوم الجمعة غير داخلين في العدد لكان لا يحصل له من
6

عدد المحسوب أكثر من ستة أيام، ولو أراد ما بينهما على معنى إدخال الطرفين فيه بلغ العدد
ثمانية فإذا ضمت إليها الثلاثة المزيدة التي ذكرها أبو هريرة صار جملتها إما أحد عشر على أحد
الوجهين، وإما تسعة أيام على الوجه الآخر، فدل على أن المراد به ما قلناه على سبيل التكسير
لليوم ليستقيم الأمر في تكميل عدد العشرة. انتهى كلامه (قال ويقول أبو هريرة وزيادة ثلاثة
أيام ويقول إن الحسنة بعشر أمثالها) قال هذا القول محمد بن سلمة ويحتمل أن يكون مقولة
أبي سلمة بن عبد الرحمن الراوي عن أبي هريرة. فإن قلت تكفير الذنوب الماضية بالحسنات
وبالتوبة وبتجاوز الله تعالى، وتكفير الذنوب الأيام الثلاث الآتية الزائدة على الأسبوع هو تكفير
الذنب قبل وقوعه فكيف يعقل، قلت المراد عدم المؤاخذة به إذا وقع، ومنه ما ورد في صحيح
مسلم في مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر. قال المنذري: وأخرجه مسلم مختصرا من
حديث أبي صالح عن أبي هريرة وأدرج وزيادة ثلاثة أيام في الحديث.
(الغسل يوم الجمعة على كل محتلم) وفي رواية البخاري بلفظ الغسل يوم الجمعة
واجب على كل محتلم (والسواك) بالرفع معطوف على قوله الغسل (ويمس من الطيب) قال
النووي: معناه ويسن له سواك ومس الطيب (ما قدر له) وفي رواية مسلم ما قدر عليه. قال
القاضي عياض: يحتمل ما قدر عليه إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه ويحتمل إرادة الكثرة، والأول
أظهر، ويؤيده قوله الآتي ولو من طيب المرأة لأنه يكره استعماله للرجال وهو ما ظهر لونه وخفي
ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك (أن بكيرا لم يذكر) واسطة
(عبد الرحمن) بين عمرو بن سليم وأبي سعيد الخدري كما ذكره سعيد بن أبي هلال (وقال)
بكير (ولو من طيب المرأة) وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه وهو المكروه للرجال، فأباحه للرجال
للضرورة لعدم غيره.
7

وهذا الحديث يدل على وجوب غسل يوم الجمعة للتصريح فيه بلفظ الواجب في رواية
البخاري. وقد استدل به على عدم الوجوب باعتبار اقترانه بالسواك ومس الطيب. قال
القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب
والاستنان والطيب كذلك. قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب إذ لا
يصح تغريك النبي ما ليس بواجب بالواجب بلفظ واحد. انتهى. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع
عطف ما ليس بواجب على الواجب لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن
المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب
عليه لأن للقائل أن يقول أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل. قال المنذري: وأخرجه مسلم
والنسائي وأخرجه البخاري من حديث عمرو بن سليم الزرقي عن أبي سعيد بنحوه.
(الجرجرائي) نسبة إلى جرجرايا بفتح الجيمين وتسكين الراء الأولى وفتح الثانية: مدينة
من أرض العراق بين واسط وبغداد (حبي) بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة وآخره ياء
المتكلم: لقب لمحمد بن حاتم (يقول من غسل) بالتشديد والتخفيف (يوم الجمعة واغتسل)
قال الإمام الخطابي: اختلف الناس في معناهما، فمنهم من ذهب إلى أنه من الكلام المتظاهر
الذي يراد به التوكيد ولم تقع المخالفة بين اللفظين لاختلاف المعنيين، ألا تراه يقول في هذا
الحديث: ومشى ولم يركب ومعناهما واحد، وإلى هذا ذهب الأثرم صاحب أحمد. وقال
بعضهم: غسل معناه غسل الرأس خاصة وذلك لأن العرب لهم لمم وشعور غسلها مؤنة
فأفرد ذكر غسل الرأس من أجل ذلك، وإلى هذا ذهب مكحول وقوله اغتسل معناه سائر
الجسد، وزعم بعضهم أن قوله غسل أي معناه أصاب أهله قبل خروجه إلى الجمعة ليكون
أملك لنفسه وأحفظ لبصره في طريقه قال ومن هذا قول العرب: فحل غسله إذا كثر الضرب.
انتهى. (ثم بكر) بالتشديد على المشهور قال النووي أي راح في أول وقت (وابتكر) أي أدرك
أول الخطبة ورجحه العراقي في شرح الترمذي، وقيل كرره للتأكيد، وبه جزم ابن العربي في
عارضة الأحوذي. قال ابن الأثير في النهاية: بكر أتى الصلاة في أول وقتها، كل من أسرع إلى
شئ فقد بكر إليه، وأما ابتكر فمعناه أدرك أول الخطبة، وأول كل شئ باكورته، وابتكر الرجل:
إذا أكل باكورة الفواكه، وقيل: معنى اللفظين واحد، فعل وافتعل، وإنما كرر للمبالغة والتوكيد
8

كما قالوا جاد مجد. انتهى (ومشى ولم يركب) قال الخطابي: معناهما واحد، وإنه للتأكيد وهو
قول الأثرم صاحب أحمد. انتهى (ولم يلغ) من لغا يلغو لغوا معناه: استمع الخطبة ولم يشتغل
بغيرها. قال النووي: معناه لم يتكلم، لأن الكلام حال الخطبة لغو (كان له بكل خطوة) بضم
الخاء بعد ما بين القدمين (عمل سنة أجر صيامها وقيامها) أي صيام السنة وقيامها، وهو بدل:
من عمل سنة. قال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي. حديث
أوس بن أوس حديث حسن.
(عن عمرو بن شعيب عن أبيه) تقدم الكلام في الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب في
باب الوضوء ثلاثا ثلاثا (كانت كفارة لما بينهما) أي كانت الخصال كفارة لما بين الجمعتين
(ومن لغا) قال ابن الأثير: لغا الانسان ولغى يلغي ولغي يلغي إذا تكلم بالمطرح وإن من الكلام
وما لا يعني. وفي الحديث: (من قال لصاحبه والإمام يخطب صه فقد لغا) وقوله من مس
الحصى لغا) أي تكلم، وقيل عدل عن الصواب، وقيل خاب، والأصل الأول انتهى
(كانت) هذه الصلاة (له) لهذا المصلى (ظهرا) أي مثل صلاة الظهر في الثواب فيحرم هذا
المصلى بتخطي رقاب الناس واللغو عند الخطبة عن هذا الثواب الجزيل الذي يحصل لمصلي
الجمعة وهو الكفارة من هذه الجمعة الحاضرة إلى الجمعة الماضية أو الآتية وأجر عبادة
سنة قيامها وصيامها.
9

(كان يغتسل من أربع) قال الإمام الخطابي: قد يجمع النظم قرائن الألفاظ والأسماء
المختلفة الأحكام والمعاني ترتبها وتنزلها كما منازلها. أما الاغتسال من الجنابة فواجب بالاتفاق.
وأما الاغتسال للجمعة فقد قام الدليل على أنه كان عليه السلام يفعله ويأمر به استحبابا.
ومعقول أن الاغتسال من الحجامة إنما هو لإماطة الأذى وإنما لا يؤمن من أن يكون أصاب
المحتجم رشاش من الدم، فالاغتسال منه استظهار بالطهارة واستحباب للنظافة. فأما الاغتسال
من الميت فقد اتفق أكثر العلماء على أنه غير واجب، وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (من غسل ميتا فليغتسل) وروى عن ابن المسيب والزهري معنى ذلك، وقال النخعي
وأحمد وإسحاق: يتوضأ غاسل الميت، وروى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: ليس على
غاسل الميت غسل، وقال أحمد: لا يثبت في الاغتسال من غسل الميت حديث، وقال أبو
داود: حديث مصعب بن شيبة ضعيف ويشبه أن يكون من رأى الاغتسال منه إنما رأى ذلك لما
لا يؤمن من أن يصيب الغاسل من رشاش المغسول نضح وربما كانت على بدن الميت نجاسة،
فأما إذا علمت سلامته فلا يجب الاغتسال منه. انتهى. قال المنذري: وأخرجه في الجنائز
وقال: هذا منسوخ، وقال أيضا: وحديث مصعب فيه خصال ليس العمل عليه، وقال
البخاري: حديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك، وقال الإمام أحمد بن حنبل وعلي بن
المديني: لا يصح في هذا الباب شئ، وقال محمد بن يحيى رضي الله عنهم: لا أعلم فيمن
غسل ميتا فليغتسل حديثا ثابتا، ولو ثبت لزمنا استعماله. انتهى.
10

(من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة) بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا
كغسل الجنابة، وتشهد بذلك رواية ابن جريج عند عبد الرزاق: فاغتسل أحدكم كما يغتسل من
الجنابة. واختلفوا في معنى غسل الجنابة، فقال قوم: إنه حقيقة حتى يستحب أن يواقع زوجته
ليكون أغض لبصره وأسكن لنفسه وليغتسل فيه من الجنابة. وفيه حمل المرأة أيضا على
الاغتسال ذلك اليوم وعليه حمل قائل ذلك حديث أوس الثقفي من غسل يوم الجمعة واغتسل
على رواية من روى غسل بالتشديد. وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد، وثبت أيضا عن
جماعة من التابعين، وقال القرطبي: إنه أنسب الأقوال (ثم راح) أي ذهب أول النهار. قال
الإمام الخطابي: معناه قصدها وتوجه إليها مبكرا قبل الزوال، وإنما تأولنا على هذا المعنى لأنه
لا يجوز أن يبقى بعد الزوال من وقت الجمعة خمس ساعات، وهذا جائز في الكلام أن يقول
الرجل راح لكذا ولأن يفعل كذا، بمعنى أنه قصد إيقاع فعله وقت الرواح، كما يقال للقاصدين
للحج حجاج الرواح ولما يحجوا بعد، وللخارجين هو إلى الغزو وغزاة ونحو ذلك من الكلام قائما حقيقة
الرواح فإنما هو بعد الزوال. وأخبرني الحسن بن يحيى عن أبي بكر بن المنذر قال: كان
مالك بن أنس يقول: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، وهذه الأوقات كلها في ساعة واحدة.
قلت: كأنه قسم الساعة التي يحين فيها الرواح للجمعة أقساما خمسة، فسماها ساعات على
معنى التشبيه والتقريب، كما يقول القائل: قعدت ساعة وتحدثت ساعة ونحو ذلك، يريد جزءا
من الزمان غير معلوم، وهذا على سعة مجاز الكلام وعادة الناس في الاستعمال. انتهى.
(فكأنما قرب) بتشديد الراء (بدنة) أي تصدق بها متقربا إلى الله تعالى. والمراد بالبدنة البعير
ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا التأنيث (ومن راح في الساعة الثانية) قد عرفت آنفا
معنى راح، والساعة من قول الإمام الخطابي (بقرة) التاء فيها للوحدة. قال الجوهري: البقر
اسم جنس، والبقرة تقع على الذكر والأنثى وإنما دخله الهاء على أنه واحد من جنس (كبشا
أقرن) الكبش هو الفحل، وإنما وصف بالأقرن لأنه أكمل وأحسن صورة، ولأن القرن ينتفع به
(دجاجة) بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان. والدجاجة تقع على الذكر والأنثى، والتاء
للوحدة لا للتأنيث (بيضة) واحد من البيض والجمع بيوض، وجاء في الشعر بيضات (الذكر)
11

المراد بالذكر ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه.
(باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة)
(كان الناس مهان أنفسهم) قال الخطابي: المهان جمع ما هن وهو الخادم، يريد أنهم
كانوا يخدمون لأنفسهم في الزمان الأول، حيث لم يكن لهم خدم يكفون لهم المهنة، والإنسان
إذا باشر العمل الشاق حمى بدنه وعرق سيما في البلد الحار فربما تكون منه الرائحة، فأمروا
بالاغتسال تنظيفا للبدن وقطعا للرائحة. انتهى (فقيل لهم: لو اغتسلتم) لو للتمني فلا تحتاج
إلى جواب أو للشرط، فالجواب محذوف لكان حسنا. وحديث عائشة هذا استدل به
على عدم وجوب غسل الجمعة، ووجه دلالته أنهم لما أمروا وسلم بالاغتسال لأجل تلك الروائح
الكريهة، فإذا زالت زال الوجوب.
وأجيب عنه بوجهين: الأول أنا لا نسلم أنها إذا زالت العلة زال الوجوب، كما في وجوب
السعي مع زوال العلة التي شرع لها وهي إغاظة المشركين، والثاني بأنه ليس فيه نفي
الوجوب، وبأنه سابق على الأمر به والأعلام بوجوبه، والله تعالى أعلم. قال المنذري:
وأخرجه البخاري ومسلم بنحوه.
12

(كان الناس مجهودين) الجهد بالفتح المشقة والعسرة، يقال: جهد الرجل فهو مجهود
إذا وجد مشقة، وجهد الناس فهم مجهودون إذا أجدبوا، ومجهدون عنه معسرون. كذا في النهاية،
والمعنى أنهم كانوا في المشقة والعسرة لشدة فقرهم (مقارب السقف) لقلة ارتفاع الجدار (إنما
هو) أي سقف المسجد (عريش) بفتح العين هو كل ما يستظل به. والمراد أن سقف المسجد
كان من جريد النخل كما في رواية المؤلف عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن والجريد وسقفه بجريد وعمده الخشب (حتى ثارت منهم رياح)
أي طارت وانتشرت (اذى بذلك) الريح (بعضهم) فاعل آذى (بعضا) مفعول آذى (وكفوا
العمل) بصيغة المجهول من كفى يكفي ولفظة كفى تجئ لمعان منها أجزأ وأغنى ومنها
وقى. والأولى متعدية لواحد كقوله: قليل منك يكفيني، ولكن قليل لا يقال له قليل.
والثانية متعدية لاثنين كقوله تعالى: (كفى الله المؤمنين القتال) وههنا بمعنى وقى، أي
وقاهم خدامهم وغلمانهم عن العمل والتعب والشدة (وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم
بعضا من العرق) بفتح العين والراء وهو ما يخرج من الجسد وقت الحرارة. وقوله من العرق
بيان لقوله بعض الذي، والمعنى: أن العرق الذي كان يؤذي به بعضهم ذهب وزال
بسبب لبسهم غير الصوف.
(من توضأ فبها) قال الخطابي قال الأصمعي: أي فبالسنة أخذ. انتهى. وقال ابن الأثير:
والباء في قوله فيها متعلقة بفعل مضمر، أي فبهذه الخصلة أو الفعلة يعنى الوضوء ينال الفضل
انتهى (ونعمت) بكسر النون وسكون العين هذا هو المشهور، وروى بفتح النون وكسر العين
13

وفتح الميم وهو الأصل في هذه اللفظة. قال الإمام الخطابي: نعمت الخصلة أو نعمت الفعلة
ونحو ذلك. وإنما أظهرت التاء التي هي علامة التأنيث لاضمار السنة أو الخصلة أو الفعلة.
انتهى. (ومن اغتسل فهو أفضل) قال الخطابي: وفيه البيان الواضح أن الوضوء كاف للجمعة،
وأن الغسل لها فضيلة لا فريضة. وقال الترمذي: دل هذا الحديث على أن غسل يوم الجمعة
فيه فضل من غير وجوب يجب على المرء. انتهى. وقال الحافظ: فأما الحديث فعول على
المعارضة به كثير من المحدثين، ووجه الدلالة منه قوله: (فالغسل أفضل) فإنه يقتضي اشتراك
الوضوء والغسل في أصل الفضل فيستلزم إجزاء الوضوء ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها
رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان:
إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه، وأخرجه ابن ماجة من حديث
أنس والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة والبزار من حديث أبي سعيد وابن عدي من
حديث جابر وكلها ضعيفة. انتهى. قال المنذري: وأخرجه الترمذي: وقال الترمذي حديث
سمرة حديث حسن. وقال: ورواه بعضهم عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبد
الرحمن النسائي: الحسن عن سمرة كتاب ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.
هذا آخر كلامه. وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة شيئا ولا لقيه، وقيل: إنه سمع منه،
ومنهم من عين سماعه لحديث العقيقة، كما ذكره النسائي. وقوله: فيها ونعمت أي فبالرخصة
أخذ ونعمت السنة ترك. وقيل: فبالسنة أخذ ونعمت الخصلة الوضوء، والأول أصح لأن
الذي ترك هو السنة وهو الغسل. انتهى.
(باب الرجل يسلم)
من الاسلام وهو الإقرار بكلمة الشهادتين (فيؤمر بالغسل).
(فأمرني أن أغتسل بماء وسدر) فيه دليل واضح على أن من أسلم يؤمر بالغسل لأن أمر
النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب. قال الخطابي: هذا الغسل عند أكثر أهل العلم على الاستحباب
لا على الإيجاب. وقال الشافعي إذا أسلم الكافر أحب له أن يغتسل، فإن لم يفعل ولم يكن
14

جنبا أجزأه أن يتوضأ ويصلي. وكان أحمد بن حنبل وأبو ثور يوجبان الاغتسال على الكافر إذا
أسلم قولا بظاهر الحديث، وقالوا: لا يخلو المشرك في أيام كفره من جماع أو احتلام وهو لا
يغتسل، ولو اغتسل لم يصح منه، لأن الاغتسال من الجنابة فرض من فروض الدين وهو لا
يجزئه إلا بعد الإيمان كالصلاة والزكاة ونحوها. وكان مالك يرى أن يغتسل الكافر إذا أسلم.
واختلفوا في المشرك يتوضأ في حال شركه ثم يسلم، فقال بعض أصحاب الرأي: له أن يصلي
بالوضوء المتقدم في حال شركه، لكنه لو تيمم ثم أسلم لم يكن له أن يصلي بذلك التيمم حتى
يستأنف التيمم في الاسلام إن لم يكن واجدا للماء، والفرق من الأمرين عندهم أن التيمم
مفتقر إلى النية، ونية العبادة لا تصح من مشرك، والطهارة بالماء غير مفتقر إلى النية، فإذا
وجدت من المشرك صحت في الحكم كما توجد من المسلم سواء. وقال الشافعي: إذا توضأ
وهو مشرك أو تيمم ثم أسلم كان عليه إعادة الوضوء للصلاة بعد الاسلام، وكذلك التيمم لا فرق
بينهما، ولكنه لو كان جنبا فاغتسل ثم أسلم، فأن أصحابه قد اختلفوا في ذلك، فمنهم من
أوجب عليه الاغتسال ثانيا كالوضوء سواء وهذا أشبه وأولى، ومنهم من فرق بينهما. فرأى أن
عليه أن يتوضأ على كل حال ولم ير عليه الاغتسال، فإن أسلم وقد علم أنه لم تكن أصابته جنابة
قط في حال كفره فلا غسل عليه في قولهم جميعا، وقول أحمد في الجمع بين إيجاب
الاغتسال والوضوء عليه إذا أسلم أشبه بظاهر الحديث وأولى بالقياس انتهى كلامه. قلت: قول
من قال بوجوب الاغتسال على الكافر إذا أسلم هو موافق بظاهر الحديث لأن حقيقة الأمر
الوجوب ما لم توجد قرينة صارفة عنه والله أعلم. قال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي،
وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(ألقى عنك شعر الكفر) ليس المراد والله أعلم أن كل من أسلم أن يحلق رأسه حتى يلزم
له حلق الرأس كما يلزم الغسل، بل إضافة الشعر إلى الكفر يدل على حلق الشعر الذي هو
للكفار علامة لكفرها وهي مختلفة الهيئة في البلاد المختلفة، فكفرة الهند ومصر لهم في موضع
من الرأس شعور طويلة لا يتعرضون بشئ من الحلق أو الجز أبدا، وإذا يريدون حلق الرأس
يحلقون كلها إلا ذلك المقدار وهو على الظاهر علامة مميزة بين الكفر والإسلام، فأمر
15

النبي صلى الله عليه وسلم لجد عثيم ومن كان معه أن يحلقا شعرهما الذي كان على رأسهما من ذلك الجنس
والله أعلم (قال) أي والد عثيم إلا (وأخبرني اخر) من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير جد عثيم (ألق) أي
أحلق (وأختن) وفيه دليل على أن الاختتان على من أسلم واجب وأنه علامة للإسلام، لكن
الحديث ضعيف. قال المنذري: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم كليب والد عثيم بصري روى
عن أبيه مرسل هذا اخر كلامه. وفيه أيضا رواية مجهول وعثيم بضم العين المهملة وبعدها ثاء
مثلثة وياء آخر الحروف ساكنة وميم انتهى.
(باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها ثم تصلي فيه)
(الدم) من الحيض وهو فاعل ليصيب (تغسله) ذلك الثوب وتصلي فيه (أثره) أي أثر
الدم (فلتغيره بشئ من صفرة) وفي رواية للدارمي عن عائشة (إذا غسلت المرأة الدم
فلم يذهب فلتغيره بصفرة ورس أو زعفران) (جميعا) أي في ثلاثة أشهر متواليات (لا أغسل لي
ثوبا) لعدم تلوث ثوبي بالدم. وهذا الحديث في حكم المرفوع لأن عدم غسل ثوبها الذي
تلبسه زمن الحيض كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها، والقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف على
فعلها هو بعيد جدا.
(ما كان لإحدانا) أي من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم (تحيض فيه) جملة في محل الرفع على أنها
صفة لثوب (بلته) من البلل ضد اليبس (بريقها) أي صبت على موضع الدم ريقها (ثم قصعته
بريقها) قال الخطابي: معناه دلكته به ومنه قصع القملة إذ شدخها بين أظفاره، وأما فصع فيه
16

الرطبة فهو بالفاء وهو أن يأخذها بين أصبعيه فيغمزها أدنى غمز، فتخرج الرطبة خالعة قشرها.
انتهى. قال البيهقي هذا في الدم اليسير الذي يكون معفوا عنه وأما في الكثير منه فصح عنها
كانت تغسله ويؤيد قول البيهقي ما سيأتي للمؤلف من طريق عطاء عن عائشة، وفيه: ثم ترى
فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها. وأما مطابقة الترجمة لحديث الباب أن من لم يكن لها إلا ثوب
واحد تحيض فيه فمن المعلوم أنها تصلي فيه لكن بعد تطهيره إذا أصابه دم الحيض.
(ثم تطهر) صيغة المضارع المؤنث بحذف إحدى التاءين من باب تفعل يقال: تطهرت
إذا اغتسلت (كانت تقلب فيه) من باب ضرب يضرب أي تحيض في ذلك الثوب وهو مأخوذ من
قولهم: قلبت البسرة إذا احمرت، والقالب بالكسر: البسر الأحمر (تركناه) أي الثوب على حاله
وما غسلناه (ولم يمنعنا ذلك) أي عدم غسله (وأما الممتشطة) اسم الفاعل من الامتشاط، ويقال
مشطت الشعر مشطا من بابي قتل وضرب: سرحته. والتثقيل مبالغة. وامتشطت المرأة،
مشطت شعرها (لم تنقض ذلك) أي الشعور المضفور (ولكنها تحفن) من الحفن، وهو ملء
الكفين من أي شئ: أي تأخذ الحفنة من الماء.
(قال تنظر) أي المرأة في ثوبها (فلتقرصه) بضم الراء وتخفيفها رواه يحيى الراوي عن
مالك والأكثرون ورواه القعنبي بكسر الراء وتشديدها. وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أن
17

الرواية الأولى أشهر وأنه بالصاد المهملة على الروايتين والمعنى أي تدليك موضع الدم بأطراف
أصابعها ليتحلل بذلك ويخرج ما تشربه الثوب منه (ولتنضح) بلام الأمر أي ولترش وقال المرأة (ما لم
تر) أي الموضع الذي لم تر فيه أثر الدم ولكن شكت فيه، ولفظ الدارمي من طريق ابن إسحاق
(إن رأيت فيه دما فحكيه ثم اقرصيه بماء ثم انضحي في سائره فصلي فيه) قال القرطبي: المراد
بالنضح الرش لأن غسل الدم استفيد من قوله تقرصه بالماء وأما النضح فهو لما شكت فيه من
الثوب. انتهى.
(أرأيت) استفهام بمعنى لاشتراكهما في الطلب أي أخبرني، وحكمة العدول
سلوك الأدب (الدم) بالرفع فاعل (من الحيضة) بفتح الحاء أي الحيض (ثم لتصلي) بلام الأمر
عطف على سابقه وإثبات الياء للاشباع قال الخطابي فيه دليل على أن النجاسات إنما
تزال بالماء دون غيره من المائعات لأن جميع النجاسات بمثابة الدم لا فرق بينه وبينها
إجماعا وهو قول الجمهور، أي يتعين الماء زالة النجاسة وعن أبي حنيفة وأبي يوسف:
يجوز تطهير النجاسة. بكل مائع طاهر ومن حجتهم حديث عائشة المتقدم وجه الحجة منه أنه
لو كان الريق لا يطهر لزاد النجاسة. وأجيب باحتمال أن تكون قصدت بذلك تحليل أثره، ثم
غسلته بعد ذلك، ذكره الحافظ والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن
ماجة.
(بهذا المعنى) أي بمعنى الحديث المتقدم آنفا (قالا) أي مسدد وموسى إسماعيل في
روايتهما (حتيه) أمر المؤنث المخاطب من باب قتل. قال الأزهري الحت: أي يحك بطرف
18

حجر أو عود، والقرص: أن يدلك بأطراف الأصابع والأظفار دلكا شديدا ويصب عليه الماء
حتى تزول عينه وأثره.
(أم قيس بنت محصن) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين: ابن حرثان
أخت عكاشة من المهاجرات الأول ولا يعلم أن امرأة عمرت ما عمرت (حكيه) أمر للمؤنث
المخاطب من باب قتل يقال حككت الشئ حكا قشرته (بضلع) بكسر الضاد أنه المعجمة، وأما
اللام فتفتح في لغة الحجاز وتسكن في لغة تميم. قال ابن الأثير: أي بعود، والأصل فيه ضلع
الحيوان فسمى به العود الذي يشبهه. قال الخطابي في المعالم: وإنما أمر عليه السلام بحكه
بالضلع لينقلع المتجسد منه اللاصق الثوب ثم تتبعه الماء ليزيل الأثر. انتهى (واغسليه بماء
وسدر) زيادة السدر للمبالغة والتنظيف وهو وإلا فالماء يكفي. والحديث أخرجه النسائي وابن
ماجة.
(قد كان يكون لإحدانا) أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محمول على أنهن كن يصنعن ذلك
في زمنه صلى الله عليه وسلم، فهو بحكم المرفوع، ويؤيده الروايات الأخرى (الدرع) بكسر الدال وسكون
الراء المهملتين قميص المرأة (فتقصعه بريقها) أي تدلكه وتزيله.
(أن خولة بنت يسار) قال الحافظ المزي في الأطراف: هذا الحديث في رواية أبي
سعيد بن الأعرابي ولم يذكره أبو القاسم. انتهى. وليس هذا الحديث في رواية اللؤلؤي فلذا
لم يذكره المنذري في مختصره، والحاصل أن الحديث ثابت في سنن أبي داود لكن من رواية
19

ابن الأعرابي لامن رواية اللؤلؤي والحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف. قال الحافظ في الفتح:
روى أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر
الحديث ثم قال: وفي إسناده ضعف وله شاهد مرسل ذكره البيهقي: والمراد بالأثر ما تعسر
إزالته جمعا بين هذا وبين حديث أم قيس: (حكيه بضلع) وإسناده حسن. انتهى.
(باب الصلاة في الثوب الذي يصيب أهله فيه)
أي يجامعها فيه
(إذا لم ير فيه أذى) أي مستقذر أو نجاسة، أي إذا لم ير في الثوب أثر المني أو المذي أو
رطوبة فرج المرأة، ويستدل بهذا الحديث على نجاسة المني. قال الحافظ ابن حجر تحت
حديث ميمونة في غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة وفيه: وغسل فرجه وما أصابه من الأذى. وقوله وما
أصابه من أذى ليس بظاهر في النجاسة وأبعد من استدل به على نجاسة المني أو على نجاسة
رطوبة الفرج، لأن الغسل مقصورا على إزالة النجاسة. انتهى. قلت قولها من أذى هو ظاهر
في النجاسة لا غير، وما قال الحافظ ففيه كما لا يخفى. وحديث أم حبيبة أخرجه النسائي
وابن ماجة
20

(باب الصلاة في شعر النساء)
(لا يصلي في شعرنا أو لحفنا) شعر بضم الشين والعين جمع شعار، والمراد بالشعار ههنا
الإزار الذي كانوا يتغطون به. قال في النهاية: إنما امتنع من الصلاة فيها مخافة أن يكون أصابها
شئ من دم الحيض، وطهارة الثوب شرط في صحة الصلاة بخلاف النوم فيها. انتهى. ولحف جمع لحاف
وهو اسم لما يلتحف به (قال عبيد الله شك أبي) في هذه اللفظة أي في شعرنا أو
لحفنا
(كان يصلى في ملاحفنا) قال الإمام جمال الدين بن منظور المصري في لسان
العرب: اللحاف والملحف والملحفة: اللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه،
وكل شئ تغطيت به. فقد التحفت به، واللحاف: اسم ما يلتحف به. قال أبو عبيد: اللحاف:
كل ما تغطيت به. انتهى. وقال الجوهري: الملحفة: واحدة الملاحف وتلحف صلى الله عليه وسلم بالملحفة
واللحاف، والتحف ولحف بهما: تغطي بهما. انتهى فإذا عرفت هذا فأعلم أن الملحفة
واللحاف والملحفة، وإن كان يطلق على اللباس الذي فوق سائر اللباس من دثار البرد ونحوه،
لكن يطلق أيضا على كل ثوب يتغطى به. ولذا قال أبو عبيد: اللحاف: كل ما تغطيت به، فإذا
معنى قولها: لا يصلي في شعرنا أو لحفنا واحد لأن الشعار هو الثوب الذي يلي الجسد،
واللحاف يطلق على ما تغطيت به أعم من أن يكون يلي الجسد أو فوق اللباس والله أعلم
(سألت محمدا) يعني ابن سيرين (عنه) أي عن هذا الحديث المذكور (فلم يحدثني) بهذا
الحديث (وقال) محمد معتذرا (سمعته منذ زمان ولا أدري ممن سمعته) أي لا أحفظ اسم
21

شيخي في هذا الحديث (ولا أدري أسمعته) بهمزة الاستفهام (من ثبت) بفتحتين يقال رجل
ثبت إذا كان عدلا ضابطا، ومنه قيل المحجة: ثبت والجمع أثبات مثل سبب وأسباب، ورجل
ثبت بسكون الباء متثبت في أموره (فسلوا عنه) أي فاسألوا عن هذا الحديث غيري من العلماء.
(باب الرخصة في ذلك)
أي في الأمر المنهى عنه وهو الصلاة في شعر النساء أي جواز ذلك.
(صلى وعليه مرط) بكسر الميم وسكون الراء. قال الخطابي: المرط: هو ثوب يلبسه
الرجال والنساء إزارا ويكون رداء، وقد يتخذ من صوف ويتخذ من خز وغيره. انتهى (وعلى
بعض أزواجه منه) أي من المرط (وهي حائض يصلي وهو عليه) أي المراط عليه صلى الله عليه وسلم. وفي
بعض نسخ الكتاب وهي حائض وهو يصلي وهو عليه. ولفظ ابن ماجة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي وأنا إلى جنبه وأنا حائض وعلي مرط لي وعليه بعضه) ولفظ مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض وربما أصابني ثوبه إذا سجد) قال النووي: فيه دليل على أن ثياب
الحائض طاهرة إلا موضعا ترى عليه دما أو نجاسة أخرى. وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض،
وجواز الصلاة في ثوب بعضه على المصلي وبعضه على حائض أو غيرها. انتهى.
(باب المني يصيب الثوب)
(عن همام بن الحارث أنه كان عند عائشة فاحتلم) الظاهر من العبارة، أن فاعل احتلم هو
22

همام بن الحارث. وفي رواية مسلم من طريق شبيب بن غرقدة عن عبد الله بن شهاب
الخولاني قال: (كنت نازلا على عائشة فاحتلمت فقال في ثوبي) الحديث فيظهر من هذه الرواية أن
المحتلم هو عبد الله بن شهاب الحولاني فيحملان على الواقعتين والقضيتين أي والله أعلم
(فأخبرت) الجارية (وأنا أفركه) بضم الراء من باب نصر وقد تكسر. قال الطيبي: الفرك الدلك
حتى يذهب الأثر من الثوب. وفي المصباح فركته مثل حتته وهو أن تحكه بيدك حتى يتفتت
ويتقشر (ورواه الأعمش كما رواه الحكم) أي أن الحكم والأعمش كليهما يرويان عن إبراهيم
النخعي عن همام بن الحارث عن عائشة، وحديث الأعمش عند مسلم. وأما حماد بن أبي
سليمان ومغيرة وواصل فكلهم يروون عن إبراهيم عن الأسود كما سيجئ.
(فيصلي فيه) ولفظ مسلم (لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه)
وللطحاوي من طريق أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عائشة قالت: (كنت أفرك
المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابعي ثم يصلي فيه ولا يغسله) ففي هذه الروايات رد على من
قال الثوب الذي اكتفت فيه بالفرك ثوب النوم والثوب الذي غسلته ثوب الصلاة. والحديث
أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة (ووافقه) من الموافقة الضمير المنصوب يرجع إلى حماد
(مغيرة) فاعل وافق وحديثه أخرج مسلم وابن ماجة (وأبو معشر) عطف على مغيرة وحديثه
أخرج مسلم (وواصل) وحديثه عند مسلم.
(المعنى) واحد يحتمل أن يكون اللفظ لزهير بن معاوية ويوافقه سليم بن أخضر في
المعنى، ويحتمل أن يكون أتى ببعض لفظ هذا وبعض لفظ اخر فرواه عنهما بالمعنى قاله
23

ابن الصلاح، وهذا الثاني يقرب قول مسلم المعنى واحد (والإخبار) مصدر وهو مبتدأ وخبره ما
بعده (في حديث مسلم) دون حديث زهير أي في رواية سليم من سليم إلى عائشة كل من الرواة
يروون بالأخبار والسماع لا بالعنعنة، وفي حديث زهير ليس كذلك. والمقصود منه إثبات سماع
سليمان بن يسار من عائشة (ثم أراه) من رؤية أي أبصره، والضمير المنصوب فيه يرجع
إلى أثر الغسل الذي يدل عليه قوله تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيه) أي في الثوب أي
أرى أثر الغسل في الثوب (بقعة) بالنصب على أنه بدل من الضمير المنصوب في أراه، وفي
رواية ابن ماجة وأما أرى أثر الغسل فيه. والبقعة بضم الباء وسكون القاف على وزن نطفة في
الأصل قطعة من الأرض يخالف لونها لون ما يليها (أو بقعا) بضم الموحدة وفتح القاف جمع
بقعة. قال أهل اللغة: البقع اختلاف اللونين قاله الحافظ. ويحتمل أن يكون من كلام عائشة أو
يكون شكا من أحد الرواة والحديث أخرج الأئمة الستة في كتبهم قال ابن دقيق العيد:
اختلف العلماء في طهارة المني ونجاسته، فقال الشافعي وأحمد بطهارته، وقال مالك وأبو
حنيفة بنجاسته. والذين قالوا بنجاسته اختلفوا في كيفية إزالته. فقال مالك يغسل رطبه ويابسه
وقال أبو حنيفة يغسل رطبه ويفرك يابسه. أما مالك فعمل القياس في الحكمين أعني بحاسته
وإزالته بالماء انتهى. وأما بسط الدلائل مع مالها وما عليها وما هو الحق في هذه المسألة
فمذكور في غاية المقصود شرح سنن أبي داود.
(باب بول الصبي يصيب الثوب)
قال الجوهري: الصبي الغلام والجمع صبية وصبيان. وقال ابن سيدة عن ثابت يكون
صبيان ما دام رضيعا. وفي المنتخب للكراع: أول ما يولد الولد يقال له وليد وطفل وصبي.
وقال بعض أئمة اللغة: ما دام الوليد في بطن أمه جنين، فإذا ولدته يسمى صبيا ما دام
رضيعا، فإذا فطم يسمى غلاما إلى سبع سنين ذكره العلامة العيني.
24

(أتت بابن لها صغير) بالجر صفة لابن (لم يأكل الطعام) يحتمل أنها أرادت أنه لم يتقوت
بالطعام ولم يستغن به عن الرضاع، ويحتمل أنها جاءت به عند ولادته ليحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيحمل النفي على عمومه، ويؤيده رواية البخاري في العقيقة (أتى بصبي يحنكه) والحاصل أن
المراد بالطعام ما عدا اللبن الذي يرتضعه والتمر الذي يحنك به والعسل الذي يعلقه للمداواة
وغيرها، فكأن المراد أنه لم يحصل له الاغتذاء بغير اللبن على الاستقلال (فأجلسه) أي ابن
(في حجره) بفتح الحاء على الأشهر وتكسر وتضم كما في المحكم وغيره أي حضنة أي وضعه إن قلنا
إنه كان كما ولد، ويحتمل أن الجلوس حصل منه على العادة إن قلنا كان في سن من يحبو كما في
قصة الحسن. قاله الحافظ في الفتح (فبال على ثوبه) أي ثوب النبي صلى الله عليه وسلم (فدعا بماء فنضحه)
بالضاد المعجمة والحاء المهملة. قال الجوهري وصاحب القاموس وصاحب المصباح النضح
الرش، وقال ابن الأثير وقد نضح عليه الماء ونضحه به: إذا رشه عليه، وقد يرد النضح بمعنى
الغسل والإزالة، ومنه الحديث ونضح الدم عن جبينه. وحديث الحيض ثم لتنضحه اي تغسله
انتهى مختصرا. وقال في لسان العرب النضح الرش نضح عليه الماء ينضحه نضحا إذا ضربه
بشئ فأصابه منه رشاش. وفي حديث قتادة النضح من النضح يريد من أصحابه نضح من البول
وهو الشئ اليسير منه فعليه أن ينضحه بالماء وليس عليه غسله. قال الزمخشري هو أن يصيبه
من البول رشاش كرؤس الإبر. وقال ابن الأعرابي النضح ما كان على إعتماد وهو ما نضحته
بيدك معتمدا والنضح ما كان على غير إعتماد، وقيل هما لغتان بمعنى واحد وكله رش،
وانتضح نضح شيئا من ماء على فرجه بعد الوضوء والانتضاح بالماء وهو أن يأخذ ماء قليلا
فينضح به مذاكيره به ومؤتزره بعد فراغه من الوضوء لينفي بذلك عنه الوسواس انتهى ملخصا.
والحاصل أن النضح يجئ لمعان منها الرش، ومنها الغسل، ومنها الإزالة، ومنها غير ذلك
لكن استعماله بمعنى الرش أكثر وأغلب وأشهر حتى لا يفهم غير هذا المعنى إلا بقرينة
تدل على ذلك، ولا يخفى عليك أن الرش غير الغسل فإن الرش أخف من الغسل،
وفي الغسل استيعاب المحل المغسول بالماء نقاء ذلك المحل وإزالة ما هناك،
والنضح يحصل إذا ضربت المحل بشئ من ماء فأصاب رشاش من الماء على ذلك المحل،
وليس المقصود من النضح ما هو المقصود من الغسل بل الرش أدون وأنقص من الغسل (ولم
يغسله) وهذا تأكيد لمعنى النضح أي اكتفى على النضح والرش ولم يغسل المحل المتلوث
25

بالبول. والحديث أخرجه مالك في الموطأ بهذا اللفظ، ومن طريقه البخاري مثله سندا ومتنا.
وفي رواية لمسلم: (فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلا) وفي لفظ له ولابن ماجة: فدعا بماء
فرشه) وفي لفظ له: (فلم يزد على أن نضح الماء) وفي هذه الروايات رد على الطحاوي والعيني
حيث قالا: إن المراد بالنضح في هذا الحديث الغسل. وحديث أم قيس هذا أخرجه مالك
والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والطحاوي والدارمي.
(عن لبابة) بضم اللام وتخفيف الموحدتين (في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في حضنه وهو
ما دون الإبط إلى الكشح (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (إنما يغسل) بصيغة المجهول (وينضح) أي يرش.
والحديث أخرجه ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة والحاكم والبيهقي في سننه من وجوه كثيرة.
وهذا الحديث الصحيح فيه دليل صريح على التفرقة بين بول الصبي والصبية وأن بول الصبي
يكفيه النضح بالماء ولا حاجة فيه للغسل، وأن بول الصبية لا بد له من الغسل ولا يكفيه
النضح.
(حدثني محل) بضم الميم وكسر الحاء المهملة (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (ولني) بتشديد اللام
المكسورة أمر من التولية وتكون التولية انصرافا. قال الله تعالى (ثم توليتم مدبرين) وكذلك
قوله: (يولوكم الأدبار) وهي ههنا انصراف، يقال: تولى عنه إذا أعرض وتولى هاربا أي أدبر.
والتولي يكون بمعنى الإعراض. قال أبو معاذ النحوي: قد تكون التولية بمعنى التولي يقال
وليت وتوليت بمعنى واحد. انتهى. فمعنى قوله: ولى أي أصرف عني وجهك وحوله إلى
الجانب الآخر (فأوليه) بصيغة المتكلم (قفاي) أي ظهري أي أصرف عنه وجهي وأجعل
ظهري إلى جهة النبي صلى الله عليه وسلم (فأستره) أي النبي صلى الله عليه وسلم (به) أي بانصراف ظهري إليه عن أعين الناس
26

(فأتى) بصيغة المجهول (على صدره) يعني موضعه من الثياب. قال الحافظ في التلخيص: حديث
أبي السمح أخرجه أبو داود والبزار والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم قال البزار وأبو
زرعة ليس لأبي السمح غيره ولا أعرف اسمه. وقال غيره اسمه إياد. قال البخاري حديث
حسن. انتهى. والحديث نص صريح في الفرق بين بوله وبولها (قال عباس) في روايته (حدثنا)
بصيغة الجمع وأما مجاهد بن موسى فقال حدثني بالإفراد (قال أبو داود وهو) أي يحيى بن
الوليد الكوفي كنيته (أبو الزعراء) بفتح الزاء وسكون العين المهملة (عن الحسن) البصري
الإمام الجليل (قال الأبوال كلها سواء) في النجاسة لا فرق بين الصبي والصبية والصغير
والكبير. هذا هو الظاهر والمتبادر في معنى كلام الحسن الذي نقله هارون، ولم أقف من
أخرجه موصولا، نعم أخرج الطحاوي عن حميد عن الحسن أنه قال: بول الجارية يغسل غسلا
وبول الغلام يتتبع بالماء.
(يغسل بول الجارية وينضح بول الغلام ما لم يطعم) هكذا روي سعيد بن أبي عروبة
موقوفا على علي رضي الله عنه.
(فذكر معناه) أي معنى حديث على الموقوف (ولم يذكر) أي هشام (ما لم يطعم) كما
ذكره سعيد بن أبي عروبة (زاد) هشام في روايته (قال قتادة هذا) أي الحكم المذكور أي النضح
على بول الغلام وغسل بول الجارية (ما لم يطعما) أي الصبي والصبية (غسلا) بصيغة
27

المجهول أي بولهما. قال المنذري وأخرجه الترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا حديث
حسن، وذكر أن هشاما الدستوائي رفعه عن قتادة، وأن سعيد بن أبي عروبة وقفه عنه ولم يرفعه
وقال البخاري: سعيد بن أبي عروبة لا يرفعه وهشام يرفعه وهو حافظ. انتهى. (عن الحسن)
البصري أحد الأئمة الأعلام (عن أمه) خيرة بالخاء المعجمة مولاة أم سلمة رضي الله عنها
(أنها) أي خيرة (أبصرت أم سلمة تصب الماء إلخ) هذه الرواية موقوفة على أم سلمة رضي الله
عنها. قال الحافظ في التلخيص سنده صحيح، ورواه البيهقي من وجه اخر عنها موقوفا أيضا
وصححه. انتهى. قال الخطابي في المعالم: وممن قال بظاهر الحديث أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري، وهو قول الشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق. قالوا: ينضح من بول الغلام ما لم يطعم، ويغسل من بول الجارية، وليس
ذلك من أجل أن بول الغلام ليس بنجس، ولكنه من أجل التخفيف الذي وقع في إزالته. وقالت
طائفة: يغسل بول الغلام والجارية معا، وإليه ذهب النخعي وأبو حنيفة وأصحابه، وكذلك قال
سفيان الثوري. انتهى.
(باب الأرض يصيبها البول)
(في آخرين) أي حدثنا بهذا الحديث غير واحد من شيوخنا وكان أحمد بن عمرو
وأحمد بن عبدة منهم (أن أعرابيا) بفتح الهمزة منسوب إلى الأعراب وهم سكان البوادي،
ووقعت النسبة إلى الجمع دون الواحد فقيل لأنه جرى مجرى القبيلة كأنما رأوا لأنه لو نسب إلى
الواحد وهو عرب لقيل عربي فيشتبه المعنى لأن العربي كل من هو من ولد إسماعيل عليه
السلام سواء كان ساكنا بالبادية أو بالقرى وهذا غير المعنى الأول. قاله الشيخ تقي الدين (لقد
28

تحجرت واسعا) بصيغة الخطاب من باب تفعل. قال الخطابي: أصل الحجر المنع، ومنه
الحجر على السفيه وهو منعه من التصرف في ماله وقبض يده عنه، يقول له: لقد ضيقت من
رحمة الله تعالى ما وسعه، ومنعت منها ما أباحه. انتهى. وقال في النهاية: أي ضيقت ما وسعه
الله وخصصت به نفسك دون غيرك. انتهى (فأسرع الناس إليه) في رواية البخاري: فزجره
الناس، ولمسلم: فقال الصحابة: مه مه، وله في رواية أخرى فصاح الناس به (فنهاهم
النبي صلى الله عليه وسلم) عن زجرهم (إنما بعثتم) بصيغة المجهول (ميسرين) حال أي مسهلين على الناس
(ولم تبعثوا هذا معسرين) عطف على السابق على طريق الطرد والعكس مبالغة في اليسر قاله
الطيبي. أي فعليكم بالتيسير أيها الأمة (صبوا) الصب: السكب (عليه) وفي رواية للبخاري
وهريقوا على بوله (سجلا من ماء) بفتح السين المهملة وسكون الجيم قال أبو حاتم
السجستاني: هو الدلو ملأى، ولا يقال لها ذلك وهي فارغة. وقال ابن دريد: السجل: الدلو
واسعة وفي الصحاح: الدلو الضخيمة (أو قال ذنوبا) بفتح الذال المعجمة. قال الخليل: الدلو
ملأى ماء. وقال ابن فارس: الدلو العظيمة. وقال ابن السكيت: فيها قريب من الملاء، ولا
يقال لها وهي فارغة ذنوب، فعلى الترادف أو للشك من الراوي وإلا فهي للتخيير، والأول
أظهر، فإن رواية أنس لم يختلف في أنها ذنوب. قاله الحافظ في الفتح. قال الإمام الخطابي:
وفي هذا دليل على أن الماء إذا ورد على النجاسة على سبيل المكاثرة والغلبة طهرها وأن غسالة
النجاسات طاهر ما لم يبن للنجاسة فيها لون ولا ريح، ولو لم يكن ذلك الماء طاهرا لكان
المصبوب منه على البول أكثر تنجيسا للمسجد من البول نفسه، فدل ذلك على طهارته. انتهى.
كلامه. وقال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على تطهير الأرض النجسة بالمكاثرة بالماء،
واستدل بالحديث أيضا على أنه يكتفي بإفاضة الماء، ولا يشترط نقل التراب من المكان بعد
ذلك خلافا لمن قال به. ووجه الاستدلال بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه في هذا الحديث الأمر
بنقل التراب، وظاهر ذلك الاكتفاء بصب الماء فإنه لو وجب لأمر به ولو أمر به لذكر، وقد ورد
في حديث آخر الأمر بنقل التراب ولكنه تكلم فيه. وأيضا لو كان نقل التراب واجبا في التطهير
لاكتفى به فإن الأمر بصب الماء حينئذ يكون زيادة تكليف وتعب من غير منفعة تعود إلى
29

المقصود وهو تطهير الأرض انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي والنسائي،
وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري من
حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث
أنس بن مالك بنحوه. انتهى.
(عن عبد الله بن معقل) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف (ابن مقرن) بضم
الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة (بهذا القصة) أي قصة بول الأعرابي (قال فيه) أي قال
عبد الله بن معقل في هذا الحديث (خذوا ما بال عليه من التراب) بيان ما الموصولة (فألقوه)
أي احفروا ذلك المكان وانقلوا التراب وألقوه في موضع اخر (وأهريقوا) أصله أريقوا من
الإراقة فالهاء زائدة، ويروى هريقوا فتكون الهاء بدلا من الهمزة (ابن معقل لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم)
لأنه تابعي.
(باب في طهور الأرض إذا يبست)
أي بالشمس أو الهواء.
(وكنت فتى شابا عزبا) بفتح العين المهملة وكسر الزاء هو صفة للشاب. وفي رواية
البخاري أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في الفتح:
قوله أعزب بالمهملة والزاء أي غير متزوج، والمشهور فيه عزب بفتح العين وكسر الزاء، والأول
30

لغة قليلة، مع أن القزاز أنكرها. وقوله لا أهل له هو تفسير لقوله أعزب. انتهى (وكانت الكلاب
تبول) وفي رواية البخاري: كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليست لفظة (تبول) في رواية البخاري (وتقبل) من الإقبال (وتدبر) من الإدبار، وهذه
الكلمات جملة في محل النصب على الخيرية إن جعلت كانت ناقصة، وإن جعلت تامة بمعنى
وجدت كان محل الجملة النصب على الحال (في المسجد) حال أيضا والتقدير حال كون
الإقبال والإدبار في المسجد والألف واللام فيه للعهد، أي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلم يكونوا
يرشون) من رش الماء. وفي ذكر الكون مبالغة ليست في حذفه كما في قوله تعالى: (وما كان
الله ليعذبهم) حيث لم يقل وما يعذبهم وكذا في لفظ الرش حيث اختاره على الغسل لأن الرش
ليس جريان الماء بخلاف الغسل، فإنه يشترط فيه الجريان، فنفى الرش أبلغ من نفي الغسل.
قال ابن الأثير: لا ينضحونه بالماء (شيئا) من الماء، وهذا اللفظ أيضا عام لأنه نكرة وقعت في
سياق النفي، وهذا كله للمبالغة في عدم نضح الماء (من ذلك) البول والإقبال والإدبار.
والحديث فيه دليل على أن الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفت بالشمس أو الهواء فذهب أثرها
تطهر إذ عدم الرش يدل على جفاف الأرض وطهارتها. قال الخطابي في معالم السنن: وكانت
الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد عابرة إذ لا يجوز أن تترك الكلاب انتياب المسجد
حتى تمتهنه وتبول فيه، وإنما كان إقبالها وإدبارها في أوقات نادرة، ولم يكن على المسجد
أبواب تمنع من عبورها فيه
وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فروي عن أبي قلابة أنه قال: جفوف الأرض
طهورها، وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: الشمس تزيل النجاسة عن الأرض إذا ذهب
الأثر، وقال الشافعي وأحمد بن حنبل في الأرض: إذا أصابتها نجاسة لا يطهرها إلا الماء.
انتهى. وقال في الفتح: واستدل أبو داود بهذا الحديث على أن الأرض تطهر إذا لاقتها النجاسة
بالجفاف، يعني أن قوله لم يكونوا يرشون يدل على نفي صب الماء من باب الأولى، فلولا أن
الجفاف يفيد تطهير الأرض ما تركوا ذلك، ولا يخفى ما فيه. انتهى.
قلت: ليس عندي في هذا الاستدلال خفاء بل هو واضح، فالأرض التي أصابتها نجاسة
في طهارتها وجهان: الأول صب الماء عليها كما سلف في الباب المتقدم، والثاني جفافها
ويبسها بالشمس أو الهواء كما في حديث الباب، والله تعالى أعلم وعلمه أتم.
31

(باب الأذى يصيب الذيل)
الأذى: كل ما تأذيت به من النجاسة والقذر والحجر والشوك وغير ذلك، والذيل بفتح
الذال: هو طرف الثوب الذي يلي الأرض وإن لم يمسها، تسمية بالمصدر والجمع ذيول،
يقال: ذال الثوب يذيل ذيلا طال حتى مس الأرض (عن أم ولد إبراهيم) اسمها حميدة تابعية
صغيرة مقبولة. ذكره الزرقاني. قال الحافظ في التقريب: حميدة عن أم سلمة يقال هي أم ولد
إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مقبولة من الرابعة. انتهى (أطيل) بضم الهمزة من الإطالة
(في المكان القذر) أي النجس وهو بكسر الذال، أي في مكان ذا قذر (يطهره) أي الذيل (ما
بعده) في محل الرفع فاعل يطهر، أي المكان الذي بعد المكان القذر بزوال ما يتشبث الذيل
من القذر. قال الخطابي: كان الشافعي يقول: إنما هو في ما جر على ما كان يابسا لا يعلق
بالثوب منه شئ، فأما إذا جر على رطب فلا يطهره إلا بالغسل. وقال أحمد بن حنبل: ليس
معناه إذا أصابه بول ثم مر بعده على الأرض أنها تطهره ولكنه يمر بالمكان فيقذره ثم يمر بمكان
أطيب منه فيكون هذا بذاك لا على أنه يصيبه منه شئ. وقال مالك فيما روى عنه: إن الأرض
يطهر بعضها بعضا، إنما هو أن يطأ الأرض القذرة ثم يطأ الأرض اليابسة النظيفة، فإن بعضها
يطهر بعضا. فأما النجاسة مثل البول ونحوه يصيب الثوب أو بعض الجسد فإن ذلك لا يطهره إلا
الغسل. قال: وهذا إجماع الأمة انتهى كلامه. قال الزرقاني: وذهب بعض العلماء إلى حمل
القذر في الحديث على النجاسة ولو رطبة، وقالوا يطهر بالأرض اليابسة، لأن الذيل للمرأة
كالخف والنعل للرجل. ويؤيده ما في ابن ماجة عن أبي هريرة (قيل يا رسول الله إنا نريد
المسجد فنطأ الطريق النجسة، فقال صلى الله عليه وسلم: الأرض يطهر بعضها بعضا) لكنه حديث ضعيف كما
قاله البيهقي وغيره. انتهى والحديث أخرجه مالك والترمذي وابن ماجة والدارمي.
32

(عن امرأة من بني عبد الأشهل) هي صحابية من الأنصار كما ذكره الإمام ابن الأثير في
أسد الغابة في معرفة الصحابة، وجهالة الصحابي لا تضر، لأن الصحابة كلهم عدول. وقال
الخطابي في المعالم: والحديث فيه مقال لأن امرأة من بني عبد الأشهل مجهولة والمجهول لا
تقوم به الحجة في الحديث. انتهى. ورد عليه المنذري في مختصره فقال ما قاله الخطابي،
ففيه نظر، فإن جهالة اسم الصحابي غير مؤثرة في صحة الحديث. انتهى (إن لنا طريقا إلى
المسجد منتنة) من النتن، أي ذات نجسة. والطريق يذكر ويؤنث، أي فيهما أثر الجيف
والنجاسات (إذا مطرنا على بناء المجهول، أي إذا جاءنا المطر (أليس بعدها) أي بعد ذلك
الطريق (طريق هي أطيب منها) أي أطهر بمعنى الطاهر (فهذه بهذه) أي ما حصل التنجس
بتلك يطهره انسحابه ثم على تراب هذه الطيبة.
قال الشيخ الأجل ولي الله المحدث الدهلوي في المسوى شرح الموطأ تحت حديث أم
سلمة: إن أصاب الذيل نجاسة الطريق ثم مر بمكان اخر واختلط به بمكان اخر واختلط به طين
الطريق وغبار الأرض وتراب ذلك المكان ويبست النجاسة المعلقة فيطهر الذيل المنجس
بالتناثر أو الفرك، وذلك معفو عنه من الشارع بسبب الحرج والضيق، كما أن غسل العضو
والثوب من دم الجراحة معفو عنه عند المالكية بسبب الحرج، وكما أن النجاسة الرطبة التي
أصابت الخف تزيل بالدلك ويطهر الخف به عند الحنفية والمالكية بسبب الحرج، وكما أن
الماء المستنقع الواقع في الطريق وإن وقع فيه نجاسة معفو عنه عند المالكية بسبب الحرج.
وإني لا أجد الفرق بين الثوب الذي أصابه دم الجراحة والثوب الذي أصابه المستنقع النجس
وبين الذيل الذي تعلقت به نجاسة رطبة ثم اختلط به تراب الأرض وغبارها وطين الطريق
فتناثرت به النجاسة أو زالت بالفرك فإن حكمها واحد. وما قال البغوي إن هذا الحديث
محمول على النجاسة اليابسة التي أصابت الثوب ثم تناثرت بعد ذلك، ففيه نظر، لأن النجاسة
التي تتعلق بالذيل في المشي في المكان القذر تكون رطبة في غالب الأحوال، وهو معلوم
بالقطع في عادة الناس، فإخراج الشئ الذي تحقق وجوده قطعا أو غالبا عن حالته الأصلية
بعيد. وأما طين الشارع يطهره ما بعده ففيه نوع من التوسع في الكلام، لأن المقام يقتضي أن
33

يقال هو معفو عنه أو لا بأس به، لكن عدل منه بإسناد التطهير إلى شئ لا يصلح أن يكون مطهرا
للنجاسة فعلم أنه معفو عنه، وهذا أبلغ من الأول. انتهى كلامه.
(باب الأذى يصيب النعل)
(أنبئت) بصيغة المتكلم المجهول من الأنباء أي أخبرت، قال المنذري: فيه مجهول،
انتهى، لأن من أخبر الأوزاعي بهذا الحديث ليس بمذكور فيه (المقبري) بفتح الميم وسكون
القاف وضم الباء الموحدة وبكسرها وفتحها، نسبة إلى موضع القبور. والمقبريون في
المحدثين جماعة وهم سعيد وأبوه أبو سعيد وابنه عباد وال بيته وغيرهم (إذا وطئ) بكسر الطاء
بعده همزة، أي مسح وداس (بنعله) وفي معناه الخف (الأذى) أي النجاسة (فإن التراب) أي
بعده (له) أي لنعل أحدكم (طهور) بفتح الطاء أي مطهر.
قال الخطابي في المعالم: كان الأوزاعي رحمه الله يستعمل هذا الحديث على ظاهره
وقال يجزيه أن يمسح القذر في نعله أو خفه بالتراب ويصلي فيه، وروى مثله في جوازه عن
عروة بن الزبير، وكان النخعي يمسح الخف والنعل إذا مسحهما بالأرض حتى لا يجد له ريحا
ولا أثرا ورجوت أن يجزيه ويصلي بالقوم. وقال الشافعي: لا تطهر النجاسات إلا بالماء سواء
كانت في ثوب أو في الأرض أو حذاء. انتهى. وقال البغوي في شرح السنة: ذهب أكثر أهل
العلم إلى ظاهر الحديث وقالوا إذا أصاب أكثر الخف أو النعل نجاسة فدلكه بالأرض حتى
ذهب أكثرها فهو طاهر وجازت الصلاة فيها وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: لا بد
من الغسل بالماء. انتهى. قال الشيخ ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: النعل والخف
يطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك، لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة، والظاهر أنه
عام في الرطبة واليابسة. انتهى.
34

(إذا وطئ الأذى بخفيه فطهورهما التراب) قال الزيلعي: ورواه ابن حبان في صحيحه
في النوع السادس والستين من القسم الثالث، والحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال النووي في الخلاصة. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
انتهى.
قلت ومحمد بن كثير وإن ضعف لكن تابعه على هذا أبو المغيرة والوليد بن مزيد
وعمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي وكلهم ثقات، ومحمد بن عجلان وإن ضعفه بعضهم لكن
الأكثرين على توثيقه. ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه المؤلف في باب الصلاة في النعال من
حديث أبي سعيد مرفوعا وفيه (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذر أو
أذى ليمسحه وليصل فيهما، وهذا إسناد صحيح صححه الأئمة.
(أخبرني أيضا) هكذا في جميع النسخ بزيادة لفظ أيضا وكذا في الأطراف للحافظ
المزي، ويشبه أن يكون المعنى والله أعلم أن حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري مشهور من
طريقه أبيه أبي سعيد عن أبي هريرة، كما رواه أبو المغيرة والوليد بن مزيد وعمر بن عبد الواحد
عن الأوزاعي قال: أنبئت أن سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة، وكذا رواه محمد بن
كثير الصنعاني عن الأوزاعي عن محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي
هريرة. وأما محمد بن الوليد الزبيري فروى هذا الحديث من غير طريق أبي سعيد المقبري عن
أبي هريرة أيضا فقال: أخبرني أيضا سعيد بن أبي سعيد من غير طريق أبيه، كما أخبرني من
طريق أبيه أبي سعيد المقبري. وطريق غير أبيه هي طريق القعقاع بن حكيم.
35

(باب الإعادة)
أي إعادة الصلاة من النجاسة تكون في الثوب.
(أم يونس بنت شداد) ما روى عنها غير عبد الوارث. قال الذهبي في الميزان وابن حجر
في التقريب: لا يعرف حالها (حماتي) حماة المرأة وزان حصاة أم زوجها لا يجوز فيها غير
القصر، وكل قريب للزوج مثل الأب والأخ والعم ففيه أربع لغات: حما مثل عصا وحم مثل يد
وحموها مثل أبوها يعرب بالحروف وحمأ بالهمزة مثل خبأ، وكل قريب من قبل المرأة فهم
الأختان. قال ابن فارس: الحمأ أبو الزوج وأبو امرأة الرجل. وقال في المحكم أيضا: وحمأ
الرجل أبو زوجته أو أخوها أو عمها. فحصل من هذا أن الحمأ يكون من الجانبين كالصهر،
وهكذا نقله الخليل، كذا في المصباح (أم جحدر) بفتح الجيم وسكون الحاء (العامرية)
مجهولة لا يعرف حالها. قاله الذهبي وابن حجر (شعارنا) بكسر الشين وهو الثوب الذي يلي
الجسد (فوقه) أي فوق الشعار (لمعة) كغرفة قدر يسير وشئ قليل (فقبض) من سمع (على ما
يليها) أي اللمعة. قال ابن الأثير. وهي في الأصل قطعة من النبت إذا أخذت في اليبس، ومنه
حديث دم الحيض فرأى به لمعة من دم (فبعث بها) أي بالثوب الذي فيه اللمعة (مصرورة) حال
أي مجموعة منقبضة أطرافها وأصل الصر الجمع والشد، ولك شئ جمعته فقد صررته ومنه
قيل للأسير مصرور لأن يديه جمعتا إلى عنقه. كذا في اللسان (هذه) أي اللمعة (وأجفيها)
بشدة الفاء أمر للمؤنث الحاضر من الاجفاف أي أجفى اللمعة الواقعة في الثوب (بقصعتي)
بفتح القاف بالفارسية كأسه (أجففتها) من الاجفاف (فأحرتها) بالحاء المهملة والراء على وزن
36

رددتها وزنا ومعنى. كذا قال في مرقاة الصعود. قال الخطابي: معناه رددتها إليه، يقال: حار
الشئ يحور بمعنى رجع. قال الله تعالى: (إنه ظن أن لن يحور بلى) أي لا يبعث ولا يرجع
إلينا في يوم القيامة للحساب (وهي) أي الكساء الذي كانت فيه اللمعة، وفي بعض النسخ وهو
(عليه) صلى الله عليه وسلم. والحديث تفرد به المؤلف وهو ضعيف. وقال المنذري هو غريب. انتهى.
والحديث ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد الصلاة التي صلى في ذلك الثوب، فكيف استدلال
المؤلف من الحديث، نعم الحديث يدل على تجنب المصلي من الثوب المتنجس وعلى العفو
عما لا يعلم بالنجاسة، ويدل عليه حديث أبي سعيد الخدري الذي أخرجه المؤلف في كتاب
الصلاة قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى
القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم
نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل عليه السلام
أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا) الحديث. ففي هذا الحديث دليل صريح على اجتناب النجاسة
في الصلاة والعفو عما لا يعلم بالنجاسة، وهذا هو الحق الصواب، والله أعلم.
(باب البزاق يصيب الثوب)
البزاق بضم الباء هو البصاق، وفي البزاق ثلاث لغات، بالزاء والصاد والسين، والأوليان
مشهورتان.
(البناني) بضم الموحدة ونونين مخففتين (وحك بعضه ببعض) أي رد بعض ثوبه على
بعض. والحديث مرسل لأن أبا نضرة تابعي.
37

(بمثله) أي بمثل حديث أبي نضرة المذكور. وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
رأى نخامة في القبلة فحكها بيده وقال إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنما يناجي ربه فلا يبزقن
في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض،
قال أو يفعل هكذا) وفيه دليل على أن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة ولا تفسد صلاته، وفيه
أن البصاق طاهر وكذا النخامة والمخاط، خلافا لمن يقول: كل ما تستقذره النفس حرام، والله
تعالى أعلم.
قال الفقير محمد أشرف عفى عنه: هذا اخر كتاب الطهارة من عون المعبود على سنن
أبي داود. وإلى هذا المقام إني لخصت مباحث غاية المقصود شرح سنن أبي داود في كل باب
بالالتزام وما زدت ولا عليه شيئا من قبل نفسي إلا ما شاء الله تعالى. نعم زدت في بعض المقام من
حواشي غاية المقصود التي كتبها الشارح العلامة أدام الله نجده بعد نظره الثاني.
38

(أول كتاب الصلاة)
(سمع طلحة بن عبيد الله) هو أحد العشرة المبشرة بالجنة أسلم قديما وشهد المشاهد
كلها غير بدر، وضرب له صلى الله عليه وسلم سهمه (جاء رجل) ذكر ابن عبد البر وعياض وابن بطال وابن التين
وابن بشكوال وابن الطاهر والمنذري وغيرهم أنه ضمام بن ثعلبة المذكور بخبر أنس وابن
عباس، وتعقبه القرطبي باختلاف مساقهما وتباين الأسئلة بهما، فالظاهر أنهما قضيتان (من أهل
نجد) صفة رجل، والنجد في الأصل: ما ارتفع من الأرض ضد التهامة، سميت به الأرض
الواقعة بين تهامة أي مكة وبين العراق (ثائر الرأس) أي منتشر شعر الرأس غير مرجلة، وأوقع
اسم الرأس على الشعر إما مبالغة أو لأن الشعر منه ينبت (يسمع دوي صوته) بفتح الدال وكسر
الواو وتشديد الياء. قال في النهاية: هو صوت غير عال كصوت النحل. قال القاضي عياض:
أي شدة الصوت وبعده في الهواء فلا يفهم منه شئ كدوي النحل والذباب. ويسمع بياء
بصيغة للمجهول وروى بصيغة المتكلم المعلوم (ولا يفقه) بالياء بصيغة للمجهول وروى
بصيغة المتكلم المعلوم (إلا أن تطوع) بتشديد الطاء والواو وأصله تتطوع بتائين فأبدلت
وأدغمت، وروى بحذف إحداهما وتخفيف الطاء. قال الخطابي: الحديث فيه دليل على أن
الوتر غير مفروض ولا واجب وجوب حتم، ولو كان فرضا مفروضة لكانت الصلاة ستا لا
خمسا. وفيه بيان أن فرض صلاة الليل منسوخ. وفيه دليل على أن صلاة الجمعة فريضة على
39

الأعيان. وفيه دليل على أن صلاة العيد نافلة، وكان أبو سعيد الأصطخري يذهب إلى أن صلاة
العيد من فروض الكفاية، وعامة أهل العلم على أنها نافلة انتهى.
(قال أفلح وأبيه) قال الخطابي: هذه كلمة جارية على ألسنة العرب تستعملها كثيرا في
خطابها تريد بها التوكيد، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلف الرجل بأبيه، فيحتمل أن يكون
ذلك القول منه قبل النهي، ويحتمل أن يكون جرى منه ذلك على عادة الكلام الجاري على
ألسن العرب وهو لا يقصد به القسم كلغو اليمين المعفو عنه. قال الله تعالى (لا يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) قالت عائشة (هو قول الرجل في كلامه
لا والله وبلى والله ونحو ذلك) وفيه وجه اخر وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أضمر فيه اسم الله كأنه
قال: (لا ورب أبيه) وإنما نهاهم عن ذلك لأنهم لم يكونوا يضمرون ذلك في أيمانهم، وإنما
كان مذهبهم في ذلك مذهب التعظيم لإبائهم وقد يحتمل في ذلك وجه آخر وهو أن النهي إنما
وقع عنه إذا كان ذلك منه على وجه التوقير والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه. والعرب قد
تطلق هذه اللفظة في كلامها على ضربين أحدهما على وجه التعظيم والأخر على سبيل التوكيد
للكلام دون القسم انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
(باب في المواقيت)
(عند البيت) أي الكعبة. وفي رواية في الأم للشافعي عند باب الكعبة وفي أخرى في
40

مشكل الآثار للطحاوي عند باب البيت (مرتين) أي في يومين ليعرفني كيفية الصلاة وأوقاتها
(فصلى بي) الباء للمصاحبة والمعية أي صلى معي (وكانت) أي الشمس والمراد منها الفيء
أي الظل الراجح من النقصان إلى الزيادة وهو بعد الزوال مثل شراك النعل (قدر الشراك) قال
ابن الأثير: الشراك أحد سيور النعل التي تكون على وجهها وقدره ههنا ليس على معنى
التحديد ولكن زوال الشمس لا يبين إلا بأقل ما يرى من الظل وكان حينئذ بمكة هذا القدر،
والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها
الظل فإذا كان أطول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم ير بشئ من جوانبها ظل، فكل بلد
يكون أقرب إلى خط الاستواء ومعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعد عنهما إلى جهة
الشمال يكون الظل أطول انتهى. والمراد منه وقت الظهر حين يأخذ الظل في الزيادة بعد
الزوال (حين أفطر للصائم) أي دخل وقت إفطاره بأن غابت الشمس ودخل الليل لقوله تعالى:
(ثم أتموا الصيام إلى الليل) وفي رواية (حين وجبت الشمس وأفطر الصائم) وهو عطف تفسير
(حين غاب الشفق) أي الأحمر على الأشهر: قال ابن الأثير الشفق من الأضداد يقع على
الحمرة التي ترى في المغرب بعد مغيب الشمس وبه أخذ الشافعي، وعلى البياض الباقي في
الأفق الغربي بعد الحمرة المذكورة وبه اخذ أبو حنيفة انتهى (حين حرم الطعام والشراب على
الصائم) يعني أول طلوع الفجر الثاني لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
(فلما كان الغد) أي اليوم الثاني (حين كان ظله مثله) أي قريبا منه أي من غير الفيء
وفي رواية للترمذي: (حين كان ظل كل شئ مثله لوقت العصر بالأمس) أي فرغ من الظهر
حينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول حينئذ. قال الشافعي: وبه يندفع اشتراكهما في وقت
واحد على ما زعمه جماعة، ويدل له خبر مسلم وقت الظهر ما لم يحضر العصر (إلى ثلث
41

الليل) قال ابن حجر المكي: ينبغي أن يكون إلى بمعنى مع ويؤيده الرواية الأخرى (ثم صلى
العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل) انتهى. أو إلى بمعنى في نحو قوله تعالى: (ليجعلنكم
إلى يوم القيامة).
(فأسفر) أي أضاء به أو دخل في وقت الإسفار. قال الشيخ ولي الدين الظاهر: عود
الضمير إلى جبرئيل، ومعنى أسفر دخل في السفر بفتح السين والفاء وهو بياض النهار،
ويحتمل عوده إلى الصبح أي فأسفر الصبح في وقت صلاته أو إلى الموضع أي أسفر للموضع
في وقت صلاته، ويوافقه رواية الترمذي ثم صلى الصبح حتى أسفرت الأرض (والوقت) أي
السمح الذي لا حرج فيه (ما بين) وفي رواية فيما بين (هذين الوقتين) فيجوز الصلاة في أوله
ووسطه وآخره. وقال الخطابي: اعتمد الشافعي هذا الحديث وعول عليه في بيان مواقيت
الصلاة، وقد اختلف أهل العلم في القول بظاهره، فقالت به طائفة، وعدل آخرون عن القول
ببعض ما فيه إلى حديث آخر.
فممن قال بظاهر حديث ابن عباس بتوقيت أول صلاة الظهر وآخرها مالك وسفيان
الثوري والشافعي وأحمد، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة اخر وقت الظهر إذا صار
الظل قامتين وقال ابن المبارك وإسحاق بن راهويه: آخر وقت حدثنا الظهر أول وقت العصر، واحتج
بما في الرواية الآتية أنه صلى الظهر من اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر من اليوم
الأول، وقد نسب هذا القول إلى محمد بن جرير الطبري وإلى مالك بن أنس أيضا. وقال: لو
أن مصليين صليا أحدهما الظهر والآخر العصر في وقت واحد صحت صلاة كل واحد منهما.
قال الخطابي: إنما أراد فراغه من صلاة الظهر في اليوم الثاني أبو بكر في الوقت الذي ابتدأ فيه صلاة
العصر من اليوم الأول، وذلك أن هذا الحديث إنما سيق لبيان الأوقات، وتحديد أوائلها وآخرها.
دون عدد الركعات وصحتها وسائر أحكامها، ألا ترى أنه يقول في آخره: (والوقت فيما بين
هذين الوقتين)، فلو كان الأمر على ما قدره هؤلاء لجاء من ذلك اشكال في أمر الأوقات.
وقد اختلفوا في أول وقت العصر، فقال بظاهر حديث ابن عباس مالك والثوري
والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة أول وقت العصر أن يصير الظل قامتين بعد الزوال
وخالفه صاحباه، واختلفوا في آخر وقت العصر فقال الشافعي: آخر وقتها إذا صار ظل كل شئ
مثليه لمن ليس له عذر، ولا ضرورة على ظاهر هذا الحديث، فأما أصحاب العذر والضرورات
فآخر وقتها لهم غروب الشمس. وقال سفيان وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل: أول وقت
42

العصر إذا صار ظل كل شئ مثله، ويكون باقيا ما لم تصفر الشمس. وعن الأوزاعي نحوا من
ذلك.
وأما المغرب، فقد أجمع أهل العلم على أن أول وقتها غروب الشمس، واختلفوا في آخر
وقتها، فقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا وقت للمغرب لا وقت واحد. وقال الثوري
وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق: آخر وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وهذا أصح القولين
وأما الشفق فقالت طائفة: هو الحمرة وهو المروي عن ابن عمر وابن عباس وهو قول مكحول
وطاووس وبه قال مالك والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: الشفق البياض. وعن عمر بن عبد العزيز مثله، وإليه ذهب أبو
حنيفة والأوزاعي. وقد حكى عن الفراء أنه قال: الشفق الحمرة. وقال أبو العباس: الشفق:
البياض. قال بعضهم: الشفق: اسم للحمرة والبياض معا، إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس
بقاني وأبيض ليس بناصع، وإنما يعرف المراد منه بالأدلة لا بنفس الاسم كالقرء الذي يقع
اسمه على الحيض والطهر معا وكسائر نظائره من الأسماء المشتركة. وأما آخر وقت العشاء
الآخرة، فروي عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة أن آخر وقتها ثلث الليل وكذلك قال عمر بن
عبد العزيز وبه قال الشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي وابن المبارك وإسحاق: آخر وقتها
نصف الليل، وقد روى عن ابن عباس أنه قال: لا يفوت وقت العشاء إلى الفجر، وإليه ذهب عطاء
وطاوس وعكرمة. وأما آخر وقت الفجر فذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابن عباس وهو
الإسفار وذلك لأصحاب الرفاهية ولمن لا عذر له، وقال: من صلى ركعة من الصبح قبل طلوع
الشمس لم تفته الصبح، وهذا في أصحاب العذر والضرورات. وقال مالك وأحمد
وإسحاق: من صلى ركعة من الصبح وطلعت له الشمس أضاف إليها أخرى وقد أدرك الصبح
فجعلوه مدركا للصلاة. وقال أصحاب الرأي: من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من
الفجر فسدت صلاته. انتهى كلام الخطابي ملخصا محررا والحديث أخرجه الترمذي.
(فأخر العصر شيئا) أي تأخير السير أو لعله قوله أخره عن وقته المختار ليكون محل الانكار
برفق على طريق الإخبار (أما) بالتخفيف حرف استفتاح بمنزلة ألا (أعلم) بصيغة الأمر من
العلم، وقيل من الإعلام، ويحتمل أن يكون أعلم بصيغة المتكلم، إلا أن الأول هو الصحيح
43

(ما تقول) قيل: هذا القول تنبيه من عمر بن عبد العزيز لعروة على إنكاره إياه، ثم تصدره بأما
التي هي من طلائع القسم أي تأمل ما تقول وعلام تحلف وتنكر. كذا قاله الطيبي، وكأنه
استبعاد لقول عروة: صلى أمام رسول الله مع أن الأحق بالإمامة هو النبي، والأظهر أنه
استبعاد لإخبار عروة بنزول جبريل بدون الإسناد، فكأنه غلظ عليه بذلك مع عظيم جلالته إشارة
إلى مزيد الاحتياط في الرواية لئلا يقع في محذور الكذب على رسول الله وإن لم يتعمده
(فقال عروة سمعت بشير) هو بفتح الموحدة بعدها معجمة وزن فعيل وهو تابعي جليل ذكر في
الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه كذا في الفتح (ابن أبي مسعود يقول سمعت أبا
مسعود الأنصاري) قال الطيبي: معنى إيراد عروة الحديث أني كيف لا أدري ما أقول وأنا
صحبته وسمعت ممن صحب وسمع ممن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه هذا الحديث
فعرفت كيفية الصلاة وأوقاتها وأركانها يقال: ليس في الحديث بيان أوقات الصلاة يجاب عنه
بأنه كان معلوما عند المخاطب فأبهمه في هذه الرواية وبينه في رواية جابر وابن عباس. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر الذي يظهر لي أن عمر ينكر بيان الأوقات وإنما استعظم إمامة جبريل
للنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهو كذلك لأن معرفة الأوقات تتعين على كل أحد، فكيف تخفى على مثله
رضي الله تعالى عنه.
(يحسب بأصابعه) بضم السين مع الباء التحتانية وقبل بالنون. قال الطيبي هو بالنون حال
من فاعل يقول أي يقول هو من ذلك القول ونحن نحسب بعقد أصابعه، وهذا مما يشهد باتقانه
وضبطه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ميرك: لكن صح في أصل سماعنا من البخاري ومسلم
والمشكاة يحسب بالتحتانية، والظاهر أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم أي يقول ذلك حال كونه يحسب تلك
المرات بعقد أصابعه، قال بعض شراح المشكاة، وهذا أظهر لو ساعدته الرواية (خمس
صلوات) قال ولي الدين هو مفعول صليت أو يحسب (والشمس مرتفعة) أي في أول وقت
44

العصر (فيأتي ذا الحليفة) هي قرية بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة منها ميقات أهل المدينة
وهي من مياه بني جشم (حين تسقط الشمس) أي تغرب الشمس (وصلى الصبح مرة بغلس)
والغلس بفتحتين: بقايا الظلام. قال ابن الأثير: الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء
الصباح انتهى.
والحديث يدل على استحباب التغليس وأنه أفضل من الإسفار ولولا ذلك لما لازمه
النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، وبذلك احتج من قال باستحباب التغليس. وقد اختلف العلماء في ذلك
فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والأوزاعي وداود وأبو جعفر الطبري
وهو المروي عن عمر وعثمان وابن الزبير وأنس وأبي موسى وأبي هريرة إلى أن التغليس أفضل
وأن الإسفار غير مندوب، وحكى هذا القول الحازمي عن بقية الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأبي
مسعود الأنصاري وأهل الحجاز، واحتجوا بالأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيرها،
ولتصريح أبي مسعود في هذا الحديث بأنها كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التغليس حتى مات ولم يعد
إلى الإسفار. وقد حقق شيخنا العلامة السيد محمد نذير حسين المحدث هذه المسألة في كتابه
معيار الحق: ورجح التغليس على الإسفار وهو كما قال. وذهب الكوفيون أبو حنيفة رضي الله
عنه وأصحابه والثوري والحسن بن حي، وأكثر العراقيين وهو مروى عن علي وابن مسعود إلى
أن الإسفار أفضل.
(فأسفر بها) قال في القاموس: سفر الصبح يسفر أضاء وأشرق (ولم يعد) بضم العين من
عاد يعود (إلى أن يسفر) من الإسفار. ولفظ الطحاوي: فأسفر ثم لم يعد إلى الإسفار حتى
قبضه الله عز وجل، وهكذا لفظ الدارقطني. وفي لفظ له: حتى مات. قال المنذري:
والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة بنحوه ولم يذكروا رؤيته لصلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة في قصة الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة
مقبولة. انتهى. (روى هذا الحديث) أي حديث أمامة جبرئيل من رواية أبي مسعود الأنصاري
45

(عن الزهري معمر) فاعل روى وكذا ما بعده إلى الليث بن سعد (وغيرهم) أي غير معمر
ومالك وسفيان وشعيب والليث كالأوزاعي ومحمد بن إسحاق (لم يذكروا) هؤلاء من رواة
الزهري (الوقت الذي صلى فيه) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولم يفسروه) أي لم يبينوا هؤلاء الوقت كما بين
وفسر الأوقات أسامة بن زيد عن الزهري (وكذلك أيضا) أي كما روى هؤلاء المذكورون من
غير بيان الأوقات (نحو رواية معمر وأصحابه) كمالك وسفيان والليث وغيرهم (إلا أن حبيبا لم
يذكر) في روايته (بشيرا) أي بشير بن أبي مسعود، بل فيه أن عروة روى عن أبي مسعود البدري
من غير واسطة ابنه بشير بن أبي مسعود. قال الحافظ في الفتح: قد وجد ما يعضد رواية أسامة
ابن زيد، ويزيد عليها أن البيان من فعل جبرئيل، وذلك فيما رواه الباغندي في مسند عمر بن
عبد العزيز والبيهقي في السنن الكبرى من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن
حزم أنه بلغه عن أبي مسعود فذكره منقطعا، لكن رواه الطبراني من وجه آخر عن أبي بكر عن
عروة، فرجع الحديث إلى عروة، ووضح أن له أصلا، وأن في رواية مالك ومن تابعه
اختصارا، وبذلك جزم ابن عبد البر، وليس في رواية مالك ومن تابعه ما ينفي الزيادة المذكورة
فلا توصف والحالة هذه بالشذوذ انتهى كلامه.
قلت في رواية مالك ومن تابعه اختصار من وجهين: أحدهما أنه لم يعين الأوقات،
وثانيهما أنه لم يذكر صلاة جبرئيل بالنبي صلى الله عليه وسلم الخمس إلا مرة واحدة. وقد علم من رواية
الدارقطني والطبراني وابن عبد البر في التمهيد من طريق أيوب بن عقبة عن أبي بكر بن حزم
عن عروة بن الزبير بسنده إلى أبي مسعود الأنصاري أن جبرئيل صلى به الخمس مرتين في
يومين. وقد ورد من رواية الزهري نفسه فأخرج ابن أبي ذئب في موطئه عن ابن شهاب بسنده
إلى أبي مسعود، وفيه أن جبرئيل نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصلى وصلى وصلى وصلى وصلى ثم
صلى وصلى وصلى وصلى وصلى ثم قال: هكذا أمرت وثبت أيضا صلاته مرتين مع تفسير
الأوقات الخمس عن ابن عباس عند أبي داود والترمذي، وأنس عند الدارقطني، وعمرو بن
حزم عند عبد الرزاق في مصنفه وابن راهويه في مسنده، وجابر بن عبد الله في الترمذي
والنسائي والدارقطني، وأبي سعيد عند أحمد وأبي هريرة عند البزار، وابن عمر عند
الدارقطني، فهذه الروايات تعضد رواية أسامة بن زيد الليثي وتدفع علة الشذوذ وأما مالك ومن
46

تابعه فإن أجملوا وأبهموا في روايتهم عن الزهري عن عروة عن بشير عن أبي مسعود البدري،
ولم يبينوا الأوقات ولم يفسروها، لكن أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة، روى مفسرا ومبينا
للأوقات، وكذا روى مفسرا أبو بكر ابن حزم عن عروة، وكذا روى سبع من الصحابة الذين
سمينا أسماءهم آنفا حديث إمامة جبرئيل مفسرا ومبينا للأوقات، والله أعلم.
(وروى وهب بن كيسان إلى قوله عمرو بن شعيب إلخ) مقصود المؤلف من إيراد هذه
التعاليق الثلاثة أي رواية جابر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، بيان أنه لم يرد صلاة
المغرب في إمامة جبرئيل إلا في وقت واحد، في أحاديث هؤلاء كما في رواية أسامة بن زيد،
وكما في حديث ابن عباس المذكور، والأمر كما قال المؤلف، فإن في رواية هؤلاء كلهم أن
جبرئيل صلى للمغرب في اليومين في وقت واحد. قلت: لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى
المغرب في وقتين مختلفين من حديث بريدة عند مسلم وأبي موسى عند مسلم أيضا،
وعبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم أيضا. وأبي هريرة عند الترمذي. قال البيهقي في
المعرفة: والأشبه أن يكون قصة المسألة عن المواقيت بالمدينة، وقصة إمامة جبرئيل عليه
السلام بمكة، والوقت الآخر لصلاة المغرب زيادة منه ورخصة.
(فلم يرد عليه شيئا) أي لم يرد جوابا ببيان الأوقات باللفظ، بل قال له: صل معنا لتعرف
ذلك، ويحصل لك البيان بالفعل كما وقع في حديث بريدة الأسلمي للترمذي أنه قال له (أقم
معنا) وليس المراد أنه لم يجب عليه بالقول ولا بالفعل كما هو الظاهر (انشق الفجر) قال ابن
الأثير في النهاية: يقال: شق وانشق طلع كأنه شق محل طلوعه، فخرج منه (لا يعرف وجه
47

صاحبه) بيان لذلك الوقت (أنتصف النهار) قال الشيخ ولي الدين: انتصف بفتح الهمزة على
سبيل الاستفهام قطعا وهمزة الوصل محذوف كقوله تعالى: (أصطفى البنات) (افترى على
الله كذبا) (أطلعت الشمس) بهمزة الاستفهام (فأقام الظهر في وقت العصر) أي في الوقت
الذي يليه وقت العصر، ففرغ من الظهر ودخل وقت العصر بعده من غير التراخي، وتقدم بيانه
ويشهد له الخبر الآتي وقت الظهر ما لم تحضر العصر والله أعلم (وصلى المغرب قبل أن يغيب
الشفق) يعني صلاها في آخر الوقت. وهذا الحديث حجة على الشافعي ومالك في تضييق
وقت المغرب، وفيه أن وقت المغرب ممتد (وصلى العشاء إلى ثلث الليل) ولعله لم يؤخرها
إلى آخره وهو وقت الجواز لحصول الحرج بسهر الليل كله وكراهة النوم قبل صلاة العشاء، وفيه
بيان أن للصلاة وقت فضيلة ووقت اختيار، وفيه البيان بالفعل فإنه أبلغ في الإيضاح والفعل تعم
فائدته للسائل وغيره (الوقت فيما بين هذين) أي هذا الوقت المقتصد الذي لا إفراط فيه تعجيلا
ولا تفريط فيه تأخيرا. قاله ابن الملك أو بينت بما فعلت أول الوقت وآخره والصلاة جائزة في
جميع أوله وأوسطه وآخره، والمراد بآخره هنا آخر الوقت في الاختيار لا الجواز إذ يجوز صلاة
الظهر بعد الإبراد التام ما لم يدخل وقت العصر، ويجوز العصر بعد ذلك التأخير الذي هو فوق
ما لم تغرب الشمس، ويجوز صلاة العشاء إلى نصف الليل وصلاة الفجر بعد الأسفار ما لم
تطلع الشمس. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والنسائي (نحو هذا) أي نحو حديث
أبي موسى، فكما يدل حديث أبي موسى على أن للمغرب وقتين يدل حديث جابر أيضا على
ذلك (قال) جابر (ثم صلى) النبي صلى الله عليه وسلم (وقال بعضهم) والمعنى لما فرغ النبي عن صلاة
48

العشاء قال بعض الصحابة: مضى ثلث الليل، وقال بعضهم: مضى نصف الليل وكل ذلك
بالتخمين (وكذلك) أي بذكر صلاة المغرب في الوقتين (روى ابن بريدة) هو سليمان وحديثه
أخرجه الجماعة إلا مسلما.
(سمع أبا أيوب) سماه مسلم يحيى بن مالك الأزدي (وقت الظهر) وسميت به لأنها أول
صلاة ظهرت، أو لفعلهما وقت الظهيرة وهو الأظهر (ما لم تصفر الشمس) فالمراد به وقت
الاختيار لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين (ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك
العصر) أي مؤداه. قال الخطابي: هو بقية حمرة الشفق في الأفق وسمى فورا لفورانه
وسطوعه. وروي أيضا ثور الشفق، وهو ثوران حمرته. قال ولي الدين العراقي: وصحفه
بعضهم بنون، ولو صحت الرواية لكان له وجه (ووقت العشاء إلى نصف الليل) فيه دليل صريح
على أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل، وهذا هو الحق وقد بسط الكلام في هذه المسألة في
الشرح. والحديث فيه ذكر أوقات الصلوات الخمس. وأخرجه أحمد ومسلم والنسائي
(باب وقت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يصليها)
(فقال) جابر (بالهاجرة) قال الحافظ في الفتح: الهجير والهاجرة بمعنى وهو وقت شدة
الحر انتهى. ومقتضى ذلك أنه كان يصلى الظهر في أول وقتها، والمراد بها نصف النهار بعد
الزوال، سميت بها لأن الهجرة هي الترك، والناس يتركون التصرف حينئذ لشدة الحر لأجل
49

القيلولة وغيرها. قال الحافظ: ظاهره يعارض حديث الإبراد لأن قوله كان يفعل يشعر بالكثرة
والدوام عرفا. قاله ابن دقيق العيد ويجمع بين الحديثين بأن يكون أطلق الهاجرة على الوقت
بعد الزوال مطلقا، لأن الإبراد مقيد بحال شدة الحر وغير ذلك، فإن وجدت شروط الإبراد أبرد
وإلا عجل. فالمعنى: كان يصلى الظهر بالهاجرة إلا إن احتاج إلى الإبراد. وتعقب بأنه لو كان
ذلك مراده لفصل كما فصل في العشاء. والله أعلم (والعصر) بالنصب أي وكان يصلى العصر
(والشمس حية) جملة اسمية وقعت حالا على الأصل بالواو، وقال الخطابي: حياة الشمس
يفسر على وجهين أحدهما أن حياتها شدة وهجها وبقاء حرها لم ينكسر منه شئ، والوجه
الآخر صفاء لونها لم يدخلها التغير لأنهم شبهوا صفرتها بالموت (والمغرب) بالنصب أيضا
(والعشاء) بالنصب أيضا (إذا كثر الناس عجل وإذا قلوا أخر) قال الطيبي: الجملتان الشرطيتان
في محل النصب حالان من الفاعل أي يصلي العشاء معجلا إذا كثر الناس ومؤخرا إذا قلوا أو
يحتمل أن يكونا من المفعول والراجع مقدر أي عجلها أو أخرها. انتهى. والتقدير معجلة
ومؤخرة (والصبح) بالنصب أيضا (بغلس) بفتحتين: هو ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء
الصباح. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
(أبي برزة) بالفتح وسكون الراء المهملة بسدها زاء معجمة (إلى أقصى المدينة) أي آخر
المدينة وأبعدها (ونسيت المغرب) قائل ذلك هو سيار أبو المنهال بينه أحمد في روايته عن
حجاج عن شعبة عند كذا في الفتح (وكان لا يبالي تأخير العشاء) بل يستحبه كما ورد في رواية
للبخاري وكان يستحب أن يؤخر العشاء (وكان يكره النوم قبلها) لخوف الفوت. قال الحافظ
قال الترمذي كره أكثر أهل العلم النوم قبل العشاء، ورخص بعضهم فيه في رمضان
خاصة. انتهى. ومن نقلت عنه الرخصة قيدت عنه في أكثر الروايات بما إذا كان من يوقظه أو
عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم، وهذا جيد حيث قلنا إن علة النهي خشية
خروج الوقت. وحمل الطحاوي الرخصة على ما قبل دخول وقت العشاء والكراهة على ما بعد
50

دخوله. انتهى. قال النووي: إذا غلبه النوم لم يكره له إذا لم يخف فوات الوقت (والحديث
بعدها) أي التحدث بكلام الدنيا ليكون ختم عمله على عبادة وآخره ذكر الله فإن النوم أخو
الموت، أما الحديث فقد كرهه جماعة منهم سعيد بن المسيب. قال: لأن أنام عن العشاء أحب
إلى من اللغو بعدها ورخص بعضهم التحدث في العلم وفيما لا بد منه من الحوائج ومع الأهل
والضيف. كذا في المرقاة. قال الحافظ في الفتح: إن هذه الكراهة مخصوصة بما إذا لم يكن
في أمر مطلوب، وقيل الحكمة فيه لئلا يكون سببا في ترك قيام الليل أو للاستغراق في الحديث
ثم يستغرق في النوم فيخرج وقت الصبح (ويعرف أحدنا جليسه) ولفظ مسلم: (وكان يصلي
الصبح فينصرف الرجل فينظر إلى وجه جليسه الذي يعرف فيعرفه) ولفظ البخاري: وكان
ينفتل عن صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه (فيها) أي في صلاة الصبح (الستين) آية أي
أنه كان يقرأ بهذا القدر من الآيات وربما يزيد (إلى المائة) يعني من الآي، وقدرها في رواية
للطبراني بسورة الحاقة ونحوها. قال المنذري. والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي
وابن ماجة، وأخرج الترمذي طرفا منه. واستدل بهذا الحديث على التعجيل بصلاة الصبح.
لأن ابتداء معرفة الانسان وجه جليسه يكون في أواخر الغلس وقد صرح بأن ذلك كان عند فراغ
الصلاة، ومن المعلوم من عادته صلى الله عليه وسلم ترتيل القراءة وتعديل الأركان، فمقتضى ذلك أنه كان
يدخل فيها مغلسا. وادعى الزين بن المنير أنه مخالف لحديث عائشة الآتي حيث قالت فيه:
(لا يعرفن من الغلس) وتعقب بأن الفرق بينهما ظاهر وهو أن حديث أبي برزة متعلق بمعرفة من
هو مسفر جالس إلى جنب المصلى فهو ممكن، وحديث عائشة متعلق بمن هو متلفف مع أنه
على بعد فهو بعيد.
(باب وقت صلاة الظهر)
(فآخذ قبضة من الحصى) قال الخطابي: فيه من الفقه تعجيل صلاة الظهر وفيه: لا يجوز
51

السجود إلا على الجبهة ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه أو الاقتصار من السجود على
الأرنبة دون الجهة لم يكن يحتاج إلى هذا الصنيع وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة.
قلت: قوله ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه لم يكن يحتاج إلى هذا الصنيع فيه نظر
لاحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة سجد عليها مع بقاء سترته
له، وقد جاء في رواية البخاري من طريق بشر بن المفضل حدثنا غالب القطان عن بكر بن
عبد الله عن أنس بن مالك قال: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة
الحر في مكان السجود) وله من طريق أخرى من حديث خالد بن عبد الرحمن عن غالب:
(سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر) وفي رواية لمسلم: (إذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من
الأرض بسط ثوبه فسجد عليه) فهذه الأحاديث تدل على جواز السجود على الثوب المتصل
بالمصلي، وعلى جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض
لاتقاء حرها وكذا بردها، وعلى جواز العمل القليل في الصلاة ومراعاة الخشوع فيها، لأن
الظاهر أن صنيعهم ذلك لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض. قال الحافظ في الفتح:
وظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإبراد كما سيأتي يعارضه، فمن قال الإبراد رخصة فلا
إشكال، ومن قال سنة فإما أن يقول التقديم المذكور رخصة وإما أن بقول منسوخ بالأمر
بالإبراد، وأحسن منهما أن يقال إن شدة الحر قد توجد مع الإبراد فيحتاج إلى السجود على
الثوب أو إلى تبريد الحصى، لأنه قد يستمر حره بعد الإبراد، ويكون فائدة الإبراد وجود ظل
يمشي فيه إلى المسجد أو يصلى فيه في المسجد، أشار إلى هذا الجمع القرطبي ثم ابن دقيق
العيد. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي.
(في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام) أي من الفيء، والمراد أن يبلغ مجموع الظل
الأصلي والزائد هذا المبلغ لا أن يصير الزائد هذا المبلغ ويعتبر الأصلي سوى ذلك. قال
الخطابي: هذا أمر يختلف في الأقاليم والبلدان ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، وذلك
أن العلة في طول الظل وقصره هو زيادة ارتفاع الشمس في السماء وانحطاطها، فكلما كانت
52

أعلى وإلى محاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظل أقصر، وكلما كانت أخفض ومن
محاذاة الرؤوس أبعد كان الظل أطول، ولذلك ظلال الشتاء تراها أبدا أطول من ظلال الصيف
في كل مكان، وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة وهما من الإقليم الثاني، ويذكرون
أن الظل فيهما في أول الصيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشئ، ويشبه أن تكون صلاته عليه
السلام إذا اشتد الحر متأخرة عن الوقت المعهود قبله، فيكون الظل عند ذلك خمسة أقدام،
وأما الظل في الشتاء فإنهم يذكرون أنه في تشرين الأول خمسة أقدام أو خمسة أقدام وشئ وفي
الكانون سبعة أقدام أو سبعة أقدام وشئ، فقول ابن مسعود ينزل على هذا التقدير في ذلك
الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان التي هي خارجة عن الإقليم الثاني. انتهى. قال السيوطي
في مرقاة الصعود: قال ولي الدين هذه الأقدام هي قدم كل انسان بقدر قامته. قلت: ضابط ما
يعرف به زوال كل بلد أن يدق وتدفئ حائط أو خشبة موازيا للقطب يمانيا أو شماليا فينظر
لظله، فمهما ساواه فذلك وسط النهار، فإذا مال للمشرق ميلا تاما فذلك الزوال وأول وقت
الظهر، فكل الأقدام إذا بكل شهر وأحفظها لكل شهر بكل فصل وكل بلد فلم أر ضابطا أفضل
من هذا. قال علي القاري في المرقاة: قال السبكي اضطربوا في معنى حديث الذي أخرجه أبو
داود والنسائي، والذي عندي في معناه أنه كان يصليهما في الصيف بعد نصف الوقت، وفي
الشتاء أوله ومنه يؤخذ حد الإبراد. انتهى. والأظهر أنه لا حد للابراد، وإنما يختلف باختلاف
البلاد، ولعله أراد أن لا يتعدى في الإبراد عن نصف الوقت. والله تعالى أعلم. انتهى. قال
المنذري: والحديث، أخرجه النسائي.
(أبو الحسن هو مهاجر) مهاجر: اسم وليس بوصف (فقال: أبرد) قال الخطابي: معنى
الإبراد في هذا الحديث، انكسار شدة الظهيرة. انتهى. قال الحافظ في الفتح: فإن قيل الإبراد
للصلاة، فكيف أمر المؤذن به للأذان، فالجواب أن ذلك مبني على أن الأذان هل هو للوقت أو
للصلاة، وفيه خلاف مشهور، والأمر المذكور يقوى القول بأنه للصلاة. وأجاب الكرماني بأن
عادتهم جرت بأنهم لا يتخلفون عند سماع الأذان عن الحضور إلى الجماعة، فالابراد بالأذان
لغرض الإبراد بالعبادة (أو ثلاثا) هو شك من الراوي (حتى رأينا فيء التلول) قال الحافظ في
53

الفتح: هذه الغاية متعلقة بقوله. فقال أبرد، أي كان يقول له في الزمان الذي قبل الرؤية أبرد
أو متعلقة بأبرد، أي قال له أبرد إلى أن ترى أو متعلقة أي قال له أبرد فأبرد إلى أن رأينا،
والفئ بفتح الفاء وسكون الياء بعدها همزة هو ما بعد الزوال من الظل. والتلول جمع تل بفتح
المثناة وتشديد اللام، كل ما اجتمع على الأرض من تراب أو رمل أو نحو ذلك، وهي في
الغالب منبطحة غير شاخصة، فلا يظهر لها ظل إلا إذا ذهب أكثر وقت الظهر. وقد اختلف
العلماء في غاية الإبراد، فقيل حتى يصير الظل ذراعا بعد ظل الزوال، وقيل ربع قامة، وقيل
ثلثها، وقيل نصفها، وقيل غير ذلك، ونزلها المازري على اختلاف الأوقات، والجاري على
القواعد أنه يختلف باختلاف الأحوال، لكن يشترط أن لا يمتد إلى آخر الوقت (ثم قال إن شدة
الحر من فيح جهنم) هو بفتح الفاء وسكون الياء وفي آخره حاء مهملة. قال الخطابي: فيح
جهنم معناه سطوع حرها وانتشاره، وأصله في كلامهم السعة والانتشار، ومنه قولهم في الغارة
فيحى فياح، ومكان أفيح أي واسع، وأرض فيحاء أي واسعة. ومعنى الحديث يحمل على
وجهين. أحدهما أن شدة حر الصيف من وهج حر جهنم في الحقيقة، وروي أن الله تعالى أذن
لجهنم في نفسين، نفس في الصيف ونفس في الشتاء فهو منها. والوجه الثاني أن هذا خرج
مخرج التشبيه والتقريب، أي كأنه نار جهنم أي كأن شدة الحر من نار جهنم فاحذروها واجتنبوا
ضررها والله أعلم. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
(فأبردوا عن الصلاة) معنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي أخروا الصلاة قيل:
لفظ عن زائدة أو عن بمعنى الباء أو هي للمجاوزة، أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر
شدة الحر، والمراد بالصلاة الظهر، لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها. كذا في
الفتح. وقد مر وجه الجمع بين حديثي الإبراد والتهجير. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه، إذا كان أيام الصيف فتؤخر صلاة الظهر وتبرد بها، وإذا كان أيام الشتاء فتجعل صلاة
الظهر واستدل لهما حديث رواه النسائي عن أنس بن مالك قال: (كان النبي إذا كان الحر أبرد
بالصلاة وإذا كان البرد عجل) (قال ابن موهب بالصلاة) الباء للتعدية وقيل زائدة (فإن شدة
54

الحر) تعليل لمشروعية التأخير المذكور، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب
الخشوع وهذا أظهر، وكونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب، ويؤيده حديث عمرو بن عبسة
عند مسلم حيث قال له: (أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم)
وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة، ففعلها مظنة لطرد العذاب فكيف أمر بتركها،
وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم
معناه. قاله الحافظ في الفتح (من فيح جهنم) أي من سعة انتشارها وتنفسها، ومنه مكان أفيح
أي متسع، وهذا كناية عن شدة استعارها، كذا في الفتح. وقال على القارئ أي من غليانها،
انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(إذا دحضت الشمس) بفتح الدال والحاء المهملتين والضاد المعجمة. قال الخطابي:
معناه زالت. وأصل الدحض الزلول، كان يقال: دحضت رجله أي زلت عن موضعها وأدحضت
حجة فلان أي أزلتها، وأبطلتها انتهى. قال الحافظ: ومقتضى ذلك أنه كان يصلي الظهر في
أول وقتها، ولا يخالف ذلك الأمر بالإبراد لاحتمال أن يكون ذلك في زمن البرد، أو قبل الأمر
بالإبراد، أو عند فقد شروط الإبراد لأنه يختص بشدة الحر أو لبيان الجواز انتهى. قال
المنذري: والحديث أخرجه مسلم وابن ماجة وحديث مسلم أتم.
(باب وقت العصر)
(والشمس بيضاء مرتفعة) أي لم تصفر (حية) حياة الشمس عبارة عن بقاء حرها لم يفتر
وبقاء لونها لم يتغير (ويذهب الذاهب إلى العوالي) أي يذهب واحد بعد صلاة العصر إلى
العوالي فيأتي العوالي كما في رواية مسلم. قال الحافظ في الفتح: والعوالي عبارة عن القرى
المجتمعة حول المدينة من جهة نجدها، وأما ما كان من جهة تهامتها فيقال لها السافلة
55

(والشمس مرتفعة) أي دون ذلك الارتفاع لكنها لم تصل إلى الحد الذي توصف به لأنها
منخفضة، وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن
تمضي مسافة أربعة أميال. قال الحافظ في الفتح. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري
ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(والشمس) الواو فيه للحال والمراد بالشمس ضوؤها (في حجرتها) وهي بضم المهملة
وسكون الجيم: البيت أي ضوء الشمس باقية في قعر بيت عائشة (قبل أن تظهر) أي تصعد
وتعلق بالحيطان. قال الخطابي معنى الظهور ها هنا الصعود والعلو، يقال ظهرت على الشئ
إذا علوته، ومنه قوله تعالى: (ومعارج عليها يظهرون) انتهى. وقال النووي: كانت حجرة
ضيقة العرصة قصيرة الجدار بحيث كان طول جدارها أقل من مسافة العرصة بشئ يسير، فإذا
صار ظل الجدار مثله كانت الشمس أبعد في أواخر العرصة. انتهى. والمستفاد من هذا
الحديث تعجيل صلاة العصر في أول وقتها. قال المنذري، والحديث أخرجه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(بيضاء نقية) أي صافية اللون عن التغير والاصفرار.
56

(عن عبيدة) بفتح العين هو ابن عمرو السلماني كذا في الفتح (يوم الخندق) وهو يوم
الأحزاب وكان في ذي القعدة قيل سنة أربع ورجحه البخاري، سميت الغزوة بالخندق لأجل
الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره عليه الصلاة والسلام لما أشار به سلمان الفارسي، فإنه
من مكائد الفرس دون العرب. وسميت بالأحزاب لاجتماع طوائف من المشركين: قريش
وغطفان واليهود ومن معهم على حرب المسلمين وهم كانوا ثلاثة آلاف (حبسونا) أي منعونا
(عن صلاة الوسطى) أي عن إيقاعها. وقال النووي وهو من باب قول الله تعالى: (وما كنت
بجانب الغربي) وفيه المذهبان المعروفان مذهب الكوفيين جواز إضافة الموصوف إلى صفته،
ومذهب البصريين منعه ويقدرون فيه محذوفا وتقديره هنا عن صلاة الصلاة الوسطى أي عن فعل
الصلاة الوسطى (صلاة العصر) بالجر بدل من صلاة الوسطى أو عطف بيان لها وهو مذهب أكثر
الصحابة قاله ابن الملك. وقال النووي: الذي يقتضيه الأحاديث الصحيحة أنها العصر وهو
المختار وقال الماوردي: نص الشافعي أنها الصبح، وصحت الأحاديث أنها العصر فكأن هذا
هو مذهبه لقوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بمذهبي عرض الحائط. وقال
الطيبي: وهذا مذهب كثير من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب أبو حنيفة وأحمد وداود والحديث
نص فيه. وقيل الصبح، وعليه بعض الصحابة والتابعين، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي،
وقيل الظهر، وقيل المغرب، وقيل العشاء وقيل أخفاها الله تعالى في الصلوات كليلة القدر
وساعة الإجابة في الجمعة. انتهى. وقيل صلاة الضحى. أو التهجد أو الأوابين أو الجمعة أو
العيد أو الجنازة (ملأ الله) دعا عليهم وأخرجه في صورة الخبر تأكيدا وإشعارا بأنه من الدعوات
المجابة سريعا، وعبر بالماضي ثقة بالاستجابة (بيوتهم) بكسر الباء وضمها. قاله على القاري
(وقبورهم نارا) قال الطيبي أي جعل الله النار ملازمة لهم الحياة والممات، وعذبهم في
الدنيا والآخرة انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
57

(فآذني) بمد الهمزة وكسر الذال المعجمة وتشديد النون أي أعلمني (فأملت على) بفتح
الهمزة وسكون الميم وفتح اللام الخفيفة من أملي وبفتح الميم واللام مشددة من أملل يملل أي
ألقت على فالأولى لغة الحجاز وبني أسد والثانية لغة بني تميم وقيس (وصلاة العصر) بالواو
الفاصلة وهي تدل على أن الوسطى غير العصر لأن العطف يقتضي المغايرة وأجيب بوجوه
أحدها أن هذه القراءة شاذة ليست بحجة ولا يكون له حكم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ناقلها
لم ينقلها إلا على أنها قرآن والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع، وإذا لم يثبت قرآنا لا يثبت
خبرا قاله النووي. وثانيها أن يجعل العطف تفسيريا فيكون الجمع بين الروايات. وثالثها أن
تكون الواو فيه زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها
(والصلاة الوسطى صلاة العصر) بغير واو (قانتين) قيل معناه مطيعين، وقيل ساكتين أي عن
كلام الناس لا مطلق الصمت (قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الباجي: يحتمل
أنها سمعتها على أنها قرآن ثم نسخت كما في حديث البراء الذي رواه مسلم، فلعل عائشة لم
تعلم بنسخها أو اعتقدت أنها مما نسخ حكمه وبقي رسمه، ويحتمل أنه ذكرها صلى الله عليه وسلم على أنها من
غير القرآن لتأكيد فضيلتها فظنتها قرآنا فأرادت إثباتها في المصحف لذلك. قاله الزرقاني في
شرح الموطأ. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي (الزبرقان) بكسر زاء
المعجمة وسكون الموحدة وكسر راء المهملة (بالهاجرة) أي في شدة الحر عقب الزوال (أشد)
أي أشق وأصعب (فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) قال الطيبي أي ما كان
ينبغي أن تضيعوها لثقلها عليكم فإنها الوسطى أي الفضلى (وقال) أي زيد بن ثابت، أو قال
النبي صلى الله عليه وسلم والأول هو الصواب قاله في المرقاة. قلت: وتؤيده رواية الطحاوي عن زيد بن ثابت
قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فنزلت (حافظوا
58

على الصلوات والصلاة الوسطى) لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين انتهى (إن قبلها صلاتين)
أي إحداهما نهارية وأخرى ليلية (وبعدها صلاتين) أي إحداهما نهارية وأخرى ليلية أو هي
واقعة وسط النهار واعلم أنه يظهر من حديث زيد هذا أن الصلاة الوسطى هي الظهر، وحديث
على المتقدم يدل علي أن صلاة الوسطى هي العصر. وقد اختلف الناس في ذلك على أقوال
بعد اتفاقهم على أنها آكد الصلوات، فمنهم من قال إنها الصبح، ومنهم من قال إنها المغرب،
وغير ذلك. قال الحافظ: شبهة من قال إن صلاة الوسطى الصبح قوية لكن كونها العصر هو
المعتمد. قال الترمذي هو قول أكثر علماء الصحابة انتهى. وقال النووي: والصحيح من هذه
الأقوال قولان العصر والصبح وأصحهما العصر للأحاديث الصحيحة. وقال على القاري:
والظاهر أن هذا اجتهاد من الصحابي نشأ من ظنه أن الآية نزلت في الظهر فلا يعارض نصه عليه
الصلاة والسلام أنها العصر انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري في التاريخ.
(من العصر ركعة) قال البغوي: أراد بركعة ركوعها وسجودها ففيه تغليب (ومن أدرك من
الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك) قال الحافظ: الإدراك الوصول إلى الشيء،
فظاهره أنه يكتفي بذلك وليس ذلك مراد بالإجماع، فقيل يحمل على أنه أدرك الوقت فإذا صلى
ركعة أخرى فقد كملت صلاته، وهذا قول الجمهور، وقد صرح بذلك في رواية الدراوردي عن
زيد بن أسلم أخرجه البيهقي من وجهين ولفظه (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس
وركعة بعدما تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة) وللبيهقي من من وجه آخر من أدرك ركعة من
الصبح قبل أن تطلع الشمس فليصل إليها أخرى) ويؤخذ من هذا الرد على الطحاوي حيث
خص الإدراك باحتلام الصبي وطهر الحائض وإسلام الكافر ونحوها، وأراد بذلك نصرة مذهبه
في أن من أدرك من الصبح ركعة تفسد صلاته لأنه لا يكملها إلا في وقت الكراهة. وادعى
بعضهم أن أحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ناسخة لهذا الحديث، وهي دعوى
يحتاج إلى دليل فإنه لا يصار إلى النسخ بالاحتمال، والجمع بين الحديثين ممكن بأن يحمل
أحاديث النهي على مالا سبب له من النوافل. ولا شك أن التخصيص أولى من ادعاء النسخ.
59

ومفهوم الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركا للوقت انتهى قال المنذري:
والحديث أخرجه مسلم والنسائي وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة من
حديث الأعرج عن أبي هريرة.
(تلك صلاة المنافقين) قال ابن الملك: إشارة إلى مذكور حكما أي صلاة العصر التي
أخرت إلى الاصفرار (فكانت) الشمس (بين قرني شيطان) أي قريبا من الغروب قال الخطابي:
اختلفوا في تأويله على وجوه، فقال قائل معناه مقارنة الشيطان الشمس عند دنوها للغروب
على معنى ما روي أن الشيطان يقارنها إذا طلعت فإذا ارتفعت فارقها فإذا استوت قارنها فإذا
زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها، فحرمت الصلاة في هذه الأوقات لذلك
وقيل معنى قرن الشيطان قوته من قولك أنا مقرن لهذا الأمر أي مطيق له قوي عليه قال الله
تعالى: (وما كنا له مقرنين) أي مطيقين وذلك أن الشيطان إنما يقوى أمره في هذه الأوقات
لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها في هذه الأوقات الثلاثة. وقيل قرنه حزبه وأصحابه
الذين يعبدون الشمس يقال هؤلاء قرن أي شيوخا جاءوا بعد قرن مضوا. وقيل إن هذا تمثيل
وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم وتسويفه وتزيينه ذلك في
قلوبهم، وذويات القرون، إنما تعالج الأشياء وتدفعها بقرونها فكأنهم لما دفعوا الصلاة وأخروها
عن أوقاتها بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس صار ذلك منه بمنزلة ما تعالجه ذوات
القرون وتدافعه أو بأرواقها والله أعلم. وفيه خامس قاله بعض أهل العلم. وهو أن الشيطان يقابل
الشمس حين طلوعها وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه وهما جانبا رأسه فينقلب
سجود الكفار عبادة له. انتهى كلام الخطابي. وهذا الوجه الخامس رجحه شيخنا العلامة
الدهلوي (قام) أي إلى الصلاة (فنقر أربعا) أي لقط أربع ركعات، وهذا عبارة عن سرعة أداء
الصلاة وقلة القرآن والذكر فيها قال القاري: فنقر من نقر الطائر الحبة نقرا أي التقطها،
وتخصيص الأربع بالنقر وفي العصر ثماني سجدات اعتبارا بالركعات، وإنما خص العصر
60

بالذكر لأنها الصلاة الوسطى، وقيل إنما خصها لأنها تأتي في وقت تعب الناس من مقاساة
أعمالهم. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.
(الذي تفوته صلاة العصر) أي بغروب الشمس أو اصفرارها أو بخروج وقتها المختار
(فكأنما وتر) بضم الواو وكسر الفوقية على بناء المفعول: أي سلب وأخذ (أهله وماله) بنصبهما
ودفعهما، فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما أي فكأنما
فقدهما بالكلية أو نقصهما. قال الخطابي: معنى قوله وترأى عبد نقص أو سلب فبقي وترا فردا بلا
أهل ولا مال، يريد فليكن حذره من فوتها كحذره من فوات أهله وماله (عبيد الله بن عمر) بن
حفص أحد الفقهاء السبعة، يروى عن سالم ونافع أنه قال في روايته بإسناده إلى عبد الله بن
عمر (أتر) بضم الهمزة وكسر التاء الفوقانية قلبت الواو همزة كما في أجوه وأورى، وكما في قوله
تعالى: (وإذا الرسل أقتت) قال البيضاوي وقرأ أبو عمرو (وقتت) على الأصل. قال
الخفاجي: قوله: على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة وهو أمر مطرد كما بين في
محله (واختلف على أيوب) السختياني في روايته عن نافع (فيه) في هذا الحديث، فروى
حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر مثل رواية مالك وتر بالواو وغير حماد روى عن
أيوب أتر بالهمزة، ورواية حماد هذه أخرجها أبو مسلم والنسائي وابن الكجي كذا في الفتح (قال وتر) بضم
الواو، ورواية الزهري هذه وصلها مسلم والنسائي وابن ماجة، ومقصود المؤلف ترجيح رواية
بالواو لاتفاق أكثر الحفاظ على ذلك اللفظ، والله أعلم.
(وذلك) أي فوات العصر. واختلف في معنى الفوات في هذا الحديث، فقال ابن وهب:
هو فيمن لم يصلها في وقتها المختار، وقيل بغروب الشمس. وفي موطأ ابن وهب قال مالك:
تفسيرها ذهاب الوقت، وهو محتمل للمختار وغيره وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث عن ابن
جريج عن نافع، وزاد في اخره قلت لنافع: حتى تغيب الشمس؟ قال نعم. قال الحافظ وتفسير
61

الراوي إذا كان فقيها أولى من غيره. قال السيوطي: وورد مرفوعا أخرجه ابن أبي شيبة عن
هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: (من ترك العصر حتى تغيب الشمس من غير
عذر فكأنما وتر أهله وماله) وقال الأوزاعي: فواتها أن تدخل الشمس صفرة كما روى عنه
المؤلف. قال الحافظ ابن حجر: ولعله على مذهب الأوزاعي في خروج وقت العصر.
(باب وقت المغرب)
(موضع نبله) قال الحافظ في الفتح: النبل بفتح النون وسكون الموحدة هي السهام
العربية وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها نبلة أي الموضع الذي تصل إليه
سهامه إذا رمى بها. ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها بحيث أن الفراغ منها يقع والضوء
باق. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة نحوه من حديث
رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج النسائي نحوه من رواية رجل من أسلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(تغرب) هو المصدر من باب التفعل (حاجبها) في الصحاح حواجب الشمس نواحيها،
وفي المشارق حاجبها حرفها الأعلى من قرصها. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه
البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة نحوه.
(مرثد) قال المنذري: هو بفتح الميم وسكون الراء المهملة وبعدها ثاء مثلثة ودال مهملة
62

هو من تابعي أهل مصر احتج امامان بحديثه (على الفطرة) أي السنة (إلى أن تشتبك النجوم)
قال ابن الأثير: أي تظهر جميعا، ويختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها وهو كناية عن
الظلام، والحديث يدل على استحباب المبادرة بصلاة المغرب وكراهة تأخيرها إلى اشتباك
النجوم، وقد عكست الروافض القضية فجعلت تأخير المغرب إلى اشتباك النجوم
مستحبا، والحديث يرده. وأما الأحاديث الواردة في تأخير المغرب إلى قرب سقوط الشفق
فكانت لبيان جواز التأخير.
(باب وقت العشاء آخرة)
(لسقوط القمر) أي وقت غروبه أو سقوطه إلى الغروب (لثالثة) أي في ليلة ثالثة من
الشهر. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي والنسائي. قلت: وأخرجه الدارمي.
(مكثنا) بفتح الكاف وضمها أي لبثنا في المسجد (ذات ليلة) أي ليلة من الليالي (ذهب)
أي مضى (أشئ شغله) أي عن تقديمها المعتاد (أم غير ذلك) بأن قصد بتأخيرها إحياء طائفة
كثيرة من أول الليل بالسهر في العبادة التي هي انتظار الصلاة. وغير بالرفع عطف على شئ
وبالجر عطف على أهله قال على القاري (حين خرج) أي من الحجرة الشريفة (لولا أن تثقل
63

على أمتي) قال ولي الدين: بفوقية بأصلنا، أي هذه الصلاة، ويجوز بتحتية أي هذا الفعل
(لصليت بهم) أي دائما. قال المنذري. والحديث أخرجه مسلم والنسائي.
(أبقينا النبي صلى الله عليه وسلم) بقينا بفتح الباء الموحدة والقاف مع خفتها على وزن رمينا أي انتظرناه
من بقيته وأبقيته انتظرته، وأبقينا بالهمز. فهو صحيح أيضا في الصحاح بقيته وأبقيته سواء،
وبقينا بلا همز أشهر رواية (أعتموا) من باب الأفعال (بهذه الصلاة) الباء للتعدية أي أدخلوها في
العتمة أو للمصاحبة أي ادخلوا في العتمة ملتبسين بهذه الصلاة، فالجار والمجرور حال. قال
الطيبي: يقال: أعتم الرجل إذا دخل في العتمة وهي ظلمة الليل، والمعنى: أخروا بالعشاء
الآخرة (فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم) قال الطيبي: فيه دليل على أن شرع من قبلنا
شرع لنا ما لم يرد النسخ (ولم تصلها أمة قبلكم) قال علي القاري: التوفيق بينه وبين قوله في
حديث جبرئيل: هذا وقت الأنبياء من قبلك والله أعلم أن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة
لهم أي زائدة، ولم تكتب على أممهم كالتهجد فإنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجب علينا
وقال ميرك: يحتمل أنه أراد أنه لم تصلها على النحو الذي تصلونها من التأخير وانتظار الاجتماع
في وقت حصول الظلام وغلبة المنام على الأنام.
(صلاة العتمة) أي العشاء الآخرة (مضى نحو) أي قريب (من شطر الليل) أي نصفه
(فقال) أي فخرج فقال (خذوا مقاعدكم) أي الزموها أو يقال معناه أي اصطفوا للصلاة (فأخذنا
مقاعدنا) أي ما تفرقنا عن أماكننا أبي (فقال إن الناس) أي بقية أهل الأرض لما في خبر آخر: (لا
ينتظرها أحد غيركم) فتعين المراد من الناس غير أهل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (قد صلوا) بفتح اللام
64

(وأخذوا مضاجعهم) أي مكانهم للنوم يعني وناموا (وإنكم لم تزالوا في صلاة) أي حكما وثوابا
(ولولا ضعف الضعيف) من جهة اليقين أو البدن (وسقم السقيم) بضم السين وسكون القاف
وبفتحهما (لأخرت) أي دائما (إلى شطر الليل) أي نصفه أو قريبا منه وهو الثلث. قال المنذري:
والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة.
(باب وقت الصبح)
(فينصرف النساء) أي اللاتي يصلين معه (متلفعات) بالنصب على الحالية أي مستترات
وجوههن وأبدانهن (مروطهن) المرط بالكسر كساء من صوف أو خز يؤتزر به، وقيل: الجلباب
وقيل الملحفة. وقال الخطابي: والمروط: أكسية تلبس (ما يعرفن) ما نافية أي ما يعرفهن أحد
(من الغلس) قال الطيبي: من ابتدائية بمعنى لأجل. انتهى. وقال الخطابي: الغلس: اختلاط
ضياء الصبح بظلمة الليل، والغبش قريب منه إلا أنه دونه. وفيه حجة لمن رأى التغليس
بالفجر، وهو الثابت من فعل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة انتهى. وقال الحافظ
في الفتح: في الحديث استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أول الوقت، وجواز خروج النساء
إلى المساجد لشهود الصلاة في الليل، ويؤخذ منه جوازه في النهار من باب أولى لأن الليل مظنة
الريبة أكثر من النهار، ومحل ذلك إذا لم يخش عليهن أو بهن فتنة. انتهى. قال المنذري:
والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وأخرجه ابن ماجة وغيره من حديث
عروة عن عائشة.
(أصبحوا بالصبح) قال ابن الأثير في النهاية: أي صلوها عند طلوع الصبح، يقال:
65

أصبح الرجل إذا دخل في الصبح انتهى. قال السيوطي: بهذا يعرف أن رواية من رواه بلفظ
أسفروا بالفجر رواية بمعناه، وأنه دليل على أفضلية التغليس بها لا على التأخير إلى الأسفار
انتهى. قال الخطابي: وتأولوا حديث رافع بن خديج على أنه أراد بالأصباح والإسفار أن
يصليها بعد الفجر الثاني، وجعلوا مخرج الكلام فيه على مذهب مطابقة اللفظ، وزعموا أنه
يحتمل أن يكون أولئك القوم لما أمروا بتعجيل الصلاة، جعلوا يصلونها بين الفجر الأول
والفجر الثاني طلبا للأجر في تعجيلها ورغبة في الثواب. فقيل لهم: صلوها بعد الفجر الثاني
وأصبحوا بها إذا كنتم تريدون الأجر فأن ذلك أعظم لأجوركم، فإن قيل: وكيف يستقيم هذا؟
ومعلوم أن الصلاة إذ لم يكن لها جواز لم يكن فيها أجر. قيل: أما الصلاة فلا جواز لها، ولكن
أجرهم فيما نووه ثابت. كقوله عليه السلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ألا تراه أنه عليه
السلام قد أبطل حكمه ولم يبطل أجره. وقد قيل: إن الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي
المقمرة، وذلك أن الصبح لا يتبين فيه جدا وأمرهم فيها بزيادة التبيين استظهارا باليقين في
الصلاة انتهى. قال الطحاوي. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: أسفروا بالفجر أي طولوها بالقراءة إلى الأسفار
وهو إضاءة الصبح. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة.
وقال الترمذي: حديث رافع ابن خديج حديث حسن صحيح.
(باب المحافظة على الصلوات)
(كذب أبو محمد) قال الخطابي يريد أخطأ أبو محمد، ولم يرد به تعمد الكذب الذي هو
ضد الصدق لأن الكذب إنما يجري في الأخبار وأبو محمد هذا إنما أفتى فتيا ورأى رأيا فأخطأ
فيما أفتى به وهو رجل من الأنصار له صحبة والكذب عليه في الأخبار غير جائز، والعرب تضع
الكذب موضع الخطأ في كلامها فتقول: كذب سمعي وكذب بصري، ومن هذا قول
النبي صلى الله عليه وسلم: للرجل الذي وصف له العسل: (صدق الله وكذب بطن أخيك) وإنما أنكر عبادة أن
يكون الوتر واجبا وجوب فرض كالصلوات الخمس دون أن يكون واجبا في السنة، ولذلك
66

استشهد بذكر الصلوات الخمس المفروضات في اليوم والليلة (خمس صلوات) مبتدأ
(افترضهن الله عز وجل) خبره (من أحسن وضوءهن) بمراعاة فرائضها وسننها (وصلاهن
لوقتهن) أي في أوقاتهن المختارة (وأتم ركوعهن) بشرطه وسننه الفعلية والقولية (وخشوعهن)
قال ابن الملك: الخشوع: حضور القلب وطمأنينة القلب (على الله عهد) أي وعد والعهد حفظ
الشئ ومراعاته سمي ما كان من الله تعالى على طريقة المجازاة لعبادة عهدا (ومن لم يفعل)
أي مطلقا أو ترك الإحسان (غفر له) فضلا (عذبه) عدلا. والحديث رواه أحمد، وروى مالك
والنسائي نحوه (عن أم فروة) أنصارية من المبايعات وهي غير أم فروة أخت أبي بكر الصديق
وقيل هما واحدة فلا تكون حينئذ أنصارية ذكره الطيبي.
(أي الأعمال أفضل) أي أكثر ثوابا. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي. وأم فروة
هذه هي أخت أبي بكر الصديق لأبيه، ومن قال فيها أم فروة الأنصارية فقد وهم.
(فضالة) قال المنذري: هذا هو ابن عبد الله ويقال فضالة بن وهب الليثي ويقال
الزهراني و الصحيح الليثي (إن ساعات لي فيها أشغال فمرني بأمر جامع) قال الشيخ ولي
67

الدين العراقي: هذا الحديث مشكل مبادئ الرأي إذ يوهم إجزاء صلاة العصر لمن له أشغال
عن غيرها فقال البيهقي في سننه في تأيله وأحسن كأنه أراد والله تعالى أعلم حافظ عليها بأول
أوقاتها فاعتذر بأشغال مقتضية لتأخيرها عن أولها فأمره بالمحافظة على الصلاتين بأول وقتهما
وقال ابن حبان في صحيحه: إنما أمره بالمحافظة على العصرين زيادة تأكيد للأمر بالمحافظة
على أول وقتهما، وأطال الكلام فيه المناوي في فتح القدير (حافظ على العصرين) قال
الخطابي: يريد بالعصرين صلاة العصر وصلاة الصبح، والعرب قد تحمل أحد الاسمين على
آخر فيجمع بينهما في التسمية طلبا للتخفيف كقولهم: سنة العمرين لأبي بكر وعمر،
والأسودين ما يريدون التمر، والماء فالأصل في العصرين عند العرب الليل والنهار. انتهى.
(ابن عمارة) بضم العين وتخفيف الميم (ابن رويبة) بضم الراء وفتح الواو وسكون
المثناة (لا يلج) أي لا يدخل (النار رجل) أي أصلا للتعذيب أو على وجه التأييد (صلى قبل
طلوع الشمس وقبل أن تغرب) يعنى الفجر والعصر أي داوم على أدائهما، وخص الصلاتين
بالذكر لأن الصبح وقت النوم والعصر وقت الاشتغال بالتجارة، فمن حافظ عليهما مع المشاغل
كان الظاهر من حاله المحافظة على غيرهما والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأيضا هذان
الوقتان مشهودان يشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، ويرفعن فيهما أعمال العباد فبالحري
أن يقع مكفرا فيغفر له ويدخل الجنة. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والنسائي.
68

(أخبرني ابن نافع) قال الإمام أبو علي الغساني في كتابه تقييد المهمل: ابن نافع هذا هو
دويد بن نافع ثقة، وحديثه هذا من غرر الحديث، حكاه عن محمد بن يحيى الذهلي. قلت:
هذه العبارة قد وجدت في بعض النسخ في المتن وهو غلط (عهدت) أي وعدت (عهدا) أي
وعدا. قال المزي في الأطراف: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي عن أبي قتادة حديث
قال الله تعالى: افترضت على أمتك خمس صلوات الحديث وفي الصلاة عن حياة بن شريح
وفيه عن يحيى بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار كلاهما عن بقية بن الوليد عن ضبارة بن
عبد الله بن أبي السليك الألهاني عن دويد بن نافع عن الزهري قال: قال سعيد فذكره حديث
وفي رواية أبي سعيد بن الأعرابي عن محمد بن عبد الملك الرواس عن أبي داود ولم يذكره أبو
القاسم.
(خليد) بضم الخاء هو ابن عبد الله أبو سليمان البصري روى عن علي وسلمان وأبي
الدرداء، وعنه قتادة وثقة ابن حبان (العصري) بفتح المهملتين منسوب إلى العصر وهو من قبيلة
عبد القيس (طيبة) حال من أعطى (بها) بالزكاة (نفسه) فاعل طيبة (وأدى الأمانة) قال الإمام ابن
69

الأثير في النهاية: الأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة الثقة والأمان، وقد جاء في كل منها
حديث. انتهى. وقد فسر أبو الدرداء حاصل الحديث بأنه الغسل من الجنابة، وحديث أبي
الدرداء هذا ليس في رواية اللؤلؤي إنما هو من رواية ابن الأعرابي.
(باب إذا أخر امام الصلاة عن الوقت)
(كيف أنت) أي كيف الحال والأمر بك (إذا كانت عليك أمراء) جمع أمير ومنع صرفه
لألف التأنيث، وعليك خبر كانت أي كانوا أئمة مستولين عليك (يميتون الصلاة) أي يؤخرونها
فيجعلونها كالميت الذي خرجت روحه (أو قال يؤخرون للصلاة) شك من الراوي. قال
النووي: والمراد بتأخيرها عن وقتها المختار لا عن كل وقتها فإنه صنيع الأمراء ولم يؤخرها أحد
عن كل وقتها فوجب حمل هذه الأخبار على ما هو الواقع. انتهى. هذا من أعلام النبوة وقد وقع
ذلك في زمن بني أمية (فما تأمرني) أي فما الذي تأمرني به أن أفعله في ذلك الوقت (لوقتها) أي
لوقتها المستحب (فإن أدركتها) بأن حضرتها (معهم فصله) أي الفرض أو ما أدركت أو هو هاء،
السكت قاله علي القاري (فإنها لك نافلة) أي فإنها لك زيادة خير وعليهم نقصان أجر وهو
صريح في أن الفريضة الأولى والنافلة الثانية. قال الشوكاني: معنى الحديث صل في أول
الوقت وتصرف في شغلك، فإن صادفتهم بعد ذلك وقد صلوا أجزأتك صلاتك وإن أدركت
الصلاة معهم فصل معهم وتكون هذه الثانية لك نافلة. والحديث يدل على مشروعية الصلاة
لوقتها، وترك الاقتداء بالأمراء إذا أخروها عن أول وقتها، وأن المؤتم يصليها منفردا ثم يصليها
مع الإمام فيجمع بين فضيلة أول الوقت وطاعة الأمير. ويدل على وجوب طاعة الأمراء في غير
معصية لئلا تتفرق الكلمة وتقع الفتنة. ويدل على أنه لا بأس بإعادة الصبح والعصر وسائر
70

الصلوات لأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر بالإعادة ولم يفرق بين صلاة وصلاة، فيكون مخصصا
لحديث: (لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر) انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(معاذ بن جبل) هو فاعل قدم (اليمن) مفعول قدم (رسول) هو بدل من معاذ (قال) أي
عمرو بن ميمون (رجل أجش الصوت) بفتح الهمزة والجيم والشين المعجمة أي غليظة. قال
الشيخ ولي الدين العراقي: ضبطناه في أصلنا بالنصب على الحال وبالرفع على أنه خبر مبتدأ
محذوف، وأما رجل فإنه مكتوب في أصلنا بغير ألف فإما أن يكون مرفوعا أو منصوبا وكتب بغير
ألف وكثير من النساخ يفعل ذلك قلت الأوجه في الرفع أن يكون البدل من معاذ قاله السيوطي.
قال الخطابي: أجش الصوت هو الذي في صوته جشة وهي شدة الصوت وفيها غنة (كيف
بكم) أي كيف بكم الحال والأمراء يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت هل توافقونهم في تأخير
الصلاة أم تصلونها في أول الوقت (سبحة) بضم المهملة وسكون الموحدة وحاء مهملة. قال
الخطابي: والسبحة ما يصليه المرء نافلة من الصلوات ومن ذلك سبحة الضحى. وفي
الحديث من الفقه أن تعجيل الصلوات في أوائل أوقاتها أفضل وأن تأخيرها بسبب الجماعة غير
جائز. وفيه أن إعادة الصلاة الواحدة مرة بعد أخرى في اليوم الواحد مرتين إذا كان لها سبب
جائزة، وإنما جاء النهي عن أن يصلي واحدة مرتين في يوم واحد إذا لم يكن
لها سبب وفيه أن فرضه هو الأولى منها وأن الأخرى نافلة وإن صلى الأولى منفردا
والثانية بجماعة. وفيه أنه قد أمر بالصلاة مع أئمة الجور حذرا من وقوع الفرقة وشق عصى الأمة
انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي عمرو
وسعد بن إياس الشيباني عن ابن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال
الصلاة لوقتها وفي رواية على مواقيتها) ورواه محمد بن بشار بندار والحسن ابن مكرم البزار عن
عثمان بن عمر بن فارس وقالا فيه: الصلاة لأول وقتها وقيل إنه لم يقله غيرهما. وعثمان بن عمر
ومحمد بن بشار اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثهما، والحسن بن مكرم ثقة.
71

(عن أبي المثنى) قال الحافظ في التقريب: أبو المثنى اسمه ضمضم الأملوكي
الحمصي وثقه العجلي من الرابعة انتهى. وفي الخلاصة أبو المثنى الحمصي اسمه ضمضم
الأملوكي الحمصي وثقه العجلي من الرابعة انتهى. وفي الخلاصة أبو المثني الحمصي اسمه
ضمضم الأملوكي عن ابن حزام وعنه هلال بن يساف وثقه ابن حبان انتهى. وفي بعض النسخ
أبو المثنى الجهمي هو غلط (عن ابن أخت عبادة) الصحيح أنه ابن امرأته كما في الرواية الثانية
(الأنباري) بفتح أوله وبنون ثم موحدة مدينة قرب بلخ (وكيع عن سفيان) قال الشيخ ولي الدين
هو الثوري وقد رواه ابن ماجة من طريق سفيان بن عيينة فرواه السفيانان عن منصور (عن أبي
أبي) أبو أبي اسمه عبد الله بن عمرو الأنصاري وأمه امرأة عبادة بن الصامت واسمها أم حرام
ويعرف أبو أبي هذا بابن أم حرام وبابن امرأة عبادة. وقال الحافظ في التقريب أبو أبي ابن أم
حرام اسمه عبد الله بن عمرو وقيل ابن كعب الأنصاري صحابي نزل بيت المقدس لعله وهو
آخر من مات من الصحابة بها وزعم ابن حبان أن اسمه شمعون (إنها) الضمير للقصة
(يشغلهم) بالياء والتاء وبفتحهما وفتح الغين وبضمها وكسر الغين (أشياء) أي أمور (لوقتها)
أي لوقتها المختار (حتى يذهب وقتها) أي ويدخل وقت الكراهة (فصلوا) أي أنتم (الصلاة
لوقتها) أي ولو منفردين لكن على وجه لا يترتب عليه فتنة ومفسدة (أصلي) بحذف حرف
الاستفهام (معهم) أي إذا أدركتها معهم (قال نعم) لأنها زيادة ودفع شر (إن شئت) هو يدل
على استحباب الصلاة معهم. قال المنذري: والحديث أخرجه ابن ماجة.
72

(قبيصة بن وقاص) قال الحافظ في الإصابة: قبيصة بن وقاص السلمي ويقال الليثي قال
البخاري له صحبة يعد في البصريين. ونقل ابن أبي حاتم عن أبي الوليد الطيالسي يقال إن له
صحبة. وقال الأزدي: تفرد بالرواية عنه صالح بن عبيد. وقال الذهبي لا يعرف إلا بهذا
الحديث ولم يقل فيه سمعت فما ثبتت له صحبة لجواز الإرسال انتهى. وهذا لا يختص بقبيصة
بل في الكتاب جمع جم بهذا الوصف ويكفينا في هذا جزم البخاري بأن له صحبة انتهى.
(يؤخرون الصلاة) أي عن أوقاتها المختارة (فهي لكم وهي عليهم) أي الصلاة المؤخرة عن
الوقت نافعة لكم لأن تأخيركم لا للضرورة تبعا لهم ومضرة عليهم لأنهم يقدرون على عدم التأخير
وإنما شغلهم أمور الدنيا عن أمر العقبى (فصلوا) بضم اللام (ما صلوا) بفتح اللام (القبلة) أي
ما داموا مصلين إلى نحو القبلة وهي الكعبة.
(باب في من نام عن صلاة أو نسيها)
(عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر على الأصح من بين نيف وثلاثين قولا، وقد
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في كمه هرة فقال يا أبا هريرة فاشتهر به، والأوجه في وجه عدم انصراف هريرة
في أبي هريرة هو أن هريرة صارت علما لتلك الهرة. قاله على القاري في شرح الشفاء (حين
قفل) أي رجع إلى المدينة (حتى إذا أدركنا) بفتح الكاف (الكرى) بفتحتين هو النعاس وقيل
النوم (عرس) قال الخطابي: معناه نزل للنوم والاستراحة، والتعريس النزول لغير إقامة (اكلأ)
أي احفظ واحرس (لنا الليل) أي آخره لادراك الصبح (فغلبت بلالا عيناه) هذه عبارة عن النوم
أي نام من غير اختيار (وهو مستند إلى راحلته) جملة حالية تفيد عدم اضطجاعه عند غلبة نومه
(حتى ضربتهم الشمس) أي أصابتهم ووقع عليهم حرها (أولهم استيقاظا) قال الطيبي في
73

استيقاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الناس إيماء إلى أن النفوس الزكية وإن غلب عليها في بعض
الأحيان شئ من الحجب البشرية لكنها عن قريب ستزول وأن كل من هو أزكى كان زوال
حجبه أسرع (ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الزاء المعجمة وعين مهملة أي من استيقاظه وقد فاتته
الصبح. وقال الخطابي: معناه انتبه من نومه، يقال فزعت الرجل من نومه إذا أيقظته ففزع أي
نبهته فانتبه أن (فقال يا بلال) والعتاب محذوف أو مقدر، أي لم نمت حتى فاتتنا الصلاة (فقال)
أي بلال معتذرا (أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك) أي كما توفاك الله في النوم توفاني، أو يقال
معناه غلب على نفسي ما غلب على نفسك من النوم أي كان نومي بطريق الاضطرار دون
الاختيار ليصح الاعتذار (فاقتادوا) ماض أي ساقوا (رواحلهم شيئا) يسيرا من الزمان أو اقتيادا
قليلا من المكان يعني قال اذهبوا رواحلكم فذهبوا بها من ثمة مسافة قليلة (وأمر بلالا فأقام لهم
الصلاة) فيه أنه اقتصر على الإقامة ولم يأمر بالأذان. وسيجئ تحقيقه في الحديث الآتي
(وصلى لهم الصبح) أي قضاء (قال من نسي صلاة) وفي معنى النسيان النوم أو من تركها بنوم أو
نيسان (فليصلها إذا ذكرها) فإن في التأخير آفات. وظاهر هذا الحديث يوجب الترتيب بين
الفائتة والأدائية (أقم الصلاة للذكرى) بالألف واللام وفتح الراء بعدها ألف مقصورة، ووزنها
فعلى مصدر من ذكر يذكر (قال يونس وكان ابن شهاب يقرؤها كذلك) أي بلامين وفتح الراء
بعدها ألف مقصورة وفي صحيح مسلم وسنن ابن ماجة قال يونس وكان ابن شهاب يقرؤها
للذكرى انتهى. وهذه قراءة شاذة والقراءة المشهورة لذكرى بلام واحدة وكسر الراء كما سيجئ
(قال عنبسة يعني عن يونس في هذا الحديث لذكري) أي بلام واحدة وكسر الراء وهي القراءة
المشهورة وأخرج مسلم وابن ماجة عن حرملة بن يحيى أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس
عن ابن شهاب بإسناده وفيه فإن الله تعالى قال (أقم الصلاة لذكري) أي بلام واحدة وكسر
74

الراء، وقال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو نعيم وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا همام عن قتادة
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، لا كفارة لها إلا ذلك وأقم الصلاة
لذكري) قال موسى قال همام سمعته يقول بعد (وأقم الصلاة للذكرى) انتهى. قال العيني:
حاصله أن هماما سمعه من قتادة مرة بلفظ للذكرى يعنى بقراءة ابن شهاب التي ذكرناها ومرة
بلفظ لذكري أي بالقراءة المشهورة. وعلى القراءتين اختلفوا في المراد فقيل المعنى لتذكرني
فيها وقيل لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة وقال الشيخ التوربشتي: هذه الآية تحتمل وجوها
كثيرة من التأويل لكن الواجب أن يصار إلى وجه يوافق الحديث، فالمعنى أقم الصلاة لذكرها
لأنه إذا ذكرها فقد ذكر الله تعالى. أو يقدر المضاف أي لذكر صلاتي، أو وقع ضمير الله موضع
ضمير البلاد لسرفها وخصوصيتها انتهى.
وقال ابن الملك: لذكري من باب إضافة المصدر إلى المفعول، واللام بمعنى الوقت،
أي إذا ذكرت صلاتي بعد النسيان. انتهى. وإن شئت التفصيل فارجع إلى غاية المقصود. قال
الخطابي: وفي الحديث من الفقه أنهم لم يصلوا في مكانهم ذلك عند ما استيقظوا حتى اقتادوا
رواحلهم ثم توضأوا، ثم أقام بلال وصلى بهم. وقد اختلف الناس في معنى ذلك وتأويله،
فقال بعضهم: إنما فعل ذلك لترتفع الشمس فلا يكون في وقت منهى عن الصلاة فيه وذلك أول
تبزغ الشمس قالوا: والفوائت لا تقضي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وعلى هذا مذهب
أصحاب الرأي. وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق: تقضي الفوائت في كل
وقت نهى عن الصلاة فيه، أو لم ينه عنها إذا كان لها سبب، وذلك إنما نهى عن الصلاة في تلك
الأوقات إذا كان تطوعا وابتداء من قبل الاختيار دون الواجبات، فأما الفوائت فإنها تقضى
الفوائت فيها إذا ذكرت في أي وقت كان بدليل الخبر، وروى معنى ذلك عن علي بن أبي طالب
وابن عباس رضي الله عنه، وهو قول النخعي والشعبي وحماد وتأولوا أو من تأول منهم القصة
في قود الرواحل وتأخير الصلاة عن المكان الذي كانوا فيه على أنه أراد أن يتحول عن المكان
الذي أصابته الغفلة فيه والنسيان، كما يظهر هذا المعنى من الرواية الآتية من طريق أبان
العطار.
فإن قيل: قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فكيف ذهب عن
الوقت ولم يشعر به، قلنا: قد تأوله بعض أهل العلم على أنه خاص في أمر الحدث وذلك أن
النائم قد يكون منه الحدث ولا يشعر به، وليس كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قلبه لا ينام حتى يشعر
بالحدث. وقد قيل: إن ذلك من أجل أنه يوحى إليه في منامه فلا ينبغي لقلبه أن ينام، فأما
75

معرفة الوقت وإثبات طلوع الشمس، فإن ذلك إنما يكون دركه بنظر العين دون القلب، فليس
فيه مخالفة للحديث الآخر. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن
ماجة.
(فأمر بلالا فأذن وأقام) فإن قيل: إن ذكر الأذان في هذه الرواية من طريق أبان عن معمر
زيادة ليست في رواية يونس التي تقدمت، ورواه مالك وسفيان بن عيينة والأوزاعي وعبد الرزاق
عن معمر وابن إسحاق لم يذكر أحد منهم الأذان في حديث الزهري كما قال أبو داود.
قلنا: قد روى هذا الحديث هشام عن الحسن عن عمران بن حصين وذكر فيه الأذان،
ورواه أبو قتادة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الأذان والإقامة، والزيادات إذا صحت مقبولة
والعمل بها واجب. وقد اختلف أهل العلم في الفوائت هل يؤذن لها أم لا، فقال أحمد: يؤذن
للفوائت ويقام لها، وإليه ذهب أصحاب الرأي، واختلف قول الشافعي في ذلك، فأظهر أقواله
أنه يقام للفوائت ولا يؤذن لها. هذا ملخص ما قاله الخطابي. قلت: رواية هشام عن الحسن
عن عمران بن حصين التي أشار إليها الخطابي، قد أخرجها الدارقطني.
(أخبرنا حماد) الظاهر: أنه حماد بن سلمة لأن موسى بن إسماعيل المنقري مشهور
بالرواية عنه، ويؤيده ما أخرجه الدارقطني من طريق يزيد بن هارون، قال حدثنا حماد بن
سلمة ثابت البناني وأما زياد بن يحيى الحساني فقال: حدثنا حماد بن واقد قال: حدثنا ثابت
البناني وهو عند الدارقطني أيضا. وفي رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة أنه حماد بن زيد،
فالترمذي والنسائي أخرج من طريق قتيبة حدثنا حماد بن زيد وابن ماجة من طريق أحمد بن
عبدة حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن عبد الله بن رباح فذكر الحديث: فحمادون كلهم رووا
هذا الحديث عن ثابت البناني والله أعلم
(عبد الله بن رباح) رباح هذا بفتح الراء وبالموحدة (فمال النبي صلى الله عليه وسلم) أي عن الطريق
76

(فقال انظر) وفي رواية لمسلم ثم قال: هل ترى من أحد (هذا راكبان) قال الشيخ ولي الدين
العراقي: كذا في الأصول هذا بلا تثنية، فكأنه بتأويل المرئي. قلت: وفي بعض النسخ:
هذان راكبان (فضرب على آذانهم) قال الخطابي: كلمة فصيحة من كلام العرب معناها أنه
حجب الصوت والحس عن أن يلج آذانهم فتنبهوا، ومنه قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في
الكهف سنين عددا) (فساروا هنية) هو تصغير هنة أي قليلا من الزمان (وأذن بلال) فيه
استحباب الأذان للصلاة الفائتة (فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر) وفيه قضاء السنة الراتبة
(قد فرطنا في صلاتنا) أي قصرنا فيها وضيعناها قال (لا تفريط في النوم) أي لا تقصير فيه، يعني
ليس في حال النوم تقصير ينسب إلى النائم في تأخيره الصلاة (إنما التفريط) أي التقصير يوجد
(في اليقظة) هي بفتح القاف ضد النوم لأجل أنه ترك الصلاة حتى تفوت (فإذا سها أحدكم عن
صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت) معناه أنه يصلي الصلاة الفائتة حين يذكرها، فإذا
كان الغد يصلي صلاة الغد في وقتها المعتاد، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين، مرة في
الحال ومرة في الغد، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الدارقطني في سننه من طريق الحسن عن
عمران بن حصين (ثم أمر فأقام فصلى الغداة فقلنا): يا نبي الله ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم) وقال الخطابي: قوله عليه السلام (ومن
الغد موقت) فلا أعلم أحدا من الفقهاء قال بها وجوبا، ويشبه أن يكون الأمر به استحبابا ليحرز
فضيلة الوقت في القضاء عند مصادفة الوقت والله أعلم. انتهى. قال المنذري: والحديث
أخرجه مسلم نحوه أتم منه، وأخرج النسائي وابن ماجة طرفا منه.
77

(خالد بن سمير) بضم السين المهملة مصغرا، كذا ضبطه الذهبي في كتاب المشتبه
والمختلف والزيلعي في تخريجه وهو الصحيح المعتمد (جيش الأمراء) هو جيش غزوة مؤتة
بضم الميم وسكون الواو بغير همزة وحكى بالهمزة وحكى بالهمزة أيضا وهي من عمل البلقاء، مدينة معروفة
بالشام دون دمشق، وتسميتها غزوة جيش الأمراء لكثرة جيش المسلمين فهيا وما لاقوه من
الحرب الشديد مع الكفار، وهكذا في هذه الرواية أن ليلة التعريس وقعت في سرية موتة،
والصحيح أنها كانت في الرجوع من غزوة خيبر (طالعة) بنصبه حالا (وهلين) بفتح الواو وكسر
الهاء يعني فزعين، يقول وهل الرجل يوهل إذا كان قد فزع لشئ يصيبه (حتى إذا تعالت
الشمس) بالعين وروي بالقاف أيضا. قال الخطابي: معنى قوله تقالت عن استقلالها في السماء
وارتفاعها إن كانت الرواية هكذا، يعني بالقاف وتشديد اللام، وهو في سائر الروايات تعالت
بعين وخفة لام، ووزنه تفاعلت من العلو (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأصحابه الحاضرين (من كان
منكم يركع) أي يصلي (ركعتي الفجر) قبل تلك الواقعة في الحضر (فليركعهما) الآن أيضا
(فقام) بعد أمره صلى الله عليه وسلم (من) كان من الصحابة (يركعهما) قبل ذلك في الحضر (و) وكذا قام لأداء
ركعتي الصبح (من لم يكن يركعها) في الحضر، فقاموا كلهم جميعا وركعوا ركعتي الفجر،
فعلم بهذا التفسير أن الصحابة كلهم لم يكونوا يصلون ركعتين الفجر في الحضر، وبه فسر
الحديث شيخ مشايخنا العلامة المتقن النحرير الذي لم تر مثله العيون الحافظ الحاج الغازي
محمد إسماعيل الشهيد الدهلوي في الرسالة المباركة المسماة: بتنوير العينين في إثبات رفع
اليدين. وعندي هذا تقصير من بعض الرواة وهو خالد بن سمير في أداء العبارة فالأشبه عندي
في معناه، أي من كان منكم يريد في هذا الوقت أن يركع ركعتي الفجر فليركعهما الآن.
فخيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين لأجل السفر فقام بعد أمره صلى الله عليه وسلم من كان يريد أن
يركعهما، ومنهم من لم يركعهما في ذلك الوقت لأجل الترخيص والله أعلم. ثم لا يخفى عليك
أن حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبي قتادة، روى ثابت البناني عن عبد الله بن رباح،
78

ولم يذكر هذه الجملة، أي من كان منكم إلخ. وثابت البناني هذا أحد الأئمة الأثبات المشاهير
وثقة أحمد والنسائي والعجلي وأثنى عليه شعبه وحماد بن زيد، وإنما تفرد به خالد بن سمير عن
عبد الله بن رباح عن أبي قتادة فوهم فيه. وعلى أن أربعة عشر من الصحابة غير أبي قتادة رووا
قصة ليلة التعريس مفصلا ومجملا كعبد الله بن مسعود وبلال وأبي هريرة وعمران بن حصين
وعمرو بن أمية الضمري وذي مخبر وجبير بن مطعم وأنس وابن عباس وأبي مريم مالك بن
ربيعة السلولي وأبي جحيفة وعبد الله بن عمرو وجندب وأبي أمامة رضي الله عنهم ولم يذكر
أحد منهم في حديثه هذه الجملة قط وأحاديث هؤلاء مروية في الصحيحين وغيرهما بل لم ينقل
أحد من الصحابة أنهم كانوا مخيرين لأداء ركعتي الفجر إن شاءوا صلوا وإن شاءوا تركوا كذا
في غاية المقصود.
(ألا) كلمة تنبيه (إنا نحمد الله أنا لم نكن) إنا الأول بالكسر والثانية بالفتح (يشغلنا) بفتح
الياء (أنى) أي متى (فمن أدرك منكم صلاة الغداة) أي الصبح (من غد صالحا) أي في وقتها
المعتاد (فليقض) أي الصلاة الفائتة أيضا (معها) أي مع الصلاة الحاضرة (مثلها) أي مثل
الصلاة الحاضرة فيصلي من غد في وقتها المعتاد صلاة الفجر الحاضرة ثم يقضي ثانيا الصلاة الفائتة بالأمس.
قال البيهقي في معرفة السنن. وقد روى الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير عن
عبد الله بن رباح عن أبي قتادة في قصة نومهم عن الصلاة وقضائهم لها قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم فمن
أدركته هذه الصلاة من غد صالحا فليحصل معها مثلها، ولم يتابعه على هذه الرواية ثقة. وإنما
الحديث عند سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن عبد الله بن رباح أبي قتادة عن
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (ليس في النوم تفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت
الأخرى فإذا كان ذلك فليصلها حين يستيقظ فإذا كان من الغد فليصلها عند وقتها) أخبرناه أبو
محمد بن يوسف أخبرنا أبو بكر القطان حدثنا إبراهيم بن الحارث حدثنا يحيى بن أبي بكير
حدثنا سليمان بن المغيرة قال: حدثني ثابت البناني فذكره رواه مسلم في الصحيح عن شيبان بن
فروخ عن سليمان وإنما أراد والله أعلم أن وقتها لم يتحول إلى ما بعد طلوع الشمس بنومهم
وقضائهم لها بعد الطلوع، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها يعني صلاة الغد هذا هو اللفظ
79

الصحيح وهذا هو المراد به فحمله خالد بن سمير عن عبد الله بن رباح على الوهم انتهى كلامه
بحروفه. والحاصل أن خالد ابن سمير وهم في هذا الحديث في ثلاثة مواضع: الأول: في قوله
جيش الأمراء. والثاني: في قوله من كان منكم يركع ركعتي الفجر إلخ. والثالث: في قوله
فليقض معها مثلها والله أعلم. كذا في غاية المقصود شرح سنن أبي داود.
(قم) يا بلال (فصلى الناس) فيه استحباب الجماعة في الفائتة. قال المنذري:
والحديث أخرجه البخاري والنسائي طرفا منه.
(لا كفارة لها إلا ذلك) معناه لا يجزيه إلا الصلاة مثلها ولا يلزمه مع ذلك شئ آخر.
استدل بالحصر الواقع في هذه العبارة على الاكتفاء بفعل الصلاة عند ذكرها وعدم وجوب
إعادتها عند حضور وقتها من اليوم الثاني قال الحافظ في الفتح: لكن في رواية أبي داود من
حديث عمران بن حصين في هذه القصة: من أدرك منكم صلاة الغداة من غد صالحا فليقض
معها مثلها) لم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا بل عدوا الحديث غلط من راويه
وحكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري. ويؤيد ذلك ما رواه النسائي من حديث عمران بن
80

حصين أيضا أنهم قالوا (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نقضيها لوقتها من الغد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ألا ينهاكم في الله
عن الربا، ويأخذه منكم؟) انتهى. قلت: ليس هذا اللفظ في سنن أبي داود من حديث
عمران بن حسين بل من طريق خالد ابن سمير عن عبد الله بن رباح عن أبي قتادة الأنصاري.
قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(عن الحسن) وهو البصري (فارتفعوا) أي ذهبوا (حتى استقلت الشمس) أي ارتفعت
وتعالت (ركعتين قبل الفجر) هما سنة الفجر. قال المنذري: ذكر علي بن المديني وأبو حاتم
الرازي وغيرهما أن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين. وقد أخرج البخاري ومسلم
حديث عمران بن حصين مطولا من رواية أبي رجاء العطاردي عن عمران. وليس فيه ذكر الأذان
والإقامة.
(عن عياش) بالشين المعجمة (عن عمه عمرو بن أمية) هو بدل من عمه (أسفاره) جمع
سفر.
(حريز) بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وآخره زاي معجمة ابن عثمان الرحبي ثقة ثبت
81

رمي بالنصب من الخامسة مات سنة ثلاث وستين وله ثلاث وثمانون. قاله الحافظ في التقريب
(عبيد بن أبي الوزير) قال الحافظ في التقريب: عبيد الله بن أبي الوزر بفتح الزاي، ويقال أبو
الوزير، ويقال عبيد بلا إضافة من شيوخ أبي داود، ولا يعرف حاله من الحادية عشرة. وقال
السيوطي عبيد بن أبي الوزير أي على وزن أمير، وفي رواية الخطيب: ابن أبي الوزر أي على
وزن سبب بفتح الواو الزاء وبعدها راء لا يعلم روى عنه سوى أبي داود، ولا يعلم فيه توثيق ولا
جرح. انتهى (يزيد بن صالح) قال في الخلاصة: يزيد بن صالح أو ابن صليح مصغر صلح
الرحبي الحمصي عن ذي مخبر، وعنه حريز. قال أبو داود شيوخ حريز كلهم ثقات (عن ذي
مخبر) قال الحافظ في التقريب: ذو مخبر بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الموحدة وقيل
بدلها ميم الحبشي صحابي نزل الشام وهو ابن أخي النجاشي (لم يلث) بتخفيف المثلثة من
لثي بالكسر إذا ابتل، معناه لم يبتل ولم يخلط، وقال بعضهم هو بضم اللام وتشديد المثناة من
فوق من لت الرجل السويق لنا: إذا بله بشئ من الماء يعني خفف صب ماء الوضوء بحيث لم
يخلط التراب بالماء والمراد بهما واحد.
(في هذا الخبر) ساق الحديث بطوله في مجمع الزوائد.
(زمن الحديبية) هذا يخالف ما تقدم أن هذه القصة كانت في رجوعه خيبر وجاء في
الطبراني أنها كانت في غزوة تبوك، وجمع بتعدد القصة. قاله في فتح الودود (من يكلؤنا) أي
82

يحفظ لنا الليل ويحرس (فاستيقظ) أي انتبه (فقال افعلوا كما كنتم تفعلون) وفي رواية لمسلم
وأحمد: فصنع كما كان يصنع كل يوم فيه إشارة إلى أن صفة قضاء الفائتة كصفة أدائها، فيؤخذ منه أنه
يجهر في الصبح المقضية بعد طلوع الشمس. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي.
(باب في بناء المساجد)
(ما) نافية (أمرت) بصيغة المجهول (بتشييد المساجد) قال الخطابي: التشييد رفع البناء
وتطويله (قال ابن عباس) هكذا رواه ابن حبان موقوفا، وقبله أيضا حديث ابن عباس لكنه
مرفوع. وظن الطيبي في شرح المشكاة أنهما حديث واحد. قاله الشوكاني في النيل
(لتزخرفنها) بفتح اللام وهي لام القسم وبضم المثناة وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وضم
الفاء وتشديد النون وهي نون التأكيد. والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب ثم استعمل في
كل ما يتزين به. قاله علي القاري: وقال الحافظ: وهذا يعني فتح اللام هو المعتمد. انتهى.
قال الخطابي: معنى قوله لتزخرفنها: هذه لتزيننها: سنة أصل الزخرف الذهب يريد تمويه المساجد
بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل. والمعنى أن اليهود
والنصارى إنما زخرفوا المساجد عندما حرفوا وبدلوا وتركوا العمل بما في كتبهم، يقول: فأنتم
تصيرون إلى مثل حالها إذا طلبتم الدنيا وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى
المراءاة بالمساجد والمباهاة في تشييدها وتزيينها (كما زخرفت اليهود والنصارى) قال علي
القاري: وهذا بدعة لأنه لم يفعله عليه السلام، وفيه موافقة أهل الكتاب. وفي النهاية:
الزخرف النقوش والتصاوير بالذهب.
83

(حتى يتباهى الناس في المساجد) أي يتفاخر في شأنها أو بنائها يعني يتفاخر كل أحد
بمسجده ويقول مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن رياء وسمعة واجتلابا للمدحة. قال
ابن رسلان: هذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخباره صلى الله عليه وسلم عما سيقع بعده فإن تزويق المساجد
والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس
بأخذهم أموال الناس ظلما وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل الله السلامة والعافية
انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة.
(حيث كان طواغيتهم) هي جمع طاغوت وهو بيت الصنم الذي كانوا يتعبدون فيه لله
تعالى ويتقربون إليه بالأصنام على زعمهم. وعثمان بن أبي العاص المذكور هو الثقفي أمره
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حين استعمله على الطائف والحديث يدل على جواز جعل الكنائس والبيع
وأمكنة الأصنام مساجد، وكذلك فعل كثير من الصحابة حين فتحوا البلاد جعلوا متعبداتهم
متعبدات للمسلمين وغيروا محاريبها. وإنما صنع هذا لانتهاك الكفر وإيذاء الكفار حيث عبدوا
غير الله هنا. وقد عمل على هذه السنة ملك الهند السلطان العادل عالم كبير رحمه الله حيث بنى
عدة مساجد في معبد الكفار خذلهم الله تعالى. قال المنذري: والحديث أخرجه ابن ماجة
(كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمانه وأيامه (مبنيا باللبن) بفتح اللام وكسر الباء
الموحدة، ويقال اللبنة بكسر اللام وسكون الباء الموحدة وهي ما يعمل من الطين يعني الطوب
والآجر النئ وهو بضم الجيم وتشديد الراء (الجريد) أي جريد النخل وهو الذي يجرد عنه
الخوص أي الورق، ومعناه بالفارسية شاخ درخت خرما برك دور كرده (وعمده) بفتح العين
84

والميم (قال مجاهد عمده) أي بضم العين والميم وهي رواية مجاهد وكلاهما جمع الكثرة
لعمود البيت وجمع القلة أعمدة والعمود معناه بالفارسية ستون (من خشب النخل) قال الحافظ
هي بفتح الخاء والشين ويجوز ضمهما انتهى. فقوله عمده مبتدأ ومن خشب النخل خبره (فلم
يزد فيه أبو بكر شيئا) يعين لم يغير فيه شيئا بالزيادة والنقصان (وزاد فيه عمر وبناه على بنائه)
يعني زاد في الطول والعرض ولم يغير في بنائه بل بناه على بنيان النبي صلى الله عليه وسلم يعني بآلاته التي بناها
النبي صلى الله عليه وسلم (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) إما صفة للبناء أو حال (وأعاد عمده) قال العيني: وإنما غير
عمده لأنها تلفت. قال السهيلي: نخرت عمده في خلافه عمر فجددها (وغيره عثمان) أي من
الوجهين التوسيع وتغيير الآلات (بالحجارة المنقوشة) أي بدل اللبن (والقصة) بفتح القاف
وتشديد الصاد المهملة وهي الجص بلغة أهل الحجاز. وقال الخطابي: تشبه الجص وليست
به. قاله الحافظ في الفتح. وقال العيني: الجص لغة فارسية معربة وأصلها كج وفيه لغتان فتح
الجيم وكسرها (وسقفه بالساج) هو بفتح السين وإسكان القاف بلفظ الاسم عطفا على عمده.
قال الحافظ: والساج نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند (وسقفه الساج) هو بلفظ
الماضي من التسقيف من باب التفعيل عطفا على جعل. قال الحافظ في الفتح قال ابن بطال
وغيره هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر
مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد عما كان عليه وإنما احتاج إلى
تجديده لأن جريد النخل كان قد نخر في أيامه، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما
لا يقتضي الزخرفة ومع ذلك فقد أنكر بعض الصحابة عليه. وأول من زخرف المساجد
الوليد بن عبد الملك بن مروان وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت كثير من أهل العلم
عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة.
85

(كانت سواريه) جمع سارية (من جذوع النخل) هي جمع جذع بالكسر ساق النخلة
وبالفارسية تنه وبن درخت خرما (أعلاه) أي أعلى المسجد (مظلل) بصيغة المجهول من الظل
أي جعل سقف المسجد وظلل لاتقاء الحر (بجريد النخل) هو الذي يجرد عنه الخوص أي
الورق (ثم أنها) أي سواريه (نخرت) أي بليت (فبناها) أي بنى أبو بكر رضي الله تلك السارية
(بجذوع النخل) وبنى سقف المسجد (بجريد النخل) كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغيره
شيئا (فبناها) أي بني عثمان رضي الله عنه تلك السارية (بالآجر) بضم الجيم وتشديد الرأي
معناه بالفارسية خشت بخته.
(عن أبي التياح) بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء أخر الحروف وفي آخره حاء
مهملة واسمه يزيد بن حميد الضبعي. قاله العيني (في علو المدينة) بالضم وهي العالية (في
حي) بتشديد الياء وهي القبيلة وجمعها أحياء (بنو عمرو ابن عوف) بفتح العين فيهما (فأقام
فيهم أربع عشرة ليلة) ثم خرج قال الحافظ وهو الصواب من هذا الوجه انتهى، وهذه رواية
الأكثرين (ثم أرسل إلى بني النجار) قال العيني: وبنو النجار هم بنو تيم اللات بن ثعلبة بن
عمرو بن الجموح، والنجار قبيل كبير من الأنصار، وتيم اللات هو النجار سمي بذلك لأنه
اختتن بقدوم وقيل بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه انتهى. وقال الحافظ إنما طلب بني النجار
لأنهم كانوا أحوال عبد المطلب لأن أمه سلمى منهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم النزول عندهم لما تحول
من قباء، والنجار بطن من الخزرج واسمه تيم اللات بن ثعلبة (فجاؤوا متقلدين سيوفهم) قال
العيني كذا في رواية الأكثرين بنصب السيوف وثبوت النون لعدم الإضافة، وفي رواية بإضافة
متقلدين إلى السيوف وسقوط النون للإضافة وعلى كل حال هو منصوب على الحال من الضمير
الذي في جاؤوا والتقلد جعل نجاد السيف على المنكب (على راحلته) الراحلة المركب من
86

الإبل ذكرا كان أو أنثى وكانت راحلته ناقة تسمى القصواء قاله العيني (وأبو بكر ردفه) قال
الحافظ. كان النبي صلى الله عليه وسلم أردفه تشريفا له وتنويها بقدره وإلا كان لأبي بكر ناقة هاجر عليها
انتهى. وقال العيني: هو جملة اسمية في موضع النصب على الحال. والردف بكسر الراء
وسكون الدال المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب، وكان لأبي بكر ناقة فلعله تركها في
بني عمرو بن عوف لمرض أو غيره ويجوز أن يكون ردها إلى مكة ليحمل عليها أهله، وثم وجه
آخر حسن وهو أن ناقته كانت معه ولكنه ما ركبها لشرف الارتداف خلفه لأنه تابعه والخليفة بعده
(وملأ بني النجار حوله) جملة اسمية حالية، والملأ أشرف القوم ورؤساؤهم سموا بذلك لأنهم
ملء بالرأي والغناء والملأ الجماعة والجمع أملاء (حتى ألقى) أي حتى ألقى رحله والمفعول
محذوف، يقال ألقيت الشيء إذا طرحته (بفناء أبي أيوب) أي بفناء دار أبي أيوب. الفناء بكسر
الفاء سعة أمام الدار والجمع أفنية. واسم أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. قال الحافظ
والفناء الناحية المتسعة أمام الدار (في مرابض الغنم) أي أماكنها وهو بالموحدة والضاد المعجمة
جمع مربض بكسر الميم (وإنه أمر) بكسر الهمزة في إن لأنه كلام مستقل بذاته أي أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المسجد، ويروى أمر على بناء المفعول فعلى هذا يكون الضمير في إنه للشأن
(ثامنوني) أي بيعونيه بالثمن. قال الحافظ: هو بالمثلثة، أي اذكروا لي ثمنه لأذكر لكم الثمن
الذي أختاره. قال ذلك على سبيل المساومة: فكأنه قال ساوموني في الثمن (بحائطكم هذا)
الحائط ههنا البستان يدل عليه قوله وفيه نخل وبالنخل فقطع (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) قال
الحافظ: تقديره لا نطلب الثمن لكن الأمر فيه إلى الله أو إلى بمعنى من، وكذا عند الإسماعيلي
لا نطلب ثمنه إلا من الله. وزاد ابن ماجة أبدا. وظاهر الحديث أنهم لم يأخذوا منه ثمنا،
وخالف في ذلك أهل السير. انتهى. والمعنى لا نطلب منك الثمن بل نتبرع به ونطلب الثمن
أي الأجر من الله تعالى (وكان فيه) أي في الحائط الذي بنى في مكانه المسجد (فيه خرب) قال
الحافظ: قال ابن الجوزي: المعروف فيه فتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها موحدة جمع
خربة ككلم وكلمة. قلت وحكى الخطابي أيضا: كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة
87

(وبالنخل) أي أمر بالنخل فقطع (فصفف يحيى النخل قبلة المسجد) من صففت الشئ صفا أي
جعلت قبلة المسجد من النخل قال العيني: ولعل المراد بالقبلة جهتها لا القبلة المعهودة اليوم
فإن ذلك الوقت (عضادتيه) تثنية عضادة بكسر العين عن صاحب العين أعضاد كل
شئ ما يشده من حواليه من البناء وغيره مثال عضاد وكان الحوض وهي صفائح من حجارة ينصبن
على شفيره. وفي التهذيب للأزهري. عضادتا الباب الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل
منه وشماله قاله العيني (ينقلون الصخر) أي الحجارة (وهم يرتجزون) أي يتعاطون الرجز من
الرجز وهو ضرب من الشعر (معهم) جملة حالية، أي والنبي صلى الله عليه وسلم يرتجز معهم (اللهم) معناه يا
الله. قال الحافظ: في الحديث جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع، وجواز نبش
القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، وجواز الصلاة في مقابر المشركين بعد نبشها اخراج ما
فيها، وجواز بناء المساجد في أماكنها. انتهى. قلت: فيه جواز الإرداف، وفيه جواز الصلاة في
مرابض الغنم. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(حائطا) أي بستانا (لبني النجار) هم قبيلة (فيه حرث) بالحاء المهملة والثاء المثلثة
هكذا في رواية حماد بن سلمة عن أبي التياح. في المصباح المنير. حرث الرجل الأرض حرثا
أثارها للزراعة، فهو حراث، انتهى. وأما رواية عبد الوارث عن أبي التياح التي مضت ففيها
خرب بالخاء المعجمة والباء الموحدة (فقال لا نبغي) أي لا نطلب (أفاد حمادا) من الإفادة أي
حدث عبد الوارث حمادا هذا الحديث وفيه لفظ خرب بالخاء المعجمة والباء الموحدة.
88

(باب اتخاذ المساجد في الدور)
(ببناء المسجد في الدور) قال البغوي في شرح السنة: يريد بها المحال التي فيها
الدور، ومنه قوله تعالى: (سأريكم دار الفاسقين) لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت
فيها قبيلة دارا، ومنه الحديث (ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد) قال سفيان: بناء المساجد في الدور
يعني القبائل. أي من العرب يتصل بعضها ببعض، وهم بنو أب واحد يبني لكل قبيلة مسجد.
هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على هذا المواضع،
وقد تطلق على القبائل مجازا. قاله الشوكاني في النيل. وقال علي القاري في المرقاة الدور
جمع دار وهو اسم جامع للبناء، والعرصة والمحلة والمراد المحلات، فإنهم كانوا يسمون
المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة دارا أو محمول على اتخاذ بيت في الدار للصلاة كالمسجد
يصلي فيه أهل البيت. قاله ابن الملك، والأول هو المعلول وعليه العمل. وحكمة أمره لأهل
كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى، فيحرمون
أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتيسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم
من غير مشقة ولم تلحقهم (وأن تنظف) معناه تطهر كما في رواية ابن ماجة، والمراد تنظيفها من
الوسخ والدنس وبإزالة النتن والعذرات والتراب (وتطيب) بالرش أو العطر. قال ابن رسلان:
بطيب الرجال وهو ما خفي لونه وظهر ريحه، فإن اللون ربما شغل بصر المصلي والأولى في
تطييب المسجد مواضع المصلين ومواضع سجودهم أولى. ويجوز ان يحمل التطيب على
التجمير في المسجد بالبخور. انتهى. والظاهر أن الأمر ببناء المسجد للوجوب. قال
المنذري: والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة وأخرجه الترمذي مرسلا وقال: هذا أصح من
الحديث الأول.
89

(باب في السرج في المساجد)
(ائتوه فصلوا فيه) فيه جواز شد الرحال إلى بيت المقدس، وأداء الصلاة فيه، واتخاذ
السرج في المساجد. قال المنذري: والحديث أخرجه ابن ماجة.
(باب في حصى المسجد)
(عن حصى الذي في المسجد) يعني هل يجوز افتراشه في المسجد أم لا، (قال ما
أحسن هذا) فيه جواز افتراش الحصي في المسجد (إن الحصاة لتناشد) أي إن الحصاة لتسأل
بالله أن لا يخرجها أحد من المسجد.
90

(باب كنس المسجد)
(عرضت علي) الظاهر أنه في ليلة المعراج (أجور أمتي) أي ثواب أعمالهم (حتى
القذاة) بالرفع أو الجر وهي بفتح القاف. قال الطيبي: القذاة هي ما يقع في العين من تراب أو
تبن أو وسخ، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي، وأجر القذاة أي أجر
إخراج القذاة، إما بالجر وحتى بمعنى إلى، والتقدير إلى اخراج القذاة، وعلى هذا قوله
يخرجها الرجل من المسجد جملة مستأنفة للبيان، وإما بالرفع عطفا على أجور، فالقذاة مبتدأ
ويخرجها خبره. قاله علي القاري (أعظم من سورة) من ذنب نسيان سورة كائنة (من القرآن)
فإن قلت: هذا مناف لما مر في باب الكبائر. قلت إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد
على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن فنسيانه كالسعي في الإخلال بها. فإن
قلت: النسيان لا يؤاخذ به. قلت: المراد تركها عمدا إلى أن يفضي إلى النسيان. وقيل:
المعنى أعظم من الذنوب الصغائر إن لك تكن عن استخفاف وقلة تعظيم. كذا في الأزهار شرح
المصابيح (أو آية أوتيها) أي تعلمها وأو للتنويع (ثم نسيها) قال الطيبي: شطر الحديث
مقتبس من قوله تعالى: (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) يعني على قول في
الآية، وأكثر المفسرين على أنها في المشرك، والنسيان بمعنى ترك الإيمان، وإنما قال
أوتيها دون بين حفظها إشعارا بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها فلما نسيها فقد كفر تلك
النعمة، فبالنظر إلى هذا المعنى كان أعظم جرما، وإن لم يعد من الكبائر. قاله علي القاري.
وقال ابن رسلان: فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيه من القمامات القليلة أنها
تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم، وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض
من باب الأولى. ففيه تنبيه بالأدنى على الأعلى. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه
الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه قال: وذاكرت به محمد بن
91

إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله
سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله خطبه النبي صلى الله عليه وسلم قال: وسمعت عبد الله وهو ابن
عبد الرحمن يقول: لا يعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله:
وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس وفي إسناده عبد المجيد بن عبد
العزيز بن أبي رواد الأزدي مولاهم المكي، وثقه يحيى بن معين وتكلم فيه غير واحد.
(باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال)
(لو تركنا هذا الباب) أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم (للنساء) لكان خيرا
وأحسن لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد. والحديث فيه دليل أن
النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك
بالاقتداء مع الامام، فكان عبد الله بن عمر أشد اتباعا للسنة، فلم يدخل من الباب الذي جعل
للنساء حتى مات، والحديث اختلف على أيوب السختياني فجعل عبد الوارث مرفوعا من
مسند ابن عمر وجعله إسماعيل موقوفا على عمر رضي الله عنه، وكذلك بكر بن مضر عن
عمرو بن الحارث عن بكير عن نافع موقوفا على عمر رضي الله عنه والأشبه أن يكون الحديث
مرفوعا وموقوفا. وعبد الوارث ثقة تقبل زيادته. والله أعلم.
92

(باب ما يقول الرجل عند دخوله المسجد)
(إذا دخل أحدكم المسجد) أي أراد دخوله عند وصول بابه (فليسلم) قال الحافظ شمس
الدين ابن القيم في جلاء الأفهام: الموطن الثامن من مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول
المسجد وعند الخروج منه لما روى ابن خزيمة في صحيحه وأبو حاتم بن حبان عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم افتح لي
أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم)
وفي المسند والترمذي وابن ماجة عن فاطمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل
المسجد قال: اللهم صلي على محمد وسلم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك،
وإذا خرج قال مثلها، إلا أنه يقول أبواب فضلك) ولفظ الترمذي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل
المسجد صلى على محمد وسلم) انتهى كلامه (ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك) قال
الطيبي: لعل السر في تخصيص الرحمة بالدخول والفضل بالخروج أن من دخل اشتغل بما
يزلفه إلى ثوابه وجنته. فيناسب ذكر الرحمة، وإذا خرج اشتغل بابتغاء الرزق الحلال فناسب
ذكر الفضل، كما قال تعالى: (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) انتهى. قال
المنذري: والحديث أخرجه مسلم والنسائي وأخرجه ابن ماجة عن أبي حميد وحده.
(فقلت) قائل هذا حياة بن شريح (له) أي لعقبة بن مسلم (أعود) أي أعتصم وألتجئ
93

(بالله العظيم) أي ذاتا وصفة (وبوجهه) أي ذاته (وسلطانه) أي غلبته وقدرته وقهره على ما أراد
من خلقه (القديم) أي الأزلي الأبدي (من الشيطان) مأخوذ من شطن أي بعد يعني المعبود من
رحمة الله (الرجيم) فعيل بمعنى مفعول أي المطرود من باب الله، أو المشتوم بلعنة الله،
والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني: اللهم احفظني من وسوسته وإغوائه وخطواته وخطراته
وتسويله وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة
أن الله هو الهادي المضل (قال أقط) الهمزة للاستفهام، وقط بمعنى حسب، قال عقبة لحيوة:
أبلغك عني هذا القدر من الحديث فحسب (قلت نعم) قائل هذا حياة (قال) أي عقبة (فإذا قال)
الرجل الداخل (ذلك) الكلام (حفظ مني سائر اليوم) وهذه الجملة من بقية الحديث التي بلغك
عني ومعنى حفظ مني سائر اليوم أي بقيته أو جميعه، ويقاس عليه الليل، أو يراد باليوم مطلق
الوقت فيشمله، قال ابن حجر المكي: إن أريد حفظه من جنس الشياطين تعين حمله على
حفظه من كل شئ مخصوص كأكبر الكبائر، أو من إبليس اللعين فقط بقي الحفظ على عمومه
وما يقع منه من إغواء جنوده، وإنما ذكرت ذلك لأنا نرى ونعلم من يقول ذلك، ويقع في كثير
من الذنوب، فتعين حمل الحديث على ما ذكرته وإن لم أره. انتهى. وفيه أن الظاهر أن لام
الشيطان للعهد والمراد منه قرينة الموكل على إغوائه، وإن القائل ببركة ما ذكر من الذكر يحفظ
منه في الجملة ذلك الوقت عن بعض المعاصي وتعيينه عند الله تعالى، وبه يرتفع أصل
الإشكال والله أعلم بالحال. كذا في المرقاة.
(باب ما جاء في الصلاة عند دخول المسجد)
(فليصل سجدتين) أي ركعتين (من قبل أن يجلس) تعظيما للمسجد، قال الخطابي:
فيه من الفقه أنه إذا دخل المسجد كان عليه أن يصلي ركعتين تحية المسجد قبل أن يجلس،
94

وسواء كان ذلك في جمعة أو غيرها، كان الإمام على المنبر أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم عم ولم
يخص. قلت: هذا القول هو الصحيح كما جاء مصرحا في الرواية الآتية عن جابر (أن رجلا
جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فأركع) قال
الخطابي: وقد اختلف الناس في هذا بظاهر الحديث الشافعي وأحمد ابن حنبل
وإسحاق بن راهويه، وإليه ذهب الحسن البصري ومكحول، وقالت طائفة: إذا كان امام
على المنبر يجلس ولا يصلي. وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة
وأصحاب الرأي، وهو قول مالك. والثوري انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(عتبة بن عبد الله) هو بدل من أبو عميس (عن رجل من بني زريق) بتقديم الزاي
المعجمة، وبعدها راء مهملة مصغرا. قال المنذري: رجل من بني زريق مجهول.
(باب فضل القعود في المسجد)
(الملائكة تصلي على أحدكم) أي تدعو له بالخير وتستغفر من ذنوبه (ما لم يحدث) أي
حدثا حقيقيا، وهو بسكون الحاء وتخفيف الدال المكسورة أي ما لم يبطل وضوءه لما روى أن
أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له رجل من حضرموت: وما الحدث يا أبا هريرة؟ قال:
فساء أو ضراط، وهو في بعض طرق الحديث عند الترمذي وغيره. ولعل سبب الاستفسار
إطلاق الحدث عن غير ذلك عندهم أو ظنوا أن الأحداث بمعنى الابتداع، وتشديد الدال خطأ.
كذا في النهاية (أو يقوم) أي الملائكة تصلي على أحدكم ما لم يقم من مصلاه، فإذا قام الرجل
فلا تصلون (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) جملة مبينة لقوله: تصلي على أحدكم. وفي ذلك
95

فخامة. والحديث أخرجه البخاري والنسائي، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي صالح
عن أبي هريرة أتم منه.
(لا يزال أحدكم في صلاة) أي حكما أخرويا يتعلق به الثواب (أن ينقلب) أي يرجع.
قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم.
(ينتظر الصلاة) أي ما دام ينتظرها فإن الأعمال بالنيات، بل نية المؤمن خير من عمله في
بعض الأحيان (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) قال الطيبي: طلب الرحمة بعد طلب المغفرة لأن
صلاة الملائكة استغفار لهم (حتى ينصرف) أي يرجع الرجل من مصلاه (يفسو) قال في
المصباح المنير: الفساء هو ريح يخرج بغير صوت يسمع (أو يضرط) بكسر الراء من الضرط
وهو صوت يخرج من الدبر. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم.
(من أتى المسجد لشئ) أي لقصد حصول شئ أخروي أو دنيوي (فهو) أي ذلك
الشئ (حظه) ونصيبه كقوله عليه السلام (إنما لكل امرئ ما نوى) ففيه تنبيه على تصحيح النية
في إتيان المسجد لئلا يكون مختلطا بغرض دنيوي كالتمشية حديث والمصاحبة مع الأصحاب، بل
ينوي الاعتكاف والعزلة والانفراد والعبادة وزيارة بيت الله واستفادة علم وإفادته ونحوها. قال
المنذري: في إسناد هذا الحديث عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي وقد ضعفه غير واحد.
96

(باب في كراهية إنشاد الضالة في المسجد)
(ينشد ضالة) هو بفتح الياء وضم الشين أي يطلبها. قال في المصباح المنير: يقال
للحيوان الضائع ضالة. وفي النيل: يقال نشدت الضالة بمعنى طلبتها وأنشدتها عرفتها،
والضالة تطلق على الذكر والأنثى والجمع ضوال كدابة ودواب، وهي مختصة بالحيوان، ويقال
لغير الحيوان ضائع ولقيط (فليقل) أي السامع (لا أداها الله إليك) معناه ما رد الله الضالة إليك
وما وجدتها. قال في فتح الودود: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي ودخولها على
الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى: (فلا
صدق ولا صلى) ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد. وقوله لا أداها الله دعاء له ظهار أن النهي
عنه نصح له إذ الداعي بالخير لا ينهي إلا نصحا لكن اللائق حينئذ الفصل بأن يقال لا. وأداها
الله إليك بالواو لأن تركها توهم، إلا أن يقال الموضع موضع زجر ولا يضر به ايهام لكونه إيهام
شئ هو آكد في الزجر انتهى. قال ابن رسلان: قوله: (لا أداها الله إليك) فيه دليل على جواز
الدعاء على الناشد في المسجد بعدم الوجدان معاقبة له في ماله معاملة له بنقيض قصده، وفيه
النهي عن رفع الصوت بنشد الضالة وما في معناه من البيع والشراء وإجازة والعقود (لم تبن
لهذا) أي لطلب الضالة بل بنيت لذكر الله والصلاة والعلم والمذاكرة في الخير ونحوها. قال
المنذري: والحديث أخرجه مسلم وابن ماجة.
(باب في كراهية البزاق في المسجد)
البزاق هو ما يخرج من الفم.
97

(التفل) بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الفاء هو البصاق والبزاق وهما ما يخرج من الفم
أي إلقاء البزاق (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه (خطيئة) أي إثم (أن يواريه) أي يستر
البزاق بشئ طاهر. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم.
(إن البزاق) أي إلقاءه وهو ما يخرج من الفم (في المسجد) قال الحافظ في الفتح: هو
ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي
والله أعلم (خطيئة) أي إثم. وفي رواية لأحمد سيئة، وكالبزاق عند المخاط بل أولى (وكفارتها) أي
إذا فعلها خطأ. قال العيني: والكفارة على وزن فعالة للمبالغة كقتالة لأنه وضرابة أخبرنا وهي من الصفات
الغالبة في باب الأسمية وهي عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي
تسترها وتمحوها، وأصل المادة من الكفر وهو الستر، ومنه سمي الزراع كافرا لأنه يستر الحب
في الأرض، وسمي المخالف لدين اسلام كافرا لأنه يستر الدين الحق. والتكفير هو فعل ما
يجب بالحنث والاسم منه الكفارة (دفنها) أي البزاق يعني إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشئ
طاهر عقيب القاء زال منه تلك الخطيئة. قال الحافظ في الفتح: قال ابن أبي حمزة لم يقل
وكفارتها تغطيتها لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف
الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض انتهى.
قال العيني: واختلف العلماء في المراد بدفن البزاق فالجمهور على أنه الدفن في تراب
المسجد ورمله وحصياته يا إن كانت فيه هذه الأشياء وإلا يخرجها فإن لم تكن المساجد تربة
وكانت ذات حصير فلا يجوز احتراما للمالية.
قلت: إذا كان الانسان محتاجا إلى دفع البزاق وكانت المساجد ذات حصير أو كان
فراشها من الجص أو الحجر فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد
للبزاق أثر فلا حرج وعليه يحمل الحديث اتي الذي روى من طريق مسدد فبزق تحت قدمه
اليسرى ثم دلكه بنعله). وفيه أن البزاق طاهر وكذا النخامة طاهرة جاء في هذه الرواية لفظ
البزاق، وفي الرواية السابقة لفظ التفل. قال العيني. النقل شبيه بالبزق وهو أقل منه، أوله
البزق ثم النقل ثم النفخ. انتهى. قال الحافظ في الفتح قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة
إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا. ورده النووي فقال هو خلاف صريح الحديث. قلت:
98

وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضا وهما قوله البزاق في المسجد خطيئة، وقوله وليبصق عن
يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاما ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد،
والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاما ويخص الأول بمن لم يرد دفنها، وقد وافق القاضي جماعة
منهم ابن مكي في التنقيب والقرطبي في المفهم وغيرهما ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد
حسن من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا قال: (من تنخم في المسجد فيغيب نخامته
أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) وأوضح منه في المقصود ما رواه أحمد أيضا والطبراني بإسناد
حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا قال: (من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه
فحسنة) فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن. ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعا قال
ووجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت
لها حكم السيئة لمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة انتهى وروى سعيد بن
منصور عن أبي عبيدة بن الجراح أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى
منزله فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها ثم قال الحمد لله الذي لم يكتب علي خطيئة
الليلة. فدل على أن الخطيئة تختص بمن تكرها لا بمن دفنها. وعلة النهي ترشد إليه وهي تأذي المؤمن
بها. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثوب ولو كان في المسجد بلا خلاف.
وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فبصق تحت قدمه
اليسرى ثم دلكه بنعله) إسناده صحيح وأصله في مسلم. والظاهر أن ذلك كان في المسجد
فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج
من المسجد والمنع على ما إذا لم يكن له عذر وهو تفصيل حسن والله أعلم. انتهى. قال
المنذري: والحديث أخرجه البخاري والترمذي والنسائي.
(ابن زريع) بتقديم الزاء المعجمة وبعدها راء مهملة مصغرا (عن سعيد) هو ابن أبي
عروبة (النخاعة) قال ابن الأثير في النهاية هي البزقة التي تخرج من أصل الفم مما يلي أصل
النخاع. والنخامة البزقة التي تخرج من أقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة انتهى. قال
في المصباح المنير: النخاع خيط أبيض داخل عظم الرقبة يمتد إلى الصلب يكون في جوف
الفقار انتهى. قال العيني: البصاق ما يخرج من الفم والمخاط ما يسيل من الأنف.
99

(أو تنخم) أي رمى بالنخامة في المسجد. قال العيني في المطالع: النخامة ما يخرج من
الصدر وهو البلغم اللزج (فليحفر) المكان الذي فيه البزاق إن كان المسجد ترابيا وهو بكسر
الفاء من باب ضرب يضرب (وليدفنه) أي كل واحد من البزاق والنخامة في الأرض وهو بكسر الفاء
من باب ضرب يضرب (فإن لم يفعل) أي فإن لم يحفر أو لم يمكن الحفر (ثم ليخرج به) أي
الثوب الذي فيه البزاق من المسجد.
(فلا يبزقن أمامه) تشريفا للقبلة (ولا عن يمينه) تشريفا لليمين، وفي الرواية الآتية
(والملك عن يمينه فلا يتفل عن يمينه) وجاء في رواية البخاري (فإن يمينه ملكا (ولكن عن
تلقاء) أي جانب (إن كان) أي اليسار (فارغا) أي متمكنا من البزق فيه (ثم ليقل به) أي يمسح
ويدلك البزاق. وقاله العيني أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى، وإن لفظ القول يستعمل
عند العرب في معان كثيرة انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن
ماجة، وقال الترمذي: حديث طارق حديث حسن صحيح.
(بينما) قال العيني يقال بينما وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة. ويضافان يكون إلى جملة
من فعل وفاعل مبتدأ وخبر. ويحتاجان مع إلى جواب يتم به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا
يكون فيه إذ وإذا وقد جاءا كثيرا تقول بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه عمرو وإذا
دخل عليه، وبينا أصله بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا. قلت: قد جاء لفظ بينما وبيننا في
الحديث كثيرا وما وقع جوابهما بغير إذا وإذا (في قبلة المسجد) أي في جهة قبلة المسجد
(فتغيظ) أي غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم حكها) أي قشر النخامة (قال وأحسبه) أي قال حماد: أظن
100

أيوب قال هذه الجملة الآتية (قال) عبد الله بن عمر (فدعا) أي طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم (بزعفران)
هو طيب معروف (فلطخه به) أي لوث النبي صلى الله عليه وسلم موضع النخامة بالزعفران. قال الحافظ في
الفتح وقال إسماعيلي في روايته من طريق شيخ البخاري وفيه قال: (وأحسبه دعا بزعفران
فلطخه به) زاد عبد الرزاق عن معمر عن أيوب فلذلك صنع الزعفران في المساجد (قبل وجه
أحدكم) هو بكسر القاف وفتح الباء أي جهة وجه أحدكم، وهذا على سبيل التشبيه أي كأن الله
تعالى في مقابل وجهه. وقال النووي فإن الله قبل وجهه أي الجهة التي عظمها الله، وقيل فإن
قبله الله، وقيل ثوابه ونحو هذا فلا يقابل هذه الجهة بالبصاق الذي هو الاستخاف بكر بمن يبزق إليه
وتحقيره. وفيه دليل على جواز جعل الخلوق والزعفران في المساجد. قال المنذري:
والحديث أخرجه البخاري ومسلم.
(كان يحب العراجين) هي جمع عرجون بضم العين وهو العود الأصغر الذي فيه
الشماريخ إذا يبس واعوج، وهو من الانعراج وهو الانعطاف، والواو والنون فيه زائدتان قاله
العيني (منها) أي من العراجين (فرأى نخامة) قال: الحافظ: قيل هي ما يخرج من الصدر.
وقيل: النخاعة بالعين من الصدر وبالميم من الرأس (فحكها) أي النخامة (ثم أقبل) أي توجه
النبي صلى الله عليه وسلم (مغضبا) حال من ضمير أقبل (أيسر) بهمزة الاستفهام من السرور (أحدكم) بنصب
الدال هو مفعول يسر (أن يبصق) أي يبزق وهو فاعل يسر (والملك عن يمينه) قال الحافظ في
101

الفتح: ظاهره اختصاصه بحالة الصلاة فإن قلنا: المراد بالملك الكاتب فقد استشكل
اختصاصه بالمنع، مع أن عن يساره ملكا آخر، وأجب باحتمال اختصاص ذلك بملك اليمين
تشريفا له وتكريما هكذا قاله جماعة من القدماء ولا يخفى ما فيه، وأجاب بعض المتأخرين بأن
الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها ويشهد له ما رواه ابن أبي شيبة من
حديث حذيفة موقوفا في هذا الحديث قال: (ولا عن يمينه فإن عن يمينه كاتب الحسنات) وفي
الطبراني من حديث أبي أمامة في هذا الحديث (فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه
عن يساره) انتهى. فالتفل حينئذ إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ
يكون بحيث لا يصيبه شئ من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين والله أعلم (فلا يتفل)
أي فلا يبزق وهو من باب نصر وضرب (وليبصق عن يساره أو تحت قدمه) قال الحافظ: كذا هو
في أكثر الروايات، وفي رواية الوقت: (وتحت قدمه) بواو العطف من غير شك، ووقع في
رواية مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة (ولكن عن يساره تحت قدمه) بحذف كلمة أو،
وكذا للبخاري من حديث أنس في أواخر الصلاة، والرواية التي فيها أعم، لكونها تشمل ما
تحت القدم. انتهى. وفي الرواية الآتية من طريق يحيى بن الفضل السجستاني وهشام بن
عمار فيها أيضا (وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى) بحذف كلمة أو (فإن عجل به أمر)
يعني غلب عليه البزاق والنخامة (فليقل هكذا) معناه فليفعل هكذا (ووصف لنا ابن عجلان)
أي قال خالد: بين لنا ابن عجلان (ذلك) أي تفسير قوله فليقل هكذا (أن يتفل في ثوبه ثم يرد
بعضه على بعض) وفي رواية لمسلم (فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض).
(يعقوب بن مجاهد أبو حزرة) بتقديم الزاء المعجمة وبعدها راء مهملة. قال الحافظ في
التقريب: يعقوب بن مجاهد القاص، يكنى أبا حزرة بفتح المهملة وسكون الزاء وهو بها
أشهر، صدوق من السادسة مات سنة تسع وأربعين أو بعدها (وفي يده) أي النبي صلى الله عليه وسلم (عرجون
102

ابن طاب) قال العيني: والعرجون بضم العين هو العود الأصغر الذي فيه الشماريخ إذا يبس
واعوج وهو من الانعراج وهو الانعطاف وجمعه عراجين، والواو والنون فيه زائدتان، وابن طاب
رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة، ومن عاداتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كل
لون إلى أحد. انتهى. وقال الخطابي: العرجون عود كباسة النخل وهو العذق، وسمي
عرجونا لانعراجه قد وهو انعطافه وابن طاب وهو اسم لنوع من أنواع النخل منسوب إلى ابن طاب،
كما نسب ألوان التمر، فقيل: لون ابن حبيق [هو بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة
وبعدها ياء ساكنة على وزن زبير، وابن حبيق رجل ينسب إليه ألوان التمر] ولون كذا ولون كذا
انتهى.
قلت: قال في المصباح المنير: الكباسة العذق وهو عنقود النخل، وهو جامع الشماريخ
(فنظر) أي فطالع (فرأى في قبلة المسجد نخامة) قيل هي ما يخرج من الصدر. قال علي
القاري: أي جدار المسجد الذي يلي القبلة، وليس المراد بها المحراب الذي يسميه الناس
قبلة لأن المحاريب من المحدثات بعده صلى الله عليه وسلم ومن ثم كره جمع من السلف اتخاذها والصلاة فيها
قال القضاعي: وأول من أحدث ذلك عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ عامل للوليد بن عبد الملك
على المدينة لما أسس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهدمه وزاد فيه، ويسمى موقف الإمام من المسجد
محرابا لأنه أشرف مجالس المسجد، ومنه قيل للقصر محراب لأنه وأشرف المنازل، وقيل
المحراب مجلس الملك سمى به لانفراده فيه، وكذلك محراب المسجد لانفراد امام فيه.
وقيل سمي بذلك لأن المصلي يحارب فيه الشيطان. قال الطيبي: النخامة البزاقة التي تخرج
من أقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة وهو كذا في النهاية وهو المناسب لقوله الآتي فلا
يبزقن، لكن قوله: من أقصى الحلق غير صحيح إذ الخاء المعجمة مخرجها أدنى الحلق،
وقال في المغرب: النخاعة والنخامة ما يخرج من الخيشوم عند التنحنح. وفي القاموس
النخاعة النخامة أو ما يخرج من الخيشوم. انتهى.
قلت: ما قاله القاري من أن المحاريب من المحدثات بعده صلى الله عليه وسلم فيه نظر، لأن وجود
المحراب زمن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت من بعض الروايات. أخرج البيهقي في السنن الكبرى من طريق
سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن أبيه عن أمه عن وائل بن حجر قال: (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه بالتكبير) الحديث. وأم عبد الجبار هي
مشهورة بأم يحيى كما في رواية الطبراني في معجم الصغير. وقال الشيخ ابن الهمام من
سادات الحنفية: ولا يخفى أن امتياز الامام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان
103

التقدم واجبا عليه، وبنى في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وأيضا لا
يكره الصلاة في المحاريب، ومن ذهب إلى الكراهة فعليه البينة، ولا يسمع كلام أحد من غير
دليل برهان.
(فأقبل عليها) أي توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النخامة (فحتها بالعرجون) أي حك النخامة
بالعرجون. ومضى تفسير العرجون وهذا يدل على أنه باشر بيده بعرجون فيها، وفي رواية
للبخاري: (فقام فحكه بيده) (أن يعرض الله) من الاعراض (فإن الله قبل وجهه) قبل بكسر
القاف كل وفتح الباء الموحدة أي جهة. قال الخطابي: تأويله أن القبلة التي أمره الله بالتوجه إليها
بالصلاة قبل وجهه فليصنها عن النخامة وفيه إضمار حذف واختصار كقوله تعالى: (وأشربوا
في قلوبهم العجل بكفرهم) أي حب العجل، وكقوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها)
يريد أهل القرية، ومثله في الكلام كثير. وإنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل
التكرمة كما قالوا: بيت الله وناقته وكعبة الله ونحو ذلك من الكلام، وفيه من الفقه أن النخامة
طاهرة، ولو لم تكن طاهرة لم يكن يأمر المصلى بأن يدلكها بثوبه.
(فلا يبصقن قبل وجهه) أي لا يبزقن جهة وجهه (ولا عن يمينه) تعظيما لليمين وزيادة
لشرفها (عن يساره تحت رجله اليسرى) بحذف كلمة أو، ومر بيانه (فإن عجلت به) أي بالرجل
(بادرة) أي حدة، وبادرة الأمر حدته، والمعنى إذا غلب عليه البصاق والنخامة (فليقل بثوبه
هكذا) أي فليفعل بثوبه هكذا (ووضعه على فيه ثم دلكه) أي وضع النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه على فمه
حتى يتلاشى البزاق فيه ثم دلك الثوب، وهذا عطف تفسيري لقوله: فليقل بثوبه هكذا (أروني)
من الإراءة (عبيرا) بالباء الموحدة وبعدها ياء على وزن أمير قال ابن الأثير في النهاية: العبير
نوع من الطيب ذو لون يجمع من أخلاط (فقام فتى) أي شاب (من الحي) من القبيلة (يشتد) أي
يعدو (فجاء بخلوق) بفتح الخاء المعجمة. قال ابن الأثير في النهاية: الخلوق طيب معروف
مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه الحمرة والصفرة (في راحته) أي
في كفه (فأخذه) أي الخلوق (فجعله) أي الخلوق (على رأس العرجون) مر تفسير العرجون
104

ومعناه بالفارسية خوشه خرما يا خوشه فلا خرما كه خشك وكج كردد منه (ثم لطخ به) أي لوث النبي صلى الله عليه وسلم
بالخلوق الذي على رأس العرجون. قال الحافظ: في الحديث من الفوائد الندب إلى إزالة ما
يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، وتفقد امام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها، وأن
للمصلى أن يبصق وهو في الصلاة ولا تفسد صلاته، وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان
لأن النخامة لا بد أن يقع معها شئ من نفخ أو تنحنح، ومحله ما إذا لم يفحش ولم يقصد
صاحبه العبث ولم يبين منه مسمى كلام وأقله حرفان أو حرف ممدود، وفيه أن البصاق طاهر
وكذا النخامة والمخاط خلافا لمن يقول كل ما تستقذره النفس حرام. ويستفاد منه أن التحسين
أو التقبيح إنما هو بالشرع، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار، وأن اليد مفضلة على القدم
وفيه الحث على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مليا لكونه صلى الله عليه وسلم باشر الحك بنفسه
وهو دال على عظم تواضعه زاده الله تشريفا وتعظيما صلى الله عليه وسلم انتهى. وفيه
احترام جهة القبلة، وفيه إذا بزق يبزق عن يساره ولا يبزق أمامه تشريفا للقبلة، ولا عن يمينه تشريفا لليمين، وفيه جواز
صنع الخلوق في المساجد. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم مطولا.
(عن صالح بن خيوان) بفتح المعجمة ويقال بالمهملة السبئي بفتح المهملة والموحدة
مقصورا ويقال الخولاني وثقه العجلي من الرابعة. قاله الحافظ في التقريب. وقال في
الميزان: قيده عبد الحق الأزدي بالحاء المهملة. وقال في التهذيب قال أبو داود ليس أحد يقول
خيوان بالخاء المعجمة إلا قد أخطأ. وقال ابن ماكولا قاله سعيد بن يونس بالحاء المهملة،
وكذلك قاله البخاري ولكنه وهم (عن أبي سهلة السائب بن خلاد) قال الحافظ في التقريب:
السائب بن خلاد بن سويد الخزرجي أبو مهلة المدني له صحبة وعمل لعمر على اليمين
ومات سنة إحدى وسبعين (قال أحمد) بن صالح شيخ أبي داود: إن السائب هو (من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم) ولعله ذكر لأنه لم يكن من مشاهير الصحابة (إن رجلا أم قوما) أي صلى بهم
إماما ولعلهم كانوا وفدا (فبصق في القبلة) أي في جهتها (ينظر) أي يطالع فيه (فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم) لقومه لما رأى منه قلة الأدب (حين فرغ) أي هذا الرجل من الصلاة (لا يصلي
105

لكم) باثبات الياء لا يصلي لكم هذا الرجل بعد اليوم. قال في شرح السنة. أصل الكلام لا
تصل لهم فعدل إلى النفي ليؤذن بأنه لا يصلح للإمامة وأن بينه وبينها منافاة. وأيضا في
الإعراض عنه غضب شديد حيث لم يجعله محلا للخطاب وكان هذا النهي في غيبته (فمنعوه)
فسأل عن سبب المنع (فذكر) الرجل (ذلك) أي منع القوم إياه عن امامة (لرسول الله صلى الله عليه وسلم)
وقال ذكروا أنك منعتني عن امامة بهم أكذلك هو (فقال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (نعم) أنا أمرتهم
بذلك (وحسبت) أي قال الراوي وظننت (أنه) أي الرسول الله صلى الله عليه وسلم (قال) أي له زيادة على نعم
(إنك آذيت الله ورسوله) والمعنى أنك فعلت فعلا لا يرضي الله ورسوله، وفيه تشديد عظيم،
فقال الله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا
مهينا) وذكر الله تعالى للتبرك أو لبيان أن إيذاء رسوله لمخالفة نهيه لا سيما بحضرته منزل
منزلة إيذاء الله تعالى. كذا ذكره بعض شراح المشكاة، وهذا منه مبنى على جعل إيذاء على
حقيقته. قال ميرك: ولحديث السائب بن خلاد شاهد من حديث عبد الله بن عمرو قال أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي بالناس الظهر فتفل بالقبلة وهو يصلي للناس، فلما كان صلاة العصر
أرسل إلى آخر فأشفق الرجل الأول فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنزل في شئ؟ قال
لا. ولكنك تفلت بين يديك وأنت تؤم الناس فأذيت: الله والملائكة) رواه الطبراني في الكبير
بإسناد جيد قال ميرك: والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.
(فبزق) أي النبي صلى الله عليه وسلم (تحت قدمه اليسرى) فيه أنه صلى الله عليه وسلم بزق بنفسه تحت قدمه اليسرى في
حالة الصلاة.
(ثم دلكه بنعله) فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق ثم دلك البزاق بنعله قال المنذري: والحديث
أخرجه مسلم بنحوه.
106

(في مسجد دمشق) كهزبر غير بكسر الدال وفتح الميم وقد تكسر الميم اسم بلد وسميت
باسم بانيها دمشاق بن كنعان بن حام بن نوح ذكره القضاعي (بصق) أي بزق (على البوري)
بضم الباء الموحدة. قال ابن الأثير في النهاية هي الحصير المعمول من القصب ويقال فيها
بارية وبورياء أحمد (ثم مسحه برجله) أي ثم مسح واثلة بن الأسقع البزاق الذي وقع على الحصير
برجله (فقيل له) أي لواثلة (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) أي يبزق على البوري ثم يمسحه
برجله. قال المنذري: في إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف.
(باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد)
(فأناخه في المسجد) أي أجلس الرجل البعير في المسجد وفي الرواية الآتية عند باب
المسجد (ثم عقله) أي شد الرجل البعير (متكئ بين ظهرانيهم) زيدت فيه ألف ونون مفتوحة،
قد جاءت هذه اللفظة بين ظهرانيهم وبين أظهرهم في الحديث كثيرا ومعناه أن ظهر منهم قدام
النبي صلى الله عليه وسلم وظهرا منهم وراءه فهو مكنوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل بين أظهرهم، ثم كثر
حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين القوم. هذا
ملخص ما في النهاية. قال الخطابي: كل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ، والعامة لا
تعرف المتكئ إلا من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه (هذا الأبيض المتكئ) هو
محمد صلى الله عليه وسلم (قد أجبتك) أي سمعت، والمراد منه إنشاء الإجابة. قال الخطابي: قد زعم
107

بعضهم أنه إنما قال له قد أجبتك ولم يستأنف له الجواب لأنه كره أن يدعوه باسم جده وأن ينسبه
إليه إذ جده عبد المطلب كان كافرا غير مسلم فأحب أن يدعوه باسم النبوة والرسالة. قال وهذا
وجه. ولكن قد ثبت عنه أنه قال يوم حنين حين حمل على الكفار وانهزموا أنا النبي لا كذب أنا
ابن عبد المطلب) وقد قال بعض أهل العلم في هذا إنه لم يذهب بهذا القول مذهب الانتساب
إلى شرف الأباء على سبيل الافتخار بهم ولكنه ذكرهم بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب له أيام
حياته وكان ذلك إحدى دلائل نبوته وكانت القصة مشهورة عندهم فعرفهم بأنبائها بعد وذكرهم بها
وخروج الأمر على الصدق والله أعلم
(فقدم) أي ضمام (عليه) أي على النبي صلى الله عليه وسلم (ثم عقله) أي شد ضمام ركبة البعير (ثم
دخل المسجد) أي دخل ضمام في المسجد (فذكر) أي محمد بن عمرو والراوي (نحوه) أي
نحو الحديث السابق (قال) أي ابن عباس (فقال) أي ضمام (أنا) مبتدأ (ابن عبد المطلب)
خبره. قال الخطابي: في الحديث من الفقه جواز دخول المشرك المسجد إذا كانت له فيه
حاجة مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج إليه، ومثل أن يحاكم إلى قاض وهو في
المسجد فإنه يجوز له دخول المسجد ثبات حقه في نحو ذلك من الأمور.
(رجل من مزينة) مصغرا (قال) أي أبو هريرة (اليهود) مبتدأ (في أصحابه) أي في جماعة من
أصحابه (زنيا) بصيغة التثنية من الزنا. قال المنذري: والحديث أخرجه المؤلف في الحدود
والقضايا أتم من هذا، ورجل من زينة مجهول.
108

(باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة)
(عن أبي ذر) قال الحافظ في التقريب: أبو ذر الغفاري الصحابي المشهور اسمه
جندب بن جنادة على الأصح تقدم إسلامه وتأخرت هجرته فلم يشهد بدرا ومناقبه كثيرة جدا
مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان (جعلت لي الأرض طهورا) بالضم مطهرا عند فقد
الماء، وعموم ذكر الأرض مخصوص بغير ما نهى الشارع عن الصلاة فيه وبه تحصل مطابقة
الحديث للترجمة. قال الحافظ في الفتح: استدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره، لأن
الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لاثباتها، وقد روى
ابن المنذر وابن الجارود بإسناد صحيح عن أنس مرفوعا جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا
وطهورا) ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى طهورا طاهرا للزم تحصيل الحاصل (ومسجدا) أي
موضع سجود لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان
المبنى للصلاة وهو من مجاز التشبيه لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في
ذلك. قاله الحافظ في الفتح قال الخطابي تحت قوله جعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وهذا
إجمال وإبهام وتفصيله في حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لنا الأرض مسجدا
وجعلت تربتها لنا طهورا) ولم يذكره أبو داود في هذا الباب وإسناده جيد حدثونا به عن محمد بن
محمد بن يحيى قال: أخبرنا مسدد قال: أخبرنا أبو عوانة عن أبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة،
وقد يحتج بظاهر حديث أبي ذر من يرى التيمم جائزا بجميع الأجزاء من جص ونورة وزرنيخ
ونحوها وإليه ذهب أهل العراق، وقال الشافعي لا يجوز التيمم إلا بالتراب. قال والمفسر من
هذا الحديث يقضي على المجمل، وإنما جاء قوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا
وطهورا) على مذهب الامتنان على هذه الأمة بأن رخص لهم في الطهور بالأرض والصلاة عليها
في بقاعها، وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم، وإنما سيق هذا الحديث
لهذا المعنى وبيان ما يتطهر به منها مما لا يجوز إنما هو في حديث حذيفة الذي ذكرناه انتهى.
وقال الحافظ في الفتح: واحتج من خص التيمم بالتراب بحديث حديفة عند مسلم بلفظ:
109

(وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء وهذا خاص
فينبغي أن يحمل العام عليه فتختص الطهورية بالتراب، ودل الافتراق في اللفظ حيث حصل
التأكيد في جعلها مسجدا دون اخر على افتراق الحكم وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا
كما في حديث الباب، ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب بأن
قال تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، وأجيب بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ التراب
أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: (وجعل التراب لي طهورا) أخرجه أحمد
والبيهقي بإسناد حسن. ويقول القول بأنه خاص بالتراب أن الحديث سيق ظهار التشريف
والتخصيص فلو كان جائزا بغير التراب لما اقتصر عليه انتهى. قال المنذري: والحديث
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من حديث يزيد بن شريك التيمي عن أبي ذر فصل
المسجد خاصة.
(ابن لهيعة) بفتح اللام وكسر الهاء هو عبد الله ضعيف (ويحيى بن أزهر) البصري مولى
قريش صدوق من السابعة مات سنة إحدى وستين قال في التقريب (المرادي) نسبة إلى المراد
وهو قبيله (مر ببابل) أبو عبيد البكري: بلبل بالعراق مدينة السحر معروفة. وقال الجوهري:
بابل اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر. وقال الأخفش: لا ينصرف لتأنيثه. قاله
العيني (يؤذنه) من ايذان (فلما برز منها) أي فلما خرج على من بابل (فلما فرغ) أي علي من
الصلاة (قال إن حبي) يعني النبي صلى الله عليه وسلم (أن أصلي في المقبرة) قال العيني. المقبرة بضم الباء هو
المسموع والقياس فتح الباء، وفي شرح الهادي أن ما جاء على مفعلة بالضم يراد بها أنها
موضوعة لذلك ومتخذة يقول له، فإذا قالوا المقبرة بالفتح أرادوا مكان الفعل وإذا ضموا أرادوا البقعة
التي من شأنها أن يقبر فيها، وكذلك المشربة والمقربة (ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها
ملعونة) أي أرض بابل مغضوبة عليها. قال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم
أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
(جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) ويشبه أن يكون معناه إن ثبت أنه نهى أن تتخذ أرض بابل
110

وطنا ودارا للإقامة، فتكون صلاته فيها إذا كانت إقامته بها، ويخرج هذا النهي فيه على
الخصوص، ألا تراه يقول: نهاني، ولعل ذلك منه إنذار مما أصابه من المحنة في الكوفة وهي
أرض بابل ولم ينتقل قبله أحد من الخلفاء الراشدين عن المدينة. انتهى.
وقال الحافظ في الفتح: روى ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المحلي وهو بضم
الميم وكسر المهملة وتشديد اللام قال: (كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم
يصل حتى أجازه) أي تعداه. ومن طريق عن علي قال ما كنت لأصلي في أرض خسف الله
بها ثلاث مرار) والظاهر أن قوله: (ثلاث مرار) ليس متعلقا بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف
واحد، وإنما أراد أن عليا قال ذلك ثلاثا، والمراد بالخسف هنا ما ذكر الله تعالى في قوله:
(فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم) الآية. ذكر أهل التفسير والأخبار
أن المراد بذلك أن النمرود بن كنعان بنى ببابل بنيانا عظيما يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف
ذراع فخسف الله بهم. قال الخطابي: لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل فإن
كان حديث على ثابتا فلعله نهاه أن يتخذها وطنا لأنه إذا أقام بها كانت صلاته فيها يعني أطلق
الملزوم وأراد اللازم. قال فيحتمل أن النهي خاص إنذارا له بما لقي من الفتنة بالعراق.
قلت: وسياق قصة على الأولى يبعد هذا التأويل والله أعلم. انتهى. قال المنذري: أبو صالح هو
سعيد بن عبد الرحمن الغفاري مولاهم البصري. قال ابن يونس: يروي عن علي بن أبي
طالب وما أظنه سمع من علي. ويروي عن أبي هريرة وهيب بن مغفل وصله ابن الحارث.
انتهى. قال العيني قال ابن القطان: في سند هذا الحديث رجال لا يعرفون، وقال عبد الحق:
وهو حديث واه. وقال البيهقي في المعرفة: إسناده غير قوي. انتهى.
(بمعنى سليمان بن داود) أي بمعنى حديث سليمان (قال) أي أحمد بن صالح (فلما
خرج مكان) أي بدل لفظ فلما برز.
(عن أبي سعيد) الخدري (يحسب عمرو) أي يظن (الأرض كلها مسجد) أي يجوز
111

السجود فيها من غير كراهة (إلا الحمام والمقبرة) المقبرة وهي المحل الذي يدفن فيه الموتى،
والحمام بتشديد الميم الأولى هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم. وهو في الأصل الماء
الحار، ثم قيل: للاغتسال بأي ماء كان. وحكمة المنع من الصلاة في المقبرة. قيل: هو ما
تحت المصلي من النجاسة، وقيل لحرمة الموتى، وحكمة المنع من الصلاة في الحمام أنه
يكثر فيه النجاسات، وقيل: إنه مأوى الشيطان. قال الخطابي: واختلف أهل العلم في تأويل
هذا الحديث، فقال الشافعي إذا كانت المقبرة مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم وما
يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى الرجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته،
قال: وكذلك الحمام إذا صلى في موضع نظيف منه طاهر فلا إعادة عليه. وعن مالك بن أنس
قال: لا بأس بالصلاة في المقبرة. وقال أبو ثور: لا يصلي في حمام ولا في مقبرة على ظاهر
الحديث. وكان أحمد وإسحاق يكرهان ذلك ورويت الكراهية فيه عن جماعة من السلف.
واحتج بعض من لم يجز الصلاة في المقبرة وإن كانت طاهرة التربة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها مقابر) قال: فدل على أن المقبرة ليست بمحل للصلاة.
انتهى. قلت: وذهب الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا
كما فرق الشافعي وهو الأشبه، وأما ما ذهب إليه مالك فالأحاديث ترد عليه قال المنذري:
والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة. وروي هذا الحديث مسندا ومرسلا. وقال الترمذي:
وهذا حديث فيه اضطراب، وذكر أن سفيان الثوري أرسله. وكأن رواية الثوري عن عمرو بن
يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت وأصح.
(باب النهي عن الصلاة في مبارك الإبل)
(لا تصلوا في مبارك الإبل) جاء في الأحاديث النهي عن الصلاة في موضع مبارك الإبل،
112

وفي موضع أعطان الإبل، وفي موضع مناخ الإبل، وفي موضع مرابد الإبل، ووقع عند
الطحاوي في حديث جابر بن سمرة: (أن رجلا قال يا رسول الله أصلى في مباءة الغنم؟ قال
نعم، قال: أصلي في مباءة الإبل؟ قال لا) والمبارك جمع مبرك وهو موضع بروك الجمل في أي
موضع كان. والأعطان جمع عطن وهو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط. وقال ابن
حزم: كل عطن فهو مبرك، وليس كل مبرك عطنا لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند
ورودها الماء فقط والمبرك أعم لأنه الموضع المتخذ له في كل حال والمناخ بضم الميم وفي
آخره خاء معجمة: المكان الذي تناخ فيه الإبل، والمرابد بالدال المهملة هي الأماكن التي
تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم. والمباءة المنزل الذي يأوي إليه الإبل. قاله العيني.
والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في مواضع الإبل، وعلل ذلك بقوله (فإنها من
الشياطين) أي الإبل خلقت من الشياطين، كما في رواية ابن ماجة. (فإنها خلقت من
الشياطين) فهذا يدل على أن علة النهي كون الإبل من الشياطين لا غير، فالإبل تعمل عمل
الشياطين والأجنة، لأن الإبل كثيرة الشراد فتشوش قلب المصلي وتمنع الخشوع. قال
الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم (فإنها من الشياطين) يريد أنها لما فيها من النفار والشرود وربما أفسدت
على المصلي صلاته، والعرب تسمى كل مارد شيطانا كأنه يقول: كأن المصلي إذا صلى
بحضرتها كان مغررا بصلاته لما لا يؤمن نفارها وخبطها المصلي، وهذا المعنى مأمون من
الغنم لما فيها من السكوت وضعف الحركة إذا هيجت. وقال بعضهم: معنى الحديث أنه كره
الصلاة في السهول من الأرض لأن الإبل إنما تأوي إليها وتعطن فيها، والغنم تبوء وتروح إلى
الأرض الصلبة، قال: والمعنى في ذلك أن الأرض الرخوة التي يكثر ترابها، ربما كانت فيها
النجاسة فلا يتبين موضعها، فلا يأمن المصلي أن تكون صلاته فيها على نجاسة، فأما القرار
الصلب من الأرض فإنه ضاح بارز لا يخفى موضع النجاسة إذا كانت فيه وزعم بعضهم أنه إنما
أراد به الموضع الذي يحط الناس رحالهم فيها إذا نزلوا المنازل في الأسفار قال: ومن عادة
المسافرين أن يكون برازهم بالقرب من رحالهم، فتوجد هذه الأماكن في الأغلب نجسة، فقيل
لهم لا تصلوا فيها وتباعدوا عنها والله أعلم. (في مرابض الغنم) هي جمع مربض بكسر الباء،
لأنه من ربض يربض مثل ضرب يضرب، يقال ربض في الأرض إذا التصق بها وأقام ملازما
لها، واسم المكان مربض وهو مأوى الغنم، مثل بروك الإبل. وفي الصحاح ربوض الغنم
والبقر والفرس والكلب، مثل بروك الإبل وجثوم الطير قاله العيني (صلوا فيها) أي في مرابض
113

الغنم (فإنها) أي الغنم (بركة) أي ذو بركة. قال في غاية المقصود: والمعنى أن الغنم ليس فيها
تمرد ولا شر أديل لأنها ضعيفة، ومن دواب الجنة وفيها سكينة فلا تؤذي المصلي ولا تقطع
صلاته، فهي ذو بركة فصلوا في مرابضها. انتهى.
(باب متى يؤمر الغلام بالصلاة)
(عن أبيه) وهو الربيع (عن جده) أي جد عبد الملك، وهو سبرة بفتح السين وسكون الباء
الموحدة. قال الحافظ في التقريب: سبرة بن معبد الجهني والد الربيع له صحبة وأول مشاهده
الخندق وكان ينزل المروة ومات بها في خلافة معاوية (مروا الصبي) قال العلقمي: قال الشيخ
عز الدين عبد السلام: الصبي ليس مخاطبا، وأما هذا الحديث فهو أمر للأولياء، لأن الأمر بالشيء
ليس أمرا بذلك الشيء. قال: قد وجد أمر الله للصبيان مباشرة على وجه لا يمكن الطعن فيه،
وهو قوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم) قال
النووي: الصبي يتناول الصبية أيضا لا فرق بينهما بلا خلاف، وأمر وقد الولي للصبي واجب وقيل
مستحب (بالصلاة) أي بأن يعلموهم ما تحتاج إليه الصلاة من شروط وأركان، وأن يأمروهم
بفعلها بعد التعليم وأجرة التعليم في مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الولي. قاله
العلقمي في الجامع الصغير (وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها) أي فاضربوا الصبي على ترك
الصلاة. قال العلقمي: إنما أمر بالضرب لعشر لأنه حد يتحمل فيه الضرب غالبا، والمراد
بالضرب ضربا غير مبرح وأن يتقي الوجه في الضرب. انتهى. قال المنذري: والحديث
أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(مروا) أمر من الأمر حذفت همزته للتخفيف ثم استغنى عن همزة الوصل تخفيفا ثم
حركت فاؤه لتعذر النطق بالساكن (أولادكم) يشمل الذكور وإناث (بالصلاة) وبما يتعلق بها
114

من الشروط (وهم أبناء سبع سنين) ليعتادوا ويستأنسوا بها، والجملة حالية (واضربوهم) أي
الأولاد (عليها) أي على ترك الصلاة (وهم أبناء عشر سنين) لأنهم بلغوا أو قاربوا البلوغ
(وفرقوا) أمر من التفريق (بينهم في المضاجع) أي المراقد. قال المناوي في فتح القدير شرح
الجامع الصغير: أي فرقوا بين أولادكم في مضاجعهم التي ينامون فيها إذا بلغوا عشرا حذرا من
غوائل الشهوة وإن كن أخوات. قال الطيبي: جمع بين الأمر بالصلاة والفرق بينهم في
المضاجع في الطفولية تأديبا لهم ومحافظة لأمر الله كله وتعليما والمعاشرة بين الخلق، وأن
لا يقفوا مواقف التهم فيجتنبوا المحارم. انتهى. قال الخطابي قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ عشر سنين
فاضربوه عليها يدل على غلاط العقوبة له إذا تركها مدركا، وكان بعض فقهاء أصحاب الشافعي
يحتج به في وجوب قتله إذا تركها متعمدا بعد البلوغ، ويقول إذا استحق الصبي الضرب وهو
غير بالغ فقد عقل أنه بعد البلوغ يستحق من العقوبة ما هو أشد من الضرب، وليس بعد الضرب
شئ مما قاله العلماء أشد من القتل. وقد اختلف الناس في حكم تارك الصلاة فقال مالك
والشافعي: يقتل تارك الصلاة، وقال مكحول: يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإليه ذهب حماد
ابن يزيد ووكيع بن الجراح. وقال أبو حنيفة: لا يقتل ولكن يضرب ويحبس، وعن الزهري أنه
قال: فاسق يضرب ضربا مبرحا ويسجن، وقال جماعة من العلماء: تارك الصلاة حتى يخرج
وقتها لغير عذر كافر، وهذا قول إبراهيم النخعي وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك
وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وقال أحمد: لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمدا.
واحتجوا بحديث جابر ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بين العبد وبين
الكفر إلا ترك الصلاة.
(بإسناده ومعناه) أي بإسناد ومعنى حديث مؤمل بن هشام المتقدم ذكره (وإذا زوج
أحدكم خادمه) بالنصب والمراد بالخادم الخادمة أي الأمة (عبده) بالنصب مفعول ثان لزوج (أو
أجيره) بالنصب معطوف على عبده (فلا ينظر) أي الخادم، والمراد به الخادمة أي لا تنظر الأمة
(إلى ما دون السرة) أي إلى ما تحت سرة سيدها (وفوق الركبة) أي فوق ركبة سيدها. والمعنى
إذا زوج السيد والمولى أمته من عبده أو من أجيره وعماله فلا يجوز للأمة أن تنظر إلى ما بين
115

ركبة مولاها وسرته، فإن ما بين سرته وركبته من العورة، وتؤيد هذا المعنى رواية الدارقطني
من طريق النضر بن شميل عن سوار بن داود عن عمرو بن شعيب نحوه بلفظ: (وإذا زوج
أحدكم عبده أمته أو أجيره فلا تنظر الأمة إلى شئ من عورته فإن ما تحت السرة إلى الركبة من
العورة) ومن طريق عبد الله عن سوار عن عمرو نحوه بلفظ: (إذا زوج الرجل منكم عبده
أو أمته فلا يرين ما بين ركبته وسرته) ويمكن إرجاع الضمير في: فلا ينظر إلى أحدكم وهو السيد
فيكون المعنى إذا زوج أحدكم الخادمة أي الأمة من عبده أو أجيره فلا ينظر السيد إلى ما تحت
سرة أمته وفوق ركبة أمته، كذا في غاية المقصود (وهم وكيع في اسمه) أي في اسم سوار بن
داود فقال داود بن سوار (وروى عنه) أي عن سوار بن داود (أبو داود الطيالسي هذا الحديث
فقال حدثنا أبو حمزة سوار الصيرفي) كما قال إسماعيل في الحديث السابق وهو الصواب وقد
تابع أبا داود الطيالسي النضر بن شميل وعبد الله بن بكر فقالا: حدثنا أبو حمزة الصيرفي وهو
سوار بن داود وروايتهما في سنن الدارقطني.
(معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني)
قال الحافظ في التقريب: معاذ بن عبد الله بن
خبيب مصغر الجهني المدني صدوق ربما وهم من الرابعة (قال) أي هشام بن سعد (دخلنا
عليه) أي على معاذ بن عبد الله (فقال) أي معاذ (فقالت) أي امرأة معاذ (أنه) صلى الله عليه وسلم (عن ذلك) أي
عن صلاة الصبي (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (إذا عرف يمينه من شماله) أي إذا ميز الصبي بين اليمين
والشمال (فمروه بالصلاة) أي مروا الصبي بالصلاة ويحصل هذا التمييز للصبي غالبا إذا كان
ابن سبع سنين
116

(باب بدء الأذان)
أي هذا باب في بيان الأذان
(عباد بن موسى الختلي) بضم الخاء المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة (قالا) أي عباد
وزياد (حدثنا هشيم) بن بشير على وزن عظيم ثقة ثبت كثير التدليس (عن أبي بشر) هو
جعفر بن أبي وحشية (قال زياد) بن أيوب في روايته حدثنا هشيم قال (أخبرنا أبو بشر) أي
بلفظ أخبرنا أبو بشر، وأما عباد فقال حدثنا هشيم عن أبي بشر، فزياد صرح بتحديث هشيم
عن أبي بشير فارتفعت مظنة التدليس عن هشيم، وما وقع في بعض النسخ زياد أبو بشر بحذف
لفظ أخبرنا، وزعم بعضهم أن أبا بشر هذا بدل من زياد فهو غلط قطعا كما يظهر من أطراف
المزي والله أعلم (عن أبي عمير بن أنس) هو عبد الله أبو عمير بن أنس بن مالك (عن عمومة
له) أي لأبي عمير مصغر (قال) أي عمومة أبي عمير (اهتم النبي صلى الله عليه وسلم) يقال اهتم الرجل
بالأمر قام به قال ابن الأثير في النهاية: هم بالأمر يهم: إذا عزم عليه (لها) أي للصلاة (فإذا
رأوها) أي إذا رأى المسلمون راية (آذن) من الايذان (فلم يعجبه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (ذلك) أي
نصب الراية عند حضور الصلاة (قال) أي الراوي (فذكر له) أي للنبي صلى الله عليه وسلم (القنع يعني الشبور)
القنع بضم القاف وسكون النون. قال ابن الأثير في النهاية: هذه اللفظة قد اختلف في ضبطها،
فرويت بالياء والتاء والثاء والنون وأشهرها وأكثرها النون انتهى. والشبور بفتح الشين المعجمة
وضم الباء الموحدة المثقلة، وفي رواية للبخاري بوقا، وفي رواية لمسلم والنسائي قرنا، وهذه
الألفاظ الأربعة كلها متحد المعنى، وهو الذي ينفخ فيه ليخرج منه صوت.
قال الخطابي: قوله القنع هكذا قاله ابن داسة، وحدثناه ابن الأعرابي عن أبي دواد
مرتين، فقال مرة: القنع بالنون الساكنة، وقال مرة: القبع بالباء المفتوحة، وجاء في الحديث:
تفسيره أنه الشبور، وهو البوق وقد سألت عنه غير واحد لم يثبته لي على واحد من الوجهين،
117

فإن كانت رواية القنع صحيحة فلا أراه سمي إلا قناع الصوت وهو رفعه، يقال: أقنع الرجل
صوته وأقنع رأسه إذا رفعه، وأما القبع بالباء فلا أحسبه سمي قبعا إلا أنه يقبع في صاحبه أي
يستره، يقال قبع الرجل رأسه في جيبه إذا أدخله فيه، وسمعت أبا عمر يقول: هو القثع علي بالثاء
المثلثة يعني البوق ولم أسمع هذا الحرف من غيره (فلم يعجبه ذلك) أي اتخاذ القنع والشبور
(وقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (هو من أمر اليهود) أي الشبور (قال) أي عمومة أبي عمير (فذكر له) أي
للنبي صلى الله عليه وسلم (الناقوس) هو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها يجعله النصارى علامة لأوقات
صلاتهم (فانصرف عبد الله بن زيد) من عند النبي صلى الله عليه وسلم (وهو) أي عبد الله والواو للحال (مهتم)
من الاهتمام أي مقدمة الأذان (لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ذلك. قال في المصباح المنير:
الهم بالفتح أول العزيمة يقال: هممت بالشئ هما إذا أردته ولم تفعله (فأري) أي عبد الله
(الأذان في منامه) قال الحافظ في الفتح: الأذان لغة الاعلام. قال الله تعالى: (وأذان من الله
ورسوله) واشتقاقه من الأذن بفتحتين وهو الاستماع، وشرعا اعلام بوقت الصلاة بألفاظ
مخصوصة. قال القرطبي وغيره: الأذان على قلة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة لأنه بدأ
بالأكبرية وهي تتضمن وجود الله وكماله ثم ثنى بالتوحيد ونفى الشريك، ثم بإثبات الرسالة
لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة لأنها لا تعرف إلا من جهة
الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه إشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد
توكيدا. ويحصل من الأذان اعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعائر
الاسلام. والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولة القول وتيسره لكل أحد في كل زمان
ومكان.
قال الراوي (فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ذهب عبد الله بن زيد في وقت الغداة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم (قد رآه) أي الأذان في المنام (فقال له) أي لعمر بن الخطاب (يا بلال قم فانظر ما
يأمرك به عبد الله) قال الخطابي: فيه دليل على أن الواجب أن يكون الأذان قائما. انتهى. وقال
118

الحافظ في الفتح قال عياض وغيره: فيه حجة لشروع الأذان قائما. قلت: وكذا احتج به ابن
خزيمة وابن المنذر، وتعقبه النووي بأن المراد بقوله قم أي اذهب إلى موضع بارز فناد فيه
بالصلاة ليسمعك الناس. وقال وليس فيه تعرض للقيام في حال الأذان انتهى. وما نفاه
ببعيد من ظاهر اللفظ، فإن الصيغة محتملة للأمرين وإن كان ما قاله أرجح، ونقل عياض أن
مذهب العلماء كافة أن الأذان قاعد لا يجوز إلا أبا ثور ووافقه أبو الفرج المالكي، وتعقب بأن
الخلاف معروف عند الشافعية وبأن المشهور عند الحنفية كلهم أن القيام سنة، وأنه لو أذن
قاعدا صح، والصواب ما قال ابن المنذر إنهم اتفقوا على أن القيام من السنة (لجعله) الضمير
المنصوب يرجع إلى عبد الله وهو جواب لولا.
وفي الحديث مشروعية التشاور في الأمور المهمة وأنه لا حرج على أحد من المتشاورين
إذا أخبر بما أدى إليه اجتهاده. وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد لأن رؤيا
غير الأنبياء لا يبني عليها حكم شرعي، وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك، أو لأنه صلى الله عليه وسلم أمر
بمقتضاها لينظر أبقر على ذلك أم لا، ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، ويؤيد
الأول ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير الليثي أحد كبار
التابعين أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا
أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم سبقك بذلك الوحي. وأشار السهيلي إلى أن الحكمة في ابتداء
شرع الأذان على لسان غير النبي صلى الله عليه وسلم التنويه بعلو قدره على لسان غيره ليكون أفخم لشأنه والله
أعلم. قاله الحافظ في الفتح.
(باب كيف الأذان)
(حدثني أبي عبد الله بن زيد) هو بدل عن أبي قال الحافظ في التقريب: عبد الله بن
119

بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبه الأنصاري الخزرجي أبو محمد المدني أرى الأذان صحابي مشهور
مات سنة اثنتين وثلاثين وقيل استشهد بأحد (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس) لعل معناه أراد أن
يأمر به، والناقوس هو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها يجعله النصارى علامة لأوقات
صلاتهم (يعمل) حال حتى وهو مجهول (ليضرب به) أي ببعضه على بعض وهو بصيغة المجهول
(للناس) أي لحضورهم (لجمع الصلاة) أي لأدائها جماعة (طاف بي) جواب لما أي مر بي
(وأنا نائم) حال من المفعول. قال الجوهري: طيف الخيال مجيئه في النوم يقال منه طاف
الخيال يطيف طيفا ومطافا. قال الطيبي قوله (رجل) في الحديث فاعل والأظهر أن تقديره
جاءني رجل في عالم الخيال. قال الخطابي: قوله طاف بي رجل يريد الطيف وهو الخيال الذي
يلم بالنائم، يقال منه طاف يطيف، ومن الطواف طاف يطوف، ومن الإحاطة بالشئ أطاف
يطيف (يحمل ناقوسا في يده) الجملة صفة لرجل (قال) الرجل (وما تصنع به) أي بالناقوس،
وما استفهامية (فقلت ندعو) أي الناس (به) أي بسبب ضربه وحصول الصوت به (إلى الصلاة)
أي صلاة الجماعة، فاللام للعهد أو بدل عن المضاف إليه (قال) الرجل (خير من ذلك) أي
الناقوس (قال) الراوي وهو الرائي (فقال) الرجل أي المرئي (تقول الله أكبر) إلى آخر الأذان.
ذكر ثعلب أن أهل العربية اختلفوا في معنى أكبر فقال أهل اللغة معناه كبير واحتجوا بقوله
تعالى: (وهو أهون عليه) معناه وهو هين عليه. وقال الكسائي والفراء وهشام معناه أكبر من
كل شئ فحذفت من. وقان ابن الأنباري: وأجاز أبو العباس الله أكبر واحتج بأن الأذان سمع
وقفا لا إعراب فيه قوله أشهد أن لا إله ألا الله معناه أعلم وأبين، ومن ذلك شهد الشاهد عند
الحاكم معناه قد بين له وأعلمه الخبر الذي عنده وقال أبو عبيدة: معناه أقضى كما في شهد الله
معناه قضى الله. وقال الزجاج: ليس كذلك وإنما حقيقة الشهادة هو تيقن الشيء وتحققه من
شهادة الشيء أي حضوره. وقوله حي على الصلاة قال الفراء: معناه هلم وفتحت الياء من
حي لسكون التي قبلها. ومعنى الفلاح الفوز، يقال أفلح الرجل إذا فاز قاله العيني في
120

شرح البخاري (قال) أي عبد الله بن زيد (ثم استأخر عني) أي الرجل المرئي (غير بعيد). أي
بعد ما علمه الأذان. قال الخطابي: وهو يدل على أن المستحب أن تكون الإقامة في غير موقف
الأذان (ثم قال) الرجل فأخبرته بما رأيت أي من الرؤيا (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (أنها) أي رؤياك
(لرؤيا حق) أي ثابته صحيحة صادقة مطابقة للوحي أو موافقة للاجتهاد (إن شاء الله) تعالى
للتبرك أو للتعليق (فقم مع بلال فألق) بفتح الهمزة وكسر القاف أي أمل (عليه) على بلال
(فليؤذن به) أي بما يلقي إليه (فإنه) أي بلالا (أندى) أي أرفع (صوتا منك) قال الراغب: أصل
النداء من الندى أي الرطوبة يقال صوت ندي أي رفيع واستعارة النداء للصوت من حيث أن من
تكثر رطوبة فمه حسن كلامه، ويعبر بالندى عن السخاء، يقال فلان أندى كفا من فلان أي
أسخى. وقال الخطابي: فيه دليل على أن كل من كان أرفع صوتا كان أولى بالأذان لأن الأذان
إعلام وكل من كان الإعلام بصوته أوقع كان به أحق وأجدر (فجعلت ألقيه) أي الأذان (عليه)
أي على بلال أي ألقنه له (ويؤذن) أي بلال (به) أي بما يلقي إليه (قال) عبد الله بن زيد
(فسمع ذلك) أي بصوت الأذان (وهو في بيته) جملة حالية (فخرج) أي عمر بن الخطاب
مسرعا (يجر رداءه) أي وراءه (لقد رأيت مثل ما أرى) ولعل هذا القول صدر عنه بعد ما حكى
له بالرؤيا السابقة أو كان مكاشفة له رضي الله عنه وهذا ظاهر العبارة قاله علي القاري (فلله) أي
لا لغيره (الحمد) حيث أظهر الحق ظهورا وازداد في البيان نورا (هكذا) أي كما روى محمد بن
إبراهيم بن الحارث عن محمد ابن عبد الله بن زيد عن أبيه عبد الله بن زيد (رواية الزهري
الخ) بتربيع التكبير في أول الأذان وبتثنية فإن التكبير في الإقامة وبأفراد عمر كل ألفاظها غير جملة قد
121

قامت الصلاة
فإنها مرتان: فمحمد بن إسحاق روى عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
والزهري كلاهما هكذا. قال الدارقطني في سننه، وحديث ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم
عن محمد بن عبد الله عن أبيه متصل وهو خلاف ما رواه الكوفيون انتهى. وحديث الزهري
أخرجه أحمد في مسنده عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن
عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب بالناقوس وهو له كاره
لموافقته النصارى طاف بي من الليل طائف وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران وفي يده ناقوس
يحمله قال فقلت له يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال وما تصنع به. قال قلت به إلى الصلاة،
قال أفلا أدلك على خير من ذلك فقلت بلى قال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن
لا إله ألا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة.
حي على الصلاة. حي على الفلاح. حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. قال
ثم استأخر غير بعيد قال ثم تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا أله ألا الله.
أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة. حي على الفلاح. قد قامت الصلاة. قد قامت
الصلاة. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله قال فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما
رأيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه الرؤيا حق إن شاء الله، ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر
يؤذن بذلك ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة. قال فجاءه فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته الصلاة خير من النوم. قال سعيد بن المسيب
فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر) وأخرجه الحاكم من هذه الطريق وقال هذه
أمثل الروايات في قصة عبد الله بن زيد، لأن سعيد بن المسيب قد سمع من عبد الله بن زيد
ورواه يونس ومعمر وشعيب وابن إسحاق عن الزهري، ومتابعة هؤلاء النبي لمحمد بن إسحاق عن
الزهري ترفع احتمال التدليس الذي تحتمله عنعنة بن إسحاق. ومن طريق محمد بن
إبراهيم بن الحارث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي وابن ماجة. قال
محمد بن يحيى الذهلي ليس في أخبار عبد الله بن زيد أصح من حديث بن إسحاق عن
محمد بن إبراهيم التيمي يعني هذا لأن محمدا قد سمع من أبيه عبد الله بن زيد. وقال ابن
خزيمة في صحيحه: هذا حديث صحيح ثابت من جهة النقل لأن محمدا سمع من أبيه وابن
إسحاق سمع من التيمي وليس هذا مما دلسه. وقد صحح هذه الطريقة البخاري فيما حكاه
الترمذي في العلل عنه. قاله في غاية المقصود.
(وقال فيه ابن إسحاق عن الزهري) أي قال محمد بن إسحاق في روايته المذكورة عن
122

الزهري في هذا الحديث (الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر) أي في ألفاظ الأذان أن التكبير في
أول الأذان أربع مرات (وقال معمر ويونس عن الزهري فيه) أي في هذا الحديث (الله أكبر الله
أكبر) مرتان لا أربع مرات، وبهذا صرح بقوله (لم يثنيا) من باب التفعيل. قال الجوهري ثنيته
تثنية أي جعلته اثنين. وفي اللسان: وثنيت الشئ جعلته اثنين. وقال ابن رسلان: أي لم يثنيا
معمر ويونس في الرواية عن الزهري بأن جعله أربعا. وسمي التربيع تثنية لأن الله أكبر الله أكبر
كلمة واحدة ولهذا شرع جمع كل تكبيرتين في الأذان بنفس واحد كما ذكره النووي. انتهى.
قلت: وهذا اختلاف على الزهري في التكبير في الأذان، فروى محمد بن إسحاق عن
الزهري بتربيع التكبير في أول الأذان، وروى معمر ويونس عن الزهري: الله أكبر الله أكبر
مرتان لا أربع مرات، واتفقوا في ألفاظ الإقامة ورواية معمر ويونس أخرجهما البيهقي في سننه
الكبرى. وقال الحاكم في المستدرك حديث الزهري عن سعيد المسيب مشهور، رواه
يونس بن يزيد ومعمر بن راشد وشعيب بن أبي حمزة ومحمد بن إسحاق وغيرهم وأما اختيار
الكوفيين في هذا الباب فمدارها على حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى فمنهم من قال عن
معاذ بن جبل أن عبد الله بن زيد، ومنهم من قال عبد الرحمن عن عبد الله ابن زيد عن
آبائهم فغير مستقيمة الأسانيد. انتهى. قاله في غاية المقصود. قال الخطابي: روى هذا
الحديث والقصة بأسانيد مختلفة وهذا الإسناد أصحها، وفيه أنه ثنى الأذان وأفرد الإقامة، وهو
مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر
ونواحي المغرب إلى أقصى حجر من بلاد الاسلام، وهو قول الحسن البصري ومكحول
والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم، وكذلك
حكاه سعد القرطبي. وقد كان أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بقباء ثم استخلفه بلال زمن عمر بن
الخطاب فكان يفرد الإقامة فلم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون
الإقامة ويحكونه عن جدهم إلا أنه قد روى في قصة أذان أبي محذورة الذي علمه
رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين أن الأذان تسع عشر كلمة والإقامة سبع عشر كلمة. وقد رواه
أبو داود في هذا الكتاب إلا أنه قد روي من غير هذه الطريق أنه أفرد الإقامة غير أن التثنية عنه
أشهر إلا أن فيه إثبات الترجيع فيشبه أن يكون العمل من أبي محذورة ومن ولده بعده إنما استمر
على إفراد الإقامة إما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك بعد الأمر الأول بالتثنية، وإما لأنه قد بلغة أنه أمر
بلالا بإفراد الإقامة فاتبعه، وكان أمر الأذان ينقل من حال إلى حال وتدخله الزيادة والنقصان،
123

وليس أمور كل الشرع ينقلها رجل واحد، ولا كان وقع بيانها كلها ضربة واحدة. وقيل
لأحمد بن حنبل، وكان بأخذ في هذا بأذان بلال أليس أبي محذورة بعد أذان بلال وإنما
يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أليس لما عاد المدينة أقر بلالا
على أذانه. وكان سفيان الثوري وأصحاب الرأي يرون الأذان والإقامة منه مثنى، على حديث
عبد الله بن زيد، من الوجه الذي روى فيه بتثنية الإقامة. انتهى.
قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: حديث حسن
صحيح.
(عن أبيه) الضمير المجرور لمحمد، وأبوه هو عبد الملك (عن جده) الضمير المجرور
لمحمد، وجده أبو محذورة الصحابي (قال) أي أبو محذورة (علمني سنة الأذان) أي طريقته
في الشرع. قال الزيلعي: وهو لفظ ابن حبان في صحيحه واختصره الترمذي ولفظه عن أبي
محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعده وألقى عليه الأذان حرفا حرفا. قال بشر: فقلت له أعد علي
فوصف الأذان بالترجيع. انتهى. وطوله النسائي وابن ماجة وأوله: خرجت في نفر فلما كنا
ببعض الطريق أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: ثم قال لي ارجع فأمدد من صوتك أشهد أن
لا إله إلا الله الحديث. قال بعضهم: كان ما رواه أبو محذورة تعليما فظنه ترجيعا. وقال
الطحاوي في شرح الآثار: يحتمل أن الترجيع إنما كان لأن أبا محذور لم يمد بذلك صوته كما
أراده النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام: ارجع فامدد من صوتك انتهى. وقال ابن الجوزي في
التحقيق: إن أبا محذور كان كافرا قبل أن يسلم، فلما أسلم ولقنه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان أعاد عليه
الشهادة وكررها ليثبت عنده ويحفظها ويكررها على أصحابه المشركين فإنهم كانوا ينفرون منها
خلاف نفورهم من غيرها، فلما كررها عليه ظنها من الأذان فعده تسع عشرة كلمة. انتهى. قال
الزيلعي: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة في المعنى، ويردها لفظ أبي داود، قلت يا رسول الله
علمني سنة الأذان، وفيه ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها
صوتك ثم ترفع صوتك بها فجعله من سنة الأذان، وهو كذلك في صحيح ابن حبان ومسند
أحمد انتهى كلام الزيلعي.
124

قلت: وتؤيد هذه الرواية ما أخرجه الطبراني على ما نقله الزيلعي ولفظه عن سعيد بن
أبي عروبة عن عامر بن عبد الواحد عن مكحول عن عبد الله بن أبي محيريز عن أبي محذورة
قال: علمني النبي صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشر كلمة والإقامة سبع عشر كلمة.
(قال) أبو محذورة (فمسح) أي النبي صلى الله عليه وسلم (مقدم رأسي) ليحصل له بركة يده الموصولة
إلى الدماغ وغيره فيحفظ ما يلقي إليه ويملي عليه (قال تقول) بتقدير أن أي الأذان قولك، وقيل
أطلق الفعل وأريد به الحدث على مجاز ذكر الكل وإرادة البعض، أو خبر معناه الأمر أي قال
(ترفع بها صوتك) جملة حالية أو استئنافية مبينة (حي على الفلاح) معناه هلم، ومعنى الفلاح:
الفوز قال العيني قال ابن الأنباري: فيه ست لغات: حي هلا بالتنوين وفتح اللام بغير تنوين
وتسكين الهاء وفتح اللام بغير تنوين وفتح الهاء وسكون اللام وحي هلن وحي هلين. انتهى.
(فإن كان) أي الوقت أو ما يؤذن لها (صلاة الصبح) بالنصب أي وقته، وقيل بالرفع فكان تامة
(قلت) أي في أذانها (الصلاة خير من النوم) أي لذتها خير من لذته عند أرباب الذوق وأصحاب
الشوق، ويمكن أن يكون من باب العسل أحلى من الخل. قاله علي القاري. وفي الحديث
إثبات الترجيع وأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بنفسه أبا محذورة الأذان مع الترجيع. وفيه تربيع التكبير في
أول الأذان، والترجيع هو العود إلى الشهادتين مرتين مرتين برفع الصوت بعد قولها مرتين مرتين
بخفض الصوت. قال في النيل: وذهب الشافعي ومالك وأحمد وجمهور العلماء إلى أن
الترجيع في الأذان ثابت لهذا الحديث وهو حديث صحيح مشتمل على زيادة غير منافية،
فيجب قبولها، وهو أيضا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد قال في شرح مسلم: إن حديث أبي
محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين وحديث عبد الله بن زيد في أول الأمر، ويرجحه أيضا
عمل أهل مكة والمدينة به. قال النووي: وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير
125

بين فعل الترجيع وتركه، وفيه التثويب في صلاة الفجر. انتهى. وإنما اختص الرجيع بالتشهد
لأنه أعظم ألفاظ الأذان.
(وعبد الرزاق) هو معطوف على أبي عاصم (قال) ابن جريج (أخبرني أبي وأم عبد،
الملك) هو معطوف على أبي (نحو هذا الخبر) أي مثل حديث مسدد الذي سبق (وفيه) أي في
حديث أبي عاصم وعبد الرزاق وأما حديث عبد الرزاق فأخرجه الدارقطني بتمامه في سننه
(الصلاة خير من النوم في الأولى) أي في الأذان للصلاة الأولى (من الصبح) بيان للأولى وفي
رواية الدارقطني فإذا أذنت بالأولى من الصبح) (قال أبو داود: وحديث مسدد أبين) أي أتم
وأكمل في بيان ألفاظ الأذان من حديث الحسن بن علي وإن كان في حديث الحسن بن علي
زيادة ألفاظ الإقامة ما ليست في حديث مسدد، لكن رواية مسدد أتم بالنسبة إليه في ألفاظ
الأذان والله أعلم (قال فيه) أي قال ابن جريج في حديثه (وعلمني الإقامة مرتين مرتين الله أكبر
الله أكبر) كلمتان في أول الإقامة (فقلها) أي كلمة قد قامت الصلاة (أسمعت) الهمزة للاستفهام
يعني قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة: أسمعت ما قلت لك في أمر الأذان الإقامة (قال) أي
السائب (فكان أبو محذورة لا يجز) أي لا يقطع من باب قتل. يقال: جززت الصوف جزا أي
قطعته (ناصيته) أي شعر ناصيته.
126

(حدثنا همام) بن يحيى البصري أحد الأئمة الأثبات. قال أبو حاتم: ثقة صدوق في
حفظه شئ. وسئل عن أبان وهمام فقال همام: أحب إلي ما حدث من كتابه وإذا حدث من
حفظه فهما متقاربان. وقال الحسن بن علي الحلواني: سمعت عفان يقول: كان همام لا يكاد
يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه ثم رجع بعد فنظر في كتبه فقال:
يا عفان وسلم كنا نخطئ كثيرا فنستغفر الله قاله في غاية المقصود (أن ابن محيريز حدثه) أي مكحولا
(أن أبا محذورة حدثه) أي ابن محيريز (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه) أي أبا محذورة (الأذان تسع)
بتقديم التاء الفوقانية قبل السين المهملة (عشرة) بسكون الشين وتكسر (كلمة) مع الترجيع
(والإقامة) بالنصب عطفا على الأذان أي وعلمه الإقامة (سبع) بتقديم السين قبل الباء الموحدة
(عشرة) بالوجهين (كلمة) لأنه لا ترجيع فيها فانحذف منها كلمتان وزيدت الإقامة شفعا (الأذان
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر) أربع كلمات في أوله (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا
الله. أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله) بتثنية الشهادتين (أشهد أن لا إله
إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله) بترجيع
الشهادتين مثنى مثنى، هكذا في النسخ الصحيحة بإثبات ألفاظ الترجيع، وكذا في نسخ
المنذري. وقال الزيلعي: أخرج أبو داود عن همام بن يحيى عن عامر الأحول وفيه الأذان
تسع عشرة كلمة والإقامة بسبع عشرة كلمة، فذكر الأذان مفسرا بتربيع التكبير أوله وفيه
الترجيع، ورواه الترمذي والنسائي مختصرا لم يذكرا فيه لفظ الأذان والإقامة، إلا أن النسائي
قال ثم عدها أبو محذورة تسع عشرة كلمة وسبع عشرة كلمة. انتهى كلام الزيلعي.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام: إن في حديث همام ذكر الكلمات تسع
عشر وسبع عشر، وهذا ينفي الغلط في العدد بخلاف غيره من الروايات فإنه قد يقع فيها
اختلاف وإسقاط، وقد وجد متابع لهمام في روايته عن عامر كما أخرجه الطبراني عن سعيد بن
أبي عروبة عن عامر بن عبد الواحد عن مكحول عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة قال:
127

(علمني النبي صلى الله عليه وسلم الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة). انتهى كلامه. وهكذا
أخرجه الدارمي من طريق سعيد بن عامر عن همام عن عامر الأحول بإسناده بإثبات ألفاظ
الترجيع وكذا أخرجه الدارقطني والدارمي من طريق أبي الوليد الطيالسي مثله. وقال الحافظ
في التلخيص: حديث أبي محذورة أخرجه الشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان
ورواه مسلم من حديث أبي محذورة فذكر التكبير في أوله مرتين فقط. وقال ابن القطان:
الصحيح في هذا تربيع التكبير وبه يصح كون الأذان تسع عشرة كلمة، وقد يقع في بعض
روايات مسلم بتربيع التكبير وهي التي ينبغي أن تمد في الصحيح وقد رواه أبو نعيم في
المستخرج والبيهقي من طريق إسحاق بن إبراهيم عن معاذ بن هشام بسنده وفيه تربيع التكبير
وقال بعده: أخرجه مسلم عن إسحاق وكذلك أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من طريق علي بن
المديني عن معاذ انتهى وما وجد في بعض نسخ الكتاب بإسقاط ألفاظ الترجيع هو غلط قطعا
لا يعتبر به والله أعلم. قاله في غاية المقصود.
(حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح) بتثنية الحيعلتين
(الله أكبر الله أكبر) بتثنية التكبير (لا إله ألا الله) مرة واحدة فصارت كلمة الأذان تسع عشرة كلمة
بتربيع التكبير أوله وتثنية التكبير ويختم بلا إله إلا الله مرة (والإقامة الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله
أكبر) بتربيع التكبير في أولها (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا
رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله) بثنية الشهادتين (حي على الصلاة حي على الصلاة.
حي على الفلاح، حي على الفلاح) بتثنية الحيعلتين (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة)
مرتين (الله أكبر الله أكبر) بتثنية التكبير (لا إله إلا الله) مرة واحدة فهذه سبع عشرة كلمة (كذا في
كتابه في حديث أبي محذورة) يشبه أن يكون المعنى أن هكذا في كتاب همام بن يحيى في
حديث أبي محذورة بذكر ألفاظ الإقامة سبع عشرة كلمة، وهذا تثبيت لرواية همام ابن يحيى أنه
حدث هكذا من كتابه دون حفظه، وتقدم أن هماما كان صاحب كتاب، فإذا حدث من كتابه
128

أتقن فلا يقال إن هماما وهم في ذكر الإقامة كما قال البيهقي في المعرفة إن مسلم بن الحجاج
ترك رواية همام عن عامر واعتمد على رواية هشام عن عامر التي ليس فيها ذكر الإقامة. انتهى.
كلام البيهقي.
قلت: روى همام بن يحيى عن عامر الأحول في حديث أبي محذورة الترجيع والإقامة
كما في الكتاب، ورواه هشام الدستوائي عن عامر فيه الترجيع دون الإقامة كما أخرجه مسلم
عنه، لكن عدم تخريج مسلم له لا يقتضي لعدم صحته لأنه لم يلتزم إخراج كل الصحيح،
وعلى أنه قد تابع سعيد بن أبي عروبة هماما في روايته عن عامر كما تقدم فلا وهم لرواية همام
والله أعلم. قاله في غاية المقصود.
(أخبرني ابن عبد الملك) وفي رواية الدارقطني: أخبرني عبد العزيز بن عبد الملك بن
أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره، عنه وكان يتيما في حجر أبي محذورة. الحديث (عن
ابن محيريز) كذا في أكثر النسخ، وهكذا في تحفة الأشراف، وهو عبد الله بن محيريز، وفي
بعض النسخ عن ابن أبي محيريز وهو غلط (عن أبي محذورة) اسمه سمرة أو سلمة بن مغيرة.
قاله علي القاري في المرقاة (قال ألقى) أي أملى (علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو نفسه) التأذين
بمعنى الأذان. قال الطيبي: أي لقنني كل كلمة من هذه الكلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أبو
محذورة تصوير تلك الحالة ولهذا عدل عن الماضي إلى المضارع في قوله: ثم تعود فتقول.
انتهى. والظاهر أنه عدول عن الأمر إلى المضارع، قاله علي القاري (فمد من صوتك) أمر من
مد يمد. في الحديث إثبات الترجيع.
129

(قال) أي إبراهيم بن إسماعيل (سمعت جدي عبد الملك) هو بالنصب بدل عن جدي
(يذكر) أي عبد الملك (يقول) أبو محذورة (أشهد) أي أعلم وأبين (أن لا إله ألا الله) أي لا
معبود بحق في الوجود إلا الله (حي على الصلاة) قال الطيبي: معنى الحيعلتين هلم بوجهك
وسريرتك إلى الهدى عاجلا، والفوز بالنعيم اجلا انتهى. قال المنذري: حديث أبي محذورة
أخرجه مسلم مقتصرا منه على الأذان خاصة وفيه التكبير مرتين والترجيع، وأخرجه الترمذي،
والنسائي وابن ماجة مختصرا ومطولا انتهى. وفي الحديث إثبات الترجيع والقول في الفجر
الصلاة خير من النوم.
(الله أكبر الله أكبر) بتثنية التكبير في أول الأذان، ورواية تربيع التكبير في أول الأذان أكبر
(ثم ذكر) أي نافع بن عمر (مثل أذان حديث ابن جريج) أي في حديث نافع بن عمر تثنية
التكبير في أول الأذان بخلاف رواية ابن جريج فإن فيها تربيع التكبير في أول الأذان، وأما باقي
ألفاظ الأذان في رواية نافع بن عمر مثل ألفاظ الأذان لرواية ابن جرير التي مضت، ومعنى رواية
مع إثبات الرجيع (وفي حديث مالك بن دينار إلخ) يعني في رواية مالك بن دينار أيضا تثنية
130

التكبير في أول الأذان كما في رواية نافع بن عمر الجمحي عن عبد الملك، وقط بمعنى حسب
(وكذلك) أي مثل رواية نافع بن عمر بتثنية التكبير وباقي الألفاظ مثل رواية ابن جريج (عن
عمه) أي عمر ابن أبي محذورة (عن جده) أي جد ابن أبي محذورة (إلا أنه قال) أي جعفر بن
سليمان في حديثه (ثم ترجع فترفع صوتك) وفي حديث ابن جريج ثم ارجع فمد من صوتك
(الله أكبر الله أكبر) هذا بيان التشبيه، أي وكذلك حديث جعفر بتثنية التكبير: الله أكبر الله أكبر.
(سمعت ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن تابعي (أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال) أي نقلت
من حال إلى حال، قال ابن الأثير في النهاية: معناها غيرت ثلاث تغييرات أو حولت ثلاث
تحويلات. انتهى. يعني كانت الصلاة في ابتداء الاسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة وجوه،
والمراد من الإحالة التغيير يعني غيرت الصلاة ثلاثة تغييرات كما سيأتي بيانها، والمراد من
الصلاة الصلاة مع متعلقاتها ليتناول الأذان (قال) أي ابن أبي ليلى (وحدثنا أصحابنا) وفي رواية
لأحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، وهذا شروع في بيان الحال الأول من
الأحوال الثلاثة: قال المنذري. إن أراد الصحابة فهو قد سمع من جماعة الصحابة فيكون الحديث
مسندا وإلا فهو مرسل. انتهى قال ابن رسلان في شرح السنن: قال شيخنا الحافظ ابن حجر
في رواية أبي بكر ابن أبي شيبة وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي. حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
فتعين الاحتمال الأول، ولهذا صححها ابن حزم وابن دقيق العيد. انتهى كلامه. وقال الزيلعي
في نصب الراية بعد ذكر قول المنذري، قلت أراد به الصحابة، صرح بذلك ابن أبي شيبة في
مصنفه، فقال: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلا قام عليه بردان أخضران، فقام على حائط فأذن مثنى
مثنى وأقام مثنى مثنى. انتهى. وأخرجه البيهقي في سننه عن وكيع به. قال في الإمام: وهذا
131

رجال الصحيح، وهو متصل على مذهب الجماعة في عدالة الصحابة، وأن جهالة أسمائهم لا
تضر (أو قال المؤمنين) هو شك من الراوي (واحدة) أي بإمام واحد مع الجماعة لا منفردا وكان
الناس يصلون منفردا من غير جماعة (أن أبث رجالا) أي أنشرهم. إلا في المصباح المنير: بث
السلطان الجند في البلاد، أي نشرهم من باب قتل. انتهى. وحاصل المعنى أن أبعث رجالا
(في الدور) جمع دار أي في المحلات (ينادون الناس) ويخبرونهم (بحين الصلاة) قال ابن
رسلان: يحتمل أن تكون الباء بمعنى في أي وقت الصلاة كقوله تعالى: (وبالأسحار هم
يستغفرون أي في وقت الأسحار يستغفرون وقوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين
وبالليل) والصحيح أن الظرفية التي بمعنى في تدخل على المعرفة كما في هذه الأمثلة،
وتكون مع النكرة، كقوله تعالى: (نجيناهم بسحر) قال أبو الفتح: وتوهم بعضهم أنها لا تقع
إلا مع المعرفة، نحو كنا بالبصرة وأقمنا بالمدينة. انتهى (على الأطام) جمع الأطم بالضم. قال
ابن رسلان: بناء مرتفع، وآطام المدينة حصون لأهلها (حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا)
شك من الراوي. قال في فتح الودود: حتى نقسوا من نصر أي ضربوا بالناقوس، وجعله
بعضهم من التنقيس بمعنى الضرب بالناقوس (قال) أي ابن أبي ليلى (فجاء رجل من الأنصار)
وفي رواية لأحمد ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
(إني لما رجعت) من عندك يا رسول الله (لما رأيت من اهتمامك) بكسر اللام وفتح الميم علة
لقوله المقدم أي رجعت (رأيت رجلا) وهو جزاء لما رجعت (فقام) أي الرجل المرئي (عل
المسجد فأذن ثم قعد قعدة ثم قال فقال مثلها إلا أنه يقول قد قامت الصلاة) وفي رواية
الأحمداني أنه بينا أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال
الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله مثنى حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة قال مثل
الذي قال غير أنه يزيد في ذلك قد قامت الصلاة مرتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها بلالا فليؤذن
بها، فكان بلال أول من أذن بها. قال وجاء عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل
132

الذي طاف به غير أنه سبقني (ولولا أن يقول الناس) أي قال عمرو بن مرزوق أن يقول الناس
بصيغة الغائب (قال ابن المثنى) لفظ (أن تقولوا) بصيغة الخطاب مكان أن يقول الناس أي لولا
أخاف أن يقول الناس أنه كاذب (لقلت إني كنت يقظانا غير نائم) يعني أني في رؤياي هذه صادق
لا ريب فيها كأني رأيت الرجل المرئي الذي أذن وأقام في حال اليقظة لا في حال النوم. وقوله
لقلت جواب لولا، وغير نائم بفتح الراء المهملة تأكيد لقوله يقظان، وفي رواية الأحمداني وهو رأيت
فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت (وقال ابن المثنى لقد أراك الله خيرا ولم
يقل عمرو لقد أراك الله خيرا) هذه جملة معترضة، أي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أراك الله خيرا فمر
بلال، لكن هذه الجملة أي لقد أراك الله خيرا في رواية ابن المثنى وليست في رواية عمرو
(قال) ابن أبي ليلى (مثل الذي رأى) عبد الله بن زيد (ولكن لما سبقت استحييت) أن أقص
عليك رؤياي إلى هنا تم الحال الأول من الوجوه المحولة والتغيرات الثلاثة التي وقعت في
ابتداء الاسلام. وحاصل المعنى أن التغيير الأول من الوجوه المحولة والتغيرات الثلاثة هو أن
المؤمنين كانوا يصلون الصلاة ويؤدونها في ابتداء الاسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم منفردين من غير
أن يجتمعوا ويتفقوا على إمام واحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو يجتمع الناس وقت الصلاة ويؤدونها
كلهم أجمعون بإمام واحد لكان أحسن، فهذه الحالة تغيرت وتبدلت من الانفراد والوحدة إلى
الجماعة والاتفاق، وأما جوير النداء والأذان وبث الرجال في الدور فليس من الأحوال الثلاثة،
بل هو سبب لوصول وتحصيل هذه الحالة التي ذكرتها (قال) أي ابن ليلى (وحدثنا
أصحابنا) وهذا شروع في بيان الحال الثاني من الأحوال الثلاثة (قال كان الرجل إذا جاء) لأداء
الصلاة بالجماعة بعد أن استقر حكمها (يسأل) بصيغة المعروف عن المصلين كم صليت مع
الإمام وكم بقيت (فيخبر) بصيغة المجهول، أي فيخبره من دخل المسجد قبله ولم يدخل في
الصلاة، أو يحبره المصلون بإشارة كما سيأتي فأشاروا إليه وهذا هو الصحيح (بما سبق)
بصيغة المجهول أي بالقدر الذي سبق (من صلاته) أي الرجل المسبوق، وهذه الجملة بيان لما
الموصولة (وأنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع
133

رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كانوا قائمين مع النبي صلى الله عليه وسلم لكن ما كان كل من دخل في الجماعة يصنع كما
يصنع النبي صلى الله عليه وسلم بل بعضهم في القيام، وبعضهم في الركوع وبعضهم في القعدة، وبعضهم
يصنع كما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المراد بقوله ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنهم كانوا إذا
جاءوا ودخلوا المسجد يسألون عن المقدار الذي فات عنهم فيخبرون بما سبقوا من صلاتهم
فيلحقون النبي صلى الله عليه وسلم، يكن يؤدون ما سبقوا منها ثم يصنعون كما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا يفهم
المعنى من رواية الكتاب. ويحتمل أنهم لما دخلوا المسجد صلوا ما فات عنهم على حدة من
غير دخول في الجماعة، ولما فرغوا من أداء ما فات عنهم دخلوا في الجماعة وصلوا مع
النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا المعنى رواية أحمد في مسنده ولفظه (وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم
النبي صلى الله عليه وسلم بعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول: واحدة أو اثنتين فيصليها
ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها
ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها، قال: فثبت معه، فلما قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام فقضى) الحديث. قاله في غاية المقصود.
(قال ابن المثنى) بإسناده إلى شعبة (قال عمرو) بن مرة (وحدثني بها) أي بهذه الرواية
(حصين) بن عبد الرحمن السلمي الكوفي، روى عنه شعبة والثوري وثقه أحمد أي حدثني
حصين كما حدثني به ابن أبي ليلى (عن ابن أبي ليلى) فروى عمر بن مرة عن ابن أبي ليلى بلا
واسطة، وروى أيضا بواسطة حصين عن ابن أبي ليلى. قاله في غاية المقصود (حتى جاء معاذ)
يشبه أن يكون المعنى أن عمرو بن مرة روى عن حصين عن ابن أبي ليلى من أول الحديث إلى
هذا القول أي حتى جاء معاذ، وأما باقي الحديث فروى عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى نفسه.
قاله في غاية المقصود.
(قال شعبة) بن الحجاج (وقد سمعتها) هذه الرواية أنا أيضا (من حصين) بن عبد
الرحمن وزادني حصين على قوله: حتى جاء معاذ هذه الجملة آتية (فقال) معاذ (لا أراه على
حال إلى قوله) وهو إلا كنت عليها. قال فقال: إن معاذا قد سن لكم سنة (كذلك فافعلوا) ففي
رواية شعبة عن حصين: تم الحديث إلى قوله: كذلك فافعلوا. في رواية عمرو بن مرة عن
134

حصين تم الحديث. إلى قوله حتى جاء معاذ. قاله في غاية المقصود. (قال أبو داود ثم رجعت
إلى حديث عمرو بن مرزوق) لأنه أتم سياقا وأكثر بيانا من حديث ابن المثنى (قال) عمرو ابن
مرزوق بإسناده إلى ابن أبي ليلى (فجاء معاذ فأشاروا إليه) بالذي سبق به من الصلاة وأفهموه
بالإشارة أنه سبق بكذا وكذا ركعة (قال شعبه وهذه) الجملة (سمعتها) أي الجملة (من حصين)
كرر شعبة ذلك للتأكيد وإعلاما بأن عمرو ابن مرة وإن روى عن حصين إلى قوله: حتى جاء
معاذ لكن أنا أروي عن حصين إلى قوله: فافعلوا كذلك. ومحصل الكلام أن شعبة روى هذا
الحديث من طريقين. الأولى عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى وهو متن طويل من أول
الحديث إلى اخر الحديث. والثانية عن حصين عن ابن أبي ليلى وهو من أول الحديث إلى
قوله: إن معاذا قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا، وأما عمرو ابن مرة شيخ شعبة، فهو أيضا روى
الحديث من طريقين. الأولى عن ابن أبي ليلى، الثانية عن حصين عن ابن أبي ليلى، فرواية
عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى نفسه أطول وروايته عن حصين هي إلى قوله: حتى جاء معاذ،
فهي مختصرة. هذا يفهم من ظاهر عبارة الكتاب. والله أعلم بمراد المؤلف الامام. قاله في
غاية المقصود.
(قال) ابن أبي ليلى (فقال معاذ لا أراه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (على حال إلا كنت عليها) أي على
تلك الحالة ولا أؤدي ما سبقت بل أصنع كما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سلم اقضي ما سبقت وبيانه
أن معاذ بن جبل لما دخل المسجد لأداء الصلاة فأشار الناس إليه عما فات من صلاته على
عادتهم القديمة فرد معاذ بن جبل قولهم وقال لا أفعل هكذا ولا أؤدي الصلاة الفائتة أولا بل
أدخل في الجماعة مع القوم ونصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أي حال كان النبي صلى الله عليه وسلم من قيام أو
ركوع أو سجود أو قعود ثم أقضي الصلاة التي فاتت مني بعد إتمام النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وفراغه
منها. ويؤيد هذا المعنى ما في رواية لأحمد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى فجاء معاذ فقال لا
أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني، قال فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها
قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى. انتهى.
(قال) معاذ بن جبل (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (إن معاذا قد سن لكم إلخ) فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن فعل معاذ ورغب الناس عليه وأسلكهم على هذه الطريقة. فهذا تغير ثان للصلاة من فعل
135

الناس الذي كانوا عليه إلى فعل معاذ. وإلى ههنا تمت الحالة الثانية للصلاة. وفي رواية
لأحمد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. انتهى.
والحالة الثالثة ليست بمذكورة في هذا الحديث وإنما هي في الرواية الآتية إذا بعد هذا
الحديث وفيها قال الحال الثالث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى يعني نحو بيت المقدس
ثلاثة عشر شهرا. الحديث، ويجئ شرح الحديث هناك (قال) ابن أبي ليلى (أمرهم) أي
المسلمين (بصيام ثلاثة أيام) وفي الرواية الآتية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل
شهر ويصوم يوم عاشوراء (ثم أنزل رمضان) أي صوم رمضان (وكانوا قوما لم يتعودوا الصيام)
أي أن الناس لم تكن عادتهم بالصيام (وكان الصيام عليهم) أي على المسلمين (شديدا) لا
يتحملونه (فكان من لم يصم أطعم مسكينا) وهذا هو الحال الأول من الأحوال الثلاثة للصيام،
وفي الرواية الآتية: فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا
أجزأه ذلك فهذا حول الحديث فنزلت هذه الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) أي فمن
كان حاضرا مقيما غير مسافر فأدركه الشهر فليصمه. والشهود الحضور، وقيل: هو محمول
على العادة بمشاهدة الشهر وهي رؤية الهلال ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته) أخرجاه في الصحيحين. وإذا استهل الشهر وهو مقيم ثم أنشأ السفر في أثنائه جاز له أن
يفطر حال السفر لحديث ابن عباس الآتي. قاله الخازن في تفسيره. قال البغوي في المعالم
وبه قال أكثر الصحابة والفقهاء. قال الخازن: ويجوز له أن يصوم في بعض السفر وأن يفطر في
بعضه إن أحب، يدل عليه ما روى عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام فتح
في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطروا وأقطر الناس معه وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث
من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخرجاه في الصحيحين. انتهى كلام الخازن. وقال ابن عمر وعلي بن
أبي طالب رضي الله عنهما: من أدركه رمضان وهو مقيم ثم أنشأ السفر لا يجوز له الافطار كما
قال السيوطي في الدر المنثور بقوله: أخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن
علي قال: من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم لأن الله يقول: فمن شهد منكم
الشهر فليصمه وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر في قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه
قال من أدركه رمضان في أهله ثم أراد السفر فليصم. انتهى كلام السيوطي رحمه الله تعالى.
136

(فكانت الرخصة للمريض والمسافر فأمروا بالصيام) أي غير المريض والمسافر، وهذا
هو الحال الثاني للصيام. وفي رواية لأحمد.
وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام
وصيام عاشوراء، ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) إلى قوله: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين) فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه. ثم إن الله عز وجل أنزل
الآية الأخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القران) إلى قوله: (فمن شهد منكم الشهر
فليصمه) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وثبت
الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان للحديث.
(قال) ابن أبي ليلى (وكان الرجل إلخ) وفي رواية للبخاري: إذا كان الرجل صائما
فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى (قال) معاذ بن جبل (فجاء
عمر فأراد امرأته فقالت) امرأة عمر (إني قد نمت) قبل أن نأكل (فظن) أي عمر (أنها) أي امرأته
(تعتل) من الاعتلال أي تلهى وتزور من تزوير النساء ومعناه بالفارسية بهانه ميكتد. قال في
لسان العرب يقال: تعللت بالمرأة تعللا لهوت بها (فأتاها) أي فجامع امرأته (فجاء رجل من
الأنصار) إلى أهله وكان صائما (فأراد الطعام فقالوا) أي أهل بيته لهذا الرجل اصبر (حتى نسخن
لك شيئا) من التسخين أي نحمي لك (فنام) الرجل الأنصاري (فلما أصبحوا نزلت عليه) أي
على النبي صلى الله عليه وسلم (هذه الآية) الآتية (فيها) أي في هذه الواقعة (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم) وهذا هو الحال الثالث للصيام.
قال السيوطي في تفسير الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر
والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول لتغشي أي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس
والمس والمسيس الجماع، والرفث في الصيام الجماع، والرفث في الحج الإغراء به. انتهى.
137

(حدثنا ابن المثنى عن أبي داود) هو الطيالسي هذا هو الصحيح وهكذا في تحفة
الأشراف، وأما في بعض النسخ عن أبي رواد فهو غلط عن المسعودي هو عبد الرحمن بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي صدوق اختلط قبل موته وضابطه أن من سمع منه
بغداد فبعد الاختلاط، من السابعة مات سنة ستين وقيل سنة خمس وستين قاله في التقريب
(وساق نصر) بن المهاجر (واقتص ابن المثنى منه) أي من الحديث (قط) بمعنى حسب (قال)
ابن المثنى (الحال الثالث الخ) يعني كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين يصلون في أول
قدومهم المدينة نحو بيت المقدس ثلاثة عشر شهرا لموافقة يهود المدينة ويقصدون بيت
المقدس، وفي رواية لأحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: أحيلت
الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة
وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه: (قد نرى تقلب
وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها) الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول. انتهى. قلت:
وما في رواية أحمد: توجه النبي إلى) بيت المقدس سبعة عشرا شهرا هو الصحيح، وموافق
لما في صحيح البخاري وغيره ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا. وفي صحيح مسلم
والنسائي ستة عشر شهرا من غير شك، ورجحه النووي في شرح مسلم والحافظ في فتح
الباري، وما في رواية الكتاب ثلاثة عشر شهرا، فهو يعارض ما في الصحيحين وضعف
الحافظ ابن حجر رواية ثلاثة عشر شهرا، وأشبع الكلام فيه وأطاب والله أعلم ولما غلب أهل
الاسلام وتمنى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا ربه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فقبل الله تعالى
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم (فأنزل الله هذه الآية) الآتية (قد نرى تقلب وجهك) يعني تردد وجهك وتصرف
نظرك (في السماء) أي إلى جهة السماء (فلنولينك) أي فلنحولنك ولنصرفنك (قبلة) أي
ولنصرفنك عن بيت المقدس إلى قبلة (ترضاها) أي تحبها وتميل إليها (فول وجهك شطر
المسجد الحرام) أي نحوه وتلقاءه وأراد به الكعبة (وحيث ما كنتم) أي من بر أو بحر مشرق أو
138

مغرب (فولوا وجوهكم شطره) أي نحو البيت وتلقاءه فحولت القبلة، وهذه حالة ثالثة لتغير
الصلاة (وتم حديثه) أي ابن المثنى (وسمى نصر) بن المهاجر (وقال) أي نصر بن المهاجر
عن يزيد بن هارون (فيه) أي في هذا الحديث (فاستقبل القبلة) أي الرجل المرئي (ثم أمهل)
الرجل المرئي (هنية) أي زمانا قليلا (إلا أنه قال) أي عبد الله بن زيد (زاد) الرجل المرئي
(قال) معاذ بن جبل (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) لعبد الله بن زيد (لقنها) أي كلمة الأذان (فأذن بها
بلال) بهؤلاء الكلمات (وقال) نصر بن المهاجر بسنده (في الصوم قال) معاذ بن جبل (كتب)
أي فرض (عليكم الصيام) والصوم في اللغة الإمساك يقال: صام النهار إذا اعتدل وقام قائم
الظهيرة، ومنه قوله تعالى: (إني نذرت للرحمن صوما) أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام،
والصوم في الشرع عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والجماع في وقت مخصوص وهو من
طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية. قاله الخازن في تفسيره (كما كتب على الذين من
قبلكم) يعني من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، والمعنى أن الصوم عبادة قديمة أي في
الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم، وذلك لأن الصوم عبادة شاقة
والشئ الشاق إذا عم سهل عمله. قاله الخازن في تفسيره (لعلكم تتقون) يعني ما حرم عليكم
في صيامكم، لأن الصوم وصلة إلى التقوي لما فيه من كسر النفس وترك الشهوات من الأكل
والجماع، وغيرهما (أياما) نصب بالصيام أو يصوموا مقدرا (معدودات) أي قلائل أي مؤقتات
139

بعدد معلوم وهي رمضان، وقلله تسهيلا على المكلفين. قاله في تفسير الجلالين (فمن كان
منكم) حين شهود رمضان (مريضا أو على سفر) أي مسافر فأفطر (فعدة) فعليه عدة ما أفطر
(من أيام أخر) يصومها بدله (وعلى الذي يطيقونه) أي يطيقون الصوم. واختلف العلماء في
حكم هذا الآية لأكثرهم إلى أنها منسوخة، وهو قول عمر بن الخطاب وسلمة بن الأكوع
وغيرهما، وذلك أنهم كانوا في ابتداء الاسلام مخيرين بين ان يصوموا وبين أو يفطروا ويفدوا،
وإنما خيرهم الله تعالى لئلا يشق عليهم لأنهم كانوا لم يتعودوا الصوم، ثم نسخ التخيير ونزلت
العزيمة بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) فصارت هذا الآية ناسخة للتخيير.
قاله الخازن في تفسيره. وقال في تفسير الجلالين: معناها وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض
لا يرجى برؤه انتهى. أي بتقدير لا (فدية طعام مسكين) الفدية الجزاء وهو القدر الذي يبذله
الانسان يقي به نفسه من تقصير وقع منه في عبادة ونحوها ويجب على من أفطر في رمضان ولم
يقدر على القضاء لكبر أن يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من غالب قوت البلد، وهذا قول
فقهاء الحجاز. وقال بعض فقهاء العراق: عليه لكل مسكين نصف صاع عن كل يوم. قاله
الخازن في تفسيره (فهذا حول) أي حال.
(شهر رمضان) يعني وقت صيامكم شهر رمضان سمي الشهر شهرا لشهرته يقال للسر إذا
أظهره شهره، وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه. قاله الخازن (الذي أنزل فيه القرآن) من
اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه (هدى) حال هاديا من الضلالة (للناس
وبينات) آيات واضحات (من الهدى) مما يهدي إلى الحق من الأحكام (والفرقان) أي من
الفرقان مما يفرق بين الحق والباطل (فمن شهد منكم) أي حضر (ومن كان مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر) إنما كرره لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المريض والمسافر
والمقيم الصحيح، ثم نسخ تخيير المقيم الصحيح بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
فلو اقتصر على هذا لاحتمل ان يشمل النسخ الجميع، فأعاد بعد ذكر الناسخ الرخصة للمريض
140

والمسافر ليعلم أن الحكم باق على ما كان عليه. قاله الخازن في تفسيره (وجاء صرمة هو
صحابي (وساق) أي نصر بن المهاجر عن يزيد بن هارون (الحديث) وتمام الحديث في رواية
لأحمد ولفظه قال: ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة ظل يعمل صائما حتى أمسى فجاء
إلى أهله فصلى العشاء، ثم نام، فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائما. قال فرآه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جهد جهدا شديدا قال مالي أراك قد جهدت جهدا شديدا؟ قال
يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفس فنمت وأصبحت حين أصبحت
صائما. قال وكان عمر قد أصاب من النساء من جارية أو من حرة بعدما نام وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك
له، فأنزل الله عز وجل: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم إلى قوله: ثم أتموا الصيام إلى
(الليل).
(باب في الإقامة)
(عن سماك بن عطية) هو بكسر السين المهملة وتخفيف الميم وبالكاف بصري ثقة روى
عن أيوب السختياني وهو من أقرانه. قاله العيني في عمدة القاري (أمر بلال) على بناء
المجهول. قال الخطابي: معناه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أمره
بذلك، والأمر مضاف إليه دون غيره، لأن الأمر المطلق في الشريعة لا يضاف إلا إليه. وقد زعم
بعض أهل العلم أن الأمر له بذلك أبو بكر، وهذا تأويل فاسد لأن بلالا لحق بالشام بعد موت
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستخلف سعد القرظ الأذان في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى. قلت ويؤيده: ما في رواية النسائي وغيره من طريق قتيبة عن عبد الوهاب
بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا) وما في البيهقي بالسند الصحيح عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) (أن يشفع الأذان) بفتح أوله وفتح الفاء أي بأن يأتي بألفاظه
شفعا، أي يقول كل كلمة مرتين سوى آخرها. قاله الطيبي. (وبوتر الإقامة) والمراد من
الإقامة: هو جميع الألفاظ المشروعة عند القيام إلى الصلاة. أي ويقول كلمات الإقامة مرة مرة
141

(زاد حماد في حديثه إلا الإقامة) أي لفظ الإقامة، وهي قوله: قد قامت الصلاة، فإنه لا يوترها
بل يشفعها.
قال الشوكاني في النيل: وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة فإنه يثنى كما تقدم
في حديث عبد الله بن زيد، وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير الأذان، فإن التكبير في أول
الأذان أربع، وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في اخره كما قال الحافظ وأنت خبير بأن
ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة مقبولة، والحديث
يدل على إفراد الإقامة. وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد وجمهور العلماء
إلى أن ألفاظ الإقامة إحدى عشرة كلمة كلها مفردة إلا التكبير في أولها وآخرها ولفظ قد قامت
الصلاة فإنها مثنى مثنى. واستدلوا بهذا الحديث وحديث عبد الله ابن زيد السابق وحديث
عبد الله بن عمر الآتي.
قال ابن سيد الناس. وقد ذهب إلى قول بأن الإقامة إحدى عشرة كلمة عمر بن
الخطاب وابنه وأنس والحسن البصري والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور
ويحيى بن يحيى وداود وابن المنذر وذهبت الحنفية والثوري وابن المبارك وأهل الكوفة إلى أن
ألفاظ الإقامة مثل الأذان عندهم مع زيادة قد قامت الصلاة مرتين. انتهى.
قال الحافظ في الفتح: وهذا الحديث حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان،
وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ وأن إفراد الإقامة كان أولا ثم نسخ بحديث أبي محذورة -
يعني الذي رواه أصحاب السنن - وفيه تثنية الإقامة وهو متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخا،
وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع والترجيع، فكان يلزمهم
القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع
بعد الفتح إلى المدينة وأقر بلالا على إفراد الإقامة وعلمه سعد القرظ فأذن به بعده كما رواه
الدارقطني والحاكم. وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك
من الاختلاف المباح، فإن ربع التكبير الأولى في الأذان أو ثناه أو رجع في التشهد أو لم يرجع أو
ثنى الإقامة أو أفردها كلها أو إلا قد قامت الصلاة فالجميع جائز. وعن ابن خزيمة: إن ربع
الأذان ورجع فيه ثنى الإقامة وإلا أفردها، وقيل: لم يقل بهذا التفصيل أحد قبله. والله أعلم.
قيل: الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان علام الغائبين فيكرر ليكون
أوصل إليهم، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال
142

بخلاف الإقامة وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة، وأن يكون الأذان مرتلا
وإقامة مسرعة، وكرر قد قامت الصلاة لأنها المقصودة من الإقامة بالذات.
قلت: توجيهه ظاهر، وأما قول الخطابي لو سوى بينهما لاشتبه الأمر عند ذلك وصار لأن
يفوت كثيرا من الناس صلاة الجماعة ففيه نظر لأن الأذان يستحب أن يكون على مكان عال
لتشترك الأسماع كما تقدم، وإنما اختص الترجيع بالتشهد لأنه أعظم ألفاظ الأذان. والله أعلم.
انتهى.
(عن خالد الحذاء) بن مهران أو المنازل بفتح الميم وقيل بضمها وكسر الزاي البصري
الحذاء بفتح المهملة وتشديد الذال المعجمة، قيل له ذلك لأنه كان يجلس عندهم، وقيل لأنه
كان يقول أحد على هذا النحو، وهو ثقة يرسل من الخامسة قاله الحافظ في التقريب (قال
إسماعيل) بن إبراهيم هو ابن علية. قاله العيني (فحدثت به) أي بهذا الحديث (أيوب) هو
السختياني (فقال) أيوب (إلا الإقامة) أي إلا لفظة الإقامة وهي قد قامت الصلاة، فإن بلالا
يقولها مرتين. قال الحافظ في الفتح: ادعى ابن مندة أن قوله إلا الإقامة من قول أيوب غير مسند
كما في رواية إسماعيل بن إبراهيم، وأشار إلى أن في رواية سماك بن عطية أي التي سبقت
إدراجا، وكذا قال أبو محمد الأصيلي قوله إلا الإقامة هو من قول أيوب وليس من الحديث،
وفيما قالاه نظر، لأن عبد الرزاق رواه عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا ولفظه:
كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة إلا قوله قد قامت الصلاة. وأخرجه أبو عوانة في صحيحه
والسراج في مسنده، وكذا هو في مصنف عبد الرزاق، وللإسماعيلي هذا من هذا الوجه ويقول قد
قامت الصلاة مرتين. والأصل أن ما كان في الخبر فهو منه حتى يقوم دليل على خلافه، ولا دليل
في رواية إسماعيل، لأنه إنما يتحصل منها أن خالدا كان لا يذكر الزيادة وكان أيوب يذكرها،
وكل منهما روى الحديث عن أبي قلابة عن أنس فكان في رواية أيوب زيادة من حافظ فتقبل.
والله أعلم. انتهى قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن
ماجة.
(إنما كان الأذان) أي ألفاظه من الجمل (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في عهده (مرتين
143

مرتين) قال علي في المرقاة: خص التكبير عن التكرير عند الجمهور في أول الأذان، فإنه أربع
خلافا لمالك لما تقدم، وخص التهليل عنه في اخره عند الكل فإنه وتر. وهذا الحديث فظاهره
يدل على نفي الترجيع. انتهى. قلت: رواية تربيع التكبير في أول الأذان وآخره كثيرة،
والترجيع وإن كان غير مذكور في هذا الحديث، لكن ثبت الترجيع بإسناد صحيح من حديث
أبي محذورة الصحابي، والزيادة أحرى بالقبول (والإقامة) أي كلماتها (مرة مرة) ظاهر
الحديث يدل على أن كل ألفاظ الإقامة مرة مرة، لكن ينبغي استثناء التكبير أولا وآخرا، فإنه
مرتين مرتين لحديث عبد الله بن زيد السابق والحديث يفسر بعضها بعضا (غير أنه) أي المؤذن
(يقول) أي في الإقامة (قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) أي مرتين، والمعنى قاربت
قيامها. وفي النهاية: قام أهلها أو حان قيام أهلها، وقيل عبر بالماضي إعلاما بأن فعلها القريب
الوقوع كالمحقق حتى يتهيأ له ويبادر إليه. قاله علي (قال شعبة لم أسمع عن أبي جعفر غير هذا
الحديث) قال ابن دقيق العيد: وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وأبو جعفر هذا قال أبو زرعة
لا أعرفه إلا في هذا الحديث. قاله في غاية المقصود. وقال المنذري: والحديث أخرجه
النسائي.
(عبد الملك بن عمرو) هو بدل عن أبي عامر (عن أبي جعفر) قال الحافظ في
التلخيص: قال ابن حبان اسمه محمد بن مسلم بن مهران. وقال الحاكم اسمه عمير بن
يزيد بن حبيب الخطمي، ووهم الحاكم في ذلك. انتهى. وقال في التهذيب والخلاصة:
محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران القرشي مولاهم الكوفي أو البصري عن جده وعنه شعبة
ويحيى القطان قال ابن معين والدارقطني: ليس به بأس، وقال ابن عدي: ليس له من
الحديث إلا يسير لا يتبين صدقه من كذبه. انتهى. وفي رواية الطحاوي حدثنا شعبة عن أبي
جعفر الفراء. انتهى. وأبو جعفر الفراء اسمه سليمان وقيل كيسان وقيل زياد وهو غير أبي جعفر
المؤذن ثم المتقدم قاله في غاية المقصود (مؤذن مسجد العريان) بضم العين وسكون الراء ثم ياء
تحتانية، كذا في أكثر النسخ الصحيحة. وفي بعضها بالباء الموحدة والصحيح المعتمد هو
144

الأول، قيل عريان موضع بالكوفة، وفي رواية النسائي سمعت أبا جعفر مؤذن مسجد العريان
في مسجد بني هلال، وقال في التقريب: أبو جعفر مؤذن مسجد العريان اسمه محمد بن
إبراهيم بن مسلم. قاله في غاية المقصود (سمعت أبا المثنى مؤذن مسجد الأكبر) وفي رواية
النسائي عن مسلم أبي المثنى مؤذن المسجد الجامع. وفي رواية الطحاوي عن مسلم مؤذن
كان لأهل الكوفة. قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: وأبو المثنى مسلم بن المثنى وقيل
مهران، قال أبو عمر: كوفي ثقة. قاله في غاية المقصود (وساق الحديث) أي محمد بن يحيى
أو أبو المثنى.
(باب الرجل يؤذن ويقيم آخر)
(في الأذان أشياء) أي البوق والناقوس والقرن (قال) أي محمد بن عبد الله (في المنام)
أي في الرؤية (فأتى) أي عبد الله بن زيد (فأذن بلال) قال الحافظ في الفتح: قيل مناسبة
اختصاص بلال بالأذان دون غيره لكونه كان لما عذب ليرجع عن اسلام فيقول أحد أحد،
فجوزي بولاية الأذان المشتملة على التوحيد في ابتدائه وانتهائه وهي مناسبة حسنة في
اختصاص بلال بالأذان (أنا رأيته) أي الأذان في المنام (وأنا كنت أريده) أي أن أقيم، ويؤيد
هذا المعنى ما في رواية لأحمد ولفظه فقال ألقه على بلال، فألقيته فأذن فأراد أن يقيم. فقلت:
يا رسول الله أنا رأيت أريد أن أقيم قال فأقم أنت فأقام هو وأذن بلال (قال) النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن زيد
(فأقم أنت) أي الإقامة قال الشوكاني في النيل: أستدل به من قال بعدم أولوية المؤذن بالإقامة. وفي
إسناده محمد بن عمرو الواقفي الأنصاري البصري وهو ضعيف ضعفه القطان وابن نمير ويحيى بن
معين واختلف عليه فيه، فقيل عن محمد بن عبد الله وقيل عبد الله بن محمد. قال ابن عبد البر:
145

إسناده أحسن من حديث الإفريقي الآتي. وقال البيهقي: إن صحا لم يتخالفا لأن قصة الصدائي بعد
وذكره ابن شاهين في الناسخ وله في طريق أخرى أخرجها أبو الشيخ عن ابن عباس قال: كان أول من أذن
في الاسلام بلال وأول من أقام عبد الله بن زيد قال الحافظ: وإسناده منقطع لأنه رواه الحكم عن
مقسم عن ابن عباس، وهذا من الأحاديث التي لم يسمعها الحكم من مقسم. وأخرجه الحاكم وفيه
أن الذي أقام عمرو المعروف أنه عبد الله بن زيد انتهى.
(بهذا الخبر) الذي مر (قال) عبد الله بن محمد (فأقام جدي) أي عبد الله ابن زيد وهذه
الزيادة ليست في الرواية السابقة.
(زياد بن الحارث) هو حليف لبني الحارث بن كعب بايع النبي صلى الله عليه وسلم وأذن بين يديه
ويعد في البصريين قاله الطيبي (الصدائي) بضم الصاد منسوب إلى صداء ممدودا وهو حي من
اليمن. قاله ابن الملك (لما كان أول أذان الصبح) أي لما كان الوقت لأول أذان الصبح، وهو
في هذا الحديث قبل طلوع الفجر وسيجئ بيانه وتعبيره بالأول باعتبار الإقامة فإنها ثانية
(أمرني) أن أذن في صلاة الفجر (فأذنت) ولعله كان بلال غائبا فحضر (فجعل ينظر) أي النبي صلى الله عليه وسلم
(فيقول لا) أي ما جاء وقت الإقامة (نزل) يشبه أن يكون نزول النبي صلى الله عليه وسلم من الراحلة (فبرز) أي
توضأ النبي صلى الله عليه وسلم (وقد تلاحق أصحابه) وكانوا متفرقين وكانت هذه واقعة سفر كما قال الحافظ
(يعني فتوضأ) هذا تفسير لبرز من بعض الرواة (أن يقيم) على عادته (ومن أذن فهو يقيم) أي
إقامة.
146

قلت: هذا الحديث يدل على مسألتين، المسألة الأولى أنه يكتفي الأذان قبل الفجر عن
إعادة الأذان بعد الفجر لأن فيه إنه أذن قبل الفجر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استأذنه في الإقامة فمنعه
إلى أن طلع الفجر فأمره فأقام. والمسألة الثانية أن من أذن فهو يقيم. أما الكلام في المسألة
الأولى فبأن في إسناده ضعف وأيضا فهي واقعة عين وكانت في سفر فلا تقوم به الحجة، وأيضا
حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري في صحيحه ولفظه: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا
حتى يؤذن ابن أم مكتوم) يشعر بعدم الاكتفاء، ولا شك أن حديث الصدائي مع ضعفه لا يقاوم
حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري، هذا ملتقط من فتح الباري. وأما الكلام في المسألة
الثانية فبأن الحديث وإن كان ضعيفا لكن له شواهد وإن كانت الشواهد ضعيفة أيضا وأن
الإقامة حق لمن أذن وما ورد في خلافه حديث صحيح. قال في سبل السلام: والحديث دليل
على أن الإقامة حق لمن أذن فلا تصح من غيره، وعضد حديث الباب حديث ابن عمر بلفظ
(مهلا يا بلال بإنما يقيم من أذن) أخرجه الطبراني والعقيلي وأبو الشيخ وإن كان قد ضعفه أبو
حاتم وابن حبان انتهى. قال الشوكاني في النيل: الحديث في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن
أنعم الإفريقي عن زياد بن نعيم الحضرمي عن زياد بن الحارث الصدائي. قال الترمذي إنما
نعرفه من حديث الإفريقي وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان
وغيره. وقال أحمد لا أكتب حديث الإفريقي، قال ورأيت محمد بن إسماعيل يقوي أمره ويقول
هو مقارب الحديث، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن من أذن فهو يقيم. قال الحارمي
في كتابه الناسخ والمنسوخ: واتفق أهل العلم في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز،
اختلفوا في الأولوية فقال أكثرهم لا فرق والأمر متسع، وممن رأى ذلك مالك وأكثر أهل
الحجاز وأبو حنيفة وأكثر أهل الكوفة وأبو ثور. وقال بعض العلماء من أذن فهو يقيم قال
الشافعي وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة. وقد عرفت تأخير حديث الصدائي هذا
وأرجحية الأخذ به على أنه لو لم يتأخر لكان حديث عبد الله بن زيد السابق خاصا به والأولوية
باعتباره غيره من الأمة. وقال الحافظ اليعمري: والأخذ بحديث الصدائي أولى لأن حديث
عبد الله بن زيد السابق كان أول ما شرع الأذان في السنة الأولى وحديث الصدائي بعده بلا
شك انتهى. وقد مضى بعض بيانه في حديث عبد الله بن زيد السابق. قال المنذري:
والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة.
147

(باب رفع الصوت بالأذان)
وقد ترجم النسائي بقوله باب الثواب على رفع الصوت بالأذان.
(مدى صوته) بفتح الميم والدال. قال الخطابي في معالم السنن وابن الأثير في النهاية:
مدى الشئ غايته، والمعنى أن يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت
فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت. وقيل فيه وجه اخر وهو أنه كلام تمثيل وتشبيه
يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكونه ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه
ذنوب تملأ تلك المسافة غفرها الله له انتهى. وقال في المرقاة قيل معناه أي له مغفرة طويلة
عريضة على طريق المبالغة أي يستكمل مغفرة الله إذا استوفى وسعه في رفع الصوت. وقيل
يغفر خطاياه وإن كانت بحيث لو فرضت أجساما لملأت ما بين الجوانب التي يبلغها. المدى
على الأول نصب على الظرف وعلى الثاني رفع على أنه يقيم مقام الفاعل، وقيل معناه يغفر
لأجله كل من سمع صوته فحضر للصلاة المسببة لندائه فكأنه غفر لأجله، وقيل معناه يغفر ذنوبه
التي باشرها في تلك النواحي إلى حيث يبلغ صوته، وقيل معناه يغفر بشفاعته ذنوب من كان
ساكنا أو مقيما إلى حيث يبلغ صوته، وقيل يغفر بمعنى يستغفر أي يستغفر له كل من يسمع
صوته انتهى (ويشهد له) أي للمؤذن (كل رطب) أي نام (ويابس) أي جماد مما يبلغه صوته وفي
رواية للبخاري (فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ
إلا شهد له يوم القيامة) قال الحافظ في الفتح قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة
والتسبيح لا يكون إلا من حي فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأن الموجودات ناطقة بلسان
حالها بحلال باريها أو هو على ظاهره وغير ممتنع عقلا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام انتهى.
وقال في المرقاة: والصحيح أن للجمادات والنباتات والحيوانات علما وإدراكا و تسبيحا كما
يعلم من قوله تعالى: (وإن منها لما يهبط من خشية الله) وقوله تعالى: (وإن من شئ إلا
يسبح بحمده) قال البغوي: وهذا مذهب أهل السنة ويدل عليه قضية كلام الذئب والبقر
وغيرهما انتهى. قلت: ويدل على صحة هذا القول ما في رواية مسلم من حديث جابر بن
148

سمرة مرفوعا (إني لأعرف حجرا كان يسلم علي) وما في رواية الصحيحين في قول النار (أكل
بعض بعضا) قال التوربشتي: المراد من هذه الشهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل
وعلو الدرجة وكما أن الله يفضح بالشهادة قوما فكذلك بكرم بالشهادة آخرين.
(وشاهد الصلاة) أي حاضرها ممن كان غافلا عن وقتها. وقال الطيبي: هو عطف على
قوله: (المؤذن يغفر له) أي والذي يحضر لصلاة الجماعة (يكتب له) أي للشاهد (خمس
وعشرون) أي ثواب خمس وعشرين (صلاة) وقيل بعطف شاهد على كل رطب أي يشهد
للمؤذن حاضرها يكتب له أي للمؤذن خمس وعشرون صلاة، ويؤيد الأول ما في رواية تفضيل
صلاة الجماعة على الفذ بسبع وعشرين درجة. قلت: وفي رواية صحيحة بخمس وعشرين
صلاة، وهي للمطابقة أظهر، ولعل اختلاف الروايات باختلاف الحالات والمقامات. ويؤيد
الثاني ما سيأتي من رواية أن المؤذن يكتب له مثل أجر كل من صلى بأذانه، فإذا كتب لشاهد
الجماعة بأذانه ذلك كان فيه إشارة إلى كتب مثله للمؤذن، ومن ثم عطفت هذه الجملة على
المؤذن يغفر له لبيان أن له ثوابين المغفرة وكتابة مثل تلك الكتابة. والأظهر عندي أن شاهد
الصلاة عطف على كل رطب عطف خاص على عام لأنه مبتدأ كما اختاره الطيبي، ثم يحتمل
أن يكون الضمير في يكتب له للشاهد وهو أقرب لفظا وسياقا أو للمؤذن وهو أنسب معي وسياقا.
كذا في المرقاة (ويكفر عنه) أي الشاهد أو المؤذن (ما بينهما) أي ما بين الصلاتين اللتين
شهدهما أو ما بين أذان إلى أذان من الصغائر. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي وابن
ماجة وأبو يحيى هذا لم ينسب فيعرف حاله.
(إذا نودي بالصلاة) وفي رواية البخاري: (إذا نودي للصلاة) والباء للسببية كما في قوله
تعالى: (فكلا أخذنا بذنبه) أي بسبب ذنبه ومعناه: إذا أذن لأجل الصلاة وبسبب الصلاة،
ومعنى التعليل قريب من معنى السببية قاله العيني (أدبر) أي عن موضع الأذان الإدبار نقيض
الإقبال، يقال دبر وأدبر إذا ولى (الشيطان) قال في الفتح: الظاهر أن المراد بالشيطان إبليس
وعليه يدل كلام كثير من الشراح، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان وهو كل متمرد من الجن
والإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة (وله ضراط) بضم المعجمة كغراب وهو ريح
من أسفل الانسان وغيره، وهذا لثقل الأذان عليه كما للحمار من ثقل الحمل. قاله علي
القاري. وقال الحافظ في الفتح: هو جملة اسمية وقعت حالا. وقال عياض: يمكن حمله على
149

ظاهره لأنه جسم متغذ يصح منه خروج الريح ويحتمل أنها عبارة عن شدة نفاره. انتهى. قال
الطيبي شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع ويمنعه عن سماع
غيره ثم سماه ضراطا تقبيحا له (حتى لا يسمع التأذين) هذه غاية دباره ولا وقد وقع بيان الغاية في
رواية لمسلم من حديث جابر فقال: (حتى يكون مكان الروحاء) وحكى الأعمش عن أبي
سفيان رواية عن جابر أن بين المدينة والروحاء ستة وثلاثين ميلا، وقوله: (حتى لا يسمع) تعليل
لإدباره. انتهى.
قال الحافظ. ظاهره أنه يتعمل اخراج ذلك، إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه
عن سماع المؤذن أو يصنع ذلك استخفافا كما يفعله السفهاء، ويحتمل أن لا يتعمد ذلك بل
يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، ويحتمل أن يعتمد ذلك
ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث. واستدل به على استحباب رفع الصوت بالأذان لأن
قوله حتى لا يسمع ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت (فإذا قضى النداء)
) بضم أوله على صيغة المجهول، والمراد بالقضاء الفراغ أو الانتهاء، ويروي بفتح أوله على
صيغة المعروف على حذف الفاعل والمراد المنادي (أقبل) الشيطان. زاد مسلم في رواية أبي
صالح عن أبي هريرة (فوسوس) (حتى إذا ثوب بالصلاة) بضم الثاء المثلثة وتشديد الواو
المكسورة أي حتى إذا أقيم للصلاة. قال الخطابي: التثويب ها هنا الإقامة والعامة لا تعرف
التثويب إلا قول المؤذن في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم حسب، ومعنى التثويب الإعلام
بالشئ والإنذار بوقوعه وأصله أن يلوح الرجل لصاحبه بثوبه فينذره عن الأمر يرهقه من خوف أو
عدو ثم كثر استعماله في كل إعلام يجهر به صوته، وإنما سميت إقامة تثويبا، لأنه إعلام
بإقامة الصلاة. ويقال ثاب الشئ إذا رجع والأذن إعلام بوقت الصلاة انتهى. وقال الحافظ
في الفتح: قيل هو من ثاب إذا رجع وقيل من ثوب إذا أشار بثوبه عند الفراغ لأعلام غيره. قال
الجمهور: المراد بالتثويب هنا إقامة وبذلك جزم أبو عوانة في صحيحه والخطابي والبيهقي
وغيرهم. قال القرطبي: ثوب بالصلاة إذا أقيمت، وأصله أنه رجع إلى ما يشبه الأذان، وكل من
ردد صوتا فهو مثوب، ويدل عليه وراية مسلم في رواية أبي صالح عن أبي هريرة: (فإذا سمع
الإقامة ذهب (حتى يخطر) بضم الطاء. قال عياض: كذا سمعناه من أكثر الرواة وضبطناه عن
المتقنين بالكسر وهو الوجه، ومعناه يوسوس وأصله من خطر البعير بذنبه إذا حركه فضرب به
فخذيه، وأما بالضم فمن المرور أي يدنو منه فيمر بينه وبين قلبه فيشغله، وصف الهجري في
150

نوادره: الضم مطلقا وقال: وهو يخطر بالكسر في كل شئ. قاله الحافظ في الفتح (بين المرء
ونفسه) أي قبله. قال العيني: وبهذا التفسير يحصل الجواب عما قيل كيف يتصور خطوره بين
المرء ونفسه وهما عبارتان عن شئ واحد، وقد يجاب بأن يكون تمثيلا لغاية القرب منه.
انتهى. قال الباجي: المعنى أنه يحول بين المرء وبين ما يريده من إقباله على صلاته وإخلاصه
فيها (لما لم يكن يذكر) أي لشئ لم يكن على ذكره قبل دخوله في الصلاة. وفي رواية لمسلم
(لما لم يكن يذكر من قبل) قيل: خصه بما يعلم دون ما لم يعلم لأنه يميل لما يعلم أكثر لتحقق
وجوده، والذي يظهر أنه لأعمر من ذلك، فيذكره بما سبق له به علم ليشغل باله به، وبما لم يكن
سبق له ليوقعه في الفكرة فيه (حتى يظل الرجل) قال الطيبي: كرر حتى في الحديث خمس
مرات الأولى والأخيرتان بمعنى كي والثانية والثالثة دخلتا على الجملتين الشرطيتين وليستا
للتعليل. انتهى. قال في الفتح: كذا للجمهور بالظاء المشالة المفتوحة. ومعنى يظل في
الأصل اتصاف لمخبر عنه بالخبر نهارا لكنها هنا بمعنى يصير أو يبقى، ووقع عند الأصيلي:
يضل بكسر الضاد الساقطة أي ينسى ومنه قوله تعالى: (أن تضل إحداهما) أو بفتحها أي
يخطئ، ومنه قوله تعالى: (لا يضل ربي ولا ينسى) والمشهور الأول. انتهى. (إن يدري)
وفي رواية للبخاري: (لا يدري) قال الحافظ في الفتح: إن بكسر الهمزة وهي نافية بمعنى لا،
وحكى ابن عبد البر عن الأكثر في الموطأ فتح الهمزة. وقال القرطبي: ليست رواية الفتح
بشئ، إلا مع رواية الضاد الساقطة فتكون إن مع الفعل بتأويل المصدر ومفعول ضل إن
بإسقاط حرف الجر أي يضل عن درايته (كم صلى) وفي رواية للبخاري في بدء الخلق عن أبي
هريرة (حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا).
وقد اختلف العلماء في الحكمة في هروب الشيطان عن سماع الأذان والإقامة دون
سماع القران والذكر في الصلاة، فقيل يهرب حق لا يشهد للمؤذن يوم القيامة فإنه لا يسمع
مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له، وقيل: لأن الأذان دعاء إلى الصلاة المشتملة
على السجود الذي أباه وعصي بسببه وغير ذلك. قال ابن بطال: يشبه أن يكون الزجر عن
خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى لئلا يكون متشبها بالشيطان الذي
يفر عند سماع الأذان. والله أعلم. قال في الفتح. قال المنذري. والحديث أخرجه البخاري،
ومسلم والنسائي.
151

(باب ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت)
أي محافظته.
(الإمام ضامن) أي متكفل لصلاة المؤتمين بالإتمام، فالضمان هنا ليس بمعنى الغرامة
بل يرجع إلى الحفظ والرعاية. قال الخطابي: قال أهل اللغة الضامن في كلام العرب معناه
الراعي، والضمان الرعاية، فالامام ضامن بمعنى أنه يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم،
وقيل معناه ضمان الدعاء يعمهم به ولا يختص بذلك دونهم، وليس الضمان الذي يوجب
الغرامة من هذا بشئ. وقد تأوله قوم على معنى أنه يتحمل القراءة عنهم في بعض الأحوال،
وكذلك يتحمل القيام أيضا إذا أدركه المأموم راكعا (والمؤذن مؤتمن) قال ابن الأثير في النهاية:
مؤتمن القوم الذي يثقون إليه ويتخذوا أمينا حافظا، يقال: المؤتمن الرجل فهو مؤتمن، يعني
أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم. انتهى. قال السيوطي في مرقاة الصعود: ولابن
ماجة من حديث ابن عمر مرفوعا (خصلتان معلقتان في أعناق المؤذنين للمسلمين صلاتهم
وصيامهم) انتهى. وقال الطيبي: والمؤذن أمين في الأوقات يعتمد الناس على أصواتهم في
الصلاة والصيام وسائر الوظائف المؤقتة. انتهى. وقال ابن الملك: والمؤذنون أمناء لأن الناس
يعتمدون عليهم في الصلاة ونحوها أو لأنهم يرتقون في أمكنة عالية فينبغي أن لا يشرفوا على
بيوت الناس لكونهم أمناء (اللهم أرشد الأئمة) والمعنى أرشد الأئمة للعلم بما تكفلوه والقيام
به والخروج عن عهدته (واغفر للمؤذنين) ما عسى يكون لهم تفريط في الأمانة التي حملوها من
جهة تقديم على الوقت أو تأخير عنه سهوا قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي. وقال:
سمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي صالح عن أبي هريرة أصح من حديث أبي صالح عن
عائشة. قال: وسمعت محمدا: يعني البخاري يقول حديث أبي صالح عن عائشة أصح. وذكر
عن علي بن المديني أنه لم يثبت حديث أبي صالح عن أبي هريرة ولا حديث أبي صالح عن
عائشة في هذا.
152

(ابن نمير) هو عبد الله (نبئت عن أبي صالح) قال الحافظ في تلخيص الحبير: قال ابن
المديني: لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه، إنما سمعه من الأعمش ولم يسمعه الأعمش
من أبي صالح بيقين لأنه يقول فيه نبئت عن أبي صالح وكذا قال البيهقي في المعرفة (قال) أي
الأعمش (ولا أراني) أي لا أظن (إلا قد سمعته) أي هذا الحديث (منه) أي من أبي صالح
(مثله) أي مثل حديث السابق.
(باب الأذان فوق المنارة)
(يؤذن عليه) أي علي بيتي (فيأتي) أي بلال (بسحر) أي في وقت السحر. قال في
المصباح المنير: والسحر بفتحتين قبيل الصبح، وبضمتين لغة، والجمع أسحار (فإذا رآه) أي
إذا رأى بلال الفجر قد طلع (تمطى) هو جواب إذا قال في لسان العرب: تمطى الرجل تمدد.
انتهى. ومعنى الحديث تمدد بلال لطول جلوسه، ومعناه بالفارسية خميازه ميكرفت (ثم قال)
أي بلال (قالت) أي امرأة من بني النجار (ثم يؤذن) بلال (ما علمته) أي بلالا.
153

(باب المؤذن يستدير في أذانه)
(قال) أي أبو جحيفة وهو بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف
وفتح الفاء واسمه وهب بن عبد الله السوائي بضم السين والمد. قاله العيني (وهو) أي النبي صلى الله عليه وسلم
(في قبة) قال في المصباح المنير: القبة من البنيان معروف، وتطلق على البيت المدور وهو
معروف عند التركمان والجمع قباب (من أدم) بفتحتين جمع أديم أي جلد (فكنت أتتبع فمه
ههنا وههنا) فمه منصوب على المفعولية، وههنا ههنا ظرفا مكان، والمراد بهما جهتا اليمين
والشمال، ومعناه أنا أنظر إلى بلال متتبعا، وفي رواية الترمذي: (رأيت بلالا يؤذن ويدور
ويتبع فاه ههنا وههنا) الحديث قال الحافظ: والحاصل أن بلالا كان يتبع بفيه الناحيتين وكان
أبو حجيفة ينظر إليه فكل منهما متبع له باعتبار. انتهى. وفي رواية وكيع عن سفيان عند مسلم قال
فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يمينا وشمالا يقول: حي على الصلاة على الفلاح الحديث
قلت: قوله: (كنت أتتبع فمه ههنا وههنا) هو محل الترجمة ويؤخذ منه مطابقة الحديث
بالباب، وهو استدارة المؤذن في الأذان في الأذان كما عرفت من قول الحافظ ((قال) أبو جحيفة (وعليه
حلة) هي بضم الحاء إزار ورداء. قال ابن الأثير: الحلة واحدة الحلل وهي برود اليمن ولا
تسمى حلة، إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد (حمراء) قال الشوكاني رحمه الله، وقد زعم
شمس الدين ابن القيم أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود وغلط
من قال: إنها كانت حمراء بحتا قال وهي معروفة بهذا الاسم. انتهى. ولا يخفاك أن الصحابي
قد وصفها بأنها حمراء هو من أهل اللسان. والجواب الحمل على المعنى الحقيقي وهو
الحمراء البحت والمصير إلى المجاز أعني كون بعضها أحمر دون بعض لا يحمل ذلك الوصف
عليه إلا لموجب، فإن أراد أن ذلك معنى الحلة الحمراء لغة فليس في كسب اللغة ما يشهد
لذلك، وإن أراد أن ذلك حقيقة شرعية فيها، فالحقائق الشرعية لا تثبت بمجرد الدعوى،
والواجب حمل مقالة ذلك الصحابي على لغة العرب لأنها لسانه ولسان قومه.
154

وفي فتح الباري أن في لبس الثوب الأحمر سبعة مذاهب: الأول الجواز مطلقا، جاء عن
علي وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة وعن سعيد بن المسيب
والنخعي والشعبي وأبي قلابة وطائفة من التابعين.
الثاني: المنع مطلقا ولم ينسبه الحافظ إلى قائل معين إنما ذكر أخبارا وآثارا يعرف بها
من قال بذلك.
الثالث: يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان صبغه خفيفا. جاء ذلك عن عطاء
وطاوس ومجاهد.
الرابع: يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهرة ويجوز في البيوت المهنة، جاء
ذلك عن ابن عباس.
الخامس: يجوز لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ويمنع ما صبغ بعد النسج، جنح إلى
ذلك الخطابي
السادس: اختصاص النهي بما يصبغ بالعصفر ولم ينسبه إلى أحد.
السابع: تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله وأما ما فيه لون اخر غير أحمر فلا.
انتهى مختصرا.
(يمانية قطري) بكسر قاف وسكون طاء نسبة إلى قرية قطر بفتحتين من قرى البحرين،
والكسر والتخفيف للنسبة فلعل تقدير الكلام كثوب قطري وإلا فكيف يكون يمانيا وقطريا وبه
يتضح وجه التذكير والله تعالى أعلم. قاله في فتح الودود: قال العيني: قوله وعليه حلة حمراء
برود يمانية قطري فقوله برود جمع برد مرفوع لأنه صفة للحلة، وقوله يمانية صفة للبرود ذلك أي
منسوبة إلى اليمن وقوله قطري بكسر القاف وسكون الطاء والأصل قطري بفتح القاف والطاء
لأنه نسبة إلى قطر بلد بين عمان وسيف البحر، ففي النسبة خففوها وكسروا القاف محمد وسكنوا
الطاء، ويقال القطري ضرب من البرود فيها حمرة ويقال ثياب حمر لها أعلام فيها بعض
الخشونة وإنما لم يقل قطرية مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط لأنه بكثرة الاستعمال
صار كالاسم لذلك النوع من الحلل، ووصف الحلة بثلاث صفات الأولى صفة الذات وهي قوله
حمراء، والثانية صفة الجنس وهي قوله برود بين به أن جنس هذه الحالة الحمراء من البرود
اليمانية والثالثة صفة النوع وهي قوله قطري لأن البرود اليمانية أنواع نوع منها قطري بينه بقوله
155

قطري انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية قال الأزهري في أعراس البحرين قرية يقال لها قطر
وأحسب الثياب القطرية نسبت إليها فكسروا القاف للنسبة وخففوا.
(وقال موسى) بن إسماعيل شيخ المؤلف (قال) أي أبو جحيفة (إلى الأبطح) قال الحافظ
في الفتح: هو موضع معروف خارج مكة انتهى. وقال في المرقاة: الأبطح بفتح همزة محل
أعلى من المعلى إلى جهة منى وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحصا والبطيحة والبطحاء
مثله صار علما للمسيل الذي ينتهي إليه السيل من وادي منى وهو الموضع الذي يسمى محصبا
أيضا (لوى عنقه يمينا وشمالا) أي عطف بلال عنقه. قال الحافظ في الفتح: وهذا فيه تقييد
للالتفات في الأذان وأن محله عند الحيعلتين، وبوب عليه ابن خزيمة انحراف المؤذن عند قوله
حي على الصلاة حي على الفلاح بفمه لا ببدنه كله. قال وإنما يمكن الانحراف بالفم بانحراف
الوجه (ولم يستدر) بلال في الأذان. فيه تصريح بعدم الاستدارة في الأذان وقد اختلفت
الروايات في الاستدارة ففي ببعضها أنه كان يستدير وفي بعضها ولم يستدر لكن تروي الاستدارة
من طريق حجاج وإدريس الأودي ومحمد العرزمي عن عون وهم ضعفاء وقد خالفهم من هو
مثلهم أو أمثل وهو قيس ابن الربيع فرواه عن عون فقال في حديثه ولم يستدر كما ساقه
المؤلف، ويمكن الجمع بأن من أثبت الاستدارة عني استدارة الرأس ومن نفاه عنى استدارة
الجسد كله قاله الحافظ في الفتح (ثم دخل) بلال في منزله (فأخرج العنزة) قال الحافظ في
الفتح العنزة بفتح النون عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل هي الحربة القصيرة ووقع في
رواية كريمة العنزة عصا عليها زج بزاي مضمومة ثم جيم مشددة أي سنان وفي الطبقات لابن
سعد أن النجاشي كان أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم (وساق) أي موسى بن إسماعيل (حديثه) أي باقي
حديثه وهو من قوله ثم خرج رسول الله الحديث. وأورد المؤلف هذا الحديث بإسنادين الأول
من طريق موسى بن إسماعيل والثاني من طريق محمد بن سليمان الأنباري فساق أولا لفظ
محمد بن سليمان ثم أتبعه بلفظ مسدد، وأما وضع الإصبعين في الأذنين فقد رواه أبو عوانة من
طريق مؤمل عن سفيان عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه وله شواهد من أصحها ما رواه أبو داود
وابن حبان من طريق أبي سلام الدمشقي أن عبد الله الهوزني حدثه قال: قلت لبلال: كيف كانت
نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه قال بلال: (فجعلت إصبعي في أذني فآذنت وأخرج الترمذي
من طريق أبي جحيفة في أذان بلال (وإصبعاه في أذنيه) ولابن ماجة والحاكم من حديث سعد
القرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يجعل إصبعيه في أذنيه) وفي إسناده ضعف. قال العلماء في
156

ذلك فائدتان. إحداهما أنه قد يكون أرفع لصوته وفيه حديث ضعيف أخرجه أبو الشيخ. ثانيهما
أنه علامة للمؤذن ليعرف من رآه على بعد أو كان به صمم أنه يؤذن. قال الترمذي: استحب
أهل العلم أن يدخل المؤذن أصبعيه في أذنيه في الأذان. قال واستحب الأوزاعي في الإقامة
أيضا. انتهى. ولم يرد تعيين الإصبع التي يستحب وضعها وجزم النووي أنها المسبحة. انتهى
كلام الحافظ ملخصا. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي
وابن ماجة.
(باب في الدعاء بين الأذان والإقامة)
(عن أبي إياس) ككتاب المزني معاوية بن قرة قاله في التقريب (لا يرد الدعاء بين الأذان
والإقامة) أي فادعموا كما في رواية، وذلك لشرف الوقت. قال المنذري: والحديث أخرجه
الترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة، وقال الترمذي: حديث حسن، وأخرجه النسائي من
حديث يزيد بن أبي مريم عن أنس وهو أجود من حديث معاوية بن قرة، وقد روي عن قتادة عن
أنس موقوفا.
(باب ما يقول إذا سمع المؤذن)
(النداء) أي الأذان (فقولوا مثل ما يقول المؤذن) مثل منصوب على أنه صفة لمصدر
محذوف أي قولوا قولا مثل ما يقول المؤذن، وكلمة ما مصدرية أي مثل قول المؤذن، والمثل هو
النظير. قال الحافظ في الفتح: ادعى ابن وضاح أن قوله: المؤذن مدرج وأن الحديث انتهى
157

عند قوله مثل ما يقول وتعقب بأن الادراج لا يثبت بمجرد الدعوى، وقد اتفقت الروايات في
الصحيحين والموطأ على إثباتها ولم يصب صاحب العمدة في حذفها، وظاهر قوله مثل ما يقول
يدل على أنه يقول السامع مثل ما يقول المؤذن في جميع ألفاظ الأذان الحيعلتين وغيرهما، لكن
حديث عمر بن الخطاب الآتي يخصص الحيعلتين فيقول السامع مثل ما يقول المؤذن فيما عدا
الحيعلتين، وأما في الحيعلتين فيقول السامع: لا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك استدل به ابن
خزيمة، وهو المشهور عند الجمهور قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(إذا سمعتم المؤذن) أي صوته أو أذانه (فقولوا) واستدل به على وجوب إجابة المؤذن،
حكاه الطحاوي عن قوم من السلف، وبه قال الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب. واستدل
للجمهور بحديث أخرجه مسلم وغيره (أنه صلى الله عليه وسلم سمع مؤذنا فلما كبر قال على الفطرة، فلما
تشهد قال خرج من النار، قال فلما قال عليه الصلاة والسلام غير ما قال المؤذن علمنا أن الأمر بذلك
للاستحباب) وتعقب بأنه ليس في الحديث أنه لم يقل مثل ما قال. فيجوز أن يكون قاله ولم
ينقله الراوي اكتفاء بالعادة. ونقل القول الزائد، وبأنه يحتمل أن يكون ذلك وقع قبل صدور
الأمر. كذا في فتح الباري (مثل ما يقول) أي إلا في الحيعلتين لما سيأتي. وقال في المرقاة:
وإلا في قوله: الصلاة خير من النوم فإنه يقول: صدقت وبررت وبالحق نطقت، وبررت بكسر
الراء الأولى وقيل بفتحها أي صرت ذا بر أي خير كثير.
قال الكرماني: قال ما يقول ولم يقل مثل ما قال ليشعر بأنه يجيبه بعد كل كلمة مثل كلمتها.
قلت: والصريح في ذلك ما رواه النسائي من حديث أم حبيبة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول كما يقول المؤذن
حتى يسكت انتهى (ثم صلوا علي) أي بعد فراغكم (فإنه) أي الشأن (صلاة) أي واحدة (صلى
الله عليه) أي أعطاه (بها عشرا) أي من الرحمة (ثم سلوا الله) أمر من سأل بالهمز على النقل
والحذف والاستغناء أو من سال بالألف المبدلة من الهمز أو الواو أو الياء قاله علي القاري (لي)
أي لأجلي (الوسيلة) قال الحافظ في الفتح: هي ما يتقرب به إلى الكبير، يقال: توسلت أي
تقربت وتطلق على المنزلة العلية. انتهى وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (فإنها) أي الوسيلة (منزلة
158

في الجنة) أي من منازلها وهي أعلاها وأغلاها (لا ينبغي) بالياء والتاء نسخة أي لا يتسير ولا
يحصل ولا يليق (إلا لعبد) أي واحد (من عباد الله) أي جميعهم (وأرجو) قاله تواضعا لأنه إذا
كان أفضل الأيام فلمن يكون ذلك المقام غير ذلك الهمام عليه السلام قاله ابن مالك (أن أكون
أنا هو) قيل هو خبر كان وضع موضع إياه، والجملة من باب وضع الضمير موضع اسم الإشارة،
أي أكون ذلك العبد، ويحتمل أن يكون أنا مبتدأ لا تأكيدا وهو خبره والجملة خبر أكون، وقيل
يحتمل على الأول أن الضمير وحده وضع موضع اسم الإشارة. قاله في المرقاة (حلت عليه
الشفاعة) وفي رواية للبخاري: (حلت له) فعلى بمعنى اللام أي استحقت ووجبت أو نزلت
عليه يقال حل يحل بالضم إذا نزل، ووقع في الطحاوي من حديث ابن مسعود (وجبت له) ولا
يجوز أن يكون حلت من الحل لأنها لم تكن قبل ذلك محرمة، وفيه استحباب الصلاة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من متابعة المؤذن وسؤال الوسيلة له. قال المنذري: والحديث أخرجه
مسلم والترمذي والنسائي.
(إن المؤذنين يفضلوننا) بفتح الياء وضم الضاد أي يحصل لهم فضل ومزية علينا في
الثواب بسبب الأذان، والظاهر أنه خبر، يعني فما تأمرنا به من عمل نلحقهم بسببه (قل كما
يقولون) أي إلا عند الحيعلتين لما مر فيحصل لك الثواب مثلهم، ثم أفاد زيادة على الجواب
بقوله (فإذا انتهيت) أي فرغت من إجابة (فسل) أي اطلب من الله حينئذ ما تريد (تعطه) أي
يقبل الله دعاءك ويعطيك سؤالك. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي في اليوم والليلة.
(حين يسمع المؤذن) أي صوته أو أذانه أو قوله وهو الأظهر، وهو يحتمل أن يكون المراد
به حين يسمع تشهده الأول أ الأخير وهو قوله آخر الأذان: لا إله إلا الله وهو أنسب ويمكن أن
159

يكون معنى سمع يجيب فيكون صريحا في المقصود وأن الظاهر أن الثواب المذكور مترتب
على الإجابة بكمالها مع هذه الزيادة (رضيت بالله ربا) تميز أي بربوبيته وبجميع قضائه وقدره،
وقيل حال أي مربيا ومالكا وسيدا ومصلحا (وبمحمد رسولا) أي بجميع ما أرسل به وبلغه إلينا
من الأمور الاعتقادية وغيرها (وبالإسلام) أي بجميع أحكام الاسلام من الأوامر والنواهي (دينا)
أي اعتقادا أو انقيادا. وقال ابن الملك: الجملة استئناف كأنه قيل ما سبب شهادتك فقال رضيت
بالله (غفر له) أي من الصغائر، وهو يحتمل أن يكون إخبارا وأن يكون دعاء والأول هو المعول.
قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(إذا سمع المؤذن) أي صوته (يتشهد) حال (قال وأنا وأنا) عطف على قول المؤذن بتقدير
العامل أي وأنا أشهد كما تشهد بالتاء والياء، والتكرير في أنا راجع إلى الشهادتين. قاله
الطيبي: والأظهر: وأشهد أنا ويمكن أن يكون التكرير للتأكيد فيهما. واختلف في أنه هل كان
يتشهد مثلنا أو يقول: إني رسول الله. والصحيح أنه كان كتشهدنا كما رواه مالك في الموطأ.
ويؤيده خبر مسلم عن معاذ أنه قال في إجابة المؤذن: وأشهد أن محمدا رسول الله إلخ ثم قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(عن أبيه) أي لحفص وهو عاصم (عن جده) أي لحفص (عمر بن الخطاب) هو بدل من
الجد (إذا قال المؤذن) شرطية جزاؤها دخل الجنة (قال) أي المجيب (لا حول ولا قوة إلا بالله)
160

أي لا حيلة في الخلاص عن موانع الطاعة ولا حركة على أدائها إلا بتوفيقه تعالى (ثم قال لا إله
إلا الله) أي المؤذن (قال) أي المجيب (لا إله إلا الله من قلبه) قيل للأخير أو للكل وهو الأظهر
(دخل الجنة) قال الطيبي: وإنما وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الموعود، وهو على
حد قوله: (أتى أمر الله) (ونادى أصحاب الجنة) والمراد أنه يدخل مع الناجين وإلا فكل
مؤمن لا بد له من دخولها وإن سبقه عذاب بحسب جرمه إذا لم يعف عنه إلا إن قال ذلك بلسانه
مع اعتقاده بقلبه. قاله في المرقاة. والحديث يدل على أنه يجيب السامع كل كلمة بعد فراغ
المؤذن ولا ينتظر فراغه من كل الأذان، وعلى أنه يقول السامع بدل الحيعلتين: لا حول ولا قوة
إلا بالله، وإنما أفرد النبي صلى الله عليه وسلم الشهادتين والحيعلتين في هذا الحديث مع أن كل نوع منها مثنى
لقصد الاختصار. وقال النووي: كل نوع من هذا مثنى كما هو المشروع، فاختصر صلى الله عليه وسلم من كل
نوع شطره تنبيها على باقيه. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والنسائي.
(باب ما يقول إذا سمع الإقامة)
(أو عن بعض أصحاب) هو شك من الراوي (أخذ) أي شرع (فلما) شرطية. قاله ابن
الملك (أن قال قد قامت الصلاة) قال الطيبي: لما تستدعي فعلا فالتقدير فلما انتهى إلى أن
قال: واختلف في قال أنه متعد أو لازم، فعلى الأول يكون مفعولا به، وعلى الثاني يكون
مصدرا. انتهى. وتبعه ابن حجر المكي والأظهر أن لما ظرفية وأن زائدة للتأكيد كما قال تعالى:
(فلما أن جاء البشير) كما قال صاحب الكشاف وغيره في قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا
لوطا سئ بهم) قاله في المرقاة (أقامها الله) أي الصلاة يعني ثبتها (وأدامها) واشتهر زيادة
وجعلني من صالحي أهلها (وقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (في سائر الإقامة) أي في جميع كلمات
الإقامة غير قد قامت الصلاة، أو قال في البقية مثل ما قال المقيم إلا في الحيعلتين فإنه قال فيه
161

لا حول ولا قوة إلا الله (كنحو حديث عمر رضي الله عنه) الذي مر آنفا (في الأذان) يريد
أنه صلى الله عليه وسلم، قال مثل ما قال المؤذن في حديث عمر يعني وافق المؤذن في غير الحيعلتين وفيه دلالة
على استحباب مجاوبة المقيم لقوله وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر. قال المنذري:
في إسناده رجل مجهول وشهر بن حوشب تكلم فيه غير. واحد ووثقه الإمام أحمد ويحيى بن
معين.
(باب ما جاء في الدعاء عند الأذان)
أي عند تمام الأذان (علي بن عياش) بالياء الأخيرة والشين المعجمة، وهو الحمصي من
كبار شيوخ البخاري ولم يلقه من الأئمة الستة غيره. قاله الحافظ (من قال حين يسمع النداء)
أي الأذان واللام للعهد، ويحتمل أن يكون التقدير من قال حين يسمع نداء المؤذن، وظاهره أنه
يقول: الذكر المذكور حال سماع الأذان ولا يتقيد بفراغه، لكن يحتمل أن يكون المراد من
النداء تمامه إذ المطلق يحمل على الكامل، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند
مسلم بلفظ: (قولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة) ففي هذا أن ذلك
يقال عند فراغ الأذان. قاله في الفتح (اللهم) يعني يا الله والميم عوض عن الياء فلذلك لا
يجتمعان. أو قاله العيني (رب) منصوب على النداء ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي
أنت رب هذه الدعوة، والرب المربي المصلح للشأن، ولم يطلقوا الرب إلا في الله وحده وفي
غيره على التقييد بإضافة كقولهم رب الدار ونحوه قاله العيني (هذه الدعوة) بفتح الدال. وفي
المحكم الدعوة والدعوة بالفتح والكسر. قلت: قالوا الدعوة بالفتح في الطعام والدعوة بالكسر
في النسب والدعوة بالضم في الحرب والمراد بالدعوة ههنا ألفاظ الأذان التي يدعي بها
الشخص إلى عبادة الله تعالى. قاله العيني. وفي الفتح ذاد البيهقي من طريق محمد بن عون
عن علي بن عياش (اللهم إني أسألك بحق هذه الدعوة التامة) والمراد بها دعوة التوحيد كقوله
تعالى: (له دعوة الحق) (التامة) صفة للدعوة وصفت بالتمام لأن الشركة نقص، أو التامة التي
لا يدخلها تغيير ولا تبديل، بل هي باقية إلى يوم النشور، أو لأنها هي التي تستحق صفة التمام
162

وما سواها فمعرض للفساد. وقال ابن التين: وصفت بالتامة، لأن فيها أتم القول وهو: لا إله إلا
الله. وقال الطيبي من أوله إلى قوله محمدا رسول الله هي الدعوة التامة (والصلاة القائمة) أي
الدائمة التي لا يغيرها ملة، ولا ينسخها شريعة وأنها قائمة ما دامت السماوات والأرض (آت)
أي اعط وهو أمر من الإيتاء وهو الإعطاء (الوسيلة) هي المنزلة العلية وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله: (فإنها منزلة في الجنة) كما مر في الحديث السابق، ووقع هذا التفسير في رواية مسلم
أيضا (والفضيلة) أي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى أو
تفسيرا للوسيلة (وابعثه مقاما محمودا) أي يحمد القائم فيه، وهو مطلق في كل ما يجلب
الحمد من أنواع الكرامات، ونصب على الظرفية أي ابعثه يوم القيامة فأقمه مقاما محمودا أو
ضمن ابعثه معنى أقمه أو على أنه مفعول به، ومعنى ابعثه أعطه ويجوز أن يكون حالا أي ابعثه
ذا مقام محمود. قاله الحافظ: وقال في المرقاة: وإنما نكر المقام للتفخيم أي مقاما يغبطه
الأولون والآخرون محمودا يكل عن أوصافه ألسنة الحامدين.
(الذي وعدته) زاد في رواية البيهقي: (إنك لا تخلف الميعاد) وقال الطيبي المراد بذلك
قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وأطلق عليه الوعد لأن عسى من الله واقع
كما صح عن ابن عيينة وغيره، والموصول إما بدل أو عطف بيان أو خبر مبتدأ محذوف وليس
صفة للنكرة. ووقع في رواية النسائي وابن خزيمة وغيرهما: المقام المحمود بالألف واللام
فيصح وصفه بالموصول. قال ابن الجوزي: والأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة،
وقيل إجلاسه على العرش. وقيل على الكرسي، ووقع في صحيح ابن حبان من حديث كعب
ابن مالك مرفوعا (يبعث الله الناس فيكسوني ربي حلة خضراء فأقول ما شاء الله له أن أقول فذلك
المقام المحمود) ويظهر أن المراد بالقول المذكور هو الثناء الذي يقدمه بين يدي الشفاعة
ويظهر أن المقام المحمود هو مجموع ما يحصل له في تلك الحالة قاله الحافظ (إلا) وفي
البخاري بدون إلا وهو الظواهر، وأما مع إلا فيجعل من في قوله من قال استفهامية للانكار. قاله
في فتح الودود (حلت له) أي وجبت وثبتت (الشفاعة) فيه بشارة إلى حسن الخاتمة والحض
على الدعاء في أوقات الصلوات لأنه حال رجاء الإجابة. قال المنذري: و الحديث أخرجه
البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة.
163

(باب ما يقول عند أذان المغرب)
(أن أقول عند أذان المغرب) الظاهر أن يقال هذا بعد جواب الأذان أو في أثنائه. قاله
علي القاري (اللهم إن هذا) إشارة إلى ما في الذهن وهو مبهم مفسر بالخبر. قاله الطيبي قال
في المرقاة: والظاهر أنه إشارة إلى الأذان لقوله وأصوات (إقبال ليلك) هو خبر إن أي هذا الأذان
أو إن إقبال ليلك (وإدبار نهارك) أي في الأفق وهو معطوف على الخبر (وأصوات دعاتك) أي
في الآفاق جمع داع كقضاة جمع قاض وهو المؤذن (فاغفر لي) بحق هذا الوقت الشريف
والصوت المنيف، وبه يظهر وجه تفريع المغفرة. قاله في المرقاة. وقال المنذري: والحديث
أخرجه الترمذي وقال هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وحفصة بنت أبي كثير لا
نعرفها ولا أباها.
(باب أخذ الأجر على التأذين)
(وقال موسى) بن إسماعيل (قال) النبي صلى الله عليه وسلم (أنت إمامهم) أي جعلتك إمامهم، فيفيد
الحديث أو أنت كما قلت. فيكون للدوام. قاله ابن الملك (واقتد بأضعفهم) أي تابع أضعف
المقتدين في تخفيف الصلاة من غير ترك شئ من الأركان، يريد تخفيف القراءة والتسبيحات
164

حتى لا يمل القوم. قال التوربشتي: ذكر بلفظ الاقتداء تأكيدا للأمر المحثوث عليه لأن من شأن
المقتدي أن يتابع المقتدي به، ويجتنب خلافه، فعبر عن مراعاة القوم بالاقتداء مشاكله لما
قبله. قاله علي القاري في المرقاة (واتخذ) أمر ندب. قاله علي القاري (على أذانه أجرا) أي
الأجرة. قال الخطابي: أخذ المؤذن الأجر على أذانه مكروه في مذاهب أكثر العلماء. وقال
مالك بن أنس: لا بأس به. ويرخص فيه. وقال الأوزاعي: مكروهة ولا بأس بالجعل، وكره
ذلك أهل الرأي، ومنع منه إسحاق بن راهويه. وقال الحسن: أخشى أن لا يكون صلاته
خالصة لله تعالى، وكرهه الشافعي وقال: لا يرزق الإمام للمؤذن إلا من خمس الخمس من
سهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مرصد لمصالح الدين ولا يزقه عبد من غيره انتهى. قال المنذري: أخرج
مسلم الفصل الأول، وأخرجه النسائي بتمامه، وأخرج ابن ماجة الفصلين في موضعين،
وأخرج الترمذي الفصل الأخير.
) باب في الأذان قبل دخول الوقت)
(ألا) كلمة تنبيه (إن العبد نام) قال الحافظ في الفتح: يعني أن غلبة النوم على عينيه
منعته من تبيين الفجر انتهى. وقال الخطابي: هو يتأول على وجهين أحدهما أن يكون أراد به
أنه غفل عن الوقت كما يقال: نام فلان عن حاجتي إذا غفل عنها ولم يعم بها، والوجه الآخر أن
يكون معناه، قد عاد لنومه إذا كان عليه بقية من الليل، يعلم الناس ذلك لئلا ينزعجوا من نومهم
وسكونهم ويشبه أن يكون هذا فيما تقدم من أول زمان الهجرة فإن الثابت عن بلال أنه كان في
آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن لميل ثم يؤذن بعده ابن أم مكتوم مع الفجر. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم).
وممن ذهب إلى تقديم أذان الفجر قبل دخول وقته جابر ومالك والأوزاعي والشافعي
وأحمد وإسحاق بن راهويه، وكان أبو يوسف يقول بقول أبي حنيفة في أن ذلك لا يجوز ثم
رجع فقال: لا بأس أن يؤذن للفجر خاصة قبل طلوع الفجر اتباعا للأثر، وكان أبو حنيفة ومحمد
165

لا يجيزان ذلك قياسا على سائر الصلوات، وإليه ذهب سفيان الثوري، وذهب بعض أصحاب
الحديث إلى أن ذلك جائزا إذا كان للمسجد مؤذنان كما كان لرسول الله عليه وآله
وسلم فأما إذا لم يؤذن فيه إلا مؤذن واحد، فإنه لا يجوز أن يفعله إلا بعد دخول الوقت، فيحمل
على هذا أنه لم يكن لمسجد رسول الله عليه وآله وسلم في الوقت الذي نهى عنه
بلالا إلا مؤذن واحد وهو بلال ثم أجازه حين أقام ابن أم مكتوم مؤذنا، لأن الحديث في تأذين
بلال قبل الفجر ثابت من رواية ابن عمر. انتهى. وقال الحافظ في الفتح: قد اختلف هل يشرع
الأذان قبل الفجر أو لا، وإذا شرع هل يكتفي به عن إعادة الأذان بعد الفجر أو لا، وإلى
مشروعيته مطلقا ذهب الجمهور، وخالف الثوري وأبو حنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقا
ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل
الحديث. وقال به الغزالي في الأحياء. انتهى. قلت: وحديث ابن عمر وعائشة الذي أخرجه
البخاري ولفظه (إن بلالا يؤذن بليل فكانوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) يدل على عدم
الاكتفاء، وإلى هذا ميل البخاري، كما يلوح من كلام الحافظ (لم يروه) هذا الحديث مرفوعا
(عن أيوب إلا حماد بن سلمة) وحماد بن سلمة وهم في رفعه. قال الترمذي في جامعه:
حديث حماد بن سلمة غير محفوظ. قال علي بن المديني حديث حماد ابن سلمة عن أيوب غير
محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة. انتهى. وقال الحافظ في الفتح: أخرجه أبو داود وغيره من
طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر موصولا مرفوعا ورجاله ثقات حفاظ.
لكن اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري والذهلي وأبو حاتم وأبو
داود والترمذي والأثرم والدارقطني على أن حمادا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على
عمر بن الخطاب وأنه هو وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادا تفرد برفعه انتهى. قاله في غاية
المقصود.
(فذكر) الراوي (نحوه) ولفظ الترمذي فأمره عمر أن يعيد الأذان لكن هذه الرواية
منقطعة. قال الترمذي في جامعه: هذا لا يصح لأنه عن نافع عن عمر منقطع (رواه حماد بن
166

زيد بن عبيد الله بن عمر) مقصود المؤلف من هذا تقوية رواية عبد العزيز بن أبي عبيد
الله بن عمر قد تابع عبد العزيز، على أن الأمر في هذه الواقعة هو عمر بن الخطاب لمؤذنه دون
النبي صلى الله عليه وسلم لبلال، وأن اسم المؤذن مسروح كما في رواية عبد العزيز. قاله في غاية المقصود
(و رواه الدراوردي) وهذه متابعة لرواية حماد بن زيد، فإن عبد العزيز الدراوردي وحماد بن زيد
كلاهما يروياه عن عبيد الله وجعلا هذه الواقعة لمؤذن عمر، إلا أن الدراوردي زاد واسطة
عبد الله بن عمر وسمي اسم المؤذن مسعودا. قاله في غاية المقصود (وهذا) أي حديث نافع
عن مؤذن لعمر الذي رواه عبد العزيز بن أبي رواد وعبيد الله بن عمر عن نافع (أصح من ذاك)
أي من حديث أيوب عن نافع، فإن حماد بن سلمة وهم في روايته عن أيوب، وقد اتفق الحفاظ
المهرة على خطأ حماد بن سلمة في هذه الرواية كما عرفت، وهذا المعنى هو الصحيح
والصواب. قال الترمذي في جامعه: حديث حماد بن سلمة غير محفوظ. والصحيح ما روى
عبيد الله بن عمر وغيره عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا
واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) وروى عبد العزيز بن أبي دواد بسنده فأمر عمر عليه أن يعيد
الأذان، ولعل حماد بن سلمة أراد هذا الحديث ولو كان حديث حماد صحيحا لم يكن لحديث
عبيد الله بن عمرو غير واحد عن نافع عن ابن عمرو الزهري عن سالم عن ابن عمر معنى إذا قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن بلالا يؤذن بليل) فإنما أمرهم فيما يستقبل فقال (إن بلالا يؤذن بليل) ولو أنه
أمره بإعادة الأذان حين أذن قبل طلوع الفجر لم يقل إن بلالا يؤذن بليل انتهى.
ويحتمل أن يكون مراد المؤلف وهذا أي حديث عبد العزيز الدراوردي عن عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر أصح. لأجل اتصال سنده من ذاك أي من حديث عبد العزيز بن أبي رواد عن
نافع لأنه منقطع وأن نافعا لم يدرك عمر ولم يشاهد الواقعة والله أعلم. قال الترمذي: قد
اختلف أهل العلم في الأذان بالليل فقال بعض أهل العم إذا أذن المؤذن بالليل أجزأه ولا يعيد،
وهو قول مالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم إذا أذن بالليل
167

أعاد وبه يقول سفيان الثوري انتهى. قاله في غاية المقصود (قاله له) أي لبلال (حتى يستبين) أي
يتبين (ومد يديه) أي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بيان لهكذا هذا الحديث يدل على أنه لا يجوز الأذان قبل
الفجر. قلت فيه الانقطاع، كما قال المؤلف شداد لم يدرك بلالا ومع ذلك لا يقاوم حديث
الذي أخرجه البخاري وفيه (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم).
(باب الأذان للأعمى)
(وهو أعمى) وفي رواية البخاري (حتى ينادي ابن أم مكتوم قال وكان رجلا أعمى لا
ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت) قال النووي: مقصود الباب أن أذان الأعمى صحيح وهو
جائز بلا كراهة إذا كان معه بصير كما كان بلال وابن مكتوم انتهى. قال المنذري: والحديث
أخرجه مسلم.
(باب الخروج من المسجد بعد الأذان)
(فخرج رجل) من المسجد (أما هذا فقد عصى) قال الطيبي: أما للتفصيل يقتضي شيئين
168

فصاعدا والمعنى أما من ثبت في المسجد وأقام الصلاة فيه فقد أطاع أبا القاسم، وأما هذا فقد
عصى. وقال القاري: رواه أحمد وزاد ثم قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد
فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي) وإسناده صحيح انتهى. قال الحافظ: وفيه
كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان، وهذا محمول على من خرج بغير ضرورة وأما إذا كان
الخروج من المسجد للضرورة فهو جائز وذلك مثل أن يكون محدثا أو جبنا أو كان حاقنا
أو حصل به رعاف أو نحو ذلك أو كان إماما بمسجد آخر. وقد أخرجه الطبراني في الأوسط من
طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه فصرح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه (لا
يسمع النداء في مسجدي ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق) قال المنذري:
والحديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وذكر بعضهم أن هذا موقوف وذكر أبو عمر النمري
أنه مسند عنهم وقال: لا يختلفون في هذا وذاك أنهما مسندان مرفوعا يعني هذا وقول أبي
هريرة ومن لم يجب يعني الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
(باب في المؤذن ينتظر الإمام)
(ثم يهمل) أي يؤخر (فإذا رأى) أي بلال، وسيجئ تحقيق هذا الحديث قال المنذري:
والحديث أخرجه مسلم بنحوه وأتم منه وأخرجه الترمذي.
(باب في التثويب)
(أبو يحيى القتات) قال الحافظ في التقريب: أبو يحيى القتات بقاف ومثناة مثقلة وآخره
169

مثناة أيضا الكوفي اسمه زاذان وقيل دينار لين الحديث من السادسة انتهى. سمي القتات لأنه
كان يبيع ألقت وهو الحشيش (فثوب رجل في الظهر أو العصر) شك من الراوي. قال في فتح
الودود التثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام ويطلق على الإقامة كما في حديث (حتى إذا
ثوب أدبر حتى إذا فرغ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه) وعلى قول المؤذن في أذان الفجر
الصلاة خير من النوم، وكل من هذين تثويب قديم ثابت من وقته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وقد أحدث
الناس تثويبا ثالثا بين الأذان والإقامة فيحتمل أن الذي كرهه ابن عمر هو الثالث المحدث أو
الثاني وهو الصلاة خير من النوم وكرهه لأن زيادته في أذان الظهر بدعة والله أعلم انتهى. قال
الترمذي في جامعه: قد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب فقال بعضهم: التثويب أن يقول في
أذان الفجر الصلاة خير من النوم، وهو قول ابن المبارك وأحمد، وقال إسحاق في التثويب غير
هذا قال: هو شئ أحدثه الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان
والإقامة قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح، وهذا الذي قاله إسحاق هو
التثويب الذي كرهه أهل العلم والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم والذي فسر ابن المبارك وأحمد أن
التثويب أن يقول المؤذن في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم، فهو قول صحيح ويقال له
التثوب أيضا، وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه، وروي عن عبد الله ابن عمر أنه كان يقول في
صلاة الفجر خير من النوم. وروي عن مجاهد قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا
وقد أذن فيه ونحن نريد أن نصلي فيه فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال
اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه، وإنما كره عبد الله بن عمر التثويب الذي أحدثه
الناس بعد انتهى. قال ابن الأثير في النهاية: والأصل في التثويب أي يجئ الرجل مستصرخا
فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر فسمى الدعاء تثويبا لذلك وكل داع مثوب وقيل إنما سمي تثويبا من
ثاب يثوب إذا رجع فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، وأن المؤذن إذا قال حي على
الصلاة فقد دعاهم إليها، وإذا قال بعدها الصلاة خير من النوم فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة
إليها انتهى. (قال) عبد الله بن عمر (اخرج بنا) لأنه كان أعمى.
170

(باب في الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعودا)
(إذا أقيمت الصلاة) أي إذا ذكرت ألفاظ الإقامة. قاله الحافظ (فلا تقوموا حتى تروني)
أي قد خرجت كما في رواية معمر الآتية وهو محل الترجمة قال الحافظ في الفتح: قوله: لا
تقوموا نهي عن القيام، وقوله حتى تروني تسويغ للقيام عند الرؤية وهو مطلق غير مقيد بشئ من
ألفاظ الإقامة، ومن ثم اختلف السلف في ذلك كما سيأتي، وفيه جواز الإقامة والإمام في منزله
إذا كان يسمعها وتقدم إذنه في ذلك. انتهى.
ومعنى الحديث أن جماعة المصلين لا يقومون عند الإقامة إلا حين يرون أن الإمام قام
للإمامة (هكذا رواه أيوب) يعني كما روى هذا الحديث أبان عن يحيى بصيغة عن كذلك رواه
أيوب وحجاج الصواف عن يحيى بصيغة عن (هشام الدستوائي) هو بالرفع يعني وأما هشام
الدستوائي فقال في روايته كتب إلي يحيى بن أبي كثير بهذا الحديث. قال الحافظ في الفتح:
قوله كتب إلى يحيى ظاهر في أنه لم يسمعه منه. وقد رواه إسماعيلي من طريق هشيم عن
هشام وحجاج الصواف كلاهما عن يحيى وهو من تدليس الصيغ. وصرح أبو نعيم في
المستخرج من وجه آخر عن هشام أن يحيى كتب إليه أن عبد الله بن أبي قتادة حدثه فأمن بذلك
تدليس يحيى. انتهى.
(ورواه معاوية بن سلام) يعني رواية معاوية وعلي بن المبارك عن يحيى أيضا بصيغة
عن، ولكن وقعت فيها هذه الزيادة وعليكم السكينة، وأما الرواية السابقة فليست فيها هذه
171

الزيادة. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (بإسناده)
السابق (مثله) أي مثل حديث السابق (قال) أي معمر (قد خرجت) بزيادة هذا اللفظ.
(قال) أي الوليد بن مسلم (قال أبو عمرو) يعني الأوزاعي كما بينه مسلم في صحيحه
بقوله: حدثني زهير بن حرب قال: أخبرنا الوليد بن مسلم قال: أخبرنا أبو عمر يعني الأوزاعي
(وهذا لفظه) أي داود بن رشيد (قبل أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم) يعني مقامه. قال النووي في رواية:
(إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: (أقيمت
الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: أن الصلاة كانت
تقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأخذ الناس مصافهم قبل (أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه).
وفي رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه كان بلال رضي الله عنه: (كان بلال رضي الله عنه يؤذن إذا دحضت، ولا
يقيم حتى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فإذا خرج أقام الصلاة حين يراه) قال القاضي عياض: يجمع بين
مختلف هذه الأحاديث بأن بلالا رضي الله عنه كان يراقب خروج النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يراه
غيره أو إلا القليل، فعند أول خروجه يقيم ولا يقيم الناس حتى يروه ثم لا يقوم مقامه حتى
يعدلوا الصفوف، وقوله في رواية أبي هريرة رضي الله عنه: فيأخذ الناس مصافهم قبل خروجه
لعله كان مرة أو مرتين ونحوهما لبيان الجواز أو لعذر، ولعل قوله: (صلى الله عليه وسلم فلا تقوموا حتى تروني)
كان بعد ذلك.
قال العلماء: والنهي عن القيام قبل أن يروه لئلا يطول عليهم القيام ولأنه قد يعرض له
عارض فيتأخر بسببه، انتهى. وهكذا قال الحافظ في الفتح. وقال أيضا قال مالك في الموطأ لم
أسمع في قيام الناس حين تقام الصلاة بحد محدود إلا أني أرى ذلك على طاقة الناس فإن
منهم الثقيل والخفيف. وذهب الأكثرون إلى أنهم إذا كان الإمام معهم في المسجد لم يقوموا
172

حتى تفرغ الإقامة. وعن أنس أنه كان يقوم إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة. رواه ابن المنذر
وغيره، وكذا رواه سعيد بن منصور من طريق أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله. وعن سعيد بن
المسيب قال: إذا قال المؤذن الله أكبر وجب القيام، وإذا قال حي على الصلاة عدلت الصفوف،
وإذا قال لا إله إلا الله كبر الإمام وعن أبي حنيفة يقومون إذا قال حي على الفلاح، فإذا قال قد
قامت الصلاة كبر الإمام، وأما إذا لم يكن الإمام في المسجد، فذهب الجمهور إلى أنهم لا
يقومون حتى يروه انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والنسائي.
(عن حميد) بضم الحاء (سألت ثابتا) بالثاء المثلثة ابن أسلم قاله العيني (البناني) بضم
الباء الموحدة وتخفيف النون وبعد الألف نون أخرى مكسورة وهي نسبة إلى بناته زوجة
سعد بن لؤي بن غالب بن فهر، وقيل كانت حاضنة لبنية فقط. قاله العيني (فحبسه) أي منع
الرجل النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول في الصلاة وهو محل للترجمة، لأن معناه حبسه عن الصلاة
بسبب التكلم معه وكان الناس ينتظرونه. قال الحافظ: في الحديث جواز مناجاة الاثنين
بحضور الجماعة، وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة أما إذا كان لغير حاجة
فهو مكروه. واستدل به للرد على من أطلق من الحنفية أن المؤذن إذا قال قد قامت الصلاة وجب
على الإمام التكبير. انتهى. قال العيني: فيه دليل على أن اتصال إقامة بالصلاة ليس من وكيد
السنن وإنما هو من مستحبها. انتهى. وفيه جواز الكلام لأجل مهم من الأمور عند الإقامة، وقد
ترجم البخاري على هذا الحديث باب الكلام إذا أقيمت الصلاة قال المنذري: والحديث
أخرجه البخاري.
(ما يقعدك) من الاقعاد وما الموصولة أي أي شئ يجلسك، والمعنى لم تنتظرون الإمام
جالسين ولا تنتظرونه قائمين. قال كهمس (قلت) مجيبا له (هذا) أي قال ابن بريدة انتظار الناس
للامام قياما (السمود) كأن ابن بريدة كره هذا الفعل كما كرهه علي رضي الله عنه وهو موضع
173

الترجمة. قال ابن الأثير في النهاية في حديث علي أنه خرج والناس ينتظرونه للصلاة قياما،
فقال: مالي أراكم سامدين، السامد المنتصب إذا كان رافعا رأسه ناصبا صدره أنكر عليهم
قيامهم قبل أن يروا إمامهم، وقيل السامد القائم في تحير. انتهى. قال الخطابي: السمود يفسر
على وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الغفلة والذهاب عن الشيء، يقال رجال سامد هامد أي
لاه غافل، ومن هذا قول الله تعالى: (وأنتم سامدون) أي لاهون ساهون، وقد يكون السامد
أيضا الرافع رأسه قال أبو عبيدة ويقال منه سمد يسمد ويسمد سمودا، وروي عن علي أنه خرج
والناس ينتظرونه قياما للصلاة، فقال: مالي أراكم سامدين. وحكي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
كانوا يكرهون أن ينتظروا الإمام قياما ولكن قعودا وتقولون ذلك السمود (فقال لي الشيخ)
مقصود الشيخ رد قول ابن بريدة (كنا نقوم في الصفوف) لا يدل على أن قيامهم كان انتظار
النبي صلى الله عليه وسلم، بل يجوز أن يكون بعد حضوره صلى الله عليه وسلم، لو سلم فإسناد الحديث لا يخلو عن جهالة إذ
الشيخ غير معلوم فلا يعارض حديث فلا تقوموا حتى تروني والله أعلم. قاله في فتح الودود
(قال) أي البراء (وقال) النبي صلى الله عليه وسلم (على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن الملك: أو يباشرون
ويتولون (الصفوف الأول) بضم الهمزة وفتح الواو المخففة جمع أول أي فالأفضل الأول
فالأول وما من خطوة قال العيني: رويناه بفتح الخاء، وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي:
الرواية بضم الخاء وهي واحدة الخطى، وهي ما بين القدمين، والتي بالفتح مصدر. انتهى.
ومن زائدة وخطوة اسم ما وقوله (أحب إلى الله) بالنسب خبره والأصح رفعه فهو اسمه، ومن
خطوة خبره. قاله علي القاري (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي
يمشيها الرجل وكذا (يصل بها صفا) وقيل بالخطاب فيهما والضميران للخطوة.
(أقيمت الصلاة) أي صلاة العشاء، بينه حماد عن ثابت عن أنس عند مسلم. وقال
العيني: ودلت القرينة أيضا أنها كانت صلاة العشاء وهي قوله حتى نام القوم (نجي) أي يناجي
174

ويحادث رجلا. وفي رواية البخاري يناجي رجلا. قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسم
هذا الرجل، وذكر بعض الشراح أنه كان كبيرا في قومه، فأراد أن يتألفه على الاسلام ولم أقف
على مستند ذلك. انتهى. قال الخطابي: قوله نجي أي مناج رجلا كما قالوا نديم بمعنى منادم
ووزير بمعنى موازر، وتناجى القوم إذا دخلوا في حديث سر، وهم نجوى أي متناجون وفيه من
الفقه أنه قد يجوز له تأخير الصلاة عن أول وقتها لأمر يحدثه، ويشبه أن يكون نجواه في مهم من
أمر الدين لا يجوز تأخيره، وإلا لم يكن يؤخر الصلاة حتى ينام القوم لطول الانتظار له. والله
أعلم. (حتى نام القوم) قال الحافظ في الفتح: زاد شعبة عن عبد العزيز (ثم قام فصلى) أخرجه
مسلم ووقع عند إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن علية عن عبد العزيز في هذا الحديث
(حتى نعس بعض القوم) وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر عن أنس، وهو يدل على أن النوم
المذكور لم يكن مستغرقا انتهى. وقوله حتى نام القوم هو محل الترجمة. قال المنذري:
والحديث أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
(حين تقام الصلاة في المسجد الخ) ورد الحديث في كشف الغمة بلفظ (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة فرأى الناس قليلا جلس، وإن رآهم جماعة صلى وهذه
الرواية مرسلة، لأن سالما أبا النضر تابعي ثقة ثبت وكان يرسل، لكن الرواية الثانية متصلة
رواها علي بن أبي طالب مرفوعا. قلت: الاتصال بين الإقامة والصلاة ليس من المؤكدات أن بل
يجوز الفصل بينهما لأمر حادث كما مر، لكن انتظار الامام المأمومين وجلوسه في المسجد لقلة
المصلين بعد إقامة الصلاة، فلم يثبت الا من هاتين الروايتين، لكن الرواية الأولى مرسلة
والثانية فيها أبو مسعود الرزقي هو مجهول الحال، ففي قلبي في صحة هذا المتن شئ وأظن
أن الوهم قد دخل على بعض الرواة، فإنه لم يثبت من هدى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينتظر بعد
الإقامة، وإن صحت الرواية فيشبه أن يكون المعنى لقوله تقام الصلاة أي تؤدي الصلاة وحان
وقت أدائها، فلفظة تقام ليس المراد بها الإقامة المعروفة بلسان المؤذن أي قد قامت الصلاة قد
175

قامت الصلاة، بل المراد بها إقامة الصلاة وأدائها كما في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) قال
الشيخ أبو بكر السجستاني في غرائب القران: يقال إقامتها أن يؤتي بها بحقوقها، يقال قام الأمر
وأقام الأمر إذا جاء به معطى حقوقه. انتهى. فالمعنى والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد
لأداء الصلاة وما رأى المصلين إلا قليلا جلس لانتظار المصلين، وإن رأى هم كثيرا صلى، وأما
الإقامة المعروفة فوقت القيام للإمامة. ويحتمل أن يراد به ظاهر المعنى، وهو الإقامة بالألفاظ
المعروفة، وأما الانتظار للمأمومين فبعدها، وكان ذلك بعض الأحيان لولا في الرواية المذكورة
لفظ كان وهو يفيد الدوام والاستمرار. وأجيب بأنه ليست هذه إفادة بمطردة. وعلى هذا
الاحتمال ينطبق الحديث بالباب لأنه لما أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد منتظر
للمصلين فكيف يقوم بعض الحاضرين في الصف بل عليهم الجلوس والله أعلم. كذا في غاية
المقصود.
(باب التشديد في ترك الجماعة)
(ما من ثلاثة) وتقييده بالثلاثة المفيد ما فوقهم بالأولى نظرا إلى أقل أهل القرية غالبا ولأنه
أقل الجمع وأنه أكمل صور الجماعة وإن كان يتصور باثنين. قاله علي القاري (ولا بدو) أي
بادية (الصلاة) أي الجماعة (إلا قد استحوذ عليهم) أي غلبهم وحولهم إليه، فهذه كلمة مما
جاء على أصله بلا إعلال خارجة عن أخواتها كاستقال واستقام. قاله في مرقاة الصعود
(الشيطان) فأنساهم ذكر الله (فمنعك بالجماعة) أي ألزمها فإن الشيطان بعيد عن الجماعة
ويستولي على من فارقها (فإنما) والفاء فيه مسببة عن الجميع يعني إذا عرفت هذه الحالة،
فاعرف مثاله في الشاهد (يأكل الذئب) بالهمز والياء. قاله القاري (القاصية) أي الشاة البعيدة
عن الأغنام لبعدها عن راعيها. قاله علي القاري. وقال في مرقاة الصعود هي المنفردة عن
القطيع البعيدة عنه. أي إن الشيطان يتسلط على خارج عن الجماعة وأهل السنة. انتهى قال
المنذري: والحديث أخرجه النسائي. انتهى. ورواه أحمد والحاكم وصححه.
176

(لقد هممت) الهم العزم وقيل دونه، وزاد مسلم في أوله (أنه صلى الله عليه وسلم فقد أناسا في بعض
الصلوات فقال. لقد هممت) فأفاد ذكر سبب الحديث (فتقام) أي الصلاة (ثم آمر رجلا فيصلي
بالناس) وفي رواية البخاري ثم امر بالصلاة فيؤذن لها ثم امر رجلا فيؤم الناس) قال الحافظ في
الفتح: فيه الرخصة للامام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل اخراج من يستخفي في بيته ويتركها
انتهى. قال العيني في رواية إنها العشاء، وفي أخرى الفجر، وفي أخرى الجمعة، وفي أخرى
يتخلفون عن الصلاة مطلقا، ولا تضاد بينها لجواز تعد الواقعة (ثم انطلق) أي أذهب (حزم من
حطب) قال في المصباح المنير: حزمت الدابة حزما من باب ضرب، شددته بالحزام وجمعه
حزم مثل كتاب وكتب وحزمت الشئ جعلته حزمة والجمع حزم مثل غرفة وغرف. انتهى.
الحزام الحبل. قال في منتهى الإرب: الحزمة بالضم معناها بالفارسية بندهيزم (إلى قوم)
متعلق بأنطلق قال (فأحرق) بالتشديد، والمراد به التكثير، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه قاله
الحافظ (عليهم بيوتهم) يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق
المقصودين والبيوت تبعا للقاطنين بها. وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح (فأحرق بيوتا
على من فيها) قاله الحافظ في الفتح. وقال في المرقاة: قوله عليهم بيوتهم بضم الباء وكسرها.
قيل هذا يحتمل أن يكون عاما في جميع الناس، وقيل المراد به المنافقون في زمانه، نقله ابن
الملك، والظاهر الثاني إذ ما كان أحد يتخلف عن جماعة في زمانة عليه السلام إلا منافق
ظاهر النفاق أو الشك في دينه. انتهى. قال النووي: قال بعضهم: في هذا الحديث دليل على
أن العقوبة كانت في أول الأمر بالمال، لأن تحريق البيوت عقوبة مالية، وقال غيره: أجمع
العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال من الغنيمة، واختلف
السلف فيهما والجمهور على منع متاعهما. انتهى. قال الحافظ في الفتح: والذي يظهر
لي أن الحديث ورد في المنافقين ولقوله في صدر الحديث الآتي (ليس أثقل صلاة على
المنافقين من العشاء والفجر) والحديث. ولقوله (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا) إلى آخره لأن
هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر
177

بدليل قوله في رواية عجلان (لا يشهدون العشاء) في الجميع، وقوله في حديث أسامة (لا
يشهدون الجماعة) وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي دواد
(ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة) فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر،
لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما
وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي. وأيضا فقوله في رواية المقبري: (لولا ما
في البيوت من النساء والذرية) يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين
طريقا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد
بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب، لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من
صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم. وسياق الحديث يدل على الوجوب من جهة
المبالغة في دم من تخلف عنها. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه البخاري، ومسلم،
وابن ماجة.
(أن آمر فتيتي) أي جماعة من شبان أصحابي أو خدمي وغلماني (ليست بهم علة) أي
عذر والعذر الخوف أو المرض كما في الرواية الآتية. وفيه دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف
عن الجماعة (يا أبا عوف) كنية ليزيد بن الأصم (الجمعة) مفعول عنى (عنى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أو
غيرها) أي الجمعة (قال) أبو عوف (صمتا) بضم مهملة وتشديد ميم أي كفتا عن السماع وهذا
على نهج (وأسروا النجوى الذين ظلموا) ويحتمل أن يكون على لغة أكلوني البراغيث
قاله في فتح الودود (يأثره) أي يرويه (ما ذكر) أي النبي صلى الله عليه وسلم (جمعة ولا غيرها) يعني أن الوعيد
والتهديد في المتخلف عن الجماعة لا يختص بالجمعة بل هو عام في جميع الصلوات. قال
الحافظ في الفتح: فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة هذا أنها أي الصلاة التي وقع التهديد
بسببها، لا تختص بالجمعة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة، وهو
حديث مستقل لأن مخرجه مغائر لحديث أبي هريرة ولا يقدح أحدهما في الآخر، فيحمل
على أنهما واقعتان. انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي مختصرا.
178

(على هؤلاء الصلوات الخمس) أي مع الجماعة (حيث ينادي بهن) من المساجد ويوجد
لهن إمام معين أو غير معين (فإنهن) أي الصلوات الخمس بالجماعة (من سنن الهدى) روى
بضم السين وفتحها حكاهما القاضي وهما مضى متقارب أي طرائق الهدى والصواب. قاله
النووي (ولقد رأيتنا) أي نحن معاشر الصحابة أو جماعة المسلمين. قال الطيبي: قد تقرر أن
اتحاد الفاعل والمفعول إنما يسوغ في أفعال القلوب وأنها من داخل المبتدأ والخبر والمفعول
الثاني الذي هو بمنزلة الخبر محذوف ههنا وسد قوله (وما يتخلف عنها) أي عن صلاة الجماعة
في المسجد من غير عذر أو لوصف الدوام وهو حال مسده، وتبعه ابن حجر، لكن في كون
اتحاد الفاعل والمفعول هنا بحث إذ المراد بالفاعل المتكلم وحده وبالفعول عن هو وغيره. قاله
علي القاري في المرقاة (إلا منافق بين النفاق) أي ظاهر النفاق. وفي رواية لمسلم (إلا منافق
معلوم النفاق) قال الشمني: ليس المراد بالمنافق ههنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإلا
لكانت الجماعة فريضة لأن من يبطن الكفر كافر ولكان اخر الكلام مناقضا لأوله. انتهى. وفيه
أن مراده أن النفاق سبب التخلف لا عكسه وأن الجماعة واجبة على الصحيح، لا فريضة
للدليل الظني، وأن المناقضة غير ظاهرة. قاله في المرقاة. وقد مر بعض بيان النفاق في
الحديث السابق. قال النووي: هذا دليل ظاهر لصحة ما سبق تأويله في الذين هم بتحريق
بيوتهم أنهم كانوا منافقين (ليهادى بين الرجلين) هو بصيغة المجهول أي يمسكه رجلان من
جانبيه بعضديه يعتمد عليهما. قاله النووي. وقال ابن الأثير في النهاية: معناه يمشي بينهما
معتمدا عليهما من ضعفه وتمايله من تهادت المرأة من مشيها إذا تمايلت. انتهى. وقال
الخطابي: أي يرفد من جانبيه ويؤخذ بعضديه يتمشى به إلى المسجد. انتهى. وفي هذا كله
تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها
استحب له حضورها (مسجد في بيته) أي موضع صلاة فيه (ولو تركتم سنة نبيكم) قال الطيبي:
179

يدل على أن المراد بالسنة العزيمة. قال الشيخ ابن الهمام وتسميتها سنة على ما في حديث ابن
مسعود لا حجة فيه للقائلين بالسنية، إذ لا تنافي الوجوب في خصوص ذلك اطلاق لأن سنن
الهدى أعم من الواجب لغة كصلاة العيد. انتهى. وقد يقال لهذا الواجب سنة لكونه ثبت بالسنة
أي الحديث (لكفرتم) قال الخطابي: معناه أنه يؤديكم إلى الكفر بأن تتركوا عرى الاسلام شيئا
فشيئا حتى تخرجوا من الملة. انتهى. وهو يثبت الوجوب ظاهرا. قال المنذري: والحديث
أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة.
(من سمع المنادى) أي صوت المنادى والمؤذن ومن مبتدأ (فلم يمنعه) أي السامع (من
اتباعه) أي المؤذن (قالوا) أي الصحابة (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (لم تقبل) أي قبولا كاملا وهو خبر
من، وهذا موضع الترجمة (منه) أي من السامع القاعد في بيته. قال المنذري: في إسناده أبو
جناب يحيى بن أبي دحية الكلبي وهو ضعيف. والحديث أخرجه ابن ماجة بنحو وإسناده أمثل
وفيه نظر.
(ضرير البصر) أي أعمى (شاسع الدار) أي بعيد الدار (ولي قائد) القائد هو الذي
يمسك يد الأعمى ويأخذها ويذهب به حيث شاء ويجره (لا يلاومني) قال الخطابي: هكذا
يروى في الحديث والصواب لا يلائمني أي لا يوافقني ولا يساعدني، فأما الملاومة فإنها
مفاعلة من اللوم وليس هذا موضعه وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب ولو كان ذلك
ندبا لكان أولى من يسعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف، ومن كان في مثل حال ابن أم
مكتوم. وكان عطاء ابن أبي رباح يقول: ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا
سمع النداء في أن يدع الصلاة جماعة. وقال الأوزاعي لا طاعة للوالد في ترك الجمعة
والجماعات يسمع النداء أو لم يسمع. وكان أبو ثور يوجب حضور الجماعة، واحتج هو وغيره
180

بأن الله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي جماعة في صلاة الخوف ولم يعذر في تركها فعقل
أنها في حال الأمن أوجب. وأكثر أصحاب الشافعي على أن الجماعة فرض على الكفاية لا
على الأعيان وتأولوا حديث ابن أم مكتوم على أنه لا لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة وأنك
لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال، واحتجوا بقوله عليه السلام: (صلاة الجماعة تفضل
صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) انتهى. (هل تسمع النداء) أي اعلام والتأذين بالصلاة (لا
أجد لك رخصة) قال علي القاري: معناه لا أجد لك رخصة تحصل لك فضيلة الجماعة من غير
حضورها لا ايجاب على الأعمى، فإنه عليه السلام رخص لعتبان بن مالك في تركها ويؤيد ما
قلنا (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر) انتهى. قال المنذري والحديث أخرجه
ابن ماجة. وأخرج مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فذكر
نحوه.
(كثيرة الهوام) أي المؤذيات من العقارب والحيات (والسباع) كالذئاب أو الكلاب (حي
على الصلاة حي على الفلاح) أي الأذان، وإنما خص اللفظان لما فيهما من معنى الطلب (فحي
هلا) قال الطيبي: كلمة حث واستعجال وضعت موضع أجب انتهى. وقال ابن الأثير في النهاية
وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي بمعنى أقبل وهلا بمعنى أسرع وفيها لغات انتهى. قال في
مرقاة الصعود وفي شرح المفصل: هو اسم من أسماء الأفعال مركب من حي هل وهما
صوتان معناهما الحث والاستعجال وجمع بينهما وسمي بهما للمبالغة وكان الوجه أنه لا
ينصرف كحضرموت وبعلبك إلا إن وقع موقع فعل الأمر فبنى كصومه وفيه لغات، وتارة يستعمل
حي وحده نحو حي على الصلاة وتارة هلا وحدها واستعمال حي وحده أكثر من استعمال هلا
وحدها (وكذا رواه القاسم) يعني كما روى هذا الحديث زيد بن أبي الزرقاء عن سفيان كذلك
روى هذا الحديث القاسم الجرمي عن سفيان (ليس في حديثه حي هلا) يعني إلا أن في حديث
181

القاسم الجرمي لفظ حي هلا ليس بمذكور. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي. قال
وقد اختلف علي ابن أبي ليلى في هذا الحديث فرواه بعضهم عنه مرسلا.
(باب في فضل صلاة الجماعة)
(صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي ملتبسا بنا أو أمنا فالباء للتعدية أو جعلنا مصلين خلفه
(يوما) أي من الأيام (الصبح) أي صلاته (أشاهد فلان) أي أحاضر صلاتنا هذه (قال أشاهد
فلان) أي آخر (إن هاتين الصلاتين) أي صلاة الصبح ومقابلتها باعتبار الأول والآخر يعني
الصبح والعشاء. وقال ابن حجر المكي: وأشار إلى العشاء لحضورها بالقوة لأن الصبح مذكرة
بها نظرا إلى أن هذه مبتدأ النوم وتلك منتهاه قاله في المرقاة (أثقل الصلوات على المنافقين)
لغلبة الكسل فيهما ولقلة تحصيل الرياء لهما (ولو تعلمون) أنتم أيها المؤمنون (ما فيهما) من
الأجر والثواب الزائد لأن الأجر على قدر المشقة (لأتيتموهما) أي الصبح والعشاء (ولو حبوا)
أي زحفا ومشيا (على الركب) قال الطيبي: حبوا خبر كان المحذوف أي ولو كان حبوا
وهو أن يمشي على يديه وركبتيه أو أسته، ويجوز أي يكون التقدير ولو أتيتموهما حبوا أي حابين
تسمية بالمصدر مبالغة (وإن الصف الأول) أي في القرب من الله تعالى والبعد من الشيطان
الرجيم (على مثل صف الملائكة) وقال الطيبي: شبه الصف الأول في قربهم من الامام بصف
الملائكة في قربهم من الله تعالى، والجار والمجرور خبر إن والمتعلق كائن (ما فضيلته) أي
الصف الأول (لابتدرتموه) أي سبقتم إليه (وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى) أي أكثر ثوابا (من
صلاته وحده) قال الطيبي: من الزكاة بمعنى النمو أو الشخص امن من رجس الشيطان وتسويله
182

من الزكاة بمعنى الطهار (صلاته) بالنصب أو بالرفع (مع الرجلين أزكى) أي أفضل (مع الرجل)
أي الواحد (وما كثر فهو أحب) قال ابن الملك: ما هذه موصولة والضمير عائد إليها وهي عبارة
عن الصلاة أي الصلاة التي كثر المصلون فيها فهو أحب وتذكير هو باعتبار لفظ ما انتهى.
ويمكن أن يكون المعنى وكل موضع من المساجد كثر فيه المصلون فذلك الموضع أفضل.
قاله في المرقاة قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي مطولا وأخرجه ابن ماجة بنحوه
مختصرا. قال البيهقي أقام إسناده شعبة والثوري وإسرائيل في آخرين، عبد الله بن أبي بصير
سمعه من أبي مع أبيه وسمعه أبو إسحاق منه ومن أبيه قاله شعبة وعلي بن المديني.
(كقيام ليلة) أي كأجر قيامها. قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم والترمذي ولفظ
مسلم (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة
فكأنما صلى الليل كله) فجعل بعضهم حديث مسلم على ظاهره وأن جماعة العتمة توازي في
فضيلتها قيام نصف ليلة وصلاة الصبح في جماعة توازي في فضيلتها قيام ليلة، واللفظ الذي
أخرجه أبو داود تفسيره ويبين أن المراد بقوله: (ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل
كله) يعني ومن صلى الصبح والعشاء. وطرق هذا الحديث مصرحة بذلك وإن كل واحد منهما
يقوم مقام نصف ليلة وإن اجتماعهما يقوم مقام ليلة.
(باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة)
(فالأبعد) قال العيني: يمكن أن يكون الفاء ههنا للترتيب مع تفاوت من بعض الوجوه،
ويجوز أن تكون الفاء ههنا بمعنى ثم بمعنى أبعدهم ثم أبعدهم (أعظم أجرا) نصب على
183

التميز فيه أن سبب أعظمية الأجر في الصلاة هو بعد المشي وهو المسافة وذلك لوجود المشقة
فيه، وفيه الدلالة على فضل المسجد البعيد لأجل كثرة الخطى. قال المنذري: والحديث
أخرجه ابن ماجة.
(أبعد) بالنصب هو المفعول الثاني لقوله لا أ علم (منزلا) نصب على التميز (وكان لا
تخطئه) أي لا تفوت ذلك الرجل (في الرمضاء) أي في الرمل الحار والأرض الشديدة الحرارة
(فقال) الرجل (فنمي الحديث) بصيغة المجهول أي أبلغ (فسأله) أي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل
(عن ذلك) الحال (فقال) الرجل (إقبالي) أي ذهابي (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (أعطاك الله ذلك كله)
فيه إثبات الثواب في الخطاء في الرجوع من الصلاة كما يثبت في الذهاب (أنطاك الله) أي أعطاك
هي لغة أهل اليمن في أعطى وقرئ (إنا أنطيناك الكوثر) بالنون بدل العين قاله في مرقاة
الصعود (ما احتسبت) أي طلبت فيه وجه الله وثوابه. قال ابن الأثير في النهاية: الاحتساب في
الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار أي إسراع إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم
والصبر أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها
(كله أجمع) هو تأكيد لكله قال المنذري: والحديث أخرجه مسلم وابن ماجة بمعناه.
(من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة) حال أي قاصدا إلى المسجد مثلا لأداء الصلاة
184

(مكتوبة فأجره كأجر الحاج) قال زين العرب أي كامل أجره وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له
بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية، أو من حيث أنه يستوفي
أجر المصلين من وقت الخروج إلى أن يرجع وإن لم يصل إلا في بعض تلك الأوقات، كالحاج
فإنه يستوفي أجر الحاج إلى أن يرجع، وإن لم يحج إلا في عرفة. قاله في المرقاة (المحرم)
شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما،
ثم إن الحاج إذا كان محرما كان ثوابه أتم فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهرا كان ثوابه
أفضل. كذا في المرقاة (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) أي صلاة الضحى وكل صلاة تطوع
تسبيحة وسبحة. قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقنا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا
أن النافلة جاءت بهذا اسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه
قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بالأذكار في كونها غير واجبة. وقال ابن حجر المكي: ومن
هذا أخذ أئمتنا قولهم السنة في الضحى فعلها في المسجد ويكون من جملة التثنيات من
خبر (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) انتهى. وفيه أنه على فرض صحة حديث المتن
يدل على جوازه لا على أفضلية أو يحمل على من لا يكون له مسكن أو في مسكنه شاغل
ونحوه، على أنه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلا، فالمعنى من خرج من بيته أو سوقه أو
شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركا أشغال الدنيا. كذا في المرقاة. ما قاله ابن حجر المكي
هو ليس بجيد والقول ما قال علي القاري رحمه الله (لا ينصبه) بضم الياء من الأنصاب وهو
الأتعاب مأخوذ من نصب بالكسر إذا تعب وأنصبه غيره أي أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه
أي أقامه. قال زين العرب. وقال التوربشتي هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية
(إلا إياه) أي لا يتعبه الخروج إلا تسبيح الضحى، ووضع الضمير المنصوب موضع المرفوع
أي لا يخرجه ولا يزعجه إلا هو كالعكس في حديث الوسيلة وأرجو أن أكون أنا هو. قاله
الطيبي. قال ابن الملك: وقع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا
يتبعه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى (فأجره كأجر المعتمر) فيه إشارة إلى أن العمرة سنة. قاله
في المرقاة (وصلاة على إثر صلاة) بكسر الهمزة ثم السكون أو بفتحتين أي عقيبها (لا لغو
بينهما) أي بكلام الدنيا (كتاب) أي عمل مكتوب (في عليين) فيه إشارة إلى رفع درجتها
وقبولها. قال علي القاري: وهو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الأبرار. قال تعالى:
(كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين. وما أدراك ما عليون. كتاب مرقوم يشهده المقربون) منقول
185

من جمع على فعيل من العلو سمي به لأنه مرفوع إلى السماء السابعة تكريما ولأنه سبب
الارتفاع إلى أعلى الدرجات، والعلية بتشديد اللام والياء الغرفة. كذا قاله بعضهم، وقيل أراد
أعلى الأمكنة وأشرف المراتب أي مداومة الصلاة من غير تخلل ما ينافيها لا شئ من الأعمال
أعلى منها فكني عن ذلك بعليين. انتهى وقال في مرقاة الصعود: هو اسم للسماء السابعة وقيل
لديوان الحفظة ترفع إليه أعمال الصالحين. وكتاب بمعنى مكتوب. ومن النوادر ما حكوا أن
بعضهم صحف هذا الحديث فقال كنار في غلس، فقيل له: وما معنى غلس فقال لأنها فيه
يكون أشد. انتهى. قال المنذري: القاسم أبو عبد الرحمن فيه مقال.
(صلاة الرجل) أي ثواب صلاته (على صلاته في بيته) أي على صلاة المنفرد، وقوله في
بيته قرينة على هذا إذا الغالب أن الرجل يصلي في بيته منفردا قاله العيني: قال الحافظ في
الفتح: قوله في بيته وفي سوقه، مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على
الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى. قاله ابن دقيق العيد. قال: والذي يظهر أن
المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا لكنه خرج مخرج الغالب في أن من
لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا (خمسا) نصب على أنه مفعول لقوله تزيد نحو
قولك: زدت عليه عشرة ونحوها. قاله العيني (وذلك) إشارة إلى التضعيف والزيادة (بأن
أحدكم) يجوز أن تكون الباء للسببية (فأحسن الوضوء) الإحسان في الوضوء إسباغه برعاية
السنن والآداب (لا يريد إلا الصلاة) جملة حالية والمضارع المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو
وتركه (ولا ينهزه) قال النووي: هو بفتح أوله وفتح الهاء وبالزاي أي لا تنهضه وتقيمه. انتهى.
قال الخطابي: معناه لا يبعثه ولا يشخصه إلا ذلك ومن هذا انتهاز الفرصة وهو الانبعاث لها
والبدار إليها (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء قاله الحافظ. ومعناه لم يمش (خطوة) ضبطناه
بضم أوله ويجوز الفتح قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين وبالفتح المرة الواحدة،
وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح. قال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم والله أعلم. قاله
الحافظ (إلا رفع له) أي لأحدكم (بها) أي بهذه الخطوة (كان في صلاة) أي حكما أخرويا يتعلق
186

به الثواب (ما كانت الصلاة هي تحبسه) كلمة ما للمدة أي مدة دوام حبس الصلاة إياه (يصلون
على أحدكم) أي يدعون ويستغفرون لكم (ما دام في مجلسه الذي صلى فيه) وفي رواية
البخاري (ما دام في مصلاه) قال الحافظ: أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد
وكأنه خرج مخرج الغالب وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار
الصلاة كان كذلك (اللهم تب عليه) أي وفقه للتوبة أو أقبلها منه أو ثبته عليها (ما لم يؤذ فيه)
والمعنى ما لم يؤذ في مجلسه الذي صلى فيه أحدا بقوله أو فعله (أو يحدث فيه) بالجزم من
الإحداث بمعنى الحدث لا من التحديث أي ما لم يبطل وضوءه. قال المنذري. والحديث.
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة بنحوه.
(في فلاة) قال في المصباح: الفلاة الأرض لا ماء فيها والجمع فلا مثل حصاة وحصا
(بلغت خمسين صلاة) أي بلغت صلاته تلك خمسين صلاة، والمعنى يحصل له اجر خمسين
صلاة، وذلك يحصل له في الصلاة مع الجماعة، لأن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود
المشقة، فإذا صلاها منفردا لا يحصل له هذا التضعيف وإنما يحصل له إذا صلاها مع الجماعة
خمسة وعشرين لأجل أنه صلاها مع الجماعة وخمسة وعشرون أخرى للتي هي ضعف تلك
لأجل أنه أتم ركوع صلاته وسجودها وهو في السفر الذي هو مظنة التخفيف. قاله العيني: وفي
النيل قوله: (فإذا صلاها في فلاة) هو أعم من أن يصليها منفردا أو في جماعة. قال ابن رسلان:
لكن حمله على الجماعة أولى، وهو الذي يظهر من السياق. انتهى. قال الشوكاني: والأولى
حمله على الانفراد لأن مرجع الضمير في حديث الباب من قوله صلاها إلى مطلق الصلاة لا
إلى المقيد بكونها في جماعة، ويدل على ذلك الرواية التي ذكرها أبو داود عن عبد الواحد بن
زياد، لأنه جعل فيها صلاة الرجل في الفلاة مقابلة لصلاته في الجماعة. والحديث يدل على
أفضلية الصلاة في الفلاة مع تمام الركوع والسجود وأنها تعدل خمسين صلاة في جماعة، كما في
187

رواية عبد الواحد. انتهى. (وساق) أي عبد الواحد (الحديث) بتمامه. قال المنذري: والحديث
أخرجه ابن ماجة مختصرا، وفي إسناده هلال بن ميمون الجهني الرملي كنيته أبو المغيرة. قال
يحيى بن معين ثقة، وقال أبو حاتم الرازي ليس بقوي يكتب حديثه
(باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم)
بضم الظاء وفتح اللام جمع ظلمة (بشر المشائين) جمع المشاء وهو كثير المشي (في
الظلم) جمع ظلمة (بالنور) متعلق ببشر (التام يوم القيامة) قال الطيبي: وفي وصف النور بالتام
وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: (نورهم يسعى بين
أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) وإلى وجه المنافقين في قوله تعالى: (انظرونا
نقتبس من نوركم). انتهى. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي، وقال هذا حديث
غريب وقال الدارقطني: تفرد به إسماعيل بن سليمان الضبي البصري الكحال عن عبد الله بن
أوس.
(باب ما جاء في الهدى في المشي إلى الصلاة
قال في المصباح: الهدي السيرة، يقال: ما أحسن هديه، و السيرة الطريقة و أيضا الهيئة
188

والحالة. انتهى. والمعنى هذا باب في بيان أن من يخرج إلى المسجد لأداء الصلاة كيف
يكون سيرته وطريقته في المشي.
(أبو ثمامة الحناط) بمهملة ونون حجازي مجهول الحال من الثالثة. قاله في التقريب
(أن كعب بن عجرة أدركه) أي أبا ثمامة الحناط (وهو) أي ثمامة والجملة حالية (يريد
المسجد) للصلاة وهذه الجملة مشعرة بأن كعبا أدرك بأبا ثمامة في طريق المسجد فلقي أحدهما
صاحبه، وكان أبو ثمامة مشبكا بيديه، وصار الإدراك من الجانبين، وإليه أشار بقوله (أدرك
أحدهما صاحبه) والظاهر أن هذه مقولة لأبي ثمامة قالها بصيغة الغائب ثم (قال) أبو ثمامة
بإظهار الواقعة (فوجدني) أي كعب بن عجرة (وأنا مشبك بيدي) من التشبيك والنهي عنه لمن
كان في الصلاة أو لمن خرج إليها أو انتظرها مثلا لكونه كمن في الصلاة. قاله في فتح الودود
(ثم خرج عامدا) أي قاصدا (فلا يشبكن يديه) وقد ورد النهي عن ذلك في أحاديث منها ما
أخرجه ابن حبان في صحيحه فقال: حدثنا أبو عروبة حدثنا محمد بن سعدان حدثنا سليمان بن
عبد الله عن عبيد الله بن عمر عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا كعب إذا توضأت فأحسنت الوضوء ثم خرجت إلى
المسجد فلا تشبك بين أصابعك فإنك في صلاة) ومنها ما أخرجه الحاكم في مستدركه من
حديث إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ أحدكم
في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه) وقال
حديث صحيح على شرط الشيخين. ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن عبد الله بن عبد
الرحمن بن موهب عن عمه عن مولى لأبي سعيد وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسجد فرأى رجلا جالسا وسط الناس وقد شبك بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن له، فالتفت إلى أبي سعيد فقال: إذا صلى أحدكم
فلا يشبكن بين أصابعه فإن التشبيك من الشيطان) فإن قلت: هذه الأحاديث، وحديث الباب
معارضة لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك أصابعه) ولما أخرجه البخاري عن أبي هريرة في قصة
189

ذي اليدين (ووضع يده اليمنى على اليسرى ثم شبك بين أصابعه) الحديث، وقد ترجم
البخاري على هذين الحديثين بجواز تشبيك الأصابع في المسجد وغيره قلت: هذه الأحاديث
غير مقاومة لحديث البخاري في الصحة ولا مساوية.
وقال ابن بطال: وجه إدخال هذه الترجمة في الفقه معارضة بما روي عن النهي من
التشبيك في المسجد، وقد وردت فيه مراسيل ومسند من طريق غير ثابتة. قلت كأنه أراد
بالمسند حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه.
فإن قلت: حديث كعب هذا رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان، قلت: في
إسناده اختلاف فضعفه بعضهم بسببه، وقيل: ليس بين هذه الأحاديث معارضة، لأن النهي إنما
ورد عن فعل ذلك في الصلاة أو في المضي إلى الصلاة، وفعله صلى الله عليه وسلم ليس في الصلاة ولا في
المضي إليها فلا معارضة إذا وبقي كل حديث على حياله. فإن قلت في حديث أبي هريرة في
قصة ذي اليدين وقع تشبيكه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، قلت إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه فهو
في حكم المنصرف عن الصلاة والرواية التي فيها النهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفة
لأن فيها ضعيفا ومجهولا. وقال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض إذ
المنهي عنه فعله على وجه العبث والذي في الحديث إنما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى
في اللفظ. قاله العيني في شرح البخاري. وقال الخطابي: تشبيك اليد هو إدخال الأصابع
بعضها في بعض والامتساك هذه بها وقد يفعله بعض الناس عبثا، ويفعل بعضهم ليفرقع أصابعه
عندما يجد من التمدد فيها، وربما قعد الانسان فشبك بين أصابعه واحتبى بيده يريد به
الاستراحة وربما استجلب به النوم فيكون ذلك سببا لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهر وخرج
متوجها إلى الصلاة لا تشبك بين أصابعك لأن جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا
يلائم شئ منها الصلاة ولا يتشاكل قبل حال المصلي انتهى. وقوله فلا يشبكن يديه هو موضع
الترجمة. قال المنذري: والحديث أخرجه الترمذي من حديث سعيد المقبري عن رجل غير
مسمى عن كعب بن عجرة وأخرجه ابن ماجة من حديث المقبري عن كعب بن عجرة ولم يذكر
الرجل.
(الموت) أي أمارته (فقال) أي الأنصاري (احتسابا) أي لطلب الثواب (فأحسن
190

الوضوء) بأن جمع بين العمل بالفرائض والسنن (إلا حط الله عز وجل) أي وضع وألقى (عنه)
أي عن الجائي والمريد إلى الصلاة (فليقرب أحدكم) من باب التفعيل أي مكانه من المسجد
(أو ليبعد) من باب التفعيل فإذا بعد أحدكم مكانه من المسجد ويكون هديه وطريقته في المشي
أن يأتي المسجد من بعيد يكون الثواب أوفر وأكثر وهو محل الترجمة (وقد صلوا) أي
الحاضرون في المسجد (بعضا) من الصلاة (وبقي بعض) من الصلاة (وبقي بعض) من الصلاة (صلى) هذا الرجل
الجائي (ما أدرك) من الصلاة مع امام (وأتم ما بقي من الصلاة (كان) أي الأمر (كذلك) أي
يغفر له (وقد صلوا) أي الناس وما بقي مع الإمام شئ من الصلاة (فأتم الصلاة) أي هذا الرجل
الجائي بعد فراغ صلاة الجماعة (كان كذلك) أي غفر له.
(باب في من خرج يريد الصلاة فسبق بها)
أي هذا باب في بيان من خرج إلى المسجد لأداء الصلاة وقد فرغ الناس عن الصلاة
فصلى وحده هل له أجر الجماعة أم لا.
(ثم راح) أي ذهب إلى المسجد أي وقت كان (أعطاه) أي الرجل الذي جاء بعد انقضاء
صلاة الجماعة (مثل أجر) بفتح اللام هو المفعول الثاني لأعطاه (من صلاها) أي الصلاة
بالجماعة يعني مثل أجر أفرادهم (وحضرها) أي الصلاة بالجماعة من أولها وهو معطوف على
191

صلى (لا ينقص ذلك) أي أجر المصلي وحده (من أجرهم) أي المصلين بالجماعة (شيئا) بل
لكل واحد من المصلين بالجماعة وللمصلي وحده أجر كامل على حدة، وذلك لكمال فضل الله
وسعة رحمته، وهذا إذا لم يكن التأخير ناشئا عن التقصير، ولعله يعطى له بالنية أصل الثواب.
وبالتحسر يحيى ما فاته من المضاعفة. قال المنذري: والحديث أخرجه النسائي.
(باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد)
هل يجوز أم لا؟
(لا تمنعوا إماء الله) إماء بكسر الهمزة والمد جمع أمة. قال الخطابي: وقد استدل بعض
أهل العلم بعموم قوله عليه السلام: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) على أنه ليس للزوج منع
زوجته من الحج لأن المسجد الحرام الذي يخرج إليه الناس للحج والطواف أشهر المساجد
وأعظمها حرمة فلا يجوز للزوج أن يمنعها من الخروج إليه. لأن المساجد كلها دونه وقصده
واجب. انتهى. (ولكن ليخرجن وهن تفلات) بفتح التاء المثناة وكسر الفاء أي غير متطيبات
يقال امرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح كذا قال ابن عبد البر وغيره قاله الشوكاني. وفي المعالم:
التفل: سوء الرائحة يقال: امرأة تفلة إذا لم تطيب ونساء تفلات انتهى. وإنما أمرن بذلك ونهين
عن التطيب كما في رواية مسلم عن زينب لئلا يحركن الرجال بطيبهن ويلحق بالطيب ما في
معناه من المحركات لداعي الشهوة كحسن الملبس والتحلي الذي يظهر أثره والزينة الفاخرة.
وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها، وفيه نظر لأنها إذا عريت مما ذكر
وكانت مستترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان بالليل.
(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم.
192

(لا تمنعوا نساءكم المساجد) مقتضى هذا النهي أن منع النساء من الخروج إلى
المساجد إما مطلقا في الأزمان كما في هذه الرواية، وكما في حديث أبي هريرة أو مقيدا بالليل
كما في الرواية الآتية، أو مقيدا بالغلس كما في بعض الأحاديث يكون محرما على الأزواج.
وقال النووي إن النهي محمول على التنزيه (وبيوتهن خير لهن) أي صلاتهن في بيوتهن خير
لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك، لكنهن لم يعلمن فيسئلن الخروج إلى المساجد
ويعتقدن وكان أن أجرهن في المساجد أكثر. ووجه كون صلاتهن في البيوت أفضل للأمن من الفتنة،
ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة ومن ثم قالت عائشة ما قالت.
(فقال ابن له) أي لابن عمر. قال المنذري: وابن عبد الله بن عمر هذا هو بلال بن
عبد الله بن عمر جاء مبينا في صحيح مسلم وغيره، وقيل هو ابنه واقد بن عبد الله بن عمر،
ذكره مسلم في صحيحه أيضا. انتهى. (فيتخذنه دغلا) بفتح الدال والغين المعجمة وهو الفساد
والخداع والريبة. قال الحافظ: وأصله الشجر الملتف ثم استعمل في المخادعة لكون
المخادع يلف في نفسه أمرا ويظهر غيره، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في
ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة (قال) أي مجاهد (فسبه وغضب) الضمير المرفوع راجع
إلى ابن عمر والمنصوب إلى ابنه. وفي رواية لمسلم: (فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما
سمعته سبه مثله قط) وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث
مرات. وإنما أنكر عليه ابن عمر لتصريحه بمخالفة الحديث. وأخذ من إنكار عبد الله على
ولده تأديب المعترض على السنن برأيه وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده، وإن كان كبيرا
إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن
مجاهد عند أحمد فما كلمه عبد الله حتى مات) وهذا إن كان محفوظا يحتمل أن يكون
أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير. قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
193

(باب التشديد في ذلك)
(لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم (لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى) (ما أحدث النساء)
من الزينة والطيب وحسن الثياب وغيرها (كما منعه نساء بني إسرائيل) الضمير المنصوب في
منعه يرجع إلى المسجد وفي بعض النسخ كما منعت (قالت نعم) الظاهر أنها تلقته عن عائشة،
ويحتمل أن يكون عن غيرها، وقد ثبت ذلك من حديث عروة عن عائشة موقوفا أخرجه عبد
الرزاق بإسناد صحيح ولفظه قالت: (كن نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلا من خشب يتشرفن
للرجال في المساجد فحرم الله عليهن المساجد، وسلطت عليهن الحيضة) وهذا وإن كان
موقوفا لكن حكمه حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي.
وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقا. وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير
الحكم لأنها علقته روى على شرط لم يوجد بناء على ظن ظننته فقالت لو رأى لمنع، فيقال عليه لم ير
ولم يمنع فاستمر الحكم حتى إن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلاهما يشعر بأنها كانت ترى
المنع. وأيضا فقد علم الله سبحانه ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن ولو كان ما أحدثن
يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق ولم أولى وأيضا فالاحداث إنما وقع
من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت.
والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بمنع التطيب
والزينة، وكذلك التقييد بالليل. كذا في فتح الباري. قال المنذري: وأخرجه البخاري
ومسلم.
(صلاة المرأة في بيتها) أي الداخلاني بين لكمال سترها (أفضل من صلاتها في حجرتها) أي
صحن الدار. قال ابن الملك: أراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إليها وهي أدنى حالا من
194

البيت (وصلاتها في مخدعها) بضم الميم وتفتح وتكسر مع فتح الدال في الكل وهو البيت
الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير يحفظ فيه الأمتعة النفيسة، من الخدع وهو إخفاء الشيء
أي في خزانتها (أفضل من صلاتها في بيتها) لأن مبنى أمرها على التستر.
(فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات) وهذا مشهور من سيرة ابن عمر رضي الله عنه أنه كان
شديد الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى ابن ماجة عن أبي جعفر قال (كان ابن عمر إذا سمع من
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم يعده ولم يقصر دونه) وروى أحمد بسند صحيح عن مجاهد
قال: (كنت أسافر مع ابن عمر في سفر فحاد عنه فسئل لم فعلت قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل
هذا ففعلت) وروى البزار عن ابن عمر أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها ويخبر
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك وروى البزار بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر
محلول الإزار وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم محلول الإزار (وهذا أصح) أي رواية إسماعيل أصح
من رواية عبد الوارث.
(باب السعي إلى الصلاة)
السعي العدو (فلا تأتوها تسعون) أي لا تأتوا الصلاة مسرعين في المشي وإن خفتم
فوت الصلاة. وقال الطيبي: لا يقال هذا مناف لقوله تعالى: (فاسعوا) لأنا نقول المراد
195

بالسعي في الآية القصد، يدل عليه قوله تعالى: (وذروا البيع) أي اشتغلوا بأمر المعاد واتركوا
أمر المعاش. كذا في المرقاة (وأتوها تمشون) أي بالسكينة والطمأنينة (وعليكم السكينة)
ضبطه القرطبي بنصب السكينة على الإغراء، وضبطه النووي بالرفع على أنها جملة في موضع
الحال والسكينة التأني في الحركات واجتناب العبث (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) قال
الحافظ في فتح الباري: قال الكرماني: الفاء جواب شرط محذوف أي إذا بينت لكم ما هو
أولى بكم فما أدركتم فصلوا. قلت: أو التقدير إذا فعلتم، فما أدركتم أي فعلتم الذي أمرتكم به
من السكينة وترك الإسراع.
واستدل بهذا الحديث على حصول فضيلة الجماعة بإدراك جزء من الصلاة لقوله: (فما
أدركتم فصلوا) ولم يفصل بين القليل والكثير، وهذا قول الجمهور. وقيل: لا تدرك الجماعة
بأقل من ركعة للحديث: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك) وقياسا على الجمعة وقد قدمنا
الجواب عنه في موضعه وأنه ورد في الأوقات وأن الجمعة حديثا خاصا بها انتهى.
قال الإمام الخطابي في المعالم: قوله فأتموا دليل على أن الذي يدركه المرء من صلاة
إمامه هو أول صلاته لأن لفظ الإتمام واقع على باق من شئ قد تقدم سائره وإلى هذا ذهب
الشافعي في أن ما أدركه المسبوق من صلاة إمامه هو أول صلاته وقد روي ذلك عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب والحسن البصري ومكحول وعطاء والزهري
والأوزاعي وإسحاق بن راهويه. وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي هو آخر صلاته، وإليه
ذهب أحمد بن حنبل وقد روي ذلك عن مجاهد وابن سيرين، واحتجوا بما روي في هذا
الحديث من قوله عليه السلام: (وما فاتكم فاقضوا) قالوا والقضاء لا يكون إلا للفائت قلت: قد
ذكر أبو داود في هذا الباب أن أكثر الرواة أجمعوا على قوله عليه السلام: (قد ذكر أبو داود في
هذا الباب ان أكثر الرواة اجمعوا على قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) وإنما ذكر عن شعبة
عن سعد بن إبراهيم بن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا ما أدركتم واقضوا
ما سبقتم) قال وكذا قال ابن سيرين عن أبي هريرة وكذا قال أبو رافع عن أبي هريرة. قلت:
وقد يكون القضاء بمعنى الأداء للأصل كقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة) الآية، وقوله
تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم) وليس يعني من هذا قضاء لفائت، فيحتمل أن يكون قوله عليه
السلام: (وما فاتكم فاقضوا) أي أدوه في تمام جمعا بين قوله عليه السلام: فأتموا، وبين قوله
عليه السلام: فاقضوا ونفيا للاختلاف بينهما. انتهى كلامه. قال المنذري: وأخرجه البخاري
ومسلم وابن ماجة.
196

(أئتوا الصلاة وعليكن أهل السكينة) الحكمة في شرعية هذا الأدب تستفاد من زيادة وقعت
في مسلم من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر نحو حديث الباب، وقال في آخره:
(فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة) أي أنه في حكم المصلى فينبغي له اعتماد
ما ينبغي للمصلى اعتماده، واجتناب ما ينبغي للمصلي اجتنابه: (فصلوا ما أدركتم واقضوا ما
سبقكم) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إن أكثر الروايات ورد بلفظ فأتموا وأقلها بلفظ
فاقضوا وإنما تظهر فائدة ذلك إذا جعلنا بين الإتمام والقضاء مغايرة، لكن إذا كان مخرج
الحديث واحدا واختلف في لفظه منه وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد كان أولى، وهنا
كذلك لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا لكنه يطلق على الأداء أيضا، ويرد بمعنى
الفراغ كقوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا) حديث ويرد بمعان أخر، فيحمل قوله هنا فاقضوا
على معنى الأداء أو الفراغ عند فلا يغاير قوله فأتموا، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: فاقضوا على
أن ما أدركه المأموم هو اخر صلاته حتى استحب له الجهر في الركعتين وقراءة السورة
وترك القنوت بل هو أولها وإن كان اخر صلاة إمامه، لأن الآخر لا يكون إلا عن شئ تقدمه،
وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في اخر صلاته على كل حال، فلو كان ما
يدركه مع الإمام اخرا له لما احتاج إلى إعادة التشهد. وقول ابن بطال إنه ما تشهد إلا لأجل
السلام، لأن السلام يحتاج إلى سبق تشهد ليس بالجواب الناهض على دفع ايراد المذكور.
واستدل ابن المنذر لذلك أيضا على أنهم أجمعوا على أن تكبيرة الافتتاح، لا تكون إلا في
197

الركعة الأولى. وقد عمل بمقتض اللفظين الجمهور فإنهم قالوا: إن ما أدرك المأموم هو أول
صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من قراءة السورة مع أم القران في الرباعية، لكن لم يستحبوا
له إعادة الجهر في الركعتين الباقيتين وكان الحجة فيه قوله: (ما أدركت مع امام فهو أول
صلاتك واقض ما سبقك به من القران) أخرجه البيهقي وعن إسحاق والمزني: لا يقرأ إلا أم
القران فقط وهو القياس انتهى (وأبو ذر روى عنه فأتموا واقضوا واختلف فيه) أي اختلف في
حديث أبي ذر، فروى عنه لفظ فأتموا ولفظ واقضوا أيضا.
(باب في الجمع في المسجد مرتين)
وبوب الترمذي في جامعه بلفظ باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صلى فيه مرة،
وأورد حديث الباب.
(ألا رجل يتصدق على هذا) أي يتفضل عليه ويحسن إليه (فيصلي) بالنصب (معه)
ليحصل له ثواب الجماعة فيكون كأنه قد أعطاه صدقة. قال المظهر: سماه صدقة لأنه يتصدق
عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفردا لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قال
الطيبي: قوله فيصلي منصوب لوقوعه جواب قوله ألا رجل، كقولك: ألا تنزل فتصيب خيرا،
وقيل الهمزة للاستفهام ولا بمعنى ليس، فعلى هذا فيصلي مرفوع عطفا على الخبر وهذا أولى
كذا في المرقاة. والحديث يدل على جواز أي يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه مرة.
قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين،
قالوا: لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال
آخرون من أهل العلم: يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ابن المبارك ومالك والشافعي يختارون الصلاة فرادى. قال المنذري: وأخرجه الترمذي بنحوه وقال حديث حسن، وفيه:
فقام رجل فصلى معه. انتهى.
198

(باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلى معهم)
(فلما صلى) أي فرغ من صلاته (ترعد) بضم أوله وفتح ثالثه أي تتحرك كذا قال ابن
رسلان، وقال في المرقاة بالبناء للمجهول، أي تحرك، من أرعد الرجل إذا أخذته الرعدة وهي
الفزع والاضطراب (فرائصهما) جمع فريصة وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها، أي
ترجف من الخوف. قاله في النهاية. وسبب ارتعاد فرائصهما ما اجتمع في رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الهيبة العظيمة والحرمة الجسيمة لكل من رآه مع كثرة تواضعه (قد صلينا في رحالنا) جمع رحل
بفتح الراء وسكون المهملة هو المنزل ويطلق على غيره ولكن المراد هنا المنزل (فإنها له نافلة)
فيه تصريح بأن الثانية نافلة والفريضة هي الأولى سواء صليت جماعة أو فرادى طلاق الخبر.
قال الخطابي في المعالم: وفي الحديث من الفقه أن من كان صلى في رحلة ثم صادف
جماعة يصلون كان عليه أن يصلي معهم أية صلاة كانت من صلوات الخمس، وهو مذهب
الشافعي وأحمد وإسحاق، وبه قال الحسن والزهري وقال قوم: يعيد المغرب والصبح،
وكذلك قال النخعي، وحكى ذلك عن الأوزاعي، وكان مالك والثوري يكرهان أن يعيدوا صلاة
المغرب، وكان أبو حنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر إذا كان قد صلاهن.
قلت: وظاهر الحديث حجة على جماعة من منع عن شئ من الصلوات كلها، ألا تراه
عليه السلام يقول: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك امام ولم يصل فليصل معه) ولم
يستثن صلاة دون صلاة. وقال أبو ثور: لا تعاد العصر والفجر إلا أن يكون في المسجد وتقام
الصلاة فلا يخرج حتى يصليها، وقوله عليه السلام: (فإنها نافلة) يريد الصلاة الآخرة منها
والأولى فريضة. وأما نهيه عليه السلام عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر
حتى تغرب الشمس فقد تأولوه على وجهين: أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء
199

من غير سبب، وأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوما يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم
ليحرز الفضيلة. والوجه اخر أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن جابر متأخر لأن في قصته
أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ثم ذكر الحديث. وفي قوله عليه السلام فإنها نافلة دليل
على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب. و فيه دليل على أن
صلاته منفردا مجزية مع القدرة على صلاة الجماعة وإن كان ترك الجماعة مكروها، انتهى.
قال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(رأى يزيد جالسا) أي على غير هيئة الصلاة (فقال ألم تسلم) أي أما أسلمت (فما منعك
أن تدخل مع الناس في صلاتهم) فإنه من علامة اسلام الدال على ايمان (وأنا أحسب أن قد
صليتم) قال الطيبي: جملة حالية، أي ظانا فراغ صلاتكم (إذا جئت إلى الصلاة) أي الجماعة
أو مسجدها (فصل معهم وإن كنت قد صليت) ليحصل لك ثواب الجماعة وزيادة النافلة
(تكن) أي الصلاة الثانية التي صليتها الآن (لك نافلة) بالنصب (وهذه) أي الصلاة الأولى التي
صليتها في منزلك، ويحتمل العكس، لكن الحديث المتقدم يرجع الاحتمال الأول (مكتوبة)
بالرفع وقيل بالنصب.
(رجل من بني أسد بن خزيمة) قبيلة (فقال) أي الرجل (فأصلي معهم) قال الطيبي: فيه
200

التفات من الغيبة على سبيل التجريد لأن الأصل أن يقال أصلي في منزلي بدل قومه يصلي
أحدنا. انتهى. والأظهر كان الأصل أن يقال فيصلي معهم فالتفت. قاله في المرقاة (فأجد في
نفسي من ذلك شيئا) أي شبهة (فقال أبو أيوب سألنا عن ذلك) قال الطيبي: المشار إليه بذلك
هو المشار إليه بذلك الأول والثالث أي الآتي وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة مع
الجماعة بعد ما صلاها منفردا (فقال فذلك) الظاهر أن المشار إليه هنا الرجل خلاف ما ذكره
الطيبي (له سهم جمع) قال الإمام الخطابي: يريد أنه سهم من الخير له حظان، وفيه وجه
آخر. قال الأخفش: سهم جمع يريد سهم الجيش هو السهم من الغنيمة. قال الجمع ههنا
الجيش، استدل بقوله تعالى: (فلما تراءى الجمعان) وبقوله (يوم التقى الجمعان)
وبقوله: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) انتهى. وقال في المرقاة: أي نصيب من ثواب
الجماعة. قال الطيبي: فأجد في نفسي، أي أجد في نفسي من فعل ذلك حزازة هل ذلك لي أو
علي، فقيل له سهم جمع، أي ذلك لك لا عليك. ويجوز أن يكون المعنى إني أجد من فعل
ذلك روحا أو راحة، فقيل: ذلك الروح نصيبك من صلاة الجماعة، الأول أوجه. انتهى.
قال المنذري: فيه رجل مجهول.
(باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة يعيد)
(على البلاط) بفتح الباء ضرب من الحجارة يفرش به الأرض ثم سمى المكان بلاطا
اتساعا وهو موضع معروف بالمدينة: قاله الطيبي وفي المصباح: البلاط كل شئ فرشت به
الدار من حجر وغيره (وهم) أي أهله (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) قال الإمام الخطابي في
201

المعالم: هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب، كالرجل يدرك الجماعة وهم
يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقا بين الأخبار ورفعا للاختلاف بينهما.
انتهى. قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
(لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ
منها فيعيدها على جهة الفرض أيضا، وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة اقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة والثانية
نافلة، فلا إعادة حينئذ. كذا في النيل. قال المنذري: وأخرجه النسائي وفي إسناده عمرو بن
شعيب وقد تقدم الكلام عليه وهو محمول على صلاة الاختيار دون ماله سبب كالرجل يصلي
ثم يدرك جماعة فيصلي معهم انتهى.
(باب جماع الإمامة وفضلها)
قلت: في ضبطه وجهان: الأول جماع بكسر الجيم وفتح الميم المخففة وجماع الشئ
جمعه لأن الجماع ما جمع عددا يقال: الخمر اثم جماع أي مجمعه ومظنته، وفي حديث أبي
ذر (ولا جماع لنا فيما بعد) أي لا اجتماع لنا، وفي حديث آخر (حدثني بكلمة تكون جماعا
فقال: اتق الله فيما تعلم) ومعنى قوله تكون جماعا أي كلمة تجمع كلمات. والثاني بضم
الجيم وشدة الميم وهو كل ما تجمع وانضم بعضه إلى بعض، وجماع كل شئ مجتمع خلقه
وجماع جسد الانسان رأسه. والجماع أخلاط من الناس وقيل هم الضروب المتفرقون والفرق
المختلفة من الناس، ومنه الحديث (كان في جبل تهامة جماع) أي جماعات من قبائل شتى
متفرقة كذا في اللسان ملخصا محررا. وعلى كلا الوجهين يصح حمل كلام المؤلف، فلفظ
جماع في مثل هذا المحل بمنزلة الكتاب والأبواب والفصول كأنه قال باب من أبواب الإمامة،
ومثله قول البيهقي في المعرفة جماع مواقيت الصلاة، وقد عرفت وجه الاشتقاق والله أعلم كذا
في غاية المقصود.
(فأصاب الوقت فله ولهم) أي فله ثواب صلاته ولهم ثواب صلاتهم (ومن انتقص من
202

ذلك) الوقت (شيئا فعليه) أي فعلى الإمام الوزر. قال المنذري وأخرجه مسلم وابن ماجة وفي
إسناده عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي المديني كنيته أبو حرملة وقد ضعفه غير واحد وأخرج له
مسلم وأخرج له البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون
لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم) انتهى.
(باب في كراهية التدافع عن الإمامة)
(إن من أشراط الساعة) أي علاماتها المذمومة واحدها شرط بالتحريك. قال الخطابي
أنكر بعضهم هذا التفسير، وقيل هي ما ينكره الناس من صغار أمور الساعة قبل أن تقوم. كذا في
المرقاة (أن يتدافع أهل المسجد) أي يدرأ كل من أهل المسجد امامة عن نفسه ويقول لست
أهلا لها لما ترك تعلم ما تصح به الإمامة. ذكره الطيبي. أو يدفع بعضهم بعضا إلى المسجد أو
المحراب ليؤم بالجماعة فيأتي عنها لعدم صلاحيته لها لعدم علمه بها. قاله ابن الملك. كذا
قال علي القاري. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة والحر بضم الحاء المهملة وبعدها راء
مهملة مشددة انتهى.
(باب من أحق بالإمامة)
(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) الظاهر أن المراد أكثرهم له حفظا ويدل على ذلك ما رواه
203

الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح عن عمرو ابن سلمة قال: (انطلقت مع أبي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام قومه فكان فيما أوصانا ليؤمكم أكثركم قرانا فكنت أكثرهم قرانا فقدموني)
وأخرجه أيضا البخاري وأبو داود والنسائي. وقيل أحسنهم قراءة وإن كان أقلهم حفظا، وقيل
أعلمهم بأحكامه (وأقدمهم قراءة) وكذا قال يحيى القطان عن شعبة أقدمهم قراءة. وروى
الأعمش عن إسماعيل بن رجاء هذا الحديث وقال فيه (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم
بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) ولم يقل فأقدمهم قراءة كما يصرح به المؤلف
بعد هذا الحديث قال الإمام الخطابي في المعالم: وهذه الرواية مخرجة من طريق شعبة على
ما ذكر أبو داود. والصحيح من هذا رواية سفيان عن إسماعيل بن رجاء أخبرنا أحمد بن
إبراهيم بن مالك قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: أخبرنا سفيان عن
إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمعج عن أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم
أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم
هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) قال وهذا هو الصحيح المستقيم في الترتيب
انتهى (فإن كانوا في القراءة) أي في مقدارها أو حسنها أو في العلم بها (سواء) أي مستوين
(فليؤمهم أقدمهم هجرة) هذا شامل لمن تقدم هجرة سواء كان في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده كمن يهاجر
من دار الكفر إلى دار الاسلام. وأما حديث (لا هجرة بعد الفتح) فالمراد به الهجرة من مكة إلى
المدينة أو لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح وهذا لا بد منه للجمع بين
الأحاديث (أكبرهم سنا) أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الاسلام لأن ذلك فضيلة يرجح بها
(ولا يؤم الرجل في بيته) قال الخطابي: معناه أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان
من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة. وقد روى مالك بن الحويرث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
(من زار قوما فلا يؤمهم) (ولا في سلطانه) فهذا في الجمعات والأعياد لتعلق هذه الأمور
بالسلاطين، فأما في الصلوات المكتوبات فأعلمهم أولاهم بالإمامة، فإن جمع السلطان هذه
الفضائل كلها فهو أولاهم بالإمامة. وكان أحمد بن حنبل يرى الصلاة خلف أئمة الجور ولا
يراها خلف أهل البدع. وقد يتأول أيضا قوله عليه السلام (ولا في سلطانه) على معنى ما يتسلط
عليه الرجل من ملكه في بيته أو يكون إمام مسجده في قومه وقبيلته قاله الخطابي (ولا يجلس
على تكرمته) أي فراشه وسريره وما يعد كرامة من وطأ ونحوه. قال الإمام الخطابي تحت هذا
الحديث: وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل ملاك أمر امامة القراءة وجعلها مقدمة
204

على سائر الخصال المذكور معها، والمعنى في ذلك أنهم كانوا قوما أميين لا يقرؤون فمن تعلم
شيئا من القران، كان أحق بالإمامة ممن لم يتعلمه لأنه لا صلاة إلا بقراءة وإذا كانت
القراءة من ضرورة الصلاة وكانت ركنا من أركانها صارت مقدمة في الترتيب على الأشياء
الخارجة عنها ثم تلا القراءة بالسنة وهي الفقه ومعرفة أحكام الصلاة وما سنه رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فيها وبيته من أمرها، وأن الامام إذا كان جاهلا بأحكام الصلاة ربما يعرض
فيها من سهو ويقع من زيادة ونقصان أفسدها وأخدجها، مع فكان العالم بها الفقيه فيها مقدما على
من لم يجمع علمها ولم يعرف أحكامها. ومعرفة السنة وإن كانت مؤخرة في الذكر وكانت القراءة
مبتدأة بذكرها فإن الفقيه العالم بالسنة إذا كان يقرأ من القران ما تجوز به الصلاة أحق بالإمامة من
الماهر بالقراءة إذا كان مختلفا عن درجته في علم الفقه ومعرفته السنة. وإنما قدم القارئ في
الذكر لأن عامة الصحابة إذا اعتبرت أحوالهم وجدت أقرأهم أفقههم به. وقال ابن مسعود: كان
أحدنا إذا حفظ سورة من القران لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يحكم علمها ويعرف حلالها
وحرامها أو كما قال. فأما غيرهم ممن تأخر بهم الزمان فإن أكثرهم يقرأون ولا يفقهون فقراؤهم
كثير والفقهاء منهم قليل. وأما قوله عليه السلام: (فإن استووا في السنة فأقدمهم هجرة) فإن
الهجرة قد انقطعت اليوم إلا أن فضيلتها موروثة، فمن كان من أولاد المهاجرين أو كان في ابائه
وأسلافه من له قدم في اسلام أو سابقة فيه أو كان آباؤه أقدم إسلاما فهو مقدم على من لم يكن
آبائه سابقة أو كانوا ممن بنى العهد بالإسلام، فإذا كانوا متساويين في هذه الحالات الثلاثة
فأكبرهم سنا مقدم على من هو أصغر سنا لفضيلة السن، ولأنه إذ تقدم أصحابه في السن فقد
تقدمهم في اسلام فصار بمنزلة من تقدمت هجرته، وعلى هذا الترتيب توجد أقاويل أكثر
العلماء في هذا الباب.
قال عطاء بن أبي رباح: يؤمهم أفقههم فإن كانوا في الفقه سواء فأقرأهم، فإن كانوا في
الفقه والقراءة سواء فأسنهم، وقال مالك: يتقدم القوم أعلمهم، فقيل له: أقرؤهم، فقال: قد
يقرأ من لا يرضى، وقال الأوزاعي: يؤمهم أفقههم. وقال الشافعي: إذا لم تجتمع القراءة
والفقه والسن في واحد قدموا أفقههم إذا كان يقرأ من القران ما يكتفي به في الصلاة وإن قدموا
أقرأهم إذا كان يعلم من الفقه ما يلزمه في الصلاة فحسن. وقال أبو ثور: يؤمهم أفقههم إذا كان
205

يقرأ القران وإن لم يقرؤه كله. وكان سفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق يقدمون القراءة
قولا بظاهر الحديث. انتهى كلام الخطابي. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي
وابن ماجة.
(كنا بحاضر) قال الخطابي: الحاضر القوم النزول على ما يقيمون به لا يرحلون عنه
وربما جعلوه اسما لمكان الحضور يقال: نزلنا حاضر بني فلان فهو فاعل بمعنى مفعول (يمر بنا
الناس) استئناف أو حال من ضمير الاستقرار في الخبر، وفي رواية البخاري: (كنا بماء ممر
الناس يمر بنا الركبان) (وقال يؤمكم أقرؤكم فكنت أقرأهم لما كنت أحفظ) وفي رواية
البخاري: (وليؤمكم أكثركم قرانا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرانا مني لما كنت أتلقى من
الركبان (فقدموني) أي للإمامة (وعلي بردة لي صغيرة) البردة كساء صغير مربع، ويقال كساء
أسود صغير وبه كني أبو بردة (تكشفت عني) وفي بعض النسخ انكشفت أي ارتفعت عني
لقصرها وضيقها حتى يظهر شئ من عورتي. وفي رواية البخاري: تقلصت عني ومعناه
206

اجتمعت وانضمت وارتفعت إلى أعالي البدن (واروا عنا) أي استروا عن قبلنا أو عن جهتنا
(عمانيا) نسبة إلى عمان بالضم والتخفيف موضع عند البحرين (فرحي به) أي مثل فرحي بذلك
القميص إما لأجل حصول التستر، وعدم تكلف الضبط، وخوف الكشف، وإما فرح به كما هو
عادة الصغار بالثوب الجديد (فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع أو ثمان سنين) قال في سبل السلام:
فيه دليل لما قاله الحسن البصري والشافعي وإسحاق من أنه لا كراهة في إمامة المميز وكرهها
مالك والثوري، وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان والمشهور عنهما الأخرى في النوافل دون
الفرائض، قالوا: ولا حجة في قصة عمرو هذه لأنه لم يرو أنه كان عن أمره صلى الله عليه وسلم ولا تقريره وأجيب
بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك،
واحتمال أنه أمهم في نافلة يبعده سياق القصة.
وقد أخرج أبو داود في سننه قال عمرو فما شهدت مشهدا في جرم إلا كنت إمامهم، وهذا
يعم الفرائض والنوافل. قلت: ويحتاج من ادعى التفرقة بين الفرض والنفل وأنه يصح إمامة
الصبي في هذا دون ذلك إلى دليل انتهى ملخصا. قال الإمام الخطابي في المعالم: وقد اختلف
الناس في إمامة الصبي غير البالغ إذا عقل الصلاة، فمن أجازها الحسن وإسحاق بن راهويه.
وقال الشافعي: يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلا في الجمعة، وكره الصلاة خلف
الغلام قبل أن يحتلم عطاء والشعبي ومالك والثوري والأوزاعي، وإليه ذهب أصحاب الرأي
وكان أحمد بن حنبل يضعف أمر عمرو بن سلمة وقال مرة دعه ليس بشئ بين وقال الزهري:
إذا اضطروا إليه أمهم. قلت: وفي جواز صلاة عمرو بن سلمة بقومه دليل على جواز صلاة
المفترض خلف المتنفل لأن صلاة الصبي نافلة انتهى.
(في بردة موصلة) بصيغة المفعول أي مرقعة والوصل بالفارسية بيوندكردن سعيد جامه وا يصال
بيواندانيدن بكر (فيها فتق) أي خرق (خرجت أستي) أي ظهرت لقصر بردتي وضيقها. المراد
هنا العجز ويراد به حلقة الدبر.
207

(أنهم وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أي ذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم، والوفد قوم يجتمعون ويردون البلاد
الواحد وافدوا كذا من يقصد الأمراء بالزيارة (وعلي شملة) الشملة الكساء والمئزر يتشح به (فما
شهدت مجمعا من جرم) بجيم مفتوحة وراء ساكنة وهم قومه (إلا كنت إمامهم وكنت أصلي
على جنائزهم إلى يومي هذا) في هذا رد على من زعم أنه أمهم في النافلة. قال المنذري:
وأخرجه البخاري بنحوه وقال فيه وأنا ابن ست أو سبع وليس فيه عن أبيه، وأخرجه النسائي.
(لما قدم المهاجرون الأولون) أي من مكة إلى المدينة، وبه صرح في رواية الطبراني
(نزلوا العصبة) بالعين المهملة المفتوحة وقيل مضمومة واسكان الصاد المهملة وبعدها موحدة
موضع بالمدينة عند قباء، وفي النهاية عن بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين (فكان يؤمهم
سالم مولى أبي حذيفة) هو مولى امرأة من الأنصار فأعتقته، وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق وإنما
قيل له مولى أبي حذيفة لأنه لازم أبا حذيفة بعد أن أعتق فتبناه، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه
واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر (وكان أكثرهم قرانا) إشارة إلى سبب تقديمهم له
مع كونهم أشرف منه، وفي رواية للطبراني لأنه كان أكثرهم قرانا. وقال في المرقاة: وفي إمامة
208

سالم مع وجود عمر رضي الله عنه دلالة قوية على مذهب من يقدم الأقرأ على الأفقه انتهى. قال
المنذري: وأخرجه البخاري وليس في ذكر عمرو بن سلمة.
(قال له أو لصاحب له) أي رفيق له (فأذنا) أمر من الأذان. قال الحافظ ابن حجر في فتح
الباري: المراد بقوله أذنا أي من أحب منكما أن يؤذن فليؤذن قد وذلك لاستوائهما في الفضل، ولا
يعتبر في الأذان السن بخلاف الإمامة، وهو واضح من سياق حديث الباب حيث قال: (فليؤذن
لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم وقال في مقام اخر من فتح الباري: قال أبو الحسن بن القصار:
أراد به الفضل وإلا فالأذان الواحد يجزئ، وكأنه فهم منه أنه أمرهما أن يؤذنا جميعا كما هو ظاهر
اللفظ، فإن أراد أنهما يؤذنان معا فليس ذلك بمراد. وقد قدمنا النقل عن السلف بخلافه، وإن
أراد أن كلا منهما يؤذن على حدة ففيه نظر فإن أذان الواحد يكفي الجماعة. نعم يستحب لكل
أحد إجابة المؤذن، فالأولى حمل الأمر على أن أحدهما يؤذن وا خر يجيب وقد تقدم له توجيه
اخر في الباب الذي قبله، وأن الحامل على صرفه عن ظاهره قوله فيه: (فليؤذن لكم أحدكم)
واستروح القرطبي فحمل اختلاف ألفاظ الحديث على تعدد القصة وهو بعيد. وقال الكرماني:
قد يطلق الأمر بالتثنية وبالجمع والمراد واحد كقوله: يا حرسي كل اضربا عنقه وقوله: قتله بنو تميم
مع أن القاتل والضارب واحد. انتهى مختصرا (ثم أقيما) قال الحافظ: فيه حجة لمن قال
باستحباب إجابة المؤذن بالإقامة إن حمل الأمر على ما مضى وإلا فالذي يؤذن هو الذي يقيم.
انتهى. (ثم ليؤمكما أكبركما) ظاهره تقديم الأكبر بكثير السن وقليله، وأما من جوز أن يكون
مراده بالكبر ما هو أعم من السن أو القدر كالتقدم في الفقه والقراءة والدين فبعيد لما تقدم من
فهم راوي الخبر حديث قال للتابعي. فأين القراءة فإنه دال على أنه أراد كبر السن، وكذا دعوى
من زعم أن قوله: (وليؤمكم أكبركم) معارض بقوله: (يؤم القوم أقرؤهم) لأن الأول يقتضي
تقديم الأكبر على الأقرأ والثاني عكسه، ثم انفصل عنه بأن قصة مالك بن الحويرث واقعة عين
قابلة الاحتمال بخلاف الحديث الآخر فإنه تقرير قاعدة تفيد التعميم، قال فيحتمل أن يكون
الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقه انتهى. والتنصيص على تقاربهم في العلم يرد عليه، فالجمع
الذي قدمناه أولى والله أعلم. قاله الحافظ في الفتح (وفي حديث مسلمة قال وكنا يومئذ
209

متقاربين في العلم) قال الحافظ في الفتح: وأظن في هذه الرواية إدراجا، فإن ابن خزيمة رواه
من طريق إسماعيل ابن علية عن خالد قال: (قلت لأبي قلابة فأين القراءة؟ قال إنهما كانا
متقاربين) وأخرجه مسلم من طريق حفص بن غياث عن خالد الحذاء وقال فيه قال الحذاء:
وكانا متقاربين في القراءة، ويحتمل أن يكون مستند أبي قلابة في ذلك هو إخبار مالك بن
الحويرث، كما أن مستند الحذاء هو إخبار أبي قلابة له به، فينبغي ادراج عن اسناد والله
أعلم. انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه
مختصرا ومطولا.
(ليؤذن لكم) أمر استحباب (خياركم) أي من هو أكثر صلاحا ليحفظ نظره عن العورات
ويبالغ في محافظة الأوقات. قال الجوهري: الخيار خلاف الأشرار، والخيار اسم من
الاختيار، وإنما كانوا خيارا لما ورد أنهم أمناء لأن أمر الصائم من افطار والأكل والشرب
والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة يتعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار
مختارون ذكره الطيبي كذا في المرقاة (وليؤمكم) بسكون اللام وتكسر (قراؤكم) بضم القاف
وتشديد الراء وكلما يكون أقرأ فهو أفضل إذا كان عالما بمسائل الصلاة، فإن أفضل الأذكار
وأطولها وأصبعها في الصلاة إنما هو القراءة، وفيه تعظيم لكلام الله وتقديم قارئه، وإشارة إلى
علو مرتبته في الدارين، كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بتقديم الأقرأ في الدفن. قاله علي القاري في
المرقاة قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة وفي إسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد
تكلم فيه أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان، وقد ذكر الدارقطني أن الحسين بن عيسى تفرد بهذا
الحديث عن الحكم بن أبان.
210

(باب إمامة النساء)
(لما غزا بدرا) وهي قرية عامرة بين مكة والمدينة وهو إلى المدينة أقرب، ويقال هو منها
على ثمانية وعشرين فرسخا على منتصف الطريق تقريبا، وبدر بئر كانت لرجل يسمى بدرا
(أمرض) من التمريض وهو المعالجة والتدبير في المرض (مرضاكم) مرضى جمع مريض أي
أخدم مرضاكم في أمراضهم (قرى في بيتك) أي اسكني فيه أمر للمؤنث من قر يقر (وكانت
دبرت غلاما وجارية) أي علقت عتقهما على موتها من التدبير، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت
حر بعد موتى أو إذا مت فأنت حر (فقاما إليها) أي إلى أم ورقة (فغماها) من الغم وهو تغطية
الوجه فلا يخرج الغم ولا يدخل الهواء فيموت (بقطيفة) هي كساء له خمل أي غطاء وجه أم
ورقة بقطيفة لها حتى ماتت.
(وأمرها أن تؤم أهل دارها) ثبت من هذا الحديث أن إمامة النساء وجماعتهن صحيحه
211

ثابتة من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمت النساء عائشة رضي الله عنها وأم سلمة رضي الله عنها في
الفرض والتراويح قال الحافظ في تلخيص الحبير: حديث عائشة أنها أمت نساء فقامت
وسطهن رواه عبد الرزاق ومن طريقه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي حازم عن رائطة
الحنفية عن عائشة أنها أمتهن فكانت بينهن في صلاة مكتوبة. وروى ابن أبي شيبة ثم الحاكم
من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة أنها كانت تؤم النساء فتقوم معهن في الصف.
وحديث أم سلمة أنها أمت نساء فقامت وسطهن. الشافعي وابن أبي شيبة عبد الرزاق ثلاثتهم
عن ابن عيينة عن عمار الدهني عن امرأة من قومه يقال لها هجيرة عن أم سلمة أنها أمتهن فقامت
وسطا ولفظ عبد الرزاق (أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا) وقال الحافظ في الدراية:
وأخرج محمد بن الحسن من رواية إبراهيم النخعي عن عائشة: (أنها كانت تؤم النساء في شهر
رمضان فتقوم وسطا).
قلت: وظهر من هذه الأحاديث أن المرأة إذا تؤم النساء تقوم وسطهن معهن ولا
تقدمهن. قال في السبل: والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها وإن كان فيهم
الرجل فإنه كان لها مؤذنا وكان شيخا كما في الرواية، والظاهر أنها كانت تؤمه وغلامها
وجاريتها، وذهب إلى صحة ذلك أبو ثور المربي والطبري، وخالف ذلك الجماهير. وأما
إمامة الرجل النساء فقط، فقد روى عبد الله بن أحمد من حديث أبي بن كعب (أنه جاء إليه
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملا. قال ما هو؟ قال: نسوة معي في الدار قلن
إنك تقرأ ولا نقرأ فصل بنا فصليت ثمانيا والوتر، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم قال: فرأينا أن سكوته رضا)
قال الهيثمي في إسناده من لم يسم. قال ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
انتهى: قال المنذري: وفي إسناده الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي وفيه مقال، وقد
أخرج له مسلم انتهى. وحديث أم ورقة أخرجه الحاكم في المستدرك ولفظه (أمرها أن تؤم أهل
دارها في الفرائض) وقال لا أعرف في الباب حديثا مسندا غير هذا. وقد احتج مسلم بالوليد بن
جميع. انتهى. وقال ابن القطان في كتابه الوليد بن جميع وعبد الرحمن بن خلاد لا يعرف
حالهما. قلت: ذكرهما ابن حبان في الثقات. وأخرج عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا إبراهيم بن
محمد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: (تؤم المرأة النساء تقوم في
وسطهن) انتهى.
212

(باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون)
(من تقدم قوما) أي للإمامة (وهم له كارهون) قال في النيل: وقد قيد ذلك جماعة من
أهل العلم بالكراهية الدينية لسبب شرعي، فأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضا
بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، منه ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين والثلاثة إذا كان
المؤتمون جمعا كثيرا إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة، والاعتبار
بكراهة أهل الدين دون غيرهم. انتهى. ملخصا: وقال الخطابي: قلت يشبه أن يكون الوعيد في
الرجل ليس من أهل الإمامة فيقتحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته، فأما إن
كان مستحقا للإمامة فاللوم على من كرهه دونه. وشكي رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه
كان يصلي بقوم وهم له كارهون فقال له: إنك لخروط يريد أنك متعسف في فعلك ولم يرده
على ذلك (ورجل أتى الصلاة دبارا) بكسر الدال وانتصابه على المصدر، أي إتيان دبار، وهو
يطلق على آخر الشيء، وقيل جمع دبر وهو آخر أوقات الشيء. وقال الخطابي: هو أن يكون
قد اتخذه عادة، حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها (والدبار أن يأتيها)
من غير عذر (بعد أن تفوته) أي الصلاة جماعة. قال في النهاية: أي بعد ما يفوت وقتها وقيل
دبار جمع وهو آخر أوقات الشيء، والمراد أنه يأتي الصلاة حين أدبر وقتها. انتهى. (ورجل
اعتبد محرره) أي اتخذ نفسا معتقة عبدا أو جارية. قال ابن الملك: تأنيث محرره بالحمل
على النسمة لتناول العبيد والإماء. كذا في المرقاة، وفي بعض نسخ أبي داود، محرره بالضمير
المجرور. قال الخطابي: اعتباد المحرر يكون من وجهين أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو
ينكره وهذا شر الامرين، والوجه الاخر ان يعتقله بعد العتق فيستخدمه كرها. انتهى. قال
المنذري: وأخرجه ابن ماجة وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أفريقي وهو ضعيف.
213

(باب إمامة البر والفاجر)
(الصلاة المكتوبة واجبة خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا) ورواه الدارقطني بمعناه.
وقال مكحول لم يلق أبا هريرة. وقد ورد هذا الحديث من طرق كلها كما قال الحافظ: واهية
جدا. قال العقيلي: ليس في هذا المتن اسناد يثبت. قال في سبل السلام: وهي أحاديث كثيرة
دالة على صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر إلا أنها كلها ضعيفة، وقد عارضها حديث (لا
يؤمنكم ذو جرأة في دينه) ونحوه وهي أيضا ضعيفة قالوا: فلما ضعفت الأحاديث من الجانبين
رجعنا إلى الأصل وهي أن من صحت صلاته صحت إمامته، وأيد ذلك فعل الصحابة فإنه
أخرج البخاري في التاريخ عن عبد الكريم أنه قال: (أدركت عشرة من أصحاب محمد صلى
الله عليه وآله وسلم يصلون خلف أئمة الجور) ويؤيده أيضا حديث مسلم (كيف أنت إذا كان
عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها أو يميتون الصلاة عن وقتها قال: فما تأمرني؟ قال: صل
الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة) فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة
لأنهم أخرجوها عن وقتها. وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورا بصلاتها خلفهم
فريضة. انتهى.
(باب إمامة الأعمى)
(استخلف ابن أم مكتوم) أي أقام مقام نفسه في مسجد المدينة حين خرج إلى الغزو (يؤم
الناس) بيان الاختلاف. والحديث دليل على صحة إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك.
214

قال في النيل: وقد صرح أبو إسحاق المروزي والغزالي بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير،
لأنه أكثر خشوعا من البصير من شغل القلب بالمبصرات، ورجح البعض أن إمامة
البصير أولى لأنه أشد توقيا للنجاسة. والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى
والبصير سواء في عدم الكراهية، لأن في كل منهما فضيلة، غير أن إمامة البصير أفضل لأن أكثر من
جعله النبي صلى الله عليه وسلم إماما البصراء. وأما استنابته صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن
الغزو من المؤمنين إلا معذور فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه أو لم يتفرغ لذلك
واستخلفه لبيان الجواز. انتهى.
(باب إمامة الزائر)
(يأتينا إلى مصلانا) أي مسجدنا (فصله) بهاء السكت (وسأحدثكم لم لا أصلي بكم) أي
ولو أني أفضل من رجالكم لكونه صحابيا وعالما (من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم)
فإنه أحق من الضيف، وكأنه امتنع من الإمامة مع وجود اذن منهم عملا بظاهر الحديث ثم إن
حدثهم بعد الصلاة فالسين للاستقبال وإلا فلمجرد غير التأكيد.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
قالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن
يصلي به. وقال إسحاق: لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له، قال وكذلك في المسجد
إذا زارهم يقول: ليصل بهم ربهم منهم. انتهى. وقال في المنتقى: وأكثر أهل العلم أنه لا بأس
بإمامة الزائر بإذن رب المكان لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود (إلا بإذنه) ويعضده عموم ما رواه ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة) الحديث. وفيه (ورجل أم قوما
وهم به راضون) انتهى. ملخصا. قال المنذري: وأخرجه الترمذي: وقال هذا حديث حسن.
وأخرجه النسائي مختصرا. وسئل أبو حاتم الرازي عن أبي عطية هذا فقال: لا يعرف ولا
يسمى.
215

(باب الإمام يقوم مكانا أرفع من مكان القوم)
(بالمدائن) هي مدينة قديمة على دجلة تحت بغداد (على دكان) بضم الدال المهملة
وتشديد الكاف الحانوت قيل النون زائدة وقيل أصلية وهي الدكة بفتح الدال وهو المكان
المرتفع يجلس عليه (فجبذه) أي جره وجذبه (فلما فرغ) أي أبو حذيفة (قال) أبو مسعود (ألم
تعلم أنهم كانوا ينهون) بفتح الياء والهاء ورواية ابن حبان أليس قد نهي عن هذا كذا في النيل
(حين مددتني) أي مددت قميصي وجذبته إليك.
(فتقدم حذيفة) أي من الصف (فأخذ على يديه) أي أمسكهما وجر عمارا من خلفه لينزل
إلى أسفل ويستوي مع المأمومين (فاتبعه) بالتشديد أي طاوعه (قال عمار لذلك) أي لأجل
سماعي هذا النهي منه أولا وتذكري بفعلك ثانيا (اتبعك) في النزول، قال في النيل:
والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وبين
القامة ودونها وفوقها لقول أبي مسعود أنهم كانوا ينهون عن ذلك، وقول ابن مسعود نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شئ والناس خلفه يعني أسفل منه. وأما صلاته صلى الله عليه وسلم على
المنبر فقيل إنه إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله: (ولتعلموا صلاتي) وغاية ما فيه
جواز وقوف امام على محل أرفع من المؤتمين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: من أراد
216

أن يستدل به على جواز الارتفاع من غير قصد التعليم لم يستقم لأن اللفظ لا يتناوله ولانفراد
الأصل بوصف معتبر تقتضي المناسبة اعتباره فلا بد منه انتهى وقال الحافظ في فتح الباري: وفيه
جواز اختلاف موقف الإمام المأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك المصنف في حكايته عن
شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث انتهى. قال المنذري:
في إسناده رجل مجهول. قلت: سكت المؤلف وكذا المنذري على الحديث الأول من حديثي الباب
وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي رواية للحاكم التصريح برفعه كذا قال الشوكاني.
(باب إمامة من صلى بقوم وقد صلى تلك الصلاة)
(أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم قومه) قال الخطابي: فيه من الفقه جواز
صلاة المفترض خلف المتنفل لأن صلاة معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الفريضة، وإذا كان قد
صلى فريضة فصلاته بقومه نافلة. وفيه دليل على جواز إعادة صلاة في يوم مرتين إذا كان
للإعادة سبب من الأسباب التي تعادلها الصلاة. واختلف الناس في جواز صلاة المفترض
خلف المنتفل، فقال مالك إذا اختلفت نية الإمام والمأموم في شئ من الصلاة لم يعتد المأموم
بما صلى معه واستأنف، وكذلك قال الزهري وربيعة. وقال أصحاب الرأي: إن كان الامام
متطوعا لم يجزه من خلفه الفريضة، وذا كان الامام مفترضا وكان من خلفه متطوعا كانت
صلاتهم جائزة، وجوزوا صلاة المقيم خلف المسافر، وفروض المسافر عندهم ركعات وقال
الشافعي والأوزاعي وأحمد: صلاة المفترض خلف المتنقل جائزة. وهو قول عطاء وطاووس.
وقد زعم بعض من لم ير ذلك جائزا أن صلاة معاذ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نافلة
وبقومه فريضة قال وهذا فاسد إذ لا يجوز على معاذ أن يدرك الفرض وهو أفضل العمل مع
أفضل الخلق ويتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنقل الذي لا طائل فيه. ويدل على فساد
217

هذا التأويل قول الراوي: كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وهي صلاة الفريضة، وقد قال
صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فلم يكن معاذ يترك المكتوبة بعد أن شهدها
وقد أقيمت، وقد أثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقه فقال عليه السلام (أفقهكم معاذ) انتهى.
قلت: لا شك أن صلاة معاذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هي الفريضة وصلاته بقومه كانت
نافلة، ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم من طريق ابن
جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد (هي له تطوع ولهم فريضة) وهو حديث
صحيح. وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه فانتقلت تهمة التدليس. قال
الحافظ ابن حجر في الفتح: وأسلم الأجوبة التمسك بهذه الزيادة. وأجاب الحافظ عن
تأويلات الطحاوي الركيكة جوابا حسنا وأورد في هذا الباب أبحاثا لطيفة مفيدة في فتح الباري
فأرجع إليه. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
(باب الإمام يصلي من قعود)
بعد وفي بعض النسخ إذا صلى الإمام قاعدا.
(فصرع عنه) بصيغة المجهول أي سقط (فجحش) بضم الجيم وكسر الحاء أي انخدش
وجحش متعد (شقة الأيمن) أي تأثر منعه استطاعة القيام (فصلى صلاة من الصلوات) أي
المكتوبة كما هو الظاهر من العبارة (وهو قاعد) جملة حالية (ليؤتم به) أي ليقتدي به (فصلوا
قياما) مصدر أي ذوي قيام أو جمع أي قائمين ونصبه على الحالية (جلوسا) جمع جالس أي
جالسين (أجمعون) تأكيد للضمير المرفوع في (فصلوا) قال الإمام الخطابي في المعالم: ذكر
218

أبو داود هذا الحديث من رواية جابر وأبي هريرة وعائشة ولم يذكر صلاة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام وهو آخر الأمرين من
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب هذا الكتاب أن يذكر الحديث في بابه
ويذكر الحديث الذي يعارضه في باب آخر على أثره ولم أجده في شئ من النسخ فلست أدري
كيف أغفل ذكر هذه القصة وهي من أمهات السنن وإليه ذهب أكثر الفقهاء. ونحن نذكره
لتحصل فائدة ويحفظ على الكتاب رسمه وعادته. ثم ذكر الخطابي بإسناده عن عائشة حديث
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام. وفي آخر الحديث (فأقامه
في مقامه وجعله عن يمينه فقعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبر بالناس فجعل أبو بكر
يكبر بتكبيره والناس يكبرون بتكبير أبي بكر) قال الخطابي: قلت وفي إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا
بكر عن يمينه وهو مقام المأموم وفي تكبيره بالناس وتكبير أبي بكر بتكبيره بيان واضح أن الإمام
في هذه الصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى قاعدا والناس من خلفه قيام وهي آخر صلاة صلاها
بالناس، فدل على أن حديث أنس وجابر منسوخ، ويزيد ما قلناه وضوحا ما رواه أبو معاوية عن
الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: (لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث قالت
فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما يقتدي به والناس يقتدون بأبي بكر) حدثونا به عن يحيى بن
محمد بن يحيى قال: أخبرنا مسدد قال: أخبرنا أبو معاوية والقياس يشهد لهذا القول لأن الإمام
لا يسقط عن القوم شيئا من أركان الصلاة مع القدرة عليه، ألا ترى أنه لا يحيل الركوع والسجود
إلى الإيماء، وكذلك لا يحيل القيام إلى القعود، وإلى ذهب سفيان الثوري وأصحاب
الرأي والشافعي وأبو ثور. وقال مالك بن أنس لا ينبغي لأحد أن يؤم الناس قاعدا، وذهب
أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونفر من أهل الحديث إلى خبر أنس، فإن الإمام إذا صلى
قاعدا صلوا من خلفه قعودا، وزعم بعض أهل الحديث أن الروايات اختلفت في هذا فروى
الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماما، وروى شقيق عنها أن الإمام كان أبو بكر فلم يجز ان
يترك له حديث أنس وجابر، ويشبه أن يكون أبو داود إنما ترك ذكره لأجل هذه العلة. وفي هذا
الحديث من الفقه أنه يجوز الصلاة بإمامين أحدهما بعد الآخر من غير حدث يحدث بالإمام
الأول. وفيه دليل على جواز تقدم بعض صلاة المأموم على بعض صلاة الإمام. وفيه دليل على
قبول خبر الواحد انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن
ماجة.
219

(فصرعه) أي أسقطه (على جذم نخلة) بجيم مكسورة وذال معجمة ساكنة وهو أصل
الشئ، والمراد هنا أصل النخلة. وحكى الجوهري فتح الجيم وهي ضعيفة فإن الجذم بالفتح
القطع قاله الشوكاني (فانفكت قدمه) الفك نوع من الوهم والخلع، وانفك العظم انتقل من
مفصله، يقال فككت الشئ أبنت بعضه من بعض. قال الحافظ زين الدين العراقي في شرح
الترمذي: هذه لا تنافى الرواية التي قبلها إذ لا مانع من حصول من خدش الجلد وفك القدم معا
قال: ويحتمل انهما واقعتان (فوجدناه في مشربة) بفتح الميم وبالشين المعجمة وبضم الراء
وفتحها وهي الغرفة، وقيل كالخزانة فيها الطعام والشراب، ولهذا سميت مشربة فإن المشربة
بفتح الراء فقط هي الموضع الذي يشرب منه الناس (ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس
بعظمائها) أي بأمرائها. وفي رواية مسلم من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر: (فلما سلم
قال إن كنتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا) قال
المنذري: وأخرجه ابن ماجة مختصرا.
(فإذا كبر) أي للاحرام أو مطلقا فيشمل تكبير النقل (ولا تكبروا حتى يكبر) زاده تأكيدا
لما أفاده مفهوم الشرط كما في سائر الجمل الآتية (ولا تركعوا حتى يركع) أي حتى يأخذ في
الركوع يقول لا حتى يفرغ منه كما يتبادر من اللفظ (وإذا سجد) أي أخذ في السجود (أفهمني بعض
220

أصحابنا) مراد المؤلف أنه روى هذا الحديث عن سليمان بن حرب وسمع من لفظه لكن جملة
اللهم ربنا لك الحمد ما سمع من لفظ الشيخ أو سمع ولكن لم يفهم فأفهمه بعض أصحابه أي
رفقائه وأخبر أبا داود بلفظ الشيخ، وهذا يدل على كمال الاحتياط والاتقان على أداء لفظ
الحديث.
(زاد) أي زيد بن أسلم في روايته (قال أبو داود هذه الزيادة إلخ) قال المنذري: وفيما
قاله نظر فإن أبا خالد هذا هو سليمان بن حبان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج البخاري
ومسلم بحديثهم في صحيحهما ومع هذا فلم ينفرد بهذه الزيادة بل قد تابعه عليها أبو سعد
محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد. وقد سمع من ابن عجلان وهو ثقة
ووثقه يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المخرمي وأبو عبد الرحمن النسائي، وقد أخرج هذه
الزيادة النسائي في سننه من النسائي أبي خالد الأحمر ومن حديث محمد بن سعد، وقد أخرج
مسلم في الصحيح هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري من حديث جرير بن عبد
الحميد عن سليمان التيمي عن قتادة، وقال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي
فيها عن قتادة وخالفه الحفاظ فلم يذكروها، قال وإجماعهم على مخالفة تدل على وهمه هذا
آخر كلامه. ولم يؤثر عند مسلم تفرد سليمان بذلك لثقته وحفظه وصحح هذه الزيادة. قال أبو
إسحاق صاحب مسلم قال أبو بكر بن أخت أبي النصر في هذا الحديث أي طعن فيه، فقال
مسلم: يزيد أحفظ من سليمان، فقال له أبو بكر فحديث أبي هريرة هو صحيح يعني: فإذا قرأ
فأنصتوا. فقال هو عندي صحيح، فقال لم لم تضعه ههنا؟ قال ليس كل شئ عندي صحيح
وضعته ههنا إنما وضعت ههنا ما اجتمعوا عليه. فقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث
أبي موسى الأشعري ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انتهى كلام المنذري ويجئ بعض
الكلام على هذه الزيادة في بحث التشهد.
221

(صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته) أي في المشربة التي في حجرة عائشة كما بينه أبو سفيان
عن جابر، وزاد في رواية البخاري: (وهو شاك) أي مريض من الشكاية، وكان سبب ذلك ما
في حديث أنس المذكور أنه سقط عن فرس (فصلى وراءه قوم قياما) ولمسلم من رواية عبدة
عن هشام (فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه) الحديث قال المنذري: وأخرجه البخاري
ومسلم.
(عن جابر قال اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد الحديث) قال المنذري:
وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة مطولا وفيه فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا.
(أنه كان يؤمهم) أي أن أسيد بن حضير كان يؤم قومه وكان إمامهم فمرض فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده أي أسيد بن حضير (فقال يا رسول الله) هكذا في بعض النسخ وكذا في
مختصر المنذري وفي بعض النسخ قالوا بالجمع وهو الصحيح، أي قال الناس الحاضرون
عنده ممن يؤمهم (إن إمامنا مريض) يعنون بإمامنا أسيد بن حضير لأنه هو كان إمامهم (قال أبو
داود وهذا الحديث ليس بمتصل) قال المنذري: وما قاله ظاهر فإن حصينا هذا إنما يروي عن
222

التابعين لا يحفظ له رواية الذي عن الصحابة سيما أسيد بن حضير فإنه قديم الوفاة توفى سنة عشرين
وقيل سنة إحدى وعشرين رضي الله عنهم.
(باب الرجلين يؤم أحدهما صاحبه كيف يقومان)
(دخل على أم حرام) هي خالة أنس (فقال ردوا هذا في وعائه وهذا في سقائه) والوعاء
بكسر الواو واحد الأوعية وهي ما يحفظ فيه الشيء، والسقاء ظرف الماء من جلد ويجمع على
أسقية (ثم قام) النبي صلى الله عليه وسلم (فصلى بنا ركعتين تطوعا) فيه جواز النافلة جماعة وتبريك الرجل
الصالح والعالم أهل المنزل بصلاته في منزلهم. وقال بعضهم: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليمهم
أفعال الصلاة مشاهدة مع تبريكهم، فإن المرأة قلما تشاهد أفعاله صلى الله عليه وسلم في المسجد فأراد أن
تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها. كذا قال النووي (فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا) فيه أن
المرأة لا تصف مع الرجال وأم سليم هي أم أنس واسمها مليكة مصغرا (إلا قال) أي أنس
(أقامني) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه.
(فجعله عن يمينه والمرأة خلف ذلك) فيه دلالة على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل
وامرأة كان موقف الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما وأنها لا تصف مع الرجال، والعلة في
ذلك ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية تفسد
صلاة الرجل دون المرأة. قال في الفتح: وهو عجيب وفي توجيه تعسف حيث قال قائلهم
قال ابن مسعود أخروهن من حيث أخرهن الله والأمر للوجوب، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة
223

الرجل لأنه ترك ما في أمر به من تأخيرها قال وحكاية هذا تعني عن جوابه قال المنذري: وأخرجه
مسلم والنسائي وابن ماجة.
(بت) من البيتوتة (ميمونة) وهي أم المؤمنين (فأطلق القربة) أي حلها (ثم أوكأ القربة)
أي شدها (فأخذني بيميني) وفي بعض النسخ بيمينه، قال الإمام الخطابي: فيه أنواع من الفقه
منها أن الصلاة بالجماعة في النوافل جائزة ومنها أن الاثنين جماعة ومنها أن المأموم يقوم عن
يمين الإمام إذا كانا اثنين، ومنها جواز العمل اليسير في الصلاة، ومنها جواز الائتمام بصلاة من لم
ينو الإمامة فيها انتهى. قال المنذري: وأخرجه مسلم.
(فأخذ برأسي أو بذؤابتي) أي شعر رأسي، شك من بعض الرواة (فأقامني عن يمينه)
الظاهر أنه قام مساويا له، وفي بعض ألفاظه فقمت إلى جنبه، وعن بعض أصحاب الشافعي أنه
يستحب أن يقف المأموم دونه قليلا إلا أنه قد أخرج ابن جريج قال: قلنا لعطاء الرجل يصلي مع
الرجل أين يكون منه، قال إلى شقه، قلت أيحاذيه وقد حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال
نعم، قلت بحيث أن لا يبعد حتى يكون بينهما فرجة، قال نعم. ومثله في الموطأ عن عمر من
حديث ابن مسعود أنه صف معه فقربه حتى جعله حذاءه عن يمينه. قال محمد بن إسماعيل
الأمير في سبل السلام. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة من حديث كريب عن ابن عباس وسيأتي إن شاء الله تعالى، وقد أخذ من حديث ابن
عباس هذا ما يقارب عشرين حكما انتهى.
224

(باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون)
(إن جدته مليكة) قال أبو عمر النمري قوله جدته مليكة أم مالك لقوله والضمير الذي في
جدته هو عائد على إسحاق وهي جدة إسحاق أم أبيه عبد الله ابن أبي طلحة وهي أم سليم بنت
ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري وهي أم أنس بن مالك. وقال غيره: الضمير يعود على
أنس بن مالك وهو القائل إن جدته وهي جدة أنس بن مالك أم أمه واسمها مليكة بنت مالك بن
عدي، ويؤيد ما قاله أبو عمران في بعض طرق هذا الحديث (أن أم سليم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يأتيها) أخرجه النسائي من حديث يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد الله. كذا قال
المنذري في تلخيصه (فقمت إلى حصير) قال في النهاية: الحصير الذي يبسط في البيوت (قد
اسود من طول ما لبس) أي استعمل وفيه أن الافتراش يسمي لبسا (فنضحته بماء) أي رششته،
والنضح الرش. قال النووي: قالوا اسوداده لطول زمنه وكثرة استعماله وإنما نضحه ليلين فإنه
كان من جريد النخل كما صرح به في الرواية الأخرى ويذهب عنه الغبار ونحوه هكذا فسره
القاضي إسماعيل المالكي وآخرون. وقال القاضي عياض الأظهر أنه كان للشك في نجاسته
وهذا على مذهبه فإن النجاسة المشكوك فيها تطهر بنضحها من غير غسل، ومذهبنا ومذهب
الجمهور أن الطهارة لا تحصل إلا بالغسل، فالمختار التأويل الأول. انتهى (وصفقت أنا
واليتيم وراءه) قال المنذري: واليتيم هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة،
وعدادهما حتى في أهل المدينة (والعجوز) هي ملكية المذكورة أولا (ثم انصرف) قال الحافظ أي
إلى بيته أو من الصلاة. قال الخطابي: قلت فيه من الفقه جواز صلاة الجماعة في التطوع وفيه
جواز صلاة المنفرد خلف الصف لأن المرأة قامت وحدها من ورائهما، وفيه دليل أن إمامة
المرأة للرجال غير جائزة لأنها لما زحمت عن مساواتهم من مقام الصف كانت من أن تتقدمهم
أبعد، وفيه دليل على وجوب ترتيب مواقف المأمومين وأن الأفضل يقدم على من دونه في
الفضل، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهي).
225

وعلى هذا القياس إذا صلى على جماعة من الموتى فيهم رجال ونساء وصبيان وخناثى
فإن الأفضلين منهم يلون الإمام فيكون الرجال أقربهم منه ثم الصبيان ثم الخناثى فإن ثم النسوان،
وإن دفنوا في قبر واحد كان أفضلهم أقربهم إلى القبلة ثم الذي يليه هو أفضل وتكون المرأة
آخرهم إلا أنه يكون بينها وبين الرجال حاجز من لبن أو نحوه. انتهى.
(استأذن علقمة والأسود على عبد الله) أي ابن مسعود (فصلى بيني وبينه) أي صلى ابن
مسعود بين الأسود والعلقمة عمر بأن جعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وقام وهو بينهما ولم
يتقدم. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق
المكان رواه الطحاوي انتهى. وقال المنذري: وأخرجه النسائي وفي إسناده هارون بن عنترة
وقد تكلم فيه بعضهم، وقال أبو عمر النمري: وهذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح فيه
عندهم التوقيف على ابن مسعود أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود وهو موقوف. وقال بعضهم:
حديث ابن مسعود منسوخ لأنه تعلم هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وفيها التطبيق وأحكام أخر وهي
الآن متروكة، وهذا الحكم من جملتها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه. انتهى.
(باب الإمام ينحرف بعد التسليم)
(فكان إذا انصرف انحرف) أي مال عن القبلة واستقبل الناس. وأخرجه أحمد بلفظ
قال (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قال فصلى بنا صلاة الصبح ثم انحرف جالسا
فاستقبل الناس بوجهه) الحديث، وفيه قصة أخذ الناس يده صلى الله عليه وسلم ومسحهم النبي بها وجوههم قال
المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح انتهى.
226

(أحببنا أن نكون عن يمينه) لكون يمين الصف أفضل، ولكونه عليه السلام يقبل علينا
بوجهه أي عند السلام أو لا قبل أن يقبل على من على يساره. وقيل معناه يقبل علينا عند
الانصراف (فيقبل علينا بوجهه صلى الله عليه وسلم) قال الحافظ في الفتح: قيل الحكمة في استقبال المأمومين
أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، فعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله صلى الله عليه وسلم من قصد التعليم
والموعظة، وقيل الحكمة فيه تعريف الداخل بأن الصلاة انقضت إذا لو استمر الإمام على حاله
لأوهم أنه في التشهد مثلا. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق
الإمامة فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على
المأمومين والله أعلم. انتهى. قال المنذري: وأخرجه النسائي وابن ماجة وفي حديث أبي داود
والنسائي عن عبيد بن البراء عن أبيه، وفي حديث ابن ماجة عن ابن البراء عن أبيه ولم يسمعه
قلت: أخرجه مسلم أيضا.
(باب الإمام يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة)
(لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول) أي ينصرف وينتقل عن ذلك
الموضع. والحديث يدل على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي صلى فيه لكل صلاة
يفتتحها من أفراد النوافل. أما الإمام فبنص الحديث وأما المؤتم والمنفرد فبعموم حديث أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيعجز أحدكم إذا صلى أحدكم أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن
شماله. وبالقياس على الإمام. والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة كما قال البخاري والبغوي
لأن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها أي تخبر بما عمل
عليها. وورد في تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض) أن المؤمن إذا مات
227

بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد له من السماء، وهذه العلة تقتضي أن ينتقل إلى الفرض
من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل
بالكلام لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي أو يخرج. أخرجه مسلم
وأبو داود. قاله الشوكاني. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة (عطاء الخراساني لم يدرك
المغيرة بن شعبة) قال المنذري: وما قاله ظاهر، فإن عطاء الخراساني ولد في السنة التي مات
فيها المغيرة بن شعبة وهي سنة خمسين من الهجرة على المشهور، أو يكون ولد قبل وفاته بسنة
على القول الآخر انتهى.
(باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة)
(إذا قضى الإمام الصلاة وقعد) وفي رواية الترمذي: وقد جلس في آخر صلاته (فأحدث
قبل أن يتكلم) وفي رواية الترمذي: (قبل أن يسلم) (فقد تمت صلاته) أي صلاة الإمام (ومن
كان خلفه) أي وتمت صلاة من كان خلف الإمام من المأمومين (ممن أتم الصلاة) كلمة من في
قوله ممن بيانه أي تمت صلاة من كان خلف الإمام من المأمومين الذين أتموا الصلاة مع الإمام
دون المسبوقين. وفي رواية للدارقطني: (ممن أدرك أول الصلاة).
قال الخطابي في المعالم: هذا حديث ضعيف، وقد تكلم بعض الناس في نقلته، وقد
عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم، ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهره،
لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد على ما
رووه عن ابن مسعود ثم لم يقودوا قولهم في ذلك لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس أو كان
متيمما فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فقد فسدت صلاته. وقالوا فيمن قهقه
بعد الجلوس قدر التشهد أن ذلك لا تفسد صلاته ويتوضأ. ومن مذهبهم أن القهقهة لا تنقض
228

الوضوء، إلا أن تكون في الصلاة. والأمر في هذه الأقاويل واختلافها ومخالفتها الحديث بين.
انتهى. قال المنذري: وقد أخرجه الترمذي وقال هذا حديث ليس إسناده بالقوي، وقد
اضطربوا في إسناده. وقال أيضا: وعبد الرحمن بن زياد أفريقي قد ضعفه بعض أهل
الحديث، منهم يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل. وقال الخطابي: هذا حديث
ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: أما حديث (إذا
أحدث وقد جلس في اخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته) فقد ضعفه الحفاظ. انتهى.
(مفتاح الصلاة الطهور) مفتاح بكسر الميم، والمراد أنه أول شئ يفتتح به من أعمال
الصلاة لأنه شرط من شروطها والطهور بضم الطاء (وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) قال
الخطابي في هذا الحديث بيان أن التسليم ركن للصلاة كما أن التكبير ركن لها، وأن التحليل
منها إنما يكون بالتسليم دون الحدث والكلام لأنه قد عرفه بالألف واللام وعينه كما عين الطهور
وعرفه، فكان ذلك منصرفا إلى ما جاءت به الشريعة من الطهارة المعروفة، والتعريف بالألف
واللام مع إضافة يوجب التخصيص كقولك فلان مبيته المساجد تريد أنه لا مبيت له يأوى إليه
غيرها. وفي النيل: فيه دليل على أن افتتاح الصلاة لا يكون إلا بالتكبير دون غيره من الأذكار،
وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: تنعقد الصلاة بكل لفظ قصد به التعظيم، والحديث يرد
عليه لأن إضافة في قوله تحريمها تقتضي الحصر، فكأنه قال جميع تحريمها التكبير أي
انحصرت صحة تحريمها في التكبير لا تحريم لها غيره، كقولهم مال فلان الإبل وعلم فلان
النحو وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على تعين لفظ التكبير من قوله صلى الله عليه وآله وسلم
وفعله، وعلى هذا فالحديث يدل على وجوب التكبير. وقد اختلف في حكمه فقال الحافظ: إنه
ركن عند الجمهور، وشرط عند الحنفية، ووجه عند الشافعي، وسنة عند الزهري. قال ابن
المنذر: ولم يقل به أحد غيره.
وروي عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك، ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا،
وإنما قالوا فيمن أدرك امام راكعا يجزيه تكبيرة الركوع. انتهى. قال المنذري: وأخرجه
الترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شئ في هذا الباب وأحسن. وقال أبو
نعيم الأصبهاني: مشهور لا يعرف إلا من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل بهذا اللفظ من
229

حديث علي. هذا اخر كلامه. وعبد الله بن محمد بن عقيل قد احتج بعضهم بحديثه وتكلم فيه
بعضهم. انتهى.
(باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام)
(لا تبادروني) أي لا تسبقوني (فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت)
قال الخطابي: يريد أنه لا يضركم رفعي رأسي من الركوع وقد بقي عليكم شئ منه إذا
أدركتموني قائما قبل أن أسجد وكان رسول الله صلى الله وعليه واله وسلم إذا رفع رأسه من
الركوع يدعو بكلام فيه طول (إني قد بدنت) يروي على وجهين أحدهما بتشديد الدال معناه
كبر السن. يقال: بدن الرجل تبدينا إذا أسن، والوجه الآخر بدنت مضمومة الدال غير مشددة
ومعناه زيادة الجسم واحتمال اللحم. وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لما طعن في السن احتمل بدنه اللحم، وكل واحد من كبر السن واحتمال
اللحم يثقل البدن ويثبط عن الحركة. قاله الخطابي. وقال في إنجاح الحاجة قوله فمهما
أسبقكم به إلخ. أي اللحظة التي أسبقكم بها في ابتداء الركوع وتفوت عنكم تدركونها إذا
رفعت رأسي من الركوع، لأن اللحظة التي يسبق بها الإمام عند الرفع تكون بدلا عن اللحظة
الأولى للمأمومين. فالغرض منه أن التأخير الثاني يقوم مقام التأخير الأول. فيكون مقدار رجوع
الإمام والمأموم سواء. وكذا السجدة. انتهى.
(سمعت عبد الله بن يزيد الخطمي) منسوب إلى خطمة بفتح المعجمة وإسكان الطاء
بطن من الأوس، وكان عبد الله المذكور أميرا على الكوفة في زمن ابن الزبير (وهو غير كذوب)
قال يحيى بن معين: القائل وهو غير كذوب هو أبو إسحاق. قال ومراده أن عبد الله بن يزيد
230

غير كذوب. وليس المراد أن البراء غير كذوب لأن البراء صحابي لا يحتاج إلى تزكيته ولا
يحسن فيه هذا القول، وهذا الذي قاله ابن معين خطأ عند العلماء بل الصواب أن القائل غير
كذوب هو عبد الله بن يزيد، ومراده أن البراء غير كذوب، ومعناه تقوية الحديث وتفخيمه
والمبالغة في تمكينه من النفس لا التزكية التي تكون في مشكوك فيه. ونظيره قول ابن عباس
رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. وفي صحيح مسلم عن أبي مسلم
الخولاني حدثني الحبيب الأمين عوف بن مالك الأشجعي، ونظائره كثيرة، فمعنى الكلام
حدثني البراء وهو غير متهم كما علمتم فثقوا بما أخبركم عنه. وقول ابن معين: إن البراء
صحابي فينزه عن هذا الكلام لا وجه له، لأن عبد الله بن يزيد صحابي أيضا معدود في
الصحابة. كذا قال النووي (أنهم كانوا) أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (قاموا قياما) أي بقوا
قائمين (فإذا رأوه) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي
بنحوه.
(فلا يحنو أحد منا ظهره) قال المنذري: حنيت ظهري، وحنيت العود عطفته وحنوت
لغة. قال ابن الأثير في النهاية: لم يحن أحد منا ظهره أي لم يثنه للركوع يقال حنى يحني
ويحنو. انتهى. وقال السيوطي حنا ظهره يحنو ويحنى ثناه. انتهى. والمعنى أي لم يعوج
ظهره وهو من باب نصر وضرب والله أعلم (يضع) أي ظهره أو جبهته. قال المنذري: وأخرجه
مسلم.
231

(حتى يرونه) وفي بعض النسخ يروه (قد وضع جبهته بالأرض) وفي رواية للبخاري:
(حتى يقع ساجدا) قال الحافظ: واستدل به ابن الجوزي على أن المأموم لا يشرع في الركن
حتى يتمه الإمام، وتعقب بأنه ليس فيه إلا التأخر حتى يتلبس الإمام بالركن الذي ينتقل إليه
بحيث يشرع المأموم بعد شروعه وقبل الفراغ منه. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم
(فكان لا يحنى أحد منا ظهره حتى يستتم ساجدا) ولأبي يعلى من حديث أنس (حتى يتمكن
النبي صلى الله عليه وسلم من السجود) وهو أوضح في انتفاء المقارنة. انتهى.
(باب التشديد فيمن يرفع قبل الإمام)
أي يضع قبله.
(أما يخشى أو ألا يخشى) بالشك، وأما بتخفيف الميم حرف استفتاح مثل ألا وأصلها
النافية دخلت عليها همزة الاستفهام وهو ههنا استفهام توبيخ (والإمام ساجد) جملة حالية (أن
يحول الله رأسه رأس حمار) أي يبدل الله ويغير، وفي رواية البخاري: (أن يجعل الله رأسه
رأس حمار) (أو صورته صورة حمار) وفي رواية البخاري: (أو يجعل الله صورته صورة
حمار) قال الحافظ: الشك من شعبة. قال الخطابي: اختلف الناس فيمن فعل ذلك، فروي
ذلك عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن فعل ذلك. فأما عامة أهل العلم فإنهم قالوا قد أساء
وصلاته مجزية، غير أن أكثرهم يأمرون بأن يعود إلى السجود. وقال بعضهم: يمكث في
سجوده بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما ترك منه. انتهى. واختلف في معنى الوعيد المذكور،
فقيل يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي، فإن الحمار موصوف بالبلادة فاستعير هذا المعنى
للجاهل بما يجب عليه من فرض الصلاة ومتابعة الإمام، ويرجح هذا المجاز أن التحويل لم
يقع مع كثرة الفاعلين، لكن ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على
كون فاعله متعرضا لذلك، وكون فعله ممكنا لأن يقع عنه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض
232

للشيء وقوع ذلك الشئ. قال ابن دقيق العيد: يحتمل ان يراد بالتحويل المسخ أو تحويل
الهيئة الحسية أو المعنوية أو هما معا، وحمله آخرون على ظاهره إذا لا مانع من جواز وقوع
ذلك، وسيأتي في كتاب الأشربة الدليل على جواز وقوع المسخ في هذه الأمة، وهو حديث أبي
مالك الأشعري في المغازي فإن فيه ذكر الخسف وفي اخره ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى
يوم القيامة. ويقوي حمله على ظاهره أن في رواية ابن حبان من وجه اخر عن محمد بن زياد
أن يحول الله رأسه رأس كلب) فهذا يبعد المجاز لانتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة
الحمار. قاله الحافظ في الفتح. قال المنذري وأخرجه مسلم والبخاري والنسائي وابن ماجة بنحوه.
(باب فيمن ينصرف قبل الإمام)
(حفص بن بغيل) بالموحدة والمعجمة مصغرا الهمداني المرهبي الكوفي، مستور من
التاسعة. كذا في التقريب (حضهم) أي حثهم ورغبهم (على الصلاة) على ملازمة صلاة
الجماعة أو مطلق الصلاة والإكثار منها (ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة) قال
الطيبي: وعلة نهيه صلى الله عليه وسلم أصحابه عن انصرافهم قبله أن يذهب النساء اللاتي يصلين خلفه،
كان النبي يثبت في مكانه حتى ينصرف للنساء ثم يقوم ويقوم الرجال. كذا في المرقاة.
قلت: ما ذكره الطيبي من علة النهي تعينه ما رواه البخاري عن أم سلمة: (أن النساء في عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال.
(باب جماع أثواب ما يصلي فيه)
(أو لكلكم ثوبان) معناه أن الثوبان لا يقدر
233

عليهما من الصلاة وفي ذلك حرج، وقد قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج
والحديث يدل على جواز الصلاة في ثوب واحد، ولا خلاف في هذا إلا ما حكى عن ابن
مسعود رضي الله عنه فيه ولا أعلم صحته. وأجمعوا أن الصلاة في ثوبين أفضل، وأما صلاة
النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في ثوب واحد ففي وقت كان لعدم ثوب اخر وفي وقت
كان مع وجوده لبيان الجواز، كما قال جابر رضي الله عنه ليراني الجهال، وإلا فالثوبان أفضل. كذا
قال النووي في شرح صحيح مسلم. قال الخطابي: لفظ الاستفهام ومعناه اخبار عما كان
يعلمه من كان حالهم في العدم وضيق الثياب يقول وإذا كنتم بهذه الصفة وليس لكل واحد ثوبان
والصلاة واجبة عليكم فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة. انتهى. قال المنذري:
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(لا يصل أحدكم) وفي بعض النسخ لا يصلي (ليس على منكبيه منه شئ) قال
الخطابي: يريد أنه لا يتزر [يأتزر] به في وسطه، ويشد طرفيه على حقوه، ولكن يتزر [يأتزر] به
ويرفع طرفيه فيخالف بينهما ويشده على عاتقه فيكون بمنزلة إزار والرداء، وهذا إذا كان الثوب
واسعا، فإذا كان ضيقا شده على حقوه، وقد جاء ذلك في حديث جابر الذي ذكره في الباب
الذي يلي هذا الباب انتهى. قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي رحمهم الله تعالى
والجمهور هذا النهي للتنزيه وإن لا للتحريم، فلو صلى في ثوب واحد ساترا لعورته ليس على عاتقه
منه شئ منه صحت صلاته مع الكراهة سواء قدر على شئ يجعله على عاتقه أم لا. وقال أحمد
وبعض السلف رحمهم الله تعالى: لا تصح صلاته إذا قدر على وضع شئ على عاتقه إلا
بوضعه لظاهر الحديث. وعن أحمد بن حنبل رحمه الله رواية أنه تصح صلاته ولكن يأثم
بتركه. وحجة الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه (فإن
كان واسعا فالتحف به) وإن كان ضيقا يأتزر به رواه البخاري ورواه مسلم في آخر الكتاب في حديثه الطويل انتهى. قال
المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
234

(فليخالف بطرفيه) يجئ تفسيره في شرح الحديث الذي بعده. قال المنذري: وأخرجه البخاري.
(ملتحفا مخالفا بين طرفيه) قال الشوكاني: الالتحاف بالثوب التغطي به كما أفاده في
القاموس والمراد أنه لا يشد الثوب في وسطه فيصلي مكشوف المنكبين بل يتزر [يأتزر] به
ويرفع طرفيه فيلتحف بهما فيكون بمنزلة الإزار والرداء، هذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان
ضيقا جاز الاتزار به من دون كراهة انتهى. وقال النووي: المشتمل والمتوشح والمخالف
معناه واحد هنا. قال ابن السكيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه
الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى ثم
يعقدهما على صدره انتهى (على منكبيه) المنكب بفتح الميم وكسر الكاف قال المنذري:
وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد) أي أخبرني عن الصلاة في الثوب الواحد يجوز أم
لا (فأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاره) أي حله (طارق به رداءه) من طارقت الثوب على الثوب إذا
طبقته عليه كذا في المجمع (فاشتمل بهما) سبق معنى الاشتمال. قال المنذري: قيس بن طلق
لا يحتج به.
235

(باب الرجل يعقد الثوب في قفاه ثم يصلي)
(رأيت الرجال) وهم من أهل الصفة (عاقدي أزرهم) عاقدي جمع عاقد وحذفت النون
للإضافة، وأزرهم بضم الهمزة وسكون الزاء جمع إزار وهو الملحفة قاله القسطلاني. وإنما
كانوا يفعلون ذلك لأنهم لم يكن لهم سروايلات كما وكان أحدهم يعقد إزاره في قفاه ليكون مستورا
إذا ركع وسجد، وهذه الصفة صفة أهل الصفة كما سيأتي في باب نوم الرجال في المسجد.
قاله الحافظ في الفتح. (من ضيق الأزر) أي لأجل ضيقها. قال الحافظ: يؤخذ منه أن الثوب
إذا أمكن الالتحاف به كان الأولى من الائتزار لأنه أبلغ في التستر (كأمثال الصبيان) وفي رواية
للبخاري كهيئة الصبيان (لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال) وإنما نهى النساء عن ذلك
لئلا يلمحن عند رفع رؤوسهن من السجود شيئا من عورات الرجال بسبب ذلك عند نهوضهم
وقد جاء في بعض الروايات التصريح بذلك بلفظ (كراهية أن يرين عورات الرجال) قال
الحافظ: ويؤخذ منه أنه لا يجب التستر من أسفل. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم
والنسائي.
(باب الرجل يصلي في ثوب بعضه على غيره)
أي على غير المصلي.
(صلى في ثوب بعضه علي) وفي رواية مسلم: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل وأنا إلى
236

جنبه وأنا حائض وعلى مرط وعليه بعضه) قال في النيل: وفيه جواز الصلاة بحضرة الحائض
وفيه أن ثياب الحائض طاهرة إلا موضعا يرى فيه أثر الدم أو النجاسة. وفيه جواز الصلاة في
ثوب بعضه على المصلى وبعضه عليها انتهى.
(باب الرجل يصلي في قميص واحد)
(إني رجل أصيد) كأبيع أي أصطاد، وفي نسخه كأكرم، قال في النهاية هكذا جاء في
رواية إني رجل أصيد أي على وزن أكرم وهو الذي في رقبته علة لا يمكنه الالتفات معها
والمشهور أصيد من الاصطياد انتهى. والثاني أنسب لأن الصياد يطلب الخفة وربما يمنعه إزار
من العدو خلف الصيد. كذا في المرقاة (قال نعم) أي صل فيه (وازرره) بضم الراء أي اشدده
(ولو بشوكة) قال الطيبي: هذا إذا كان جيب القميص واسعا يظهر منه عورته فعليه أن يزره لئلا
يكشف عورته. قال المنذري: وأخرجه النسائي.
(قال أبو داود وكذا قال) محمد بن حاتم بن بزيع لفظ أبي حومل بالواو (وهو أبو حرمل)
بالراء وفي بعض النسخ والصواب أبو حرمل (أمنا جابر ابن عبد الله في قميص الحديث) قال
المنذري: عبد الرحمن بن أبي بكر وهو المليكي لا يحتج بحديثه وهو منسوب إلى جده أبي
مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي.
237

(باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به)
(أبو حزرة) بحاء مهملة مفتوحة ثم زاء ثم راء ثم هاء (وكانت على بردة) البردة شملة
مخطط وقيل كساء مربع فيه صفر يلبسه الأعراب وجمعه البرد قاله النووي (فلم تبلغ لي) أي لم
تكفني (وكانت لها ذباذب) أي أهذاب وهو أطراف واحدها ذبذب بكسر الذالين، سميت بذلك
لأنها تتذبذب على صاحبها إذا مشى أي تتحرك وتضطرب. كذا قال النووي (فنكستها)
بتخفيف الكاف وتشديدها أي قلبتها (ثم تواقصت عليها) أي أمسكت عليها بعنقي وحنيته عليها
لئلا تسقط. وقال الخطابي: معناه أنه ثنى عنقه ليمسك الثوب به كأنه يحكي خلقة الأوقص من
الناس (لا تسقط) أي لئلا تسقط (فجاء ابن صخر) وفي رواية مسلم جابر بن صخر (فأخذنا بيديه
جميعا حتى أقامنا خلفه) وفي رواية مسلم فأخذ بأيدينا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه. قال
النووي: فيه فوائد منها جواز العمل اليسير في الصلاة وأنه لا يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن
لحاجة كره. ومنها أن المأموم الواحد يقف على يمين الامام وان قف على يساره حوله ومنها ان
المأمومين يكونون صفا وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن
مسعود وصاحبيه فإنهم قالوا يقف الاثنان عن جانبيه.
قلت: وفيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم ثم جاء مأموم آخر ووقف عن يساره فله
أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما عنه خلفه مكان أو يتقدمهما، يدل على حديث سمرة بن جندب
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا) رواه الترمذي (يرمقني) أي ينظر إلي نظرا
238

متتابعا (ثم فطنت به) أي فهمت (فأشار إلى أن أتزر بها) وفي رواية مسلم فقال هكذا بيده يعني
شد وسطك (فاشدده على حقوك) هو بفتح الحاء وكسرها وهو معقد إزار المراد هنا أن يبلغ
السرة. وفيه جواز الصلاة في ثوب واحد وأنه إذا شد المئزر وصلى فيه وهو ساتر ما بين سرته
وركبته صحت صلاته، وإن كانت عورته ترى من أسفله كان على سطح ونحوه فإن هذا لا
يضره. كذا قال النووي. قال المنذري وأخرجه مسلم في أثناء الحديث الطويل في آخر
الكتاب وابن صخر هذا هو أبو عبد الله جبار بن صخر الأنصاري المسلمي شهد بدر والعقبة،
جاء مبينا في صحيح مسلم رضي الله عنهم انتهى.
(أو قال: قال عمر) شك من بعض الرواة (ولا يشتمل اشتمال اليهود) قال الخطابي:
اشتمال اليهود المنهى عنه أن يجلل بدنة الثوب ويسلبه من غير أن يسبل طرفه، فأما اشتمال
الصماء الذي جاء في الحديث فهو أن يجلل بدنة الثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر،
هكذا يفسر في الحديث. انتهى.
(أن يصلي في لحاف) بكسر اللام وهو ما يتغطى به (لا يتوشح به) قال في المجمع:
التوشيح أن يأخذ طرف ثوب ألقاه على منكبيه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي
ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره، والمخالفة بين طرفيه والاشتمال
بالثوب بمعنى الوشيح. انتهى (والآخر أن يصلي في سراويل وليس عليه رداء) لأنه ينكشف
239

حينئذ عاتقه ولا بد من ستره إذا قدر عليه. قال صلى الله عليه وسلم (لا يصلين أحدكم في الثوب ليس على
عاتقه شئ) رواه البخاري: قال المنذري: في إسناده أبو تميلة يحيى بن واضح الأنصاري
المروزي. وأبو المنيب عبد الله بن عبد الله العتكي المروزي. وفيهما مقال.
(باب الاسبال في الصلاة)
(من أسبل إزاره) اسبال تطويل الثوب وإرساله إلى الأرض إذا مشى كبرا (خيلاء) أي
تكبرا وعجبا (فليس من الله في حل ولا حرم) أي في أن يجعله في حل من الذنوب، وهو أن
يغفر له ولا في أن يمنعه ويحفظه من سوء الأعمال أو في أن يحل له الجنة وفي أن يحرم عليه
النار، أو ليس هو في فعل حلال ولا له احترام عند الله تعالى والله تعالى أعلم. كذا في فتح
الودود (بينما رجل يصلي مسبلا إزاره) أي مرسله أسفل من الكعبين تبخترا وخيلاء وإطالة
الذيل مكروهة عند أبي حنيفة والشافعي في الصلاة وغيرها ومالك يجوزها في الصلاة دون
المشي لظهور الخيلاء فيه. كذا قال في المرقاة.
(اذهب فتوضأ) قيل: لعل السر في أمره بالتوضؤ إلا وهو طاهر أن يتفكر الرجل في سبب
ذلك الأمر فيقف على ما ارتكبه فيه من المكروه وأن الله ببركة أمر رسوله عليه السلام إياه بطهارة
الظاهر يطهر باطنه من دنس الكبر لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن ذكره الطيبي
(فذهب فتوضأ ثم جاء) فكأنه جاء غير مسبل إزاره (مالك أمرته أن يتوضأ) أي والحال أنه
240

طاهر. قال في المرقاة بعد شرح هذا الحديث. وقد أخرج الطبراني أنه عليه السلام أبصر رجلا
يصلي وقد أسدل ثوبه فدنا منه عليه السلام فعطف عليه ثوبه. قال المنذري في مختصره: في
إسناده أبو جعفر وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. انتهى. وقال المنذري في
الترغيب: حديث أبي هريرة رواه أبو داود وأبو جعفر المدني إن كان محمد بن علي بن الحسين
فروايته عن أبي هريرة مرسلة وإن كان غيره فلا أعرفه. انتهى. قلت كيف تكون مرسلة وإنما
يروي أبو جعفر إن كان هو الباقر محمد بن علي بن الحسين عن عطاء بن يسار لا عن أبي
هريرة. والصحيح أن أبا جعفر هذا هو المؤذن. قال الحافظ في التقريب: أبو جعفر المؤذن
الأنصاري المدني مقبول من الثالثة، ومن زعم أنه محمد بن علي ابن الحسين فقد وهم. وقال
في الخلاصة: أبو جعفر الأنصاري المؤذن المدني عن أبي هريرة وعنه يحيى بن أبي كثير حسن
الترمذي حديثه. انتهى. فأبو جعفر هذا هو رجل من أهل المدينة يروي عن أبي هريرة
وعطاء بن يسار وليس هو أبا جعفر الباقر محمد بن علي، وكذا ليس هو أبا جعفر التميمي الذي
اسمه عيسى ووثقه ابن معين. قال النووي في رياض الصالحين بعد إيراده لهذا الحديث: رواه
أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم. انتهى.
وقال الحافظ المزي في تحفة الأشراف: حديث (بينا رجل يصلي مسبلا إزاره إذ قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب توضأ) الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة وفي اللباس عن موسى بن
إسماعيل المنقري عن أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن عطاء بن
يسار عن أبي هريرة. قال المزي: ورواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر
عن عطاء بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا: (لا تقبل صلاة رجل مسبل إزاره)
وسيأتي. انتهى. وقال المزي في ترجمة عطاء بن يسار عن رجل من الصحابة حديث: (لا
تقبل صلاة رجل مسبل إزاره) رواه النسائي في الزينة عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن
الحارث عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر أن عطاء بن يسار حدثهم
قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. كذا في غاية المقصود
241

(باب في كم تصلي المرأة)
(في الخمار والدرع السابغ) الخمار بكسر الخاء ما يغطي به رأس المرأة. قال صاحب
المحكم: الخمار النصيف وجمعه أخمرة وخمر. وقال الحافظ: هي سترة الرأس والجمع خمر
بضمتين، والدرع قميص المرأة الذي يغطي بدنها ورجلها، ويقال لها سابغ إذا طال من فوق
إلى أسفل (الذي يغيب ظهور قدميها) أي الذي يغطي ويستر ظهور قدميها.
(ليس عليها) أي ليس تحت قميصها أو فوقه (إزار) أي ولا سراويل (قال) أي نعم (إذا
كان الدرع سابغا) أي كاملا واسعا.
قال الخطابي: اختلف الناس فيما يجب على المرأة الحرة أن تغطي من بدنها إذا
صلت، فقال الشافعي والأوزاعي: تغطي جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وروي ذلك عن ابن
عباس وعطاء. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام: كل شئ من المرأة عورة
حتى ظفرها. وقال أحمد بن حنبل: المرأة تصلي ولا يرى منها شئ ولا ظفرها. وقال مالك بن
أنس: إذا صلت المرأة وقد انكشف شعرها أو ظهور قدميها تعيد ما دامت في الوقت. وقال
أصحاب الرأي في المرأة تصلي وربع شعرها أو ثلثه مكشوف أو ربع فخذها أو ثلثه مكشوف أو
242

ربع بطنها أو ثلثه مكشوف فإن صلاتها تنتقص، وإن انكشف أقل من ذلك لم تنقص، وبينهم
اختلاف في تحديده، ومنهم من قال بالنصف، ولا أعلم الشئ مما ذهبوا إليه في التحديد
أصلا يعتمد. وفي الخبر دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شئ،
ألا تراه عليه السلام يقول: (إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها) فجعل من شرط جواز صلاتها
لئلا يظهر من أعضائها شئ. انتهى. قال المنذري: وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله ابن
دينار وفيه مقال (لم يذكر أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم) أي لم يرفع أحد منهم هذا الحديث بل (قصروا
به) أي وقفوه (على أم سلمة) أي جعلوه قولها لا قول النبي صلى الله عليه وسلم.
(باب المرأة تصلي بغير خمار)
(لا يقبل الله صلاة حائض) أي لا تصح صلاة المرأة البالغة، إذا الأصل في نفي القبول
نفي الصحة إلا لدليل، كذا في المرقاة. قال الخطابي: يريد بالحائض المرأة التي بلغت سن
الحيض ولم يرد به التي هي في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي بوجهه. وقال في المرقاة:
قيل الأصوب أن يراد بالحائض من شأنها الحيض ليتناول الصغيرة أيضا، فإن ستر رأسها شرط
لصحة صلاتها أيضا (إلا بخمار) أي ما يتخمر به من ستر رأس. واستدل بهذا الحديث: من
سوى بين الحرة والأمة وهو قول في العورة لعموم ذكر الحائض ولم يفرق بين الحرة والأمة وهو قول أهل
الظاهر، وفرق الشافعي وأبو حنيفة الجمهور بين عورة الحرة والأمة، فجعلوا عورة الأمة ما بين
السرة والركبة كالرجل، وقال مالك: الأمة عورتها كالحرة حاشا شعرها فليس بعورة، وكأنه رأى
العمل في الحجاز على كشف الإماء لرؤوسهن، هكذا حكاه عنه ابن عبد البر في الاستذكار.
قال العراقي في شرح الترمذي: والمشهور عنه أن عورة الأمة كالرجل، كذا في النيل. قال
243

المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي حديث حسن (قال أبو داود: رواه
سعيد يعني ابن عروبة عن قتادة عن الحسن) أي مرسلا لأن الحسن هذا هو الحسن البصري
تابعي.
(بناتا لها) وفي بعض النسخ بنات لها (وفي حجرتي جارية) الجارية من النساء من لم
تبلغ الحلم (فألقى إلى حقوه) الحقو بفتح الحاء المهملة موضع شد إزار وهو الحاضرة ثم
توسعوا فيه حتى سموا الإزار الذي يشد على العورة حقوا (وقال لي شقيه بشقتين) أي اقطعيه
قطعتين والشقة بالضم القطعة من الثوب (فأعطى هذه) أي التي عند عائشة (نصفا) من الحقو
وهو إحدى الشقتين (والفتاة التي عند أم سلمة) أي الجارية التي عندها (فإني لا أراها) بضم
الهمزة أي لا أظنها. قال المنذري: قال أبو حاتم الرازي لم يسمع ابن سيرين من عائشة.
(باب السدل في الصلاة)
قال الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض. وقال في النيل: قال أبو عبيدة
في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل
وقال صاحب النهاية: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك.
قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه
244

ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. وقال الجوهري: سدل ثوبه
يسدله بالضم سدلا أي أرخاه، ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان
السدل مشتركا بينها، وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي. وقد روي أن
السدل من فعل اليهود. أخرج الحلال في العلل وأبو عبيد في الغريب من رواية عبد الرحمن بن
سعيد بن وهب عن أبيه عن علي أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: (كلهم اليهود
خرجوا من قهرهم). قال أبو عبيد: هو موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه. قال صاحب
الإمام: والقهر بضم القاف وسكون الهاء موضع مدارسهم الذي يجتمعون فيه، وذكره في
القاموس والنهاية في الفاء لا في القاف (وأن يغطي الرجل فاه) قال الخطابي: فإن من عادة
العرب التلثم بالعمائم على الأفواه فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض الثوباء فيغطي فمه
عند ذلك للحديث الذي جاء فيه. انتهى. والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة لأنه
معنى النهي الحقيقي: قال الخطابي: وقد رخص بعض العلماء السدل في الصلاة، روى ذلك
عن عطاء ومكحول والزهري والحسن وابن سيرين. وقال مالك لا بأس به. قلت: ويشبه أن
يكون إنما فرقوا بين إجازة السدل في الصلاة لأن المصلى ثابت في مكانه لا يمشي في الثوب
الذي عليه، وأما غير المصلي فإنه يمشي فيه ويسدله، وقال وذلك عندي من الخيلاء المنهى عنه.
وكان سفيان الثوري يكره السدل في الصلاة. وكان الشافعي يكرهه في الصلاة وفي غير
الصلاة. انتهى. قال المنذري وأخرجه الترمذي مقتصرا على الفصل الأول وقال لا نعرفه من
حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعا إلا من حديث عسل بن سفيان. هذا آخر كلامه. وقد
أخرجه أبو داود مرفوعا من حديث سليمان الأحول عن عطاء، وأشار إلى حديث عسل. وأخرج
ابن ماجة الفصل الثاني من حديث الحسن بن ذكوان عن عطاء مرفوعا، وعسل بكسر العين
وسكون السين المهملتين هو ابن سفيان التيمي اليربوعي البصري كنيته أبو قرة ضعيف
الحديث. انتهى.
245

(قال أبو داود وهذا) أي هذا الفعل المروي عن عطاء (يضعف ذلك الحديث) المتقدم
المروي عنه عن أبي هريرة.
(باب الصلاة في شعر النساء)
(لا يصلي في شعرنا) بضم الشين والعين المهملة جمع شعار على وزن كتاب وكتب وهو
الثوب الذي يلي الجسد وخصتها بالذكر لأنها أقرب إلى أن تنالها النجاسة من الدثار وهو الثوب
الذي يكون فوق الشعار. قال ابن الأثير: المراد بالشعار هنا الإزار الذي كانوا يتغطون به عند
النوم (أو) للشك (في لحفنا) واللحاف اسم لما يلتحف به. والحديث يدل على مشروعية
تجنب ثياب النساء التي هي مظنة لوقوع النجاسة فيها، وكذلك سائر الثياب التي تكون كذلك.
قال المنذري: وقد تقدم هذا الحديث. أخرجه الترمذي والنسائي.
(باب الرجل يصلي عاقصا شعره)
(وقد غرز ضفره) أي لوى شعره وأدخل أطرافه في أصوله، والمراد من الضفر المضفور
من الشعر وأصل الضفر الفتل والضفير والضفائر هي العقائص المضفورة. قاله الخطابي (في
246

قفاه) الفقا بالفارسية بس سر يذكر ويؤنث (فحلها) أي أطلق ضفائره المغروزة في قفاه (مغضبا)
بفتح الضاد (ذلك) أي الضفر المغروز (كفل الشيطان) أي موضع قعود الشيطان، والكفل بكسر
الكاف وسكون الفاء. قال أبو سليمان الخطابي: وأما الكفل فأصله أن يجمع الكساء على سنام
البعير ثم يركب. قال الشاعر:
وراكب البعير مكتفل يحفي على آثارها وينتعل
وإنما أمره بإرسال الشعر ليسقط على الموضع الذي يصلي فيه صاحبه من الأرض
فيسجد معه. وقد روى عنه أيضا عليه السلام أمرت أن أسجد على سبعة أراب، وأن لا أكف
أنه شعرا ولا ثوبا انتهى (يعني مقعد الشيطان) هذا تفسير لكفل الشيطان من بعض الرواة (يعني
مغرز ضفره) هذا بيان للمشار إليه بقوله ذلك، ومغرز وهو اسم ظرف من الغروز. قال المنذري:
وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي حديث حسن.
(ورأسه معقوص) عقص الشعر ضفره وفتله، والعقاص خيط يشد به أطراف الذوائب
(وأقر له الآخر) استقر لما فعله ولم يتحرك (مثل الذي يصلي وهو مكتوف) كتفته كتفا كضربته
ضربا إذا شددت يده إلى خلف كتفيه موثقا بحبل.
قال النووي: اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمرا وكمه أو نحوه أو رأسه
معقوص أو مردود شعره تحت عمامته أو نحو ذلك، فكل هذا منهى عنه باتفاق العلماء وهو
كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك فقد أساء وصحت صلاته واحتج في ذلك أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري بإجماع العلماء ثم مذهب الجمهور أن النهي مطلقا لمن صلى كذلك سواء
تعمده للصلاة أم كان قبلها كذلك لا لها بل لمعنى آخر. وقال الداودي: يختص النهي بمن
247

فعل ذلك للصلاة. والمختار الصحيح هو الأول وهو ظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم،
ويدل عليه فعل ابن عباس المذكور هنا. انتهى. قال المنذري: وأخرجه النسائي.
(باب الصلاة في النعل)
(يوم الفتح) أي يوم فتح مكة (ووضع نعلي عن يساره) وضع النعلين في اليسار جائر إذا
لم يكن عن يسار المصلى أحد. وإن لم يكن فلا يدل عليه حديث أبي هريرة اتي بعد هذا الباب
متصلا قال المنذري وأخرجه النسائي.
(صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة) أي في فتحها، كما في رواية النسائي. قاله
الحافظ ابن حجر (فاستفتح سورة المؤمنين) أراد به قد أفلح المؤمنون (حتى إذا جاء ذكر
موسى) قال في المرقاة: وفي نسخة بالنصب، أي حتى وصل النبي صلى الله عليه وسلم (وهارون) أي قوله
تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون) (أو ذكر موسى وعيسى) وهو قوله تعالى: (ولقد آتينا
موسى الكتاب لعلهم يهتدون، وجعلنا ابن مريم وأمه آية) (سعلة) قال الحافظ: بفتح أوله من
السعال ويجوز الضم. وقال في المرقاة: قال ابن الملك: وهو صوت يكون من وجع الحلق
واليبوسة فيه (فحذف) أي ترك القراءة، وفسره بعضهم برمي النخاعة الناشئة عن السعلة،
والأول أظهر، لقوله: فركع ولو كان أزال ما أعاقه عن القراءة لتمادي فيها. ويؤخذ منه أن قطع
248

القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم
تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها كذا في فتح الباري (وعبد الله ابن السائب حاضر
لذلك) أي كان عبد الله حاضرا في ذلك الوقت فشاهد ما جرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من أخذ السعال وترك
القراءة والركوع وغيرها. واعلم أن هذا الحديث والحديث الأول واحد، الأول مختصر والثاني
مطول فلا يقال ليس فيه ذكر النعلين فلا يطابق الباب. قال المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي
وابن ماجة بنحوه وأخرجه البخاري تعليقا.
(إذ خلع نعليه) أي نزعهما من رجليه (على إلقائكم نعالكم) بالنصب (أن فيهما قذرا)
بفتحتين أي نجاسة (فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى) شك من الراوي. قال ابن رسلان: الأذى
في اللغة هو المستقذر طاهرا كان أو نجسا قال في سبل السلام: وفي الحديث دلالة على
شرعية الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر والأذى،
والظاهر فيهما عند اطلاق النجاسة، وسواء كانت النجاسة رطبة أو جافة، ويدل له سبب
الحديث انتهى. وقال الخطابي: فيه من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن
صلاته مجزية ولا إعادة عليه. وفيه أن الاتساء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله واجب كهو في أقواله،
وهو أنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه خلعوا نعالهم وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده
وخلع نعله وضعها عن يساره وإذا كان مع غيره في الصف وكان عن يمينه وعن يساره ناس فإنه
يضعها بين رجليه، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة.
249

(قال فيهما خبث) أي قال بدل قوله في نعليه، يعني قال فإن رأى فيهما قذرا (قال في
الموضعين خبث) الموضع الأول إخبار جبريل أن فيهما خبثا والثاني في قوله صلى الله عليه وسلم إذا جاء
أحدكم إلخ، والظاهر أن المراد من الخبث النجاسة أو كل شئ مستخبث.
(خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم) هذا الحديث أقل أحواله الدلالة
على الاستحباب، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري المتقدم، وأحاديث أخر تدل على
استحباب الصلاة في النعال. ويمكن الاستدلال لعدم الاستحباب بحديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده، وحديث أبي هريرة الآتيين. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى أبي عبد
الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه فصلى الناس في نعالهم، فخلع
نعليه فخلعوا، فلما صلى قال من شاء أن يصلي في نعليه فليصل ومن شاء أن يخلع فليخلع)
قال العراقي: وهذا مرسل صحيح الإسناد. ويجمع بين أحاديث الباب بجعل حديث عمرو بن
شعيب وما بعده صارفا للأوامر المذكورة المعللة بالمخالفة لأهل الكتاب من الوجوب إلى
الندب، لأن التخيير والتفويض إلى المشية بعد تلك الأوامر لا ينافي الاستحباب كما في حديث
بين كل أذانين صلاة لمن شاء) وهذا أعدل المذاهب وأقواها عندي. هذا خلاصة ما قال
الشوكاني في هذا الباب. وفي الفتح قال ابن بطال هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما
نجاسة، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في
المعنى المطلوب من الصلاة، وهو إن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر
فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة إزالة
النجاسة قدمت الثانية لأنها من باب دفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح، قال إلا أن
يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل به فيرجع إليه ويترك هذا النظر.
قلت: قد روى أبو داود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعا (خالفوا اليهود فإنهم لا
يصلون في نعالهم ولا خفافهم) فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. وورد
250

في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في اية حديث ضعيف جدا أوردها ابن
عدي في الكامل وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة والعقيلي من حديث أنس
انتهى.
(يصلي حافيا) أي بلا نعال تارة (ومتنعلا) أخرى وهو من التنعل، وفي نسخة (منتعلا)
من الانتعال. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة.
(باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما)
(إذا صلى أحدكم) أي أراد أن يصلي (فلا يضع) بالجزم جواب إذا (فتكون عن يمين
غيره) أي فتقع نعلاه على يمين غيره. قال الطيبي: هو بالنصب جوابا للنهي أي وضعه عن
يساره مع وجود غيره سبب لأن تكون عن يمينه صاحبه، يعني وفيه نوع إهانة له، وعلى المؤمن
أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (إلا أن يكون عن يساره أحد) أي
فيضعهما عن يساره. قال المنذري: في إسناده عبد الرحمن بن قيس ويشبه أن يكون الزعفراني
البصري كنية أبو معاوية لا يحتج به.
(فلا يؤذ بهما) أي بوضعهما على يمين أحد أو قدامه أو بوجه اخر من وجوه إيذاء بهما
251

(ليجعلهما بين رجليه) وإنما لم يقل أو خلفه لئلا يقع قدام غيره أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال
أن يسرق. كذا في المرقاة.
(باب الصلاة على الخمرة)
قال الحافظ في اخر كتاب الحيض من فتح الباري: الخمرة بضم الخاء المعجمة
وسكون الميم. قال الطبري: هو مصلى صغير يعمل من سعف النخل سميت بذلك لسترها
الوجه والكفين من حر الأرض وبردها، فإن كانت كبيرة سميت حصيرا، وكذا قال الأزهري في
تهذيبه وصاحبه أبو عبيد الهروي وجماعة بعدهم، وزاد في النهاية: ولا تكون خمرة إلا في هذا
المقدار، قال وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة بسعفها. وقال الخطابي: هي سجادة يسجد
عليها المصلي ثم ذكر حديث ابن عباس في الفأرة التي جرت الفتيلة حتى ألقتها على الخمرة
التي كان النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. قال: ففي هذا تصريح بإطلاق الخمرة على ما زاد على قدر
الوجه، قال وسميت خمرة لأنها تغطي الوجه. انتهى.
قلت: وحديث ابن عباس الذي أشار إليه الخطابي أخرجه المؤلف بلفظ قال: (جاءت
فأرة تجر الفتيلة فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمر التي كان قاعدا عليها فأحرقت منها
مثل موضع الدرهم فقال: إذا نمتم فأطفئوا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا
فيحرقكم) (وأنا حذاءه) بكسر الحاء المهملة بعدما قال معجمة ومدة أي وأنا بجنبه (وكان
يصلي على خمرة) قال أبو سليمان الخطابي في المعالم: الخمرة سجادة تعمل من سعف
النخل وترمل بالخيوط وسميت خمرة لأنها تخمر وجه الأرض أي تستره. وفيه من الفقه جواز
الصلاة على الحصر والبسط ونحوها. وقال بعض السلف: يكره أن يصلى إلا على جدد
الأرض، وكان بعضهم يجيز الصلاة على كل شئ يعمل من نبات الأرض، فأما ما يتخذ من
أصواف الحيوان وشعورها فإنه كان يكرهه. انتهى. قال ابن بطال: لا خلاف بين فقهاء الأمصار
في جواز الصلاة عليها إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يؤتى بتراب فيوضع على
الخمرة فيسجد عليها، ولعله كان يفعله على جهة المبالغة في التواضع والخشوع فلا يكون فيه
252

مخالفة للجماعة وقد روى ابن أبي شيبة عن عروة بن الزبير أنه كان يكره الصلاة على شئ دون
الأرض، وكذا روى عن غير عروة. ويحتمل أن يحمل على كراهة التنزيه والله أعلم كذا قال
الحافظ.
(باب الصلاة على الحصير)
قال ابن بطال: إن كان ما يصلي عليه كبيرا قدر طول الرجل فأكثر فإنه يقال له حصير ولا
يقال له خمرة، وكل ذلك يصنع من سعف النخل وما أشبهه.
(قال رجل من الأنصار) قيل إنها عتبان بن مالك وهو محتمل لتقارب القصتين لكن لم أر
ذلك صريحا. قاله الحافظ (إني رجل ضخم) أي سمين، وفي هذا الوصف إشارة إلى علة
تخلفه وقد عده ابن حبان من الأعذار المرخصة في التأخر عن الجماعة (معك) أي في الجماعة
في المسجد (فنضحوا له طرف حصير) أي رشوا طرفه (قال فلان بن الجارود) وفي رواية
للبخاري: (فقال رجل من آل الجارود) قال الحافظ: وكأنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود
البصري، وذلك أن البخاري أخرج هذا الحديث من رواية شعبة وأخرجه في موضع اخر من
رواية خالد الحذاء كلاهما عن أنس بن سيرين عن أنس وأخرجه ابن ماجة وابن حبان من رواية
عبد الله بن عون عن أنس بن سيرين عن عبد الحميد بن المنذر بن الجارود عن أنس، فاقتضى
ذلك أن في رواية البخاري اقطاعا وهو مندفع بتصريح أنس بن سيرين عنده بسماعه من أنس،
فيحنئذ رواية ابن ماجة إما من المزيد في متصل الأسانيد، وإما أن يكون فيها وهم لكون ابن
الجارود كان حاضرا عند أنس لما حدث بهذا الحديث، وسأله عما سأله من ذلك، فظن بعض
الرواة أن له فيه رواية. انتهى. (لم أره صلى) وفي بعض الروايات: ما رأيته يصلي والحديث
أخرجه البخاري قاله المنذري.
253

(فيصلي على بساط لنا) بساط بكسر الباء جمعه بسط بضمها وتسكين السين وضمها وهو
ما يبسط أي يفرش وأما البساط بفتح الباء فهي الأرض الواسعة.
(بمعنى الأسناد والحديث) أي إسناد عثمان بن أبي شيبة، وحديثه مثل إسناد عبيد الله
وحديثه لا فرق بين إسنادهما وحديثهما. (والفروة المدبوغة) الفروة هي التي تلبس، وجمعها
فراء كبهمة وبهام. وأحاديث الباب تدل على جواز الصلاة على البسط والحصير والفراء وترد على
من كره الصلاة على غير الأرض وما خلق منها. قال المنذري: أبو عون هو محمد بن عبيد الله
الثقفي، وعبيد الله بن سعيد الثقفي قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول.
(باب الرجل يسجد على ثوبه)
(بسط ثوبه فسجد عليه) الثوب في اللغة يطلق على غير المخيط وقد يطلق على المخيط
مجازا. وفي الحديث جواز استعمال الثياب وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض
لاتقاء حرها وكذا بردها. قال الخطابي: وقد اختلف الناس في هذا فذهب عامة الفقهاء
إلى جوازه مالك والأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه. وقال الشافعي: لا يجزيه
254

ذلك كما لا يجزيه السجود على كور العمامة، ويشبه أن يكون تأويل حديث أنس عنده أن يبسط
ثوبا هو غير لابسه. انتهى.
قلت: وحمله الشافعي على الثوب المنفصل وأيد البيهقي هذا الحمل بما رواه
الإسماعيلي من هذا الوجه بلفظ: (فيأخذ أحدنا الحصي في يده، فإذا يرد وضعه وسجد عليه)
قال: فلو جاز السجود على شئ متصل له لما احتاجوا إلى تبريد الحصي مع طول الأمر فيه،
وتعقب باحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصي لم يكن في ثوبه فضلة يسجد مع بقاء
سترته له، والحق ما قاله مالك وأحمد وإسحاق. وفي هذا الحديث جواز العمل القليل في
الصلاة ومراعاة الخشوع فيها لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك زالة التشويش العارض من حرارة
الأرض. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(باب تسوية الصفوف)
(عند ربهم) أي عند قيامهم لطاعة ربهم، أو عند عرش ربهم (يتمرن الصفوف المقدمة)
أي يتمون الصف الأول ولا يشرعون في الثاني حتى يتموا الأول ولا في الثالث حتى يتموا الثاني
ولا في الرابع حتى يتموا الثالث وهكذا إلى آخرها (ويتراصون في الصف) أي يتلاصقون هذا حتى
لا يكون بينهم فرج من رص البناء إذا ألصق بعضه ببعض قال المنذري: وأخرجه مسلم
والنسائي وابن ماجة.
255

(أقيموا صفوفكم) أي سووه وعدلوه وتراصوا فيه (ثلاثا) أي قال تلك الكلمة ثلاثا (أو
ليخالفن الله بين قلوبكم) إن لم تقيموا. وفي رواية الشيخين (بين وجوهكم) قال النووي: معناه
يوقع بينكم الدواة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان على أي ظهر لي من
وجه كراهته لي، لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب
لاختلاف البواطن. انتهى. قلت: يؤيده رواية المؤلف هذه (قال) أي النعمان بن بشير (يلزق)
أي يلصق (منكبه) المنكب مجتمع العضد والكنف (وكعبه بكعبه) قال الحافظ: واستدل
بحديث النعمان هذا على أن المراد بالكعب في آية الوضوء العظم الناتئ في جانبي الرجل
وهو عند ملتقى الساق والقدم وهو الذي يمكن أن يلزق بالذي بجنبه خلافا لمن ذهب أن المراد
بالكعب مؤخر القدم وهو قول شاذ. وفي صحيح البخاري عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (أقيموا صفوفكم فأني أراكم من وراء ظهري وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه
وقدمه بقدمه) وقال الحافظ في الفتح: قوله عن أنس رواه سعيد ابن منصور عن هشيم، فصرح
فيه بتحديث أنس لحميد وفيه الزيادة التي في اخره وهي قوله وكان أحدنا إلى آخره، وصرح
بأنها من قول أنس، وأخرجه إسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ قال أنس: فرأيت
أحدنا إلى آخره، وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتم
الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته: ولو فعلت ذلك
بأحدهم اليوم لنفر، كأنه بغل شموس. انتهى.
قال في التعليق المغني: فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة على اهتمام تسوية الصفوف
وأنها من إتمام الصلاة، وعلى أنه لا يتأخر بعض على بعض ولا يتقدم بعضه على بعض، وعلى
أنه يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه وركبته بركبته، لكن اليوم تركت هذه السنة، ولو
فعلت اليوم لنفر الناس كالحمر الوحشية، فأنا لله وإنا إليه راجعون. قال المنذري: أبو القاسم
الجدلي هذا اسمه الحسين بن الحارث سمع من النعمان بن بشير يعد في الكوفيين.
(كما يقوم القدح) بكسر القاف هو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي:
256

القدح خشب السهم إذا برى وأصلح قبل أن يركب فيه النصل قريش انتهى. معناه يبالغ في تسويتها
حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها (وفقهنا) أي فهمنا التسوية (إذا رجل
منتبذ بصدره) أي منفرد بتقديم صدره، وفي رواية مسلم (فرأى رجلا باديا صدره ثم من الصف) أي
ظاهرا خارجا من صدور أهل الصف (لتسون صفوفكم) بضم التاء المثناء وفتح السين وضم
الواو والمشددة وتشديد النون. قال البيضاوي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم
ههنا مقدر ولهذا أكده بالنون المشددة انتهى. والمراد بتسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على
سمت واحد أو يراد بها سد الخلل الذي في الصف (أو ليخالفن الله بين وجوهكم) اختلف في
هذا الوعيد فقيل هو على حقيقته، والمراد تشويه الوجه بتحويل خلقه عن وضعه بجعله موضع
القفا، أو نحو ذلك، فهو نظير ما تقدم من الوعيد فيمن رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه
رأس حمار، ويؤيد حمله على ظاهره حديث أمامة (لتسون الصفوف أو لنطمس الوجوه) أخرجه
أحمد وفي إسناده ضعف، ومنهم من حمله على المجاز كما تقدم عن امام النووي. قال
المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة، وأخرج البخاري ومسلم من حديث
سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه.
(وأبو عاصم بن جواس) بتشديد الواو اخره مهملة الحنفي أبو عاصم الكوفي عن أبي
الأحوص سلام وابن المبارك وغيرهما كذا في الخلاصة (يتخلل الصف) أي يدخل بينهم (لا
تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف قال المنذري: وأخرجه النسائي.
257

(فإذا استوينا كبر) أي للاحرام. قال ابن الملك: يدل على أن السنة للامام أن يسوي
الصفوف ثم يكبر كذا في المرقاة قال المنذري: وهو طرف من الحديث المتقدم.
(وحديث ابن وهب أتم) أي من حديث الليث (عن معاوية) أي كلاهما عن معاوية (قال
قتيبة عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة لم يذكر) أي قتيبة (ابن عمر) فرواية قتيبة مرسلة لأن أبا
شجرة هو كثير بن مرة تابعي (أقيموا الصفوف) أي عدلوها وسووها (وحاذوا بين المناكب) أي
اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازيا لمنكب الآخر
ومسامتا له فتكون المناكب والأعناق والأقدام على سمت واحد (وسدوا الخلل) أي الفرجة في
الصفوف (ولينوا) أي كونوا لينين هينين منقادين (بأيدي إخوانكم) أي إذا أخذوا بها ليقدموكم ولا أو
يؤخروكم لم حتى يستوي الصف لتنالوا فصل المعاونة على البر والتقوى. ويصح أن يكون المراد
لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا حدثنا عنه وصمة الانفراد التي أبطل بها
بعض الأئمة.
وجاء في مرسل عند أبي داود: إن جاء فلم يجد خللا واحدا فليختلج إليه رجلا من
الصف فليقم معه، فما أعظم أجر المختلج، وذلك لأنه بنيته محصل له فضيلة ما فات عليه من
الصف مع زيادة من الأجر الذي هو سبب تحصيل فصيلة للغير (ولا تذروا) أي لا تتركوا
(فرجات للشيطان) الفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة بسكون الراء (ومن وصل صفا)
بالحضور فيه وسد الخلل منه (وصله الله) أي برحمته (ومن قطع) أي بالغية أو بعدم السد أو
بوضع شئ مانع (قطعه الله) أي من رحمته الشاملة وعنايته الكاملة. قال المنذري: وأخرجه
النسائي مختصرا متصلا.
258

(رصوا صفوفكم) بضم الراء والصاد المهملتين معناه ضموا بعضها إلى بعض ومنه رص
البناء. قال الله تعالى: (كأنهم بينهم مرصوص) (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا
يسع بين الصفين صف آخر قاله في المرقاة (وحاذروا ابن بالأعناق) بالحاء المهملة والذال
المعجمة. قال الشيخ ولي الدين: أي اجعلوا بعضها في محاذاة بعض أي مقابلته. والظاهر أن
الباء زائدة (من خلل الصف) بفتحتين أي فرجته أو كثرة تباعدها عن بعض (كأنها الحذف) قال
النووي بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين ثم فاء واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة قال
الخطابي: والحذف غنم صغر سود ويقال أنها أكثر ما تكون باليمن قال المنذري: وأخرجه
النسائي مختصرا.
(فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) وفي رواية للبخاري: (فإن إقامة الصف من حسن
الصلاة) وفي رواية أخرى له: (فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة) قال في النيل: وقد استدل
ابن حزم بقوله: إقامة الصلاة على وجوب التسوية قال لأن إقامة الصلاة واجبة وكل شئ من
الواجب واجب، ونازع من ادعى الاجماع على عدم الوجوب، وروى عن عمر وبلال ما يدل
على الوجوب عندهما لأنهما كنا يضربان الأقدام على ذلك. قال في الفتح: ولا يخفى ما فيه
لا سيما وقد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة. وتمسك ابن بطال بظاهر لفظ حديث أبي
هريرة فاستدل به على أن التسوية سنة قال لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، وأورد عليه رواية
من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله تمام الصلاة الاستحباب لأن
ثمام الشئ في العرف أمر زائد على حقيقته التي لا يتحقق إلا بها وإن كان يطلق بحسب
الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، كذا قال وهذا الأخذ بعيد لأن لفظ الشارع لا يحمل
259

إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف
الشارع لا العرف الحادث. انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة.
(يضع عليه يده) أي يأخذه بيده كما يأتي في الرواية آتية (واعدلوا) أي استقيموا.
(بهذا الحديث) المتقدم (أخذه) أي العود (ثم التفت) أي إلى يمين الصف (ثم أخذه
بيساره فقال) أي متوجها إلى يسار الصف.
(أتموا الصف المقدم) أي الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف
الأول. وهكذا (فما كان) أي وجد. دل الحديث على جعل النقصان في الصف الأخير. لكن
لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة وسقطوا الإمام أن يقف أهل الصف
الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله والله تعالى أعلم.
(خياركم) أي في الأخلاق والآداب (ألينكم مناكب) نصب على التميز قيل معناه إنه إذا
260

كان في الصف وأمره أحد بالاستواء أو بوضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. فالمعنى أسرعكم له
انقيادا. وقال الخطابي: معناه لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها لا يلتفت ولا يحاك
منكبه منكب صاحبه، وقد يكون فيه وجه آخر وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف
ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه لتراص ذلك الصفوف ويتكاتف
الجموع (جعفر بن يحيى من أهل مكة) قال ابن المديني: شيخ مجهول لم يرو عنه غير أبي
عاصم كذا في التهذيب.
(باب الصفوف بين السواري) هي جمع سارية وهي الأسطوانة.
(فدفعنا إلى السواري) أي بسبب المزاحمة (فتقدمنا) من السواري (وتأخرنا) عنها (كنا
نتقي هذا) أي كنا نحترز عن الصلاة بين السواري. والحديث يدل على كراهة الصلاة بين
السواري، والعلة في الكراهة ما قاله أبو بكر بن العربي من أن ذلك إما لانقطاع الصف أو لأنه
موضع جمع النعال. قال ابن سيد الناس: والأول أشبه لأن الثاني محدث. قال القرطبي: روي
أن سبب كراهة ذلك أنه مصلي الجن المؤمنين. قال الترمذي: وقد كره قوم من أهل العلم أن
يصف بين السواري، وبه قال أحمد وإسحاق. وقد رخص قوم من أهل العلم في ذلك.
انتهى. وروى سعيد بن منصور في سننه النهي عن ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وحذيفة.
قال ابن سيد الناس: ولا يعلم لهم مخالف في الصحابة، ورخص فيه أبو حنيفة ومالك
والشافعي وابن المنذر، قياسا على الإمام والمنفرد، قالوا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في
الكعبة بين ساريتين.
قلت: يدل على التفرقة بين الجماعة والمنفرد حديث قرة عن أبيه قال: (كنا ننهي أن
نصف بين السواري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونطرد عنها طردا) رواه ابن ماجة لأنه ليس فيه إلا
261

ذكر النهي عن الصف بين السواري ولم يقل كنا ننهي عن الصلاة بين السواري. وأما حديث
الباب ففيه النهي عن مطلق الصلاة بين السواري فيحمل المطلق على المقيد، ويدل على ذلك
صلاته صلى الله عليه وسلم بين الساريتين، فيكون النهي على هذا مختصا بصلاة المؤتمين بين السواري دون
صلاة الإمام والمنفرد، وهذا أحسن ما يقال. وما تقدم من القياس على الإمام والمنفرد فاسد
الاعتبار لمصادمته للأحاديث. هذا تلخيص ما قال الشوكاني في النيل. قال المنذري:
وأخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن.
(باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر)
(ليليني) بنون مشددة قبلها ياء مفتوحة. كذا ضبطنا في سنن أبي داود، وكذا هو في
النسائي وابن ماجة. وضبطه في مسلم على وجهين. قاله الشيخ ولي الدين. وفي المصابيح
ليليني. قال شارحه: الرواية بإثبات الياء وهو شاذ لأنه من المولى بمعنى القرب واللام للأمر،
فيجب حذف الياء للجزم، قيل لعله سهو من الكاتب أو كتب بالياء لأنه الأصل ثم قرئ كذا.
أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو، ولم تدعى. أو تنبيه على
الأصل كقراءة ابن كثير: إنه من يتقي ويصبر، أو أنه لغة في إنه لغة في إنه سكونه تقديري (أو لو الأحلام)
جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم والسكون والوقار، والأناة والتثبت في الأمور وضبط النفس
عن هيجان الغضب ويراد به العقل لأنها من مقتضيات العقل وشعار العقلاء، وقيل أولو الأحلام
البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم النون جمع نهية وهو
العقل الناهي عن القبائح، أي ليدن مني البالغون العقلاء لشرفهم ومزيد تفطنهم وتيقظهم
وضبطهم لصلاته وإن حدث به عارض يخلفوه في الإمامة (ثم الذين يلونهم) معناه الذين يقربون
منهم في هذا الوصف. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام لأنه
أولى بالإكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لتنبيه
الإمام على السهو لما لا يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها
262

الناس وليقتدي بأفعالهم من وراءهم. قال المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة.
(وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة أي اختلاطها
والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها. قال المنذري: وأخرجه مسلم
والترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حسن غريب قال الدارقطني: تفرد به خالد بن مهران
الحذاء عن أبي معشر زياد بن كليب.
(على ميامن الصفوف) جمع ميمنة وفيه استحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده
من الصفوف. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة.
(باب مقام الصبيان من الصف)
(ألا) يحتمل أن تكون ألا للتنبيه وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام (قال)
أي أبو مالك (فصف الرجال) بالنصب أي صفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال صففت القوم فاصطفوا
(وصف الغلمان) أي الصبيان (فذكر) أي وصف أبو مالك (صلاته) أي كيفية صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (هكذا صلاة قال عبد الأعلى) أي الراوي عن أبي مالك
263

(لا أحسبه) أي لا أظن أبا مالك (إلا قال) أي ناقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم (أمتي) أي هكذا صلاة أمتي.
والمعنى أنه ينبغي لهم أن يصلوا هكذا. والحديث يدل على تقديم صفوف الرجال على
الغلمان والغلمان على النساء، هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعدا فإن كان صبي واحد دخل مع
الرجال ولا ينفرد خلف الصف، قاله السبكي. ويدل على ذلك حديث أنس فإن اليتيم لم يقف
منفردا بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد
خلف الامام إلا من احتلم وأنبت وبائع خمس عشرة سنة. وروي عن عمر أنه كان إذا رأى صبيا
في الصف أخرجه وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. قاله الشوكاني.
(باب صف النساء والتأخر عن الصف الأول)
(خير صفوف الرجال أولها) لقربهم من الامام وبعدهم من النساء (وشرها اخرها)
لقربهم من النساء وبعدهم من الامام (وخير صفوف النساء اخرها) لبعدهن من الرجال (وشرها
أولها) لقربهن من الرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها
أبدا وشرها اخرها أبدا أما صفوف النساء، فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع
الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها اخرها.
والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع وخيرها
بعكسه. وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال
ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن
بعكس ذلك والله أعلم. انتهى. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(حتى يؤخرهم الله في النار) يعني لا يخرجهم من النار في الأولين أو اخرهم عن الداخلين
في الجنة أولا بإدخالهم النار وحبسهم فيها كذا في فتح الودود.
264

(تقدموا فائتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللا وتسكر (بكم من
بعدكم) أي ليقتد بكم من خلفكم من الصفوف. وقد تمسك به الشعبي على قوله إن كل صف
منهم إمام لمن وراءه. وعامة أهل العلم يخالفونه (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف
الأول (حتى يؤخرهم الله) عن رحمته وعظيم فضله ورفع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. قال
المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة.
(باب مقام الامام في الصف)
(وسطوا الامام) أي اجعلوا إمامكم متوسطا بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وعن
شماله.
(باب الرجل يصلي وحده خلف الصف)
(فأمره أن يعيد) اختلف السلف في صلاة المأموم خلف الصف وحده. فقال طائفة لا
265

يجوز ولا يصح، وممن قال بذلك النخعي والحسن بن صالح، وأحمد وإسحاق وحماد وابن
أبي ليلى ووكيع. وأجاز ذلك الحسن البصري والأوزاعي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي.
وتمسك القائلون بعدم الصحة بحديث الباب، وحديث علي بن شيبان وفيه: (فقال له استقبل
صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف الصف) رواه أحمد وابن ماجة. وتمسك القائلون بالصحة
بحديث أبي بكرة الآتي قالوا لأنه أتى ببعض الصلاة خلف الصف ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة
فيحمل الأمر بإعادة على جهة الندب مبالغة في المحافظة على الأولى. قال الحافظ: وجمع
أحمد وغيره بين الحديثين بوجه اخر، وهو أن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة.
فمن ابتدأ الصلاة منفردا خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه
266

الإعادة كما في حديث أبي بكرة وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان. انتهى
(قال سليمان بن حرب) في روايته (الصلاة) بعد أن يعيد وأما رواية حفص بن عمر فانتهت إلى
أن يعيد ولم يذكر الصلاة. قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجة. وقال المنذري: حديث
وابصة حديث حسن.
(باب الرجل يركع دون الصف)
(زادك الله حرصا) أي على الخير (ولا تعد) أي إلى ما صنعت من السعي الشديد، تم
من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف، وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا في طرق
حديثه. قاله الحافظ: وقال ضبطاه أو في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين، من العود وحكى
بعض شراح المصابيح: أنه روى بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويرجح الروايات
المشهور ما تقدم من الزيادة في اخره عند الطبراني: (صل ما أدركت واقض ما سبقك) انتهى
267

قال الخطابي: فيه دلالة على أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة لأن جزءا من الصلاة إذا جاز
على حال الانفراد جاز سائر أجزائها، وقوله عليه السلام: (ولا تعد) إرشادا له في المستقبل إلى
ما هو أفضل ولو يكن مجزيا لأمره بالإعادة، ويدل على مثل ذلك حديث أنس في صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المرأة وقيامها منفردة، وأحكام الرجال والنساء في هذا واحدة، وهذا
يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس على الإيجاب ولكن على الاستحباب. وكان
الزهري والأوزاعي يقولان في الرجل يركع دون الصف إن كان قريبا من الصفوف أجزأه وإن
كان بعيدا لم يجزه. انتهى.
قلت: ما قال الخطابي وأحكام الرجال والنساء في هذا واحدة ففيه نظر، لأنه للمخالف
أن يقول إنما ساغ قيام المرأة منفردة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل فإن له أن
يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلا من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال
المنذري: وأخرجه البخاري والنسائي.
(باب ما يستر المصلي)
(إذا جعلت بين يديك) أي قدامك. وهذا مطلق والأحاديث التي فيها التقدير بمر الشاة
وبثلاثة أذرع مقيدة لذلك (مثل مؤخرة الرحل) قال النووي المؤخرة) بضم الميم وكسر الخاء
268

همزة ساكنة، ويقال بفتح الخاء مع فتح الهمزة وتشديد الخاء ومع إسكان الهمزة وتخفيف
الخاء، ويقال آخرة الرحل بهمزة ممدودة وكسر الخاء فهذه أربع لغات وهي العود الذي في آخر
الرحل الذي يستند إليه الراكب من كور البعير وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع (فلا
يضرك من مر بين يديك) لأنه قد فعل المشروع من الاعلام بأنه يصلي، والمراد بقوله لا يضره
الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلي، وفيه إشعار بأنه لا ينقص من صلاة من اتخذ سترة
لمرور من مر بين يديه شئ وحصول النقصان إن لم يتخذ ذلك. ثم المراد من بين يديك بين
السترة والقبلة لا بينك وبين السترة. قال المنذري: وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة.
(عن عطاء) وهو ابن أبي رباح أحد الفقهاء والأئمة. قال ابن عباس وقد سئل عن شئ.
يا أهل مكة تجتسون عبد علي وعندكم عطاء.
(أمر بالحربة) أي أمر خادمه بحمل الحربة. وزاد ابن ماجة: وذلك أن المصلي كان
فضاء ليس فيه شئ يستتر به، والحربة دون الرمح عريضة النصل (والناس) بالرفع عطفا على
فاعل يصلي (وكان يفعل ذلك) أي نصب الحربة بين يديه حيث لا يكون جدار (فمن ثم اتخذها
الأمراء) أي فمن تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة يخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه. وهذه
الجملة الأخيرة فصلها علي بن مسهر فجعلها من كلام نافع كما أخرجه ابن ماجة، والضمير في
اتخذها يحتمل عوده إلى الحربة نفسها أو إلى جنس الحربة. قال المنذري: وأخرجه البخاري
ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(صلى بهم بالبطحاء) يعني بطحاء مكة وهو موضع خارج مكة وهو الذي يقال له الأبطح
(عنزة) بفتح العين والنون والزاي عصا أقصر من الرمح لها سنان، وقيل هي الحربة القصيرة
269

ووقع في رواية كريمة في اخر حديث هذا الباب العنزة عصا عليها زج بزاء مضمومة وجيم
مشددة أي سنان. قاله الحافظ في كتاب الطهارة.
وأحاديث الباب تدل على مشروعية اتخاذ السترة وملازمة ذلك في السفر.
وعلى أن الستر تحصل بكل شئ ينصب تجاه المصلي، وإن دق إذا كان قدر مؤخرة
الرحل، وعلى عدم الفرق بين الصحاري والعمران، وهو الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من اتخاذ السترة
سواء كان في الفضاء أو في غيره. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم.
(باب الخط إذا لم يجد عصا)
(فليجعل تلقاء وجهه شيئا) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شئ ينصبه المصلي
تلقاء وجهه يحصل به الامتثال (فلينصب) بكسر الصاد أي يرفع أو يقيم (عصا) ظاهره عدم
الفرق بين الرقيقة والغليظة ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (استتروا في صلاتكم ولو بسهم)
وقوله صلى الله عليه وسلم: يجزي من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعره) أخرجه الحاكم وقال على
شرطهما. قال المنذري: وأخرجه ابن ماجة.
(رجل من بني عذرة) بدل من حريث (قال فذكر) سفيان (حديث الخط) المتقدم (لم
نجد شيئا) أي طريقا اخر غير الطريق المذكور أو شاهدا (نشد) أي نقوى (به) أي بذلك
الطريق الآخر أو بذلك الشاهد (ولم يجئ) هذا الحديث (إلا من هذا الوجه) أي إلا من طريق
270

أبي محمد بن عمرو بن حريث قال في الخلاصة: أبو عمر بن محمد بن حريث وقيل أبو
محمد بن عمرو العدوي عن جده عن أبي هريرة وعنه إسماعيل بن أمية قال أبو جعفر
الطحاوي: مجهول. وفي ميزان الاعتدال: أبو محمد بن عمرو بن حريث عن جده لا يتحرر
حاله ولا اسمه تفرد عن إسماعيل بن أمية (قال) أي علي بن المديني (قلت لسفيان) وهو ابن
عيينة (إنهم يختلفون فيه) أي في اسم أبي محمد بن عمرو فقيل أبو عمرو بن محمد بن
حريث، وقيل أبو محمد بن عمرو، قيل غير ذلك كما فصله السخاوي (فتفكر) سفيان (ساعة
ثم قال) أي سفيان (ما أحفظ إلا أبا محمد بن عمرو) دون أبي عمرو بن محمد وغيره (بعد ما
مات إسماعيل بن أمية) ما مصدرية أي بعد موته (فطلب هذا الشيخ) المراد بهذا الشيخ الرجل
المذكور قبل (فسأله عنه) أي فسأل الشيخ أبا محمد عن هذا الحديث (فخلط عليه) بصيغة
المجهول أي التبس عليه هذا الحديث، ولم يقدر على روايته كما كان ينبغي، والله أعلم.
واعلم أن حديث الخط المذكور أخرجه أيضا ابن حبان وصححه والبيهقي وصححه
أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار قاله الشوكاني وأخذ به أحمد وغيره
فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة وأما الأئمة الثلاثة والجمهور فلم يعملوا به وقالوا هذا
الحديث في سنده اضطراب فاحش كما ذكره العراقي في ألفيته. وقال الحافظ ابن حجر وأورده
ابن الصلاح مثالا للمضطرب ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام ولم يصب من زعم أن
مضطرب (سئل عن وصف الخط غير مرة) واحدة بل سئل عنه مرارا (فقال هكذا عرضا) أي
في المعرض لا في الطول (مثل الهلال) فاختار أحمد أن يكون الخط مقوسا كالمحراب ويصلي
إليه كما يصلي في المحراب (قال ابن داود الخط بالطول) أي مستقيما من بين يديه إلى القبلة
271

(حورا دورا مثل الهلال) أي محورا ومدورا مثل الهلال أو يحير الخط ويديره مثل الهلال،
والحوار الرجوع، وقوله يعني منعطفا تفسير لقوله حورا دورا.
(فوضع قلنسوته) بفتح القاف واللام وسكون النون وضم المهملة وفتح الواو وقد تبدل
ياء مثناة من تحت وقد تبدل ألفا وتفتح السين، فيقال قلنساة، وقد تحذف النون من هذه بعدها
هاء تأنيث: غشاء مبطن يستر به الرأس. قاله القزاز في شرح الفصيح. وقال ابن هشام: هي
التي يقال لها العمامة الشاشية. وفي المحكم هي من ملابس الرأس معروفة. وقال أبو هلال
العسكري: هي التي تغطي بها العمائم وتستر من الشمس والمطر كأنها عنده رأس البرنس.
قاله الحافظ في فتح الباري.
(باب الصلاة إلى الراحلة)
قال الجوهري: الراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها وقال الأزهري:
الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للمبالغة.
(كان يصلي إلى بعيره) البعير هو الجمل ويطلق على الأنثى أيضا والجمع أبعرة. قال
الحافظ: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بما يستقر من الحيوان ولا يعارضه النهي عن
الصلاة في معاطن الإبل لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما
لشدة نتنها وإما لكون إبل خلقت من الشياطين وقد تقدم ذلك فيحمل ما وقع منه في السفر من
272

الصلاة إليها على حالة الضرورة، ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة لكون البيت كان
ضيقا. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أي يصلي
إلى بعير إلا وعليه رحل، وكأن الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى
السكون من حال تجريدها. انتهى. مختصرا قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم
والترمذي.
(باب إذا صلى إلى سارية)
أي أسطوانة.
(أو نحوها أين يجعلها منه) الضمير في منه يرجع إلى المصلى (إلى عود) كالعصا وهو
واحد العيدان (ولا عمود) كالأسطوانة وهو واحد العمد (ولا يصمد) بفتح أوله وضم ثالثه. قال
الخطابي: الصمد القصد يريد أنه لا يجعله تلقاء وجهه، والصمد هو السيد الذي يصمد إليه في
الحوائج أي يقصد فيها ويعتمد لها. انتهى. وفي الحديث استحباب أن تكون السترة على جهة
اليمين أو اليسار. قال المنذري: في إسناده أبو عبيد الوليد بن كامل البجلي الشامي وفيه مقال.
قلت: وثقه ابن حبان، وقال البخاري: عنده عجائب كذا في الخلاصة.
273

(باب الصلاة إلى المتحدثين)
(أي المتكلمين (والنيام) جمع النائم.
(لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث) قال الخطابي: هذا الحديث لا يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم لضعف سنده، وعبد الله بن يعقوب لم يسم من حدثه عن محمد بن كعب وإنما رواه
عن محمد بن كعب رجلان كلاهما ضعيفان تمام بن بزيع وعيسى بن ميمون وقد تكلم فيهما
يحيى بن معين والبخاري، ورواه أيضا عبد الكريم أبو أمية عن مجاهد عن ابن عباس وعبد
الكريم متروك الحديث. قال أحمد بن حنبل ضربنا عليه فاضربوا عليه. قال يحيى بن معين
ليس بثقة ولا يحمل عنه. قلت: وعبد الكريم هذا هو أبو أمية البصري وليس بالجزري، وعبد
الكريم الجزري أيضا ليس في هذا الحديث بذلك إلا أن البصري ضعيف جدا. قلت: وقد ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى وعائشة نائمة معترضة بينه وبين القبلة فأما الصلاة إلى المتحدثين فقد
كرهها الشافعي وأحمد بن حنبل وذلك من أجل أن كلامهم يشغل المصلي عن صلاته. وكان
ابن عمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة. انتهى كلام الخطابي. قال المنذري:
وأخرجه ابن ماجة في إسناده رجل مجهول والطريق التي أخرجه بها ابن ماجة فيها أبو المقدام
هشام بن زياد البصري ولا يحتج بحديثه.
274

(باب الدنو من السترة)
(يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم) أي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فليدن) أي فليقرب بقدر إمكان
السجود وهكذا بين الصفين (منها) أي من السترة على قدر ثلاثة أذرع أو أقل، وبه قال الشافعي
وأحمد، نقله ابن الملك لأنه صلى الله عليه وسلم لما صلى في الكعبة جعل بينه وبين القبلة قريبا من ثلاثة أذرع
(لا يقطع الشيطان) بالجزم جواب الأمر ثم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين (عليه) أي على
أحدكم (صلاته) أي لا يفوت عليه حضورها بالوسوسة والتمكن منها واستفيد منه أن السترة
تمنع استيلاء الشيطان على المصلي وتمكنه من قلبه بالوسوسة إما كلا أو بعضا بحسب صدق
المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يمكن الشيطان من إزلاله عما هو بصدده
من الخشوع والخضوع. كذا في المرقاة. قال المنذري: وأخرجه النسائي (واختلف في
إسناده) وبين الاختلاف بقوله رواه واقد بن محمد الخ.
(كان بين مقام النبي صلى الله عليه وسلم) أي مقامه في صلاته (وبين القبلة) وفي رواية للبخاري وبين
275

الجدار. قال الحافظ أي جدار المسجد مما يلي القبلة، وصرح بذلك من طريق أبي غسان عن
أبي حازم في الاعتصام (مر عنز) بالرفع وكان تامة أو ممر اسم كان بتقدير قدرا ونحوه والظرف
الخبر، وأعربه الكرماني بالنصب على أن ممر خبر كان واسمها نحو قدر المسافة قال والسياق
يدل عليه. والعنز الأنثى من المعز. وفي رواية البخاري (ممر الشاة) قال ابن بطال: هذا أقل ما
يكون بين المصلي وسترته يعني ممر الشاة وقيل أقل ذلك ثلاثة أذرع لحديث بلال (أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع) وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره
ثلاثة أذرع. وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود، والثاني في حال الركوع
والسجود. وقال ابن الصلاح: قد رووا ممر الشاة بثلاثة أذرع قلت: ولا يخفى ما فيه. وقال
البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود
وكذلك بين الصفوف، هذا خلاصة ما في الفتح.
لطيفة: قال الخطابي كان مالك بن أنس يصلي يوما متبائنا ما عن السترة فمر به رجل وهو لا
يعرفه فقال أيها المصلي أدن من سترتك، قال فجعل مالك يتقدم وهو يقرأ: (وعلمك ما لم
تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم وفيه
ممر الشاة (الخبر للنفيلي) أي لفظ الحديث للنفيلي.
(باب ما يؤمر المصلي أن يدرأ)
أي يدفع (عن الممر) أي المرور (بين يديه).
(فلا يدع) أي فلا يترك (وليدرأه) معناه يدفعه ويمنعه عن المرور بين يديه، والدرء
المدافعة وهذا في أول الأمر لا يزيد على الدرء والدفع (فإن أبى فليقاتله) أي يعالجه ويعنف في
دفعه عن المرور بين يديه (فإنما هو شيطان) معناه أن الشيطان يحمله على ذلك، فإن ذلك من
276

فعل الشيطان وتسويله. وقد روي في هذا الحديث من طريق ابن عمر فليقاتله فإن معه القرين
يريد به الشيطان.
قلت: وهذا إذا كان المصلي يصلي إلى سترة، فإن لم يكن سترة يصلي إليها وأراد المار
أن يمر بين يديه فليس له درؤه ولا دفعة، ويدل على هذا حديثه الآخر قاله الخطابي: قال
القاضي عياض والقرطبي: وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة
الاقبال على الصلاة والاشتغال بها وأطلق جماعة من الشافعية أن له ان يقاتله حقيقة. واستبعد
ذلك ابن العربي وقال المراد بالمقاتلة المدافعة.
(ثم ساق معناه) أي ساق ابن عجلان معنى الحديث المتقدم.
(حدثني أبو عبيد) هو مولى سليمان بن عبد الملك.
277

(فأراد أحد أن يجتاز) أي يمر ويتجاوز (فليدفع في نحره) أي في صدره قال المنذري:
وأخرجه البخاري ومسلم بمعناه أتم منه (يمر الرجل يتبختر) أي متبخترا أي متكبرا معجبا
بنفسه.
(باب ما ينهي عنه من المرور بين يدي المصلي)
(إلى أبي جهيم) هو بضم الجيم وفتح الهاء مصغرا واسمه عبد الله بن الحارث بن
الصمة الأنصاري البخاري (بين يدي المصلي) أي أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر
الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبين
قدر ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبين فدر رمية بحجر (لكان أن يقف أربعين) يعني لو علم المار مقدار
278

الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه
ذلك الإثم.
وفي سنن ابن ماجة وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة (لكان أن يقف مائة عام
خيرا له من الخطوة التي خطاها) وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر
لا لخصوص عدد معين. وفي مسند البزار (لكان أن يقف أربعين خريفا) (خير له) بالرفع على أنه
اسم كان. قال في الفتح. ويحتمل أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها (قال أبو النضر
لا أدري) هو كلام مالك قاله في الفتح والحديث يدل على أن المرور بين يدي المصلي من
الكبائر الموجبة للنار، وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة قال المنذري: وأخرجه
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(باب ما يقطع الصلاة)
(المعنى) أي المعنى واحد وألفاظهم مختلفة (قال حفص) بن عمر (قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم) فحفص رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأما عبد السلام وابن كثير فلم يرفعاه بل
وقفاه على أبي ذر كما قال المؤلف بقوله (قالا) يعني عبد السلام وابن كثير (عن سليمان قال قال
أبو ذر) فعبد السلام على وابن كثير اقتصر على قول أبي ذر (يقطع صلاة الرجل) اختلف العلماء في
هذا فقال بعضهم: يقطع هؤلاء الصلاة وتبطلها، قال أحمد بن حنبل: يقطعها الكلب الأسود
وفي قلبي من الحمار والمرأة شئ. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم وجمهور
279

العلماء من السلف والخلف: لا تبطل الصلاة بمرور شئ من هؤلاء ولا من غيرهم. وتأول
هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد
إبطالها. قاله النووي (قيد آخرة الرحل) أي قدرها في الطول يقال هو قيد شبر بمعنى
واحد (الحمار) فاعل يقطع، والكلب الأسود والمرأة عطف عليه (فقلت ما بال الأسود) أي فما
حال الكلب الأسود فهو يقطع الصلاة دون غيره من الأحمر والأصفر والأبيض (فقال الكلب
الأسود شيطان) قال في فتح الودود حمله بعضهم على ظاهره. وقال إن الشيطان يتصور بصورة
الكلاب السود، وقيل بل هو أشد ضررا من غيره فسمي شيطانا انتهى. قال المنذري: وأخرجه
مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة بنحوه مختصرا ومطولا.
(رفعه شعبة) أي روى الحديث مرفوعا شعبة من بين أصحاب قتادة، وأما غيره كسعيد
وهشام وهمام فرووه عن قتادة موقوفا على ابن عباس، كما بينه المؤلف. قال المنذري:
وأخرجه النسائي وابن ماجة، وفي حديث ابن ماجة: الكلب الأسود.
(ويجزئ عنه) بالهمزة من اجزاء أي ويكفي عن عدم سترته (على قذفه بحجر) أي
رميه بحجر بأن يبعدوا عنه ثلاثة أذرع فأكثر قاله ابن حجر وروى الطحاوي ويكفيك إذا كانوا
منك قدر رمية ولم يقطعوا عنك صلاتك. أي يكفيك عن السترة إذا كانوا بعيدين عنك قدر رمية
280

بحجر ولم يقطعوا حينئذ صلاتك. كذا في المرقاة (كنت ذاكرته إبراهيم غيره) أي كنت أسأل
إبراهيم وغيره هل روى أحد غير معاذ هذا الحديث عن هشام (فلم أر أحدا أجابه عن هشام ولا
يعرفه) أي فلم يجب أحد عما سألت ولم يعرف الحديث عن هشام (ولم أر أحدا يحدث به عن
هشام) أي غير معاذ (وأحسب الوهم من ابن أبي سمينة) هو محمد بن إسماعيل البصري
(والمنكر فيه ذكر المجوسي وفيه على قذفه بحجر وذكر الخنزير وفيه نكارة) حاصله أن ذكر
المجوسي في هذا الحديث، وكذا ذكر على قذفه بحجر وكذا ذكر الخنزير منكر.
(رأيت رجلا بتبوك) موضع معروف وهو من أداني أرض الشام (مقعدا) المقعد من لا
يقدر على القيام لزمانه به كأنه ألزم القعود وقيل هو من القعاد وهو داء يأخذ الإبل في أوراكها
فيميلها إلى الأرض (اللهم اقطع أثره) أي مشية (فما مشيت عليها) أي على الحمار (بعد) مبني
281

على الضم والمضاف إليه محذوف منوي أي بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم علي بقطع أثري.
(قطع صلاتنا قطع الله أثره) دعاء عليه بالزمانة لأنه إذا زمن انقطع مشيه فانقطع أثره
(ما سمعت أني حي) أي ما دام سمعت.
(باب سترة الإمام ستره من خلفه)
(هبطنا) أي نزلنا (من ثنية إذاخر) موضع بين الحرمين مسمى بجمع إذخر (فصلى إلى
جدر) وهو ما يرفع حول المزرعة كالجدار، وقيل لغة في الجدار، (فجاءت بهمة) قال
282

الخطابي البهمة: ولد الشاة أول ما يلد، يقال ذلك للذكر والأنثى سواء (فما زال يدارئها) أي
يدافعها مهموز وهو من الدرء والمدافعة، وليس من المداراة التي تجري مجرى الملاينة، هذا
غير مهموز وذلك مهموز، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه أن
يتخذوا سترة غير سترته.
(فذهب جدي) بفتح جيم وسكون دال من أولاد المعز ما بلغ ستة أشهر أو سبعة ذكرا كان
أو أنثى.
(باب من قال: المرأة لا تقطع الصلاة)
(صلاته من الليل) أي صلاة التطوع (وهي معترضة بينه وبين القبلة راقدة) أي نائمة
283

قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشئ حائلا بين شيئين وفيه دلالة على جواز الصلاة إلى
النائم من غير كراهة. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
(بئسما عدلتمونا) بخفة دال أي سويتمونا (وأنا معترضة بين يديه) أي مضطجعة (غمز
رجلي) الغمز قال والعصر والكبس باليد، وفي الرواية الآتية ضرب رجلي) قال المنذري: وأخرجه
البخاري والنسائي.
(ضرب رجلي) وفي رواية البخاري (غمزني) قال الحافظ: وقد استدل يقولها غمزني
على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وتعقب باحتمال الحائل أو بالخصوصية. انتهى قال
المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي بنحوه أتم منه.
(زاد عثمان) في روايته (غمزني) ولم يزده القعنبي (ثم اتفقا) أي عثمان والقعنبي (فقال)
أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (تنحي) يا عائشة، أي تحول إلى ناحية.
واعلم أن من ذهب إلى أن المرأة لا تقطع الصلاة استدل بأحاديث الباب، قال في النيل:
وروي عن عائشة أنها ذهبت إلى أنه يقطعها الكلب والحمار والسنور دون المرأة، ولعل دليلها
على ذلك ما روته من اعتراضها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرفت أن الاعتراض غير المرور، وقد
تقدم عنها أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة تقطع الصلاة، فهي محجوجة بما روت انتهى.
284

قلت: روايتها عند أحمد بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع صلاة المسلم شئ إلا
الحمار والكافر والكلب والمرأة لقد قرنا بدواب سوء) قال العراقي: ورجاله ثقات. واستدل
ابن شهاب الزهري بحديث عائشة المروي في الباب على أنه لا يقطع الصلاة شئ. قال
الحافظ في فتح الباري: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث
يقطع الصلاة المرأة إلى اخره يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة فلما ثبت أنه
صلى الله عليه وسلم صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس
عليه، وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن
حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل على نسخ الاضطجاع عن فقط. قال: وقد نازع بعضهم
في الاستدلال مع ذلك من أوجه أخرى ثم ذكر الأوجه. ومنها أن حديث عائشة واقعة حال
يتطرق إليها الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام ثم قال الحافظ
وقال بعض الحنابلة يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة وصريح غير
صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه،
والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أو غيره،
فهكذا المرأة يقطع مرورها دون لبثها. انتهى كلام الحافظ.
(باب من قال: الحمار لا يقطع الصلاة)
(على حمار) هو اسم جنس يشمل الذكر والأنثى كقولك بعير وقد شذ حمارة في الأنثى
حكاه في الصحاح (على أتان) بفتح الهمزة هي الأنثى من الحمير (قد ناهزت الاحتلام) أي
قاربت، والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي (بمنى) بالصرف وعدمه والأجود الصلاف وكتابته
بالألف، وسميت به لما يمني أن يراق بها من الدماء (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن
285

الإمام بفتح الهمزة لأن الصف ليس له يد، وفي رواية للبخاري في الحج بين يدي بعض الصف
الأول (ترتع) أي تأكل ما تشاء وقيل: تسرع في المشي، واستدل بهذا الحديث على أن مرور
الحمار لا يقطع الصلاة فيكون ناسخا لحديث أبي ذر الذي رواه مسلم والمؤلف في كون مرور
الحمار يقطع الصلاة، وكذا مرور المرأة والكلب الأسود. قال الحافظ: وتعقب بأن مرور
الحمار متفق في حال مرور ابن عباس وهو راكبه، وقد تقدم أن ذلك لا يضر لكون سترة امام
سترة لمن حلفه، وأما مروره بعد أن نزل عنه فيحتاج إلى نقل انتهى. قال المنذري: وأخرجه
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة، ولفظ النسائي وابن ماجة (بعرفة) وأخرج
مسلم اللفظين، والمشهور أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، وقد ذكر مسلم حديث معمر
عن الزهري وفيه قال: في حجة الوداع أو يوم الفتح، فلعلها كانت مرتين والله عز وجل أعلم.
(فما بالاه) يعني التفات نكر الوداك من ناداشت في أي ما اكترث وما التفت، يقال لا أباليه ولا
أبالي منه.
(فجاءت جاريتان من بني عبد المطلب اقتتلتا) زاد النسائي: فأخذتا بركبتيه (ففرع
بينهما) أي حجر وفرق يقال فرع وفرع وتفرع (وقال داود) بن المخراق في روايته: قال
286

المنذري وأخرجه النسائي بنحوه. وأبو الصهباء هو البكري. وقيل مولى عبد الله بن عباس
واسمه صهيب. وقيل: إنه بصري. وسئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: مديني ثقة.
(باب من قال الكلب لا يقطع الصلاة)
(ونحن في بادية لنا) حال من المفعول، والبادية البدو وهو خلاف الحضر (ومعه عباس)
حال من الفاعل (حمارة لنا وكلبة) التاء فيهما إما للواحدة أو للتأنيث (تعبثان) أي تلعبان (بين
يديه) أي قدامه. قال في المرقاة: وهو يحتمل ما وراء المسجد أو موضع بصره (فما بالي ذلك)
أي ما التفت إليه وما اعتده قاطعا. قال في النيل: ليس في الحديث ذكر أنهما مرا بين يديه
وكونهما بين يديه لا يستلزم المرور الذي هو محل النزاع. قال المنذري: وأخرجه النسائي
بنحوه، وذكر بعضهم أن في إسناده مقالا وقال إنه لم يذكر فيه بعث الكلب. وقد يجوز أن يكون
الكلب ليس بأسود.
(باب من قال لا يقطع الصلاة شئ)
(لا يقطع الصلاة شئ) أي لا يبطلها شئ مر بين يدي المصلي (وادرؤوا) أي ادفعوا
المار (فإنما هو) أي المار. قال المنذري: في إسناده مجالد وهو ابن سعيد بن عمير الهمداني
الكوفي، وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثا مقرونا بجماعة من أصحاب
الشعبي. والوداك بن بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وبعد الألف كاف.
287

(نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده)
قلت: قد ذهب أكثر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إلى أن لا يقطع الصلاة شئ
أخرج الطحاوي عن علي وعمار: (لا يقطع صلاة المسلم شئ وادرؤوا ما استطعتم) وعن علي
(لا يقطع صلاة المسلم كلب ولا حمار ولا امرأة ولا ما سوى ذلك من الدواب) وعن حذيفة أنه
قال (لا يقطع صلاتك شئ) وعن عثمان نحوه. وقال الحافظ: أخرج سعيد بن منصور عن
علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفا أي نحو حديث أبي سعيد المرفوع (لا يقطع الصلاة
شئ). قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من
التابعين. قالوا: لا يقطع الصلاة شئ، وبه يقول سفيان والشافعي. ثم ذكر الترمذي حديث
أبي ذر وقال: حديث أبي ذر حديث صحيح. وقد ذهب بعض أهل العلم إليه قالوا: يقطع
الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود. انتهى. فعند المؤلف الراجح هو عدم القطع. ومال
الطحاوي وغيره إلى أن حديث أبي ذر وما وافقه منسوخ بحديث عائشة وغيرها. وتعقب بأن
النسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ، وتعذر الجمع والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر،
ومال الشافعي وغيره إلى تأويل القطع في حديث أبي ذر بأن المراد به نقض الخشوع لا الخروج
من الصلاة. وقال بعضهم: حديث أبي ذر مقدم لأن حديث عائشة على أصل الإباحة وهو
مبني على أنهما متعارضان، ومع إمكان الجمع المذكور لا تعارض. والله تعالى أعلم
(باب رفع اليدين في الصلاة)
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قد صنف البخاري في هذه المسألة جزءا مفردا،
288

وحكى فيه عن الحسن وحميد بن هلال أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك. قال البخاري ولم
يستثن الحسن أحدا. وقال ابن عبد البر: كل من روي عنه ترك الرفع في الركوع والرفع منه،
روي عنه فعله إلا ابن مسعود. وقال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على
مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما إلا ابن
القاسم، والذي نأخذ به الرفع حديث ابن عمر وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك ولم
يحك الترمذي عن مالك غيره. ونقل الخطابي، وتبعه القرطبي في المفهم أنه اخر قولي مالك
وأصحهما، ولم أر للمالكية دليلا على تركه ولا متمسكا إلا بقول ابن القاسم. وأما الحنفية
فعولوا على رواية مجاهد أنه صلى خلف ابن عمر فلم يره يفعل ذلك، وأجيبوا بالطعن في
إسناده لأن أبا بكر ابن عياش راويه ساء حفظه بآخره، وعلى تقدير صحته فقد أثبت ذلك سالم
ونافع وغيرهما عنه، والعدد الكثير أولي من واحد لا سيما وهم مثبتون وهو ناف، مع أن الجمع
بين الروايتين ممكن، وهو أنه لم يكن يراه واجبا ففعله تارة وتركه أخرى، ومما يدل على ضعفه
ما رواه البخاري في جزء رفع اليدين عن مالك أن ابن عمر كان إذا رأى رجلا لا يرفع يديه إذا
ركع وإذا رفع رماه بالحصا. واحتجوا أيضا بحديث ابن مسعود أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه عند
الافتتاح ثم لا يعود أخرجه أبو داود، ورده الشافعي بأنه لم يثبت قال ولو ثبت لكان المثبت مقدما
على النافي وقد صححه بعض أهل الحديث لكنه استدل به على عدم الوجوب، والطحاوي
إنما نصب الخلاف مع من يقول بوجوبه كالأوزاعي وبعض أهل الظاهر. وذكر البخاري أنه
رواه سبعة عشر رجلا من الصحابة، وذكر الحاكم وأبو القاسم بن مندة ممن رواه العشرة
المبشرة. وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلا.
انتهى.
(إذا استفتح الصلاة رفع يديه) في هذا دليل لمن قال بالمقارنة بين التكبير والرفع، وقد
ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه أخرجهما مسلم. ففي حديث الباب رفع يديه ثم كبر،
وفي حديث مالك بن الحويرث عند مسلم كبر ثم رفع يديه. قال الحافظ: وفي المقارنة وتقديم
الرفع على التكبير خلاف بين العلماء والمرجح عند أصحابنا المقارنة، ولم أر من قال بتقديم
التكبير على الرفع ويرجح الأول حديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ: (رفع يديه مع
التكبير) وقضية المعية أنه ينتهي بانتهائه وهو الذي صححه النووي في شرح المهذب ونقله عن
نص الشافعي وهو المرجح عند المالكية. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الأصح يرفع ثم
يكبر لأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له والنفي سابق على
289

الإثبات كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر، وقد قال فريق من
العلماء الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى، وقد ذكرت في ذلك مناسبات
أخر انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة
الإحرام انتهى (حتى يحاذي منكبيه) أي يقابلهما، والمنكب مجمع العضد والكتف وبهذا أخذ
الشافعي والجمهور، وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث أخرجه مسلم وفي لفظ له
عنه: (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال يحاذي
بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين، ويؤيده رواية أخرى عند المؤلف بلفظ (حتى كانتا
حيال منكبيه وحاذى بإبهاميه أذنيه).
فائدة: لم يرد ما يدل على التفرقة في الرفع بين الرجل والمرأة، وعن الحنيفة: يرفع
الرجل إلى الأذنين والمرأة إلى المنكبين لأنه أستر لها والله أعلم. قاله الحافظ (وإذا أراد أن
يركع) أي رفع يديه (وبعد ما يرفع رأسه) أي رفع يديه أيضا. قال الحافظ ابن حجر معناه بعد
ما يشرع في الرفع لتتفق الروايات وفي رواية البخاري: (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح
الصلاة، وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا) (ولا يرفع بين
السجدتين) وفي رواية للبخاري: (ولا يفعل ذلك في السجود).
قال الحافظ: أي لا في الهوى إليه ولا في الرفع منه كما في رواية شعيب في الباب الذي
بعده حيث قال حين يسجد ولا حين يرفع رأسه، وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثانية
والرابعة والتشهدين ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة أيضا لكن بدون تشهد لكونه غير واجب. وإذا
قلنا باستحباب جلسة الاستراحة لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عند القيام منها إلى الثانية
والرابعة، لكن قد روى يحيى القطان عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا هذا الحديث
وفيه: (ولا يرفع بعد ذلك) أخرجه الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن، وظاهره يشمل النفي
عما عدا المواطن الثلاثة وسيأتي إثبات ذلك في مواطن رابع بعد بباب انتهى. قال المنذري:
وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
290

(حتى تكونا حذو منكبيه) بفتح المهملة وإسكان الذال المعجمة أي مقابلهما (وهما
كذلك) جملة حالية، أي ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدا مرفوعتان (ثم إذا أراد أن يرفع صلبه
رفعهما) مقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع (يكبرها قبل الركوع) أي
للركوع.
(محمد بن حجادة) بضم الجيم قبل المهملة (قال) أي عبد الجبار (كنت غلاما لا أعقل
صلاة أبي) في هذا دلالة ظاهرة على أن عبد الجبار بن وائل ولد في حياة أبيه (ثم التحف) زاد
مسلم بثوبه أي تستر به (ثم أخذ شماله بيمينه) ورواه ابن خزيمة بلفظ: (وضع يده اليمنى على
يده اليسرى على صدره) قاله الحافظ في التلخيص (فإذا أراد أن يركع أخرج يديه ثم رفعهما)
فيه استحباب كشف اليدين عند الرفع (ثم سجد ووضع وجهه بين كفيه) وفي رواية مسلم:
(فلما سجد سجد بين كفيه) قال في المرقاة: أي محاذيين لرأسه. قال ابن الملك أي وضع
كفيه بإزاء منكبيه في السجود. وفيه: أن إزاء المنكبين لا يفهم من الحديث ولا هو موافق
للمذهب، وأغرب ابن حجر أيضا حيث قال: وفيه التصريح بأنه يسن للمصلي وضع كفيه على الأرض
حذاء منكبيه اتباعا لفعله عليه السلام كما رواه أبو داود وسنده صحيح.
قلت: على تقدير صحة سنده فمسلم مقدم، لأنه في الصحة مسلم فهو أولى
بالترجيح، فيحمل رواية غيره على الجواز والله أعلم. انتهى. قلت: رواية أبي داود التي أشار
إليها ابن حجر هي رواية أبي حميد الآتية وفيها: (ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته ونحى يديه عن
جنبيه ووضع كفيه حذو منكبيه) وفي البخاري في حديث أبي حميد: (لما سجد وضع كفيه
291

حذو منكبيه) فقول على القاري فهو أولي بالترجيح، فيحمل رواية غيره على الجواز في حيز
الخفاء (قال محمد) هو ابن جحادة (فذكرت ذلك للحسن بن أبي الحسن) هو الحسن البصري
ثقة فقيه فاضل مشهور وكان يرسل كثيرا ويدلس هو رأس أهل الطبقة الثالثة، وكان شجاعا من
أشجع [أهل] زمانه وكان عرض زنده شبرا (لم يذكر الرفع مع الرفع من السجود) قال
المنذري: وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الجبار بن وائل عن علقمة بن وائل
ومولى لهم عن أبيه وائل بن حجر بنحوه وليس فيه ذكر الرفع مع الرفع من السجود.
(حتى كانتا بحيال منكبيه) بكسر الحاء أي قبالتهما وبحذائهما هذه (وحاذى بإبهاميه أذنيه)
عطف على كانتا أي جعل النبي صلى الله عليه وسلم إبهاميه محاذيين لأذنيه. قال المنذري: عبد الجبار بن وائل
لم يسمع من أبيه وأهل بيته مجهولون. انتهى.
واعلم أن لوائل بن حجر إبنان أحدهما عبد الجبار وثانيهما علقمة. والصحيح أن عبد
الجبار لم يسمع من أبيه وأنه ولد في حياة أبيه وائل. وما قال الترمذي في باب ما جاء في المرأة
إذا استكرهت على الزنا سمعت محمدا يقول عبد الجبار بن وائل بن حجر لم يسمع من أبيه ولا
أدركه يقال إنه ولد بعد موت أبيه بأشهر فضعفه المزي، وقال في تهذيب الكمال هذا القول
ضعيف جدا فإنه قد صح أنه قال: (كنت غلاما لا أعقل صلاة أبي) ولو مات أبوه وهو حمل لم
يقل هذا القول. قال الذهبي: وهذا القول مردود بما صح عنه أنه قال: كنت غلاما لا أعقل
292

صلاة أبي. وأما علقمة فالحق أنه سمع من أبيه أخرج المؤلف أبو داود في باب الإمام يأمر
بالعفو في الدم حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي أخبرنا يحيى بن سعيد عن عوف
أخبرنا حمزة أبو عمرو العائذي حدثني علقمة بن وائل قال حدثني وائل بن حجر كنت عند
النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. فقوله حدثني أبي يدل على سماعه من أبيه، وكذا قال علقمة حدثني أبي
في روايات أخرى. قال الترمذي في ذلك الباب: وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه وهو
أكبر من عبد الجبار بن وائل وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه انتهى. فما قال الحافظ في
التقريب في ترجمة علقمة بن وائل صدوق إلا أنه لم يسمع من أبيه ليس بصحيح. وأما أبوهما
وائل فهو أبو هنيد بن حجر بضم الحاء وسكون الجيم ابن ربيعة الحضرمي وفد على النبي صلى الله عليه وسلم
فأسلم، ويقال إنه صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه قبل قدومه فقال: يقدم عليكم وائل بن حجر من أرض بعيدة
طائعا راغبا في الله عز وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه صلى الله عليه وسلم رحب به
وأدناه من نفسه وبسط له رداءه وأجلسه عليه وقال اللهم بارك على وائل وولده واستعمله على
الأقيال من حضرموت، روى له الجماعة إلا البخاري، وعاش إلى زمن معاوية وبايع له.
(فافترش رجله اليسرى) أي وجلس على باطنها ونصب اليمنى (وحد مرفقه الأيمن على
فخذه اليمنى) أي رفعه عن فخذه، والحد المنع والفصل بين الشيئين أي فصل بين مرفقه وجنبه
ومنع أن يلتصقا في حالة استعلائهما على الفخذ. قال في فتح الودود: في إعراب لفظ حد ثلاثة
وجوه: الأول حد على صيغة الماضي عطف على الأفعال السابقة، وعلى بمعنى عن، والثاني
أن يكون حد اسما مرفوعا مضافا إلى المرفق على الابتداء خبره على فخذه والجملة حال،
واسما منصوبا عطفا على مفعول أي وضع حد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى. انتهى
(وقبض) أي من أصابع يمناه (ثنتين) أي الخنصر والبنصر (وحلق) بتشديد اللام (حلقة)
293

بسكون اللام وتفتح أي أخذ إبهامه بأصبعه الوسطى الحلقة (ورأيته يقول هكذا) هذه مقولة بشر
ابن المفضل، والضمير المنصوب في رأيته يرجع إلى شيخه عاصم بن كليب أي رأيته يفعل
هكذا. ففيه إطلاق القول على الفعل (وأشار) بشر بن المفضل، وهذه مقولة مسدد.
(والرسغ) بضم الراء وسكون المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف
(والساعد) بالجر عطف على الرسغ، والرسغ مجرور لعطفه على قوله: كفه اليسرى. والمراد
أنه وضع يده اليمنى على كف يده اليسرى، ورسغها وساعدها. ولفظ الطبراني: وضع يده
اليمنى على ظهر اليسرى في الصلاة قريبا من الرسغ (تحرك أيديهم تحت الثياب) من رفع
اليدين، وتحرك صيغة المضارع من التفعل بحذف إحدى التائين.
(وعليهم برانس وأكسية) برانس جمع برنس هو كل ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو
294

جبة أو غيره وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الاسلام، من
البرس بكسر باء القطن وأكسية جمع كساء.
(باب افتتاح الصلاة)
(في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في محضر عشرة يعني بين عشرة أنفس
وحضرتهم (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه مدح الانسان نفسه لمن يأخذ عنه ليكون
كلامه أوقع وأثبت عند السامع كما أنه يجوز مدح الانسان نفسه وافتخاره في الجهاد ليوقع الرهبة
في قلوب الكفار (ما كنت بأكثرنا له تبعة) أي اقتداء لآثاره وسننه صلى الله عليه وسلم (قالوا فأعرض) بهمزة
وصل أي إذا كنت أعلم فأعرض. في النهاية يقال: عرضت عليه أمر كذا أو عرضت له الشئ
أظهرته وأبرزته إليه أعرض بالكسر لا غير أي بين علمك بصلاته عليه السلام إن كنت صادقا
295

فيما تدعيه لنوافقك إن حفظناه وإلا استفدناه (حتى يقر) أي يستقر (ويضع راحتيه) أي كفيه (ثم
يعتدل) أي في الركوع بأن يسوي رأسه وظهره حتى يصيرا كالصفحة وتفسيره قوله (فلا يصب
رأسه) من الصب أي لا يميله إلى أسفل وفي نسخة الخطابي لا ينصب حيث قال قوله لا ينصب
رأسه هكذا جاء في هذه الرواية ونصب الرأس معروف، ورواه ابن المبارك عن فليح بن
سليمان عن عيسى بن عبد الله سمعه من عباس هو ابن سهل عن أبي حميد قال فيه: لا يصبي
رأسه ولا يقنعه، يقال صبي الرجل رأسه يصيبه سنة إذا خفضه جدا، وقد فسرته في غريب الحديث
انتهى. وقال في المجمع. وفيه أنه لا يصبي رأسه في الركوع ولا يقنعه أي لا يخفضه كثيرا ولا
يميله إلى الأرض من صبا إليه يصبو إذا مال، وصبى رأسه تصبية عمرو شدد للتكثير، وقيل هو مهموز
من صبأ إذا خرج من دين ويروي لا يصب إنتهى. وقال في المرقاة وفي النهاية وشدده للتكثير.
قلت: الظاهر أنه للتعدية. قال الأزهري: الصواب يصوب. قلت إذا صح صبي لغة ورواية
فلا معنى لقوله والصواب. انتهى (ولا يقنع) من أقنع رأسه إذا رفع أي لا يرفعه حتى يكون أعلى
من ظهره (ثم يرفع رأسه) أي إلى القامة بالاعتدال (معتدلا) حال من فاعل يرفع (ثم يهوي إلى
الأرض) أي ينزل، والهوي السقوط من علو إلى أسفل (فيحافي قبل يديه عن جنبيه) أي يباعد
(ويثني) بفتح الياء الأول أي يعطف (ويفتح أصاب رجليه) بالخاء المعجمة وأصل الفتح اللين
296

أي يثنيها ويلينها فيوجهها إلى القبلة. وفي النهاية: أي يلينها فينصبها ويغمض موضع المفاصل
ويثنيها إلى باطن الرجل (ثم يقول الله أكبر ويرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها حتى
يرجع كل عظم إلى موضعه) فيه استحباب جلسة الاستراحة في كل ركعة لا تشهد فيها ويجئ
بيانه في موضعه مبسوطا إن شاء الله تعالى. قال الخطابي: وفيه أيضا أنه قعد قعدة بعد ما رفع
رأسه من السجدة الثانية قبل القيام. وقد روي أيضا في حديث مالك بن الحويرث وبه قال
الشافعي وقال الثوري ومالك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق لا يقعدها، ورواه عن جماعة
من الصحابة أنهم كانوا ينهضون على صدور أقدامهم (أخر رجله اليسرى) أي أخرج من تحت
مقعدته إلى الأيمن (وقعد متوركا على شقه الأيسر) أي مفضيا بوركه اليسرى إلى الأرض غير
297

قاعد على رجليه. قال الخطابي: وفيه من السنة أن المصلي أربعا يقعد في التشهد الأول على
بطن قدمه اليسرى ويقعد في الرابعة متوركا وهو أن يقعد على وركه ويفضي به إلى الأرض ولا
يقعد على رجله كما يقعد في التشهد الأول وإليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق.
وكان مالك يذهب إلى القعود في التشهد الأول والآخر سواء بحيث أن يكون وركه على وركه
ولا يقعد على بطن قدمه في القعدة الأولى، وكذلك يقعد بين السجدتين. وكان سفيان الثوري
يرى القعود على قدمه في القعدتين جميعا، وهو قول أصحاب الرأي (قالوا) أي العشرة من
الصحابة قال المنذري، وأخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة مختصرا ومطولا
298

(أمكن) أي أقدر (ثم هصر ظهره) قال الخطابي: معناه ثنى ظهره وخفضه، وأصل
الهصر الرحمن أن تأخذ بطرف الشئ ثم تجذبه إليك كالغصن من الشجرة ونحوه فتميله فينهصر أي
ينكسر من غير بينونة. انتهى (ولا صافح بخده) أي غير مبرز صفحة خده مائلا في أحد الشقين
(أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض) أي أوصلها إلى الأرض. قال الجوهري: أفضى بيده إلى
الأرض إذا مسها ببطن راحته. انتهى (وأخرج قدميه من ناحية واحدة) وهي ناحية اليمنى
وإطلاق الإخراج على اليمنى تغليب لأن المخرج حقيقة هو اليسرى لا غير، كذا في المرقاة.
قال المنذري: وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وفيه مقال.
(فإذا سجد وضع يديه غير مفترش) أي لهما (ولا قابضهما) أي بأن يضمهما إليه
(واستقبل بأطراف أصابعه القبلة) وفي رواية البخاري واستقبل بأطراف رجليه القبلة).
(عن محمد بن عمرو بن عطاء أحد بني مالك عن عباس أو عياش بن سهل) واعلم أن
محمد بن عمرو بن عطاء قد سمع هذا الحديث من أبي حميد الساعدي، ورواية عبد الحميد
303

المتقدمة صريحة في ذلك، فإدخاله بينه وبين شيخه أبي حميد عباسا كما في هذه الرواية إما
لزيادة في الحديث وإما ليثبت فيه، فتكون رواية عيسى هذه عنه من المزيد في متصل
الأسانيد. قاله الحافظ (بهذا الخبر) متعلق بمحذوف، أي روى عيسى بن عبد الله بهذا
الحديث المتقدم (يزيد أو ينقص) أي في رواية عيسى زيادة على الحديث المتقدم ونقصان منه
(قال) أي عيسى بن عبد الله (فيه) أي في الحديث (فانتصب على كفيه وركبتيه وصدور قدميه
وهو ساجد) وفي رواية ابن إسحاق (فاعلولى على جبينه وراحتيه وركبتيه وصدور قدميه حتى
رأيت بياض إبطيه ما تحت منكبيه) (فتورك) الورك فوق الفخذ أي اعتمد على وركه اليسرى
وجلس عليها (ونصب قدمه الأخرى) هي اليمنى والجلوس بهذه الصفة متوركا هو بين
السجدتين وبه قال مالك (ثم كبر فقام) على صدور قدميه (ولم يتورك) أي لم يجلس متوركا
مثل توركه بين السجدتين (ولم يذكر) محمد بن عمرو بن عطاء (التورك في التشهد) الثاني،
وكذا لم يذكر في التشهد الأول. قال الحافظ: وهذا يخالف رواية عبد الحميد في صفة
الجلوس ويقوي رواية عبد الحميد ورواية فليح عند ابن حبان بلفظ: (كان إذا جلس بين
السجدتين افترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته) أورده هكذا مختصرا في كتاب
الصلاة له. وفي رواية ابن إسحاق خلاف الروايتين ولفظه فاعتدل على عقبية قدميه) فإن
لم يحمل على التعدد وإلا فرواية عبد الحميد أرجح. انتهى.
304

(فذكر بعض هذا) أي ببعض هذا الحديث (قال) أي فليح (ووتر يدي أي عوجهما من
التوتير وهو جعل الوتر على القوس (فتجافى عن جنبيه) أي نحى مرفقيه عن جنبيه حتى كأن يده
كالوتر وجنبيه ولم كالقوس. وفي النهاية أي جعلهما كالوتر من قولك وترت القوس وأوترته، شبه يد
الراكع إذا مدها قابضا على ركبتيه بالقوس إذا أوترت (فأمكن أنفه وجبهته) أي من الأرض
(ونحى) من نحى ينحي تنحية إذا أبعد (حتى فرغ) من السجدتين في الركعة الثانية (ثم جلس)
في التشهد الأول (فافترش رجله اليسرى) أي جلس على بطنها (وأقبل بصدر اليمنى على
قبلته) أي وجه أطراف أصابع رجله اليمنى إلى القبلة قاله الطيبي. ونقل ميرك عن الأزهار أي
جعل صدر الرجل اليمنى مقابلا للقبلة وذلك بوضع باطن الأصابع بين على الأرض مقابل القبلة مع
تحامل قليل في نصب الرجل والجلوس بهذه الصفة في التشهدين هو مذهب الثوري وأبي
حنيفة (وأشار بإصبعه) وفي رواية لمسلم عن ابن عمر وأشار بإصبعه السبابة وفي أخرى له
وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام. قال في سبل السلام: الإشارة بالسبابة ورد بلفظ
الإشارة كما هنا وكما في حديث ابن الزبير (أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بالسبابة ولا يحركها) أخرجه أحمد
وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه. وعند ابن خزيمة والبيهقي من حديث وائل أنه صلى الله عليه وسلم
رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها. قال البيهقي يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة لا
تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير وموضع الإشارة عند قوله لا إله إلا الله لما رواه
البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وينوي بالإشارة التوحيد والإخلاص فيه فيكون جامعا في التوحيد
بين الفعل والقول والاعتقاد ولذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالإصبعين وقال أحد أحد لمن
رآه بإصبعيه انتهى. ويجيء باقي بحث الإشارة في موضعه إن شاء الله تعالى.
(عن العباس بن سهل) ويأتي حديثه بعد ذلك (لم يذكر التورك) في التشهد الآخر وكذا
لم يذكر في التشهد الأول (وذكر) عتبة بن أبي حكيم حديثه من غير ذكر التورك (نحو حديث
305

فليح) بن سليمان من غير ذكر التورك (وذكر الحسن بن الحر) روايته المتقدمة (نحو جلسة
حديث فليح وعتبة) يشبه أن يكون المعنى أن الحسن بن الحر وفليح بن سليمان وعتبة ابن أبي
الحكم كلهم ذكروه في روايتهم عن عباس بن سهل مجلس الصحابة واجتماعهم في موضع
واحد لكن ليس في روايتهم ذكر التورك مع أن ذكر التورك محفوظ في رواية محمد بن عمرو بن
عطاء عن أبي حميد الساعدي والله أعلم (وإذا سجد فرج بين فخذيه) أي فرق بينهما (غير
حامل) غير واضع (بطنه) بالنصب مفعول حامل (فلم أحفظه) أي حديث عباس بن سهل وهذه
مقولة فليح (فحدثنيه) أي ذلك الحديث هذا أيضا من مقولة فليح أي قال فليح فلما نسيت
حديث عباس فحدثني به (أراه) بضم الهمزة أي أظنه (ذكر) فليح وقوله أراه ذكر هذه مقولة
عبد الله بن المبارك كأنه شك فيه عبد الله بن المبارك (عيسى بن عبد الله) هذا مفعول ذكر أيضا
وفاعل حدثني أيضا، والمعنى يقول ابن المبارك أنا أظن أن فليحا سمى محدثه وشيخه
عيسى بن عبد الله.
(أخبرنا محمد بن جحادة) بضم الجيم قبل المهملة الأودي الكوفي عن أنس وأبي حازم
الأشجعي وعطاء وطائفة وعنه ابن عون وإسرائيل وشريك وآخرون وثقه أبو حاتم والنسائي
(وقعتا ركبتاه) هكذا في جميع النسخ الحاضرة عندي والظاهر وقعت ركبتاه بإفراد الفعل لكنه
على لغة (وأسروا النجوى الذين ظلموا) وأكلوني البراغيث (قبل أن تقعا كفاه) وفي بعض
النسخ تقع، وفيه دلالة على مشروعية وضع الركبتين قبل اليدين، وإليه ذهبت الحنفية والشافعية
306

وهو مروي عن عمر أخرجه عبد الرزاق وعن ابن مسعود أخرجه الطحاوي وقال به أحمد
وإسحاق وجماعة من العلماء. وذهب مالك والأوزاعي وابن حزم إلى استحباب وضع اليدين
قبل الركبتين أهل وهي رواية عن أحمد، وروى الحازمي عن الأوزاعي أنه قال أدركت الناس يضعون
أيديهم قبل ركبهم: قال ابن داود وهو قول أصحاب الحديث واحتجوا بحديث أبي هريرة رضي
الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل
ركبتيه) أخرجه الثلاثة. قال الحافظ في بلوغ المرام: وهو أقوى من حديث وائل (رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) أخرجه الأربعة فإن للأول شاهدا من حديث
ابن عمر صححه ابن خزيمة وذكره البخاري معلقا موقوفا انتهى. ويأتي البحث في هذه المسألة
مبسوطا في باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه (فلما سجد وضع جبهته بين كفيه) وعند مسلم من
حديث وائل (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فوضع وجهه بين كفيه) وفي البخاري في حديث أبي حميد
(لما سجد وضع كفيه حذو منكبيه) قلت: الأمر فيه واسع (وجافى عن إبطيه) من المجافاة
وهو المباعدة من الجفاء وهو البعد عن الشئ (وفي حديث أحدهما) أي محمد بن جحادة وشقيق
والظاهر أنه من مقولة همام (وأكبر علمي أنه حديث محمد بن جحادة وإذا نهض) والمعنى أن
هذه الجملة أي إذا نهض نهض على ركبتيه إلخ هي في حديث محمد بن جحادة أو شقيق لا
أحفظ لكن أكبر علمي وهو بمنزلة اليقين أنها في حديث محمد بن جحادة ويأتي هذا الحديث
في باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه (وإذا نهض) أي قام (نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه)
وفي بعض النسخ على فخذه بالإفراد. قال في النيل: الذي في سنن أبي داود على فخذه بلفظ
الإفراد، وقيده ابن رسلان في شرح السنن بافراد أيضا وقال هكذا الرواية ثم قال وفي رواية
أظنها لغير المصنف يعني أبا داود على فخذيه بالتثنية وهو اللائق بالمعنى ورواه أيضا أبو داود
في باب افتتاح الصلاة بالإفراد قال ابن رسلان: ولعل المراد التثنية كما في ركبتيه انتهى.
قلت: النسخ الموجودة عندي مختلفة ههنا ففي بعضها بافراد وفي بعضها بالتثنية وكذا في
باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه مختلفة أيضا. وفي قوله نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه
دلالة على النهوض على الركبتين والاعتماد على الفخذين لا على الأرض ويأتي بحثه. قال
307

المنذري: كليب والد عاصم هو كليب بن شهاب الجرمي الكوفي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا
ولم يدركه.
(يرفع إبهاميه في الصلاة إلى شحمة أذنيه) الشحمة مالان من أسفلهما قال في المرقاة:
وهو مذهب أبي حنيفة ومختار الشافعي. انتهى. وقال الحافظ: وبهذا أي رفع اليدين حذو
المنكبين أخذ الشافعي والجمهور، وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن الحويرث المقدم ذكره
من عند مسلم. وفي لفظ له عنه: (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) وعند أبي داود من رواية
عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر بلفظ: (حتى حاذتا أذنيه) ورجح الأول لكون إسناده
أصح. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف
أنامله الأذنين. ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ: (حتى كانتا حيال منكبيه
وحاذى بإبهاميه أذنيه) وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكاه ابن شاس في الجواهر
انتهى. قال المنذري: وأخرجه النسائي، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه.
(وإذا رفع للسجود) أي إذا رفع رأسه من الركوع لكي يسجد بعد ما قام معتدلا (وإذا قام
من الركعتين فعل مثل ذلك) فيه دلالة على مشروعية الرفع في الموضع الرابع وهو حين القيام
من الركعتين. قال البخاري في جزء رفع اليدين: ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة
من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا
فيها وإنما زاد بعضهم على بعض الزيادة مقبولة من أهل العلم. قال ابن بطال: هذه زيادة
يجب قبولها لمن يقول بالرفع: قال الخطابي: لم يقل به الشافعي وهو لازم على أصله في قبول
الزيادة. قال ابن خزيمة: هو سنة، وإن لم يذكره الشافعي فاسناد صحيح، وقد قال قولوا
بالسنة ودعوا قولي، وقال ابن دقيق العيد وأما كونه مذهبا للشافعي لكونه قال: إذا صح الحديث
308

فهو مذهبي ففيه نظر. انتهى. ووجه النظر أن محل العمل بهذه الوصية ما إذا عرف أن الحديث
لم يطلع عليه الشافعي، أما إذا عرف أنه اطلع عليه ورده أو تأوله بوجه من الوجوه فلا والأمر ههنا
محتمل ذكره الحافظ في الفتح.
(عن أبي هبيرة) اسمه محمد بن الوليد بن هبيرة الهاشمي الدمشقي القلانسي قال ابن أبي
حاتم صدوق (يشير بكفيه) أي يرفع يديه (حين يقوم) للصلاة ويستفتح (وحين يسجد)
استدل به على رفع اليدين في السجود لكن الاستدلال به عليه نام لأنه يحتمل أن يكون
المراد بقوله حين يسجد حين يرفع رأسه من الركوع للسجود كما في الرواية المتقدمة، وإذا جاء
الاحتمال بطل الاستدلال على أن الحديث ضعيف لا يقوم به الحجة (وحين ينهض للقيام) أي
يقوم له (فيقوم فيشير بيديه) هذا يدل على مشروعية الرفع عند القيام من السجود لكنه مع ضعفه
معارض بحديث ابن عمر المروي في صحيح البخاري وفيه ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين
يرفع رأسه من السجود (إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحدا يصليها) قال في فتح
الودود: هذا يدل على أن كثيرا من الناس سامحوا في سنن الصلاة فتركوا هذا الرفع كما أن
كثيرا منهم تركوا نفس التكبيرات أيضا وكأنه بسبب ذلك حصل الاختلاف في بعض السنن بين
الأئمة انتهى (فوصفت له هذه الإشارة) أي بينت لابن عباس رفع يديه في المواضع المذكورة قال
المنذري: في إسناده عبد الله بن لهيعة وفيه مقال. انتهى.
قلت: قال العلامة الخزرجي في الخلاصة قال أحمد احترقت كتبه وهو صحيح الكتاب
ومن كتب عنه قديما فسماعه صحيح. قال يحيى بن معين: ليس بالقوي، وقال مسلم. تركه
وكيع ويحيى القطان وابن مهدي وقال الحافظ في التقريب: عبد الله بن لهيعة بفتح اللام وكسر
الهاء ابن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن المصري القاضي صدوق من السابعة خلط بعد
309

احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وله في مسلم بعض شئ
مقرون. انتهى.
(عبد الله بن طاوس) بن كيسان اليماني أبو محمد ثقة فاضل عابد من السادسة (في
مسجد الخيف) قال في المجمع: الخيف ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل،
ومسجد منى يسمي مسجد الخيف لأنه في سفح جبلها (فقلت لوهيب بن خالد) الباهلي أبو
بكر البصري أحد الحفاظ الأعلام عن أيوب ومنصور بن المعتمر وأبي حازم وخلق، وعنه
حبان بن هلال ومسلم بن إبراهيم وعبد الأعلى بن حماد النرسي. قال ابن سعد ثقة حجة كثير
الحديث أحفظ من أبي عوانة (رأيت أبي يصنعه) وأبوه هو طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد
الرحمن اليماني مولاهم الفارسي يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب، ثقة فقيه فاضل من الثالثة
كذا في التقريب. قال طاوس: أدركت خمسين من الصحابة، قال ابن عباس: إني لا أظن
طاوسا من أهل الجنة، ذكره في الخلاصة (ولا أعلم إلا أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه) في هذا
الحديث دلالة ظاهرة على رفع اليدين في السجود وقد ذهب إلى استحبابه أبو بكر المنذري وأبو
علي الطبري من أصحاب الشافعي وبعض أهل الحديث لكن الحديث ضعيف لأن النضر بن
كثير السعدي ضعيف الحديث. وقال الحافظ أبو أحمد النيسابوري: هذا حديث منكر من
حديث ابن طاوس. قاله المنذري. وقال أبو حاتم فيه نظر وقال النسائي: صالح الحديث.
وقال البخاري عنده مناكير. قال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يجوز الاحتجاج
به بحال.
قال العلامة الشوكاني بعد ما ساق حديث ميمون المكي وحديث النضر بن الكثير وأخرج
الدارقطني في العلل من حديث أبي هريرة أنه كان يرفع يديه في كل خفض ورفع ويقول أنا
أشبهكم صلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها على الرفع في غير
310

تلك المواطن، فالواجب البقاء على النفي الثابت في الصحيح، حتى يقوم دليل صحيح
يقتضي تخصيصه كما قام في الرفع عند القيام من التشهد الأوسط انتهى.
فإن قلت: قال الحافظ في الفتح وأصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في
السجود ما رواه النسائي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن
مالك بن الحويرث انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في صلاته إذا ركع وإذا رفع رأسه من ركوعه وإذا
سجد وإذا رفع رأسه من سجوده حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، وقد اخرج مسلم بهذا الاسناد
طرفة الأخير كما ذكرناه في أول الباب الذي قبل هذا ولم ينفرد به سعيد فقد تابعه همام عن قتادة
عند أبي عوانة في صحيحه انتهى. فظهر من قول الحافظ هذا أن حديث النسائي من طريق
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث صحيح الاسناد فقد
قام دليل على الرفع في السجود فيجب القول به.
قلت: لا يستلزم من صحة إسناده صحته كيف وقد روى البخاري في صحيحه حديث
مالك بن الحويرث من طريق خالد عن أبي قلابة وليس فيه زيادة وإذا سجد وإذا رفع رأسه من
السجود، ورواه مسلم من طريق أبي عوانة عن قتادة عن نصر بن عاصم وليس فيه تلك الزيادة،
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة والدارمي والدارقطني والبخاري في جزء رفع اليدين ولم يذكر
أحد من هؤلاء تلك الزيادة.
وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة
رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه
من الركوع ويقول سمع الله لمن حمده ولا يفعل ذلك في السجود) وفي رواية أخرى له: (ولا
يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود) وفي رواية لمسلم: ولا يفعل حين
يرفع رأسه من السجود) وله أيضا: (ولا يرفعهما بين السجدتين) وروى الدارقطني عن أبي
موسى قال: أريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر ورفع يديه الحديث. وفيه ثم قال هكذا فاصنعوا
ولا يرفع بين السجدتين قال ورجاله ثقات، وقال الحافظ في فتح الباري: وقد روى البخاري
في جزء رفع اليدين في حديث علي المرفوع: ولا يرفع يديه في شئ من صلاته وهو قاعد
وأشار إلى تضعيف ما ورد في ذلك انتهى والله تعالى أعلم وعلمه أتم.
(وإذا قال سمع الله لمن حمده) معناه قبل حمد من حمد واللام في لمن للمنفعة والهاء
311

في حمده للكناية وقيل للسكتة والاستراحة ذكره ابن الملك وقال الطيبي أي أجاب حمده وتقبله
يقال أسمع دعائي أي أجب لأن غرض السائل إجابة والقبول انتهى. فهو دعاء بقبول الحمد
كذا قيل ويحتمل اخبار (ويرفع) أي يسند (ذلك) أي رفع اليدين في هذه المواضع أي يقول
إنه فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرفوع ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من قول أو فعل أو تقرير
سواء كان متصلا أو منقطعا (الصحيح قول ابن عمر ليس بمرفوع) قال الحافظ في الفتح:
حكى الدارقطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه وقال الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى،
وحكى إسماعيلي عن بعض مشائخه أنه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه. قال
الإسماعيلي وخالفه عبد الله بن إدريس وعبد الوهاب الثقفي والمعتمر يعني عن عبيد الله
فرووه موقوفا علي بن عمر قلت وقفه معتمر وعبد الوهاب عن عبيد الله عن نافع كما قال لكن
رفعاه عن عبيد الله عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أخرجهما البخاري في جزء رفع اليدين
وفيه الزيادة، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر وهو ما رواه أبو داود وصححه البخاري في
الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال: (كان النبي إذا قام في الركعتين
كبر ورفع يديه وله شواهد) انتهى (وروى بقية أوله) أي أول الحديث بغير ذكر وإذا قام من
الركعتين رفع يديه (وأسنده) أي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم (ورواه الثقفي) يعني عبد الوهاب (وقال
فيه) أي قال الثقفي في روايته (وهذا هو الصحيح) أي هذا الموقوف من فعل ابن عمر (قال ابن
جريج فيه) أي في حديثه (أكان ابن عمر الأولى أرفعهن) أي يجعل الرفعة الأولى أرفع
من بقية الرفعات، يعنى أكان يرفع ابن عمر إذا ابتدأ الصلاة حذو منكبيه ويرفع دون ذلك عند
312

الركوع وعند القيام منه (قال لا سواء) أي قال نافع: لا يجعل كذلك بل كان يرفع كل مرة سواء.
(لم يذكر رفعهما دون ذلك أحد غير مالك فيما أعلم) على أنه معارض برواية ابن جريج
المذكورة آنفا.
(باب)
وفي بعض النسخ باب من ذكر أنه يرفع يديه إذا قام من الثنتين.
(إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه) أي إذا قام من الركعتين بعد التشهد والحديث يدل
على استحباب رفع اليدين عند القيام من التشهد الأول، وقد تقدم الكلام على ذلك.
313

(وإذا قام من السجدتين رفع يديه كذلك) وقع في هذا الحديث، وفي حديث ابن عمر
في طريق ذكر السجدتين مكان الركعتين، والمراد بالسجدتين الركعتان بلا شك كما جاء في
رواية الباقين، كذا قال العلماء من المحدثين والفقهاء إلا الخطابي، فإنه ظن أن المراد
السجدتان المعروفتان، ثم استشكل الحديث الذي وقع فيه ذكر السجدتين وهو حديث ابن
عمر، وهذا الحديث مثله وقال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به. قال ابن رسلان: ولعله لم
يقف على طرق الحديث ولو وقف عليها لحمله على الركعتين كما حمله الأئمة. والحديث يدل
على استحباب الرفع في هذه الأربعة المواطن، وقد عرفت الكلام على ذلك. قال المنذري:
وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح (وفي حديث أبي حميد
الساعدي حين وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين) هذا موضع الترجمة وكأن في إيراد
حديث أبي حميد عقيب حديث علي إشارة إلى أن المراد من قوله من السجدتين في حديث
علي من الركعتين.
(حتى يبلغ بهما فروع أذنيه) أي أعاليهما. قاله الطيبي: وقال ابن الملك: فرع كل شئ
أعلاه وقيل: فرع الأذن شحمتها، وفي رواية لمسلم حتى يحاذي بهما أذنيه، وفي أخرى له
حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. قال النووي: وأما صفة الرفع، فالمشهور من مذهبنا ومذهب
الجماهير أنه يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذي أطراف أصابعه فروع أذنيه أي أعلى أذنيه
وإبهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه. وبهذا جمع الشافعي رحمه الله تعالى بين روايات
الأحاديث فاستحسن الناس ذلك منه انتهى وقال علي القاري في المرقاة قال القاضي: اتفقت
الأمة على أن رفع اليدين عند التحريم مسنون واختلفوا في كيفيته، فذهب مالك والشافعي إلى
أنه يرفع المصلي يديه حيال منكبيه، وقال أبو حنيفة: يرفعهما حذو أذنيه، وذكر الطيبي: أن
314

الشافعي حين دخل مصر سئل عن كيفية رفع اليدين عند التكبير فقال: يرفع المصلي يديه
بحيث يكون كفاه حذاء منكبيه وإبهاماه حذاء شحمتي أذنيه وأطراف أصابعه حذاء فرع أذنيه لأنه
جاء في رواية يرفع اليدين إلى المنكبين، وفي رواية الأذنين، وفي رواية إلى فروع الأذنين،
فعمل الشافعي بما ذكرنا في رفع اليدين جمعا بين الروايات الثلاث قلت: هو جمع حسن،
واختاره بعض مشائخنا انتهى.
(لرأيت إبطيه) أي حين يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه لأن انسان إذا يرفع يديه يظهر إبطه
لمن كان قدامة لا لمن كان خلفه (ألا ترى أنه) أي أبا هريرة (لا يستطيع أن يكون قدام
النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه كان صلى الله عليه وسلم يكون إماما ويكون أبو هريرة مأموما، والمأموم لا يستطيع أن يكون أمام
الامام (وزاد موسى) أي بعد قوله لرأيت إبطيه قال المنذري: وأخرجه النسائي.
(فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه) هو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في
الركوع والتشهد. قال في شرح صحيح مسلم: مذهبنا ومذهب العلماء كافة أن السنة وضع
اليدين على الركبتين وكراهة التطبيق إلا ابن مسعود وصاحبيه علقمة والأسود فإنهم يقولون: إن
السنة التطبيق لأنه لم يبلغهم الناسخ وهو حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، والصواب
ما عليه الجمهور لثبوت الناسخ الصريح. انتهى (فبلغ ذلك) أي ما كان يفعله ابن مسعود من
التطبيق (سعدا) يعني ابن أبي وقاص واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري
المدني شهد بدرا والمشاهد وهو أحد العشرة واخرهم موتا وأول من رمى في سبيل الله وفارس
الاسلام أحد ستة الشورى ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وجمع له النبي صلى الله عليه وسلم أبويه،
وحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وكوف الكوفة وطرد الأعاجم. وافتتح مدائن فارس، وهاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم
315

وكان سابع سبعة في الاسلام رضي الله تعالى عنه (صدق أخي) يعني عبد الله بن مسعود (قد كنا
نفعل هذا) يعني التطبيق (يعني إمساك على الركبتين) أي إمساك اليدين على الركبتين. قال
المنذري وأخرجه النسائي.
(باب من لم يذكر الرفع عند الركوع)
قال الإمام الخطابي في المعالم: ذهب أكثر العلماء إلى أن الأيدي ترفع عند الركوع
وعند رفع الرأس منه، وهو قول أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة
وابن عمر وأبي سعيد الخدري وابن عباس وابن الزبير وأنس، وإليه ذهب الحسن البصري وابن
سيرين وعطاء وطاوس ومجاهد والقاسم بن محمد وسالم وقتادة ومكحول، وبه قال الأوزاعي
ومالك في اخر أمره والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي إلى
حديث ابن مسعود، وهو قول ابن أبي ليلى، وقد روي ذلك عن الشعبي والنخعي. انتهى.
(قال عبد الله بن مسعود ألا أصلي بكم الخ) احتجت الحنفية على عدم استحباب رفع
الأيدي في غير تكبيرة الإحرام بهذا الحديث، لكنه لا يصلح للاحتجاج لأنه ضعيف غير ثابت.
قال الحافظ بن حجر في التلخيص: قال ابن المبارك لم يثبت عندي. قولا ابن أبي
حاتم عن أبيه قال: هذا حديث خطأ. وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن ادم: هو ضعيف
نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك. وقال أبو داود ليس هو بصحيح. وقال الدارقطني لم
يثبت. وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روى لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين في
الصلاة عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شئ يعول عليه لأن له عللا تبطله
وهؤلاء الأئمة إنما طعنوا كلهم في طريق عاصم بن كليب الأولى، أما طريق محمد بن جابر
فذكرها ابن الجوزي في الموضوعات وقال عن أحمد بن جابر لا شئ ولا يحدث عنه
إلا من هو شر منه. انتهى.
316

وقال البخاري في جزء رفع اليدين: قال أحمد بن حنبل عن يحيى بن ادم قال: نظرت
في كتاب عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه ثم لم يعد فهذا أصح لأن الكتاب
أحفظ عند أهل العلم لأن الرجل يحدث بشئ ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب.
انتهى.
فإن قلت: حديث ابن مسعود المذكور حسنه الترمذي وصححه ابن حزم فهو صالح
للاحتجاج، أخبرنا قلت: أين يقع هذا التحسين والتصحيح من قدح أولئك الأئمة الأكابر فيه، غاية
الأمر ونهايته أن يكون ذلك الاختلاف موجبا لسقوط الاستدلال به، ثم لو سلم صحة حديث ابن
مسعود ولم نعتبر بقدح أولئك الأئمة فيه، فليس بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في الركوع
والاعتدال منه تعارض لأنها متضمنة للزيادة التي لا منافاة بينها وبين المزيد وهي مقبولة
بالاجماع قاله الشوكاني. وقال الخطابي: والأحاديث الصحيحة التي جاءت بإثبات رفع اليدين
عند الركوع وبعد رفع الرأس منه أولي من حديث ابن مسعود اثبات أولي من النفي، وقد يجوز
أن يذهب ذلك على بن مسعود كما ذهب عليه الأخذ بالركبة في الركوع، وكان يطبق بيديه على
الأمر الأول، وخالفه الصحابة كلهم في ذلك. انتهى.
قلت: ما ذكر الإمام الخطابي بقوله قد يجوز أن يذهب ذلك إلخ فليس مما يستغرب،
فقد نسي ابن مسعود من القران ما لم يختلف فيه المسلمون وهو المعوذتان، ونسي ما اتفق
العلماء على نسخة كالتطبيق في الركوع وقيام الاثنين خلف امام ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم
بعرفة ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود،
ونسي كيف قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما خلق الذكر والأنثى) وإذا جاز على بن مسعود أن ينسى
مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين. قال المنذري: وأخرجه والترمذي
والنسائي، وقال الترمذي حديث حسن. وقد حكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال لا يثبت هذا
الحديث، وقال غيره لم يسمع عبد الرحمن عن علقمة وقد يكون خفي هذا علي ابن مسعود
كما خفي عليه نسخ التطبيق ويكون ذلك في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين في الركوع ثم
صار التطبيق منسوخا وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه انتهى.
(هذا حديث مختصر من حديث طويل وليس هو بصحيح على هذا اللفظ) المذكور
قال البخاري في جزء رفع اليدين حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا بن إدريس عن عاصم بن
317

كليب عن عبد الرحمن بن الأسود حدثنا علقمة أن عبد الله رضي الله عنه قال: (علمنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فقام وكبر ورفع يديه ثم ركع وطبق بين يديه فجعلهما بين ركبتيه فبلغ
ذلك سعدا فقال صدق أخي ألا بل كنا قد نفعل ذلك في أول الاسلام ثم أمرنا بهذا) قال البخاري
وهذا المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود فالحديث الطويل الذي أشار إليه
المؤلف لعله هو هذا الذي ذكره البخاري والله تعالى أعلم.
واعلم أن هذه العبارة موجودة في نسختين عتيقتين عندي وليست في عامة نسخ أبي داود
الموجودة عندي.
318

(عن يزيد بن أبي زياد) قال الحافظ بن حجر في التقريب. يزيد بن أبي زياد الهاشمي
مولاهم الكوفي ضعيف كبر فتغير صار يتلقن وكان شيعيا انتهى. وفي الخلاصة كان من أئمة
الشيعة الكبار. وقال ابن عدي يكتب حديثه. وقال الحافظ شمس الدين الذهبي هو صدوق
رديء الحفظ انتهى. وقال في التهذيب: وقال ابن معين ضعيف الحديث لا يحتج بحديثه
319

وقال أبو داود لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحب إلى منه انتهى (ثم لا يعود) استدلت الحنفية
بهذا الحديث أيضا وهو أيضا غير صالح للاستدلال على نفي رفع الأيدي في المواضع
المتنازع فيها. قال الحافظ في التلخيص: وهو من رواية يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن
أبي ليلى عنه. واتفق الحفاظ على أن قوله ثم لم يعد مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي
زياد، ورواه عنه بدونها شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ. وقال
الحميدي إنما روى هذه الزيادة يزيد ويزيد يزيد. وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل لا
يصح، وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد. وقال يحيى بن
محمد بن يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول هذا حديث واه قد كان يزيد يحدث به برهة
من دهره لا يقول فيه ثم لا يعود فلما لقنوه تلقن فكان يذكرها. وقال البيهقي: رواه محمد بن
عبد الرحمن بن أبي ليلى واختلف عليه فقيل عن أخيه عيسى عن أبيهما وقيل عن الحكم عن
ابن أبي ليلى وقيل عن يزيد بن أبي زياد قال عثمان الدارمي لم يروه عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى أحد أقوى من يزيد بن أبي زياد. وقال البزار: لا يصح قوله في هذا الحديث ثم لا يعود
وروى الدارقطني من طريق علي بن عاصم عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
يزيد بن أبي زياد هذا الحديث. قال علي بن عاصم فقدمت الكوفة فلقيت يزيد بن أبي زياد
فحدثني به وليس فيه ثم لا يعود فقلت له إن ابن أبي ليلى حدثني عنك وفيه ثم لا يعود قال لا
أحفظ هذا. وقال ابن حزم: حديث يزيد إن صح دل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز فلا
تعارض بينه وبين حديث ابن عمرو غيره انتهى. قال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد أبو
عبد الله الهاشمي مولاهم الكوفي ولا يحتج بحديثه. قال الدارقطني إنما لقن في اخر عمره ثم لم
يعد فتلقنه وكان قد اختلط. وقال البخاري وكذلك روى الحفاظ الذي سمعوا من يزيد قديما
منهم الثوري وشعبة وزهير ليس فيه ثم لا يعود انتهى.
(عن يزيد نحو حديث شريك) المذكور (لم يقل) أي يزيد (ثم لا يعود قال سفيان قال)
أي يزيد (لنا بالكوفة بعد) أي بعد ذلك.
320

(عن البراء بن عازب قال رأيت إلخ) قال المنذري: في إسناده محمد بن عبد
الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف انتهى. قال الحافظ في التقريب: محمد بن عبد الرحمن بن
أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سئ الحفظ جدا. وفي الخلاصة
قاضي الكوفة وأحد الأعلام عن أخيه عيسى والشعبي وعطاء ونافع وعنه شعبة والسفيانان ووكيع
وأبو نعيم. قال أبو حاتم محله الصدق شغل بالقضاء فساء حفظه. وقال النسائي ليس بالقوي.
وقال العجلي كان فقيها صاحب سنة جائز الحديث انتهى. قال البخاري في جزء رفع اليدين:
وروى وكيع عن ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى والحكم بن عتيبة عن ابن أبي ليلى عن البراء
رضي الله تعالى عنه قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا كبر ثم لم يرفع) قال البخاري وإنما روى
ابن أبي ليلى هذا من حفظه فأما من حدث عن ابن أبي ليلى من كتابه فإنما حدث عن ابن أبي
ليلى عن يزيد فرفع الحديث إلى تلقين يزيد والمحفوظ ما روى عنه الثوري وشعبة وابن عيينة
قديما انتهى.
(رفع يديه مدا) قال العلامة الشوكاني: يجوز أن يكون منتصبا على المصدرية بفعل
مقدر وهو يمدهما مدا ويجوز أن يكون منتصبا على الحالية أي رفع يديه في حال كونه مادا لهما
إلى رأسه ويجوز أن يكون مصدرا منتصبا بقوله رفع لأن الرفع بمعنى المد، وأصل المد في
اللغة الجر. قاله الراغب. والارتفاع قال الجوهري مد النهار ارتفاعه وله معان أخر ذكرها
صاحب القاموس وغيره وقد فسر ابن عبد البر المد المذكور في الحديث بمد اليدين فوق
الأذنين مع الرأس انتهى. والمراد به ما يقابل النشر المذكور في الرواية الأخرى لأن النشر
تفريق الأصابع والحديث يدل على مشروعية رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وقد قال النووي
في شرح مسلم إنها أجمعت الأمة على ذلك عند تكبيرة احرام انتهى. قال المنذري:
وأخرجه الترمذي والنسائي.
321

(باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة)
(صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنة) أي من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ
ابن حجر في شرح النخبة. ومن الصيغ المحتملة قول الصحابي من السنة كذا فالأكثر على أن
ذلك مرفوع. ونقل ابن عبد البر فيه الاتفاق. قال وإذا قالها غير الصحابي فكذلك ما لم يضفها
إلى صاحبها كسنة العمرين وفي نقل الاتفاق نظر. فعن الشافعي في أصل المسألة قولان،
وذهب إلى أنه غير مرفوع أبو بكر الصيرفي من الشافعية وأبو بكر الرازي من الحنفية وابن حزم
من أهل الظاهر واحتجوا بأن السنة تتردد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره، وأجيبوا بأن احتمال إرادة غير
النبي صلى الله عليه وسلم بعيد انتهى.
(عن ابن مسعود أنه كان يصلي إلخ) قال المنذري: وأخرجه النسائي وابن ماجة. قال
الحافظ في فتح الباري: إسناده حسن. قال العلماء الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل
الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع ومن اللطائف قول بعضهم القلب موضع النية.
والعادة أن من احترز على حفظ شئ جعل يديه عليه. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم
فيه خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم
يحك ابن المنذر وغيره. عن مالك غيره وروى ابن القاسم عن مالك الارسال وصار إليه أكثر
أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره إمساك ونقل ابن الحاجب أن
ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة قاله الحافظ.
322

(عن أبي جحيفة أن عليا قال السنة إلخ) واعلم أن حديث علي هذا لا يوجد في بعض
نسخ أبي داود ولكنه ثابت في نسخة ابن الأعرابي وغيرها. قال الحافظ جمال الدين المزي في
تحفة الأشراف في معرفة الأطراف: إن حديث (من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة
تحت السرة) أخرجه أبو داود عن محمد بن محمود عن حفص بن غياث عن عبد الرحمن بن
إسحاق عن زياد بن زيد عن وهب بن عبد الله أبي جحيفة السوائي عن علي، لكن هذا الحديث
واقع في رواية أبي سعيد الأعرابي وابن داسة وغير واحد عن أبي داود ولم يذكره أبو القاسم
انتهى. ولعل الحافظ الزيلعي لم يطلع على النسخ التي فيها هذا الحديث ولذا قال في تخريج
أحاديث الهداية إن هذا الحديث لم يوجد فيما رأيته من نسخ أبي داود. انتهى.
والحديث قد أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده بسند واحد وابنه عبد الله في زيادات
المسند وابن أبي شيبة في مصنفه والدارقطني في سننه بثلاثة أسانيد والبيهقي في سننه
بإسنادين، لكنه مع كثرة المخرجين والأسانيد ضعيف لأن طرقها كلها تدور على عبد
الرحمن بن إسحاق الواسطي. قال أحمد بن حنبل وأبو حاتم عبد الرحمن بن إسحاق الحارث
أبو شيبة الواسطي منكر الحديث. وقال ابن معين ليس بشئ. وقال البخاري فيه نظر. وقال
النووي هو ضعيف بالاتفاق. وقال البيهقي تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو
متروك. والحديث استدل به من قال: إن الوضع يكون تحت السرة وهو أبو حنيفة وسفيان
الثوري وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزي من أصحاب الشافعي وقد عرفت أن
الحديث ضعيف لا يصلح للاستدلال. وذهب الشافعية. قال النووي وبه قال الجمهور إلى أن
الوضع يكون تحت صدره فوق سرته. وعن أحمد روايتان كالمذهبين، ورواية ثالثة أنه يخبر
بينهما ولا ترجيح وبالتخيير قال الأوزاعي وابن المنذر. قال ابن المنذر في بعض تصانيفه لم
يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شئ فهو مخير، وعن مالك روايتان إحداهما يضع تحت صدره
والثانية يرسلهما ولا يضع إحداهما على الأخرى. كذا قال الشوكاني قلت: جاء عن الشافعي
في الوضع ثلاث روايات إحداها أنه يضع يده اليمنى على يده اليسرى تحت الصدر فوق
السرة، والثانية أن يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره وهي الرواية التي نقلها صاحب
الهداية من الشافعي. وقال العيني: إنها المذكور في الحاوي من كتبهم، والثالثة أن يضع يده
تحت السرة. ذكر هذه الروايات الثلاث العلامة هاشم السندي في بعض رسائله في هذه
323

المسألة، ثم قال العلامة الشوكاني: واحتجت الشافعية لما ذهبت إليه بما أخرجه ابن خزيمة
في صحيحه وصححه من حديث وائل بن حجر قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده
اليمنى على يده اليسرى على صدره) وهذا الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه لأنهم قالوا: إن
الوضع يكون تحت الصدر كما تقدم. والحديث مصرح بأن الوضع على الصدر. انتهى.
قلت: وأما الرواية التي نقلها صاحب الهداية عن الإمام الشافعي فيدل عليها هذا
الحديث ولا شئ في الباب أصح من حديث وائل المذكور. وقد قال الإمام الشافعي إذا صح
الحديث فهو مذهبي، وسيأتي بعض المباحث المتعلقة بحديث وائل المذكور في آخر الباب.
(قال رأيت عليا يمسك إلخ) في إسناده جرير الضبي. قال في ميزان الاعتدال: جرير
الضبي عن علي لا يعرف. وقال الحافظ في التقريب: جرير الضبي جد فضيل بن غزوان مقبول
من الثالثة. ويمكن أن يستدل به على ما ذهبت إليه الشافعية من الوضع تحت الصدر وفوق
السرة ولكن قد عرفت ما في جرير الضبي من المقال على أنه أثر (روي عن سعيد بن جبير فوق
السرة) وصل هذا التعليق البيهقي فقال أخبرنا أبو زكريا بن إسحاق أنبأنا الحسن بن يعقوب
أخبرنا يحيى بن أبي طالب أنبأنا زيد أخبرنا سفيان عن ابن جريج عن الزبير قال: أمرني عطاء
أن أسأل سعيد بن جبير أين تكون اليدان في الصلاة فوق السرة أو أسفل من السرة فسألته فقال
سعيد فوق السرة. وفي هذا الإسناد يحيى بن أبي طالب. قال الذهبي في الميزان وثقه
الدارقطني، وقال فيه موسى بن هارون أشهد أنه يكذب عني في كلامه والدارقطني ممن اعتبر
الناس به. وقال أبو عبيد الآجري خط أبو داود على حديث يحيى. وفيه زيد بن الحباب. قال
الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ في حديث الثوري (قال أبو مجلز تحت السرة) وصل
هذا الأثر أبو بكر بن أبي شيبة فقال أخبرنا يزيد بن هارون قال أخبرنا الحجاج بن حسان قال:
سمعت أبا مجلز أو سألته قلت: كيف يضع قال يضع باطن كف يمينه على ظاهر كف شماله
ويجعلهما أسفل من السرة. ذكره العلامة أبو المحاسن محمد قائم في رسالته فوز الكرام وقال
324

هذا سند جيد. قلت لكنه مقطوع لأن أبا مجلز تابعي والمقطوع لا يقوم به الحجة لا سيما إذا
كان في خلافه حديث صحيح.
(قال أبو هريرة أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة) في إسناده عبد
الرحمن بن إسحاق وقد عرفت حاله فلا يصح الاحتجاج به على الوضع تحت السرة.
واعلم أن رواية أبي هريرة وأثر أبي مجلز وأثر سعيد بن جبير ورواية علي المذكورة في
الباب ليست إلا في نسخة ابن الأعرابي، ووجد في بعض نسخ الكتاب هكذا حدثنا أبو توبة
حدثنا الهيثم يعني ابن حميد عن ثور عن سليمان بن موسى عن طاؤس قال: (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة)
انتهى. قال المزي في الأطراف في حرف الطاء من كتاب المراسيل، الحديث أخرجه أبو داود
في كتاب المراسيل. وكذا قال البيهقي في المعرفة. فحديث طاوس هذا مرسل، لأن طاوسا
تابعي وفي إسناده سليمان بن موسى، وهو وإن ضعفه النسائي وغيره فوثقه آخرون: قال في
الخلاصة: سليمان بن موسى الأموي أبو أيوب الدمشقي الأشدق الفقيه عن جابر مرسلا، وعن
وائلة وطاوس وعطاء قلت: وذلك فيما قاله الدارقطني وكريب، وعنه ابن جريج والأوزاعي
وهمام بن يحيى وخلق، آخرهم وسعيد بن عبد العزيز وثقه دحيم وابن معين. قال ابن عدي:
تفرد بأحاديث وهو عندي ثبت صدوق. وقال النسائي ليس بالقوي.
قال أبو حاتم: محله الصدق في حديثه بعض الاضطراب. انتهى. وقول النسائي ليس
بالقوي جرح غير مفسر وهو لا يقدح فيمن ثبتت عدالته كما تقرر في مقره. وأما قول أبي حاتم
محله الصدق في حديثه بعض الاضطراب فلا يدل إلا على أنه خفيف الضبط فغاية الأمر ونهايته
أن حديثه يكون حسنا لذاته وهو مشارك للصحيح في الاحتجاج، فلا عيب فيه غير أنه مرسل
وهو حجة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمه الله عليهم مطلقا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى
إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر بيان يكون الطريق الأولى مسندا كان أو مرسلا. وقد جاء في الوضع
على الصدر حديثان آخران صحيحان أحدهما حديث هلب رواه الإمام أحمد في مسنده قال
أخبرنا يحيى بن سعيد عن سفيان حدثنا سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: (رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه وعن يساره ورأيته يضع هذه على صدره ووصف يحيى اليمني
325

على اليسرى فوق المفصل) ورواة هذا الحديث كلهم ثقات. أما يحيى بن سعيد فهو أبو سعيد
القطان البصري الحافظ الحجة أحد أئمة الجرح والتعديل عن إسماعيل بن أبي خالد
وهشام بن عروة وبهز بن حكيم وخلق وعنه شعبة وابن مهدي وأحمد وإسحاق وابن المديني
وابن بشار وخلق. قال أحمد: ما رأت عيناي مثله، قال ابن معين: يحيى أثبت من ابن مهدي
وقال محمد بن بشار: حدثنا يحيى بن سعيد إمام أهل زمانه. كذا في الخلاصة.
وأما سفيان فهو الثوري. قال الحافظ في التقريب: ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من
رؤوس الطبقة السابعة وربما كان دلس انتهى. قلت وقد صرح ههنا بالتحديث، فانتفت تهمة
التدليس. أما سماك فهو ابن حرب بن أوس بن خالد الذهلي البكري الكوفي أبو المغيرة
صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وكان قد تغير بآخره فكان ربما يلقن من الرابعة كذا
في التقريب. قال الذهبي قال أحمد: سماك مضطرب وضعفه شيبة. وقال ابن عمار كان
يغلط. وقال العجلي ربما وصل الشئ وكان الثوري يضعفه وقال روايته مضطربة وليس من
المثبتين. وقال صالح: يضعف وقال ابن حداش: فيه لين، ووثقه ابن معين وأبو حاتم.
انتهى.
قلت كون سماك مضطرب الحديث لا يقدح في حديثه المذكور لأنه رواه عن قبيصة
وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وكذا تغيره في آخره لا يقدح أيضا لأن الحديث المذكور
رواه عنه سفيان وهو ممن سمع قديما من سماك. قال في تهذيب الكمال: قال يعقوب وروايته
عن عكرمة خاصة مضطربة وهو في غير عكرمة صالح وليس من المثبتين ومن سمع قديما من
سماك مثل شعبة وسفيان فحديثهم عنه مستقيم. انتهى.
وأما قبيصة فهو ابن الهلب بضم الهاء وسكون اللام بعدها موحدة الطائي الكوفي مقبول
من الثالثة كذا في التقريب. وقال في ميزان الاعتدال: قبيصة بن هلب عن أبيه قال ابن
المديني مجهول لم يرو عنه غير سماك. وقال العجلي ثقة تابعي قلت: وذكره ابن حبان في
الثقات مع تصحيح من حديثه انتهى.
قلت: لما انفرد سماك بالرواية عن قبيصة صار قبيصة مجهول العين. وحديث مجهول
العين مقبول إذا وثقه غير المنفرد عنه. قال الحافظ في شرح النخبة: فإن سمي الراوي وانفرد
راو واحد بالرواية عنه فهو مجهول العين كالمبهم إلا أن يوثقه غير من انفرد عنه على الأصح.
انتهى. وقد عرفت أن أحمد العجلي وابن حبان من أئمة الجرح والتعديل وثقاه فكيف يكون
326

مجهولا. وثانيهما حديث وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على
اليسرى على صدره) أخرجه ابن خزيمة. قال أبو المحاسن محمد الملقب بالقائم في بعض
رسائله: الذي اعتقده إن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة وهو المتبادر من صنيع الحافظ في
الإتحاف والظاهر من قول ابن سيد الناس بعد ذكر الحديث وائل في شرح جامع الترمذي،
وصححه ابن خزيمة. انتهى. فظهر من قول ابن سيد الناس أن ابن خزيمة صحح حديث وائل،
ويظهر من قول الشوكاني أيضا تصحيح ابن خزيمة حديث وائل بعد اخراجه حيث قال في نيل
الأوطار. واحتجت الشافعية لما ذهبت إليه بما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه من
حديث وائل بن حجر فمرسل طاوس وحديث غلب وحديث وائل بن حجر تدل على استحباب
وضع اليدين على الصدور وهو الحق، وأما الوضع تحت السرة أو فوق السرة فلم يثبت فيه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث.
فإن قلتم أخرج ابن أبي شيبة عن وكيع عن موسى بن عمير عن علقمة بن وائل بن حجر
عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يمينه على شماله في الصلاة تحت السرة وسند جيد ورواته
كلهم ثقات فهذا حديث صحيح في الوضع تحت السرة، قلنا قال العلامة الشيخ حياة السندي
في ثبوت زيادة تحت السرة نظر، بل هي غلط نشأ من السهو، فإني راجعت نسخة صحيحة من
المصنف فرأيت فيها هذا الحديث بهذا السند وبهذه الألفاظ، إلا أنه ليس فيها تحت السرة،
وذكر فيها بعد هذا الحديث أثر النخعي ولفظه قريب من لفظ هذا الحديث وفي آخره في الصلاة
تحت السرة، فلعل بصر الكاتب زاغ من محل إلى آخر فأدرج لفظ الموقوف في المرفوع،
ويدل على ما ذكرت أن كل النسخ ليست متفقة على هذه الزيادة وأن غير واحد من أهل الحديث
روى هذا الحديث ولم يذكر تحت السرة بل ما رأيت ولا سمعت أحدا من أهل العلم ذكر هذا
الحديث بهذه الزيادة. انتهى.
قلت: ومما يدل على عدم صحة زيادة تحت السرة في هذا الحديث أنه روى الإمام
أحمد في مسنده هذا الحديث بهذا السند ولم يذكر هذه الزيادة حيث قال حدثنا وكيع حدثنا
327

موسى بن عمير العنبري عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: (رأيت رسول الله
واضعا يمينه على شماله في الصلاة) وروى البيهقي أيضا هذا الحديث بهذا السند ولم يذكر
هذه الزيادة حيث رواه عن موسى بن عمير وقيس بن سليم عن علقمة عن أبيه قريبا مما تقدم
بدون هذه الزيادة. ومما يدل على المطلوب أن الإمام الزيلعي والعيني وابن الهمام وابن أمير
الحاج وإبراهيم الحلبي وصاحب البحر وعلي القاري وغيرهم من العلماء الحنفية مع شدة
اعتنائهم بدلائل المذهب والجمع من صحيحها وحسنها وسقيمها لم يذكر أحد منهم هذه
الزيادة في هذا الحديث، فلو كان هذا الحديث الصحيح بهذه الزيادة في المصنف لذكروه
البتة. ولقد أكثر بعض هؤلاء الرواية والنقل من المصنف وكتبهم مملؤة من أحاديثه وآثاره
وكذا الحافظ ابن عبد البر والحافظ ابن حجر والإمام النووي وغيرهم من سائر أهل العلم لم
يوردوا هذا الحديث بهذه الزيادة، فهذه أمور تورث الشك في صحة زيادة تحت السرة في هذا
الحديث، والله تعالى أعلم.
(باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء)
(إذا قام إلى الصلاة كبر ثم قال وجهت وجهي) هذا تصريح بأن هذا التوجيه بعد التكبيرة
لا كما ذهب إليه البعض من أنه قبل التكبيرة. واعلم أن ابن حبان أخرج هذا الحديث وقال:
إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضا بالمكتوبة وكذا غيرهما، وأما
مسلم فقيده بصلاة الليل، وزاد لفظ من جوف الليل. قاله العلامة الشوكاني (وجهت وجهي)
أي توجهت بالعبادة بمعنى أخلصت عبادتي لله، وقيل صرفت وجهي وعملي ونيتي أو أخلصت
قصدي ووجهتي (للذي فطر السماوات والأرض) أي إلى الذي خلقهما وعملهما من غير مثال
سبق (حنيفا) حال من ضمير وجهت أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق ثابتا عليه، و هو
عند العرب غلب على من كان على ملة إبراهيم عليه السلام (مسلما) أي منقادا مطيعا لأمره
وقضائه وقدره (وما أنا من المشركين) فيه تأكيد وتعريض (إن صلاتي) أي عبادتي وصلاتي،
328

وفيه شائبة تعليل لما قبله (ونسكي) أي ديني وقيل عبادتي أو تقربي أو حجي (ومحياي ومماتي)
أي حياتي وموتي، والجمهور على فتح الياء الآخرة في محياي وقرأ بإسكانها (وبذلك أمرت)
أي بالتوحيد الكامل الشامل للإخلاص قولا واعتقادا (وأنا أول المسلمين) قال الشافعي لأنه
صلى الله عليه وسلم كان أول مسلمي هذه الأمة، وفي رواية لمسلم وأنا من المسلمين (اللهم) أي يا الله والميم
بدل عن حرف النداء ولذا لا يجمع بينهما إلا في الشعر (أنت الملك) أي القادر على كل شئ
المالك الحقيقي لجميع المخلوقات (وأنا عبدك) أي معترف بأنك مالكي ومدبري وحكمك
نافذ في (ظلمت نفسي) أي اعترفت بالتقصير، قدمه على سؤال المغفرة أدبا كما قال آدم
وحواء (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (واهدني لأحسن
الأخلاق) أي أرشدني لصوابها ووفقني للتخلق بها (واصرف عني سيئها) أي قبيحها (لبيك)
قال العلماء: معناه أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، يقال لب بالمكان لبا وألب إلبابا أي
أقام به واصل لبيك لبين حذفت النون للإضافة (وسعديك) قال الأزهري وغيره. معناه مساعدة
لأمرك بعد مساعدة ومتابعة لدينك بعد متابعة (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) قال
الخطابي وغيره فيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله تعالى ومدحه بأن يضاف إليه محاسن
الأمور دون مساويها على جهة الأدب. وأما قوله والشر ليس إليك فمما يجب تأويله لأن مذهب
أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها وحينئذ يجب تأويله وفيه
خمسة أقوال، أحدها معناه لا يتقرب به إليك قاله الخليل بن أحمد والنضر بن شميل
وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وأبو بكر بن خزيمة والأزهري وغيرهم والثاني حكى
الشيخ أبو حامد عن المزني وقاله غيره أيضا معناه لا يضاف إليك على انفراده لا يقال يا خالق
القردة والخنازير ويا رب الشر ونحو هذا وإن كان خالق كل شئ ورب كل شئ وحينئذ يدخل
الشر في العموم. والثالث معناه الشر لا يصعد إليك وإنما يصعد الكلم الطيب والعمل
الصالح. والرابع معناه والشر ليس شرا بالنسبة إليك فإنك خلقته بحكمة بالغة وإنما هو شر
بالنسبة إلى المخلوقين. والخامس حكاه الخطابي أنه كقولك فلان إلى بني فلان إذا كان عداده
فيهم أو ضعوه معهم.
329

(أنا بك وإليك) أي توفيقي بك والتجائي وانتمائي إليك (تباركت) أي استحققت الثناء،
وقيل ثبت الخير عندك. وقال ابن الأنباري تبارك العباد بتوحيدك. وقيل تعظمت وتمجدت أو
جئت بالبركة أو تكاثر خيرك وأصل الكلمة للدوام والثبات (ولك أسلمت) أي لك ذللت
وانقدت أو لك أخلصت وجهي أو لك خذلت نفسي وتركت أهواءها (خشع لك) أي خضع
وتواضع أو سكن (سمعي) فلا يسمع إلا منك (وبصري) فلا ينظر إلا بك وإليك وتخصيصهما
من بين الحواس لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعتا قلت الوساوس. قاله ابن الملك (ومخي)
قال ابن رسلان: المراد به هنا الدماغ وأصله الودك الذي في العظم وخالص كل شئ (وعظامي
وعصبي) فلا يقومان ولا يتحركان إلا بك في طاعتك. وهن عمد الحيوان وأطنابه واللحم
والشحم غاد ورائح (ملء السماوات والأرض) بكسر الميم ونصب الهمزة ورفعها والنصب أشهر
قاله النووي صفة مصدر محذوف، وقيل حال أي حال كونه مالئا لتلك الأجرام على تقدير
تجسمه وبالرفع صفة الحمد قاله في المرقاة (وملء ما شئت من شئ بعد) أي بعد ذلك كالعرش
والكرسي وغيرهما مما لم يعلمه إلا الله والمراد الاعتناء في تكثير الحمد (أحسن الخالقين) أي
المصورين والمقدرين فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد وغيره إنما يوجد صورا
مموهة ليس فيها شئ من حقيقة الخلق مع أنه تعالى خالق كل صانع صنعته والله خلقكم وما
تعملون والله خالق كل شئ.
(وإذا سلم من الصلاة قال اللهم) وفي رواية مسلم ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد
والتسليم اللهم (وما أسررت وما أعلنت) أي جميع الذنوب لأنها إما سر وإما علن (وما
أسرفت) أي جاوزت الحد (وما أنت أعلم به مني) أي من ذنوبي وإسرافي في أموري وغير ذلك
330

(أنت المقدم والمؤخر) أي تقدم من شئت بطاعتك وغيرها وتؤخر من شئت عن ذلك كما
تقتضيه حكمتك وتعز من تشاء وتذل من تشاء.
والحديث يدل على مشروعية الاستفتاح بما في هذا الحديث قال النووي: إلا أن يكون
إماما لقوم لا يرون التطويل. قال المنذري: أخرجه مسلم والترمذي والنسائي مطولا وابن
ماجة مختصرا.
331

(فإذا قلت أنت ذاك فقل وأنا من المسلمين) أي ولا تقل أنا أول المسلمين قال في
الانتصار إن غير النبي إنما يقول وأنا من المسلمين وهو وهم منشؤه توهم أن معنى وأنا أول
المسلمين أني أول شخص أتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه وليس كذلك بل معناه
بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به ونظيره (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) وقال
موسى (وأنا أول المؤمنين) قاله في النيل (وقد حفزه النفس) قال الخطابي: يريد أنه قد جهده
النفس وأعجله من شدة السعي إلى الصلاة. وأصل الحفز الدفع العنيف (فإنه لم يقل بأسا) قال
الطيبي: يجوز أن يكون مفعولا به أي لم يتفوه بما يؤخذ عليه، وأن يكون مفعولا مطلقا أي ما
قال قولا يشدد عليه (فقلتها) أي الكلمات (لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها) يعني يسبق
بعضهم بعضا في كتب هذه الكلمات ورفعها إلى حضرة الله تعالى لعظمها وعظم قدرها (أيهم يرفعها)
مبتدأ وخبر والجملة في موضع النصب أي يبتدرونها ويستعجلون أيهم يرفعها. قال أبو البقاء
في قوله تعالى: (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) أيهم مبتدأ وخبر في موضع نصب أي
يقترعون أيهم، فالعامل فيه ما دل عليه يلقون. قال المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي.
(قال عمرو) أي ابن مرة (الله أكبر كبيرا) حال مؤكدة وقيل منصوب على القطع من اسم
332

الله، وقيل بإضمار أكبر، وقيل صفة للمحذوف أي تكبيرا كبيرا (والحمد لله كثيرا) صفة
لمحذوف مقدر أي حمدا كثيرا (وسبحان الله بكرة وأصيلا) أي في أول النهار وآخره منصوبان
على الظرفية والعامل سبحان. وخص هذين الوقتين لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما كذا
ذكره الأبهري وصاحب المفاتيح والله تعالى أعلم (ثلاثا) قيد للكل كذا في المفاتيح ويحتمل
أن يكون قيدا للأخير بل هو الظاهر لاستغناء الأولين عن التقييد لهما بتلفظه ثلاثا (من نفخه
ونفثه وهمزه) بدل اشتمال من الشيطان (قال) أي عمرو بن مرة (نفثه الشعر) وإنما كان الشعر
من نفثه الشيطان لأنه يدعو الشعراء المداحين الهجائين المعظمين المحقرين إلى ذلك، وقيل
المراد شياطين الإنس وهم الشعراء الذين يختلقون كلاما لا حقيقة له. والنفث في اللغة قذف
الريق وهو أقل من التفل (ونفخه الكبر) وإنما فسر النفخ بالكبر لأن المتكبر يتعاظم لا سيما
إذا مدح (وهمزة الموتة) بسكون الواو بدون همز والمراد بها ههنا الجنون. والهمز في اللغة
العصر يقال همزت الشئ في كفي أي عصرته وهمز الانسان اغتيابه. قال المنذري: وأخرجه
ابن ماجة.
(بأي شئ كان يفتتح) أي يبتدئ من الأذكار (فقالت لقد سألتني عن شئ إلخ) وفي
هذا تحسين لسؤاله وتزئين بكر لمقاله وتأسف على غفلة الناس عن حاله (وهلل) أي يقول لا إله إلا
الله (عافني) من البلاء في الدارين أو من الأمراض الظاهرة والباطنة (ويتعوذ من ضيق المقام يوم
القيامة) أي شدائد أحوالها وسكرات أهوالها. قال المنذري: وأخرجه النسائي وابن ماجة.
333

(اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل) تخصيص هؤلاء بالإضافة مع أنه تعالى رب كل
شئ لتشريفهم وتفضيلهم على غيرهم. قال ابن حجر المكي: كأنه قدم جبريل لأنه أمين
الكتب السماوية، فسائر الأمور الدينية راجعة إليه وآخر إسرافيل لأنه أمين اللوح المحفوظ
والصور، فإليه أمر المعاش والمعاد. ووسط ميكائيل لأنه أخذ بطرف من كل منهما لأنه أمين
المطر والنبات ونحوهما مما يتعلق بالأرزاق المقومة للدين والدنيا والآخرة وهما أفضل من
ميكائيل وفي الأفضل منهما خلاف كذا في المرقاة (فاطر السماوات والأرض) أي مبدعهما
ومخترعهما (عالم الغيب والشهادة) أي بما غاب وظهر عند غيره (أنت تحكم بين عبادك) يوم
القيامة بالتمييز بين المحق والمبطل بالثواب والعقاب (فيما كانوا فيه يختلفون) من أمر الدين في
أيام الدنيا (لما اختلف فيه من الحق) من بيان لما (بإذنك) أي بتوفيقك وتيسيرك (إنك أنت
تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) جملة مستأنفة متضمنة للتعليل. قال المنذري: وأخرجه
مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
(أبو نوح قراد) هو عبد الرحمن بن غزوان الحراني أبو نوح قراد عن عوف الأعرابي
ويونس بن أبي إسحاق وعنه أحمد وابن معين وثقه ابن المديني (قال مالك لا بأس بالدعاء في
الصلاة إلخ) هذا نص صريح من الإمام مالك رحمه الله على أنه لا بأس عنده بقراءة دعاء
الاستفتاح بين التكبير والقراءة لكن المشهور عنه خلافه. قال الحافظ تحت حديث أبي هريرة
334

قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة) الحديث واستدل بالحديث
على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك انتهى.
(من المتكلم بها) أي بالكلمات (آنفا) بالمد أي الآن (لقد رأيت بضعة وثلاثين)
البضعة من الثلاثة إلى التسعة. قال الحافظ فيه رد على من زعم كالجوهري أن البضع يختص
بما دون العشرين (يبتدرونها) أي يسارعون في كتبه هذه الكلمات (أول) قال السهيلي أول
بالضم على البناء لأنه ظرف قطع عن الإضافة وبالنصب على الحال قاله الحافظ. وقال ابن
الملك قوله أول بالنصب هو الأوجه أي أول مرة انتهى. وأما أيهم فرويناه بالرفع وهو مبتدأ
وخبره يكتبها قاله الطيبي وغيره تبعا لأبي البقاء في إعراب قوله تعالى: (يلقون أقلامهم أيهم
يكفل مريم) قال وهو في موضع نصب والعامل فيه ما دل عليه يلقون وأي استفهامية، والتقدير
مقول فيهم أيهم يكتبها، ويجوز في أيهم النصب بأن يقدر المحذوف فينظرون أيهم. وعند سيبويه
أي موصولة والتقدير يبتدرون الذي هو يكتبها أول. وأنكر جماعة من البصريين ذلك. ولا
تعارض بين رواية يكتبها ويصعد بها لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها والظاهر أن
هؤلاء الملائكة غير الحفظة ويؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا (إن لله ملائكة
يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر) الحديث انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري
والنسائي.
(أنت نور السماوات والأرض) أي منورهما وخالق نورهما. وقال أبو عبيد معناه بنورك
يهتدي أهل السماوات والأرض (أنت قيام السماوات والأرض) وفي رواية لمسلم: قيم
335

السماوات والأرض. قال النووي: قال العلماء من صفاته القيام والقيم، كما صرح به في هذا
الحديث، والقيوم بنص القرآن، وقائم ومنه قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس) قال
الهروي: ويقال: قوام.
قال ابن عباس: القيوم الذي لا يزول. وقال غيره: هو القائم على كل شئ، ومعناه مدبر
أمر خلقه، وهما شائعان في تفسير الآية والحديث (أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن) قال
العلماء للرب ثلاث معان في اللغة، السيد المطاع والمصلح، والمالك. قال بعضهم: إذا
كان بمعنى السيد المطاع فشرط المربوب أن يكون ممن يعقل وإليه أشار الخطابي بقوله
لا يصح أن يقال سيد الجبال والشجر. قال القاضي عياض: هذا الشرط فاسد بل الجميع مطيع
له سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: (قالتا أتينا طائعين).
(أنت الحق) قال العلماء: الحق في أسمائه سبحانه وتعالى معناه المتحقق وجوده وكل
شئ صح وجوده وتحقق فهو حق ومنه الحاقة أي الكائنة حقا - بغير شك - (وقولك الحق
ووعدك الحق إلخ) أي كله متحقق لا شك فيه، والمراد بلقائك البعث لا الموت (لك أسلمت)
أي لك استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك (وبك آمنت) أي صدقت بك وبكل ما أخبرت وأمرت
ونهيت (وإليك أنبت) أي أطعت ورجعت إلى عبادتك أي أقبلت عليها، وقيل معناه رجعت
إليك في تدبيري، أي فوضت إليك (وبك خاصمت) أي بما أعطيتني من البراهين والقوة
خاصمت من عائد فيك وكفر بك وقمعته بالحجة والسيف (وإليك حاكمت) أي كل من جحد
الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية
وغيرهم، من صنم وكاهن ونار وشيطان وغيرها فلا أرضى إلا بحكمك ولا أعتمد غيره (فاغفر
لي) معنى سؤاله صلى الله عليه وسلم المغفرة، مع أنه مغفور أنه يسأل تواضعا وخضوعا وإشفاقا وإجلالا
وليقتدي به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع في هذا الدعاء المعين. قال المنذري:
وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.
336

(فعطس رقاعة) فيه دليل على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة (مباركا فيه
مباركا عليه) قوله مباركا عليه يحتمل أن يكون تأكيدا وهو الظاهر وقيل الأول بمعنى
الزيادة والثاني بمعنى البقاء. قال الله تعالى: (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) فهذا يناسب
الأرض لأن المقصود به النماء والزيادة لا البقاء لأنه بصدد التغير. وقال تعالى: (وباركنا عليه
وعلى إسحاق) فهذا يناسب الأنبياء لأن البركة باقية لهم. ولما كان الحمد يناسبه المعنيان
جمعهما. كذا قرره بعض الشراح ولا يخفى ما فيه. قاله الحافظ: (كما يحب ربنا ويرضى) فيه
من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. قال المنذري: وأخرجه الترمذي
والنسائي قال الترمذي: حسن.
(ما تناهت دون عرش الرحمن) أي ما تناهت تلك الكلمات دون عرشه بل وصلت إليه.
قال في المجمع (لقد ابتدرها اثنا عشر ملكا فما نهنهها شئ دون العرش) أي ما منعها عن
337

الوصول إليه. انتهى. قال المنذري: في إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن
الخطاب وشريك بن عبد الله وفيهما مقال:
(باب من رأى الاستفتاح بسبحانك إلخ)
(سبحانك اللهم وبحمدك) أي وفقني. قاله الأبهري. وقال ابن الملك: سبحانك اسم
أقيم مقام المصدر وهو التسبيح منصوب بفعل مضمر تقديره أسبحك تسبيحا أي أنزهك تنزيها
من كل السوء والنقائض وأبعدك مما لا يليق بحضرتك وقيل: تقديره أسبحك تسبيحا ملتبسا
ومقترنا بحمدك فالباء للملابسة والواو زائدة. وقيل: الواو بمعنى مع أي أسبحك مع التلبس
بحمدك. وحاصله نفي الصفات السلبية وإثبات النعوت الثبوتية.
وقال الخطابي: قوله عليه السلام: وبحمدك ودخول الواو فيه أخبرني ابن خلاد قال
سألت الزجاج عن ذلك فقال: معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك انتهى. قال في المرقاة:
قيل قول الزجاج يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الواو الحال وثانيهما أن يكون عطف جملة
فعلية على مثلها إذ التقدير أنزهك تنزيها وأسبحك تسبيحا مقيدا بشكرك وعلى التقديرين اللهم
معترضة والباء في وبحمدك إما سببية والجار متصل بفعل مقدر أو الصاقية وفي والجار والمجرور
حال من فاعله (تبارك اسمك) أي كثرت بركة اسمك إذ وجد كل خير من ذكر اسمك، وقيل
تعاظم ذاتك (وتعالى جدك) تعالى تفاعل من العلو والجد العظمة أي علا ورفع عظمتك على
عظمة غيرك، غاية العلو والرفعة (من همزه ونفخه ونفثه) تقدم تفسيره. قال المنذري: وأخرجه
الترمذي والنسائي وابن ماجة.
(وهذا الحديث يقولون إلخ) قال المنذري: وقال الترمذي: وحديث أبي سعيد أشهر
338

حديث في هذا الباب. وقال أيضا: وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد كان يحيى بن سعيد
يتكلم في علي بن علي. وقال أحمد لا يصح هذا الحديث. قلت: وعلى هذا هو علي بن
علي بن نجاد بن رفاعة الرفاعي البصري وكنيته أبو إسماعيل وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير
واحد. انتهى. قلت: قال الحافظ في التلخيص: وقال ابن خزيمة: لا نعلم في الافتتاح
بسبحانك اللهم خبرا ثابتا عند أهل المعرفة بالحديث وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد ثم قال
لا نعلم أحدا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه. انتهى.
(وهذا الحديث) أي حديث أبي الجوزاء عن عائشة (لم يذكروا فيه شيئا من هذا) قال
المنذري: يعني دعاء الاستفتاح وقال الدارقطني: قال أبو داود، لم يروه عن عبد السلام غير
طلق بن غنام وليس هذا الحديث بالقوي. هذا آخر كلامه. وأخرجه الترمذي وابن ماجة من
حديث حارثة بن أبي الرجال عن حمزة عن عائشة، وحارثة هذا لا يحتج بحديثه. وقد أخرج
مسلم في الصحيح من حديث عبدة وهو ابن أبي لبابة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان
يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله
غيرك) وهو موقوف على عمر، وعبدة لا يعرف له سماع من عمر وإنما سمع من عبد الله بن
عمر، ويقال رأي ابن عمر رؤية. وقد روى هذا الكلام عن عمر بن الخطاب مرفوعا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الدارقطني: المحفوظ عن عمر من قوله وذكر من رواه مرفوعا. وقال: وهو
الصواب انتهى كلام المنذري.
فائدة: قال في منتقى الأخبار. وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء
الكلمات يقول (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) وروى
سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان يستفتح بذلك وكذلك رواه الدارقطني
عن عثمان بن عفان وابن المنذر عن عبد الله بن مسعود وقال الأسود: كان عمر إذا افتتح الصلاة
339

قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك يسمعنا ذلك ويعلمنا)
رواه الدارقطني. انتهى.
وقال في نيل الأوطار: قال المؤلف رحمه الله: واختيار هؤلاء يعني الصحابة الذين ذكر
بهم الاستفتاح بهذه الكلمات وجهر عمر به أحيانا بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن
إخفائه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم عليه غالبا، وإن استفتح بما رواه
على أو أبو هريرة فحسن، لصحة الرواية انتهى. ولا يخفى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى
بالإيثار والاختيار. وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة ثم حديث علي، واما
حديث عائشة فقد عرفت ما فيه من المقال، وكذلك حديث أبي سعيد ستعرف المقال الذي
فيه. قال الإمام أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر ولو أن رجلا استفتح ببعض ما روي
كان حسنا. قال ابن خزيمة: لا نعلم في الافتتاح بسبحانك اللهم خبرا ثابتا وأحسن أسانيده
حديث أبي سعيد ثم قال: لا نعلم أحدا ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه.
انتهى.
(باب السكتة عند الافتتاح)
(عن الحسن) أي البصري الإمام أحد أئمة الهدى والسنة (سمرة) بفتح أوله وضم ثانية
(سكتة إذا كبر) أي للإحرام (وسورة) بالجر عطف على فاتحة الكتاب. والمعنى إذا فرغ من
القراءة كلها كما في الرواية آتية (قال) أي الحسن البصري (فأنكر ذاك) أي ما حفظه سمرة من
السكتتين في الصلاة (عمران بن حصين) فاعل أنكر. وعمران بن حصين هذا كان من علماء
الصحابة وكانت الملائكة تسلم عليه، وهو ممن اعتزل الفتنة (إلى أبي) بن كعب الأنصاري
الخزرجي سيد القراء، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة
والسلام أن يقرأ عليه رضي الله عنه، وكان ممن جمع القرآن وله مناقب جمة (فصدق) أي أبي
340

(سمرة) بالنصب مفعول صدق، أي صدق أبي سمرة ووافقه وقال: إن سمرة قد حفظ. قال
المنذري: وأخرجه ابن ماجة وقد اختلف في سماع الحسن من سمرة انتهى.
قلت: قد اختلف في صحة سماعه منه، فقال شعبة لم يسمع منه شيئا، وقيل سمع منه
حديث العقيقة. وقال البخاري: قال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، ومن
أثبت مقدم على من نفى قاله الشوكاني. وقال في باب ما جاء في السكتتين تحت حديث
الحسن عن سمرة: وقد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه منها
حديث نهى عن كل بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وحديث: جار الدار أحق بدار الجار، وحديث:
لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار، وحديث: الصلاة الوسطى صلاة العصر، فكان
هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديرا بالتصحيح.
وقد قال الدارقطني رواة الحديث كلهم ثقات انتهى. (كذا قال حميد في هذا الحديث)
المشار إليه بقوله كذا هو قوله وسكتة إذا فرغ من القراءة.
(عن سمرة بن جندب) بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وقد يفتح الدال
(إذا استفتح) أي كبر للإحرام (فذكر معنى يونس) أي معنى حديث يونس (تذاكرا) صيغة التثنية
من التفاعل (سكتة إذا كبر) أي للإحرام (وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا
الضالين) قال الخطابي: إنما سكتهما ليقرأ من خلفه فيهما فلا ينازعونه القراءة إذا قرأ انتهى.
قال اليعمري: كلام الخطابي هذا في السكتة التي بعد قراءة الفاتحة. وأما السكتة الأولى فقد
وقع بيانها في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين التكبير والقراءة يقول اللهم باعد بيني
وبين خطاياي الحديث قاله في النيل. واعلم أنه حصل من هذه الرواية والتي قبلها ثبوت ثلاث
341

سكتات بعد الإحرام وبعد الفاتحة وبعد السورة، وقيل الثالثة أخف من الأولى والثانية وذلك
بمقدار ما تنفصل القراءة عن التكبير فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصل فيه. وقد ذهب إلى
استحباب هذه السكتات الثلاث الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أصحاب الرأي
ومالك. السكتة مكروهة (فكتبا) أي سمرة وعمران (في كتابه إليهما) أي في كتاب أبي إلى
سمرة وعمران (أو في رده عليهما) شك من بعض الرواة.
(أخبرنا عبد الأعلى أخبرنا سعيد بهذا) أي بهذا الحديث المتقدم عن مسدد عن يزيد عن
سعيد (قال فيه) أي قال عبد الأعلى في الحديث (إذا دخل في صلاته) أي إذا كبر. قيل الغرض
من هذه السكتة ليفرغ المأمومون من النية وتكبيرة احرام لأنه لو قرأ الإمام عقب التكبير لفات من
كان مشتغلا بالتكبير والنية بعض سماع القراءة.
قلت: الصحيح أن الغرض من هذه السكتة ليقول امام اللهم باعد بيني وبين خطاياي
إلخ أو غير ذلك من دعاء الاستفتاح (وإذا فرغ من القراءة) أي كلها (ثم قال) أي قتادة (بعد)
مبني على الضم أي بعد ذلك.
واعلم أن المؤلف قد اختصر الحديث ولم يورده بتمامه ورواه ابن ماجة هكذا: حدثنا
جميل بن الحسن بن جميل العتكي حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن
سمرة بن جندب قال (سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر ذلك عمران بن الحصين
فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة فكتب أن سمرة قد حفظ. قال سعيد فقلنا لقتادة ما هاتان
السكتتان؟ قال إذا دخل في صلاته وإذا فرغ من القراءة ثم قال بعد وإذا قرأ غير المغضوب عليهم
ولا الضالين قال وكان يعجبهم إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه).
فائدة وفي رواية عبد الرزاق عن الحسن البصري قال كان سمرة بن جندب يؤم الناس
فكان يسكت سكتتين إذا كبر للصلاة وإذا فرغ من قراءة أم الكتاب، فعاب عليه الناس فكتب إلى
أبي بن كعب في ذلك أن الناس عابوا علي ولعلي نسيت وحفظوا أو حفظت ونسوا فكتب إليه أبي بن
342

كعب بل حفظت ونسوا) وروى الطبراني في الكبير عن الحسن قال قال سمرة (حفظت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتين إذا كبر وسكتة إذا فرغ من قراءة السورة فعاب علي عمران بن حصين
فكتبوا إلى أبي بن كعب في ذلك فكتب أن صدق سمرة) انتهى. فظهر من هذه الروايات أن القائل
فأنكر عليه عمران هو الحسن البصري وأن القائل أيضا فكتبوا أو فكتب هو الحسن البصري. وفي
رواية لأبي داود فكتبا بصيغة التثنية أي سمرة وعمران، وهذا كله حكاية من الحسن ناقلا عما سمع
من سمرة وأن الكتابة وقعت من سمرة أو من سمرة وعمران، فهذا الذي يحصل به التوفيق بين
الروايات، وعلى كل حال فالكاتب إلى أبي بن كعب هو سمرة أو هو وعمران أو هما ومن وافقهما
على ذلك، وأن الراوي لذلك هو الحسن البصري عن سمرة سماعا منه لا أنه كان حاضرا حين ما
جرى بين سمرة وعمران بن حصين من الاختلاف في السكتتين والله أعلم. قال المنذري:
وأخرجه الترمذي وابن ماجة بنحوه. وقال الترمذي: حديث سمرة حديث حسن.
(إذا كبر في الصلاة سكت بين التكبير والقراءة) وفي رواية البخاري (يسكت بين التكبير
والقراءة إسكاتة) قال الحافظ ضبطناه بفتح أوله من السكوت. وحكى الكرماني عن بعض
الروايات بضم أوله من الإسكات. قال الجوهري يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف فإذا
انقطع كلامه فلم يتكلم قلت أسكت انتهى. وقال في المرقاة أفعاله من السكوت ولا يراد به ترك
الكلام بل ترك رفع الصوت لقوله ما تقول في اسكاتك قاله الطيبي. أو المراد به السكوت عن
القراءة لا عن الذكر وقاله الأبهري وهو الأظهر انتهى (بأبي أنت وأمي) قال التوربشتي: الباء
متعلقة بمحذوف قيل هو اسم فيكون ما بعده مرفوعا تقديره أنت مفدي بأبي وأمي، وقيل هو فعل
أي فديتك وما بعده منصوب وحذف هذا القدر تخفيفا لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب ذكره
الطيبي (أرأيت) الظاهر أنه يفتح التاء بمعنى أخبرني (ما تقول) فيه إشعار بأن هناك قولا لكونه قال
ما تقول ولم يقل هل تقول، نبه عليه ابن دقيق العيد قال ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم
343

كما استدل غيره على القراءة باضطراب اللحية (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين
المشرق والمغرب) أخرجه مخرج المبالغة لأن المفاعلة إذا لم تكن للمبالغة فهي للمبالغة. وقيل تفيد
البعد من الجانبين فكأنه قيل اللهم باعد بيني وبين خطاياي وباعد بين خطاياي وبيني. والخطايا
إما أن يراد بها اللاحقة فمعناه إذا قدر لي ذنب فبعد بيني وبينه والمقصود ما سيأتي، أو السابقة
فمعناه المحو والغفران لما حصل منها وهو مجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هو في الزمان والمكان وموقع
التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد أن لا يبقي لها منه اقتراب بالكلية. وكرر
لفظ بين هنا ولم يكرر بين المشرق والمغرب لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الجار
(اللهم أنقني من خطاياي كالثوب الأبيض من الدنس) وفي رواية البخاري (اللهم نقني قال
الحافظ مجاز عن زوال الذنوب ومحو أثرها. ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهر من غيره
من الألوان وقع التشبيه به. قاله ابن دقيق العيد (اللهم اغسلني بالثلج) بالسكون (والماء والبرد)
بفتحتين. قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيدا أو لأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم
يمتهنهما الاستعمال وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب الذي يتكرر
عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. قال ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه
الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو وكأنه كقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا)
وأشار الطيبي إلى هذا بحثا فقال يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول
أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو طفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه
قولهم: برد الله مضجعه. أي رحمه ووقاه عذاب النار انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة
في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها
فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه. قاله
الحافظ.
فإن قلت: الغسل البالغ إنما يكون بالماء الحار فلم ذكر ذلك؟ قلت: قال محيي السنة:
معناه طهرني من الذنوب وذكره مبالغة في التطهير لا أنه يحتاج إليها. ذكره في المرقاة: واستدل
بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك، واستدل به على
جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القران خلافا للحنفية. ثم هذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل
المبالغة في إظهار العبودية، وقيل قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بكونه لو أراد ذلك لجهر
344

به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزاز وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة
على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وأسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين. كذا في
فتح الباري. قال المنذري: وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
(باب من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)
قال الحافظ بن حجر في تخريج أحاديث الهداية: الذي يتحصل من البسملة أقوال:
أحدها - أنها ليست من القران أصلا إلا في سورة النمل وهذا قول مالك وطائفة من الحنفية ورواية
عن أحمد. ثانيها - أنها آية من كل سورة أو بعض آية كما هو المشهور عن الشافعي ومن وافقه وعن
الشافعي أنها آية من الفاتحة دون غيرها وهو رواية عن أحمد. ثالثها - أنها آية من القرآن مستقلة
برأسها وليست من السور بل كتبت في كل سورة للفصل فقد روى مسلم عن المختار بن فلفل عن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزلت علي سورة آنفا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك
الكوثر) أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل
عليه بسم الله الرحمن الرحيم) أخرجه أبو داود والحاكم وهذا قول ابن المبارك وداود وهو المنصوص
عن أحمد وبه قال جماعة من الحنفية. وقال أبو بكر الرازي هو مقتضى المذهب. وعن أحمد بعد
ذلك روايتان أحدهما أنها من الفاتحة والثاني لا فرق وهو الأصح، ثم اختلفوا في قراءتها في الصلاة
فعن الشافعي ومن تبعه تجب، وعن مالك يكره، وعن أبي حنيفة تستحب وهو المشهور عن أحمد.
ثم اختلفوا فعن الشافعي بسن الجهر، وعن أبي حنيفة لا يسن، وعن إسحاق يخير انتهى كلامه.
(كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين) بضم الدال على الحكاية، واختلف في
المراد بذلك، فقيل المعنى كانوا يفتتحون بالفاتحة وهذا قول من أثبت الفاتحة في أولها، وقيل المعنى
كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة، لكن لا يلزم
من قوله كانوا يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم سرا.
واعلم أنه قد اختلف في لفظ حديث أنس اختلافا كثيرا ففي لفظ (فلم أسمع أحدا منهم
يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ (فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن
345

الرحيم) والنسائي على شرط الصحيح، وفي لفظ (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم
في أول قراءة ولا في اخرها) رواه مسلم وفي لفظ (فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن
الرحيم) رواه عبد الله بن أحمد بن مسند أبيه، وفي لفظ (كانوا يسرون) رواه ابن خزيمة قال
الحافظ: والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها فحيث جاء عن أنس
أنه كان لا يقرؤها مراده نفي الجهر، وحيث جاء عنه إثبات القراءة فمراده السر، وقد ورد نفي
الجهر عنه صريحا فهو المعتمد، وقول أنس في رواية (لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في
أول قراءة ولا في آخرها) محمول على نفي الجهر أيضا لأنه الذي يمكن نفيه. واعتماد من نفى مطلقا
بقول (كانوا يفتتحون القراءة بالحمد) لا يدل على ذلك لأنه كان يفتتح بالتوجه وسبحانك اللهم
ويباعد بيني وبين خطاياي وبأنه كان يستعيذ وغير ذلك من الأخبار الدالة على أنه تقدم على قراءة
الفاتحة شيئا بعد التكبير، فيحمل قوله يفتتحون أي الجهر لتأتلف الأخبار انتهى.
واستدل بهذا الحديث من قال إنه قال لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهم على ما حكاه
الترمذي أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ومن
بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق لا يرون أن يجهر
ببسم الله الرحمن الرحيم، قالوا ويقولها في نفسه. قال الخطابي: قد يحتج بهذا الحديث من
لا يرى التسمية من فاتحة الكتاب وليس المعنى كما توهمه إنما وجهه ترك الجهر بالتسمية بدليل
ما روى ثابت عن أنس أنه قال (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم
أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم) انتهى. قال المنذري: وأخرجه البخاري
ومسلم والنسائي من حديث شعبة عن قتادة، وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي عوانة
عن قتادة بنحوه (عن أبي الجوزاء) بالجيم والزاي واسمه أوس بن عبد الله بصري (يفتتح
الصلاة بالتكبير) أي يبدؤها ويجعل التكبير فاتحها (والقراءة) بالنصب عطفا على الصلاة أي
يبتدئ قراءة الفاتحة (بالحمد) بالرفع على الحكاية وإظهار ألف الوصل ويجوز حذف همزة
الوصل وكذا جر الدال على الاعراب. قال النووي: يستدل به مالك وغيره ممن يقول إن
البسملة ليست من الفاتحة، وجواب الشافعي رحمه الله والأكثرين القائلين بأنها من الفاتحة أن
معنى الحديث أنه يبتدئ القران بسورة الحمد لله رب العالمين لا بسورة أخرى، فالمراد بيان
346

السورة التي يبتدئ بها وقد قامت الأدلة على أن البسملة منها (لم يشخص رأسه) من باب
الأفعال أو التفعيل أي لم يرفع رأسه أي عنقه (ولم يصوبه) بالتشديد لا غير والتصويب النزول
من أعلى أسفل اي ولم ينزله (ولكن بين ذلك) اي التشخيص والتصويب بحيث يستوي
ظهره وعنقه (وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما وكان إذا رفع رأسه من
السجود لم يسجد حتى يستوي قاعدا) قال النووي: فيه وجوب الاعتدال إذا رفع من الركوع
وأنه يجب أن يستوي قائما لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كم رأيتموني أصلي) وفيه وجوب الجلوس بين
السجدتين. قلت: ذهب إلى وجوب الطمأنينة في أركان الصلاة الجمهور، واشتهر عن الحنفية
أن الطمأنينة سنة وصرح بذلك كثير من مصنفيهم، لكن كلام الطحاوي كالصريح في الوجوب
عندهم فإنه ترجم مقدار الركوع والسجود ثم ذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود وغيره في قوله:
سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع وذلك أدناه. قال فذهب قوم إلى أن هذا مقدار الركوع
والسجود لا يجزئ أدنى منه. قال وخالفهم آخرون فقالوا إذا استوى راكعا واطمأن ساجدا أجزأ
ثم قال وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ذكره الحافظ في الفتح (وكان يقول في كل
ركعتين التحيات) أي يقرؤها بعدهما. وفي حجة لأحمد بن حنبل رحمه الله ومن وافقه من
فقهاء أصحاب الحديث أن التشهد الأول والأخير واجبان. وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون:
هما سنتان ليس واجبين. وقال الشافعي الأول سنة والثاني واجب. واحتج أحمد رحمة الله عليه
بهذا الحديث مع قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وبقوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد
كما يعلمنا السورة من القران) وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليقل التحيات) والأمر للوجوب.
واحتج الأكثرون بأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التشهد وجبره بسجود السهو ولو وجب لم يصح جبره
كالركوع وغيره من الأركان. قالوا وإذا ثبت هذا في الأول فالأخير بمعناه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه
الأعرابي حين علمه فروض الصلاة. قاله النووي.
(يفرش) بكسر الراء وضمها (وينصب رجله اليمنى) أي يضع أصابعها على الأرض ويرفع
عقبها. فيه حجة لأبي حنيفة ومن وافقه أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع
الجلسات. وعند مالك رحمه الله: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويفضي بوركه إلى
الأرض وقال الشافعي رحمه الله: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا التي يعقبها السلام.
واحتجاج الشافعي بحديث أبي حميد الساعدي في صحيح البخاري وفيه التصريح بالافتراش في
347

الجلوس الأول والتورك في آخر الصلاة وحمل حديث عائشة هذا في غير التشهد الأخير للجمع بين
الأحاديث (وكان ينهى عن عقب الشيطان) وفي رواية لمسلم عن عقبة الشيطان، وفي أخرى له عن
عقب الشيطان. قال النووي: عقبة الشيطان بضم العين، وفي الرواية الأخرى عقب الشيطان
بفتح العين وكسر القاف هذا هو الصحيح المشهور فيه. وحكى القاضي عياض عن بعضهم بضم
العين وضعفه. انتهى. قال الخطابي في المعالم: عقب الشيطان هو أن يقعي فيقعد على عقيبة في
الصلاة ولا يفترش رجله ولا يتورك. وأحسب أني سمعت في عقب الشيطان معنى غير هذا فسره
بعض العلماء لم يحضرني ذكره.
وقال النووي: الصواب الذي لا معدل عنه أن الإقعاء نوعان: أحدهما أن يلصق أليتيه
بالأرض وينصب ساقيه ويدع يديه على الأرض كإقعاء الكلب، هكذا فسره أبو عبيدة معمر بن
المثنى وصاحبه أبو عبيد القاسم بن سلام وآخرون من أهل اللغة، وهذا النوع هو المكروه الذي
ورد فيه النهي، والنوع الثاني أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهذا هو مراد ابن عباس
بقوله: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم انتهى. قلت: وقول ابن عباس الذي أشار إليه النووي رواه مسلم عن
طاوس بلفظ: قلنا لا بن عباس في الإقعاء على القدمين فقال هي السنة فقلنا: إنا لنراه جفاء
بالرجل، فقال ابن عباس: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم: وقد بسط النووي في معنى اقعاء وبيان
مذاهب العلماء فيه، فمن شاء البسط فليرجع إليه (وعن فرشه السبع) قال الخطابي: هو أن
يفترش يديه وذراعيه في السجود يمدهما على الأرض كالسبع، وإنما السنة أن يضع كفيه على الأرض
ويقل ذراعيه ويجافي مرفقيه عن جنبيه (وكان يختم الصلاة بالتسليم) قال الخطابي: وفي قولها كان
يفتتح الصلاة بالتكبير ويختمها بالتسليم دليل على أنهما ركنان من أركان الصلاة لا تجزئ إلا بهما،
لأن قولها كان يفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم إخبار عن أمر معهود مستدام، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا
كما رأيتموني أصلي) انتهى. قال المنذري: وأخرجه مسلم وابن ماجة بنحوه.
(عن المختار بن فلفل) بفائين مضمومتين مولى عمرو بن الحريث الكوفي عن أنس
وإبراهيم التيمي، وعنه زائدة والثوري. قال ابن إدريس: كان يحدث وعيناه تدمعان وثقه أحمد.
(آنفا) أي قريبا وهو بالمد ويجوز الكسر في لغة قليلة، وقد قرئ به في السبع (فقرأ بسم الله
348

الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر حتى ختمها) أي ختم السورة. قال في فتح الودود: كأنه أشار
إلى أن هذا الحديث يدل على أن البسملة جزء من السورة فينبغي أن تجهر ولما ورد عليه أنه لعله قرأ
البسملة لمجرد التبرك لا لكونها جزءا من السورة أشار إلى رده بالحديث الذي بعده حيث أنه لم يقرأ
البسمة فلا هناك، ويمكن الجواب بأن البسملة للفصل بين السور فتقرأ في أوائل السور. انتهى.
وقال في النيل تحت هذا الحديث: هذا الحديث من جملة أدلة من أثبت البسملة وقد تقدم
ذكرهم، ومن أدلتهم على إثباتها ما ثبت في المصاحف منها بغير تمييز كما ميزوا أسماء السور وعدد
الآي بالحمرة أو غيرها مما يخالف صورة المكتوب قرآنا. وأجاب عن ذلك القائلون بأنها ليست من
القرآن أنها تثبت للفصل بين السور. وتخلص القائلون بإثباتها عن هذا الجواب بوجوه الأول أن
هذا تغرير ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل الثاني أنه لو كان للفصل لكتبت بين براءة والأنفال ولما
كتبت في أول الفاتحة، الفصل الثالث كان ممكنا بتراجم السور كما حصل بين براءة والأنفال.
انتهى. (فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل في الجنة) زاد مسلم (عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه
أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم) الحديث. قال المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي.
(وذكر الإفك) أي ذكر عروة قصة الإفك أي الكذب على عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
بقذفها وهي مذكورة في الصحيحين مطولة (وكشف) أي الحجاب (عن وجهه) الشريف بعد
الفراغ من الوحي (إن الذين جاءوا بالإفك) أسوأ الكذب على عائشة رضي الله عنها (عصبة
349

منكم) جماعة من المؤمنين (اية) بالنصب أي أتم اية وتمامها لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير
لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من اثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم وقوله تعالى:
(لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) لأنه تعالى بأجركم منه به ويظهر براءة عائشة ومن جاء
معها وهو صفوان. وقوله: (والذي تولى كبره منهم) أي تحمل معظمه أي تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه وأشاعه
وهو عبد الله بن أبي وآية الإفك هذه سورة النور (وهذا حديث منكر) قال الحافظ ابن حجر:
إن وقعت المخالفة مع الضعف فالراجح يقال له المعروف، ومقابله يقال له المنكر. انتهى.
وحاصله أن المنكر ما رواه الضعيف مخالفا للثقات، وبين المؤلف وجه النكارة بقوله (قد روى
هذا الحديث جماعة) كمعمر ويونس بن يزيد وغيرهما (عن الزهري لم يذكروا هذا الكلام) أي قوله
أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم (على هذا الشرح) الذي رواه حميد الأعرج (وأخاف أن
يكون أمر الاستعاذة) أي قوله أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. قال المنذري: وحميد
هذا هو أبو صفوان حميد بن قيس الأعرج المكي احتج به الشيخان. انتهى. قلت فعلى هذا صار
الحديث شاذا لا منكرا، والشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى، وهذا هو المعتمد في
تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح. قاله الحافظ في شرح النخبة.
(باب من جهر بها)
أي بالبسملة.
(ما حملكم) أي ما الباعث والسبب لكم (عمدتم) بفتح الميم أي قصدتم (إلى براءة) هي
سورة التوبة وهي أشهر أسمائها، ولها أسماء أخرى تزيد على العشرة قاله الحافظ في الفتح (وهي
350

من المئين) أي من ذوات مائة آية قال في المجمع أول القران السبع الطوال ثم ذوات
مائة آية ثم المثاني ثم المفصل انتهى. (إلى الأنفال وهي من المثاني) أي من السبع المثاني وهي السبع
الطوال. وقال بعضهم المثاني من القران ما كان أقل من المئين ويسمى جميع القران مثاني لاقتران
اية الرحمة باية العذاب، وتسمى الفاتحة مثاني لأنها تثنى في الصلاة، أو ثنيت في النزول. وقال في
النهاية: المثاني السور التي تقصر عن المئين وتزيد عن المفصل. كأن المئين جعلت مبادئ والتي
تليها مثاني. انتهى (فجعلتموهما في السبع الطوال) بضم ففتح (ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله
الرحمن الرحيم) قال في المرقاة: توجيه السؤال أن الأنفال ليس من السبع الطوال لقصرها عن المئين
لأنها سبع وسبعون آية وليست غيرها لعدم الفصل بينها وبين براءة.
(كان النبي صلى الله عليه وسلم مما تنزل عليه الآيات) وفي رواية الترمذي (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه
الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد) (فيدعو بعض من كان يكتب له) الوحي كزيد بن
ثابت وغيره (وفي السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) كقصة هود وحكاية يونس (وكانت الأنفال من
أول ما نزل عليه بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القران) أي فهي مدينة أيضا وبينهما
النسبة الترتيبية بالأولية والآخرية، فهذا أحد وجوه الجمع بينهما، وكان هذا مستند من قال إنهما
سورة واحدة، وهو ما أخرجه أبو الشيخ عن روق وأبو يعلى عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سفيان
وابن لهيعة كانوا يقولون إن براءة من الأنفال، ولهذا لم تكتب البسملة بينهما مع اشتباه طرقهما. ورد
بتسمية النبي صلى الله عليه وسلم، لكل منهما باسم مستقل. قال القشيري: إن الصحيح أن التسمية لم تكن فيها
لأن جبريل عليه السلام لم ينزل بها فيها. وعن ابن عباس: لم تكتب البسملة في براءة لأنها أمان
وبراءة نزلت بالسيف. وعن مالك أن أولها لما سقط سقطت معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت
تعديل البقرة لطولها وقيل إنها ثابتة أولها في مصحف ابن مسعود ولا يعول على ذلك (وكانت
قصتها) أي براءة (شبيهة بقصتها) أي الأنفال ويجوز العكس وهذا وجه آخر معنوي، ولعل
المشابهة في قضية المقاتلة بقوله في سورة براءة (قاتلوهم يعذبهم الله) ونحوه، وفي نبذ العهد بقوله
351

في الأنفال فانبذ إليهم وقال ابن حجر: لأن الأنفال بينت ما وقع له صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة،
وبراءة بينت ما وقع له ما منافقي أهل المدينة. والحاصل أن هذا مما ظهر لي في أمر الاقتران بينهما.
(فظننت أنها) أي التوبة (منها) أي الأنفال (فمن هناك) أي لما ذكر من عدم تبييته ووجوه ما
ظهر لنا من المناسبة بينهما (وضعتهما في السبع الطول ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم)
أي لعدم العلم بأنها سورة مستقلة لأن البسملة كانت تنزل عليه صلى الله عليه وسلم للفصل ولم تنزل ولم أكتب
وهذا لا ينافي ما ذكر عن علي رضي الله عنه من الحكمة في عدم نزول البسملة وهو أن ابن عباس
سأل عليا رضي الله عنه لم لم تكتب؟ قال: لأن بسم الله أمان وليس فيها أمان أنزلت بالسيف،
وكانت العرب تكتبها أول مراسلاتهم غير في الصلح والأمان والهدنة، فإذا نبذوا العهد ونقضوا الأيمان
لم يكتبوها ونزل القران على هذا الاصطلاح، فصارت علامة الأمان وعدمها علامة نقضه، فهذا
معنى قوله أمان، وقولهم اية رحمة وعدمها عذاب. قال الطيبي: دل هذا الكلام على أنهما نزلتا
منزلة سورة واحدة وكمل السبع الطول بها، ثم قيل السبع الطول هي البقرة وبراءة وما بينهما وهو
المشهور، لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس أنها البقرة والأعراف وما بينهما. قال
الراوي: وذكر السابعة فنسيتها وهو يحتمل أن تكون الفاتحة فإنها من السبع المثاني أو هي السبع
المثاني ونزلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها أو بانضمام ما بعدها إليها.
وصح عن ابن جبير أنها يونس وجاء مثله عن ابن عباس ولعل وجهه أن الأنفال وما بعدها مختلف
في كونها من المثاني وأن كلا منهما سورة أو هما سورة كذا في المرقاة. وقد استدل على أن البسملة من
القران بأنها مثبتة في أوائل السور بخط المصحف فتكون من القران في الفاتحة، ولو لم يكن كذلك
لما أثبتوها بخط القران. قال المنذري: وأخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من
حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث
ويقال هو يزيد بن هرمز وهذا الذي حكاه الترمذي هو الذي قاله عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن
حنبل وذكر غيرهما أنهما اثنان، أن الفارسي غير ابن هرمز وأن ابن هرمز ثقة والفارسي لا بأس به
انتهى. (حدثني ابن عباس بمعناه) أي بمعنى الحديث المذكور (قال فيه) أي قال مروان في حديثه
(فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي توفي (ولم يبين لنا أنها) أي التوبة (منها) أي من الأنفال أو ليست منها
352

(لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل) لأن البسملة فيها جزؤها. وفيه دليل
لمن قال: إن البسملة في أوائل السور إنما هي للفصل. قال المنذري: وهذا مرسل.
واعلم أن الأمة أجمعت: أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها بخلاف
ما لو نفي حرفا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد، فإنه يكفر بالاجماع، ولا خلاف أنها آية في
أثناء سورة النمل، ولا خلاف في إثباتها خطأ في أوائل السور في المصحف إلا في أول سورة التوبة.
وأما التلاوة فلا خلاف بين القراء السبعة في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة إذا ابتدأ بها
القارئ ما خلا سورة التوبة، وأما في أوائل السور مع الوصل بسورة قبلها فأثبتها ابن كثير وقالون
وعاصم والكسائي من القراء في أول كل سورة، إلا أول سورة التوبة، وحذفها منهم أبو عمرو
وحمزة وورش وابن عامر. كذا في النيل.
(لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) الحديث أخرجه الحاكم
وصححه على شرطهما وقد رواه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير وقال المراسل أصح. وقال
الذهبي في تلخيص المستدرك بعد أن ذكر الحديث عن ابن عباس: أما هذا فثابت. وقال
الهيثمي: رواه البزار بإسنادين رجالا أحدهما رجال الصحيح. والحديث استدل به القائلون بأن
البسملة من القران. ويبتني على أن مجرد تنزيل البسملة تستلزم قرآنيتها. قاله الشوكاني.
والاستدلال بهذا الحديث وكذا بكل حديث يدل على أن البسملة من القران على الجهر بها في
الصلاة ليس بصحيح. قال الحافظ ابن سيد الناس اليعمري: لأن جماعة ممن يرى الجهر بها
لا يعتقدونها قرانا، بل هي من السنن عندهم كالتعود والتأمين، وجماعة ممن يرى الإسرار بها
يعتقدونها قرآنا. ولهذا قال النووي: إن مسألة الجهر ليست مرتبة على إثبات مسألة البسملة.
وكذلك احتجاج من احتج بأحاديث عدم قراءتها على أنها ليست باية لما عرفت.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج الهداية: ومن حجج من أثبت الجهر أن أحاديثه جاءت من
353

طرق كثيرة وتركه عن أنس وابن مغفل فقط والترجيح بالكثرة ثابت وبأن أحاديث الجهر شهادة على
إثبات وتركه شهادة على نفي والإثبات مقدم، وبأن الذي روي عنه ترك الجهر قد روي عنه الجهر،
بل روي عن أنس إنكار ذلك. كما أخرج أحمد والدارقطني من طريق سعيد بن يزيد أبي مسلمة
قال: قلت لأنس أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم أو الحمد لله رب العالمين؟
قال: إنك تسألني عن شئ ما حفظته ولا سألني عنه أحد قبلك وأجيب عن الأول بأن الترجيح
بالكثرة إنما يقع بعد صحة السند ولا يصح في الجهر شئ مرفوع كما نقل عن الدارقطني وإنما يصح
عن بعض الصحابة موقوف، وعن الثاني بأنها وإن كانت بصورة النفي لكنها بمعنى الاثبات،
وقولهم إنه لم يسمعه لبعده بعيد مع طول صحبته، وعن الثالث بأن من سمع منه في حال حفظه
أولى ممن أخذه عنه في حال نسيانه، وقد صح عن أنس أنه سئل عن شئ فقال: سلوا الحسن فإنه
يحفظ ونسيت. وقال الحازمي: الأحاديث في اخفاء نصوص لا تحتمل التأويل، وأيضا فلا
يعارضها غيرها لثبوتها وصحتها، وأحاديث الجهر لا توازيها في الصحة بلا ريب. ثم إن أصح
أحاديث ترك الجهر حديث أنس وقد اختلف عليه في لفظه فأصح الروايات عنه كانوا يفتتحون
القراءة بالحمد لله رب العالمين، كذا قال أكثر أصحاب شعبة عنه قتادة عن أنس، وكذا رواه
أكثر أصحاب قتادة عنه وعلى هذا اللفظ اتفق الشيخان وجاء عنه لم أسمع أحدا منهم يجهر
بالبسملة، ورواة هذه أقل من رواة تلك. وانفرد بها مسلم وجاء عنه حديث همام وجرير بن حازم
عن قتادة (سئل أنس كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كانت مدا يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم) أخرجه البخاري. وجاء عنه من رواية أبي مسلمة الحديث المذكور قيل إنه سئل بما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح، ثم قال الحازمي: والحق أن هذا من الاختلاف المباح، ولا ناسخ في ذلك ولا
منسوخ والله أعلم. انتهى.
وذكر ابن القيم في الهدى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها
أكثر مما جهر بها، ولا ريب أنه لم يكن يجهر بها دائما في كل يوم وليلة خمس مرات أبدا حضرا
وسفرا ويخفي ذلك على خلفائه الراشدين وعلى الجمهور أصحابه وأهل بلده في الأعصار الفاضلة،
هذا من أمحل المحال حتى يحتاج إلى التشبث فيه بألفاظ مجملة وأحاديث واهية. فصحيح تلك
الأحاديث غير صريح وصريحها غير صحيح انتهى. وقال في السبل: وأطال الجدال بين العلماء
من الطوائف لاختلاف المذاهب، والأقرب أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها تارة جهرا وتارة يخفيها. انتهى.
354

(باب تخفيف الصلاة للأمر يحدث)
(إني لأقوم إلى الصلاة) وفي رواية للبخاري (إني لأقوم في الصلاة) وفي أخرى له عن أنس
(إني لأدخل في الصلاة) (وأنا أريد أن أطول فيها) فيه أن من قصد في الصلاة الإتيان بشئ
مستحب لا يجب عليه الوفاء به خلافا للأشهب حيث ذهب إلى أن من نوى التطوع قائما ليس له
ان يتمه جالسا (فأسمع بكاء الصبي) استدل به على جواز إدخال الصبيان المساجد وفيه نظر
لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفا في بيت بقرب من المسجد بحيث يسمع بكاؤه، وعلى جواز
صلاة النساء في الجماعة مع الرجال (فأتجوز) زاد البخاري (في صلاتي) قال في المرقاة أي أختصر
وأترخص بما تجوز به الصلاة من الاقتصار وترك تطويل القراءة والأذكار، قال الطيبي أي أخفف
كأنه تجاوز ما قصده أي ما قصد فعله لولا بكاء الصبي. قال ومعنى التجوز أنه قطع قراءة السورة
وأسرع في أفعاله انتهى. والأظهر أنه شرع في سورة قصيرة بعد ما أراد أن يقرأ سورة طويلة
فالحاصل أنه حاز بين الفضيلتين وهما قصد الإطالة والشفقة والرحمة وترك الملالة ولذا ورد (نية
المؤمن خير من عمله) انتهى.
قلت: حديث (نية المؤمن خير من عمله) قال ابن دحية لا يصح، وقال البيهقي إسناده
ضعيف. كذا في الفوائد المجموعة (كراهية) بالنصب للعلية (أن أشق على أمه) في محل الجر لأنه
أضيف إليه كراهية، يقال شق عليه أي ثقل أو حمله من الأمر الشديد ما يشق ويشتد عليه، والمعنى
كراهية وقوع المشقة عليها من بكاء الصبي. والحديث يدل على مشروعية الرفق بالمأمومين ومراعاة
مصالحهم ودفع ما يشق عليهم وإيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث. قال الإمام الخطابي في المعالم:
فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعا ليدرك
فضيلة الركعة في الجماعة لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة انسان في بعض أمور
الدنيا كان له أن يزيد فيها لعبادة الله تعالى بل هو أحق بذلك وأولى. وقد كرهه بعض العلماء
وشدد فيه بعضهم وقال: أخاف أن يكون شركا، وهو قول محمد بن الحسن. انتهى.
355

قلت: تعقبه القرطبي بأن في التطويل هنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف
التخفيف فإنه مطلوب انتهى. وفي هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل، وأطلق النووي
عن المذهب استحباب ذلك. وفي التجريد للمحالمي الذي نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي
ومالك وأبو حنيفة وأبو يوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركا. ذكره الحافظ في
فتح الباري.
تم - بحمده تعالى - الجزء الثاني
ويليه الجزء الثالث
وأوله
باب ما جاء في نقصان الصلاة.
356