الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: ١٣
الوفاة: ٨٥٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

((باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أذن إنسان لإنسان آخر. قوله: (شيئا) أي: في شيء، فلما حذف حرف الجر تعدى الفعل فنصب، كما في قوله تعالى: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا) * (الأعراف: 551). أي: من قومه. قوله: (جاز) جواب إذا.
5542 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن جبلة كنا بالمدينة في بعض أهل العراق فأصابتنا سنة فكان ابن الزبير يرزقنا التمر فكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يمر بنا فيقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه). وجبلة، بالجيم والباء الموحدة واللام المفتوحات: ابن سحيم، بضم السين المهملة وفتح الحاء المهملة: الشيباني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأطعمة عن آدم وفي الشركة عن أبي الوليد. وأخرجه مسلم في الأطعمة عن محمد بن المثنى وعن عبيد الله بن معاذ وعن بندار وعن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى أيضا. وأخرجه أبو داود فيه عن واصل بن عبد الأعلى. وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي في الوليمة عن علي بن خشرم وعن محمد بن عبد الأعلى وعن عبد الحميد بن محمد. وأخرجه ابن ماجة في الأطعمة عن بندار وروى أحمد من حديث الحسن عن سعد مولى أبي بكر، قال: قدمت بين يدي النبي، صلى الله عليه وسلم، تمرا فجعلوا يقرنون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقرنوا)، ورواه ابن ماجة أيضا عن سعد مولى أبي بكر، ولفظه: (وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ويعجبه خدمته، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران)، يعني في التمر، وروى البزار في (مسنده) من حديث الشعبي عن أبي هريرة، قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم تمرا بين أصحابه، فكان بعضهم يقرن، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن إلا بإذن صاحبه)، ورواه الحاكم في (المستدرك) بلفظ: (كنت في الصفة فبعث إلينا النبي صلى الله عليه وسلم تمر عجوة، فسكبت بيننا، فكنا نقرن الثنتين من الجوع، فكنا إذا قرن أحدنا لأصحابه: إني قد قرنت فأقرنوا). وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وروى الطبراني في (الكبير) من حديث أبي طلحة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران.
ذكر معناه: قوله: (في بعض أهل العراق)، وعند الترمذي: في بعث أهل العراق. قوله: (سنة)، أي: غلاء وجدب. قوله: (فكان ابن الزبير)، أي: عبد الله بن الزبير بن العوام. قوله: (نهى عن الإقران)، بكسر الهمزة من الثلاثي المزيد فيه، قال ابن التين: كذا وقع في البخاري رباعيا، والمعروف خلافه، والذي في اللغة ثلاثي، وقال القرطبي: كذا لجميع رواة مسلم: (الإقران)
2

وليست معروفة، والصواب: القران. ثلاثي. وقال الفراء: لا يقال: أقرن، وقال غيره: إنما يقال: أقرن على الشيء إذا قوي عليه وأطاقه، ومنه قوله تعالى: * (وما كنا له مقرنين) * (الزخرف: 35). أي: مطيقين، وفي (الصحاح): أقرن الدم العرق واستقرن أي: كثر، فيحتمل أن يكون الإقران في هذا الحديث على ذلك، ويكون معناه النهي عن الإكثار من أكل التمر إذا كان مع غيره، ويرجع معناه إلى القران المذكور في الرواية الأخرى، ونقل المنذري عن أبي محمد المعافري أنه: يقال: قرن بين الشيئين وأقرن: إذا جمع بينهما. قوله: (ألا أن يستأذن الرجل منكم أخاه)، قال الخطيب: هذا من قول ابن عمر وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، بين ذلك آدم بن أبي إياس وشبابة بن سوار عن شعبة، وقال عاصم بن علي: أرى الإذن من قول ابن عمر، قيل: يرد على هذا ما أخرجه البخاري بعد من حديث جبلة بن سحيم: سمعت ابن عمر يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه). قلت: احتمال الإدراج باق فيه أيضا، فليتأمل.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: النهي عن الإقران. قال أبو موسى المديني في كتابه (المغيث): للنهي عن القران وجهان: الأول: ذهبت عائشة وجابر، رضي الله تعالى عنهما، إلى أنه قبيح، وفيه شره وهلع وهو يزري بصاحبه. الثاني: كان التمر من جهة ابن الزبير وكان ملكهم فيه سواء، فيصير الذي يقرن أكثر أكلا من غيره، فأما إذا كان التمر ملكا له فله أن يأكل كما شاء، كما روي أن سالما كان يأكل التمر كفا كفا، وقيل: إذا كان الطعام بحيث يكون شبعا للجميع كان مباحا له لو أكله، وجاز له أن يأكل كما شاء. وقال القرطبي: وحمل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم مطلقا. قال: وهو منهم ذهول عن مساق الحديث ومعناه. وحمله جمهور الفقهاء على حالة المشاركة بدليل مساق الحديث. وقال النووي: واختلفوا في أن هذا النهي على التحريم أو على الكراهة والأدب؟ والصواب: التفصيل كما سبق.
واختلف العلماء فيما يملك من الطعام حين وضعه، فإن قلنا: إنهم يملكونه بوضعه بين أيديهم فيحرم أن يأكل أحد أكثر من الآخر، وإن قلنا: إنما يملك كل واحد منهم ما رفع إلى فيه فهو سوء أدب وشره ودناءة، ويكون مكروها. وقال ابن التين: وحمله بعضهم على ما إذا استوت أثمانهم فيه مثل أن يتخارجوا في ثمنه أو يهبه لهم رجل أو يوصى لهم به، وأما إن أطعمهم هو، فروى ابن نافع عن مالك: لا بأس به، وفي رواية ابن وهب: ليس بجميل أن يأكل تمرتين أو ثلاثا في لقمة دونهم. فإن قلت: روى البزار والطبراني في (الأوسط) من رواية يزيد بن زريع عن عطاء الخراساني عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن الإقران في التمر، فإن الله قد وسع عليكم فأقرنوا) قلت: هذا الحديث رواه ابن شاهين أيضا في كتابه (الناسخ والمنسوخ)، ثم قال: الحديث الذي فيه النهي عن الإقران صحيح الإسناد، والذي فيه الإباحة ليس بذاك القوي، لأن في سنده اضطرابا، وإن صح فيحمل على أنه ناسخ للنهي. وقال الحازمي: وذكر الحديثين: إسناد الأول أصح وأشهر من الثاني، غير أن الخطب في هذا الباب يسير، لأنه ليس من باب العبادات والتكاليف، وإنما هو من قبيل المصالح الدنياوية فيكفي في ذلك
الحديث الثاني، ثم يشيده إجماع الأمة على خلاف ذلك. وقيل: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، إنما نهى عن ذلك حيث كان العيش زهيدا والقوت متعذرا مراعاة لجانب الفقراء والضعفاء والمساكين، وحثا على الإيثار والمواساة ورغبة في تعاطي أسباب المعدلة حالة الاجتماع والاشتراك، فلما وسع الله الخير وعم العيش الغني، والفقير، قال: فشأنكم إذا.
6542 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي مسعود أن رجلا من الأنصار يقال له أبو شعيب كان له غلام لحام فقال له أبو شعيب اصنع لي طعام خمسة لعلي أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة وأبصر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم الجوع فدعاه فتبعهم رجل لم يدع فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هاذا قد اتبعنا أتأذن له قال نعم.
مطابقته للترجمة في قوله: (أتأذن له؟ قال: نعم) فإن معنى الترجمة يشمل ذلك. وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي
3

وأبو عوانة، بفتح العين المهملة: الوضاح بن عبد الله اليشكري، والأعمش سليمان، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو مسعود عقبة بن عمرو.
والحديث مضى في كتاب البيوع في: باب ما قيل في اللحام والجزار، فإنه أخرجه هناك: عن عمر بن حفص عن أبيه عن الأعمش... إلى آخره، ومر الكلام فيه هناك.
قوله: (وأبصر)، جملة ماضية وقعت حالا. قوله: (قد اتبعنا)، كذا هو في رواية أبي الحسن، وفي رواية أبي ذر: تبعنا. وقال الداودي: معنى اتبعنا سار معنا، وتبعهم لحقهم. وقال ابن فارس: تبعت فلانا إذا تلوته، واتبعته إذا لحقته، وبنحوه ذكره الجوهري: تبعت القوم إذا تلوتهم، واتبعتهم إذا سرت معهم. وقال الأخفش: تبع وأتبع سواء، وقال ابن التين: والصواب أن يقرأ: اتبعنا، بتشديد التاء على باب افتعل من تبع، فمعناه مثل معنى تبع، وضبط الداودي هنا لظنه أن الهمزة همزة قطع، فقال: معنى اتبعنا سار معنا، وتبعهم أي اتبعهم.
51
((باب قول الله تعالاى * (وهو ألد الخصام) * (البقرة: 402).))
أي: هذا باب ما جاء في الحديث ما يوافق لفظ القرآن، ومعناه في قوله تعالى: * (وهو ألد الخصام) * (البقرة: 402). وتمام هذا هو قوله تعالى: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) * (البقرة: 402). وقال السدي: هذه الآية وثلاث آيات بعدها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك، وعن ابن عباس: أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله ذم المنافقين ومدح خبيبا وأصحابه. وقيل: بل ذلك عام في المنافقين كلهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد، وهو الصحيح. وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب، قال: إني لا أجد صفة ناس من هذه الأمة، في كتاب الله المنزل قوم يحتالون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون لباس مسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب، فعلي يجرأون؟ وفي يفترون؟ حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران. قال القرطبي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون. قوله: (ويشهد الله على ما في قلبه)، أي: يظهر للناس الإسلام ويبارز الله تعالى بما في قلبه من الكفر والنفاق، هذا ما روي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقيل: معناه إنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيح. قوله: * (وهو ألد الخصام) * (البقرة: 402). الألد في اللغة هو الأعوج: * (وتنذر به قوما لدا) * (مريم: 79). أي: عوجا، وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر. ويقال: الألد هو شديد الجدال، والإضافة فيه بمعنى: في، كقولهم: ثبت الغدر أو جعل الخصام ألد على المبالغة، وفي (الجامع): واللدد مصدر الألد، ورجل ألد إذا اشتد في الخصومة، والأنثى لداء، واللدد الجدال أخذ من: لديد الوادي أي: جانبه، كأنه إذا منع من جانب جاء من جانب آخر، وفي تفسير عبد الرحمن عن ابن عباس: ألد الخصام، أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك. وعن الحسن: كاذب القول، وعن مجاهد: ظالم لا يستقيم، وعن قتادة شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل. وقال ابن سيده: لددت لددا صرت ألد، ولددته ألده إذا خصمته. وقيل: مأخوذ من اللديدين وهما صفحتا العنق، والمعنى: من أي جانب أخذ في الخصومة قوي، والخصام جمع: الخصم، كصعب وصعاب، قاله الزجاج. وقيل: هو مصدر خاصمته.
7542 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أبغض الرجال إلاى الله الألعد الخصم.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، واسم أبي مليكة زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيا لعبد الله بن الزبير.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأحكام عن مسدد، وفي التفسير عن قبيصة. وأخرجه مسلم في القدر عن أبي بكر بن
4

أبي شيبة. وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي فيه وفي القضاء عن إسحاق بن إبراهيم.
قوله: (الخصم)، بفتح الخاء وكسر الصاد: المولع بالخصومة الماهر فيها. قال الله تعالى: * (بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 85). وقال الكرماني: فإن قلت: الأبغض هو الكافر. قلت: اللام للعهد عن الأخنس، بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون وبالمهملة: ابن شريق، بفتح الشين المعجمة وكسر الراء:
الذي نزل فيه الآية، وهو منافق، أو هو تغليظ في الزجر أو المراد الألد في الباطل المستحل له.
61
((باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه))
أي: هذا باب في بيان إثم من خاصم في أمر باطل، والحال أنه يعمله، أي: يعلم أنه باطل.
8542 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب أم سلمة أخبرته أن أمها سلمة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فإنما هي قطعة من النار).
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى الأويسي. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. الثالث: صالح بن كيسان مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز. الرابع: محمد، بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: زينب بنت أم سلمة وهي بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند البخاري. السابع: أمها أم سلمة واسمها: هند بنت أبي أمية.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن التابعي، وهم: صالح على قول من قال: رأى عبد الله بن عمر والزهري وعروة. وفيه: رواية الصحابية عن الصحابية، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الأحكام عن أبي اليمان وفي الشهادات والأحكام أيضا عن القعنبي عن مالك وفي ترك الحيل عن محمد بن كثير. وأخرجه مسلم في القضاء عن يحيى بن يحيى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن أبي كريب وعن عمرو الناقد وعن حرملة بن يحيى وعن عبد بن حميد. وأخرجه أبو داود في الأحكام مختصرا عن هارون بن إسحاق، ولم يذكره المزي في (الأطراف) فكأنه غفل عنه.
ذكر معناه: قوله: (إنما أنا بشر) أي: لا أعلم الغيب وبواطن الأمور، كما هو مقتضى حال البشرية، وأنه إنما يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، ولو شاء الله لأطلعه على باطن الأمور حتى يحكم باليقين، لكن أمر الله أمته بالاقتداء به، فأجرى أحكامه على الظاهر لتطيب نفوسهم للانقياد. قوله: (أبلغ من بعض)، أي: أفصح ببيان حجته، وقال الزجاج: بلغ الرجل يبلغ بلاغة وهو بليغ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقال غيره: البلاغة إيصال المعنى إلى القلب، في أحسن صورة من اللفظ، وقيل: الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، وذكر ابن رشيق في (العمدة) ومن خطه، فيما قيل: البلاغة قليل يفهم وكثير لا يسأم، وقال آخر: إجاعة اللفظ وإشباع المعنى. وقال آخر: البليغ أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة. وقال خلف
5

الأحمر: البلاغة لمحة دالة، وقال الخليل: البلاغة كلمة تكشف عن البغية، وقيل: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطأ، وقيل: البلاغة معرفة الوصل والفصل، وقيل: أن يدل أول الكلام على آخره وآخره على أوله، وفي حديث أبي هريرة، رواه ابن أبي شيبة: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قطعت له من حق أخيه قطعة، فإنما أقطع له قطعة من النار). واللحن، بالتحريك. قال الخطابي: الفطنة، وقد لحن، بالكسر يلحن لحنا بسكون الحاء: الخطأ في الإعراب. قوله: (فأحسب) بالنصب عطف على قوله: أن يكون أبلغ، وأدخل: أن تشبيها للعل بعسى. قوله: (فمن قضيت) أي: حكمت له بحق مسلم، إنما ذكر مسلما تغليبا أو اهتماما بحاله أو نظرا، إلى لفظ بعضكم، فإنه خطاب للمؤمنين. قوله: (قطعة من النار)، أي: هو حرام مآله النار. قوله: (فليأخذها)، أمر تهديد لا تخيير، كقوله تعالى: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 92). وكقوله: * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت: 04)
[/ ح.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دلالة على الحكم بالظاهر تشريفا للأمة، وهو كقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلاه إلا الله)، وقوله في حديث المتلاعنين: (لولا الإيمان لكان لي ولها شأن)، وقال القرطبي: وقد روي في هذا إنما أحكم بما أسمع، وإنما للحصر، فكأنه قال: لا أحكم إلا بما أسمع، وقد اختلف في هذا فقال مالك، في المشهور عنه: أن الحاكم لا يحكم بعلمه في شيء، وبه قال أحمد وإسحاق: وأبو عبيد والشعبي، وروى عن شريح. وذهبت طائفة إلى: أنه يقضي بعلمه في كل شيء من الأموال والحدود. وبه قال أبو ثور، وهو أحد قولي الشافعي. وذهبت طائفة إلى التفريق، فمنهم من قال: يقضي بعلمه بما سمعه في مجلس قضائه خاصة لا قبله ولا في غيره، إذا لم يحضر مجلسه بينة في الأموال بعلمه خاصة، وهو قول الأوزاعي وجماعة من أصحاب مالك، وحكوه عنه أيضا. ومنهم من قال: يحكم بما سمعه في مجلس قضائه وفي غيره، لا قبل قضائه ولا في غير مصره، في الأموال خاصة، سواء سمع ذلك في مجلس قضائه أو في غيره لا قبل ولايته أو بعدها، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو أحد قولي الشافعي. قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يقضي بعلمه في الأموال والقذف خاصة، ولم يشترط مجلس القضاء. واتفقوا على أنه يحكم بعلمه في الجرح والتعديل، لأن ذلك ضروري في حقه، وقال المهلب: دل الحديث على أن القوي على البيان البليغ في تأدية الحجة يبلغ بالباطل
ما يقضي له على خصمه، وليس ذلك مما يحل له ما حرم الله عليه، وهو معنى قوله تعالى: * (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس) * (البقرة: 881). وفيه: دلالة أن البينة مسموعة بعد اليمين، وهو الذي فهمه البخاري وبوب له بعد: باب من أقام البينة بعد اليمين. وفيه: دلالة على حكمه، صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد. قال عياض: وهو قول المحققين، قاله الخطابي. وفيه: دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبا، وأن إثم الخطأ مرفوع عنه إذا اجتهد. وفيه: العمل بالظن، قال: فأحسب أنه صدق، وهو أمر لم يختلف فيه في حق الحاكم، وقال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن كل ما يقضي به الحاكم من تمليك مال وإزالة ملك أو إثبات نكاح أو طلاق أو ما أشبه ذلك على ما حكم، وإن كان في الباطن على خلاف ما شهد به الشاهدان، وعلى خلاف ما حكم بشهادتهما على الحكم الظاهر، لم يكن قضاء القاضي موجبا شيئا من تمليك ولا تحليل ولا تحريم، وممن قال ذلك: أبو يوسف، وخالفهم آخرون فقالوا: ما كان ذلك من تمليك مال فهو على حكم الباطن، وما كان من ذلك من قضاء بطلاق أو نكاح بشهود ظاهرهم العدالة وباطنهم الجرحة، فحكم الحاكم بشهادتهم على ظاهرهم، فإنه ينفذ ظاهرا وباطنا، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، رحمهما الله.
71
((باب إذا خاصم فجر))
أي: هذا باب يذكر فيه: (إثم من إذا خاصم فجر)، من الفجور، وهو الكذب والفسوق والعصيان، وأصل الفجر: الشق والفتح، يقال فجر الماء إذا شقه، ومنه: فجر الصبح، وكأن الفاجر يفتح معصية ويتسع فيها.
9542 حدثنا بشر بن خالد قال أخبرنا محمد عن شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أربع من كن فيه كان
6

منافقا أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر.
(انظر الحديث 43 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (وإذا خاصم فجر). و (بشر) بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة ابن خالد أبو محمد العسكري، شيخ مسلم أيضا، ومحمد هو ابن جعفر، وصرح به في بعض النسخ، وسليمان هو الأعمش. والحديث مضى في كتاب الإيمان في: باب علامات المنافق، فإنه أخرجه هناك: عن قبيصة بن عقبة عن سفيان عن الأعمش... إلى آخره، ومر الكلام فيه، وذكر هناك موضع: إذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، وذلك لأن المتروك في الموضعين داخل تحت المذكور منهما.
81
((باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه))
أي: هذا باب في بيان حكم قصاص المظلوم الذي أخذ منه المال إذا وجد يعني: إذا ظهر بمال الذي ظلمه، وجواب، إذا محذوف تقديره: هل يأخذ منه بقدر حقه؟ يعني: يأخذ. واكتفى بذكر أثر ابن سيرين عن ذكر الجواب، واستمرت عادته على هذا الوجه وهي مسألة الظفر، وفيها خلاف وتفصيل، فقال ابن بطال: اختلف العلماء في الذي يجحد وديعة غيره، ثم إن المودع يجد له مالا، هل يأخذه عوضا من حقه؟ فروى ابن القاسم عن مالك: أنه لا يفعل، وروى عنه: أن له أن يأخذ حقه إذا وجده من ماله إذا لم يكن فيه شيء من الزيادة، وهو قول الشافعي، وقال النووي: من له حق على رجل وهو عاجز عن استيفائه يجوز له أن يأخذ من ماله قدر حقه من غير إذنه، وهذا مذهبنا، ومنع من ذلك أبو حنيفة ومالك، وقال ابن بطال: وروى ابن وهب عن مالك: أنه إذا كان على الجاحد للمال دين فليس له أن يأخذ إلا مقدار ما يكون فيه أسوة الغرماء، وعن أبي حنيفة: يأخذ من الذهب الذهب ومن الفضة الفضة ومن المكيل المكيل ومن الموزون الموزون، ولا يأخذ غير ذلك، وقال زفر: له أن يأخذ العرض بالقيمة. انتهى. قلت: مذهبنا أنه إذا بخس حقه فله أن يأخذه وإلا فلا.
وقال ابن سيرين يقاصه وقرأ * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 621).
أي: قال محمد بن سيرين إذا وجد مال ظالمه يقاصه، بالتشديد، وأصله: يقاصصه، أراد: يأخذ مثل ماله، وهذا التعليق وصله عبد الله بن حميد في تفسيره من طريق خالد الحذاء عنه بلفظ: أن أخذ أحد منك شيئا فخذ مثله. قوله: (وقرأ)، إشارة إلى أنه احتج فيما ذهب إليه بقوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 621). يعني: لا يزيد ولا ينقص.
0642 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة فقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا فقال لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف.
.
مطابقته للترجمة من حيث إذن النبي صلى الله عليه وسلم لهند بالأخذ من مال زوجها. قال ابن بطال: فهذا يدل على جواز أخذ صاحب الحق من مال من لو يوفه أو جحده قدر حقه، وإسناد هذا الحديث على هذا النسق بعينه قد مر غير مرة. وأبو اليمان الحكم بن نافع، وهند بنت عتبة، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق: ابن ربيعة أم معاوية، أسلمت يوم الفتح وماتت في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، وزوجها أبو سفيان اسمه: صخر بن حرب بن أمية والد معاوية.
قوله: (مسيك)، بفتح الميم وتخفيف السين على وزن: فعيل، بفتح الفاء، ويروى بكسر الميم وتشديد السين على وزن فعيل بالكسر والتشديد، وهو صيغة مبالغة: كسكين وخمير، معناه: بخيل شديد المسك بما في يديه، وقال عياض: في رواية كثير من أهل الإتقان بالفتح والتخفيف، وقيده بعضهم بالوجهين، وقال ابن الأثير: في كتب الحديث الفتح والتخفيف، والمشهور عند المحدثين الكسر والتشديد. قوله: (حرج)، أي: إثم. قوله: (أن تطعميهم)، كلمة: أن مصدرية، تقديره: لا حرج عليك بإطعامك إياهم بالمعروف، أي: بقدر ما يتعارف أن يأكل العيال، وهذا الحديث يشتمل على أحكام، وهي النفقة للأولاد وأنها مقدرة بالكفاية لا بالإمداد.
7

وجواز سماع كلام الأجنبية وذكر الإنسان بما يكره عند الحاجة، وأن للمرأة مدخلا في كفالة أولادها، وجواز خروج المرأة من بيتها لقضاء حاجتها، وقد استدل به من يرى بجواز الحكم على الغائب. قلت: هذا استدلال فاسد من وجهين: أحدهما: أنه كان فتوى لا حكما. والآخر: أن أبا سفيان كان حاضرا في البلد.
1642 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثني يزيد عن أبي الخير عن عقبة ابن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فيه فقال لنا إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فأقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف.
(الحديث 1642 طرفه في: 7316).
مطابقته للترجمة تؤخذ بالتكلف من قوله: (فخذوا منهم حق الضيف) فإنه أثبت فيه حقا للضيف، ولصاحب الحق أخذ حقه ممن يتعين في جهته، وفيه معنى قصاص المظلوم.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويزيد من الزيادة هو ابن أبي حبيب. وأبو الخير ضد الشر واسمه مرثد، بالثاء المثلثة: ابن عبد الله اليزني، وهؤلاء كلهم مصريون ما خلا شيخه فإنه تنيسي، ولكن أصله من دمشق وعد من المصريين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن قتيبة. وأخرجه مسلم في المغازي عن قتيبة ومحمد بن رمح. وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن قتيبة. وأخرجه الترمذي في السير عن قتيبة، وقال: حسن، وأخرجه ابن ماجة في الأدب عن محمد بن رمح.
ذكر معناه: قوله: (لا يقرونا)، بفتح الياء وسكون القاف وإسقاط نون الجمع، كذا هو في رواية الأصيلي وكريمة، وفي رواية غيرهما لا يقروننا، على الأصل، لأن نون جمع المذكر لا يسقط إلا في مواضع معروفة، وأصله من قريب الضيف قرى، مثل قليته قلى. وقراء إذا أحسنت إليه، فإذا كسرت القاف قصرت، وإذا فتحتها مددت. وقال الكرماني: لا يقروننا، بالتشديد والتخفيف أي: لا يضيفونا. قوله: (فخذوا منهم)، وفي رواية الكشميني: فخذوا منه، أي: من مالهم، وفي رواية الترمذي عن أبي الخير عن عقبة بن عامر، قال: قلت: يا رسول الله، إنا نمر بقوم فلا هم يضيفونا ولا هم يؤدون ما لنا عليهم من الحق، ولا نحن نأخذ منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبوا إلا أن تأخذوا منهم كرها فخذوا). ثم قال: وقد روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يأمر بنحو هذا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن ظاهر الحديث وجوب قرى الضيف، وأن المنزول عليه لو امتنع من الضيافة أخذت منه كرها، وإليه ذهب الليث مطلقا، وخصه أحمد بأهل البوادي دون القرى، ومما استدل به على ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبي كريمة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين، فإن شاء اقتضى وإن شاء ترك، وأبو كريمة هو المقدام بن معدي كرب، وصرح به الطحاوي في روايته عنه، وروى الطحاوي أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما، فله أن يأخذه، بقدر قراه، ولا حرج عليه). وقال الجمهور: الضيافة سنة وليست بواجبة، وقد كانت واجبة فنسخ وجوبها، قاله الطحاوي، واستدل على ذلك بحديث المقداد ابن الأسود، قال: جئت أنا وصاحب لي حتى كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجوع، فجعلنا نتعرض للناس فلم يضفنا أحد، وفي رواية مسلم: فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا... الحديث بطوله، قال الطحاوي: أفلا يرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضيفوهم، وقد بلغت بهم الحاجة، ثم لم يعنفهم رسول الله على ذلك؟ فدل على نسخ ما كان أوجب على الناس من الضيافة، ثم روى من حديث عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا ولا جادا، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه). وأخرجه أبو داود والترمذي أيضا، وقيل: الحديث محمول على المضطرين. ثم اختلفوا: هل يلزم المضطر العوض أو لا؟ فقيل: يلزم، وقيل: لا، وقيل: كان هذا في أول الإسلام، فكانت المواساة واجبة، فلما فتحت الفتوح نسخ ذلك، ويدل عليه قوله في حديث أبي شريح عند مسلم في حق
8

الضيف: وجائزته يوم وليلة، والجائزة تفضل لا واجبة، وقيل: هذا كان مخصوصا بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات من جهة الإمام، فكان على المبعوث إليهم إنزالهم في مقابلة عملهم الذي يتولونه، لأنه لا قيام لهم إلا بذلك، حكاه الخطابي، قال: وكان هذا في ذلك الزمان إذ لم يكن للمسلمين بيت مال، فأما اليوم فأرزاق العمال من بيت المال. قال: وإلى نحو هذا ذهب أبو يوسف في الضيافة على أهل نجران خاصة، وقيل: كان هذا خاصا بأهل الذمة، وقد شرط عمر، رضي الله تعالى عنه، حين ضرب الجزية على نصارى الشام ضيافة من نزل بهم، وقال ابن التين: نسخه قوله تعالى: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 881). قال: وقيل: كان ذلك في أهل العمود والمواطن التي لا أسواق فيها.
91
((باب ما جاء في السقائف))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في السقائف، وهو جمع سقيفة، على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، وهي المكان المظلل كالساباط والحوانيت بجانب الدار، وكان مراده من وضع هذه الترجمة الإشارة إلى أن الجلوس في الأمكنة العامة جائز، وأن اتخاذ صاحب الدار ساباطا أو مستظلا جائز إذا لم يضر المارة. وقال ابن التين: لما كان لأهل المواضع أن يرتفقوا بسقائفهم وأفنيتهم جاز الجلوس فيها. وقال ابن بطال: السقائف والحواني قد علم الناس لم وضعت، ومن اتخذ فيها مجلسا فذلك مباح له إذا التزم ما في ذلك من: غض البصر، ورد السلام، وهداية الضال، وجميع شروطه.
وجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سقيفة بني ساعدة
هذا قطعة من حديث طويل رواه البخاري من طريق سهل بن سعد في الأشربة على ما يأتي، إن شاء الله تعالى، وسقيفة بني ساعدة كانوا يجتمعون فيها، وكانت مشتركة بينهم، وجلس النبي، صلى الله عليه وسلم، معهم فيها، وفيها وقعت المبايعة بخلافة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وبنو ساعدة في الأنصار في الخزرج، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج، قال ابن دريد: ساعدة اسم من أسماء الأسد.
2642 حدثنا يحياى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال حدثني مالك ح وأخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس أخبره عن عمر رضي الله تعالى عنهم قال حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم إن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة فقلت لأبي بكر انطلق بنا فجئناهم في سقيفة بني ساعدة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، قيل: ليس لإدخال هذا الباب في كتاب المظالم وجه، قلت: قال الكرماني: الغرض بيان أن الجلوس في السقيفة التي للعامة ليس ظلما، وفيه ما فيه. و يحيى بن سليمان أبو سعيد الجعفي الكوفي نزيل مصر، وهو من أفراده، و ابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، و يونس هو ابن يزيد الأيلي، و ابن شهاب هو الزهري.
قوله: (وأخبرني) أي: قال ابن وهب ويونس أيضا: أخبرني به، وهذا تحويل من إسناد إلى إسناد آخر، وكان ابن وهب حريصا على التفرقة بين التحديث والإخبار مراعاة للاصطلاح، ويقال: إنه أول من اصطلح على ذلك بمصر، والحديث مختصر من قصة بيعة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في الهجرة، وفي كتاب الحدود بطوله، إن شاء الله تعالى.
02
((باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يمنع جار... إلى آخره. قوله: (خشبة)، بالإفراد والتنوين في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره خشبا بصيغة الجمع، ورأيت صاحب (التلويح) قد ضبط بيده: خشبا، بضم الخاء وسكون الشين. قلت: تجمع الخشبة على خشب بفتحتين وخشب بضم الخاء وسكون الشين وخشب بضمتين وخشبان، وروى الطحاوي عن جماعة من المشايخ أنهم رووه في الحديث بالإفراد، وأنكر ذلك عبد الغني بن سعيد، فقال: الناس كلهم يقولون بالجمع إلا الطحاوي.
9

قلت: إنكار عبد الغني ليس بموجه، لأن الطحاوي ما انفرد به، وإنما رواه عن المشايخ فكيف يقول: الناس كلهم؟ وقال أبو عمر: قد روي اللفظان يعني: الإفراد والجمع. في (الموطأ)، والإفراد أحسن لأن أمره أخف في مسامحة الجار، بخلاف الجمع، لأنه أشق عليه بالنسبة إلى الواحد.
3642 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ثم يقول أبو هريرة مالي أراكم معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم.
مطابقته للترجمة من حيث إنهما سواء، ورجاله قد ذكروا غير مرة، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز، والحديث أخرجه مسلم في البيوع عن يحيى بن يحيى وعن زهير بن حرب وعن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى وعن عبد بن حميد. وأخرجه أبو داود في القضاء عن مسدد ومحمد بن أحمد بن أبي خلف. وأخرجه الترمذي في الأحكام عن سعيد بن عبد الرحمن. وأخرجه ابن ماجة عن هشام بن عمار ومحمد بن الصباح.
ذكر معناه: قوله: (عن مالك عن ابن شهاب) كذا في (الموطأ) وقال خالد بن مخلد: عن مالك عن أبي الزناد، بدل: ابن شهاب. وقال بشر بن عمر: عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة، بدل: الأعرج، ووافقه هشام بن يوسف عن مالك ومعمر عن الزهري ورواه الدارقطني في (الغرائب)، وقال: المحفوظ عن مالك الأول، وقال في (العلل): رواه هشام الدستوائي: عن معمر عن الزهري عن سعيد ب المسيب، بدل: الأعرج، وكذا قال عقيل: عن الزهري، وقال ابن أبي حفصة: عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن، بدل: الأعرج. والمحفوظ: عن الزهري عن الأعرج، وبذلك جزم ابن عبد البر أيضا، ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون عند الزهري عن الجميع. قوله: (لا يمنع) بالجزم على أن كلمة: لا، ناهية، وفي رواية أبي ذر بالرفع، على أن: لا، نافية خبر بمعنى النهي، وفي رواية أحمد: لا يمنعن، بزيادة نون التأكيد، وفي رواية ابن ماجة: (لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره). قوله: (أن يغرز)، أي: بأن يغرز، وكلمة: أن، مصدرية أي: بغرز خشبة في جدار جاره. قوله: (ثم يقول أبو هريرة)، وفي رواية أبي داود: عن ابن عيينة عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه، فنكسوا، فقال أبو هريرة: ما لي أراكم قد أعرضتم، لألقينها بين أكتافكم. وفي رواية أحمد: فلما حدثهم أبو هريرة بذلك طأطأوا رؤوسهم. قوله: (عنها)، أي: عن هذه المقالة، أو عن هذه السنة. قوله: (لأرمين بها)، وفي
رواية: لأرمينها. وفي رواية أبي داود: لألقينها، كما مرت الآن. قوله: (بين أكتافكم)، قال ابن عبد البر: رويناه في (الموطأ) بالتاء المثناة وبالنون، يعني: بالوجهين: بأكتافكم، جمع كتف بالتاء، وبأكنافكم، بالنون: جمع كنف، وهو الجانب، قال الخطابي: معناه إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلنها أي: الخشبة على رقابكم كارهين، وأراد بذلك المبالغة، ووقع ذلك من أبي هريرة حين كان يلي إمرة المدينة لمروان، ووقع في رواية عند ابن عبد البر من وجه آخر: لأرمين بها بين أعينكم وإن كرهتم.
ذكر ما يستفاد منه: اختلف العلماء في معنى هذا الحديث، فقال قوم: معناه الندب إلى بر الجار وليس على الوجوب، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وروى ابن عبد الحكم عن مالك، قال: ليس يقضي على رجل أن يغرز خشبة في جدار جاره، وإنما نرى أن ذلك كان من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الوصاءة بالجار. قال: وأكثر علماء السلف أن ذلك على الندب، وحملوه على معنى قوله، صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)، وقد مر في حديث أبي داود: إذا استأذن أحدكم أخاه، وقيد بعضهم الوجوب بالاستئذان، وقال قوم: هو واجب إذا لم يكن في ذلك مضرة على صاحب الجدار، وبه قال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور وجماعة من أصحاب الحديث، وهو مذهب عمر بن الخطاب، وروى الشافعي عن مالك بسند صحيح: أن الضحاك بن خليفة سأل محمد بن مسلمة أن
10

يسوق خليجا له فيمر به في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع، فكلمه عمر، رضي الله تعالى عنه، في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه. وقال بعضهم: وقد قوى الشافعي في القديم القول بالوجوب بأن عمر، رضي الله تعالى عنه، قضى به ولم يخالفه أحد من أهل عصره، وكان اتفاقا منهم على ذلك. انتهى. قلت: هذا مجرد دعوى يحتاج إلى إقامة دليل، وعن الشافعي في الجديد قولان: أشهرهما: اشتراط إذن المالك، فإن امتنع لم يجبر، وهو قول أصحابنا، وحملوا الأمر فيما جاء من الحديث على الندب والنهي على التنزيه جمعا بينه وبين الأحاديث الدالة على تحريم مال المسلم إلا برضاه، وهو كقوله، صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل، عليه الصلاة والسلام، يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، وكقوله: ما آمن من بات شبعان وجاره طاو، وقيل: إن الهاء في: جداره، يرجع إلى الغارز، لأن الجدار إذا كان بين اثنين وهو لأحدهما فأراد صاحبه أن يضع عليه الجذوع ويبني، ربما منعه جاره لئلا يشرف عليه، فأخبر الشارع أنه لا يمنعه ذلك، وقال ابن التين: عورض هذا بأنه إحداث قول ثالث في معنى الخبر، وذلك ممنوع عند أكثر الأصوليين، ولا يسلم له، والله أعلم.
12
((باب صب الخمر في الطريق))
أي: هذا باب في بيان صب الخمر في طريق الناس، هل ينبغي ذلك أم لا؟ فقيل: لا يمنع من ذلك، لأنه للإعلان برفضها، وليشتهر تركها، وذلك أنه أرجح في المصلحة من التأذي بصبها في الطريق، وإليه أشار المهلب، وقيل: يمنع من ذلك، فقال ابن التين: هذا الذي في الحديث كان في أول الإسلام قبل أن ترتب الأشياء وتنظف، فأما الآن فلا ينبغي صب النجاسات في الطرق خوفا أن يؤذي المسلمين، وقد منع سحنون أن يصب الماء من بئر وقعت فيه فأرة في الطريق. قوله: (في الطريق)، ويروى: في الطرق.
4642 حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى قال أخبرنا عفان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة وكان خمرهم يومئذ الفضيخ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت قال فقال لي أبو طلحة اخرج فأهرقها فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة فقال بعض القوم قد قتل قوم وهي في بطونهم فأنزل الله * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) * (المائدة: 39).
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فهرقتها فجرت في سكك المدينة)، ومحمد بن عبد الرحيم أبو يحيى هو المعروف بصاعقة، وهو من أفراده، وعفان هو ابن مسلم الصفار، وروى عنه البخاري في الجنائز بدون الواسطة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن أبي النعمان عن حماد، وفي الأشربة عن إسماعيل بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الأشربة عن أبي الربيع الزهراني عنه به. وأخرجه أبو داود فيه عن سليمان بن حرب عنه نحوه.
ذكر معناه: قوله: (كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة)، وأبو طلحة زوج أم أنس، واسمه: زيد بن سهل الأنصاري، شهد العقبة وبدرا وأحدا وسائر المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد النقباء، وعاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة، ومات بالشام، قاله أبو زرعة الدمشقي. وعن أنس: أنه غزا البحر فمات فيه، فما وجدوا جزيرة فدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، وفي القوم كان أبو عبيدة وأبي بن كعب، على ما يأتي في رواية البخاري في الأشربة، وفي رواية لمسلم: إني لقائم أسقيها أبا طلحة، وأبا أيوب ورجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية له: إني لقائم على الحي على عمومتي أسقيهم، وفي رواية له: كنت أسقي أبا طلحة وأبا دجانة ومعاذ بن جبل في رهط من الأنصار، وفي رواية له: إني لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء من مزادة. قوله: (وكان خمرهم يومئذ الفضيخ)، أصل الخمر من المخامرة، وهي المخالطة،
11

سميت بها لمخالطتها العقل، ومن التخمير وهو التغطية، سميت بها لتغطيتها العقل، يذكر ويؤنث، وجزم ابن التين بالتأنيث، وقال ابن سيده: هي ما أسكر من عصير العنب، والأعرف فيها التأنيث، وقد يذكر، والجمع: خمور. وقال ابن المسيب، فيما حكا النحاس في (ناسخه) سميت بذلك لأنها صعد صفوها ورسب كدرها، وقال
ابن الأعرابي: لأنها تركت فاختمرت، واختمارها تغير ريحها، وجعلها أبو حنيفة الدينوري من الحبوب، وأظنه تسمحا منه، لأن حقيقة الخمر إنما هي للعنب دون سائر الأشياء، وعند أبي حنيفة الإمام: الخمر هي النيء من ماء العنب إذا غلا واشتد، ولها عدة أسماء نحو المائتين، ذكرناها في (شرحنا لمعاني الآثار) والفضيخ، بفاء مفتوحة وضاد وخاء معجمتين: شراب يتخذ من البسر من غير أن تمسه النار، وقال ابن سيده: هو شراب يتخذ من البسر المفضوخ، يعني: المشدوخ. وفي (مجمع الغرائب): ويروى عن ابن عمر أنه قال: ليس بالفضيخ، ولكنه الفضوخ. وقال أبو حنيفة عن الأعراب: هو ما اعتصر من العنب اعتصارا، فهو الفضيخ، وكذلك فضيخ البسر. وقال الداودي: يهشم البسر ويجعل معه الماء، وقاله الليث أيضا. قوله: (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي)، وفي رواية: فأتاهم آت، يعني: أن الآتي أخبرهم بالنداء، والنداء عن الأمر يتنزل في العمل به منزلة سماع. قوله: (فأهرقها) الهاء فيه زائدة وأصله: أراقها من الإراقة، وهي الإسالة والصب، ويقال: أراق وهراق. قوله: (في سكك المدينة) أي: في طرقها، جمع: سكة بالكسر. قوله: (فأنزل الله تعالى * (ليس على الذين آمنوا...) * (المائدة: 39). الآية. وقال الإمام أحمد: حدثنا الأسود بن عامر أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما حرمت الخمر قال أناس: يا رسول الله! أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) * (المائدة: 39). قال: ولما حولت القبلة، قال أناس: يا رسول الله! أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 341). وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب، قال: لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنزلت * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا...) * (المائدة: 39). الآية، ورواه الترمذي عن بندار عن غندر عن شعبة نحوه، وقال: حسن صحيح.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: تحريم الخمر، وذكر ابن سعد وغيره أن تحريم الخمر كان في السنة الثانية بعد غزوة أحد. وفيه: قبول خبر الواحد. وفيه: حرمة إمساكها، ونقل النووي اتفاق الجمهور عليه. وفيه: قول من قال: قتل قوم وهي في بطونهم، صدر عن غلبة خوف وشفقة، أو عن غفلة عن المعنى، لأن الخمر كانت مباحة أولا، ومن فعل ما أبيح له لم يكن له ولا عليه شيء، لأن المباح مستوى الطرفين بالنسبة إلى الشرع. وفيه: فجرت في سكك المدينة، واستدل به ابن حزم على طهارة الخمر، لأن الصحابة كان أكثرهم يمشي حافيا، فما يصيب قدمه لا ينجس به. قلت: هذه جراءة عظيمة، لأن القرآن أخبر بنجاستها.
22
((باب أفنية الدور والجلوس فيها على الصعدات))
أي: هذا باب في بيان حكم الجلوس في أفنية الدور، والأفنية جمع: فناء، بكسر الفاء وبالنون والمد: وهو ما امتد من جوانب الدار. وفي (المغرب): وهو سعة أمام البيوت. وقال ابن ولاد: الفناء حريم الدار. قوله: (والجلوس على الصعدات)، أي: وبيان حكم الجلوس على الصعدات، وهي بضمتين: الطرقات، وهو جمع: صعيد، مثل: طريق يجمع على طرقات، وقيل: الصعدات جمع صعد بضمتين، والصعد جمع صعيد، فيكون الصعدات جمع الجمع، كطرق فإنه جمع طريق ويجمع على طرقات. وقال ابن الأثير: وقيل: هي جمع صعدة كظلمة، وهي فناء باب الدار وممر الناس بين يديه.
وقالت عائشة فابتنى أبو بكر مسجدا بفناء داره يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة
ذكر هذا التعليق دليلا على جواز التصرف من صاحب الدار في فناء داره، وهو أيضا يوضح الحكم الذي أبهمه في الترجمة، ووصله في كتاب الصلاة في: باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر للناس فيه، عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت... الحديث، وفيه: ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا
12

بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه... الحديث. وأخرجه أيضا في الهجرة بهذا الإسناد بعينه مطولا.
وفيه: ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فتتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون وينظرون إليه، ويروى: فينقذف عليه، ومر هذا أيضا في الكفالة في: باب جوار أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه: فيتقصف عليه نساء المشركين، ومعناه: يزدحمون عليه، وأصله من القصف، وهو: الكسر والدفع الشديد لفرط الزحام، وهذا كما رأيت هنا أربع روايات. الأولى: فتقف عليه نساء المشركين، مر في: باب المسجد على الطريق. والثانية: هنا: فيتقصف. والثالثة: في الهجرة: فيتقذف، بالذال المعجمة بدل الصاد من القذف، وهو الرمي بقوة والمعنى: يرمون أنفسهم عليه ويتزاحمون. والرابعة: فينقذف من القذف أيضا. ولكن الفرق بينهما أن: يتقذف، على وزن: يتفعل، من باب التفعل، وينقذف على وزن: ينفعل، من باب الانفعال. وقال ابن الأثير: وفي حديث الهجرة: فيتقذف عليه نساء المشركين، وفي رواية: فينقذف، والمعروف: فيتقصف. قلت: وقد قيل رواية أخرى، وهي: يتصفف من الصف، أي: يصطفون عليه ويقفون صفا صفا. قوله: (يعجبون)، جملة حالية، وكذلك قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة).
5642 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إياكم والجلوس على الطرقات فقالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها قالوا ما حق الطريق قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
(الحديث 5642 طرفه في: 9226).
مطابقته للترجمة في قوله: (إياكم والجلوس على الطرقات) فإن قلت: الترجمة على الصعدات؟ قلت: الصعدات هي الطرقات كما ذكرنا، ولا فرق بينهما في المعنى، وعند أبي داود بلفظ: الطرقات. ورجاله قد ذكروا.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الاستئذان عن عبد الله بن محمد. وأخرجه مسلم فيه وفي اللباس عن سويد بن سعيد عن يحيى بن يحيى وعن محمد بن رافع. وأخرجه أبو داود في الأدب عن القعنبي عن الدراوردي به.
قوله: (إياكم والجلوس)، بالنصب على التحذير، أي: اتقوا الجلوس واتركوه على الطرقات. قوله: (ما لنا بد) أي: ما لنا غنى عنه. قوله: (هي) أي: الطرقات. قوله: (فإذا أبيتم)، من: الإباء فإذا امتنعتم عن الجلوس إلا في المجالس، وهذا هكذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: فإذا أتيتم إلى المجالس، من الإتيان، وبكلمة: إلى، التي للغاية. قوله: (قال: غض البصر) أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: حق الطريق غض البصر، وأراد به السلامة من التعرض للفتنة لمن يمء من النساء وغيرهم قوله (وكف الأذى) بالرفع عطف على ما قبله وأراد به السلامة من التعرض إلى أحد بالقول والفعل مما ليس فيهما من الخير. قوله: (ورد السلام)، يعني: على الذي يسلم عليه من المارين. قوله: (وأمر بمعروف)، وهو كل أمر جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات ونهى عنه من المقبحات، والمنكر ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، وزاد عند أبي داود: وإرشاد السبيل وتشميت العاطس إذا حمد، ومن حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، عند الطبراني: وإغاثة الملهوف، زيادة على ما ذكر. قالوا: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات لئلا يضعف الجالس على الشروط التي ذكرها، وقال القرطبي: فهم العلماء أن هذا المنع ليس على جهة التحريم، وإنما هو من باب سد الذرائع والإرشاد إلى الصلح. قال: وفي رواية: وحسن الكلام من رد الجواب، قال: يريد أن من جلس على الطريق فقد تعرض لكلام الناس، فليحسن لهم كلامه ويصلح شأنه. وروى هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال: المجالس حلق الشيطان إن يروا حقا لا يقومون به، وإن يروا باطلا فلا يدفعونه. وقال عامر: كان الناس يجلسون في مساجدهم: فلما قتل عثمان، رضي الله تعالى عنه، خرجوا إلى الطريق يسألون عن الإخبار. وقال طلحة
13

ابن عبيد الله: مجلس الرجل ببابه مروءة. وقال ابن أبي خالد: رأيت الشعبي جالسا في الطريق.
وفيه: الدلالة على الندب إلى لزوم المنازل التي يسلم لازمها من رؤية ما تكره رؤيته، وسماع ما لا يحل له سماعه، وما يجب عليه إنكاره، ومن إغاثة مستغيث تلزمه إغاثته، وذلك أنه، صلى الله عليه وسلم، إنما أذن في الجلوس بالأفنية، والطرق بعد نهيه عنه إذا كان من يقوم بالمعاني التي ذكرها، وإذا كان كذلك فالأسواق التي تجمع المعاني التي أمر الشارع الجالس بالطرق باجتنابها، مع الأمور التي هي أوجب منها، وألزم من ترك الكذب والحلف بالباطل وتحسين السلع بما ليس فيها، وغش المسلمين وغير ذلك من المعاني التي لا يطيق الكلام بما يلزمه منها إلا من عصمه الله، أحق وأولى بترك الجلوس منها في الأفنية والطرق.
32
((باب الآبار على الطرق إذا لم يتأذ بها))
أي: هذا باب في بيان حكم الآبار التي حفرت على الطريق إذا لم يتأذ بها، وهو على صيغة المجهول يعني: إذا لم يحصل منها أذى لأحد من المارين، والحكم لم يفهم من الترجمة ظاهرا، لكن من حديث الباب يفهم الحكم، وهو الجواز، لأن فيه منفعة للخلق والبهائم، غير أنه مقيد بشرط أن لا يكون في حفرها أذى لأحد، والآبار جمع: بئر، كالأجمال جمع حمل، وهو جمع القلة، والكثرة بئار، وذكرت في شرحي: أن البئر يجمع في القلة على أبؤر وآبار، بهمزة بعد الباء، ومن العرب من يقلب الهمزة ألفا فيقول: آبار، فإذا كثرت فهي: البئار، وقد بأرت بئرا، وقال أبو زيد: بأرت أبأر بأرا.
6642 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هاذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا فقال في كل ذات كبد رطبة أجر.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه مشتمل على ذكر بئر في طريق، ولم يحصل منه إلا منفعة لآدمي وحيوان، وقد مر الحديث في كتاب الشرب في: باب فضل سقي الماء، فإنه أخرجه هناك بهذا الإسناد بعينه غير شيخه، فإنه رواه هناك: عن عبد الله بن ييوسف عن مالك، وهنا أخرجه: عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، ومر الكلام فيه مستوفى. وقال المهلب: هذا يدل على أن حفر الآبار بحيث يجوز للحافر حفرها من أرض مباحة أو مملوكة له جائز، ولم يمنع ذلك لما فيه من البركة، وتلافي العطشان، ولذلك لم يكن ضامنا، لأنه قد يجوز مع الانتفاع بها إن يستضربها بساقط بليل، أو تقع فيها ماشية، لكنه لما كان ذلك نادرا، وكانت المنفعة أكثر، فغلب عليه حال الانتفاع على حال الاستضرار، فكان جبارا لا دية لمن هلك فيها.
42
((باب إماطة الأذى))
أي: هذا باب في بيان أجر إماطة الأذى، أي: إزالته عن المسلمين. قال أبو عبيد عن الكسائي: مطت عنه الأذى وأمطته: نحيته، وكذلك: مطت غيري وأمطيته، وأنكر الأصمعي ذلك، وقال: مطت أنا وأمطت غيري، ومادته: ميم وياء وطاء.
وقال همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يميط الأذاى عن الطريق صدقة
14

همام، على وزن فعال بالتشديد: هو ابن منبه، أخو وهب بن منبه، وهذا التعليق وصله البخاري في الجهاد في: باب من أخذ بالركاب، بلفظ: وتميط الأذى عن الطريق صدقة. قوله: (تميط)، تقديره: أن تميط، وإن، مصدرية، أي: إماطتك الأذى عن الطريق صدقة كما تقدر، كذا في قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي: أن تسمع، أي: سماعك، وقيل: هذا من قول أبي هريرة، وقال ابن بطال: هذا القول ليس من أبي هريرة، لأن الفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما تؤخذ توقيفا من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقد أسند مالك معناه من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بينما رجل يمشي إذا وجد غصن شوك على الطريق، فأخرجه فشكر الله له فغفر له، يأتي هذا الحديث عن قريب، إن شاء الله تعالى. فإن قلت: كيف تكون إماطة الأذى عن الطريق صدقة؟ قلت: معنى الصدقة إيصال النفع إلى المتصدق عليه، والذي أماط الأذى عن الطريق قد تصدق عليه بالسلامة، فكان له أجر الصدقة.
52
((باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها))
أي: هذا باب في بيان جواز استعمال الغرفة، بضم الغين المعجمة وسكون الراء وفتح الفاء. قال الجوهري: الغرفة العلية والجمع: غرفات وغرفات وغرفات وغرف. قوله: (والعلية)، بكسر العين المهملة وضمها وكسر اللام المشددة وبالياء آخر الحروف المشددة، وهي الغرفة على تفسير الجوهري، لأنه فسر الغرفة بالعلية في: باب الغرف، ثم فسر العلية بالغرفة في: باب علا، ثم قال: والجمع العلالي: وقال: وهي فعيلة مثل مزيفة وأصلها: عليوة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت وهي من: علوات، وقال بعضهم: هي العلية، بالكسر على فعيلة، وبعضهم يجعلها من المضاعف ووزنها: فعلية، قال: وليس في الكلام فعلية. انتهى كلامه. واعترض عليه في قوله: وبعضهم يجعلها من المضاعف ووزنها فعلية، بأنه لا يصح، لأن العلية: من: (ع ل و)، وليست من: (ع ل ل)، وقوله: ليس في الكلام فعلية سهو، لأنه قد ذكر: مزيفة، وإذا كان كذلك يكون عطف العلية على الغرفة عطفا تفسيريا. قوله: (المشرفة)، بضم الميم وسكون الشين المعجمة: من الإشراف على الشيء، وهو الاطلاع عليه. قوله: (في السطوح)، أي: سواء كانت العلية المشرفة على مكان أو غير المشرفة كائنة على سطح، أو منفردة قائمة مرتفعة من غير أن تكون على سطح، فيفهم من كلامه أنها على أربعة أقسام: الأول: علية مشرفة على مكان على سطح. الثاني: مشرفة على مكان على غير سطح. الثالث: غير مشرفة على مكان على سطح. الرابع: غير مشرفة على مكان على غير سطح. وقال ابن بطال: الغرفة على السطوح مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد. قلت: الذي ذكره هي العلية على السطح غير المشرفة، فيفهم منه أنها إذا كانت مشرفة على مكان فهي غير مباحة، وكذلك إذا كانت على غير سطح، وكانت مشرفة، ولم أر أحدا من شراح البخاري حقق هذا الموضع.
7642 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة ثم قال هل ترون ما أراى إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر.
مطابقته للترجمة في قوله: (أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة)، لأن الأطم، بضمتين: بناء مرتفع، قاله ابن الأثير، وهو كالعلية المشرفة لأنها أيضا بناء مرتفع، غير أنه تارة تبنى على غير سطح، وقال غيره: الأطم، بضم الهمزة والطاء وسكونها والجمع: آطام، وهي: حصون لأهل المدينة، والواحدة: أطمة، مثل: أكمة، وقيل: الأطم: حصن مبني بالحجارة. وعبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي البخاري المعروف بالمسندي، وابن عيينة، بضم العين وفتح الياء آخر الحروف الأولى وسكون الثانية وبالنون المفتوحة: هو سفيان بن عيينة، وقد مضى هذا الحديث في أواخر كتاب الحج في: باب آطام المدينة، فإنه أخرجه هناك: عن علي بن عبد الله عن سفيان... إلى آخره، ومر الكلام فيه هناك. قوله: (مواقع)، منصوب بدل: عما أرى، وهذا إخبار بكثرة الفتن في المدينة، وقد وقع كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
15

8642 حدثنا يحياى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لم أزل حريصا على أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما إن تتوبا إلاى الله فقد صغت قلوبكما. فحججت معه فعدل وعدلت معه بالإداوة فتبرز حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرآتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال لهما إن تتوبا إلاى الله فقال واعجبي لك يا ابن عباس عائشة وحفصة ثم استقبل عمر الحديث يسوقه فقال إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل هو يوما وأنزل يوما فإذا نزلت جئته من خبر ذالك اليوم من الأمر وغيره وإذا نزل فعل مثله وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار فصحت على امرأتي فراجعتني فأنكرت أن تراجعني فقالت ولم تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فأفزعني فقلت خابت من فعل منهن بعظيم ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت أي حفصة أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل فقالت نعم فقلت خابت وخسرت أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكين لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تراجعيه في شيء ولا تهجريه واسأليني ما بدا لك ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال أنا نائم هو ففزعت فخرجت إليه وقال حدث أمر عظيم قلت ما هو أجاءت غسان قال لا بل أعظم منه وأطول طلق رسول الله صلى الله
عليه وسلم نساءه قال قد خابت حفصة وخسرت كنت أظن أن هاذا يوشك أن يكون فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل مشربة له فاعتزل فيها فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي قلت ما يبكيك أو لم أكن حذرتك أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لا أدري هو ذا في المشربة فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد فجئت المشربة التي هو فيها فقلت لغلام له أسود استأذن لعمر فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال ذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت فذكر مثله فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت استأذن لعمر فذكر مثله فلما
16

وليت منصرفا فإذا الغلام يدعوني قال أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكيء على وسادة من أدم حشوها ليف فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم طلقت نساءك فرفع بصره إلي فقال لا ثم قلت وأنا قائم أستأنس يا رسول الله لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم فذكره فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت لو رأيتني ودخلت على حفصة فقلت لا يغرنك إن كانت جارتك هي أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد عائشة فتبسم أخرى فجلست حين رأيته تبسم ثم رفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة فقلت ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله وكان متكئا فقال أوفي شك أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت يا رسول الله استغفر لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة وكان قد قال ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون قالت عائشة فأنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة فقال إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك ثم قال إن الله قال: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * إلى قوله * (عظيما) * (الأحزاب: 82، 92) قلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فدخل مشربة له)، لأن المشربة هي الغرفة، قاله ابن الأثير وغيره، وقد ذكرها في الترجمة باسمها الآخر، وهي: الغرفة، وهي بفتح الميم وضم الراء وفتحها، والمشربة بفتح الميم وفتح الراء: الموضع الذي يشرب منه، كالمشرعة، والمشربة بكسر الميم: آلة الشرب.
وعقيل، بضم العين، وعبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابن وتكبير الأب، وأبو ثور، بالثاء المثلثة المفتوحة، وقال الحافظ الدمياطي، قال الخطيب في (تكملته): لا أعلم أحدا روى عن عبيد الله هذا إلا الزهري، ولا أعلمه حدث عن غير ابن عباس. قلت: خرج أبو داود وابن ماجة حديث محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس في طواف النبي، صلى الله عليه وسلم، عام الفتح على البعير، وقد مضى بعض هذا الحديث في كتاب العلم في: باب التناوب في العلم، عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري، وذكرنا هناك تعدد موضعه ومن أخرجه غيره.
ذكر معناه: قوله: (فعدل)، أي: عن الطريق. قوله: (بالأداواة)، بكسر الهمزة: وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطيحة ونحوها، ويجمع على: أداوي. قوله: (فتبرز) أصله: خرج إلى الفضاء لقضاء الحاجة. قوله: (واعجبي لك!!) بالألف في آخره، ويروى: واعجبا، بالتنوين نحو: يا رجلا، كأنه يندب على التعجب، وهو إما تعجب من جهله بذلك وهو كان مشهورا بينهم بعلم التفسير، وإما من حرصه على سؤاله عما ما لا يتنبه له إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا حكم فيه من القرآن.
17

وقال ابن مالك: وا، في: واعجبا، اسم فعل إذا نون عجبا بمعنى: أعجب، ومثله: وي، وجئ بعده بقوله: عجبا توكيدا، وإذا لم ينون فالأصل فيه: واعجبي، فأبدلت الياء ألفا، وفيه شاهد على استعمال: وا، في غير الندبة، كما هو رأي المبرد، وقال في (الكشاف): قاله تعجبا كأنه كره ما سأله عنه. قوله: (عائشة وحفصة)، أي: المرأتان اللتان قال الله تعالى: * (إن تتوبا إلى الله...) * (التحريم: 4) الآية، هما عائشة وحفصة. قوله: (يسوقه)، جملة حالية. قوله: (وجار لي من الأنصار)، جار مرفوع لأنه عطف على الضمير الذي في: كنت، على مذهب الكوفيين، وفي روايته في: باب التناوب في كتاب العلم: كنت أنا وجار لي هذا على مذهب البصريين، لأن عندهم لا يصح العطف بدون إظهار: أنا، حتى لا يلزم عطف الاسم على الفعل، والكوفيون لا يشترطون ذلك، وكلمة: من، في: من الأنصار، بيانية. والمراد من هذا الجار هو عتبان بن مالك بن عمرو العجلاني الأنصاري الخزرجي. قوله: (في بني أمية بن زيد)، في محل الجر على الوصفية، أي: الكائنين في بني أمية بن زيد، أو المستقرين. قوله: (وهي راجعة)، إلى أمكنة بني أمية. قوله: (من عوالي المدينة)، وهي القرى بقرب المدينة، وقال ابن الأثير: العوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة، والنسبة إليها: علوي، على غير قياس، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية. قوله: (فينزل يوما)، الفاء فيه تفسيرية تفسر التناوب المذكور. قوله: (من الأمر) أي: الوحي، إذ اللام للمعهود عندهم، أو الأوامر الشرعية. قوله: (وغيره)، أي: وغير الأمر من أخبار الدنيا. قوله: (معشر قريش)، أي: جمع قريش. قوله: (فطفق نساؤنا)، بكسر الفاء وفتحا، ومعنى: طفق في الفعل: أخذ فيه، وهو من أفعال المقاربة. قال الله تعالى: * (وطفقا يخصفان عليهن من ورق الجنة) * (الأعراف: 22 وطه: 121). أي: أخذا في ذلك. قوله: (فراجعتني)، أي: ردت علي الجواب. قوله: (حتى الليل) أي: إلى الليل. قوله: (بعظيم)، أي: بأمر عظيم. قوله: (ثم جمعت علي ثيابي) أي: لبستها. قوله: (أي حفصة) أي: يا حفصة. قوله: (ما بدا لك؟) أي: ما كان لك من الضرورات؟ قوله: (إن كانت جارتك) أي: بأن كانت، فإن مصدرية، أي: ولا يغرنك كون
جارتك أضوأ منك، أي أزهر وأحسن، ويروى: أوضأ من الوضاءة أي: من أجمل وأنظفحدثنا والمراد من الجار: الضرة، والمراد بها عائشة، رضي الله تعالى عنها، وفسر ذلك بقوله: يريد عائشة. قوله: (غسان)، على وزن: فعال، بالتشديد اسم ماء من جهة الشام نزل عليه قوم من الأزد، فنسبوا إليه منهم بنو جفنة رهط الملوك، ويقال: هو اسم قبيلة. قوله: (تنعل)، بضم التاء المثناة من فوق وسكون النون من: إنعال الدواب، وأصله: تنعل الدواب النعال، لأنه يتعدى إلى المفعولين، فحذف أحدهما، وإنما قلنا ذلك لأن النعال لا تنعل، ويروى: تنعل البغال، جمع: بغل، بالباء الموحدة والغين المعجمة. قوله: (عشاء)، نصب على الظرفية أي: في عشاء. قوله: (فضرب بابي)، فيه: حذف، وهو عطف عليه، أي: فسمع اعتزال الرسول صلى الله عليه وسلم عن زوجاته، فرجع إلى العوالي، فجاء إلى بابي فضرب، والفاء فيه تسمى بالفاء الفصيحة، لأنها تفصح عن المقدر، قوله: (أنائم هو؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (ففزعت) أي: فخفت، القائل هو عمر، الفاء فيه للتعليل، أي: لأجل الضرب الشديد، فزعت. قوله: (يوشك أن يكون)، أي: يقرب كونه، وهو من أفعال المقاربة، يقال: أوشك يوشك إيشاكا فهو موشك، وقد وشك وشكا ووشاكة. قوله: (مشربة له)، قد ذكرنا أن المشربة هي الغرفة الصغيرة، وكذا قال ابن فارس، وقال ابن قتيبة: هي كالصفة بين يدي الغرفة، وقال الداودي: هي الغرفة الصغيرة، وقال ابن بطال: المشربة الخزانة التي يكون فيها طعامه وشرابه، وقيل لها: مشربة، فيما أرى لأنهم كانوا يخزنون فيها شرابهم، كما قيل للمكان الذي تطلع عليه الشمس ويشرق فيه صاحبه: مشرقة. قوله: (لغلام له أسود)، قيل: اسمه رباح، بفتح الراء وتخفيف الباء الموحدة وبالحاء المهملة. قوله: (منصرفا)، نصب على الحال. قوله: (فإذا الغلام)، كلمة: إذا، للمفاجأة. قوله: (على رمال حصير)، بالإضافة. وقال الكرماني: الرمال، بضم الراء وخفة الميم: المرمول أي: المنسوج، قال أبو عبيد: رملت وأرملت أي: نسجت، وقال الخطابي: رمال الحصير ضلوعه المتداخلة بمنزلة الخيوط في الثوب المنسوج، وقال ابن الأثير: الرمال ما رمل أي: نسج، يقال: رمل الحصير وأرمله فهو مرمول ومرمل، ورملته شدد للتكثير، ويقال: الرمال جمع رمل بمعنى مرمول، كخلق الله بمعنى مخلوق، والمراد أنه كأن السرير قد نسج وجهه بالسعف، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. قوله: (متكئ)، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو
18

متكئ. قوله: (على وسادة)، بكسر الواو وهي: المخدة. قوله: (من أدم)، بفتحتين، وهو اسم لجمع أديم، وهو الجلد المدبوغ المصلح بالدباغ. قوله: (طلقت نساءك؟)، همزة الاستفهام فيه مقدرة، أي: أطلقت. قوله: (أستأنس) أي: أتبصر هل يعود رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الرضى، أو هل أقول قولا أطيب به وقته وأزيل منه غضبه. قوله: (غير أهبة)، بالفتحات جمع إهاب على غير القياس، والإهاب: الجلد الذي لم يدبغ، والقياس أن يجمع الإهاب على: أهب، بضمتين. قوله: (فليوسع)، هذه الفاء عطف على محذوف، لأنه لا يصلح أن يكون جوابا للأمر، لأن مقتضى الظاهر أن يقال أدع الله أن يوسع، وتقدير الكلام هكذا، وقوله: فليوسع عطف عليه للتأكيد. قوله: (أفي شك؟) يعني: هل أنت في شك؟ والمشكوك هو المذكور بعده، وهو تعجيل الطيبات. قوله: (استغفر لي)، طلب الاستغفار إنما كان عن جراءته على مثل هذا الكلام، في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن استعظامه التجملات الدنياوية. قوله: (فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم)، ابتداء كلام من عمر، رضي الله تعالى عنه، بعد فراغه من كلامه الأول، فلذلك عطفه بالفاء. قوله: (من أجل ذلك الحديث)، أي: اعتزاله إنما كان من أجل إفشاء ذلك الحديث، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي)، ففشت حفصة إلى عائشة فغضبت عائشة حتى حلف النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقربهن شهرا، وهو معنى قوله: (ما إنا بداخل عليهم شهرا). قوله: (من شدة موجدته)، أي: من شدة غضبه، والموجدة مصدر ميمي من وجد يجد وجدا وموجدة. قوله: (حين عاتبه الله تعالى)، ويروى: حتى عاتبه الله، وهذه هي الأظهر، وعاتبه الله تعالى بقوله: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك) * (التحريم: 1). قوله: (لتسع وعشرين ليلة)، باللام في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: بتسع، بالباء الموحدة. قوله: (الشهر تسع وعشرون)، أي الشهر الذي آليت به تسع وعشرون وأشار به إلى أنه كان ناقصا يوما قوله (وكان ذلك تسع وعشرون) ويروى: تسعا وعشرين، وجه الرواية الأولى: أن: كان فيها تامة فلا يحتاج إلى خبر، وتسع بالرفع يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: وجد ذلك الشهر وهو تسع وعشرون، ويجوز أن يكون بدلا من الشهر، وفي الرواية الثانية: أن: كان، ناقصة، وتسعا وعشرين خبرها. قوله: (فأنزلت آية التخيير)، وهي قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا) * إلى قوله: * (أجرا عظيما) * (الأحزاب: 82)
[/ ح.
اختلف العلماء: هل خيرهن في الطلاق أو بين الدنيا والآخرة؟ وهل اختيارها صريح أو كناية؟ وهل هو فرقة أم لا؟ وهل هو بالمجلس أو بالعرف؟ وقال القرطبي: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين: الأول: خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء. الثاني: خيرهن بين الدنيا فيفارقهن وبين الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق. ذكره الحسن وقتادة، ومن الصحابة علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، فيما رواه أحمد بن حنبل عنه، أنه قال: لم يخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة. وقالت عائشة: خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وبه قال مجاهد والشعبي ومقاتل.
واختلفوا في سببه، فقيل: لأن الله خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة، فاختار الآخرة على الدنيا، فلما اختار ذلك أمر الله بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله، وقيل: لأنهن تغايرن عليه، فآلى منهن شهرا، وقيل: لأنهن اجتمعن يوما فقلن: نريد ما يريد النساء من الحلي، حتى قال بعضهن: لو كنا عند غير النبي صلى الله عليه وسلم
إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي. وقيل: لأن الله تعالى صان خلوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فخيرهن على أن لا يتزوجن بعده، فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن. وقيل: لأن كل واحدة طلبت منه شيئا، وكان غير مستطيع، فطلبت أم سلمة معلما، وميمونة حلة يمانية، وزينب ثوبا مخططا وهو البرد اليماني، وأم حبيبة ثوبا سحوليا، وحفصة ثوبا من ثياب مصر، وجويرية معجرا وسودة قطيفة خيبرية، إلا عائشة فلم تطلب منه شيئا، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، خمس من قريش: عائشة، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي الحارث الهلالية. وأربع من غير قريش: صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. قوله: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * (الأحزاب: 82). قال المفسرون: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرهن وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه في الصلاة، فقالوا: ما شأنه؟ قال عمر، رضي الله تعالى عنه: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فجرى منه ما ذكر
19

في حديث الباب. وذكروا أيضا أن عمر، رضي الله تعالى عنه، تتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يكلمهن لكل واحدة بكلام، فقالت أم سلمة: يا ابن الخطاب! أو ما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه؟ من يسأل المرأة إلا زوجها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية بالتخيير، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبهن إليه، فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤى الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتابعتها بقية النسوة واخترن اختيارها، وقال قتادة: فلما اخترن الله ورسوله شكر لهن على ذلك وقصره عليهن فقال: * (لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج) * (الأحزاب: 25). قوله: * (فتعالين) * (الأحزاب: 82). أصل: تعال، أن يقول من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطىء ثم كثر حتى استقر استعماله في الأمكنة كلها، ومعنى تعالين: أقبلن، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن. قوله: * (وأسرحكن) * (الأحزاب: 82). يعني: الطلاق * (سراحا جميلا) * (الأحزاب: 82). من غير إضرار، طلاقا بالسنة، وقرئ بالرفع على الاستئناف. قوله: * (والدار الآخرة) * (الأحزاب: 82). يعني: الجنة. قوله: * (منكن) * (الأحزاب: 82). يعني: اللاتي آثرن الآخرة. * (أجرا عظيما) * (الأحزاب: 82). وهو الجنة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن المحدث قد يأتي بالحديث على وجهه ولا يختصر، لأنه قد كان يكتفي، حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما كان يخبره منه أنهما عائشة وحفصة، وفيه: موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها. وفيه: الحزن والبكاء لأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يكرهه والاهتمام بما يهمه. وفيه: الاستئذان والحجابة للناس كلهم، كان مع المستأذن عيال أو لم يكن. وفيه: الانصارف بغير صرف من المستأذن عليه، ومن هذا الحديث قال بعض العلماء: إن السكوت يحكم به، كما حكم عمر، رضي الله تعالى عنه، بسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صرفه إياه. وفيه: التكرير بالاستئذان. وفيه: أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف. وفيه: تقلله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وصبره على مضض ذلك، وكانت له عنه مندوحة. وفيه: أنه يسأل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته. وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم لعمر، رضي الله تعالى عنه: لا ردا لما أخبر به الأنصاري من طلاق نسائه، ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصاري، رضي الله تعالى عنه، ولا شكاه لعلمه أنه لم يقصد الإخبار بخلاف القصة، وإنما هو وهم جرى عليه. وفيه: الجلوس بين يدي السلطان وإن لم يأمر به إذات استؤنس منه إلى انبساط خلق. وفيه: أن أحدا لا يجوز أن يسخط حاله ولا ما قسم الله له ولا سابق قضائه، لأنه يخاف عليه ضعف يقينه. وفيه: أن التقلل من الدنيا لرفع طيباته إلى دار البقاء خير حال ممن يعجلها في الدنيا الفانية والعجل لها أقرب إلى السفه. وفيه: الاستغفار من السخط وقلة الرضى. وفيه: سؤال من الشارع الاستغفار، ولذلك يجب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء والاستغفار. وفيه: أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها، وعلى التحيل عليه بالأذى بالتوبيخ لها بالقول، كما وبخ الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم على تظاهرهما وإفشاء سره، وعاتبهن بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى: * (واهجروهن في المضاجع) * (النساء: 43). وفيه: أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما. وفيه: أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها أو ذوي الرأي من أهلها في أمر نفسها التي هي أحق بها من وليها، وهي في المال أولى بالمشاورة، لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كعائشة، رضي الله تعالى عنها. وفيه: دليل لجواز ذكر العمل الصالح، وهي في قول عبد الله بن عباس: فحججت معه، أي: مع عمر. وفيه: الاستعانة في الوضوء إذ هو الظاهر من قوله: فتوضأ، وقال ابن التين: ويحتمل الاستنجاء، وذلك أن يصب الماء في يده اليمنى ثم يرسله حيث شاء، وفيه: رد الخطاب إلى الجمع بعد الإفراد، وذلك في قوله: أفتأمن؟ أي: إحداكن، ثم قال: فتهلكن، على رواية: تهلكن، بضم الكاف وبالنون المشددة، قاله الداودي. وفيه: أن ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم إكراما لمن يضحك إليه. وقال جرير: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم. وفيه: التخيير، وقد استعمل السلف الاختيار بعده، فعند الشافعي أن المرأة إذا اختارت نفسها فواحدة، وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز، وذكر علي: أنها إذا اختارت نفسها فثلاث. وقال طاووس: نفس الاختيار لا يكون طلاقا حتى يوقعه، وقال الداودي: إن واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم اختارت نفسها، فبقيت إلى زمن عمر، رضي الله تعالى عنه، وكانت تأتي بالحطب بالمدينة فتبيعه، وأنها أرادت النكاح فمنعها عمر، فقالت: إن كنت من أمهات المؤمنين اضرب علي الحجاب، فقال لها: ولا كرامة. وقيل: إنها رعت
20

غنما. والذي في (الصحاح): أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.
وقال الإمام الرازي الجصاص الحنفي: اختلف السلف فيمن خير امرأته، فقال علي: إن اختارت زوجها فواحدة رجعية، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وعنه: وإن اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة. وقال زيد بن ثابت في: أمرك بيدك، إن اختارت نفسها فواحدة رجعية. وقال أبو حنيفة وصاحباه وزفر،
في الخيار: بائنة اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق، ولا يكون ثلاثا، وإن نوى. وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي: إن اختارت زوجها فلا شيء، وإن اختارت نفسها فواحدة. وقال مالك في الخيار: إنه ثلاث، إذا اختارت نفسها وإن طلقت نفسها بواحدة لم يقع شيء، وقال النووي: مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء: أن من خير زوجته فاختارت لم يكن ذلك طلاقا، ولا يقع به فرقة. وروي عن علي وزيد بن ثابت والحسن والليث: أن نفس التخيير يقع به طلقة بائنة، سواء اختارت زوجها أم لا، وحكاه الخطابي وغيره عن مذهب مالك، قال القاضي: لا يصح هذا عن مالك.
وفيه: جواز اليمين شهرا، أن لا يدخل على امرأته، ولا يكون بذلك موليا، لأنه ليس من الإيلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء ولا له حكمة، وأصل الإيلاء في اللغة: الحلف على الشيء يقال منه: آلى يولي إيلاء وتآلى تآليا، وايتلى إيتلاء: وصار في عرف الفقهاء مختصا بالحلف عن الامتناع عن وطء الزوجة، ولا خلاف في هذا إلا ما حكي عن ابن سيرين أنه قال: الإيلاء الشرعي محمول على ما يتعلق بالزوجة من ترك جماع أو كلام أو انفاق، وسيجئ مزيد الكلام في مسائل الإيلاء المصطلح عليه في بابه، إن شاء الله تعالى. وفيه: جواز دق الباب وضربه. وفيه: جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهن والتفتيش عن الأحوال، سيما عما يتعلق بالمزاوجة. وفيه: السؤال قائما. وفيه: التناوب في العلم والاشتغال به. وفيه: الحرص على طلب العلم. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل بمراسيل الصحابة. وفيه: أن الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، كان يخبر بعضهم بعضا بما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعلون ذلك كالمسند، إذ ليس في الصحابة من يكذب ولا غير ثقة، وفيه: أن شدة الوطأة على النساء غير واجبة، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، سار بسيرة الأنصار فيهن. وفيه: فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها.
9642 حدثنا ابن سلام قال حدثنا الفزاري عن حميد الطويل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا وكانت انفكت قدمه فجلس في علية له فجاء عمر فقال أطلقت نساءك قال لا ولاكني آليت منهن شهرا فمكث تسعا وعشرين ثم نزل فدخل على نسائه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فجلس في علية له)، وابن سلام هو محمد بن سلام، والفزاري، بفتح الفاء وتخفيف الزاي وبالراء: هو مروان بن معاوية، مر في الصلاة. قوله: (آلى)، أي: حلف، ولا يريد به الإيلاء الفقهي. قوله: (انفكت) أي: انفرجت، والفك انفراج المنكب أو القدم عن مفصله. قوله: (فجاء عمر، رضي الله تعالى عنه) يعني: إلى عليته. وفي الحديث الذي قبله، قال عمر: فجئت المشربة التي هو فيها، فقلت لغلام له أسود... الحديث.
62
((باب من عقل بعيره على البلاط أو باب المسجد))
أي: هذا باب في بيان من عقل بعيره، يعني: شد بعيره بالعقال على البلاطد، بفتح الباء الموحدة، وهو حجارة مفروشة عند باب المسجد. قوله: (وباب المسجد)، أي: أو على باب المسجد.
0742 حدثنا مسلم قال حدثنا أبو عقيل قال حدثنا أبو المتوكل الناجي قال أتيت جابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط فقلت هذا جملك فخرج فجعل يطيف بالجمل قال الثمن والجمل لك.
.
21

مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وعقلت الجمل في ناحية البلاط). قيل: هنا نظر من وجهين: أحدهما: أن المذكور في الترجمة على البلاط والمذكور في الحديث في ناحية البلاط وناحية الشيء غيره. والآخر: أن في الترجمة أو باب المسجد وليس في الحديث ذلك. قلت: يمكن الجواب عن الأول: بأن يكون المراد بناحية البلاط طرفها، وكان عقل الجمل بطرفها، ولا يتأتى إلا بالطرف. وعن الثاني: بأنه ألحق باب المسجد بما قبله في الحكم قياسا عليه، وقيل: أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه. قلت: هذا لا بأس به إن ثبت ما ادعاه من ذلك، ومع هذا فالموضع كله موضع تأمل.
ومسلم هو ابن إبراهيم، وأبو عقيل، بالفتح: هو بشير ضد النذير ابن عقبة، بضم العين المهملة وسكون القاف الدورقي، وأبو المتوكل هو علي الناجي، بالنون والجيم وياء النسبة.
والحديث أخرجه مسلم في البيوع عن عقبة بن مكرم.
قوله: (فقلت)، أي: قال جابر: فقلت: يا رسول الله! هذا جملك، وهو الجمل الذي اشتراه صلى الله عليه وسلم منه في السفر، وقد مرت قصته في كتاب البيوع في: باب شراء الدواب والحمير. قوله: (فخرج) أي: النبي، صلى الله عليه وسلم، من المسجد. قوله: (فجعل يطيف بالجمل)، أي: يلم به ويقاربه. قوله: (قال الثمن)، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثمن الجمل والجمل لك، يعني: كلاهما لك، وهذا يدل على غاية كرم النبي، صلى الله عليه وسلم، وأن جابرا عنده بمنزلة.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن بطال: فيه: أن رحاب المسجد مناخ للبعير. وفيه: جواز إدخال الأمتعة في المسجد، قياسا على البعير. وفيه: حجة لمالك والكوفيين في طهارة أبوال الإبل وأرواثها. وفيه: رد على الشافعي فيما قال بنجاستها، قال ابن بطال: وهذا خلاف منه، لدليل الحديث، ولو كانت نجسة كما زعم ما كان لجابر إدخال البعير في المسجد، وحين رآه الشارع لم ينكر عليه، ولو كانت نجسة لأمره بإخراجها من المسجد خشية ما يكون فيه من الروث والبول، إذ لا يؤمن من حدوث
ذلك منها. انتهى. قلت: أجاب الكرماني عن ذلك بقوله: أقول: لا دليل على دخول البعير في المسجد ولا على حدوث البول والروث فيه على تقدير الحدوث، فقد يغسل المسجد وينظف منه، فلا حجة لهم ولا رد عليه، أي: على الشافعي. قلت: هذا ليس بشيء من الجواب، لأن جابرا صرح بأنه عقل جمله في ناحية بلاط المسجد، وهو رحاب المسجد وللرحاب حكم المسجد، وقوله: ولا على حدوث البول والروث فيه، لم يقل به الراد، وإنما قال: لا يؤمن حدوثه، فلو كان بوله وروثه نجسا لمنعه من ذلك. وقوله: وعلى تقدير الحدوث... إلى آخره، جواب بطريق التسلم فليس بجواب، لأنه لا يجوز السكوت عن ذلك، مع العلم بنجاسته اكتفاء بالغسل والتنظيف، وأجاب صاحب (التوضيح) عن ذلك بقوله: ومذهبه جواز إدخاله فيه، ولا يرد عليه ما ذكره، فسلم من التعسف المذكور.
72
((باب الوقوف والبول عند سباطة القوم))
أي: هذا باب في بيان جواز الوقوف والبول عند سباطة قوم، والسباطة، بالضم: الكناسة، وقيل: المزبلة، ومعناهما متقارب، لأن الكناسة: الزبل الذي يكنس.
1742 حدثني سليمان بن حرب عن شعبة عن منصور عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال لقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي، وقد مر الحديث في كتاب الوضوء في: باب البول قائما، وفي الباب الذي يليه، فإنه أخرجه هناك: عن آدم عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة وعن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
82
((باب من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق فرمى به))
أي: هذا باب في بيان ثواب من أخذ الغصن، أي غصن كان، من أي شجر كان، مما يشوش على المارين في الطريق. قوله: (وما يؤذي) أي: وفي ثواب من أخذ ما يؤذي الناس، وهذا أعم من الأول لأنه يشمل الغصن والحجر ونحوهما مما يحصل
22

منه الأذى للناس عند المرور عليه. قوله: (فرمى به)، يعني رفعه من الطريق ورمى به في غير الطريق، وفي رواية الكشميهني: باب من أخر الغصن، من التأخير، وهو إزاحته عن الطريق.
2742 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له فغفر له.
(انظر الحديث 256).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبد الله هو ابن يوسف، وفي بعض النسخ، ذكر صريحا. وسمي، بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن المغيرة هشام، وأبو صالح ذكوان الزيات، والرواة كلهم مدنيون ما خلال شيخه.
والحديث أخرجه مسلم في الجهاد عن يحيى بن يحيى عن مالك به. وأخرجه الترمذي في البر عن قتيبة به وفي روايته: فأخره، موضع: فأخذه. ثم قال: وفي الباب عن أبي برزة وابن عباس وأبي ذر. قلت: أما حديث أبي برزة فأخرجه ابن ماجة، عنه قال: قلت: يا رسول الله! دلني على عمل أنتفع به، قال: أعزل الأذى من طريق المسلمين. وأما حديث ابن عباس فأخرجه...
وأما حديث أبي ذر فأخرجه ابن عبد البر من حديث مالك ب يزيد عن أبيه عن أبي ذر، مرفوعا: (إماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق صدقة). قلت: وفي الباب عن أبي سعيد، أخرجه ابن زنجويه من حديث ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا: (غفر الله لرجل أماط عن الطريق غصن شوك، ما تقدم من ذنبه وما تأخر). وعن أبي بريدة، أخرجه أبو داود عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة، قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: النخاعة في المسجد يدفنها، والشيء ينحيه عن الطريق... وعن أنس، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث قتادة عنه، قال: (كانت شجرة على طريق الناس فكانت تؤذيهم، فعزلها رجل عن طريقهم، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: رأيته يتقلب في ظلها في الجنة). واعلم أن الشخص يؤجر على إماطة الأذى، وكل ما يؤذي الناس في الطريق، وفيه دلالة على أن طرح الشوك في الطريق والحجارة والكناسة والمياه المفسدة للطرق وكل ما يؤذي الناس يخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولا شك أن نزع الأذى عن الطريق من أعمال البر، وأن أعمال البر تكفر السيئات وتوجب الغفران، ولا ينبغي للعاقل أن يحقر شيئا من أعمال البر، أما ما كان من شجر فقطعه وألقاه، وأما ما كان موضوعا فأماطه، والأصل في هذا كله قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * (الزلزلة: 7). وإماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان.
92
((باب إذا اختلفوا في الطريق الميتاء وهي الرحبة تكون بين الطريق ثم يريد أهلها البنيان فترك منها الطريق سبعة أذرع))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا اختلف الناس في الطريق الميتاء، بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف وبالتاء المثناة من فوق ممدودة، وهي على وزن مفعال، أصله من الإتيان، والميم زائدة، ويروى مقصورة على وزن مفعل، وقد فسره البخاري بقوله: وهي الرحبة إلى آخره، أي: الواسعة تكون بين الطريق. وقيل: الرحبة الساحة
، وقال أبو عمرو الشيباني: الميتاء أعظم الطرق وهي التي يكثر مرور الناس بها. وقيل: الطريق العامرة، وقيل: الفناء بكسر الفاء، وروى ابن عدي من حديث عباد بن منصور عن أيوب السختياني عن أنس، رضي الله تعالى عنه، (قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق الميتاء التي يؤتى من كل مكان...) الحديث، وقد فسر صلى الله عليه وسلم الطريق الميتاء بقوله: التي يؤتى من كل مكان. قوله: (ثم يريد أهلها) أشار بهذا إلى أن أصحاب الطريق الميتاء إذا أرادوا أن يبنوا فيها يتركوا منها الطريق للمارين مقدار سبعة أذرع، على ما نذكره في معنى
23

الحديث، وقال صاحب (التلويح): هذه الترجمة لفظ حديث رواه عبادة بن الصامت عند عبد الله بن أحمد فيما زاده مطولا عن أبي كامل الجحدري، حدثنا الفضل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة عنه.
3742 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن خريت عن عكرمة قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق الميتاء بسبعة أذرع.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وجرير، بفتح الجيم وكسر الراء: ابن حازم، بالزاي، والزبير بن الخريت هذا ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وحديثين في التفسير، وآخر في الدعوات، والزبير، بضم الزاي وفتح الباء الموحدة: ابن خريت، بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره تاء مثناة من فوق، ومعناه في الأصل: الماهر الحاذق.
ذكر معناه: قوله: (إذا تشاجروا)، أي: إذا تخاصموا، يعني: أصحاب الطريق الميتاء. قوله: (في الطريق)، زاد المستملي في روايته، في الطريق الميتاء، وليست هذه الزيادة محفوظة في حديث أبي هريرة، فإن قلت: لم ذكر في الترجمة بقوله في الطريق الميتاء؟ قلت: أشار به إلى أن هذه الزيادة وردة في حديث ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلفتم في الطريق الميتاء فاجعلوها سبعة أذرع). قوله: (بسبعة أذرع)، يتعلق بقوله: قضى) والمراد بالذراع ذراع البنيان المتعارف، وقيل: بما يتعارفه أهل كل بلد من الذرعان. وقال الطحاوي، رحمه الله: لم نجد لهذا الحديث معنى أولى أن يحمل من أن الطريق المبتدأة، إذا اختلف مبتدئوها في المقدار الذي يوقفون لها من المواضع التي يحاولون اتخاذها منها، كالقوم يفتتحون مدينة من مدائن العدو، فيريد الإمام قسمتها ويريد به، مع ذلك أن يجعل فيها طرقا لكل من يسلكها بين الناس إلى ما سواها من البلدان ولا يجدها، مما كان المفتتحة عليهم أحكموا ذلك فيها، فيجعل كل طريق منها سبعة أذرع، ومثل ذلك الأرض الموات، يقطعها الإمام رجلا ويجعل عليه إحياءها ووضع طريقها منها لاجتياز الناس فيه منها إلى ما سواها، فيكون ذلك الطريق سبعة أذرع. وقال المهلب: هذا الحكم في الأفنية، إذا أراد أهلها البنيان أن يجعل سبعة أذرع حتى لا يضر بالمارة، ولمدخل الأحمال ومخرجها، وقال الطبري: هو على الوجوب عند العلماء للقضاء به، ومخرجه عندهم على الخصوص، ومعناه أن كل طريق يجعل كذلك، وما يبقى بعد ذلك لكل واحد من الشركاء في الأرض قدر ما ينتفع به، ولا مضرة عليه. وكل طريق يؤخذ لها سبعة أذرع ويبقى لبعض الشركاء من نصيبه بعد ذلك، وما لا ينتفع به فغير داخل في معنى الحديث. وقيل هذا الحديث في أمهات الطريق، وما يكثر الاختلاف فيه والمشي عليه، وأما ما ينتاب من الطرق فيجوز في أفنيتها ما اتفقوا عليه، وإن كان أقل من سبعة أذرع. وقال ابن الجوزي: يكون ذلك في الطريق الواسع من الشوارع الذي يقعد في حافية الباعة، وإن كان أقل من سبعة أذرع منعوا لئلا يضيق بأهله.
03
((باب النهبى بغير إذن صاحبه))
أي: هذا باب في بيان حكم النهبى، بضم النون على وزن فعلى: من النهب، وهو أخذ الشيء من أحد عيانا قهرا. وقال الخطابي: النهبى اسم مبني من النهب، كالعمرى من العمر. قوله: (بغير إذن صاحبه)، أي: صاحب المنهوب بقرينة. قوله: (النهبى)، فلا يكون إضمارا قبل الذكر، ومفهوم هذا أنه إذا أذن بالنهب جاز.
وقال عبادة بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا ننتهب
عبادة هو ابن الصامت، رضي الله تعالى عنه، وهذا التعليق قطعة من حديث أخرجه في مواضع، منها قد مر في كتاب
24

الإيمان في باب حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرنا أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة ابن الصامت، وكان شهد بدرا... الحديث، وليس فيه ذكر الانتهاب، وإنما ذكره في رواية الصنابحي في: باب وفود الأنصار، ولفظه: بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل النفس التي حرم الله ولا ننتهب... الحديث، وقد مر الكلام فيه مستوفى في كتاب الإيمان.
4742 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة قال حدثنا عدي بن ثابت قال سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري وهو جده أبو أمه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة.
(الحديث 4742 طرفه في: 6155).
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن معنى الترجمة: باب النهي بغير إذن صاحبه لا يجوز، لأن نهب مال الغير حرام. قوله: (عبد الله بن يزيد)، بالياء في أوله من الزيادة، وهو هكذا في رواية الأكثرين، ووقع في رواية الكشميهني وحده: عبد الله ابن زيد، بدون الياء في أوله، وهو غير صحيح. قوله: (وهو)، يعني عبد الله بن يزيد. قوله: (جده)، يعني: جد عدي بن ثابت لأمه، واسم أمه فاطمة، وتكنى أم عدي، وعبد الله بن يزيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة واسمه عبد الله ابن
جشم بن مالك بن الأوس الأنصاري، أبو موسى الخطمي، مضى ذكره في الاستسقاء، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري غير هذا الحديث، وله فيه عن الصحابة غير هذا، وقد اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مصعب بن الزبير قال: ليس له صحبة، وقال أبو داود: له رؤية، وقال أبو حاتم: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان صغيرا على عهده، فإن صحت روايته فذاك، وهذا الحديث من أفراد البخاري. قوله: (والمثلة)، بضم الميم وسكون الثاء المثلثة، ويجوز فتح الميم وضم الثاء، ويجمع على: مثلات، وهي العقوبة في الأعضاء: كجدع الأنف والأذن وفقء العين ونحوها، وقال ابن بطال: الانتهاب المحرم هو ما كانت العرب عليه من الغارات، وعليه وقعت البيعة في حديث عبادة. وقال ابن المنذر: النهبة المحرمة أن ينهب مال الرجل بغير أذنه، وهو له كاره، وأما المكروه فهو ما أذن صاحبه للجماعة وأباحه لهم، وغرضهم تساويهم فيه أو تقاربهم، فيغلب القوي على الضعيف. وقال الخطابي، معلوم أن أموال المسلمين محرمة، فيؤول هذا في الجماعة يغزون، فإذا غنموا انتهبوا وأخذ كل واحد ما وقع بيده مستأثرا به من غير قسمة، وقد يكون ذلك في الشيء تشاع الهبة فيه، فينتهبون على قدر قوتهم، وكذلك الطعام يقدم إليهم، فلكل واحد أن يأكل مما يليه بالمعروف، ولا ينتهب ولا يستلب من عند غيره، وكذلك كره من كره أخذ النثار في عقود الأملاك ونحوه، وقال الحسن والنخعي وقتادة: معنى الحديث النهبة المحرمة، وهي أن يينتهب مال الرجل بغير إذنه.
واختلف العلماء فيما ينثر على رؤوس الصبيان وفي الأعراس، فتكون فيها النهبة، فكرهه مالك والشافعي وأجازه الكوفيون، وإنما كره لأنه قد يأخذ منه من لا يحب صاحب الشيء أخذه، ويجب أخذ غيره، وما حكي عن الحسن بأنه كان لا يرى بأسا بالنهب في العرسات والولائم، وكذلك الشعبي فيما رواه ابن أبي شيبة، عنه: فليس من النهبة المحرمة، وكذا حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البدن التي نحرها: (من شاء اقتطع)، قال الشافعي: صار ملكا للفقراء، لأنه خلى بينه وبينهم. فإن قلت: روى عن عون بن عمارة وعصمة بن سليمان عن لمازة بن المغيرة عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ ابن جبل، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أملاك، فجاءت الجواري معهن الأطباق عليها اللوز والسكر، فأمسك القوم أيديهم، فقال: ألا تنتهبون؟ قالوا: إنك كنت نهيتنا عن النهبة. قال: تلك نهبة العساكر، فأما العرسان فلا، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاذبهم ويجاذبونه). قلت: قال البيهقي: عون وعصمة لا يحتج بحديثهما، ولمازة مجهول، وابن معدان عن معاذ منقطع. قلت: خالد بن معدان، روى عن جماعة من الصحابة ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل. وقال الشافعي: فإن أخذ آخذ لا تجرح شهادته أن كثيرا يزعم أن هذا مباح، لأن مالكه إنما طرحه لمن يأخذه، وأما أنا فأكرهه لمن أخذه، وكان أبو مسعود الأنصاري يكرهه، وكذلك إبراهيم وعطاء وعكرمة ومالك، وذكر ابن قدامة أنه يجب القطع على المنتهب قبل القسمة، وحكى عن داود أنه يرى القطع على من أخذ مال الغير، سواء أخذه من حرز أو من غير حرز.
25

5742 حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثنا عقيل عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا ينتهب نهبة) إلى آخره، قيل: لا مطابقة هنا، لأن الترجمة مقيدة بغير الإذن. والحديث مطلق، وأجيب: بأن الحديث أيضا مقيد بعدم الإذن، وذلك لأن رفع البصر إليه لا يكون عادة إلا عند عدم الإذن. وهذا هو فائدة ذكر الرفع، وهذا الجواب من الكرماني أخذه بعضهم ولم ينسبه إليه، وأيضا قال الكرماني: فإن قلت: النهب لا يتصور إلا بغير إذن صاحبه، فما فائدة التقييد به في الترجمة؟ قلت: المراد الإذن الإجمالي حتى يخرج منه انتهاب مشاع الهبة ونحوه من الموائد.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في الحدود عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن إلى آخره. وأخرجه مسلم في الإيمان عن عبد الملك بن شعيب عن الليث عن أبيه عن جده بإسناده نحوه. وأخرجه النسائي في الأشربة، وفي الرجم عن عيسى بن حماد عن الليث به. وأخرجه ابن ماجة في الفتن عن عيسى بن حماد عن الليث.. إلى آخره، نحوه، وفي الباب عن أبي داود من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، قال: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انتهب نهبة فليس منا)، وعند ابن حبان من حديث الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثله، وعند الترمذي عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من انتهب نهبة فليس منا)، وقال: حديث حسن صحيح، وعند أحمد عن زيد بن خالد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النهبة، وعند ابن حبان عن ثعلبة عن الحكم، قال: انتهينا غنما للعدو فنصبنا قدورنا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأمر بها فأكفئت، ثم قال: إن النهبة لا تحل. وروى ابن أبي شيبة من حديث عاصم بن كليب عن أبيه: أخبرني رجل من الصحابة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصابتنا مجاعة وأصبنا غنما فانتهبناها قبل أن يقسم فينا، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، فأكفأ قدورنا بقوسه، وقال: ليست النهبة بأحل من الميتة. قوله: (لا يزني الزاني حين يزني) أي: لا يزني الشخص الذي يزني. قوله: (حين يزني)، نصب على الظرف. قوله: (وهو مؤمن)، جملة اسمية وقعت حالا، قيل: معناه والحال أنه مستكمل شرائع الإيمان. وقيل: يزول منه الثناء بالإيمان لا نفس الإيمان، وقيل: يزول إيمانه إذا استمر على ذلك الفعل، وقيل: إذا فعله مستحلا يزول عنه الإيمان فيكفر، وقال ابن التين: قال البخاري: ينزع منه نور الإيمان. قوله: (ولا يشرب)، فاعله محذوف، قال ابن مالك: فيه حذف الفاعل، أي: لا يشرب الشارب، وروي: لا يشرب الخمر، بكسر الباء على معنى النهي، يعني: إذا كان مؤمنا فلا يفعل. قوله: (ولا يسرق)، الكلام فيه مثل الكلام في لا يزني.
قوله: (إليه) أي: إلى المنتهب، يدل عليه قوله: ولا ينتهب. قوله: (فيها)، أي: في النهبة. قوله: (أبصارهم)، بالنصب لأنه مفعول: يرفع الناس. قوله: (حين ينتهبها)، نصب على الظرف، أي: وقت انتهابها. قوله: (وهو مؤمن)، جملة حالية. وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن أبي أوفى، يرفعه: ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المسلمون إليها رؤوسهم وهو مؤمن، وروى مسلم من حديث يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يزني الزاني...) الحديث، وفيه قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن: أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة، ثم يقول: وكان أبو هريرة يلحق معهن: ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن. ثم روى من حديث عقيل بن خالد، قال: قال ابن شهاب: وأخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني...) واقتصر الحديث يذكر مع ذكر النهبة، ولم يقل: ذات شرف، ثم قال: وقال ابن هشام: حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي بكر هذا إلا النهبة. قوله: (وكان أبو هريرة يلحق)، بضم الياء من الإلحاق. قوله: (معهن)، أي: مع قوله: (لا يزني)، وقوله:
26

(ولا يشرب)، وقوله: (ولا يسرق)، قوله: (ولا ينتهب)، في محل المفعولية لقوله: (ويلحق)، على سبيل الحكاية، وقال النووي: ظاهر هذا أنه من كلام أبي هريرة موقوف عليه، ولكن جاء في رواية أخرى تدل على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح بما يؤول إليه ملخص كلامه: أن معنى قول أبي هريرة: يلحق معهن ولا ينتهب... إلى آخره، يعني يلحقها رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من عند نفسه، واختصاص أبي بكر بهذا لكونه بلغه أن غيره لا يرويها. قوله: (ذات شرف)، في الأصول المشهورة المتداولة بالشين المعجمة المفتوحة، ومعناه: ذات قدر عظيم، وقيل: ذات استشراف، ليستشرف الناس لها ناظرين إليها رافعين أبصارهم. وقال القاضي عياض: ورواه إبراهيم الجويني بالسين المهملة، وقال الشيخ أبو عمرو: وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم، وقال: معناه أيضا: ذات قدر عظيم. فإن قلت: يعارض هذا الحديث حديث أبي ذر: من قال لا إلاه إلا الله... دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق، والأحاديث التي نظائره مع قوله تعالى: * (أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (آل عمران: 611). مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر، غير الشرك لا يكفرون بذلك؟ قلت: هذا الذي دعاهم إلى أن قالوا هذه الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء يراد نفي كماله، كما يقال: لا علم إلا بما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ثم إن مثل هذا التأويل ظاهر شائع في اللغة يستعمل كثيرا، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين ما ذكر من الحديث والآية، وتأوله بعض العلماء على من فعل ذلك مستحلا مع علمه بورود الشرع بتحريمه.
وعن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا النهبة
سعيد هو ابن المسيب، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وأشار بهذا إلى أن سعيدا وأبا سلمة رويا هذا الحديث المذكور مثل ما ذكر، إلا النهبة، يعني: لم يذكرا حكم الانتهاب، بل ذكر الزنا والسرقة والشرب فقط. وقد ذكرنا آنفا عن مسلم أنه أخرج في حديثه: وقال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل حديث أبي بكر هذا إلا النهبة. وذكر مسلم أيضا من طريق الأوزاعي أن الزهري روى عن ابن المسيب وأبي سلمة وأبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم... الحديث وفيه: وذكر النهبة ولم يقل ذات شرف.
قال الفربري وجدت بخط أبي جعفر قال أبو عبد الله تفسيره أن ينزع منه يريد الإيمان
الفربري، هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الراوي عن البخاري وأبو جعفر هو ابن أبي حاتم، وراق البخاري وأبو عبد الله هو البخاري نفسه. قوله: (تفسيره)، أي: تفسير قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أن ينزع منه نور الإيمان، والإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان ونوره الأعمال الصالحة والاجتناب عن المعاصي، فإذا زنى أو شرب الخمر أو سرق يذهب نوره ويبقى صاحبه في الظلمة، والإشارة فيه إلى أنه لا يخرج عن الإيمان. قيل: إن في هذا الحديث تنبيها على جميع أنواع المعاصي والتحذير منها. فنبه بالزنا على جميع الشهوات وبالخمر على جميع ما يصد عن الله تعالى ويوجب الغفلة عن حقوقه، وبالسرقة على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام، وبالنهبة على الاستخفاف بعباد الله تعالى وترك توقيرهم والحياء منهم، وجمع الدنيا من غير وجهها، والله تعالى أعلم.
13
((باب كسر الصليب وقتل الخنزير))
أي: هذا باب في بيان الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن كسر عيسى بن مريم، عليهما الصلاة والسلام، عند نزوله صلبان النصاري وأوثان المشركين وقتل خنازير الكل، وليس المراد من هذه الترجمة الإشارة إلى جواز كسر صليب النصارى وقتل خنازير أهل الذمة، فإنا أمرنا بتركهم وما يدينون، وأما كسر صليب أهل الحرب وقتل خنازيرهم فهو جائز ولا شيء على فاعله، والصليب هو المربع المشهور للنصارى من الخشب، يزعمون أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، صلب على خشبة
27

على تلك الصورة، وقد كذبهم الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: * (وما قتلوه وما صلبوه) * (النساء: 751). الآية، وكان أصله من خشب وربما يعملونه من ذهب وفضة ونحاس ونحوها.
6742 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب قال سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا الإسناد بعينه مر مرارا، وسفيان هو ابن عيينة. والحديث أخرجه مسلم في الإيمان عن عبد الأعلى بن حماد وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه ابن ماجة في الفتن عن أبي بكر بن أبي شيبة. قوله: (الساعة) أي: يوم القيامة. قوله: (ابن مريم)، هو عيسى بن مريم، عليهما الصلاة والسلام. قوله: (حكما) بفتحتين، بمعنى: الحاكم. قوله: (مقسطا) أي: عادلا في حكمه، وهو من الإقساط بكسر الهمزة، وهو العدل. يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار وظلم، فكأن الهمزة في: أقسط، للسلب كما يقال: شكى إليه، فأشكاه أي: أزال شكواه. قوله: (فيكسر الصليب) إشعار بأن النصارى كانوا على الباطل في تعظيمه. قوله: (ويضع الجزية)، أي: يتركها فلا يقبلها بل، يأمرهم بالإسلام. فإن قلت: هذا يخالف حكم الشرع، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها فلا يجوز بعد ذلك إكراهه على الإسلام ولا قتله؟ قلت: هذا الحكم الذي كان بيننا ينتهي بنزول عيسى، عليه الصلاة والسلام. فإن قلت: هذا يدل على أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، ينسخ الحكم الذي كان في شرعنا، والحال أنه تابع لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم. قلت: ليس هو بناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي بين بالنسخ. وأن عيسى، عليه الصلاة والسلام، يفعل ذلك بأمر نبينا صلى الله عليه وسلم. وأما ترك الجزية فإنها كانت تؤخذ في زماننا لحاجتنا إلى المال. وأما في زمن عيسى، عليه الصلاة والسلام، فيكثر المال وتفتح الكنوز حتى لا يلتقي أحد من يقبل منه فلذلك يترك الجزية. قوله: (ويفيض)، بالفاء والضاد المعجمة: من فاض الماء والدمع وغيرهما يفيض فيضا: إذا كثر، وقيل: السبب في فيضان المال: نزول البركات، وظهور الخيرات، وقلة الرغبات لقصر الآمال لعلمهم بقرب يوم القيامة.
23
((باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر أو تخرق الزقاق فإن كسر صنما أو صليبا أو طنبورا أو ما لا ينتفع بخشبه))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر؟ والدنان، بكسر الدال: جمع الدن، بفتح الدال وتشديد النون. قال الكرماني: وهو الخب. قلت: هذا تفسير الشيء بما هو أخفى منه. وقال الجوهري: والخب الخابية فارسي معرب. قلت: هو في اللغة الفارسية خم، بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم، فعرب وقيل: حب، بضم الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة. وفي دستور اللغة في: باب الحاء المضمومة: الحب خم ودستي. قوله: (التي فيها الخمر)، جملة في محل الرفع لأنها صفة الدنان، وجواب: هل، محذوف وإنما لم يذكره لأن فيه خلافا وتفصيلا. بيانه: أن قوله: هل تكسر الدنان التي فيها الخمر؟ أعم من أن يكون لمسلم أو لذمي أو لحربي، فإن كان الدن لمسلم ففيه الخلاف: فعند أبي يوسف وأحمد في رواية: لا يضمن، ويستدل لهما في ذلك بما رواه الترمذي: حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت ليثا يحدث عن يحيى بن عباد عن أنس عن أبي طلحة أنه قال: يا نبي الله! إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري! قال: (أهرق الخمر وكسر الدنان)، ثم قال الترمذي: وقال الثوري هذا الحديث عن السدي عن يحيى بن عباد عن أنس: أن أبا طلحة كان عنده، وهذا أصح من حديث الليث، وقال محمد بن الحسن: يضمن، وبه قال أحمد في رواية، لأن الإراقة بدون الكسر ممكنة. وأجيب: عن الحديث: بأنه ضعيف، ضعفه ابن العربي، وقال: لا يصح لا من حديث أبي طلحة ولا من حديث أنس أيضا، لتفرد السدي به، وفيه الليث بن أبي سليم
28

وفيه مقال، وقال شيخنا: ما قاله ابن العربي مردود، فالسدي هو الكبير واسمه إسماعيل بن عبد الرحمن وثقه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد والنسائي وابن عدي، واحتج به مسلم. قلت: قول الترمذي هذا أصح من حديث الليث، يدل على أن حديث الليث أيضا صحيح، ولكن حديث السدي أصح. والظاهر أنه لم يصرح بصحته لأجل الليث، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، وقال جمهور العلماء، منهم الشافعي: إن الأمر بكسر الدنان محمول على الندب. وقيل: لأنها لا تعود تصلح لغيره لغلبة رائحة الخمر وطعمها، والظاهر أنه أراد بذلك الزجر، قال شيخنا، رحمه الله تعالى: يحتمل أنهم لو سألوه أن يبقوها ويغسلوها لرخص لهم. وإن كان الدن لذمي فعندنا يضمن بلا خلاف بين أصحابنا، لأنه مال متقوم في حقهم، وعند الشافعي وأحمد: لا يضمن لأنه غير متقوم في حق المسلم، فكذا في حق الذمي. وإن كان الدن لحربي فلا يضمن بلا خلاف إلا إذا كان مستأمنا.
قوله: (أو تخرق)، بالخاء المعجمة على صيغة المجهول، عطف على قوله: (هل تكسر الدنان؟). والزقاق، بكسر الزاي: جمع زق جمع الكثرة، وجمع القلة أزقاق، وفيه أيضا الخلاف المذكور فإن كان شق زق الخمر لمسلم يضمن عند محمد وأحمد في رواية، وعند أبي يوسف لا يضمن لأنه من جملة الأمر بالمعروف. وقال مالك: زق الخمر لا يطهره الماء لأن الخمر غاص في داخله، وقال غيره: يطهره، ويبنى على هذا الضمان وعدمه، والفتوى على قول أبي يوسف خصوصا في هذا الزمان، وقد روى أحمد من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شفرة وخرج إلى السوق وبها زقاق خمر جلبت من الشام، فشق بها ما كان من تلك الزقاق. قوله: (فإن كسر صنما)، وفي بعض النسخ: وإن كسر، بالواو، وفي بعضها: وإذا كسر، وعلى تقدير جواب الشرط محذوف تقديره: هل يجوز ذلك أم لا؟ أو هل يضمن أم لا؟ وإنما لم يصرح بذكر الجواب لمكان الخلاف فيه أيضا. فقال أصحابنا: إذا أتلف على نصراني صليبا فإنه يضمن قيمته صليبا. يعني: حال كونه صليبا لا حال كونه صالحا لغيره، لأن النصراني مقر على ذلك، فصار كالخمر التي هم مقرون عليها. وقال أحمد: لا يضمن، وقال الشافعي: إن كان بعد الكسر يصلح لنفع مباح لا يضمن، وإلا لزمه ما بين قيمته قبل الكسر وقيمته بعده، لأنه أتلف ما له قيمة. وقال ابن الأثير: الصنم ما يتخذ إلها من دون الله، وقيل: ما كان له جسم أو صورة، وإن لم يكن له جسم ولا صورة فهو وثن. وقال في باب الواو: الوثن كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي يعمل وينصب ويعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما، وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير
الصورة. قوله: (أو طنبور)، بضم الطاء وقد يفتح والضم أشهر، وهو آلة مشهورة من آلات الملاهي، وهو فارسي معرب. قوله: (أو ما لا ينتفع بخشبه) قال الكرماني: يعني: أو كسر شيئا لا يجوز الانتفاع بخشبه قبل الكسر، كآلات الملاهي المتخذة من الخشب، فهو تعميم بعد تخصيص، ويحتمل أن يكون: أو، بمعنى: إلى أن، يعني: فإن كسر طنبورا إلى حد لا ينتفع بخشبه ولا ينتفع بعد الكسر، أو عطف على مقدر، وهو: كسرا ينتفع بخشبه أي: كسر كسرا ينتفع بخشبه ولا ينتفع بعد الكسر. انتهى. وقال بعضهم: ولا يخفى تكلف هذا الأخير وبعد الذي قبله. انتهى.
قلت: الكرماني جعل لكلمة: أو، هنا ثلاث معان. منها: أن يكون للعطف على ما قبله، فيكون من باب عطف العام على الخاص. ومنها: أن يكون بمعنى: إلى أن، كما في قولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، وينتصب المضارع بعدها، وهو كثير في كلام العرب، ولا بعد فيه. ومنها: أن يكون معطوفا على شيء مقدر، وهذا أيضا باب واسع فلا تكلف فيه، وإنما يكون التكلف في موضع يؤتى بالكلام بالجر الثقيل.
والكلام في هذا الفصل أيضا على الخلاف والتفصيل، فقال أصحابنا: من كسر لمسلم طنبورا أو بربطا أو طبلا أو مزمارا أو دفا فهو ضامن، وبيع هذه الأشياء جائز عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي ومالك وأحمد: لا يضمن ولا يجوز بيعها، وقال أصحاب الشافعي عنه بالتفصيل: إن كان بعد الكسر يصلح لنفع مباح يضمن، وإلا فلا، وعن بعض أصحابنا: الاختلاف في الدف والطبل الذي يضرب للهو، وأما طبل الغزاة والدف الذي يباح ضربه في العرس فيضمن بالاتفاق. وفي (الذخيرة) للحنفية: قال أبو الليث: ضرب الدف في العرس مختلف فيه، فقيل: يكره، وقيل) لا. وأما الدف الذي يضرب في زماننا مع الصنجات والجلاجلات فمكروه بلا خلاف.
29

وأتي شريح في طنبور كسر فلم يقض فيه بشيء
شريح هو ابن الحارث الكندي، أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه، استقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وأقره علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وأقام على القضاء بها ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة، ومات سنة ثمان وسبعين وكان له عشرون ومائة سنة. قوله: (وأتى شريح في طنبور)، يعني: أتى إليه اثنان أدعى أحدهما على الآخر أنه كسر طنبوره فلم يقض فيه بشيء، أي: لم يحكم فيه بغرامة. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي حصين، بفتح الحاء، بلفظ: أن رجلا كسر طنبور رجل فرفعه إلى شريح فلم يضمنه شيئا، وذكره وكيع بن الجراح عن سفيان عن أبي حصين، بفتح الحاء: أن رجلا كسر طنبور رجل فحاجه إلى شريح فلم يضمنه شيئا، وهذا يوضح أن جواب الترجمة عدم الضمان. وقال ابن التين: قضى شريح في الطنبور الصحيح يكسر: بأن يدفع لمالكه فينتفع به، وقال المهلب: وما كسر من آلات الباطل وكان فيها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار، على معنى التشديد والعقوبة على وجه الاجتهاد، كما أحرق عمر، رضي الله تعالى عنه، دار
على بيع الخمر، وقد هم الشارع بتحريق دور من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا أصل في العقوبة في المال إذا رأى ذلك. قيل: هذا كان في الصدر الأول، ثم نسخ.
7742 حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نيرانا توقد يوم خيبر قال على ما توقد هاذه النيران قالوا على الحمر الإنسية قال اكسروها وأهرقوها قالوا ألا نهريقها ونغسلها قال اغسلوا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (اكسروها) أي: القدور، يدل عليه السياق، فلا يكون إضمارا قبل الذكر، وكسر القدور هنا في الحكم مثل كسر الدنان التي فيها الخمر. ورجاله ثلاثة قد ذكروا غير مرة، وهو من تاسع ثلاثيات البخاري. وأخرجه البخاري أيضا في المغازي عن القعنبي، وفي الأدب عن قتيبة وفي الذبائح عن مكي بن إبراهيم وفي الدعوات عن مسدد عن يحيى. وأخرجه مسلم في المغازي وفي الذبائح عن قتيبة ومحمد بن عباد وفي الذبائح عن إسحاق بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجة في الذبائح عن يعقوب بن حميد.
ذكر معناه: قوله: (يوم خيبر)، يعني في غزوة خيبر، وكانت سنة سبع ومن خيبر إلى المدينة أربع مراحل. قوله: (اكسروها)، أي: القدور، وقد مر الآن الكلام فيه. قوله: (على الحمر الأنسية)، الحمر بضمتين جمع حمار، وأراد بها الأنسية الحمر الأهلية. قوله: (وأهريقوها)، بسكون الهمزة وجاز حذف الهمزة أو الهاء والياء، ونهريقها، بفتح الحاء وسكونها وبسكون الهاء وحذف الياء، قال الجوهري: هرق الماء يهريقه بفتح الهاء، هراقة، أي: صبه، وفي لغة أخرى: أهرق الماء يهرقه إهراقا، وفيه لغة أخرى: إهراق يهريق إهراقا، قالوا: قوله ألا نهرقها؟ بكلمة: ألا، التي للاستفهام عن النفي، ويروى: لا نهريقها، بالنفي. لا يقال: إن فيه مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم فهموا بالقرائن أن الأمر ليس للإيجاب. قوله: (قال: اغسلواها) أي: قال صلى الله عليه وسلم في جوابهم، لا نهرقها ونغسلها: إغسلوها، إنما رجع صلى الله عليه وسلم عن أمره بالشيئين، وهما الأمر بالكسر، والأمر بالإهراق إلى قوله: اغسلوها، وهو مجرد الأمر بالغسل، لأنه يحتمل أن اجتهاده قد تغير أو أوحى إليه بذلك، واليوم لا يجوز فيه الكسر لأن الحكم بالغسل نسخ التخيير، كما أنه نسخ الجزم بالكسر.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دليل على نجاسة لحم الحمر الأهلية، لأن فيه الأمر بإراقته، وهذا أبلغ في التحريم، وقد كانت لحوم الحمر تؤكل قبل ذلك. واختلف العلماء الذين ذهبوا إلى إباحة لحوم الحمر الأهلية في معنى النهي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلها، لأي علة كان هذا النهي. فقال نافع وعبد الملك بن جريج وعبد الرحمن بن أبي ليلى وبعض المالكية: علة النهي لأجل الإبقاء على الظهر ليس على وجه التحريم. واحتجوا في ذلك بما روي عن ابن عباس أنه قال: ما
30

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية. إلا من أجل أنها ظهر، رواه الطحاوي بإسناد صحيح عن ابن عباس من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، ورواه ابن أبي شيبة موقوفا على عبد الرحمن، ولم يذكر ابن عباس، وفي الصحيحين عن ابن عباس، قال: لا أدري، أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن يذهب حمولتهم أو حرمه في يوم خيبر، وهذا يبين أن ابن عباس علم بالنهي لكنه حمله على التنزيه توفيقا بين الآية وعمومها، وبين أحاديث النهي، وقال سعيد بن جبير وبعض المالكية: إنما منعت الصحابة يوم خيبر من أكل لحوم الحمر الأهلية لأنها كانت جوالة تأكل القذرات، فكان نهيه، صلى الله عليه وسلم، لهذه العلة، لا لأجل التحريم. وقال آخرون: علة النهي كانت لاحتياجهم إليها، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها. وقال آخرون: علة النهي أنها أقيتت قبل القسمة، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم من أكلها قبل أن تقسم، وقال أبو عمر بن عبد البر: وفي إذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أكل الخيل، وإباحته لذلك يوم خيبر، دليل على أن نهيه عن أكل لحوم الحمر يومئذ عبادة لغير علة، لأنه معلوم أن الخيل أرفع من الحمير، وأن الخوف على الخيل وعلى قيامها فوق الخوف على الحمير، وأن الحاجة في الغزو وغيره إلى الخيل أعظم، وبهذا يتبين أن أكل لحوم الحمر لم يكن لحاجة وضرورة إلى الظهر والحمل، وإنما كانت عبادة وشريعة، والذين ذهبوا إلى إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية، وهم: عاصم بن عمر بن قتادة، وعبيد بن الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وبعض المالكية، احتجوا بحديث غالب بن أبجر، قال: يا رسول الله! إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم منه أهلي غير حمر لي أو حمرات لي قال: فأطعم أهلك من سمين مالك، وإنما قذرت لكم جوال القرية. رواه الطحاوي وأبو داود وأبو يعلى والطبراني. وأجيب عنه: بأن هذا الحديث مختلف في إسناده، ففي طريق عن ابن معقل عن رجلين من مزينة أحدهما: عن الآخر عبد الله بن عمرو بن لويم، بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره ميم، والآخر: غالب بن أبجر، وقال مسعر: أري غالبا الذي سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي طريق عبد الرحمن بن معقل، وفي طريق عبد الله بن معقل، وفي طريق عبد الرحمن بن بشر، وفي طريق عبد الله بن بشر، عوض عبد الرحمن، وهذا اختلاف شديد فلا يقاوم الأحاديث الصحيحة التي وردت بتحريم لحوم الأهلية. وقال ابن حزم: هذا الحديث بطرقه باطل، لأنها كلها من طريق عبد الرحمن ابن بشر وهو مجهول، والآخر: من طريق عبد الله بن عمرو بن لويم، وهو مجهول، أو من طريق شريك وهو ضعيف، ثم عن ابن الحسن، ولا يدري من هو، أو من طريق سلمى بنت النضر الخضرية ولا يدري من هي، وقال البيهقي: هذا حديث معلول، ثم طول في بيانه.
قال أبو عبد الله كان ابن أبي أويس يقول الحمر الأنسية بنصب الألف والنون
أبو عبد الله هو البخاري، نفسه يحكي عن شيخه إسماعيل بن أبي أويس، واسمه: عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك بن أنس، فإنه كان يقول: الحمر الأنسية نسبة إلى: الأنس، بالفتح ضد الوحشة وقال ابن الأثير: والمشهور فيها كسر الهمزة منسوبة إلى الأنس، وهم بنو آدم الواحد أنسي. وفي كتاب أبي موسى ما يدل على أن الهمزة مضمومة، فإنه قال: هي التي تألف البيوت، والأنس ضد الوحشة، والمشهور في ضد الوحشة الأنس بالضم، وقد جاء فيه بالكسر قليلا. قال: ورواه بعضهم، بفتح الهمزة والنون وليس بشيء قال ابن الأثير: إن أراد أن الفتح غير معروف في الرواية فيجوز، وإن أراد أنه ليس بمعروف في اللغة فلا، فإنه مصدر: أنست به أنسا وأنسة.. وقال بعضهم: وتعبيره عن الهمزة بالألف، وعن الفتح بالنصب جائز عند المتقدمين، وإن كان الاصطلاح أخيرا قد استقر على خلافه، فلا تبادر إلى إنكاره. انتهى. قلت: هذا ليس بمصطلح عند النحاة المتقدمين والمتأخرين، إنهم يعبرون عن الهمزة بالألف، وعن الفتح بالنصب، فمن أدعى خلاف ذلك، فعليه البيان، فالهمزة ذات حركة، والألف مادة هوائية، فلا تقبل الحركة. والفتح من ألقاب البناء، والنصب من ألقاب الإعراب، وهذا مما لا يخفى على أحد.
31

8742 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصبا فجعل يطعنها بعود في يده وجعل يقول * (جاء الحق وزهق الباطل) * الآية (الإسراء: 18).
مطابقته للترجمة في قوله: (فجعل يطعنها بعود)، أي: يطعن النصب، وهي التي نصبت للعبادة من دون الله، وهو داخل في الترجمة في قوله: فإن كسر صنما أو صليبا.
ورجاله: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وابن أبي نجيح، بفتح النون وكسر الجيم: هو عبد الله بن يسار ضد اليمين ومجاهد بن جبر، وأبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن صدقة بن الفضل وفي التفسير عن الحميدي. وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ومحمد بن يحيى، الثلاثة عن ابن عيينة به، وعن حسن الحلواني وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح. وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد فرقهما، كلاهما عن ابن عيينة.
ذكر معناه: قوله: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني: في غزوة الفتح، وكانت في رمضان سنة ثمان. قوله: (وحول الكعبة)، الواو فيه للحال. قوله: (نصبا). وقال ابن التين: ضبط في رواية أبي الحسن، بضم النون والصاد، فيكون على هذا جمع: نصاب، وهو صنم أو حجر ينصب، وليس ببين كونه جمعا، لأنه لا يأتي بعد ستين إلا مفردا، تقول عندي ستون ثوبا ونحو ذلك، ولا تقول: أثوابا، قال: وقد قيل: نصب ونصب بمعنى واحد، فعلى هذا يكون جمعا لا مفردا، وقال ابن الأثير: النصب، بضم الصاد وسكونها: حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية ويتخذونه صنما ويعبدونه، والجمع أنصاب، وقيل: هو حجر كانوا ينصبونه ويذبحون عليه فيحمر بالدم، ويروى: (صنما)، موضع: (نصبا). قوله: (فجعل يطعنها)، جعل من أفعال المقاربة وهي ثلاثة أنواع، وهو من النوع الذي وضع على
الشروع فيه، أي: في الخبر، وهو كثير. (ويطعنها) بضم العين على المشهور، ويجوز فتحها، قال الجوهري: طعنه بالرمح وطعن في السن يطعن بالضم طعنا، وطعن فيه بالقول يطعن أيضا، وطعن في المفازة يطعن ويطعن أيضا: ذهب. قوله: (في يده) في محل الجر لأنه صفة لعود. قوله: (وجعل) مثل جعل الأول. قوله: (وزهق)، أي هلك ومات، يقال: زهقت نفسه تزهق زهوقا بالضم خرجت، قال الجوهري: * (وزهق الباطل) * (الإسراء: 18). أي: اضمحل، والزهوق بالفتح...
. وروى البيهقي من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة وجد بها ثلاثمائة وستين صنما، فأشار إلى كل صنم بعصا. وقال: * (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) * (الإسراء: 18). وكان لا يشير إلى صنم إلا سقط من غير أن يمسه بعصاه، وروى أحمد من حديث جابر، قال: كان في الكعبة صور فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، أن يمحوها، فبل عمر ثوبا ومحاها به، فدخلها صلى الله عليه وسلم وما فيها شيء. انتهى. وطعنه صلى الله عليه وسلم الأصنام علامة أنها لا تدفع عن نفسها، فكيف تكون آلهة؟
ذكر ما يستفاد منه: قال الطبري: في حديث ابن مسعود جواز كسر آلات الباطل وما لا يصلح إلا في المعصية حتى تزول هيئتها وينتفع برضاضها، وقال ابن بطال: آلات اللهو كالطنابير والعيدان والصلبان والأنصاب، تكسر حتى تغير عن هيئتها إلى خلافها، ويقال: وكل ما لا معنى لها إلا التلهي بها عن ذكر الله تعالى، والشغل بها عما يحبه الله إلى ما يسخطه، يجب أن يغير عن هيئته المكروهة إلى خلافها من الهيئات التي يزول معها المعنى المكروه، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كسر الأصنام والجوهر الذي فيها، ولا شك أنه يصلح إذا غير عن الهيئة المكروهة وينتفع به بعد الكسر، وقد روي عن جماعة من السلف كسر آلات الملاهي، وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يستقبلون الجواري معهن الدفوف فيخرقونها، وقال ابن المنذر: في معنى الأصنام القبور المتخذة من المدر والخشب وشبههما، وكل ما يتخذه
32

الناس فيما لا منفعة فيه إلا للتلهي المنهي عنه، فلا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت مما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها.
9742 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن عبد الرحمان ابن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت اتخذعت على سهوة لها سترا فيه تماثيل فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذت منه نمرقتين فكانتا في البيت يجلس عليهما.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فهتكه)، أي: فهتك الستر، أي: شقه، وهذا يدخل في قوله: فإن كسر صنما، لأن التماثيل التي هي الصور كانت تعبد كما كان الصنم يعبد.
وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، والقاسم هو محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
والحديث من أفراده، ووجه إدخال هذا الحديث في المظالم هو: أن هتك الستر الذي فيه التماثيل من إزالة الظلم، لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكذلك اتخاذ التماثيل والصور، وضع الشيء في غير موضعه. فافهم.
ذكر معناه: قوله: (سهوة)، بفتح السين المهملة وسكون الهاء، وهي الصفة التي تكون بين يدي البيوت، وقيل: هي بيت صغير منحدر في الأرض. وقيل: هي الرف أو الطاق الذي يوضع فيه الشيء، وقيل: هي الطاق في وسط البيت، وقيل: هي بيت صغير سمكه مرتفع عن الأرض يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيه المتاع. قوله: (تماثيل)، جمع تمثال، وهو ما يصنع ويصور مشبها بخلق الله تعالى من ذوات الروح، وفي (المغرب): الصورة عام ويشهد له ما ذكر في الأصل أنه صلى وعليه ثوب وفيه تماثيل، كره له. قال: وإذا قطع رأسها فليست بتمثال، ثم ذكر حديث الباب، وقال: من ظن أن الصورة المنهي عنها ما له شخص دون ما كان منسوجا أو منقوشا في ثوب أو جدار، فهذا الحديث يكذب ظنه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير). كأنه شك من الراوي، وأما قولهم: ويكره التصاوير والتماثيل، فالعطف للبيان. قوله: (فهتكه)، أي: شقه، وقد ذكرناه، وفي حواشي (المغرب): هتك الستر تخريقه. قوله: (نمرقتين)، تثنية نمرقة، بضم النون والراء وكسرها وضم النون وفتح الراء: وهي وسادة صغيرة، وقد تطلق على الطنفسة، كذا فسره الكرماني. وقوله: (فكانتا في البيت يجلس عليهما) ينافي ذلك تفسيره بالوسادة.
33
((باب من قاتل دون ماله))
أي: هذا باب في بيان حكم من قاتل دون ماله، قال الكرماني: أي: عند ماله. وقال القرطبي: دون في أصلها ظرف مكان بمعنى تحت، ويستعمل للسببية على المجاز، ووجهه أن الذي يقاتل على ماله إنما يجعله خلفه أو تحته، ثم يقاتل عليه، وفي (الصحاح): دون نقيض فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون ظرفا، وجواب محذوف تقديره: من قاتل دون ماله فماذا حكمه؟ ويجوز إن يكون تقديره: من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد، ولم يذكره اكتفاء بما في حديث الباب، على عادته في مثل ذلك.
0842 حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا سعيد هو ابن أبي أيوب قال حدثني أبو الأسود عن عكرمة عن عبد الله بن عمر و رضي الله تعالى عنهما قال سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول من قتل دون ماله فهو شهيد.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن المقاتلة لا تستلزم القتل، والشهادة مرتبة على القتل. قلت: قد ذكرت الآن أن تقدير الترجمة: من قاتل دون ماله فقتل، فماذا حكمه؟ فالجواب: إنه شهيد. واقتصر في الحديث على لفظ: قتل، لأنه يستلزم المقاتلة، وبهذا تتضح المطابقة. وقيل أيضا: ما وجه إدخال هذا الحديث في هذه الأبواب؟ وأجيب: بأنه يدل أن للإنسان أن يدفع من قصد ماله ظلما، فإذا قتل صار شهيدا، وهذا النوع داخل في المظالم لأن فيه دفع الظلم. فافهم.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد الله بن يزيد من الزيادة القرشي العدوي أبو عبد الرحمن المقري القصير مولى آل عمر بن الخطاب
33

رضي الله تعالى عنه. الثاني: سعيد بن أبي أيوب، واسمه مقلاص الخزاعي، مولاهم أبو يحيى، وقد مر في التهجد. الثالث: أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة، مر في الغسل. الرابع: عكرمة مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه سكن مكة وأصله من ناحية البصرة. وقيل: من ناحية الأهواز، وأن سعيد ابن أبي أيوب مصري. وأن أبا الأسود وعكرمة مدنيان. وفيه: عن عكرمة عن عبد الله، وفي رواية الطبراني عن أبي الأسود أن عكرمة أخبره، وليس لعكرمة عن عبد الله بن عمرو في البخاري غير هذا الحديث الواحد.
ذكر الاختلاف في متن هذا الحديث: روى البخاري هذا الحديث عن المقري، فقال: فهو شهيد، ودحيم وابن أبي عمر وعبد العزيز بن سلام كلهم رووه عن المقري، فقالوا: فله الجنة، وكلهم قالوا: مظلوما، ولم يقله البخاري، والأشبه أن يكون نقله من حفظه أو سمعه من المقرئ من حفظه، فجاء في الحديث على ما جرى به اللفظ في هذا الباب، ومن جاء به على غير ما اعتيد من اللفظ فيه فهو بالحفظ أولى، ولا سيما فيهم مثل دحيم، وكذلك ما زادوه من قوله: مظلوما، فإن المعنى لا يجوز إلا أن يكون كذلك، ورواه أبو نعيم في (مستخرجه): عن محمد بن أحمد عن بشر بن موسى عن عبد الله بن يزيد المقري بلفظ: من قتل دون ماله مظلوما، وروى مسلم هذا الحديث وفيه قصة من حديث سليمان الأحول: أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره أنه: لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان تيسروا للقتال، فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل دون ماله فهو شهيد؟ قوله: تيسروا. أي: تأهبوا وتهيأوا. وأخرجه النسائي بإسناد البخاري: أخبرني عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الله، وهو ابن يزيد المقري، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثني أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عكرمة عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة، وله، في رواية من طريق آخر عن عكرمة عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد، وهذا متنه قبل متن حديث البخاري، وإسناده مختلف. وله في رواية أخرى من حديث إبراهيم بن محمد بن طلحة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد. وقال: أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا معاوية بن هشام، قال: حدثنا سفيان عن عبد الله بن الحسن عن محمد بن إبراهيم بن طلحة عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. قال أبو عبد الرحمن: هذا خطأ والصواب الذي قبله. وأخرجه الترمذي من حديث إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل دون ماله فهو شهيد.
ثم قال: وفي الباب عن علي وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وجابر، ثم روى عن عبد بن حميد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون أهله فهو شهيد ثم قال: هذا حسن صحيح رواه أبو داود من رواية أبي داود الطيالسي وسليمان بن داود الهاشمي، والنسائي من رواية سفيان وابن إسحاق وابن ماجة من رواية سفيان فقط، كلاهما عن الزهري بذكر المال فقط. وأما حديث علي، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه أحمد في (مسنده) من حديث زيد بن علي بن حسين عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. قال شيخنا: أورده أحمد هكذا في مسند علي، وهو يدل على أن المراد بقوله عن جده، علي بن حسين، فعلى هذا يكون منقطعا. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه ابن ماجة من حديث الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد. وأما حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه ابن ماجة من حديث ميمون بن مهران عن ابن عمر: من أتي عند ماله فقاتل فقوتل فهو شهيد، وله
34

طريق آخر رواه أبو يعلى الموصلي في (المعجم) من رواية أبي قلابة عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد. وأما حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، فأخرجه...
. وأما حديث جابر فأخرجه أبو يعلى في (مسنده) من رواية محمد بن المنكدر عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون ماله فهو شهيد.
قلت: وفي الباب أيضا عن: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وبريدة بن الحصيب وسويد بن مقرن وأنس بن مالك وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر بن كريز وفهر بن مطرف ومخارق بن سليم. وأما حديث سعد فأخرجه البزار في (مسنده) من حديث عبيدة بنت نائل عن عائشة بنت سعد عن أبيها، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه الطبراني في (الأوسط) وابن عدي في (الكامل) من رواية أبي وائل عن عبد الله، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون مظلمة فهو شهيد)، ورواه البزار من رواية أبي وائل عنه، ولفظه: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وأما حديث بريدة فأخرجه النسائي من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد)
. وأما حديث سويد بن مقرن فأخرجه النسائي أيضا من رواية سوادة بن أبي الجعد عن أبي جعفر، قال: كنت جالسا عند سويد بن مقرن، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد). وأما حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه البزار في (مسنده) والطبراني في (الأوسط) وابن عدي في (الكامل) من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: المقتول دون ماله شهيد. وأما حديث عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر فأخرجهما الطبراني في (الأوسط) من رواية حنظلة بن قيس عن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قتل أو قال: مات دون ماله فهو شهيد. وأما حديث نهير بن مطرف فأخرجه البزار في (مسنده) من حديث عبد العزيز بن المطلب عن أخيه عن أبيه فهيد بن مطرف: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن عدا علي عاد؟ قال: تأمره وتنهاه، قال: فإن أبى، تأمر بقتاله؟ قال: نعم، فإن قتلك فأنت في الجنة، وإن قتلته فهو في النار. وأما حديث مخارق بن سليم فأخرجه النسائي من حديث قابوس بن مخارق عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يأتيني فيريد مالي؟ قال: ذكره بالله. قال: فإن لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه بمن حولك من المسلمين. قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه بالسلطان، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة، أو تمنع مالك.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز قتل القاصد لأخد المال بغير حق، سواء كان المال قليلا أو كثيرا، لعموم الحديث، وهذا قول جماهير العلماء. وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئا يسيرا: كالثوب والطعام، وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير. وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف، وقال النووي: وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا، والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة. وفيه: أن القاصد إذا قتل لا دية له ولا قصاص. وفيه: أن الدافع إذا قتل يكون شهيدا. وقال الترمذي: وقد رخص بعض أهل العلم للرجل أن يقاتل عن نفسه وماله. وقال ابن المبارك: يقاتل ولو درهمين. وقال المهلب: وكذلك في كل من قاتل على ما يحل له القتال عليه من أهل أو دين فهو كمن قاتل دون نفسه وماله، فلا دية عليه ولا تبعة، ومن أخذ في ذلك بالرخصة وأسلم المال والأهل والنفس فأمره إلى الله تعالى، والله يعذره ويأجره، ومن أخذ في ذلك بالشدة وقتل كانت له الشهادة. وقال ابن المنذر: وروينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم أموالهم، وقد أخذ ابن عمر لصا في داره، فأصلت عليه السيف، قال سالم: فلولا أنا لضربه به، وقال النخعي: إذا خفت أن يبدأك اللص فابدأه. وقال الحسن: إذا طرق اللص بالسلاح فاقتله، وسئل مالك عن القوم يكونون في السفر فتلقاهم اللصوص؟ قال: يقاتلونهم ولو على دانق. وقال عبد الملك:
35

إن قدر أن يمتنع من اللصوص فلا يعطهم شيئا. وقال أحمد: إذا كان اللص مقبلا، وأما موليا فلا. وعن إسحاق مثله. وقال أبو حنيفة في رجل دخل على رجل ليلا للسرقة ثم خرج بالسرقة من الدار، فاتبعه الرجل فقتله: لا شيء عليه. وقال الشافعي: من أريد ماله في مصر أو في صحراء، أو أريد حريمه، فالاختيار له أن يكلمه أو يستغيث، فإن منع أو امتنع لم يكن له قتاله، فإن أبى أن يمتنع من قتله من أراد قتله، فله أن يدفعه عن نفسه وعن ماله، وليس له عمد قتله، فإذا لم يمتنع فقاتله فقتله لا عقل فيه ولا قود ولا كفارة.
43
((باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا كسر شخص قصعة، بفتح القاف وسكون الصاد: وهي إناء من عود، وقال ابن سيده: وهي صحفة تشبع عشرة، وهي واحدة القصاع والقصع. قوله: (أو شيئا) من باب عطف العام على الخاص، أي: أو كسر شيئا. وجواب: إذا، محذوف تقديره: هل يضمن المثل أو القيمة؟ هكذا قدره بعضهم، وفيه نظر، لأن القصعة ونحوها ليست من المثليات أصلا، ولكن يمشي ما قاله في قوله: (أو شيئا)، لأنه أعم من أن يكون من المثليات أو من ذوات القيم. قلت: في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم دفع قصعة صحيحة عوض القصعة التي كسرتها عائشة على ما يجيء؟ قلت: لم يكن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الحكم على الخصم، وكان دفعه القصعة عوض المكسورة تطييبا لقلب صاحبتها، فلا يدل ذلك على أن القصعة ونحوها من المثليات.
1842 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال كلوا وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة.
(الحديث 1842 طرفه في: 5225).
مطابقته للترجمة في قوله: (فكسرت القصعة)، ويحيى بن سعيد القطان. قوله: (كان عند بعض نسائه)، وروى الترمذي من رواية سفيان الثوري عن حميد عن أنس، قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء، ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أحمد عن ابن أبي عدي ويزيد بن هارون عن حميد به، وقال: أظنها عائشة، وقال الطيبي: إنما أبهمت عائشة تفخيما لشأنها. قيل: إنه مما لا يخفى ولا يلتبس إنها هي، لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها، ورد بأن هذا مجرد دعوى يحتاج إلى البيان. وقال شيخنا: لم يقع في رواية أحد من البخاري والترمذي وابن ماجة تسمية زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، التي أهدت له الطعام، وقد ذكر ابن حزم من طريق الليث عن جرير بن حازم عن حميد عن أنس: أن التي أهدته إليه زينب بنت جحش، أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس، فقامت عائشة فأخذت القصعة فضربت بها فكسرتها، فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى قصعة لها
فدفعها إلى رسول زينب، فقال: هذه مكان صحفتها. وروى أبو داود والنسائي من رواية جسرة بنت دجاجة عن عائشة، قالت: ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله طعاما فبعثت به، فأخذني أفكل، يعني: رعدة، فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله! ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام. قال الخطابي: في إسناده مقال، وقال الشيخ: يحتمل أنهما واقعتان وقعت لعائشة مرة مع زينب ومرة مع صفية، فلا مانع من ذلك، فإن كان ذلك واقعة واحدة رجعنا إلى الترجيح، وحديث أنس أصح. وفي بعض طرقه زينب، والله أعلم. وذكر أبو محمد المنذري في الحواشي: أن مرسلة القصعة أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، وروى النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة، أنها أتت بطعام في صحفة إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر، ففلقت الصحفة... الحديث، وفي (الأوسط) للطبراني من طريق عبيد الله العمري
36

عن ثابت عن أنس أنهم كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة إذ أتى بصحفة خبز ولحم من بيت أم سلمة، فوضعنا أيدينا وعائشة تصنع طعاما عجلة، فلما فرغنا جاءت به ورفعت صحفة أم سلمة فكسرتها. وروى ابن أبي شيبة وابن ماجة، من طريق رجل من بني سواءة غير مسمى عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاما، وصنعت له حفصة طعاما، فسبقتني، فقلت للجارية: إنطلقي فأكفئي قصعتها. فألقتها. فانكسرت وانتثر الطعام، فجمعه على النطع، فأكلوا ثم بعث بقصعتي إلى حفصة، فقال: خذوا ظرفا مكان ظرفكم، والظاهر أنها قصة أخرى، لأن في هذه القصة: أن الجارية هي التي كسرت، وفي الذي تقدم أن عائشة نفسها هي التي كسرتها، قوله: (فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين)، قد تقدم من الأحاديث أن التي أرسلت دائرة بين عائشة وزينب بنت جحش وصفية وأم سلمة، رضي الله تعالى عنهن، فإن كانت القصة متعددة فلا كلام فيها، وإلا فالعمل بالترجيح، كما ذكرنا. قوله: (مع خادم)، يطلق الخادم على الذكر والأنثى، وهنا المراد: الأنثى، بدليل تأنيث الضمير في قوله: (فضربت بيدها فكسرت القصعة). وذكر هنا القصعة، وفي غيره ذكر الجفنة والصحفة، كما مر، قوله: (فيها طعام)، قد ذكر في حديث زينب: أنه حيس، بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة. وهو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يجعل عوض الأقط: الدقيق أو الفتيت، وفي حديث الطبراني: خبز ولحم. قوله: (فضمها)، أي: ضم القصعة التي انكسرت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (وقال: كلوا)، أي: قال، صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين كانوا معه. قوله: (وحبس الرسول)، أي: أوقف الخادم الذي هو رسول إحدى أمهات المؤمنين. قوله: (والقصعة)، أي: حبس القصعة المكسورة أيضا عنده. قوله: (حتى فرغوا) أي: حتى فرغت الصحابة الذين كانوا معه من الأكل. قوله: (فدفع)، أي: أمر بإحضار قصعة صحيحة من عند التي هو في بيتها فدفعها إلى الرسول وحبس القصعة المكسورة عنده، ورأيت في بعض المواضع في أثناء مطالعتي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القصعة المكسورة. وكانت قطعا، فاستوت صحيحة في كفه المبارك كما كانت أولا.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن التين: احتج بهذا الحديث من قال: يقضي في العروض بالأمثال، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، وفي رواية أخرى: كل ما صنع الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط ونحو ذلك، ولك ما كان من صنع الله عز وجل مثل العبد والدابة ففيه القيمة، والمشهور من مذهبه أن كل ما كان ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة، وما كان مكيلا أو موزونا، فيقضى بمثله يوم استهلاكه. وقال ابن الجوزي: فإن قيل: الصحفة من ذوات القيم، فكيف غرمها؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الظاهر ما يحويه بيته، صلى الله عليه وسلم، أنه ملكه فنقل من ملكه إلى ملكه لا على وجه الغرامة بالقيمة. الثاني: أن أخذ القصعة من بيت الكاسرة عقوبة، والعقوبة بالأموال مشروعة، ولما استدل ابن حزم بحديث القصعة، قال: هذا قضاء بالمثل لا بالدراهم. قال: وقد روي عن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، وابن مسعود أنهما قضيا فيمن استهلك فصلانا بفصلان مثلها، وشبهه داود بجزاء الصيد في العبد العبد، وفي العصفور العصفور. وفي (التوضيح): واختلف العلماء فيمن استهلك عروضا أو حيوانا، فذهب الكوفيون والشافعي وجماعة: إلى أن عليه مثل ما استهلك، قالوا: ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل، وذهب مالك: إلى أن من استهلك شيئا من العروض أو الحيوان فعليه قيمته يوم استهلاكه، والقيمة أعدل في ذلك، ثم قال: واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأبو ثور، فيمن استهلك ذهبا أو ورقا أو طعاما مكيلا أو موزونا أن عليه مثل ما استهلك في صفته ووزنه وكيله. قلت: مذهب أبي حنيفة أن كل ما كان مثليا إذا استهلكه شخص يجب عليه مثله، وإن كان من ذوات القيم يجب عليه قيمته، والمثلي كالمكيل مثل الحنطة والشعير، والموزون كالدراهم والدنانير، ولكن بشرط أن لا يكون الموزون مما يضر بالتبعيض، يعني: غير المصوغ منه، فهو يلحق بذوات القيم، وغير المثلي كالعدديات المتفاوتة كالبطيخ والرمان والسفرجل والثياب والدواب، والعددي المتقارب كالجوز والبيض والفلوس كالمكيل. والجواب عن حديث الباب ما قاله ابن الجوزي المذكور آنفا، وقد ذكرنا في أول الباب ما يكفي عن الجواب عن الحديث. وفيه: بسط عذر المرأة في حالة الغيرة، لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم عاتب عائشة على ذلك، فإنما قال: (غارت أمكم)، ويقال: إنما لم يؤدبها، ولو بالكلام، لأنه فهم أن المهدية كانت
37

أرادت بإرسالها ذلك إلى بيت عائشة أذاها، والمظاهرة عليها، فلما كسرتها لم يزد على أن قال: (غارت أمكم وجمع الطعام بيده وقال: قصعة بقصعة وأما طعام بطعام)، لأنه كان يعلم بإتلافه قبول له أو في حكمه، وقال القاضي أبو بكر: ولم يغرم الطعام لأنه كان مهدي، فإتلافه قبوله له، أو في حكم القبول، قيل: فيه نظر لأن الطعام لم يتلف فإنه دعى بقصعة فوضعه فيها، وقال: (كلوا غارت أمكم). وأجيب: بأن هذا الطعام إن كان هدية فيستدعى أن يكون ملكا للمهدي فلا غرامة، وإن كان ملكا للنبي، صلى الله عليه وسلم، باعتبار أن ما كان في بيوت أزواجه، صلى الله عليه وسلم، فهو ملك له فلا يتصور فيه الغرامة. وقال ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثنا حميد قال حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
ابن أبي مريم اسمه سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم، وهو أحد شيوخ البخاري، وأراد بهذا الكلام بيان التصريح بتحديث أنس لحميد.
53
((باب إذا هدم حائطا فليبن مثله))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا هدم شخص حائط شخص فليبن مثله وهذا بعينه، مذهب أبي حنيفة والشافعي وأبي ثور، فإنهم قالوا: إذا هدم رجل حائطا لآخر فإنه يبني له مثله، فإن تعذرت المماثلة رجع إلى القيمة، وفي فتاوى الظهيرية ذكر الإمام محمد بن الفضل: إذا هدم رجل حائط إنسان إن كان من خشب ضمن القيمة، وإن كان من طين وكان عتيقا قديما فكذلك، وإن كان حديثا جديدا أمر بإعادته.
2842 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا جرير هو بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج يصلي فجاءته أمه فدعته فأبى أن يجيبها فقال أجيبها أو أصلي ثم أتته فقالت أللهم لا تمته حتى تريه المومسات وكان جريج في صومعته فقالت امرأة لأفتنن جريجا فتعرضت له فكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقالت هو من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال الراعي قالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا إلا من طين.
مطابقته للترجمة في قوله: (نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلا من طين). لأنه كان من طين، ولم يرض إلا أن يكون مثله.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم السلام، مطولا. وأخرجه مسلم في الأدب عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون عن جرير بن حازم.
قوله: (جريج)، بضم الجيم الأولى: الراهب. قوله: (يصلي)، خبر: كان. قوله: (أو أصلي؟) كلمة: أو، هنا للتخيير. قوله: (لا تمته) بضم التاء: من الإماتة. قوله: (حتى تريه)، بضم التاء: من الإراءة. قوله: (المومسات)، أي: الزواني، وهو جمع مومسة، وهي الفاجرة ويجمع على: مياميس أيضا وموامس، وأصحاب الحديث يقولون: مياميس، ولا يصح إلا على إشباع الكسرة لتصير: ياء، كمطفل ومطافل ومطافيل، وقال ابن الأثير: ومنه حديث أبي وائل: أكثر تبع الدجال أولاد المياميس، وفي رواية: أولاد الموامس، وقد اختلف في أصل هذه اللفظة، فبعضهم يجعله من الهمزة، وبعضهم يجعله من الواو، وكل منهما تكلف له اشتقاقا فيه. وقال الجوهري: المومسة الفاجرة ولم يذكر شيئا غير ذلك، وفي المطالع المياميس والمومسات: المجاهرات بالفجور، الواحدة: مومسة، وبالياء المفتوحة رويناه عن جميعهم، وكذلك ذكره أصحاب العربية في
38

الواو والميم والسين، ورواه ابن الوليد عن ابن السماك: المآميس، بالهمز، فإن صح الهمز فهو من: ماس الرجل، إذا لم يلتفت إلى موعظة، ومأس ما بين يدي القوم: أفسد، وهذا بمعنى المجاهرة والاستهتار، ويكون وزنه على هذا: فعاليل. قوله: (في صومعته)...
. قوله: (فكلمته)، أي: في ترغيبه في مباشرتها. قوله: (فولدت)، فيه حذف كثير تقديره: فأمكنته من نفسها، يعني: زنى بها فحبلت ثم ولدت غلاما، فقالت: أي المرأة، هو، أي: الغلام، من جريج. قوله: (ثم أتى الغلام)، بالنصب أي: الطفل الذي في المهد قبل زمان تكلمه. قوله: (قال: لا) أي: قال جريج: لا تبنوها إلا من طين، وقال ابن مالك: فيه شاهد على حذف المجزوم: بلا، كما قدرناه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الاحتجاج بأن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال الكرماني: واحتج البخاري به على الترجمة بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وفيه نظر، لأن شرعنا أوجب المثل في المثليات، والحائط متقوم لا مثلي. انتهى. قلت: شرع من قبلنا يلزمنا ما لم يقص الله علينا بالإنكار، وقد قلنا: إن الحائط إذا كان من خشب يكون من ذوات القيم، وإن كان من الطين والحجر يبنى بأن يعاد مثله. وفيه: أن الطفل يدعى غلاما وفيه: أنه أحد من تكلم في المهد، وقال الضحاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف، عليه الصلاة والسلام، وابن ماشطة فرعون، وعيسى، ويحيى، عليهما الصلاة والسلام، وصاحب جريج، وصاحب الأخدود. وفيه: المطالبة، كما طالبت بنو إسرائيل جريجا بما ادعته المرأة عليه، وأصل هذه المطالبة أن أهل تلك البلدة كانوا يعظمون أمر الزنا، فظهر أمر تلك المرأة في البلد، فلما وضعت حملها أخبر الملك أن امرأة قد ولدت من الزنا، فدعاها فقال لها: من أين لك هذا الولد؟ قالت: من جريج الراهب، قد واقعني. فبعث الملك أعوانه إليه وهو في الصلاة فنادوه فلم يجبهم حتى جاؤوا إليه بالمرو والمساحي وهدموا صومعته وجعلوا في عنقه حبلا وجاؤا به إلى الملك، فقال له الملك: إنك قد جعلت نفسك عابدا ثم تهتك حريم الناس وتتعاطى ما لا يحل له؟ قال: أي شيء فعلت؟ قال: إنك زنيت بامرأة كذا. فقال: لم أفعل، فلم يصدقوه وحلف على ذلك فلم يصدقوه، فقال: فردوني إلى أمي، فردوه إليها فقال لها: يا أماه إنك دعوت الله علي فاستجاب الله دعاءك، فادعى الله أن يكشف عني بدعائك. فقالت: اللهم إن كان جريج إنما أخذته بدعوتي فاكشف عنه، فرجع جريج إلى الملك، فقال: أين هذه المرأة؟ وأين هذا الصبي؟ فجاؤوا بهما، فسألوهما، فقالت المرأة: بلى هذا الذي فعل بي، فوضع جريج يديه على رأس الصبي، وقال: بحق الذي خلقك أن تخبرني من أبوك؟ فتكلم الصبي بإذن الله تعالى، وقال: إن أبي فلان الراعي، فلما سمعت المرأة بذلك اعترفت، وقالت: كنت كاذبة، وإنما فعل بي فلان الراعي. وفي رواية أخرى أن المرأة كانت حاملا لم تضع بعد، فقال لها: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، وكانت الشجرة بجنب صومعته، قال جريج: أخرجوا إلى تلك الشجرة، ثم قال: يا شجرة! أسألك بالذي خلقكك أن تخبريني من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم، ثم طعن بإصبعه في بطنها، وقال: يا غلام! من أبوك؟ فنادى من بطنها: أبي راعي الغنم، فعند ذلك اعتذر الملك إلى جريج، وقال: إئذن لي أن أبني صومعتك بالذهب؟ قال: لا. قال: فبالفضة؟ قال: لا، ولكن بالطين كما كان، فبنوه بالطين كما كان، هكذا ساق هذه القصة الإمام أبو الليث السمرقندي في كتاب (تنبيه الغافلين)، وذكر أبو الليث عن يزيد بن حوشب الفهري عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كان جريج الراهب فقيها لعلم أن إجابة أمه أفضل من عبادة ربه). وفيه: إثبات الكرامة للأولياء. وقال ابن بطال: يمكن أن يكون جريج نبيا، لأن النبوة كانت ممكنة في بني إسرائيل غير ممتنعة عليهم، ولا
نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فليس يجري من الآيات بعده ما يكون خرقا للعادة ولا قلب العين، وإنما يكون كرامة لأوليائه، مثل: دعز مجابة ورؤيا صالحة وبركة ظاهرة وفضل بين وتوفيق من الله تعالى إلى الإبراء مما اتهم به الصالحون وامتحن به المتقون. وفيه: أن دعاء الأم أو الأب على ولده، إذا كان بنية خالصة، قد يجاب، وإن كان في حال الضجر. وفيه: أيضا خلاص الولد من بلية باتلي بها ببركة دعاء والديه. وفيه: دليل أن الوضوء كان لغير هذه الأمة أيضا إلا أن هذه الأمة قد خصت بالغرة والتحجيل خلافا لمن خصها بأصل الوضوء.
بسم الله الرحمان الرحيم
39

74
((كتاب الشركة))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الشركة، هكذا وقع في رواية النسفي، وابن شبويه، ووقع في رواية الأكثرين: باب الشركة، ووقع في رواية أبي ذر: في الشركة، بدون لفظ: كتاب، ولا لفظ: باب، والشركة، بفتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين وإسكان الراء، وفتح الشين وإسكان الراء. وفيه لغة رابعة: شرك، بغير تاء التأنيث. قال تعالى: * (وما لهم فيها من شرك) * (سبأ: 22). أي: من نصيب، وجمع الشركة: شرك، بفتح الراء وكسر الشين، يقال: شركته في الأمر أشركه شركة، والاسم الشرك وهو: النصيب. قال صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركا له)، أي: نصيبا وشريك الرجل ومشاركه سواء، وهي في اللغة الاختلاط على الشيوع أو على المجاورة، كما قال تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي) * (ص: 42) وفي الشرع ثبوت الحق لاثنين فصاعدا في الشيء الواحد كيف كان.
ثم هي تارة تحصل بالخلط، وتارة بالشيوع الحكمي كالإرث، وقال أصحابنا: الشركة في الشرع عبارة عن العقد على الاشتراك واختلاط النصيبين، وهي على نوعين: شركة الملك، وهي أن يملك اثنان عينا أو إرثا أو شراء أو هبة أو ملكا بالاستيلاء، أو اختلط مالهما بغير صنع أو خلطاه، خلطا بحيث يعسر التمييز أو يتعذر، فكل هذا شركة ملك وكل واحد منهما: أجنبي في قسط صاحبه. والنوع الثاني: شركة العقد، وهي أن يقول أحدهما: شاركتك في كذا، ويقبل الآخر، وهي على أربعة أنواع: مفاوضة، وعنان، وتقبل، وشركة وجوه، وبيانها في الفروع.
1
((باب الشركة في الطعام والنهد والعروض وكيف قسمة ما يكال ويوزن مجازفة أو قبضة قبضة لما لم ير المسلمون في النهد بأسا أن يأكل هذا بعضا وهذا بعضا وكذلك مجازفة الذهب والفضة والقران في التمر))
أي: هذا باب في بيان حكم الشركة في الطعام، وقد عقد لهذا باب مفردا مستقلا يأتي بعد أبواب، إن شاء الله تعالى. قوله: (والنهد)، بفتح النون وكسرها وسكون الهاء وبدال مهملة، قال الأزهري في (التهذيب): النهد إخراج القوم نفقاتهم على قدر عدد الرفقة، يقال: تناهدوا، وقد ناهد بعضهم بعضا. وفي (المحكم): النهد العون، وطرح نهده مع القوم أعانهم وخارجهم، وقد تناهدوا أي: تخارجوا، يكون ذلك في الطعام والشراب، وقيل: النهد إخراج الرفقاء النفقة في السفر وخلطها، ويسمى بالمخارجة، وذلك جائز في جنس واحد وفي الأجناس، وإن تفاوتوا في الأكل، وليس هذا من الربا في شيء، وإنما هو من باب الإباحة، وقال ثعلب: هو النهد، بالكسر، قال: والعرب تقول: هات نهدك، مكسورة النون. وحكى عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قال: أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحس لأخلاقكم وأطيب لنفوسكن. وفي (المطالع): أن القابسي فسره بطعام الصلح بين القبائل، وعن قتادة: ما أفلس المتلازمان يعني: المتناهدان، وذكر محمد بن عبد الملك التاريخي في كتاب (النهد): عن المدائني وابن الكلبي وغيرهما: أن أول من وضع النهد الحضين بن المنذر الرقاشي. قلت: الحضين، بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون: ابن المنذر بن الحارث بن وعلة بن مجالد بن يثربي بن ريان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ذهل، أحد بني رقاش، شاعر فارسي يكنى أبا ساسان، روى عن عثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهما، وروى عنه الحسن البصري وعبد الله بن الداناج وعلي بن سويد وابنه يحيى بن حضين، وكان أسيرا عند بني أمية فقتله أبو مسلم الخراساني. قوله: (والعروض)، بضم العين: جمع عرض بسكون الراء وهو المتاع، ويقابل النقد، وأراد به: الشركة في العروض، وفيه خلاف. فقال أصحابنا: لا يصح شركة مفاوضة ولا شركة عنان إلا بالنقدين وهما: الدراهم والدنانير والتبر. وقال مالك: يجوز في العروض إذا اتحد الجنس، وعند بعض الشافعية: يجوز إذا كان عرضا مثليا. وقال محمد: يصح أيضا بالفلوس الرائجة. لأنها برواجها يأحذ حكم النقدين، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح، لأن رواجها عارض. قوله: (وكيف قسمة ما يكال) أي: وفي بيان قسمة ما يدخل تحت الكيل والوزن، هل يجوز مجازفة أو يجوز قبضة قبضة، يعني: متساوية، وقيل: المراد بها مجازفة الذهب بالفضة والعكس، لجواز
40

التفاضل فيه، وكذا كل ما جاز بالتفاضل مما يكال أو يوزن من المطعومات ونحوها، هذا إذا كانت المجازفة في القسمة. وقلنا: القسمة بيع، وقال ابن بطال: قسمة الذهب بالذهب مجازفة والفضة بالفضة مما لا يجوز بالإجماع. وأما قسمة الذهب مع الفضة مجازفة، فكرهه مالك وأجازه الكوفيون والشافعي وآخرون، وكذلك: لا يجوز قسمة البر مجازفة، وكل ما حرم فيه التفاضل. قوله: (لما لم ير المسلمون) اللام فيه مكسورة والميم مخففة، هذا تعليل لعدم جواز قسمة الذهب بالذهب والفضة بالفضة مجازفة، أي: لأجل عدم رؤية المسلمين بالنهد بأسا، جوزوا مجازفة الذهب بالفضة لاختلاف الجنس، بخلاف مجازفة الذهب بالذهب والفضة بالفضة لجريان الربا فيه، فكما أن مبني النهد على الإباحة، وإن حصل التفاوت في الأكل، فكذل مجازفة الذهب بالفضة وإن كان فيه التفاوت بخلاف الذهب بالذهب والفضة
بالفضة، لما ذكرنا. قوله: (أن يأكل هذا بعضا) تقديره: بأن يأكل، وأشار به إلى أنهم كما جوزوا النهد الذي فيه التفاوت، فكذلك جوزوا مجازفة الذهب والفضة مع التفاوت، لما ذكرنا. قوله: (والقران في التمر)، بالجر، ويروى: والإقران، عطف على قوله: أن يأكل هذا بعضا، أي: بأن يأكل هذا تمرتين تمرتيين، وهذا تمرة تمرة.
وقد مر الكلام فيه مستوفى في حديث ابن عمر في كتاب المظالم في: باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز.
3842 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح وهم ثلاثمائة وأنا فيهم فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذالك الجيش فجمع ذالك كله فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة فقلت وما تغني تمرة فقال لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال ثم انتهينا إلاى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذالك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك ذلك كله) ولما كان يفرق عليهم كل يوم قليلا قليلا صار في معنى النهد، واعترض بأنه ليس فيه ذكر المجازفة، لأنهم لم يريدوا المبايعة ولا البدل. وأجيب: بأن حقوقهم تساوت فيه بعد جمعه، فتناولوه مجازفة كما جرت العادة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، وفي الجهاد عن صدقة بن الفضل. وأخرجه مسلم في الصيد عن عثمان بن أبي شيبة عن محمد ابن عبدة به وعن محمد بن حاتم عن ابن مهدي عن مالك به وعن أبي كريب عن أبي أسامة. وأخرجه الترمذي في الزهد عن هناد بن السري، وأخرجه النسائي في الصيد وفي السير عن محمد بن آدم وعن الحارث ب مسكين. وأخرجه ابن ماجة في الزهد عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعثا) كان هذا البعث في رجب سنة ثمان للهجرة، والبعث، بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وفي آخره ثاء مثلثة: وهو بمعنى المبعوث، من باب تسمية المفعول بالمصدر. قوله: (قبل الساحل)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي: جهة الساحل، والساحل شاطىء البحر. قوله: (فأمر)، بتشديد الميم: من التأمير، أي: جعل أبا عبيدة أميرا عليهم، واسم أبي عبيدة: عامر بن عبد الله بن الجراح، بفتح الجيم وتشديد الراء وبالحاء المهملة: الفهري القرشي أمين الأمة، أحد العشرة المبشرة، شهد المشاهد كلها، وثبت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلق المنفر بفيه، فوقعت ثنيتاه، مات سنة ثماني عشرة في طاعون عمواس، وقبره بغور نيسان عند قرية تسمى عمتا، وصلى عليه معاذ بن جبل
41

وكان سنه يوم مات ثمانيا وخمسين سنة. قوله: (وهم)، أي: البعث الذي هو الجيش ثلاثمائة أنفس. قوله: (فني الزاد)، قال الكرماني: إذا فني فكيف أمر بجمع الأزواد؟ فأجاب: بأنه إما أن يريد به فناء زاده خاصة، أو يريد بالفناء القلة. قلت: يجوز أن يقال معنى: فنى: أشرف على الفناء. قوله: (فكان مزودي تمر)، المزود، بكسر الميم: ما يجعل فيه الزاد، كالجراب. وفي رواية مسلم: بعثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قوله: (لقد وجدنا فقدها حين فنيت)، أي: وجدنا فقدها مؤثرا شاقا علينا، ولقد حزنا لفقدها. قوله: (ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت)، كلمة: إذا، للمفاجأة، والحوت يقع على الواحد والجمع، وقال صاحب (المنتهى): والجمع حيتان، وهي العظام منها. وقال ابن سيدة: الحوت السمك اسم جنس، وقيل: هو ما عظم منه، والجمع أحوات. وفي كتاب الفراء: جمعه أحوته وأحوات في القليل، فإذا كثرت فهي الحيتان. قوله: (مثل الظرب)، بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء: مفرد الظراب، وهي الروابي الصغار. وقال ابن الأثير: الظراب الجبال الصغار واحدها ظرب، بوزن كتف، وقد يجمع في القلة على: أظراب. قوله: (ثماني عشرة ليلة)، كذا هو في نسخة الأصيلي، وروي: ثمانية عشر ليلة، وقال ابن التين: الصواب هو الأول. وروي: فأكلنا منه شهرا. وروي: نصف شهر، وقال عياض: يعني: أكلوا منه نصف شهر طريا، وبقية ذلك قديدا. وقال النووي: من قال شهرا هو الأصل ومعه زيادة علم، ومن روى دونه لم ينف الزيادة، ولو نفاها قدم المثبت، والمشهور عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له فلا يلزم منه نفي الزيادة. وفي رواية مسلم: (فأقمنا عليها شهرا، ولقد رأيتنا تغترق من وقب عينه قلال الدهن، ونقتطع منه الفدر، كالثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيى فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله). قوله: (بضلعين)، ضبط بكسر الضاد وفتح اللام، وقال في (أدب الكاتب): ضلع وضلع. وقال الهروي: هما لغتان، والضلع مؤنثة، والوقب، بفتح الواو وسكون القاف وبالباء الموحدة: هو النقرة التي يكون فيها العين. قوله: (الفدر)، بكسر الفاء وفتح الدال المهملة وفي آخره راء: جمع فدرة، وهي القطعة من اللحم، (والوشائق)، بالشين المعجمة: جمع وشيقة، وهي اللحم القديد. وقيل: الوشيقة أن يؤخذ اللحم فيغلى قليلا ولا ينضج، فيحمل في الأسفار. وفي لفظ للبخاري: (نرصد عيرا لقريش، فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط، فسمي ذلك الجيش بجيش الخبط، فألقى لنا البحر دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منها نصف شهر وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا). وفي مسلم: قال أبو عبيدة: يعني بالعنبر ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله عز وجل، وقد اضطررتم فكلوا.
ذكر ما يستفاد منه: قال القرطبي: جمع أبي عبيدة الأزواد وقسمتها بالسوية إما إن يكون حكما حكم به لما شاهد من الضرورة وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد،
فظهر له أنه وجب على من معه أن يواسي من ليس له زاد، أو يكون عن رضا منهم، وقد فعل مثل ذلك غير مرة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بعض العلماء هو سنة. وقال ابن بطال: إستدل بعض العلماء بهذا الحديث بأنه لا يقطع سارق في مجاعة، لأن المواساة واجبة للمحتاجين وخصه أبو عمر بسرقة المأكل. وفيه: أن للإمام أن يواسي بين الناس في الأقوات في الحضر بثمن وغيره، كما فعل ذلك في السفر. وفيه: قوة إيمان هؤلاء البعث، إذ لو ضعف، والعياذ بالله، لما خرجوا وهم ثلاثمائة وليس معهم سوى جراب تمر أو مزودي تمر، كما في الحديث المذكور. قال عياض: ويحتمل أن يكون، صلى الله عليه وسلم، زودهم الجراب زائدا عما كان معهم من الزاد من أموالهم، ويحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير هذا الجراب، وكان معهم غيره من الزاد. وقيل: يحتمل أن الجراب الذي زودهم الشارع كان على سبيل البركة، فلذا كانوا يأخذونه تمرة تمرة. وفيه: فضل أبي عبيدة، ولهذا سماه الشارع: أمين هذه الأمة. وفيه: النظر في القوم والتدبير فيه وفضل الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، على ما كان فيهم من البؤس وقد استجابوا لله وللرسول من بعدما أصابهم القرح. وفيه: رضاهم بالقضاء وطاعتهم للأمير. وفيه: جواز الشركة في الطعام خلط الأزواد في السفر إذا كان ذلك أرفق بهم.
42

4842 حدثنا بشر بن مرحوم قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله تعالى عنه قال خفت أزواد القوم وأملقوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال ما بقاؤكم بعد إبلكم فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم فبسط لذالك نطع وجعلوه علي النطع فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثاى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله.
(الحديث 4842 طرفه في: 2892).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فيأتون بفضل أزوادهم) ومن قوله: (فدعا وبرك عليه) فإن فيه جمع أزوادهم وهو في معنى النهد، ودعا النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها بالبركة.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن مرحوم هو بشر بن عبيس بن مرحوم بن عبد العزيز العطار. الثاني: حاتم بن إسماعيل أبو إسماعيل. الثالث: يزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، مات بالمدينة سنة ست أو سبع وأربعين ومائة. الرابع: سلمة بن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله الأسلمي، وكنيته: أبو مسلم، وقيل: أبو عامر، وقيل: أبو إياس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه بصري وأن حاتما كوفي سكن المدينة وأن يزيد مدني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن بشر بن مرحوم أيضا وهو من أفراده، وقال الإسماعيلي: أخبرني محمد بن العباس حدثنا أحمد بن يونس حدثنا النضر ابن محمد حدثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه بمعنى هذا الحديث. قال: وقال أحمد بن حنبل: عكرمة عن إياس صحيح، أو محفوظ أو كلاما نحو هذا. وقال صاحب (التلويح): يريد الإسماعيلي: بنحوه، ما رويناه من عند الطبراني: حدثنا أبو حذيفة حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان حدثنا عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه، قال: غزونا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هوازن فأصابنا جهد شديد حتى هممنا بنحر بعض ظهرنا، وفيه: فتطاولت له، يعني للأزواد، أنظر كم هو؟ فإذا هو كربض الشاة، قال: فحشونا جربنا، ثم دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنطفة من ماء في أداة فأمر بها فصبت في قدح، فجعلنا نتطهر به حتى تطهرنا جميعا. قوله: (كربض الشاة) بفتح الراء والباء الموحدة وبالضاد المعجمة: وهو موضع الغنم الذي تربض فيه، أي: تمكث فيه، من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازما له. قوله جربنا بضم الجيم وسكون الراء جمع جراب. قوله: (بنطفة من ماء) النطفة، يقال للماء الكثير والقليل، وهو بالقليل أخص.
قوله: (خفت أزواد القوم) أي: قلت، وفي رواية المستملي: أزودة القوم. قوله: (وأملقوا) أي: افتقروا، يقال: أملق إذا افتقر. قوله: (نطع)، فيه أربع لغات. قوله: (وبرك)، بتشديد الراء أي دعا بالبركة عليه. قوله: (بأوعيتهم)، جمع وعاء. قوله: (فأحتثى الناس)، بسكون الحاء المهملة بعدها تاء مثناة من فوق ثم ثاء مثبتة: من الاحتثاء من حثا يحثو حثوا، وحثى يحثي حثيا إذا حفن حفنة. قوله: (ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره، إنما قال ذلك لأن هذا كان معجزة له، صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البيهقي في (دلائله) من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه، وفيه: فما بقي في الجيش وعاء إلا ملؤه وبقي مثله، فضحك حتى بدت نواجده وقال: أشهد أن لا إلاه إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله عبد مأمن بهما إلا حجب من النار.
5842 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا أبو النجاشي قال سمعت
43

رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فننحر جزورا فيقسم عشر قسم فنأكل لحما نضيحا قبل أن تغرب الشمس.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فيقسم عشر قسم) فإن فيه جمع الأنصباء مما يوزن مجازفة. ومحمد بن يوسف هو الفريابي، قاله الحافظ أبو نعيم، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمر، وأبو النجاشي، بفتح النون والجيم المخففة وبالشين المعجمة وتشديد الياء وتخفيفها: واسمه عطاء بن صهيب، ورافع، بالفاء: ابن خديج، بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبالجيم.
والحديث مضى من هذا الوجه في كتاب مواقيت الصلاة في: باب وقت المغرب، والمتن غير المتن.
قوله: (عشر قسم) بكسر القاف وفتح السين: جمع قسمة. قوله: (لحما نضيجا)، بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وفي آخره جيم أي: مستويا. وقال ابن الأثير: النضيج المطبوخ، فعيل بمعنى مفعول.
وفيه: قسمة اللحم من غير ميزان لأنه من باب المعروف، وهو موضوع للأكل. وقال ابن التين: فيه: الحجة على من زعم أن أول وقت العصر مصير ظل الشيء مثليه. وقال الكرماني: إن وقت العصر عند مصير الظل مثليه ليسع هذا المقدار. قلت: هذا مخالف لما قاله ابن التين على ما لا يخفى.
6842 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا حماد بن أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موساى قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم) ولا يخفى على المتأمل ذلك، وهذا الإسناد بعينه مضى في: باب فضل من علم.
وبريد، بضم الباء الموحدة ابن عبد الله بن أبي بردة يروي عن جده أبي بردة واسمه الحارث، وقيل: عامر، وقيل: اسمه كنيته، يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس.
والحديث أخرجه مسلم في الفضائل عن أبي موسى الأشعري وأبي كريب. وأخرجه النسائي في السير عن موسى بن هارون.
قوله: (إن الأشعريين) جمع أشعري، بتشديد الياء نسبة إلى الإشعر، قبيلة من اليمن، ويروى: إن الأشعرين، بدون ياء النسبة، وتقول العرب: جاءك الأشعرون بحذف الياء. قوله: (إذا أرملوا)، أي: إذا فني زادهم، من الإرمال، بكسر الهمزة وهو فناء الزاد وإعواز الطعام، وأصله من الرمل، كأنهم لصقوا بالرمل من القلة كما في قوله تعالى: * (ذا متربة) * (البلد: 61). قوله: (فهم مني) أي: متصلون بي، وكلمة: من، هذه تسمى اتصالية، نحو: لا أنا من الدد ولا الدد مني. وقال النووي: معناه المبالغة في اتحاد طريقهما واتفاقهما في طاعة الله تعالى. وقيل: المراد فعلوا فعلي في المواساة.
وفيه: منقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعظم ما شرفوا به كونه أضافهم إليه. وفيه: استحباب خلط الزاد في السفر والحضر أيضا، وليس المراد بالقسمة هنا القسمة المعروفة عند الفقهاء، وإنما المراد هنا إباحة بعضهم بعضا بموجوده. وفيه: فضيلة الإيثار والمواساة. وقال بعضهم: وفيه: جواز هبة المجهول. قلت: ليس شيء في الحديث يدل على هذا، وليس فيه إلا مواساة بعضهم بعضا والإباحة، وهذا لا يسمى هبة، لأن الهبة تمليك المال، والتمليك غير الإباحة، وأيضا: الهبة لا تكون إلا بالإيجاب والقبول لقيام العقد بهما، ولا بد فيها من القبض عند جمهور العلماء من التابعين وغيرهم، ولا يجوز فيما يقسم إلا محوزة مقسومة كما عرف في موضعها.
2
((باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية في الصدقة))
أي: هذا باب في بيان ما كان من خليطين، أي: مخالطين، وهما الشريكان إذا كان من أحدهما تصرف من إنفاق مال الشركة أكثر مما أنفق صاحبه، فإنهما يتراجعان عند الربح بقدر ما أنفق كل واحد منهما، فمن أنفق قليلا يرجع على من أنفق أكثر منه، لأنه صلى الله عليه وسلم، لما أمر الخليطين في الغنم بالتراجع بينهما
44

بالسوية، وهما شريكان، دل على أن كل شريك في معناهما. قوله: (في الصدقة)، قيد بها لورود الحديث في الصدقة، لأن التراجع لا يصح بين الشريكين في الرقاب.
7842 حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى قال حدثني أبي قال حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وما كان من خليطين...) إلى آخره، وهذا الإسناد كله بالتحديث، وهو غريب، والحديث بعين هذه الترجمة وعين هؤلاء الرواة مضى في كتاب الزكاة في: باب ما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.
3
((باب قسمة الغنم))
أي: هذا باب في بيان قسمة الغنم بالعدل، وفي بعض النسخ: باب قسم الغنم.
8842 حدثنا علي بن الحكم الأنصاري قال حدثنا أبو عوانة عن سعيد بن مسروق عن عبابة بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناس جوع فأصابوا إبلا وغنما قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير فند منها بعير فطلبوه فأعياهم وكان في القوم خيل يسيرة فأهواى رجل منهم بسهم فحبسه الله ثم قال إن لهاذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هاكذا فقال جدي إنا نرجو أو نخاف العدو غدا وليست معنا مدى أفنذبح بالقصب قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر فسأحدثكم عن ذالك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: علي بن الحكم، بفتح الحاء المهملة وفتح الكاف: الأنصاري. الثاني: أبو عوانة، بفتح العين المهملة وبعد الألف نون: واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري. الثالث: سعيد بن مسروق بن عدي الثوري والد سفيان الثوري. الرابع: عباية، بفتح العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ياء آخر الحروف مفتوحة: ابن رفاعة بن رافع بن خديج. الخامس: رافع بن خديج بن رافع بن عدي الأوسي الأنصاري الحارثي.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو مروزي من قرية تدعى غزا. وأن أبا عوانة واسطي وأن سعيد بن مسروق كوفي وأن عباية مدني. وفيه: رواية عباية عن جده، وقال الدارقطني: ورواه أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده، وتابعه عبد الوارث بن سعيد عن ليث بن أبي سليم ومبارك بن سعيد بن مسروق، فقالا: عن عباية عن أبيه عن جده، وسيجئ في الذبائح رواية البخاري أيضا عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده. قلت: رافع بن خديج روى عنه ابنه رفاعة بن رافع وابن ابنه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، على خلاف فيه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الشركة عن محمد بن وكيع وفي الجهاد والذبائح عن موسى بن إسماعيل وفي الذبائح أيضا عن مسدد وعن عمرو بن علي وعن عبدان وعن محمد بن سلام بالقصة الثانية والثالثة،
45

وعن قبيصة ببعض القصة الثالثة. وأخرجه مسلم في الأضاحي عن إسحاق بن إبراهيم وعن القاسم بن زكرياء وعن محمد بن المثنى وعن محمد بن الوليد وعن ابن أبي عمر. وأخرجه أبو داود في الذبائح عن مسدد به. وأخرجه الترمذي في الصيد عن هناد عن بندار بالقصة الثالثة وعن محمود بن غيلان بالقصة الأولى والثانية، وأعاده في السير عن هناد. وأخرجه النسائي في الحج عن محمود بن غيلان بهما وعن هناد بهما، وفي الصيد عن أحمد بن سليمان وفي الذبائح عن هناد بالقصة الثالثة وعن محمد بن منصور بالقصة الثالثة وعن عمرو بن علي بالقصة الثانية والثالثة وعن إسماعيل بن مسعود بهما، وفي الأضاحي عن أحمد بن عبد الله بن الحكم ببعض القصة الثانية. وأخرجه ابن ماجة في الأضاحي عن أبي كريب بالقصة الأولى وفي الذبائح عن محمد بن عبد الله بن نمير مقطعا في موضعين.
ذكر معناه: قوله: (بذي الحليفة)، قال صاحب (التلويح)، رحمه الله: وذو الحليفة هذه ليست الميقات إنما هي التي من تهامة عند ذات عرق، ذكره ياقوت وغيره. قلت: في رواية مسلم هكذا عن رافع بن خديج، قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذي الحليفة من تهامة. وذكر القابسي أنها المهل التي بقرب المدينة، وقاله أيضا النووي، وفيه نظر من حيث أن في الحديث ردا لقولهما، وقال ابن التين: وكانت سنة ثمان من الهجرة في قضية حنين. قوله: (في أخريات القوم)، أي: في أواخرهم وأعقابهم، وهي جمع أخرى، وكان يفعل ذلك رفقا لمن معه ولحمل المنقطع. قوله: (فعجلوا)، بكسر الجيم. قوله: (فأكفئت)، أي: قلبت وأميلت وأريق ما فيها، وهو من الإكفاء، قال ثعلب: كفأت القدر إذا كببته، وكذلك قاله الكسائي وأبو علي القالي وابن القوطية في آخرين، فعلى هذا إنما يقال: فكفئت وأكفئت إنما قال على قول ابن السكيت في (الإصلاح): لأنه نقل عن ابن الأعرابي وأبي عبيد وآخرين، يقال: أكفئت وقال ابن التين: صوابه كفئت بغير ألف من كفأت الإناء مهموزا، واختلف في إمالة الإناء، فيقال فيها: كفأت وأكفأت، وكذلك اختلف في أكفأت الشيء لوجهه.
وقد اختلف في سبب أمره بإكفاء القدور، فقيل: إنهم انتهبوها مالكين لها من غير غنيمة، ولا على وجه الحاجة إلى أكلها، يشهد له قوله في رواية: فانتهبناها. قلت: ولا على وجه الحاجة إلى أكلها، فيه نظر، لأنه ذكر في باب النهبة: فأصابتنا مجاعة، فهو بيان لوجه الحاجة. وقيل: إنما كان لتركهم الشارع في أخريات القوم واستعجالهم ولم يخافوا من مكيدة الغدر فحرمهم الشارع ما استعجلوه عقوبة لهم بنقيضي قصدهم، كما منع القاتل من الميراث. قاله القرطبي: ويؤيده رواية أبي داود: وتقدم سرعان الناس فتعجلوا فأصابوا الغنائم ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في آخر الناس. وقال النووي: إنما أمرهم بذلك لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الإسلام، والمحل الذي لا يجوز الأكل فيه من مال الغنيمة المشتركة، فإن الأكل منها قبل القسم إنما يباح في دار الحرب، والمأمور به من الإراقة إنما هو إتلاف المرق عقوبة لهم، وأما اللحم فلم يتلفوه، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغنم، ولا يظن أنه أمر بإتلافه لأنه مال الغانمين، ولأنه، صلى الله عليه وسلم، نهى عن إضاعة المال. فإن قلت: لم ينقل أنهم حملوه إلى الغنيمة؟ قلت: ولا نقل أيضا أنهم أحرقوه ولا أتلفوه، فوجب تأويله على وفق القواعد الشرعية، بخلاف لحم الحمر الأهلية يوم خيبر لأنها صارت نجسة.
قوله: (فعدل) هذا محمول على أنه كان يحسب قيمتها يومئذ، ولا يخالف قاعدة الأضحية من إقامة بعير مقام سبع شياه، لأن هذا هو الغالب في قيمة الشاة والإبل المعتدلة. قوله: (فند)، بفتح النون وتشديد الدال المهملة، أي: نفر، وذهب على وجهه شاردا، يقال: ند يند ندا وندودا. قوله: (فأعياهم)، أي: أعجزهم، يقال: أعيى إذا أعجز، وعيى بأمره إذا لم يهتد لوجهه، وأعياني هو، قوله: (يسيرة)، أي: قليلة. قوله: (فأهوى)، أي: قصد، قال الأصمعي: أهويت بالشيء إذا أومأت إليه. قوله: (أوابد)، جمع آبدة، بالمد وكسر الباء الموحدة المخففة، يقال منه: أبدت تأبد، بضم الباء وتأبد بكسرها، وهي التي نفرت من الإنس وتوحشت. وقال القزاز: مأخوذة من الأبد، وهي الدهر لطول مقامها. وقال أبو عبيد: أخذت من تأبدت الدار تأبدا، وأبدت تأبد أبودا: إذا خلا منها أهلها. قوله: (منها)، أي: من الأوابد. قوله: (فاصنعوا به هكذا) أي: إرموه بالسهم. قوله: (قال جدي إنا نرجو أو نخاف)، قال الكرماني: نرجو بمعنى نخاف، ولفظ: أو نخاف، شك من الراوي. وقال ابن التين: هما سواء. قال تعالى: * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * (الكهف: 11).
46

أي: يخافه. وقوله: (جدي) هو جد عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، وعباية الذي هو أحد الرواة يحكي عن جده رافع بن خديج أنه قال: نرجو، أو قال: إنا نخاف، والرجاء هنا بمعنى الخوف. قوله: (مدي)، بضم الميم، جمع مدية وهي السكين. قوله: (أفنذبح بالقصب؟) وفي رواية لمسلم: فنذكي بالليط، بكسر اللام وسكون الياء آخر الحروف وبالطاء المهملة: هي قطع القصب، قاله القرطبي. وقال النووي: قشوره، الواحد ليطة. وفي (سنن أبي داود): أنذكي بالمروة. فإن قلت: ما معنى هذا السؤال عند لقاء العدو؟ قلت: لأنهم كانوا عازمين على قتال العدو وصانوا سيوفهم وأسنتهم وغيرها عن استعمالها، لأن ذلك يفسد الآلة، ولم يكن لهم سكاكين صغار معدة للذبح. قوله: (ما أنهر الدم)، أي: ما أسال وأجرى الدم، وكلمة: ما، شرطية وموصولة، والحكمة في اشتراط الإنهار التنبيه على أن تحريم الميتة لبقاء دمها، ويقال: معنى أنهر الدم أساله وصبه بكثرة، وهو مشبه بجري الماء في النهر، وعند الخشني: ما انهز، بالزاي، من النهز، وهو الدفع وهو غريب. قوله: (فكلوه) الفاء جواب الشرط أو لتضمنه معناه. قوله: (ليس السن والظفر)، كلمة: ليس، بمعنى إلا، وإعراب ما بعده النصب. وقال صاحب (التلويح): هما منصوبان على الاستثناء: بليس، وفيه ما فيه. قوله: (فسأحدثكم)، أي: سأبين لكم العلة في ذلك، وليست السين هنا للاستقبال بل للاستمرار، كما في قوله تعالى: * (ستجدون آخرين) * (النساء: 19). وزعم الزمخشري أن السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة. قوله: (أما السن فعظم)، قال التيمي: العظم غالبا لا يقطع إنما يجرح ويدمي فتزهق النفس من غير أن يتيقن وقوع الذكاة، فلهذا نهى عنه، وقال النووي: لا يجوز بالعظم لأنه يتنجس بالدم، وهو زاد إخواننا من الجن، ولهذا نهى عن الاستنجاء به. وقال البيضاوي: هو قياس حذف عنه فقدمه الثانية لظهورها عندهم وهي أن كل عظم لا يحل الذبح به قوله (وأما الظفر فمدى الحبشة) المعنى فيه أن لا يتشبه بهم لأنهم كفار، وهو شعار لهم. وفي الحديث: من تشبه بقوم فهو منهم، رواه أبو داود. وقال الخطابي: ظاهره يوهم أن مدى الحبشة لا تقع بها الذكاة، ولا خلاف أن مسلما لو ذكى بمدية حبشي كافر جاز، فمعنى الكلام: أن أهل الحبشة يدمون مذابح الشاة بأظفارهم حتى تزهق النفس خنقا وتعذيبا ويحلونها محل الذكاة، فلذلك ضرب المثل به.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على أنواع:
الأول: عدم جواز الأكل من الغنيمة قبل القسمة عند الانتهاء إلى دار الإسلام.
الثاني: فيه جواز قسم الغنم والبقر والإبل بغير تقويم، وبه قال مالك والكوفيون، وأبو ثور إذا كان ذلك على التراضي. وقال الشافعي: لا يجوز قسم شيء من الحيوان بغير تقويم، قال: إنما كان ذلك على طريق القيمة، ألا ترى أنه عدل عشرة من الغنم ببعير، وهذا معنى التقويم. وقال القرطبي: وهذه الغنيمة لم يكن فيها غير الإبل والغنم، ولو كان فيها غير ذلك لقوم جميعا وقسمه على القيمة.
الثالث: فيه أن ما ند من الحيوان الإنسي لم يقدر عليه جاز أن يذكي بما يذكى به الصيد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وطاووس وعطاء والشعبي والأسود بن يزيد والنخعي والحكم وحماد والثوري وأحمد والمزني وداود، وقال النووي: والجمهور ذهبوا إلى حديث أبي العشراء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك. قلت: حديث أبي العشراء رواه الأربعة، فأبو داود عن أحمد بن يونس عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء، والترمذي عن أحمد بن منيع عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن حماد بن سلمة. وقال الترمذي بعد أن رواه: قال أحمد بن منيع: قال يزيد هذا في الضرورة، وقال أيضا: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث، واختلفوا في اسم أبي العشراء، فقال بعضهم: اسمه أسامة بن قهطم، ويقال: يسار بن برز، ويقال: ابن بلز، ويقال: اسمه عطارد، وقال أبو علي المديني: المشهور أن اسمه أسامة بن مالك بن قطهم، فنسب إلى جده، وقهطم بكسر القاف وسكون الهاء والطاء المهملة، وقال ابن الصلاح فيما نقله من خط البيهقي وغيره بكسر القاف، وقيل: قحطم بالحاء المهملة، وقال مالك وربيعة والليث: لا يؤكل إلا بذكاة الإنسي بالنحر أو الذبح، استصحابا لمشروعية أصل ذكاته، لأنه، وإن كان قد لحق بالوحش في الامتناع
47

فلم يلتحق بها لا في النوع ولا في الحكم، ألا يرى أن مملك مالكه باق عليه، وهو قول سعيد بن المسيب أيضا، وقال مالك: ليس في الحديث أن السهم قتله، وإنما قال: حبسه، ثم بعد أن حبسه صار مقدورا عليه، فلا يؤكل إلا بالذبح، ولا فرق بين أن يكون وحشيا أو إنسيا. وقوله: (فاصنعوا به هكذا)، قال مالك: نقول بموجبه، أي: نرميه ونحبسه فإن أدركناه حيا ذكيناه، وإن تلف بالرمي فهل نأكله أو لا؟ وليس في الحديث تعيين أحدهما، فلحق بالمجملات، فلا ينهض حجة. وقالوا: في حديث أبي العشراء ليس بصحيح، لأن الترمذي قال فيه ما ذكرناه الآن. وقال أبو داود: لا يصلح هذا إلا في المتردية والمستوحشة، قالوا: ولئن سلمنا صحته لما كان فيه حجة، إذ مقتضاة جواز الذكاة في أي عضو كان مطلقا في المقدور على تذكيته وغيره، ولا قائل به في المقدور عليه، فظاهره ليس بمراد قطعا، وقال شيخنا، رحمه الله: ليس العمل على عموم هذا الحديث. ولعله خرج جوابا بالسؤال عن المتوحش والمتردي الذي لا يقدر على ذبحه، وقد روى أبو الحسن الميموني أنه سأل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقال: هو عندي غلط. قلت: فما تقول؟ قال: أما أنا فلا يعجبني ولا أذهب إليه إلا في موضع ضرورة، كيف ما أمكنتك الذكاة لا يكون إلا في الحلق أو اللبة، قال: فينبغي للذي يذبح أن يقطع الحلق أو اللبة. قلت: روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة بن رافع عن ابن عمر: أن بعيرا تردى في بئر بالمدينة، فلم يقدر على منحره، فوجىء بسكين من قبل خاصرته، فأخذ منه ابن عمر عشيرا بدرهمين. العشير: لغة في العشر: كالنصيف والنصف. وقيل: العشير الإمعاء، ومع هذا قول الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة والتابعين فيه الكفاية في الاحتجاج به.
الرابع: فيه: من شرط الذكاة إنهار الدم، ولم يخص بشيء من العروق في شيء من الكتب الستة إلا في رواية رواها ابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية من لم يسم
عن رافع بن خديج، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الذبيحة بالليطة، فقال: كل ما فرى الأوداج إلا السن أو الظفر، ولا شك أن ذلك مخصوص بمكان الذبح والنحر لغلبة الدم فيه، ولكونه أسرع إلى إزهاق نفس الحيوان وإراحته من التعذيب. واختلف العلماء فيما يجب قطعه في الذبح، وهو أربعة: الحلقوم والمرىء والودجان فاشترط قطع الأربعة: الليث وداود وأبو ثور وابن المنذر من أصحاب الشافعي ومالك في رواية، ولو اكتفى الشافعي وأحمد في المشهور عنه بقطع الحلقوم والمريء فقط، واكتفى مالك بالحلقوم والودجين، واكتفى أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية بقطع ثلاثة من الأربعة، وعن أبي يوسف: اشتراط الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية، وعنه أيضا اشتراط الحلقوم والمري وأحد الودجين، واشترط محمد بن الحسن أكثر كل واحد من الأربعة.
الخامس: فيه اشتراط التسمية لأنه قرنها بالذكاة وعلق الإباحة عليها، فقد صار كل واحد منهما شرطا وهو حجة على الشافعي في عدم اشتراط التسمية، فقال: لو ترك التسمية عامدا أو ناسيا، تؤكل ذبيحته، وبه قال أحمد في رواية. وقال صاحب (الهداية): قال مالك: لا يؤكل في الوجهين. قلت: ليس كذلك مذهبه، بل مذهبه ما ذكره ابن قدامة في (المغني): أن عند مالك يحل إذا تركها ناسيا، ولا يحل إذا تركها عامدا. قلت: هذا هو مثل مذهبنا، فإن عندنا إذا تركها عامدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيا أكل ما ذبحه، والمشهور عن أحمد مثل قولنا، ومذهبنا مروي عن ابن عباس وطاووس وابن المسيب والحسن والثوري وإسحاق وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وفي التفسير في سورة الأنعام وداود بن علي يحرم متروك التسمية ناسيا، وقال في (النوازل): وفي قول بشر لا يؤكل إذا ترك التسمية عامدا أو ناسيا. وقال القدوري في (شرحه لمختصر الكرخي): وقد اختلف الصحابة في النسيان، فقال علي وابن عباس: إذا ترك التسمية أكل، وقال ابن عمر: لا يؤكل، والخلاف في النسيان يدل على اتفاقهم في العمد. فإن قلت: كيف صورة متروك التسمية عمدا؟ قلت: أن يعلم أن التسمية شرط وتركها مع ذكرها، أما لو تركها من لم يعلم باشتراطها فهو في حكم الناسي، ذكره في (الحقائق) وكذلك الحكم على الخلاف إذا تركها عمدا عند إرسال البازي والكلب والرمي، قال صاحب (الهداية): وهذا القول من الشافعي مخالف للإجماع، لأنه لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية ناسيا. والحديث الذي رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم وليذكر اسم الله ثم ليأكل). حديث ضعيف لأن في سنده محمد بن يزيد بن سنان، قالوا: كان صدوقا، ولكن كان شديد الغفلة. وقال ابن القطان: وفي سنده معقل بن عبد الله وهو وإن كان من رجال مسلم لكنه أخطأ في رفع هذا الحديث، وقد رواه سعيد بن منصور وعبد الله
48

بن الزبير الحميدي عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس. قوله: وكذلك الحديث الذي رواه الدارقطني من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله؟ قال: (اسم الله على كل مسلم)، وفي لفظ: (على فم كل مسلم)، ضعيف لأن في سنده مروان بن سالم، ضعفه أحمد والنسائي والدارقطني أيضا. فإن قلت: روى أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن ثور بن يزيد عن الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر) قلت: هذا مرسل، وهو ليس بحجة عنده، وقال ابن القطان: وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد.
السادس: فيه: عدم جواز الذبح بالسن والظفر، ويدخل فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات، وسواء المتصل والمنفصل بحسب ظاهر الحديث، وسواء الطاهر والنجس. وقال النووي: ويلتحق به سائر العظام من كل حيوان المتصل والمنفصل. وقيل: كل ما صدق عليه اسم العظم فلا تجوز الذكاة بشيء منه، وهو قول النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود، وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجوز بالسن والعظم المتصلين، ويجوز بالمنفصلين، وعن مالك روايات أشهرها: جوازه بالعظم دون السن كيف كانا، والثانية كمذهب الشافعي، والثالثة كمذهب أبي حنيفة، والرابعة: يجوز بكل شيء بالسن والظفر. وعن ابن جريج جواز التذكية بعظم الحمار دون القرد، وقال صاحب (الهداية): ويجوز الذبح بالظفر والقرن والسن إذا كان منزوعا وينهر الدم ويفري الأوداج، وذكر في (الجامع الصغير): محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة أنه قال: أكره هذا الذبح وإن فعل فلا بأس بأكله، واحتج أصحابنا في ذلك بما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن سماك بن حرب عن مري ابن قطري عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: (أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله). وفي لفظ النسائي: أنهر الدم. وكذلك رواه أحمد في (مسنده) قال الخطابي: ويروى: أمره، قال: والصواب: أمرر، بسكون الميم وتخفيف الراء. قلت: وبهذا اللفظ رواه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (المستدرك) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقال السهيلي في (الروض الأنف): أمر الدم، بكسر الميم، أي: أسله، يقال: دم مائر أي: سائل، قال: هكذا رواه النقاش وفسره، ورواه أبو عبيد بسكون الميم، وجعله من: مريت الضرع والأول أشبه بالمعني، وجمع الطبراني بين الروايات الثلاث، وفيه رواية رابعة عند النسائي في (سننه الكبرى): أهرق، فيكون الجميع برواية أبي عبيد خمس روايات. بيان ذلك: أن الأولى: أمرر من الإمرار، والثانية: أمر من المير، أجوف يائي، والثالثة: أنهر، من الإنهار، والرابعة: أهرق، من الإهراق. وأصله: أرق من الإراقة، والهاء زائدة. والخامسة: من المري، ناقص يائي، والجواب عن قوله: ليس السن والظفر، أنه محمول على غير المنزوع، فإن الحبشة كانوا يفعلون كذلك إظهارا للجلادة، فإنهم لا يقلمون ظفرا ويحدون الأسنان بالمبرد ويقاتلون بالخدش والعض، ولأنهما إذا ذكرا مطلقين يراد فيهما غير المنزوع، أما المنزوع فيذكر مقيدا، يقال: سن منزوع وظفر منزوع، وقال ابن القطان في الحديث المذكور: شك في موضعين: في اتصاله، وفي قوله: أما السن فعظم، هل هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ ثم روى عن أبي داود هذا الحديث، وفيه: قال رافع: وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة، ولم يكن أيضا في حديث مسلم. أما السن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم نصا.
السابع: أن حكم الصيال حكم الندود، وفي (المنتقى): في البعير إذا صال على إنسان فقتله وهو يريد الذكاة حل أكله.
الثامن: أن الذكاة لا بد فيها من آلة حادة تجري الدم، وأنه لا يكفي في ذلك الرض والدفع بالشيء الثقيل الذي لا حد له، وإن أزال الحياة، وهذا مجمع عليه، وسواء في ذلك الحديد والنحاس والزجاج والقصب والحجر، وكل ما له حد إلا ما يستثنى منه في الحديث والله أعلم. التاسع: استدل بقوله ما أنهر الدم على أنه يجزئ فيما شرع ذبحه النحر، وفيما شرع نحره الذبح، وهو قول كافة العلماء إلا داود ومالكا في إحدى الروايات عنه، وعن مالك: الكراهة في رواية، وعنه في رواية: التفرقة، فيجزىء ذبح المنحور ولا يجزئ نحر المذبوح.
العاشر: أجمعوا على أفضلية نحر الإبل وذبح الغنم، واختلفوا في البقر، والصحيح إلحاقها بالغنم وهو قول الجمهور، وقيل: يتخير فيها بين الأمرين.
49

4
((باب القرآن في التمر بين الشركاء حتى يستأذن أصحابه))
هذه الترجمة هكذا موجودة في النسخ المتداولة بين الناس، قيل: لعل، حتى، بمعنى: حين، فتحرفت أو سقط من الترجمة شيء، أما لفظ النهي من أولها أو: لا يجوز، قبل: حتى. قلت: لا يحتاج إلى ظن التحريف فيه، بلى فيه حذف، وباب الحذف شائع ذائع تقديره: هذا في بيان حكم القران الكائن في التمر الكائن بين الشركاء، لا ينبغي لأحد منهم
أن يقرن حتى يستأذن أصحابه، وذلك من باب حسن الأدب في الأكل، لأن القوم الذين وضع بين أيديهم التمر كالمتساوين في أكله، فإن استأثر أحدهم بأكثر من صاحبه لم يجز له ذلك، ومن هذا الباب جعل العلماء النهي عن النهبة في طعام الأعراس وغيرها، لما فيه من سوء الأدب والاستئثار بما لا يطيب عليه نفس صاحب الطعام، وقال أهل الظاهر: إن النهي عنه على الوجوب، وفاعله عاص إذا كان عالما بالنهي، ولا نقول: إنه أكل حراما، لأن أصله الإباحة، ودليل الجمهور أنه إنما وضع بين أيدي الناس للأكل، فإنما سبيله سبيل المكارمة لا على التشاح، لاختلاف الناس في الأكل، فبعضهم يكفيه اليسير، وبعضهم لا يكفيه أضعافه، ولو كانت سهمانهم سواء لما ساغ لمن لا يشبعه اليسير أن أكل أكثر من مثل نصيب من يشبعه اليسير، ولما لم يتشاح الناس في هذا المقدار علم أن سبيل هذه المكارمة، لا على معنى الوجوب.
9842 حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا سفيان قال حدثنا جبلة بن سحيم قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وخلاد بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام: ابن يحيى بن صفوان أبو محمد السلمي الكوفي، سكن مكة. وهو من أفراده، وقد مر في الغسل، وسفيان هو الثوري، وجبلة، بالجيم والباء الموحدة واللام المفتوحات: ابن سحيم، بضم السين المهملة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف: التيمي، ويقال: الشيباني، مر في كتاب الصوم في باب: إذا رأيتم الهلال. وهذا الحديث والذي بعده عن جبلة عن ابن عمر، فالأول: عن سفيان عن جبلة، والثاني: عن شعبة عن جبلة، وقد ذكره في المظالم في: باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز، عن شعبة أيضا عن جبلة، وقد مر الكلام فيه هناك.
0942 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن جبلة قال كنا بالمدينة فأصابتنا سنة فكان ابن الزبير يرزقنا التمر وكان ابن عمر يمر بنا فيقول لا تقرنوا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه.
أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي. قوله: (سنة)، أي جدب وغلاء. (وابن الزبير) هو عبد الله بن الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (يرزقنا التمر)، أي: يقوتنا به يقال: رزقته رزقا فارتزق، كما يقال: قته فاقتات، والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الدار والعبد، وأصله في اللغة: الحظ والنصيب، وكل حيوان يستوفي رزقه حلالا أو حراما. قوله: (لا تقرنوا)، من قرن يقرن من باب ضرب يضرب، ويروى عن جبلة قال: كنا بالمدينة في بعث العراق، فكان ابن الزبير يرزقنا التمر، وكان ابن عمر يمر ويقول: لا تقارنوا إلا أن يستأذن الرجل أخاه، هذا لأجل ما فيه من الغبن، ولأن ملكهم فيه سواء، ويروى نحوه عن أبي هريرة في أصحاب الصفة. قوله: (نهى عن الإقران)، ويروى: (عن القران)، والنهي فيه للتنزيه، وقالت الظاهرية: للتحريم.
5
((باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل))
أي: هذا باب في بيان حكم تقويم الأشياء نحو: الأمتعة والعروض بين الشركاء حال كون التقويم بقيمة عدل، وحكمه أنه: يجوز بلا خلاف، وإنما الخلاف في قسمتها بغير تقويم، فأجازه الأكثرون إذا كان على سبيل التراضي، ومنعه الشافعي.
1942 حدثنا عمران بن ميسرة قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن نافع عن ابن
50

عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق شقصا له من عبد أو شركا أو قال نصيبا وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق وإلا فقد عتق منه ما عتق قال لا أدري قوله عتق منه ما عتق قول من نافع أو في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (بقيمة العدل).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عمران بن ميسرة ضد الميمنة مر في العلم. الثاني: عبد الوارث بن سعيد التميمي العنبري. الثالث: أيوب بن أبي تميمة السختياني.
الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده، وأن عبد الوارث وأيوب بصريان وأن نافعا مدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في العتق عن أبي النعمان عن حماد بن زيد. وأخرجه مسلم في النذور عن زهير بن حرب، وفيه وفي العتق عن أبي الربيع الزهراني وأبي كامل الجحدري. وأخرجه أبو داود في العتق عن أبي الربيع به وعن مؤمل بن هشام. وأخرجه الترمذي في الأحكام عن أحمد بن منيع عن إسماعيل به وأخرجه النسائي في البيوع عن عمرو بن علي وفي العتق عن إسحاق بن إبراهيم وعن عمرو بن زرارة وعن محمد بن يحيى.
ذكر معناه: قوله: (شقصا) بكسر الشين المعجمة وسكون القاف وبالصاد المهملة: وهو النصيب قليلا أو كثيرا. ويقال له: الشقيص أيضا، بزيادة الياء، مثل: نصف ونصيف، ويقال له أيضا: الشرك بكسر الشين أيضا، وقال ابن دريد، الشقص هو القليل من كل شيء، وقال القزاز: لا يكون إلا القليل من الكثير، وقال في (الجامع): الشقص النصيب والسهم، تقول لي في هذا المال شقص، أي: نصيب قليل، والجمع أشقاص، وقد شقصت الشيء إذا جزأته، وقال ابن سيده: وقيل: هو الحظ وجمعه شقاص، وقال الداودي: الشقص والسهم والنصيب والحظ كله واحد. قلت: وفيه تحرز الراوي عن مخالفة لفظ الحديث وإن أصاب المعنى، لأن النصيب والشرك والشقص بمعنى واحد، ولما شك فيه الراوي أتى بهذه الألفاظ تحريا وتحرزا عن المخالفة، وقد اختلف في وجوب ذلك واستحبابه، ولا خلاف في الاستحباب، وذهب غير واحد إلى جواز الرواية بالمعنى للعالم بما يحيل الألفاظ دون غيره. قوله: (من عبد)، يتناول الذكر والأنثى، فأما الذكر فبالنص، وأما الأنثى، فقيل: إن اللفظ يتناولها أيضا بالنص، فإن إطلاق لفظ: العبد، يتناول كلا منهما، قال ابن العربي: وذلك لأنها صفة، فيقال: عبد وعبدة، فإذا أطلقت القول يتناول الذكر والأنثى وقيل: إنما يثبت ذلك في الأنثى بالقياس الجلي، إذ المعنى الموجود في الذكر موجود في الأنثى، لأن وصف الذكورة والأنوثة لا تأثير له في الوصف المقتضي للحكم، وقال إمام الحرمين: أدراك كون الأمة فيه كالعبد حاصل للسامع قبل التفطن لوجه الجمع. قلت: في (صحيح البخاري) التصريح بالأمة من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أنه كان يفتي في العبد أو الأمة، يكون بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه منه، وفي آخره: يخبر ذلك عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في الحديث الثاني في الباب: من أعتق شقيصا من مملوك، وهذا شامل للعبد والأمة أيضا، وحكى عن ابن إسحاق بن راهويه تخصيص هذا الحكم بالعبيد دون الإماء، قال النووي: وهذا القول شاذ مخالف للعلماء كافة. قوله: (وكان له)، أي: للمعتق. قوله: (ثمنه)، أي: ثمن العبد بتمامه. قوله: (بقيمة العدل)، وهو أن يقوم على أن كله عبد، ولا يقوم بعيب العتق. قاله أصبغ وغيره، وقيل: يقوم على أنه مسه العتق، وفي لفظ: قوم عليه بأعلى القيمة، وعند الإسماعيلي: ولا وكس ولا شطط. قوله: (فهو عتيق)، أي: العبد كله عتيق، أي: معتوق بعضه بالإعتاق وبعضه بالسراية. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يكن له ما يبلغ ثمنه فقد عتق منه ما عتق، أي: ما عتقه، يعني: المقدار الذي عتقه، والعين مفتوحة في: عتق الأول، وعتق، الثاني. وقال الداودي: يجوز ضم العين في الثاني، وتعقبه ابن التين. فقال: هذا لم يقله غيره ولا يعرف عتق بالضم، لأن الفعل لازم صحيح، لأنه يقال: عتق العبد عتقا وعتاقة وعتاقا فهو عتيق، وهم عتقاء، وأعتقه مولاه. وفي (المغرب): وقد يقام العتق مقام الإعتاق، وقال ابن الأثير؛ يقال: أعتقت العبد أعتقه عتقا وعتاقة، فهو معتق وأنا معتق، وعتق فهو عتيق أي: حررته
51

وصار حرا. قوله: (قال: لا أدري) أي: قال أيوب، قاله الطرقي، وكذا في (صحيح الإسماعيلي): قال أيوب، فذكره، قال: وفي رواية المعلى عن حماد عن أيوب، قاله نافع.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على أنواع:
الأول: في بيان مسألة الترجمة، وهو التقويم في قسمة الرقيق، فعند أبي حنيفة والشافعي: لا تجوز قسمته إلا بعد التقويم، واحتجا بهذا الحديث وبالحديث الذي بعده، قالا: أجاز صلى الله عليه وسلم تقويمه في البيع للعتق، فكذلك تقويمه في القسمة، وقال مالك وأبو يوسف ومحمد: يجوز قسمته بغير تقويم إذا تراضوا على ذلك، وحجتهم أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين وكان أكثرها السبي والماشية، ولا فرق بين الرقيق وسائر الحيوانات، ولم يذكر في شيء من السبي تقويم. قلت: مذهب أبي حنيفة: أن الرقيق لا يقسم إلا إذا كان معه شيء آخر للتفاوت فيه، والتفاوت في الآدمي فاحش لتفاوت المعاني الباطنة كالذهن والكياسة والأمانة والفروسية والكتابة، فيعتذر التعديل إلا إذا كان معه شيء آخر، فحينئذ يقسم قسمة الجميع من غير رضا الشركاء، فيجعل الرقيق تبعا كبيع الشرب والطريق، ونحوهما، وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم الرقيق جبرا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد لاتحاد الجنس، وإنما التفاوت في القيمة وذا لا يمنع صحة القسمة كما في الإبل والبقر ورقيق الغنم، والجواب من جهة أبي حنيفة: أن التفاوت في الحيوانات يقل عند اتحاد الجنس، ألا يرى أن الذكر والأنثى من بني آدم جنسان، ومن الحيوانات جنس واحد؟ ألا يرى أنه إذا اشترى شخصا على أنه عبد فإذا هو جارية لا ينعقد العقد، ولو اشترى غنما أو إبلا على أنه ذكر، فإذا هو أنثى ينعقد العقد، بخلاف المغانم، لأن حق المغانمين في المالية حتى كان للإمام بيعها وقسمة ثمنها بينهم، وفي الرقيق شركة الملك يتعلق بالعين والمالية، فافترق حكمهما، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر.
الثاني: احتج مالك والشافعي وأحمد بالحديث المذكور: أنه إذا كان عبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان له مال غرم نصيب صاحبه وعتق العبد من ماله، وإن لم يكن له مال عتق من العبد ما عتق ولا يستسعى. قال الترمذي: وهذا قول أهل المدينة، وعند أبي حنيفة أن شريكه مخير، إما أنه يعتق نصيبه أو يستسعى العبد والولاء في الوجهين لهما، أو يضمن المعتق قيمة نصيبه لو كان موسرا، أو يرجع بالذي ضمن على العبد، ويكون الولاء للمعتق، وعند أبي يوسف ومحمد: ليس له إلا
الضمان مع اليسار، أو السعاية مع الإعسار، ولا يرجع المعتق على العبد بشيء، والولاء للمعتق في الوجهين واحتج أبو حنيفة بما رواه البخاري أيضا: من أعتق شقصا له في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، وإلا قوم عليه واستسعى به غير مشقوق، أي لا يشدد عليه. ورواه مسلم أيضا فثبت السعاية بذلك، وقال ابن حزم: على ثبوت الاستسعاء ثلاثون صحابيا. وقوله: وإلا فقد عتق منه ما عتق، لم تصح هذه الزيادة عن الثقة أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال أيوب ويحيى بن سعيد الأنصاري: أهو شيء في الحديث أو قاله نافع من قبله؟ وهما الراويان لهذا الحديث. وقال ابن حزم في (المحلى): هي مكذوبة.
واعلم أن ههنا أربعة عشر مذهبا. الأول: مذهب عروة ومحمد بن سيرين والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وزفر: أن من أعتق شركا له في عبد ضمن قيمة حصة شريكه موسرا كان أو معسرا، ورووا ذلك عن عبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب. الثاني: مذهب ربيع: أن من أعتق حصة له من عبد بينه وبين آخر لم ينفذ عتقه، نقله أبو يوسف عنه. الثالث: مذهب الزهري وعبد الرحمن بن يزيد وعطاء ابن أبي رباح وعمرو بن دينار: أنه ينفذ عتق من أعتق ويبقى من لم يعتق على نصيبه يفعل فيه ما شاء. الرابع: مذهب عثمان الليثي، فإنه ينفذ عتق الذي أعتق في نصيبه ولا يلزمه شيء لشريكه إلا أن تكون جارية رائعة. إنما تلتمس للوطء، فإنه يضمن للضرر الذي أدخل على شريكه. الخامس: مذهب الثوري والليث والنخعي في قول، فإنهم قالوا: إن شريكه بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء ضمن المعتق. السادس: مذهب ابن جريج وعطاء بن أبي رباح في قول: إنه إن أعتق أحد الشريكين نصبه استسقى العبد سواء كان المعتق معسرا أو موسرا السابع مذهب عبد الله بن أبي يزيد أنه أن أعتق مشركا له في عبد وهو مفلس، فأراد العبد أخذ نصيبه بقيمته فهو أولى بذلك إن نقد. الثامن: مذهب ابن سيرين أنه: إذا أعتق نصيبه في عبد فباقيه يعتق من بيت مال المسلمين. التاسع: مذهب مالك: أن المعتق إن كان موسرا قوم عليه حصص شركائه، وأغرمها لهم. وأعتق كله بعد التقويم لا قبله، وإن شاء الشريك أن يعتق حصته فله ذلك، وليس له أن يمسكه رقيقا، ولا أن يكاتبه، ولا أن يبيعه، ولا أن يدبره وإن كان معسرا، فقد عتق ما أعتق والباقي رقيق يبيعه الذي هو له إن شاء أو
52

يمسكه رقيقا أو يكاتبه أو يهبه أو يدبره، وسواء أيسر المعتق بعد عتقه أو لم يوسر. العاشر: مذهب الشافعي في قول، وأحمد وإسحاق: أن الذي أعتق إن كان موسرا قوم عليه حصة من شركه، وهو حر كله حين أعتق الذي أعتق نصيبه، وليس لمن يشركه أن يعتقه، ولا أن يمسكه وإن كان معسرا. فقد عتق ما عتق وبقي سائره مملوكا يتصرف فيه مالكه كيف شاء. الحادي عشر: مذهب عبد الله بن شبرمة والأوزاعي والحسن بن حي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والشعبي والحسن البصري وحماد بن أبي سليمان وقتادة كمذهب أبي يوسف ومحمد، وقد ذكرناه. الثاني عشر: مذهب أبي حنيفة، وقد ذكرناه. الثالث عشر: مذهب بكير بن الأشج فإنه قال في رجلين بينهما عبد فأراد أحدهما أن يعتق أو يكاتب: فإنهما يتقاومانه. الرابع عشر: مذهب الظاهرية، أنه إذا أعتق أحد نصيبه من العبد المشترك يعتق كله حين تلفظ بذلك، فإن كان له مال يفي بقيمة حصة شريكه على حسب طاقته، ليس للشريك غير ذلك، ولا له أن يعتق، والولاء للذي أعتق أولا، ولا يرجع العبد على من أعتقه بشيء مما سعى فيه، حدث له مال أو لم يحدث.
النوع الثالث: فيه دليل على صحة عتق الموسر وتبرعاته من الصدقة ونحوها، وهو قول جمهور العلماء، وذهب بعضهم إلى أنه إذا كان معسرا لا يصح عتق نصيبه ويبقى العبد جميعه في الرق، وحكاه القاضي عياض، وقد ادعى ابن عبد البر الاتفاق على خلافه، فقال: وقد أجمع العلماء على القول بنفوذ العتق من الشخص، سواء كان المعتق معسرا أو موسرا.
النوع الرابع: يستدل بعموم قوله: من أعتق، على أن الحكم فيه عام في جميع من يصح منه العتق، سواء كان المعتق أو الشريك أو العبد المعتق مسلما أو كافرا.
النوع الخامس: فيه أن المال الغائب كالحاضر، لأنه مالك عليه، فيعتق عليه حصة شريكه بالسراية ويطالبه بقيمة حصته، وفيه خلاف للمالكية.
النوع السادس: قال شيخنا: في قوله: ما يبلغ ثمنه، حجة لأحد الوجهين لأصحاب الشافعي أنه إذا ملك ما يبلغ بعض ثمن حصة شريكه أنه لا يعتق عليه.
النوع السابع: في أن المراد بقوله: فكان له من المال ما يبلغ ثمنه، وهو ما يفضل عن قوت يومه وقوت من يلزمه نفقته، وسكنى يومه، ودست ثوب كما هو المعتبر في الديون، وهو قول الجماهير من العلماء، وبه جزم الرافعي فإنه قال: وليس اليسار المعتبر في هذا الباب كاليسار المعتبر في الكفارة المرتبة، وكذا قال ابن الماجشون من المالكية، وقال أشهب: يباع عليه ثياب ظهره ولا يترك له إلا ما يصلي فيه، وقال ابن القاسم: يباع عليه منزله الذي يسكنه وشوار بيته، ولا يترك له إلا كسوة ظهره، وعيشة الأيام.
النوع الثامن: في قوله: من أعتق، دليل على أنه لا فرق بين أن يكون من أعتق نصيبه واحدا أو أكثر.
النوع التاسع: قال شيخنا: إذا وقع العتق من واحد فأكثر معا وكانوا موسرين فيقوم عليهم على قدر الحصص أو على عدد الرؤوس، فيه خلاف عند الشافعية والمالكية، والأصح عند أصحاب الشافعي أنه: على عدد الرؤوس كالشفعة، وصحح ابن العربي أن هذا على قدر الحصص.
النوع العاشر: قال شيخنا أيضا إن في قوله: (من أعتق شقصا له) دليل أن تقدم كتابة شريكه لعبده في حصته لا يمنع من سراية العتق في نصيب شريكه، لأن المكاتب عبد، وهو الصحيح المشهور، كما قال الرافعي.. وعن صاحب (التقريب) رواية وجه أو قول: أنه لا يسري إذ لا سبيل إلى إبطال الكتابة.
النوع الحادي عشر: قال شيخنا أيضا: وفيه أيضا أن تعلق الرهن بحصة الشريك لا يمنع من السراية، وهو الصحيح كما قال الرافعي.
النوع الثاني عشر: قال شيخنا أيضا: فيه أن تقدم تدبير الشريك بحصته على إعتاق الشريك الموسر بحصته، لا يمنع السراية أيضا، وفيه قولان للشافعي، والأقوى كما قال الرافعي: أنه لا يمنع، والقول الثاني: أنه يمنع.
النوع الثالث عشر: فيه: أيضا أن تقدم استيلاء الشريك وهو معسر لا يمنع سراية إعتاق شريكه.
النوع الرابع عشر: استدل به ابن عبد البر لقول مالك وأصحابه: إن من أفسد شيئا من العروض التي لا تكال ولا توزن فإنما عليه قيمة ما استهلك من ذلك لا مثله، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على من أعتق نصيبه نصف عبد مثله لشريكه، قال مالك: القسمة أعدل في ذلك، وهذا قول أبي حنيفة أيضا.
53

النوع الخامس عشر: قال شيخنا: الحديث محمول على ما إذا أعتق نصيبه في حالة الصحة، فإذا أعتق حصته في المرض ومات فإنه لا ينفذ ولا يسري على الموسر إلا ما احتمله ثلث ماله، وكذلك لو أوصى بعتق نصيبه أو ببعض حصته فإنه لا يسري عليه شيء زائد على ذلك، لا في حصته ولا في حصة شريكه، لأنه قد انقطع ملكه بالموت.
النوع السادس عشر: شرط السراية التي هي من خواص العتق أن يحصل العتق في حصته باختياره حتى لو ورت سقطا من قريبه الذي يعتق عليه لم يسر ولم يقوم عليه نصيب شريكه، بخلاف ما إذا اشتراه أو اتهبه، قاله الرافعي.
2942 حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شقيصا من مملوكه فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى غير مشقوق عليه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (قوم المملوك قيمة عدل).
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن محمد أبو محمد، مر في الوحي. الثاني: عبد الله بن المبارك. الثالث: سعيد بن أبي عروبة، بفتح العين المهملة وضم الراء وبالباء الموحدة: واسمه مهران اليشكري. الرابع: قتادة بن دعامة. الخامس: النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن أنس بن مالك النجاري الأنصاري. السادس: بشير، بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: ابن نهيك، بفتح النون وكسرها وبالكاف: السلولي، ويقال: السدوسي. السابع: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو وشيخه مروزيان والبقية بصريون، وقال الخطيب: رواه يزيد بن هارون عن سعيد عن قتادة عن النضر بن أنس بلفظ: من أعتق نصيبا له من عبد ولم يكن له مال استسعى العبد في ثمن رقبته غير مشقوق عليه، هكذا رواه يزيد، قصر عن بعض الألفاظ التي ذكرها عبد الله بن بكر عن ابن أبي عروبة، وقد رواه سعيد بن المبارك ويزيد بن زريع ومحمد بن بشر العبدي ويحيى القطان ومحمد ب أبي عدي فأحسنوا سياقه، واستوفوا ألفاظه، وكذلك رواه أبان بن يزيد وجرير بن حازم وموسى بن خلف عن قتادة، ورواه شعبة عن قتادة فلم يذكر استسعاء العبد، وكذلك رواه روح بن عبادة ومعاذ بن هشام كلاهما عن هشام الدستوائي عن قتادة، إلا أن معاذا لم يذكر في إسناده النضر، إنما قال: عن قتادة عن بشير بن نهيك، ورواه محمد بن كثير العبدي عن همام عن قتادة. وروى أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المصري عن همام معنى ذلك إلا أنه زاد فيه ذكر الاستسعاء وجعله من قول قتادة، وميزه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعى. وفي لفظ عند الإسماعيلي: أن رجلا أعتق شقصا من مملوكه فغرمه النبي صلى الله عليه وسلم بقية ثمنه، قال الإسماعيلي: إن كان الاستسعاء على ما يذهب إليه الكوفي منه فقد جمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة، وهما متدافعان وجعلهما صحيحين، وهذا بعيد جدا، والقول في ذلك أحد قولين: أحدهما: إن قوله: استسعى العبد، ليس في الخبر المسند، وإنما هو لقتادة، فدرج في الخبر على ما رواه همام عن قتادة، وأما أن يكون استسعاء العبد السيد يستسعيه في قومه غير مشقوق عله أن العتق لم يكمل فيه فإنه لم يبين في الخبر من يستسعيه، وتبين أن العتق لم ينفذ فيه فصار سيده هو الذي يستسعيه. قلت: أبو هريرة روى هذا الحديث كما رواه ابن عمر وزاد عليه شيئا بين به كيف حكم ما بقي من العبد بعد نصيب المعتق، كما هو مشروح فيه، فكان هذا الحديث فيه ما في حديث ابن عمر. وفيه: وجوب السعاية على العبد إذا كان معتقه معسرا، وسنزيد فيه عن قريب إن شاء الله تعالى.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في العتق عن مسدد وعن أحمد بن أبي رجاء وفي الشركة أيضا عن أبي النعمان. وأخرجه مسلم في العتق وفي النذور عن محمد بن موسى ومحمد بن بشار، وفي النذور أيضا عن عبيد الله بن
54

معاذ وفي العتق أيضا عن علي بن خشرم وفي النذور أيضا عن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم وفيهما أيضا عن عمرو الناقد وعن أبي بكر بن أبي شيبة وفي العتق أيضا عن هارون بن عبد الله. وأخرجه أبو داود في العتق عن مسلم بن إبراهيم وعن محمد بن المثنى وعن محمد بن كثير وعن أحمد بن علي وعن محمد بن المثنى عن معاذ ولم يذكر النضر بن أنس في إسناده، وعن نصر بن علي وعن علي بن عبد الله وعن محمد بن بشار وفي حديث أبان وابن أبي عروبة ذكر الاستسعاء. وأخرجه الترمذي في الأحكام عن علي بن خشرم به وعن محمد بن بشار وفيه ذكر الاستسعاء، قال: ورواه شعبة عن قتادة ولم يذكر فيه أمر السعاية. وأخرجه النسائي في العتق عن محمد بن المثنى وعن محمد بن بشار وعن هناد وعن نصر بن علي وعن المؤمل بن هشام وعن محمد بن عبد الله، وفيه ذكر السعاية وعن محمد بن المثنى ومحمد بن إسماعيل ولم يذكر النضر بن أنس في إسناده ولا قصة الاستسعاء وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
ذكر بيان ما في حديثي أبي هريرة وابن عمر المذكورين: قد ذكرنا عن قريب أن في حديث أبي هريرة زيادة وهي: وجوب السعاية على العبد إذا كان المعتق معسرا. فإن قلت: قال الخطابي: قوله: استسعى غير مشقوق عليه لا يثبته أهل النقل مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنه من قول قتادة، وقد تأوله بعض الناس
فقال: معنى السعاية أن يستسعي العبد لسيده أي: يستخدم، وكذلك معنى قوله: غير مشقوق عليه، أي: لا يحمل فوق ما يلزمه من الخدمة إلا بقدر ما فيه من الرق، ولا يطالب بأكثر منه، وأيضا لم يذكر ابن أبي عروبة بالسعاية في روايته عن قتادة، وفيه اضطراب، فدل على أنه ليس من متن الحديث عنده، وإنما هو من كلام قتادة، ويدل على صحة ذلك حديث ابن عمر، وقال أبو عمر بن عبد البر: روى أبو هريرة هذا الحديث على خلاف ما رواه ابن عمر، واختلف في حديثه، وهو حديث يدور على قتادة عن النضر بن أنس عن بشير ابن نهيك عن أبي هريرة، واختلف أصحاب قتادة عليه في الاستسعاء، وهو الموضع المخالف لحديث ابن عمر من رواية مالك وغيره، واتفق شعبة وهمام على ترك ذكر السعاية في هذا الحديث، والقول قولهم في قتادة عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم في قتادة غيرهم، وأصحاب قتادة الذين هم حجة فيه هؤلاء الثلاثة، فإن اتفق هؤلاء الثلاثة لم يعرج على من خالفهم في قتادة، وإن اختلفوا نظر، فإن اتفق منهم اثنان وانفرد واحد فالقول قول الاثنين، لا سيما إذا كان أحدهما شعبة، وليس أحد بالجملة في قتادة مثل شعبة لأنه كان يوقفه على الإسناد والسماع، وقد اتفق شعبة وهشام في هذا الحديث على سقوط ذكر الاستسعاء فيه، وتابعهما همام، وفي هذا تقوية لحديث ابن عمر، وهو حديث مدني صحيح لا يقاس به غيره، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب.
وقال البيهقي: ضعف الشافعي السعاية بوجوه: منها: أن شعبة وهشاما رواياه عن قتادة وليس فيه استسعاء وهما أحفظ. ومنها: أنه سمع بعض أهل العلم يقول: لو كان حديث سعيد منفردا لا يخالفه غيره ما كان ثابتا. قلت: تابع ابن أبي عروبة على روايته عن قتادة يحيى بن أبي صبيح، رواه الحميدي عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي عروبة ويحيى بن صبيح عن قتادة على ما رواه الطحاوي عن محمد بن النعمان عن الحميدي، وهو شيخ البخاري عن سفيان بن عيينة شيخ الشافعي عن سعيد بن أبي عروبة ويحيى بن صبيح، بفتح الصاد: الخراساني المقري، كلاهما عن قتادة كذلك، وقد ذكر البيهقي أيضا في (سننه): أن الحجاج وأبان وموسى بن خلف وجرير بن حازم رووه عن قتادة كذلك، يعني: ذكروا فيه الاستسعاء، وإذا سكت شعبة وهشام عن الاستسعاء لم يكن ذلك حجة على ابن أبي عروبة، لأنه ثقة قد زاد عليهما شيئا، فالقول قوله، كيف وقد وافقه على ذلك جماعة؟ وقال ابن حزم: هذا خبر في غاية الصحة، فلا يجوز الخروج عن الزيادة التي فيه، وقد رواه عنه يزيد ابن هارون وعيسى بن يونس وجماعة كثيرة، ذكرهم صاحب (التمهيد) ولم يختلفوا عليه في أمر السعاية، منهم: عبدة بن سليمان وهو أثبت الناس سماعا من ابن أبي عروبة، وقال صاحب (الاستذكار)، وممن رواه عنه كذلك روح بن عبادة ويزيد بن زريع وعلي بن مسهر ويحيى بن سعيد ومحمد بن بكر ويحيى بن أبي عدي، ولو كان هذا الحديث غير ثابت كما زعمه الشافعي لما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما) وقال شارح (العمدة): الذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعللات على البعد، ولا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليهم فيها مثل تلك التعللات.
55

ذكر معناه: قوله: (شقيصا)، بفتح الشين المعجمة وكسر القاف: بمعنى الشقص، وهو النصيب، وقد ذكرنا أنهما لغتان بمعنى واحد كالنصيف والنصف. قوله: (فعليه خلاصه)، أي: فعليه أداء قيمة الباقي من ماله ليتخلص من الرق. قوله: (قيمة عدل)، قد مضى تفسيره. قوله: (غير مشقوق)، أي: غير مكلف عليه في الاكتساب، حاصله: يكلف العبد بالاستسعاء قدر نصيب الشريك الآخر بلا تشديد، فإذا دفعه إليه عتق، ومعنى هذا الحديث مثل معنى حديث ابن عمر، غير أن فيه زيادة هي: الاستسعاء، وثبت هذا عند الشيخين والترمذي أيضا، وروى ابن عدي في (الكامل) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من أعتق شقصا من رقيق كان عليه أن يعتق نفسه، فإن لم يكن له مال يستسعى العبد) والله أعلم.
6
((باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يقرع من القرعة بضم القاف، وهي معروفة. قوله: (والاستهام) أي: أخذ السهم، أي: النصيب، وليس المراد من الاستهام هنا الإقراع، وإن كان معناهما في الأصل واحدا، لأنه لا معنى أن يقال: هل يقرع في الإقراع؟ قوله: (فيه) قال الكرماني: الضمير عائد إلى القسم أو المال الذي يدل عليها القسمة، وقال بعضهم: الضمير يعود إلى القسم بدلالة القسمة. قلت: كلاهما بمعزل عن نهج الصواب، ولم يذكر هنا قسم ولا مال حتى يعود الضمير إليه، بل الضمير يعود إلى القسمة والتذكير باعتبار أن القسمة هنا بمعنى القسم، وفي (المغرب): القسمة اسم من الاقتسام، وجواب: هل، محذوف تقديره: نعم يقرع، قال ابن بطال: القرعة سنة لكل من أراد العدل في القسمة بين الشركاء، والفقهاء متفقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين، وقالوا: لا معنى لها لأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جوزها. وقال: هي في القياس لا تسقيم، ولكنا نترك القياس في ذلك للآثار والسنة، وفي حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، في الإفك: كان إذا خرج أقرع بين نسائه، وفي حديث أم العلاء: أن عثمان بن مظعون طاولهم سهمه في السكنى، حين أقرعت الأنصار سكنى المهاجرين، وفي حديث أبي هريرة: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه). وقال تعالى: * (فساهم فكان من المدحضين) * (الصافات: 141). وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال شيء من الحق، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء في أرض أو دار فعليهم أن يعدلوا ذلك بالقيمة ويستهموا، ويصير لكل واحد منهم ما وقع له بالقرعة مجتمعا مما كان له في الملك مشاعا، فيصير في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه. وإنما منعت القرعة أن يختار كل واحد منهم موضعا بعينه.
3942 حدثنا أبو نعيم قال حدثني زكرياء قال سمعت عامرا يقول سمعت النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا.
(الحديث 3942 طرفه في: 6862).
مطابقته للترجمة في قوله: (استهموا على سفينة). وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين الأحول الكوفي، وزكرياء هو ابن زائدة الهمداني الكوفي الأعمى، وعامر هو الشعبي، والنعمان بن بشير، بفتح الباء الموحدة: الأنصاري، مر في كتاب الإيمان.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن الأعمش عن الشعبي به. وأخرجه الترمذي في الفتن عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن الأعمش به، وقال: حسن صحيح.
قوله: (مثل القائم على حدود الله تعالى) أي: المستقيم على ما منع الله تعالى من مجاوزتها، ويقال: القائم بأمر الله معناه: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. وقال الزجاج: أصل الحد في اللغة المنع، ومنه حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها، والحداد الحاجب والبواب، ولفظ
56

الترمذي: مثل القائم على حدود الله تعالى والمدهن فيها أي: الغاش فيها، ذكره ابن فارس، وقيل: هو كالمصانعة، ومنه قوله تعالى: * (ودوا لو تدهن فيدهنون) * (القلم: 9). وقيل: المدهن المتلين لمن لا ينبغي التلين له. قوله: (والواقع فيها) أي: في الحدود، أي: التارك للمعروف المرتكب للمنكر. قوله: (استهموا) أي: اتخذ كل واحد منهم سهما، أي: نصيبا من السفينة بالقرعة. قوله: (على من فوقهم)، أي: على الذين فوقهم. قوله: (ولم نؤذ)، من الأذى، وهو الضرر. قوله: (من فوقنا) أي: الذين سكنوا فوقنا. قوله: (فإن يتركوهم وما أرادوا). أي: فإن يترك الذين سكنوا فوقهم إرادة الذين سكنوا تحتهم من الخرق، والواو، بمعنى: مع، وكلمة: ما، مصدرية. قوله: (هلكوا)، جواب الشرط وهو قوله: فإن... قوله: (هلكوا جميعا) أي: كلهم الذين سكنوا فوق والذين سكنوا أسفل، لأن بخرق السفينة تغرق السفينة ويهلك أهلها. قوله: (وإن أخذوا على أيديهم) أي: وإن منعوهم من الخرق نجوا أي: الآخذون (ونجوا جميعا) يعني: جميع من في السفينة، ولو لم يذكر قوله: (ونجوا جميعا)، لكانت النجاة اختصت بالآخذين فقط، وليس كذلك، بل كلهم نجوا لعدم الخرق، وهكذا إذا أقيمت الحدود وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر تحصل النجاة للكل وإلا هلك العاصي بالمعصية وغيرهم بترك الإقامة.
ويستفاد منه أحكام فيه: جواز الضرب بالمثل وجواز القرعة، فإنه، صلى الله عليه وسلم، ضرب المثل هنا بالقوم الذين ركبوا السفينة، ولم يذم المستهمين في السفية ولا أبطل فعلهم، بل وضيه وضرب به مثلا لمن نجى من الهلكة في دينه. وفيه: تعذيب العامة بذنوب الخاصة واستحقاق العقوبة بترك النهي عن المنكر مع القدرة. وفيه: أنه يجب على الجار أن يصبر على شيء من أذى جاره خوف ما هو أشد. وفيه: إثبات القرعة في سكنى السفية إذا تشاحوا، وذلك فيما إذا نزلوا معا. فأما من سبق منهم فهو أحق. وذكر ابن بطال هنا مسألة الدار التي لها علوا وسفل لمناسبة بينها وبين أهل السفينة، فقال: وأما حكم العلو والسفل يكون بين رجلين، فيعتل السفل ويريد صاحبه هدمه فليس له هدمه إلا من ضرورة، وليس لرب العلو أن يبني على سفله شيئا لم يكن قبل إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر صاحب السفل، فلو انكسرت خشبة من سفل العلو فلا يدخل مكانها أسفل منها، قال أشهب: وباب الدار على صاحب السفل، فلو انهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه وليس على صاحب العلو أن يبني السفل، فإن أبى صاحب السفل أن يبني قيل له: بع ممن يبني. انتهى. قلت: الذي ذكره أصحابنا أنه ليس لصاحب العلو إذا انهدم السفل أن يأخذ صاحب السفل بالبناء، لكن يقال لصاحب العلو: ابن السفل إن شئت حتى يبلغ موضعه علوك ثم ابن علوك، وليس لصاحب السفل أن يسكن حتى يعطي قيمة بناء السفل، وذو العلو يسكن علوه، والسفل كالرهن في يده وسقف السفل بكل آلاته لصاحب السفل ولصاحب العلو سكناه، وصاحب العلو إذا بنى السفل فله أن يرجع بما أنفق على صاحب السفل، وإن كان صاحب السفل يقول: لا حاجة لي إلى السفل.
7
((باب شركة اليتيم وأهل الميراث))
أي: هذا باب في بيان حكم شركة اليتيم وأهل الميراث، وحكمه ما قاله ابن بطال: شركة اليتيم ومخالطته في ماله لا يجوز عند العلماء، إلا أن يكون لليتيم في ذلك رجحان. قال تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى قل: إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) * (البقرة: 022).
4942 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري الأويسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها. وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن قول الله تعالى: * (وإن خفتم) * إلى * (ورباع) * (النساء: 3). فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا
57

أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة قالت عائشة ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هاذه الآية فأنزل الله * (ويستفتونك في النساء) * إلى قوله * (وترغبون أن تنكحوهن) * والذي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء قالت عائشة وقول الله في الآية الأخرى وترغبون أن تنكحوهن يعني هي رغبة أحدكم بيتيمته التي في حجره حين تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن (النساء: 721).
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله).
ذكر رجاله وهم ثمانية: الأول: عبد العزيز بن يحيى بن عمرو بن أويس القرشي العامري الأويسي، بضم الهمزة وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وبالسين المهملة: نسبة إلى جده أويس. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق القرشي الزهري، كان على قضاء بغداد. الثالث: صالح بن كيسان أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: الليث بن سعد. السابع: يونس بن يزيد الأيلي. الثامن: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: السؤال في موضعين. وفيه: أن الطريق الأول موصول والطريق الثاني وهو قوله. وقال الليث معلق. وفيه: أن رواة الطريق الأول كلهم مدنيون ورواة الطريق الثاني من نسب شتى، فالليث مصري ويونس أيلي وابن شهاب مدني، وكذلك عروة. وفيه: أن شيخه من أفراده.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري من طريق يونس عن الزهري في الأحكام عن علي بن عبد الله وفي الشركة وقال الليث. وأخرجه مسلم في آخر الكتاب عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى. وأخرجه أبو داود في النكاح عن أحمد بن عمرو بن السرح. وأخرجه النسائي فيه عن يونس بن عبد الأعلى وسليمان بن داود، أربعتهم عن وهب عن يونس. وأخرجه النسائي الطريق الأول عن سليمان بن سيف عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد به.
ذكر معناه: قوله: (وقال الليث)، معلق وصله الطبري في تفسيره من طريق عبد الله بن صالح عن الليث مقرونا بطريق ابن وهب عن يونس. قوله: (وإن خفتم إلى... ورباع)، يعني: سأل عروة عائشة عن تفسير قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * (النساء: 3). ومعنى قوله: وإن خفتم، يعني: إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثيرة، ولم يضيق الله عليه، وسيأتي في البخاري في تفسير سورة النساء: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3). أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله، ثم ذكر البخاري عقيب هذا الحديث حديث الباب الذي أخرجه عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي إلى آخره، وفي رواية لمسلم من حديث هشام عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها. في قوله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) * (النساء: 3). قالت: أنزلت في الرجل يكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها ولا ينكحها لمالها فيضربها ويسئ صحبتها. فقال: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 721). يقول: ما أحللت لكم، ودع هذه التي تضربها. انتهى. قوله: * (ما طاب لكم) * (النساء: 3). قرأ ابن أبي عبلة: من طاب لكم، ومعنى: طاب حل. قوله: * (مثنى وثلاث ورباع) * (النساء: 3). معدولات عن: اثنين وثلاث وأربع، وهي نكرة ومنعها
58

عن الصرف للعدل والوصف، وقيل: للعدل والتأنيث لأن العدد كله مؤنث، والواو جاءت على طريق البدل كأنه قال: وثلاث بدل من ثنتين ورباع بدل من ثلاث، ولو جاءت: أو، لجاز أن لا يكون لصاحب المثنى ثلاث ولا لصاحب الثلاث رباع، والمقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. وقال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه: لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع، وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكى عن طائفة من الشيعة في الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع، وقال بعضهم: لا حصر، وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع، أما تسع كما ثبت في الصحيحين وأما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري، وهذا عند العلماء من خصائص رسول صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة. قوله: (فقالت: يا ابن أختي)، وذلك لأن عروة ابن أسماء أخت عائشة، رضي الله تعالى عنها. قوله: (في حجر وليها)، بفتح الحاء وكسرها، وقال ابن الأثير: يجوز أن يكون من حجر الثوب وهو طرفه المقدم، لأن الإنسان يربي ولده في حجره، والحجر، بالفتح والكسر: الثوب والحضن، والمصدر بالفتح لا غير، ووليها: هو القائم بأمرها. قوله: (بغير أن يقسط)، بضم الياء، من: الإقساط، وهو العدل يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يقسط من باب ضرب يضرب فهو قاسط إذا جار، فكأن الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال شكى إليه فأشكاه. قوله: (فنهوا)، بضم النون والهاء، لأنه صيغة المجهول، وأصله نهيوا، فنقلت ضمة الياء إلى الهاء فالتقى ساكنان، فحذفت الياء فصار: نهوا، على وزن: فعوا، لأن المحذوف لام الفعل. قوله: (ثم إن الناس استفتوا)، أي: طلبوا منه الفتوى في أمر النساء. الفتوى والفتيا بمعنى واحد، وهو الاسم، والمفتي من يبين المشكل من الكلام، وأصله من الفتي وهو الشاب القوي، فالمفتي يقوى ببيانه ما أشكل. قوله: (بعد هذه الآية)، وهي قوله تعالى: * (وإن خفتم) * إلى * (ورباع) * (النساء: 3). قوله: فأنزل الله تعالى: * (ويستفتونك في النساء) * (النساء: 721). أي: يطلبون منك الفتوى في أمر النساء. قال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * (النساء: 721). الآية، قالت: والذي ذكر الله أن يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله تعالى: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3). وبهذا الإسناد عن عائشة قالت: وقول الله: * (وترغبون أن تنكحوهن) * (النساء: 721). رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال... إلى آخر ما ساقه البخاري والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها، فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله تعالى أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل
إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الإمر، فنهاه الله، عز وجل، أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله: * (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) * (النساء:؟؟). فكان الرجل في الجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك بها لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة فهو بها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها من الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها فحرم ذلك ونهى عنه. قوله: (رغبة أحدكم بيتيمته)، وفي رواية الكشميهني: عن يتيمته، وهذا هو الصواب، وضبطه الحافظ الدمياطي هكذا.
8
((باب الشركة في الأرضين وغيرها))
أي: هذا باب في بيان حكم الشركة في الأرضين وغيرها، أي: وغير الأرضين كالدار والبساتين، وكأنه أشار بهذا إلى أن للشركاء في الأرض وغيرها القسمة مطلقا، خلافا لمن خصها بالتي ينتفع بها إذا قسمت على ما يجيء بيانه عن قريب، إن شاء الله تعالى.
5942 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي
59

سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ما لم يقسم)، لأن هذا يشعر بأن ما لم يقسم يكون بين الشركاء، والقسمة لا تكون إلا بينهم، والحديث مضى في: باب شفعة ما لم يقسم، فإنه أخرجه هناك: عن مسدد عن عبد الواحد عن معمر عن الزهري، وهنا: عن عبد الله بن محمد الجعفي البخاري المعروف بالمسندي عن هشام بن يوسف الصنعاني اليماني عن معمر بن راشد عن محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره. قوله: (كل ما لم يقسم)، أي: كل مشترك لم يقسم من الأراضي ونحوها.
9
((باب إذا اقتسم الشركاء الدور أو غيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا اقتسم الشركاء الدور وغيرها، أي: غير الدور، نحو: البساتين وسائر العقارات، وفي بعض النسخ: إذا اقتسموا، نحو: أكلوني البراغيث. قوله: (فليس لهم رجوع) جواب: إذا، لأن القسمة عقد لازم فلا رجوع فيها. قوله: (ولا شفعة) أي: ولا شفعة في القسمة، لأن الشفعة في الشركة لا في القسمة لأن الشفعة لا تكون في شيء مقسوم عند العلماء كافة، وإنما هي في المشاع لقوله، صلى الله عليه وسلم: إذا وقعت الحدود فلا شفعة.
6942 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة ابن عبد الرحمان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة.
.
قيل لا مطابقة بين الحديث والترجمة لأن في الترجمة لزوم القسمة وليس في الحديث إلا نفي الشفعة. وأجيب: بأنه يلزم من نفي الشفعة نفي الرجوع إذ لو كان للشريك الرجوع لعاد ما يشفع فيه مشاعا، فحينئذ تعود الشفعة. والحديث مضى الآن وفي: باب شفعة ما لم يقسم، كم ذكرناه، وعبد الواحد هو ابن زياد البصري.
01
((باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه من الصرف))
أي: هذا باب في بيان حكم الاشتراك في الذهب والفضة، وهو جائز إذا كان من كل واحد من الاثنين دراهم أو دنانير فالشرط أن يخلطا المال حتى يتميز ثم يتصرفان جميعا، ويقيم كل واحد منهما الآخر مقام نفسه، وهذا صحيح بلا خلاف. واختلفوا فيما إذا كان من أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم، فقال مالك والكوفيون والشافعي وأبو ثور: لا يجوز، وقال ابن القاسم: إنما لم يجز ذلك لأنه صرف وشركة، وكذلك قال مالك، وحكى ابن أبي زيد خلاف مالك فيه، وأجازه سحنون، وأكثر قول مالك: إنه لا يجوز، وقال الثوري: يجوز أن يجعل أحدهما دنانير والآخر دراهم فيخلطانها، وذلك أن كل واحد منهما قد باع بنصف نصيبه نصف نصيب صاحبه. قوله: (وما يكون فيه من الصرف) وفي بعض النسخ: وما يكون في الصرف بدون كلمة: من، وهذا مثل التبر والدراهم المغشوشة، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال الأكثرون: يصح في كل مثلي، وهذا هو الأصح عند الشافعية. وقيل: يختص بالنقد المضروب، وقال الكرماني: وما يكون فيه الصرف هو بيع الذهب بالفضة، وبالعكس، وسمي به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل: من صريفهما، وهو تصويتهما في الميزان.
8942 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم عن عثمان يعني ابن الأسود قال أخبرني سليمان بن أبي مسلم قال سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد فقال اشتريت أنا وشريك لي
60

شيئا يدا بيد ونسيئة فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذالك فقال ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فذروه.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (اشتريت أنا وشريك لي شيئا)، وذلك لأن أبا المنهال وشريكه كانا يشتريان شيئا من الذهب والفضة يدا بيد ونسيئة، وكانا شريكين فيهما، فسألا عن حكم ذلك لأنه صرف، ثم عملا بما بلغهما من النبي، صلى الله عليه وسلم، إن ما كان يدا بيد فهو جائز، وما كان نسيئة فلا يجوز.
والحديث مر في أوائل البيوع في: باب التجارة في البر، فإنه أخرجه هناك من طريقين: الأول: عن أبي عاصم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن المنهار، والآخر: عن الفضل بن يعقوب عن الحجاج بن محمد... إلى آخره، وهنا أخرجه: عن عمرو، بفتح العين: ابن علي بن بحر أبي حفص الباهلي البصري الصيرفي عن أبي عاصم النبيل، واسمه: الضحاك بن مخلد، وهو شيخ البخاري أيضا، وروى عنه هنا بواسطة، وكذلك في عدة مواضع يروي عنه بواسطة، وفي مواضع يروي عنه بلا واسطة، وعثمان هو ابن الأسود ابن موسى بن باذان المكي. وقوله: (يعني: ابن الأسود) إشعار منه بأن شيخه لم يقل إلا عثمان فقط، وأما ذكر نسبه فهو منه، وهذا من جملة الاحتياطات،. وسليمان بن أبي مسلم هو الأحول، مر في التهجد، وأبو المنهال، بكسر الميم وسكون النون وباللام: عبد الرحمن.
قوله: (شيئا يدا بيد ونسيئة) ولفظه في كتاب البيوع: كنت أتجر في الصرف. قوله: (فخذوه)، بالفاء وكذلك: فذروه، بالفاء، ويروى: ذروه، بدون الفاء، وذلك لأن الاسم الموصول بالفعل المتضمن للشرط يجوز فيه دخول الفاء في خبره ويجوز تركه. قوله: (فذروه)، بالذال المعجمة وتخفيف الراء، أي: اتركوه، وهو من الأفعال التي أمات العرب ماضيها، وهذه هي رواية كريمة، وفي رواية النسفي: فردوه، بضم الراء وتشديد الدال من الرد.
وفيه: رد ما لا يجوز وهو النسيئة وهو التأخير، فلا يجوز شيء من الصرف نسيئة، وإنما يجوز يدا بيد، وقد مر.
11
((باب مشاركة الذمي والمشركين في المزارعة))
أي: هذا باب في بيان حكم مشاركة الذمي والمشركين المسلم في المزارعة. قوله: (والمشركين) من باب عطف العام على الخاص، على أن المراد من المشركين هم المستأمنون، فيكونون في معنى أهل الذمة، وأما المشرك الحربي فلا تتصور الشركة بينه وبين المسلم في دار الإسلام، على ما لا يخفى، وحكمها أنها تجوز، لأن هذه المشاركة في معنى الإجارة واستئجار أهل الذمة جائز، وأما مشاركة الذمي مع المسلم في غير المزارعة فعند مالك: لا يجوز إلا أن يتصرف الذمي بحضرة المسلم، أو يكون المسلم هو الذي يتولى البيع والشراء، لأن الذمي قد يتجر في الربا والخمر ونحو ذلك مما لا يحل للمسلم، وأما أخذ أموالهم في الجزية فللضرورة، إذ لا مال لهم غيره، وروى ما قاله مالك عن عطاء والحسن البصري، وبه قال الليث والثوري وأحمد وإسحاق وعند أصحابنا: مشاركة المسلم مع أهل الذمة في شركة المفاوضة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد. خلافا لأبي يوسف، وقد عرف في موضعه.
9942 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال أعطاى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، وهو أن فيه مشاركة اليهود في مزارعة خيبر من حيث إنه صلى الله عليه وسلم جعل لهم شطر ما يخرج من الزراعة من خيبر، والشطر الباقي يصرف للمسلمين، وهؤلاء اليهود كانوا أهل ذمة وألحق المشركون بهم لأنهم في حكم أهل الذمة لكونهم مستأمنين، كما ذكرنا. والحديث قد مضى في أوائل كتاب المزارعة في مواضع، وقد مر الكلام فيه هناك، ونذكر بعض شيء من ذلك.
قوله: (أن يعملوها)، أي: يزرعوا بياض أرضها، ولذلك سموا المساقاة. وفيه: إثبات المساقاة والمزارعة، ومالك لا يجيزه. قوله: (ولهم شطر ما يخرج منها) أي: من أرض خيبر التي يزرعونها.
وفيه: دليل على أن رب الأرض والشجر إذا بين حصة نفسه جاز، وكان الباقي للعامل كما لو بين حصة
61

العامل، وقال بعض الفقهاء: إذا سمى حصة نفسه لم يكن الباقي للعامل حتى يسمي له حصته، واحتج به أحمد: أنه إذا كان البذر من عند العامل جاز، وذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إلى أنها جائزة، سواء كان البذر من عند الأكار أو رب الأرض. وقال ابن التين: استدل به من أجاز قرض النصراني، ولا دليل فيه لأنه قد يعمل بالربا ونحوه، بخلاف المسلم، والعمل في النخل والزرع لا يختلف فيه عمل يهودي من نصراني، ولو كان المسلم فاسقا يخشى أن يعمل به ذلك، كره أيضا كالنصراني بل أشد، وقال المهلب: وكل ما لا يدخله ربا ولا ينفرد به الذمي فلا بأس بشركة المسلم له فيه.
21
((باب قسمة الغنم والعدل فيها))
أي: هذا باب في بيان حكم قسمة الغنم والعدل فيها، أي: في قسمة الغنم.
0052 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته وضحايا فبقي عتود فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ضح به أنت.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مضى هذا الحديث بعين هذا المتن وبعين هذا الإسناد في أول كتاب الوكالة، غير أن شيخه هناك عمرو بن خالد عن الليث، وهنا قتيبة عنه، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (عتود)، بفتح العين المهملة وضم التاء المثناة من فوق: وهو ما بلغ الرعي وقوي وبلغ حولا، وهذه القسمة يجوز فيها من المسامحة والمساهلة ما لا يجوز في القسمة التي هي تمييز الحقوق، لأنه صلى الله عليه وسلم، إنما وكل عقبة على تفريق الضحايا على أصحابه، ولم يعين لأحد منهم شيئا بعينه، فكان تفريقا موكولا إلى اجتهاد عقبة، وكان ذلك على سبيل التطوع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنها كانت واجبة عليه لأصحابه، فلم يكن على عقبة حرج في قسمتها ولا لزمه من أحد منهم ملامة إن أعطاه دون ما أعطى صاحبه، وليس كذلك القسمة بين حقوقهم الواجبة، فإنها متساوية في المقسوم، فهذه لا يكون فيها تغابن ولا ظلم على أحد منهم.
وفيه: استيمار الوكيل ما يصنع بما فضل. وفيه: التفويض إلى الوكيل. وفيه: قبول العطية والتضحية بها.
31
((باب الشركة في الطعام وغيره))
أي: هذا باب في بيان حكم الشركة في الطعام وغيره، هو كل ما يجوز تملكه، وقال بعضهم: وغيره، أي: من المثليات، والذي قلنا هو أعم وأحسن، وجواب الترجمة: يجوز ذلك، لأن الشركة بيع من البيوع فيجوز في الطعام وغيره، وكره مالك الشركة في الطعام بالتساوي أيضا في الكيل والجودة، لأنه يختلف في الصفة والقيمة، ولا تجوز الشركة إلا على الاستواء في ذلك، ولا يكاد أن يجمع فيه ذلك فكرهه، وليس الطعام مثل الدنانير والدراهم التي هي على الاستواء عند الناس. وقال ابن القاسم: تجوز الشركة بالحنطة إذا اشتركا على الكيل ولم يشتركا على القيمة، وأجاز الكوفيون وأبو ثور الشركة بالطعام، وقال الأوزاعي: تجوز الشركة بالقمح والزيت لأنهما يختلطان جميعا، ولا يتميز أحدهما من الآخر. واختلفوا في الشركة بالعروض، فجوزها مالك وابن أبي ليلى، ومنعها الثوري والكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال الشافعي: لا تجوز الشركة في كل ما يرجع في حال المفاضلة إلى القيمة إلا أن يبيع نصف عرضه بنصف عرض الآخر ويتقابضان.
ويذكر أن رجلا ساوم شيئا فغمزه آخر فرأى عمر أن له شركة
كذا وقع في رواية الأكثرين، فرأى عمر، وفي رواية ابن شبويه: فرأى ابن عمر، والأول أصح، وهذا التعليق رواه سعيد بن منصور من طريق إياس بن معاوية أن عمر أبصر رجلا يساوم سلعة وعنده رجل، فغمزه حتى اشتراها، فرأى عمر أنها شركة، وهذا يدل على أنه كان لا يشترط للشركة صيغة ويكتفي فيها بالإشارة إذا ظهرت القرينة، وهو قول مالك، وعن
62

مالك أيضا في السلعة تعرض للبيع فيقف من يشتريها للتجارة، فإذا اشتراها واحد منهم واستشركه الآخر لزمه أن يشركه لأنه انتفع بترك الزيادة عليه، وكذلك إذا غمزه أو سكت فسكوته رضا بالشركة، لأنه كان يمكنه أن يقول: لا أشركك، فيزيد عليه، فلما سكت كان ذلك رضا، وقال ابن حبيب: ذلك لتجار تلك السلعة خاصة، كأن يشتريها في الأول من أهل تلك التجارة أو غيرهم. قال: وروي أن عمر قضى بمثل ذلك. قال: وكل ما اشتراه لغير تجارة، فسأله رجل أن يشركه وهو يشتري، فلا تلزمه الشركة، وإن كان الذي استشركه من أهل التجارة، والقول قول المشتري مع يمينه إن شراه ذلك لغير التجارة. قال: وما اشتراه الرجل من تجارته في حانوته أو بيته فوقف به ناس من أهل تجارته فاستشركوه، فإن الشركة لا تلزمه. ونقل ابن التين عن مالك في رواية أشهب فيمن يبتاع سلعة وقوم وقوف، فإذا تم البيع سألوه الشركة، فقال: أما الطعام فنعم، وأما الحيوان فما علمت ذلك فيه، زاد في (الواضحة): وإنما رأيت ذلك خوفا أن يفسد بعضهم على بعض إذا لم يقض لهم بذلك، وقال أصبغ: الشركة بينهم في جميع السلع من الأطعمة والعروض والدقيق والحيوان والثياب، واختلف فيمن حضرها من ليس من أهل سوقها ولا من يتجر بها، فقال مالك وأصبغ: لا شركة لهم، وقال أشهب: نعم.
2052 حدثنا أصبغ بن الفرج قال أخبرني عبد الله بن وهب قال أخبرني سعيد عن زهرة ابن معبد عن جده عبد الله بن هشام وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله بايعه فقال هو صغير فمسح رأسه ودعا له. وعن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لك بالبركة فيشركهم فربما أصاب الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل.
(الحديث 1052 طرفه في: 0127). (الحديث 2052 طرفه في: 3536).
هذا الحديث إلى آخر الباب حديث واحد غير أنه ذكر بعد قوله: (وعن زهرة بن معبد) وهو أيضا موصول بالسند الأول، والمطابقة بينه وبين الترجمة في قوله: (فيقولان له: أشركنا...) إلى آخره
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أصبغ بن الفرج، بالجيم، أبو عبد الله، مر في الوضوء. الثاني: عبد الله بن وهب بن مسلم أبو محمد. الثالث: سعيد هو ابن أبي أيوب الخزاعي، واسمه أبو أيوب مقلاص. الرابع: زهرة، بضم الزاي وسكون الهاء من الأسماء المشتركة بين الذكور والإناث ابن معبد، بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الباء الموحدة: ابن عبد الله بن هشام أو عقيل، بفتح العين. الخامس: جده عبد الله بن هشام بن زهرة التيمي، من بني عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة رهط أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وهشام مات قبل الفتح كافرا، وقد شهد عبد الله بن هشام فتح مصر فاختط بها، ذكره ابن يونس وغيره، وعاش إلى خلافة معاوية.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار بصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته كلهم مصريون. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن عبد الله بن هشام أيضا من أفراده. وفيه: رواية الراوي عن جده. وفيه: سعيد ذكر مجردا عن نسبه
، وفي رواية ابن شبويه: سعيد هو ابن أبي أيوب. وفيه: عن زهرة، وفي رواية أبي داود من رواية المقري: حدثني سعيد حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن عبد الله عن ابن وهب وفي الشركة أيضا عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن يزيد عن سعيد به. وأخرجه أبو داود في (الخراج) عن عبيد الله بن عمر القواريري عن عبد الله بن يزيد المقري عن سعيد به، ولم يقل: ودعا له.
ذكر معناه: قوله: (وكان قد أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم)، ذكر ابن منده أنه أدرك
63

من حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، ست سنين. قوله: (وذهبت به أمه زينب بنت حميد)، بضم الحاء: ابن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وهي من الصحابيات. قوله: (بايعه) أمر من المبايعة، وهي المعاقدة على الإسلام، كأن كل واحد من المبايعين باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره، وعلل، صلى الله عليه وسلم، لترك المبايعة بقوله: هو صغير، ولكنه مسح رأسه ودعا له. قوله: (وعن زهرة)، قد ذكرنا أنه موصول بالإسناد المذكور. قوله: (فيقولان له)، أي: يقول ابن عمر وابن الزبير لعبد الله بن هشام: أشركنا، بفتح الهمزة يعني: اجعلنا شريكين لك في الطعام الذي اشتريته. قوله: (فيشركهم)، بضم الياء، أي: فيجعلهم شركاء معه فيما اشتراه. قوله: (فربما أصاب الراحلة)، أي: من الربح. قوله: (كما هي)، أي: بتمامها.
وفيه من الفوائد: مسح رأس الصغير. وفيه: ترك مبايعة من لم يبلغ، وقال الداودي: وكان يبايع المراهق الذي يطيق القتال. وفيه: الدخول في السوق لطلب المعاش وطلب البركة حيث كانت. وفيه: الرد على جهلة المتزهدة في اعتقادهم أن السعة من الحلال مذمومة، نبه عليه ابن الجوزي. وفيه: أن الصغير إذا عقل شيئا من الشارع كان ذلك صحبة، قاله الداودي. وقال ابن التين: فيه نظر. وفيه: أن النساء كن يذهبن بالأطفال إلى النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيه: طلب التجارة وسؤال الشركة. وفيه: معجزة من معجزات النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي: إجابة دعائه في عبد الله بن هشام. وفيه: أن لفظ: أشركتك، إذا أطلق يكون تشريكا في النصف، قال الكرماني: قاله الفقهاء.
قال أبو عبد الله إذا قال الرجل للرجل أشركني فإذا سكت فهو شريكه بالنصف
أبو عبد الله هو البخاري نفسه أراد أنه إذا رأى رجل رجلا يشتري شيئا فقال له: أشركني فيما اشتريته، فسكت الرجل ولم يرد عليه بنفي ولا إثبات، يكون شريكا له بالنصف، لأن سكوته يدل على الرضا.
41
((باب الشركة في الرقيق))
أي: هذا باب في بيان حكم الشركة في الرقيق، قال ابن الأثير: الرقيق المملوك فعيل بمعنى مفعول، وقد يطلق على الجماعة، تقول: رق العبد وأرقه واسترقه. وفي (المغرب): الرقيق العبد، وقد يقال للعبيد ومنه هؤلاء: رقيقي، ورق العبد رقا: صار رقيقا، واسترقه اتخذه رقيقا.
3052 حدثنا مسدد قال حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في مملوك وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويعطاى شركاؤه حصتهم ويخلى سبيل المعتق.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (من أعتق شركا له) لأن الاعتاق يبنى على صحة الملك، فلو لم تكن الشركة في الرقيق صحيحة لما ترتب عليها صحة العتق، وقد مضى هذا الحديث في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، فإنه أخرجه هناك: عن عمران بن ميسرة عن عبد الوارث عن أيوب عن نافع، وقد ذكر هناك من أخرجه غيره، والبخاري أخرج حديث ابن عمر في العتق من طرق كثيرة ووجوه مختلفة في مواضع متعددة. قوله: (وجب عليه أن يعتق كله إن كان له مال)، به تعلق الشافعي وأحمد وإسحاق: أن الضمان لا يجب على أحد الشريكين للآخر لقيمة نصيبه إلا إذا كان موسرا. قوله: (سبيل المعتق)، بفتح التاء وقد مر البحث فيه هناك مستقصى.
4052 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا جرير بن حازم عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير ابن نهيك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شقصا له في عبد
64

أعتق كله إن كان له مال وإلا يستسع غير مشقوق عليه.
مطابقته للترجمة مقل ما ذكرنا في الحديث الذي قبله، وقد مضى هذا الحديث أيضا في: باب تقويم الأشياء، عن قريب فإنه أخرجه هناك: عن بشر بن محمد عن عبد الله عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة... إلى آخره وأخرج البخاري حديث أبي هريرة أيضا من طرق كثيرة ووجوه مختلفة، وقد مر الكلام فيه هناك وما يتعلق بالحديثين المذكورين. قوله: (يستسع)، وفي رواية: يستسعى، بإشباع العين بالألف، وفي أخرى استسعى على صيغة المجهول من الماضي، والله أعلم.
51
((باب الإشتراك في الهدي والبدن))
أي: هذا باب في بيان حكم الاشتراك في الهدي، بسكون الدال وهو ما يهدى إلى الحرم من النعم. قوله: (والبدن)، من باب عطف الخاص على العام، وهو بضم الباء وسكون الدال: جمع بدنة.
وإذا أشرك الرجل الرجل في هديه بعد ما أهدى
جواب إذا مقدر تقديره: هل يجوز ذلك؟ وجواب الاستفهام يعلم من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب، وهو قوله: وأشركه في الهدي، وفي بعض النسخ: وإذا أشرك الرجل رجلا، وهذا أوجه.
حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد قال أخبرنا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن جابر وعن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج لا يخلطهم شيء فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى نسائنا ففشت في ذالك القالة قال عطاء فقال جابر فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا فقال جابر يكفه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال بلغني أن أقواما يقولون كذا وكذا والله لأنا أبر وأتقاى لله منهم ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله هي لنا أو للأبد فقال لا بل للأبد قال وجاء علي بن أبي طالب فقال أحدهما يقول لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر لبيك بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأشركه في الهدي)، ورجاله كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وحديث جابر مضى في كتاب الحج في: باب تقضي الحائض المناسك، وبينهما اختلاف في الرواة وزيادة ونقصان في المتن، ومضى أكثر الكلام في هذا هناك.
قوله: (وعن طاووس) عطف على قوله: عطاء، لأن ابن جريرج سمع منهما. قوله: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم) أي: مكة. قوله: (صبح رابعة) أي: في صبيحة ليلة رابعة، قال الداودي: اختلف فيه، وكان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة. قوله: (مهلين) أي: محرمين، وانتصابه على الحال، وإنما جمع باعتبار أن قدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، مستلزم لقدوم أصحابه معه، ويروى: محرمون، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم محرمون. قوله: (لا يخلطهم شيء) أي: من العمرة، ويروى: لا يخلطه، ففي الأول الضمير يرجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه، وفي الثاني: يرجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وحده، وقال صاحب (التوضيح): وفيه: دلالة واضحة على الإفراد. قلت: لا يدل على ذلك، لأن معنى: لا يخلطه شيء، يعني وقت الإحرام، وكذلك معنى قول عائشة، رضي الله تعالى عنها، وأهل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالحج مفردا أنه لم يعتمر في وقت إحرامه بالحج، لكنه اعتمر بعد ذلك. قوله: (فلما قدمنا)
65

أي: مكة، شرفها الله تعالى. قوله: (أمرنا)، أي: أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فجعلناها عمرة)، أي: فجعلنا تلك الفعلة من الحج عمرة، أي: صرنا متمتعين. قوله: (ففشت) أي: فشاعت وانتشرت، من الفشو: بالفاء والشين المعجمة. قوله: (في ذلك)، أي: في فعلهم العمرة بعد الحج. قوله: (القالة)، بالقاف واللام ويروى: المقالة بالميم قبل القاف، وكلاهما بمعنى واحد، وأراد به مقالة الناس، وذلك لما كان في اعتقادهم أن العمرة لا تصح في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة فيها فجورا. قوله: (قال عطاء)، هو الراوي عن جابر، وهو عطاء بن أبي رباح. قوله: (وذكره يقطر منيا) هذا كناية عن قرب العهد بالوطء، والواو فيه للحال. قوله: (قال جابر: يكفه) أراد أنه أشار به إلى التقطر، أي: قال جابر: قوله: (ذلك) والحال أنه يكفه من كف يكف أي: منع، ويروى: بكفه، بالباء الموحدة المكسورة، دخلت على الكف الذي هو العضو المعروف. قوله: (فبلغ ذلك) أي: ما صدر منهم من القول. قوله: (خطيبا)، نصب على الحال. قوله: (لأنا) اللام فيه مفتوحة وهي لام التوكيد دخلت على المبتدأ وخبره هو قوله: (أبر)، وهو أفعل التفضيل من البر وهو الخير والإحسان (واتقى) كذلك أفعل التفضيل من التقوى. قوله: (ولو أني استقبلت من أمري) أي: لو عرفت في أول الحال ما عرفت آخرا من جواز العمرة في أشهر الحج (لما أهديت) أي: لكنت متمتعا إرادة لمخالفة أهل الجاهلية، ولولا أني معي الهدي لأحللت من الإحرام، ولكن امتنع الإحلال لصاحب الهدي وهو المفرد أو القارن حتى يبلغ الهدي محله، وذلك في أيام النحر لا قبلها، وقد احتج به من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا وأنه أفضل، وهذا الاحتجاج غير صحيح لأن الهدي لا يمنع المفرد من الإحلال والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتحلل، فدل على أنه كان متمتعا وفي (الاستذكار): لا يصح عندنا أن يكون متمتعا إلا تمتع قران، لأنه لا خلاف بين العلماء أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من عمرته، وأقام محرما من أجل هديه إلى النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع. قوله: (فقام سراقة)، بضم السين المهملة وتخفيف الراء والقاف: ابن مالك بن جعشم، بضم الجيم والشين المعجمة وسكون العين المهملة بينهما وفي آخره ميم: المدلجي من مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، يكنى أبا سفيان من مشاهير الصحابة، كان ينزل قديدا وقيل: إنه سكن مكة. قوله: (هي)، أي: العمرة في أشهر الحج أو المتعة. قوله: (لا بل للأبد) أي: ليس الأمر كما تقول، بل هي إلى يوم القيامة ما دام الإسلام. قوله: (وجاء علي بن أبي طالب)، أي: من اليمن، قال ابن بطال في (المغازي) للبخاري: عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث عليا إلى اليمن قبل حجة الوداع ليقبض الخمس، فقدم من سعايته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بما أهللت يا علي؟) قال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فاهد وامكث حراما كما كنت)، قال: فأهدى له علي هديا، قال: فهذا تفسير قوله: (وأشركه في الهدي) أن الهدي الذي أهداه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل له ثوابه فيحتمل أن يفرده بثواب ذلك الهدي، كله فهو شريك له في هديه لأنه أهداه عنه تطوعا من ماله، ويحتمل أن يشركه في ثواب هدي واحد يكون بينهما، كما ضحى صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته وأشركهم في ثوابه، ويجوز الاشتراك في هدي التطوع. وقال القاضي: عندي أنه لم يكن شريكا حقيقة بل أعطاه نذرا يذبحه، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وأعطى عليا من البدن التي جاء بها من اليمن. قوله: (فقال أحدهما)، أي: أحد الراويين من عطاء وطاووس وقال بلفظ: أحدهما، لأن الراوي لم يكن عالما بالتعيين، لكن روى
عطاء عن جابر في: باب تقضي الحائض المناسك، أنه قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فامر النبي صلى الله عليه وسلم) أي أمر عليا رضي الله عنه أن يقيم أي يثبت على إحرامه قوله (وأشركه) أي: أشرك النبي صلى الله عليه وسلم عليا في الهدي، وقد ذكرنا وجهه الآن.
51
((باب الإشتراك في الهدي والبدن))
أي: هذا باب في بيان حكم الاشتراك في الهدي، بسكون الدال وهو ما يهدى إلى الحرم من النعم. قوله: (والبدن)، من باب عطف الخاص على العام، وهو بضم الباء وسكون الدال: جمع بدنة.
وإذا أشرك الرجل الرجل في هديه بعد ما أهدى
جواب إذا مقدر تقديره: هل يجوز ذلك؟ وجواب الاستفهام يعلم من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب، وهو قوله: وأشركه في الهدي، وفي بعض النسخ: وإذا أشرك الرجل رجلا، وهذا أوجه.
حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد قال أخبرنا عبد الملك بن جريج عن عطاء عن جابر وعن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج لا يخلطهم شيء فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى نسائنا ففشت في ذالك القالة قال عطاء فقال جابر فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا فقال جابر يكفه فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال بلغني أن أقواما يقولون كذا وكذا والله لأنا أبر وأتقاى لله منهم ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال يا رسول الله هي لنا أو للأبد فقال لا بل للأبد قال وجاء علي بن أبي طالب فقال أحدهما يقول لبيك بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر لبيك بحجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم على إحرامه وأشركه في الهدي.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأشركه في الهدي)، ورجاله كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وحديث جابر مضى في كتاب الحج في: باب تقضي الحائض المناسك، وبينهما اختلاف في الرواة وزيادة ونقصان في المتن، ومضى أكثر الكلام في هذا هناك.
66

قوله: (وعن طاووس) عطف على قوله: عطاء، لأن ابن جريرج سمع منهما. قوله: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم) أي: مكة. قوله: (صبح رابعة) أي: في صبيحة ليلة رابعة، قال الداودي: اختلف فيه، وكان خروجه من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة. قوله: (مهلين) أي: محرمين، وانتصابه على الحال، وإنما جمع باعتبار أن قدوم النبي، صلى الله عليه وسلم، مستلزم لقدوم أصحابه معه، ويروى: محرمون، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم محرمون. قوله: (لا يخلطهم شيء) أي: من العمرة، ويروى: لا يخلطه، ففي الأول الضمير يرجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الذين معه، وفي الثاني: يرجع إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وحده، وقال صاحب (التوضيح): وفيه: دلالة واضحة على الإفراد. قلت: لا يدل على ذلك، لأن معنى: لا يخلطه شيء، يعني وقت الإحرام، وكذلك معنى قول عائشة، رضي الله تعالى عنها، وأهل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالحج مفردا أنه لم يعتمر في وقت إحرامه بالحج، لكنه اعتمر بعد ذلك. قوله: (فلما قدمنا) أي: مكة، شرفها الله تعالى. قوله: (أمرنا)، أي: أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فجعلناها عمرة)، أي: فجعلنا تلك الفعلة من الحج عمرة، أي: صرنا متمتعين. قوله: (ففشت) أي: فشاعت وانتشرت، من الفشو: بالفاء والشين المعجمة. قوله: (في ذلك)، أي: في فعلهم العمرة بعد الحج. قوله: (القالة)، بالقاف واللام ويروى: المقالة بالميم قبل القاف، وكلاهما بمعنى واحد، وأراد به مقالة الناس، وذلك لما كان في اعتقادهم أن العمرة لا تصح في أشهر الحج، وكانوا يرون العمرة فيها فجورا. قوله: (قال عطاء)، هو الراوي عن جابر، وهو عطاء بن أبي رباح. قوله: (وذكره يقطر منيا) هذا كناية عن قرب العهد بالوطء، والواو فيه للحال. قوله: (قال جابر: يكفه) أراد أنه أشار به إلى التقطر، أي: قال جابر: قوله: (ذلك) والحال أنه يكفه من كف يكف أي: منع، ويروى: بكفه، بالباء الموحدة المكسورة، دخلت على الكف الذي هو العضو المعروف. قوله: (فبلغ ذلك) أي: ما صدر منهم من القول. قوله: (خطيبا)، نصب على الحال. قوله: (لأنا) اللام فيه مفتوحة وهي لام التوكيد دخلت على المبتدأ وخبره هو قوله: (أبر)، وهو أفعل التفضيل من البر وهو الخير والإحسان (واتقى) كذلك أفعل التفضيل من التقوى. قوله: (ولو أني استقبلت من أمري) أي: لو عرفت في أول الحال ما عرفت آخرا من جواز العمرة في أشهر الحج (لما أهديت) أي: لكنت متمتعا إرادة لمخالفة أهل الجاهلية، ولولا أني معي الهدي لأحللت من الإحرام، ولكن امتنع الإحلال لصاحب الهدي وهو المفرد أو القارن حتى يبلغ الهدي محله، وذلك في أيام النحر لا قبلها، وقد احتج به من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا وأنه أفضل، وهذا الاحتجاج غير صحيح لأن الهدي لا يمنع المفرد من الإحلال والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتحلل، فدل على أنه كان متمتعا وفي (الاستذكار): لا يصح عندنا أن يكون متمتعا إلا تمتع قران، لأنه لا خلاف بين العلماء أنه صلى الله عليه وسلم لم يحل من عمرته، وأقام محرما من أجل هديه إلى النحر، وهذا حكم القارن لا المتمتع. قوله: (فقام سراقة)، بضم السين المهملة وتخفيف الراء والقاف: ابن مالك بن جعشم، بضم الجيم والشين المعجمة وسكون العين المهملة بينهما وفي آخره ميم: المدلجي من مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، يكنى أبا سفيان من مشاهير الصحابة، كان ينزل قديدا وقيل: إنه سكن مكة. قوله: (هي)، أي: العمرة في أشهر الحج أو المتعة. قوله: (لا بل للأبد) أي: ليس الأمر كما تقول، بل هي إلى يوم القيامة ما دام الإسلام. قوله: (وجاء علي بن أبي طالب)، أي: من اليمن، قال ابن بطال في (المغازي) للبخاري: عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث عليا إلى اليمن قبل حجة الوداع ليقبض الخمس، فقدم من سعايته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بما
أهللت يا علي؟) قال: بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فاهد وامكث حراما كما كنت)، قال: فأهدى له علي هديا، قال: فهذا تفسير قوله: (وأشركه في الهدي) أن الهدي الذي أهداه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل له ثوابه فيحتمل أن يفرده بثواب ذلك الهدي، كله فهو شريك له في هديه لأنه أهداه عنه تطوعا من ماله، ويحتمل أن يشركه في ثواب هدي واحد يكون بينهما، كما ضحى صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته بكبش، وعمن لم يضح من أمته وأشركهم في ثوابه، ويجوز الاشتراك في هدي التطوع. وقال القاضي: عندي أنه لم يكن شريكا حقيقة بل أعطاه نذرا يذبحه، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وأعطى عليا من البدن التي جاء بها من اليمن. قوله: (فقال أحدهما)، أي: أحد الراويين من عطاء وطاووس وقال بلفظ: أحدهما، لأن الراوي لم يكن عالما بالتعيين، لكن روى عطاء عن جابر في: باب تقضي الحائض المناسك، أنه قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فامر النبي صلى الله عليه وسلم) أي أمر عليا رضي الله عنه أن يقيم أي يثبت على إحرامه قوله (وأشركه) أي: أشرك النبي صلى الله عليه وسلم عليا في الهدي، وقد ذكرنا وجهه الآن.
61
((باب من عدل عشرا من الغنم بجزور في القسم))
أي: هذا باب يذكر فيه من عدل من الغنم بجزور، بفتح الجيم وضم الزاي، أي: بعير، في القسم، بفتح القاف قيد به احترازا عن الأضحية فإن فيها يعدل سبعة بجزور نظرا إلى الغالب، وأما يوم القسم فكان النظر فيه إلى القيمة الحاضرة في ذلك الزمان وذلك المكان.
66

7052 حدثنا محمد قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فاكفئت ثم عدل عشرا من الغنم بجزور ثم إن بعيرا منها ند وليس في القوم إلا خيل يسيرة فرماه رجل فحبسه بسهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لهاذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هاكذ قال قال جدي يا رسول الله إنا نرجو أو نخاف أن نلقى العدو وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال اعجل أو أرني ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذالك أما السن فعظم وأما الظفر فمداى الحبشة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم عدل عشرا من الغنم بجزور)، والحديث مضى عن قريب في: باب قسمة الغنم، فإنه أخرجه هناك: عن علي بن الحكم الأنصاري عن أبي عوانة عن سعيد بن مسروق عن عباية... إلى آخره، وهنا أخرجه: عن محمد ولم ينسب هو في أكثر الروايات، ووقع في رواية ابن شبويه: حدثنا محمد بن سلام عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبيه سعيد ابن مسروق عن عباية... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
قوله: (أو أراني)، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر النون بزيادة الياء الحاصلة من إشباع كسرة النون، ويروى: أرن، بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون. قال الخطابي: صوابه: أرن، على وزن: اعجل، وهو بمعناه وهو من أرن يأرن: إذا نشط وخف، أي: أعجل ذبحها لئلا تموت خنقا، فإن الذبح إذا كان بغير حديد احتاج صاحبه إلى خفة يد وسرعة. قال: وقد يكون على وزن: أعط، يعني: أدم القطع ولا تفتر، من قولهم: رنوت إذا أدمت النظر، والصحيح أنه بمعنى أعجل، وأنه شك من الراوي هل قال: أعجل أو أرن. وقال التوربشتي: هي كلمة تستعمل في الاستعجال وطلب الخفة، وأصل الكلمة كسر الراء ومنهم من يسكنها ومنهم من يحذف ياء الإضافة منها لأن كسرة النون تدل عليها. قال الكرماني: بيان كونه ياء الإضافة مشكل إذ الظاهر أنه ياء الإشباع. قلت: الذي قاله هو الصحيح، لأن ياء الإضافة لا وجه لها هنا على ما لا يخفى، والله أعلم بحقيقة الحال.
بسم الله الرحمن الرحيم
61
((باب من عدل عشرا من الغنم بجزور في القسم))
أي: هذا باب يذكر فيه من عدل من الغنم بجزور، بفتح الجيم وضم الزاي، أي: بعير، في القسم، بفتح القاف قيد به احترازا عن الأضحية فإن فيها يعدل سبعة بجزور نظرا إلى الغالب، وأما يوم القسم فكان النظر فيه إلى القيمة الحاضرة في ذلك الزمان وذلك المكان.
7052 حدثنا محمد قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن جده رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فاكفئت ثم عدل عشرا من الغنم بجزور ثم إن بعيرا منها ند وليس في القوم إلا خيل يسيرة فرماه رجل فحبسه بسهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لهاذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هاكذ قال قال جدي يا رسول الله إنا نرجو أو نخاف أن نلقى العدو وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب فقال اعجل أو أرني ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذالك أما السن فعظم وأما الظفر فمداى الحبشة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم عدل عشرا من الغنم بجزور)، والحديث مضى عن قريب في: باب قسمة الغنم، فإنه أخرجه هناك: عن علي بن الحكم الأنصاري عن
أبي عوانة عن سعيد بن مسروق عن عباية... إلى آخره، وهنا أخرجه: عن محمد ولم ينسب هو في أكثر الروايات، ووقع في رواية ابن شبويه: حدثنا محمد بن سلام عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبيه سعيد ابن مسروق عن عباية... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
قوله: (أو أراني)، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر النون بزيادة الياء الحاصلة من إشباع كسرة النون، ويروى: أرن، بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون النون. قال الخطابي: صوابه: أرن، على وزن: اعجل، وهو بمعناه وهو من أرن يأرن: إذا نشط وخف، أي: أعجل ذبحها لئلا تموت خنقا، فإن الذبح إذا كان بغير حديد احتاج صاحبه إلى خفة يد وسرعة. قال: وقد يكون على وزن: أعط، يعني: أدم القطع ولا تفتر، من قولهم: رنوت إذا أدمت النظر، والصحيح أنه بمعنى أعجل، وأنه شك من الراوي هل قال: أعجل أو أرن. وقال التوربشتي: هي كلمة تستعمل في الاستعجال وطلب الخفة، وأصل الكلمة كسر الراء ومنهم من يسكنها ومنهم من يحذف ياء الإضافة منها لأن كسرة النون تدل عليها. قال الكرماني: بيان كونه ياء الإضافة مشكل إذ الظاهر أنه ياء الإشباع. قلت: الذي قاله هو الصحيح، لأن ياء الإضافة لا وجه لها هنا على ما لا يخفى، والله أعلم بحقيقة الحال.
بسم الله الرحمن الرحيم
84
((كتاب الرهن في الحضر))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الرهن، هكذا هو في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: باب الرهن في الحضر، وفي رواية ابن شبويه: باب ما جاء في الرهن، وفي رواية الكل الآية مذكورة في الأول. قوله: (في الحضر) ليس بقيد، ولكنه ذكره بناء على الغالب، لأن الرهن في السفر نادر، وقال ابن بطال: الرهن جائز في الحضر خلافا للظاهرية، واحتجوا بقوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * (البقرة: 382). والجواب: أن الله تعالى إنما ذكر السفر لأن الغالب فيه عدم الكاتب في السفر، وقد يوجد الكاتب في السفر ويجوز فيه الرهن، وكذا يجوز في الحضر، ولأن الرهن للاستيثاق فيستوثق في الحضر أيضا كالكفيل، وأيضا رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، درعه بالمدينة، والرهن في اللغة مطلق الحبس، قال الله تعالى: * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (المدثر: 83). أي: محبوسة، وفي الشرع: هو حبس شيء يمكن استيفاؤه منه الدين: تقول: رهنت الشيء عند فلان ورهنه الشيء وأرهنته الشيء بمعني، قال ثعلب: يجوز رهنته وأرهنته. وقال الأصمعي: لا يقال: أرهنت الشيء وإنما يقال: رهنته، ويجمع الرهن على رهان ورهن بضمتين. وقال الأخفش: رهن بضمتين قبيحة لأنه لا يجمع فعل على فعل إلا قليلا شاذا، نحو: سقف وسقف، قال: وقد يكون رهن جمعا للرهان، كأنه يجمع رهن على رهان، ثم يجمع رهان على رهن، مثل فراش وفرش والراهن الذي يرهن، والمرتهن الذي يأخذ الرهن، والشيء مرهون ورهين والأنثى رهينة.
1
((باب في الرهن في الحضر
67

وقوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * (البقرة: 382).))
وقوله، بالجر عطف على ما قبله أي في بيان قوله تعالى: * (وإن كنتم على سفر) * (البقرة: 382). قوله: * (وإن كنتم على سفر) * (البقرة: 382). أي: مسافرين، وتداينتم إلى أجل مسمى: * (ولم تجدوا كاتبا) * (البقرة: 382). يكتب لكم، قال ابن عباس: أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما * (فرهان مقبوضة) * (البقرة: 382). أي: فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة في يد صاحب الحق. وقد استدل بقوله: * (فرهان مقبوضة) * (البقرة: 382). أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، كما هو مذهب الجمهور، وقال ابن بطال: جميع الفقهاء يجوزون الرهن في الحضر والسفر، ومنعه مجاهد وداود في الحضر، ونقل الطبري عن مجاهد والضحاك أنهما قالا: لا يشرع الرهن إلا في السفر حيث لا يوجد الكاتب، وبه قال داود.
8052 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام قال حدثنا قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة ولقد سمعته يقول ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وسلم إلا صاع ولا أمسى وإنهم لتسعة أبيات.
(انظر الحديث 9602).
مطابقته للترجمة في قوله: (ولقد رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه بشعير)، وقد مضى الحديث في أوائل كتاب البيوع في: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، فإنه أخرجه هناك: عن مسلم عن هشام عن قتادة عن أنس وعن محمد بن عبد الله بن حوشب عن أسباط عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس، ومضى الكلام فيه مستوفى.
قوله: (ولقد رهنه)، معطوف على شيى محذوف بينه ما رواه أحمد من طريق أبان العطار عن قتادة عن أنس: أن يهوديا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه، ولقد رهن... إلى آخره، وهذا اليهودي هو أبو الشحم واسمه كنيته، وهو من بني ظفر، بفتح الظاء المعجمة والفاء: وهو بطن من الأوس وكان حليفا لهم وكان قدر الشعير ثلاثين صاعا كما سيأتي في البخاري من حديث عائشة في الجهاد، وكذلك رواه أحمد وابن ماجة والطبراني، وفي رواية الترمذي والنسائي: (بعشرين صاعا)، ووقع لابن حبان من طريق شيبان عن قتادة عن أنس: أن قيمة الطعام كانت دينارا، وزاد أحمد من طريق شيبان: (فما وجد ما يفتكها به حتى مات). قوله: (درعه)، بكسر الدال يذكر ويؤنث. قوله: (بشعير)، الباء فيه للمقابلة، أي: رهن درعه في مقابلة شعير. قوله: (ومشيت)، أي: قال أنس: مشيت إلى النبي،
صلى الله عليه وسلم. قوله: (بخبر شعير)، بالإضافة والباء فيه تتعلق: بمشيت. قوله: (وإهالة)، بكسر الهمزة وتخفيف الهاء: ما أذيب من الشحم والألية، وقيل: هو كل دسم جامد، وقيل: ما يؤتدم به من الأدهان. قوله: (سنخة)، بفتح السين المهملة وكسر النون وفتح الخاء المعجمة: أي متغيرة الريح، ويقال: زنخة أيضا بالزاي، موضع السين. قوله: (ولقد سمعته)، أي: قال أنس، رضي الله تعالى عنه: (لقد سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول...) وقد مر ما قال الكرماني فيه وما رد عليه وما أجبت عنه في الباب المذكور. قوله: (ما أصبح لآل محمد إلا صاع ولا أمسى). كذا بهذه العبارة وقع لجميع الرواة، وكذا ذكره الحميدي في الجمع، ووقع لأبي نعيم في (المستخرج) من طريق الكجي عن مسلم بن إبراهيم شيخ البخاري المذكور في سند الحديث، بلفظ: (ما أصبح لآل محمد ولا أمسى إلا صاع) وهذا أحسن وفيه تنازع الفعلان في ارتفاع صاع وفي رواية البخاري. قوله: (أصبح)، فعل وفاعله: صاع، ويقد صاع آخر في قوله: ولا أمسى، أي: ولا أمسى صاع، ووقع في رواية أحمد عن أبي عامر والإسماعيلي من طريقه، وللترمذي من طريق ابن أبي عدي ومعاذ بن هشام، وللنسائي من طريق هشام بلفظ: (ما أمسى في آل محمد صاع تمر ولا صاع حب)، والمراد بالآل: أهل بيته صلى الله عليه وسلم،، وقد بينه بقوله: (وإنهم)، أي: وإن آله لتسعة أبيات، وأراد به بطريق الكناية تسع نسوة، وكذا وقع في رواية هؤلاء المذكورين، ولم يقل النبي، صلى الله عليه وسلم، هذه المقالة بطريق التضجر، حاشا وكلا، وإنما هو بيان الواقع.
وفيه من الفوائد: جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم. وفيه: جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيا. وفيه: ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم. وفيه:
68

جواز الشراء بالثمن المؤجل. وفيه: جواز اتخاذ الدروع وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في الت كل. وفيه: أن قنية آلة الحرب لا تدل علي تحبيسها. وفيه: أن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي. وفيه: ما كان فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الإدخار حتى احتاج إلى رهن درعه والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير. وفيه: فضيلة أزواجه، صلى الله عليه وسلم، لصبرهن معه على ذلك. وفيه: فوائد أخرى ذكرناها هناك.
2
((باب من رهن درعه))
أي: هذا باب في بيان من رهن درعه وإنما ذكر هذه الترجمة مع أنه ذكر حديث الباب في باب شراء النبي، صلى الله عليه وسلم، بالنسيئة لتعدد شيخه فيه مع زيادة فيه هنا على ما نذكره.
9052 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا الأعمش قال تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والقبيل في السلف فقال إبراهيم حدثنا الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ورهنه درعه)، وذكر هذا الحديث في: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة، كما ذكرنا الآن عن معلى بن أسد عن عبد الواحد عن سليمان الأعمش إلى آخره، والزيادة فيه هنا قوله: (والقبيل)، بفتح القاف وكسر الباء الموحدة: وهو الكفيل، وزنا ومعنى. قوله: (في السلف) وهناك: (في السلم). وقد مضى الكلام فيه هناك وفي الباب السابق أيضا، والله أعلم.
3
((باب رهن السلاح))
أي: هذا باب في بيان حكم رهن السلاح، قيل: وإنما ترجم لرهن السلاح بعد رهن الدرع، لأن الدرع ليست بسلاح حقيقة، وإنما هي آلة يتقى بها السلاح. انتهى. قلت: الدرع يتقى بها النفس وإن لم يكن عليه سلاح، والمراد بالسلاح الآلة التي يدفع بها الشخص عن نفسه، والدرع أعظم وأشد في هذا الباب على ما لا يخفى.
0152 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال عمر و سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فإنه آذاى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال محمد بن مسلمة أنا فأتاه فقال أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقعين فقال ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب قال فارهنوني أبناءكم قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسقين هذا عار علينا ولاكنا نرهنك اللأمة قال سفيان يعني السلاح فوعده أن يأتيه فقتلوه ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه.
.
قيل: ليس فيه ما بوب عليه لأنهم لم يقصدوا إلا الحديقة، وإنما يؤخذ جواز رهن السلاح من الحديث الذي قبله. انتهى. قلت: ليس في لفظ الترجمة ما يدل على جواز رهن السلاح ولا على عدم جوازه، لأنه أطلق، فتكون المطابقة بينه وبين الترجمة في قوله: (ولكنا نرهنك اللأمة)، أي: السلاح بحسب ظاهر الكلام، وإن لم يكن في نفس الأمر حقيقة الرهن، وهذا المقدار كاف في وجه المطابقة.
وعلي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وقد تكرر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة. وعمرو هو ابن دينار، ومحمد بن مسلمة، بفتح الميمين واللام أيضا: ابن خالد بن
عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمر وهو النبيت بن مالك بن أوس الحارثي الأنصاري، يكنى أبا عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو سعيد حليف بني عبد الأشهل
69

شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه استخلفه على المدينة عام تبوك، روى عنه جابر وآخرون، اعتزل الفتنة وأقام بالربذة ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين، وقيل: سنة سبع وأربعين وهو ابن سبع وسبعين سنة، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو يومئذ أمير المدينة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغاوي عن علي بن عبد الله وفي الجهاد عن قتيبة وعبد الله بن محمد فرقهما. وأخرجه مسلم في المغازي عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن أحمد بن صالح، وأخرجه النسائي في السير عن عبد الله ابن محمد بن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (من لكعب بن الأشرف) أي: من يتصدى لقتله، وقال ابن إسحاق كان كعب بن الأشرف من طي ثم أحد بني نبهان حليف بني النضر، وكانت أمه من بني النضر، واسمها عقيلة بنت أبي الحقيق، وكان أبوه قد أصاب دما في قومه، فأتى المدينة فنزلها، ولما جرى ببدر ما جرى قال: ويحكم! أحق هذا؟ وأن محمدا قتل أشراف العرب وملوكها، والله إن كان هذا حقا فبطن الأرض خير من ظهرها، ثم خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده عاتكة بنت أسد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، فأكرمه المطلب فجعل ينوح ويبكي على قتلى بدر، ويحرض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار، فمن ذلك ما حكاه الواقدي من قصيدة عينية طويلة من الوافر أولها:
* طحنت رحى بدر بمهلك أهله
* ولمثل بدر تستهل وتدمع
*
* قتلت سراة الناس حول خيامهم
* لا تبعدوا أن الملوك تصرع
*
فأجابه حسان بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، فقال:
* أبكاه كعب ثم عل بعبرة
* منه وعاش مجدعا لا تسمع
*
* ولقد رأيت ببطن بدر منهم
* قتلى تسح لها العيون وتدمع
*
إلى آخرها... وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (من لكعب بن الأشرف؟). وقال الواقدي: كان كعب شاعرا يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويظاهر عليهم الكفار، ولما أصاب المشركين يوم بدر ما أصابهم اشتد عليه. قوله: (فقال محمد بن مسلم: أنا)، أي: أنا له، أي: لقتله يا رسول الله. واختلفوا في كيفية قتله على وجهين: أحدهما لما ذكره البخاري ومسلم أيضا في: باب قتل كعب بن الأشرف، في كتاب المغازي، وهو قوله: قال: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: إئذن لي أن أقول شيئا، قال: قل... إلى آخر الحديث، ينظر هناك. والوجه الثاني: ما ذكره محمد بن إسحاق وغيره: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لكعب؟) قال محمد بن مسلمة: أنا، فرجع محمد بن مسلمة فأقام ثلاثا لا يأكل ولا يشرب، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: ما الذي منعك من الطعام والشراب؟ فقال: لأني قلت قولا ولا أدري أفي به أم لا. فقال: (إنما عليك الجهد)، فقال: يا رسول الله! لا بد لنا أن نقول قولا، فقال: (قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك). وقال محمد بن إسحاق: فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلامة بن وقش وهو أبو نائلة الأشهلي، وكان أخا لكعب من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش الأشهلي وأبو عبس بن حبر أخو بني حارثة والحارث بن أوس، وقدموا إلى ابن الأشرف قبل أن يأتوا سلكان بن سلامة أبا نائلة، فجاء محمد بن مسلمة إلى كعب فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف؟ إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم علي. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال: أنا والله قد أخبرتكم أن الأمر سيصير إلى هذا، ثم جاءه من ذكرناهم، فقال له سلكان: إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثقك ونحسن في ذلك، فقال: أترهنوا في أبنائكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، أن معنى أصحابا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم ونحسن في ذلك، ونرهنك من الحلقة، يعني: السلاح، ما فيه وفاء. فقال كعب: إن في الحلقة لوفاء، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم، فأخذوا السلاح وخرجوا يمشون، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلى البقيع يدعو لهم، وقال: انطلقوا
70

على اسم الله وبركته)، وكانت ليلة مقمرة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرته وساروا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد
بعرس، فوثب في محلفة له فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إلى أين في هذه الساعة؟ فقال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال لها كعب: لو دعى الفتى إلى طعنة ليلا لأجاب، ثم نزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، ثم قالوا: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه، قال: نعم، إن شئتم، فخرجوا يتماشون فأخر الأمر أخذ أبو نائلة بفود رأسه، فقال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تغن شيئا، قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا لي في سيفي، والمغول السيف الصغير، فوضعته في ثنته وتحاملت عليه حتى بلغ عانته، وصاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا وقد أوقد عليه نار، ووقع عدو الله، وجئنا آخر الليل إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي فأخبرناه بقتله ففرح، ودعا لنا. وحكى الطبري عن الواقدي، قال: جاؤوا برأس كعب ابن الأشرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب (شرف المصطفى): أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه في المخلاة إلى المدينة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام، وقيل: بل رأس أبي عزو الجمحي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فقتل وجمل رأسه إلى المدينة في رمح، وأما أول مسلم حمل رأسه في الإسلام فعمر بن الخمق، وله صحبة. فإن قلت: كيف قتلوا كعبا على وجه الغرة والخداع؟ قلت: لما قدم مكة وحرض الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين فقد نقض العهد، وإذا نقض العهد فقد وجب قتله بأي طريق كان، وكذا من يجري مجراه كأبي رافع وغيره، وقال المهلب: لم يكن في عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان ممتنعا بقومه في حصنه، وقال المازري: نقض العهد وجاء مع أهل الحرب معينا عليهم، ثم إن ابن مسلمة لم يؤمنه لكنه كلمه في البيع والشراء فاستأنس به، فتمكن منه من غير عهد ولا أمان. وقد قال رجل في مجلس علي، رضي الله تعالى عنه: إن قتله كان غدرا، فأمر بقتله فضربت عنقه، لأن الغدر إنما يتصور بعد أمان صحيح، وقد كان كعب مناقضا للعهد. قوله: (وسقا)، بفتح الواو وكسرها: وهو ستون صاعا. قوله: (أو وسقين)، شك من الراوي. قوله: (ارهنوني)، فيه لغتان رهن وأرهن، فالفصيحة: رهن، والقليلة: أرهن. فقوله: ارهنوا على اللغة الفصيحة بكسر الهمزة، وعلى اللغة القليلة بفتحها. قوله: (فيسب) على صيغة المجهول، وكذا قوله: رهن بوسق. قوله: (اللأمة)، مهموزة: الدرع وقد فسره سفيان الراوي بالسلاح، وقال ابن الأثير: اللأمة الدرع، وقيل: السلاح، ولأمة الحرب أداته، وقد ترك الهمزة تخفيفا، وقال ابن بطال: ليس في قولهم: نرهنك اللأمة، دلالة على جواز رهن السلاح عند الحربي، وإنما كان ذلك من معاريض الكلام المباحة في الحرب وغيره، وقال السهيلي: في قوله: من لكعب ابن الأشرف، فإنه آذى الله ورسوله؟ جواز قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذا عهد، خلافا لأبي حنيفة فإنه لا يرى بقتل الذمي في مثل هذا. قلت: من أين يفهم من الحديث جواز قتل الذمي بالسب؟ أقول: هذا بحثا، ولكن أنا معه في جواز قتل الساب مطلقا.
4
((باب الرهن مركوب ومحلوب))
أي: هذا باب يذكر فيه الرهن مركوب، يعني: إذا كان ظهرا يركب، وإذا كان من ذوات الدر يحلب، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه الحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: الرهن مركوب ومحلوب، وقال: إسناده على شرط الشيخين. وأخرجه ابن عدي في (الكامل) والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) من رواية إبراهيم بن محشر، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرهن محلوب ومركوب)، قال ابن عدي: لا أعلم رفعه عن أبي معاوية غير إبراهيم بن محشر هذا، وله منكرات من جهة الإسناد غير محفوظة.
وقال مغيرة عن إبراهيم: تركب الضالة بقدر علفها وتحلب بقدر علفها والرهن مثله
71

مغيرة بضم الميم وكسرها بلام التعريف وبدونها: هو ابن مقسم، بكسر الميم وسكون القاف، مر في الصوم، وإبراهيم هو النخعي، والضالة ما ضل من البهيمة ذكرا كان أو أنثى. قوله: (بقدر علفها)، ووقع في رواية الكشميهني: بقدر عملها، والأول أوجه، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة به. قوله: (والرهن)، أي: المرهون مثله في الحكم المذكور، يعني: يركب ويحلب بقدر العلف، وهذا أيضا وصله سعيد بن منصور بالإسناد المذكور، ولفظه: الدابة إذا كانت مرهونة تركب بقدر علفها، وإذا كان لها لبن يشرب منه بقدر علفها.
1152 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زكرياء عن عامر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول الرهن يركب بنفقته ويشرب لبن الدر إذا كان مرهونا.
(الحديث 1152 طرفه في: 2152).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وزكرياء هو ابن أبي زائدة، وعامر هو الشعبي وليس للشعبي عن أبي هريرة في البخاري إلا هذا الحديث، وآخر في تفسير الزمر، وعلق له ثالثا في النكاح.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن محمد بن مقاتل في الرهن. وأخرجه أبو داود في البيوع عن هناد. وأخرجه الترمذي فيه عن أبي كريب ويوسف ابن عيسى. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر طرق هذا الحديث: ولما رواه الترمذي قال: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا، ورواه كذلك: سفيان بن عيينة وشعبة ووكيع. فأما حديث ابن عيينة فرواه الشافعي عنه، ومن طريق البيهقي. وأما حديث شعبة فرواه البيهقي من رواية مسلم بن إبراهيم عنه. وأما حديث وكيع فرواه البيهقي أيضا من رواية إبراهيم بن عبد الله العبسي عنه، وورد مرفوعا من طرق أخرى. منها: ما رواه ابن عدي في (الكامل)، وقد ذكرناه عن قريب. ومنها: ما
رواه الدارقطني من رواية يحيى بن حماد والبيهقي من رواية شيبان بن فروخ، كلاهما عن أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، ورجاله كلهم ثقات. ومنها: ما رواه ابن عدي في (الكامل) من رواية يزيد بن عطاء عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ويزيد ضعيف. ومنها: ما رواه ابن عدي أيضا من رواية الحسن بن عثمان بن زياد التستري عن خليفة بن خياط وحفص بن عمر الرازي عن عبد الرحمن ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، وقال: هذا عن الثوري عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مسندا منكر جدا. والبلاء من الحسن بن عثمان فإنه كذاب. ومنها: ما رواه ابن عدي أيضا من رواية أبي الحارث الوراق عن شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا، وقال: أبو الحارث هذا بصري، وقال ابن طاهر: روى عن أبي عوانة وعيسى بن يونس وأبي معاوية وشعبة والثوري مرفوعا وموقوفا، والأصح الموقوف. وقال الدارقطني: رفعه أبو الحارث نصر بن حماد الوراق عن شعبة عن الأعمش، وروى عن وهب بن جرير أيضا مرفوعا، وغيرهما يرويه عن شعبة موقوفا، وهو الصواب. قال: ورفعه أيضا لوين عن عيسى بن يونس عن الأعمش، والمحفوظ عن الأعمش وقفه على أبي هريرة، وهو أصح، ورواه خلاد الصفار عن منصور عن أبي صالح مرفوعا، وغيره يقفه، وهو أصح، وعند ابن حزم من حديث زكرياء عن الشعبي عنه مرفوعا: إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته ويركب. وقال: هذه الزيادة إنما هي من طريق إسماعيل بن الصائغ مولى بني هاشم عن هشيم، فالتخليط من قبله لا من قبل هشيم، قلت: إسماعيل هذا احتج به مسلم، وتابعه زياد بن أيوب عند الدارقطني، ويعقوب الدوري عند البيهقي.
ذكر معناه: قوله: (الرهن يركب)، أي: المرهون يركب، وهو على صيغة المجهول، والمراد الظهر، وبينه في الطريق الثاني حيث قال: الظهر يركب. قوله: (بنفقته)، أي: بمقابلة نفقته، يعني يركب وينفق عليه. قوله: (ويشرب)، على صيغة المجهول أيضا. قوله: (لبن الدر)، بفتح الدال المهملة وتشديد الراء، وهو مصدر بمعنى: الدارة، أي: ذات الضرع، وقال بعضهم: وقوله: لبن الدر، من إضافة الشيء إلى نفسه، وهو كقوله تعالى: * (حب الحصيد) * (ق: 9). قلت: إضافة الشئ إلى نفسه لا تصح
72

إلا إذا وقع في الظاهر فيؤول، وقد ذكرنا أن المراد بالدر: الدارة، فلا يكون إضافة الشيء إلى نفسه، لأن اللبن غير الدارة، وكذلك يؤول في * (حب الحصيد) * (ق: 9)
[/ ح.
ذكر ما يستفاد منه: احتج بهذا الحديث إبراهيم النخعي والشافعي وجماعة الظاهرية على: أن الراهن يركب المرهون بحق نفقته عليه. ويشرب لبنه، كذلك، وروي ذلك أيضا عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، وقال ابن حزم في (المحلى): ومنافع الرهن كلها لا تحاشى منها شيئا لصاحب الرهن له كما كانت قبل الرهن، ولا فرق حاشى ركوب الدابة المرهونة وحاشى لبن الحيوان المرهون. فإنه لصاحب الرهن إلا أن يضيعهما فلا ينفق عليهما وينفق على كل ذلك المرتهن، فيكون له حينئذ الركوب واللبن بما أنفق لا يحاسب به من دينه، كثر ذلك أو قل، وذلك لأن ملك الراهن باق في الرهن لم يخرج عن ملكه، لكن الركوب والاحتلاب خاصة لمن أنفق على المركوب والمحلوب، لحديث أبي هريرة انتهى. وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وأحمد في رواية: ليس للراهن ذلك لأنه ينافي حكم الرهن، وهو الحبس الدائم، فلا يملكه، فإذا كان كذلك فليس له أن ينتفع بالمرهون استخداما وركوبا ولبنا وسكنى وغير ذلك، وليس له أن يبيعه من غير المرتهن بغير إذنه، ولو باعه توقف على إجازته، فإن أجازه ويكون الثمن رهنا، سواء شرط المرتهن عند الإجازة أن يكون مرهونا عنده أو لا. وعن أبي يوسف: لا يكون رهنا إلا بشرط، وكذا: ليس للمرتهن أن ينتفع بالمرهون حتى لو كان عبدا لا يستخدمه أو دابة لا يركبها أو ثوبا لا يلبسه أو دارا لا يسكنها أو مصحفا ليس له أن يقرأ فيه وليس له أن يبيعه إلا بإذن الراهن. وقال الطحاوي في الاحتجاج لأصحابنا: أجمع العلماء على أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس على المرتهن استعمال الرهن. قال: والحديث يعني: الحديث الذي احتج به الشافعي ومن معه مجمل فيه لم يبين فيه الذي يركب ويشرب، فمن أين جاز للمخالف أن يجعله للراهن دون المرتهن؟ ولا يجوز حمله على أحدهما إلا بدليل، قال: وقد روى هشيم عن زكرياء عن الشعبي عن أبي هريرة، ذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب، فدل هذا الحديث أن المعنى بالركوب وشرب اللبن في الحديث الأول هو المرتهن لا الراهن، فجعل ذلك له وجعلت النفقة عليه بدلا مما يتعوض منه، وكان هذا عندنا والله أعلم في وقت ما كان الربا مباحا، ولم ينه حينئذ عن القرض الذي يجر منفعة، ولا عن أخذ الشيء لشيء وإن كانا غير متساويين، ثم حرم الربا بعد ذلك وحرم كل قرض جر منفعة.
وأجمع أهل العلم أن نفقة الرهن على الراهن لا على المرتهن، وأنه ليس للمرتهن استعمال الرهن، قال: ويقال لمن صرف ذلك إلى الراهن فجعل له استعمال الرهن: أيجوز للراهن أن يرهن رجلا دابة هو راكبها؟ فلا يجد بدا من أن يقول: لا، فيقال له: فإذا كان الرهن لا يجوز إلا أن يكون مخلى بينه وبين المرتهن فيقبضه ويصير في يده دون يد الراهن، كما وصف الله تعالى بقوله: * (فرهان مقبوضة) * (البقرة: 382). فيقول: نعم، فيقال له: فلما لم يجز أن يستقبل الرهن على ما الراهن راكبه لم يجز ثبوته في يده بعد ذلك رهنا بحقه إلا كذلك أيضا، لأن دوام القبض لا بد منه في الرهن إذا كان الرهن إنما هو إحباس المرتهن للشيء المرهون بالدين، وفي ذلك أيضا ما يمنع استخدام الأمة الرهن لأنها ترجع بذلك إلى حال لا يجوز عليها استقبال الرهن.
وحجة أخرى: أنهم قد أجمعوا أن الأمة الرهن ليس للراهن أن يطأها، وللمرتهن منعه من ذلك، فلما كان المرتهن يمنع الراهن من وطئها، كان له أيضا أن يمنعه بحق الرهن من استخدامها. انتهى. قلت: الطحاوي أطلق قوله: قد أجمعوا... إلى آخره، وقد قال بعض أصحاب الشافعي: للراهن أن يطأ الآيسة والصغيرة، لأنه لا
ضرر فيه، فإن علة المنع الخوف من أن تلد منه، فتخرج بذلك من الرهن، وهذا معدوم في حقهما، والجمهور على خلاف ذلك، ثم إن خالف فوطىء فلا حد عليه لأنها ملكه، ولا مهر عليه، فإذا ولدت صارت أم ولد له وخرجت من الرهن وعليه قيمتها حين أحبلها، ولا فرق بين الموسر والمعسر، إلا أن الموسر تؤخذ قيمتها منه، والمعسر يكون في ذمته قيمتها، وهذا قول أصحابنا والشافعي أيضا. وقال ابن حزم: قال الشافعي: إن رهن أمة فوطئها فحملت، فإن كان موسرا خرجت من الرهن ويكلف رهنا آخر مكانها، وإن كان معسرا، فمرة قال: يخرج من الرهن ولا يكلف رهنا مكانها ولا تكلف هي شيئا، ومرة
73

قال: تباع إذا وضعت ولا يباع الولد ويكلف رهن آخر. وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن ولا يكلف لا هو ولا هي شيئا، سواء كان موسرا أو معسرا. وعن قتادة: أنها تباع ويكلف سيدها أن يفتك ولده منها. وعن ابن سيرين: أنها استسعيت، وكذلك العبد المرهون إذا أعتق. وقال مالك: إن كان موسرا كلف أن يأتي بقيمتها فتكون القيمة رهنا وتخرج هي من الرهن، وإن كان معسرا، فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي خارجة من الرهن ولا يتبع بغرامة ولا يكلف هو رهنا مكانها، لكن يتبع بالدين الذي عليه، وإن كان تسور عليها بيعت هي وأعطي هو ولده منها. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن حملت وأقر بحملها، فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف قضاء الدين إن كان حالا، أو كلف رهنا بقيمتها إن كان إلى أجل، وإن كان معسرا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغا ما بلغ، ولا ترجع به على سيدها، ولا يكلف ولدها سعاية، وإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تستسعى في قيمتها فقط، فجعلت رهنا مكانها، فإذا حل أجل الدين كلفت من قبل أن تستسعي في باقي الدين إن كانت أكثر من قيمتها، وإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر، قسم الدين على قيمتها يوم ارتهنها، وعلى قيمة ولدها يوم استلحقه، فما أصاب للأم سعت فيه بالغا ما بلغ للمرتهن، ولم ترجع به على سيدها، وما أصاب الولد سعي في الأقل من الدين أو من قيمته ولا رجوع به على أبيه، ويأخذ المرتهن كل ذلك. وقال صاحب (التوضيح): هذا الحديث حجة على أبي حنيفة قلت: سبحان الله! هذا تحكم، وكيف يكون حجة عليه وقد ذكرنا وجهه؟ على أن الشعبي، هو الراوي عن أبي هريرة في هذا الحديث، قد روى عنه الطحاوي: حدثنا، فهذا قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا الحسن بن صالح عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي، قال: لا ينتفع في الرهن بشيء، فهذا الشعبي يقول هذا، وقد روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث المذكور أفيجوز عليه أن يكون أبو هريرة يحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك ثم يقول هو بخلافه؟ وليس ذلك إلا وقد ثبت نسخ هذا الحديث عنده. والله أعلم.
2152 حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله بن المبارك قال أخبرنا زكرياء عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة.
(انظر الحديث 1152).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا طريق آخر في الحديث المذكور أخرجه محمد بن مقاتل الرازي عن عبد الله بن المبارك المروزي عن زكرياء بن أبي زائدة عن عامر الشعبي، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
قوله: (الظهر يركب)، ويروى: (الرهن يركب)، ومراده بالرهن أيضا: الظهر، بقرينة: يركب.
5
((باب الرهن عند اليهود وغيرهم))
أي: هذا باب في بيان حكم الرهن عند اليهود وغيرهم مثل النصارى والحربي المستأمن.
3152 حدثنا قتيبة قال حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما ورهنه درعه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث قد تكرر ذكره، لا سيما عن قريب.
6
((باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه فالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا اختلف الراهن والمرتهن، مثل ما إذا اختلفا في مقدار الدين والرهن قائم، فقال الراهن: رهنتك بعشرة دنانير، وقال المرتهن: بعشرين دينارا. فقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: القول قول الراهن مع يمينه، لأنه ينكر الزيادة، والبينة على المدعي وهو المرتهن. وعن الحسن وقتادة: القول قول المرتهن ما لم يجاوز دينه قيمة رهنه. قوله: (ونحوه) أي: ونحو اختلاف الراهن والمرتهن، مثل اختلاف المتبايعين، وغيره، ثم اختلفوا في تفسير
74

المدعي، فقيل: المدع من لا يستحق إلا بحجة كالخارج، وقيل: المدعي من يتمسك بغير الظاهر، وقيل: المدعي من يذكر أمرا خفيا خلاف الظاهر. وقيل: المدعي من إذا ترك ترك، وهذا هو الأحسن لكونه جامعا ومانعا. والمدعى عليه من يستحق بقوله من غير حجة كصاحب اليد، وقيل: من يتمسك بالظاهر، وقيل: من إذا ترك لا يترك بل يجبر، وهذا أيضا أحسن ما قيل فيه.
4152 حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس فكتب إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه
.
مطابقته لجزء الترجمة، وهو قوله: (واليمين على المدعى عليه). وخلاد، بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام: ابن يحيى بن صفوان أبو محمد السلمي الكوفي، وهو من أفراده، ونافع بن عمر بن عبد الله الجمحي من أهل مكة، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، واسمه: زهير بن عبد الله أبو محمد المكي الأحول، كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن أبي نعيم، وفي التفسير عن نصر بن علي. وأخرجه مسلم في الأحكام عن أبي الطاهر ابن السرح وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود في القضايا عن القعنبي عن نافع بن عمر مختصرا. وأخرجه الترمذي في الأحكام عن محمد بن سهيل. وأخرجه النسائي في القضاء عن علي بن سعيد عن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب في معناه.
قوله: (كتبت إلى ابن عباس) يعني: كتبت إليه أسأله في قضية امرأتين ادعت إحداهما على الأخرى، على ما يجيء في تفسير سورة آل عمران. قوله: (فكتب إلى...) إلى آخره: الكتابة حكمها حكم الاتصال لا الانقطاع، والخلاف فيها معروف في علوم الحديث، وقد قال بصحته أيوب ومنصور وآخرون، وهو الصحيح المشهور كما قال ابن الصلاح، وهو الصحيح أيضا عند الأصوليين، كما ذكره في المحصول، وفي الصحيح عدة أحاديث، من ذلك: قال البخاري في الأيمان والنذور: كتب إلى محمد بن بشار، وعند مسلم: أن جابر بن سمرة كتب إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص بحديث رجم الأسلمي، وذهب أبو الحسن بن القطان إلى انقطاع الرواية بالكتابة، وأنكر عليه في ذلك، وممن ذهب إلى عدم صحة الكتابة: الماوردي، كما ذهب إليه في الإجارة. قوله: (قضى أن اليمين على المدعى عليه)، قيل: إن البخاري حمله على عمومه، خلافا لمن قال: إن القول في الرهن قول المرتهن ما لم يجاوز قدر الرهن، لأن الرهن كالشاهد للمرتهن. وقال الداودي: الحديث خرج مخرج العموم وأريد به الخصوص، وقال ابن التين: والأولى أن يقال: إنها نازلة في عين والأفعال لا عموم لها كالأقوال في الأصح، وقد جاء في حديث: إلا في القسامة، أي: فإنها على المدعى إذا قال: دمي عند فلان، وادعى ابن التين أن الشافعي وأبا حنيفة وجماعة من متأخري المالكية أبوا ذلك، ثم قال: وقيل: يحلف المدعي وإن لم يقل الميت: دمي عند فلان، وهو قول شاذ لم يقله أحد من فقهاء الأمصار. وقالت فرقة: لا يجب القتل إلا ببينة واعتراف القاتل. قلت: قوله: وقد جاء في الحديث (إلا في القسامة) هو حديث رواه ابن عدي في (الكامل)، والدارقطني من رواية مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: البينة على المدعي واليمين على من أنكر، إلا في القسامة.
6152 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل قال قال عبد الله رضي الله تعالى عنه من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * فقرأ إلى * (عذاب أليم) * (آل عمران: 77). ثم إن الأشعث ابن قيس خرج إلينا فقال ما يحدثكمح أبو عبد الرحمان قال فحدثناه قال فقال صدق لفي والله أنزلت كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
75

رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدك أو يمينه قلت إنه إذا يحلف ولا يبالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ثم اقترأ هاذه الآية: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * إلى * (ولهم عذاب أليم) *.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (شاهدك أو يمينه) والحديث مضى في كتاب الشرب في: باب الخصومة في البئر، فإنه أخرجه هناك: عن عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله... إلى آخره. وأخرجه هنا عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن أبي وائل، هو شقيق بن سلمة، قوله: (قال: قال عبد الله)، هو عبد الله بن مسعود. قوله: (وهو فيها فاجر) أي: كاذب، وهو من باب الكناية، إذ الفجور لازم الكذب، والواو في: وهو، للحال. قوله: (غضبان)، وإطلاق الغضب على الله تعالى من باب المجاز، إذ المراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب. قوله: (ثم إن الأشعث)، بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبالثاء المثلثة. قوله: (أبو عبد الرحمن)، هو كنية عبد الله بن مسعود. قوله: (فحدثناه)، بفتح الدال. قوله: (لفي)، بفتح اللام وكسر الفاء وتشديد الياء. قوله: (أنزلت)، ويروى: نزلت. قوله: (شاهدك)، ويروى: شاهداك. قوله: (إذا يحلف)، بنصب الفاء، وقد مر البحث فيه هناك مستقصى.
بسم الله الرحمان الرحيم
94
((كتاب العتق))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام العتق، ذا هكذا هو في رواية المستملي، ولكنه ذكره قبل البسملة، وفي رواية الأكثرين هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم في العتق وفضله، وفي رواية ابن شبويه: بسم الله الرحمن الرحيم، باب في العتق، وفي رواية النسفي: كتاب العتق: باب ما جاء في العتق وفضله. العتق لغة: القوة، من عتق الطائر إذا قوي على جناحيه، وفي الشرع: عبارة عن قوة شرعية في مملوك، وهي إزالة الملك عنه، والرق ضعف شرعي يثبت في المحل فيعجزه عن التصرفات الشرعية، ويسلبه أهلية القضاء والشهادة والسلطنة والتزوج، وغير ذلك، والعتاق اسم للعتق، يقال: أعتقت العبد أعتقه إعتاقا وعتاقة، والإعتاق إثبات العتق عند أبي
يوسف، ومحمد، وعند أبي حنيفة: إثبات الفعل المفضي إلى حصول العتق.
1
((باب ما جاء في العتق وفضله وقول الله عز وجل * (فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة) * (البلد: 31 51))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في أمر العتق، وفي بيان فضله. قوله: (وقول الله عز وجل)، بالجر عطفا على قوله: في العتق. قوله: * (فك رقبة) * (البلد: 31 51). أولها قوله: * (فلا اقتحم العقبة وما ادراك ما العقبة فك رقبة) * (البلد: 11 31). الضمير في: فلا اقتحم، يرجع إلى الإنسان في قوله: * (لقد خلقنا الإنسان) * (البلد: 4). المراد منه: الوليد بن المغيرة، فإنه كان يقول: أهلكت مالا كثيرا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال الله عز وجل: * (أيحسب) * أي: أيظن هذا * (أن لم يره) * أي: أن لم ير ما أنفقه * (أحد) * (البلد: 7). من الناس؟ ثم ذكر الله النعم ليعتبر. فقال: * (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) * (البلد: 8 01). أي: سبيل الخير والشر، قاله أكثر المفسرين، وقيل: الحق والباطل، وقيل الهدى والضلالة، وقيل: الشقاوة والسعادة. والنجد: المرتفع من الأرض. ثم قال: * (فلا أقتحم العقبة) * (البلد: 7). أي: فلا دخل هذا الإنسان العقبة، والاقتحام: الدخول في الأمر الشديد، والعقبة: جبل في جهنم، وقيل: هي عقبة دون الحشر، وقيل: سبعون دركة من جهنم، وقيل: الصراط، وقيل: نار دون الحشر. وقال الحسن: عقبة والله شديدة. قوله: * (وما أدراك ما العقبة) * (البلد: 31 51). أي: ما اقتحام العقبة؟ قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال: * (وما أدراك) * فإنه أخبره به، وما قال: * (وما يدريك) * فإنه لم يخبره به. قوله: * (فك رقبة) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: فك، بفتح الكاف، وأطعم بفتح الميم على الفعل، والباقون بالإضافة على الاسم، لأنه تفسير. قوله: * (وما
76

أدراك) * معناه: خلص رقبته من الأسر على قراءة ابن كثير، وعلى قراءة غيره: خلاص الرقبة، أي: الفك هو خلاص الرقبة، وإنما ذكر لفظ: الرقبة، دون سائر الأعضاء، مع أن العتق يتناول الجميع، لأن حكم السيد عليه كحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك قوله: * (أو إطعام في يوم) * (البلد: 41). والمراد من اليوم هنا مطلق الزمان ليلا كان أو نهارا. قوله: ذي مسغبة) * (البلد: 51). أي: مجاعة، يقال: سغب يسغب سغوبا: إذا جاع. قوله: * (يتيما) * (البلد: 41). منصوب بقوله: أطعم، أو بإطعام، والمصدر أيضا يعمل عمل فعله. قوله: * (ذا مقربة) * (البلد: 51). صفة: ليتيما، أي: ذا قرابة، يقال: زيد قرابتي أو ذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر. قوله: * (أو مسكينا) * (البلد: 61). عطف على يتيما * (وذا متربة) * (البلد: 61). صفته أي: ذا فقر، قد لصق بالتراب من الفقر، وقيل: المتربة من التربة هنا، وهي شدة الحال.
7152 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عاصم بن محمد قال حدثني واقد بن محمد قال حدثني سعيد بن مرجانة صاحب علي بن حسين قال قال لي أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أيما رجل أعتق امرءا مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار قال سعيد بن مرجانة فانطلقت به إلاى علي بن حسين فعمد علي بن حسين رضي الله تعالى عنه إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه.
(الحديث 7152 طرفه في: 5176).
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأنه يخبر عن فضل عظيم في العتق.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أحمد بن يونس هو أحمد ابن عبد الله بن يونس بن عبد الله التميمي اليربوعي. الثاني: عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي. الثالث: واقد، بكسر القاف: ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أخو عاصم المذكور، الرابع: سعيد ب مرجانة وهو سعيد بن عبد الله مولى بني عامر، ومرجانة أمه وهي أخت اللؤلؤة أم سعيد، مات سنة سبع وتسعين. الخامس: أبو هريرة، أي: رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه ذكر منسوبا إلى جده وأنه كوفي وأن سعيدا حجازي وعاصم وأخوه مدنيان. وفيه: رواية الأخ عن الأخ. وفيه: أن سعيد بن مرجانة ليس له في البخاري غير هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في التابعين، وأثبت روايته عن أبي هريرة، ثم ذهل فذكره في اتباع التابعين، وقال: لم يسمع عن أبي هريرة، ويرد ما ذكره رواية البخاري، بقوله: قال لي أبو هريرة: ووقع التصريح بسماعه منه عند مسلم والنسائي وغيرهما.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في كفارات الأيمان عن محمد بن عبد الرحيم. وأخرجه مسلم في العتق عن داود بن رشيد وعن حميد بن مسعدة وعن محمد بن المثنى وعن قتيبة عن ليث. وأخرجه الترمذي في الأيمان عن قتيبة به. وأخرجه النسائي في العتق عن قتيبة به وعن عمرو بن علي وعن مجاهد بن موسى، ولما أخرجه الترمذي قال: وفي الباب عن عائشة وعمرو بن عنبسة وابن عباس وواثلة بن الأسقع وأبي أمامة وعقبة بن عامر وكعب بن مرة قلت. أما حديث عائشة فأخرجه ابن زنجويه بإسناده عنها مرفوعا: من أعتق عضوا من مملوك أعتق الله بكل عضو منه عضوا. وأما حديث عمرو بن عنبسة فأخرجه أبو داود والنسائي من حديث شرحبيل بن السمط أنه قال لعمرو بن عنبسة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداه من النار. وأما حديث ابن عباس فأخرجه أبو الشيخ ابن حبان في (كتاب الثواب وفضائل الأعمال) عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما مؤمن أعتق مؤمنا في الدنيا أعتقه الله عضوا بعضو من النار. وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه أبو داود والنسائي من رواية الغريف الديلمي، قال: أتينا واثلة بن الأسقع، فقلنا له: حدثنا حديثا فذكره، وفيه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، في صاحب لنا أوجب يعني: النار بالقتل، فقال: أعتقوا
عنه يعتق الله بكل عضو منه
77

عضوا منه من النار. وأخرجه الحاكم في (المستدرك) وقال: إن غريف لقب عبد الله الديلمي. وأما حديث أبي أمامة فأخرجه الترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار، يجزى كل عضو منه عضوا وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزى كل عضو منهما عضوا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزى كل عضو منها عضوا منها). وقال: حسن صحيح غريب. وأما حديث عقبة فأخرجه أحمد من رواية قتادة عن قيس الجذامي عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار). ورواه أبو يعلى والحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد. وأما حديث كعب بن مرة فأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من رواية شرحبيل بن السمط، قال: قلت لكعب: يا كعب بن مرة أو مرة بن كعب حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحذر. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عظم منه عظم منه، ومن أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزى بكل عظمين منهما عظم منه). لفظ ابن ماجة، وأخرجه ابن حبان في (صحيحه).
قلت: وفي الباب عن معاذ بن جبل ومالك بن عمرو القشيري وسهل بن سعد وأبي مالك وأبي موسى الأشعري وأبي ذر. وأما حديث معاذ فأخرجه أحمد من رواية قتادة عن قيس عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار. وأما حديث مالك بن عمرو فأخرجه أحمد أيضا من رواية علي ابن زيد عن زرارة بن أبي أوفى عن مالك بن عمرو القشيري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار). وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه الطبراني في (معجمه الصغير) من رواية زكرياء بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار)، وأخرجه ابن عدي في (الكامل) وضعفه بزكرياء المذكور. وأما حديث أبي مالك فأخرجه أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن شعبة بالإسناد المتقدم في حديث مالك بن عمرو. وأما حديث أبي موسى فأخرجه النسائي في (الكبرى) والحاكم في (المستدرك) من رواية ابن عيينة عن شعبة شيخ من أهل الكوفة عن أبي بردة عن أبيه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة أو عبدا كانت فكاكه من النار). وأما حديث أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه البزار في (مسنده) من رواية أبي جرير عن الحسن عن صعصعة عن أبي ذر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مؤمنة فإنه يجزي من كل عضوا، ويجوز: من كل عضو منه عضوا منه من النار).
ذكر معناه: قوله: (صاحب علي بن حسين)، وهو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، وكان سعيد بن مرجانة منقطعا إليه فعرف بصحبته. قوله: (أيما رجل)، وفي رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن عاصم بن محمد: أيما مسلم، وكذا في رواية مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد بن مرجانة، وكلمة: أي، للشرط دخلت عليه كلمة: ما، وقال الكرماني: (أيما رجل)، بالجر وبالرفع على البدلية. قوله: (استنقذ الله) أي: نجى الله وخلص بكل عضو منه عضوا منه من النار، وسيأتي في كفارات الأيمان: أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه، وعند أبي الفضل الجوري: حتى أنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفم بالفم، فقال له علي بن حسين أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ قال: نعم. قال: ادعوا لي أفرد غلماني مطوفا فأعتقه. قوله: (قال: سعيد بن مرجانة) هذا موصول بالإسناد المذكور. قوله: (فانطلقت به)، أي: بالحديث، وفي رواية مسلم: فانطلقت حتى سمعت الحديث من أبي هريرة، فذكرته لعلي، وزاد أحمد وأبو عوانة في روايتيهما من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد بن مرجانة، فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة، قال: نعم قوله: (فعمد علي) أي: علي بن الحسين، أي: قصد إلى عبد له واسمه مطرف... كما ذكر الآن في حديث الجوري. قوله: (قد أعطاه) أي: قد أعطى علي بن الحسين به أي: بمقابلة عبده (عبد الله بن جعفر) وهو مرفوع لأنه فاعل: أعطاه، والضمير المنصوب فيه مفعوله الأول، وقوله: (عشرة آلاف درهم) مفعوله الثاني، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وهو ابن عم والد علي بن الحسين، رضي الله تعالى عنهم، وهو أول من ولد للمهاجرين
78

بالحبشة، وكان آية في الكرم ويسمى ببحر الجود وله صحبة، مات سنة ثمانين من الهجرة. قوله: (أو ألف دينار)، شك من الراوي. قوله: (فأعتقه)، وفي رواية إسماعيل بن أبي حكيم، فقال: إذهب أنت حر لوجه الله تعالى.
ذكر ما يستفاد منه: قال الخطابي: فيه: ينبغي أن يكون المعتق كامل الأعضاء، ولا ينبغي أن يكون ناقص الأعضاء بعور أو شلل وشبههما، ولا معيبا بعيب يضر بالعمل ويخل بالسعي والاكتساب، وربما كان نقص الأعضاء زيادة في الثمن كالخصي إذ يصلح لما يصلح له غيره من حفظ الحريم ونحوه، فلا يكره على أنه لا يخل بالعمل. وقال القاضي عياض: اختلف العلماء أيما أفضل: عتق الإناث أو الذكور؟ فقال بعضهم: الإناث أفضل، وقال آخرون: الذكور أفضل، لحديث أبي أمامة ولما في الذكر من المعاني العامة التي لا توجد في الإناث، ولأن من الإماء من لا ترغب في العتق وتضيع به بخلاف العبد، وهذا هو الصحيح، واستحب بعض العلماء أن يعتق الذكر والأنثى، مثلها ذكره الفرغاني في (الهداية) ليتحقق مقابلة الأعضاء بالأعضاء، وقال ابن العربي: الزنا كبيرة لا يكفر إلا بالتوبة، فيحمل هذا الحديث على أنه أراد مس الأعضاء بعضها بعضا من غير إيلاج، ويحتمل أن يريد: أن لعتق الفرج حظا في الموازنة فيكفر. وفيه: فضل العتق، وأنه من أرفع الأعمال وربما ينجي الله به من النار. وفيه: أن المجازاة قد تكون من جنس الأعمال فجوزي المعتق للعبد بالعتق من النار. وفيه: أن تقويم باقي العبد لمن أعتق شقصا منه إنما هو لاستعمال عتق نفسه بتمامها من النار، وصارت حرمة العتق تتعدى إلى الأموال لفضل النجاة به من النار، قيل: وهذا أولى من قول من قال: إنما ألزم عتق باقيه لتكميل حرية
العبد. وفيه: أن عتق المسلم أفضل من عتق الكافر، وهو قول كافة العلماء، وحكي عن مالك وبعض أصحابه أن الأفضل عتق الرقبة النفيسة وإن كان كافرا.
2
((باب أي الرقاب أفضل))
أي: هذا باب يذكر فيه: أي الرقاب أفضل للعتق؟ وكلمة: أي: هنا للاستفهام.
8152 حدثنا عبيد لله بن موساى عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل قال إيمان بالله وجهاد في سبيله قلت فأي الرقاب أفضل قال أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها قلت فإن لم أفعل قال تعين ضايعا أو تصنع لأخرق قال فإن لم أفعل قال تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك.
مطابقته للترجمة في قوله: (فإي الرقاب أفضل؟).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبيد الله بن موسى بن باذام أبو محمد العبسي. الثاني: هشام بن عروة. الثالث: أبوه عروة بن الزبير بن العوام. الرابع: أبو مراوح، بضم الميم وتخفيف الراء وكسر الواو وفي آخره حاء مهملة على وزن مقاتل، وفي رواية مسلم الليثي: ويقال له الغفاري، قيل: اسمه سعد، والأصح أنه لا يعرف له اسم، وقال الحاكم أبو أحمد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. الخامس: أبو ذر الغفاري، واسمه جندب بن جنادة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم مدنيون إلا شيخه فإنه كوفي. وفيه: أن هذا الإسناد في حكم الثلاثيات لأن هشام بن عروة الذي هو شيخ شيخه من التابعين، وإن كان روى هنا عن تابعي آخر، وهو أبوه عروة. وفيه: ثلاثة من التابعين في نسق وهم: هشام وأبوه وأبو مراوح، وفي رواية مسلم عن الزهري عن حبيب مولى عروة عن عروة فصار فيه أربعة من التابعين. وفيه: رواية الراوي عن أبيه. وفيه: أن ليس لأبي مراوح في البخاري غير هذا الحديث. وفيه: عن هشام بن عروة وفي رواية الحارث بن أبي أسامة عن عبيد الله ابن موسى: أخبرنا هشام بن عروة. وفيه: هشام بن عروة عن أبيه، وفي رواية الإسماعيلي: أخبرني أبي أن أبا مراوح أخبره. وفيه: عن أبي ذر، وفي رواية يحيى بن سعيد: أن أبا ذر أخبره، وذكر الإسماعيلي جماعة أكثر من عشرين نفسا رووا هذا الحديث عن هشام بالإسناد المذكور، وخالفهم مالك فأرسله في المشهور عنه عن هشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه يحيى بن يحيى
79

الليثي وطائفة عنه عن هشام عن أبيه عن عائشة، ورواه سعيد بن داود عنه عن هشام كرواية الجماعة، وقال الدارقطني: الرواية المرسلة عن مالك أصح، والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الإيمان عن أبي الربيع الزهراني وخلف بن هشام وعن محمد بن رافع وعبد بن حميد. وأخرجه النسائي في العتق عن عبيد الله بن سعيد بقصة الجهاد وقصة الرقاب وعن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بهما وفي الجهاد عن محمد بن عبد الله بالقصة الأولى. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن أحمد ابن سيار بقصة الرقاب.
ذكر معناه: قوله: (وجهاد في سبيله)، إنما قرن الجهاد بالإيمان لأنه كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكان الجهاد في ذلك الوقت أفضل الأعمال. قوله: (أغلاها ثمنا) في رواية الأكثرين: أعلاها، بالعين المهملة، وهي رواية النسائي أيضا، وفي رواية الكشميهني: بالغين المعجمة، وكذا في رواية النسفي، وفي (المطالع): معناهما متقارب، ووقع في رواية مسلم من رواية حماد بن زيد: أكثرها ثمنا. وقال النووي: محله، والله أعلم، فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها فوجد رقبة نفيسة ورقبتين مفضولتين، فالرقبتان أفضل. قال: وهذا بخلاف الأضحية، فإن الواحدة السمينة فيها أفضل لأن المطلوب هنالك الرقبة وهنالك طيب اللحم، وقال أبو عبد الملك: إذا كانا في ذوي الدين أفضلهما أغلاهما ثمنا. وقد اختلف فيما إذا كان النصراني أو اليهودي أو غيرهما أكثر ثمنا من المسلم، قال مالك: عتق الأغلى أفضل وإن كان غير مسلم. وقال أصبغ: عتق المسلم أفضل. قوله: (وأنفسها)، أي: أكثرها رغبة عند أهلها لمحبتهم فيها، لأن عتق مثل ذلك لا يقع غالبا إلا خالصا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). وكان لابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، جارية يحبها فأعتقها لهذه الآية. قوله: (قلت: فإن لم أفعل؟) ويروى: قال: فإن لم أفعل؟ أي: إن لم أقدر على ذلك؟ فأطلق الفعل وأراد القدرة عليه. وفي رواية الإسماعيلي: أرأيت إن لم أفعل؟ وفي رواية الدارقطني في (الغرائب): فإن لم أستطع؟ قوله: (تعين ضايعا) بالضاد المعجمة وبالياء آخر الحروف بعد الألف، كذا وقع لجميع رواة البخاري، وجزم به القاضي عياض وغيره، وكذا هو في رواية مسلم إلا في رواية السمرقندي، وجزم الدارقطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه، فعلم من ذلك أن الذي رواه: صانعا، بالصاد المهملة وبالنون بعد الألف غير صحيح، لأن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه. وروى الدارقطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: وكان الزهري يقول: صحف هشام، وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قلت: كأن ابن المنير اعتمد على أنه بالصاد المهملة والنون حيث قال: وفيه إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع، لأن غير الصانع مظنة الإعانة، فكل أحد يعينه غالبا بخلاف الصانع، فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته فهو من جنس الصدقة على المستور. انتهى. قلت: هذا لا بأس به إذا صحت الرواية بالصاد والنون، وفي (التوضيح): وصوابه بالمهملة والنون، وقال النووي: الأكثر في الرواية المعجمة. وقال عياض: روايتنا في هذا من طريق هشام بالمعجمة، وعن أبي بحر بالمهملة، وهو صواب الكلام لمقابلته بالأخرق، وإن كان المعنى من جهة معونة الضائع أيضا
صحيحا، لكن صحت الرواية عن هشام بالمهملة، وقال ابن المديني: الزهري، يقول بالمهملة، ويرون أن هشاما صحفه بالمعجمة، والصواب قول الزهري. وقال الكرماني: وضايعا، بالمعجمة. بالمعجمة ثم بالمهملة وفي بعضها بالمهملتين وبالنون ثو قال الدارقطني عن معمر كان الزهري يقول صحف هشام حيث روى ضايعا بالمعجمة انتهى قلت انتهى. قلت: لم يحرر الكرماني هذا الموضع، والتحرير ما ذكرناه، ومعنى الضايع، بالمعجمة: الفقير لأنه ذو ضياع من فقر وعيال. قوله: (أو تصنع لأخرق)، الأخرق، بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وبالراء والقاف: هو الذي ليس في يده صنعة ولا يحسن الصناعة، قال ابن سيده: خرق بالشيء جهله ولم يحسن عمله، وهو أخرق وفي (المثلث) لابن عديس: والخرق جمع الأخرق من الرجال والخرقاء من النساء، وهما ضد الصناع والصنع. قوله: (تدع الناس)، أي: تتركهم من الشر، و: تدع، من الأفعال التي أمات العرب ماضيها، كذا قالته النحاة، ويرد عليهم قراءة من قرأ * (ما ودعك
80

ربك وما قلى) * (الضحى: 3). بتخفيف الدال. قوله: (فإنها صدقة) أي: فإن المذكور من الجملة صدقة. قوله: (تصدق بها)، بفتح الصاد وتشديد الدال، أصله تتصدق فحذفت إحدى التاءين ويجوز تشديد الصاد على الإدغام، ويجوز تخفيفها. وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان، ولما اختلفت الروايات في أفضل الأعمال أجابوا بأن الاختلاف بحسب اختلاف السائلين، والجواب لهم بحسب ما يليق بالمقام.
وفيه: حسن المراجعة في السؤال وصبر المفتي والمعلم على المستفتي والتلميذ والرفق بهم.
3
((باب ما يستحب من العتاقة في الكسوف أو الآيات))
أي: هذا باب في بيان استحباب العتاقة في كسوف الشمس، والعتاقة بفتح العين مصدر: أعتقت العبد، قال الكرماني: بالعتاقة أي: بالإعتاق، وهو على سبيل الكناية إذ الإعتاق يلزم العتاقة. قلت: كل منهما مصدر: أعتقت، فلا يحتاج إلى هذا التكلف. قوله: (أو الآيات) جمع: آية، وهي العلامة، وكلمة: أو، هنا للتنويع لا للشك هو من عطف العام على الخاص، قال الكرماني: هذا عطف بأو، لا: بالواو، قلت: أو، بمعنى: الواو أو بمعنى: بل؟ قلت: كون: أو، بمعنى: الواو، له وجه، وأما كونه بمعنى: بل، فلا وجه له على ما لا يخفى، وأراد بالآيات نحو الخسوف في القمر والظلمة الشديدة والرياح المحرقة والزلازل ونحو ذلك. قال الكرماني: حديث الباب في كسوف الشمس، ويستحب العتاقة فيها ولا دلالة على استحباب العتاقة في الآيات، وأجاب بالقياس على الكسوف لأن الكسوف أيضا آية.
9152 حدثنا موساى بن مسعود قال حدثنا زائدة بن قدامة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، و موسى بن مسعود أبو حذيفة النهدي، بالنون: البصري، مات سنة عشرين ومائتين، وهو من أفراد البخاري، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير تروي عن جدتها أسماء، وقد مضى الحديث في أبواب الكسوف في: باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس، فإنه أخرجه هناك عن ربيع بن يحيى عن زائدة... إلى آخره نحوه، وقد مضى الكلام فيه هناك.
تابعه علي عن الدراوردي عن هشام
أي: تابع علي موسى بن مسعود في رواية هذا الحديث فرواه عن الدراوردي عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر... إلى آخره. قال الكرماني: علي هو ابن حجر، بضم الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء: أبو الحسن السعدي المروزي، مات سنة أربع وأربعين ومائتين، وقال بعضهم: هو علي بن المديني وهو شيخ البخاري، ووهم من قال: المراد به ابن حجر. قلت: كل من علي بن المديني وعلي بن حجر من مشايخ البخاري، وكل منهما روى عن الدراوردي، فما الدليل على صحة كلامه ونسبة الوهم إلى غيره؟ والدراوردي، بفتح الدال والراء الخفيفة وفتح الواو وسكون الراء وكسر الدال المهملة وتشديد الياء: نسبة إلى دراورد، قرية من قرى خراسان، وهو عبد العزيز بن محمد.
0252 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا عثام قال حدثنا هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت كنا نؤمر عند الكسوف بالعتاقة.
.
هذا طريق أخرجه عن محمد بن أبي بكر المقدمي عن عثام، بفتح العين المهملة وتشديد الثاء المثلثة: ابن علي بن الوليد العامري الكوفي، ماله في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، يروي عن هشام بن عروة وفاطمة زوجته، ورواية زائدة في هذا الحديث السابق تبين أن الآمر بالعتاقة في الكسوف في رواية عثام هذه هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يقوي أن قول الصحابي: (كنا نؤمر) بكذا: في حكم المرفوع.
81

4
((باب إذا أعتق عبدا بين اثنين أو أمة بين الشركاء))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أعتق شخص عبدا كائنا بين شخصين أو أمة، أي: أو أعتق شخص أمة كائنة بين الشركاء، وإنما خصص العبد بالاثنين والأمة بالشركاء مع أن هذا الحكم فيما إذا كانت الأمة بين اثنين والعبد بين الشركاء، مع عدم التفاوت بينهما، لأجل المحافظة على لفظ الحديث. قوله: (بين اثنين) ليس إلا على سبيل التمثيل، إذ الحكم كذلك فيما يكون بين الثلاثة والأربعة وهلم جرا، وقال ابن التين: أراد أن العبد كالأمة لاشتراكهما في الرق، قال: وقد بين في حديث ابن عمر في
آخر الباب أنه كان يفتي فيهما بذلك، قيل: كأنه أشار إلى رد قول إسحاق بن راهويه: أن هذا الحكم مختص بالذكور وخطئه، وقال القرطبي: العبد اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، والأمة اسم لمؤنثه بغير لغظه، ومن ثم قال إسحاق: إن هذا الحكم لا يتناول الأنثى، وخالفه الجمهور فلم يفرقوا في الحكم بين الذكر والأنثى، إما لأن لفظ العبد يراد به الجنس، كقوله تعالى: * (ألا آتى الرحمن عبدا) * (مريم: 39). فإنه يتناول الذكر والأنثى قطعا، وإما على طريق الإلحاق لعدم الفارق.
1252 علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمرو عن سالم عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق عبدا بين اثنين فإن كان موسرا قوم عليه ثم يعتق.
.
أخرج البخاري حديث ابن عمرو في هذا الباب من ستة طرق تشتمل على فصول من أحكام عتق العبد المشترك، وقد ذكرنا ما يتعلق بأبحاث هذه الأحاديث مستوفاة في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، فإنه أخرج فيه حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر، وأخرج أيضا حديث جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر في: باب الشركة في الرقيق، ولنذكر في أحاديث هذا الباب ما لا بد منه، ومن أراد الإمعان فيه فليرجع إلى: باب تقويم الأشياء بين الشركاء.
وعلي بن عبد الله هو ابن المديني. وسفيان هو ابن عيينة. وعمرو هو ابن دينار. وسالم هو ابن عبد الله بن عمر.
والحديث أخرجه مسلم في العتق عن عمرو الناقد وابن أبي عمر. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وإسحاق بن إبراهيم فرقهما، الكل عن سفيان بن عيينة عن عمرو.
قوله: (سفيان عن عمرو)، وفي رواية الحميدي: عن سفيان حدثنا عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه، وفي رواية النسائي من طريق إسحاق بن راهويه: عن سفيان عن عمرو أنه سمع سالم بن عبد الله بن عمر. قوله: (من أعتق) ظاهره العموم ولكنه مخصوص بالاتفاق، فلا يصح من المجنون ولا من الصبي ولا من المحجور عليه بسفه عند الشافعي، وأبو حنيفة لا يرى الحجر بسفه فتصح تصرفاته، وأبو يوسف ومحمد يريان الحجر على السفيه في تصرفات لا تصح مع الهزل: كالبيع والهبة والإجارة والصدقة، ولا يحجر عليه في غيرها: كالطلاق والعتاق، ولا يصح أيضا من المحجور عليه بسبب إفلاث عند الشافعي. قوله: (بين اثنين)، كالمثال لأنه لا فرق بين أن يكون بين اثنين أو أكثر. قوله: (فإن كان)، أي: المعتق (موسرا) يعني: صاحب يسار. قوله: (قوم) على صيغة المجهول، وفي رواية لمسلم والنسائي: قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، والوكس، بفتح الواو وسكون الكاف وبالسين المهملة: النقص، والشطط: الجور. قوله: (ثم يعتق)، أي: العبد.
وبهذا الحديث احتج الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا: إذا كان العبد بين اثنين فأعتقه أحدهما قوم عليه حصة شريكه، ويعتق العبد كله ولا يجب الضمان عليه إلا إذا كان موسرا، وتقرير مذهب الشافعي ما قاله في الجديد: إنه إذا كان المعتق لحصته من العبد موسرا عتق جميعه حين أعتقه، وهو حر من يومئذ يرث ويورث عنه، وله ولاؤه ولا سبيل للشريك على العبد، وعليه قيمة نصيب شريكه، كما لو قتله، وإن كان معسرا فالشريك على ملكه يقاسمه كسبه أو يخدمه يوما ويخلي لنفسه يوما، ولا سعاية عليه لظاهر الحديث. وعند أبي يوسف ومحمد: يسعى العبد في نصيب شريكه الذي لم يعتق إذا كان المعتق معسرا، ولا يرجع على العبد بشيء، وهو قول الشعبي والحسن البصري والأوزاعي وسعيد بن المسيب وقتادة، واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة الذي سيأتي في الكتاب، فإنه رواه كما رواه ابن عمر، وزاد عليه حكم السعاية على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. وأما أبو حنيفة فإنه كان يقول: إذا كان المعتق موسرا فالشريك بالخيار، إن شاء أعتق والولاء بينهما نصفان، وإن شاء استسعى العبد في نصف القيمة، فإذا أداها عتق والولاء بينهما نصفان، وإن شاء ضمن المعتق نصف القيمة
82

فإذا أداها عتق ورجع بها المضمن على العبد فاستسعاه فيها، وكان الولاء للمعتق، وإن كان المعتق معسرا فالشريك بالخيار إن شاء أعتق وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، فإيهما فعل فالولاء بينهما نصفان. وحاصل مذهب أبي حنيفة: أنه يرى بتجزىء العتق، وأن يسار المعتق لا يمنع السعاية، واحتج أبو حنيفة فيما ذهب إليه بما رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن عبد الله، رضي الله تعالى عنهما، على ما يجيء عقيب الحديث المذكور، وبما رواه البخاري أيضا بإسناده عن أبي هريرة على ما يجيء بعد هذا الباب، فإنهما يدلان على تجزىء الإعتاق وعلى ثبوت السعاية أيضا، على ما سنبينه، إن شاء الله تعالى.
2252 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه وإلا فقد عتق منه ما عتق.
.
هذا طريق آخر في حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما. وأخرجه مسلم أيضا في العتق عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي. وأخرجه النسائي فيه عن عثمان بن عمر، الكل عن مالك عن نافع.
قوله: (شركا)، بكسر الشين، أي: نصيبا. قوله: (فكان له مال يبلغ)، هذا هكذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: كان له ما يبلغ أي شيء يبلغ، وإنما قيد بقوله: يبلغ، لأنه إذا كان له مال لا يبلغ ثمن العبد لا يقوم عليه مطلقا، لكن الأصح عند الشافعية أنه يسرى إلى القدر الذي هو موسر به تنفيذا للعتق بحسب الإمكان، وبه قال مالك. قوله: (ثمن العبد) أي: ثمن بقية العبد، لأنه موسر بحصته، وقد أوضح ذلك النسائي في روايته من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عبيد الله بن عمر وعمر بن نافع ومحمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر بلفظ: وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويعتق العبد، والمراد بالثمن هنا القيمة،
لأن الثمن ما اشتريت به العين، واللازم هنا القيمة لا الثمن. قوله: (قوم)، على صيغة المجهول. قوله: (قيمة عدل)، وهو أن لا يزاد من قيمته ولا ينقص. قوله: (فأعطى شركاءه)، كذا هو في رواية الأكثرين: إن أعطى، على بناء الفاعل وشركاءه بالنصب على المفعولية، وروي: (فأعطي) على صيغة المجهول، و: شركاؤه، بالرفع على أنه مفعول ناب عن الفاعل. قوله: (حصصهم) أي: قيمة حصصهم. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يكن موسرا فقد عتق منه حصته، وهي ما عتق. وبهذا الحديث احتج ابن أبي ليلى ومالك والثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد في: أن وجوب الضمان على الموسر خاصة دون المعسر، يدل عليه قوله: (وإلا فقد عتق منه ما عتق). وقال زفر: يضمن قيمة نصيب شريكه، موسرا كان أو معسرا. ويخرج العبد كله حرا لأنه جنى على مال رجل، فيجب عليه ضمان ما أتلف بجنايته، ولا يفترق الحكم فيه، سواء كان موسرا أو معسرا، والحديث حجة عليه.
3252 حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه فإن لم يكن له مال يقوم عليه قيمة عدل على المعتق فأعتق منه ما أعتق.
.
هذا طريق آخر أخرجه عن عبيد بن إسماعيل واسمه في الأصل: عبد الله، يكنى: أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراده، يروي عن أبي أسامة حماد بن أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع إلى آخره. قوله: (فعليه) أي: فعلى من أعتق شركا، أي: نصيبا له. قوله: (كله)، بالجر لأنه تأكيد لقوله في: مملوك، وقال بعضهم: كله، بجر اللام تأكيدا للضمير المضاف، أي: عتق العبد كله. قلت: ليس هنا ضمير مضاف حتى يكون تأكيدا له، وفيه مساهلة جدا. قوله: (فأعتق منه ما أعتق)، على صيغة المجهول كلاهما، وهذا جزاء الشرط، لأن قوله: يقوم عليه، صفة مال وليس بجزاء، فافهم.
حدثنا مسدد قال حدثنا بشر عن عبيد الله اختصره
83

هذا طريق آخر أخرجه عن مسدد عن بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: عن عبيد الله بن عمر العمري، قوله: (اختصره) أي: اختصره مسدد أي بالإسناد المذكور، يعني ذكر المقصود منه، وأخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركا له في عبد فقد أعتق كله إن كان للذي أعتق نصيبه من المال ما يبلغ ثمنه، يقام عليه قيمة عدل فيدفع إلى شركائه أنصباءهم ويخلي سبيله).
4252 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق نصيبا له في مملوك أو شركا له في عبد وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق قال نافع وإلا فقد عتق منه ما عتق قال أيوب لا أدري أشيء قاله نافع أو شيء في الحديث.
.
هذا طريق آخر عن أبي النعمان محمد بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
وأخرجه البخاري أيضا في الشركة عن عمران بن ميسرة عن عبد الوارث، وقد مر في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
قال ابن عبد البر: لا خلاف أن التقويم لا يكون إلا على الموسر، ثم اختلفوا في وقت العتق، فقال الجمهور والشافعي في الأصح وبعض المالكية: إنه يعتق في الحال، وحجتهم رواية أيوب المذكورة حيث قال: فهو عتيق، وأوضح من ذلك ما رواه النسائي وابن حبان وغيرهما من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ: (من أعتق عبدا وله فيه شركاء، وله وفاء فهو حر). وروى الطحاوي من طريق ابن أبي ذئب عن نافع: (فكان للذي يعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه، فهو عتيق كله). والمشهور عند المالكية: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه، وهو أحد أقوال الشافعي، رحمه الله.
5252 حدثنا أحمد بن مقدام قال حدثنا الفضيل بن سليمان قال حدثنا موسى بن عقبة قال أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يفتي في العبد أو الأمة يكون بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه منه يقول قد وجب عليه عتقه كله إذا كان للذي أعتق من المال ما يبلغ يقوم من ماله قيمة العدل ويدفع إلى الشركاء أنصباؤهم ويخلى سبيل المعتق يخبر ذلك ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
.
هذا طريق آخر فيما روي عن ابن عمر، أشار به إلى أنه روى الحديث المذكور وأفتى بما يقتضيه ظاهره في حق الموسر، ليرد بذلك على من لم يقل له. قوله: (ما يبلغ)، مفعوله محذوف، وتقديره: ما يبلغ ثمنه. قوله: (سبيل المعتق)، بفتح التاء أي: العتيق، ولم ينفرد موسى بن عقبة عن نافع بهذا السياق، بل وافقه صخر بن جويرية. أخرجه الطحاوي، وقال: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر، كان يفتي في العبد أو الأمة يكون أحدهما بين شركائه فيعتق أحدهم نصيبه منه، فإنه يجب عتقه على الذي أعتقه، إذا كان له من المال ما يبلغ ثمنه يقوم في ماله قيمة عدل، فيدفع إلى شركائه أنصباءهم ويخلي سبيل العبد، يخبر بذلك عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو عوانة والدارقطني.
ورواه الليث وابن ذئب وابن إسحاق وجويرية ويحيى بن سعيد وإسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا
أي: روى الحديث المذكور الليث بن سعد، ووصل روايته النسائي، قال: أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا الليث عن نافع
84

عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (أيما مملوك كان بين شركاء، وأعتق أحدهم نصيبه، فإنه يقام في مال الذي أعتق قيمة عدل، فيعتق إن بلغ ذلك ماله). قوله: (وابن أبي ذئب)، هو محمد بن أبي ذئب، بلفظ الحيوان المشهور، ووصل روايته أبو نعيم في (مستخرجه) ولفظه: (من أعتق
شركا في مملوك، وكان للذي يعتق ما يبلغ ثمنه، فقد عتق كله) قوله: (وابن إسحاق)، هو محمد بن إسحاق صاحب المغاوي، ووصل روايته أبو عوانة، ولفظه: من أعتق شركا له في عبد مملوك، فعليه نفاذه منه. قوله: (وجويرية)، مصغر الجارية: ابن أسماء، ووصل روايته الطحاوي، وقد مر عن قريب. قوله: (ويحيى بن سعيد)، هو الأنصاري، ووصل روايته مسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث مالك عن نافع، وقد ذكر فيما مضى. قوله: (وإسماعيل)، ابن أمية، ووصل روايته عبد الرزاق نحو رواية ابن أبي ذئب. قوله: (مختصرا) يعني: لم يذكروا الجملة الأخيرة في حق المعسر، وهي قوله: فقد عتق منه ما عتق.
5
((باب إذا أعتق نصيبا له في عبد وليس له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه على نحو الكتابة))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أعتق شخص نصيبا له في عبد، والحال أنه ليس له مال استسعى العبد، هذا جواب: إذا، والاستسعاء أن يكلف العبد الإكتساب حتى يحصل قيمة نصيب الشريك. قوله: (غير مشقوق عليه)، حال من العبد، أي: لا يكلف ما يشق عليه. قوله: (على نحو الكتابة) أي: يكون العبد في زمان الاستسعاء كالمكاتب، يؤدي أولا فأولا، وهذه الترجمة تدل على أن البخاري يرى بصحة حديثي ابن عمر المذكور، وأبي هريرة الذي يذكره، وقد استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثيهما، ومنع الحكم بصحتهما معا، وجزم بأنهما متدافعان، وغيره قد جمع بينهما، وقد بسطنا الكلام فيه في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء، فليرجع إليه، فمن وقف عليه هناك فقد عرف ما علمنا فيه من الفيض الإلهي، والنور الرباني.
6252 حدثنا أحمد بن أبي رجاء قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا جرير بن حازم قال سمعت قتادة قال حدثني النضر بن أنس بن مالك عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق شقيصا من عبد.
7252 وحدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أعتق نصيبا أو شقيصا في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال وإلا قوم عليه فاستسعى به غير مشقوق عليه.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرج هذا الحديث من طريق واحد في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء. وأخرجه هنا من طريقين. أحدهما: عن أحمد بن أبي رجاء، واسمه عبد الله بن أيوب، يكنى بأبي الوليد الحنفي الهروي، وهو من أفراده عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي الكوفي، صاحب الثوري عن جرير بن حازم بن زيد البصري عن قتادة عن النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن أنس بن مالك عن بشير، بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: ابن نهيك، بفتح النون وكسر الهاء، والطريق الآخر: عن مسدد عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك، أعني: في باب تقويم الأشياء.
قوله: (شقيصا)، بفتح الشين وكسر القاف أي: نصيبا. قوله في الطريق الثاني: (أو شقيصا)، شك من الراوي. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يكن له مال قوم، على صيغة المجهول. قوله: (غير مشقوق عليه) حال أي على العبد.
85

تابعه حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة اختصره شعبة
أي: تابع سعيد بن أبي عروبة في روايته عن قتادة حجاج بن حجاج، على وزن فعال، بالتشديد فيهما: الأسلمي الباهلي البصري الأحول، أراد البخاري بذكر متابعة هؤلاء الرد على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ، وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له بمتابعة هؤلاء المذكورين.
أما رواية حجاج بن حجاج فهي في نسخة رواها أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عنه، وكذلك رواه حجاج بن أرطأة عن قتادة فقد أخرجها الطحاوي، وقال: حدثنا روح بن الفرج، قال: حدثنا يوسف بن عدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الرازي عن حجاج بن أرطأة عن قتادة، فذكر مثله، أي: مثل رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، وقد ذكر آنفا.
وأما رواية أبان، فقد أخرجها أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا قتادة عن النضر بن أنس عن بشير ابن نهيك عن أبي هريرة قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شقيصا في مملوكه فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال، وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه). ورواه النسائي أيضا والطحاوي.
وأما رواية موسى بن خلف فقد أخرجها الخطيب في كتاب (الفصل للوصل) من طريق أبي ظفر عبد السلام بن مطهر عنه عن قتادة عن النضر، ولفظه: (من أعتق شقصا له في مملوك فعليه خلاصه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى غير مشقوق عليه). وموسى بن خلف، بالخاء المعجمة واللام المفتوحتين: العمي، بفتح العين المهملة وتشديد الميم: كان يعد البدلاء.
وأما من رواية شعبة فأخرجها مسلم والنسائي من طريق غندر عن قتادة بإسناده ولفظه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، قال: يضمن.
6
((باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه))
أي: هذا باب في بيان حكم الخطأ والنسيان في العتق والطلاق، والخطأ ضد العمد، فقال الجوهري: الخطأ نقيض الصواب، وقد يمد، وقرئ بهما في قوله تعالى: *
(ومن قتل مؤمنا خطأ) * (النساء: 29). تقول: أخطأت وتخطأت، بمعنى واحد، ولا يقال: أخطيت، وقال ابن الأثير: وأخطأ يخطئ: إذا سلك سبيل الخطأ عمدا أو سهوا، ويقال: خطىء بمعنى أخطأ أيضا، وقيل: خطىء إذا تعمد، وأخطأ إذا لم يتعمد، ويقال لمن أراد شيئا ففعل غيره أو فعل غير الصواب: أخطأ. والنسيان خلاف الذكر والحفظ، ورجل نسيان، بفتح النون: كثير النسيان للشيء، وقد نسيت الشيء نسيانا، وعن أبي عبيدة: النسيان الترك، قال تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 76). وقد ذكرت في (شرح معاني الآثار) الذي ألفته: أن الخطأ في الاصطلاح هو الفعل في غير قصد تام، والنسيان معنى يزول به العلم من الشيء مع كونه ذاكرا لأمور كثيرة، وإنما قيل ذلك احترازا عن النوم والجنون والإغماء، وقيل: النسيان عبارة عن الجهل الطارىء، ويقال؛ المأتى به إن كان على جهة ما ينبغي فهو الصواب، وإن كان لا على ما ينبغي نظر، فإن كان مع قصد من الآتي به يسمى الغلط، وإن كان من غير قصد منه، فإن كان يتنبه بإيسر تنبيه يسمى السهو، وإلا يسمى الخطأ. قوله: (ونحوه)، أي: نحو ما ذكر من العتاقة والطلاق من الأشياء التي يريد الرجل أن يتلفظ بشيء منها. فيسبق لسانه إلى غيره، وقال بعضهم: (ونحوه)، أي: من التعليقات. قلت: هذا التفسير ليس بظاهر ولا له معنى يفيد صورة الخطأ في العتاق إن أراد التلفظ بشيء فسبق لسانه، فقال لعبده: أنت حر، وكذلك في الطلاق، قال لامرأته: أنت طالق، بعد أن أراد التلفظ بشيء، وقال أصحابنا: طلاق الخاطىء والناسي والهازل واللاعب والذي يكلم به من غير قصد واقع، وصورة الناسي فيما إذا حلف ونسي، وقال الداودي: النسيان لا يكون في الطلاق ولا العتاق إلا أن يريد أنه حلف بهما على فعل شيء ثم نسي يمينه وفعله، فهذا إنما يوضع فيه النسيان إذا لم يذكر فيه يمينه، كما توضع الصلاة عمن نسيها إذا لم يذكرها حتى يموت، وكذلك ديون الناس وغيرها لا يأثم بتركها ناسيا. قال ابن التين: هذا من الداودي على مذهب مالك، رحمه الله تعالى. وفي (التوضيح): وقد اختلف العلماء في الناسي في يمينه: هل يلزمه حنث أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا، وهو قول عطاء وأحد قولي الشافعي، وبه قال إسحاق، وإليه ذهب البخاري في الباب. وثانيهما: وهو قول الشعبي وطاووس: من أخطأ في الطلاق فله نيته، وفيه قول ثالث: يحنث في الطلاق خاصة، قاله أحمد، وذهب مالك والكوفيون إلى أنه يحنث في الخطأ أيضا، وادعى ابن بطال أنه الأشهر
86

عن الشافعي، وروي ذلك عن أصحاب ابن مسعود. واختلف ابن القاسم وأشهب فيما إذا دعا رجل عبدا يقال له ناصح، فأجابه عبد يقال له مرزوق، فقال له: أنت حر، وهو يظن الأول، وشهد عليه بذلك، فقال ابن القاسم: يعتقان جميعا: مرزوق بمواجهته بالعتق، وناصح بما نواه، وأما فيما بينه وبين الله فلا يعتق إلا ناصح. وقال ابن القاسم: إن لم يكن له عليه بينة لم يعتق إلا الذي نوى، وقال أشهب: يعتق مرزوق فيما بينه وبين الله تعالى، وفيما بينه وبين الله لا يعتق ناصح، لأنه دعاه ليعتقه فأعتق غيره وهو يظنه مرزوقا.
ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى
روى الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا: لا طلاق إلا لعدة، ولا عتاق إلا لوجه الله، ومعنى: لا عتاقة إلا لوجه الله، أي: لذات الله أو لجهة رضاء الله، قيل: أراد البخاري بإيراد هذا الرد على الحنفية في قولهم: إذا قال الرجل لعبده: أنت حر للشيطان أو للصنم، فإنه يعتق لصدوره من أهله مضافا إلى محله عن ولاية فنفذ، ولغت تسمية الجهة وكان عاصيا بها. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: تصحيح الحديث المذكور، والآخر: بعد التسليم أن المراد به أن يكون نية المعتق الإخلاص فيها، لأن الأعمال بالنيات، فإذا لم يكن خالصا في نيته يكون عاصيا بذكر غير الله، كما ذكرنا، وترك هذا لا يمنع وقوع العتق لقضية: أنت حر، والباقي لغو.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل امرىء ما نوى
هذا قطعة من حديث عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قد مر في أول الكتاب بلفظ: (وإنما لكل امرئ ما نوى). وأورده في أواخر كتاب الإيمان: (ولكل امرئ ما نوى). فإن قلت: ما مراده من ذكر هذه القطعة ههنا؟ قلت: كأنه أراد به تأكيد ما سبق من عدم وقوع العتاق إذا كان لغير وجه الله، لأن الأعمال بالنيات، ولكنه لا يفيد شيئا، لأن النية أمر مبطن ووقوع الإعتاق غير متوقف عليه، بل الوقوع بمقتضى الكلام الصحيح، فلا يمنعه تسمية الجهة اللغو.
ولا نية للناسي والمخطىء
كأنه استنبط من قوله: (لكل امرئ ما نوى)، عدم وقوع العتاق من الناسي والمخطىء لأنه لا نية لهما، وفيه نظر، لأن الوقوع إنما هو بمقتضى كلام صحيح صادر من عاقل بالغ، والمخطىء من: أخطأ من أراد الصواب فصار إلى غيره، ووقع في رواية القابسي: الخاطىء من خطأ، وهو من تعمد لما لا ينبغي. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض الطرق، وهو الحديث الذي يذكره أهل الفقه والأصول كثيرا بلفظ: (رفع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، إلا أنه بلفظ: وضع، بدل: رفع. انتهى. قلت: كأنه أشار إلى هذا الحديث الذي أخبر بأن الخطأ والنسيان رفعا عن أمته، فلا يترتب على الناسي والمخطىء حكم، وذلك لعدم النية فيهما، والأعمال بالنيات، فإذا كان كذلك لا يقع العتاق من الناسي والمخطىء، وكذلك الطلاق، وهو قول الشافعي، لأنه لا اختيار له فصار كالنائم والمغمى عليه، قلنا: الاختيار أمر باطن لا يوقف عليه إلا بحرج فلا يصح تعليق الحكم عليه، أما هذا الحديث فإنه صحيح، فأخرجه الطحاوي بإسناد رجاله رجال الصحيح غير شيخه، حيث قال: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: أخبرنا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فهذا هو الصحيح، والذي أعله إنما أعل إسناد ابن ماجة الذي أخرجه عن محمد بن المصفى الحمصي: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فهذا كما ترى أسقط: عبيد بن عمير، وأيضا أعله بأنه من رواية الوليد عن الأوزاعي، والصحيح طريق الطحاوي، وأخرج نحوه الدارقطني والطبراني والحاكم، ورواه ابن حزم من طريق الربيع وصححه، وقال النووي في الأربعين: هو
حديث حسن صحيح. قوله: (تجاوز الله) أي: عفا الله. قوله: (لي)، أي: لأجلي، وذلك لأنه لم يتجاوز ذلك إلا عن هذه الأمة
87

لأجل سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم. قوله: (الخطأ والنسيان)، أي: حكمهما في حق الله لا في حقوق العباد، لأن في حقه عذرا صالحا لسقوطه، حتى قيل إن الخاطىء لا يأثم، فلا يؤاخذ بحد ولا قصاص. وأما في حقوق العباد فلم يجعل عذرا حتى وجب ضمان العدوان على الخاطىء، لأنه ضمان مال لا جزاء فعل، ووجب به الدية وصح طلاقه وعتاقه.
8252 حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم.
.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأنه ليس فيه شيء يطابق الترجمة، لأن حديث أبي هريرة في وسوسة الصدور، ولو ذكر حديث ابن عباس المذكور الآن لكان أنسب، وأجاب الكرماني بشيء يقرب منه أخذ وجه المطابقة حيث قال: أولا: ما وجه تعلق الحديث بالوسوسة؟ ثم قال: قلت: القياس على الوسوسة، فكما أنها لا اعتبار لها عند عدم التوطين، فكذلك الناسي والمخطىء، لا توطين لهما.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: الحميدي، بضم الحاء نسبة إلى حميد، أحد أجداد الراوي، وهو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة بن عبد الله بن الزبير بن حميد أبو بكر. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: مسعر، بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملة: ابن كدام. الرابع: قتادة. الخامس: زرارة، بضم الزاي وتخفيف الراء: ابن أبي أوفى بلفظ: أفعل التفضيل العامري، مات فجاءة سنة ثلاث وتسعين، وقيل: كان يصلي صلاة الصبح فقرأ * (يا أيها المدثر) * (المدثر: 1). إلى أن بلغ * (فإذا نقر في الناقور) * (المدثر: 8). خر ميتا. السادس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه مكيان، والحميدي قد مر في أول (الصحيح). وفيه: حدثنا الحميدي، ويروى: حدثني بصيغة الإفراد. وفيه: أن مسعرا وقتادة كوفيان، وأن زرارة بصري قاضي البصرة، وليس له في البخاري إلا أحاديث يسيرة. وفيه: عن زرارة، وفي الأيمان والنذور: حدثنا زرارة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطلاق عن مسلم بن إبراهيم وفي النذور عن خلاد بن يحيى. وأخرجه مسلم في الإيمان عن قتيبة وسعيد بن منصور ومحمد بن عبيد وعن عمرو الناقد وزهير بن حرب وعن ابن المثنى وابن بشار وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن زهير بن حرب عن وكيع وعن إسحاق بن منصور. وأخرجه أبو داود في الطلاق عن مسلم بن إبراهيم به. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة به. وأخرجه النسائي في الطلاق عن عبيد الله بن سعيد وعن موسى بن عبد الرحمان وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به وعن حميد بن مسعدة وعن هشام بن عمار.
ذكر معناه: قوله: (إن الله تجاوز لي عن أمتي) وفي رواية الترمذي: (تجاوز الله لأمتي). قوله: (لي) أي: لأجلي. قوله: (ما وسوست به صدورها)، جملة في محل النصب على المفعولية، وكلمة: ما، موصولة، و: وسوست، صلتها و: به، عائد و: صدورها، بالرفع فاعل وسوست، وفي رواية الأصيلي بالنصب على أن: وسوست، تضمن معنى: حدثت، ويأتي في الطلاق بلفظ: ما حدثت به أنفسها. وفي رواية الترمذي: عما حدثت به أنفسها. وفي رواية للنسائي: (إن الله تجاوز لأمتي ما وسوست به وحدثت به أنفسها). وقال الطحاوي: وأهل اللغة يقولون: أنفسها، بالضم يريدون بغير اختيارها، كما قال الله تعالى: * (ونعلم ما توسوس به نفسه) * (ق: 61). واعترض عليه بأن قوله: بالضم، ليس بجيد، بل الصواب: بالرفع، لأنها حركة إعراب. قلت: ليس هذا موضع المناقشة بالرد عليه لأن الرفع هو الضم في الأصل، غاية ما في الباب أن النحاة يستعملون في الإعراب الرفع، وفي البناء الضم، بل يستعمل
88

كل منهما موضع الآخر، خصوصا عند الفقهاء الوسوسة: حديث النفس والأفكار، وقد وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسا بالكسر، وهو بالفتح الاسم، ووسوس إذا تكلم بكلام لم يبينه، حاصله أن الوسوسة تردد الشيء في النفس من غير أن تطمئن إليه وتستقر عنده. قوله: (ما لم تعمل) أي: في العمليات (أو تكلم) في القوليات. وأما قول ابن العربي: إن المراد بقوله: ما لم تكلم، الكلام النفسي، إذ هو الكلام الأصلي وأن القول الحقيقي هو الوجود بالقلب المواقف للعلم، فهو مردود عليه، وإنما قاله تعصبا لما حكى عن مذهبه من وقوع الطلاق بالعزم، وإن لم يتلفظ. وحكاه عن رواية أشهب عن مالك في الطلاق والعتق والنذر أنه يكفي فيه عزمه وقوله وجزمه في قلبه بكلامه النفسي الحقيقي، ونصر ذلك بأن اللسان معبر عما في القلب، فما كان يملكه الواحد كالنذر والطلاق والعتاق كفى فيه عزمه، وما كان من التصرفات بين اثنين لم يكن بد من ظهور القول، وهذا في غاية البعد، وقد نقضه الخطابي على قائله بالظهار وغيره، فأنهم أجمعوا على أنه: لو عزم على الظهار لم يلزمه حتى يلفظ به، قال: وهو في معنى الطلاق، وكذلك لو حدث نفسه بالقذف لم يكن قذفا، ولو حدث نفسه في الصلاة لم يكن عليه إعادة، وقد حرم الله تعالى الكلام في الصلاة، فلو كان حديث النفس في معنى الكلام لكانت صلاته تبطل، وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: إني لأجهر جيشي وأنا في الصلاة وممن قال بأن: طلاق النفس لا يؤثر، عطاء بن أبي رباح وابن سيرين والحسن وسعيد بن جبير والشعبي وجابر بن زيد وقتادة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وإسحاق.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن هذه المجاوزة من خصائص هذه الأمة، وأن الأمم المتقدمة يؤاخذون بذلك، وقد اختلف: هل كان ذلك يؤاخذ به في أول الإسلام؟ ثم نسخ وخفف ذلك عنهم، أو تخصيص وليس بنسخ، وذلك قوله تعالى: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * (البقرة: 482). فقد قال غير واحد من الصحابة، منهم أبو هريرة وابن عباس: إنها منسوخة، بقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 682). فإن قيل: قالوا: من عزم على المعصية
بقلبه، وإن لم يعملها، يؤاخذ عليه. وأجيب: بأنه لا شك أن العزم على المعصية وسائر الأعمال القلبية كالحسد ومحبة إشاعة الفاحشة يؤاخذ عليه، لكن إذا وطن نفسه عليه، والذي في الحديث هو: ما لم يوطن عليه نفسه وإنما أمر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم. فإن قيل: المفهوم من لفظ: ما لم تعمل، مشعر بأن ما في الصدور موطنا وغير موطن لا يؤاخذ عليه. وأجيب: بأنه يجب الحمل على غير الموطن جمعا بينه وبين ما يدل على المؤاخذة، كقوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * (النور: 91). وأيضا: لفظ الوسوسة لا يستعمل إلا عند التردد والتزلزل. وقال عياض: الهم ما يمر في الفكر من غير استقرار ولا توطن، فإن استمر وتوطن عليه عزما يؤاخذ به أو يثاب عليه. وقال القرطبي: الذي ذهب إليه هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم والفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ولا يلتفت إلى من خالفهم في ذلك. فزعم أن ما يهم به الإنسان وإن وطن به لا يؤاخذ به متمسكا في ذلك بقوله تعالى: * (ولقد همت به وهم بها) * (يوسف: 42). وبقوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم تعمل أو تكلم، ومن لم يعمل بما عزم عليه ولا نطق به، فلا. الجواب عن و: الآية أن من الهم ما يؤاخذ به الإنسان، وهو ما استقر واستوطن، ومنه ما يكون أحاديث لا تستقر، فلا يؤاخذ بها كما شهد به الحديث، والذي يرفع الإشكال ويبين المراد حديث أبي كبشة عمرو بن سعد: سمع سيدنا رسول الله لله... فذكر حديثا فيه: قالت الملائكة: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به. وزعم الطبري أن فيه دلالة على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب خلافا لمن قال: لا يكتبونها ولا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة، وبه استدل بعضهم على أنه إذا كتب بالطلاق وقع من قوله ما لم يعمل، والكتابة عمل، وهو قول محمد بن الحسن وأحمد بن حنبل، وشرط مالك فيه الإشهاد على الكتابة، وجعله الشافعي كناية إن نوى به الطلاق وقع، وإلا فلا، وفرض بعضهم بين أن يكتبه في بياض كالرق والورق واللوح، وبين أن يكتبه على الأرض فأوقعه في الأول دون الثاني، وفيه نظر.
9252 حدثنا محمد بن كثير عن سفيان قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيكي عن علقمة بن وقاص الليثي قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي
89

صلى الله عليه وسلم قال الأعمال بالنية ولامرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
.
قد مر هذا الحديث في أول الكتاب فإنه أخرجه هناك: عن الحميدي عن سفيان... إلى آخره، وهنا: عن محمد بن كثير ضد قليل عن سفيان هو الثوري.
قوله: (الأعمال بالنية ولامرىء ما نوى)، كذا أخرجه محمد بن كثير بخلاف: إنما، في الموضعين. و د أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه، فقال: (إنما الأعمال بالنية وإنما لامرىء ما نوى). قوله: (إلى دنيا) في رواية الكشميهني: للدنيا، وهي رواية أبي داود أيضا، ووجه إعادة هذا الحديث وذكره هنا لأجل ذكر قطعة منه، وهو قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ ما نوى، وقد ذكرنا وجه ذكر القطعة، وللإشارة أيضا إلى أنه أخرج هذا الحديث من شيخين والله أعلم بالصواب.
7
((باب إذا قال رجل لعبده هو لله ونوى العتق والإشهاد في العتق))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا قال رجل لعبده هو لله، هذا هكذا روى الأصيلي وكريمة، وفي رواية غيرهما: باب إذا قال لعبده، الفاعل مضمر، وهو رجل أو شخص. قوله: (ونوى العتق)، أي: والحال أنه نوى عتق العبد بهذا اللفظ، وجواب إذا محذوف تقديره: صح أو عتق العبد. قوله: (والإشهاد) بالرفع، وفيه حذف تقديره: وباب يذكر فيه الإشهاد في العتق، فيكون ارتفاعه بالفعل المقدر، وتكون هذه الجملة أعني: قولنا: وباب يذكر فيه الإشهاد على العتق معطوفة على: باب إذا قال أي باب يذكر فيه، إذا قال، ولفظ: باب، منون في الظاهر، وفي المقدر، وهذا هو الوجه، ومن جر الإشهاد فقد جر ما لا يطيق حمله.
0352 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير عن محمد بن بشر عن إسماعيل عن قيس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه لما أقبل يريد الأسلام ومعه غلامه ضل كل واحد منهما من صاحبه فأقبل بعد ذلك وأبو هريرة جالس مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة هذا غلامك قد أتاك فقال أما أني أشهدك أنه حر فهو حين يقول:
* يا ليلة من طولها وعنائها
* على أنها من دارة الكفر نجت
*
مطابقته للترجمة في قوله: (أما أني أشهدك أنه حر)، وهذا الحديث من أفراده.
وإسماعيل هو ابن أبي خالد الأحمسي البجلي، واسم أبي خالد سعد، وقيس هو ابن أبي حازم، بالحاء المهملة والزاي: واسمه عوف، قدم المدينة بعدما قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كلهم كوفيون
قوله: (يريد الإسلام) جملة حالية، وكذلك قوله: (ومعه غلامه)، جملة حالية اسمية أي: ومع أبي هريرة. قوله: (ضل)، أي: تاه كل واحد منهما ذهب إلى ناحية وفسره الكرماني بقوله: ضاع، وتبعه بعضهم على ذلك وليس معناه إلا ما ذكرناه. قوله: (أما)، بفتح الهمزة وتخفيف الميم وتستعمل هذه الكلمة على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة ألا. والثاني: أن تكون بمعنى حقا. وأما، هنا على هذا المعنى. قوله: (أني)، بفتح الهمزة كما تفتح الهمزة بعد قولهم: حقا، لأنها بمعناه. قوله: (فهو حين يقول)، أي: الوقت الذي وصل فيه إلى المدينة. قوله: (يا ليلة)، هذا من بحر الطويل، وقد دخله الخرم، بالخاء المعجمة المفتوحة وسكون الراء، وهو حذف الحرف من أول الجزء، وللطويل ثمانية أجزاء وقد حذف الحرف من أول جزئه وهو: يا ليلة، لأن تقديره: فيا ليلة، لأن وزنه فيالي: فعولن، له من طو: مفاعيلن، لها و: فعول، عنائها: مفاعلن. وفيه القبض، وقول الكرماني: ولا بد من زيادة ولو أوفاء في أول البيت ليكون موزونا، كلام من يقف على علم العروض، لأن ما جاز حذفه كيف يقال فيه لا بد من إثباته؟ قوله: (عنائها)، بفتح العين المهملة وبتخفيف النون وبالمد: أي تعبها ومشقتها. قوله: (دارة
90

الكفر)، هي دار الحرب، والدارة أخص من الدار، ويروى: (داره)، بالإضافة إلى الضمير، وحينئذ يكون الكفر بدلا منه بدل الكل من الكل، وكثيرا ما تستعمل الدارة في أشعار العرب، كما قال امرؤ القيس:
* ولا سيما يوم بدارة جلجل
*
ودارات كثيرة، وقال أبو حاتم عن الأصمعي: الدارة جوفة تحف الجبال، وقال عنه في موضع آخر: الدارة رمل مستدير قدر ميلين تحفه الجبال. وقال الهجري: الدارة النبكة السهلة حفتها جبال، ومقدار الدارة خمسة أميال في مثلها. قلت: النبكة، بفتح النون والباء الموحدة والكاف: وهي أكمة محددة الرأس، ويجمع على: نبك، بالتحريك. فإن قلت: الشعر لمن؟ قلت: ظاهره أنه لأبي هريرة، ولكنه غير مشهور بالشعر. وحكى ابن التين: أنه لغلامه، وحكى الفاكهي في (كتاب مكة): عن مقدم بن حجاج السوائي أن البيت المذكور لأبي مرثد الغنوي في قصة له، فإذا كان كذلك يكون أبو هريرة قد تمثل به. والله أعلم.
وقال المهلب: لا خلاف بين العلماء فيما علمت إذا قال رجل لعبده: هو حر، أو: هو لله، ونوى العتق أنه يلزمه العتق. وكل ما يفهم به عن المتكلم أنه أراد به العتق لزمه ونفذ عليه، وروى ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة: أن رجلا قال لغلامه: أنت لله. فسئل الشعبي والمسيب بن رافع وحماد بن أبي سليمان، فقالوا: هو حر. وعن إبراهيم كذلك، وقال إبراهيم: وإن قال: إنك لحر النفس، فهو حر، وعن الحسن: إذا قال: ما أنت إلا حر، نيته. وعن الشعبي مثله.
وقال ابن بطال: فيه: العتق عند بلوغ الأمل والنجاة مما يخاف، كما فعل أبو هريرة حين أنجاه الله من دار الكفر ومن ضلاله في الليل عن الطريق، وكان إسلام أبي هريرة في سنة ست من الهجرة.
91

2352 حدثنا شهاب بن عباد قال حدثنا إبراهيم بن حميد عن إسماعيل عن قيس قال ل ما أقبل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ومعه غلامه وهو يطلب الإسلام فضل أحدهما صاحبه بهاذا وقال أما أني أشهدك أنه لله.
هذا طريق آخر عن شهاب بن عباد، بفتح العين وتشديد الباء: العبدي الكوفي أبو عمرو عن إبراهيم بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي من قيس غيلان الكوفي... إلى آخره. قوله: (وهو يطلب الإسلام) جملة حالية، ويحتمل أن يكون حقيقة، وإن لم يسلم وأسلم بعد، ويحتمل أن يكون المراد يظهر الإسلام. قوله: (فضل)، أصله التعدية بالحرف لأنه قال في الطريق الأول. فضل كل واحد منهما عن صاحبه، ويكون نصب (صاحبه) هنا بنزع الخافض، كما في قوله تعالى: * (واختار موسى قومه سبعين) * (الأعراف: 551). أي: من قومه، والتقدير هنا: فضل أحدهما عن صاحبه. وقال الكرماني: وقد جاء متعديا بنفسه في الأشياء الثابتة، كما يقال: ضللت المسجد والدار، إذا لم يعرف موضعهما قلت: هذا من باب التوسع، كما يقال: دخلت المسجد، حتى قيل: إن الصواب: فأضل أحدهما صاحبه.
8
((باب أم الولد))
أي: هذا باب في بيان حكم أم الولد، ولم يذكر الحكم ما هو، فكأنه تركه للخلاف فيه. قال أبو عمر: اختلف السلف والخلف من العلماء في عتق أم الولد وفي جواز بيعها، فالثابت عن عمر، رضي الله تعالى عنه، عدم جواز بيعها، وروى مثل ذلك عن عثمان وعمر بن عبد العزيز، وهو قول أكثر التابعين منهم: الحسن وعطاء ومحاهد وسالم وابن شهاب وإبراهيم، وإلى ذلك ذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي، في أكثر كتبه، وقد أجاز بيعها في بعض كتبه، وقال المزني: قطع في أربعة عشر موضعا من كتبه بأن لا تباع، وهو الصحيح من مذهبه، وعليه جمهور أصحابه، وهو قول أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وكان أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وجابر وأبو سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنهم، يجيزون بيع أم الولد، وبه قال داود، وقال جابر وأبو سعيد: (كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمع جابرا، يقول: (كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فينا لا يرى بذلك بأسا). وأنبأنا ابن جريج أنبأنا عبد الرحمن بن الوليد أن أبا إسحاق الهمداني أخبره أن أبا بكر الصديق (كان يبيع أمهات الأولاد في آمارته وعمر في نصف إمارته). وقال ابن مسعود: (تعتق في نصيب ولدها)، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير. قال: وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في مارية سريته: لما ولدت إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، قال: (أعتقها ولدها)، من وجه ليس بالقوي ولا يثبته أهل الحديث، وكذا حديث ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إيما أمة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات سيدها)، فقيل له: عمن هذا؟ قال: (عن القرآن هذا)، قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (النساء: 95). وكان عمر
، رضي الله تعالى عنه، من أولي الأمر، وقد قال: أعتقها ولدها وإن كان سقطا.
قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها
هذا التعليق مر موصولا مطولا في كتاب الإيمان في: باب سؤال جبريل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الإيمان، وتقدم الكلام فيه هناك. وجه إيراد هذا هنا هو أن منهم من استدل على جواز بيع أمهات الأولاد، ومنهم من منع ذلك فكان البخاري أراد بذكره هذا الإشارة إلى ذلك، والذي عليه الجمهور أنه لا يدل على الجواز ولا المنع. وقال النووي في (شرح مسلم) وقد استدل إمامان من كبار العلماء على ذلك، استدل أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجيب منهما، وقد أنكر عليهما فإنه ليس كل ما أخبر، صلى الله عليه وسلم، بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما كتطاول الرعاء في البنيان وفشو المال وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات، والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشر والمباح والمحرم والواجب وغيره. انتهى. قلت: وجه استدلال المجيز أن ظاهر قوله:
92

(ربها)، أن المراد به سيدها لأن ولدها من سيدها يتنزل منزلة سيدها لمصير مآل الإنسان إلى ولده غالبا، ووجه استدلال المانع أن هذا إخبار عن غلبة الجهل في آخر الزمان حتى تباع أمهات الأولاد، فيكثر تردد الأمة في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهو لا يدري، فيكون فيه إشارة إلى تحريم بيع أمهات الأولاد، ولا يخفى تعسف الوجهين.
3352 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن يقبض إليه ابن وليدة زمعة قال عتبة إنه ابني فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح أخذ سعد ابن وليدة زمعة فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه بعبد بن زمعة فقال سعد يا رسول الله هذا ابن أخي عهد إلي أنه ابنه فقال عبد بن زمعة يا رسول الله هذا أخي ابن وليدة زمعة ولد على فراشه فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراش أبيه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجبي منه يا سودة بنت زمعة مما رأى من شبهه بعتبة وكانت سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (هذا أخي، ولد على فراش أبي) وحكمه، صلى الله عليه وسلم، بأنه أخوه، فإن فيه ثبوت أمية الولد. فإن قلت: ليس فيه تعرض لحريتها ولا لرقيتها. قلت: الترجمة في باب أم الولد مطلقا من غير تعرض للحكم، كما ذكرنا فتحصل المطابقة من هذه الحيثية، وقيل: فيه: إشارة إلى حرية أم الولد لأنه جعلها فراشا، فسوى بينها وبين الزوجة في ذلك. وقال الكرماني: زاد في بعض النسخ بعد تمام الحديث، قال أبو عبد الله: سمى النبي، صلى الله عليه وسلم، أمة زمعة أمة ووليدة، فدل على أنها لم تكن عتيقة بهذا الحديث. قلت: هذا يدل على أن ميله إلى عدم عتق أم الولد بموت السيد، ثم قال الكرماني: وقد يقال غرض البخاري فيه بيان أن بعض الحنفية لا يقولون بأن الولد للفراش في الأمة إذ لا يلحقون الولد بالسيد إلا بإقراره، بل يخصصونه بفراش الحرة، فإذا أرادوا تأويل ما في هذا الحديث في بعض الروايات من أن الولد للفراش يقولون: إن أم الولد المتنازع فيها كانت حرة لا أمة، ثم إن هذا الحديث مضى في أوائل كتاب البيوع في: باب تفسير الشبهات، ومضى الكلام فيه هناك، ولكن نذكر هنا بعض شيى لزيادة الفائدة.
وقال ابن بطال: القضية مشكلة من جهة أن عبدا ادعى على أمة ولدا بقوله: أخي، ولم يأت ببينة تشهد على إقرار أبيه، فكيف قبل دعواه؟ فذهب مالك والشافعي إلى: أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد تجيء به بعد ذلك، ادعاه أم لا. وقال الكوفيون: لا يلزم مولاها إلا أن يقر به، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (هولك)، ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يريد به: هو مملوك لك بحق ما لك عليه من اليد، ولهذا أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله، صلى الله عليه وسلم، ابن زمعة لما حجب منه أخته. وقالت طائفة: معناه: هو أخوك كما ادعيت، قضاء منه في ذلك بعمله، لأن زمعة كان صهره فألحق ولده به لما علمه من فراسته، لا أنه قضى بذلك لاستلحاق عبد له. وقال الطحاوي: (هو لك)، أي: بيدك عليه لا إنك تملكه، ولكن يمنه منه كل من سواك، كما قال في اللقطة: هي لك تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها، ولما كان لعبد شريك وهو أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق في ذلك، ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبدا ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته، فأمرها بالاحتجاب. وقال الشافعي: رؤية ابن زمعة لسودة مباحة، لكنه كرهه للشبهة، وأمرها بالتنزه عنه اختيارا. وقال الطبري: هو لك ملك، يعني عبدا لأنه بان وليدة أبيك، وكل أمة تلد من غير سيدها فولدها عبد، ولم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها، ولا شهد بذلك عليه، فلم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبيع لأمه، لا أنه قضى له ببينة. وأجاب ابن القصار بجوابين: أحدهما: أنه كان يدعى: عبد بن زمعة، أنه حر وأنه أخوه ولد على فراش أبيه،
93

فكيف يقضي له بالملك؟ ولو كان مملوكا لعتق بهذا القول. والآخر: أنه لو قضى له بالملك لم يقل الولد للفراش، لأن المملوك لا يلحق بالفراش، ولكان يقول: هو ملك لك. وقال المزني: يحتمل أن يكون أجاب فيه على المسألة. فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول سعد على أخيه عتبة، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه، لأن كل أحد منهما أخبر عن غيره، وقد قام الإجماع على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم الحكم في مثله إذا نزل. قوله: (أخذ سعد ابن وليدة زمعة) أي: أخذ سعد بن أبي وقاص، وهو مرفوع منون. وقوله: (ابن وليدة)، منصوب على أنه مفعول، وينبغي أن يكتب: ابن، بالألف. قوله: (هو لك يا عبد بن زمعة)، برفع عبد، ويجوز نصبه، وكذا: ابن، وكذا قوله: يا سودة بنت زمعة. قلت: أما وجه الرفع
والنصب فهو أن توابع المبني المفردة من التأكيد والصفة وعطف البيان ترفع على لفظه، وتنصب على محله بيانه: أن لفظ عبد في: يا عبد، منادى مبني على الضم، فإذا أكذ أو اتصف أو عطف عليه يجوز فيه الوجهان، كما عرف في موضعه. قوله: (احتجبي منه يا سودة)، أشكل معناه قديما على العلماء. فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال، وأن الزنا لا تأثير له في التحريم، وهو قول عبد الملك بن الماجشون، إلا أن قوله: كان ذلك منه على وجه الاحتياط والتنزه، وأن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها، هذا قول الشافعي. وقالت طائفة: كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر، فكأنه حكم بحكمين: حكم ظاهر وهو: الولد للفراش، وحكم باطن، وهو: الاحتجاب من أجل الشبه. كأنه قال: ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله تعالى، فأمرها بالاحتجاب منه. قلت: ومن هذا أخذ أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد: أن وطء الزنا محرم، وموجب للحكم وأنه يجري مجرى الوطء الحلال في التحريم منه، وحملوا أمره، صلى الله عليه وسلم، لسودة بالاحتجاب على الوجوب، وهو أحد قولي مالك. وفي قوله الآخر: الأمر ههنا للاستحباب، وهو قول الشافعي وأبي ثور، وذلك لأنهم يقولون: إن وطء الزنا لا يحرم شيئا ولا يوجب حكما، والحديث حجة عليهم، وذكر في حكم أم الولد سبعة أقوال: الأول: يجوز عتقها على مال صرح به ابن القصار في (فتاويه) الثاني: يجوز بيعها مطلقا، وقد ذكرنا الخلاف فيه. الثالث: يجوز لسيدها بيعها في حياته، فإذا مات عتقت، وحكي ذلك عن الشافعي. الرابع: أنها تباع في الدين، وفيه حديث سلامة بن معقل في (سنن أبي داود). الخامس: أنها تباع، ولكن إن كان ولدها موجودا عند موت أبيه سيدها حسب من نصيبه إن كان ثم مشارك له في التركة، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم. السادس: أنه يجوز بيعها بشرط العتق، ولا يجوز بغيره. السابع: أنها إن عقت وأبقت لم يجز بيعها، وإن فجرت أو كفرت جاز بيعها. حكي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، وحكى المزني عن الشافعي التوقف.
9
((باب بيع المدبر))
أي: هذا باب في بيان حكم بيع المدبر: هل يجوز أم لا؟ وقد ذكر هذه الترجمة بعينها في كتاب البيوع.
4352 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة قال حدثنا عمر ابن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أعتق رجل منا عبدا له عن دبر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم به فباعه قال جابر مات الغلام عام أول.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث يوضح حكم الترجمة أيضا أنه أطلقها، فدل أن مذهبه جواز بيع المدبر، وقد مر الكلام فيه في كتاب البيوع مستوفى.
قوله: (عن دبر) بضم الباء الموحدة وسكونها، واسم العبد: يعقوب، والمعتق: أبو مذكور، والمشتري: نعيم النحام. والثمن ثمانمائة درهم. قوله: (عام أول)، بالصرف وعدم الصرف، لأنه إما: أفعل أو فوعل، ويجوز بناؤه على الضم، وهذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله عاما أول، وقد ذكرنا هناك اختلاف العلماء فيه، فلنذكر هنا أيضا يعض شيء. فقال قوم: يجوز بيع المدبر ويرجع فيه متى شاء، وهو قول مجاهد وطاووس، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واحتجوا بهذا الحديث، قالوا: وهو مذهب عائشة، رضي الله تعالى عنها، وروي عنها أنها باعت مدبرة لها سحرتها.
94

وقال آخرون: لا يجوز، روى ذلك عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وهو قول الشعبي وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى والنخعي، وبه قال مالك والثوري والليث والأوزاعي والكوفيون: لا يباع في دين ولا في غيره إلا في دين قبل التدبير، ويباع بعد الموت إذا أغرقه الدين، وكان التدبير قبل الدين أو بعده، وعن أبي حنيفة: لا يباع في الدين، ولكن يستسعى للغرماء، فإذا أدى ما لهم عتق، وقال ابن التين: ولم يختلف قول مالك وأصحابه: أن من دبر عبده ولا دين عليه أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا نقض تدبيره ما دام حيا، خلافا للشافعي. وفي (التوضيح) يخرج المدبر بعد موت سيده من ثلثه. وقال داود: يخرج من جميع المال، فإن لم يحمله الثلث رق ما لم يحمله الثلث منه. وقال أبو حنيفة: يسعى في فكاك رقبته، فإن مات سيده وعليه دين سعى للغرماء، ويخرج حيا.
01
((باب بيع الولاء وهبته))
أي: هذا باب في بيان حكم بيع الولاء وهبته: هل يجوز أم لا؟ وحديث الباب يدل على أنه لا يجوز، والولاء بفتح الواو، وبالمد هو حق إرث المعتق من العتيق، وهذا يسمى: ولاء العتاقة، وسببه العتق لا الإعتاق، لأنه إذا ورث قريبه يعتق عليه، ويكون ولاؤه له ولو كان سببه الإعتاق لما ثبت له الولاء، لأنه لم يوجد الإعتاق.
5352 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الله بن دينار قال سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته.
(الحديث 5352 طرفه في: 6576).
مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين الإبهام الذي فيها. وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي. والحديث أخرجه مسلم في العتق عن محمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود في الفرائض عن حفص بن عمر. وأخرجه النسائي عن محمد بن عبد الملك قوله: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إلى آخره يعني ولاء العتق وهو ما إذا مات المعتق ورثه معتقه أو ورثة معتقه. وكانت العرب تبيعه وتهبه، فنهى عنه الشارع لأن الولاء كالنسب، فلا يزول بالإزالة. وفقهاء الحجاز والعراق مجمعون على أنه: لا يجوز بيع الولاء ولا هبته، وقال ابن المنذر. وفيه قول ثان: روى أن ميمونة بنت الحارث وهبت ولاء مواليها من العباس، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة
مصعب بن الزبير، وذكر عبد الرزاق عن عطاء أنه: يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء، وهذا هو هبة الولاء، وصح من حديث ابن عمر مرفوعا: الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يورث، صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وخالفه البيهقي فأعله، وذكره ابن بطال من حديث إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: الولاء لحمة كالنسب، وأورده ابن التين بزيادة، بلفظ: لا يحل بيعه ولا هبته، ثم قال: وعليه جماهير أهل العلم، وقام الإجماع على أنه: لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله تعالى المواريث بالتبني بقوله: * (ادعوهم لآبائهم) * إلى قوله: * (ومواليكم) * (الأحزاب: 5). ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من انتسب إلى غير أبيه، فكان حكم الولاء كحكم النسب في ذلك، فكما لا يجوز بيع النسب ولا هبته، كذلك الولاء، ولا نقله ولا تحويله، وإنه للمعتق كما قال صلى الله عليه وسلم.
6352 حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال أعتقيها فإن الولاء لمن أعطى الورق فأعتقتها فدعاها النبي صلى الله عليه وسلم فخيرها من زوجها فقالت لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده فاختارت نفسها.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الولاء لمن أعطى الورق) فهذا يدل على أن الولاء لا ينقل، فإذا لم يجز نقله لا يجوز بيعه ولا هبته.
والحديث مضى في كتاب البيوع في: باب البيع والشراء مع النساء أخرجه من رواية الزهري عن عروة عن عائشة ومن رواية نافع عن ابن عمر: أن عائشة ساومت، وفي: باب، إذا اشترط شروطا في البيع لا يحل، من رواية
95

مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. وأخرجه هنا عن عثمان عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة، وأخرجه أيضا في الفرائض عن محمد بن جرير وفيه أيضا عن موسى ابن إسماعيل عن أبي عوانة. وأخرجه الترمذي في البيوع وفي الولاء عن محمد بن بشار. وأخرجه النسائي في البيوع وفي الطلاق وفي الفرائض عن قتيبة عن جرير به، وذكر قصة التخيير في البيوع وفي الطلاق دون الفرائض.
قوله: (بريرة)، بفتح الباء الموحدة وكسر الراء الأولى، وكانت وليدة لبني هلال، كذا في رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير عن عروة، قوله: (لم أعطى الورق)، بفتح الواو وكسر الراء، وهي الدراهم المضروبة، وفي رواية الترمذي: وإنما الولاء لمن أعطى الثمن أو لمن معه النعمة. قوله: (فخيرها من زوجها) لأن زوجها كان عبدا على الأصح، وإذا كان زوج الأمة حرا خيرت عندنا أيضا. وقال مالك والشافعي: لا تخير، وروى مسلم عن عائشة أن زوجها كان عبدا فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وروى البخاري ومسلم أيضا عنها أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت، والعمل بهذا أولى لثبوت الحرية لاتفاقهم أنه كان قتل عبدا. ونقول بموجب الحديثين جمعا بين الدليلين، ولا فرق في هذا بين القنة وأم الولد والمدبرة والمكاتبة، وزفر يخالفنا في الكتابة.
11
((باب إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى إذا كان مشركا))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أسر أخو الرجل أو عمه هل يفادى؟ من فأداه يفاديه مفاداة: إذا أعطى فداءه، وأنقذه. وقيل: المفاداة أن يفتك الأسير بأسير مثله، وفي (المغرب): فداه من الأسر فداء: استنقذه منه بمال، والفدية اسم ذلك المال، والمفاداة بين اثنين. وقال المبرد: المفاداة أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا والفداء أن تشتريه. وقيل: هما بمعنى قلت: يفادى هنا بمعنى: أن يعطي مالا ويستنقذ الأسير. قوله: (إذا كان)، أي: أخوه أو عمه مشركا من أهل دار الحرب، وإنما قال البخاري: هل يفادى؟ بالاستفهام على سبيل الاستخبار، ولم يبين حكم المسألة. واقتصر على ذكر أخي الرجل وعمه من بين سائر ذوي رحمه، وذلك لأنه ترك بيان حكم المسألة لأجل الخلاف فيه على ما نبينه، وأما اقتصاره على الأخ والعم فلأنه استنبط من حديث الباب أن الأخ والعم لا يعتقان على من ملكهما، وكذلك ابن العم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ملك من عمه العباس ومن ابن عمه عقيل بالغنيمة التي له فيها نصيب، وكذلك علي، رضي الله تعالى عنه، قد ملك من أخيه عقيل وعمه العباس ولم يعتقا عليه.
وأما بيان الاختلاف فيمن يعتق على الرجل إذا ملكه، فذهب مالك إلى أنه لا يعتق عليه إلا أهل الفرائض في كتاب الله تعالى، وهم: الولد ذكرا كان أو أنثى، وولد الولد، وإن سفلوا، وأبوه وأجداده وجداته من قبل الأب والأم وإن بعدوا، وإخوته لأبوين أو لأب أو لأم، وبه قال الشافعي إلا في الأخوة: فإنهم لا يعتقون، وحجته فيه: أن عقيلا كان أخا علي، رضي الله تعالى عنه، فلم يعتق عليه بما ملك من نفسه من الغنيمة منه. وعند الحنفية: كل من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه، وذو الرحم المحرم كل شخصين يدليان إلى أصل واحد بغير واسطة: كالأخوين، أو أحدهما بواسطة، والآخر بواسطتين، كالعم وابن العم، ولا يعتق ذو رحم غير محرم كبني الأعمام والأخوال وبني العمات والخالات، ولا محرم غير ذي رحم كالمحرمات بالصهرية، أو الرضاع إجماعا، ويقول الحنفية قال أحمد وعنه كقول الشافعي. وفي (حاوي) الحنابلة: ومن ملك ذا رحم محرم عتق عليه، وعنه: لا يعتق إلا عمود النسب. وحجة الحنفية في هذا ما رواه الأئمة الأربعة من حديث سمرة بن جندب، قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال موسى في موضع آخر: عن سمرة بن جندب فيما يحسب حماد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، وقال الترمذي: حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي البصري حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر).
وقال النسائي: أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا حجاج وأبو داود، قالا: حدثنا حماد عن قتادة عن الحسن عن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك ذا محرم فهو حر)، وقال ابن ماجة: حدثنا عقبة بن مكرم وإسحاق بن منصور، قالا: حدثنا محمد بن بكر البرساني عن حماد بن سلمة عن قتادة وعاصم عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ملك ذا رحم محرم فهو حر)، وقال بعضهم: أشار البخاري بترجمة هذا الباب
96

إلى تضعيف حديث سمرة هذا، واستنكره ابن المديني، ورجح الترمذي إرساله، وقال البخاري: لا يصح. وقال أبو داود: وتفرد به حماد، وكان يشك في وصله، وغيره يرويه عن قتادة عن الحسن. قوله: وعن قتادة عن عمر قوله: منقطعا، أخرج ذلك النسائي. قلت: ما وجه دلالة هذه الترجمة على ضعف هذا الحديث؟ فما هذه الدلالة؟ هل هي لفظية أو عقلية؟ والحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) من طريق أحمد بن حنبل عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول وقتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا، وسكت عنه، ثم أخرجه عن ضمرة بن ربيعة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعا: (من ملك ذا رحم فهو حر). وقال: هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين، والمحفوط: عن سمرة بن جندب، وصححه أيضا ابن حزم وابن القطان، وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح تقوم به الحجة كل من رواته ثقات. انتهى. ولئن سلمنا ما قالوا، فما يقلون في حديث ضمرة ابن ربيعة عن سفيان الثوري وهذا فيه الكفاية في الاحتجاج؟ فإن قلت: قالوا: تفرد به ضمرة. قلت: ليس انفراده به دليلا على أنه غير محفوظ ولا يوجب ذلك علة فيه، لأنه من الثقات المأمونين لم يكن بالشام رجل يشبهه، كذا قال أحمد بن حنبل. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا لم يكن هناك أفضل منه، وقال ابن يونس: كان فقيه أهل فلسطين في زمانه. والحديث إذا انفرد به مثل هذا كان صحيحا، ولا يضره تفرده.
وقال أنس قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: فأديت نفسي وفاديت عقيلا
هذا التعليق جزء من حديث مضى في كتاب الصلاة في: باب القسمة، وتعليق القنو في المسجد. أخرجه هناك فقال: قال إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس، قال: أتي النبي، صلى الله عليه وسلم، بمال من البحرين... الحديث، وفيه: جاءه العباس فقال: يا رسول الله! أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا... إلى آخره. وأخرجه البيهقي موصولا، فقال: أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عصام حدثنا حفص بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن طهمان... إلى آخره وعباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، لما أسر في وقعة بدر فأدى نفسه بمائة أوقية من ذهب، قاله ابن إسحاق، وقال ابن كثير في (تفسيره): وهذه المائة عن نفسه وعن بني أخيه عقيل ونوفل، وروى هشام بن الكلبي عن أبيه عن ابن عباس، قال: قال: فدى العباس نفسه بأربعة آلاف درهم، وكانوا يأخذون من كل واحد من الأسرى أربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضعفوها على العباس، فقال: تركتني فقيرا ما عشت أسأل الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأين المال الذي تركته عند أم الفضل)، وذكره فقال: يا ابن أخي من أعلمك؟ فوالله ما كان عندنا ثالث. فقال: (أخبرني الله)، فقال أشهد أنك لصادق وما علمت أنك رسول الله قبل اليوم، وأسلم وأمر ابني إخيه، فأسلما. قال ابن عباس: وفيه نزل: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسارى أن يعلم الله في قلوبكم) * (الأنفال: 07). الآية، وقال ابن إسحاق: عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة، سماهم. قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسرائهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فالله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر) قال: ما ذاك عندي يا رسول الله! قال: (فإين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ قال: فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم) قال: والله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ذاك شيء أعطانا الله منك، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله عز وجل فيه: * (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسارى...) * (الأنفال: 07). الآية قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدا، كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله، عز وجل.
واختلفوا في الذي أسر العباس، فقيل: ملك من الملائكة، وقيل: أسره أبو اليسر كعب بن عمرو وأخو بني سلمة الأنصاري وكان العباس جسيما وأبو اليسر مجموعا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أسرت العباس؟) فقال: أعانني عليه رجل ما رأيته قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعانك عليه ملك كريم). وقيل
97

أسره عبيد الله بن أوس الأنصاري من بني ظفر وسمي: بمقرن، قال الواقدي: وإنما سمي به لأنه قرن بين العباس ونوفل وعقيل بجبل، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أعانك عليهم ملك كريم)، وقال ابن إسحاق ولما أسر العباس بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا تلك الليلة، فقيل له: مالك لا تنام؟ فقال: (يمنعني أمر العباس)، وكان موثقا بالقيد، فأطلقوه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان علي له نصيب في تلك الغنيمة التي أصاب من أخيه عقيل ومن عمه عباس
هذا من كلام البخاري ذكره في معرض الاستدلال على أنه لا يعتق الأخ ولا العم بمجرد الملك، إذ لو عتقا لعتق العباس وعقيل على علي، رضي الله تعالى عنه، في حصته من الغنيمة، وأجيب: بأن الكافر لا يملك بالغنيمة ابتداء، بل يتخير فيه بين القتل والاسترقاق والفداء، فلا يلزم العتق بمجرد الغنيمة.
98

21
((باب عتق المشرك))
أي: هذا باب في بيان حكم عتق المشرك والمصدر مضاف إلى فاعله، والمفعول متروك، وقال بعضهم يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أو إلى المفعول، وعلى الثاني جرى ابن بطال، فقال: لا خلاف في جواز عتق المشرك تطوعا، وإنما اختلفوا في عتقه عن الكفارة. انتهى. قلت: الاحتمال الذي ذكره موجود، ولكن المراد الإضافة إلى الفاعل وإلا لا تقع المطابقة بين الحديث والترجمة. وقول ابن بطال: لا خلاف في جواز عتق المشرك تطوعا، لا يستلزم تعيين كون الإضافة إلى المفعول، ولو كان قصد هذا يرد لئلا تنخرم المطابقة.
8352 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام قال أخبرني أبي أن حكيم ابن حزام رضي الله تعالى عنه أعتق في الجاهلية مائة رقبة وحمل على بعير فلما أسلم حمل على مائة بعير وأعتق مائة رقبة قال فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أصنعها في الجاهلية كنت أتحنث بها يعني أتبرر بها قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير.
مطابقته للترجمة ظاهرة كما نبهنا عليه الآن. وعبيد، بضم العين: ابن إسماعيل، واسمه في الأصل: عبد الله يعنى أبا محمد القرشي الكوفي وهو من أفراده. وأبو أسامة حماد بن أسامة. وهشام هو ابن عروة بن الزبير يروي عن أبيه عروة. وحكيم، بفتح الحاء المهملة وكسر الكاف: ابن حزام، بكسر الحاء المهملة وبالزاي المخففة: ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد، وابن عم الزبير بن العوام، ولد في بطن الكعبة لأن أمه صفية وقيل: فاختة بنت زهير بن الحارث دخلت الكعبة في نسوة من قريش وهي حامل، فأخذها الطلق فولدت حكيما بها، وهو من مسلم الفتح، وعاش مائة وعشرين سنة، ستون سنة في الإسلام وستون سنة في الجاهلية، ومات سنة أربع وخمسين في أيام معاوية، وقد مضى بعض هذا الحديث في كتاب الزكاة في: باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، وقد ذكرنا هناك تعدد موضعه وأن مسلما أخرجه. قوله: (إن حكيم بن حزام)، ظاهره الإرسال، لأن عروة لم يدرك زمن ذلك، لكن. قوله: (قال: فسألت) يوضح الوصل، لأن فاعل: قال، هو: حكيم، فكأن عروة قال: قال حكيم، فيكون بمنزلة قوله عن حكيم، والدليل على ذلك رواية مسلم فإنه أخرجه من طريق أبي معاوية عن هشام، فقال عن أبيه عن حكيم بن حزام. قوله: (حمل على مائة بعير)، أي: في الحج، لما روي: أنه حج في الإسلام ومعه مائة بدنة قد جللها بالحبرة، ووقف بمائة عبد، وفي أعناقهم أطواق الفضة فنحر وأعتق الجميع. قوله: (أرأيت؟) معناه: أخبرني. قوله: (أتحنث)، بالحاء المهملة. قوله: (يعني: أتبرر بها)، هذا تفسير الحنث، وهو بالباء الموحدة وبراءين: أولاهما ثقيلة أي: أطلب بها البر والإحسان إلى الناس، والتقرب إلى الله تعالى. والبر، بكسر الباء: الطاعة والعبادة، وهذا التفسير من هشام بن عروة دل عليه رواية مسلم حيث قال: عن حكيم بن حزام، قال: قلت: يا رسول الله! أشياء كنت أفعلها في الجاهلية، قال هشام: يعني: أتبرر بها، وهذا صريح أن الذي فسر بقوله، يعني: أتبرر بها، هو هشام بن عروة دون غيره من الرواة، ولا البخاري نفسه فافهم.
ومما يستفاد منه: أن عتق المشرك على وجه التطوع جائز لهذا الحديث حيث جعل عتق المائة رقبة في الجاهلية من فعال الخير المجازى بها عند الله المتقرب بها إليه بعد الإسلام، وهو قوله: (أسلمت على ما سلم لك من خير)، وليس المراد به صحة التقرب في حال الكفر، بل إذا أسلم ينتفع بذلك الخير الذي فعله في الكفر، ودل ذلك على أن مسلما لو أعتق كافرا لكان مأجورا على عتقه، لأن حكيما لما جعل له الأجر على ما فعل في الجاهلية بالإسلام الذي صار إليه فلم يكن المسلم الذي فعل مثل فعله في الإسلام بدون حال حكيم، بل هو أولى بالأجر، واختلف في عتق المشرك في كفارة اليمين، والظهار، فعندنا يجوز،
99

وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز كما في قتل الخطأ، وعن أحمد كقولنا وعنه: يجوز مطلقا، ولنا إطلاق النصوص وآية القتل مقيدة بالإيمان، والأصل في كل نص أن يعمل بمقتضاه إطلاقا وتقييدا.
31
((باب من ملك من العرب رقيقا فوهب وباع وجامع وفداى وسباى الذرية))
أي: هذا باب في بيان حكم من ملك من العرب رقيقا، والعرب الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية أو المدن، والأعراب ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلون بها إلا لحاجة، والنسب إليها أعرابي وعربي. واختلف في نسبتهم، والأصح: أنهم نسبوا إلى عربة، بفتحتين: وهي من تهامة، لأن أباهم إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، نشأ بها. قوله: (فوهب...) إلى آخره، تفصيل قوله: ملك، فذكر خمسة أشياء: الهبة والبيع والجماع والفدى والسبي، وذكر في الباب أربعة أحاديث وبين في كل حديث حكم كل واحد منها غير البيع، وهو أيضا مذكور في حديث أبي هريرة في بعض طرقه، كما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى، ومفعولات: وهب وباع وجامع وفدى محذوفة. قوله: (وسبى)، عطف على قوله: ملك (والذرية) نسل الثقلين، يقال: ذرا الله الخلق، أي: خلقهم وأراد البخاري بعقد هذه الترجمة بيان الخلاف في استرقاق العرب، والجمهور على أن العربي إذا سبي جاز أن يسترق، وإذا تزوج أمة بشرطه كان ولدها رقيقا تبعا لها، وبه قال مالك والليث والشافعي، وحجتهم أحاديث الباب، وبه قال الكوفيون: وقال الثوري والأوزاعي وأبو ثور: يلزم سيد الأمة أن يقومه على أبيه ويلتزم أبوه بأداء القيمة، ولا يسترق، وهو قول سعيد بن المسيب، واحتجوا بما روي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال لابن عباس: لا يسترق ولد عربي من أبيه، وقال الليث: أما ما روي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، من فداء ولد العرب من الولائد، إنما كان من أولاد الجاهلية، وفيما أقر به الرجل من نكاح الإماء فأما اليوم فمن تزوج أمة وهو يعلم أنها أمة، فولده عبد لسيدها عربيا كان أو قريشيا أو غيره.
وقوله تعالى: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) * (النحل: 57).
وقوله، بالجر عطف على قوله: (من ملك)، لأنه في محل الجر بالإضافة، وفيه التقدير المذكور، وهو: باب في بيان من ملك العرب، وفي ذكر قول الله تعالى: * (ضرب الله مثلا) * (النحل: 57). وفي بعض النسخ: وقول الله تعالى.
قيل: وجه مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى أطلق العبد المملوك ولم يقيده بكونه عجميا، فدل على أن لا فرق في ذلك بين العربي والعجمي.
قوله: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) * (النحل: 47). لما نهى الله تعالى المشركين عن ضرب الأمثال بقوله: قبل هذه الآية: * (فلا تضربوا لله الأمثال) * (النحل: 47). أي: الأشباه والأشكال، إن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، علمهم كيف يضرب الأمثال، فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك قد يرزقه الله مالا، ويتصرف فيه وينفق كيف يشاء. قوله: (عبدا مملوكا) إنما ذكر المملوك ليمين بينه وبين الحر، لأن اسم العبد يقع عليهما إذ هما من عباد الله تعالى. قوله: (لا يقدر على شيء) أي: لا يملك ما بيده وإن كان باقيا معه، لأن للسيد انتزاعه منه ويخرج منه المكاتب والمأذون له، لأنهما يقدران على التصرف. فإن قلت: من، في * (ومن رزقناه) * (النحل: 57). ما هي؟ قلت: الظاهر أنها موصوفة كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة، وإنما قال: هل يستوون، بالجمع، لأن المعنى: هل يستوي الأحرار والعبيد، فالمراد الشيوع في الجنس لا التخصيص، ثم قال: * (الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون) * (النحل: 57). أن الحمد لي وجميع النعم مني. ثم اعلم أن المفسرين اختلفوا في معنى هذه الآية، فقال مجاهد والضحاك: هذا المثل لله تعالى ومن عبد دونه، وقال قتادة: هذا المثل للمؤمن والكافر، فذهب إلى أن العبد المملوك هو الكافر، لأنه لا ينتفع في الآخرة بشيء من عمله. قوله: * (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) * (النحل: 57). هو المؤمن.
100

0452 حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال ذكر عرزة أأ مروان والمسور بن مخرمة قال أخبراه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بهم وكان النبيصلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فأثناى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم جاؤنا تائبين وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذالك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيبنا ذالك قال إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا فهاذا الذي بلغنا عن سبي هوازن.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (من ملك رقيقا من العرب فوهب) وقد مر الحديث في كتاب الوكالة في: باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز إلى قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نصيبي لكم. وأخرجه هناك عن سعيد بن عفير عن الليث عن عقيل... إلى آخره، وهنا أخرجه: عن سعيد بن أبي مريم عن الليث... إلى آخره. وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (ذكر عروة)، هو ابن الزبير، وسيأتي في الشروط من طريق معمر عن الزهري: أخبرني عروة. قوله: (أن مروان والمسور بن مخرمة) مروان هو ابن الحكم، قال الكرماني: صح سماع مسور من النبي، صلى الله عليه وسلم، وأما مروان فقد قال الواقدي: رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يحفظ عنه شيئا، وقال ابن بطال: الحديث مرسل، لم يسمع المسور من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ومروان لم يره قط. قوله: (استأنيت)، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الهمزة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف: أي انتظرت. قوله: (حين قفل)، أي: حين رحل. قوله: (حتى يفيء الله)، بفتح الياء، أي: حتى يرجع الله إلينا من مال الكفار ويعطينا خراجا أو غنيمة أو غير ذلك، وليس المراد الفيء الاصطلاحي مخصوصا. قوله: (عرفاؤكم) جمع عريف، وهو النقيب وهو دون الرئيس. قوله: (فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن)، هو قول ابن شهاب الزهري، وكانت هذه الواقعة في سنة ثمان.
1452 حدثنا علي بن الحسن قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا ابن عون قال كتبت إلى نافع فكتب إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسباى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية قال حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذالك الجيش.
مطابقته للترجمة في قوله: (وسبى ذراريهم) وفي الترجمة: وسبى الذرية.
وعلي بن الحسن بن شقيق، بفتح الشين المعجمة وكسر القاف الأولى: المروزي، مات سنة خمس عشرة ومائتين، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، وابن عون، بفتح العين المهملة: هو عبد الله بن عون، مر في العلم.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى وعن محمد بن المثنى، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن سعيد بن منصور عن إسماعيل بن علية. وأخرجه النسائي في السير عن محمد بن عبد الله بن بزيع.
101

قوله: (قال كتبت) أي: قال ابن عون: كتبت إلى نافع في أمر بني المصطلق، فكتب.. إلى آخره، قد ذكرنا في: باب إذا اختلف الراهن والمرتهن أن الكتابة حكمها حكم الاتصال لا الانقطاع. قوله: (أغار) بالغين المعجمة، يقال: أغار على عدوه إذا هجم عليه ونهبه، ومصدره الإغارة، والغارة اسم من الإغارة. ومادته: غين وواو وراء. قوله: (بني المصطلق)، بضم الميم وسكون الصاد المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام وبالقاف: وهي بطن من خزاعة، والمصطلق هو ابن سعد بن
عمرو بن ربيعة ابن حارثة بن عمرو بن عامر، ويقال: إن المصطلق لقب واسمه جذيمة، بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة: ابن سعد بن عمرو. وعمرو هو أبو خزاعة، وقال ابن دريد: سمي المصطلق لحسن صوته، مفتعل من الصلق، والصلق شدة الصوت وحدته، من قوله عز وجل: * (سلقوكم بألسنة حداد) * (الأحزاب: 91). ويقال: صلق بنو فلان بني فلان، إذا وقعوا بهم وقتلوهم قتلا ذريعا، قوله: (وهم غارون)، جملة اسمية حالية بالغين المعجمة وتشديد الراء، والغارون جمع غار، أي: غافل أي أخذهم على غرة وبغتة. قوله: (وأنعامهم تسقي) أيضا جملة اسمية حالية، والأنعام، بفتح الهمزة جمع: نعم، قال الجوهري: النعم واحد الأنعام، وهل المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل، قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد ويجمع على نعمان، والأنعام تذكر وتؤنث قال الله تعالى في موضع: * (مما في بطونه) * (النحل: 66). وفي موضع * (مما في بطونها) * وجمع الجمع: أناعيم. قوله: (تسقى)، على صيغة المجهول. قوله: (فقتل مقاتلتهم) أي: الطائفة البالغين الذين هم على صدد القتال. قوله: (ذراريهم)، بتشديد الياء وتخفيفها وهو جمع ذرية. قوله: (يومئذ)، أي: يوم الإغارة على بني المصطلق. قوله: (جويرية)، مصغر جارية.
ومن حديثها ما روي عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها إحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله! أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلايا ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: فهل لك من خير في ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي كتابك وأتزوجك؟ قالت: نعم يا رسول الله! قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد اعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
وروى موسى بن عقبة عن بعض بني المصطلق: أن أباها طلبها وافتداها ثم خطبها منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فزوجه إياها. وقال الواقدي: ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق، ويقال: جعل صداقها عتق أربعين من بني المصطلق، وكانت جويرية تحت مسافع بن صفوان المصطلقي، وقيل: صفوان بن مالك، وكان اسمها: برة، فغيرها النبي، صلى الله عليه وسلم، فسماها جويرية، وماتت في ربيع الأول سنة ست وخمسين ولها خمس وستون سنة.
وأما غزوة بني المصطلق، فقال البخاري: وهي غزوة المريسيع، وقال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. انتهى. وقال الصغاني: غزوة المريسيع من غزوات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سنة خمس من مهاجره، قالوا: إن بني المصطلق من خزاعة يريدون محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينزلون على بئر لهم يقال لها: المريسيع، بينها وبين الفرع مسيرة يوم، وقال الواقدي: كانت غزوة بني المصطلق لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه، وقال ابن هشام: استعمل على المدينة أبا ذر الغفاري، ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي، وذكر ابن سعد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وقادوا الخيل، وهي ثلاثون فرسا في المهاجرين منها عشرة، وفي الأنصار عشرون، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة وكان معه فرسان لزار والظرب، ويقال: كان أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، حامل راية المهاجرين، وسعد بن عبادة حامل راية الأنصار، فقتلوا منهم عشرة وأسروا سائرهم، وقال ابن إسحاق: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف
102

الناس فاقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل، ونفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم، فأفاءهم عليه. وقال ابن سعد: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة بن الخصيب، وأمر بالغلام فجمعت واستعمل عليهم شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية واستعمل على سهم الخمس وسهمان المسلمين محيمة بن جزء الزبيدي، وكانت الإبل ألفي بعير، والشياه خمسة آلاف، وكان السبي مائتي بنت، وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمانية وعشرين وقدم المدينة هلال رمضان، وقال ابن إسحاق: وأصيب بني المصطلق ناس، وقتل علي، رضي الله تعالى عنه، منهم رجلين مالكا وابنه، وكان شعار المسلمين يومئذ: يا منصور أمت أمت.
2452 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان عن محمد بن يحياى بن حبان عن ابن محيريز قال رأيت أبا سعيد رضي الله تعالى عنه فسألته فقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء فاشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة.
.
مطابقته للترجمة في قوله فيها: وجامع، يعني: بعد أن ملك من العرب سبيا وربيعة، بفتح الراء: المشهور بربيعة الرأي شيخ مالك، و محمد بن يحيى بن حبان، بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة وبالنون: مر في الوضوء، و ابن محيريز هو عبد الله بن محيريز، بضم الميم وفتح الحاء المهملة وسكون التحتانية وكسر الراء وسكون التحتانية أيضا وفي آخره زاي. ومر الحديث في كتاب البيوع في: باب بيع الرقيق، فإنه أخرجه هناك عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي محيريز: أن أبا
سعيد... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (العزل)، هو نزع الذكر من الفرج عند الإنزال. قوله: (ما عليكم أن لا تفعلوا) يعني: لا بأس عليكم إذا تركتم العزل. قوله: (نسمة)، بفتح السين، وهي: الإنسان، أي: ما من نفس كائنة في علم الله إلا وهي كائنة في الخارج، لا بد من مجيئها من العدم إلى الوجود، أي: ما قدر الله أن يكون البتة. وفي الحديث دليل على أن الصحابة أطبقوا على وطء ما وقع في سهمانهم من السبي، وهذا لا يكون إلا بعد الاستبراء بإجماع العلماء، من وهذا يدل أن السباء يقطع العصمة بين الزوجين الكافرين.
واختلف السلف في حكم وطء الوثنيات والمجوسيات إذا سبين، فأجازه سعيد بن المسيب وعطاء وطاووس ومجاهد، وهذا قول شاذ لم يلتفت إليه أحد من العلماء، واتفق أئمة الفتوى على أنه: لا يجوز وطء الوثنيات بقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 122). وإنما أباح الله تعالى وطء نساء أهل الكتاب خاصة. بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * (المائدة: 5). وإنما أطبق الصحابة على وطء سبايا العرب بعد إسلامهن، لأن سبي هوازن كان سنة ثمان، وسبي بني المصطلق سنة ست، وسورة البقرة من أول ما نزل بالمدينة، فقد علموا قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 122). وتقرر عندهم أنه لا يجوز وطء الوثنيات البتة حتى يسلمن، وروى عبد الرزاق: حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا يونس ابن عبيد أنه سمع الحسن يقول: كنا نغزو مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصاب أحدهم جارية من الفىء فأراد أن يصيبها أمرها فاغتسلت ثم علمها الإسلام وأمرها بالصلاة واستبرأها بحيضة، ثم أصابها. وعموم قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (البقرة: 122). يقتضي تحريم وطء المجوسيات بالتزويج وبملك اليمين، وعلى هذا أئمة الفتوى وعامة العلماء.
وأما العزل فقد اختلف فيه قديما وإباحته أظهر في الحديث عند الشافعي، سواء كانت حرة أو أمة مع الإذن وبدونه، وروى مالك عن سعيد بن أبي وقاص وأبي أيوب الأنصاري وزيد بن ثابت وابن عباس: أنهم كانوا يعزلون، وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود وجابر، وذكر مالك أيضا عن ابن عمر أنه: كره العزل، وقيل: روي عن علي، رضي الله تعالى عنه، القولان جميعا، واحتج من كره العزل بأنه: الوأد الخفي، كما روي عن عائشة، واتفق أئمة الفتوى على جواز العزل عن الحرة إذا أذنت فيه لزوجها.
واختلفوا في الأمة المزوجة، فقال مالك وأبو حنيفة: الأذن في ذلك لمولاها، وقال أبو يوسف: الإذن إليها،
103

وقال الشافعي: يعزل عنها بدون إذنها وبدون إذن مولاها.
3452 حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال لا أزال أحب بني تميم ح وحدثني ابن سلام قال أخبرنا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة عن الحارث عن أبي زرعة عن أبي هريرة وعن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال ما زلت أحب بني تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم سمعته يقول هم أشد أمتي على الدجال قال وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه صدقات قومنا وكانت سبية منهم عند عائشة فقال أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل عليه السلام.
(الحديث 3452 طرفه في: 6634).
مطابقته للترجمة في قوله: وباع، ولكن في بعض طرقه عند الإسماعيلي من طريق معمر عن جرير: كانت على عائشة، رضي الله تعالى عنها، نسمة من بني إسماعيل، فقدم سبي خولان، فقالت عائشة: يا رسول الله! أبتاع منهم. قال: لا، فلما قدم سبي بني العنبر قال: ابتاعي منهم فإنهم ولد إسماعيل، عليه السلام. ووقع عند أبي عوانة من طريق الشعبي عن أبي هريرة أيضا:. وجىء بسبي بني العنبر. انتهى. وبنو العنبر بطن من بني تميم، وقال الرشاطي: العنبري في تميم ينسب إلى العنبر بن عمرو بن تميم، وذكر ابن الكلبي: أن العنبر هذا هو ولد عامر بن عمرو، وفي تميم أيضا: العنبر بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وهذا الحديث أخرجه البخاري عن شيخين له أحدهما: عن زهير بن حرب عن جرير، بفتح الجيم وكسر الراء الأولى: ابن عبد الحميد عن عمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم: ابن القعقاع عن أبي زرعة، بضم الزاي وسكون الراء وفتح العين المهملة: واسمه هرم، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي عن أبي هريرة، والآخر: عن محمد بن سلام عن جرير عن المغيرة بن مقسم عن الحارث بن يزيد من الزيادة العكلي، بضم العين المهملة وسكون الكاف: التميمي الكوفي، وليس له في البخاري إلا هذا الحديث، وذكر فيه عمارة مقرونا بالحارث. والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن زهير بن حرب. وأخرجه مسلم في الفضائل عن زهير به.
ذكر معناه: قوله: (ما زلت أحب بني تميم)، هي قبيلة كبيرة في مضر تنسب إلى تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر. قوله: (منذ ثلاث)، أي: من حين سمعت الخصال الثلاث، وهي التي أولها: هو قوله: (هم أشد أمتي على الدجال). وثانيها: هو قوله: (هذه صدقات قومنا) وثالثها: أمره، صلى الله عليه وسلم، لعائشة بعتق السبية المذكورة. لكونها من ولد إسماعيل، عليه السلام، وزاد فيه أحمد من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة، وما كان قوم من الأحياء أبغض إلي منهم فأحببتهم. انتهى. وكان ذلك لما كان بينهم وبين قومه في الجاهلية من العداوة. قوله: (يقول فيهم) أي: في بني تميم. قوله: (سمعته يقول)، أي: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (هم أشد أمتي على الدجال)، وفي رواية مسلم من رواية الشعبي عن أبي هريرة: (هم أشد الناس قتالا في الملاحم)، ورواية الشعبي أعم من رواية أبي زرعة، على ما لا يخفى. قوله: (وجاءت صدقاتهم)، أي: صدقات بني تميم، فقال: (هذه صدقات قومنا)، إنما نسبهم إليه
لاجتماع نسبهم بنسبه، صلى الله عليه وسلم، في إلياس بن مضر، وروى الطبراني في (الأوسط) من طريق الشعبي: عن أبي هريرة في هذا الحديث: وأتي النبي، صلى الله عليه وسلم، بنعم من صدقة بني سعد، فلما راعه حسنها، قال: (هذه صدقة قومي). انتهى. وبنو سعد بطن كبير من تميم، ينتسبون إلى سعد بن زيد مناة بن تميم. قوله: (سبية منهم)، أي: من بني تميم، وسبية على وزن: فعيلة، بفتح السين من السبي أو من السباء، فإن كان من الأول يكون بتشديد الياء آخر الحروف، وإن كان من الثاني يكون بالهمزة بعد الباء الموحدة، ولم يدر اسمها، ووقع عند الإسماعيلي من طريق هارون بن معروف عن جرير: نسمة، بفتح النون والسين المهملة: وهي الإنسان، وله
104

من رواية أبي معمر: (وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل) وفي رواية الشعبي عند أبي عوانة: (وكان على عائشة محرر) وبين الطبراني في (الأوسط) في رواية الشعبي: أن المراد بالذي كان عليها أنه كان (نذرا). ولفظه: نذرت عائشة أن تعتق محررا من بني إسماعيل، وللطبراني في (الكبير) من حديث رديح، بضم الراء وفتح الدال وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة: ابن ذؤيب بن شعثم، بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة وضم الثاء المثلثة وفي آخره ميم: العنبري: أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: يا نبي الله! إني نذرت عتيقا من ولد إسماعيل. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إصبري حتى يجيء فيء بني العنبر غدا، فجاء فيء فبني العنبر، فقال لها: خذي منهم أربعة، فأخذت رديحا وزبيبا وزخيا وسمرة، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم رؤوسهم وبرك عليهم، ثم قال: يا عائشة! هؤلاء من بني إسماعيل قصدا، وقال بعضهم: والذي تعين لعتق عائشة من هؤلاء الأربعة، أما رديح وأما زخى. قلت: قال الذهبي في (تجريد الصحابة): رديح بن ذؤيب بن شعثم التميمي العنبري مولى عائشة روى عنه ابنه عبد الله وهذا يدل على أن الذي أعتقته هو رديح بلا ترديد، وزبيب، بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره باء أيضا، وضبطه العسكري: بنون في أوله، و: هو زنيب بن ثعلبة بن عمرو التميمي العنبري وروى عنه أبو داود في كتاب القضاء: حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عمار بن شعيب بن عبيد الله بن الزبيب العنبري، قال: حدثني أبي، قال: سمعت جدي الزبيب يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى بني العنبر، فأخذوا بركبة من ناحية الطائف واستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! أتانا جندك فأخذونا، وقد كنا أسلمنا... الحديث بطوله. قوله: (بركبة) بضم الراء وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة: وهو اسم موضع معروف، وهي غير ركبة التي بين مكة والمدينة. وأما زخي، فبضم الزاي وفتح الخاء المعجمة وتشديد الياء، ومصغر، وضبطه ابن عون بالراء، وذكره الذهبي في حرف الزاي، وقال: زخي العنبري، وغلط من قال: رخي بالراء. وسمرة: هو ابن عمرو بن قرط، بضم القاف وسكون الراء. وقال الذهبي سمرة بن عمرو العنبري، أجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة له لزبيب العنبري ثم قال سمرة من بلعنبر أعتقته عائشة رضي الله تعالى عنها، قلت: قضية الشهادة في حديث أبي داود الذي ذكرنا منه بعضه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دليل على جواز استرقاق العرب، وتملكهم كسائر فرق العجم إلا أن عتقهم أفضل. قال ابن بطال: وتميم كانوا يختارون ما يخرجون في الصدقات من أفضل ما عندهم، فأعجبه صلى الله عليه وسلم، فلذلك قال: هذا القول على معنى المبالغة في نصحهم لله ولرسوله في جودة الاختيار للصدقة. وفيه: فضيلة ظاهرة لبني تميم، وكان فيهم في الجاهلية وصدر الإسلام جماعة من الأشراف والرؤساء. وفيه: الإخبار عما سيأتي من الأحوال الكائنة في آخر الزمان.
41
((باب فضل من أدب جاريته وعلمها))
أي: هذا باب في بيان فضل من أدب جاريته، وليس في رواية أبي ذر والنسفي لفظ: فضل، بل هو: باب من أدب جاريته، وفي رواية النسفي: وأعتقها أيضا.
4452 حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال سمع محمد بن فضيل عن مطرف عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له جارية فعلمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (كان له أجران)، وهما: أجر التعليم وأجر العتق.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: إسحاف بن إبراهيم المعروف بابن راهويه. الثاني: محمد بن فضيل بن غزوان. الثالث: مطرف بن طريف الحارثي، ويقال الحارفي. الرابع: عامر الشعبي. الخامس: أبو بردة، بضم الباء الموحدة، واسمه الحارث بن أبي موسى، ويقال: عامر، ويقال اسمه كنيته. السادس: أبو موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: السماع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع.
105

وفيه: أن شيخه مروزي سكن نيسابور والبقية كوفيون. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا بأتم منه في كتاب العلم في: باب تعليم الرجل أمته وأهله عن محمد بن سلام عن المحاربي عن صالح بن حيان عن عامر الشعبي... الحديث. وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود والنسائي جميعا فيه عن هناد بن السري. وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (فعلمها) في رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي، فعالها، أي: أنفق عليها، من: عال الرجل عياله يعولهم: إذا أقام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة
وغيرهما. وقال الكسائي: يقال: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، واللغة الجيدة: أعال يعيل. قال المهلب فيه: أن الله تعالى قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم، فجعله كمثل أجر العتق.
وفيه: الحض على نكاح العتيقة وعلى ترك العلو في الدنيا، وأن من تواضع لله في منكحه، وهو يقدر على نكاح أهل الشرف، فإن ذلك مما يرجى عليه جزيل الثواب. فإن قلت: روى البزار في (مسنده) عن ابن عمر: لما نزل قوله تعالى: * (لن تنالوا البر) * (آل عمران: 29). ذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب ألي من جارية رومية، فأعتقتها، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها. قلت: هذا محمول على من لا يرغب نكاحها، لأن عادة العرب الرغبة عن تزويج المعتقة، والمعتق إذا رغب يكون لغيره فلا يكره له النكاح حينئذ، وأيضا النكاح ليس براجع في عتقه، لأنه لا يملك الآن إلا منفعة الوطء. قال صاحب (التوضيح): وقد أجاز مالك وأكثر أصحابنا الرجوع في المنافع إذا تصدق بها وشرى بها، والحجة لهم حديث العرايا، فكيف إذا تصدق بالرقبة؟ فإنه يجوز شراء منفعتها، بل هو أولى من الصدقة بالمنفعة، والذي منع من الرجوع في المنافع إذا تصدق بها ابن الماجشون.
51
((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون))
أي: هذا باب في ذكر قوله، صلى الله عليه وسلم: العبيد... إلى آخره، ولفظ هذه الترجمة معنى حديث أبي ذر، رواه ابن منده بلفظ: إنهم إخوانكم فمن لاءمكم منهم فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون. وأخرجه أبو داود، قال: حدثنا محمد بن عمرو الرازي، قال: حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تكسون، ومن لا يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله، عز وجل. وأخرج مسلم في آخر (صحيحه) حديثا طويلا عن أبي اليسر كعب بن عمرو في: باب سترة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفيه: وهو يقول، أي: النبي، صلى الله عليه وسلم: أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون.
وقوله تعالى: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار وذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا) * (النساء: 63).
وقوله، بالجر عطف على: قول، في قوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الآية في سورة النساء، كذا هي إلى آخرها في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر: وقول الله: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين) * إلى قوله: * (مختالا فخورا) * (النساء: 63). ففيها يأمر الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه الخالف الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الأحوال، ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين بقوله: * (وبالوالدين إحسانا) * (النساء: 63). لأنه تعالى جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود، ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة، وصله. ثم قال: واليتامى، لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم؟ ثم قال: والمساكين: وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله تعالى بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم:
106

وتزول به ضرورتهم، ثم قال: * (والجار ذي القربى والجار الجنب) * (النساء: 63). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجار ذي القربى، يعني: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب: الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة، وقال أبو إسحاق عن نوف البكالي * (والجار ذي القربى) * (النساء: 63). يعني: المسلم. * (والجار الجنب) * (النساء: 63). يعني: اليهودي والنصاري، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود: * (الجار ذي القربى) * (النساء: 63). المرأة، وقال مجاهد: * (والجار الجنب) * (النساء: 63). يعني: الرفيق في السفر. ثم قال: والصاحب بالجنب، قال الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود، قالا: هي المرأة، قال ابن أبي حاتم: كذا روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة: هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، ثم قال: * (وابن السبيل) * (النساء: 63). وعن ابن عباس وجماعة: هو الضيف، وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك: هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر. ثم قال: * (وما ملكت أيمانكم) * (النساء: 63). هذا وصية بالأرقاء، لأن الرقيق ضعيف الجثة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول: الصلاة الصلاة وما ملكت إيمانكم، فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه، وهذا كان مراد البخاري بذكره هذه الآية الكريمة، وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم. قوله: * (إن الله لا يحب من كان مختالا) * (النساء: 63). أي: في نفسه معجبا متكبرا * (فخورا) * (النساء: 63). على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير وعند الناس بغيض.
قال أبو عبد الله: ذي القربى القريب، والجنب الغريب الجار الجنب يعني الصاحب في السفر
أبو عبد الله: هو البخاري نفسه، هذا الذي فسره هو تفسير أبي عبيدة في كتاب (المجاز).
5452 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة قال حدثنا واصل الأحدب قال سمعت المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه وعليه حلة وعلى
غلامه حلة فسألناه عن ذالك فقال إني ساببت رجلا فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم أعيرته بأمه ثم قال إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم.
(انظر الحديث 03 طرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وواصل هو ابن حيان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف: الكوفي، والمعرور، بفتح الميم وسكون العين المهملة وضم الراء الأولى: وهو من كبار التابعين، يقال: عاش مائة وعشرين سنة، وقد مر الحديث في كتاب الإيمان في: باب المعاصي من أمر الجاهلية، فإنه أخرجه هناك: عن سليمان بن حرب عن شعبة عن واصل... إلى آخره وفيه زيادة، وهي قوله: إنك امرؤ فيك جاهلية. وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.، ولنذكر بعض شيء.
قوله: (حلة)، هي واحدة الحلل، وهي برود، اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. قوله: (ساببت رجلا) قيل: هو بلال، رضي الله تعالى عنه. قوله: (أعيرته؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: (إن إخوانكم)، المراد إخوة الإسلام والنسب، لأن الناس كلهم بنو آدم، عليه السلام. قوله: (خولكم)، أي: حشمكم وخدمكم، وواحد الخول: خائل، وقد يكون واحدا، ويقع على العبد والأمة وهو مأخوذ من التخويل، وهو التمليك، وقيل: من الرعاية. قوله: (تحت يده)، أي: ملكه، وإن كان العبد محترفا فلا وجوب على السيد. قوله: (فليطعمه)، أمر ندب، وكذلك (وليلبسه) وقيل: لمالك، رحمه الله: أيأكل من طعام لا يأكل منه عياله ورقيقه، ويلبس ثيابا لا يلبسون؟ قال: أراه من ذلك في سعة. قيل له: فحديث أبي ذر؟ قال: كانوا يومئذ ليس لهم هذا القوت. قوله: (ولا تكلفوهم ما يغلبهم)، أي: لا تكلفوهم على عمل يغلبهم عن إقامته، وهذا واجب، وكان عمر بن الخطاب
107

رضي الله تعالى عنه، يأتي الحوائط، فمن رآه من العبيد كلف ما لا يطيق وضع عنه، ومن أقل رزقه زاده فيه. قال مالك: وكذلك يفعل فيمن يفعل من الأجراء ولا يطيقه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بالضعيفين: المرأة والمملوك، وأمر صلى الله عليه وسلم موالي أبي طيبة أن يخففوا عنه من خراجه. وفي (التوضيح): التسوية في المطعم والملبس استحباب، وهو ما عليه العلماء، فلو كان سيده يأكل الفائق ويلبس العالي فلا يجب عليه أن يساوي مملوكه فيه، وما أحسن تعليل مالك، وهو ما ذكرناه الآن من قوله: ليس لهم هذا القوت، وإنما كان الغالب من قوتهم التمر والشعير، وقد صح أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق، فإن زاد على ما فرض عليه من قوته وكسوته بالمعروف كان متفضلا متطوعا. وقال ربيعة بن عبد الرحمن: لو أن رجلا عمل لنفسه خبيصا فأكله دون خادمه، ما كان بذلك بأس، وكان يفتي أنه: إذا أطعم خادمه من الخبز الذي يأكل منه فقد أطعمه مما يأكل منه، لأن: من، عند العرب للتبعيض. ولو قال: أطعموهم من كل ما تأكلون، لعم الخبيص وغيره، وكذا في اللباس. قوله: (فإن كلفتموهم) فإن قلت: إذا نهى عن التكليف فكيف عقبه بقوله: فإن كلفتموهم؟ قلت: النهي للتنزيه قاله الكرماني، وفيه نظر، لأن الله تعالى قال: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 682). ولما لم يكلف الله فوق طاقتنا، ونحن عبيده، وجب علينا أن نمتثل لحكمه وطريقته في عبيدنا، وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، مرفوعا: لا تستخدموا رقيقكم بالليل، فإن النهار لكم والليل لهم. وروى معمى عن أيوب عن أبي قلابة يرفعه إلى سلمان: أن رجلأ أتاه وهو يعجن، فقال: أين الخادم؟ قال: أرسلته لحاجة، فلم نكن لنجمع عليه شيئين: أن نرسله ولا نكفيه عمله، ووقف علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، على تاجر لا يعرفه، فاشترى منه قميصين بعشرة دراهم، فقال لعبده: إختر أيهما شئت.
وفيه من الفوائد: النهي عن سب الرقيق وتعييرهم بمن ولدهم. وفيه: الحث على الإحسان إليهم والرفق بهم، ويلحق بالرقيق من كان في معناه من أجير ومستخدم في أمر ونحوهما، وفيه عدم الترفع على المسلم والإحتقار. وفيه: المحافظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه: إطلاق الأخ على الرقيق.
61
((باب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده))
أي: هذا باب في بيان فضل العبد أو في بيان ثوابه إذا أحسن عبادة ربه، بأن أقامها بشروطها. قوله: (ونصح)، من النصيحة، وهي كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، وهو إرادة صلاح حاله وتخليصه من الخلل وتصفيته من الغش.
6452 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العبد إذا نصح سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين.
(الحديث 6452 طرفه في: 0552).
مطابقته للترجمة ظاهرة. والحديث أخرجه مسلم في الإيمان عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الأدب عن القعنبي وهو عبد الله بن مسلمة شيخ البخاري. وفيه: حض المملوك على نصح سيده، لأنه راع في ماله، وهو مسؤول عما استرعى. قوله: (كان له أجره مرتين)، مرة لنصح سيده ومرة لإحسان عبادة ربه.
7452 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن صالح عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موساى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أيما رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران وأيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأيما عبد...) إلى آخره لأن أداء حق الله هو معنى: أحسن عبادة ربه، وأداء حق مواليه هو معنى نصح سيده. وسفيان هو الثوري،
وصالح هو ابن صالح أبو حي الهمداني الكوفي، والشعبي هو عامر، وأبو بردة اسمه الحارث أو عامر، وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس. والنصف الأول من الحديث وهو الذي فيه الجارية قد مر عن قريب في: باب فضل من أدب جاريته، والنصف الثاني وهو الذي فيه أمر العبد قد مر في كتاب العلم في: باب تعليم الرجل أمته وأهله، فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن سلام عن المحاربي عن صالح بن حيان عن الشعبي، وقد مر
108

الكلام فيه هناك، وصالح بن حيان هذا هو صالح بن صالح أبو حي المذكور، غير أن البخاري ذكره هناك بنسبته إلى جده، فإنه صالح بن صالح بن مسلم بن حيان، وليس بصالح بن حيان القرشي الكوفي الذي يروي عن أبي وائل، وقد مضى الكلام فيه هناك مستقصى.
8452 حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال سمعت سعيد بن المسيب يقول قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعبد المملوك الصالح أجران والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، ووقع في كتاب ابن بطال عزو حديث أبي هريرة هذا لأبي موسى الأشعري، وهو غلط، فإنه أسقط حديث أبي موسى وركبه على حديث أبي هريرة، وبشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن محمد السجستاني المروزي، وهو من أفراده، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، ويونس هو ابن يزيد والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب.
والحديث أخرجه مسلم في الأيمان والنذور عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى وفي الأيمان عن زهير بن حرب.
قوله: (للعبد المملوك) إنما وصف العبد بالمملوك، لأن العبد أعم من أن يكون مملوكا وغير مملوك، فإن الناس كلهم عبيد الله. قوله: (الصالح)، أي: في عبادة الرب ونصح السيد. قوله: (أجران)، قال ابن بطال: لما كان للعبد في عبادة ربه أجر، كذلك له في نصح السيد أجر، ولا يقال: الأجران متساويان، لأن طاعة الله تعالى أوجب من طاعته. قوله: (والذي نفسي بيده)، قال ابن بطال: لفظ: (والذي نفسي بيده..) إلى آخره هو من قول أبي هريرة، وكذا قاله الداودي وغيره، وقالوا: يدل على أنه مدرج يعني: الحديث لأنه قال فيه: (وبر أمي)، ولم يكن للنبي، صلى الله عليه وسلم، حينئذ أم يبرها، وجنح الكرماني إلى أنه من كلام الرسول، صلى الله عليه وسلم. ثم قال: فإن قلت: مات أم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو طفل، فما معمى بره أمه؟ قلت: لتعليم الأمة، أو على سبيل فرض الحياة، أو المراد به أمه التي أرضعته، وهي حليمة السعدية. انتهى. قلت: لو اطلع الكرماني على ما اطلع عليه من يدعي الإدراج لما تكلف هذا التأويل المتعسف، وقد صرح بالإدراج الإسماعيلي من طريق آخر عن عبد الله بن المبارك بلفظ: والذي نفس أبي هريرة بيده... إلى آخره، وكذلك أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في كتاب (البر والصلة) عن ابن المبارك، وصرح مسلم أيضا بذلك، فقال: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قالا: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس عن ابن شهاب، سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك الصالح أجران، والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك). قال: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها، قال أبو الطاهر: في حديثه (للعبد المصلح) ولم يذكر المملوك. انتهى. واسم أم أبي هريرة: أميمة، بالتصغير، وقيل: ميمونة، وهي صحابية ثبت ذكر إسلامها في (صحيح مسلم) وبين أبو موسى اسمها في ذيل (المعرفة)، وإنمااستثنى أبو هريرة هذه الأشياء المذكورة لأن الجهاد والحج يشترط فيهما إذن السيد، وكذلك بر الأم، قد يحتاج إلى إذن السيد في بعض وجوهه، بخلاف بقية العبادات البدنية، ولم يتعرض للعبادات المالية إما لكونه كان إذ ذاك لم يكن له مال يزيد على قدر حاجته فيمكنه صرفه في القربات بدون إذن السيد، وإما لأنه كان يرى أن للعبد أن يتصرف في ماله بغير إذنه. فإن قيل: في قوله: أجران، يلزم كون أجر المماليك ضعف أجر السادات؟ قلت: أجاب الكرماني: بأن لا محذور في ذلك، أو يكون أجر المماليك مضاعفا من هذه الجهة، وقد يكون للسادات جهات أخرى يستحق بها أجر العبد، أو يكون المراد ترجيح العبد المؤدي للحقين على العبد المؤدي لأحدهما. والله أعلم. قوله: (لأحببت أن أموت وأنا مملوك)، الواو، فيه للحال. قال الخطابي: ولهذا المعنى امتحن الله، عز وجل، أنبياءه، عليهم السلام، ابتلى يوسف، عليه السلام، بالرق
109

ودانيال حين سباه بختنصر، وكذا ما روي عن خضر، عليه السلام، حين سئل لوجه الله فلم يكن عنده ما يعطيه، فقال لا أملك إلا نفسي، فبعني واستنفق ثمني، ونحو ذلك.
9452 حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا أبو أسامة عن الأعمش قال حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم نعما ما لأحدكم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معناه لأن معناه: نعما للمملوك يحسن عبادة ربه، على ما نبينه عن قريب. وإسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر فذكره بنسبته إلى جده السعدي البخاري، كان ينزل بالمدينة بباب بني سعد وهو من أفراده وأبو أسامة حماد بن أسامة، والأعمش سليمان، وأبو صالح ذكوان الزيات السمان.
قوله: (نعما ما لأحدهم)، بفتح النون وكسر العين وإدغام الميم في الأخرى، ويجوز كسر النون وفتحها أيضا مع إسكان العين وتحريك الميم، فالجملة أربع لغات. قال الزجاج: ما، بمعنى الشيء، فالتقدير: نعم الشيء، وقال ابن التين: وقع في نسخة الشيخ أبي الحسن القابسي: نعم ما، بتشديد الميم الأولى وفتحها، ولا وجه له، والصواب إدغامها في: ما، كما في قوله تعالى: * (إن الله نعما يعظكم به) * (النساء: 85). والمخصوص بالمدح محذوف. قوله: (يحسن) مبين له تقديره: نعما لمملوك لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده.
71
((باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله عبدي أو أمتي))
أي: هذا باب في بيان التطاول أي الترفع والتجاوز عن الحد فيه. قيل: المراد بالكراهة كراهة التنزيه، وذلك لأن الكل عبيد الله،، والله لطيف بعباده رفيق بهم، فينبغي للسادة امتثال ذلك في عبيدهم، ومن ملكهم الله إياهم، ويجب عليهم حسن الملك ولين الجانب، كما يجب على العبيد حسن الطاعة والنصح لسادتهم والانقياد لهم وترك مخالفتهم. قوله: (وقوله)، بالجر، عطف على: كراهية التطاول، والتقدير: وكراهية قول الشخص لمن يملكه من العبيد: عبيدي، ولمن يملك من الجواري: أمتي، والكراهة فيه أيضا للتنزيه من غير تحريم.
وجه الكراهة: أن هذا الاسم من باب المضاف ومقتضاه إثبات العبودية له، وصاحبه الذي هو المالك عبد لله تعالى متعبد بأمره ونهيه، فإدخال مملوك الله تعالى تحت هذا الاسم يوجب الشرك، ومعنى المضاهاة، فلذلك استحب له أن يقول: فتاي وفتاتي، والمعنى في ذلك كله يرجع إلى البراءة من الكبر، والأليق بالشخص الذي هو عبد الله ومملوك له أن لا يقول: عبدي، وإن كان قد ملك قياده في الاستخدام ابتلاء فيه من الله بخلقه، قال الله تعالى: * (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) * (الفرقان: 02). وقال الداودي: إن قال عبدي أو أمتي ولم يرد التكبر فأرجو أن لا إثم عليه.
وقال الله تعالى * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) * (النور: 23). وقال: * (عبدا مملوكا) * (النحل: 57). * (وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 52). وقال * (من فتياتكم المؤمنات) * (النساء: 52). وقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم * (واذكرني عند ربك) * (يوسف: 24). أي سيدك ومن سيدكم
ذكر هذا كله دليلا لجواز أن يقول: عبدي وأمتي، وأن النهي الذي ورد في الحديث عن قول الرجل: عبدي وأمتي. وعن قوله: إسق ربك، ونحوه للتنزيه لا للتحريم. قوله: * (والصالحين من بادكم وإمائكم) * هو في سورة النور، وأوله: * (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) * (النور: 23). ولما أمر الله تعالى قبل هذه الآية بغض الأبصار وحفظ الفروج، بقوله: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) * (النساء: 52). الآية، بين بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل، فبين بعد ذلك طريق الحل، فقال: * (وأنكحوا الأيامى) * (النور: 23). أصلها: أيائم، فقلب، والأيم للرجل والمرأة، فالأيامي: هم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيم وامرأة إيم وأيمة. وآم الرجل وآمت المرأة بأيم أيمة، وأيوما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين، وقال ابن بطال: جاز أن يقول الرجل: عبدي وأمتي، لقوله تعالى: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) * (النور: 23). وإنما نهى عنه على سبيل الغلظة لا على سبيل التحريم، وكره ذلك لاشتراط اللفظ، إذ يقال: عبد الله
110

وأمة الله. قوله: (وقال * (عبدا مملوكا) * (النحل: 57)) هو في سورة النحل، وأوله: * (وضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء...) * (النحل: 57). الآية، وقد مر الكلام فيه في أول: باب من ملك العرب رقيقا. قوله: * (وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 52) هو في سورة يوسف، وقبله: * (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 52). الآية، والقصة مشهورة، والمعنى: تسابقا إلى الباب يعني: يوسف وزليخا فنفر يوسف عنها فأسرع يريد الباب ليخرج، وأسرعت زليخا وراءه لتمنعه من الخروج، وقدت قميصه من دبر لأنها جبذته من خلفه فشقت قميصه، وألفيا سيدها أي: صادفا ولقيا بعلها، وهو قطفير، وإنما قال: سيدها، ولم يقل: سيدهما، لأن ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيدا له على الحقيقة. قوله: (وقال: * (من فتياتكم المؤمنات) * (النساء: 52)) هو في سورة النساء، وأوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات...) * (النساء: 52). الآية، يعني: منه لم يجد منكم طولا أي: سعة وقدرة أن ينكح المحصنات المؤمنات من الحرائر العفائف والمؤمنات، فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون، والفتيات جمع فتاة وهي: الآمة. قوله: (وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم)، هو قطعة من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه البخاري في المغازي على ما يأتي، فقال: حدثني محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن سعد، قال: سمعت أبا أمامة، قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، رضي الله تعالى عنه، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: (قوموا إلى سيدكم...) الحديث، وخاطب الأنصار بقوله: (قوموا إلى سيدكم) يريد به سعد بن معاذ، فمن هذا أخذ أن لا يمنع العبد أن يقول: سيدي ومولاء، لأن مرجع السيادة إلى معنى الرياسة على من تحت يده والسياسة له وحسن التدبير، ولذلك سمى الزوج سيدا، كما في قوله تعالى: * (وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 52). وقد قيل لمالك: هل كره أحد بالمدينة قوله لسيده: يا سيدي؟ قال: لا. واحتج بهذه الآية، وقوله تعالى: * (وسيدا وحصورا) * (آل عمران: 93). قيل له: يقولون: السيد هو الله؟ قال: أين هو في كتاب الله تعالى؟ وإنما في القرآن: * (رب اغفر لي ولوالدي) * (نوح: 82). قيل: أنكر أن يدعو يا سيدي. قال: ما في القرآن أحب إلي، ودعاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وقد قال بعض أهل اللغة: إنما سمى السيد لأنه يملك السواد الأعظم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحسن: إن ابني هذا سيد. قوله: (* (واذكرني عند ربك) * (يوسف: 24)) هو في سورة يوسف وأوله: * (وقال للذي ظن أنه ناج منهما: أذكرني عند ربك...) * (يوسف: 24) الآية، وقصته مشهورة، معناه: صفني عند الملك بصفتي، وقص عليه بقصتي لعله يرحمني ويخرجني من السجن، فلما وكل أمره إلى غير الله أمكثه في السجن سبع سنين. وقال الخطابي: لا يقال أطعم ربك، لأن الإنسان مربوب مأمور بإخلاص التوحيد وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة بالاسم. وأما غيره من سائر الحيوان والجماد فلا بأس بإطلاق هذا الاسم عليه عند الإضافة، كقولهم: رب الدار، ورب الدابة، وقال الكرماني: قد ورد في القرآن مثل قوله: * (إنه ربي أحسن مثواي) * (يوسف: 32). * (واذكرني عند ربك) * (يوسف: 24). قلت: ذاك شرع من قبلنا. فإن قلت: كما أنه لا
رب حقيقة غير الله، كذا لا سيد ولا مولى حقيقة أيضا إلا الله تعالى، فلم جاز هذا وامتنع هذا؟ قلت: التربية الحقيقية مختصة بالله تعالى، بخلاف السيادة فإنها ظاهرة، بعض الناس سادات على الآخرين، وأما المولى فقد جاء بمعاني بعضها لا يصح إلا على المخلوق. قوله: (ومن سيدكم؟) هذه اللفظة سقطت من رواية النسفي وأبي ذر وأبي الوقت، وثبتت في رواية الباقين، وهي قطعة من حديث أخرجه البخاري في (الأدب المفرد) من طريق حجاج الصواف عن أبي الزبير، قال: حدثنا جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني سلمة؟) قلنا: الجد بن قيس على أنا نبخله. قال وأي داى أدوى من البخل؟ بل سيدكم عمرو بن الجموح، وكان عمرو على أصنامهم في الجاهلية، وكان يولم عن رسول لله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج. وأخرجه الحاكم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه. والحد، بفتح الجيم وتشديد الدال: هو ابن قيس بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم، بسكون النون: ابن كعب بن سلمة، بكسر اللام، يكنى أبا عبد الله، وقال أبو عمر: كان يرمى بالنفاق، ويقال: إنه تاب وحسنت توبته وعاش إلى أن مات في خلافة عثمان، رضي الله تعالى عنه. وأما عمرو بن الجموح، بفتح الجيم وضم الميم المخففة وفي آخره حاء مهملة: فهو ابن زيد بن حرام، بمهملتين: ابن كعب بن غنم بن سلمة، قال ابن إسحاق: كان ما سادات بني سلمة، وقال الذهبي: عقبي، وفي قول: بدري، استشهد يوم أحد، هو وابنه خلاد. فإن قلت: ذكر ابن منده من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سيدكم يا بني سلمة؟) قالوا: جد بن قيس، فذكر الحديث، فقال: سيدكم
111

بشر بن البراء بن معرور)، بسكون العين المهملة: ابن صخر، يجتمع مع عمرو بن الجموح في صخر؟ قلت: اختلف في وصله وإرساله على الزهري، على أنه يمكن التوفيق بأن تحمل قصة بشر على أنها كانت بعد قتل عمرو بن الجموح، ومات بشر المذكور بعد خيبر، أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة، وكان قد شهد العقبة وبدرا، ذكره ابن إسحاق.
0552 حدثنا مسدد قال أخبرنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نصح العبد سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين.
(انظر الحديث 6452).
مطابقته للترجمة من حيث إن العبد إذا نصح سيده وأحسن عبادة ربه، يكره تطاول مولاه عليه، وهذا الحديث مضى في أول: باب العبد إذا أحسن عبادة ربه، ويحيى هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وأخرجه مسلم في العتق وفي النذور عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى.
1552 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موساى رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المملوك الذي يحسن عبادة ربه ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة له أجران.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ويؤدي إلى سيده...) إلى آخره، لأنه إذا قام بما ذكر فيه يكره التطاول عليه. والحديث مضى في كتاب العلم في: باب تعليم الرجل أمته، وعن قريب في: باب العبد إذا أحسن عبادة ربه، مع زيادة ونقصان، يظهر ذلك عند النظر بالتأمل. وأبو أسامة حماد بن أسامة، وبريد، بضم الباء الموحدة: ابن عبد الله بن أبي بردة، واسمه الحارث أو عامر بن أبي موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس. قوله: (المملوك) مبتدأ وخبره الجملة، وهي قوله: (له أجران)، ويروى: للمملوك، فإن صحت هذه الرواية يكون قوله: أجران مبتدأ، وقوله: للمملوك، مقدما خبره. ولا يكون في هذه الرواية لفظة: له.
2552 حدثنا محمد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك اسق ربك وليقل سيدي ومولا ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا يقل أحدكم عبدي أمتي) فإن من جملة الترجمة قوله: عبدي وأمتي.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: محمد، لم يذكر محمد هذا منسوبا في أكثر الروايات إلا في رواية أبي علي بن شبويه، فقال: حدثنا محمد بن سلام، وكذا حكاه الجياني عن رواية ابن السكن، وحكى عن الحاكم أنه الذهلي. وقد أخرج مسلم هذا الحديث في الأدب عن محمد ابن رافع عن عبد الرزاق. ولا يبعد أن يكون محمد هذا هو محمد بن رافع، لأنه روى عنه أيضا في (الصحيح). الثاني: عبد الرزاق بن همام. الثالث: معمر بن راشد. الرابع: همام بن منبه. الخامس: أبو هريرة.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع. وفيه: تحديث أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بهذه الصيغة نادر.
قوله: (أطعم) بفتح الهمزة أمر من الإطعام، (وربك) منصوب مفعوله. قوله: (وضىء)، أمر بمن: وضأه يوضئه. قوله: (إسق)،، بكسر الهمزة: أمر من سقاه يسقيه، تثبت في الابتداء وتسقط في الدرج. قوله: (وليقل سيدي ومولاي)، وقال الكرماني: السياق يقتضي أن يقال: سيدك ومولاك، لتناسب: ربك. قلت: الأول خطاب للسادات. والثاني: للمماليك. أي: لا يقول السيد المملوك: أطعم ربك، إذ فيه نوع من التكبر، ولا يقول العبد أيضا لفظا
112

يكون فيه نوع تعظيم له، بل يقول: أطعمت سيدي ومولاي ونحوه. قلت: روى مسلم والنسائي من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في ذا الحديث نحوه، وزاد: ولا يقل أحدكم مولاي، فإن مولاكم الله. قلت: اختلفوا في هذه الزيادة على الأعمش، منهم من ذكرها، ومنهم من حذفها، وقال عياض: حذفها أصح، وقال
القرطبي: المشهور حذفها، قال: وإنما صرنا إلى الترجيح للتعارض مع تعذر الجمع وعدم العلم بالتاريخ. وسبب النهي عن قول: أطعم ربك، ونحوه ما ذكرناه في أوائل الكتاب. وقال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله: رب، كما لا يجوز أن يقال: إله. قلت: النهي عند الإطلاق، وأما الإضافة فيجوز، كما في * (أذكرني عند ربك) * (يوسف: 24). ونحو ذلك، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرد ما في القرآن، إذ المراد النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة. فإن قلت: ذكر قوله: (أطعم ربك، وضىء ربك، إسق ربك)، أمثلة تدل على التخصيص أم لا؟ قلت: لا، وإنما ذكرت دون غيرها لغلبة استعمالها في المخاطبات. قوله: (ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي)، زاد مسلم في روايته، من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة: (كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله)، فأرشد، صلى الله عليه وسلم، إلى العلة، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله، عز وجل، ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق استعماله لنفسه. قوله: (وليقل: فتاي وفتاتي)، زاد مسلم: وجاريتي، فأرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ما يؤدي المعني مع السلامة من التعاظم، لأن لفظ: الفتى والغلام، لا يدل على محض الملك كدلالة العبد، فقد كثر استعمال الفتى في الحر، وكذلك الغلام والجارية، وقال النووي: المراد بالنهي من استعمله على جهة التعاظم لا من أراد التعريف.
3552 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا جرير بن حازم عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق نصيبا له من العبد فكان له من المال ما يبلغ قيمته يقوم عليه قيمة عدل وأعتق من ماله وإلا فقد عتق منه ما عتق.
مطابقته للترجمة من حيث إنه لو لم يحكم عليه بعتق كله عند اليسار لكان بذلك متطاولا عليه، وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي. والحديث مضى في كتاب العتق في: باب إذا أعتق عبدا بين اثنين، فإنه أخرجه هناك عن أبي النعمان عن حداد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر... إلى آخره.
4552 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلكم راع فمسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (والعبد راع على مال سيده) فإنه إذا كان ناصحا له في خدمته مؤديا الأمانة ينبغي أن يعينه ولا يتطاول عليه. ويحيى هو القطان، وعبيد الله هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري. وأخرجه مسلم في المغازي عن عبيد الله بن سعيد. والحديث مضى أيضا في آخر كتاب الاستقراض في: باب العبد راع في مال سيده، فإنه أخرجه هناك: عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر، وأخرجه أيضا في كتاب الجمعة في: باب الجمعة في القرى والمدن: عن بشر بن محمد عن عبد الله عن يونس عن الزهري عن سالم... إلى آخره.
113

6552 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا سفيان عن الزهري قال حدثنا عبيد الله قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها في الثالثة أو الرابعة يبيعوه ولو بضفير.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من حيث إن الأمة إذا زنت لا يكره التطاول عليها، وإنما يكره التطاول إذا نصحت سيدها وأدت حق الله فإذا زنت أخلت بالاثنين، فتؤدب، فإن لم ينجع تباع، ولو بيعت بضفير، بفتح الضاد المعجمة وكسر الفاء: وهو الحبل المفتول، والحديث مضى فقي كتاب البيوع في: باب بيع العبد الزاني، فإنه أخرجه هناك من طريقين، ومضى الكلام فيه هناك مستوفى. ومالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم أبو غسان النهدي الكوفي، وسفيان هو ابن عيينة، وعبيد الله هو ابن عبد الله ابن عتبة بن مسعود.
81
((باب إذا أتاه خادمه بطعامه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أتى الشخص خادمه، وهو الذي يخدمه، سواء كان عبدا أو حرا، ذكرا كان أو أنثى، وجواب: إذا، محذوف تقديره: فليجلسه معه فإن لم يجلسه فليناوله لقمة أو لقمتين، وإنما طوى ذكره اكتفاء بما ذكر في الحديث.
7552 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا شعبة قال أخبرني محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه.
(الحديث 7552 طرفه في: 0645).
مطابقته للترجمة ظاهرة. ومحمد بن زياد، بكسر الزاء وتخفيف الياء آخر الحروف، مر في: باب غسل الأعقاب، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأطعمة عن حفص بن عمر عن شعبة.
قوله: (فإن لم يجلسه معه)، معطوف على مقدر تقديره: فليجلسه معه. قوله: (أو أكلة)، شك من الراوي، والأكلة، بضم الهمزة: اللقمة. قوله: (علاجه) مصدر عالج يعالج، والمعنى هنا: ولي عمله. وقوله: ولي، إما من الولاية، أي: تولى ذلك، وإما من الولي، وهو القرب أي: قاسى كلفة اتخاذه.
وفيه: الحث على مكارم الأخلاق، وهو المواساة في الطعام لا سيما في حق من صنعه وحمله، لأنه تحمل حره ودخانه وتعلقت به نفسه وشم رائحته، قال المهلب: هذا الحديث يفسر حديث أبي ذر في التسوية بين العبد والسيد، أنه على سبيل الندب، لأنه لم يوسه في هذا الحديث في المواكلة، والله أعلم.
91
((باب العبد راع في مال سيده))
أي: هذا باب يذكر فيه العبد راع في مال سيده، فإذا كان راعيا يلزمه حفظه، وهذه الترجمة بعينها مضت في آخر كتاب الاستقراض.
ونسب النبي صلى الله عليه وسلم المال إلى السيد
كأنه أشار بذلك إلى حديث ابن عمر: من باع عبدا وله مال، فماله للسيد إلا أن يشترطه المبتاع، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، والعبد لا يملك شيئا، لأن الرق مناف للملك، وماله لسيده عند بيعه وعند عتقه، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب والثوري وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: ماله دون سيده في العتق، والبيع، روي ذلك عن عمر وابنه وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وبه قال النخعي والحسن.
8552 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله عن
114

عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع ومسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته قال فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم قال والرجل في مال أبيه راع ومسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
.
مطابقته للترجمة في قوله: والخادم في مال سيده راع، والمراد من الخادم هنا العبد، وإن كان يتناول غيره ممن يخدم غيره، وأبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي، وشعيب هو ابن أبي حمزة الحمصي، والحديث قد مر في الباب السابق، وفي غيره فيما مضى، وقد بيناه في الباب السابق.
02
((باب إذا ضرب العبد فليجتنب الوجه))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا ضرب الرجل عبده لأجل التأديب، فليجتنب وجهه إكراما له، قال المهلب: لأن الله خلقه بيده. قلت: يعني: بقدرته البالغة الكاملة، وسيجئ مزيد الكلام فيه، إن شاء الله تعالى.
9552 حدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثنا ابن وهب قال حدثني مالك بن أنس قال وأخبرني ابن فلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه.
مطابقته للترجمة من حيث إنه إذا وجب احتناب الوجه عند القتال مع الكافر، فاجتناب وجه العبد المؤمن أوجب.
وأخرج هذا الحديث من طريقين:
أحدهما: عن محمد بن عبيد الله أبي ثابت المدني، مولى عثمان بن عفان، وهو من أفراده، وابن وهب هو عبد الله بن وهب. قوله: (قال وأخبرني ابن فلان)، أي: قال ابن وهب: حدثني مالك وابن فلان، كلاهما عن سعيد المقبري، قيل: لم يصرح باسم ابن وهب لضعفه، قال المزي: يقال: هو ابن سمعان، يعني: عبد الله بن زياد بن سليمان بن سمعان المدني، وكذا قال أبو نصر الكلاباذي وغيره، وروى عن أبي ذر الهروي في روايته عن المستملي، كذلك، وقد أخرجه الدارقطني في (غرائب مالك) من طريق عبد الرحمن بن خراش، بكسر الخاء المعجمة، عن البخاري قال: حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله المدني، فذكر الحديث، لكن قال بدل قوله ابن فلان ابن سمعان، فكأنه لم يصرح باسمه في الصحيح، بل كنى به لأجل ضعفه. وقال الكرماني: ويقال: إن مالكا كذبه، وهو أحد المتروكين. قلت: كذبه أحمد وغيره أيضا وماله في البخاري شيىء إلا هذا الموضع.
الطريق الثاني: عن عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي البخاري، المعروف بالمسندي عن عبد الرزاق بن همام عن همام بن منبه الأنباري، ولم يسق الحديث على لفظ هذا الطريق. وأخرجه مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: فليتق، بدل: فليتجنب، وله من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: إذا ضرب، وكذا في رواية النسائي من طريق عجلان، ولأبي داود من طريق أبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: هذا يفيد على أن لفظ: قاتل، بمعنى: قتل، وأن المفاعلة ليست على ظاهرها. قلت: لا نسلم ذلك، بل باب المفاعلة على حالها ليتناول ما يقع عند أهل العدل مع البغاة، وعند دفع الصائل، فيجتنبون عند ذلك عن الضرب على الوجه، فإذا وجب الاجتناب في مثل هذا الموضع، ففي باب التعزير والتأديب والحدود بطريق الأولى في الوجوب، وقد روى أبو داود وغيره في حديث أبي بكرة في قصة التي زنت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، برجمها، وقال: إرموا واتقوا الوجه، فإذا كان ذلك في حق من تعين إهلاكه، فمن دونه أولى.
وقال النووي: قال العلماء، إنما نهى عن ضرب الوجه لأنه لطيف
115

يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه فيخشى من ضربه أن يبطل أو يتشوه كلها أو بعضها، والشين فيه فاحش لبروزه وظهوره، بل لا يسلم إذا ضرب غالبا من شين. انتهى. وهذا تعليل حسن، ولكن روى مسلم، وفي روايته تعليل آخر، فإنه روى الحديث من طريق أبي أيوب المراعي عن أبي هريرة، وزاد: فإن الله خلق آدم على صورته. واختلف في مرجع هذا الضمير، فعند الأكثرين: يرجع إلى المضروب، وهذا حسن، وقال القرطبي: أعاد بعضهم الضمير على الله، متمسكا بما ورد من ذلك في بعض طرقه أن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، وأنكر المازري وغيره صحة هذه الزيادة ثم قال: وعلى تقدير صحتها يحمل على ما يليق بالباري سبحانه، عز وجل. قيل: كيف ينكر هذه الزيادة وقد أخرجها ابن أبي عاصم في السنة، والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات، وأخرجها أيضا ابن أبي عاصم من طريق أبي يوسف عن أبي هريرة بلفظ يرد التأويل الأول؟ قال: من قاتل فليجتنب الوجه فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن، فإذا كان الأمر كذلك تعين إجراؤه على ما تقرر بين أهل السنة من إمراره، كما جاء من غير اعتقاد تشبيه أو يؤول على ما يليق بالرحمن سبحانه وتعالى. فإن قلت: ما حكم هذا النهي؟ قلت: ظاهره التحريم، والدليل عليه ما رواه مسلم من حديث سويد بن مقرن أنه رأى رجلا لطم غلامه، فقال: أما علمت أن الصورة محرمة؟.
بسم الله الرحمان الرحيم
05
((كتاب المكاتب))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام المكاتب، ووقع هكذا: في المكاتب، من غير ذكر لفظ: كتاب، ولا لفظ: باب، والبسملة موجودة عند الكل. والمكاتب، بفتح التاء: هو الرقيق الذي يكاتبه مولاه على مال يؤديه إليه بحيث إنه إذا أداه عتق، وإن عجز رد إلى الرق، وبكسر التاء: هو مولاه الذي بينهما عقد الكتابة، والكتابة أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على ألف درهم مثلا، ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت المال، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك، أو كتبت عليك وفاء المال، وكتبت على العتق. واشتقاقها من: الكتب، وهو الجمع، يقال: كتبت الكتاب إذا جمعت بين الكلمات والحروف، وسمى هذا العقد كتابة لما يكتب فيه، وهو الذي ذكرناه. فإن قلت: سائر العقود يوجد فيها معنى الكتابة، فلم لا تسمى بهذا الاسم؟ قلت: لئلا تبطل التسمية كالقارورة، سميت بهذا الاسم لقرار المائع فيها، ولم يسم الكوز ونحوه قارورة، وإن كان يقر المائع فيه، لئلا تبطل الأعلام والكتابة شرعا عقد بين المولى وعبده، بلفظ الكتابة أو ما يؤدى معناه من كل وجه يوجب التحرير يدا في الحال ورقبة في المال، وقال الروياني: الكتابة إسلامية ولم تكن تعرف في الجاهلية، ورد عليه بأنها كانت متعارفة قبل الإسلام فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن خزيمة في كلامه على حديث بريرة: قيل: إن بريرة أول مكاتبة في الإسلام، وقد كانوا يتكاتبون في الجاهلية بالمدينة. وفي (التوضيح): واختلف في أول من كوتب في الإسلام فقيل: سلمان الفارسي، رضي الله تعالى عنه، كاتب أهله على مائة ودية نجمها لهم، فقال، صلى الله عليه وسلم: إذا غرستها فاذني. قال: فلما غرستها آذنته فدعا فيها بالبركة، فلم تفت منها ودية واحدة. وقيل: أول من كوتب أبو المؤمل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعينوه)، فقضى كتابته وفضلت عنده، فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عليه السلام: (انفقها في سبيل الله). وأول من كوتب من النساء: بريرة، وأول من كوتب بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو أمية، مولى عمر، رضي الله تعالى عنه، ثم سيرين مولى أنس.
((باب إثم من قذف مملوكه المكاتب))
أي: هذا باب في بيان إثم من قذف مملوكه الذي كاتبه، كذا وقع في هذا الباب هنا في بعض النسخ، ولم يذكر فيه حديث أصلا ولا له وجه في دخوله أبواب المكاتب، وقد ترجم في كتاب الحدود: باب قذف المملوك، وأورد فيه حديثه، على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى. قيل: كان البخاري ترجم بهذا الباب وأخلى بياضا ليكتب فيه الحديث الوارد فيه، فكأنه لما لم يظفر به تركه هكذا.
116

1
((باب المكاتب ونجومه في كل سنة نجم))
أي: هذا باب في بيان أمر المكاتب، وأمر نجومه، وهو جمع نجم، وهو في الأصل: الطالع، ثم سمي به الوقت، ومنه قول الشافعي: أقل التأجيل نجمان، أي: شهران، ثم سمي به ما يؤدى به من الوظيفة، يقال: دين منجم، جعل نجوما، وقال الرافعي: النجم في الأصل الوقت، وكانت العرب يبنون أمورهم على طلوع النجم لأنهم لا يعرفون الحساب، فيقول أحدهم: إذا طلع نجم الثريا أديت حقك، فسميت الأوقات نجوما، ثم سمى المؤدى في الوقت نجما، وقيل: أصل هذا من نجوم الأنواء، لأنهم كانوا لا يعرفون الحساب، وإنما يحفظون أوقات السنة بالأنواء. قوله: (في كل سنة نجم)، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون: نجم، مرفوعا بالابتداء، وخبره هو قوله مقدما: في كل سنة، وتكون الجملة في محل الرفع على الخبرية. والوجه الثاني: يأتي على رواية النسفي أن لفظة نجم ساقطة، وهو أن يكون قوله: في كل سنة، نصبا على الحال من: نجومه، وقال بعضهم: عرف من الترجمة اشتراط التأجيل في الكتابة، وهو قول الشافعي، بناء على أن الكتابة مشتقة من الضم، وهو ضم بعض النجوم إلى بعض، وأقل ما يحصل به الضم نجمان، ثم ذكر بعد أسطر: ولم يرد المصنف أي: البخاري بقوله: في كل سنة نجم، أن ذلك شرط فيه، فإن العلماء اتفقوا على أنه لو وقع النجم بالأشهر جاز، وفيه ما فيه.
وقوله * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * (النور: 33).
هذه الآية الكريمة في سورة النور. وقيل قوله: * (والذين يبتغون وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون) * (النور: 23). وبعده
: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * إلى قوله: * (غفور رحيم) * (النور: 43). ولما ذكر الله تعالى تزويج الحرائر والإماء والأحرار والعبيد ذكر حال من يعجز عن ذلك، ثم قال: * (والذين يبتغون) * (النور: 33). أي: يطلبون، من: البغية، وهو الطلب. قال الزمخشري: والذين يبتغون، مرفوع على الابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره: فكاتبوهم، كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط. قوله: * (الكتاب) * (النور: 33). منصوب، وأنه مفعول: يبتغون. الكتاب والمكاتبة، كالعتاب والمعاتبة، وهي مفاعلة بين اثنين، وهما: السيد وعبده، فيقال: كاتب يكاتب مكاتبة وكتابا، كما يقال: قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا، ومعنى: يبتغون الكتاب، أي: المكاتبة. قوله: (فكاتبوهم) خبر المبتدأ: الذين يبتغون. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور على الندب، وقال داود: على الوجوب إذا سأله العبد أن يكاتبه، وروي ذلك عن عكرمة أيضا. وقال عطاء: يجب عليه، إن علم أن له مالا، وفي (تفسير النسفي): وقيل: هو أمر إيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر، وهو قول داود ومحمد بن جرير من الفقهاء، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. واحتج من نصر هذا القول بما روى قتادة: أن سيرين سأل أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، أن يكاتبه، فلكأ عليه فشكاه إلى عمر، رضي الله تعالى عنه، فعلاه بالدرة وأمره بالكتابة على ما يجيء واحتجوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزى يقال له: صبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب. انتهى. قلت: سيرين، بكسر السين المهملة مولى أنس بن مالك، وهو من سبي عين التمر الذين أسرهم خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، قوله: فلكأ عليه، أي: توقف وتباطىء، وكذلك تلكأ. قوله: فعلاه بالدرة، وهي بكسر الدال وتشديد الراء، وهي الآلة التي يضرب بها. وقصة سيرين رواها ابن سعد، فقال: أخبرنا محمد بن حميد العبدي عن معمر عن قتادة، قال: سأل سيرين أبو محمد أنس بن مالك الكتابة فأبى أنس، فرفع عمر بن الخطاب عليه الدرة، وقال: كاتبه، فكاتبه، وقال: أخبرنا معمر بن عيسى حدثنا محمد بن عمر وسمعت محمد بن سيرين: كاتب أنس أبي على أربعين ألف درهم. وحويطب بن عبد العزى القرشي العامري أبو محمد، وقيل: أبو الأصبع من المؤلفة قلوبهم شهد حنينا ثم حمد إسلامه وعمر مائة وعشرين سنة وله رواية. وصبيح غلامه، بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة، وقصته رواها سلمة ابن الفضل عن محمد بن إسحاق عن خالد عبد الله بن صبيح عن أبيه، قال: كنت مملوكا لحويطب، فسألته فنزلت: * (والذين
117

يبتغون) * (النور: 33). الآية. وحجة الجمهور في هذا أن الإجماع منعقد على أن السيد لا يجبر على بيع عبده وإن ضوعف له في الثمن، وإذا كان كذلك فالأحرى والأولى أن لا يخرج عن ملكه بغير عوض، لا يقال: إنها طريق العتق والشارع متشوف إليه فحالف البيع، لأنا نقول: التشوف إنما هو في محل مخصوص، وأيضا الكسب له، فكأنه قال: أعتقني مجانا. وأما الآثار التي دلت على الوجوب فسيأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى.
قوله: * (إن علمتم فيهم خيرا) * (النور: 33). اختلفوا في المراد بالخير، فقال الثوري: هو القوة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتبوا عليه، وعن الليث مثله، وكره ابن عمر كتابة من لا حرفة له، وكذا روي عن سلمان، وقال الحسن البصري: الصدق والأمان والوفاء، وقال بعضهم: الصلاح وإقامة الصلاة، وقال مجاهد: المال، وكذا نقل عن عطاء وأبي رزين، وكذلك روي عن ابن عباس، وفي (المصنف): وكتب عمر إلى عمير بن سعد أنه: من قبل من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس، وقال ابن حزم: قالت طائفة: المال، فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي نزله به القرآن أنه: لو أراد، عز وجل، المال لقال: إن علمتم لهم خيرا، أو عندهم، أو معهم خيرا، لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب، ولا يقال أصلا: في فلان مال، فعلمنا أنه تعالى لم يرد به المال، فصح أنه الدين. وروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: أاكاتب وليس لي مال؟ فقال: نعم، فصح عنده أن الخير عنده لم يكن المال. وقال الطحاوي: من قال: إنه المال، لا يصح عندنا، لأن العبد نفسه مال لمولاه، فكيف يكون له مال؟ والمعنى عندنا: إن علمتم فيهم الدين والصدق وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتاب والصدق في المعاملة، فكاتبوهم. قوله: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * (النور: 33). أي: أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى. اختلف في المخاطبين من هم؟ فقيل: الأغنياء الذين يجب عليهم الزكاة، أمروا أن يعطوا المكاتبين، وقيل: السادة أمروا بإعانتهم، وهو أن يحط عنهم من مال الكتابة شيئا. واختلف في الإيتاء: هل هو واجب؟ فذهب الشافعي إلى أنه واجب، وقال أبو حنيفة ومالك: ليس بواجب، والأمر فيه على الندب والحض أن يضع الرجل عن عبده من مال كتابته شيئا مسمى به يستعين على الخلاص، واختلفوا فيه أيضا: هل هو مقدار معين؟ فقال الشافعي: هو غير مقدر ولكنه واجب، كما ذكرنا، وهو المنقول عن سعيد بن جبير، وقال أحمد: هو ربع المال، وهو المروي أيضا عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وعن ابن مسعود: الثلث، وقال الزمخشري: وآتوهم، أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله: وفي الرقاب، عند أبي حنيفة وأصحابه، وقيل: معنى: آتوهم، أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا أو يعتقوا، وهذا كله مستحب، وقال ابن بطال: قول الجمهور أولى، لأنه، صلى الله عليه وسلم، لم يأمر موالي بريرة بإعطائها شيئا، وقد كوتبت وبيعت بعد الكتابة، ولو كان الإيتاء واجبا لكان مقدرا كسائر الواجبات، حتى إذا امتنع السيد من جعله ادعاه عند الحاكم، فأما دعوى المجهور فلا يحكم بها، ولو كان الإيتاء واجبا وهو غير مقدر لكان الواجب للمولى على المكاتب هو الباقي بعد الحط، فأدى ذلك إلى جهل مبلغ الكتابة، وذلك لا يجوز.
وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجبا
روح هو ابن عبادة، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وعطاء هو ابن أبي رباح. وهذا التعليق رواه ابن حزم من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج به.
وقال عمرو بن دينار قلت لعطاء تأثره عن أحد قال لا ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة وكان كثير المال فأباى فانطلق إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال كاتبه فأبى فضربه بالدرة ويتلو عمر * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * (النور: 33) فكاتبه
118

هكذا وقع: قال عمرو، بدون الضمير المنصوب بعد قال في النسخ المروية عن الفربري، وظاهره يدل على أن هذا الأثر من عمرو بن دينار عن عطاء، قيل: ليس كذلك، لأن النسخة المعتمد عليها من رواية النسفي عن البخاري هكذا، وقاله عمرو بن دينار، بالضمير المنصوب بعد: قال، أي: قال القول المذكور عمرو بن دينار، وفاعل: قلت، هو ابن جريج لا عمرو بن دينار، حاصله أن عمرو ببن دينار قال مثل ما قال عطاء في سؤال ابن جريج عنه، لا أن عمرا سأل ذلك عن عطاء مثل ما سأل ابن جريج. قوله: (تأثره) أي: ترويه عن أحد من: أثر يأثر أثرا، يقال: أثرت الحديث أثره إذا ذكرت عن غيرك، ومنه قيل: حديث مأثور، أي: ينقله خلف عن سلف. قوله: (قال: لا) أي: لا آثره عن أحد. قوله: (ثم أخبرني) القائل بهذا هو ابن جريج، والمخبر هو عطاء، كذا وقع مصرحا في رواية إسماعيل القاضي في (أحكام القرآن) ولفظه: قال ابن جريج: وأخبرني عطاء أن موسى بن أنس أخبره.. ابن سيرين وهو أبو محمد بن سيرين، وقد ذكرنا عن قريب. وظاهره الإرسال، لأن موسى لم يدرك وقت سؤال سيرين من أنس الكتابة، وقد رواه عبد الرزاق والطبري من وجه آخر متصل من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس، رضي الله تعالى عنه، قال: أرادني سيرين على المكاتبة فأبيت، فأتى عمر بن الخطاب فذكر نحوه. قوله: (فأبى) أي: امتنع من فعل الكتابة. قوله: (فانطلق إلى عمر)، وفي رواية إسماعيل بن إسحاق: فاستعداه عليه، وزاد في آخر القصة: فكاتبه أنس، وقد ذكرنا عن ابن سعد أنه: كاتبه على أربعين ألف درهم.
فإن قلت: روى البيهقي من طريق أنس بن سيرين عن أبيه قال: كاتبني أنس على عشرين ألف درهم. قلت: أجيب بأنهما إن كانا محفوظين يحمل أحدهما على الوزن والآخر على العدد. فإن قلت: ضرب عمر أنسا، رضي الله تعالى عنهما، يدل على أن عمر كان يرى بوجوب الكتابة. قلت: قال ابن القصار: إنما علا عمر أنسا بالدرة على وجه النصح لأنس، ولو كانت الكتابة لزمت أنسا ما أبى، وإنما ندبه عمر إلى الأفضل. انتهى. وفيه نظر لا يخفى، لأن الضرب غير موجه على ترك المندوب، خصوصا من مثل عمر لمثل أنس، رضي الله تعالى عنهما، ولا سيما تلا عمر قوله تعالى * (فكاتبوهم) * (النور: 33). الآية عند ضربه إياه.
0652 وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال عروة قالت عائشة رضي الله تعالى عنها أن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواقي نجمت عليها في خمس سنين فقالت لها عائشة ونفست فيها أرأيت إن عددت لهم عدة واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت ذلك عليهم فقالوا لا إلا أن يكون لنا الولاء قالت عائشة فدخلت على رسول لله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل شرط الله أحق وأوثق.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (نجمت عليها في خمس سنين)، وهذا الحديث ذكره البخاري في كتابه في عدة مواضع: أولها: في كتاب الصلاة في: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، فإنه أخرجه هناك: عن علي بن عبد الله عن سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة... الحديث، وقد ذكرنا ما يتعلق بكل واحد في موضعه، وذكره هنا معلقا، ووصله الذهلي في الزهريات عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث، وفيه مقال من وجهين: أحدهما: أن المحفوظ رواية الليث له عن ابن شهاب نفسه بغير واسطة، وسيأتي في الباب الذي يليه أنه رواه عن قتيبة عن الليث عن ابن شهاب، وكذلك أخرجه مسلم أيضا عن قتيبة عن الليث عن ابن شهاب، وكذلك أخرجه الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم يونس بن يزيد والليث بن سعد، عن ابن شهاب حدثهم عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي،
119

صلى الله عليه وسلم، قالت: (جاءت بريرة) الحديث. وأخرجه النسائي عن يونس عن يزيد عن ابن وهب إلى آخره نحو رواية الطحاوي، فاشترك النسائي والطحاوي هنا في يونس بن عبد الأعلى، وقد علم من هذا أن يونس بن يزيد رفيق الليث فيه لا شيخه. والوجه الآخر: أنه وقع فيه مخالفة للروايات المشهورة، وهو قوله: (وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين)، والمشهور ما في رواية هشام بن عروة التي تأتي بعد بابين عن أبيه: (أنها كاتبت على تسع أواق كل عام أوقية)، وقد جزم الإسماعيلي أن هذه الرواية المعلقة غلط. قلت: أجيب عنه: بأن التسع أصل، والخمس كانت بقيت عليها، وبهذا جزم القرطبي والمحب الطبري. فإن قلت: في رواية قتيبة: (ولم تكن أدت من كتابتها شيئا؟ قلت: أجيب: بأنها كانت حصلت الأربع أواق قبل أن تستعين بعائشة، ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس. وقال القرطبي: يجاب بأن الخمس هي التي كانت استحقت عليها لحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة في حديث هشام، ويؤيده قوله في رواية عمرة عن عائشة التي مضت في كتاب الصلاة في: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، فقال أهلها: إن شئت أعطيت ما بقي. قوله: (دخلت عليها)، أي: على عائشة. قوله: (تستعينها)، جملة حالية. قوله: (في كتابتها) أي: في مال كتابتها. قوله: (أواقي)، جمع أوقية، وهي أربعون درهما، ويجوز في الجمع تشديد الياء وتخفيفها. قوله: (نجمت)، على صيغة المجهول، صفة للأواقي. قوله: (ونفست فيها)، جملة حالية معترضة بين القول ومقوله، وهو بكسر الفاء أي: رغبت، ومنه * (فليتنافس المتنافسون) * (المطففين: 62). وإذا قيل: نفست به، يكون معناه: نحلت، ونفست عليه الشيء نفاسة إذا لم تره له أهلا، ونفست المرأة تنفس، من باب علم يعلم: إذا حاضت. قوله: (أرأيت إن عددت لهم عدة واحدة)، معنى: أرأيت: أخبريني، ومعنى: عددت لهم: عددت الخمس أواقي، وفي رواية عمرة عن عائشة: (إن أحل أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك؟) كذا في رواية الطحاوي. قوله: (شروطا ليست في كتاب الله تعالى)، أي: ليس في حكم الله تعالى وقضائه في كتابه أو سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (شرط الله أحق)، قال الداودي: شرط الله ههنا أراه، والله أعلم، هو قوله تعالى: * (
فإخوانكم في الدين ومواليكم) * (الأحزاب: 33). وقوله: * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) * (الأحزاب: 73). وقال في موضع: هو قوله: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 881 والنساء: 92). وقوله تعالى: * (وما أتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7). الآية. وقال القاضي عياض: وعندي أن الأظهر هو ما أعلم به صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنما الولاء لمن أعتق)، (ومولى القوم منهم)، والولاء لحمة كالنسب)، وفي بعض الروايات: (كتاب الله أحق)، يحتمل أن يريد: حكمه، ويحتمل أن يريد القران.
وفيه فوائد كصيرة: تكلم العلماء فيه كثيرا جدا لأنه روي بوجوه مختلفة وطرق متغايرة، حتى أن محمد بن جرير صنف في فوائده مجلدا، وقد ذكرنا أكثرها فيما مضى في كتاب الصلاة والزكاة وغيرها، ومن أعظم فوائده ما احتج به قوم على فساد البيع بالشرط، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وذهب قوم إلى أن البيع صحيح والشرط باطل، وقد ذكرناه فيما مضى مفصلا.
2
((باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله تعالى))
أي: هذا باب في بيان ما يجوز من شروط المكاتب، ومن جملة شروط المكاتب قبوله العقد وذكر مال الكتابة، سواء كان حالا أو مؤجلا أو منجما. وعند الشافعي: إذا شرط حالا لا يكون كتابة، بل يكون عتقا، ومن شروطه: أن يكون عاقلا بالغا، ويجوز عندنا أيضا إذا كان صغيرا مميزا بأن يعرف أن البيع سالب والشراء جالب. وفي (شرح الطحاوي) وإذا كان لا يعقل لا يجوز إلا إذا قبل عنه إنسان فإنه يجوز ويتوقف على إدراكه، فإن أدى هذا القابل عتق، وعند زفر: له استرداده وهو القياس، وليس في أحاديث الباب إلا ذكر شرط الولاء. قوله: (ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله تعالى) وهو الشرط الذي خالف كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع الأمة، وقال ابن خزيمة: معنى (ليس في كتاب الله تعالى) ليس في حكم الله جوازه أو وجوبه، لا أن كل من شرط شرطا لم ينطق به الكتاب يبطل، لأنه قد يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط، ويشترط في الثمن شروطا من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك فلا يبطل.
وقال النووي: قال العلماء: الشرط في البيع أقسام: أحدها: يقتضيه إطلاق العقد، كشرط تسليمه. الثاني: شرط فيه مصلحة كالرهن وهما جائزان اتفاقا. الثالث:
120

اشتراط العتق في العبد، وهو جائز عند الجمهور لحديث عائشة في قصة بريرة. الرابع: ما يزيد على مقتضى العقد ولا مصلحة فيه للمشتري كاستثناء منفعته فهو باطل.
فيه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
يعني في هذا الباب عبد الله بن عمر يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أبي ذر فيه عن ابن عمر أي: روي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، وكأنه أشار بذلك إلى حديث ابن عمر الذي يأتي في آخر الباب.
1652 حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا قالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذالك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق قال ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة مرة شرط الله أحق وأوثق.
.
مطابقته للترجمة في قوله: من اشترط شرطا ليس في كتاب الله. قوله: (إلى أهلك) المراد به هنا: السادة. قوله: (فعلت) جواب. قوله: (فإن أحبوا). قوله: (فأبوا)، أي: امتنعوا عن كون الولاء لعائشة. قوله: (أن تحتسب)، أي: إذا أرادت الثوب عند الله وأن لا يكون لها الولاء. قوله: (ما بال أناس؟)، أي: ما شأنهم؟ قوله: (وإن شرط مائة مرة)، وفي رواية المستملي: مائة شرط، قال النووي: معنى: مائة شرط، أنه لو: شرط مائة مرة توكيدا فهو باطل. قلت: مثل هذا يذكر للمبالغة. قال القرطبي: قوله: ولو كان مائة شرط، خرج مخرج التكثير، يعني: أن الشروط الغير المشروعة باطلة ولو كثرت.
3652 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال أرادت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن تشتري جارية لتعتقها فقال أهلها على أن ولاءها لنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذالك فإنما الولاء لمن أعتق.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (على أن ولاءها لنا)، لأن هذا شرط ليس في كتاب الله عز وجل، وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في البيوع عن عبد الله بن يوسف وفي الفرائض عن إسماعيل وقتيبة فرقهما. وأخرجه مسلم في العتق عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الفرائض والنسائي في البيوع جميعا عن قتيبة. قوله: (لا يمنعك)، وفي رواية أبي ذر: لا نمنعك بنون، ورواية مسلم مثل الأول، والله أعلم.
3
((باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس))
هذا باب في بيان استعانة المكاتب، أي: طلبه العون من غيره ليعينه بشيء يضمه إلى مال الكتابة، يعني: يجوز لأنه، صلى الله عليه وسلم، أقر بريرة على سؤالها من
عائشة واستعانتها منها، وقال بعضهم: هو من عطف الخاص على العام، لأن الاستعانة تقع بالسؤال وبغيره. انتهى. قلت: هذا كأنه ما التفت إلى سين الاستعانة، فإنها للطلب، والطلب لا يكون إلا من غيره.
45 - (حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة
121

رضي الله عنها قالت جاءت بريرة فقالت إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت عائشة إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت ويكون ولاؤك لي فذهبت إلى أهليها فأبوا ذلك عليها فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع بذلك رسول الله
فسألني فأخبرته فقال خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق قالت عائشة فقام رسول الله
في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فما بال رجال منكم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء إنما الولاء لمن أعتق)
مطابقته للترجمة في قوله فأعينيني. وعبيد بن إسماعيل أبو محمد الهباري القرشي الكوفي وهو من أفراده وأبو أسامة حماد ابن أسامة وهشام بن عروة يروي عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهم قوله ' فأعينيني ' كذا هو بصيغة الأمر للمؤنث في رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني فأعيتني بصيغة الماضي من الإعياء وهو العجز والمعنى فأعيتني تسع أواق لعجزي عن تحصيلها وفي رواية ابن خزيمة وغيره من رواية حماد بن سلمة عن هشام فأعتقيني بصيغة الأمر من الإعتاق والثابت في طريق مالك وغيره عن هشام هو الأول قوله ' واشترطي ' قال الكرماني فإن قلت هذا مشكل من حيث أن هذا الشرط يفسد العقد ومن حيث أنها خدعت البائعين حيث شرطت لهم ما لا يحصل لهم وكيف أذن
لعائشة في ذلك (قلت) أول بأن معناه اشترطي عليهم كقوله تعالى وإن أسأتم فلها أو أظهري لهم حكم الولاء وبأن المراد التوبيخ لهم لأنه
قد بين لهم أن هذا الشرط لا يصح فلما لجوا في اشتراطه قال ذلك أي لا تبالي به سواء شرطتيه أم لا والأصح أنه من خصائص عائشة لا عموم له والحكمة في إذنه ثم إبطاله أن يكون ألمغ في قطع عادتهم وزجرهم عن مثله انتهى قلت اختلف العلماء في ذلك فمنهم من أنكر الشرط في الحديث فروى الخطابي في المعالم بسنده إلى يحيى بن أكتم أنه أنكر وعن الشافعي في الأم الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرحة بالاشتراط لكونه انفرد بها دون أصحاب أبيه ورد ما نقل عن يحيى بما حكى الخطابي عن ابن خزيمة أن قول يحيى بن أكتم غلط وكذلك رد ما نقل عن الشافعي بأن الذي في الأم ومختصر المزني وغيرهما عن الشافعي كرواية الجمهور واشترطي بصيغة الأمر للمؤنث من الشرط وقال الطحاوي حدثني المزني به عن الشافعي بلفظ واشرطي بهمزة قطع بغير تاء مثناة من فوق ثم وجهه بأن معناه أظهري لهم حكم الولاء والإشراط بكسر الهمزة الإظهار قال بعضهم وأنكر غيره هذه الرواية قلت لا مجال لإنكارها لأن كل واحد من الطحاوي والمزني ثقة ثبت لا يشك فيما روياه ولا يلزم أن يكون هذا الذي نقله الطحاوي عن المزني أن يكون الشافعي ذكره في الأم والمزني أعرف بحاله قوله ' فقضاء الله أحق ' أي حكم الله أحق بالاتباع من الشروط المخالفة له قوله ' وشرط الله أوثق ' أي باتباع حدوده التي حدها وهنا أفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لا مشاركة بين الحق والباطل وقد يرد أفعل لغير التفضيل كثيرا * -
4
((باب بيع المكاتب إذا رضي))
أي: هذا باب في بيان جواز بيع المكاتب، وفي رواية السرخسي والمستملي: باب بيع المكاتبة، والأول أصح لقوله: إذا رضي بالبيع، ولو لم يعجز نفسه، وهو قول أحمد وربيعة والأوزاعي والليث وأبي ثور ومالك والشافعي في قول، واختاره ابن جرير وابن المنذر، وقال أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين، وبعض المالكية: لا يجوز. وقال أبو عمر في (التمهيد): قال مالك: لا يجوز بيع المكاتب إلا أن يعجز عن الأداء فإن لم يعجز عن الأداء فليس له ولا لسيده بيعه، وقال ابن شهاب
122

وأبو الزناد وربيعة: لا يجوز بيعه إلا برضاه، فإن رضي بالبيع فهو عجز منه. وقال إبراهيم النخعي وعطاء والليث وأحمد وأبو ثور: يجوز بيعه على أن يمضي في كتابته، فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه، وإن عجز فهو عبد له. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع كتابته، قال: وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه، وأما بيع كتابته فغير جائز بحال.
وقالت عائشة هو عبد ما بقي عليه شيء
هذا التعليق وصله الطحاوي، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب حدثنا ابن أبي ذئب عن عمران ابن بشير عن سالم عن عائشة، قالت: إنك عبد ما بقي عليك شيء. قال: وحدثنا أبو بشر حدثنا أبو معاوية وشجاع ابن الوليد عن عمرو بن ميمون عن سليمان بن يسار، قال: استأذنت على عائشة، فقالت: كم بقي عليك من كتابتك؟ قلت: عشر أواق. قالت: أدخل فإنك عبد ما بقي عليك شيء، وفي رواية البيهقي: ما بقي عليك درهم. قلت: سليمان بن يسار أبو أيوب الهلالي المدني مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن سعد: ويقال: إن سليمان بن يسار نفسه كان مكاتبا لأم سلمة، رضي الله تعالى عنها، وأما سالم الذي في رواية الطحاوي أيضا فهو سالم بن عبد الله النصري، بالنون والصاد المهملة: أبو عبد الله المدني، وهو سالم مولى شداد بن الهاد، وهو سالم مولى مالك بن أوس بن الحدثان، مولى النصريين، وهو سالم سبلان، روى عن جماعة من الصحابة منهم عائشة، رضي الله تعالى عنها.
وقال زيد بن ثابت ما بقي عليه درهم
هذا التعليق وصله الشافعي عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: أن زيد بن ثابت قال في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه درهم. وقال الطحاوي: حدثنا علي بن شيبة
حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: كان زيد بن ثابت يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه شيء من كتابته.
وقال ابن عمر هو عبد إن عاش وإن مات وإن جنى ما بقي عليه شيء
أي: قال عبد الله بن عمر: هو عبد أي: المكاتب عبد... إلى آخره، وهذا تعليق وصله الطحاوي عن يونس: أخبرنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد ومالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر، قال: المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء، ذكر في أثر ابن عمر ثلاثة أشياء: حياة المكاتب، وموته، وجنايته.
أما في حياته فإنه عبد ما بقي عليه شيء من مال الكتابة، ولا يعتق إلا بأداء كل البدل عند جمهور العلماء، إلا عند ابن عباس، فإنه يعتق بنفس العقد، وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، وعند علي، رضي الله تعالى عنه، يعتق بقدر ما أدى، وبه قالت الظاهرية، ويعتق بأدائه جميع الكتابة عندنا، وإن لم يقل المولى: إذا أديتها فأنت حر، وبه قال مالك وأحمد. وقال الشافعي: لا يعتق ما لم يقل كاتبتك على كذا إن أديته فأنت حر.
وأما في موته فإنه إذا مات وله مال لم تنفسخ الكتابة، وقضى ما عليه من بدل الكتابة وحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، وما بقي من ذلك فهو لورثته، ويعتق أولاده المولودون في الكتابة، وكذا المشترون فيها، وهذا عندنا، وهو قول علي وابن مسعود والحسن وابن سيرين والنخعي والشعبي وعمرو بن دينار والثوري. وقال الشافعي: تبطل الكتابة بموت المكاتب عبدا وما ترك لمولاه، وبه قال أحمد. وهو قول قتادة وأبي سليمان، وإذا مات المولى لا تبطل الكتابة، ويقال: للمكاتب أد المال إلى ورثة المولى على نجومه.
وأما في جنايته، فإن المولى يدفع قيمة واحدة ولا يزاد عليها وإن تكررت الجناية، وكذا في أم الولد والمدير، بخلاف القن فإن الدفع يتكرر بتكرر الجناية.
4652 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحياى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمان أن بريرة تستعين عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فقالت لها إن أحب أهلك أن أصب لهم
123

ثمنك صبة واحدة فعلت فذكرت بريرة ذالك لأهلها فقالوا لا إلا أن يكون الولاء لنا قال مالك قال يحياى فزعمت عمرة أن عائشة ذكرت ذالك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله، صلى الله عليه وسلم: اشتريها، لأن أمره بالشراء يدل على جواز البيع، وهو حجة الشافعي في جواز بيع المكاتب، وهو قوله المصري، كما ذكرناه عن قريب. قوله: (إلا أن يكون الولاء)، وفي رواية الكشميهني: إلا أن يكون ولاؤك. قوله: (قال يحيى)، هو ابن سعيد، وهو موصول بالإسناد الأول. قوله: (فزعمت عمرة) أي: قالت، والزعم يستعمل بمعنى القول المحقق. قوله: (فإنما الولاء)، أشار بكلمة: إنما، التي هي للحصر: أن الولاء لمن أعتق لا غير.
5
((باب إذا قال المكاتب اشترني وأعتقني فاشتراه لذالك))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا قال المكاتب لأحد: اشترني من مولاي وأعتقني، فاشتراه لتلك أي: للعتق وجواب: إذا، محذوف، تقديره: جاز.
5652 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد الواحد بن أيمن قال حدثني أبي أيمن قال دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت كنت لعتبة بن أبي لهب ومات وورثني بنوه وإنهم باعوني من ابن أبي عمر و فأعتقني ابن أبي عمر و واشترط بنو عتبة الولاء فقالت دخلت بريرة وهي مكاتبة فقالت اشتريني وأعتقيني قالت نعم قالت لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقالت لا حاجة لي بذلك فسمع بذالك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه فذكر لعائشة فذكرت عائشة ما قالت لها فقال اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاؤا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (اشتريني وأعتقيني)، وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وقد تكرر ذكره، وعبد الواحد ابن أيمن ضد الأيسر المخزومي المكي وأيمن الحبشي مولى ابن أبي عمرو المخزومي، وهو من أفراد البخاري وليس له في البخاري سوى خمسة أحاديث، هذا وآخران عن عائشة، وحديثان عن جابر، وكلها متابعة. ولم يرو عنه غير ولده عبد الواحد، وإيمن الحبشي هذا، غير أيمن بن نائل الحبشي، وكلاهما مكيان، غير أن أيمن والد عبد الواحد نزيل المدينة، وأيمن بن نائل نزيل عسقلان، وكلاهما من التابعين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الشروط عن خلاد بن يحيى.
قوله: (كنت لعتبة)، ويروى: (كنت غلاما لعتبة)، ولفظ الغلام مقدر في الرواية التي لم يذكر فيها. وعتبة، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق: ابن أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب الهاشمي، أسلم يوم الفتح هو وأخوه معتب، ولم يهاجرا من مكة، وأخوهما عتيبة بالتصغير مات كافرا. قوله: (بنوه)، أي: بنو عتبة، وهم: العباس وأبو خراش وهشام ويزيد. قوله: (من ابن أبي عمرو)، وفي رواية الكشميهني والنسفي: من عبد الله بن أبي عمرو، وزاد الكشميهني من عبد الله بن أبي عمرو بن عبد الله المخزومي. قوله: (أو بلغه؟)، شك من الراوي أي: أو بلغ النبي صلى الله عليه وسلم؟ قوله: (فذكر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لعائشة. قوله: (ودعيهم)، أي: اتركيهم ولا تتعرضي لهم فيما يشترطون ما شاؤوا من الولاء. قوله: (مائة شرط)، هو بمعنى المصدر ليوافق الرواية
الأخرى: مائة مرة، والله أعلم بالصواب.
124

بسم الله الرحمان الرحيم
15
((كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها))
1
((باب الهبة وفضلها والتحريض عليها))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الهبة وبيان فضلها وبيان التحريض عليها، وفي رواية الكشميهني وابن شبويه: والتحريض فيها، واستعماله: بعلى، أكثر. والتحريض على الشيء: الحث والإغراء عليه، والبسملة مقدمة على قوله: كتاب الهبة، عند الكل إلا في رواية النسفي، فإنها مذكورة بعده، وقال صاحب (التوضيح): أصل الهبة من هبوب الريح أي: مروره. قلت: هذا غلط صريح بل الهبة مصدر من: وهب يهب، وأصلها: وهب، لأنه معتل الفاء كالعدة أصلها: وعد، فلما حذفت الواو تبعا لفعله عوضت عنها الهاء، فقيل: هبة وعدة، ومعناها في اللغة: إيصال الشيء للغير بما ينفعه، سواء كان مالا أو غير مال: يقال: وهبت له مالا، ووهب الله فلانا ولدا صالحا، ويقال: وهبه مالا أيضا، ولا يقال: وهب منه، ويسمى الموهوب: هبة وموهبة، والجمع: هبات ومواهب، واتهبه منه: إذا قبله، واستوهبه إياه: إذا طلب الهبة وفي الشرع: الهبة تمليك المال بلا عوض، وقال الكرماني: الهبة تمليك بلا عوض، وتحتها أنواع: كالإبراء: وهي هبة الدين ممن عليه، والصدقة: وهي الهبة لثواب الآخرة، والهدية: وهي ما ينقل إلى الموهوب منه إكراما له. وأخذ بعضهم كلام الكرماني هذا، وذكر التقسيم المذكور بعد أن قال: الهبة تطلق بالمعنى الأعم على أنواع، ثم قال: وتطلق الهبة بالمعنى الأخص على ما لا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة بأنها: تمليك بلا عوض. انتهى. قلت: تقسيم الهبة إلى الأنواع المذكورة ليس بالنظر إلى معناها الشرعي، وإنما هو بالنظر إلى معناها اللغوي، لأن الأنواع المذكورة إنما تنطبق على المعنى اللغوي لا الشرعي، فافهم.
1 - (حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
قال يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)
مطابقته للترجمة من حيث أن فيه تحريضا على الخير إلى أحد ولو كان بشيء حقير وهو داخل في معنى الهبة من حيث اللغة.
(ذكر رجاله) وهم أربعة على رواية الأصيلي وكريمة وفي رواية الأكثرين خمسة * الأول عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب أبو الحسين مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مات سنة إحدى وعشرين ومائتين * الثاني محمد بن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام * الثالث سعيد المقبري * الرابع أبوه كيسان * الخامس أبو هريرة وكيسان سقط في رواية الأصيلي والصواب إثباته وقال الدارقطني رواه عن ابن أبي ذئب يحيى القطان وأبو معشر عن سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه وأخرجه الترمذي من طريق أبي معشر عن سعيد عن أبي هريرة لم يقل عن أبيه وزاد في أوله ' تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر ' وقال غريب وأبو معشر يضعف وقال الطرقي أنه أخطأ فيه حيث لم يقل عن أبيه
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه أن شيخه من أهل واسط وأنه من أفراده وبقية الرواة مدنيون وفيه أن أحدهم مذكور بنسبته إلى أحد أجداده كما ذكرنا والآخر مذكور بنسبته إلى مقبرة المدينة لأجل سكناه فيها * والحديث أخرجه مسلم قال حدثنا يحيى بن يحيى قال أخبرنا الليث بن سعيد وحدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله
كان يقول ' يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة '
(ذكر معناه) قوله ' يا نساء المسلمات ' ذكر عياض في إعرابه ثلاثة أوجه. أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة قال الباجي وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه والموصوف إلى صفته والأعم إلى الأخص كمسجد الجامع وجانب الغربي وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره وعند البصريين
125

يقدرون فيه محذوفا أي مسجد المكان الجامع وجانب المكان الغربي ويقدر هنا يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات المؤمنات وقيل تقديره يا فاضلات المسلمات كما يقال هؤلاء رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم. الوجه الثاني رفع النساء ورفع المسلمات على معنى النداء والصفة أي يا أيتها النساء المسلمات قال الباجي كذا يرويه أهل بلدنا. الوجه الثالث رفع النساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب العاقل قوله ' جارة ' الجارة مؤنث الجار ويقال للزوجة جار لأنها تجاور زوجها في محل واحد وقيل العرب تكني عن الضرة بالجارة تطيرا من الضرر ومنه كان ابن عباس ينام بين جاريته قوله ' لجارتها ' ظاهره المرأة التي تجاور المرأة التي تسمى جارة مؤنث الجار وقال الكرماني لجارتها متعلق بمحذوف أي لا تحقرن جارة هدية مهداة لجارتها بالغ فيه حتى ذكر أحقر الأشياء من أبغض البغيضين إذا حمل لفظ الجارة على الضرة وجارتها بالضمير في رواية الأكثرين وفي رواية أبي ذر لا تحقرن جارة لجارة بلا ضمير قوله ' ولو فرسن شاة ' يعني ولو أنها تهدي فرسن شاة والمراد منه المبالغة في إهداء الشيء اليسير لا حقيقة الفرسن لأنه لم تجر العادة في المهاداة به والمقصود أنها تهدي بحسب الموجود عندها ولا يستحقر لقلته لأن الجود بحسب الموجود والوجود خير من العدم هذا ظاهر الكلام ويحتمل أن يكون النهي واقعا للمهدى إليها وأنها لا تحتقر ما يهدى
إليها ولو كان حقيرا والفرسن بكسر الفاء وسكون الراء وكسر السين المهملة وفي آخره نون قال ابن دريد هو ظاهر الخف والجمع فراسن وفي المحكم هي طرف خف البعير انتهى حكاه سيبويه في الثلاثي ولا يقال في جمعه فرسنات كما قالوا خناصر ولم يقولوا خنصرات وفي المخصص هو عند سيبويه فعلن ولم يحك في الأسماء غيره وقال أبو عبيد السلامي عظام الفرس كلها وفي الجامع هو من البعير بمنزلة الظفر من الإنسان وفي المغيث هو عظم قليل اللحم وهو للشاة والبعير بمنزلة الحافر للدابة وقيل هو خف البعير وفي الصحاح ربما استعير للشاة وقال ابن السراج النون زائدة وقال الأصمعي الفرسن ما دون الرسغ من يد البعير وهي مؤنثة. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لما فيه من استجلاب المودة وإذهاب الشحناء ولما فيه من التعاون على أمر المعيشة والهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة وأسقط للمؤنة وأسهل على المهدي لإطراح التكليف والكثير قد لا يتيسر كل وقت والمواصلة باليسير تكون كالكثير
2 - (حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال حدثنا ابن أبي حازم عن أبيه عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله
نار فقلت يا خالة ما كان يعيشكم قالت الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله
جيران من الأنصار كانت لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله
من ألبانهم فيسقينا)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله وكانوا يمنحون رسول الله
من ألبانهم وذلك لأنهم كانوا يهدون إلى رسول الله
من ألبان منايحهم. وفي الهدية معنى الهبة على معناها اللغوي.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بضم الهمزة وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة ونسبته إليه. الثاني عبد العزيز بن أبي حازم واسمه سلمة بن دينار. الثالث أبوه سلمة بن دينار. الرابع يزيد من الزيادة ابن رومان بضم الراء أبو روح مولى آل الزبير بن العوام. الخامس عروة بن الزبير بن العوام. السادس عائشة أم المؤمنين.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه العنعنة في أربعة مواضع. وفيه أن شيخه من أفراده وأنه منسوب إلى أحد أجداده. وفيه أن رواته كلهم مدنيون. وفيه رواية الراوي عن خالته. وفيه ثلاثة
126

من التابعين على نسق واحد. الأول أبو حازم سلمة. والثاني يزيد بن رومان. والثالث عروة. وفيه رواية الراوي عن أبيه والحديث رواه مسلم في آخر الكتاب عن يحيى بن يحيى.
(ذكر معناه) قوله ' ابن أختي ' يعني يا ابن أختي وحرف النداء محذوف وفي رواية مسلم والله يا ابن أختي وأم عروة أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهم قوله ' إن كنا ' إن هذه مخففة من أن المثقلة فتدخل على الجملتين فإن دخلت على الاسمية جاز إعمالها خلافا للكوفيين وإن دخلت على الفعلية وجب إهمالها والأكثر أن يكون الفعل ماضيا ناسخا وههنا كذلك لأنها دخلت على الماضي الناسخ لأن كان من النواسخ واللام في لننظر عند سيبويه والأكثرين لام الابتداء دخلت لتوكيد النسبة وتخليص المضارع للحال وللفرق بين أن المخففة من المثقلة وأن النافية ولهذا صارت لازمة بعد أن كانت جائزة وزعم أبو علي وأبو الفتح وجماعة أنها لام غير لام الابتداء اجتلب للفرق قوله ' ثلاثة أهلة ' بالنصب تقديره نرى ثلاثة أهلة ونكملها في شهرين باعتبار رؤية الهلال في أول الشهر الأول ثم برؤيته في أول الشهر الثاني ثم برؤيته في أول الشهر الثالث فيصدق عليه ثلاثة أهلة ولكن المدة ستون يوما وفي الرقاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بلفظ كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا وفي رواية ابن ماجة من طريق أبي سلمة عن عائشة بلفظ لقد كان يأتي على آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته الدخان قوله ' وما أوقدت ' على صيغة المجهول من الإيقاد قوله ' يا خالة ' بضم التاء لأنه منادى مفرد قوله ' ما كان يعيشكم ' بضم الياء من أعاشه الله تعالى عيشة وقال النووي بفتح العين وكسر الياء المشددة قال وفي بعض النسخ المعتمدة يعني في نسخ مسلم فما كان يقيتكم من القوت صرح بذلك القونوي في مختصر شرح مسلم وقال بعضهم وفي بعض النسخ ما يغنيكم بسكون المعجمة بعدها نون مكسورة ثم تحتانية ساكنة انتهى (قلت) كأنه صحف عليه فجعله من الاغناء وليس هو الأمن القوت فعلى قوله تكون هذه رواية رابعة فتحتاج إلى البيان قوله ' الأسودان الماء والتمر ' وهو من باب التغليب إذ الماء ليس أسود وأطلقت عائشة على التمر أسود لأنه غالب تمر المدينة وقال ابن سيدة فسر أهل اللغة الأسودين بالماء والتمر وعندي أنها إنما أرادت الحرة والليل قيل لهما الأسودان لاسودادهما وذلك أن وجود التمر والماء عندهم شبع ورى وخصب وإنما أرادت عائشة أن تبالغ في شدة الحال بأن لا يكون معها إلا الليل والحرة وهذا أذهب في سوء الحال من وجود التمر والماء وقيل الأسودان الماء واللبن وضاف مرثد المدني رضي الله تعالى عنه قوم فقال لهم مالكم عندنا إلا الأسودان قالوا إن في ذلك لمقنعا الماء والتمر فقال ما ذلك أردت والله إنما أردت الحرة والليل (قلت) الحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء البقل الذي يؤكل غير مطبوخ قوله ' منائح ' جمع منيحة بفتح الميم وكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة وهي ناقة أو شاة تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردها عليك وقد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها مؤبدة مثل الهبة وقال الفراء منحته منيحة وهي الناقة والشاة يعطيها الرجل لآخر يحلبها ثم يردها وزعم بعضهم أن المنيحة لا تكون إلا ناقة وقال أبو عبيد المنيحة عند العرب على وجهين أن يعطي الرجل صاحب صلة فيكون له وأن يمنحه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها وصوفها زمنا ثم يردها وقال إبراهيم الحربي العرب تقول منحتك الناقة وأنحلتك الوبر وأعريتك النخلة وأعمرتك الدار وهذه كلها هبة منافع يعود بعدها مثلها
قوله ' يمنحون ' من المنح وهو العطاء يقال منحه يمنحه من باب فتحه يفتحه ومنحه يمنحه من باب ضربه يضربه والاسم المنحة بالكسر وهي العطية. وفي الحديث زهد النبي
في الدنيا والصبر على التقلل وأخذ البلغة من العيش وإيثار الآخرة على الدنيا. وفيه حجة لمن آثر الفقر على الغنى. وفيه أن السنة مشاركة الواجد المعدم
2
((باب القليل من الهبة))
أي: هذا باب في بيان القليل من الهبة، وأراد به أن المهدى إليه بشيء قليل لا يستقله ولا يرده لقلته.
127

8652 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت.
(الحديث 8652 طرفه في: 8715).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت) وذلك يدل على أن القليل من الهدية جائز ولا يرد، والهدية في معنى الهبة من حيث اللغة كما ذكرنا. وابن أبي عدي هو محمد بن أبي عدي واسمه إبراهيم البصري. وسليمان هو الأعمش. وأبو حازم هو سليمان الأشجعي.
والحديث من أفراده وأخرجه في الأنكحة بلفظ: لأجبت، ولو أهدى إلي ذراع لقبلت، والكراع من حد الرسغ، وهو في البقر والغنم بمنزلة الوظيف في الفرس والبعير، وهو مستدق الساق، يذكر ويؤنث، وادعى ابن التين أن الكراع من الدواب ما دون الكعب من غير الإنسان، ومن الإنسان ما دون الركبة، وعن ابن فارس: كراع كل شيء طرفه. وقال أبو عبيد: الأكارع قوائم الشاة، وأكارع الأرض أطرافها القاصية، شبه بأكارع الشاة أي: قوائمها، وقال بعضهم: قيل: الكراع اسم مكان. قلت: الذي قاله هو الغزالي، ذكره في (الإحياء) بلفظ: كراع الغميم، وترد ذلك رواية الترمذي من حديث أنس مرفوعا: لو أهدي إلي كراع لقبلته، ثم صححه وادعى صاحب (التنقيب على التهذيب) أن سبب هذا الحديث أن أم حكيم الخزاعية قالت: يا رسول الله! أتكره الهدية؟ فقال، صلى الله عليه وسلم: ما أقبح رد الهدية، لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت. قلت: الحديث رواه الطبراني رحمه الله. وقال ابن بطال: أشار النبي، صلى الله عليه وسلم، بالكراع والفرسن إلى الحض على قبول الهدية، ولو قلت لئلا يمتنع الباعث من المهاداة، لاحتقار المهدى إليه. انتهى. والذراع أفضل من الكراع، وكان، صلى الله عليه وسلم، يحب أكله، ولهذا سم فيه، وإنما كان يحبه لأنه مبادي الشاة وأبعد من الأذى.
3
((باب من استوهب من أصحابه شيئا))
أي: هذا باب في بيان من استوهب من أصحابه شيئا، سواء كان عينا أو منفعة. والجواب محذوف تقديره: جاز، بغير كراهة إذا كان يعلم طيب خاطرهم.
وقال أبو سعيد قال النبي صلى الله عليه وسلم اضربوا لي معكم سهما
هذا التعليق قطعة من حديث أبي سعيد الخدري في الرقية، أخرجه البخاري موصولا بتمامه في كتاب الإجارة في: باب ما يعطى في الرقية، بفاتحة الكتاب.
9652 حدثنا ابن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة من المهاجرين وكان لها غلام نجار قال لها مري عبدك فليعمل لنا أعواد المنبر فأمرت عبدها فذهب فقطع من الطرفاء فصنع له منبرا فلما قضاه أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد قضاه قال صلى الله عليه وسلم أرسلي به إلي فجاؤا به فاحتمله النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه حيث ترون.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة...) إلى آخره فإن إرساله صلى الله عليه وسلم إليها وقوله لها بأن تأمر غلامها يعمل أعواد المنبر استيهاب فيه من المرأة.
وابن أبي مريم هو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم الجمحي المصري، وأبو غسان، بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة وبالنون: واسمه محمد بن مطرف الليثي، وأبو حازم سلمة ابن دينار وسهل بن سعد الأنصاري الساعدي.
والحديث قد مضى في كتاب الجمعة في باب الخطبة على المنبر، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (أرسل إلى امرأة من الأنصار)، وفي كثير من النسخ: إلى امرأة من المهاجرين، وقال
128

ابن التين: أكثر الروايات أنها من الأنصار، ولعلها كانت هاجرت وهي مع ذلك أنصارية الأصل، وفي أصل ابن بطال أيضا من الأنصار. قوله: (فليعمل أعواد) أي: ليفعل لنا فعلا في أعواد من نجر وتسوية وخرط يكون منها منبر. قوله: (فلما قضاه)، أي: صنعه وأحكمه، وقال الخطابي: العبارة عما يعالج من الأشياء ويعتمل تقع بثلاثة ألفاظ هي: الفعل والصنع والجعل، وأجمعها في المعنى: الفعل، وأوسعها في الاستعمال: الجعل، وأخصها في الترتيب: الصنع. تقول: فعل فلان خيرا، وفعل شرا، ولفظ الجعل يسترسل على الأعيان والصفات، ولفظ الصنع يستعمل غالبا فيما يدخله التدبير.
0752 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني محمد بن جعفر عن أبي حازم عن عبد الله بن أبي قتادة السلمي عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال كنت يوما جالسا مع
رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا والقوم محرمون وأنا غيرر محرم فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذوني به وأحبو لو أني أبصرته فالتفت فأبصرته فقمت إلاى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح فقالوا لا والله لا نعينك عليه بشيء فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبات العضد معي فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذالك فقال معكم منه شيء فقلت نعم فناولته العضد فأكلها حتى نفدها وهو محرم فحدثني به زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فقال: معكم شيء؟) فإنه في معنى الاستيهاب من الأصحاب، قال ابن بطال: استيهاب الصيد حسن إذا علم أن نفسه تطيب به، وإنما طلب صلى الله عليه وسلم من أبي سعيد، وكذا من أبي قتادة وغيرهم ليؤنسهم به ويرفع عنهم اللبس في توقفهم في جواز ذلك، وعبد العزيز بن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري الأويسي المديني، وقد تكرر ذكره، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المدني، وأبو حازم هو سلمة بن دينار وأبو قتادة اسمه الحارث السلمي، بفتح السين واللام الأنصاري الخزرجي.
والحديث قد مضى في كتاب الحج في: باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد فأكله، ومضى أيضا في ثلاثة أبواب عقيبه، كلها متوالية، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (ورسول الله)، الواو، فيه والواو في: والقوم، والواو في: أنا غير محرم، كلها للحال. قوله: (وأنا مشغول أخصف نعلي) جملة حالية أيضا، ومعنى: أخصف؛ أخرز. قال تعالى: * (وطفقا يخصفان) * (الأعراف: 22، وطه: 121). أي: يلزقا البعض بالبعض. قوله: (فعقرته) من العقر وهو الجرح، ولكن المراد ههنا عقره عقرا شديدا حتى مات منه. قوله: (ثم جئت به)، أي: بالحمار المذكور. قوله: (وهم حرم)، جملة حالية. قوله: (حتى نفدها)، بتشديد الفاء وبإهمال الدال: يريد أكلها حتى أتى عليها، يقال: نفد الشيء إذا فني، وروي بكسر الفاء المخففة، ورده ابن التين. قوله: (فحدثني به)، قائل هذا هو محمد بن جعفر الراوي عن أبي حازم، أي: حدثني بهذا الحديث زيد ابن أسلم أبو أسامة أيضا عن عطاء بن يسار ضد اليمين أبي محمد الهلالي مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي قتادة المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
4
((باب من استسقى))
أي: هذا باب في بيان حكم من استسقى ماءا ولبنا وغيرهما، وجوابه محذوف تقديره: ما حكمه؟ وحكمه: يجوز له ذلك مما تطيب به نفس المطلوب منه.
129

وقال سهل قال لي النبي صلى الله عليه وسلم اسقني
سهل هو ابن سعد الأنصاري، وهذا التعليق طرف من حديث أوله: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب، فأمر أسيد أن يرسل إليها... الحديث، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إسقنا يا سهل.
5
((باب قبول هدية الصيد))
أي: هذا باب في بيان جواز قبول هدية الصيد، أي: هدية صائد الصيد، لأنه هو الذي يهدي، والصيد نفسه لا يهدي، بكسر الدال، بل يهدى، بفتحها.
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي قتادة عضد الصيد
هذا التعليق ذكره موصولا في: باب من استوهب من أصحابه شيئا، قبل الباب السابق.
2752 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه قال أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا فأدركتها فأخذتها فأتيت بها
130

أبا طلحة فذبحها وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذيها قال فخذيها لا شك فيه فقبله قلت وأكل منه قال وأكل منه ثم قال بعد قبله.
مطابقته للترجمة في قوله: (فقبله) وهو ظاهر.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الذبائح عن أبي الوليد وعن مسدد عن يحيى القطان. وأخرجه مسلم في الذبائح عن أبي موسى وعن زهير بن حرب وعن يحيى بن حبيب. وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن موسى بن إسماعيل، وأوله: كنت غلاما حزورا قصدت أرنبا. وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي في الصيد عن إسماعيل بن مسعود. وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن بشار.
ذكر معناه: قوله: (انفجنا)، بالنون والفاء والجيم، أي: أثرناه من مكانه، قال الجوهري: نفج الأرنب إذا ثار، وأنفجته أنا، والإنفاج الإثارة، يقال: أنفجت الأرنب في جحره أي: أثرته فثار، وأصله من: أنفجت الأرنب إذا وثبت فوسعت الخطوة. قال الخليل: نفج اليربوع ينفج وينفج نفوجا، وينتفج، وهو أرجى عدوه، والأرنب حيوان معروف، وكلام الجوهري يقتضي أنه مذكر، فإنه قال: إذا ثار، ولم يقل: ثارت. وكذا قال في باب الباء: الأرنب، واحد الأرانب، ولم يقل: واحدة
الأرانب. والذي في حديث الباب يقتضي تأنيثه، وهي الضمائر التي في (أدركتها) إلى آخره، وهكذا ذكره بعض أهل اللغة بأنه مؤنثة، والصحيح أنه يكون للمذكر والأنثى، وبه صدر كلامه صاحب (المحكم). ثم قال: والأرنب الأنثى والخزر الذكر. وقال الجوهري في باب الزاي: الخزز ذكر الأرانب، والجمع: خزان، مثل صرد وصردان. قوله: (بمر الظهران)، الباء فيه تتعلق: بأنفجنا، ومر الظهران، بفتح الميم وتشديد الراء وفتح الظاء المعجمة وسكون الهاء، قال النووي: هو موضع قريب من مكة. انتهى. وهو الذي يعرف اليوم: ببطن مر، قال الجوهري: وبطن مر، موضع، وهو من مكة على مرحلة. وقال الكرماني: ومر، بفتح الميم وتشديد الراء: قرية ذات نخل وزرع، والظهران، بفتح المعجمة وسكون الهاء وبالراء والنون: اسم للوادي، وهو على خمسة أميال من مكة إلى جهة المدينة. وقال البكري: مر مضاف إلى: الظهران، وبينه وبين البيت ستة عشر ميلا. وقال سعيد ابن المسيب: كانت منازل عك مر الظهران، وببطن مر تخزعت خزاعة عن أخواتها فبقيت بمكة، وسارت أخوتها إلى الشام أيام سيل العرم. وقال كثير عزة: سميت مر لمرارة مائها. قوله: (فلغبوا)، بفتح الغين المعجمة وكسرها وبالفتح أشهر، ومعناه: تعبوا. وقال الكرماني: وفي بعض الرواية: فتعبوا، من التعب وهو الإعياء. وقال الأصمعي: تقول العرب: لغبت ألغب لغوبا: أعييت. وقال الداودي: لغبوا عطشوا، وقال ابن التين: ولم يذكره غيره. قوله: (أبا طلحة)، هو زوج أم أنس، رضي الله تعالى عنه، واسمها: أم سليم. قوله: (بوركها)، بفتح الواو وكسر الراء، وبكسر الواو وإسكان الراء: هو ما فوق الفخذ، وهو بكسر الخاء وسكونها. قوله: (أو فخذيها)، شك من الراوي. قوله: (قال فخذيها لا شك فيه)، وفاعل: قال، هو: شعبة، لأن ابن بطال قال: شعبة فخذيها لا شك فيه، ثم قال: فيه دليل على أن شعبة شك في الفخذين أولا ثم استيقن، وكذلك شك أخيرا في الأكل فأوقف حديثه على القبول. قلت: يشير بهذا إلى أنه لا يشك في فخذيها، وإنما الشك بين الوركين والفخذين. قوله: (ثم قال بعد قبله)، أشار به إلى أنه شك في أكله ولم يشك في قبوله، وفي (التوضيح): شعبة شك في الفخذين أولا ثم استيقن، وكذلك شك أخيرا في الأكل. قلت: ولم يشك في القبول.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: إباحة السعي لطلب الصيد. فإن قلت: روى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس: (من تبع الصيد غفل). قلت: المراد به: من تمادى به طلب الصيد إلى أن فاتته الصلاة أو غيرها من مصالح دينه ودنياه. وفيه: أنه إذا طلب جماعة الصيد فأدركه بعضهم وأخذه يكون ملكا له، ولا يشاركه فيه من شاركه في طلبه، وفيه في لفظ الترمذي وغيره: (فذبحها بمروة)، صحة الذبح بالمروة ونحوها إذا كان لها حد يذكى به الصيد، فإن قتله بثقله لم يحل. وفيه: أنه لا بأس بإهداء الصاحب لصاحبه الشيء اليسير، وإن كان المهدى إليه عظيما، إذا علم من حاله محبة ذلك منه. وفيه: الأخبار عمن أهدى إليه شيء مما يؤكل فقبله، أنه أكله، كما فعل أنس. وفيه: إباحة أكل الأرنب، وهو قول الأئمة الأربعة وكافة العلماء إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعكرمة مولى ابن عباس: أنهم كرهوا
131

أكلها.
وقال الترمذي: وقد كره بعض أهل العلم أكل الأرنب، وقالوا: إنها تدمى. انتهى. قلت: رواية عن أصحابنا كراهة إكله، والأصح قول العامة. وورد في إباحته أحاديث كثيرة. منها: حديث جابر بن عبد الله، رواه البيهقي: (أن غلاما من قومه صار أرنبا فذبحها بمروة، فعلقها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أكلها، فأمره بأكلها. ومنها: حديث عمار بن ياسر، رواه أبو يعلى في (مسنده) والطبراني في (الكبير) من رواية ابن الحوتكية: أن رجلا سأل عمر، رضي الله تعالى عنه، عن الأرنب؟ فأرسل إلى عمار، فقال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلنا في موضع كذا وكذا، فأهدى له رجل من الأعراب أرنبا فأكلناها، فقال الأعرابي: إني رأيت دما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس). وحديث محمد بن صفوان رواه النسائي وابن ماجة من رواية الشعبي عنه: أنه مر على النبي صلى الله عليه وسلم بأرنبين فعلقهما، فقال: يا رسول الله! إني أصبت هذين الأرنبين فلم أجد حديدة أذكيهما بها، فذكيتهما بمروة، أفآكل؟ قال: (كل)، لفظ ابن ماجة رحمه الله. وحديث محمد بن صيفي، رواه ابن أبي شيبة من رواية الشعبي عنه، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأرنبين فذبحتهما بمروة، فأمرني بأكلهما). وحديث ابن عباس رواه الطبراني في (المعجم الكبير) من رواية أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: سمعت ابن عباس: يقول: (أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرنبا وعائشة نائمة، فرفع لها منها الفخذ فلما انتبهت أعطاها إياه فأكلته. وحديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود من رواية محمد عن خالد عن أبيه خالد بن الحويرث: (أن عبد الله بن عمرو كان بالصفاح قال محمد: مكان بمكة وأن رجلا جاء بأرنب قد صادها، فقال: يا عبد الله بن عمرو! ما تقول؟ قال: قد جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس، فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها، وزعم أنها تحيض. وحديث عمر وأبي الدرداء وأبي ذر، رضي الله تعالى عنهم، رواه البيهقي في (سننه) من رواية حكيم بن جبير عن موسى بن طلحة قال عمر لأبي ذر وعمار وأبي الدرداء: (أتذكرون يوم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكان كذا وكذا فأتاه أعرابي بأرنب؟ فقال: يا رسول الله! إني رأيت بها دما، فأمرنا بأكلها ولم يأكل، قالوا: نعم...) الحديث. وحديث أبي هريرة رواه النسائي عنه، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها، فلم يأكل، وأمر القوم أن يأكلوا...) الحديث. وحديث خزيمة ابن جزء، رواه ابن ماجة عنه، قال: (قلت: يا رسول الله! جئت لأسألك عن أجناس الأرض، وفيه: قلت يا رسول الله! ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه. قلت: فإني آكل ما لم يحرم، ولم يا رسول الله؟ قال: تبينت أنها تدمي). وحديث عبد الله ابن معقل، رواه الطبراني عنه أنه: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثا، قلت: يا رسول الله! ما تقول في الأرنب؟ قال: لا آكلها ولا أحرمها.
6
((باب قبول الهدية))
3752 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله تعالى عنهم أنه أهداى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرد عليه فلما رأى ما في وجهه قال أما إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال بعضهم: وشاهد الترجمة منه مفهوم. قوله: (لم نرده عليك إلا إنا حرم)، فإن مفهومه أنه لو لم يكن محرما لقبله منه. انتهى. قلت: الذي ذكرته أوجه، لأن الترجمة في قبول هدية الصيد، والقبول لا يكون إلا بعد الإهداء، ورد النبي صلى الله عليه وسلم إياها لم يكن... إلا لأجل كونه محرما، لا لأجل أنه لم يجوز قبولها أصلا. نعم هذا الذي ذكره ربما يمشي على رواية أبي ذر. فأن عنده على رأس هذا الحديث: باب قبول الهدية، وليس هذا في رواية الباقين وهو الصواب، وهذا الحديث مر في كتاب الحج في: باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل، بعين هذا المتن والإسناد، غير أن هناك: عن عبد الله بن يوسف، وهنا: عن إسماعيل بن أبي أويس. والله أعلم.
قوله: (بالأبواء)، بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمد: اسم مكان بين مكة والمدينة. قوله: (أو بودان)، شك من الراوي، وهو بفتح الواو وتشديد
132

الدال وبالنون: وهو أيضا اسم مكان بين مكة والمدينة. قوله: (إنا لم نرده)، يجوز فيه فك الإدغام والإدغام بفتح الدال وضمها، وإنما قبل الصيد من أبي قتادة ورده على الصعب، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان في الحالين محرما، لأن المحرم لا يملك الصيد ويملك مذبوح الحلال لأنه كقطعة لحم لم يبق في حكم الصيد.
7
((باب قبول الهدية))
أي: هذا باب في بيان حكم قبول الهدية، هذا هكذا ثبت في رواية أبي ذر، قال بعضهم: هو تكرار بغير فائدة. قلت: لا نسلم ذلك، لأن الباب الذي ثبت في رواية أبي ذر على رأس حديث الصعب بن جثامة، وهو هدية الصيد خاصة، وهذا الباب أعم من أن تكون هدية الصيد أو هدية غيره من الأشياء التي تهدى، ووقع في رواية النسفي: باب من قبل الهدية.
4752 حدثنا إبراهيم بن موساى قال حدثنا عبدة قال حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بها أو يبتغون بذالك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، وهو واضح لمن له تأمل وحسن نظر.
و إبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء الرازي، يعرف بالصغير و عبدة، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة: ابن سليمان، مر في الصلاة. و هشام هو ابن عروة يروي عن أبيه عروة عن عائشة.
والحديث أخرجه مسلم في الفضائل عن أبي كريب. وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن إسحاق بن إبراهيم.
قوله: (كانوا يتحرون)، من التحري وهو القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول. قوله: (يوم عائشة)، يعني: يوم نوبتها. قوله: (يبتغون)، جملة حالية، أي: يطلبون من: البغية، وهو الطلب. ويروى: (يتبعون)، بالتاء المثناة من فوق المشددة وكسر الباء الموحدة وبالعين المهملة: من الاتباع. قوله: (بذلك) أي: بتحريهم بهداياهم يوم عائشة، يعني: يوم يكون النبي صلى الله عليه وسلم عند عائشة في يوم نوبتها. قوله: (مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الميم، مصدر ميمي بمعنى: الرضا.
وفي هذا الحديث: جواز تحري الهداية ابتغاء مرضاة المهدى إليه. وفيه: الدلالة على فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها.
5752 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا جعفر بن إياس قال سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أهدت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطا وسمنا وأضبا فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن وترك الضب تقذرا قال ابن عباس فأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن) وأكله دليل على قبول هدية أم حفيد، وآدم هو ابن أبي إياس عبد الرحمن، أصله من خراسان، سكن عسقلان، وهو من أفراده، وجعفر بن إياس، بكسر الهمزة وتحفيف الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة: المشهور بابن أبي وحشية ضد الأنسية مر في العلم.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأطعمة عن مسلم، وفيه عن أبي النعمان وفي الاعتصام عن موسى. وأخرجه مسلم في الذبائح عن بندار وأبي بكر ابن نافع. وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن حفص بن عمرو. وأخرجه النسائي في الصيد وفي الوليمة عن زياد بن أيوب.
ذكر معناه: قوله: (أم حفيد)، بضم الحاء المهملة وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة: واسمها هزيلة مصغر: هزلة، بالزاي وهي أخت ميمونة أم المؤمنين، وكانت تسكن البادية. قوله: (أقطا)، بفتح الهمزة وكسر القاف بعدها طاء مهملة، وهو لبن يابس مجفف مستحجر يطبخ به. قوله: (وأضبا)،
جمع: ضب، بفتح الضاد المعجمة وتشديد الباء الموحدة، مثل: فلس وأفلس. وفي (المحكم): الضب دويبة والجمع: ضباب وأضب، ومضبة على وزن مفعلة كما قالوا
133

للشيوخ: مشيخة، وفي المثل: أعق من الضب، لأنه ربما أكل حسو له، والأنثى ضبة، والضب لا يشرب ماء. قوله: (فأكل)، على صيغة المجهول أي: فأكل الضب. قوله: (على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال الداودي: يعني القصعة والمنديل ونحوهما، لأن أنسا قال: ما أكل على خوان، وأصل المائدة من الميد، وهو العطاء، يقال: مادني يميدني، وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة من العطاء، وقال الزجاج، هو عندي من: ماد يميد إذا تحرك. وقال ابن فارس: هو من ماد يميد إذا أطعم، قال: والخوان مما يقال: إنه اسم أعجمي، غير أني سمعت إبراهيم بن علي القطان يقول: سئل ثعلب، وأنا أسمع: أيجوز أن يقال: إن الخوان سمي بذلك لأنه يتخون ما عليه أي: ينتقص به؟ فقال: ما يبعد ذلك. قوله: (تقذرا)، نصب على التعليل، أي: لأجل التقذر، يقال: قذرت الشيء وتقذرته واستقذرته: إذا كرهته.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جواز الإهداء وقبول الهدية. وفيه: من احتج بقول ابن عباس على جواز أكل الضب لأنه قال: لو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت الشافعية: وهو احتجاج حسن، وهو قول الفقهاء كافة، ونص عليه مالك في (المدونة) وعنه رواية بالمنع، وقد روى مالك في حديث الضب أنه صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس وخالد بن الوليد بأكله في بيت ميمونة، وقالا له: ولم لا تأكل يا رسول الله؟ فقال: (إني يحضرني من الله حاضرة)، يعني الملائكة الذين يناجيهم، ورائحة الضب ثقيلة، فلذلك تقذره خشية أن تؤذي الملائكة بريحه. وقال ابن بطال: إنه يجوز للإنسان أن يتقذر ما ليس بحرام عليه لقلة عادته بأكله أو لوهمه. وقال صاحب (الهداية): يكره أكل الضب لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عائشة، رضي الله تعالى عنها، حين سألته عن أكله. قلت: هذا رواه محمد بن الحسن عن الأسود عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له ضب فلم يأكله، فسألته عن أكله فنهاني، فجاءني سائل على الباب فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لا تأكليه؟ والنهي يدل على التحريم، وروي عن عبد الرحمن بن شبل، أخرجه أبو دادو في الأطعمة عن إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن سريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب. فإن قلت: قال البيهقي: تفرد ابن عياش وليس بحجة، وقال ابن المنذري: إسماعيل بن عياش وضمضم فيهما مقال، وقال الخطابي: ليس إسناده بذاك. قلت: ضمضم حمصي
وابن عياش إذا روى عن الشاميين كان حديثه صحيحا، كذا قال البخاري ويحيى بن معين وغيرهما، وكذا قال البيهقي في: باب ترك الوضوء من الدم في (سننه)، وكيف يقول هنا: وليس بحجة؟ ولما أخرج أبو داود هذا الحديث سكت عنه، وهو حسن صحيح عنده، وقد صحح الترمذي لابن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة، وشرحبيل شامي، وروى الطحاوي في (شرح الآثار) مسندا إلى عبد الرحمن بن حسنة، قال: نزلنا أرضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة، فطبخنا منها وإن القدور لتغلي بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ فقلنا: ضباب أصبناها. وقال: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض إني أخشى أن تكون هذه، فأكفؤها. وقال أصحابنا: الأحاديث التي وردت بإباحة أكل الضب منسوخة بأحاديثنا، ووجه هذا النسخ بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للحظر والآخر موجبا للإباحة مثل ما نحن فيه، والتعارض ثابت من حيث الظاهر، ثم ينتفي ذلك بالمصير إلى دلالة التاريخ، وهو أن النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للإباحة فكان الأخذ به أولى، ولا يمكن جعل الموجب للإباحة متأخرا، لأنه يلزم منه إثبات النسخ مرتين، فافهم.
6752 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا معن قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد ابن زياد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عن أهدية أم صدقة فإن قيل صدقة قال لأصحابه كلوا ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم.
134

مطابقته للترجمة في قوله: (وإن قيل هدية...) إلى آخره، لأن أكله معهم يدل على قبول الهدية، ورجاله كلهم قد ذكروا، ومعن هو ابن عيسى بن يحيى القزاز المدني. قوله: (إذ أتي بطعام)، زاد أحمد وابن حبان من طريق ابن سلمة عن محمد بن زياد: من غير أهله. قوله: (ضرب بيده)، أي: شرع في الأكل مسرعا، ومثله ضرب في الأرض إذا أسرع السير، وقال ابن بطال: إنما لا يأكل الصدقة لأنها أوساخ الناس، ولأن أخذ الصدقة منزلة دنية، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وأيضا لا تحل الصدقة للأغنياء، وقال تعالى: * (ووجدك عائلا فأغنى) * (الضحى: 7).
7752 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقيل تصدق على بريرة قال هو لها صدقة ولنا هدية.
(انظر الحديث 5941).
مطابقته للترجمة في قوله: (ولنا هدية)، أي: حيث أهدت بريرة إلينا فهو هدية، وذلك لأن الصدقة يجوز فيها تصرف الفقير بالبيع والهدية وغير ذلك لصحة ملكه لها، كتصرفات سائر الملاك في أملاكهم، وغندر بضم الغين المعجمة وسكون النون: هو محمد بن جعفر، وقد تكرر ذكره. والحديث أخرجه البخاري أيضا في الزهد عن وكيع. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي بكر وأبي كريب وعن أبي موسى وبندار. وأخرجه أبو داود عن عمرو بن مرزوق. وأخرجه النسائي في العمري عن إسحاق بن إبراهيم.
8752 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن عبد الرحمان بن القاسم قال سمعته منه عن القاسم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة وأنهم اشترطوا ولاءها فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اشتريها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق وأهدي لها لحم فقال النبي صلى الله
عليه وسلم هذا تصدق به على بريرة هو لها صدقة ولنا هدية وخيرت قال عبد الرحمان زوجها حر أو عبد قال شعبة ثم سألت عبد الرحمان عن زوجها قال لا أدري أحر أم عبد.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولنا هدية) لأن التحريم يتعلق بالصفة لا بالذات، وقد تغير ما تصدق به على بريرة بانتقاله إلا إلى ملكها وخروجه عن ملك المتصدق.
والحديث أخرجه مسلم في العتق عن أحمد بن عثمان النوفلي، وفي الزكاة بقصة الهدية عن محمد بن المثنى عن غندر، كلاهما عن شعبة. وأخرجه النسائي في البيوع وفي الفرائض عن محمد بن بشار به، وفي الطلاق والشروط عن محمد بن إسماعيل، وقد مر الكلام في معنى صدر الحديث في مواضع كثيرة.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا تصدق به على بريرة، هو لها صدقة ولنا هدية)، هذا هكذا في رواية الأكثرين، ووقع في رواية أبي ذر الهروي، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا تصدق به على بريرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو لنا صدقة ولنا هدية). قوله: (وخيرت) أي: بريرة صارت مخيرة بين أن تفارق زوجها وأن تبقى تحت نكاحها. قوله: (قال عبد الرحمن)، هو عبد الرحمن بن القاسم الراوي المذكور. قوله: (لا أدري أحر أم عبد؟) أي: قال عبد الرحمن: لا أدري زوج بريرة هل هو حر أو عبد، والمشهور أنه عبد، وهو قول مالك والشافعي وعليه أهل الحجاز، وهو ما ذكره النسائي عن ابن عباس، واسمه: مغيث، وخالف أهل العراق، فقالوا: كان حرا، والله تعالى أعلم، وقد مر الكلام فيه.
9752 حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن قال أخبرنا خالد بن عبد الله عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها فقال له عندكم شيء قالت لا إلا شيء بعثت به أم عطية من الشاة التي بعثت إليها من الصدقة قال إنها قد بلغت محلها.
(انظر الحديث 6441 وطرفه).
135

مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى قوله: إنها بلغت محلها، لأن معناه قد زال عنها حكم الصدقة وصارت حلالا لنا، وخالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان الواسطي، يروي عن خالد بن مهران الحذاء، وأم عطية اسمها نسيبة، بضم النون، وقيل: بفتحها، وكذا وقع بالفتح في رواية الإسماعيلي من رواية وهب بن بقية عن خالد بن عبد الله. والحديث قد مر في كتاب الزكاة في: باب إذا تحولت الصدقة، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن يزيد بن زريع عن خالد عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية الأنصارية... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (بعثت به أم عطية) على صيغة المعلوم، وقوله: (بعثت إليها) على صيغة المعلوم. قوله: (محلها)، بفتح الحاء، وفي رواية الكشميهني بكسرها، وهو يقع على الزمان والمكان.
8
((باب من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض))
أي: هذا باب في بيان إهداء من أهدى إلى أحد من أصحابه، وتحرى أي قصد بعض نسائه، يعني: أراد أن يكون إهداؤه إلى صاحبه يوم يكون صاحبه عند واحدة منهن.
0852 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان الناس يتحرون بهداياهم يومي وقالت أم سلمة إن صواحبي اجتمعن فذكرت له فأعرض عنها.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى قول عائشة: (كان الناس يتحرون بهداياهم يومي) وهشام هو ابن عروة يروي عن أبيه عروة ابن الزبير، وفي بعض النسخ: عن هشام بن عروة عن أبيه.
والحديث أخرجه البخاري هنا مختصرا. وأخرجه في فضل عائشة مطولا على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وأخرجه الترمذي في المناقب عن يحيى بن درست.
قوله: (يومي)، أي: يوم نوبتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة هي هند إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (إن صواحبي) أرادت به بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان اجتماعهن عند أم سلمة، وقلن لها: خبري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس بأن يهدوا له حيث كان، فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنها، يعني: لم يلتفت إلى ما قالت له، ويروى: فأعرض عنهن، أي: عن أزواجه البقية، وذكر ابن سعد في (طبقات النساء) من حديث أم سلمة، قالت: كان الأنصار يكثرون إلطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وعمارة بن حزم وأبو أيوب، وذلك لقرب جوارهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1852 حدثنا إسماعيل قال حدثني أخي عن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها بعث صاحب الهدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فكلم حزب أم سلمة فقلن لها كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهدها إليه حيث كان من بيوت نسائه فكلمته أم سلمة بما قلن فلم يقل لها شيئا فسألنها فقالت ما
قال لي شيئا فقلن
136

لها فكلميه قالت فكلمته حين دار إليها أيضا فلم يقل لها شيئا فسألنها فقالت ما قال لي شيئا فقلن لها كلميه حتى يكلمك فدار إليها فكلمته فقال لها لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة قالت فقالت أتوب إلاى الله من أذاك يا رسول الله ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فكلمته فقال يا بنية ألا تحبين ما أحب قالت بلاى فرجعت إليهن فأخبرتهن فقلن ارجعي إليه فأبت أن ترجع فأرسلن زينب بنت جحش فأتته فأغلظت وقالت إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة هل تكلم قال فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها قالت فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال إنها بنت أبي بكر.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وكان المسلمون قد علموا..) إلى قوله: (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: إسماعيل بن أبي أويس. الثاني: أخوه، هو أبو بكر عبد الحميد ابن أبي أويس، مر في العلم. الثالث: سليمان بن بلال، مر في الإيمان. الرابع: هشام بن عروة. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون. وفيه: رواية الأخ عن الأخ. وفيه: رواية الابن عن الأب وقد تابع البخاري في السند المذكور حميد بن زنجويه في رواية أبي نعيم، وإسماعيل القاضي في رواية أبي عوانة فروياه عن إسماعيل كما قال، وخالفهم محمد بن يحيى الذهلي فرواه إسماعيل: حدثني سليمان، فحذف الواسطة بين إسماعيل وسليمان، وهو أخو إسماعيل: عبد الحميد.
ذكر معناه: قوله: (حزبين)، تثنية حزب، وهو الطائفة ويجمع على أحزاب. قوله: (عائشة)، هي بنت أبي بكر الصديق، (وحفصة) هي بنت عمر بن الخطاب، (وصفية) بنت حيي الخيبرية. (وسودة) بنت زمعة العامرية. قوله: (أم سلمة)، هي بنت أبي أمية. قوله: (وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: وبقية نسائه، صلى الله عليه وسلم، وهي الأربع: زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان الأموية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية. قوله: (يكلم الناس)، يجوز بالجزم وبالرفع. قوله: (فيقول)، تفسير لقوله: يكلم. قوله: (فليهدها إليه)، وفي رواية الكشميهني: فليهد، بلا ضمير. قوله: (بما قلن)، أي: بالذي قلنه. قوله: (حين دار إليها)، أي: إلى عائشة أراد يوم كونه، صلى الله عليه وسلم، في نوبة عائشة في بيتها. قوله: (فكلمته)، أي: فكلمت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تؤذيني في عائشة)، كلمة: في، ههنا للتعليل، كما في قوله تعالى: * (فذلكن الذي لمتنني فيه) * (يوسف: 23). وفي الحديث: أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها. قوله: (قالت: فقالت)، أي: قالت عائشة فقالت أم سلمة: أتوب إلى الله. قوله: (ثم إنهن) أي: إن نساء النبي اللاتي هن الحزب الآخر. قوله: (دعون)، أي: طلبن فاطمة، رضي الله تعالى عنها، وفي رواية الكشميهني: دعين قوله: (تقول)، أي: فاطمة تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نساءك ينشدنك الله العدل) أي: يسألنك بالله العدل، ومعناه: التسوية بينهن في كل شيء من المحبة وغيرها، هكذا قاله بعضهم، ولكن المعنى التسوية بينهن في المحبة المتعلقة بالقلب، لأنه كان يسوي بينهن في الأفعال المقدورة. وأجمعوا على أن محبتهن
137

لا تكليف فيها ولا يلزمه فيها لأنها لا قدرة عليها، وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال، حتى اختلفوا في أنه: هل يلزمه القسم بين الزوجات أم لا؟ وفي رواية الأصيلي: يناشدنك الله العدل، وفي رواية مسلم عن ابن شهاب: أخبرني محمد بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، قالت: أرسلت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها، فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلني يسألنك العدل في بنت أبي قحافة، وأنا ساكتة. قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألست تحبين ما أحب؟) فقالت: بلى قال: (فأحبي هذه). قالت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلن لها: ما نراك أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في بنت أبي قحافة، فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبدا. قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي كانت تساميني منهن من المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب إلى الله ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع الفيئة، قالت: فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة على الحال الذي دخلت فاطمة عليها وجوبها فإذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أزواجك أرسلنني يسألنك العدل في بنت أبي قحافة. قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرقب طرفه: هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها حتى أنهيت عليها. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: إنها بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وإنما سقت حديث مسلم بكماله لأنه كالشرح لحديث البخاري مع زيادات فيه، وسأشرح بعض ما فيه. قوله: (يا بنية)، تصغير إشفاق. قوله: (فأتته) أي: فأتت زينب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (فأغلظت) أي: في كلامها. قوله: (في بنت أبي قحافة)، بضم القاف وتخفيف الحاء المهملة وبالفاء:
هي كنية والد أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، واسمه: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، واسم أبي بكر: عبد الله، يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب. قوله: (حتى تناولت)، أي: تعرضت. قوله: (وهي قاعدة)، جملة حالية، أي: عائشة قاعدة، وفي رواية النسائي وابن ماجة مختصرا من طريق عبد الله البهي: عن عروة عن عائشة، قالت: دخلت علي زينب بنت جحش فسبتني فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فأبت، فقال: سبيها، فسببتها حتى جف ريقها في فمها. انتهى. يحتمل أن تكون هذه قضية أخرى. قوله: (وقال: إنها بنت أبي بكر)، أي: إنها شريفة عاقلة عارفة كأبيها وقيل: معناه هي أجود فهما وأدق نظرا منها. وفيه: الاعتبار بالأصل في مثل هذه الأشياء. وفيه: لطيفة أخرى، وهي، أنه، صلى الله عليه وسلم، نسبها إلى أبيها في معرض المدح، ونسبت فيما تقدم إلى أبي قحافة حيث لما أريد النيل منها، ليخرج أبو بكر، رضي الله تعالى عنه من الوسط إذ ذاك، ولئلا يهيج ذكره المحبة. قوله في رواية مسلم: تساميني، بالسين المهملة أي: تضاهيني في المنزلة من السمو وهو الارتفاع. قوله؛ (ما عدا سورة من حدة) بالحاء المهملة، وهو العجلة بالغضب، ويروى: من حد، بدون الهاء، وهو شدة الخلق، وصحف صاحب (التحرير) فروى: سودة، بالدال وجعلها بنت زمعة، وهو ظاهر الغلط. قوله: (تسرع منها الفيئة)، بفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الهمزة، وهو الرجوع من: فاء إذا رجع، ومعنى كلامها أنها كاملة الأوصاف إلا في شدة خلق بسرعة غضب، ومع ذلك يسرع زوالها عنها. قوله: لم أنشبها أي: لم أهملها حتى أنحيت، بالنون والحاء المهملة، أي قصدتها بالمعارضة، ويروى: حين أنحيت، ورجح القاضي هذه الرواية وما ثم موضع ترجح، ويروى: أثختها بالثاء المثلثة والخاء المعجمة وبالنون، أي: قطعتها وغلبتها. قوله: (وتبسم)، جملة وقعت حالا.
ذكر ما يستفاد منه فيه: فضيلة عظيمة لعائشة، رضي الله تعالى عنها. وفيه: أنه لا حرج على الرجل في إيثار بعض نسائه بالتحف، وإنما اللازم العدل في المبيت والنفقة ونحو ذلك من الأمور اللازمة، كذا روي عن المهلب، واعترض على ذلك بأنه
138

صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وإنما فعله الذين أهدوا له، وإنما لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من كمال الأخلاق التعرض لمثل هذا، على أن حال النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بأنه كان يشركهن في ذلك، ولم تقع المنافسة إلا لكون العطية تصل إليهن من بيت عائشة. وفيه: تجرى الناس بالهدايا في أوقات المسرة ومواضعها من المهدى إليه ليزيد بذلك في سرورة. وفيه: أن الرجل يسعه السكوت بين نسائه إذا تناظرن في ذلك ولا يميل مع بعضهن على بعض، كما سكت، صلى الله عليه وسلم، حين تناظرت زينب وعائشة، ولكن قال في الأخير: إنها بنت أبي بكر. وفيه: إشارة إلى التفضيل بالشرف والعز. وفيه: جواز التشكي والترسل في ذلك. وفيه: ما كان عليه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، من مهابته والحياء منه، حتى راسلنه بأعز الناس عنده: فاطمة، رضي الله تعالى عنها. وفيه: إدلال زينب بنت جحش على النبي صلى الله عليه وسلم، لكونها كانت بنت عمته، كانت أمها أميمة بالتصغير بنت عبد المطلب. وقال الداودي: فيه: عذر النبي صلى الله عليه وسلم لزينب، قيل: لا ندري هذا من أين أخذه؟ وقيل: يمكن أنه أخذه من مخاطبتها النبي صلى الله عليه وسلم لطلب العدل مع علمها بأنه أعدل الناس، لكن غلبت عليها الغيرة فلم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق ذلك، وإنما خص زينب بالذكر لأن فاطمة، رضي الله تعالى عنها، كانت حاملة رسالة خاصة، بخلاف زينب فإنها شريكتهن في ذلك، بل كانت رأسهن، لأنها هي التي تولت إرسال فاطمة أولا ثم سارت بنفسها.
قال البخاري الكلام الأخير قصة فاطمة يذكر عن هشام بن عروة عن رجل عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمان
لما تصرف الرواة في هذا الحديث بالزيادة والنقص حتى إن منهم من جعله ثلاثة أحاديث. قال البخاري: الكلام الأخير قصة فاطمة... إلى آخره، يذكره عن هشام بن عروة عن رجل، وهو مجهول، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة، وقال الكرماني: الرجل المجهول مذكور على طريق الشهادة والمتابعة، واحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول.
وقال أبو مروان عن هشام عن عرزة كان الناس يتحرون يوم عائشة وعن هشام عن رجل من قريش ورجل من الموالي عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمان بن الحارث بن هشام قالت عائشة كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنت فاطمة رضي الله تعالى عنها.
أبو مروان هو يحيى بن أبي زكريا الغساني، سكن واسطا، مات سنة تسعين ومائة، وقال الكرماني: وقيل: إنه محمد بن عثمان العثماني، وهو وهم. قلت: هذا أيضا يكنى أبا مروان، لكنه لم يدرك عن هشام بن عروة، وإنما يروي عنه بواسطة، وروى عن هشام أيضا بطريق آخر، رواه حماد بن سلمة عنه عن عوف بن الحارث عن أخيه رميثة
عن أم سلمة: أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم قلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة... الحديث. أخرجه أحمد.
9
((باب ما لا يرد من الهدية))
أي: هذا باب في بيان ما يرد من الهدية.
2852 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال حدثني ثمامة بن عبد الله قال دخلت عليه فناولني طيبا قال كان أنس رضي الله تعالى عنه لا يرد الطيب قال وزعم أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب.
(الحديث 2852 طرفه في: 9295).
مطابقته للترجمة من حيث إنه أوضح ما في الترجمة من الإبهام، لأن قوله: ما لا يرد من الهدية، غير معلوم، فالحديث أوضحه
139

وهو أن المراد منه الطيب. قال الجوهري: الطيب ما يتطيب به. قلت: هذا بكسر الطاء وسكون الياء، وأما: الطيب، بفتح الطاء وتشديد الياء المكسورة، فهو خلاف الخبيث. تقول: طاب الشيء يطيب طيبة وتطيابا.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد. الثاني: عبد الوارث بن سعيد. الثالث: عزرة، بفتح العين المهملة وسكون الزاي وبالراء: ابن ثابت الأنصاري. الرابع: ثمامة، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم: ابن عبد الله بن أنس، قاضي البصرة. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: رواية الراوي عن جده، فإن ثمامة روى عن جده أنس بن مالك.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وأخرجه الترمذي في الاستئذان في: باب ما جاء في كراهية رد الطيب: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا عزرة بن ثابت عن ثمامة بن عبد الله، قال: كان أنس لا يرد الطيب. وقال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الوليمة وفي الزينة عن إسحاق بن إبراهيم عن وكيع.
قوله: (قال: دخلت عليه)، أي: قال عزرة بن ثابت: دخلت على ثمامة بن عبد الله بن أنس، وقد وهم صاحب (التوضيح) حيث قال: الضمير في: عليه، يرجع إلى أنس. قوله: (فناولني طيبا) أي: فناولني ثمامة طيبا، وقد ذكرنا أن الطيب في اللغة ما يتطيب به، وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا ترد: الوسائد والدهن واللبن)، وقال: هذا حديث غريب، وهذا الذي ذكره أيضا مما لا يرد وإنما لم يذكره لأنه ليس على شرطه. قوله: (قال وزعم أنس)، أي: قال: والزعم يستعمل للقول، قال ابن بطال، رحمه الله: إنما كان لا يرد الطيب من أجل أنه ملازم لمناجاة الملائكة، ولذلك كان لا يأكل الثوم وما يشاكله، قال بعضهم: لو كان هذا هو السبب في ذلك لكان من خصائصه، وليس كذلك، فإن أنسا اقتدى به في ذلك، وقد ورد النهي عن رده مقرونا ببيان الحكمة في ذلك في حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وأبو عوانة من طريق عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا: (من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة) وأخرجه مسلم من هذا الوجه لكن، قال: ريحان، بدل: طيب. انتهى. قلت: إذا انتفت الخصوصية لا ينافي أن يكون من جملة السبب في ترك رده استصحاب شيء طيب الرائحة للملك وللخلق.
01
((باب من رأى الهبة الغائبة جائزة))
أي: هذا باب في بيان حكم من رأى الهبة أي: التي توهب، لأن نفس الهبة مصدر، كما ذكرنا، فلا يوصف بالغيبة. وفي بعض النسخ: من رأى الهدية الغائبة جائزة، والأول أصوب على ما لا يخفى.
4852 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال ذكر عروة أن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما ومروان قال أخبراه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن قام في الناس فأثناى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم جاؤنا تائبين وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذالك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفىء الله علينا فقال الناس طيبنا لك.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، فإن فيه: أنهم تركوا ما غنموه من السبي، من قبل أن يقسم، وذلك في معنى الغائب، وتركهم إياه في معنى الهبة، وفيه تعسف شديد من وجوه: الأول: أنهم ما ملكوا شيئا قبل القسمة، وإن كانوا استحقوه. والثاني: إطلاق الهبة على الترك بعيد جدا. والثالث: أنه هبة شيء مجهول، لأن ما يستحق كل واحد منهم قبل القسمة غير معلوم. والرابع: توصيف الهبة بالعيبة، وفيه ما فيه، وهذه التعسفات كلها من وضع هذه الترجمة على الوجه المذكور.
وهذا الحديث قطعة من حديث المسور ومروان في قصة هوازن، وقد مر الحديث في كتاب العتق في: باب من ملك من العرب رقيقا فوهب
140

وباع، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
قوله: (ومن أحب أن يكون على حظه)، أي: نصيبه، وجواب: من، التي هي للشرط محذوف، يدل عليه السياق في جواب الشرط الأول، وهو قوله: فليفعل، وقال ابن بطال: فيه: أن للسلطان أن يرفع أملاك قوم إذا كان في ذلك مصلحة واستئلاف، ورد بأنه ليس في الحديث ما ذكره، بل فيه أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعد تطييب نفوس الغانمين.
11
((باب المكافأة في الهبة))
أي: هذا باب في بيان المكافأة، وهي إعطاء العوض في الهبة، والمكافأة مفاعلة من: كافأ يكافيء، وأصلها بالهمزة، وقد يلين، وكل شيء ساوى شيئا حتى يكون مثله فهو مكافىء له، ومنه التكافؤ وهو الاستواء.
5852 حدثنا مسدد قال حدثنا عيساى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها.
مطابقته للترجمة إنما تتأتى إذا أريد بلفظ الهبة في الترجمة معناها الأعم، وهشام هو ابن عروة بن الزبير، يروي عن أبيه عروة.
والحديث أخرجه أبو داود في البيوع عن علي بن بحر وعبد الرحيم بن مطرف، وأخرجه الترمذي في البر عن يحيى بن أكثم، وعلي بن خشرم، وفي الشمائل عن علي بن خشرم وغير واحد كلهم عن عيسى بن يونس به.
قوله: (عن هشام) وفي رواية الإسماعيلي: عن عيسى بن يونس حدثنا هشام. قوله: (ويثيب عليها)، من أثاب يثيب أي: يكافىء عليها بأن يعطي صاحبها العوض، والمكافأة على الهدية مطلوبة اقتداء بالشارع. قال صاحب (التوضيح): وعندنا لا يجب فيها ثواب مطلقا، سواء وهب الأعلى للأدنى أو عكسه، أو للمساوي. قال المهلب: والهدية ضربان: للمكافأة، فهي بيع ويجبر على دفع العوض، ولله تعالى. وللصلة، فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن.
واختلف العلماء فيمن وهب هبة ثم طلب ثوابها، وقال: إنما أردت الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله من يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغني والغلام لصاحبه، والرجل لامرأته ومن فوقه، وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يكون له إذا لم يشرطه، وهو قول الشافعي الثاني، واحتج مالك بحديث الباب، والاقتداء به واجب، قال الله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 12). وروى أحمد في (مسنده) وابن حبان في (صحيحه) من حديث ابن عباس: أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم فأثابه عليها. وقال: رضيت؟ فقال: لا، فزاده، قال: رضيت؟ قال: لا، فزاده. قال: رضيت؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أتهب هبة إلا من قريشي أو أنصاري أو ثقفي، وعن أبي هريرة نحوه، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال: حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم وهو دال على الثواب فيها، وإن لم يشرط، لأنه صلى الله عليه وسلم أثابه وزاده فيه حتى بلغ رضاه، واحتج به من أوجبه، قال: ولو لم يكن واجبا لم يثبه ولم يزده، ولو أثاب تطوعا لم تلزمه الزيادة، وكان ينكر على الأعرابي طلبها. قلت: طمع في مكارم أخلافه وعادته في الإثابة. وقال ابن التين: إذا شرط الثواب أجازه الجماعة إلا عبد الملك، وله عند الجماعة أن يردها ما لم يتغير إلا عند مالك، فألزمه الثواب بنفس القبول، وعبارة ابن الحاجب: وإذا صرح بالثواب فإن عينه فبيع، وإن لم يعينه فصححه ابن القاسم ومنعه بعضهم للجهل بالثمن، قال: ولا يلزم الموهوب له إلا قيمتها قائمة أو فائتة، وقال مطرف: للواهب أن يأبى إن كانت قائمة.
لم يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن عائشة
أشار البخاري بهذا إلى أن عيسى بن يونس تفرد بوصل هذا الحديث عن هشام، وأنه لم يذكر وكيع بن الجراح، ومحاضر، بضم الميم وكسر الضاد المعجمة: ابن المورع، بتشديد الراء المكسورة وبالعين المهملة: الكوفي، عن هشام عن أبيه عن عائشة يعني: لم يسندا إلى هشام عن أبيه عن عائشة، بل أرسلاه. وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث مرفوعا
141

إلا من حديث عيسى بن يونس، وكذا قال البزار، وقال الآجري: سألت أبا داود عنه، فقال: تفرد بوصله عيسى بن يونس، وهو عند الناس مرسل.
21
((باب الهبة للولد وإذا أعطاى بعض ولده لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخرين مثله ولا يشهد عليه))
أي: هذا باب في بيان حكم هبة الوالد لولده، وإذا أعطى أي: الأب بعض ولده شيئا لم يجز حتى يعدل، يعني: في العطاء للكل ويعطي الآخرين، أي: الأولاد الآخرين، وهذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: ويعطى الآخر، بصيغة الإفراد. وصدر الترجمة بالهبة للولد لدفع إشكال من يأخذ بظاهر حديث: أنت ومالك لأبيك، فإن المال إذا كان للأب فلو وهب منه شيئا لولده كان كأنه وهب مال نفسه لنفسه، وقال بعضهم: ففي الترجمة إشارة إلى ضعف هذا الحديث أو إلى تأويله. قلت: بأي وجه تدل هذه الترجمة على ضعف هذا الحديث؟ فلا وجه لذلك أصلا على أن الحديث المذكور صحيح، ورواه ابن ماجة في (سننه): حدثنا هشام بن عمار حدثنا عيسى بن يونس حدثنا يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي عن محمد بن المنكدر عن جابر: أن رجلا قال: يا رسول الله! إن لي مالا وولدا. وإن أبي يريد أن يجتاح مال. قال: (أنت ومالك لأبيك). قال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: رجاله ثقات، وقال في (التنقيح): ويوسف بن إسحاق من الثقات المخرج لهم في (الصحيحين) قال: وقول الدارقطني فيه: غريب، تفرد به عيسى عن يوسف، لا يضره، فإن غرابة الحديث والتفرد به لا يخرجه عن الصحة. وطريق آخر أخرجه الطبراني في (الصغير) والبيهقي في (دلائل النبوة) في حديث جابر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أبيه يريد أن يأخذ ماليه... الحديث، بطوله، وفي آخره: قال: بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ بتلابيب ابنه، وقال له: (إذهب، فأنت ومالك لأبيك). وفيه: عن عائشة أيضا، رواه ابن حبان في (صحيحه): أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أباه في دين له عليه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك). وعن سمرة بن جندب أخرجه البزار في (مسنده) والطبراني في (معجمه)، فذكره بلفظ ابن ماجة. وعن عمر، رضي الله تعالى عنه، أخرجه البزار في (مسنده) عنه مرفوعا بلفظ ابن ماجة، وفي سنده مقال. وعن ابن مسعود أخرجه الطبراني في (معجمه): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (أنت ومالك لأبيك)، وفيه مقال، وعن ابن عمر أخرجه أبو يعلى في (مسنده) عنه مرفوعا بلفظ ابن مسعود.
قوله: (وإذا أعطى بعض ولده) إلى قوله: (مثله). واختلف العلماء من التابعين وغيرهم فيه، فقال طاووس وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعروة وابن جريج والنخعي والشعبي وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وسائر الظاهرية: أن الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض فهو باطل. وقال أبو عمر: اختلف في ذلك عن أحمد،
وأصح شيء عنه في ذلك ما ذكره الخرفي في (مختصره) عنه، قال: وإذا فضل بعض ولده في العطية أمر برده، فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له، إذا كان ذلك في صحته، واحتجوا في ذلك بحديث النعمان ابن بشير، يقول: نحلني أبي غلاما، فأمرتني أمي أن أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشهده على ذلك، فقال: أكل ولدك أعطيته؟ فقال: لا. قال: فاردده، أخرجه الجماهير غير أبي داود، وقال الثوري والليث بن سعد والقاسم بن عبد الرحمن ومحمد بن المنكدر وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي في رواية: يجوز أن ينحل لبعض ولده دون بعض، وسيأتي الكلام فيه مفصلا. قوله: (ولا يشهد عليه)، أي: على الأب، و: لا يشهد، على صيغة المجهول. قال الكرماني: هو عطف على قوله: لم يجز، وقال أيضا: وفي بعض الروايات: و: يشهد، بدون كلمة: لا، والأولى هي المناسبة لحديث عمر، وقال ابن بطال: معناه الرد لفعل الأب إذا فضل بعض بنيه، وأنه لا يسع الشهود أن يشهدوا على ذلك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم اعدلوا بين أولادكم في العطية
هذا التعليق يأتي موصولا في الباب الثاني من حديث النعمان بن بشير، رضي الله تعالى عنه، بدون قوله: في العطية، وروى الطحاوي، قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا ورقاء عن المغيرة عن الشعبي، قال: سمعت النعمان
142

على منبرنا هذا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية كما تحبون أن يسووا بينكم في البر).
وهل للوالد أن يرجع في عطيته وما يأكل من مال ولده بالمعروف ولا يتعدى
هذا الذي ذكره مسألتان: الأول: أن الأب إذا وهب لابنه، هل له أن يرجع؟ فيه خلاف، فعند طاووس وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق: ليس للواهب أن يرجع فيما وهب، إلا الذي ينحله الأب لابنه، وغير الأب من الأصول كالأب، عند الشافعي في الأصح. وفي (التوضيح): لا رجوع في الهبة إلا للأصول، أبا كان أو أما أو جدا، وليس لغير الأب الرجوع عند مالك وأكثر أهل المدينة، إلا أن عندهم أن الأم لها الرجوع أيضا مما وهبت لولدها إذا كان أبوه حيا، هذا هو الأشهر عند مالك، وروي عنه المنع، ولا يجوز عند أهل المدينة أن ترجع الأم ما وهبت ليتيم من ولدها، كما لا يجوز الرجوع في العتق والوقف وأشباهه. انتهى. وعند أصحابنا الحنفية: لا رجوع فيما يهبه لكل ذي رحم محرم بالنسب، كالابن والأخ والأخت والعم والعمة. وكل من لو كان امرأة لا يحل له أن يتزوجها، وبه قال طاووس والحسن وأحمد وأبو ثور.
المسألة الثانية: أكل الولد من مال الولد بالمعروف يجوز. وروى الحاكم مرفوعا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وأن ولده من كسبه، فكلوا من مال أولادكم، وأخرجه الترمذي أيضا من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، وقال: حديث حسن، وعند أبي حنيفة: يجوز للأب الفقير أن يبيع عرض ابنه الغائب لأجل النفقة، لأن له تملك مال الابن عند الحاجة، ولا يصح بيع عقاره لأجل النفقة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز فيهما، وأجمعوا أن الأم لا تبيع مال ولدها الصغير والكبير، كذا في (شرح الطحاوي).
واشترى النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بعيرا ثم أعطاه ابن عمر وقال اصنع به ما شئت
هذا قطعة من حديث مضى في كتاب البيوع في: باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته، فأرجع فراجع إليه تقف عليه. وقال ابن بطال: مناسبة حديث ابن عمر للترجمة أنه، صلى الله عليه وسلم، لو سأل عمر، رضي الله تعالى عنه، أن يهب البعير لابنه عبد الله لبادر إلى ذلك، ولكنه لو فعل لم يكن عدلا بين بني عمر، فلذلك اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم من عمر ثم وهبه لعبد الله، وهذا يدل على ما بوب له البخاري من التسوية بين الأبناء في الهبة.
واختلف الفقهاء في معنى التسوية: هل هو على الوجوب أو على الندب؟ فأما مالك والليث والثوري والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فأجازوا أن يخص بعض بنيه دون بعض بالنحلة والعطية، على كراهية من بعضهم، والتسوية أحب إلى جميعهم. وقال الشافعي: ترك التفضيل في عطية الأبناء فيه حسن الأدب، ويجوز له ذلك في الحكم، وكره الثوري وابن المبارك وأحمد أن يفضل بعض ولده على بعض في العطايا، وكان إسحاق يقول مثل هذا، ثم رجع إلى مثل قول الشافعي. وقال المهلب: وفي الحديث دلالة على أنه لا تلزم المعدلة فيما يهبه غير الأب لولد غيره.
6852 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمان ومحمد بن النعمان بن بشير أنهما حدثاه عن النعمان ابن بشير أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما فقال أكل ولدك نحلت مثله قال لا قال فارجعه.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الترجمة فيما إذا أعطى لبعض ولده لم يجز حتى يعدل ويعطي الآخرين مثله، والحديث يتضمن هذا على ما لا يخفى.
ذكر رجاله: عبد الله بن يوسف التنيسي، وهو من أفراده، وقد تكرر ذكره، ومالك بن أنس وابن شهاب هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري، وحميد، بضم الحاء المهملة: ابن عبد الرحمن بن عوف، وقد مر في الإيمان، ومحمد بن النعمان بن بشير الأنصاري، ذكره ابن حبان في الثقات التابعين، وقال العجلي: هو تابعي ثقة، روى له الجماعة إلا أبا داود، والنعمان، بضم النون: ابن بشير ضد
143

النذير ابن سعد بن ثعلبة بن الجلاس، بضم الجيم وتخفيف اللام: الأنصاري الخزرجي، وأبوه بشير من البدريين، قيل: إنه أول من بايع أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، من الأنصار بالخلافة، وقتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، سنة ثنتي عشرة بعد انصرافه من اليمامة.
حتى ص 441
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة التثنية في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع.
وفيه: رواية التابعي عن التابعيين عن الصحابي. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون إلا شيخه فإنه في الأصل من دمشق وسكن تنيس. وفيه: عن النعمان بن بشير، كذا هو لأكثر أصحاب الزهري. وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب: أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثنا عن بشير بن سعلة، فجعله من مسند بشير، فشذ بذلك، والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان بن بشير، وروى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين، منهم: عروة بن الزبير عند مسلم، وأبي داود والنسائي، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبي عوانة، والشعبي في (الصحيحين) وأبي داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم، ورواه عن الشعبي عدد كثير أيضا.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الهبة من رواية الشعبي عن النعمان عن حامد ابن عمر، وفي الشهادات عن عبدان عن ابن المبارك. وأخرجه مسلم من حديث مالك في الفرائض عن يحيى بن يحيى عنه وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر وعن قتيبة ومحمد بن رمح وعن حرملة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن عبد بن حميد. وأخرجه الترمذي في الأحكام عن نصر بن علي وسعيد بن عبد الرحمان وأخرجه النسائي في النحل عن محمد بن منصور عن سفيان به وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك به، وعن محمد بن هاشم عن الوليد بن مسلم وعن قتيبة عن سفيان وعن عمرو بن عثمان. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن هشام بن عمار، ومن طريق الشعبي أخرجه مسلم في الفرائض عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن يحيى بن يحيى وعن أبي بكر عن علي وعن محمد بن عبد الله وعن إسحاق بن إبراهيم ويعقوب بن إبراهيم وعن محمد بن المثنى وعن أحمد بن عثمان. وأخرجه أبو داود في البيوع عن أحمد بن حنبل. وأخرجه النسائي في النحل عن محمد بن المثنى وعن محمد بن عبد الملك وعن موسى بن عبد الرحمن. وعن أبي داود الحراني وفي القضاء عن محمد بن قدامة. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن بكر بن خلف.
ذكر معناه: قوله: (أن أباه) هو: بشير بن سعد. قوله: (إني نحلت)، بالنون والحاء المهملة، يقال: نحله أنحله نحلا، بضم النون، أي: أعطيته، ونحلت للمرأة مهرها أنحلها نحلة، بكسر النون، هكذا اقتصر في النحلة على الكسر، وحكى غيره فيها الوجهين: الضم والكسر، والنحلى، بالضم على وزن: فعلى: العطية. قوله: (هذا غلاما))
. قوله: (أكل ولدك؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار، و: كل، منصوب بقوله: نحلت، وفي رواية ابن حبان: ألك ولد سواه؟ قال: نعم. وفي رواية لمسلم: أكل بنيك؟. فإن قلت: ما التوفيق بين الروايتين؟ قلت: لا منافاة بينهما، لأن لفظ: الولد، يشمل ما لو كانوا ذكورا أو إناثا وذكورا، وأما لفظ: البنين، فالذكور فيهم ظاهر، وإن كان فيهم إناث فيكون على سبيل التغليب، ولم يذكر محمد بن سعد لبشير بن سعد والد النعمان ولدا غير النعمان، وذكر له بنتا اسمها: أبية، مصغر أبي. والله أعلم. قوله: (قال: فأرجعه)، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم أرجع ما نحلته لابنك. اختلف في هذا اللفظ، ففي بعض الروايات: فاردده، وفي رواية: فرده، وفي رواية: فرد عطيته، وفي رواية: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وفي رواية: قاربوا بين أولادكم، روى: قاربوا بالباء الموحدة وبالنون.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به جماعة على أن من نحل بعض بنيه دون بعض فهو باطل، فعليه أن يرجع حتى يعدل بين أولاده، وقد مر الكلام فيه مستقصى وبقي الكلام في تحقيق هذا الحديث، فقال الترمذي: وقد روي هذا الحديث من غير
144

وجه عن النعمان بن بشير، ورواه الطحاوي من طريق الزهري عن محمد بن النعمان، وحميد بن عبد الرحمن عن النعمان مثل حديث الباب ثم قال: واحتج به قوم على أن الرجل إذا نحل بعض بنيه دون بعض أنه باطل، ثم قال: وخالفهم في ذلك آخرون، وحاصل كلامه أنهم جوزوا ذلك، ثم قال ما ملخصه: إن الحديث المذكور ليس فيه أن النعمان كان صغيرا حينئذ، ولعله كان كبيرا، ولم يكن قبضه. وقد روى أيضا على معنى غير ما في الحديث المذكور، وهو أن النعمان قال: انطلق بي أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحلني نحلا ليشهده على ذلك، فقال: (أو كل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. قال: أيسرك أن يكونوا إليك في البر كلهم سواء؟ قال: بلى. قال: فأشهد على هذا غيري). فهذا لا يدل على فساد العقد الذي كان عقده للنعمان، وأما امتناعه عن الشهادة فلأنه كان متوقيا عن مثل ذلك، ولأنه كان إماما، والإمام ليس من شأنه أن يشهد، وإنما من شأنه أن يحكم. وقد اعترض عليه بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة، ولا من أدائها إذا تعينت عليه. قلت: لا يلزم أيضا أن لا يمتنع من تحمل الشهادة، فإن التحمل ليس بمتعين، لا سيما في حق النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مقامه أجل من ذلك، وكلامنا في التحمل لا في الأداء، إذا تحمل. فافهم. ثم روى الطحاوي حديث النعمان المذكور من رواية الشعبي عنه كما رواه البخاري، على ما يأتي، وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمره برد الشيء، وإنما فيه الأمر بالتسوية. فإن قلت: في رواية البخاري: (فرجع فرد عطيته؟) قلت: رده عطيته في هذه الروايات باختياره هو لا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع عنه صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). فإن قلت: في حديث الباب الأمر بالرجوع صريحا حيث قال: (فارجعه) قلت: ليس الأمر على الإيجاب، وإنما هو من باب الفضل والإحسان، ألا ترى إلى حديث أنس رواه البزار في (مسنده) عنه: (أن رجلا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءته بنية له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا سويت بينهما؟) انتهى. وليس هذا من باب الوجوب، وإنما هو من باب الإنصاف والإحسان.
31
((باب الإشهاد في الهبة))
أي: هذا باب في بيان الإشهاد في الهبة.
7852 حدثنا حامد بن عمر قال حدثناأبو عوانة عن حصين عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما وهو على المنبر يقول أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضاى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله قال أعطيت سائر ولدك مثل هاذا قال لا قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم قال فرجع فرد عطيته.
(انظر الحديث 6852 وطرفه).
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، وهو ظاهر، وقال الكرماني: قال شارح التراجم: فإن قيل: ليس في حديث النعمان ما يدل على أكل الرجل مال ولده، قلنا: إذا جاز للوالد انتزاع ملك ولده الثابت بالهبة لغير حاجة، فلأن يجوز عند الحاجة أولى.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: حامد بن عمر بن حفص بن عبيد الله الثقفي. الثاني: أبو عوانة، بفتح العين المهملة: الوضاح بن عبد الله اليشكري. الثالث: حصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين: ابن عبد الرحمن السلمي. الرابع: عامر بن شرحبيل الشعبي. الخامس: النعمان بن بشير.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بصري وأبو عوانة واسطي وحصين وعامر كوفيان. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر معناه: قوله: (وهو على المنبر)، جملة حالية، وكذا قوله: (يقول). قوله: (أعطاني أبي عطية)، وكان العطية غلاما صرح به مسلم في رواية هشام بن عروة عن أبيه، قال: حدثنا النعمان بن بشير، قال وقد أعطاه أبوه غلاما، فقال له
145

النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا الغلام؟) فقال أعطانيه أبي. قال: فكل أخوته أعطيته كما أعطيت هذا؟ قال: لا. قال: فرده. وكذا صرح به في حديث جابر رواه مسلم عنه، قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلامك وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فإن قلت: روى ابن حبان من رواية ابن حريز، بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وفي آخره زاي، على وزن كريم، والطبراني أيضا عن الشعبي: أن النعمان خطب بالكوفة، فقال: إن والدي بشير بن سعد أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام، وإني سميته النعمان، وأنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل مال هو لي، فإنها قالت: أشهد على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم... وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أشهد على جور) قلت: وفق ابن حبان بين الروايتين بالحمل على واقعتين: إحداهما: عند ولادة النعمان، وكانت العطية حديثة، والأخرى: بعد أن كبر النعمان، وكانت العطية عبدا. وقال بعضهم: يعكر عليه أنه يبعد أن ينسى بشير بن سعد، مع جلالته، الحكم في المسألة حتى يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشهد على العطية الثانية بعد أن قال له في الأولى: لا أشهد على جور. قلت: لا بعد في هذا أصلا، فإن الإنسان مأخوذ من النسيان، وهموم أحوال الدنيا وغم أحوال الآخرة تنسي أن نسيان، والنسيان غالب، حتى قيل: إن الإنسان مأخوذ من النسيان. قوله: (عمرة بنت رواحة)، بفتح الراء: الأنصارية زوجة بشير أم النعمان، وهي أخت عبد الله بن رواحة. قوله: (حتى تشهد) من الإشهاد، وسيأتي في الشهادات من حديث الشعبي سبب سؤال شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظه: عن النعمان، قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ولفظ مسلم عن الشعبي: حدثني النعمان بن بشير أن أمه ابنة رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله، فالتوى بها سنة أي: مطلها ثم بدا له. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه: بعد حولين، والتوفيق بين الروايتين، بأن يقال: إن المدة كانت سنة وشيئا، فجبر الكسر تارة وألغى أخرى، ثم في رواية مسلم: فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أخرى له، قال: انطلق بين أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوفيق بين الروايتين بأن يقال: إنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق، وحمله في بعضها لصغر سنه. قوله: (فرجع فرد عليه عطيته)،، وفي رواية لمسلم: فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وسيأتي في الشهادات. قال: لا تشهدني على جور. وفي رواية لمسلم: ولا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور، وفي رواية له: وإني لا أشهد إلا على حق. وفي رواية الطحاوي: فأشهد على هذا غيري، وكذا في رواية النسائي، وفي رواية عبد الرزاق من طريق طاووس مرسلا: لا أشهد إلا على الحق، لا أشهد بهذه. وفي رواية عروة عند النسائي: فكره أن يشهد له، وقد ذكرنا وجه امتناعه عن الشهادة عن قريب، واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به من أوجب التسوية في عطية الأولاد، وبه صرح البخاري، وهو قول طاووس والثوري وأحمد وإسحاق، كما ذكرناه، وقال به بعض المالكية. ثم المشهور عند هؤلاء: أنها باطلة، وعن أحمد: يصح ويجب عليه أن يرجع، و عنه: يجوز التفاضل إن كان له سبب، كاحتياح الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك. وقال أبو يوسف: تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار، وذهب الجمهور إلى أن التسوية مستحبة، فإن فضل بعضا صح وكره، وحملوا الأمر على الندب والنهي على التنزيه.
ثم اختلفوا في صفة التسوية، فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية وبعض المالكية: العدل إن يعطي الذكر حظين كالميراث، وقال غيرهم: لا يفرق بين الذكر والأنثى، وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهم، واستأنسوا بحديث أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه عن ابن عباس مرفوعا: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء). وأجاب عن حديث النعمان من حمل الأمر بالتسوية على الندب بوجوه:
الأول: أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده، فلذلك منعه، ورد هذا بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية، وقال القرطبي: ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده، كما ذهب إليه سحنون، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما، وأنه وهبه له لما سألته الأم
الهبة من بعض ماله، قال: وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره.
الثاني: أن العطية المذكورة لم تتنجز، وإنما جاء بشير والد النعمان يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إليه بأن لا يفعل، فترك، حكاه
146

الطحاوي. وقال بعضهم: وفي أكثر طرق الحديث ما ينابذه. قلت: هذا كلام من لا إنصاف له، لأنه يقصد بهذا تضعيف ما قاله، مع أنه لم يقل هذا إلا بحديث شعيب، يرويه شيخ البخاري عنه، وهو شعيب بن أبي ضمرة، فإنه رواه حيث قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: حدثنا شعيب عن الزهري، قال: حدثني حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن النعمان أنهما سمعا النعمان ابن بشير، يقول: نحلني أبي غلاما ثم مشى أبي حتى إذا أدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني نحلت ابني غلاما فإن أذنت أن أجيزه له أجزت، ثم ذكر الحديث، فهذا ينادي بأعلى صوته أن بشيرا نحل ابنه غلاما، ولكنه لم ينجزه حتى استشار النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فلم يأذن له به فتركه.
الثالث: أن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب، فجاز لأبيه الرجوع. ذكره الطحاوي أيضا. وقال بعضهم: وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضا، قوله: أرجعه، فإنه يدل على تقدم وقوع القبض. انتهى. قلت: هذا أيضا طعن في كلام الطحاوي من غير وجه ومن غير إنصاف، لأنه لم يقل هذا أيضا إلا وقد أخذه من حديث يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم عن سفيان بن عيينة شيخ الشافعي عن محمد بن مسلم الزهري عن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن أخبراه أنهما سمعا النعمان بن بشير يقول: نحلني أبي غلاما، فأمرتني أمي أن أذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشهده على ذلك... الحديث، فهذا يدل على أن النعمان كان كبيرا، إذ لو كان صغيرا كيف كانت أمه تقول له: إذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقول هذا القائل: إرجعه، يدل على تقدم القبض، غير دال على القبض حقيقة، لأنه يحتمل أنه قال لبشير: إرجع عما قلت بنحل ابنك النعمان دون أخوته.
الرابع: أن قوله: أشهد، في رواية النسائي وغيره، ولا يدل على أن الأمر بالتسوية يدل على الوجوب، لأن أمر التوبيخ يدل عليه ألفاظ كثيرة في الحديث يعرف بالتأمل.
الخامس: أن عمل الخليفتين أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب. أما أثر أبي بكر فأخرجه الطحاوي: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب أن مالكا حدثه عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، أنها قالت أن أبا بكر الصديق نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية! ما من أحد من الناس أحب إلي غنى بعدي منك، ولا أعز علي فقرا بعدي منك، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، فلو كنت جددته وأحرزته كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على بيان كتاب الله تعالى. فقالت عائشة: والله يا أبت! لو كان كذا وكذا لتركته، إنما هي أسماء، فمن الأخرى؟ فقال: ذو بطن بنت خارجة، أراها جارية. وأخرجه البيهقي أيضا في (سننه) من حديث شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير، أن عائشة، قالت: كان أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، نحلني جداد عشرين وسقا من ماله، فلما حضرته الوفاة جلس فاحتبى، ثم تشهد ثم قال: أما بعد! أي بنية... إن أحب الناس إلي غنى بعدي لأنت، وإني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي، فوددت والله لو أنك كنت خزنته وجددته، ولكن إنما هو اليوم مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك. فقلت: يا أبتاه هذه أسماء، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة، أراها جارية، فقلت لو أعطيتني ما هو كذا إلى كذا لرددته إليك. قال الشافعي: وفضل عمر، رضي الله تعالى عنه عاصما بشيء، وفضل ابن عوف ولد أم كلثوم. وأما أثر عمر، رضي الله تعالى عنه، فذكره الطحاوي أيضا كما ذكره البيهقي عن الشافعي، رحمه الله، وأخرج عبد الله بن وهب في (مسنده)، وقال: بلغني عن عمرو بن دينار أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط أربعة آلاف درهم، وله ولد من غيرها. قلت: هذا منقطع.
السادس: هو الجواب القاطع أن الإجماع انعقد على جواز إعطاء الرجل ماله لغير ولده، فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك لبعضهم، ذكره ابن عبد البر، قيل: فيه نظر، لأنه قياس مع وجود النص. قلت: إنما يمنع ذلك ابتداء، وأما إذا عمل بالنص على وجه من الوجوه، ثم إذا قيس ذلك الوجه إلى وجه آخر، لا يقال: إنه عمل بالقياس مع وجود النص. فافهم.
وفي الحديث من الفوائد: الندب إلى التأليف بين الأخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء. وفيه: إن العطية إذا كانت من الأب لصغير لا يحتاج إلى القبض، فيكفي قبوله له. وفيه: كراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح. وفيه: أن الإشهاد في الهبة مشروع، وليس بواجب. وفيه: جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض، لأن هذا أمر قلبي وليس باختياري. وفيه: مشروعية
147

استفسار الحاكم والمفتي عما يحتمل ذلك، كقوله، صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد غيره؟ وأفكلهم أعطيته؟). وفيه: جواز تسمية الهبة صدقة. وفيه: أن للأم كلاما في مصلحة الولد. وفيه: المبادرة إلى قبول قول الحق وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله كل حال. وفيه: إشارة إلى سوء عاقبة الحرض أن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولدها لما رجع فيه، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه.
41
((باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها))
أي: هذا باب في بيان حكم هبة الرجل لامرأته، وحكم هبة المرأة لزوجها، وحكمها أنه يجوز، فإذا جاز هل لأحدهما أن يرجع على الآخر؟ فلا يجوز على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى.
قال إبراهيم جائزة
إبراهيم هو ابن يزيد النخعي، أي: هبة الرجل لأمرأه، وهبة المرأة لزوجها جائزة. وهذا تعليق وصله عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم، قال: إذا وهبت له أو وهب لها فلكل واحد منهما عطيته. ووصله الطحاوي من طريق أبي عوانة عن منصور، قال: قال إبراهيم: إذا وهبت امرأة لزوجها، أو وهب الزوج لامرأته، فالهبة جائزة وليس لواحد منهما أن يرجع في هبته. ومن طريق أبي حنيفة: عن حماد عن إبراهيم الزوج والمرأة بمنزلة ذي الرحم، إذا وهب أحدهما لصاحبه لم يكن له أن يرجع.
وقال عمر بن عبد العزيز: لا يرجعان
عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين، وأحد الزهاد العابدين. قوله: (لا يرجعان)، يعني: لا يرجع الزوج على الزوجة ولا الزوجة على الزوج فيما إذا وهب أحدهما للآخر، وهذا وصله أيضا عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن زياد: أن عمر ابن عبد العزيز قال مثل قول إبراهيم، وقال ابن بطال: قال بعضهم: لها أن ترجع فيما أعطته، وليس له أن يرجع فيما أعطاها، روى هذا عن شريح والزهري والشعبي، وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين، كان شريح إذا جاءته امرأة وهبت لزوجها هبة ثم رجعت فيها يقول له: بينتك: أنها وهبتك طيبة نفسها من غير كره ولا هوان، وإلا فيمينها: ما وهبت بطيب نفسها إلا بعد كره، وهو إن انتهى فهذا يقتضي أنها ليس لها الرجوع إلا بهذا الشرط.
واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في أن يمرض في بيت عائشة، رضي الله تعالى عنها
مطابقته للترجمة من حيث إن أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وهبن له ما استحقين من الأيام، ولم يكن لهن رجوع فيما مضى، وهذا على حمل الهبة على معناها اللغوي، وهذا التعليق وصله البخاري في هذا الباب على ما يجيء عن قريب، ووصله أيضا في آخر المغازي على ما يجيء، إن شاء الله تعالى. قوله: (أن يمرض)، على صيغة المجهول، من التمريض وهو القيام على المريض في مرضه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
مطابقته للترجمة من حيث إن عموم العائد في هبته المذموم يدخل فيه الزوج والزوجة، وهذا التعليق وصله البخاري أيضا في: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته، وسيأتي بعد خمسة عشر بابا، وهذا الذي علقه أخرجه الستة إلا الترمذي، أخرجوه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)، زاد أبو داود: قال قتادة، ولا نعلم القيء إلا حراما، واحتج بهذا طاووس وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق على أنه: ليس للواهب أن يرجع فيما وهبه إلا الذي ينحله الأب لابنه، وعند مالك: له أن يرجع في الأجنبي الذي قصد منه الثواب ولم يثبه، وبه قال أحمد في رواية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: للواحد الرجوع في هبته من الأجنبي ما دامت قائمة ولم يعوض منها، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وشريح القاضي والأسود بن يزيد، والحسن البصري والنخعي والشعبي، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب
148

وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وفضالة بن عبيد، وأجابوا عن الحديث بأنه، صلى الله عليه وسلم، جعل العائد في هبته كالعائد في قيئه، بالتشبيه من حيث إنه ظاهر القبح مروءة وخلقا، لا شرعا، والكلب غير متعبد بالحلال والحرام، فيكون العائد في هبته عائدا في أمر قذر كالقذر الذي يعود فيه الكلب، فلا يثبت بذلك منع الرجوع في الهبة، ولكنه يوصف بالقبح وبه نقول، فلذلك نقول بكراهة الرجوع.
وقال الزهري فيمن قال لامرأته هبي لي بعض صداقك أو كله ثم لم يمكث إلا يسيرا حتى طلقها فرجعت فيه قال يرد إليها إن كان خلبها وإن كانت أعطته عن طيب نفس ليس في شيء من أمره خديعة جاز قال الله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) * (النساء: 4). فكلوه
الزهري: هو محمد بن مسلم بن شهاب، وهذا التعليق وصله عبد الله عن يونس بن يزيد عنه. قوله: (هبي)، أمر للمؤنث من: وهب يهب، وأصله: أوهبي، حذفت الواو منه تبعا لفعله، لأن أصل: يهب يوهب، فلما حذفت الواو استغنى عن الهمزة فحذفت فصار: هبي، على وزن: علي. قوله: (أوكله) أي: أو قال: هبي لي كل الصداق، قوله: (يرد إليها)، أي: يرد الزوج الصداق إليها. قوله: (إن كان خلبها)، بفتح الخاء المعجمة واللام والباء الموحدة أي: إن كان خدعها، ومنه في الحديث: إذا بعت فقل: (لا خلابة)، أي: لا خداع. فإن قلت: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: رأيت القضاة يقبلون المرأة فيما وهبت لزوجها ولا يقبلون الزوج فيما وهب لامرأته؟ قلت: التوفيق بينهما أن رواية معمر عنه هو منقول، ورواية يونس عنه هو اختياره، وهو التفصيل المذكور بين أن يكون خدعها، فلها أن ترجع أو لا فلا، وهو قول المالكية إن أقاما البينة على ذلك، وقيل: يقبل قوله في ذلك مطلقا. وإلى عدم الرجوع من الجانبين مطلقا ذهب الجمهور، وإلى التفصيل الذي نقل عن الزهري ذهب شريح القاضي، وإذا وهب أحد الزوجين للآخر لا بد في ذلك من القبض، وهو قول ابن سيرين وشريح والشعبي ومسروق والثوري وأبي حنيفة والشافعي، وهو رواية أشهب عن مالك، وقال ابن أبي ليلى والحسن: لا يحتاج إلى القبض. قوله: * (فإن طبن لكم) * (النساء: 4). الآية: احتج بهذه الزهري فيما ذهب إليه، وقبلها: * (وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4). الخطاب في قوله: * (وآتوا النساء) * (النساء: 4). للناكحين، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج ثم يقول: أرثك وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت. وقيل: إن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهو عن ذلك بهذ الآية. قوله: * (صدقاتهن) * (النساء: 4). أي: مهورهن، واحدها صدقة، بفتح الصاد وضم الدال، وهي لغة أهل الحجاز، وتميم تقول: صدقة، بضم الصاد وسكون الدال، فإذا جمعوا قالوا: صدقات، بضم الصاد وسكون الدال وبضم الدال أيضا مثل:
ظلمات. قوله: * (نخلة) * (النساء: 4). أي: فريضة مسماة، قاله قتادة وابن جريج ومقاتل، وعن ابن عباس: النحلة: المهر، وقال ابن زيد: النحلة في كلام العرب الواجب، تقول: لا ينكحها إلا بشيء واجب لها، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب، ولا ينبغي أن تكون تسمية الصداق كذبا بغير حق، وقيل: النحلة الديانة والملة، والتقدير: وآتوهن صدقاتهن ديانة، وفيه لغتان: كسر الصاد وضمها وانتصابها على المصدر، أو على الحال. وقال الزمخشري: المعنى: آتوهن مهورهن ديانة، على أنه مفعول له، ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين، أي: ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات، أي: منحولة معطاة عن طيبة الأنفس، والخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم، وكانوا يقولون: هنيئا لك النافجة، لمن يولد له بنت، يعنون: تأخذ مهرها فتنفج به مالك، أي: تعظمه. قوله: * (فإن طبن لكم) * (النساء: 4). يعني: النساء المنكوحات أيها الأزواج. * (عن شيء منه) * (النساء: 4). أي: من الصداق، وقال الزمخشري: الضمير في: منه، جار مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: عن شيء من ذلك. قوله: (نفسا) نصب على التمييز، وإنما وحد لأن الغرض بيان الجنس، والواحد يدل عليه، والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق ونحلت عن نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم، فكلوه فأنفقوه. قال الفقهاء: فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة، علم أنها لم تطب منه نفسا. قوله: * (هنيئا مريئا) * (النساء: 4). نعت لمصدر محذوف أي: أكلا هنيئا. وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: أكلا هنيئا، والهنيء ما يؤمن عاقبته، وقيل: ما أورث نفعا وشفاء، وقيل: الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء، وهو مأخوذ من هنأت البعير: إذا عالجته بالقطران
149

من الجرب، والمعنى: فكلوه دواء شافيا، والمريء: المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر ولا يؤذي، وقيل: الهنيء: ما يلد الآكل، والمريء ما يحمد عاقبته، وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة: المريء، لمرء الطعام فيه، وهو إنسياغه، وفي (تفسير مقاتل): هنيئا يعني: حلا مريئا يعني: طيبا.
8852 حدثنا إبراهيم بن موساى قال أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري قال أخبرني عبيد الله ابن عبد الله قال قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج بين رجلين تخط رجلاه الأرض وكان بين العباس وبين رجل آخر فقال عبيد الله فذكرت لابن عباس ما قالت عائشة فقال لي وهل تدري من الرجل الذي لم تسم عائشة قلت لا قال هو علي بن أبي طالب.
.
مطابقته للترجمة هو الوجه الذي ذكرناه في أوائل الباب عند قوله: (واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في أن يمرض في بيت عائشة، وقد مضى هذا الحديث في كتاب الطهارة في: باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح، فإنه أخرجه هناك: عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة بأتم منه، وهنا أخرجه: عن إبراهيم بن موسى الفراء أبي إسحاق الرازي المعروف بالصغير عن هشام بن يوسف الصنعاني اليماني عن معمر، بفتح الميمين: ابن راشد عن محمد بن مسلم الزهري عن عبيد الله، بضم العين: ابن عبد الله بفتح العين: ابن عتبة... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
9852 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا وهيب قال حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
.
مطابقته للترجمة هو الوجه الذي ذكرناه عن قريب عند قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) ووهيب هو ابن خالد البصري، وابن طاووس هو عبد الله يروي عن أبيه. قوله: (كالكلب يعود في قيئه) ويروى: كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
51
((باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة فإذا كانت سفيهة لم يجز قال الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5).))
أي: هذا باب في بيان حكم هبة المرأة لغير زوجها إن وهبت شيئا لغير زوجها. قوله: (وعتقها)، عطف على قوله: هبة المرأة، أي: حكم عتق المرأة جاريتها. قوله: (إذا كان لها زوج)، ليست للشرط بل ظرف لما تقدم، لأن الكلام فيما إذا كان لها زوج وقت الهبة أو العتق، أما إذا لم يكن لها زوج فلا نزاع في جوازه. قوله: (فهو)، أي: المذكور من الهبة والعتق جائز إذا لم تكن المرأة سفيهة، وهي ضد الرشيدة والرشيدة: من صلح دينها ودنياها. قوله: (وقال الله تعالى: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). ذكر هذا في معرض الاستدلال. وقال سعيد بن جبير ومجاهد والحكم: السفهاء الذين ذكرهم الله، عز وجل، هنا اليتامى والنساء، وعن الحسن: المرأة والصبي، وفي لفظ: الصغار والنساء أسفه السفهاء، وفي لفظ: ابنك السفيه وامرأتك السفيهة، وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اتقوا الله في الضعيفين: اليتيم والمرأة. وقال ابن مسعود: النساء والصبيان، وقال السدي: الولد والمرأة. وقال الضحاك: الولد والنساء أسفه السفهاء، فيكونوا عليكم أربابا. وعن ابن عباس: امرأتك وبنتك قال: وأسفه السفهاء الولدان والنساء. قال الطبري: وقال غير هؤلاء: إنهم الصبيان خاصة، قاله ابن جبير
150

والحسن، وقال آخرون: بل عنى بذلك السفهاء من ولد الرجل، منهم أبو مالك وابن عباس وأبو موسى وابن زيد بن أسلم. وقال آخرون: بل عنى بذلك النساء خاصة، فذكر المعتمر بن سليمان عن أبيه، قال: زعم حضرمي أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فقال الله عز وجل: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة،
قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها). ورواه ابن مردويه مطولا. وقال ابن أبي حاتم: ذكره عن مسلم بن إبراهيم. حدثنا حرب بن شريح عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة: * (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) * (النساء: 5). قال: الخدم، وهم شياطين الإنس وهم الخدم. وفي (التوضيح): من قال عنى بالسفهاء النساء خاصة فإنه حمل اللفظ على غير وجهه، وذلك لأن العرب لا تكاد تجمع: فعيلا، على: فعلاء، إلا في جمع الذكور أو الذكور والإناث، فأما إذا أرادوا جمع الإناث خاصة لا ذكور معهن جمعوه على: فعائل وفعيلات. مثل: غريبة تجمع على: غرائب وغريبات، فأما الغرباء فهو جمع غريب. قال: وكأن البخاري أراد بالتبويب وما فيه من الأحاديث الرد على من خالف ذلك (روى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، لما فتح مكة: لا يجوز عطية امرأة في مالها إلا بإذن زوجها). أخرجه النسائي.
وقد اختلف العلماء في المرأة المالكة لنفسها الرشيدة ذات الزوج على قولين: أحدهما: أنه لا فرق بينها وبين البالغ الرشيد في التصرف، وهو قول الثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي. والقول الآخر: لا يجوز لها أن تعطي من مالها شيئا بغير إذن زوجها، روي ذلك عن أنس وطاووس والحسن البصري. وقال الليث: لا يجوز عتق المزوجة وصدقتها إلا في الشيء اليسير الذي لا بد منه من صلة الرحم، أو ما يتقرب به إلى الله تعالى، وقال مالك: لا يجوز عطاؤها بغير إذن زوجها إلا من ثلث مالها خاصة، قياسا على الوصية.
0952 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله عن أسماء رضي الله تعالى عنها قالت قلت يا رسول الله مالي مال إلا ما أدخل الزبير علي أفأتصدق قال تصدقي ولا توعي فيوعى الله عليك.
مطابقته للترجمة في قوله: (تصدقي) فإنه يدل على أن للمرأة التي لها زوج أن تتصدق بغير إذن زوجها. فإن قلت: الترجمة هبة المرأة، ولفظ الحديث بالصدقة؟ قلت: المراد من الهبة معناها اللغوي، وهو يتناول الصدقة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أبو عاصم الضحاك بن مخلد. الثاني: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الثالث: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، بضم الميم. الرابع: عباد، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن عبد الله بن الزبير بن العوام. لخامس: أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه مصري وابن جريج وابن أبي مليكة مكيان وعباد بن عبد الله مدني. وفيه: رواية الراوي عن جدته. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية.
وبعض الحديث مضى في كتاب الزكاة في: باب الصدقة فيما استطاع، وفيه: عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره عن أسماء، وقد روى أيوب هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة بغير واسطة، أخرجه أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وصرح أيوب عن ابن أبي مليكة بتحديث عائشة له بذلك، فيحمل على أنه سمعه من عباد عنها، ثم حدثته به.
قوله: (إلا ما أدخل الزبير علي)، بتشديد الياء، معناه: ما صير ملكا لها، فأمرها، صلى الله عليه وسلم، أن تتصدق، ولم يأمرها باستئذان الزبير، رضي الله تعالى عنه. قوله: (أفأتصدق؟) بهمزة الاستفهام في رواية المستملي، وفي رواية غيره بدون حرف الاستفهام. قوله: (ولا توعي) من الإيعاء، أي: لا تجعليه في الوعاء، وهو الظرف محفوظا لا تخرجينه منه، فيعمل الله بك مثل ذلك، وهو معنى قوله: (فيوعى الله عليك.، قوله: (فيوعى)، بالنصب لكونه جواب النهي، وإسناد الإيعاء إلى الله تعالى من باب المشاكلة. وقال الخطاي: أي: لا تخبىء
151

الشيء في الوعاء، ومنه قوله تعالى: * (وجمع فأوعى) * (المعارج: 81). أي: مادة الرزق متصلة باتصاف النفقة منقطعة بانقطاعها، فلا تمنعي فضلها فتحرمي مادتها، وقد مر الكلام مبسوطا في كتاب الزكاة.
1952 حدثنا عبيد الله بن سعيد قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك.
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث الماضي لها، وعبيد الله بن سعيد بن يحيى أبو قدامة اليشكري السرخسي، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي بنت عم هشام بن عروة وزوجته، وأسماء هي بنت أبي بكر، جدتهما جميعا لأبويهما. قوله: (أنفقي)، أمر من الإنفاق. قوله: (ولا تحصى) من الإحصاء، نهى عنه لأنه إنما يحصى لأجل التبقية، والذخر فيحصي الله عليها بقطع البركة ومنع الزيادة، وقد يكون مرجع الإحصاء إلى المحاسبة عليه والمناقشة في الآخرة، ونسبه الإحصاء إلى الله من باب المشاكلة. وقوله: (فيحصى)، بالنصب لأنه جواب النهي، وهنا أمر صلى الله عليه وسلم بالإنفاق، ولم يقل: بالمعروف، لعلمها بمراده لاحتمال أن يراد بالذي تحت يدها من مال الزبير، فإن كان كذلك تنفق بما كان يخفي الزبير إنفاقه من إغاثة ملهوف وإعطاء سائل.
2952 حدثنا يحيى بن بكير عن الليث عن يزيد عن بكير عن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال أو فعلت قالت نعم قال أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك.
(الحديث 2952 طرفه في: 4952).
مطابقته للترجمة من حيث إن ميمونة كانت رشيدة، وأعتقت وليدتها من غير استئذان من النبي، صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن تصرف الرشيدة في مالها نافذا لأبطله
النبي، صلى الله عليه وسلم.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير أبو زكريا المخزومي. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: يزيد من الزيادة ابن أبي حبيب. الرابع: بكير، بضم الباء الموحدة: ابن عبد الله الأشج. الخامس: كريب مولى ابن عباس أبو رشد، بكسر الراء. السادس: ميمونة بنت الحارث الهلالية، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن النصف الأول من الإسناد بصريون والنصف الثاني مدنيون. وفيه: أن شيخه منسوب إلى جده. وفيه: ثلاثة من التابعين على نسق واحد وهم: يزيد وبكير وكريب. وفيه: أن بكيرا وكريبا متحدان في الحروف الأربعة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الزكاة عن هارون بن سعيد الأيلي. وأخرجه النسائي في العتق عن أحمد ابن يحيى بن الوزير.
ذكر معناه: قوله: (وليدة)، أي: أمة، وفي رواية النسائي من طريق عطاء بن يسار عن ميمونة: أنها كانت لها جارية سوداء. قوله: (أشعرت؟)، أي: أعلمت؟ قوله: (قال: أو فعلت؟)، أي: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: أو فعلت العتق؟ قوله: (أما)، بفتح الهمزة وتخفيف الميم، وهو هنا بمعنى: حقا، أو أحقا، على خلاف فيه، وتفتح كلمة: أن بعدها وهي قوله: أنك، وأما: أما، التي تكون حرف الاستفتاح التي بمعنى ألا، فكلمة: أن، بعدها مكسورة كما تكسر بعد ألا، الاستفتاحية. قوله: (أخوالك)، أخوالها كانوا من بني هلال أيضا واسم أمها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث، ووقع في رواية الأصيلي: (إخواتك)، بالتاء. قال عياض: ولعله أصح من رواية أخوالك، بدليل رواية مالك في (الموطأ) (فلو أعطيتها أختيك).
152

وقال النووي: الجميع وصحيح لا تعارض، ويكون النبي، صلى الله عليه وسلم، قال ذلك كله. قوله: (كان أعظم لأجرك).
قال ابن بطال: فيه: أن هبة ذي الرحم أفضل من العتق، ويؤيده ما رواه الترمذي والنسائي وأحمد من حديث سليمان بن عامر الضبي مرفوعا: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة). ورواه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه. قلت: ينبغي أن يكون أفضلية هبة ذي الرحم من العتق إذا كان فقيرا لا مطلقا، كيف وقد جاء في العتق أنه: يعتق بكل عضو منه عضوا منه من النار؟ وبه تجاز العقبة يوم القيامة؟ ونقل عن مالك: أن الصدقة على الأقارب أفضل من العتق، والحق أن هذا يختلف باختلاف الأحوال.
وقال بكر بن مضر عن عمر و عن بكير عن كريب: أن ميمونة أعتقت
هذا صورة تعليق، وفي نسخة صاحب (التلويح): بخطه بعد قوله: كان أعظم لأجرك: تابعه بكر بن مضر عن عمرو... إلى آخره. ثم قال: أراد البخاري بهذه المتابعة الليث بن سعد، وأن بكرا تابعه، وأن عمرا تابع يزيد بن أبي حبيب، وهو مروي عند الإسماعيلي عن الحسن: حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله عن كريب، فذكره، وكذا ذكره صاحب (التوضيح) لأنه أخذه عن صاحب (التلويح) وذكره المزي في (الأطراف) بصورة التعليق كما هو في نسختنا حيث قال: أخرجه البخاري في الهبة عن يحيى بن بكير عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن الأشج عن كريب به، قال: وقال بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث عن بكير عن كريب: أن ميمونة... فذكره. انتهى. وقيل: أراد البخاري بهذا التعليق شيئين: أحدهما: موافقة عمرو بن الحارث ليزيد بن أبي حبيب على قوله: عن كريب، وقد خالفهما محمد بن إسحاق فرواه، عن بكر، فقال: عن سليمان بن يسار بدل: بكير، أخرجه أبو داود والنسائي من طريقه، وقال الدارقطني: رواية يزيد وعمرو أصح. والآخر: أنه: عن بكر بن مضر عن عمرو بصورة الإرسال، فذكر قصة ما أدركها، لكن قد رواه ابن وهب عن عمرو ابن الحارث، فقال فيه: عن كريب عن ميمونة، أخرجه مسلم والنسائي من طريقه.
3952 حدثنا حبان بن موسى قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذالك رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهبت يومها وليلتها لعائشة)، فإن الترجمة هبة المرأة لغير زوجها، فلا توجد المطابقة إلا إذا قلنا: إن هذا هبة المرأة لغير زوجها، وهو عائشة، فلو قلنا: إن الهبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يطابق الترجمة، وللعلماء قولان في هذا: هل الهبة للزوج أو للضرة؟ والمطابقة تأتي على قول من يقول: للضرة، على ما قلناه.
وحبان، بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن موسى المروزي، مر في الصلاة، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، ويونس هو ابن يزيد، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، وعروة هو ابن الزبير بن العوام.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الشهادات عن محمد بن مقاتل. وأخرجه أبو داود في النكاح عن أحمد بن عمرو بن السرح. وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن ابن السرح وعن محمد بن آدم عن ابن المبارك إلى قوله: (خرج بها معه).
قوله: (أقرع)، من: أقرعت بينهم من القرعة، ومنه يقال: تقارعوا واقترعوا، والقرعة هي: السهام التي توضع على الحظوظ، فمن خرجت قرعته وهي: سهمه
الذي وضع على النصيب، فهو له. قوله: (فأيتهن) أي: أية امرأة خرج منهن خرج سهمها الذي باسمها (خرج بها معه) أي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، بتلك المرأة التي خرج سهمها معه أي: في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (تبتغي)، أي:
153

تطلب بذلك، أي: بالذكور، وهو ما وهبت يومها وليلتها لعائشة، وأصل القرعة لتطييب النفس.
ثم اختلفوا أن القرعة في كل الأسفار أو في سفر مخصوص؟ فقال مالك في (المدونة): يخرج من شاء منهن في أي الأسفار شاء. وقال ابن الجلاب: إن أراد سفر تجارة ففيه روايتان: إحداهما: كالحج والغزو، والأخرى: لا أقراع. وقال: وإن أراد سفر حج أو غزو فأقرع بينهن، ثم إذا انقضى سفره قضى لهن وبدأ بها، أو بمن شاء غيرها. وقال صاحب (التوضيح): لم ينقل القضاء، والبداءة بغيرها أحب.
61
((باب بمن يبدأ بالهدية))
أي: هذا باب يذكر فيه حكم من يبدأ بالهدية عند التعارض في الاستحقاق.
4952 وقال بكر عن عمر و عن بكير عن كريب مولى ابن عباس أن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أعتقت وليدة لها فقال لها لو وصلت بعض أخوالك كان أعظم لأجرك.
(انظر الحديث 2952).
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، لأن فيه شيئين: عتق الوليدة وصلة بعض أخوالها. فقال، عليه السلام، ما معناه: أن صلتها لبعض أخوالها كانت أولى وأكثر للأجر، ويؤيد هذا ما رواه النسائي من حديث عطاء بن السائب عن ميمونة، قالت: كانت لي جارية سوداء، فقلت: يا رسول الله! إني أردت أعتق هذه. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أفلا تفدين بها بنت أختك أو بنت أخيك من رعاية الغنم؟). فإن قلت: الترجمة بلفظ الهدية، والحديث بلفظ الصلة، فكيف المطابقة؟ قلت: الهدية فيها معنى الصلة، وملاحظة هذا المقدار في وجه المطابقة تكفي. قوله: (فقال لها) أي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لميمونة، وفي بعض النسخ: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر هذا الحديث الذي ذكره معلقا في الباب السابق، والكلام فيه أيضا.
5952 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن طلحة بن عبد الله رجل من بني تيم ابن مرة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك بابا.
(انظر الحديث 9522 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو عمران الجوني، بفتح الجيم وسكون الواو وبالنون: اسمه عبد الملك بن حبيب البصري، وطلحة بن عبد الله بن عثمان بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي، تقدم في الشفعة. والحديث قد مضى في الشفعة في: باب أي جوار أقرب، وقد مر الكلام فيه هناك.
71
((باب من لم يقبل الهدية لعلة))
أي: هذا باب في بيان حكم من لم يقبل هدية شخص لعلة أي: لأجل علة فيها، مثل: هدية المستقرض إلى المقرض، أو هدية شخص لرجل يقضي حاجته عند أحد أو يشفع له في أمر.
وقال عمر بن عبد العزيز كانت الهدية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة
هذا التعليق وصله ابن سعيد بقصة فيه، فروي من طريق فرات بن مسلم، قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئا يشتري به، فركبنا معه، فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح، فتناول واحدة فشمها، ثم رد الأطباق. فقلت له في ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه. فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، يقبلون الهدية؟ فقال: إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة، والرشوة، بضم الراء وكسرها وفتحها: ما تؤخذ بغير عوض، ويذم آخذه.
154

6952 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبره أنه سمع الصعب بن جثامة الليثي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو بالأبواء أو بودان وهو محرم فرده قال صعب فلما عرف في وجهي رده هديتي قال ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.
(انظر الحديث 5281 وطرفه).
مطابقته للترجمة للترجمة في قوله: (فرده)، أي: رد حمار وحش الذي أهداه صعب، ولم يقبله لعلة، وهي كونه محرما، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وقد تكرر هذا الإسناد بهؤلاء الرواة غير مرة. والحديث مضى في كتاب الحج في: باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله ب يوسف عن مالك عن ابن شهاب وهو الزهري، وقد مر الكلام فيه هناك. قوله: (وكان من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم)، جملة معترضة، قوله: (رده)، مصدر مفعول: عرف، أي: عرف أثر الرد، وهو كراهتي لذلك. قوله: (حرم) بضمتين. جمع حرام، بمعنى: محرم، نحو: قذال وقذل.
7952 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي لي قال فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي له أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع بيده حتى رأينا عفرة إبطيه أللهم هل بلغت أللهم هل بلغت ثلاثا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على عامله المذكور على أخذه الهدية لأنها هدية تهدى لأجل علة، وهو ظاهر، وعبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي، وسفيان هو ابن عيينة وأبو حميد، بضم الحاء المهملة: اسمه عبد الرحمن، وقيل: المنذر، وقيل غير ذلك: الساعدي الأنصاري.
والحديث أخرجه البخاري في أواخر كتاب الزكاة في: باب قول الله تعالى * (والعاملين عليها) * (التوبة: 06). أخرجه أيضا في الأحكام عن علي بن عبد الله عن سفيان بن عيينة في النذور عن أبي اليمان وفي ترك الحيل عن عبيد بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن جماعة غيره، وأخرجه أبو داود في الجراح عن أبي الطاهر بن السرح ومحمد بن أحمد بن أبي خلف عن سفيان.
قوله: (من الأزد)، بفتح الهمزة وسكون الزاي، وفي آخره دال مهملة: هو الأزد بن الغوث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان؟ يقال له: الأزد، بالزاي، و: الأسد، بالسين، وذكر في كتاب الزكاة بالسين. قوله: (ابن الأتبية)، بضم الهمزة وسكون التاء المثناة من فوق وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف المشددة، ويقال: اللتبية، بضم اللام وسكون التاء وفتحها وكسر الباء الموحدة، وفيه أربعة أقوال، وقد ذكرناه في كتاب الزكاة. قال الكرماني والأصح أنه باللام وسكون الفوقانية، وأنها نسبة إلى بني: لتب، قبيلة معروفة. قلت: قال الرشاطي: قيده شيخنا أبو علي الغساني، بضم اللام وإسكان التاء، وقال أبو بكر بن دريد: بنو لتب، بطن من العرب منهم ابن اللتبية رجل من الأزد له صحبة، واللتب: الاشتداد، وهو اللصوق أيضا. قوله: (منه)، أي: من مال الصدقة. قوله: (يحمله)، جملة حالية. قوله (إن كان بعيرا)، جواب الشرط محذوف تقديره: يحمله على رقبته. قوله: (له رغاء) جملة وقعت صفة لبعير، و: الرغاء، بضم الراء:
155

صوت ذوات الخف، يقال: رغا يرغو رغاء، وأرغيته أنا. قوله: (لها خوار)، جملة وقعت صفة لبقرة، و: الخوار، بضم الخاء المعجمة: صوت البقر، يقال: هر الثور يخور خوارا. وقال ابن التين: هو بالخاء والجيم، وفي (المطالع): المعنى واحد إلا أنه بالخاء يستعمل في الظباء والشاة، وبالجيم للبقر والناس. قوله: (تيعر)، صفة لشاة يقال: يعرت العنز تيعر بالكسر، يعار بالضم، أي: صاحت. قال ابن الأثير: وأكثر ما يقال لصوت المعز، وقال الجوهري: تيعر بالكسر، وقال غيره بفتحها أيضا. قوله: (عفرة إبطيه)، بضم العين المهملة وسكون الفاء: وهي البياض الذي فيه شيء كلون الأرض، وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة. وقيل: هي بياض ليس بناصع، ويقال: هي بضم المهملة وفتحها والفاء ساكنة وبفتحها. قوله: (هل بلغت؟) أي: قد بلغت، أو هو استفهام تقريري، والتكرير للتأكيد ليسمع من لا يسمع وليبلغ الشاهد الغائب.
وفي الحديث: أن هدايا العمال يجب أن تجعل في بيت المال، وأنه ليس لهم منها شيء إلا أن يستأذنوا الإمام في ذلك، كما جاء في قصة معاذ، رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم طيب له الهدية فأنفذها له أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: كراهية قبول هدية طالب العناية، ويدخل في معنى ذلك كراهة هدية المديان والمقارض، وكل من هديته بسبب علة.
81
((باب إذا وهب أو وعد ثم مات قبل أن تصل إليه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وهب الرجل هبة لآخر، أو وعد لآخر، وفي رواية الكشميهني: أو وعد عدة ثم مات أي: الذي وهب أو الذي وعد. قوله: (قبل أن تصل) أي: الهبة أو العدة إليه أي: إلى الموهوب له أو الموعود له، ويجوز أن يكون الضمير في: مات، راجعا إلى الذي وهب له أو وعد له، أي: أو مات الذي وهب له أو مات الذي وعد له، قبل أن يصل ما وهب له إليه، أو مات قبل أن يصل ما وعد له إليه. وجواب: إذا، محذوف لم يظهره لأجل الخلاف فيه، بيان ذلك أن الترجمة مشتملة على شيئين: أحدهما: الهبة. والآخر: الوعد.
أما الهبة: فالشرط فيها القبض عند أكثر الفقهاء والتابعين، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، إلا أن أحمد يقول: إن كانت الهبة عينا تصح بدون القبض في الأصح، وفي المكيل والموزون لا تصح بدون القبض، وعند مالك: يثبت الملك فيها قبل القبض اعتبارا بالبيع، وبه قال أبو ثور والشافعي في القديم، وهو قول ابن أبي ليلى. وفي كتاب (التفريع) لأصحاب مالك: ومن وهب شيئا من ماله لزمه دفعه إلى الموهوب له إذا طالبه به، فإن أبى ذلك حكم به عليه إذا أقر وقامت عليه البينة، وإن أنكر حلف عليها وبرىء منها، وإن نكل عن اليمين حلف الموهوب له فيأخذها منه، وإن مات الواهب قبل دفعها إلى الموهوب له فلا شيء له إذا كان قد أمكنه أخذها، ففرط فيها، وإن مات الموهوب له قبل قبضها، قام ورثته مقامه في مطالبة الواهب بهبته، واستدل أصحابنا وأصحاب الشافعي في اشتراط القبض بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، نحلها جداد عشرين وسقا... الحديث ذكرناه عن قريب. واستدل صاحب (الهداية) في ذلك بقوله: ولنا. قوله
صلى الله عليه وسلم: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة. قلت: هذا حديث منكر لا أصل له، بل هو من قول إبراهيم النخعي، رواه عبد الرزاق في (مصنفه)، وقال: أخبرنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم، قال: لا تجوز الهبة حتى تقبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض.
وأما الوعد: فاختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي والأوزاعي: لا يلزم من العدة. لأنها منافع لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها. وقال مالك: أما العدة، مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له هبة، فيقول: نعم، ثم يبدو له أن لا يفعل، فلا أرى ذلك يلزمه. قال: ولو كان في قضاء دين فسأله أن يقضي عنه، فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال سحنون: الذي يلزمه في العدة في السلف، والعارية أن يقول لرجل: إهدم دارك وأنا أسلفك ما تبنيها به، أو أخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو أشتر سلعة كذا، أو تزوج وأنا أسلفك، كل ذلك مما يدخله فيه. ويتشبه به، فهذا كله يلزمه، وأما أن يقول: أنا أسلفك أو أعطيك فليس بشيء، وقال أصبغ: يلزمه في ذلك ما وعد به.
وقال عبيدة إن ماتا وكانت فصلت الهدية والمهداى له حي فهي لورثته وإن لم تكن فصلت فهي فهي لورثة الذي أهداى
156

عبيدة بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة: ابن عمرو السلماني، بفتح السين المهملة وسكون اللام: الحضرمي. قوله: (إن ماتا) أي: المهدي والمهدى إليه. قوله: (وكانت فصلت الهدية)، بالصاد المهملة من الفصل، والمراد منه: القبض، ويروى: وصلت الهدية من الوصل، فالوصول بالنظر إلى المهدى إليه، والفصل بالنظر إلى المهدي، إذ حقيقة الإقباض لا بد لها من فصل الموهوب عن الواهب، ووصله إلى المتهب وتفصيله بين أن يكون انفصلت أم لا مصير منه إلى أن قبض الرسول يقوم مقام المهدى إليه، وذهب الجمهور إلى أن الهدية لا تنتقل إلى المهدى إليه إلا بأن يقبضها أو وكيله.
وقال الحسن أيهما مات قبل فهي لورثة المهداى له إذا قبضها الرسول
الحسن هو البصري. قوله: (أيهما) أي: أي واحد من المهدي والمهدى إليه مات قبل الآخر. قوله: (فهي)، أي: الهدية لورثة المهدى له، وقال ابن بطال: إن كان بعث بها المهدي مع رسوله، فمات الذي أهديت إليه فإنها ترجع إليه، وإن كان أرسل بها مع رسول الذي أهديت إليه فمات المهدى إليه، فهي لورثته، هذا قول الحكم وأحمد وإسحاق.
8952 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا ابن المنكدر سمعت جابرا رضي الله تعالى عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا ثلاثا فلم يقدم حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أبو بكر مناديا فنادى من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم وعدني فحثاى لي ثلاثا.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وعد جابرا بشيء ومات قبل الوفاء به، والحكم فيه إن وقع مثل هذا من غير النبي، صلى الله عليه وسلم، فالهبة لورثة الواهب، وكذلك لم يكن في حق النبي، صلى الله عليه وسلم، لازما ولكن أبا بكر فعل ذلك على سبيل التطوع، ولم يكن يلزم في ذلك شيء الشارع، ولا أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، وإنما أنفذ الصديق ذلك بعد موته، صلى الله عليه وسلم، اقتداء بطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله، فإنه كان أوفى الناس بعده وأصدقهم لوعده، فإن قلت: الترجمة هدية، والذي قاله النبي، صلى الله عليه وسلم: وعد؟ قلت: لما كان وعد النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يجوز أن يخلف نزلوا وعده منزلة الضمان في الصحة، فرقا بينه وبين غيره من الأمة ممن يجوز أن يفي وأن لا يفي، وقد تنزل الهبة التي لم تقبض منزلة الوعد بها، وقال المهلب: إنجاز الوعد مندوب إليه، وليس بواجب، والدليل على ذلك اتفاق الجميع على أن من وعد بشيء لم يضرب به مع الغرماء، ولا خلاف أنه مستحسن ومن مكارم الأخلاق. انتهى. وقيل: لم يرو عن أحد من السلف وجوب لقضاء بالعدة. قلت: فيه نظر، لأن البخاري ذكر أن ابن الأشوع وسمرة قضيا به. وفي تاريخ المستملي): أن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعد وحبسه فيه، وتلا: * (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (الصف: 03).
ورجال الحديث أربعة: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وسفيان بن عيينة ومحمد بن المنكدر، مر في الوضوء، وجابر بن عبد الله، والحديث أخرجه مسلم في فضائل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن عمرو الناقد. قوله: (البحرين) على لفظ تثنية بحر موضع بين البصرة وعمان، والنسبة إليه: بحراني. قوله: (ثلاثا) أي: ثلاث حثيات، من: حثيت الشيء حثيا، وحثوت حثوا، إذا قبضته ورميته، والحثية الغرف بكف.
91
((باب كيف يقبض العبد والمتاع))
أي: هذا باب يذكر فيه كيف يقبض العبد الموهوب والمتاع الموهوب، والترجمة في كيفية القبض لا في أصل القبض، على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى.
وقال ابن عمر كنت على بكر صعب فاشتراه النبي، صلى الله عليه وسلم وقال هو لك يا عبد الله
هذا التعليق ذكره البخاري موصولا في كتاب البيوع في: باب إذا اشترى شيئا فوهبه من ساعته، وقد تقدم الكلام
157

فيه هناك مشروحا. ووجه إيراده هنا لبيان كيفية قبض الموهوب، والموهوب هنا متاع، فاكتفى فيه بكونه في يد البائع، ولم يحتج إلى قبض آخر. وقال ابن بطال: كيفية القبض عند العلماء بإسلام الواهب لها إلى الموهوب له، وحيازة الموهوب لذلك: كركوب ابن عمر الجمل.
واختلفوا في الحيازة: هل هي شرط لصحة الهبة أم لا؟ فقال بعضهم: شرط، وهو قول أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان وابن عباس ومعاذ وشريح ومسروق
والشعبي والثوري والشافعي والكوفيين، وقالوا: ليس للموهوب له مطالبة الواهب بالتسليم إليه، لأنها ما لم يقبض عدة فيحسن الوفاء، ولا يقضى عليه. وقال آخرون: تصح بالكلام دون القبض، كالبيع، روى عن علي وابن مسعود والحسن البصري والنخعي كذلك، وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور، إلا أن أحمد وأبا ثور قالا: للموهوب له المطالبة بها في حياة الواهب، وإن مات بطلت الهبة. فإن قلت: إذا تعين في الهبة حق الموهوب له، وجب له مطالبة الواهب في حياته، فكذلك بعد مماته كسائر الحقوق. قلت: هذا هو القياس، لولا حكم الصديق بين ظهراني الصحابة وهم متوافرون فيما وهبه لابنته جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، ولم تكن قبضتها، وقال لها: لو كنت خزنته كان ذلك، وإنما هو اليوم مال وإرث، ولم يرو عن أحد من الصحابة أنه أنكر قوله ذلك، ولا رد عليه.
9952 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن ابن مليكة عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما أنه قال قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم أقبية ولم يعط مخرمة منها شيئا فقال مخرمة يا بني انطلق بنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فانطلقت معه فقال ادخل فادعه لي قال فدعوته له فخرج إليه وعليه قباء منها فقال خبأنا هاذا لك قال فنظر إليه فقال رضي مخرمة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن نقل المتاع إلى الموهوب له قبض، وبهذا يجاب عن قول من قال: كيف يدل الحديث على الترجمة التي هي قبض العبد؟ لأنه لما علم أن قبض المتاع بالنقل إليه علم منه حكم العبد وغيره من سائر المنقولات.
ذكر رجاله وهم خمسة: قتيبة بن سعيد، والليث بن سعد، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، والمسور، بكسر الميم وسكون السين المهملة، وأبوه مخرمة، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة: ابن نوفل الزهري، أسلم يوم الفتح، بلغ مائة وخمس عشرة سنة، ومات سنة أربع وخمسين.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بغلاني، وبغلان من بلخ، وأن الليث مصري وابن أبي مليكة مكي. وفيه: رد على من يقول: إن المسور لم ير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يسمع منه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن قتيبة أيضا، وفي الشهادات عن زياد بن يحيى، وفي الخمس عن عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي، وفي الأدب عن الحجبي أيضا... وأخرجه مسلم في الزكاة عن قتيبة به، وعن زياد بن يحيى، وأخرجه أبو داود في اللباس عن قتيبة ويزيد بن خالد، كلاهما عن الليث به وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن قتيبة، وأخرجه النسائي في الزينة عن قتيبة.
ذكر معناه: قوله: (أقبية)، جمع: قباء، ممدودا. وقال الجوهري: القباء الذي يلبس، وفي (المغرب) ما يدل على أنه عربي، والدليل عليه ما قاله ابن دريد، وهو: من قبوت الشيء إذا جمعته. قوله: (فادعه لي) أي: فادع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأجلي. وفي رواية تأتي: قال المسور فأعظمت ذلك، فقال: يا بني إنه ليس بجبار فدعوته فخرج. قوله: (فخرج إليه)، أي: فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى مخرمة. قوله: (وعليه قباء)، جملة حالية. قوله: (منها)، أي: من الأقببة، وظاهر هذا استعمال الحرير، ولكن قالوا: يجوز أن يكون قبل النهي، وقيل: معناه، وأنهه نشره على أكتافه ليراه مخرمة كله، وهذا ليس بلبس، ولو كان بعد التحريم. قوله: (فقال خبأنا هذا لك). إنما قال هذا للملاطفة، لأنه كان في خلقه شيء وذكره في الجهاد، ولفظه: (وكان في خلقه شدة). قوله: (فنظر إليه) أي: قال المسور: فنظر مخرمة إلى القباء. قوله: (فقال: رضي مخرمة؟)، قال الداودي هو من قوله، صلى الله عليه وسلم، معناه: هل رضيت على وجه الاستفهام؟ وقال ابن التين:
158

يحتمل أن يكون من قول مخرمة.
ومن فوائده: الاستئلاف للقلوب، وأن القبض يحصل بمجرد النقل إلى المهدى إليه.
02
((باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل قبلت))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وهب رجل هبة فقبضها الآخر، أي: الموهوب له، ولم يقل: قبلت. وجواب: إذا، محذوف، ولم يصرح به لمكان الخلاف فيه. والجواب: جازت، خلافا لمن يشترط القبول، قال ابن بطال: لا يحتاج القابض أن يقول: قبلت، وهو قد قبضها. قال: وعلى هذا جماعة العلماء، ومذهب الشافعي: لا بد من الإيجاب والقبول، كما في البيع وسائر التمليكات، فلا يقوم الأخذ والعطاء مقامهما، كما في البيع. قال: ولا شك أن من يصير إلى انعقاد البيع بالمعاطاة تجزيه في الهبة. واختار ابن الصباغ من أصحاب الشافعي: أن الهبة المطلقة لا تتوقف على إيجاب وقبول. وقال الحسن البصري: لا يعتبر القبول في الهبة كالعتق، وهو قول شاذ خالف فيه الكافة إلا إذا أراد الهدية، وعند الحنفية: لا تصح الهدية إلا بالإيجاب، كقوله: وهبت ونحوه، هذا بمجرده في حق الواهب، وبالقبول كقوله: قبلت، والقبض، فلا يتم في حق الموهوب له إلا بالقبول والقبض، لأنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع، ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض، وثمرة ذلك فيمن حلف لا يهب ولم يقبل الموهوب له يحنث، وعند زفر لا يحنث إلا بقبول وقبض كما في البيع، أو حلف على أن يهب فلانا، فوهبه، ولم يقبل بر في يمينه عندنا.
0062 حدثنا محمد بن محبوب قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال هلكت فقال وما ذاك قال وقعت بأهلي في رمضان قال تجد رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال لا قال فتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا قال فجاء رجل من الأنصار بعرق والعرق المكتل فيه تمر فقال اذهب بهذا فتصدق به قال على أحوج منا يا رسول الله والذي بعثك
بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا قال اذهب فأطعمه أهلك.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، وهو أنه، صلى الله عليه وسلم، أعطى الرجل التمر المذكور فيه فقبضه، ولم يقل: قبلت، ثم قال له: (إذهب فأطعم أهلك). واختيار البخاري على هذا، وهو أن القبض بالهبة كاف لا يحتاج أن يقول: قبلت، فلذلك عقد الترجمة المذكورة وذكر لها الحديث المذكور، ورد عليه بوجهين. أحدهما: أنه لم يصرح في الحديث بذكر القبول ولا بنفيه. والآخر: أن هذه كانت صدقة لا هبة، فلهذا لم يحتج إلى القبول.
والحديث مضى في كتاب الصوم في: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء، فتصدق عليه فإنه أخرجه هناك: عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري... إلى آخره. وهنا أخرجه: عن محمد بن محبوب أبي عبد الله البصري، وهو من أفراده عن عبد الواحد بن زياد عن معمر بن راشد عن محمد بن مسلم الزهري، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. والعرق، بفتحتين المكتل، بكسر الميم، وهو: الزنبيل. واللابة: الحرة، وهي الأرض التي فيها حجارة سود، ولابتا المدينة: حرتان تكتنفانها.
12
((باب إذا وهب دينا على رجل قال شعبة عن الحكم هو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وهب رجل دينا له على رجل. قال شعبة بن الحجاج عن الحكم بن عتيبة: هو جائز، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة عن ابن أبي زائدة عن شعبة عنه: في رجل وهب لرجل دينا له عليه، قال: ليس له أن يرجع فيه. وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن من كان عليه دين لرجل فوهبه له ربه وأبرأه منه، وقبل البراءة أنه لا يحتاج فيه إلى قبض، لأنه مقبوض في ذمته، وإنما يحتاج في ذلك إلى قبول الذي عليه الدين.
واختلفوا: إذا وهب دينا له على رجل لرجل
159

آخر، فقال مالك: يجوز إذا سلم إليه الوثيقة بالدين وأحله محل نفسه، فإن لم يكن وثيقة وأشهدا على ذلك وأعلنا فهو جائز. وقال أبو ثور: الهبة جائزة أشهد أو لم يشهد إذا تقاررا على ذلك، وقال الشافعي وأبو حنفة: الهبة غير جائزة لأنها لا تجوز عندهم إلا مقبوضة. انتهى. وعند الشافعية في ذلك وجهان: جزم الماوردي بالبطلان وصححه الغزالي ومن تبعه، وصحح العمراني وغيره الصحة، قيل: والخلاف مرتب على البيع إن صححنا بيع الدين من غير من عليه، فالهبة أولى، وإن منعناه ففي الهبة وجهان. وقال أصحابنا الحنفية: تمليك الدين من غير من هو عليه لا يجوز، لأنه لا يقدر على تسليمه، ولو ملكه ممن هو عليه يجوز، لأنه إسقاط وإبراء.
ووهب الحسن بن علي عليهما السلام لرجل دينه
الحسن هو ابن علي بن أبي طالب. قوله: (لرجل دينه) أي: دينه الذي عليه، وهذا لا خلاف فيه، لأنه في نفس الأمر إبراء.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم من كان له عليه حق فليعطه أو ليتحلله منه
هذا التعليق وصله مسدد في (مسنده) من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: من كان لأحد عليه حق فليعطه إياه أو ليتحلله منه. قوله: (أو ليتحلله منه) أي: من صاحبه، والتحلل الاستحلال من صاحبه، وتحلله أي: جعله في حل بإبرائه ذمته.
فقال جابر قتل أبي وعليه دين فسأل النبي، صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي
جابر هو ابن عبد الله الأنصاري، وأبوه عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الخزرجي السلمي نقيب بدري قتل بأحد والحديث مضى موصولا في القرض، وفي هذا الباب أيضا بأتم منه على ما يأتي. قوله: (ثمر حائطي). بالثاء المثلثة، ويروى بالتاء المثناة من فوق، والحائط هنا: البستان من النخل إذا كان عليه حائط أي جدار.
1062 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس وقال الليث قال حدثني يونس عن ابن شهاب قال حدثني ابن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أخبره أن أباه قتل يوم أحد شهيدا فاشتد الغرماء في حقوقهم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم حائطي ولم يكسره لهم ولاكن قال سأغدو عليك فغدا علينا حين أصبح فطاف في النخل ودعا في ثمره بالبركة فجددتها فقضيتهم حقوقهم وبقي لنا من ثمرها بقية ثم جئت رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو جالس فأخبرته بذالك فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمر اسمع وهو جالس يا عمر فقال عمر ألا يكون قد علمنا أنك رسول الله والله إنك لرسول الله.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، ولكنه بالتكلف، وهو أنه صلى الله عليه وسلم سأل غرماء أبي جابر أن يقبضوا ثمر حائطه. ويحللوه من بقية دينه، ولو قبلوا ذلك كان إبراء ذمة أبي جابر من بقية الدين، وهو في الحقيقة لو وقع كان هبة الدين ممن هو عليه، وهو معنى الترجمة، وهذا يدل على أن هذا الصنيع يجوز في الدين، إذ لو لم يكن جائزا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم غرماء أبي جابر به. فافهم، فإنه دقيق، غفل عنه الشراح.
والحديث مضى في كتاب الاستقراض في: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، فإنه أخرجه هناك: عن عبدان أيضا عن عبد الله هو ابن المبارك عن يونس عن الزهري... إلى آخره، وهنا أخرجه من طريقين: أحدهما: نحو الطريق الذي أخرجه في الباب المذكور. والآخر: معلق عن الليث عن يونس عن ابن شهاب هو
الزهري
160

عن ابن كعب بن مالك، قال الكرماني: يحتمل أن يكون ابن كعب هذا عبد الرحمن أو عبد الله، لأن الزهري يروي عنهما جميعا، لكن الظاهر أنه عبد الله لأنه يروي عن جابر، وهذا المعلق وصله الذهلي في الزهريات عن عبد الله بن صالح عن الليث... إلى آخره. قوله: (ثمر حائطي)، قد مر تفسيره آنفا. قوله: (ويحللوا أبي)، أي: يجعلوه في حل بإبرائهم ذمته. قوله: (فأبوا)، أي: امتنعوا. قوله: (ولم يكسره)، أي: لم يكسر الثمر من النخل لهم، أي: لم يعين ولم يقسم عليهم. قوله: (حين أصبح)، ويروى: حتى أصبح، والأول أوجه. قوله: (فجددتها)، أي: قطعتها. قوله: (بذلك)، أي: بقضاء الحقوق وبقاء الزيادة وظهور بركة دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى كأنه علم من أعلام النبوة معجزة من معجزاته. قوله: (إلا ويكون) بتخفيف اللام ويروى بتشديدها، ومقصود رسول الله، صلى الله عليه وسلم تأكيد علم عمر، رضي الله تعالى عنه، وتقويته وضم حجة أخرى إلى الحجج السالفة.
22
((باب هبة الواحد للجماعة))
أي: هذا باب في بيان حكم هبة الواحد للجماعة، وحكمه أنها تجوز على اختياره، وقال ابن بطال: غرض المصنف إثبات هبة المشاع، وهو قول الجمهور، خلافا لأبي حنيفة. قلت: إطلاق نسبة عدم جواز هبة المشاع إلى أبي حنيفة غير صحيح، فإنهم ينقلون شيئا من مذهبه من غير تحرير ولا وقوف على مدركه، ثم ينسبونه إليه فهذه جرأة وعدم إنصاف، والمشاع الذي لا يجوز هبته فيما إذا كان مما يقسم، وأما فيما لا يقسم فهي جائزة، وأيضا العبرة في الشيوع وقت القبض لا وقت العقد. حتى لو وهب مشاعا وسلم مقسوما يجوز.
وقالت أسماء للقاسم بن محمد وابن عتيق ورثت عن أختي عائشة مالا بالغابة وقد أعطاني به معاوية مائة ألف فهو لكما
أورد البخاري هذا الأثر المعلق في معرض الاحتجاج على رد ما ذهب إليه أبو حنيفة في عدم تجويزه لهبة المشاع، كما أشار إليه ابن بطال، ولكن لا يساعده هذا، فإن المال الذي كان بالغا به يحتمل أن يكون مما يقسم، ويحتمل أن يكون مما لا يقسم، وعلى كلا التقديرين لا يرد عليه لأنه إن كان مما يقسم فلا نزاع أنه يجوزه، وإن كان مما لا يقسم فالعبرة للشيوع المانع وقت القبض لا وقت العقد، كما ذكرناه الآن. قوله: (قالت أسماء)، هي بنت أبي بكر الصديق أخت عائشة، رضي الله تعالى عنها، والقاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وقال ابن التين في كتابه: القاسم بن محمد بن أبي عتيق، قال: وأظن الواو سقطت من كتابي، لأن أبا عتيق هو عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه اسمه عبد الله. قال: وعند أبي ذر، وابن أبي عتيق، وقال الداودي: القاسم بن محمد هو ابن أخي عائشة وابن أبي عتيق ابن أخيهما. قلت: القاسم بن محمد بن أبي بكر هو ابن أخي أسماء، وابن أبي عتيق هو أبو بكر عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو ابن أخي أسماء. قوله: (ورثت عن أختي عائشة)، ماتت عائشة وورثتها أختاها: أسماء وأم كلثوم، وأولاد أخيها عبد الرحمن، ولم يرثها أولاد محمد أخيها لأنه لم يكن شقيقها، فكأن أسماء أرادت جبر خاطر القاسم بذلك، وأشركت معه عبد الله لأنه لم يكن وارثا لوجود أبيه. قوله: (بالغابة)، بالغين المعجمة، وهي في الأصل: الأجمة ذات الشجر المتكاثف لأنها تغيب ما فيها، ولكن المراد بها هنا موضع قريب من المدينة من عواليها، وبها أموال أهلها. قوله: (معاوية)، هو ابن أبي سفيان قوله: (لكما)، خطاب للقاسم وعبد الله بن أبي عتيق، وهذه صورة هبة الواحد من اثنين، فإن قلت: الترجمة هبة الواحد للجماعة فلا مطابقة. قلت: يغتفر هذا المقدار لأن الجمع يطلق على الاثنين كما عرف.
2062 حدثنا يحيى بن قزعة قال حدثنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ فقال للغلام إن أذنت لي أعطيت هؤلاء فقال ما كنت لأوثر بنصيبي منك يا رسول الله أحدا فتله في يده.
.
161

مطابقته للترجمة ما قاله ابن بطال: إنه صلى الله عليه وسلم سأل الغلام أن يهب نصيبه للأشياخ، وكان نصيبه منه مشاعا متميز، فدل على صحة هبة المشاع. قلت: فيه نظر لا يخفى، وأبو حازم هو سلمة بن دينار الأعرج، والحديث مر في كتاب المظالم في: باب إذا أذن له أو حلله، ولم يبين كم هو. (وتله) بالتاء المثناة من فوق، وتشديد اللام أي: طرحه، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
32
((باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة والمقسومة وغير المقسومة))
أي: هذا باب في بيان حكم الهبة المقبوضة... إلى آخره، ومراده من الترجمة هو قوله: وغير المقسومة، لأن حكم المقبوضة قد مضى، وغير المقبوضة قد علم منه، وحكم المقسومة ظاهر، فلم يبق إلا بيان حكم غير المقسومة.
وقد وهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لهوازن ما غنموا منهم وهو غير مقسوم
ذكر هذا لبيان قوله في الترجمة: وغير المقسومة، وغرضه من هذا إقامة الدليل على صحة هبة المشاع، ولكن لا يتم به الاستدلال، لأن المذكور فيه لا يطلق عليه الهبة الشرعية لأن القبض شرط فيها، وذكر عبد الرزاق في (مصنفه): وقال: أخبرنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم، قال: لا تجوز الهبة حتى يقبض. انتهى. وقوله: (غير مقسوم)، يلزم منه أن يكون غير مقبوض أيضا، فإذا لم يكن مقبوضا كيف يطلق عليه الهبة الشرعية؟ وهذا المعلق يأتي في الباب الذي يليه بأتم
منه موصولا. قوله: (لهوازن) ويروى: إلى هوازن، وهي قبيلة معروفة. وقال الرشاطي: الهوازني في قيس غيلان وفي خزاعة. ففي، قيس غيلان: هوازن بن منصور بن عكرمة ببن حفصة بن قيس غيلان، وفي خزاعة: هوازن بن أسلم بن أقصى، وهوازن هذا بطن، وقال ابن دريد: هوازن ضرب من الطير، وقال ابن عبد الوارث: هوزن واحد ذلك، وهو: فوعل، وقال أبو محمد: في هوازن بطون كثيرة وأفخاذ وقل من ينسب هذه النسبة.
3062 حدثنا وقال ثابت قال حدثنا مسعر عن محارب عن جابر رضي الله تعالى عنه أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم في المسجد فقضاني وزادني.
.
ذكر هذا أيضا في معرض الاستدلال على صحة هبة المشاع، ولكن لا يتم به الاستدلال لأن هذه الزيادة لم تكن هبة، وإنما هي ليتيقن بها الإيفاء زيادة في الثمن، والزيادة لا يؤثر فيها الشيوع. فإن قلت: يوجب جهالة الثمن. قلت: الجهالة لا تؤثر في الثمن المعين، وحديث جابر هذا قد مضى مطولا في كتاب البيوع في: باب شراء الدواب والحمير، ومر الكلام فيه مستوفى، وثابت بالثاء المثلثة ضد زائل: ابن محمد أبو إسماعيل العابد الشيباني الكوفي، مات سنة عشرين ومائتين، وثبت كذلك عند أبي علي ابن السكن، وكذا هو في رواية الأكثرين، وبه جزم أبو نعيم في (المستخرج) وفي رواية أبي زيد المروزي: وقال ثابت، ذكره بصورة التعليق، وهو موصول عند الإسماعيلي وغيره، وفي رواية أبي أحمد الجرجاني: قال البخاري: حدثنا محمد حدثنا ثابت، فزاد في الإسناد محمدا، وقال الغساني: وفي نسخة الأصيلي: حدثنا محمد حدثنا ثابت قال، وحدث البخاري عن ثابت بدون الواسطة كثيرا. قلت: ولم يتابع الجرجاني على هذه الزيادة، والظاهر أن المراد بمحمد هو البخاري المصنف، ويقع مثل ذلك كثيرا، فلعل الجرجاني ظنه غير البخاري. قوله: (مسعر)، بكسر الميم: ابن كدام، وقد مر في الوضوء وغيره، (ومحارب)، بكسر الراء ضد المصالح ابن دثار ضد الشعار.
4062 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن محارب سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول بعت من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا في سفر فلما أتينا المدينة قال ائت المسجد فصل ركعتين فوزن. قال شعبة أراه فوزن لي فأرجح فما زال منها شيء حتى أصابها أهل الشأم يوم الحرة.
.
162

هذا طريق آخر في حديث جابر عن محمد بن بشار عن غندر، وهو محمد بن جعفر عن شعبة عن محارب إلى آخره، ومضى الكلام فيه، وسيأتي أيضا في الشروط، وإنما أدخله في هذه الترجمة لما ذكرنا في الحديث الماضي، والجواب عنه مثل الجواب هناك. قوله: (يوم الحرة)، أي: يوم الوقعة التي كانت حوالي المدينة عند حرتها بين عسكر الشام من جهة يزيد بن معاوية، وبين أهل المدينة، سنة ثلاث وستين.
5062 حدثنا قتيبة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام أتأذن لي أن أعطي هؤلاء فقال الغلام لا والله لا أوثر بنصيبي منك أحدا فتله في يده.
.
هذا الحديث ذكره في الباب السابق في ترجمة هبة الواحد للجماعة، وهنا ذكره في ترجمة الهبة الغير المقسومة، ووجه المطابقة من حيث إن فيه هبة غير مقسومة، وهذا أيضا لا يقوم به الدليل فيما ذهب إليه، لأن غير المقسوم غير متميز ولا يتصور فيه القبض أصلا، ومن شرط صحة الهبة الشرعية القبض.
6062 حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة قال أخبرني أبي عن شعبة عن سلمة قال سمعت أبا سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان لرجل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم دين فهم به أصحابه فقال دعوه فإن لصاحب الحق مقالا وقال اشتروا له سنا فأعطوها إياه فقالووا إنا لا نجد سنا إلا سنا هي أفضل من سنه قال فاشتروها فأعطوها إياه فإن من خيركم أحسنكم قضاء.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، لأن فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإعطاء سن لصاحب الدين أفضل من سنه، والزيادة فيه غير مقسومة، والجواب عنه مثل الجواب في الحديث الذي قبله، وعبد الله بن عثمان هو الملقب بعبدان، وسلمة هو ابن كهيل، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وقد مضى الحديث في كتاب الاستقراض في: باب حسن القضاء، ومضى الكلام فيه هناك.
42
((باب إذا وهب جماعة القوم))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وهب جماعة لقوم، وزاد الكشميهني في روايته وهب رجل جماعة جاز، وهذه الزيادة لا طائل تحتها، لأنها تقدمت مفردة قبل باب.
8062 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة أن مروان ابن الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم معي ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحداى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت وكان النبي، صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن النبي، صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحداى الطائفتين قالوا فإنا نختار سبينا فقام في المسلمين فأثناى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤنا تائبين وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذالك فليفعل ومن أحب أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول
163

ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيبنا يا رسول الله لهم فقال لهم إأا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، وهو أن الغانمين، وهم جماعة، وهبوا بعض الغنيمة لمن غنموها منهم، وهم قوم هوازن. وأما وجه المطابقة في زيادة الكشميهني فمن جهة أنه كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، سهم، وهو الصفي، فوهبه لهم. والجواب عنه ما مر عن قريب، وهذا الحديث هو المذكور في المرة الرابعة منها في كتاب الوكالة في: باب إذا وهب شيئا لوكيل أو شفيع قوم جاز.
قوله: (هوازن)، مر الكلام فيه عن قريب. قوله: (مسلمين)، حال من الوفد. قوله: (من ترون)، أي: من العسكر. قوله: (حتى يرفع)، قاله الكرماني: قالوا: هو بالرفع أجود. قلت: لم يبين وجه أجودية الرف، والنصب هو الأصل، لأن: أن، بعد: حتى، مقدرة فافهم، وبقية الكلام قد مرت.
وقال صاحب (التوضيح): ما ملخصه: إنهم طيبوا أنفسهم ووهبوا لهم. وفيه: رد على قول أبي حنيفة: إن هبة المشاع التي تتأتى فيها القسمة لا تجوز. قلت: لا وجه للرد على قول أبي حنيفة، فإنه يقول: هذا ليست فيه هبة شرعية، وإنما هو رد سبيهم إليهم، ورد الشيء لصاحبه لا يسمى هبة.
وهذا الذي بلغنا من سبي هوازن هاذا آخر قول الزهري يعني فهذا الذي بلغنا
قوله: (هذا الذي بلغنا) من كلام الزهري بينه البخاري بقوله: هذا آخر قول الزهري، وفي بعض النسخ: قال أبو عبد الله، هذا آخر قول الزهري، ثم فسره بقوله: (يعني فهذا الذي بلغنا) يعني: هو هذا آخر قوله. والله أعلم.
52
((باب من أهدي له هدية وعنده جلساؤه فهو أحق))
أي: هذا باب في بيان حكم من أهدي له، بضم الهمزة على صيغة المجهول، و: هدية: مرفوعة بإسناد أهدي إليه. قوله: (وعنده) أي: والحال أن عند هذا الذي أهدى له جماعة، وهم جلساؤه وهو جمع جليس. قوله: (فهو أحق)، جواب من: أي: الذي أهدى له أحق بالهدية من جلسائه، يعني: لا يشاركون معه.
ويذكر عن ابن عباس أن جلساءه شركاءه ولم يصح
لما كان وضع ترجمة الباب يخالف ما روى عن ابن عباس أن جلساءه وشركاؤه، أشار إليه بصيغة التمريض، بقوله: ويذكر عن ابن عباس أن جلساءه، أي: جلساء المهدي إليه شركاؤه في الهدية، ولم يكتف بذكره هذا عن ابن عباس بصيغة التمريض حتى أكده بقوله: ولم يصح، أي: ولم يصح، هذا عن ابن عباس، ويحتمل أن يكون المعنى: ولم يصح في هذا الباب شيء، ولهذا قال العقيلي: لا يصح في هذا الباب عن النبي، صلى الله عليه وسلم شيء، وروى هذا عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا، والموقوف أصح إسنادا من المرفوع. أما المرفوع، فرواه البيهقي من حديث محمد بن الصلت: حدثنا مندل بن علي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من أهديت له هدية وعنده ناس فهم شركاؤه فيها) ومندل بن علي ضعيف، ورواه عبد الرزاق أيضا عن محمد بن مسلم عن عمرو عن ابن عباس، ورواه أيضا عبد بن حميد من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس مرفوعا نحوه، ولفظه وعنده قوم، واختلف على عبد الرزاق عنه في وقفه ورفعه، والمشهور عنه الوقف، وهو أصح الروايتين عنه، وله شاهد مرفوع من حديث الحسن بن علي في مسند إسحاق بن راهويه، وآخر عن عائشة عند العقيلي، وإسنادهما ضعيف أيضا، وقال ابن بطال: معنى الحديث الندب عند العلماء فيما خف من الهدايا، وجرت العادة فيه، وأما مثل الدور والمال الكثير فصاحبها أحق بها، ثم ذكر حكاية أبي يوسف القاضي: أن الرشيد أهدى إليه مالا كثيرا وهو جالس مع أصحابه، فقيل له: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: جلساؤكم شركاؤكم، فقال أبو يوسف: إنه لم يرد في مثله، وإنما ورد فيما خف من الهدايا من المأكل والمشرب، ويروى من غير هذا الوجه أنه: كان جالسا وعنده أحمد بن جنبل
164

ويحيى بن معين، فحضر من عند الرشيد طبق وعليه أنواع من التحف المثمنة، فروى أحمد ويحيى هذا الحديث، فقال أبو يوسف: ذاك في التمر والعجوة، يا خازن! إرفعه.
9062 حدثنا ابن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ سنا فجاءه صاحبه يتقاضاه فقال إن لصاحب الحق مقالا ثم قضاه أفضل من سنه وقال أفضلكم أحسنكم قضاء.
.
مطابقته للترجمة على ما قاله الكرماني: إن الزيادة على حقه كانت هدية، وقيل: هبته لصاحب السن القدر الزائد على حقه، ولم يشاركه غيره، وفيه نظر لا يخلو عن تعسف، والحديث مر عن قريب في: باب الهبة المقبوضة، وابن مقاتل هو محمد بن مقاتل المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي.
0162 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا ابن عيينة عن عمر و عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان مع النبي، صلى الله عليه وسلم في سفر فكان على بكر لعمر صعب فكان يتقدم النبي، صلى الله عليه وسلم فيقول أبوه يا عبد الله لا يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بعنيه فقال عمر هو لك فاشتراه ثم قال هو لك يا عبد الله فاصنع به ما شئت.
(انظر الحديث 5112 وطرفه).
قال: هذا الحديث لا دخل له في هذا الباب، فلا مطابقة بينه وبين الترجمة. قلت: لأن هذا هبة لشخص معين فلا مشاركة لغيره فيها، وقال ابن بطال: هبته لابن عمر مع الناس، فلم يستحق أحد منهم فيه شركة. قلت: هذا عجيب: لأن الشخص إذا وهب لأحد شيئا وهو بين الناس فهل يتوهم فيه أنهم يشاركونه فيه؟ حتى يقال: هذه هبة وهبت لشخص وعنده جلساؤه، فهم شركاؤه فيه، بل كل منهم يتحقق أن هذا هو الأحق لتعينه من جهة الواهب. وقال بعضهم: هذا مصير من المصنف إلى اتحاد حكم الهدية والهبة. قلت: هذا أعجب من ذلك، وكيف بينهما اتحاد في الحكم؟ بل بينهما تغاير في الحكم وتباين، لأن الهبة عقد من العقود يحتاج إلى إيجاب وقبول وقبض، والهدية ليست كذلك، وأيضا قد يشترط العوض في الهبة ولا يشترط في الهدية، والحديث قد مر في البيوع في: باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته و (البكر) بفتح الباء الموحدة: الفتى من الإبل بمنزلة الغلام من الناس، والأنثى بكرة، و (صعب) صفته أي: شديد، وقد مر هناك بقية الكلام.
62
((باب إذا وهب بعيرا لرجل وهو راكبه فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا وهب رجل بعير لرجل، وهو راكبه، أي: والحال أن الموهوب له راكب الجمل الموهوب، فهو جائز، والتخلية بينه وبين البعير تتنزل منزلة القبض.
1162 وقال الحميدي حدثنا سفيان قال حدثنا عمر و عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم في سفر وكنت على بكر صعب فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمر بعنيه فابتاعه فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، هو لك يا عبد الله.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث مر في الباب الذي قبله وفي غيره كما ذكرناه، والحميدي هو عبد الله بن عيسى القرشي الأسدي أبو بكر المكي، ونسبته إلى أحد أجداده حميد، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، وهما أيضا مكيان، وهذا وصله الإسماعيلي فرواه عن أبي صالح عنه به وأبو نعيم عن أبي علي محمد بن أحمد عن بشر بن عيسى عنه به.
72
((باب هدية ما يكره لبسها))
أي: هذا باب في بيان حكم هدية ما يكره لبسها، وفي رواية النسفي: ما يكره لبسه، بتذكير الضمير، وكلاهما صحيح، لأن كلمة:
165

ما يصلح للمذكر والمؤنث، والمراد بالكراهة ما هو أعم من التحريم والتنزيه، وهدية ما لا يجوز لبسه جائزة، فإن لصاحبها التصرف فيها بالبيع والهبة لمن يجوز لباسه كالنساء.
2162 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رأى عمر بن الخطاب حلة سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريتها فلبستها يوم الجمعة وللوفد قال إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة ثم جاءت حلل فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر منها حلة وقال أكسوتنيها وقلت في حلة عطارد ما قلت فقال إني لم أكسكها فكسا عمر أخا له بمكة مشركا.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أهدى تلك الحلة إلى عمر، مع أنه يكره لبسها. والحديث قد مر في كتاب الجمعة في: باب يلبس أحسن ما يجد، والحلة من برود اليمن، وأنها لا تكون إلا من ثوبين: إزار ورداء، والوفد: هم القوم يجتمعون ويردون البلاد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك، وهو جمع: وافد، تقول: وفد يفد فهو وافد، وأنا أوفدته فوفد. قوله: (عطارد)، منصرف وهو علم رجل تميمي يبيع الحلل. قوله: (أخا له) أي: لعمر، رضي الله تعالى عنه، هو أخوه من أمه، وقيل: من الرضاعة.
3162 حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة بنته فلم يدخل عليها وجاء علي فذكرت له ذالك فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم قال إني رأيت على بابها سترا موشيا فقال ما لي وللدنيا فأتاها علي فذكر ذالك لها فقالت ليأمرني فيه بما شاء قال ترسل به إلى فلان أهل بيت بهم حاجة.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه أمره صلى الله عليه وسلم فاطمة بإرسال ذلك الستر الموشى أي: المخطط إلى آل فلان.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: محمد بن جعفر بن أبي الحسين أبو جعفر الحافظ الكوفي، نزل فيد، بفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة: وهو بلد بين بغداد ومكة في نصف الطريق سواء، ونسب إليها، وقيل له: الفيدي، ذكره اللالكائي وابن عدي وابن عساكر في شيوخ البخاري. الثاني: محمد بن فضيل بن غزوان. الثالث: أبوه فضيل بن غزوان بن جرير أبو الفضل الضبي الكوفي. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن فضيل بن غزوان ليس له عن نافع عن ابن عمر في البخاري سوى هذا الحديث.
والحديث أخرجه أبو داود أيضا في اللباس عن واصل بن عبد الأعلى عن ابن فضيل به، وعن عثمان بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير عنه نحوه.
قوله: (أتى بيت فاطمة)، ويروى: أتى بنته فاطمة فلم يدخل عليها، وفي رواية أبي داود: وقل ما كان يدخل إلا بإذنها. قوله: (موشيا) أصله موشوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وكسرت الشين لأجل الياء، فصار نحو مرضي ونحوه. قوله: (فذكرت له ذلك)، هذا قول فاطمة أي: ذكرت مجيء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى بيتها وعدم دخوله فيه، وفي رواية ابن نمير، عن ابن فضيل: فجاء علي فرآها مهتمة. قوله: (فذكره للنبي، صلى الله عليه وسلم)، أي: فذكر ذلك علي للنبي، صلى الله عليه وسلم، كذا في رواية الأصيلي، وفي رواية ابن نمير عن فضيل، فقال: يا رسول الله! اشتد عليها أنك جئت فلم تدخل عليها. قوله: (فقال مالي وللدنيا) وفي رواية ابن نمير عن فضيل: ما لي وللرقم، أي: المرقوم، والرقم النقش. قوله: (فقالت) أي: فاطمة. قوله: (فيه)، أي: في الستر الموشى. قوله: (قال)،
166

أي: النبي، صلى الله عليه وسلم، ترسل به أي ترسل فاطمة بذلك الستر إلى آل فلان، ويروى: إلى فلان، بدون ذكر آل وترسل، بضم اللام في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر، ترسل به، بالباء وبحذف النون من غير علة، وهي لغة. قوله: (أهل بيت)، بالجر على البدل.
وفيه كره النبي، صلى الله عليه وسلم، الحرير لفاطمة، رضي الله تعالى عنها، لأنها ممن يرغب لها في الآخرة ولا يرضى لها بتعجيل طيباتها في حياتها الدنيا وأن النهي عنه إنما هو من جهة الإسراف قال الكرماني وأقول لأن فيها صورا ونقوشا والله أعلم. وفيه كراهية دخول البيت الذي فيه ما يكره وروى ابن حببان من حديث سفينة قال لم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يدخل بيتا مزوقا.
4162 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال سمعت زيد بن وهب عن علي رضي الله تعالى عنه قال أهدى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فلبستها فرأيت الغضب في وجهه فشققتها بين نسائي.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فرأيت الغضب في وجهه) فإنه كره لبسها لعلي مع أنه أهداها إليه.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في النفقات عن حجاج بن منهال وفي اللباس عن سليمان بن حرب وعن بندار عن غندر. وأخرجه مسلم في اللباس عن أبي بكر بن أبي شيبة عن غندر به، وأخرجه النسائي في الزينة عن بندار به.
قوله: (في حلة سيراء)، بكسر السين المهملة وفتح الياء آخر الحروف ممدود: وهو نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، وهو فعلاء من السير، وهو القد، هكذا يروى على الصفة، وقيل: على الإضافة، واحتج بأن سيبويه قال: لم تأت فعلاء صفة لكن إسما، وشرح السيراء بالحرير الصافي معناه حلة حرير. قوله: (فرأيت الغضب في وجهه)، ظاهره التحريم، وأما أبو عبد الله أخو المهلب فقال: هو دال على أن النهي للكراهة فقط، ولو كان تحريما لما عرف الكراهة من وجهه بل نهاه. فإن قلت: من المهدي هذه الحلة؟ قلت: قالوا: أكيدر دومة، قال ابن الأثير: دومة الجندل موضع، بضم الدال وتفتح. قوله: (فشققتها بين نسائي)، والمراد به نساء قومه، ولا يريد به زوجاته إذ لم يكن لعلي، رضي الله تعالى عنه، زوجة في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة، رضي الله تعالى عنها، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب (الهدايا) تأليفه، عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: فشققت منها أربعة أخمرة لفاطمة بنت أسد أمي، ولفاطمة زوجتي، ولفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب. قال: ونسي الراوي الرابعة. قال عياض: يشبه أن تكون فاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة عقيل أخي علي، وعند أبي العلاء بن سليمان: فاطمة بنت أبي طالب المكناة أم هانىء، وقال القرطبي: قيل: فاطمة بنت الوليد بن عقبة، وقيل: فاطمة بنت عتبة بن ربيعة.
82
((باب قبول الهدية من المشركين))
أي: هذا باب في بيان جواز قبول الهدية من المشركين، وكأنه أشار بهذا إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك، وهو ما أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم أن عامر بن مالك الذي يدعى: ملاعب الأسنة. قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو مشرك فأهدى له، فقال: إني لا أقبل هدية مشرك... الحديث، رجاله ثقات إلا أنه مرسل، وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح. وفي الباب عن عياض بن حمار أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض. قال: أهديث للنبي، صلى الله عليه وسلم، ناقة فقال: أسلمت؟ قلت: لا، قال: إني نهيت عن زبد المشركين. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح، ومعنى قوله: إني نهيت عن زبد المشركين، يعني: هداياهم. قلت الزبد، بفتح الزاي وسكون الباء الموحدة وفي آخره دال مهملة: وهو الرفد والعطاء، يقال منه: زبده يزبده، بالكسر، فأما يزبده بالضم فهو: إطعام الزبد. وقال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخا لأنه قبل هدية غير واحد من المشركين، أهدى له المقوقس مارية والبغلة، وأهدى له أكيدر دومة فقبل منهما. وقيل: إنما رد هديته ليغيظه بردها فيحمله ذلك على الإسلام. وقيل: ردها لأن للهدية موضعا من القلب، ولا يجوز أن يميل بقلبه
167

إلى مشرك، فردها قطعا لسبب الميل، وليس ذلك مناقضا لقبول هدية النجاشي والمقوقس وأكيدر لأنهم أهل كتاب. انتهى.
قلت: روى في هذا الباب عن جماعة من الصحابة عن جابر، رضي الله تعالى عنه، رواه ابن عدي في (الكامل) عنه. قال: أهدى النجاشي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قارورة من غالية، وكان أول من عمل له الغالية. ولم أجد في هدايا الملوك له، صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر إلا هذا الحديث، والنجاشي كان قد أسلم، ولا مدخل للحديث في الباب إلا أن يكون أهداه له قبل إسلامه، وفيه نظر، ويحتمل أن يراد بالنجاشي نجاشي آخر من ملوك الحبشة لم يسلم، كما في الحديث
الصحيح عند مسلم من حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كتب قبل موته إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم... الحديث، وعن أبي حميد الساعدي، قال: غزونا مع النبي، صلى الله عليه وسلم... الحديث، وفيه: وأهدى ملك أيلة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغلة بيضاء، فكساه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بردة وكتب له ببحرهم، أخرجه الشيخان على ما يجيء، إن شاء الله تعالى.
وعن أنس، أخرجه مسلم والنسائي من رواية قتادة عنه: أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، جبة من سندس. ولأنس حديث آخر رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) وأحمد والبزار في (مسنديهما) قال: أهدى الأكيدر لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، جرة من من فجعل يقسمها بيننا، وقال البزار: فقبلها، ولأنس حديث آخر رواه ابن عدي في (الكامل) من رواية علي بن يزيد عن أنس: أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ممشقة من سندس، فلبسها أورده. في ترجمة علي وضعفه. قلت: الممشقة، بضم الميم الأولى وفتح الثاني وتشديد الشين المعجمة وبالقاف: هو الثوب المصبوغ بالمشق، بكسر الميم، وهو المغرة، ولأنس حديث آخر رواه أبو داود من رواية عمارة بن زادان عن ثابت عن أنس: أن ملك ذي يزن أهدى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، حلة أخذها بثلاثة وثلاثين ناقة فقبلها.
وعن بلال بن رباح، أخرجه أبو داود عنه حديثا مطولا وفيه: ألم تر إلى الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى. فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاما أهداهن إلى عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك.
وعن حكيم بن حزام أخرجه أحمد في (مسنده) والطبراني في (الكبير) من رواية عراك بن مالك أن حكيم بن حزام، قال: كان محمد أحب رجل في الناس إلى في الجاهلية، فلما تنبأ وخرج إلى المدينة شهد حكيم بن حزام الموسم، وهو كافر، فوجد جلة لذي يزن تباع، فاشتراها بخمسين دينارا ليهديها لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقدم بها عليه المدينة فأراده على قبضها هدية فأبى، قال عبد الله: حسبته قال: إنا لا نقبل شيئا من المشركين، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن، فأعطيته حين أبي علي الهدية.
وعن عبد الله بن الزبير: أخرجه أحمد والطبراني أيضا من رواية عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه. قال: قدمت قتيلة ابنة عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، بهدايا ضبابا وقرظا وسمنا، زاد الطبراني: وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة، رضي الله تعالى عنها، النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) * (الممتحنة: 8). الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها.
وعن عبد الله بن عباس أخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس: أن الحجاج بن علاط أهدى لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيفه ذو الفقار، ودحية الكلبي أهدى له بغلته الشهباء، وفي ترجمة أبي شيبة، رواه ابن عدي في (الكامل)، وضعفه. ولابن عباس حديث آخر رواه البزار في (مسنده) من رواية مندل عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم قدح قوارير، فكان يشرب فيه.
وعن حنظلة الكاتب أخرجه الطبراني في (الكبير) عنه: أنه قال: أهدى المقوقس ملك القبط إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، هدية وبغلة شهباء فقبلها، صلى الله عليه وسلم. وعن دحية الكلبي، أخرجه الطبراني في (الكبير) عنه أنه قال: أهديت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، جبة صوف وخفين، فلبسهما حتى تخرقا ولم يسأل عنهما، أذكيا أم لا؟ انتهى. قلت: كان ذلك قبل إسلامه. وعن بريدة ابن الحصيب أخرجه الطبراني في (الأوسط): عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: أهدى لغير أمير القبط لرسول الله، صلى الله
168

عليه وسلم، جاريتين أختين وبغلة، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يركبها، وأما إحدى الجاريتين فتسراها فولدت له إبراهيم، وأما الأخرى فأعطاها حسان بن ثابت الأنصاري. وعن أبي سعيد الخدري أخرجه ابن عدي في (الكامل) عنه، قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم جرة زنجبيل فقسمها بين أصحابه. وعن المغيرة بن شعبة، أخرجه الترمذي من رواية الشعبي عنه، قال: أهدى دحية الكلبي لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خفين فلبسها. وعن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخرجه الطبراني في (الأوسط) من رواية عطاء عنها، قالت: أهدى المقوقس. صاحب الإسكندرية إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم مكحلة عيدان شامية ومرآة ومشط. وعن داود بن أبي داود عن جده أخرجه ابن قانع عنه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أهدى له قيصر جبة من سندس، فأتى أبا بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، يشاورهما، فقالا: يا رسول الله! نرى أن تلبسها يبكت الله تعالى عدوك ويسر المسلمون، فلبسا وصعد المنبر... الحديث، وفي إسناده جهالة.
ثم التوفيق بين هذه الأحاديث ما قاله الطبري: بأن الامتناع فيما أهدى له خاصة، والقبول فيما أهدي للمسلمين، وقيل: الامتناع في حق من يريد بهديته التودد، والقبول في حق من يرجى بذلك تأنيسه وتأليفه على الإسلام. وقيل: يحمل القبول على من كان من أهل الكتاب، والرد على من كان من أهل الأوثان، وقيل: يمتنع ذلك لغيره من الأمراء، لأن ذلك من خصائصه، وقيل: نسخ المنع بأحاديث القبول. وقيل: بالعكس، والله أعلم.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل قرية فيها مالك أو جبار فقال أعطوها آجر
ذكر هذا التعليق مختصرا.
وأخرجه موصولا في كتاب البيوع في باب شراء الملوك من الحربي وقد قتدم الكلام فيه هناك وأخرجه أيضا وأخرجه أيضا موصولا في أحاديث الأنبياء، عليهم السلام.
وقصته على ما قال علماء السير: أن إبراهيم أقام بالشام مدة فقحط الشام فسار إلى مصر ومعه سارة ولوط، عليهم السلام، وكان بها فرعون، وهو أول الفراعنة، عاش دهرا طويلا، واختلفوا فيه، فقال قوم: هو سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، عليه السلام، وقيل: سنان ابن الأهبوب أخو الضحاك، وهو الذي بعثه إلى مصر، وقام بها. وقيل: عمرو بن امرئ القيس بن نابليون بن سبأ. وقيل: طوليس، وكانت سارة من أجمل النساء، وكانت لا تعصي لإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، شيئا، فلذلك أكرمها الله تعالى فأتى الجبار رجل وقال: إنه قدم رجل ومعه امرأة من أحسن الناس وجها، ووصف له حسنها وجمالها، فأرسل الجبار إلى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: هي أختي، وخاف إن قال: امرأتي، أن يقتله، فقال له: زينها وأرسلها إلي،. ولا تمتنع حتى أنظر إليها، فرجع إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، إلى سارة وقال لها: إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله تعالى، وأنه ليس في هذه الأرض مسلم غيري وغيرك، ولوط، ثم أقبلط سارة إلى الجبار، وقام إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، يصلي، فلما دخلت عليه ورآها فتناولها بيد، فيبست إلى صدره، فلما رأى ذلك فرعون أعظم أمرها، وقال لها: سلي إلهك أن يطلق عني، فوالله لا أوذيك. فقالت سارة: اللهم إن كان صادقا فأطلق له يده، فأطلق الله له يده، وقيل: فعل ذلك ثلاث مرات، فلما رأى ذلك ردها إلى إبراهيم ووهب لها هاجر، وهي التي ذكرت في حديث الباب: آجر، وهي لغة في: هاجر، فأقبلت سارة إلى إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فلما أحس بها انفتل من صلاته، فقال: مهيم؟ فقالت: كفى الله كيد الفاجر، وأخدمني هاجر.
واختلفوا في هاجر، فقال مقاتل: كانت من ولد هود، عليه الصلاة والسلام، وقال الضحاك: كانت بنت ملك مصر وكان الملك ساكنا بمنف، وعليه ملك آخر، وقيل: إنما غلبه فرعون فقتله وسبى ابنته فاسترقها ووهبها لسارة، ووهبتها سارة لإبراهيم فواقعها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فولدت إسماعيل، وسارة بنت هاران أخ إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، قال ابن كثير: والمشهور أن سارة ابنة عمه هاران أخت لوط، عليه الصلاة والسلام، كما حكاه السهيلي، ومن ادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل، ولو فرض أنه كان مشروعا، وهو منقول عن الربانيين من اليهود، كان الأنبياء، عليهم السلام، لا يتعاطونه، وقال السدي: وكانت سارة بنت ملك حران، وكان
169

قد بلغها خبر الخليل، عليه الصلاة والسلام، فآمنت به وعابت على قومها عبادة الأوثان، فلما قدم الخليل حران تزوجته على أن لا يغيرها، وذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة: سارة وأم موسى ومريم، عليهن السلام، والذي عليه الجمهور: أنهن صديقات.
وأهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم
يأتي حديث هذه الهدية في هذا الباب موصول، ويأتي الكلام فيها هناك.
وقال أبو حميد أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا وكتب له ببحرهم
أبو حميد الساعدي الأنصاري، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: غير ذلك، والحديث المعلق مضى مطولا في كتاب الزكاة في: باب خرص التمر، وقد مر الكلام فيه هناك، وأيلة، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف: بلدة معروفة بساحل البحر في طريق المصريين إلى مكة، وهي الآن خراب. قوله: (وكتب له ببحرهم)، أي: ببلدهم وحكومة أرضهم وديارهم له، وهذا هو الظاهر، لا البحر الذي هو ضد البر، كما توهمه بعضهم.
5162 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس رضي الله تعالى عنه قال أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن فيه قبول الهدية من المشرك، لأن الذي أهداها هو أكيدر دومة، على ما يجيء عن قريب. وعبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي، وهو من أفراده، ويونس بن محمد أبو محمد المؤدب البغذذ أي شيبان بفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف ابن عبد الرحمان النحوي والحديث أخرجه البخاري أيضا في صفة الجنة عن عبد الله بن محمد أيضا. وأخرجه مسلم في الفضائل عن زهير بن حرب عن يونس بن محمد عنه به.
قوله: (أهدي)، على صيغة المجهول، والمهدي هو أكيدر، كما ذكرناه الآن. قوله: (سندس)، قال ابن الأثير: السندس ما رق من الديباج ورفع، وقال الداودي: السندس رقيق الديباج، والإستبرق غليظه، وقال ابن التين: الإستبرق أفضل من السندس لأنه غليظ الديباج، وكل ما غلظ من الحرير كان أفضل من رقيقه، قوله: (وكان ينهى عن الحرير)، جملة حالية. قوله: (لمناديل سعد)، جمع منديل، وهو الذي يحمل في اليد، مشتق من الندل، وهو: النقل، لأنه ينقل من يد إلى يد، وقيل: الندل الوسخ، وفيه إشارة إلى منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه الجبة، لأن المناديل في الثياب أدناها، لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل منه، وقيل: في قوله: (لمناديل سعد) ضرب المثال بالمناديل التي يمسح بها الأيدي وينفض بها الغبار ويتخذ لفافة لجيد الثياب، فكانت كالخادم، والثياب كالمخدوم، فإذا كانت المناديل أفضل من هذه الثياب أعني: جبة السندس دل على عطايا الرب، جل جلاله، قال: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * (السجدة: 71). فإن قلت: ما وجه تخصيص سعد به؟ قلت: لعل منديله كان من جنس ذلك الثوب لونا ونحوه، أو كان الوقت يقتضي استمالة سعد، أو كان اللامسون المتعجبون من الأنصار، فقال: منديل سيدكم خير منها، أو كان سعد يجب ذلك الجنس من الثياب، وقال صاحب (الاستيعاب) روي أن جبريل، عليه الصلاة والسلام، نزل في جنازته معتجرا، بعمامة من إستبرق.
6162 وقال سعيد عن قتادة عن أنس أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
.
سعيد خز تبم أبي عروبة، روى عن قتادة... إلى آخره، وهذا تعليق وصله أحمد عن روح عن سعيد بن أبي عروبة به، وقال فيه: (جبة سندس أو ديباج) شك سعيد، وأكيدر بضم الهمزة تصغير أكدر، وهو ابن عبد الملك بن عبد الجن، بالجيم والنون
170

ابن أعبا بن الحارث بن معاوية، ينسب إلى كندة، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم أرسل إليه خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، في سرية فأسره، وقتل أخاه حسان، وقدم به إلى المدينة فصالحه النبي، صلى الله عليه وسلم، على الجزية وأطلقه. وقال الكرماني: واختلفوا في إسلامه، قال في (الجامع): ذكر البلاذري: أنه لما قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أسلم وعاد إلى قومه، فلما توفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ارتد فلما سار خالد من العراق إلى الشام قتله، وكان أكيدر ملك ومة، بضم الدال عند اللغوي، وفتحها عند الحديثي، و: الواو، ساكنة، وهي مدينة بقرب تبوك بها نخل وزرع، ولها حصن عادي على عشر مراحل من المدينة وثمان من دمشق، ويسمى: دومة الجندل، والجندل: الحجارة، والدومة: مستدار الشيء ومجتمعه، كأنها سميت به لأن مكانها مجتمع الأججار ومستدارها. وروى أبو يعلى بإسناد قوي من حديث قيس بن النعمان، أنه: لما قدم أخرج قباء من ديباج منسوجا بالذهب، فرده النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم إنه وجد في نفسه من رد هديته، فرجع به، فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: (إدفعه إلى عمر، رضي الله تعالى عنه...) الحديث وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه عن مسلم عند مسلم: (أن أكيدر دومة أهدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: شققه خمرا بين الفواطم). وقد ذكرنا الفواطم في الباب الذي قبل هذا الباب.
7162 حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن يهودية أتت النبي صلى الله عليه وسلم مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل ألا نقتلها فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم قبل هدية تلك اليهودية، وأكله منها يدل على قبوله إياها، وعبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي البصري مات في سنة ثمان وعشرين ومائتين وهو من أفراده، وخالد بن الحارث بن سليم الهجيمي البصري وهشام بن زيد بن أنس بن مالك.
والحديث أخرجه مسلم في الطب عن يحيى بن حبيب، وعن هارون الجمال، وأخرجه أبو داود في الديات عن يحيى بن حبيب.
قوله: (يهودية)، اسمها زينب، واختلف في إسلامها. قوله: (في لهوات)، جمع: لهات، بفتح اللام، قال الجوهري: اللهاة الهنة المطبقة في أقصى سقف الحلق، والجمع اللها، واللهوات واللهياة، وقال عياض: هي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وقال الداودي: لهواته، ما يبدو من فيه عند التبسم، وفي (المغرب) اللهاة: لحمة مشرفة على الحلق.
وفي الحديث دلالة على أكل طعام من يحل أكل طعامه، دون أن يسأل عن أصله. وفيه: حمل الأمور على السلامة حتى يقوم دليل على غيرها، وكذلك حكم ما بيع في سوق المسلمين، وهو محمول على السلامة حتى يتبين خلافها.
8162 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبد الرحمان ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيعا أم عطية أو قال هبة قال لا بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم البطن أن يشوى وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلا قد حز بسواد النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاها إياه وإن كان غائبا خبأ له فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال.
.
مطابقته للترجمة في قوله أم عطية، والعطية تطلق على الهدية وعلى الهبة، ولهذا قال: أم هبة. وفيه: دلالة على جواز قبول هدية المشرك، لأنه لو لم يجز لما قال صلى الله عليه وسلم: أم عطية وأبو النعمان، محمد بن الفضل السدوسي البصري، والمعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي البصري، يروي عن أبيه، وأبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل النهدي بالنون الكوفي، سكن
171

البصرة، أدرك الجاهلية وأسلم على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم وصدق به ولم يره، مات سنة إحدى وثمانين بالبصرة، وهو ابن أربعين ومائة سنة. والحديث مضى في كتاب البيوع في: باب الشراء والبيع مع المشركين.
قوله: (فإذا مع رجل)، كلمة إذا، للمفاجأة، قوله: (أو نحوه)، بالرفع عطف على الصاع والضمير فيه يرجع إلى الصاع. قوله: (مشعان)، بضم الميم وسكون الشين المعجمة. وبالعين المهملة، وفي آخره نون مشددة. وقال الكرماني: ويروى، بكسر الميم. وقال: هو ثائر الرأس أشعث وقال القزاز هو الحافي الثائر الرأس وفي بعض الرواية وقع بعد قوله مشعان طويل جدا فوق الطول وهو تفسير البخاري وقع في رواية المستملي. قوله: (بيعا أعطيه) منصوبان بفعل مقدر تقديره: تبيع بيعا أو تعطي عطية. قوله: (أو قال)، شك من الراوي في أنه قال: عطية أم هبة. قوله: (فاشترى منه)، أي: من الرجل، وفي رواية الكشميهني: فاشترى منها، أي: من الغنم. قوله: (فصنعت)، أي: ذبحت. قوله: (بسواد البطن)، هو الكبد، قاله النووي. وقال الكرماني: اللفظ أعم منه، يعني: يتناول كل ما في البطن من كبد وغيره. قلت: الذي قاله النووي أقوى في المعجزة. قوله: (وأيم الله)، قسم، يعني: من ألفاظ القسم، نحو: لعمر الله، وعهد الله، وفيه لغات كثيرة، وتفتح همزتها وتكسر، وهي همزة وصل، وقد تقطع وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنه جمع يمين، وغيرهم يقولون: هي اسم موضوع للقسم. قوله: (
حز)، بالحاء المهملة والزاي، معناه: قطع. قوله: (حزة)، بضم الحاء المهملة: وهي القطعة من اللحم وغيره، وقال الكرماني: ويروى بفتح الجيم قوله: (أعطاها إياه) أي: أعطى الحزة إياه، أي: الشاهد، أي: الحاضر. وقال بعضهم: هو من القلب، وأصله: أعطاه إياها. قلت: لا حاجة إلى دعوى القلب فيه، بل العبارتان سواء في الاستعمال. قوله: (أجمعون)، بالرفع تأكيد للضمير الذي في أكلوا، ثم إنه يحتمل الوجهين: أحدهما: أنهم اجتمعوا كلهم على القصعتين فأكلوا مجتمعين، وفيه معجزة أخرى: وهي اتساع القصعتين حتى تمكنت منها أيادي القوم كلهم، والوجه الآخر: أنهم أكلوا كلهم من القصعتين على أي وجه كان. قوله: (فحملناه)، أي: الطعام، ولو أريد القصعتان لقيل: حملناهما، وفي الأطعمة. وفضل في القصعتين، وكذا في رواية مسلم، فالضمير حينئذ يرجع إلى القدر الذي فضل. قوله: (أو كما قال)، شك من الراوي.
قال الكرماني: قالوا: فيه معجزتان: إحداهما: تكثير سواد البطن حتى وسع هذا العدد، والأخرى: تكثير الصاع ولحم الشاة حتى أشبعهم أجمعين. ففضلت فضلة حملوها لعدم الحاجة إليها. قلت: فيه أربع معجزات: الأولى تكثير الصاع، والثانية: تكثير سواد البطن. والثالثة: اتساع القصعتين لتمكن أيادي هؤلاء العدد. والرابعة: الفضلة التي فضلت بعد شبعهم واكتفائهم. وفيه: المواساة بالطعام عند المسبغة وتساوي الناس في ذلك. وفيه: ظهور البركة عند الاجتماع على الطعام، وفيه: تأكيد الخبرة بالقسم وإن كان المخبر صادقا، وقال بعضهم: وفيه: فساد قول من حمل رد الهدية على الوثني دون الكتابي، لأن هذا الأعرابي كان وثنيا. قلت: ليس فيه شيء يدل على أنه كان وثنيا، فإن قال: علم ذلك من الخارج، فعليه البيان.
92
((باب الهدية للمشركين))
أي: هذا باب في بيان حكم الهدية الواقعة للمشركين، وحكمها أنها: تجوز للرحم منهم، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وقول الله تعالى: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) * (الممتحنة: 8).
وقول الله، بالجر عطف على قوله: الهدية، أي: وفي بيان قول الله تعالى: * (لا ينهاكم الله...) * (الممتحنة: 8). إلى آخر الآية في رواية أبي ذر وأبي الوقت، وفي رواية الباقين ذكر إلى قوله: * (وتقسطوا إليهم) * (الممتحنة: 8). والمراد من ذكر الآية بيان من تجوز له الهدية من المشركين، ومن لا تجوز، وليس حكم الهدية إليهم على الإطلاق. ثم الآية الكريمة نزلت في قتيلة امرأة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وكان قد طلقها في الجاهلية، فقدمت على ابنتها أسماء بنت أبي بكر، فأهدت لها قرظا، وأشياء، فكرهت قبولها حتى ذكرته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية المذكورة، كذا قاله الطبري، وقيل: نزلت في مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم، وقال مجاهد: هو خطاب للمؤمنين الذين بقوا بمكة ولم يهاجروا، والذين قاتلهم كفار أهل مكة، وقال السدي: كان هذا
172

قبل أن يؤمروا بقتال المشركين كافة، فاستشار المسلمون رسول الله، صلى الله عليه وسلم في قراباتهم من المشركين أن يبروهم ويصلوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال قتادة وابن زيد: ثم نسخ ذلك، ولا يجوز الإهداء للمشركين إلا للأبوين خاصة، لأن الهدية فيها تأنيس للمهدى إليه، وألطاف له، وتثبيت لمودته، وقد نهى الله تعالى عن التودد للمشركين بقوله: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوأدون من حاد الله ورسوله) * (المجادلة: 22). الآية، وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) * (الممتحنة: 1). قوله: (أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، أي: أن تحسنوا إليهم وتعاملوهم فيما بينكم بالعدل وتقسطوا، بضم التاء من الإقساط، وهو العدل، يقال: أقسط يقسط فهو مقسط إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسط إذا جار، فكأن الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال: شكا إليه فأشكاه أي: أزال شكواه.
9162 حدثنا خالد بن مخلد قال حدثنا سليمان بن بلال قال حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رأى عمر حلة على رجل تباع فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد فقال إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة فأتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر كيف ألبسها وقد قلت ما قلت قال إني لم أكسكها لتلبسها تبيعها أو تكسوها فأرسل بها عمر إلى إخ له من أهل مكة قبل أن يسلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معناه، وهو أن عمر، رضي الله تعالى عنه، أرسل تلك الحلة التي أرسلها إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أخ له بمكة، وهو مشرك، فدل ذلك على جواز الإهداء للرحم من المشركين، وهذا أوضح الحكم في إطلاق الترجمة، وأنها ليست على إطلاقها، وقد مضى الحديث في كتاب الجمعة في: باب يلبس أحسن ما يجد، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن ابن عمر، ومضى أيضا عن قريب في: باب هدية ما يكره لبسها، عن عبيد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وهنا أخرجه: عن خالد بن مخلد، بفتح الميم واللام: البجلي الكوفي، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
0262 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وهي راغبة أفأصل أمي قال نعم صلي أمك.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وعبيد، بضم العين مصغر عبد ابن إسماعيل، واسمه في الأصل: عبد الله، يكنى أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراده، وأبو
أسامة حماد بن أسامة الليثي، وهشام بن عروة يروي عن أبيه عروة بن الزبير.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن قتيبة، وفي الأدب عن الحميدي: وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي كريب وعن ابن أبي شيبة، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن أبي شعيب.
ذكر معناه: قوله: (عن هشام عن أبيه)، وفي رواية ابن عيينة الآتية في الأدب: أخبرني أبي. قوله: (عن أسماء)، وفي رواية ابن عيينة: أخبرتني أسماء، كذا قال أكثر أصحاب ابن هشام، وقال بعض أصحاب ابن عيينة: عنه عن هشام عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء، قال الدارقطني، وهو خطأ، وحكى أبو نعيم أن عمر بن علي المقدم ويعقوب القاري روياه عن هشام كذلك، وإذا كان كذلك يحتمل أن يكونا محفوظين، ورواه أبو معاوية وعبد الحميد بن جعفر عن هشام، فقالا: عن عروة عن عائشة، وكذا أخرجه ابن حبان من طريق الثوري عن هشام، قال البرقاني: الأول أثبت وأشهر. قوله: (قدمت على أمي)، وفي رواية الليث عن هشام كما يأتي في الأدب: قدمت أمي مع ابنها، وذكر الزبير: أن اسم ابنها الحارث بن مدرك بن عبيد بن عمر ابن مخزوم.
ثم اختلف في هذه الأم؟ فقيل: كانت ظئرا لها، وقيل: كانت أمها من الرضاعة، وقيل: كانت أمها من النسب، وهو
173

الأصح، والدليل عليه ما رواه ابن سعد وأبو داود الطيالسي والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير، قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر في المدينة وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية بهدايا زبيب وسمن وقرظ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة: سلي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لتدخلها... الحديث، وقد ذكرناه في: باب قبول الهدية من المشركين، واختلفوا في اسمها، فقال الأكثرون: إنها قتيلة، بضم القاف وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف: وقال الزبير بن بكار اسمها قتلة، بفتح القاف وسكون التاء المثناة من فوق، وقال الداودي: اسمها أم بكر، وقال ابن التين: لعله كنيتها، والصحيح: قتيلة، بضم القاف على صيغة التصغير، بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن نصر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء وسكون السين المهملتين: ابن عامر بن لؤي، وذكرها المستغفري في جملة الصحابة. وقال تأخر إسلامها،. وقال أبو موسى المديني: ليس في شيء من الحديث ذكر إسلامها. قوله: (وهي مشركة) جملة حالية. قوله: (في عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، أي: في زمنه وأيامه، وفي رواية حاتم: في عهد قريش، إذ عاقدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأراد بذلك ما بين الحديبية والفتح. قوله: (وهي راغبة)، قال بعضهم: أي: في الإسلام، وقال بعضهم: أي: في الصلة. وفيه نظر لأنها جاءت أسماء ومعها هدايا من زبيب وسمن وغير ذلك. قلت: وفي النظر نظر لأنها ربما كانت تأمل أن تأخذ أكثر مما أهدت. وقال بعضهم: راغبة، أي: عن ديني، أي كارهة له، وعند أبي داود راغمة، بالميم أي كارهة للإسلام وساخطة علي، وقال بعضهم: هاربة من الإسلام، وعند مسلم أو راهبة، وكان أبو عمرو بن العلاء يفسر قوله: مراغما بالخروج عن العدو على رغم أنفه، وقال ابن قرقول: راغبة، رويناه نصبا على الحال، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ. وقال ابن بطال: لو أرادت به المضي لقالت مراغمة، وهو بالباء أظهر ووقع في كتاب ابن التين: داعية، ثم فسرها بقوله: طالبة، ويروي معترضة له.
ومما يستفاد منه: جواز صلة الرحم الكافرة كالرحم المسلمة. وفيه: مستدل لمن رأى وجوب، النفقة للأب الكافر، والأم الكافرة على الولد المسلم. وفيه: موادعة أهل الحرب ومعاملتهم في زمن الهدنة. وفيه: السفر في زيارة القريب. وفيه: فضيلة أسماء حيث تحرت في أمر دينها، وكيف لا وهي بنت الصديق وزوج الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنهم.
03
((باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يحل إلى آخره، فإن قلت: ليس لفظ: لا يحل، ولا لفظ يدل عليه في أحاديث الباب، وكيف يترجم بهذه الترجمة؟ قلت: قيل: إنه ترجم بهذه الترجمة لقوة الدليل عنده فيها، ولكن يعكر عليه بشيئين. الأول: أنه يرى للوالد الرجوع فيما وهبه لولده، فكيف يقول هنا: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته، والكرة في سياق النفي تقتضي العموم، وانتهض بعضهم مساعدة له، فقال: يمكن أن يرى صحة الرجوع له، وإن كان حراما بغير عذر. قلت: سبحان الله ما أبعد هذا عن منهج الصواب، لأنه: كيف يرى صحة شيى مع كونه في نفس الأمر حراما؟ وبين كون الشيء صحيحا، وبين كونه حراما، منافاة؟ فالصحيح لا يقال له حرام، ولا الحرام يقال له صحيح. والثاني: أنه قيل في ترجمته بهذه الترجمة لقوة الدليل عنده، فإن كانت هذه القوة لدليله بحديث ابن عباس، فذا لا يدل على عدم الحل لأنا قد ذكرنا في أوائل: باب هبة الرجل لامرأته أن جعله صلى الله عليه وسلم العائد في هبته كالعائد في قيئه، من باب التشبيه من حيث إنه ظاهر القبح مروءة لا شرعا، فلا يثبت بذلك عدم الحل في الرجوع حتى يقال: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته، وأيضا كيف تثبت القوة لدليله مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم: الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها، رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأخرجه الدارقطني في (سننه) وابن أبي شيبة في مصنفه، وروى (عن ابن عباس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من وهب هبة فهو أحق بهبته، ما لم يثب منها). رواه الطبراني، فإن قال المساعد له: هذان الحديثان لا يقاومان حديثه الذي رواه في هذا الباب. قلت: ولئن سلمنا ذلك، فما يقول في حديث ابن عمر، أخرجه الحاكم في (المستدرك) عنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الدارقطني أيضا في سننه، فإن قال: مساهلة الحاكم في التصحيح مشهورة، يقال: له حديث ابن عمر صحيح مرفوعا، ورواته ثقات، كذا قال عبد الحق في الأحكام، وصححه ابن حزم أيضا، ففيه الكفاية لمن يهتدي إلى مدارك الأشياء ومسالك الدلائل.
174

1262 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام وشعبة قالا حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم العائد
في هبته كالعائد في قيئه.
ليس فيه لفظ يدل على لفظ الترجمة ولا يتم به استدلاله على نفي حل الرجوع عن هبته، وهشام هو الدستوائي، والحديث مر عن قريب، وقال ابن بطال: جعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم الرجوع في الهبة كالرجوع في القيء وهو حرام، فكذا الرجوع في الهبة. قلنا: الراجع في القيء هو الكلب لا الرجل، والكلب غير متعبد بتحليل وتحريم، فلا يثبت منع الواهب من الرجوع فهو يدل على تنزيه أمنه من أمثال الكلب لا أنه أبطل أن يكون لهم الرجوع في هباتهم. فإن قلت: روي: لا يحل لواهب أن يرجع في هبته؟ قلت: قال الطحاوي: قوله: لا يحل، لا يستلزم التحريم، وهو كقوله: لا تحل الصدقة لغني، وإنما معناه: لا تحل له من حيث تحل لغيره من دون الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة. قال: وقوله: كالعائد في قيئه، وإن اقتضى التحريم لكون القيء حراما، لكن الزيادة في الرواية الأخرى: وهي قوله: كالكلب، يدل على عدم التحريم، لأن الكلب غير متعبد فالقيء ليس حراما عليه، والمراد التنزيه عن فعل يشبه فعل الكلب. واعترض عليه بعضهم بقوله: ما تأوله مستبعد وينافي سياق الأحاديث، وأن عرف الشرع في مثل هذه الأشياء يريد به المبالغة في الزجر، كقوله: من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم خنزير. انتهى. قلت: لا يستبعد إلا ما قاله هذا المعترض حيث لم يبين وجه الاستبعاد، ولا بين وجه منافرة سياق الأحاديث، ونحن ما ننفي المبالغة فيه، بل نقول: المبالغة في التغليظ في الكراهة وقبح هذا الفعل وكل ذلك لا يقتضي منع الرجوع فافهم.
2262 حدثنا عبد الرحمان بن المبارك قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا مثل السوء الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه.
هذا طريق آخر في حديث ابن عباس أخرجه عن عبد الله بن المبارك العيشي، بالياء آخر الحروف وبالشين المعجمة يعني: أبا بكر، وليس هذا بأخي عبد الله بن المبارك المروزي، والرواة كلهم بصريون إلا عكرمة وابن عباس فإنهما سكنا فيها مدة، وفي بعض النسخ: وحدثني عبد الرحمن بصيغة الإفراد. واو العطف. قوله: (ليس لنا مثل السوء) يعني: لا ينبغي لنا يريد به نفسه والمؤمنين أن نتصف بصفة ذميمة تشابهنا فيها أخس الحيوانات في أخس أحوالها، وقد يطلق المثل على الصفة الغريبة العجيبة الشأن، سواء كان في صفة مدح أو ذم، قال الله تعالى: * (والذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى) * (النحل: 06). قالوا: هذا المثل ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضها. قلنا: هذا المثل يدل على التنزيه وكراهة الرجوع، لا على التحريم، ويستدل بحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، حين أراد شراء فرس حمل عليه في سبيل الله، فسأل عن ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبتغه، وإن أعطاكه بدرهم... الحديث يأتي الآن، فلما لم يكن من هذا القول موجبا حرمه ابتياع ما تصدق به، فكذلك هذا الحديث لم يكن موجبا حرمة الرجوع في الهبة.
3262 حدثنا يحيى ب خ قزعة قال حدثنا مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه.
.
مطابقته للترجمة تتعين أن يقال في قوله: (فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)، والذي يفهم من صنيع البخاري أنه
175

لا يفرق بين الهبة والصدقة، وليس كذلك، فإن الهبة يجوز الرجوع فيها على ما فيه من الخلاف والتفصيل، بخلاف الصدقة فإنه لا يجوز الرجوع فيها مطلقا، والحديث مضى في كتاب الزكاة في: باب هل يشتري صدقته؟ فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله ابن يوسف عن مالك... إلى آخره، وأخرجه هنا عن يحيى بن قزعة، بفتح القاف والزاي والعين المهملة: المكي، وهو من أفراده عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أسلم أبي خالد، مولى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (عن زيد ن أسلم) سيأتي في آخر حديث في الهبة عن الحميدي: حدثنا سفيان سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم، قال: سمعت أبي... فذكره مختصرا، ولمالك فيه إسناد آخر سيأتي في الجهاد: عن نافع عن ابن عمر... وله فيه إسناد قالت: عن عمرو بن دينار عن ثابت الأحنف عن ابن عمر... أخرجه أبو عمر. قوله: (سمعت عمر بن الخطاب) زاد ابن المديني عن سفيان: على المنبر، وهي للموطآت للدارقطني. قوله: (حملت على فرس) أي: تصدقت به ووهبته بأن يقاتل عليه في سبيل الله، وفي رواية القعنبي في (الموطأ): على فرس عتيق، والعتيق الكريم الفائق من كل شيء، وهذا الفرس هو الذي أهداه تميم الداري لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقال له: الورد، فأعطاه عمر، رضي الله تعالى عنه، فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع، وهذا رواه الواقدي عن سهل بن سعد في تسمية خيل النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: كيف كيفية الحمل عليه؟ قلت: ظاهره يقتضي حمل تمليك ليجاهد به، ولو كان حمل تحبيس لم يجز بيعه. قوله: (فأضاعه الذي كان عنده) أي: لم يحسن القيام عليه، وقصر في مؤونته وخدمته. وقيل: أي لم يعرف مقداره فأراد بيعه بدون قيمته، وقيل: استعمله في غير ما جعل له. قوله: (لا تشتره)، نهي للتنزيه لا للتحريم، قاله الكرماني: قلت: هكذا هو عند الجمهور وحمله قوم على التحريم وليس بظاهر، والله أعلم، ثم إن هذا النهي مخصوص بالصورة المذكورة وما أشبهها، لا فيما إذا رده إليه الميراث، مثلا.
13
((باب))
إن قدر شيء معه يكون معربا وإلا فلا، لأن الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، وهو كالفصل، لأن الكتاب يجمع الأبواب، والأبواب تجمع الفصول.
4262 حدثنا حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أن بني صهيب مولى ابن جدعان ادعوا بيتين وحجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى ذلك صهيبا فقال مروان من يشهد لكما على ذالك قالوا ابن عمر فدعاه فشهد لأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيبا بيتين وحجرة فقضى مروان بشهادته لهم.
قال ابن بطال: ذكر هذا الحديث في كتاب الهبة، لأن فيه: أن النبي، صلى الله عليه وسلم وهب صهيبا ذلك، وقال ابن التين: أتى البخاري بهذه القصة هنا لأن العطايا نافذة، وقال بعضهم: ومناسبته لها أن الصحابة بعد ثبوت عطية النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك لصهيب لم يستفصلوا: هل رجع أو لا؟ فدل على أن لا أثر للرجوع في الهبة. انتهى. قلت: أما ما ذكره ابن بطال وابن التين فله وجه ما، وأما القول الثالث فلا وجه له أصلا، لأن الموهوب له إذا مات لا رجوع فيه أصلا عند جميع العلماء. وأما عند الحنفية فلأن الرجوع امتنع بالموت، وأما عند غيرهم فلا رجوع من الأول أصلا، لأن الموهوب له إذا مات لا رجوع فيه أصلا عند جميع العلماء. وأما عند الحنفية فلأن الرجوع امتنع بالموت، وأما عند غيرهم فلا رجوع من الأول أصلا إلا في موضع مخصوص واستفصال الصحابة وعدم استفصالهم في الرجوع وعدمه بعد موت الواهب لا دخل له هنا، فلا فائدة في قوله، فدل على أن لا أثر في الرجوع في الهبة، لأن الرجوع لم يبق أصلا، فالرجوع وعدمه غير مبنيين على الاستفصال، وعدمه حتى يكون عدم استفصالهم دالا على عدم الرجوع وعدم الرجوع هنا متحقق بدون ذلك أقول: لذكر هذا الحديث هنا وجه حسن، وهو أنه أشار به إلى أن حكم الهبة عند وقوع الدعوى بين المتواهبين أو بين ورثتهم كحكم سائر الدعاوى في أبواب الفقه فيما يحتاج إليه من الحاكم وإقامة الشهود واليمين وغير ذلك، فافهم.
176

ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء أبو إسحاق المروزي، يعرف بالصغير. الثاني: هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني اليماني قاضيها. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي. الرابع: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة المكي قاضي ابن الزبير، والحديث تفرد به البخاري.
ذكر معناه: قوله: (أن بني صهيب)، بضم الصاد: ابن سنان بن خالد الموصلي ثم الرومي ثم المكي ثم المدني، كان من السابقين الأولين والمعذبين في الله، أبو يحيى، وقيل: أبو غسان، سبته الروم من نينوى وأمه سلمى من بني مازن بن عمرو بن تميم، كان أبوه أو عمه عاملا لكسرى على الأبلة، وكانت منازلهم بأرض الموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صهيبا وهو غلام صغير، فنشأ بالروم فصار ألكن، فابتاعه كلب منهم، فقدموا به مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، فأعتقه فأقام معه بمكة إلى أن هلك ابن جدعان، ثم هاجر إلى المدينة في النصف من ربيع الأول، وأدرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقباء قبل أن يدخل المدينة، وشهد بدرا، ومات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه. وأما بنو صهيب فهم: حمزة وسعد وصالح وصيفي وعباد وعثمان وحبيب ومحمد، وكلهم رووا عنه.
قوله: (فقال مروان)، هو ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية الأموي وكان يومئذ أمير المدينة لمعاوية بن أبي سفيان. قوله: (بيتين وحجرة) بيتين تثنية: بيت. قال صاحب (المغرب): البيت اسم لمسقف واحد وأصله من: بيت الشعر أو الصوف، سمى به لأنه يبات فيه، وقال ابن الأثير: بيت الرجل داره وقصره. قلت: الدار لا تسمى بيتا، لأنها مشتملة على بيوت، والحجرة، بضم الحاء المهملة وسكون الجيم: هو الموضع المنفرد في الدار، وذكر عمر بن شبة في (أخبار المدينة) أن بيت صهيب كان لأم سلمة فوهبته لصهيب، فلعلها أعطته بإذن النبي، صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن الذي وقع عليه الدعوى غير ذلك. قوله: (من شهد لكما؟) قال الكرماني: فإن قلت: لفظ بني صهيب جمع وهذا مثنى. قلت: أقل الجمع اثنان عند بعضهم. انتهى. قلت: لا يحتاج إلى هذا التعسف، بل الجواب أن الذي أدعى كان اثنين منهم فخاطبهما مروان بصيغة الاثنين لأن الحاكم لا يخاطب إلا الذي بدعي وفي رواية الإسماعيلي فقال مروان من يشهد: من يشهد لكم؟ فهذه الرواية لا إشكال فيها. قوله: (قالوا: ابن عمر) أي: يشهد بذلك عبد الله بن عمر. قوله: (فدعاه) أي: فدعا مروان عبد الله بن عمر فشهد بذلك، وقال)؛ لأعطي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واللام فيه مفتوحة لأنها لام القسم، والتقدير: والله لأعطي رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فقضى مروان بشهادته لهم)، أي: حكم مروان بشهادة ابن عمر لبني صهيب بالبيتين والحجرة.
وقال ابن بطال: كيف قضى مروان بشهادة ابن عمر وحده؟ ثم قال: فالجواب: أن مروان إنما حكم بشهادته مع يمين الطالب، على ما جاء في السنة من القضاء باليمين مع الشاهد، قيل: فيه نظر، لأنه لم يذكر في الحديث. قلت: ليس كذلك لأن القاعدة المستمرة تنفي الحكم بشاهد واحد. فلا بد من شاهدين أو من شاهد ويمين عند من يراه بذلك. فإن قلت: قد استدل بعضهم بقول بعض السلف، كشريح القاضي، أنه قال: الشاهد الواحد إذا انضمت إليه قرينة تدل على صدقه ألا ترى أن أبا داود ترجم في (سننه) باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم! وساق قصة خزيمة بن ثابت، وسبب تسميته: ذا الشهادتين؟ قلت: الجمهور على أن ذلك لا يصح، وأن قصة خزيمة مخصوصة به، وقال ابن التين: قضاء مروان بشهادة ابن عمر يحتمل وجهين: أحدهما: أنه يجوز له أن يعطي من مال الله من يستحق العطاء، فينفذ ما قيل له: إن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعطاه، فإن لم يكن كذلك كان قد أمضاه، وإن كان غير ذلك كان هو المعطي عطاء صحيحا. وقد يكون هذا خاصا في الفيء، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، أعطى أبا قتادة بدعواه وشهادة من كان السلب عنده. الوجه الثاني: أنه ربما حكم الإمام بشهادة المبرز في العدالة وجده، وقد قال بعض فقهاء الكوفة: حكم شريح بشهادتي وحدي في شيء. قال: وأخطأ شريح، قال: والوجه الأول الصحيح.
23
((باب ما قيل في العمراى والرقباى))
ثبتت البسملة في رواية الأصيلي وكريمة قبل لفظ: باب. قوله: (باب ما قيل) أي: هذا باب في بيان ما قيل في أحكام
177

العمري والرقبى، العمرى، بضم العين المهملة وسكون الميم مقصورا، وحكي بضم العين والميم جميعا، وبفتح العين وسكون الميم. وقال ابن سيده: العمرى، مصدر كالرجعي، وأصل العمرى مأخوذ من العمر، والرقبى بوزن العمرى كلاهما على وزن فعلى، وأصل الرقبى من المراقبة. فإن قلت: ذكر في الترجمة العمرى والرقبى، ولم يذكر في الباب إلا حديثين في العمرى، ولم يذكر شيئا في الرقبى؟ قلت: قيل: إنهما متحدان في المعنى، فلذلك اقتصر على العمرى، على أن النسائي روى بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا: العمرى والرقبى سواء؟ قلت: هذا الجواب غير مقنع، لأنا لا نسلم الاتحاد بينهما في المعنى فالعمرى من العمر والرقبى من المراقبة. وبينهما فرق في التعريف، على ما يجيء بيانه، ومعنى قول ابن عباس: هما سواء يعني: في الحكم، وهو الجواز، لا أنهما سواء في المعنى.
أعمرته الدار فهي عمراى جعلتها له
أشار بهذا إلى تفسير العمرى، وهو أن يقول الرجل لغيره: أعمرته داري، أي: جعلتها له مدة عمري. وقال أبو عبيد: العمرى أن يقول الرجل للرجل: داري لك عمرك، أو يقول: داري هذه لك عمري، فإذا قال ذلك وسلمها إليه كانت للمعمر ولم ترجع إليه إن مات، وكذا إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك حياتك، أو: ما بقيت، أو: ما عشت، أو: ما حييت، وما يفيد هذا المعنى.
وقال شيخنا، رحمه الله: العمرى على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا مت فهي لعقبك أو ورثتك، فهذه صحيحة عند عامة العلماء. وذكر النووي أنه لا خلاف في صحتها، وإنما الخلاف: هل يملك الرقبة أو المنفعة فقط؟ وسنذكره إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني: أن لا يذكر ورثته ولا عقبه، بل يقول: أعمرتك هذه الدار، أو: جعلتها لك، أو نحو هذا، ويطلق... ففيها أربعة أقوال. أصحها: الصحة كالمسألة الأولى، ويكون له ولورثته من بعده، وهو قول الشافعي في الجديد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وسفيان الثوري وأبو عبيد وآخرون. القول الثاني: أنها لا تصح لأنه تمليك مؤقت، فأشبه ما لو وهبه أو باعه إلى وقت معين، وهو قول الشافعي في القديم. الثالث: أنها تصح ويكون للمعمر في حياته فقط، فإذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته إن كان قد مات، وحكى هذا أيضا عن القديم. الرابع: أنها عارية يستردها المعمر متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته.
القسم الثالث: أن لا يذكر العقب ولا الورثة، ولا يقتصر على الإطلاق، بل يقول: فإذا مت رجعت إلي، أو: إلى ورثتي إن كنت مت. فإن قلنا: بالبطلان في حالة الإطلاق فههنا أولى، وكذلك في الإطلاق بالصحة، وعودها بعد موت المعمر إلى المعمر، وإن قلنا: إنها تصح في حالة الإطلاق، ويتأبد الملك ففيه وجهان لأصحاب الشافعي أحدهما: عدم الصحة. قال الرافعي: وهو أسبق إلى الفهم، ورجحه القاضي ابن كج، وصاحب التمة، وبه جزم الماوردي. والثاني: يصح، ويلغو الشرط، وعزاه الرافعي للأكثرين.
ثم اختلف العلماء فيما ينتقل إلى المعمر: هل ينتقل إليه ملك الرقبة حتى يجوز له البيع والشراء والهبة وغير ذلك من التصرفات، أو إنما تنتقل إليه المنفعة فقط. كالوقف؟ فذهب الجمهور إلى أن ذلك تمليك للرقبة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وذهب مالك إلى أنه إنما يملك المنفعة فقط، فعلى هذا فإنها ترجع إلى المعمر إذا مات المعمر عن غير وارث، أو انقرضت ورثته، ولا يرجع إلى بيت المال.
ثم ههنا مسائل متعلقة بهذا الباب.
الأولى: العمرى المذكورة في أحاديث هذا الباب وفي غيره، هل هي عامة في كل ما يصح تمليكه من العقار والحيوان والأثاث وغيرها، أو يختص ذلك بالعقار؟ الجواب: أن أكثر ورود الأحاديث في الدور والأراضي، فإما أن يكون خرج مخرج الغالب فلا يكون له مفهوم، ويعم الحكم كل ما يصح تمليكه. أو يقال: هذا الحكم ورد على خلاف الأصل، فيقتصر على مورد النص، فلا يتعدى به إلى غيره، قال شيخنا: لم أر من تعرض لذلك، إلا أن الرافعي مثل في أمثلة العمري بغير العقار، فقال: ولو قال: داري لك عمرك فإذا مت فهي لزيد، أو: عبدي لك عمرك فإذا مت فهو حر، تصح العمرى على قولنا الجديد، ولغى المذكور بعدها، فعلم من هذا جريان الحكم في العبيد وغيرهم.
الثانية: هل يستوي في العمرى تقييد ذلك بعمر الواهب كما لو قيده بعمر الموهوب؟ فعن أبي عبيد التسوية بينهما، لأنه فسر العمري بأن يقول للرجل: هذه الدار لك عمرك أو عمري، ولكن عند أصحاب الشافعي عدم الصحة في هذه الصورة. قال الرافعي: ولو قال: جعلت لك هذه الدار عمري أو حياتي
الثالثة: إذا قيد الواهب العمرى بعمر أجبني، بأن قال: جعلت هذه الدار لك عمر زيد، فهل يصح؟ قال الرافعي: أجرى فيه الخلاف فيما إذا قال: عمري أو حياتي
178

فعلى هذا فالأصح عدم الصحة لخروجه عن اللفظ الوارد فيه.
الرابعة: إذا لم يشترط الواهب الرجوع بعد موت المعمر لنفسه بل شرطه لغيره، فقال: فإذا مت فهي لزيد، قال الرافعي: يصح ويلغو الشرط، وكذا لو قال: أعمرتك عبدي فإذا مت فهو حر يصح، ويلغو الشرط على الجديد.
الخامسة: إذا لم يذكر العمر في العقد بل أورده بصيغة الهبة، كما إذا قال: وهبتك هذه الدار، فإذا مت رجعت إلي فهذا لا يصح، قال الرافعي: ظاهر المذهب فساد الهبة والوقف بالشروط التي يفسد بها البيع، بخلاف العمرى لما فيها من الإخبار.
السادسة: إذا أتى بما يقتضي العمرى، ولكن بصيغة البيع، فقال: ملكتك هذه الدار بعشرة عمرك، فنقل الرافعي عن ابن كج أنه قال: لا ينعقد عندي جوازه تفريعا على الجديد. وقال أبو علي الطبري: لا يجوز، قال شيخنا: ما قاله أبو علي هو الصحيح نقلا وتوجيها، فقد جزم به ابن شريح وأبو إسحاق المروزي والماوردي، وما نقله عن ابن كج احتمال، وقال به ابن خيران فيما حكاه صاحب التحرير.
السابعة: هل تجوز الوصية بالعمرى بأن يقول: إذا مت فهذه الدار لزيد عمره، كما يجوز تنجيزها؟ فقال به الرافعي، ولكنها تعتبر من الثلث.
الثامنة: لا يجوز تعليق العمرى بغير موت المعمر، كقوله إذا مات فلان فقد أعمرتك هذه الدار.
وأما الرقبى فهو أن يقول الرجل للرجل: أرقبتك داري إن مت قبلك فهي لك وإن مت قبلي فهي لي، وهو مشتق من الرقوب، فكان كل واحد منهما يترقب موت صاحبه. وقال الترمذي: ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الرقبي جائزة مثل العمري. وهو قول أحمد وإسحاق وفرق بعض أهل العلم من أهل الكوفة من أهل الكوفة وغيرهم بين العمرى والرقبى، فأجازوا العمرى ولم يجيزوا الرقبى، وقال صاحب (الهداية): العمرى جائزة للمعمر له في حال حياته ولورثته من بعده. قلت: وهذا قول جابر بن عبد الله، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم. وروي عن شريح ومجاهد وطاووس والثوري، وقال صاحب (الهداية) أيضا: والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد ومالك، وقال أبو يوسف: جائزة، به قال الشافعي وأحمد.
استعمركم فيها جعلكم عمارا
أشار بهذا إلى أن من العمرى أن يكون استعمر بمعنى أعمر، كاستهلك بمعنى أهلك، أي: أعمركم فيها دياركم ثم هو يرثها منكم بعد انقضاء أعماركم، وفي (التهذيب) للأزهري: أي: أذن لكم في عمارتها واستخراج قوتكم منها. وقيل: استعمركم من العمر نحو: استبقاكم من البقاء، وقيل: استعمركم أي: عمركم بالعمارة. قوله: (عمارا) بضم العين وتشديد الميم.
5262 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال قضاى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له.
مطابقته للترجمة في قوله ما قيل في العمرى، وهذا الذي رواه جابر هو الذي قيل فيها، وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وشيبان بن عبد الرحمن النحوي، ويحيى هو ابن أبي كثير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
والحديث أخرجه بقية الستة: مسلم في الفرائض عن القواريري عن جماعة غيره، وأبو داود في البيوع عن موسى بن إسماعيل وغيره. والترمذي في الأحكام عن إسحاق بن موسى الأنصاري، والنسائي في العمرى عن عبد الأعلى وغيره، وابن ماجة في الأحكام عن محمد بن رمح به، ومعنى حديثهم واحد.
قوله: (قضى النبي، صلى الله عليه وسلم)، أي: حكم (بالعمرى) أي بصحتها. قوله: (أنها)، أي: بأنها، أي: بأن الهبة (لمن وهبت له)، ووهبت على صيغة المجهول.
وروى مسلم حديث جابر بألفاظ مختلفة وأسانيد متباينة، أخرج عن أبي سلمة ولفظه: العمرى لمن وهبت له. وعن
179

أبي سلمة أيضا عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها)، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وعن أبي سلمة عنه أيضا. ولفظه، قال، صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطاها عطاء وقعت فيه المواريث). وعن أبي سلمة أيضا عن جابر قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن تقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهري يفتي به. وعن أبي سلمة أيضا عنه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه فهي له بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا، قال أبو سلمة لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. فقطعت المواريث شرطه. وأخرج مسلم أيضا من رواية أبي الزبير عن جابر يرفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا أو ميتا ولعقبه). وعن أبي الزبير أيضا عنه، قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطا لها ابنا لها، ثم توفي وتوفيت بعده، وترك ولدا بعده، وله إخوة بنون للمعمرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، فقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان فدعا جابرا فشهد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره بذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق بأن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم. وأخرج مسلم أيضا من حديث عطاء عن جابر عن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: (العمرى جائزة). وأخرج أيضا عن عطاء عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرى ميراث لأهلها) وقد مر الكلام فيه مفصلا في أول الباب، وبهذه الأحاديث احتج أبو حنيفة والثوري والشافعي والحسن بن صالح وأبو عبيد، على: أن العمرى له يملكها ملكا تاما يتصرف فيها تصرف الملاك، واشترطوا فيها القبض على أصولهم في الهبات. وذهب القاسم بن محمد ويزيد بن قسيط ويحيى بن سعيد الأنصاري والليث بن سعد ومالك إلى أن العمري جائزة ولكنها ترجع إلى الذي أعمرها، واحتجواغ في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم). أخرجه الطحاوي وأبو داود من حديث أبي هريرة. وأجاب عنه الطحاوي بأن هذا على الشروط التي قد أباح الكتاب اشتراطها، وجاءت بها السنة، وأجمع عليها المسلمون، وما نهى عنه الكتاب ونهت عنه السنة فهو غير داخل في ذلك. ألا ترى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال في حديث بريرة: (كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مائة شرط)؟.
6262 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة قال حدثني النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال العمراى جائزة.
هذا حديث أبي هريرة مثل حديث جابر، لكن حديث جابر روى عن فعله، وهذا عن قوله، وهمام هو ابن يحيى الشيباني البصري، والنضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن أنس بن مالك البخاري الأنصاري، وبشير، بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: ابن نهيك، بفتح النون وكسر الهاء: السلوسي، ويقال: السدوسي، يعد في البصريين. وفيه: ثلاثة من التابعين على نسق واحد وهم قتادة والنضر وبشير.
والحديث أخرجه مسلم في الفرائض عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعن يحيى ابن حبيب. وأخرجه أبو داود في البيوع عن أبي الوليد، وأخرجه النسائي في العمرى عن محمد بن المثنى.
قوله: (العمرى جائزة)، قال الطحاوي: أي جائزة للمعمر لا حق فيها للمعمر بعد ذلك أبدا. وفي رواية الترمذي من حديث الحسن عن سمرة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (العمرى جائزة لأهلها، أو ميراث لأهلها)، وفي رواية الطبراني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (العمرى جائزة لمن أعمرها، والرقبى لمن راقبها، سبيلها سبيل الميراث).
فإن قلت: روى النسائي وابن ماجة من حديث أبي هريرة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (لا عمرى، فمن أعمر شيئا فهو له). وهذا يعارض هذا الحديث؟ قلت: لا معارضة، لأن معنى الحديث قوله: لا عمرى بالشروط الفاسدة على ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الرجوع، أي: فليس لهم العمرى المعروفة عندهم المقتضية للرجوع. فإن قلت: في حديث ابن عمر عند النسائي: (لا عمرى ولا رقبى)، وعند أبي داود والنسائي في حديث جابر: (لا ترقبوا ولا تعمروا)، وفي رواية لمسلم: أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها... الحديث، وقد مضى عن قريب؟ قلت: أحاديث النهي محمولة على الإرشاد، يعني: إن كان لكم غرض في عود أموالكم إليكم فلا تعمروها فإنكم إذا أعمرتموها لم ترجع إليكم، فلذلك قال: لا تفسدوها، أي: لا تفسدوا ماليتكم فإنها لن تعود إليكم، وفي بعض طرق حديث جابر عند مسلم: جعلت الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم). انتهى. وكأنه، صلى الله عليه وسلم
180

علم حاجة المالك إلى ملكه، وأنه لا يصبر، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن التبرع بأموالهم وأمرهم بإمساكهم. فافهم.
وقال عطاء حدثني جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
عطاء هو ابن أبي رباح. قوله: (نحوه)، وفي رواية أبي ذر: مثله، وهذا صورته صورة تعليق ولكنه ليس بمعلق، لأنه موصول بالإسناد المذكور عن قتادة، وقائل قوله. وقال عطاء: هو قتادة يعني، قال: قتادة قال عطاء: حدثني جابر عن النبي، صلى الله عليه وسلم نحوه، أي: نحو حديث أبي هريرة، يعني: العمرى جائزة، وقال صاحب (التلويح) ورواه أبو نعيم عن أبي إسحاق بن حمزة حدثنا أبو خليفة حدثنا أبو الوليد حدثنا همام عن قتادة عن عطاء عن جابر مثله، لا نحوه بلفظ: العمرى جائزة، ورواه مسلم عن خالد بن الحارث عن شعبة عن قتادة عن عطاء بلفظ: العمرى ميراث لأهلها، وكأنه الذي أراد البخاري بقوله: نحوه، لأن: نحوه، ليس: مثله. وكأنه لم ير المثل، فلهذا لم يذكره. قلت: قد ذكرنه أنه في رواية أبي ذر: مثله، وفي رواية غيره: نحوه، فهذا يشعر بعدم الفرق بينهما.
33
((باب من استعار من الناس الفرس))
أي: هذا باب في بيان من استعار الفرس، وهذا شروع في بيان أحكام العارية، وفي رواية أبي ذر: الفرس والدابة، وفي رواية الكشميهني وغيرها، وفي رواية ابن شبويه، مثله لكن قال: وغيرهما، بالتثنية. وفي كتاب صاحب (التوضيح) بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب العارية، وغالب النسخ هذا ليس بموجود فيه، وهذه النسخة أولى لأن العادة أن تنوج الأبواب بالكتاب، والعارية، بتشديد الياء وتخفيفها، وتجمع على عواري، وفيها لغة ثالثة: عارة، حكاها الجوهري وابن سيده، وحكاها المنذري فقال: عاراة، بالألف. وقال الأزهري: عارة، بتخفيف الراء بغير ياء، مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء، ومنه سمى: العيار، لكثرة مجيئه وذهابه. وقال البطليموسي: هي مشتقة من التعاور، وهو: التناوب، وقال الجوهري: كأنها منسوبة إلى العار، لأن طلبها عار وعيب، ورد عليه بوقوعها من الشارع ولا عار في فعله، وفي الشرع: العارية تمليك المنفعة بلا عوض، وهو اختيار أبي بكر الرازي. وقال الكرخي والشافعي: وهي إباحة المنافع حتى يملك المستعير إجارة ما استعاره، ولو ملك المنافع لملك إجارتها، والأول أصح، لأن المستعير له أن يعير، ولو كانت إباحة لما ملك ذلك، وإنما لم يجز الإجارة لأنها أقوى وألزم من الإعارة، والشيء لا يستتبع مثله، فبالأحرى أن لا يستتبع الأقوى.
7262 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يقول كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة يقال له المندوب فركب فلما رجع قال ما رأينا من شيء وإن وجدناه لبحرا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وآدم هو ابن أبي إياس، والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن بندار عن غندر عن أحمد بن محمد، وفي الجهاد وفي الأدب عن مسدد عن يحيى. وأخرجه مسلم في فضائل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أبي موسى وبندار وعن يحيى بن حبيب عن أبي بكر عن وكيع. وأخرجه أبو داود في الأدب عن عمرو بن مرزوق. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن محمود بن غيلان وعن بندار وابن أبي عدي وأبي داود، وأخرجه النسائي في السير عن إسحاق بن إبراهيم.
قوله: (فزع)، أي: خوف من عدو. قوله: (من أبي طلحة)، هو زيد بن سهل زوج أم أنس. قوله: (المندوب)، مرادف: المسنون، وهو اسم فرس أبي
طلحة. قال ابن الأثير: هو من الندب، وهو الرهب الذي يجعل في السباق، وقيل: سمي به لندب كان في جسمه. وهو أثر الجرح. قوله: (من شيء)، أي: من العدو وسائر موجبات الفزع. قوله: (وإن وجدناه لبحرا)، وفي رواية المستملي: إن وجدنا، بحذف الضمير، قال الخطابي: إن، هي النافية، واللام في: لبحرا، بمعنى: إلا، أي: ما وجدناه إلا بحرا. والعرب تقول: إن زيدا لعاقل، أي: ما زيد إلا عاقل، وعلى هذا قراءة من قرأ: * (إن هذان لساحران) * (طه: 36). بتخفيف، والمعنى: إن ما هذان إلا ساحران. وقال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، ومذهب البصريين، أن: إن، هي مخففة من الثقيلة، واللام زائدة، والبحر هو
181

الفرس الواسع الجرى وزعم نفطويه: أن البحر من أسماء الخيل وهو الكثير الجري الذي لا يفنى جريه، كما لا يفنى ماء البحر، ويؤيده ما في رواية سعيد عن قتادة، فكان بعد ذلك لا يجاري. وقال عياض: إن في خيل سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرسا يسمى: البخر، اشتراه من تجار قدموا من اليمن فسبق عليه مرات، ثم قال بعد ذلك: يحتمل أنه تصير إليه بعد أبي طلحة. قيل: هذا نقض للأول، لكن لو قال: إنهما فرسان اتفقا في الاسم لكان أقرب. قلت: كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، أربعة وعشرون فرسا منها سبعة متفق عليها وهي: السكب: اشتراه من أعرابي من بني فزارة، وهو أول فرس ملكه وأول فرس غزا عليه وكان كميتا. والمرتجز: اشتراه من أعرابي من بني مرة وكان أبيض. ولزاز: أهداه له المقوقس، واللحيف: أهداه له ربيعة بن أبي البراء. والظرب: أهداه له فروة بن عمرو عامل البلقاء لقيصر الروم. والورد: أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فحمل عليه في سبيل الله، ثم وجده يباع برخص، فقال له، صلى الله عليه وسلم: (لا تشتره)، وسبحه: والبقية مختلف فيها، وذكر فيها: البخر والمندوب. أما البحر: فقد ذكر عياض أنه اشتراه من تجار قدموا من اليمن. وأما المندوب: فهو الذي ركبه أبو طلحة، من: ندبه فانتدب أي: دعاه فأجاب: فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن وجدناه لبحرا) معناه: وجدنا الفرس الذي يسمى مندوبا بحرا. فقوله: (بحرا)، صفته وليس المراد منه ذاك الفرس الذي اشتراه من التجار المسمى بالبحر. وأما ذكر المندوب في خيل النبي صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن أبا طلحة وهبه له، فمن حسن جريه شبهه النبي صلى الله عليه وسلم ببحر، فدل ذلك على أن البحر اسم للفرس الذي اشتراه من التجار، والبحر الآخر صفة للمندوب، وهذا تحرير الكلام، وقد جمع بعضهم أفراس النبي، صلى الله عليه وسلم، في بيت وهي الأفراس المتفق عليها، فقال:
* والخيل: سكب لحيف سبحة ظرب
* لزاز مرتجز ورد لها أسرار
*
وآخر جمع أسيافه:
* إن شئت أسماء سياف النبي فقد
* جاءت بأسمائها السبع أخبار
*
* قل: محذم ثم حتف ذو الفقار وقل
* غضب رسوب وقلعي وبتار
*
قلت: سيوفه عشرة، هذه سبعة والثلاثة الأخرى: رسوب ومأثور ورثه من أبيه، قدم به المدينة وهو أول سيف ملكه. وصمصامة، سيف عمرو معدي كرب، وهبه لخالد بن سعيد، ويقال: وله سيف آخر يدعى القضيب، وهو أول سيف تقلد به، قاله النيسابوري في كتاب (شرف المصطفى)
[/ ح.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في عارية الحيوان والعقار مما لا يغاب عنه، فروى ابن القاسم عن مالك: أن من استعار حيوانا وغيره مما لا يغاب عنه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدي، وهو قول الكوفيين، والأوزاعي. وقال عطاء: العارية مضمونة على كل حال، كانت مما لا يغاب عنه، أم لا تعدى فيها أولا، وبه قال الشافعي وأحمد. وقالت الشافعية: إلا إذا تلف من الوجه المأذون فيه فلا ضمان عندنا. وقال أصحابنا الحنفية: العارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم تضمن، وهو قول علي وابن مسعود والحسن والنخعي والشعبي والثوري وعمر بن عبد العزيز وشريح والأوزاعي وابن شبرمة وإبراهيم، وقضى شريح بذلك ثمانين سنة بالكوفة، وقال الشافعي: تضمن، وبه قال أحمد، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وإسحاق. وقال قتادة وعبد الله بن الحسين العنبري: إن شرط ضمانها ضمن وإلا فلا، وقال ربيعة: كل العواري مضمونة. وفي (الروضة): إذا تلفت العين في يد المستعير ضمنها، سواء تلفت بآفة سماوية أم بفعلة بتقصير أم بلا تقصير، هذا هو المشهور، وحكى قول آخر أنها لا تضمن إلا بالتعدي، وهو قول ضعيف، ولو أعار بشرط أن يكون أمانة لغى الشرط وكانت مضمونة، وفي حاوي الحنابلة: إن شرط نفي ضمانها سقط الضمان، وإن تلف جزؤها باستعماله كحمل منشفة لم يضمن في أصح الوجهين. انتهى. قلت: ولو شرط الضمان في العارية هل يصح؟ فالمشايخ فيه مختلفون، كذا في التحفة، وقال في خلاصة الفتاوي: رجل قال لآخر: أعرني ثوبك، فإن ضاع فأنا له ضامن، قال: لا يضمن. ونقله عن المنتقى.
واحتج الشافعي ومن معه بأحاديث. منها: حديث أبي أمامة، أخرجه أبو داود عنه أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: (العارية مؤداة والزعيم غارم). وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. ومنها: حديث أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم
182

استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: (لا بل عارية مضمونة) رواه أبو داود والنسائي. ومنها: حديث يعلى بن أمية رواه أبو داود والنسائي عنه. قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتتك رسلي فادفع إليهم ثلاثين درعا، فقلت: يا رسول الله إعارة مضمونة أم عارية مؤداة؟. ومنها: حديث سمرة، رواه الأربعة عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري. وحجة الذين ينفون الضمان إلا بالتعدي ما رواه الدارقطني، ثم البيهقي في (سننيهما) عن عمرو بن عبد الجبار عن عبيدة بن حسان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المستودع غير المغل ضمان، ولا على المستعير غير المغل ضمان). وروى ابن ماجة في (سننه): عن المثنى بن صباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه).
فإن قلت: قال الدارقطني: عمرو بن عبد الجبار وعبيدة ضعيفان، وإنما يروى هذا من قول شريح، غير مرفوع. قلت: قيل: الجرح المبهم لا يقبل ما لم يتبين سببه، ورواية من وقفه لا تقدح في رواية من رفعه، وقيل: عبيدة هذا لم يضعفه أحد من أهل هذا الشأن، وذكره البخاري في (تاريخه) ولم يذكر فيه جرحا، وكذا عمرو بن عبد الجبار لم يضعفه أحد غير أن ابن عدي لما ذكره لم يزد على قوله: له مناكير، وقد اعترض بعضهم على القائل المذكور: بأن عبيدة قال فيه أبو حاتم الرازي: إنه منكر الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، ورد عليهما بأنهما لم يبينا سبب الجرح، والجرح المجرد لا يقبل، على أن البخاري لما ذكره في (تاريخه) لم يتعرض إليه بشيء. والجواب عن حديث أبي أمامة أنه ليس فيه دلالة على التضمين، لأن الله تعالى قال: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 85). فإذا تلفت الأمانة لم يلزمه ردها..
وأما حديث صفوان بن أمية فهو مضطرب سندا ومتنا، وجميع وجوهه لا يخلو عن نظر، ولهذا قال صاحب (التمهيد): الاضطراب فيه كثير ولا حجة فيه عندي في تضمين العارية. انتهى. ثم على تقدير صحته، قوله: (مضمونة) أي: مضمونة الرد عليك، بدليل قوله: حتى يؤديها إليك، ويحتمل أن يريد اشتراط الضمان، والعارية بشرط الضمان مضمونة في رواية للحنفية، وروى عبد الرزاق في (مصنفه) عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قال: العارية بمنزلة الوديعة ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى، وأخرج عن علي، رضي الله تعالى عنه، ليس على صاحب العارية ضمان. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي، رضي الله تعالى عنه، العارية ليست بيعا ولا مضمونة، إنما هو معروف إلا أن يخالف فيضمن.
وأما حديث سمرة فإن الأداء فيه فرض، ولا يلزم منه الضمان، ولو لزم من اللفظ الضمان للزم الخصم أن يضمن المرهون والودائع لأنها مما قبضته اليد.
43
((باب الإستعارة للعروس عند البناء))
هذا باب في بيان حكم الاستعارة لأجل العروس، والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما، ويقال: اسم لهما عند دخول أحدهما بالآخر، وفي غير هذه الحالة الرجل يسمى عريسا والمرأة عروسا. قوله: (عند البناء) أي: الزفاف، يقال: بنى على أهله إذا زفها، وقال ابن الأثير: الابتناء والبناء: الدخول بالزوجة، والأصل فيه أن الرجل كان إذا تزوج امرأة بنى عليها قبة ليدخل بها فيها، فيقال: بنى الرجل على أهله. وقال الجوهري: ولا يقال بنى بأهله، ورد عليه بأنه قد جاء في غير موضع، وهو أيضا استعمله في كتابه.
8262 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد الواحد بن أيمن قال حدثني أبي قال دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعليها درع قطر ثمن خمسة دراهم فقالت ارفع بصرك إلى جاريتي انظر إليها فإنها تزهاى أن تلبسه في البيت وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت امرأة تقين بالمدينة إلا أرسلت إلي تستعيره.
مطابقته للترجمة في قوله: (فما كانت امرأة...) إلى آخره.
ذكر رجاله وهم أربعة: أبو نعيم الفضل بن دكين، وعبد الواحد بن أيمن
183

المخزومي مولى أبي عمرو المكي، يكنى أبا القاسم، وأبوه أيمن ضد الأيسر الحبشي المخزومي المكي، وهو من أفراد البخاري، وعائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، والحديث تفرد به البخاري.
ذكر معناه: قوله: (وعليها درع قطر)، جملة حالية، ودرع، مضاف إلى: قطر، والدرع قميص المرأة، وهو مذكر، ودرع الحديد مؤنثة. وحكى أبو عبيد أنه يذكر ويؤنث، والقطر، بكسر القاف وسكون الطاء المهملة وفي آخره راء، قال ابن فارس: هو جنس من البرود. وقال الخطابي: ضرب من المروط غليظ، وقيل: ثياب من غليظ القطن وغيره، وقيل: من القطن خاصة، وفي رواية أبي الحسن القابسي وابن السكن بالفاء، كذا قاله ابن قرقول، ثم قال: وهي ضرب من ثياب اليمن يعرف بالقطرية فيها حمرة. وقال البنالسي: الصواب بالقاف، وقال الأزهري: الثياب القطرية منسوبة إلى قطر، قرية في البحرين، فكسروا القاف للنسبة وخففوا. وفي رواية المستملي والسرخسي: درع قطن، بضم القاف وفي آخره نون، وقيل: الأشهر والصواب بالقاف والنون. قوله: (ثمن خمسة دراهم)، بضم الثاء المثلثة وتشديد الميم المكسورة على صيغة المجهول من الماضي من التثمين، وهو التقويم. وخمسة بالنصب بنزع الخافض أي: قوم بخمسة دراهم، ويروى: ثمن، بلفظ الاسم منصوبا بنزع الخافض أي: بثمن خمسة دراهم فيكون مضافا إلى خمسة دراهم، فيكون لفظ خمسة مجرورا بالإضافة. ويروى: ثمن، بالرفع على الابتداء وخمسة بالرفع أيضا خبره، ولكن بحذف الضمير تقديره: ثمنه خمسة دراهم، ووقع في رواية ابن شبويه وحده: خمسه الدراهم. قوله: (أنظر)، بلفظ الأمر. قوله
: (إليها) أي: إلى الجارية. قوله: (فإنها تزهى) بضم أوله أي: تتكبر أو تأنف. وقال ثعلب في باب فعل، بضم الفاء، وقد زهيت علينا يا رجل وأنت مزهو، وعند التدميري مأخوذ من التيه والعجب، وأصله من البسر إذا حسن منظره، وراقت ألوانه، وقال ابن درستويه: العامة تقول: زهى علينا، فيحصل الفعل له، وإنما هو مفعول لم يسم فاعله، وقال ابن دريد: يقال: زهى زهوا إذا تكبر، ومنه قولهم: ما أزهاه، وليس هو من زهى، لأن ما لم يسم فاعله لا يتعجب منه، ورد عليه بما روي عن ابن عصفور وغيره: يجيء التعجب مما لم يسم فاعله في ألفاظ معدودة، منها: ما أجنه. وقال الجوهري: قال الشاعر:
* لنا صاحب مولع بالخلاف
* كثير الخطأ قليل الصواب
*
* ألج لجاجا من الخنفساء
* وأزهى إذا ما مشى من غراب
*
قوله: (منهن) أي: من الدروع أو من بين النساء. قوله: (على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم) أي: في زمنه وأيامه. قوله: (تقين) بضم التاء المثناة من فوق وفتح القاف وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره نون، على صيغة المجهول، من التقيين وهو التزيين، والمعنى: ما كانت امرأة بالمدينة تتزين لزفافها، إلا أرسلت تستعير ذلك الدرع، وقال ابن الجوزي: أرادت عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنهم كانوا أولا في حال ضيق، فكان الشيء المحتقر عندهم إذ ذاك عظيم القدر، وقال صاحب (الأفعال) فإن الشيء يقينه قينا إذا أصلحه. يقال: قن إناءك، وقال الجوهري: قنت الشيء أقينه قينا، لممته، واقتانت الروضة: أخذت زخرفها، ومنه قيل للماشطة: مقينة، لأنها تزين النساء، وشبهت بالأمة لأنها تصلح البيت وتزينه، والقنية المغينة، والقينة الأمة مطلقا، والقين وكل صانع عند العرب قين. وقال المهلب: عارية الثياب للعرس من فعل المعروف والعمل الجاري عندهم لأنه مرغب في أجره، لأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، لم تمنع منه أحدا.
وفيه: أن المرأة قد تلبس في بيتها ما حسن من الثياب وما يلبسه بعض الخدم. وفيه: تواضع عائشة، رضي الله تعالى عنها، وأخذها بالبلغة في حال اليسار، وقد أعانت المنكدر في كتابته بعشرة آلاف درهم، وذكرت ما كانوا عليه ليتذكر ذلك.
53
((باب فضل المنيحة))
أي: هذا باب في بيان فضل المنيحة وليس في رواية أبي ذر لفظ: باب، والمنيحة، بفتح الميم وكسر النون وسكون الياء آخر الحروف وفتح الحاء المهملة، على وزن عظيمة، وهي الناقة، والشاة ذات الدر يعار لبنها ثم ترد إلى أهلها، وقال ابن الأثير: ومنيحة اللبن أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانا ثم يردها، قال القزاز: قيل: لا تكون المنيحة إلا ناقة أو شاة وقال أبو عبيد: المنيحة عند العرب على وجهين: أحدهما: أن يعطي الرجل صاحبه صلة
184

فيكون له. والآخر: أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحلبها ووبرها زمنا ثم يردها. قلت: المنيحة في الأصل العطية من منح إذا أعطى وكذلك المنحة، بالكسر.
9262 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة والشاة الصفي تغدو بإناء وتروح بإناء.
(الحديث 9262 طرفه في: 8065).
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم ذكر المنيحة بالمدح، ولا يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، شيئا إلا في العمل به فضل. وأبو الزناد، بالزاي والنون: وعبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
قوله: (نعم المنيحة)، بفتح الميم وكسر النون. وقد ذكرناها الآن. قوله: (اللقحة)، بكسر اللام: بمعنى الملقوحة، أي: الحلوب من الناقة. وفي (التلويح): اللقحة، بكسر اللام: الشاة التي لها لبن، وبفتحها المرة الواحدة من الحلب، وقيل فيها الفتح والكسر، واللقحة مرفوع لأنه صفة المنيحة. وقوله: (الصفي)، صفة بعد صفة، ومعناها: الكثيرة اللبن. قال الكرماني: فإن قلت: الصفي صفة للقحة، فلم ما دخل عليها التاء؟ قلت: لأنه إما فعيل أو فعول، يستوي فيه المذكر والمؤنث. فإن قلت: فلم دخل على المنيحة؟ قلت: لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية، أو لأن استواء التذكير والتأنيث إنما هو فيما كان موصوفه مذكورا. انتهى. قلت: روي أيضا: الصفية، بتاء التأنيث، فلا حاجة إلى قوله: لأنه إما فعيل أو فعول، على أن قوله: إما فعيل، غير صحيح، لأنه من معتل اللام الواوي دون اليائي. قوله: (منحة)، نصب على التمييز. وقال ابن مالك: فيه وقوع التمييز بعد فاعل: نعم، ظاهرا وقد منعه سيبويه إلا مع الإضمار، مثل: (بئس للظالمين بدلا)، وجوزه المبرد وهو الصحيح. قوله: (والشاة الصفي)، صفة وموصوف عطف على ما قبله، وقد مضى معنى: الصفي، قوله: (تغدو بإناء وتروح بإناء) أي: من اللبن، أي: تحلب إناء بالغدو وإناء بالعشي، وقيل: تغدو بأجر حلبها في الغدو والرواح. ووقع هذا الحديث في رواية مسلم من طريق سفيان عن أبي الزناد بلفظ: (إلا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بإناء وتروح بإناء، إن أجرها لعظيم).
حدثنا عبد الله بن يوسف واسماعيل عن مالك قال نعم الصدقة
أشار بهذا إلى أن عبد الله بن يوسف التنيسي وإسماعيل بن أبي أويس ابن أخت مالك بن أنس رويا عن مالك، قال: (نعم الصدقة اللقحة الصفي منحة)، وهذا هو المشهور عن مالك، وكذا رواه شعيب عن أبي الزناد كما سيأتي في الأشربة، وقال ابن التين: من روى: (نعم الصدقة)، روى بالمعنى، لأن المنحة العطية، والصدقة أيضا عطية. وقال بعضهم: لا تلازم بينهما، فكل صدقة عطية، وليس كل عطية صدقة. وإطلاق الصدقة على المنيحة مجاز، ولو كانت المنيحة صدقة لما حلت للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من جنس الهدية والهبة. انتهى. قلت: أراد ابن التين بقوله: روى بالمعنى، المعنى اللغوي، ولا فرق في اللغة بين العطية والمنحة والصدقة والهبة والهدية، لأن معنى العطية موجود في الكل بحسب اللغة، وإنما الفرق بينهما في الاستعمال، ألا ترى أنه لو تصدق على غني تكون هبة، ولو وهب لفقير تكون صدقة، وقال ابن بطال: المنحة تمليك المنافع لا تمليك الرقاب والسنة أن ترد المنيحة إلى أهلها إذا استغنى عنها، كما رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أم أنس، ولما فتح الله على رسوله غنائم خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم، وثمارهم كما سيجيء الآن.
0362 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا ابن وهب قال حدثنا يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال لما قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم يعني شيئا وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة وكانت أمه أم أنس أم سليم كانت أم عبد الله بن أبي طلحة فكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقا فأعطاهن النبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن
185

مولاته أم أسامة بن زيد قال ابن شهاب فأخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتل أهل خيبر فانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم فرد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه عذاقها وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه. وقال أحمد بن شبيب أخبرنا أبي عن يونس بهاذا وقال مكانهن من خالصه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة تعرف من قوله: (فقاسمهم الأنصار) إلى قوله: (قال ابن شهاب). وابن وهب هو: عبد الله بن وهب البصري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى. وأخرجه النسائي في المناقب عن عمرو بن سواد ثلاثتهم عن ابن وهب به.
قوله: (وليس بأيديهم) يعني شيئا هذا هكذا في رواية الأصيلي وكريمة، وفي رواية الباقين: (وليس بأيديهم) بدوة، يعني شيئا، وقال الكرماني: يعني وليس بأيديهم مال، والتفسير الأول أعم منه. قوله: (فقاسمهم الأنصار) جواب: لما. فإن قلت: ظاهر هذا يغاير حديث أبي هريرة الذي مضى في المزارعة، قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: (إقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقال: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا). قلت: لا مغايرة بينهما لأن المنفي هناك مقاسمة الأصول والمراد هنا مقاسمة الثمار، وزعم الداودي، رحمها الله أن المراد من قوله: فقاسمهم، هنا أي خالفهم، وجعله من: القسم، بفتحتين لا من: القسم، بسكون السين، وفيه نظر لا يخفى. قوله: (وكانت أمه) أي: أم أنس بن مالك. وقوله: أم أنس، بدل منه، وقوله: أم سليم، بضم السين المهملة بدل عن أم أنس، وفي رواية مسلم: وكانت أم أنس بن مالك وهي تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله ابن أبي طلحة كان أخا أنس لأمه. قوله: (كانت) تأكيد: لكانت، الأولى فهي أم أنس وأم عبد الله واسمها: سهلة أو مليكة بنت ملحان الأنصارية. وقوله: (وكانت أمه.. إلى قوله: أبي طلحة، من كلام الزهري الراوي عن أنس، كذا قال بعضهم، ولكن ظاهر السياق أنه يقتضي أنه من رواية الزهري عن أنس، فيكون من باب التجريد، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمر آخر مثل الأمر الأول في تلك الصفة وإنما يفعل ذلك مبالغة في كمال الصفة في الأمر الأول والتجريد على أقسام منها مخاطبة الإنسان نفسه، كأنه ينتزع من نفسه شخصا فيخاطبه، والتجريد هنا من هذا القسم. قوله: (فكانت أعطت) أي: كانت أم أنس، أعطت رسول الله، صلى الله عليه وسلم عذاقا، بكسر العين المهملة وبذال معجمة خفيفة، جمع: عذق، بفتح العين وسكون الذال، كحبل وحبال، والعذق: النخلة، وقيل: إنما يقال لها ذلك: إذا كان حملها موجودا. والمعنى: أنها وهبت للنبي صلى الله عليه وسلم تمرها. قوله: (أم أيمن)، بالنصب لأنه مفعول ثان لأعطى، واسمها بركة، بالباء الموحدة والراء والكاف المفتوحات، وكنيت به لأنها كانت أولا تحت عبيد مصغر عبد الحبشي فولدت له أيمن. وفي (صحيح مسلم) أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر صلى الله عليه وسلم فأعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة. قوله: (أم أسامة بن زيد) بن شراحيل بن كعب مولى النبي، صلى الله عليه وسلم، من أبويه، وكان أسود أفطس، توفي في آخر أيام معاوية سنة ثمان وتسع وخمسين، ومات النبي، صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة، فأسامة وأيمن أخوان لأم، واستشهد أيمن يوم حنين، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (بركة أمي بعد أمي)، وماتت بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر. قوله: (قال ابن شهاب، هو الزهري الراوي: وهو موصول بالإسناد المذكور، وكذا هو عند مسلم. قوله: (منائحهم)، جمع منيحة. قوله: (وقال أحمد بن شبيب)، بفتح الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة الأولى: ابن سعيد أبو عبد الله الحبطي البصري، روى عنه البخاري في (مناقب عثمان) وفي الاستقراض مفردا، وفي غير موضع مقرونا إسناده بإسناد آخر، وهو من أفراده، روى عن أبيه شبيب عن يونس بن يزيد. قوله: (بهذا)، أي: بهذا المتن والإسناد، وطريق أحمد بن
186

شبيب وصله البرقاني عنه مثله. قوله: (وقال مكانهن من خالصه)، أي: من خالص ماله، وقال ابن التين: المعنى واحد، لأن حائطه صار له خالصا.
1362 حدثنا مسدد قال حدثنا عيساى بن يونس قال حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي قال سمعت عبد الله بن عمر و رضي الله تعالى عنهما يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة قال حسان فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام وتشميت العاطس وإماطة الأذاى عن الطريق ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة.
مطابقته للترجمة في قوله: (أعلاهن منيحة العنز).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: مسدد بن مسرهد، وقد تكرر ذكره. الثاني: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني. الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع: حسان بن عطية الشامي أبي بكر. الخامس: أبو كبشة، بفتح الكاف وسكون الباء الموحدة وبالشين المعجمة: اسمه كنيته، والسلولي، بفتح السين المهملة وضم اللام الأولى: نسبة إلى سلول قبيلة من هوازن. السادس: عبد الله ابن عمرو بن العاص.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: أن شيخه بصري وعيسى كوفي والأوزاعي وحسان شاميان، وحسان إما من الحسن فالنون أصلية، وإما من الحس فالنون زائدة، وليس لحسان هذا ولا لأبي كبشة في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وقد ذكرنا أن أبا كبشة اسمه وكنيته سواء، وزعم الحاكم أن اسمه البراء بن قيس، ورد عليه عبد الغني بن سعيد وبين أنه غيره.
والحديث أخرجه أبو داود في الزكاة عن إبراهيم بن موسى ومسدد، كلاهما عن عيسى بن يونس إلى آخره.
ذكر معناه: قوله: (عن حسان بن عطية) وفي رواية أحمد: عن الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية. قوله: (عن أبي كبشة)، وفي رواية أحمد: حدثني أبو كبشة. قوله: (قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أحمد: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (أربعون خصلة)، مبتدأ. وقوله: (أعلاهن)، مبتدأ ثان. وقوله: (منيحة العنز)، خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والعنز: هي الأنثى من المعز، وكذلك العنز من الظباء والأوعال. قوله: (منها)، أي: من الأربعين. قوله: (رجاء)، نصب على التعليل، وكذلك قوله: (تصديق موعودها) فإن قلت: من المعلوم قطعا أنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بها أجمع، لأنه لا ينطق عن الهوى فلم لم يذكرها؟ قلت: لمعنى، وهو أنفع لنا من ذكرها، وذلك، والله أعلم خشية أن يكون التعيين لها زهدا عن غيرها من أبواب البر. قوله: (قال حسان...) إلى آخره، قال ابن بطال: وليس قول حسان مانعا أن يستطيعها غيره، قال: وقد بلغني عن بعض أهل عصرنا أنه طلبها فوجد ما يبلغ أزيد من أربعين خصلة. فمنها: أن رجلا سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخل الجنة فذكر له أشياء، ثم قال: والمنيحة والفيء على ذي الرحم القاطع، فإن لم تطق فأطعم الجائع واسق الظمآن، هذه ثلاث خصال أعلاهن المنيحة وليس الفيء منها لأنه أفضل من المنيحة والسلام. وفي الحديث: من قال السلام عليك، كتب له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كتب له عشرون، ومن زاد: وبركاته، كتب له ثلاثون، وتشميت العاطس... الحديث، وهو ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك: إحداها تشميت العاطس وإماطة الأذى عن الطريق وإعانة الضائع والصنعة للأخرق وإعطاء صلة الرحم الحبل، وإعطاء شسع النعل وأن يؤنس الوحشان أي تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل أو يبلغ من أرض الفلاة إلى مكان الأنس وكشف الكربة، قال صلى الله عليه وسلم: (من كشف كربة عن أخيه كشف الله عنه كربة يوم القيامة). وكون المرء في حاجة أخيه وستر المسلم للحديث، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن ستر مسلما ستره الله يوم
187

القيامة والتفسح في المجالس وإدخال السرور على المسلم ونصر المظلوم والأخذ على يد الظالم. (قال: أنصر أخاك ظالما أو مظلوما)، والدلالة على الخير، قال: الدال على الخير كفاعله، والآمر بالمعروف والإصلاح بين الناس، والقول الطيب يرد به المسكين، قال تعالى: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) * (البقرة: 362). وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة، وإن تفرغ من دلوك في إناء المستقي وغرس المسلم وزرعه) قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة). والهدية إلى الجار، قال، صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن إحداكن لجارتها ولو فرسن شاة)، والشفاعة للمسلم ورحمة عزيز ل وغني افتقر وعالم بين جهال: إرحموا ثلاثة: غني قوم افتقر، وعزيز قوم ذل، وعالما يلعب به الجهال)، وعيادة المريض للحديث: (عائد المريض على مخارف الجنة) والرد على من يغتاب. قال: من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله إليه ملكا يوم القيامة يحمي لحمه من النار، ومصافحة المسلم. قال: (لا يصافح مسلم مسلما فتزول يده عن يده حتى يغفر لهما)، والتحاب في الله والتجالس إلى الله والتزاور في الله والتباذل في الله، قال الله تعالى: (وجبت محبتي لأصحاب هذه الأعمال الصالحة) وعون الرجل في دابته يحمل عليها متاعه صدقة، روي ذلك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقال الكرماني: أقول: هذا الكلام رجم بالغيب، لاحتمال أن يكون المراد غير المذكورات من سائر أعمال الخير ثم إنه من أين علم أن هذه أدنى من المنيحة لجواز أن يكون مثلها أو أعلى منها؟ ثم فيه تحكم حيث جعل السلام منه ولم يجعل رد السلام منه، مع أنه صرح في هذا الحديث الذي نحن فيه به، وكذا جعل الأمر بالمعروف منه بخلاف النهي عن المنكر، وفيه: أيضا: تكرار لدخول الأخير وهو الأربعون تحت بعض ما تقدم، فتأمل.
2362 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء عن جابر رضي الله تعالى عنه قال كانت لرجال منا فضول أرضين فقالوا نؤاجرها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإن أباى فليمسك أرضه.
(انظر الحديث 0432).
مطابقته للترجمة في قوله: (أو ليمنحها أخاه) وقد مضى الحديث في كتاب المزارعة، في: باب ما كان من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، يواسي بعضهم بعضا في الزراعة، فإنه أخرجه هناك عن عبيد الله بن موسى عن الأوزاعي إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك.
3362 وقال محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي قال حدثني الزهري قال حدثني عطاء بن يزيد قال حدثني أبو سعيد قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن
الهجرة فقال ويحك إن الهجرة شأنها شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فتعطي صدقتها قال نعم قال فهل تمنح منها شيئا قال نعم قال فتحلبها يوم وردها قال نعم قال فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا.
مطابقته للترجمة في قوله: (فهل تمنح منها شيئا...) ءلى قوله. قال: (فاعمل من وراء البحار)، وقد مضى الحديث في كتاب الزكاة في: باب زكاة الإبل، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك. قوله: (قال محمد بن يوسف)، ظاهره التعليق، ويحتمل أن يكون معطوفا على الذي قبله، فيكون موصولا ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم من طريق محمد بن يوسف المذكور. قوله: (يوم وردها)، أي: يوم نوبة شربها، وذلك لأن الحلب يومئذ أوفق للناقة وأرفق للمحتاجين. قوله: (لن يترك)، أي: لن ينقصك من الوتر، ويروى: لن يترك من الترك، من باب الافتعال.
4362 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن عمر و عن طاووس
188

قال حدثني أعلمهم بذاك يعني ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أرض تهتز زرعا فقال لمن هذه فقالوا أكتراها فلان فقال أما إنه لو منحها إياه كان خيرا له من أن يأخذ عليها أجرا معلوما.
مطابقته للترجمة في قوله: (أما أنه لو منحها إياه...) إلى آخره، لأنه يدل على فضل المنيحة، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد البصري، وأيوب هو السختياني، وعمرو هو ابن دينار المكي، وقد مر الحديث في المزارعة. قوله: (يهتز)، من الهز وهو الحركة، والمعنى إلى أرض تتحرك وترتاج لأجل الزرع الذي عليها، وكل من خف لأمر وارتاح له، فقد اهتز له. قوله: (لو منحها)، أي: لو أعطاها المالك، فلانا المكترى على طريق المنحة، لكان خيرا له، لأنها أكثر ثوابا، ولأنهم كانوا يتنازعون في كراء الأرض أو لأنه كره لهم الافتتان بالزراعة. لئلا يقعدوا بها عن الجهاد.
63
((باب إذا قال أخدمتك هذه الجارية على ما يتعارف الناس فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا قال رجل لآخر: أخدمتك هذه الجارية. قوله: (على ما يتعارف الناس) أي: على عرفهم في صدور هذا القول منهم، أو على عرفهم في كون الأخدام أم هبة أو عارية. قوله: (فهو جائز) جواب: إذا، وحاصله أن عرفهم في قوله: أخدمتك هذه الجارية إن كان هبة تكون هبة، وإن كان عرفهم أن هذا عارية تكون عارية. وقال ابن بطال: لا أعلم خلافا بين العلماء أنه إذا قال: أخدمتك هذه الجارية أو هذا العبد، أنه قد وهب له خدمته لا رقبته، وأن الإخدام لا يقتضي تمليك الرقبة عند العرب، كما أن الإسكان لا يقتضي تمليك رقبة الدار. انتهى. وقال أصحابنا: إذا قال: أخدمتك هذا العبد، يكون عارية لأنه أذن في استخدامه، وإذا كان عارية، فله أن يرجع فيها متى شاء.
وقال بعض الناس هذه عارية
قال الكرماني: قيل: أراد به الحنفية وغرضه أنهم يقولون: لا إنه إذا قال: أخدمتك هذا العبد، فهو عارية، وقصة هاجر تدل على أنه هبة. انتهى. قلت: ليس في قصة هاجر ما يدل على الهبة إلا قوله: (فأعطوها هاجر)، وقوله: (وأخدمها هاجر)، لا يدل على الهبة.
وإن قال كسوتك هذا الثوب فهو هبة
قال ابن بطال: لم يختلف العلماء أنه إذا قال: كسوتك هذا الثوب، مدة يسميها، فله شرطه، وإن لم يذكر أجلا فهو هبة، لأن لفظ الكسوة يقتضي الهبة، لقوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم) * (المائدة: 98). ولم تختلف الأمة أن ذلك تمليك الطعام والثياب.
5362 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هاجر إبراهيم بسارة فأعطوها آجر فرجعت فقالت أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة وقال ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخدمها هاجر.
.
هذا قطعة من حديث في قصة إبراهيم وهاجر، سلخها من الحديث الذي ذكره بتمامه في كتاب البيوع في: باب شراء المملوك من الحربي، وذكر أيضا قطعة منه، معلقة في: باب قبول الهدية من المشركين، وذكر هذه القطعة هنا موصولة عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان عن عبد الرحمن ابن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة وأراد بها الاستدلال على الحنفية في قولهم: إن قول الرجل: أخدمتك هذا العبد عارية،
189

ولكن لا يصح استدلاله بهذا لما ذكرنا الآن، وكذلك قال ابن بطال: واستدلال البخاري بقوله: فأخدمها هاجر على الهبة، لا يصح، وإنما صحت الهبة في هذه القصة من قوله: (فأعطوها هاجر) أي: أعطوا سارة الوليدة التي تسمى: هاجر، وقد مر الكلام فيه مستوفى في: باب شراء المملوك من الحربي.
73
((باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمراى والصدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا حمل رجل على فرس أي: تصدق به، ووهبه بأن يقاتل عليه في سبيل الله، ونذكر الآن: هل المراد من الحمل التمليك أو التحبيس. قوله: (فهو كالعمرى)، أي: فحكمه كحكم العمرى، وحكم الصدقة يعني: لا رجوع فيه كما لا رجوع في العمرى والصدقة، أما العمرى فلقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده)، وأما الصدقة فإنه يراد بها وجه الله تعالى فتقع جميع العين لله تعالى، وإنما تصير للفقير نيابة عن الله تعالى، بحكم
الرزق الموعود فلا يبقى محل للرجوع، ولكن إطلاق الترجمة لا يساعد ما ذهب إليه البخاري، لأن المراد بالحمل على الفرس إن كان بقوله: هو لك، يكون تمليكا. قال ابن بطال: فهو كالصدقة، فإذا قبضها لم يجز الرجوع فيها، وإن كان مراده التحبيس في سبيل الله قال ابن بطال: هو كالوقف لا يجوز الرجوع فيه عند الجمهور، وعن أبي حنيفة: إن الحبس باطل في كل شيء، قال الداودي قول البخاري: هو كالعمرى والصدقة تحكم بغير تأمل، وقول من ذكر من الناس أصح لأنهم يقولون: المسلمون على شروطهم. قلت: عند الحنفية قول الرجل: حملتك على هذا الفرس لا يكون هبة إلا بالنية، لأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية، ولكنه يحتمل الهبة، يقال: حمل الأمير فلانا على الفرس معناه ملكه إياه، فيحمل على التمليك عند نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه، وفيه تشديد عليه، فتعتبر نيته. وأما قول أبي حنيفة: أن الحبس باطل ليس في شيء معين، وإنما هو عام، كما قال ابن بطال ناقلا عنه: إن الحبس باطل في كل شيء، وليس هو منفردا بهذا القول، وقد قال شريح القاضي بذلك قبله.
وقال بعض الناس له أن يرجع فيها
أراد بهذا البعض أبا حنيفة، وإنما قال له أن يرجع فيها لأنا قد ذكرنا أنه إن أراد بالحمل التحبيس يكون وقفا، والوقف غير لازم عنده، وإطلاق البخاري كلامه، ونسبة جواز الرجوع إلى أبي حنيفة في هذه الصورة خاصة ليس واقعا في محله لأنه يرى ببطلان الوقف الغير المحكوم به، ويرى جواز رجوع الواهب عن هبته إلا في مواضع معينة، كما عرف في كتب الفقه. وقال الكرماني: خالف فيه أي: في حكم حمل الرجل على فرس وجعل الحبس باطلا، ولهذا قال البخاري: وقال بعض الناس له أن يرجع فيها، والحديث يرد عليه. قلت: لا نسلم أن الحديث يرد عليه، لأن معنى الحمل عنده ما ذكرناه عن قريب أنه عارية، والخصم أيضا يقول: إن للمعير أن يرجع في عاريته.
6362 حدثنا الحميدي قال أخبرنا سفيان قال سمعت مالكا يسأل زيد بن أسلم قال سمعت أبي يقول قال عمر رضي الله تعالى عنه حملت على فرس في سبيل الله فرأيته يباع فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تشتر ولا تعد في صدقتك.
.
قيل مطابقته للترجمة في قوله: (حملت على فرس في سبيل الله) ورد عليه بأن هذا بعيد، والمراد من الحديث عدم عود الرجل إلى صدقته، والحديث مضى عن قريب في: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، وقد مر الكلام فيه هناك، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون فيه أنه قد أخرجه من ملكه لوجه الله تعالى، وكان في نفسه منه شيء فأشفق، صلى الله عليه وسلم، أن يفسد نيته ويحبط أجره، فنهاه عنه وشبهه بالعود في صدقته، وإن كان بالثمن، وهذا كتحريمه على المهاجرين معاودة دارهم بمكة، قال: وإما إذا تصدق بالشيء لا على سبيل الإحباس على أصله، بل على سبيل البر والصدقة فإنه يجرى مجرى الهبة، ولا بأس عليه في ابتياعه من صاحبه، والله أعلم.
190

بسم الله الرحمان الرحيم
25
((كتاب الشهادات))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الشهادات، وهو جمع شهادة، وهو مصدر من: شهد يشهد. قال الجوهري: خبر قاطع والمشاهدة المعاينة مأخوذة من الشهود أي الحضور، لأن الشاهد مشاهد لما غاب عن غيره، وقال أصحابنا: معنى الشهادة الحضور، وقال، صلى الله عليه وسلم: (الغنيمة لمن شهد الواقعة)، أي: حضرها والشاهد أيضا يحضر مجلس القاضي ومجلس الواقعة، ومعناها شرعا: إخبار عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، وفي (التوضيح): هذا الكتاب أخره ابن بطال إلى ما بعد النفقات، وقدم عليه الأنكحة، والذي في الأصول والشروح (كشرح ابن التين) وشيوخنا ما فعلناه، يعني ذكرهم هذا الكتاب ههنا.
1
((باب ما جاء في البينة على المدعي))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من نص القرآن أن البينة تتعين على المدعي، وهذه الترجمة هكذا وقع في رواية الأكثرين، وسقط لبعضهم لفظ: باب، وفي رواية النسفي وابن شبويه: بسم الله الرحمن الرحيم موجودة قبل لفظ الكتاب، وفي بضع النسخ، باب ما جاء في البينة على المدعى.
لقول تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء
أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخراى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذالكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدناى أن لا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) * (البقرة: 282). وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولاى بهما فلا تتبعوا الهواى أن تعدلوا وأن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * (النساء: 531).
لم يذكر في هذا الباب حديثا اكتفاء بذكر الآيتين، وقال بعضهم: أما، إشارة إلى الحديث الماضي قريبا من ذلك في آخر: باب الرهن. قلت: الذي في آخر: باب الرهن، هو حديث ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعي عليه، وحديث عبد الله فيه: شاهداك أو يمينه، وهذا الوجه فيه بعد لا يخفى. ثم وجه الاستدلال بالآية للترجمة أنه لو كان القول قول المدعى من غير بينة لما احتيج إلى الكتابة والإملاء، والإشهاد عليه، فلما احتيج إليه دل على أن البينة على المدعي، وقال ابن بطال: الأمر بالإملاء يدل على أن القول قول من عليه الشيء، وأيضا أنه يقتضي تصديقه فيما عليه، فالبينة على مدعي تكذيبه، وأما الآية الأخرى فوجه الدلالة: أن الله تعالى قد أخذ عليه أن يقر بالحق على نفسه، فالقول قول المدعى عليه
191

فإذا كذبه المدعي فعليه البينة، وآية المداينة أطول آية في القرآن العظيم، وهي بتمامها مكتوبة في الكتاب في رواية أبي ذر، وفي رواية ابن شبويه إلى قوله إلى أجل مسمى فاكتبوه. وقال سفيان الثوري: عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * (البقرة: 282). قال: نزلت في السلم إلى أجل معلوم. قوله: * (إذا تداينتم بدين) * (البقرة: 282). أي: إذا تبايعتم بدين: الدين ما كان مؤجلا، والعين ما كانت حاضرة، يقال: دان فلان يدين دينا: استقرض وصار عليه دين، ورجل مديون: كثر ما عليه من الدين، ومديان، بكسر الميم: إذا كان عادته أن يأخذ بالدين، وقال ابن الأثير المديان: الكثير الدين الذي عليه الديون، وهو مفعال من الدين للمبالغة، ويقال للمديون، مدين أيضا. قوله: * (إلى أجل) * (البقرة: 282). الأجل الوقت المسمى المعلوم. قوله: * (فاكتبوه) * (البقرة: 282). أي: أثبتوه في كتاب بين فيه قدر الحق والأجل ليرجع إليه وقت التنازع والنسيان، ولأنه يحصل منه الحفظ والتوثقة. فإن قلت: * (فاكتبوه) * (البقرة: 282). أمر من الله تعالى، وثبت في (الصحيحين) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، فما الجمع بينهما؟ قلت: إن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا لأن كتاب الله قد سهل الله حفظه على الناس والسنن أيضا محفوظة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والذي أمر بكتابه إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب، كما ذهب إليه، وهو مذهب الجمهور، فإن كتب فحسن، وإن ترك فلا بأس. وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وآخرون: كان ذلك واجبا ثم نسخ بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) * (البقرة: 382). وذهب بعضهم إلى أنه محكم. قوله: * (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * (البقرة: 282). أي: بالحق والإنصاف لا يزيد فيه ولا ينقص ولا يقدم الأجل ولا يؤخره، وينبغي أن يكون الكاتب فقيها عالما باختلاف العلماء، أدبيا مميزا بين الألفاظ المتشابهة قوله: * (ولا يأب كاتب) * (البقرة: 282). أي: لا يمتنع كما أمر الله تعالى من العدل، ويقال: ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك، فكما علمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة، كما جاء في الحديث: (إن الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لأخرق). وفي الحديث الآخر: (من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار). وقال مجاهد وعطاء: واجب على الكاتب أن يكتب. قوله: * (وليملل الذي عليه الحق) * (البقرة: 282). الإملال والإملاء لغتان جاء بهما القرآن، قال تعالى: * (فهي تملي عليه) * (الفرقان: 5). وقال: * (وليملل الذي عليه الحق) * (البقرة: 282). يقر على نفسه بما عليه ولا ينقص من الحق شيئا. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: ظاهر قوله عز وجل: * (وليملل الذي عليه الحق) * (البقرة: 282). يدل على أن القول قول من عليه الشيء، وقال غيره: لأن الله تعالى حين أمره بالإملاء اقتضى تصديقه فيما عليه، فإذا كان مصدقا فالبينة على من يدعي تكذيبه. قوله: * (فإن كان الذي عليه الحق سفيها) * (البقرة: 282) أي: محجورا عليه بتبذير ونحوه، وقيل: سفيها: أي: جاهلا بالإملاء أو طفلا صغيرا. قوله: * (أو ضعيفا) * أي: عاجزا عن مصالحه، ويقال: أي: صغيرا أو مجنونا. قوله: * (أو لا يستطيع أن يمل هو) * (البقرة: 282). إما بالعي أو الخرس أو العجمة أو الجهل بموضع صواب ذلك من خطائه. قوله: * (فليملل وليه) * (البقرة: 282). أي: من يقوم مقامه، وقيل: هو صاحب الدين يملي دينه، والأول أصح لأن في الثاني ريبة. قوله: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (البقرة: 282). أي: من أهل ملتكم من الأحرار البالغين، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان، وأكثر الفقهاء، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبد، وهذا قول أنس بن مالك، وأجاز بعضهم شهادته في الشيء التافه، وإنما أمر بالإشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة. قوله: * (فإن لم يكونا رجلين) * (البقرة: 282). أي: فإن لم يكن الشاهدان رجلين. قوله: * (فرجل وامرأتان) * (البقرة: 282). أي: فالشاهد رجل، أو الذي يشهد رجل وامرأتان معه، وأقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة، كما جاء ذلك في (الصحيح). قوله: * (ممن ترضون من الشهداء) * (البقرة: 282). أي: ممن كان مرضيا في دينه وأمانته وكفايته، وفيه كلام كثير موضعه غير هذا. قوله: * (أن تضل إحداهما) * (البقرة: 282). قال الزمخشري: وانتصابه على أنه مفعول له أي: إرادة أن تضل، وقرأ حمزة أن تضل أحداهما، على الشرط، ومعنى الضلال هنا عبارة عن النسيان، وقابل النسيان بالتذكر لأنه يعادله، وقرئ: فتذكر، بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. قوله: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * (البقرة: 282). أي: لا يمتنع الشهود إذا ما طلبوا لتحمل الشهادة، وإثباتها في الكتاب، وقيل: لإقامتها وأدائها عند الحاكم، وقيل: للتحمل والأداء جميعا، وهذا أمر ندب، وقيل: فرض كفاية، وقيل: فرض عين، وهو قول قتادة والربيع،
192

وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد: إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار، وإذا شهدت فدعيت فأجب. قوله: * (ولا تساموا) * (البقرة: 282). أي: ولا تضجروا * (أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا) * أي: قليلا كان المال أو كثيرا. قوله * (إلى أجله) * أي إلى وقته
قوله: * (ذلكم) * (البقرة: 282). إشارة إلى أن تكتبوه، لأنه في معنى المصدر أي: ذلكم الكتب. قوله: * (أقسط) * (البقرة: 282). أي: أعدل * (وأقوم للشهادة) * (البقرة: 282). أي: أعون على إقامة الشهادة. قوله: * (وأدنى أن لا ترتابوا) * (البقرة: 282). أي: أقرب من انتفاء الريب في مبلغ
الحق والأجل. قوله: * (إلا أن تكون تجارة) * (البقرة: 282). استثناء من الاستشهاد والكتابة و * (تجارة حاضرة) * (البقرة: 282). بالرفع على أن: كان، التامة. وقيل: هي الناقصة على أن الاسم: تجارة حاضرة، والخبر: (تديرونها) وقرئ بالنصب على أن تكون التجارة تجارة حاضرة، ومعنى: حاضرة يدا بيد تديرونها بينكم، وليس فيها أجل، ولا نسيئة. وأباح الله ترك الكتابة فيها لعدم الخوف فيه من التأجيل. قوله: * (جناح) * (البقرة: 282). أي: حرج. قوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (البقرة: 282). إذا كان فيه أجل أو لم يكن فأشهدوا على حقكم على كل حال، وروي عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك. وقال الشعبي والحسن: هذا الأمر منسوخ بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * (البقرة: 382). وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب. قوله: * (ولا يضار كاتب) * (البقرة: 282). وهو أن يزيد أو ينقص أو يحرف أو يشهد بما لم يستشهد، أو يمتنع عن إقامة الشهادة، وقيل: أن يمتنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد، وقيل: أن يدعوهما وهما مشغولان، وقيل: أن يدعى الكاتب أن يكتب الباطل والشاهد أن يشهد بالزور. قوله: * (وإن تفعلوا) * (البقرة: 282). يعني: ما نهيتم عنه. قوله: * (فإنه فسوق بكم) * (البقرة: 282). أي: خروج عن الأمر. قوله: * (واتقوا الله) * (البقرة: 282). أي: خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زواجره. قوله: * (ويعلمكم الله) * (البقرة: 282). أي: بشرائع دينه * (والله بكل شيء عليم) * (البقرة: 282). أي: عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها ولا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل علمه محيط بجميع الكائنات. قوله: (وقول الله عز وجل)، بالجر عطف على قوله: لقول الله تعالى. قوله: * (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط) * (النساء: 531). الآية في سورة النساء، قوله: * (بالقسط) * (النساء: 531). أي: بالعدل، فلا تعدلوا عنه يمينا ولا شمالا وأن لا يأخذكم في الحق لومة لائم. قوله: * (شهداء لله) * (النساء: 531). تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها. قوله: * (ولو على أنفسكم) * (النساء: 531). أي: ولو كانت الشهادة على أنفسكم، أي: إشهد بالحق ولو عاد ضررك عليك، إذا سئلت عن الأمر قل الحق فيه، وإن كانت مضرة عليك، فإن الله سبحانه سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه، وقيل: معنى الشهادة على نفسه هي الإقرار على نفسه، لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها. قوله: * (أو الوالدين والأقربين) * (النساء: 531). أي: وإن كانت الشهادة عليهم فلا تراعوهم، بل اشهدوا بالحق وإن عاد ضررها عليهم، فالحق حاكم عليهم وعلى كل أحد. قوله: * (وإن يكن غنيا) * أي: إن يكن المشهود عليه غنيا لا ترعوه لغناه أو يكن فقيرا لا تشفقوا عليه لفقره، فالله أولى بهما منكم وأعلم بما فيه صلاحهما. قوله: * (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) * (النساء: 531). أي: كراهة أن تعدلوا، أو إرادة أن تعدلوا، على اعتبار العدل والعدول. قوله: * (وإن تلووا) * من اللي، وهو التحريف وتعمد الكذب أي: وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها فإن الله كان بما تعملون خبيرا بمجازاتكم عليه.
2
((باب إذا عدل رجل أحدا فقال لا نعلم إلا خيرا أو قال ما علمت إلا خيرا))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا عدل رجل أحدا، وقوله: أحدا، هو الكشميهني رواية، وفي رواية غيره: إذا عدل رجل رجلا، وعدل، بتشديد الدال: من التعديل. قوله: فقال: أي: المعدل، لا نعلم إلا خيرا أو: ما علمت إلا خيرا، ولم يذكر جواب إذا الذي هو حكم المسألة لأجل الخلاف، وروى الطحاوي عن أبي يوسف أنه إذا قال ذلك قبلت شهادته، ولم يذكر خلافا عن الكوفيين في ذلك، واحتجوا بحديث الإفك على ما يأتي حديث الإفك، وعن محمد: لا بد أن يقول المعدل هو عدل جائز الشهادة، والأصح أنه يكتفي بقوله هو عدل، وذكر ابن التين عن ابن عمر أنه كان إذا أنعم مدح الرجل، قال: ما علمنا إلا خيرا، وروى ابن القاسم عن مالك أنه أنكر أن يكون قوله: لا أعلم إلا خيرا، تزكية، وقال: لا يكون تزكية حتى يقول رضا، وأراه عدلا رضا. وذكر المزني عن الشافعي، قال: لا تقبل في التعديل إلا أن يقول: عدل علي ولي، ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته، فإن كان يعرف حاله الباطنة يقبل، وإلا لم يقبل ذلك، وفي (التوضيح): والأصح عندنا يعني الشافعية أنه يكفي أن يقول: هو عدل، ولا يشترط: علي ولي.
193

7362 حدثنا حجاج قال حدثنا عبد الله بن عمر النميري قال حدثنا ثوبان وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير وابن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وبعض حديثهم يصدق بعضا حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة حين استليت الوحي يستأمرها في فراق أهله فأما أسامة فقال أهلك ولا نعلم إلا خيرا وقالت بريرة إن رأيت عليها أمرا أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعذرنا في رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا نعلم إلا خيرا) ورجاله: حجاج بن المنهال، وفي بعض النسخ مذكور باسم أبيه، وعبد الله ابن عمر بن غانم النميري، بضم النون وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وبالراء. قال في (تهذيب الكمال): روى عن يونس بن يزيد الأيلي ويزيد الرقاشي وثقه أبو داود وقال ابن منده: نزل أفريقية، وذكره مصنف (رجال الصحيحين): من أفراد البخاري، وبقية الرجال مشهورون، وعبيد الله بن عبد الله بن ععتبة. وفيه: رواية التابعة عن أربعة من التابعين على نسق واحد.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع في الشهادات أيضا عن أبي الربيع سليمان بن داود، وفي المغازي وفي التفسير وفي الإيمان والنذور وفي الاعتصام عن عبد
العزيز بن عبد الله وفي الجهاد وفي التوحيد وفي الشهادات وفي المغازي وفي التفسير وفي الإيمان والنذور أيضا عن الحجاج، وفي التوحيد أيضا عن يحيى بن بكير، وأخرجه مسلم في التوبة عن أبي الربيع الزهراني به، وعن حبان بن موسى وعن حسن الحلواني وعبد بن حميد وعن إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد، وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن أبي داود سليمان بن سيف الحراني وفي التفسير عن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه البخاري هنا مختصرا، ولم يقع في رواية أبي ذر: لا، إلى قوله: (ولا نعلم إلا خيرا)، وفيه عن الليث معلقا وهو قوله: وقال الليث: حدثني يونس، ووصله في كتاب التفسير: عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس... إلى آخره، على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وبعض حديثهم) مبتدأ وقوله: (يصدق بعضا) خبره والواو فيه للحال. قوله: (أهل الإفك) بكسر الهمزة وسكون الفاء، والإفك في الأصل: الكذب، وأرادوا به ههنا: ما كذب على عائشة، رضي الله تعالى عنها، مما رميت به. قوله: (استلبث) استفعل من اللبث وهو الإبطاء والتأخر، يقال: لبث يلبث لبثا بسكون الباء وقد يفتح، ويقال: اللبث، بفتح اللام الاسم، وبالضم: المصدر. قوله: (يستأمرهما) أي: يشاورهما. قوله: (فقال: أهلك) أي: فقال أسامة: أهلك بالنصب أي: إلزم أهلك، ويجوز بالرفع أي: هي أهلك أو أهلك غير مطعون عليه، ونحوه. قوله: (بريرة)، هي مولاة عائشة. قوله: (إن رأيت عليها) أي: ما رأيت عليها، كلمة: إن، النافية بمعنى: ما، للنفي. قوله: (أغمصه)، بالغين المعجمة والصاد المهملة أي: أعيبها به ويطعن به عليها، يقال: أغمصه فلان: إذا استصغره ولم يره شيئا، وغمصت عليه قولا أي: أعيبه عليه. قوله: (الداجن) بالدال المهملة وكسر الجيم: هو شاة ألفت البيوت واستأنست، ومن العرب من يقولها بالهاء، وسيأتي تمام الكلام عن قريب بعد: أبو أيوب، إن شاء الله تعالى.
3
((باب شهادة المختبي))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة المختبي، بالخاء المعجمة أي: المختفي عند التحمل، تقديره: هل تجوز أم لا؟ ثم ذكره بقوله:
وأجازه عمرو بن حريث
أي: أجاز الإختباء عند تحمل الشهادة عمرو بن حريث، بضم الحاء المهملة وبالمثلثة: ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي من صغار الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ولأبيه صحبة، وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وهذا
194

التعليق رواه البيهقي من حديث سعيد بن منصور: حدثنا هشيم أنبأنا الشيباني عن محمد بن عبد الله الثقفي أن عمرو بن حريث كان يجيز شهادته، يعني: المختبيء، ويقول: كذا يفعل بالخائن والفاجر.
قال وكذالك يفعل بالكاذب الفاجر
أي: قال عمرو بن حريث: كذلك، أي: بالاختبار عند تحمل الشهادة، يفعل بسبب الكاذب الفاجر، وأراد به: المديون الذي لا يعترف بالدين ظاهرا ثم يختلي به الدائن في موضع، وقد كان أخفى فيه من يسمع إقراره بالدين، فإذا شهد بذلك بعد ذلك يسمع عند عمر، وبه قال الشافعي في الجديد وابن أبي ليلى ومالك وأحمد وإسحاق، وروي عن شريح والشعبي والنخعي أنهم كانوا لا يجيزون شهادة المختبيء، وقالوا: إنه ليس بعدل حين اختفى ممن يشهد عليه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في القديم.
وقال الشعبي وابن سيرين وعطاء وقتادة السمع شهادة
يعني: إذا سمع من أحد شيئا ولم يشهده عليه يسمع شهادته عند عامر الشعبي ومحمد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وقتادة ابن دعامة، وتعليق الشعبي رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن مطرف عنه به، وروي عن الشعبي أنه قال: يجوز شهادة السمع إذا قال: سمعته يقول، وإن لم يشهده، وكذا روى عن عبيدة وإبراهيم قالا: شهادة السمع جائزة. قال الطحاوي في (مختصره): يجوز للرجل أن شهد بما سمع إذا كان معاينا لمن سمعه منه وإن لم يشهده على ذلك. فإن قلت: قد مر أن الشعبي لا يجيز شهادة المختبيء، وقوله: السمع شهادة يعارضه؟ قلت: لاحتمال أن في شهادة المختبيء مخادعة، ولا يلزم من ذلك رد شهادة السمع من غير قصد، وعن مالك نظيره، وهو أنه قال: الحرص على تحمل الشهادة قادح فإن اختفى ليشهد فهو حرص.
وقال الحسن يقول لم يشهدوني على شيء وإني سمعت كذا وكذا
تعليق الحسن البصري رواه ابن أبي شيبة عن حاتم بن وردان عن يونس عن الحسن، قال: لو أن رجلا سمع من قوم شيئا فإنه يأتي القاضي فيقول: لم يشهدوني، ولكني سمعت كذا وكذا.
8362 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال سالم سمعت عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب الأنصاري يؤمان النخل التي فيهاابن صياد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها رمرمة أو زمزمة فرأت أم ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد أي صاف هذا محمد فتناهاى ابن صياد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تركته بين.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه).
والحديث مضى في كتاب الجنائز في: باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ فإنه أخرجه هناك عن عبدان عن عبد الله عن يونس عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر أخبره... إلى آخره بأتم منه. وأخرجه هنا عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. ونذكر بعض شيء لبعد العهد منه.
قوله: (يؤمان)، أي: يقصدان. قوله: (طفق رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، بكسر الفاء، من أفعال المقاربة، معناه: أخذ في الفعل وجعل يفعل. قوله: (يتقي)، خبر: طفق. قوله: (وهو يختل)، جملة وقعت حالا، وهو بكسر التاء المثناة من فوق
195

أي: يطلب ابن صياد مستغفلا له ليسمع شيئا من كلامه الذي يتكلم به في خلوته، حتى يظهر للصحابة أنه كاهن، وأصل الختل الخدع، يقال: ختله يختله: إذا خدعه وراوغه، وختل الذئب الصيد إذا اختفى له. قوله: (في قطيفة) هي: كساء مخمل. قوله: (رمرمة)، بالراءين، وهو الصوت الخفي. قوله: (أو زمزمة) شك من الراوي، وهو بالزايين المعجمتين. قوله: (أي صاف)، يعني: يا صاف! وهو بالصاد المهملة والفاء المضمومة أو المكسورة أو الساكنة: ابن صياد. قوله: (فتناهى)، قال ابن الأثير: قيل: هو تفاعل من النهي: العقل، أي: رجع إليه عقله وتنبه من غفلته، وقيل: هو من الانتهاء أي: انتهى عن زمزمته. قوله: (لو تركته بين) أي: لو تركته أمه بحيث لا يعرف قدوم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يندهش عنه، بين لكم باختلاف كلامه ما يهون عليكم شأنه.
وقال المهلب: فيه: جواز الاحتيال على المستسرين في جحود الحق حتى يسمع منهم ما يستسرون به ويحكم به عليهم، ولكن بعد أن يفهم عنهم فهما حسيا مبينا.
9362 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت جاءت امرأة رفاعة القرظي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي فتزوجت عبد الرحمان بن الزبير إنما معه مثل هدبة الثوب فقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وأبو بكر جالس عنده وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ينتظر أن يؤذن له فقال يا أبا بكر ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وخالد بن سعيد...) إلى آخر الحديث، بيان ذلك أن خالدا أنكر على امرأة رفاعة ما تلفظت به عند النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، على ذلك، وكان إنكار خالد عليها لاعتماده على سماع صوتها، وهذا هو حاصل ما يقع من شهادة السمع، لأن خالدا مثل المختفي عنها. وعبد الله بن محمد المعروف بالمسندي، وقد تكرر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة.
والحديث أخرجه مسلم في النكاح عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد والترمذي فيه عن ابن أبي عمر وإسحاق بن منصور والنسائي فيه ومن الطلاق عن إسحاق بن إبراهيم وابن ماجة في النكاح عن أبي بكر بن أبي شيبة، ستتهم عن سفيان به.
قوله: (جاءت امرأة رفاعة)، اسم المرأة: تميمة بنت وهب، ولم يقع في رواية البخاري ولا في رواية غيره من مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة تسمية امرأة رفاعة، وقد سماها مالك في روايته: تميمة بنت وهب، وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب): ولا أعلم لها غير قصتها مع رفاعة بن سموأل حديث العسيلة من حديث مالك في (الموطأ) وكذا قال الطبراني في (المعجم الكبير): لها ذكر في قصة رفاعة، ولا حديث لها، وأما زوجها الأول فهو رفاعة بن سموأل القرظي، من بني قريظة. قال ابن عبد البر: ويقال: رفاعة بن رفاة، وهو أحد العشرة الذين فيهم نزلت: * (ولقد وصلنا لهم القول..) * (القصص: 15). الآية، كما رواه الطبراني في (معجمه) وابن مردويه في (تفسيره) من حديث رفاعة بإسناد صحيح، وأما زوجها الثاني فهو عبد الرحمن بن الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة، بلا خلاف ابن باطا، وقيل: باطيا، من بني قريظة. وأما ما ذكره ابن منده وأبو نعيم في كتابيهما (معرفة الصحابة): أنه من الأنصار من الأوس، ونسباه إلى عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس فغير جيد، وقيل: اسم المرأة سهيمة، وقيل: الغميصاء، وقيل: الرميصاء.
قلت: لما أخرج الترمذي حديث امرأة رفاعة القرظي عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قال: وفي الباب عن ابن عمر وأنس والرميصاء أو الغميصاء، فهذا يدل على أنهما غير المرأة التي تزوجت بابن الزبير. أما حديث ابن عمر فأخرجه النسائي وابن ماجة عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في الرجل يكون له المرأة ثم يطلقها، ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى زوجها الأول، قال: (لا حتى تذوق العسيلة). وأما حديث أنس فرواه البيهقي من رواية محمد بن دينار عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن رجل تزوج امرأة
196

وكان قد طلقها زوجها أحسبه قال ثلاثا فلم يدخل بها الثاني، فقال: سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تحل له حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته). وأما حديث الرميصاء أو الغميصاء، فهو من حديث عائشة رواه الطبراني في (الكبير) بإسناد صحيح من رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال للغميصاء: (لا، حتى يذوق من عسيلتك وتذوقي من عسيلته).
وروى النسائي بسند جيد عن عبد الله بن عباس أن الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، تشتكي زوجها، وأنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها، فقال: يا رسول الله إنها كاذبة وهو يصل إليها ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال: (ليس ذلك لها حتى يذوق عسيلته).
قلت: وفي الباب. روى بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان في قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 032). نزلت
في عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري، كانت تحت رفاعة، يعني: ابن وهب، وهو ابن عمها فتزوجها ابن الزبير ثم طلقها، فأتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فقال: (لا، حتى يكون مس). فلبثت ما شاء الله ثم أتت، فقالت: يا رسول الله! إن زوجي الذي كان تزوجني بعد زوجي كان مسني، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر) فلبثت، فلما قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتت أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، فقالت: أرجع إلى زوجي الأول فإن الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر: قد عهدت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين قال لك: فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، جاءت عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال: إن أتيتني بعد مرتك هذه لأرجمنك.
قوله: (فبت طلاقي)، بالباء الموحدة المفتوحة وتشديد التاء المثناة من فوق أي: قطع قطعا كليا بتحصيل البينونة الكبرى، وهكذا رواية الجمهور: بت، من الثلاثي المجرد، وفي رواية النسائي: فأبت طلاقي، من المزيد فيه، وهي لغة ضعيفة. وقال الجوهري حكاية عن الأصمعي: لا يقال: يبت، قال: وقال الفراء: هما لغتان، ويقال: بته يبته، بضم الباء في المضارع وحكى: يبته، بالكسر. قال الجوهري: وهو شاذ، وفي رواية أبي نعيم من حديث ابن عباس: كانت أمية بنت الحارث عند عبد الرحمن بن الزبير فطلقها ثلاثا... الحديث، وهنا صرح بالثلاثة، وفي رواية للبخاري، على ما يأتي: أن رفاعة طلقني آخر ثلاث تطليقات، فبان منه أن الثلاث كانت متفرقات، وأن المراد بقوله هنا: (فبت طلاقي) هي الطلقة الثالثة التي تحصل بها البينونة الكبرى. قوله: (مثل هدبة الثوب)، بضم الهاء وسكون الدال: وهي طرفه الذي لم ينسج، شبهوها بهدب العين وهو شعر الجفن، وفي رواية لمسلم: (فأخذت هدبة من جلبابها، فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال خالد: ألا تزجر هذه؟) وفيه: (قالت عائشة: وعليها خمار أخضر فشكت ءليها وأرتها خضرة بجلدها)، وفيه: (فجاء ابن الزبير ومعه إبنان له من غيرها، فقالت: والله ما لي إليه من ذنب، إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه)، وأخذت هدبة من ثوبها، فقال: كذبت يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (فإن كان ذلك لم تحلي له، أو لم تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك). وفي (تهذيب) الأزهري، قال النبي، صلى الله عليه وسلم لامرأة سألت عن زوج تزوجته لترجع إلى زوجها الأول، فلم ينتشر ذكره للإيلاج: (لا، حتى تذوقي عسيلته). وفي (المصنف) عن عامر، قال: قال علي، رضي الله تعالى عنه: (لا تحل لهب حتى يهزها هزيز البكر)، وقال أنس، رضي الله تعالى عنه: (لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني ويدخل بها)، وقال ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: (حتى يسفسفها به). قلت: كأنه من: سفسفت الريح التراب، إذا أثارته، أو من السفسفة وهي: انتخال الدقيق، ونحوه. قوله: (أن ترجعي)، ويروى: (أن ترجعين)، بالنون وهي على لغة من يرفع الفعل بعد أن. قوله: (عسيلته)، بضم العين وفتح السين المهملة تصغير عسلة وفي الغسل لغتان التأنيث والتذكير، فأنث العسيلة لذلك لأن المؤنث يرد إليها الهاء إذا صغر، كقولك: سميسة ويدية، وقيل: إنما أنثه لأنه أراد النطفة، وضعفه النووي لأن الإنزال لا يشترط، وإنما هي كناية عن الجماع، شبه لذته بلذة العسل وحلاوته. وقال الجوهري: صغرت العسلة بالهاء لأن الغالب على العسل التأنيث. قال: ويقال: إنما أنث لأنه أريد به العسلة وهي القطعة منه، كما يقال للقطعة من
197

الذهب ذهبة: والمراد بالعسيلة هنا الجماع لا الإنزال، وقد جاء ذلك مرفوعا من حديث عائشة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (العسيلة: الجماع). ورواه الدارقطني وفي إسناده أبو عبد الملك القمي يرويه عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وقال ابن التين: يريد الوطء وحلاوة مسلك الفرج في الفرج ليس الماء. قوله: (وخالد بن سعيد بن العاص) بن أمية بن عبد شمس بن عب مناف بن قصي القرشي الأموي، يكنى: أبا سعيد: أسلم قديما، يقال: إنه أسلم بعد أبي بكر الصديق فكان ثالثا أو رابعا. وقيل: كان خامسا. وقال ضمرة بن ربيعة: كان إسلام خالد مع إسلام أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، وهاجر إلى الحبشة وقدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وبعثه على صدقات اليمن، فتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو باليمن، قتل بمرج الصفر في الوقعة به سنة أربع عشرة في صدر خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، وقيل: بل كان قتله في وقعة أجنادين بالشام قبل وفاة أبي بكر بأربع وعشرين ليلة قوله: (ألا تسمع إلى هذه...) إلى آخره، كأنه استعظم لفظها بذلك. قوله: (تجهر)، ورواه الدارقطني: تهجر من الهجر، يعني تأتي بالكلام القبيح.
ومما يستفاد منه: أن الرجل إذا أراد أن يعيد مطلقته بالثلاث، فلا بد من زوج آخر يتزوج بها ويدخل عليها. وأجمعت الأمة على أن الدخول شرط الحل للأول، ولم يخالف في ذلك إلا سعيد بن المسيب والخوارج والشيعة، وداود الظاهري، وبشر المريسي، وذلك اختلاف لا خلاف لعدم استنادهم إلى دليل، ولهذا لو قضى به القاضي لا ينفذ، والشرط الإيلاج دون الإنزال، وشد الحسن البصري في اشتراط الإنزال. وفيه: ما قاله المهلب: جواز الشهادة على غير الحاضر من وراء الباب والستر، لأن خالدا سمع قول المرأة وهو من وراء الباب، ثم أنكره عليها بحضرة النبي، صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، ولم ينكر عليه. وفيه: إنكار في الأصل والجهر هو المعقول في القول إلا أن يكون في حق لا بد له من البيان عند الحاكم. والله أعلم.
4
((باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء فقال آخرون ما علمنا ذلك يحكم بقول من شهد))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا شهد بقضية أو شهد شهود بها، فقال جماعة آخرون: ما علمنا بذلك، أراد به أنهم نفوا ما أثبت الشهود الأولون. قوله: (يحكم بقوله من شهد)، جواب: إذا، وأراد به أن الإثبات أولى من النفي، لأن المثبت أولى وأقدم من النافي قال بعضهم: وهو وفاق من أهل العلم. قلت: فيه خلاف، فقال الكرخي: المثبت أولى من النافي، لأن المثبت معتمد على الحقيقة في خبره، فيكون أقرب إلى الصدق من النافي الذي يبنى الأمر على الظاهر، ولهذا قيل: الشهادة على الإثبات
دون النفي، ولأن المثبت يثبت أمرا زائدا لم يكن فيفيد التأسيس، والنافي مبق للأمر الأول، فيفيد التأكيد، والتأسيس أولى. وقال عيسى بن أبان: يتعارض المثبت والنافي فلا يترجح أحدهما على الآخر إلا بدليل مرجح، فلأجل هذا الاختلاف ذكر أصحابنا في ذلك أصلا كليا جامعا يرجع إليه في ترجيح أحدهما، وهو أن النفي لا يخلو إما أن يكون من جنس ما يعرف بدليله، بأن يكون مبناه على دليل أو من جنس ما لا يعرف بدليله، بأن يكون مبناه على الاستصحاب دون الدليل، أو احتمل الوجهان، فالأول مثل الإثبات فيقع التعارض بينهما لتساويهما في القوة، فيطلب الترجيح، ويعمل بالراجح. والثاني: ليس فيه تعارض، فالأخذ بالمثبت أولى، والثاني ينظر في النفي، فإن تبين أنه مما يعرف بالدليل يكون كالإثبات فيتعارضان، فيطلب الترجيح وأن تبين أنه بناء على الاستصحاب فالإثبات أولى، ولهذه الأقسام صور موضعها في الأصول تركناها خوفا من التطويل.
وقال الحميدي هذا كما أخبر بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وقال الفضل لم يصل فأخذ الناس بشهادة بلال
هذا من جملة الصور التي ذكرنا أنها ثلاثة أقسام، وهو من القسم الذي لا يعرف النفي فيه إلا بظاهر الحال، فلا يعارض الإثبات، فلهذا أخذوا بشهادة بلال: أنه صلى في جوف الكعبة عام الفتح، ورجحوا روايته على رواية الفضل بن عباس: أنه لم يصل، وإطلاق الشهادة على إخبار بلال تجوز. فإن قلت: الترجمة في قول الآخرين ما علمنا ذلك، والذي ذكره عن
198

الحميدي صورة المنافيين، فلا مطابقة؟ قلت: معنى قول الفضل: لم يصل ما علم أنه صلى، ولعله كان مشتغلا بالدعاء ونحوه فلم يره صلى، فنفاه عملا بظنه، وقد مضى هذا الذي علقه عن الحميدي وهو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد بأتم منه في كتاب الزكاة في: باب العشر، فإنه أخرجه هناك عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن وهب، الحديث، وقد مر الكلام فيه هناك.
كذلك إن شهد شاهدان أن لفلان على فلان ألف درهم وشهد آخران بألف وخمسمائة يقضى بالزيادة
أي: كالحكم المذكور يحكم إن شهد شاهدان أن لفلان على فلان ألف درهم بأن شهدا: أن لزيد على عمرو مثلا ألف درهم، وشهد شاهدان آخران: أن له عليه ألفا وخمسمائة درهم، يقضي أي: يحكم بالزيادة أيضا وهي خمسمائة، يعني: يحكم بألف وخمسمائة، لأن عدم علم الغير لا يعارض علمه، وفي بعض النسخ يعطي بالزيادة، فالباء في: بالزيادة، على هذا زائدة، وقيد بقوله: وشهد آخران، لأنه لو شهد واحد بالزيادة لا تلزم الزيادة إلا بشاهد آخر، وفي تمثيل هذه المسألة بما قبله بقوله كذلك نظر، لأن ما قبله مشتمل على صورتين إحداهما صورة ما علمنا، والثانية صورة المنافيين، ولا تطابق هذه المسألة الصورتين المذكورتين ولا واحدة منهما. فإن قلت: شهادة الآخرين بألف وخمس مائة ينافي شهادة الشاهدين بألف ظاهرا. قلت: لا نسلم ذلك بل كلهم متفقون في الألف، وإنما انفرد الآخران بالخمسمائة الزائدة، فثبتت الزيادة لوجود نصاب الشهادة، حتى لو كان الذي يشهد بالزيادة واحدا لا يلزم الزيادة إلا بشاهد آخر، كما ذكرنا.
0462 حدثنا حبان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عمر بن سعيد بن أبي حسين قال أخبرني عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت قد أرضعت عقبة والتي تزوج فقال لها عقبة ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم فقالوا ما علمنا أرضعت صاحبتنا فركب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم كيف وقد قيل ففارقها ونكحت زوجا غيره.
.
مطابقته للترجمة غير ظاهرة، لأنه ليس فيه شهادة ولا حكم، ولكن قال الكرماني: أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمفارقة. بقوله: (كيف وقد قيل؟) كالحكم، وإخبار المرضعة كالشهادة، وقال بعضهم: المرضعة أثبتت الرضاع وعقبة نفاه، فأعمل النبي، صلى الله عليه وسلم، قولها، فأمره بالمفارقة، إما وجوبا عند من يقول به، وإما ندبا على طريق الورع. قلت: في كل منهم نظر، أما الأول: ففيه التجويز. وأما الثاني: فلو لاحظ فيه صورة ما علمنا لكان أقرب وأوجه، لأن فيه نفي العلم. وهو يطابق الترجمة.
والحديث قد مضى في كتاب العلم في: باب الرحلة في المسألة النازلة، فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن مقاتل عن عبد الله عن عمر بن سعيد بن أبي حسين... إلى آخره نحوه، ومضى الكلام فيه هناك مستوفى. وإهاب، بكسر الهمزة، وعزيز على وزن) عظيم، بزايين معجمتين، ووقع في رواية أبي ذر عن المستملي والحموي عزيز، بضم العين وفتح الزاي وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، مصغر، قيل: والأول أصوب.
5
((باب الشهداء العدول))
أي: هذا باب في بيان الشهداء العدول، يعني: من هم، والشهداء جمع شهيد بمعنى: الشاهد، والعدول جمع عدل، والعدل من ظهر منه الخير، وقال إبراهيم: العدل الذي لم يظهر فيه ريبة، قال ابن بطال: وهو مذهب أحمد وإسحاق، وروى ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن إبراهيم، قال: العدل في المسلمين ما لم يطعن في بطن ولا فرج، وقال الشعبي: يجوز شهادة المسلم ما لم يصب حدا أو يعلم عنه جريمة في دينه، وكان الحسن يجيز شهادة من صلى إلا أن يأتي الخصم بما يجرحه، وعن حبيب:
199

قال: سأل عمر، رضي الله تعالى عنه، رجلا عن رجل، فقال: لا نعلم إلا خيرا، قال: حسبك. وقال شريح: أدع وأكثر وأطنب وائت على ذلك بشهود عدول، فإنا قد أمرنا بالعدل، وأنت فسل عنه، فإن قالوا: الله يعلم، يفرقوا أن يقولوا: هو مريب، ولا تجوز شهادة مريب، وإن قالوا: علمناه عدلا مسلما، فهو إن شاء الله
كذلك، وتجوز شهادته. وقال أبو عبيد في (كتاب القضاء): من ضيع شيئا مما أمره الله، عز وجل، أو ركب شيئا مما نهى الله تعالى عنه فليس يعدل. وعن أبي يوسف ومحمد والشافعي: من كانت طاعته أكثر من معاصيه وكان الأغلب عليه الخير وزاد الشافعي: والمروءة ولم يأت كبيرة يجب الحد بها أو ما يشبه الحد قبلت شهادته، لأن أحدا لا يسلم من ذنب، ومن أقام على معصية، أو كان كثير الكذب غير مستتر به لم تجز شهادته.
وقال الطحاوي: لا يخلو ذكر المروءة أن يكون مما يحل أو يحرم، فإن كان مما يحل أو يحرم، فإن كان مما يحل فلا معنى لذكرها، وإن كان مما يحرم فهي من المعاصي، وقال الداودي: العدل، أن يكون مستقيم الأمر مؤديا لفروضه غير مخالف لأمر العدول في سيرته وخلائقه، وغير كثير الخوض في الباطل، ولا يتهم في حديثه ولم يطلع منه على كبيرة أصر عليها، ويختبر ذلك في معاملته وصحبته في السفر، قال: وزعم أهل العراق أن العدالة المطلوبة في إظهار الإسلام مع سلامته من فسق ظاهر أو طعن خصم فيه فيتوقف في شهادته حتى تثبت له العدالة. وفي (الرسالة) عن الشافعي: صفة العدل هو العامل بطاعة الله تعالى، فمن رؤي عاملا بها فهو عدل، ومن عمل بخلافها كان خلاف العدل. وقال أبو ثور: من كان أكثر أمره الخير وليس بصاحب جريمة في دين ولا مصر على ذنب وإن صغر قبل وكان مستورا، وكل من كان مقيما على ذنب وإن صغر لم تقبل شهادته.
وقول الله تعالى: * (وأشهدوا ذوى عدل منكم) * (الطلاق: 2). * (وممن ترضون من الشهداء) * (البقرة: 282).
وقول الله، بالجر عطف على قوله: الشهداء العدول. قوله: * (وممن ترضون) * (البقرة: 282). الواو فيه عاطفة لا من القرآن، واحتج بقوله: * (واشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2). على أن العدالة في الشهود شرط. وبقوله: * (ممن ترضون) * (البقرة: 282). على أن الشهود إذا لم يرض بهم لمانع عن الشهادة لا تقبل شهادتهم.
1462 حدثنا الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني حميد بن عبد الرحمان ابن عوف أن عبد الله بن عتبة قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة.
مطابقته للترجمة من حيث إنه يؤخذ منه: أن العدل من لم يوجد منه الريبة. وهذا الحديث من أفراده، وعبد الله بن عتبة، بضم العين وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة: ابن مسعود، وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود الهذلي الكوفي، مات في زمن عبد الملك بن مروان، سمع من كبار الصحابة، أدرك زمان النبي، صلى الله عليه وسلم. وفي (التهذيب): أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو خماسي ذكره ابن حبان في (الثقات)، والمرفوع من هذا الحديث إخبار عمر، رضي الله تعالى عنه، عما كان الناس يأخذون به على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبقية الخبر بيان لما يستعمله الناس بعد انقطاع الوحي بوفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبقي كما قال أبو الحسن: لكل من سمعه أن يحفظه ويتأدب به.
قوله: (بالوحي)، يعني: كان الوحي يكشف عن سائر الناس في بعض الأوقات. قوله: (أمنا)، بهمزة بغير مد وكسر الميم وتشديد النون: يعني جعلناه آمنا، من الشر، وهو مشتق من: الأمان، ويقال: معناه، صيرناه عندنا أمينا. قوله: (وقربناه)، أي: أعظمناه وكرمناه. قوله: (من سريرته)، السرير: السر ويجمع على: سرائر. قوله: (والله يحاسبه)، وفي رواية أبي ذر عن الحموي: يحاسب، بحذف الضمير المنصوب، وفي
200

رواية الباقين: محاسبة، بميم في أوله وهاء في آخره من باب المفاعلة. قوله: (سوءا) وفي رواية الكشميهني شرا.
وفيه: أن من ظهر منه الخير فهو العدل الذي يجب قبول شهادته، وفي قول عمر، رضي الله تعالى عنه، هذا: كان الناس في الزمن الأول على العدالة، وقد ترك بعض ذلك في زمن عمر، فقال له رجل: أتيتك بأمر لا رأس له ولا ذنب. فقال له: وما ذاك؟ قال: شهادة الزور، ظهرت في أرضنا. قال عمر، رضي الله تعالى عنه: في زماني وسلطاني، لا والله لا يوسم رجل بغير العدالة.
6
((باب تعديل كم يجوز))
أي: هذا باب في بيان تعديل كم نفس يجوز، حاصله أن العدد المعين هل شرط في التعديل أم لا؟ وفيه خلاف، فلذلك لم يصرح بالحكم، فقال مالك والشافعي: لا يقبل في الجرح والتعديل أقل من رجلين، وقال أبو حنيفة: يقبل تعديل الواحد وجرحه، وقال ابن بطال قلت: مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف: يقبل في الجرح والتعديل واحد، ومحمد بن الحسن مع الشافعي.
2462 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال مر على النبي، صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرا أو قال غير ذلك فقال وجبت فقيل يا رسول الله قلت لهذا وجبت ولهذا وجبت قال شهادة القوم المؤمنون شهداء الله في الأرض.
(انظر الحديث 7631).
مطابقته للترجمة تأتي على ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن الواحد يكفي في التعديل، لأن قوله: (المؤمنون)، جمع محلى بالألف واللام والألف واللام إذا دخل الجمع يبطل الجمعية ويبقى الجنسية، وأدناها واحد، ويتأيد هذا بقول عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، لما مر عليه بثلاث جنائز: وجبت في كل واحد منها، فقال له أبو الأسود: وما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) فقلنا: وثلاثة؟ قال:
201

(وثلاثة)، فقلنا: واثنان؟ قال: (واثنان)، ثم لم نسأله عن الواحد.
والحديث يأتي الآن في هذا الباب، وقد مضى في كتاب الجنائز في: باب ثناء الناس على الميت أيضا. وإنما لم يسألوا عن الواحد لأنهم كانوا يعتمدون قول الواحد في ذلك، لكنهم لم يسألوا عن حكمه، ويؤيده أيضا أن البخاري صرح بالاكتفاء في التزكية بواحد، على ما يجيء عن قريب، إن شاء الله تعالى. وحديث الباب مر في كتاب الجنائز أيضا في الباب المذكور.
قوله: (شهادة القوم) كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف تقديره: مقبولة. قوله: (المؤمنون) مبتدأ. وقوله: (شهداء الله)، خبره، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والسرخسي: شهادة القوم المؤمنين، فيكون: المؤمنين، صفة القوم، ويكون شهادة القوم مرفوعا بالابتداء، وخبره محذوف كما في الصورة الأولى تقديره: شهادة القوم المؤمنين مقبولة. وقوله: (شهداء الله في الأرض) خبر مبتدأ محذوف، أي: هم شهداء الله في الأرض، وعن السهيلي: مع ما فيه من التعسف، رواه بعضهم برفع القوم فوجهه أن قوله: شهادة، مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هذه شهادة، وهي جملة مستقلة منقطعة عما بعدها، و: القوم، مرفوع بالابتداء، والمؤمنون، صفته. وقوله: (شهداء الله في الأرض)، خبره: وتكون هذه الجملة بيانا للجملة الأولى.
3462 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا داود بن أبي الفرات قال حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود قال أتيت المدينة وقد وقع بها مرض وهم يموتون موتا ذريعا فجلست إلى عمر رضي الله تعالى عنه فمرت جنازة فأثني خيرا فقال عمر وجبت ثم مر بأخرى فأثني خيرا فقال وجبت ثم مر بالثالثة فأثني شرا فقال وجبت فقلت ما وجبت يا أمير المؤمنين قال قلت كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قلنا وثلاثة قال وثلاثة قلنا واثنان قال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد.
(انظر الحديث 8631).
وجه المطابقة هنا مثل المذكور في الحديث السابق، وبريدة، بضم الباء الموحدة، وفتح الراء وأبو الأسود: اسمه ظالم ضد العادل مر مع الحديث في كتاب الجنائز في: باب الثناء على الميت. قوله: (وقد وقع بها مرض)، جملة حالية، وكذلك قوله: (وهم يموتون) أي: أهل المدينة. قوله: (ذريعا)، بالذال المعجمة أي: واسعا أو سريعا. قوله: (خيرا) بالنصب صفة لمصدر محذوف أي: ثناء خيرا أو منصوب بنزع الخافض، أي: بخير، وكذلك في الكلام في: شرا، بالنصب.
7
((باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم))
أي: هذا باب في بيان حكم الشهادة على الأنساب، وهو جمع نسب (والرضاع المستفيض)، أي: الشائع الذائع. قوله: (والموت القديم)، أي: العتيق الذي تطاول الزمان عليه وحده بعض المالكية بخمسين سنة، وقيل: بأربعين، والحاصل أن هذه الترجمة معقودة لشهادة الاستفاضة منها النسب والرضاع والموت، وقيد الرضاع بالاستفاضة والموت بالقدم، ومعنى الباب: أن ما صح من الأنساب والرضاع والموت بالاستفاضة، وثبت علمه بالنفوس وارتفعت فيه الريب والشك أنه لا يحتاج فيه لمعرفة عدد الذين بهم ثبت علم ذلك، ولا يحتاج إلى معرفة الشهود. ألا ترى أن الرضاع الذي في هذه الأحاديث المذكورة كلها كان في الجاهلية، وكان مستفيضا معلوما عند القوم الذين وقع الرضاع منهم وثبت به الحرية والنسب في الإسلام، ويجوز عند مالك والشافعي والكوفيين الشهادة بالسماع المستفيض في النسب والموت القديم والنكاح.
وقال الطحاوي: أجمعوا على أن شهادة السماع تجوز في النكاح دون الطلاق، ويجوز عند مالك والشافعي الشهادة على ملك الدار بالسماع، زاد الشافعي: والثوب أيضا، ولا يجوز ذلك عند الكوفيين، وقال مالك: لا تجوز الشهادة على ملك الدار بالسماع على خمس سنين ونحوها إلا مما يكثر من السنين، وهو بمنزلة سماع الولاء، وقال ابن القاسم: وشهادة السماع إنما هي ممن أتت عليه أربعون سنة، أو خمسون، وقال مالك: وليس أحد يشهد على أجناس الصحابة إلا على السماع، وقال عبد الملك: أقل ما يجوز في الشهادة على السماع أربعة شهداء من أهل العدل أنهم لم يزالوا يسمعون أن هذه الدار صدقة على بني فلان محبسة عليهم مما تصدق به فلان، ولم يزالوا يسمعون أن فلانا مولى فلان قد تواطأ ذلك عندهم وفشى من كثرة ما سمعوه من العدول ومن غيرهم ومن المرأة والخادم والعبد.
واختلف فيما يجوز من شهادة النساء في هذا الباب، فقال مالك: لا يجوز في الأنساب والولاء شهادة النساء مع الرجال، وهو قول الشافعي، وإنما يجوز مع الرجال في الأموال، وأجاز الكوفيون شهادة رجل وامرأتين في الأنساب، وأما الرضاع فقال أصحابنا: يثبت الرضاع بما يثبت به المال، وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولا تقبل شهادة النساء المنفردات، وعند مالك بامرأتين، وعند أحمد بمرضعة فقط.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم أرضعتني وأبا سلمة ثويبة
هذا قطعة من حديث رواه موصولا في الرضاع من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان، وإنما ذكر هذه القطعة هنا معلقة لأجل ما في الترجمة من قوله: والرضاع. قوله: (أرضعتني)، فعل ومفعول. (وأبا سلمة) بالنصب عطف على المفعول. (ثويبة)، بالرفع فاعله. وأبو سلمة، بفتح اللام: ابن عبد الأسد المخزومي، أسلم وهاجر إلى المدينة مع زوجته أم سلمة، ومات سنة أربع، فتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال الذهبي: أبو سلمة بن عبد الأسد توفي سنة اثنتين، وثوبية مصغر الثوبة بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة: مولاة أبي لهب، أرضعت أولا حمزة، رضي الله تعالى عنه، وثانيا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وثالثا أبا سلمة. قال الكرماني: واختلف في إسلامها، وقال الذهبي: يقال: إنها أسلمت.
والتثبت فيه
202

هذا من بقية الترجمة، أي: في أمر الإرضاع، لأنه، صلى الله عليه وسلم، أمر فيه بالتثبت احتياطا، وسيجئ في آخر حديث من أحاديث الباب. قال: (يا عائشة: أنظرن من أخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة). والمراد بالنظر هنا التفكر والتأمل، على ما يجيء، إن شاء الله تعالى.
4462 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال أخبرنا الحكم عن عراك بن مالك عن عروة ابن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت استأذن علي أفلح فلم آذن له فقال أتحتجبين مني وأنا عمك فقلت وكيف ذلك قال أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي فقالت سألت عن ذالك رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال صدق أفلح أئذني له.
.
مطابقته لجزء الترجمة التي هي قوله: والتثبت فيه، وذلك لأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قد تثبتت في أمر حكم الرضاع الذي كان بينها وبين أفلح المذكور، والدليل على تثبتها أنها ما أذنت له حتى سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك، والحكم، بفتحتين: هو ابن عتيبة مصغر عتبة الباب وقد تكرر ذكره، وعراك، بكسر العين المهملة وتخفيف الراء.
وهذا الحديث أخرجة بقية الستة. وأخرجه مسلم والنسائي في النكاح من رواية عراك عن عروة عنها. وأخرجه البخاري أيضا ومسلم والنسائي في النكاح من رواية مالك عن الزهري عن عروة عنها. وأخرجه مسلم أيضا والنسائي وابن ماجة في النكاح من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عنها. وأخرجه مسلم أيضا في النكاح من رواية يونس عن الزهري عن عروة عنها، وأخرجه البخاري أيضا في الأدب عن حسان بن موسى ومسلم في النكاح عن إسحاق بن إبراهيم والنسائي فيه، وفي الطلاق عن عمرو بن علي، الكل من رواية معمر بن راشد عن الزهري عن عروة عنها. وأخرجه مسلم أيضا في النكاح عن ابن أبي شيبة. والترمذي في الرضاع عن الحسن بن علي من رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عنها. وأخرجه مسلم أيضا والنسائي في النكاح من رواية عطاء بن أبي رباح عن عروة عنها. وأخرجه البخاري أيضا في التفسير من حديث شعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة عنها. وأخرجه أبو داود في النكاح عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عنها.
ذكر معناه: قوله: (استأذن)، أي: طلب الإذن، وفاعله قوله: أفلح، وقوله: علي، بتشديد الياء. وقد اختلف في: أفلح، هذا فقيل: ابن أبي القعيس، بضم القاف وفتح العي المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة، وقال أبو عمر: قيل: أبو القعيس، وقيل: أخو أبو القعيس، وأصحها ما قال مالك ومن تابعه: عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: جاء أفلح، أخو أبي القعيس، ويقال: إنه من الأشعريين، وقيل: إن اسم أبي القعيس الجعد، ويقال: أفلح يكنى أبا الجعيد. وقيل: اسم أبي القعيس وائل بن أفلح، وقيل: أفلح بن أبي الجعد، روى ذلك عبد الرزاق، وقيل أيضا: عمي أبو الجعد. وفي (صحيح الإسماعيلي): أفلح بن قعيس، أو ابن أبي القعيس. وقال ابن الجوزي: قال هشام بن عروة: إنما هو أبو القعيس أفلح، قال: وهذا ليس بصحيح، إنما هو أبو الجعد أخو أبي القعيس. وقال النووي: اختلف العلماء في عم عائشة المذكور، فقال أبو الحسن القابسي: هما عمان لعائشة من الرضاعة: أحدهما أخو أبيها أبي بكر، من الرضاعة الذي هو أبو القعيس، وأبو القعيس أبوها من الرضاعة، وأخوه أفلح عمها. وقيل: هو عم واحد، وهو غلط، فإن عمها في الحديث الأول ميت، وفي الثاني حي، جاء يستأذن. قلت: المراد من الحديث الأول هو ما قالت عائشة: يا رسول الله، لو كان فلان حيا، لعمها من الرضاعة، دخل علي، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (نعم! إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة). ثم قال النووي: والصواب: ما قاله القاضي، فإنه ذكر القولين، ثم قال: قول القابسي أشبه، لأنه لو كان واحدا لفهمت حكمه من المرة الأولى، ولم يحتجب منه بعد ذلك. فإن قيل: فإذا كانا عمين كيف سألت عن الميت، وأعلمها النبي، صلى الله عليه وسلم أنه عم لها يدخل عليها، واحتجبت عن عمها الآخر. أخي أبي القعيس حتى أعلمها النبي، صلى الله عليه وسلم بأنه عمها يدخل عليها، فهلا اكتفت بأحد السؤالين؟ فالجواب: أنه يحتمل أن أحدهما: كان عما من أحد الأبوين، والآخر: منهما أو
203

عما أعلى والآخر أدنى، أو نحو ذلك من الاختلاف، فخافت أن تكون الإباحة مختصة بصاحب الوصف المسؤول عنه أولا والله أعلم. انتهى. وقال القرطبي: أو يحتمل أنها نسيت القصة الأولى فأنشأت سؤالا آخر. أو جوزت تبديل الحكم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: ثبوت المحرمية بينها وبين عمها من الرضاعة. وفيه: أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه، وهو كذلك إجماعا بعد أن نزلت آية الحجاب، وما ورد من بروز النساء فإنما كان قبل نزول الحجاب، وكانت قصة أفلح مع عائشة بعد نزول الحجاب، كما ثبت في الصحيحين،. من طريق مالك أن ذلك كان بعد أن نزل الحجاب. وفيه: مشروعية الاستئذان، ولو في حق المحرم، لجواز أن تكون المرأة على حال لا يحل للمحرم أن يراها عليه. وفيه: أن الأمر المتردد فيه بين التحريم والإباحة ليس لمن لم يترجح أحد الطرفين الإقدام عليه. وفيه: جواز الخلوة والنظر إلى غير العورة للمحرم بالرضاع، ولكن إنما يثبت في محرمية الرضاع تحريم النكاح وجواز النظر والخلوة والمسافرة بها، ولا تثبت بقية الأحكام من كل وجه: من الميراث، ووجوب النفقة والعتق بالملك والعقل عنها ورد الشهادة وسقوط القصاص، ولو كان أبا أو أما، فإنهما كالأجنبي في سائر هذه الأحكام.
5462 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي، صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب هي بنت أخي من الرضاعة.
(الحديث 5462 طرفه في: 0015).
مطابقته للترجمة من حيث أن فيه حكم الرضاع. والحديث أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن مسدد عن يحيى القطان. وأخرجه مسلم في النكاح عن هدبة بن خالد عن همام به وعن زهير بن حرب وعن محمد بن يحيى القطيعي وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي فيه عن عبد الله بن الصباح وعن إبراهيم بن محمد التميمي. وأخرجه فيه ابن ماجة عن حميد بن مسعدة الشامي وأبي بكر محمد بن خلاد.
قوله: (في بنت حمزة) وهو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم أبو يعلى، وقيل: أبو عمارة، وهو عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكان حمزة أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم بسنتين، وشهد أحدا وقتل بها يوم السبت النصف من شوال من سنة ثلاث من الهجرة. قوله: (لا تحل لي)، إنما لم تحل له لأنها كانت بنت أخيه من الرضاع، وهو معنى قوله: (هي بنت أخي من الرضاعة). قوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، قال الخطابي: اللفظ عام ومعناه خاص، وتفصيله: أن الرضاع يجري عمومه في تحريم نكاح المرضعة وذوي أرحامها على الرضيع مجرى النسب، ولا يجري في الرضيع وذوي أرحامه مجراه، وذلك أنه إذا أرضعته صارت أما له يحرم عليه نكاحها ونكاح محارمها، وهي لا تحرم على أبيه ولا على ذوي أنسابه غير أولاده، فيجري الأمر في هذا الباب عموما على أحد الشقين، وخصوصا في الشق الآخر. وفي (التوضيح): يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لفظ عام لا يتسثنى منه شيء. قلت: يستثنى منه أشياء. منها: أنه يجوز أن يتزوج بأم أخيه وأخت ابنه من الرضاع، ولا يجوز أن يتزوج بهما من النسب لأن أم أخيه من النسب تكون أمه، أو موطوءة أبيه بخلاف الرضاع وأخت ابنه من النسب ربيته أو بنته، بخلاف الرضاع، ويجوز أن يتزوج بأخت أخيه من الرضاع، كما يجوز أن يتزوج بأخت أخيه من النسب، ذلك مثل الأخ من الأب إذا كان له أخت من الأم جاز لأخيه من أبيه أن يتزوجها، وكل ما لا يحرم من النسب لا يحرم من الرضاع، وقد يحرم من النسب ما لا يحرم من الرضاع، كما ذكرنا من الصورتين. ومنها: أنه يجوز له أن يتزوج بأم حفيده من الرضاع دون النسب. ومنها: أنه يجوز أن يتزوج بجدة ولده من الرضاع دون النسب. ومنها: أنه يجوز لها أن تتزوج بأب أخيها من الرضاع، ولا يجوز ذلك من النسب. ومنها: أنه يجوز له أن يتزوج أم عمه من الرضاع دون النسب. ومنها: أنه يجوز له أن يتزوج أم خاله من الرضاع دون النسب. ومنها: أنه يجوز لها أن تتزوج بأخ ابنتها من الرضاع دون النسب.
وفيه: إثبات التحريمك بلبن الفحل، واختلف أهل العلم قديما في لبن الفحل، وكان الخلاف قديما منتشرا في زمن الصحابة والتابعين. ثم أجمعوا بعد ذلك، إلا القليل منهم، أن لبن الفحل يحرم، فأما من قال من
204

الصحابة بالتحريم: ابن عباس وعائشة على اختلاف عنها، ومن التابعين: عروة بن الزبير وطاووس وابن شهاب ومجاهد وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن والشعبي وسالم والقاسم بن محمد وهشام بن عروة، على اختلاف فيه. ومن الأئمة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث وإسحاق وأبو ثور. وأما من رخص في لبن الفحل ولم يره محرما فقد روي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر وجابر ورافع بن خديج وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أخوه عطاء بن يسار ومكحول وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وإياس بن معاوية، ومن الأئمة: إبراهيم بن علية وداود الظاهري فيما حكاه عنه ابن عبد البر في (التمهيد). والمعروف عن داود خلافه، وقال القاضي عياض: لم يقل أحد من أئمة الفقهاء وأهل الفتوى بإسقاط حرمة لبن الفحل إلا أهل الظاهر، وابن علية، والمعروف عن داود موافقة مواتفقة الأئمة الأربعة في ذلك حكاه ابن حزم عنه في (المحلى) وكذا ذهب إليه ابن حزم. فلم يبق ممن خالف فيه إذا إلا ابن علية.
واعلم أنهم أجمعوا على انتشار الحرمة بين المرضعة وأولاد الرضيع وأولاد المرضعة، ومذهب كافة العلماء ثبوت حرمة الرضاع بينه وبين زوج المرأة، ويصير ولدا له وأولاد الرجل أخوة الرضيع وإخواته ويكون أخوة الرجل وإخواته أعمامه وعماته، ويكون أولاد الرضيع أولادا للرجل ولم يخالف في هذا إلا ابن علية، كما ذكرنا. ونقله المازري عن ابن عمر وعائشة. واحتجوا بقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * (النساء: 32). ولم يذكر البنت والعمة كما ذكرهما في النسب، واحتج الجمهور بحديث الباب وغيره من الأحاديث الصحيحة الصريحة في عم عائشة وعم حفصة، وأجابوا عما احتجوا به من الآية أنه: ليس فيها نص بإباحة البنت والعمة ونحوهما، لأن ذكر الشيء لا يدل على سقوط الحكم عما سواه، لو لم يعارضه دليل آخر، كيف وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في ذلك؟
6462 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمان أن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي، صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة قالت عائشة فقلت يا رسول الله أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة فقالت عائشة يا رسول الله هذا رجل يستأذن في بيتك قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاعة فقالت عائشة لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة دخل علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه حكم الرضاع، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري. ورجال إسناده كلهم مدنيون إلا شيخه، وقد دخلها.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الخمس: عن عبد الله بن يوسف وفي النكاح عن إسماعيل. وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن يحيى. وأخرجه النسائي فيه عن هارون بن عبد الله.
قوله: (وأنها) أي: وأن عائشة. قوله: (يستأذن)، جملة في محل الجر لأنها صفة: رجل. قوله: (أراه)، بضم الهمزة أي: أظنه القائل بقوله: أراه فلانا، هو عائشة. وفي رواية مسلم: (فقالت عائشة: يا رسول الله! هذا رجل يستأذن في بيتك؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أراه فلانا، لعم حفصة). الحديث، والقائل هو النبي، صلى الله عليه وسلم. قوله: (لعم حفصة) اللام فيه وفي قولها: لعمها، لام التبليغ لسامع بقول أو بما في معناه، كاللام في قولك. قلت
له: وأذنت له، وفسرت له، ومع هذا لا يخلو عن معنى التعليل، فافهم. (وحفصة) هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بنت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. قوله: (دخل علي)، بتشديد الياء والاستفهام فيه مقدر تقديره: هل كان يجوز له أن يدخل علي؟ فقال، صلى الله عليه وسلم في جوابها: (نعم) يعني: نعم يجوز دخوله عليك، ثم علل جواز دخوله عليها بقوله: (إن الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة)، وفي رواية مسلم: (إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة)، والرضاعة، بفتح الراء وكسرها، وفي الرضاع أيضا لغتان: فتح الراء وكسرها، وقد
205

رضع الصبي أمه، بكسر الضاد، يرضعها بفتحها، قال الجوهري: يقول أهل نجد: رضع يرضع، بفتح الضاد في الماضي، وبكسرها في المضارع رضعا، كضرب يضرب ضربا، والحكم الذي يعرف منه قد مر في الحديث الماضي.
7462 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قال يا عائشة من هاذا قلت أخي من الرضاعة قال يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة.
(الحديث 7462 طرفه في: 2015).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله كلهم كوفيون إلا عائشة ومحمد بن كثير ضد القليل وسفيان هو الثوري، وأشعث، بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وبالثاء المثلثة: هو ابن سليم بن الأسود المحاربي وأبوه أبو الشعثاء مثل حروف أشعث. واسمه سليم المذكور، ومسروق هو ابن الأجدع.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن أبي الوليد عن شعبة عن أشعث به. وأخرجه مسلم في النكاح عن هناد وعن ابن المثنى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن زهير بن حرب وعن عبد بن حميد. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن كثير به وعن حفص بن عمر. وأخرجه النسائي فيه عن هناد به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
ذكر معناه: قوله: (وعندي رجل)، الواو فيه للحال. وفي رواية: (وعندي رجل قاعد، فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه، قال: يا عائشة من هذا؟ فقلت: يا رسول الله! إنه أخي من الرضاعة). قوله: (أنظرن)، من النظر الذي بمعنى التفكير والتأمل. قوله: (من؟) استفهامية. قوله: (إخوانكن)، وفي رواية مسلم: (إخوتكن) وكلاهما جمع: أخ، وقال الجوهري: الأخ أصله أخو، بالتحريك، لأنه جمع على: آخا، مثل: آباء، والذاهب منه واو، ويجمع أيضا على إخوان مثل: خرب وخربان، وعلى إخوة وأخوة، عن الفراء. قوله: (فإنما الرضاعة)، الفاء فيه للتعليل لقوله: (أنظرن من إخوانكن) يعني: ليس كل من أرضع لبن أمها يصير أخا لكن، بل شرطه أن يكون من المجاعة، أي: الجوع، أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة ما يكون في الصغر حتى يكون الرضيع طفلا يسد اللبن جوعته، وأما ما كان بعد البلوغ فلا يسدها اللبن ولا يشبعه إلا الخبز. وقيل: معناه أن المصة والمصتين لا تسد الجوع، وكذلك الرضاع بعد الحولين، وإن بلغ خمس رضعات، وإنما يحرم إذا كان في الحولين قدر ما يدفع المجاعة. وهو ما قدر به السنة يعني: خمسا، أي: لا بد من اعتبار المقدار والزمان، قاله الكرماني: قلت: فيه خلاف في المقدار والزمان. أما المقدار: فقد قال الشافعي وأصحابه: لا يثبت الرضاع بأقل من خمس رضعات، وبه قال أحمد، وعنه: ثلاث رضعات، وقال جمهور العلماء: يثبت برضعة واحدة، حكاه ابن المنذر عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاووس وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومكحول والزهري وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة، رضي الله تعالى عنهم. وقال أبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر، رحمهم الله: يثبت بثلاث رضعات، ولا يثبت بأقل، وبه قال سليمان بن يسار وسعيد بن جبير وداود الظاهري، وحكاه ابن حزم عن إسحاق بن راهويه، واحتج الشافعي، ومن معه بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرؤ من القرآن). رواه مسلم، وعنها: (أنها لا تحرم المصة والمصتان)، رواه مسلم أيضا، واحتج أبو حنيفة ومن معه بإطلاق قوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * (النساء: 3). ولم يذكر عددا والتقييد به زيادة، وهو نسخ ولإطلاق الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وقد مضى ذكره عن قريب، وما رواه منسوخ، روي عن ابن عباس أنه قال: قوله: (لا تحرم الرضعة والرضعتان)، كان فأمااليوم فالرضعة الواحدة تحرم، فجعله منسوخا، حكاه أبو بكر الرازي، وقيل: القرآن لا يثبت بخبر الواحد، وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت خبر واحد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال ابن بطال: أحاديث عائشة مضطربة فوجب تركها. والرجوع إلى كتاب الله تعالى، لأنه يرويه ابن زيد مرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ومرة عن عائشة، ومرة عن أبيه
206

وبمثله يسقط. وأما الزمان: فمدته ثلاثون شهرا عند أبي حنيفة، وعندهما سنتان، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وعند زفر ثلاث سنين، وقال بعضهم: لا حد له للنصوص المطلقة، ولهما قوله تعالى: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * (البقرة: 332). وقوله: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * (الأحقاف: 51). وأقل مدة الحمل ستة أشهر. فبقي للفصال حولان. ولأبي حنيفة قوله تعالى: * (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور) * (البقرة: 332). بعد قوله: * (والوالدات يرضعن) * (البقرة: 332). فثبت أن بعد الحولين رضاع، والمعنى فيه: أنه لا يمكن قطع الولد عن اللبن دفعة واحدة، فلا بد من زيادة مدة يعتاد فيها الصبي مع اللبن الفطام فيكون غذاؤه اللبن تارة وأخرى الطعام إلى أن ينسى اللبن، وأقل مدة تنتقل بها العادة ستة أشهر اعتبارا بمدة الحمل.
تابعه ابن مهدي عن سفيان
أي: تابع محمد بن كثير عبد الرحمن بن مهدي في روايته الحديث عن سفيان الثوري، كما رواه ابن كثير عنه، وهذه المتابعة رواها مسلم عن زهير بن حرب عن ابن مهدي عن سفيان به.
8
((باب شهادة القاذف والسارق والزاني))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة القاذف، وهو الذي يقذف أحدا بالزنا، وأصل القذف الرمي، يقال: قذف يقذف، من باب: ضرب يضرب، قذفا، فهو قاذف، ولم يصرح بالجواب لمكان الخلاف فيه.
وقول الله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولائك هم الفاسقون إلا الذين تابوا) * (النور: 4 و 5).
وقول الله، مجرور عطفا على قوله: شهادة القاذف، وأوله قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم) * (النور: 4 و 5). ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات، وذكر الرامي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر، فلا بد من قرينة دالة على التعيين، وقد اتفق العلماء على أن المراد الرمي بالزنا، لقرائن دلت عليه، وهي تقدم ذكر الزنا وذكر المحصنات التي هي العفائف، يدل على أن المراد الرمي بضد العفاف. وقوله: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * (النور: 4 و 5). ومعلوم أن الشهود غير مشروط، إلا في الزنا، والإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا. قوله: * (فاجلدوهم) * (النور: 4 و 5). الخطاب للأئمة. قوله: * (إلا الذين تابوا) * (النور: 4 و 5). هذا استثناء منقطع، لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام، وهو قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) * (النور: 4 و 5). إذ التوبة تجب ما قبلها من الذنوب، فلا يكون التائب فاسقا، وأما شهادته فلا تقبل أبدا عند الحنفية، لأن رد الشهادة من تتمة الحد، لأنه يصلح جزاء فيكون مشاركا للأول في كونه حدا. وقوله: * (وأولئك هم الفاسقون) * (النور: 4 و 5). لا يصلح جزاء، لأنه ليس بخطاب للأئمة، بل هو إخبار عن صفة قائمة بالقاذفين، فلا يصلح أن يكون من تمام الحد لأنه كلام مبتدأ على سبيل الاستئناف منقطع عما قبله لعدم صحة عطفه على ما سبق. لأن قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) * (النور: 4 و 5). جملة إخبارية ليس بخطاب للأئمة، وما قبله جملة إنشائية خطاب للأئمة، وكذا قوله: * (ولا تقبلوا) * (النور: 4 و 5). جملة إنشائية، خطاب للأئمة، فيصلح أن يكون عطفا على قوله: * (فاجلدوا) * (النور: 4 و 5). والشافعي رحمه الله قطع قوله: * (ولا تقبلوا) * (النور: 4 و 5). عن قوله: * (فاجلدوا) * (النور: 4 و 5). مع دليل الاتصال، وهو كونه جملة إنشائية صالحة للجزاء، مفوضة إلى الأئمة مثل الألى وواصل قوله (وأولئك هم الفاسقون) مع قيانم دليل الانفصال وهو كونه جملة اسمية غير صالحة للجزاء ثم إنه إذا تاب قبلت شهادته عند الشافعي، وعند أبي حنيفة رد شهادته يتعلق باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا، وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء، وعند الشافعي رد شهادته متعلق بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن يرجع عنه عاد مقبول الشهادة، وكلاهما متمسك بالآية على الوجه الذي ذكرناه، وقال الشافعي: التوبة من القذف إكذابه نفسه، وقال الإصطخري: معناه أن يقول: كذبت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق: لا يقول كذبت، لأنه ربما كان صادقا، فيكون قوله: كذبت كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. قوله: * (وأصلحوا) * (النور: 4 و 5). قال أصحابنا: إنه بعد التوبة لا بد
207

من مضي مدة عليه في حسن الحال حتى قدروا ذلك بسنة، لأن الفصول الأربعة يتغير فيها الأحوال والطبائع، كما في العنين، قوله: * (فإن الله غفور رحيم) * (النور: 4 و 5). يقبل التوبة من كرمه.
وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم وقال من تاب قبلت شهادته
أبو بكرة اسمه نفيع مصغر نفع بالفاء: ابن الحارث بن كلدة، بالكاف واللام والدال المهملة المفتوحات: ابن عمرو بن علاج ابن أبي سلمة واسمه: عبد العزى، ويقال: ابن عبد العزي بن نميرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف الثقفي، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان أبوه عبدا للحارث بن كلدة، فاستلحقه الحار وهو أخو زياد لأمه، وكانت أمهما سمية أمة للحارث بن كلدة، وإنما قيل له: أبو بكرة، لأنه تدلى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، ببكرة من حصن الطائف، فكنى أبا بكرة فأعتقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يومئذ روي له عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مائة حديث واثنان وثلاثون حديثا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث، وكان ممن اعتزل يوم الجمل ولم يقاتل مع أحد من الفريقين، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وصلى عليه أبو برزة الأسلمي، رضي الله تعالى عنه، وشبل، بكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة: ابن معبد، بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الباء الموحدة: ابن عبيد بن الحارث بن عمرو بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار البجلي، قاله الطبري، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وهم أربعة أخوة لأم واحدة اسمها سمية. وقد ذكرناها الآن. وقال بعضهم: ليست له صحبة، وكذا قال يحيى بن معين، روى له الترمذي، ونافع بن الحارث أخو أبي بكرة لأمه نزلا من الطائف فأسلما وله رواية، قاله الذهبي. وقال الكرماني: الثلاثة يعني: أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا أخوة صحابيون شهدوا مع أخ آخر لأبي بكرة اسمه: زياد، على المغيرة فجلد الثلاثة، وزياد ليست له صحبة ولا رواية، وكان من دهاة العرب وفصحائهم، مات سنة ثلاث وخمسين، وقصتهم رويت من طرق كثيرة. ومحصلها: أن المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فاتهمه أبو بكرة وشبل ونافع وزياد الذي يقال له زياد بن أبي سفيان، وهم أخوة لأم تسمى: سمية، وقد ذكرناها، فاجتمعوا جميعا فرأوا المغيرة متبطن المرأة، وكان يقال لها: الرقطاء أم جميل بنت عمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي، فرحلوا إلى عمر، رضي الله تعالى عنه، فشكوه، فعزله عمر وولى أبا موسى الأشعري، وأحضر المغيرة فشهد عليه الثلاثة بالزنا، وأما زياد فلم يثبت الشهادة، وقال: رأيت
منظرا قبيحا وما أدري أخالطها أم لا؟ فأمر عمر بجلد الثلاثة حد القذف، وروى الحاكم في (المستدرك) من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة القصة مطولة، وفيها: فقال زياد: رأيتهما في لحاف وسمعت نفسا عاليا، وما أدري ما وراء ذلك، والتعليق الذي رواه البخاري وصله الشافعي في (الأم) عن سفيان، قال: سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، فأشهد لأخبرني فلان أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قال لأبي بكرة، تب وأقبل شهادتك. قال سفيان: سمى الزهري الذي أخبره فحفظته ثم نسيته، فقال لي عمر بن قيس: هو ابن المسيب، وروى سليمان بن كثير عن الزهري عن سعيد أن عمر قال لأبي بكرة وشبل ونافع: من تاب منكم قبلت شهادته، قلت: قال الطحاوي: ابن المسيب لم يأخذه عن عمر، رضي الله تعالى عنه، إلا بلاغا لأنه لم يصح له عنه سماع، وروى أبو داود الطيالسي، وقال: حدثنا قيس بن سالم الأفطس عن قيس بن عاصم، قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل ليشهده قال: أشهد غيري، فإن المسلمين قد فسقوني. والدليل على أن الحديث لم يكن عند سعيد بالقوي، أنه كان يذهب إلى خلافه، روى عنه قتادة وعن الحسن أنهما قالا: القاذف إذا تاب توبة فيما بينه وبين ربه، عز وجل، لا تقبل له شهادة، ويستحيل أن يسمع من عمر شيئا بحضرة الصحابة ولا ينكرونه عليه ولا يخالفونه ثم يتركه إلى خلافه، وذكر الإسماعيلي في كتابه (المدخل): إذا لم يثبت هذا، كيف رواه البخاري في صحيحه؟ وأجيب: بأن الخبر مخالف للشهادة، ولهذا لم يتوقف أحد من أهل المصر عن الرواية عنه ولا طعن
208

أحد على روايته من هذه الجهة مع إجماعهم أن لا شهادة لمحدود في قذف غير ثابت، فصار قبول خبره جاريا مجرى الإجماع، وفيه ما فيه.
وأجازه عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وطاووس ومجاهد والشعبي وعكرمة والزهري ومحارب بن دثار وشريح ومعاوية بن قرة
أي: وأجاز الحكم المذكورة، وهو قبول شهادة المحدود في القذف عبد الله بن عتبة بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق: ابن مسعود الهذلي، ووصله الطبري من طريق عمران بن عمير. قال: كان عبد الله بن عتبة يجيز شهادة القاذف إذا تاب، وعمر بن عبد العزيز الخليفة المشهور ووصله الطبري والخلال من طريق ابن جريج عن عمران بن موسى: سمعت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج فزاد مع عمر بن عبد العزيز أبات بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. قوله: (وسعيد بن جبير) التابعي المشهور، ووصله الطبري من طريقه بلفظ: تقبل شهادة القاذف إذا تاب. قوله: (وطاووس) هو ابن كيسان اليماني، ومجاهد بن جبر المكي، وصل ما روى عنهما سعيد بن منصور والشافعي والطبري من طريق ابن أبي نجيح، قال: القاذف إذا تاب تقبل شهادته، قيل له: من يقوله؟ قال: عطاء وطاووس ومجاهد. قوله: (والشعبي) هو عامر بن شراحيل، وصل ما روى عنه الطبري من طريق ابن أبي خالد عنه أنه كان يقول: إذا تاب قبلت شهادته. قوله: (وعكرمة)، هو مولى ابن عباس، وصل ما روى عنه البغوي في (الجعديات) عن شعبة عن يونس هو ابن عبيد عن عكرمة قال: إذا تاب القاذف قبلت شهادته. قوله: (والزهري)، هو محمد بن مسلم بن شهاب، وصل ما روى عنه ابن جرير عنه أنه قال: إذا حد القاذف فإنه ينبغي للإمام أن يستتيبه، فإن تاب قبلت شهادته، وإلا لم تقبل. قوله: (ومحارب)، بضم الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء: ابن دثار، بكسر الدال المهملة وتخفيف الثاء المثلثة: الكوفي قاضيها، و: شريح، بضم الشين المعجمة القاضي، ومعاوية بن قرة بن إياس البصري أدرك جماعة من الصحابة. وقال بعضهم: هؤلاء الثلاثة من أهل الكوفة. قلت: لا نسلم قوله: إن معاوية من أهل الكوفة، بل هو من أهل البصرة، ولم يرو عن أحد منهم التصريح بقبول شهادة القاذف، وهؤلاء أحد عشر نفسا ذكرهم البخاري تقوية لمذهب من يرى بقبول شهادة القاذف، ورد المذهب من لا يرى بذلك، ومن لا يرى بذلك أيضا رووا عن ابن عباس ذكره ابن حزم عنه بسند جيد من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني عنه أنه قال: شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب، وهذا واحد يساوي هؤلاء المذكورين، بل يفضل عليهم، وكفى به حجة. وقال ابن حزم أيضا: وصح ذلك أيضا عن الشعبي في أحد قوليه، والحسن البصري ومجاهد في أحد قوليه، وعكرمة في أحد قوليه، وشريح وسفيان بن سعيد، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا: لا شهادة له وتوبته بينه وبين الله تعالى، وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وروى البيهقي من حديث المثنى بن الصباح وآدم بن فائد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز شهادة خائن ولا محدود في الإسلام). فإن قلت: قال البيهقي: آدم والمثنى لا يحتج بهما. قلت: في (مصنف) ابن أبي شيبة حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف). فقد تابع الحجاج وهو ابن أرطأة آدم والمثنى، والحجاج أخرج له مسلم مقرون بآخر، ورواه أبو سعيد النقاش في (كتاب الشهود) تأليفه من حديث حجاج ومحمد بن عبيد الله العزرمي وسليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب، ورواه أحمد بن موسى بن مردويه في مجالسه من حديث المثنى عن عمرو عن أبيه عن عبد الله بن عمرو.
وقال أبو الزناد الأمر عندنا بالمدينة إذا رجع القاذف عن قوله فاستغفر ربه قبلت شهادته
أبو الزناد، بكسر الزاي وتخفيف النون: عبد الله بن ذكوان، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال: رأيت رجلا جلد حدا في قذف بالزنا، فلما فرغ من ضربه أحدث توبة، فلقيت أبا الزناد، فقال لي: الأمر عندنا... فذكره.
209

وقال الشعبي وقتادة إذا أكذب نفسه جلد وقبلت شهادته
الشعبي عامر بن شراحيل، وصل ما روى عنه ابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: إذا أكذب القاذف نفسه قبلت شهادته. قلت: قد صح عن الشعبي في أحد قوليه: إنه لا تقبل، وقد ذكرناه الآن عن ابن حزم.
وقال الثوري إذا جلد العبد ثم أعتق جازت شهادته وإن استقضي المحدود فقضاياه جائزة
أي: قال سفيان الثوري: رواه عنه في (جامعه) عبد الله بن الوليد العدني، وروى عبد الرزاق عن الثوري عن واصل عن إبراهيم قال: لا تقبل شهادة القاذف توبته
فيما بينه وبين الله، وقال الثوري: ونحن على ذلك.
وقال بعض الناس لا تجوز شهادة القاذف وإن تاب
أراد ببعض الناس أبا حنيفة، فيما ذهب إليه، ولكن هذا لا يمشي ولا يبرد به قلب المتعصب، فإن أبا حنيفة مسبوق بهذا القول، وليس هو بمخترع له، وقد ذكرنا عن قريب عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، نحوه وعن جماعة من التابعين، وقد ذكرناهم، وقال بعضهم: وهذا منقول عن الحنيفة، يعني: عدم قبول شهادة المحدود في القذف، وقال: واحتجوا في ذلك بأحاديث قال الحفاظ: لا يصح شيء منها، وأشهرها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام. أخرجه أبو داود وابن ماجة ورواه الترمذي من حديث عائشة نحوه، وقال: لا يصح، وقال أبو زرعة: منكر، قلت: قد مر عن قريب حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي شيبة أيضا في (مصنفه) وقد مر الكلام فيه هناك، ولما أخرجه أبو داود سكت عنه، وهذا دليل الصحة عنده.
ثم قال لا يجوز نكاح بغير شاهدين فإن تزوج بشهادة محدودين جاز وإن تزوج بشهادة عبدين لم يجز
أي: ثم قال بعض الناس المذكور، وأراد به إثبات التناقض فيما ذهب إليه أبو حنيفة، ولكن لا يمشي أصلا لأن حالة التحمل لا تشترط فيها العدالة، كما ذكر عن بعض الصحابة أنه تحمل في حال كفره، ثم أدى بعد إسلامه، وذلك لأن الغرض شهرة النكاح، وذلك حاصل بالعدل، وغيره عند التحمل، وأما عند الأداء فلا يقبل إلا العدل. قوله: (فإن تزوج...) إلى آخره أيضا إثبات التناقض فيه، وليس فيه تناقض، لأن عدم جواز النكاح بغير شاهدين بالنص، وأما التزوج بشهادة محدودين فقد ذكرنا أن المراد من ذلك شهرة النكاح، وذلك حاصل بشهادة المحدودين، وأما عدم جواز التزوج بشهادة عبدين فلأن الأصل فيه أن كل من ملك القبول بنفسه انعقد العقد بحضوره، ومن لا فلا، فإذا كان كذلك لا ينعقد بحضور عبدين أو صبيين أو مجنونين، فمن أين التناقض يرد؟ ومن أين الاعتراض الصادر من غير تأمل في دقائق الأشياء؟
وأجاز شهادة المحدود والعبد والأمة لرؤية هلال رمضان
أي: أجاز بعض الناس المشار إليه.. إلى آخره، وهذا الاعتراض أيضا ليس بشيء أصلا، وذلك لأن أبا حنيفة أجرى ذلك مجرى الخبر، والخبر يخالف الشهادة في المعنى، لأن المخبر له دخل في حكم ما شهد به، وقال بهذا أيضا غير أبي حنيفة، وقال صاحب (التوضيح): هذا غلط لأن الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم شاهد، ولا يسمى مخبرا، فحكمه حكم الشاهد في المعنى لاستحقاقه ذلك بالاسم، وأيضا: فإن الشهادة على هلال رمضان حكم من الأحكام، ولا يجوز أن يقبل في الأحكام إلا من تجوز شهادته في كل شيء، ومن جازت شهادته في هلال رمضان ولم تجز في القذف فليس بعدل، ولا هو ممن يرضى، لأن الله تعالى إنما تعبدنا بمن نرضى من الشهداء. انتهى. قلت: هذا تطويل الكلام بلا فائدة، وكلام مبني على غير معرفة بدقائق الأشياء، وقوله: الشاهد على هلال رمضان لا يزول عنه اسم الشاهد، ولا يسمى مخبرا، تحكم زائد، وعدم زوال اسم الشاهد عن الشاهد على هلال رمضان لا عقلي ولا نقلي، فمن ادعى ذلك فعليه البيان ونفي الإخبار عن شاهد هلال رمضان غير صحيح، على ما لا يخفى. وقوله: وحكمه حكم الشاهد في المعنى يناقض كلامه، الأول، لأنه قال: لا يسمى مخبرا ثم كيف
210

يقول: فحكمه أي: فحكم هذا المخبر حكم الشاهد في المعنى، ونحن أيضا نقول بذلك، ولكنه ليس بشهادة حقيقة إذ لو كانت شهادة حقيقة لما جاز الحكم بشهادة واحد في هلال رمضان، مع أنه يكتفي بشهادة واحد عند اعتلال المطلع بشيء، وهو قول عند الشافعي أيضا ورواية أحمد، والله تعالى تعبدنا بمن نرضى من الشهداء عند الشهادات الحقيقية، والإخبار بهلال رمضان ليس من ذلك، والله أعلم.
وكيف تعرف توبته وقد نفاى النبي صلى الله عليه وسلم الزاني سنة
هذا من كلام البخاري، وهو من تمام الترجمة، قال الكرماني: هذا عطف على أول الترجمة، وكثيرا ما يفعل البخاري مثله، يردف ترجمة على ترجمة، وإن بعد ما بينهما. قوله: (وكيف تعرف توبته؟) أي: كيف تعرف توبة القاذف؟ وأشار بذلك إلى الاختلاف، فقال: أكثر السلف: لا بد أن يكذب نفسه، وبه قال الشافعي، روي ذلك عن عمر، رضي الله تعالى عنه، واختاره إسماعيل بن إسحاق. وقال: توبته أن يزداد خيرا ولم يشترط إكذاب نفسه في توبته، لجواز أن يكون صادقا في قذفه، وإلى هذا مال البخاري، كما نذكره الآن، وهو استدلاله على ذلك بقوله: وقد نفى النبي، صلى الله عليه وسلم الزاني سنة، أي: قد نفاه عن البلد، وهو التغريب، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه شرط على الزاني تكذيبه لنفسه واعترافه بأنه عصى الله، عز وجل، في مدة تغريبه، وسيأتي نفي الزاني موصولا في آخر الباب.
ونهاى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه حتى مضاى خمسون ليلة
هذا أيضا من جملة ما يستدل به البخاري على ما ذهب إليه مثل ما ذهب مالك، بيانه أنه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه هما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية * (الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) * (التوبة: 811). لم ينقل عنه أنه شرط عليهم ذلك في مدة الخمسين، وقصة كعب ستأتي بطولها في آخر تفسير براءة، وغزوة تبوك. وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه تعلق قصتهم بالباب؟ قلت: تخلفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والتخلف عنه بدون إذنه معصية، كالسرقة ونحوها.
8462 حدثنا إسماعيل قال حدثني ابن وهب عن يونس وقال الليث قال حدثني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن امرأة سرقت في غزوة الفتح فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر فقطعت يدها قالت عائشة فحسنت توبتها وتزوجت وكانت تأتي بعد ذالك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فحسنت توبتها)، لأن فيه دلالة على أن السارق إذا تاب وحسنت حاله تقبل شهادته، فالبخاري ألحق القاذف بالسارق لعدم الفارق عنده، ونقل الطحاوي الإجماع على قبول شهادة السارق إذا تاب، وذهب الأوزاعي والحسن بن صالح إلى أن المحدود في الخمر إذا تاب لا تقبل شهادته، وقد خالفا في ذلك جميع فقهاء الأمصار.
وإسماعيل هو ابن أبي أويس، وابن وهب هو عبد الله بن وهب، ويونس هو ابن يزيد الأيلي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الحدود عن إسماعيل أيضا بإسناده، وفي غزوة الفتح عن محمد بن مقاتل. وأخرجه مسلم في الحدود عن أبي الطاهر وحرملة. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن يحيى عن أبي صالح، وهو عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث. وأخرجه النسائي في القطع عن الحارث بن مسكين عن ابن وهب. وأما التعليق عن الليث فأخرجه أبو داود عن محمد بن يحيى بن فارس عن أبي صالح لكن بغير هذا اللفظ، وظهر أن هذا اللفظ لابن وهب.
قوله: (أن امرأة)، اسمها: فاطمة بنت الأسود. قوله: (ثم أمر بها فقطعت)، فيه حذف يعني: بعدما ثبت عند النبي، صلى الله عليه وسلم: بشروطه أمر بقطع يدها.
وفيه: أن المرأة كالرجل في حكم السرقة. وفيه: أن توبة السارق إذا حسنت لا ترد شهادته بعد ذلك.
211

9462 حدثنا يحياى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن زيد بن خالد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم لم يشترط على الذي زنى وأقيم عليه الحد ذكر التوبة، وإنما قال في ماعز: حصلت التوبة بالحد، وكذا في هذا الزاني.
ورجال هذا الحديث قد ذكروا غير مرة بهذا النسق، ومفرقين أيضا، وعبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، وزيد بن خالد الجهني، رضي الله تعالى عنه.
والحديث أخرجه مسلم في الحدود عن قتيبة ومحمد بن رمح وعن أبي الطاهر وحرملة.
قوله: (بجلد مائة)، الباء فيه متعلق بقوله أمر. وقوله: (فيمن زنى) في محل النصب على المفعولية بقوله: (يجلد مائة)، لأن المصدر يعمل عمل فعله. قوله: (ولم يحصن)، بفتح الصاد وكسرها والواو فيه للحال. والحديث احتج به الشافعي ومالك وأحمد على أن الزاني إذا لم يكن محصنا يجلد مائة جلدة ويغرب سنة. وقال أصحابنا: لا يجمع بين جلد ونفي، لأن النص جعل الجلد مائة والزيادة على مطلق النص نسخ، والحديث منسوخ، ولأن في التغريب تعريضا للفساد، ولهذا قال علي، رضي الله تعالى عنه: كفى بالنفي فتنة، وعمر، رضي الله تعالى عنه، نفى شخصا فارتد، ولحق بدار الحرب، فحلف أن لا ينفي بعده أبدا، وبهذا عرف أن نفيهم كان بطريق السياسة والتعزير لا بطريق الحد. لأن مثل عمر لا يحلف أن لا يقيم الحدود، والله أعلم.
9
((باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يشهد الرجل على شهادة جور، وهو الظلم والحيف والميل عن الحق. قوله: (إذا أشهد)، على صيغة المجهول.
0562 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا أبو حيان التيمي عن الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله ثم بدا له فوهبها لي فقالت لا أرضاى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي وأنا غلام فأتاى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهاذا قال ألك ولد سواه قال نعم قال فأراه قال لا تشهدني على جور. وقال أبو حريز عن الشعبي لا أشهد على جور.
(انظر الحديث 6852 وطرفه).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: إذا أشهد، لأنه لا يشهد على جور إذا لم يستشهد بطريق الأولى، وعبدان هو عبد الله ابن عثمان المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي وأبو حيان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالنون التيمي، بفتح التاء المثناة من فوق، واسمه: يحيى بن سعيد الكوفي، والشعبي هو عامر بن شراحيل. والحديث مضى في كتاب الهبة في: باب الهبة للولد وفي: باب الإشهاد في الهبة.
قوله: (الموهبة) بمعنى: الهبة مصدر ميمي. قوله: (ثم بدا له) أي: ندم من المنع كأنه منع أولا ثم ندم على ذلك. قوله: (بنت رواحة) بفتح الراء والواو المخففة، وبالحاء المهملة: وهي عمرة بنت رواحة، مرت هناك. قوله: (على جور)، الجور هنا بمعنى الميل عن الاعتدال والمكروه جور أيضا، وذلك لأن الجور بمعنى الظلم مشعر بالحرمة. قوله: (وقال أبو حريز)، بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبالزاي وهو عبد الله بن الحسين الأزدي قاضي سجستان، وقد ذكرنا في الهبة من وصله، وفي بعض النسخ وقع قوله: (وقال أبو حريز...) إلى آخره قبل الحديث المذكور، وقال صاحب (التلويح): وقع في غير ما نسخه: قال أبو حريز... إلى آخره، ثم ذكر الحديث. وفي نسخة ذكره بعد إيراده لحديث النعمان بن بشير، وكأنه أولى.
1562 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا أبو جمرة قال سمعت زهدم بن مضرب قال سمعت عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم
خيركم قرني ثم الذين يلونهم
212

ثم الذين يلونهم قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة قال النبي صلى الله عليه وسلم إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن.
مطابقته للترجمة في قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون)، لأن الشهادة قبل الاستشهاد فيها معنى الجور.
وأبو جمرة، بالجيم والراء: نصر بن عمران الضبعي، وقد مر في أواخر كتاب الإيمان، و: زهدم، بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة: ابن مضرب، بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء: الجرمي البصري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في فضل الصحابة عن إسحاق بن إبراهيم وفي الرقاق عن بندار عن غندر وفي النذور عن مسدد عن يحيى بن سعيد. وأخرجه مسلم في الفضائل عن أبي بكر وأبي موسى وبندار، ثلاثتهم عن غندر وعن محمد بن حاتم عن عبد الرحمن بن بشر. وأخرجه النسائي في النذور عن محمد ابن عبد الأعلى، سبعتهم عن شعبة عن أبي جمرة.
ذكر معناه: قوله: (قرنء) قال ابن الأنباري: المعنى: خير الناس أهل قرني، فحذف المضاف، وقد يسمى أهل العصر قرنا، لاقترانهم في الوجود، وقال القرطبي: هو بسكون الراء من الناس أهل زمان واحد، وقال ابن التين معنى قوله: (قرني) أي: أصحابي من رآه أو سمع كلامه، فدان به، والقران أهل عصر متقاربة أسنانهم، وقال الخطابي: واشتق لهم هذا الاسم من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، وقيل: إنه لا يكون قرنا حتى يكونوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو رأي أو مذهب. وقال ابن التين: سواء قلت المدة أو كثرت. وقيل: القرن ثمانون سنة. وقيل: أربعون، وقيل: مائة سنة. قال القزاز: واحتج لهذا بأن النبي، صلى الله عليه وسلم مسح بيده على رأس غلام، وقال له: (عش قرنا)، فعاش مائة سنة. قال ابن عديس: قال ثعلب: هذا هو الاختيار، وقال ابن التين: وقيل: من عشرين إلى مائة وعشرين وقيل: ستون، وقال الجوهري: ثلاثون سنة، وقال ابن سيده: هو مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان، فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم. قال: وهو الأمة تأتي بعد الأمة. قيل: مدته عشر سنين، وفي (الموعب): وقيل عشرون سنة، وقيل: سبعون، وقال ابن الأعرابي: القرن الوقت من الزمان، وفي (التهذيب): لأنه يقرن أمة بأمة وعالما بعالم. قوله: (يلونهم)، من وليه يليه، بالكسر فيهما، والولي: القرب والدنو. قوله: (قال عمران) هو موصول بالإسناد المذكور، وهو بقية حديث عمران. قوله: (أذكر؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (بعد) مبني على الضم منوي الإضافة، وفي رواية: بعد قرنه. قوله: (إن بعدكم قوما)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية النسفي وابن شبويه: (إن بعدكم قوم) قال الكرماني: فلعله منصوب، لكنه كتب بدون الألف على اللغة الربيعية أو ضمير الشأن محذوف على ضعف. قوله: (يخونون)، بالخاء المعجمة من الخيانة، أو في رواية ابن حزم: يحربون، بالحاء المهملة والراء والباء الموحدة، قال: فإن كان محفوظا فهو من قولهم: حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شيء، ورجل محروب أي: مسلوب المال. قوله: (ولا يؤتمنون) أي: لا يثق الناس بهم ولا يعتقدونهم، أي: يكون لهم خيانة ظاهرة بحيث لا يبقى للناس اعتماد عليهم. قوله: (ويشهدون)، يحتمل أن يراد: يتحملون الشهادة بدون التحميل، أو يؤدون الشهادة بدون طلب الأداء. وقال الكرماني: فإن قلت: بعض الشهادات تجب أو يستحب الأداء قبل الطلب. قلت: حذف المفعول به يدل على إرادة العموم، فالمذموم عدم التخصيص، وذلك البعض مثل ما فيه حق مؤكد لله تعالى المسمى بشهادة الحسبة غير مراد بدليل خارجي، وقال ابن الجوزي: إن قيل: كيف الجمع بين قوله: (يشهدون ولا يستشهدون؟)، وبين قوله في حديث زيد ن خالد: (ألا أخبركم بخير الشهداء: الذين يأتون بالشهادة قبل أن يسألوها). فالجواب أن الترمذي ذكر عن بعض أهل العلم أن المراد بالذي يشهد ولا يستشهد شاهد الزور. واحتج بحديث عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ثم يفشوا الكذب حتى يشهد الرجل ولا يستشهد)، والمراد بحديث زيد بن خالد الشاهد على الشيء فيؤدي شهادته ولا يمتنع من إقامتها. وقال الخطابي: ويحتمل أن يريد الشهادة على المغيب من أمر الخلق فيشهد على قوم أنهم من أهل النار، ولآخرين بغير ذلك على مذهب أهل الأهواء، وقيل: إنما هذا في الرجل تكون عنده الشهادة وقد نسيها صاحب الحق، ويترك أطفالا ولهم على الناس حقوق، ولا علم للموصي بها، فيجيء من عنده الشهادة فيبذل شهادته لهم بذلك، فيحيى حقهم، فحمل بذل الشهادة قبل المسألة على مثل هذا. وقال ابن بطال: والشهادة المذمومة لم يرد بها الشهادة على الحقوق، إنما أريد بها الشهادة في الإيمان، يدل عليه قول النخعي رواية في آخر الحديث، وكانوا
213

يضربوننا على الشهادة، فدل هذا من قول إبراهيم: أن الشهادة المذموم عليها صاحبها هي قول الرجل: أشهد بالله ما كان كذا على كذا، على معنى الحلف، فكره ذلك، وهذه الأقوال أقوال الذين جمعوا بين حديث النعمان وزيد. وأما ابن عبد البر فإنه رجح حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة، فقدمه على رواية أهل العراق، وبالغ فيه حتى زعم أن حديث النعمان لا أصل له، ومنهم من رجح حديث عمران، لاتفاق صاحبي (الصحيح) عليه، وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد، قوله: (وينذرون)، بفتح أوله وبكسر الذال المعجمة وبضمها. قوله: (ولا يفون) من الوفاء، يقال: وفي يفي وأصله، يوفي، حذفت الواو لوقوعها بين الياء والكسرة، وأصل: يفون، يوفيون، فلما حذفت الواو ولما ذكرنا استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركة ما قبلها. قوله: (ويظهر فيهم السمن)، بكسر السين المهملة وفتح الميم بعدها نون، معناه: أنهم يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن. وقال ابن التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من يخلق كذلك. وقيل: المراد، يظهر فيهم كثرة المال، وقيل: المراد أنهم يتسمنون أي: يتكثرون بما ليس فيهم، ويدعون ما ليس لهم من الشرف، ويحتمل أن يكون جميع ذلك مرادا، وقد رواه الترمذي من طريق هلال بن يساف عن عمران بن حصين بلفظ: ثم يجيء قوم فيتسمنون ويحبون السمن.
2562 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خير الناس قرنى ثم
الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قال إبراهيم وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمنه شهادته) لأن فيه معنى الجور، لأن معناه أنهم لا يتورعون في أقوالهم، ويستهينون بالشهادة واليمين، ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعبيدة بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة: هو السلماني، وعبد الله هو ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه.
ورجال هذا الإسناد كلهم كوفيون. وفيه: ثلاثة من التابعين على نسق واحد.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الفضائل عن محمد بن كثير عن سفيان، وفي النذور عن سعد ابن حفص وفي الرقائق عن عبدان، وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة وهناد وعن عثمان وإسحاق وعن ابن المثنى وعن محمد ابن بشار. وأخرجه الترمذي في المناقب عن هناد. وأخرجه النسائي في الشروط عن قتيبة به، وفي القضاء عن إسحاق بن إبراهيم به، وعن أحمد بن عثمان النوفلي وعن ابن المثنى وابن بشار، وعن بشر بن خالد وعن عمرو بن علي. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن عثمان بن أبي شيبة وعمرو بن نافع.
ذكر معناه: قوله: (ثم تجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمنه شهادته)، يعني في حالين لا في حالة واحدة، قال الكرماني: تقدم الشهادة على اليمين وبالعكس دور فلا يمكن وقوعه فما وجهه؟ قلت: هم الذين يحرصون على الشهادة مشغوفون بترويجها، يحلفون على ما يشهدون به، فتارة يحلفون قبل أن يأتوا بالشهادة، وتارة يعكسون، ويحتمل أن يكون مثلا في سرعة الشهادة واليمين، وحرص الرجل عليهما حتى لا يدري بأيتهما يبتديء، فكأنه يسبق أحدهما الآخر من قلة مبالاته بالدين. قوله: (قال إبراهيم...) إلى آخره، موصول بالإسناد المذكور، وقيل: معلق، وقال بعضهم: ووهم من زعم أنه معلق. قلت: لم يقم الدليل على أنه وهم، بل كلام بالاحتمال. قوله: (وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد) وفي رواية البخاري في الفضائل بهذا الإسناد: (ونحن صغار). وكذلك أخرجه مسلم بلفظ: كانوا ينهوننا ونحن غلمان عن العهد والشهادات. وقال أبو عمر: معناه عندهم: النهي عن مبادرة الرجل بقوله: إشهد بالله، وعلى عهد الله لقد كان كذا ونحو ذلك، وإنما كانوا يضربونهم على ذلك حتى لا يصير لهم به عادة فيحلفون في كل ما يصلح وما لا يصلح، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالعهد المنهي الدخول في الوصية لما يترتب على ذلك من المفاسد، والوصية تسمى العهد، قال الله تعالى: * (لن ينال عهدي الظالمين) * (البقرة: 421)..
01
((باب ما قيل في شهادة الزور))
214

أي: هذا باب في بيان ما قيل في شهادة الزور من التغليظ والوعيد، والزور وصف الشيء بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، والمراد به هنا: الكذب.
لقول الله عز وجل * (والذين لا يشهدون الزور) * (الفرقان: 27).
ذكره هذه القطعة من الآية في معرض التعليل لما قيل في شهادة الزور من الوعيد والتهديد لا وجه له، لأن الآية سيقت في مدح الذين لا يشهدون الزور، وما قبلها أيضا في مدح التائبين العاملين الأعمال الصالحة، وتمام الآية أيضا مدح في الذين إذا سمعوا اللغو مروا كراما، وما بعدها أيضا من الآيات كذلك، وقال بعضهم: أشار إلى أن الآية سيقت في ذم متعاطي شهادة الزور، وهو اختيار لأحد ما قيل في تفسيرها. انتهى. قلت: ما سيقت الآية، إلا في مدح تاركي شهادة الزور، كما قلنا. وقوله: وهو اختيار لأحد ما قيل في تفسيرها، لم يقل به أحد من المفسرين، وإنما اختلفوا في تفسير الزور، فقال أكثرهم: الزور والشرك، وقيل: شهادة الزور، قاله ابن طلحة وقيل: المشركون، وقيل: الصنم، وقيل: مجالس الخناء، وقيل: مجلس كان يشتم فيه، صلى الله عليه وسلم، وقيل: العهود على المعاصي.
وكتمان الشهادة
وكتمان، بالجر عطف على قوله: في شهادة الزور، أي: وما قيل في كتمان الشهادة بالحق من الوعيد والتهديد.
لقوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم) * (البقرة: 382).
هذا التعليل في محله، أي: ولا تخفوا الشهادة، إذا دعيتم إلى إقامتها، ومن كتمانها ترك التحمل عند الحاجة إليه. قوله: * (فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 382). أي: فاجر قلبه، وخصه بالقلب لأن الكتمان يتعلق به، لأنه يضمره فيه فأسند إليه * (والله بما تعملون عليم) * (البقرة: 382). أي: يجازي على أداء الشهادة وكتمانها.
تلووا ألسنتكم بالشهادة
أشار بقوله: تلووا إلى ما في قوله تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * (النساء: 531). أي: وإن تلووا ألسنتكم بالشهادة، وروى الطبري عن العوفي في هذه الآية، قال: وتلوي لسانك بغير الحق، وهي اللجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. وتلووا من اللي، وأصله اللوي. قال الجوهري: لوى الرجل رأسه وألوى برأسه، أقال وأعرض. وقوله تعالى: * (وإن تلووا أو تعرضوا) * (النساء: 531). بواوين، قال ابن عباس: هو القاضي يكون ليه وإعراضه لأحد الخصمين على الآخر، وقد قرىء بواو واحدة مضمومة اللام من: وليت، وقال مجاهد: أي إن تلووا الشهادة فتقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها، فإن الله يجازيكم عليه، قال الكرماني: ولو فصل البخاري بين لفظ: تلووا، ولفظ: ألسنتكم، بمثل: أي، أو: يعني، ليتميز القران عن كلامه لكان أولى قلت: بل كان
التمييز بين القرآن وكلامه واجبا، لأن من لا يحفظ القرآن أو لا يحسن القراءة يظن أن قوله: (ألسنتكم) من القرآن، وكان الذي ينبغي أن يقول، وقوله تعالى: * (وإن تلووا) * (النساء: 531). يعني ألسنتكم. و: إتيان، كلمة مفردة من القرآن في معرض الاحتجاج لا يفيد، ولا هو بطائل أيضا.
3562 حدثنا عبد الله بن منير قال سمع وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم قالا حدثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس رضي الله تعالى عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر قال الأشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وشهادة الزور.
مطابقته للترجمة في قوله: (وشهادة الزور).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: عبد الله بن منير، بضم الميم وكسر النون: أبو عبد الرحمن الزاهد، مر في الوضوء. الثاني: وهب بن جرير بن حازم الأزدي أبو العباس. الثالث: عبد الملك بن إبراهيم أبو عبد الله، مولى بني عبد الدار القرشي. الرابع: شعبة بن الحجاج. الخامس: عبيد الله، بتصغير العبد، ابن أبي بكر بن أنس بن مالك. السادس: أنس بن مالك.
215

ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: السماع في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن شيخه مروزي وهو من أفراده، وأن وهب بن جرير بصري وأن عبد الملك بن إبراهيم مكي جدي، بضم الجيم وتشديد الدال المهملة، وهو من أفراده، وأن شعبة واسطي سكن البصرة، وأن عبيد الله بصري. قوله: عن عبد الله بن أبي بكر، وفي رواية محمد بن جعفر التي تأتي في الأدب عن محمد بن جعفر عن شعبة حدثني عبيد الله بن أبي بكر سمعت أنس بن مالك. وفيه: رواية الراوي عن جده.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن محمد بن الوليد، وفي الديات عن إسحاق بن منصور، وأخرجه مسلم في الإيمان عن يحيى بن حبيب وعن محمد بن الوليد. وأخرجه الترمذي في البيوع وفي التفسير عن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه النسائي في القضاء وفي القصاص وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم وعن محمد بن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم)، ويروى: سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي رواية بهز عن شعبة عند أحمد أو ذكرها، وفي رواية محمد بن جعفر: ذكر الكبائر أو سئل عنها، قوله: (عن الكبائر)، جمع كبيرة وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا. العظيم أمرها: كالقتل والزنا والفرار من الزحف وغير ذلك، وهي من الصفات الغالبة، يعني صار إسما لهذه الفعلة القبيحة، وفي الأصل هي صفة، والتقدير: الفعلة القبيحة أو الخصلة القبيحة، قيل: الكبيرة كل معصية، وقيل: كل ذنب قرن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. قلت: الكبيرة أمر نسبي، فكل ذنب فوقه ذنب فهو بالنسبة إليه كبيرة، وبالنسبة إلى ما تحته صغيرة. واختلفوا في الكبائر، وههنا ذكر أربعة، وليس فيه أنها أربع فقط، لأنه ليس فيه شيء مما يدل على الحصر. وقيل: هي سبع، وهي في حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات وهي: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات). وقيل: الكبائر تسع، رواه الحاكم في حديث طويل فذكر السبعة المذكورة، وزاد عليها: (عقوق الوالدين المسلمين، واستحلال الحرام). وذكر شيخنا عن أبي طالب المكي أنه قال: الكبائر سبع عشرة، قال: جمعتها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، وغيرهم: الشرك بالله، والإصرار على معصيته، والقنوط من رحمته، والأمن من مكره، وشهادة الزور، وقذف المحصن، واليمين الغموس، والسحر، وشرب الخمر، والمسكر، وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا، والزنا، واللواطة، والقتل، والسرقة، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين. انتهى. وقال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سبعمائة. قوله: (الإشراك بالله)، مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف التقدير: الكبائر الإشراك بالله وما بعده عطف عليه، ووجه تخصيص هذه الأربعة بالذكر لأنها أكبر الكبائر والشرك أعظمها. قوله: (وعقوق الوالدين)، العقوق من العق، وهو: القطع، وذكر الأزهري أنه يقال: عق والده يعقه، بضم العين: عقا وعقوقا إذا قطعه، والعاق اسم فاعل، ويجمع على عققة، بفتح الحروف كلها، و: عقق، بضم العين والقاف. وقال صاحب (المحكم): رجل عقق وعقوق وعق وعاق، بمعنى واحد. والعاق هو الذي شق عصا الطاعة لوالديه. وقال النووي: هذا قول أهل اللغة. وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه، وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام: لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من العقوق على ضابط اعتمد عليه، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به ولا ينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك،، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في (فتاويه): العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالدان تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات، وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما مخالفا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق. قوله: (وقتل النفس)، يعني: بغير الحق ويكفي فيه وعيدا قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (النساء: 39). الآية. قوله: (وشهادة
216

الزور)، وقد مر تفسير الزور في أول الباب. وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله، وقرأ عبد الله * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) * (الحج: 03). واختلف في شاهد الزور، إذا تاب، فقال مالك: تقبل توبته وشهادته كشارب الخمر، وعن عبد الملك: لا تقبل كالزنديق. وقال أشهب: إن أقر بذلك لم تقبل توبته أبدا، وعند أبي حنيفة: إذا ظهرت توبته يجب قبول شهادته إذا أتى ذلك مرة أخرى، يظهر في مثلها توبته، وهو قول الشافعي
وأبي ثور، وقال ابن المنذر: وقول أبي حنيفة ومن تبعه أصح. وقال ابن القاسم: بلغني عن مالك أنه: لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب وحسنت توبته. واختلف هل يؤدب إذا أقر، فعن شريح أنه: كان يبعث بشاهد الزور إلى قومه أو إلى سوقه إن كان مولى، إنا قد زيفنا شهادة هذا، ويكتب اسمه عنده ويضربه خفقات، وينزع عمامته عن رأسه، وعن الجعد بن ذكوان: أن شريحا ضرب شاهد زور عشرين سوطا. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه اتهم قوما على هلال رمضان فضربهم سبعين سوطا وأبطل شهادتهم، وعن الزهري: شاهد الزور يعزر. وقال الحسن: يضرب شيئا. ويقال للناس: إن هذا شاهد زور، وقال الشعبي: يضرب ما دون الأربعين خمسة وثلاثين سبعة وثلاثين سوطا. وفي (كتاب القضاء) لأبي عبيد بن سلام: عن معمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم رد شهادة رجل في كذبة كذبها. وذكره أبو سعيد النقاش بإسناده إلى عكرمة عن ابن عباس، بلفظ: كذبة واحدة كذها. وفي (الأشراف): كان سوار يأمر به، يلبب بثوبه، ويقول لبعض أعوانه: إذهبوا به إلى مسجد الجامع فدوروا به على الخلق وهو ينادي: من رآني فلا يشهد بزور. وكان النعمان يرى أن يبعث به إلى سوقه إن كان سوقيا أو إلى مسجد قومه، ويقول: القاضي يقرؤكم السلام، ويقول: إنا وجدنا هذا شاهد زور، فاحذروه وحذروه الناس، ولا يرى عليه تعزيرا. وعن مالك: أرى أن يفضح ويعلن به ويوقف، وأرى أن يضرب ويسار به، وقال أحمد وإسحاق: يقام للناس، ويعذر ويؤدب. وقال أبو ثور: يعاقب. وقال الشافعي: يعزر ولا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا ويشهر بأمره، وعن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: أنه حبسه يوما وخلى عنه، وعن ابن أبي ليلى: يضرب خمسة وسبعين سوطا لاولا يبعث به. وعن الأوزاعي: إذا كانا اثنين وشهدا على طلاق ففرق بينهما ثم أكذبا نفسهما، أنهما يضربان مائة مائة ويغرمان للزوج الصداق. وعن القاسم وسالم: شاهذ الزور يحبس ويخفق سبع خفقات بعد العصر، وينادى عليه. وعن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة: أنه أمر بحلق أنصاف رؤوسهم وتسخم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق. قلت: عند أبي حنيفة: شاهد الزور يبعث به إلى محلته أو سوقه، فيقال لهم: إنا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه، فلا يضرب ولا يحبس. وعند أبي يوسف ومحمد، يضرب ويحبس إن لم يحدث توبة، لأنه ارتكب محظورا فيعزر.
تابعه غندر وأبو عامر وبهز وعبد الصمد عن شعبة
أي: تابع وهب بن جرير في روايته عن شعبة غندر، وهو محمد بن جعفر، وأبو عامر عبد الملك العقدي، وبهز، بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء وفي آخره زاي: ابن أسد العمي، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وهؤلاء بصريون، فمتابعة العقدي وصلها أبو سعيد النقاش في (كتاب الشهود) وابن منده في (كتاب الإيمان) من طريقه عن شعبه بلفظ: (أكبر الكبائر الإشراك بالله). ومتابعة بهز وصلها أحمد عنه ومتابعة عبد الصمد وصلها البخاري في الديات.
4562 حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا الجريري عن عبد الرحمان بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال ألا وقول الزور قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وبشر، بكسر الباء الموحدة، وسكون الشين المعجمة، والجريري، بضم الجيم وفتح الراء الأولى: سعيد بن إياس الأزدي، وسماه في رواية خالد الحذاء عنه في أوائل الأدب، وقد أخرج البخاري للعباس بن فرور والجريري
217

لكنه إذا أخرج عنه سماه، و عبد الرحمن بن أبي بكرة يروي عن أبيه أبي بكرة واسمه: نفيع، بضم النون: الثقفي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في استتابة المرتدين عن مسدد أيضا وفي الاستئذان عن علي بن عبد الله ومسدد، وفي الأدب عن إسحاق ابن شاهين، وفي استتابة المرتدين أيضا عن قيس بن حفص، وأخرجه مسلم في الإيمان عن عمرو الناقد، وأخرجه الترمذي في البر وفي الشهادات، وفي التفسير عن حميد بن مسعدة.
ذكر معناه: قوله: (ألا أنبئكم) أي: ألا أخبركم، وألا، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، للتنبيه هنا ليدل على تحقق ما بعدها. قوله: (ثلاثا) أي: قال لهم: (ألا أنبئكم) ثلاث مرات، وإنما كرره تأكيدا ليتنبه السامع على إحضار فهمه، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم إعادة حديثه ثلاثا ليفهم عنه. قوله: (الإشراك بالله)، مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأنه لا ذنب أعظم من الإشراك بالله. قوله: (وعقوق الوالدين)، إنما ذكر هذا (وقول الزور) مع الإشراك بالله، مع أن الشرك أكبر الكبائر بلا شك لأنهما يشابهانه من حيث إن الأب سبب وجوده ظاهرا وهو يريبه، ومن حيث إن المزور يثبت الحق لغير مستحقه، فلهذا ذكرهما الله تعالى حيث قال: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) * (الحج: 03). قوله: (وجلس) أي: للاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيدنا تأكيد تحريمه وعظم قبحه. قوله: (وكان متكئا)، جملة حالية. وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، لأن الحوامل عليه كثيرة: كالعداوة والحقد والحسد... وغير ذلك، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، والشرك مفسدته قاصرة، ومفسدة الزور متعدية. قوله: (ألا وقول الزور)، وفي رواية خالد عن الجريري: (ألا وقول الزور، وشهادة الزور). وفي رواية ابن علية: (شهادة الزور أو قول الزور). وقول الزور أعم من أن يكون شهادة زور أو غير شهادة، كالكذب، فلأجل ذلك بوب عليه الترمذي بقوله: باب ما جاء في التغليظ في الكذب والزور، ونحوه. ثم روى حديث أنس المذكور قبل هذا، فالكذب في المعاملات داخل في مسمى قول الزور، لكن حديث خريم بن فاتك الذي رواه أبو داود وابن ماجة من رواية حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك. قال: صلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائما فقال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله، ثلاث مرات). ثم قرأ: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به) * (الحج: 03). يدل على أن المراد بقول الزور في آية الحج: شهادة الزور، لأنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله) ثم قرأ: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) * (الحج: 03). فجعل في الحديث قول الزور المعادل
للإشراك هو شهادة الزور، لا مطلق قول الزور، وإذا عرف أن قول الزور هو الكذب. فلا شك أن درجات الكذب تتفاوت بحسب المكذوب عليه، وبحسب المترتب على الكذب من المفاسد..
وقد قسم ابن العربي الكذب على أربعة أقسام: أحدها: وهو أشدها: الكذب على الله تعالى: قال الله تعالى: * (فمن أظلم ممن كذب على الله) * (الزمر: 93). والثاني: الكذب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: وهو هو، أو نحوه. الثالث: الكذب على الناس، وهي شهادة الزور في إثبات ما ليس بثابت على أحد، أو إسقاط ما هو ثابت. الرابع: الكذب للناس، قال ومن أشده الكذب في المعاملات، وهو أحد أركان الفساد الثلاثة فيها، وهي: الكذب والعيب والغش، والكذب، وإن كان محرما، سواء قلنا كبيرة أو صغيرة، فقد يباح عند الحاجة إليه، ويجب في مواضع ذكرها العلماء. قوله: (حتى قلنا ليته سكت) إنما قالوا ذلك شفقة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكراهة لما تزعجه. فإن قلت: الحديث لا يتعلق بكتمان الشهادة، وهو مذكور في الترجمة؟ قلت: علم منه حكمه قياسا عليه، لأن تحريم شهادة الزور لإبطال الحق والكتمان أيضا فيه إبطال له، والله أعلم.
وقال إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا الجريري قال حدثنا عبد الرحمان
إسماعيل بن إبراهيم هو المشهور بابن علية، وعلية: بضم العين وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف: وهو اسم أمه، مولاة لبني أسد، والجريري مضى عن قريب، وعبد الرحمن هو ابن أبي بكرة المذكور. وهذا التعليق وصله البخاري في استتابة المرتدين، على ما يجيء بيانه، إن شاء الله تعالى.
218

11
((باب شهادة الأعماى وأمره ونكاحه وإنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره وما يعرف بالأصوات))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة الأعمى. قوله: (وأمره)، أي: وفي بيان أمره أي حاله في تصرفاته. قوله: (ونكاحه)، أي: وتزوجه بامرأة. قوله: (وإنكاحه)، أي: وتزويجه غيره. قوله: (ومبايعته)، يعني بيعه وشراءه. قوله: (وقبوله)، أي: قبول الأعمى في تأذينه. (وغيره) نحو إقامته للصلاة وإمامته أيضا أي: إذا توفي النجاسة. قوله: (وما يعرف بالأصوات)، أي: وفي بيان ما يعرف بالأصوات. قال ابن القصار: الصوت في الشرع قد أقيم مقام الشهادة، ألا ترى أنه إذا سمع الأعمى صوت امرأته فإنه يجوز له أن يطأها، والإقدام على استباحة الفرج أعظم من الشهادة في الحقوق، والإقرارات مفتقرة إلى السماع، ولا تفتقر إلى المعاينة بخلاف الأفعال التي تفتقر إلى المعاينة، وكأن البخاري أشار بهذه الترجمة إلى أنه يجيز شهادة الأعمى. وفيه خلاف نذكره عن قريب.
وأجاز شهادته قاسم والحسن وابن سيرين والزهري وعطاء
أي: أجاز شهادة الأعمى قاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق والحسن البصري ومحمد بن سيرين ومحمد بن مسلم الزهري وعطاء بن أبي رباح. وتعليق القاسم وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: سمعت الحكم ابن عتيبة يسأل القاسم بن محمد عن شهادة الأعمى، فقال: جائزة، وتعليق الحسن وابن سيرين وصله ابن أبي شيبة من طريق أشعث عن الحسن وابن سيرين قالا: شهادة الأعمى جائزة وتعليق الزهري وصله ابن أبي شيبة: حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن ابن أبي ذئب عن الزهري أنه كان يجيز شهادة الأعمى، وتعليق عطاء وصله الأثرم من طريق ابن جريج عنه، قال: تجوز شهادة الأعمى، وقال ابن حزم، صح عن عطاء أنه أجاز شهادة الأعمى.
وقال الشعبي: تجوز شهادته إذا كان عاقلا
أي: قال عامر الشعبي، ووصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن الحسن بن صالح وإسرائيل عن عيسى بن أبي عزة عن الشعبي أنه أجاز شهادة الأعمى، ومعنى قوله: (إذا كان عاقلا)، إذا كان كيسا فطنا للقرائن دراكا للأمور الدقيقة. وليس هو بقيد احترازا عن الجنون، لأن العقل لا بد منه في جميع الشهادات.
وقال الحكم رب شيء تجوز فيه
أي: قال الحكم بن عتيبة، ووصله ابن أبي شيبة عن ابن مهدي عن شعبة قال: سألت الحكم عن شهادة الأعمى فقال: رب شيء تجوز فيه. قوله: (تجوز)، على صيغة المجهول، أي: خفف فيه، وغرضه أنه قد يسامح للأعمى شهادته في بعض الأشياء التي تليق بالمسامحة والتخفيف.
وقال الزهري: أرأيت ابن عباس لو شهد على شهادة أكنت ترده؟
أي: قال محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره، وتعليقه وصله الكرابيسي في (أدب القضاء) من طريق ابن أبي ذئب عنه، وهذا يؤيد ما قاله الشعبي في الأعمى إذا كان عاقلا. وقلنا: إن معناه كان فطنا كيسا. وهذا ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، كان أفطن الناس وأذكاهم وأدركهم بدقائق الأمور في حال بصره وفي حال عماه، فلذلك استبعد رد شهادته بعد عماه.
وكان ابن عباس يبعث رجلا إذا غابت الشمس أفطر ويسأل عن الفجر فإذا قيل له طلع صلى ركعتين
أي: كان عبد الله بن عباس يبعث رجلا يمفحص عن غيبوبة الشمس للإفطار، فإذا أخبره بالغيبوبة أفطر. ووجه تعلقته بالترجمة كون ابن عباس قبل قول الغير في غروب الشمس أو طلوعها وهو أعمى، ولا يرى شخص المخبر، وإنما يسمع صوته قيل: لعل
219

البخاري يشير بأثر ابن عباس إلى جواز شهادة الأعمى على التعريف، يعني: إذا عرف أنه فلان، فإذا عرف شهد وشهادة التعريف مختلف فيها عند مالك. وكذلك البصير إذا لم يعرف نسب الشخص فعرفه نسبه من يثق به فهل يشهد على فلان ابن فلان بنسبه أو لا؟ مختلف فيه أيضا.
وقال سليمان بن يسار: إستأذنت على عائشة فعرفت صوتي قالت سليمان ادخل فإنك مملوك ما بقي عليك شيء
سليمان بن يسار ضد اليمين أبو أيوب أخو عطاء، وعبد الله وعبد الملك مولى ميمونة بنت الحارث الهلالي. قوله: (قالت سليمان) يعني: يا سليمان، وهو منادى حذف منه حرف النداء. قوله: (ما بقي عليك شيء) أي: من مال الكتابة، ولا بد في هذا من تأويل، لأن سليمان مكاتب لميمونة لا لعائشة ووجهه أن يقال: إن، على، في قول عائشة تكون بمعنى: من، أي: استأذنت من عائشة في الدخول على ميمونة، فقالت: أدخل عليها، أو لعل مذهبها أن النظر حلال إلى العبد سواء كان ملكها أو لاد، وأنها لا ترى الاحتجاب من العبد مطلقا، واستبعده بعضهم بغير دليل فلا يلتفت إليه، وقيل: يحتمل أنه كان مكاتبا لعائشة، وهو غير صحيح، لأن الأخبار الصحيحة بأنه مولى ميمونة ترده.
وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة متنقبة
متنقبة، بتشديد القاف في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره، منتقبة، بسكون النون وتقديمها على التاء المثناة من فوق، من الانتقاب، والأول من التنقب. وهي التي كان على وجهها نقاب. وفي (التلويح): هذا التعليق يخدش فيه ما رواه أبو عبد الله بن منده في (كتاب الصحابة): أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كلمته امرأة وهي متنقبة، فقال: أسفري، فإن الإسفار من الإيمان.
5562 حدثنا محمد بن عبيد بن ميمون قال أخبرنا عيساى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سمع النبي، صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم اعتمد على صوت ذلك الرجل الذي قرأ في المسجد من غير أن يرى شخصه، ومحمد بن عبيد مصغر عبد بن ميمون، مر في الصلاة، وهو من أفراده، و عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو عمرو، و هشام هو ابن عروة يروي عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة. والحديث أخرجه البخاري أيضا في فضائل القرآن عن محمد بن عبيد المذكور أيضا. قوله: (اسقطتهن) أي: نسيتهن.
وزاد عباد بن عبد الله عن عائشة تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال يا عائشة لصوت عباد هاذا قلت: نعم قال: أللهم ارحم عبادا
عباد بفتح العين وتشديد الباء الموحدة: ابن عبد الله بن الزبير بن العوام التابعي، مر في الزكاة، وهذه الزيادة التي هي التعليق وصلها أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: تهجد النبي، صلى الله عليه وسلم في بيتي وتهجد عباد بن بشر في المسجد، فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم صوته، فقال: يا عائشة (هذا عباد بن بشر؟) فقلت: نعم قال (اللهم ارحم عبادا).
قوله: (تهجد النبي صلى الله عليه وسلم)، من الهجود وهو من الأضداد يقال: تهجد بالليل إذا صلى، وتهجد إذا نام، وقال ابن الأثير: يقال: تهجدت إذا سهرت وإذا نمت، فهو من الأضداد. قوله: (فسمع صوت عباد)، وهو عباد بن بشر الأنصاري الأشهلي، شهد بدرا وأضاءت له عصاه لما خرج من عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال الزهري: استشهد يوم اليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، ولا يظن أن عبادا الذي في قوله: فسمع صوت عباد، هو عباد بن عبد الله
220

بن الزبير، وقد ميز بينهما في رواية أبي يعلى، فعباد بن بشر صحابي جليل، وعباد بن عبد الله تابعي من وسط التابعين، قال الكرماني: وفي بعض النسخ: فسمع صوت عباد بن تميم، وهو سهو. قوله: (لصوت عباد هذا؟)، فقوله: هذا، مبتدأ و: لصوت عباد، مقدما خبره، واللام فيه للتأكيد.
وفيه: جواز رفع الصوت في المسجد بالقراءة في الليل. وفيه: الدعاء لمن أصاب الإنسان من جهته خيرا وإن لم يقصده ذلك الإنسان. وفيه: جواز النسيان على النبي، صلى الله عليه وسلم فيما قد بلغه إلى الأمة.
6562 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة قال أخبرنا ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن أو قال حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم رجلا أعماى لا يؤذن حتى يقول له الناس أصبحت.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنهم كانوا يعتمدون على صوت الأعمى. والحديث قد مضى في: باب أذان الأعمى. وفي باب الأذان بعد الفجر، وفي: باب الأذان قبل الفجر، وقد مضى الكلام فيه هناك.
7562 حدثنا زياد بن يحيى قال حدثنا حاتم بن وردان قال حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما قال قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية فقال لي أبي مخرمة انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئا فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قباء وهو يريه محاسنه وهو يقول خبأت هاذا لك خبأت هاذا لك..
مطابقته للترجمة من حيث إن النبي، صلى الله عليه وسلم اعتمد على صوت مخرمة قبل أن يرى شخصه، وزياد، بكسر الزاي وتحفيف الياء آخر الحروف: ابن يحيى بن زياد أبو الخطاب البصري، مات سنة أربع وخمسين ومائتين، وحاتم بن وردان على وزن فعلان من الورود أبو صالح البصري، مات سنة أربع وثمانين ومائة.
والحديث مضى في كتاب الهبة في: باب كيف يقبض العبد والمتاع، ومقصود البخاري من هذه الترجمة ومن الأحاديث التي أوردها فيها بيان جواز شهادة الأعمى. وقال الإسماعيلي: ليس في جميع ما ذكره دلالة على قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى إثبات الأعيان، أما نكاح الأعمى فإنه في نفسه، لأنه في زوجته وأمته لا لغيره فيه.
وأما ما رواه في التأذين فقد أخبر أنه كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت، وكفى بخبر سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم شاهدا له، فإنه لا يؤذن حتى يصبح، والاعتماد على الجمع الذي يخبرونه بالوقت. وأما ما قاله عن الزهري في ابن عباس فهو تأويل لا احتجاج. وأما ما ذكر من سماع النبي، صلى الله عليه وسلم قراءة رجل بيان أن كل صائت، وإن لم ير مصوته، يعرف بصوته. وإما ما ذكره من قصة مخرمة فإنما يريه محاسن الثوب مسا لا إبصارا له بالعين.
قال صاحب (التلويح): وفيه نظر من حيث إن الجماعة الذين ذكرهم البخاري أجازوا شهادة الأعمى، فهو دليل البخاري. انتهى. وقال ابن حزم: شهادة الأعمى مقبولة كالصحيح، روي ذلك عن ابن عباس، وصح عن الزهري وعطاء والقاسم والشعبي وشريح وابن سيرين والحكم بن عتيبة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريج وأحد قولي الحسن وأحد قولي إياس بن معاوية وأحد قولي ابن أبي ليلى وهو قول مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبي سليمان وأصحابنا.
وقالت طائفة: تجوز شهادته فيما عرف قبل العمى ولا تجوز فيما عرف بعد العمى، وهو أحد قولي الحسن وأحد قولي ابن أبي ليلى. وهو قول أبي يوسف والشافعي وأصحابه. وقالت طائفة: تجوز في الشيء اليسير، روي ذلك عن النخعي. وقالت طائفة: لا تقبل في شيء أصلا إلا في الأنساب وهو قول زفر، وعند أبي حنيفة لا تقبل في شيء أصلا.
وفي (التوضيح): فحصلنا فيه على ستة مذاهب: المنع المطلق،
221

والجواز المطلق، والجواز فيما طريقه الصوت دون البصر، والفرق بين ما علمه قبل وبين ما عمله بعد، والجواز اليسير، والجواز في الأنساب خاصة.
21
((باب شهادة النساء))
أي: هذا باب في بيان جواز شهادة النساء.
وقول الله تعالى * (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * (البقرة: 282).
ذكر هذه القطعة من الآية لأنها تدل على جواز شهادة النساء مع الرجال، وقال ابن بطال: أجمع أكثر العلماء على أن شهادتهن لا تجوز في الحدود والقصاص. وهو قول ابن المسيب والنخعي والحسن والزهري وربيعة ومالك والليث والكوفيين والشافعي وأحمد وأبي ثور. واختلفوا في النكاح والطلاق والعتق والنسب والولاء، فذهب ربيعة ومالك والشافعي وأبو ثور إلى: أنه لا تجوز في شيء من ذلك كله مع الرجال، وأجاز شهادتهن في ذلك كله مع الرجال الكوفيون، واتفقوا أنه: تجوز شهادتهن منفردات في الحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء، وما لا يطلع عليه الرجال من عوراتهن للضرورة. واختلفوا في الرضاع، فمنهم من أجاز شهاداتهن منفردات، ومنهم من أجازها مع الرجال، وقال أصحابنا: يثبت الرضاع بما ثبت به المال، وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، ولا تقبل شهادة النساء المنفردات، وعند الشافعي: يثبت بشهادة أربع نسوة وعند مالك: بامرأتين. وعند أحمد: بمرضعة فقط. وفي (الكافي): أنه لا فرق بين أن يشهد قبل النكاح أو بعده. انتهى. واختلفوا في عدد من يجب قبول شهادته من النساء على ما لا يطلع عليه الرجال. فقالت طائفة: لا تقبل أقل من أربع، وهذا قول أهل البيت والنخعي وعطاء بن أبي رباح وهو رأي الشافعي وأبي ثور. وقالت طائفة: تجوز شهادة امرأتين على ما لا يطلع عليه الرجال، وبه قال مالك وابن شبرمة وابن أبي ليلى، وعن مالك: إذا كانت مع القابلة امرأة أخرى فشهادتها جائزة، وروي عن الشعبي أنه أجاز شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال، وعن مالك: أرى أن تجوز شهادة المرأتين في الدين مع يمين صاحبه، وعن الشافعي: يستحلف المدعى عليه ولا يحلف المدعي مع شهادة المرأتين. وقالت طائفة لا تجوز شهادة النساء إلا في موضعين في: المال، وحيث لا يرى الرجال من عورات النساء.
8562 حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلنا بلى قال فذلك من نقصان عقلها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وابن أبي مريم هو سعيد بن محمد بن أبي مريم الجمحي المصري، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وزيد هو ابن أسلم، وأبو سعيد الخدري اسمه: سعد بن مالك، والحديث مضى بأتم منه في كتاب الحيض في: باب ترك الحائض الصوم، ومر الكلام فيه هناك.
31
((باب شهادة الإماء والعبيد))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة الإماء وهو جمع: أمة، والعبيد جمع: عبد، وحكمه أن شهادتهم لا تقبل مطلقا عند الجمهور، وعند أحمد وإسحاق وأبي ثور: تقبل في الشيء اليسير، وهو قول شريح والنخعي والحسن.
وقال أنس شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا
هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن المختار بن فلفل، قال: سألت أنسا عن شهادة العبيد؟ فقال: جائزة وفي الإشراف: وما علمت أحدا رد شهادة
العبد.
222

وأجازه شريح وزرارة بن أوفى
أي: أجاز حكم شهادة العبد شريح هو القاضي، وزرارة، بضم الزاي وتخفيف الراء: ابن أوفى بوزن أفعل التفضيل أو أفعل من الماضي الثلاثي المزيد فيه العامري قاضي البصرة، وتعليق شريح أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن أبي زائدة عن أشعث عن عامر: أن شريحا أجاز شهادة العبد. وأما التعليق عن زرارة فذكره ابن حزم محتجا به، ولا يحتج إلا بصحيح.
وقال ابن سيرين: شهادته جائزة إلا العبد لسيده
أي: قال محمد بن سيرين: شهادة العبد جائزة، ووصله عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عنه بلفظ: إنه كان لا يرى بشهادة المملوك بأسا إذا كان عدلا.
وأجازه الحسن وإبراهيم في الشيء التافه
أي: أجاز حكم شهادة العبد الحسن البصري وإبراهيم النخعي في الشيء التافه أي الحقير، وهو بالتاء المثناة من فوق وبالفاء المكسورة والهاء. وتعليق الحسن وصله ابن أبي شيبة، عن معاذ بن معاذ عن أشعث الحمراني عنه من غير ذكر التافه، وتعليق إبراهيم، رضي الله تعالى عنه، أخرجه أيضا عن وكيع عن سفيان عن منصور عن إبراهيم بلفظ: كانوا يجيزونها في الشيء الطفيف.
وقال شريح كلكم بنو عبيد وإماء
كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن السكن: كلكم عبيد وإماء، ووصله ابن أبي شيبة من طريق عمار الذهبي: سمعت شريحا شهد عنده عبد فأجاز شهادته، فقيل: إنه عبد. فقال كلنا عبيد وأمنا حواء عليها السلام.
وللعلماء في شهادة العبد ثلاثة أقوال: أحدها: جوازها كالحر، وروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، كقول أنس وشريح، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور. وثانيها: جوازها في الشيء التافه، روي عن الشعبي كقول الحسن والنخعي. وثالثها: لا يجوز في شيء أصلا، روي عن عمر وابن عباس، وهو قول عطاء ومكحول، وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة والشافعي: فإن قلت: كل من جاز قبول خبره جاز قبول شهادته كالحر. قلت: لا نسلم، فإن الخبر قد سومح فيه ما لم يسامح في الشهادة، لأن الخبر يقبل من الأمة منفردة ومن العبد منفردا ولا تقبل شهادتهما منفردين، والعبد ناقص عن رتبة الحر في أحكام، فكذلك في الشهادة، ومذهب ابن حزم الجواز، فإن شهادة العبد والأمة مقبولة في كل شيء لسيده أو لغيره كشهادة الحر والحرة، ولا فرق.
9562 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث ح وحدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال سمعت ابن أبي مليكة قال حدثني عقبة بن الحارث أو سمعته منه أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب قال فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذالك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني قال فتنحيت فذكرت ذلك له قال وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما فنهاه عنها.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن الأمة المذكورة لو لم تكن شهادتها مقبولة ما عمل بها، ولذلك أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عقبة بفراق امرأته بقول الأمة المذكورة، ثم إنه أخرج الحديث المذكور من طريقين: الأول: عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث. والثاني: عن علي بن عبد الله المعروف بابن المديني عن يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج... إلى آخره، وقد مضى الحديث في
223

كتاب العلم في: باب الرحلة في المسألة النازلة، وقد مر الكلام فيه هناك وأجاب الإسماعيلي عن حديث الباب، فقال: قد جاء في بعض طرقه: فجاءت مولاة لأهل مكة، قال: وهذا اللفظ يطلق على الحرة التي عليها الولاء، فلا دلالة فيه على أنها كانت رفيقة، ورد عليه بأن رواية حديث الباب فيه التصريح بأنها أمة، فتعين أنها ليست بحرة.
41
((باب شهادة المرضعة))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة المرضعة.
0662 حدثنا أبو عاصم عن عمر بن سعيد عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث قال تزوجت امرأة فجاءت امرأة فقالت إني قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال وكيف وقد قيل دعها عنك أو نحوه.
.
هذا الطريق عن أبي عاصم عن عمر بن سعيد بن حسين النوفلي القرشي المكيد، وفي الباب الذي قبله: أبو عاصم عن ابن جريج، كلاهما عن ابن أبي مليكة، فكان لأبي عاصم فيه شيخان، وفي (سنن الدارقطني): له شيخان آخران فيه، رواه عن محمد بن يحيى عن أبي عاصم عن أبي عامر الخزاز ومحمد بن سليم، كلاهما عن ابن أبي مليكة أيضا، فصار لأبي عاصم أربعة من الشيوخ كلهم يروون عن ابن أبي مليكة، وأبو عاصم يروي عنهم. قوله: (دعها) أي: اتركها بعيدة متجاوزة عنك.
51
((باب تعديل النساء بعضهن بعضا))
أي: هذا باب في بيان حكم تعديل النساء بعضهم بعضا في أمر قضية، وهذه الترجمة هكذا من غير رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر زاد قبل الباب حديث الإفك، ثم قال: باب الإفك، بكسر الهمزة: الكذب.
1662 حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود فأفهمني بعضه أحمد قال حدثنا فليح بن سليمان عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص الليثي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الأفك ما قالوا فبرأها الله منه قال الزهري وكلهم حدثني طائفة من حديثها وبعضهم أوعاى من بعض وأثبت له اقتصاصا وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا زعموا أن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بينن في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيهه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العلقة من الطعام فلم
224

يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت منزلي الذي كنت به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعظل السلمي ثم الذكواتي من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطىء يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا معرسين في نحر الظهيرة فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون من قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أراى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أراى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم ثم يقول كيف تيكم لا أشعر بشيء من ذالك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع متبرزنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذالك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رهم نمشي فعثرت في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا فقالت يا هنتاه ألم تسمعي ما قالوا فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم فقال كيف تيكم فقلت إئذن لي إلى أبوي قالت وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبوي فقلت لأمي ما يتحدث به الناس فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت سبحان الله ولقد يتحدث الناس بهاذا قالت فبت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم فقال أسامة أهلك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعلم والله إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك فقالت بريرة لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام
225

سعد بن معاذ قال يا رسول الله أنا والله أعذرك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من أخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذالك رجلا صالحا ولاكن احتملته الحمية فقال كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذالك فقام أسيد بن الحضير فقال كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا وسكت وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي قد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينا نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل قبلها وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني شيء قالت فتشهد ثم قال يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة وقلت لأبي أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قالت والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن فقلت إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت إني بريئة والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذالك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال * (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * (يوسف:. 1). ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله ولكن والله ما ظننت أن ينزل في شأني وحيا ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم
بالقرآن في أمري ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله فقالت لي أمي قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله فأنزل الله تعالى إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم الآيات فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه والله لا أنفق على مسطح شيئا
226

أبدا بعد ما قال لعائشة فأنزل الله تعالى * (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة) * إلى قوله * (غفور رحيم) * (النور: 22). فقال أبو بكر الصديق بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح الذي كان يجدي عليه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري فقال يا زينب ما علمت ما رأيت فقالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيرا قالت وهي التي كانت تساميني فعصمها الله بالورع.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه سؤال النبي، صلى الله عليه وسلم بريرة وزينب بنت جحش عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، وثناء كل منهما عليها بخير، وهذا تعديل وتزكية عن بعض النساء لبعض.
ذكر رجاله وهم تسعة: الأول: أبو الربيع سليمان بن داود العتكي، مات في آخر سنة إحدى وثلاثين ومائتين، مر في الإيمان. الثاني: أحمد، وقد اختلف فيه، ففي (أصل) الدمياطي: هو أحمد بن يونس، وقال الكرماني وفي بعض النسخ: أحمد بن يونس، أي: أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي المشهور بشيخ الإسلام، مر في الوضوءد، وكذا قال خلف في (أطرافه): إنه أحمد بن عبد الله بن يونس، ووهمه المزي ولم يبين سببه، وزعم ابن خلفون أن أحمد هذا هو: أحمد بن حنبل، وقال الذهبي في (طبقات الفراء): هو أحمد بن النضر النيسابوري. الثالث: فليح، بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان بن المغيرة، وكان اسمه عبد الملك، ولقبه فليح فغلب على اسمه واشتهر به، يكنى أبا يحيى الخزاعي، ويقال الأسلمي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: سعيد بن المسيب، بفتح الياء المشددة وكسرها. السابع: علقمة بن وقاص الليثي العتواري. الثامن: عبيد الله بتصغير العبد ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الهذلي، أحد الفقهاء السبعة. التاسع: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: فأفهمني بعضه أحمد، إنما قال بهذه العبارة ولم يقل: حدثني، ولا: أخبرني، ونحو ذلك إشعارا أنه أفهمه بعض معاني الحديث ومقاصده لا لفظه. قوله: فأفهمني، جملة من الفعل والمفعول، وأحمد مرفوع على الفاعلية، وبعضه منصوب لأنه مفعول ثان. وفيه: أن شيخه بصري، وبقية الرواة مدنيون. وفيه: خمسة من التابعين متوالية. وفيه: أن فليحا روى عن الزهري وأن الزهري روى عن هؤلاء الأربعة. وفيه: رواية التابعي عن جماعة من التابعين.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي وفي التفسير وفي الأيمان والنذور وفي الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله وفي الجهاد والتوحيد وفي الشهادات وفي المغازي وفي التفسير وفي الأيمان والنذور عن حجاج بن منهال وفي التفسير والتوحيد أيضا عن يحيى بن بكير عن الليث، وأخرجه مسلم في التوبة عن أبي الربيع الزهراني وعن حبان بن موسى وعن حسن الحلواني وعبد بن حميد وعن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع ومحمد بن حميد، وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن أبي داود سليمان بن سيف الحراني، وفي التفسير عن محمد بن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (أهل الإفك) قال السهيلي في قوله عز وجل: * (إن الذين جاؤوا بالإفك) * (النور: 11). هم: عبد الله ابن أبي وحمنة بنت جحش وعبد الله أبو أحمد أخوها ومسطح وحسان، وقيل: حسان لم يكن منهم، وقال النسفي، في هذه الآية: أهل الإفك هم: عبد الله ابن أبي رأس المنافقين ويزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم وفي (صحيح مسلم): وكان الذين تكلموا: مسطح وحمنة وحسان، وأما المنافق عبد الله بن أبي، فهو الذي كان يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره، وحمنة. قوله: (يتسوشيه، أي: يستخرجه بالبحث والمسألة، ثم يفشيه ويشيعه ويحركه ولا يدعه يخمد. وقال النسفي: في قوله تعالى: * (والذي تولى كبره) * (النور: 11). هو عبد الله بن أبي، أي: الذي تولى عظمه وبدأ به ومعظم الشركان منه، قال الله تعالى: * (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) * (النور: 11). لإمعانه في عداوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وانتهازه الفرص وطلبه سبيلا إلى الغميزة، ثم قال
227

النسفي: وقيل: الذي تولى كبره هو حسان بن ثابت، وعن عامر الشعبي: أن عائشة قالت، ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان: وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة. قوله لأبي سفيان:
* هجوت محمدا فأجبت عنه
* وعند الله في ذاك الجزاء
*
وهو من قصيدة قالها لأبي سفيان، فقيل لعائشة: يا أم المؤمنين: أليس الله يقول: * (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) * (النور: 11). فقالت وأي عذاب أشد من العمى؟ فذهب بصره وكيع بسيف، وكان يدفع عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأما الإفك، فقال النسفي: الإفك أبلغ ما يكون من الافتراء والكذب،
وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك، وأصله: الإفك، بالفتح مصدر قولك: أفكه يأفكه أفكا. قلبه وصرفه عن الشيء، ومنه قوله تعالى: * (أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) * (الأحقاف: 22). وقيل للكذب: إفك، لأنه مصروف عن الصدق. قوله: (وقال الزهري: وكلهم حدثني طائفة...) أي: بعضا، هذا قول جائز سائغ من غير كراهة، لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم. والأربعة الذين حدثوه أئمة حفاظ من أجلة التابعين، فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو عن ذاك لم يضر، وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو قال: حدثني زيد أو عمر وهما ثقتان معروفان بذلك عند المخاطب جاز الاحتجاج بذلك الحديث. قوله: (أوعى من بعض) أي: أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث. قوله: (اقتصاصا) أي: حفظا، يقال: قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئا بعد شيء، ومنه: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3). * (قالت لأخته قصية) * (القصص: 11). أي: اتبعي أثره، ومنه القاص الذي يأتي بالقصة ويجوز بالسين: قسست، أثره قسا. قوله: (وقد وعيت)، بفتح العين. أي: حفظت. وقال الكرماني: فإن قلت: قال أولا كلهم: حدثني طائفة، وثانيا: وعيت عن كل واحد منهم... الحديث، وهما متنافيان؟ قلت: المراد بالحديث البعض الذي حدثه منه، إذ الحديث يطلق على الكل وعلى البعض، وهذا الذي فعله الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز، وقد ذكرناه. قوله: (وبعض حديثهم)، القياس أن يقال: بعضهم يصدق بعضا، أو حديث بعضهم يصدق بعضا، ولكن لا شك أن المراد ذلك. لكن قد يستعمل أحدهما مكان الآخر لما بينهما من الملازمة بحسب عرف الاستعمال. قوله: (زعموا)، أي: قالوا، والزعم قد يراد به القول المحقق الصريح. وقد يراد غير ذلك، وإنما قالوا لأن بعضهم صرحوا بالبعض، وبعضهم صدق الباقي، وإن لم يقل صريحا به. قولها: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا)، وفي رواية مسلم: ذكروا أن عائشة قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا. قولها: (أقرع بين أزواجه) أي: ساهم بينهن تطييبا لقلوبهن. وكيفية القرعة بالخواتيم، يؤخذ خاتم هذا وخاتم هذا ويدفعان إلى رجل فيخرج منهما واحدا. وعن الشافعي يجعل رقاعا صغارا يكتب في كل واحد اسم ذي السهم، ثم يجعل بنادق طين ويغطي عليها ثوب، ثم يدخل رجل يده فيخرج بندقة وينظر من صاحبها، فيدفعها إليه. وقال أبو عبيد بن سلام: عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام نبينا: ويونس، وزكرياء، عليهم الصلاة والسلام. قولها: (فأيتهن خرج سهمها أخرج بها معه). كذا هو: أخرج، بالألف في رواية النسفي، ولأبي ذر عن غير الكشميهني، وفي رواية الكشميهني والباقين: خرج، بلا ألف، وهو الصواب. قولها: (في غزاة غزاها)، هي غزوة بني المصطلق، وكانت سنة ست، كذا جزم به ابن التين، وقال غيره: في شعبان سنة خمس، وتعرف أيضا بغزوة المريسيع، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، فهذه ثلاثة أقوال. قولها: (فأنا أحمل) على صيغة المجهول، قولها: (في هودج) بتح الهاء وسكون الواو وبفتح الذال المهملة وفي آخره جيم وهو مركب من مراكب العرب أعد النساء قولها سش
(وقفل)، أي: رجع. قولها: (آذن ليلة)، من الإيذان ومن التأذين. قاله الكرماني، ويقال: آذن بالمد والتخفيف مثل قوله: * (فقل آذنتكم على سواء) * (الأنبياء: 901). وروي بالقصر وبالتشديد، أي: إعلم، قولها: (بالرحيل)، بالجر على الأصل، ويروى: الرحيل، بالنصب حكاية عن قولهم: الرحيل، منصوبا على الإغراء. قولها: (شأني) أي: ما يتعلق بقضاء الحاجة، وهو ما يكنى عنه استقباحا لذكره. قولها: (إلى الرحل)، قال الكرماني: الرحل: المتاع. قلت: الرحل المنزل والمسكن، يقال: انتيهنا إلى رحالنا أي: إلى منازلنا. قولها: (فإذا عقد)، كلمة: إذا، للمفاجأة، والعقد، بكسر العين وسكون القاف: القلادة. قولها: (من جزع أظفار)، الجزع، بفتح الجيم وسكون الزاي: خرز يمان، وزعم أبو العباس أحمد ابن يوسف التيفاشي في كتابه (الأحجار): أنه يوجد في اليمن في معادن العقيق، ومنه ما يؤتى به من الصين، وهو أصناف فمنه
228

البقراني والغروي والفارسي والحبشي والعسلي والمعرق، وليس في الحجارة أصلب من الجزع جسما لا يكاد يجيب من يعالجه سريعا، وإنما يحسن إذا طبخ بالزيت، وزعمت الفلاسفة أنه يشتق من اسمه: الجزع، لأنه يولد في القلب جزعا، ومن تقلد به كثرت همومه ورأى أحلاما رديئة وكثر الكلام بينه وبين الناس، وإن علق على طفل كثر لعابه وسال، وإن لف في شعر المطلقة ولدت. ويقطع نفث الدم ويختم القروح. وعند البكري: ومنه جزع يعرف بالنقمي ومعدنه بضمير وسعوان وعذيقة ومخلاف حولان والجزع السماوي وهو العشاري، وقال ثعلب في (الفصيح): والجزع الخرز، وقال ابن درستويه: ليس كل الخرز يسمى جزعا، وإنما الجزع منها المجزع أي: المقطع بالألوان المختلفة، قد قطع سواده ببياضه. وفي (المنضد) لكراع عن الأثرم: أهل البصرة يقولون: الجزع والجزع، بالفتح والكسر: الخرز، وقال أبو القاسم التميمي في كتابه (المستطرف) عن بندار: الجزع واحد لا جمع له. وقال الحربي وابن سيده: الجزع الخرز، واحدته جزعة. قولها: (أظفار)، بالألف في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: ظفار، بلا ألف وكذا وقع في (صحيح مسلم) بلا ألف. وقال القرطبي: من قيده بألف أخطأ وصحيح الرواية بفتح الظاء. وقال ابن السكيت: ظفار قرية باليمن، وعن ابن سعد: جبل، وفي (الصحاح): مبني على الكسر كقطام. وقال البكري: قال بعضهم: سبيلها سبيل المؤنث لا ينصرف. وقال ابن قرقول: ترفع وتنصب، وقال أبو عبيد: وقصر المملكة بظفار قصر ذي ريدان، ويقال: إن الجن بنتها. وقال الكرماني ظفار، بفتح المعجمة وخفة الفاء وبالراء: مدينة باليمن، ويقال: جزع ظفاري وفي بعضها أظفار، بزيادة همزة في أولها نحو الأظفار جمع الظفر، ولعله سمي به لأن الظفر نوع من العطر، أو لأنه ما اطمأن من الأرض، أو لأن الأظفار اسم لعود يمكن أن يجعل كالخرز فيتحلى به. انتهى. وقال ابن التين في بعض الروايات: العقد الملتمس مقدار ثمنه اثني عشرة درهما. قولها: (يرحلون لي)، باللام. وقال النووي: يرحلون بي، بالباء واللام أجود. قلت: باللام في مسلم، و: يرحلون، بفتح الياء وسكون الراء وفتح الحاء المخففة وهو معنى قولها: فرحلوه، بتخفيف الحاء أيضا من: رحلت البعير، أي: شددت عليه الرحل. ويروى: (من الرحيل). قولها: (إذ ذاك)، أي: حينئذ (لم يثقلن)، أي: من اللحم. قولها: (ولم يغشهن اللحم) أي: لم يركب عليهن اللحم، يعني: لم يكن سمينات. وعند مسلم: (وكان النساء إذ ذاك خفافا
لم يهبلن ولم يغشهن اللحم). يقال: هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه. قولها: (وإنما يأكلن العلقة)، بضم العين المهملة وسكون اللام وبالقاف، أي: القليل، ويقال لها أيضا: البلغة، كأنه الذي يمسك الرمق وتعلق النفس للإزدياد منه، أي: تشوقها إليه. وقال صاحب (العين): العلقة ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغداة، وأصل العلقة شجر يبقى في الشتاء يعلق به الإبل، أي تجتزىء به حتى يدرك الربيع، وقيل: ما يمسك به المرء نفسه من الأكل. وقيل: هو ما يأكله من الغداة. قولها: (فبعثوا الجمل) أي: أثاروه. قولها: (ما استمر الجيش)، أي: ذهب ومضى. قاله الداودي، ومنه قوله تعالى: * (سحر مستمر) * (القمر: 2). أي: ذاهب، أو معناه: دائم أو قوي شديد، وليس فيه أحد. وفي رواية مسلم: (وليس بها داع ولا مجيب). قولها: (فأممت)، أي: قصدت، من أم. ومنه: * (آمين البيت الحرام) * (المائدة: 2). قال ابن التين: فعلى هذا يقرأ، أممت، بالتخفيف وإن شددت في بعض الأمهات، وذكره في المغازي، بلفظ: (فتيممت منزلي)، والمعنى واحد. قولها: (فظننت)، الظن هنا بمعنى العلم. قولها: (فبينا أنا)، أصله: بين، فأشبعت فتحة النون فصارت ألفا، وهو مضاف إلى الجملة التي بعده (وغلبتني) جوابه قولها: (وكان صفوان بن المعطل السلمي) صفوان، إما من: الصفا، أو من: صفن، ففي الأول النون زائدة، و: المعطل، بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد الطاء المهملة: ابن وبيصة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهنة بن سليم، ذكره الكلبي وغيره، ونسبه خليفة: رحيضة، موضع، وبيصة، وفي محارب محاربي. قولها: (السلمي)، بضم السين المهملة وفتح اللام، نسبة إلى سليم المذكور في نسبه، وهو من شواذ النسب، لأن القياس فيه: السليمي. قولها: (ثم الذكواني)، بفتح الذال المعجمة: نسبة إلى ذكوان المذكور في نسبه، وكان صفوان على الساقة يلتقط ما يسقط من متاع الجيش ليرده إليهم، وقيل: إنه كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتحل الناس، وقد جاء في (سنن أبي داود) (شكت امرأته ذلك منه لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا أهل بيت نوم عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس).
229

وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أنه كان حصورا لم يكشف كنف أنثى قط، وفي (سير))
: لقد سئل عن صفوان فوجدوه لا يأتي النساء، وأول مشاهده المريسيع، وذكر الواقدي أنه شهد الخندق وما بعدها، وكان شجاعا خيرا شاعرا، وعن ابن إسحاق: قتل في غزوة أرمينية شهيدا سنة تسع عشرة، وقيل: توفي في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين واندقت رجله يوم قتل فطاعن بها وهي منكسرة حتى مات، ولما ضرب حسان بن ثابت بسيفه لما هجاه ولم يقتصه منه سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم استوهب من حسان جنايته، فوهبه لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعوضه منها حائطا من نخيل، وزعم ابن إسحاق وأبو نعيم: أنه بيرحاء، وسيرين أخت مارية، قيل: فيه نظر لأن بيرحاء إنما وصل لحسان من جهة أبي طلحة، وفي (الاكتفاء) لأبي الربيع سليمان بن سالم: روي من وجوه أن إعطاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم لحسان سيرين إنما كان لذبه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قولها: (فرأى سواد إنسان) أي: شخصه. قولها: (وكان يراني قبل الحجاب) أي: قبل حجاب البيوت، وآية الحجاب نزلت في زينب، رضي الله تعالى عنها. قولها: (واستيقظت من نومي) أي: تنبهت من نومي. قولها: (باسترجاعه)، أي: بقوله: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (البقرة: 651). وفي رواية مسمل: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فحمرت وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فركبتها. قولها: (حين أناخ راحلته)، هكذا هو في رواية الأكثرين بكلمة: حين، بمعنى: الوقت، وفي رواية الكشميهني والنسفي: حتى أناخ راحلته. قولها: (فوطىء يدها)، أي: فوطىء صفوان يد الراحلة ليسهل الركوب عليها فلا يكون احتياج إلى مساعدة. قولها: (يقود بي)، جملة حالية. قولها: (حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا معرسين)، أي: حال كونهم معرسين، من التعريس، وهو النزول. قاله ابن بطال، والمشهور أن التعريس هو النزول في آخر الليل، ولم يجئ المعنى ههنا إلا على قول أبي زيد، فإنه قاله: التعريس: النزول أي: وقت كان، ومن هذا أخذ ابن بطال حيث أطلق النزول، وفي رواية مسلم: بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، وكذا ذكره البخاري في المغازي والتفسير، قال القرطبي: الرواية الصحيحة بالغين المعجمة والراء المهملة من الوغرة بسكون الغين، وهي شدة الحر، ورواه مسلم من رواية يعقوب بن إبراهيم بعين مهملة وزاي، ويمكن أن يقال فيه: هو من وعزت إليه، أي: تقدمت، يقال: وعزت إليه وعزا، مخففا، ويقال: وعزت إليه توعيزا بالتشديد، قال: وصحفه بعضهم فقال: موعرين، يعني بعين مهملة وراء. قال: ولا يلتفت إليه، وفي رواية أبي ذر: مغورين، بغين معجمة مقدمة، والتغوير النزول للقائلة. قولها: (في نحر الظهيرة) وهو وقت القائلة وشدة الحر والنحر الأول والصدر وأوائل الشهر تسمى النحور. وقال الداودي: الظهيرة نصف النهار عند أول الفيء، قال: وقيل: الظهر والظهير لما بعد نصف النهار لأن الظهر آخر الإنسان، وسمي آخر الشهر بذلك، ولا نسلم له، لأن أول اشتداد الحر قبل نصف النهار، قولها: (وهلك من هلك) أي: هلك الذين اشتغلوا بالإفك، وفي رواية مسلم: وهلك من هلك في شأني. قولها: (وكان الذي تولى الإفك) أي: تصدر وتصدى، وفي رواية مسلم: وكان الذي تولى كبره (عبد الله بن أبي بن سلول) وابن سلول بالرفع صفة لعبد الله لا لأبي، ولهذا يكتب بالألف، و: سلول، بفتح السين المهملة وتخفيف اللام الأولى غير منصرف علم لأم عبد الله. قولها: (فاشتكيت) أي: مرضت. قولها: (بها) أي: بالمدينة. قولها: (شهرا)، أي: مدة شهر. قولها: (فيفيضون)، وفي رواية مسلم: والناس يفيضون، بضم الياء، من الإفاضة وهي التكثير والتوسعة، يقال: أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه يخوضون، وهو من قوله: * (لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم) * (النور: 41). وقال ابن عرفة: حديث مفاض ومستفاض ومستفيض في الناس، أي: جار فيهم وفي كلامهم. قولها: (ويريبني) بفتح الياء وضمها، فالأول من، رابني، والثاني، من: أرابني، يقال: رابني الأمر يريبني: إذا توهمته وشككت فيه فإذا استيقنته قلت: رابني منه كذا يريبني، وعن الفراء: هما بمعنى واحد في الشك. وقال صاحب (المنتهى): الاسم الريبة بالكسر، وأرابني ورابني إذا تخوفت عاقبته، وقيل: رابني إذا علمت به الريبة، وأرابني إذا ظننت به، وقيل: رابني إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، ويقول هذيل: أرابني وأراب إذا أتى بريبة، وراب: صار ذا ريبة، وقال أبو
محمد في (الواعي) رابني أفصح. قولها: (اللطف)، بضم اللام وسكون الطاء. وقال النووي: ويقال بفتحها لغتان، وهو البر والرفق،
230

وفي رواية مسلم: إني لا أعرف من رسول الله، صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أري منه. قولها: (حين أمرض)، على صيغة المجهول من التمريض، وهو القيام على المريض في مرضه. قولها: (تيكم) بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف، وهو إشارة إلى المؤنث نحو: ذاكم إلى المذكر. قولها: (حتى نقهت) بفتح القاف، ذكره ثعلب، وبالكسر ذكره الجوهري، هو من: نقه فهو ناقة، وهو الذي برئ من المرض، وهو قريب عهد به لم يتراجع إليه كمال صحته. وقال النووي: يقال: نقه ينقه نقوها فهو ناقة، ككلح يكلح كلوحا فهو كالح، ونقه ينقه كفرح يفرح فرحا، وجمع الناقة: نقه، بضم النون وتشديد القاف، وأنقهه الله. قولها: (قبل المناصع)، بكسر القاف أي: جهة المناصع بفتح الميم، وهي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها، الواحد منصع، وقال الأزهري: أراه موضعا بعينه خارج المدينة، وهو في الحديث: (صعيد أفيح خارج المدينة) وقال ابن السكيت: المناصع في اللغة المجالس. قولها: (متبرزنا)، بفتح الراء المشددة وبالزاي، وهو الموضع الذي يتبرزون فيه أي: يقضون فيه حاجتهم، والبراز اسم ذلك الموضع أيضا. قولها: (الكنف)، بضم الكاف والنون، جمع: كنيف، قال أهل اللغة: الكنيف الساتر مطلقا، وسمي به موضع الغائط لأنهم يستترون به. قولها: (وأمرنا أمر العرب الأول)، يعني في التبرز خارج المدينة. وقال النووي: ضبط الأول بوجهين: أحدهما: ضم الهمزة وتخفيف الواو، والآخر: بفتح الهمزة وتشديد الواو، وكلاهما صحيح. قولها: (أو في التنزه)، شك من الراوي في طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء وفي رواية مسلم: (وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه)، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. قولها: (وأم مسطح بنت أبي رهم)، وفي رواية مسلم: (فانطلقت أنا وأم مسطح)، وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأما ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب. انتهى. و: مسطح، بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة، واسم أمه: سلمى بنت أبي رهم، وذكر أبو نعيم فيما نقل من خطه: أن اسمها رائطة بنت صخر أخت أم الصديق، وأبو رهم، بضم الراء وسكون الهاء، وهي زوجة أثاثة، بضم الهمزة وتخفيف الثاء المثلثة الأولى، وكانت من أشد الناس على ابنها مسطح، وقال النووي: ومسطح لقب، واسمه: عامر، وقيل: عوف، وكنيته: أبو عباد، وقيل: أبو عبد الله، توفي سنة سبع وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وقال الواقدي: شهد مع علي، رضي الله تعالى عنه، صفين ومات في سنة سبع وثلاثين عن ست وخمسين سنة. قلت: مسطح، اسم عود من أعواد الخباء، وقال الجوهري: أثاثة، بضم الهمزة: اسم رجل، وقال أبو زيد: الأثاث: المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، الواحدة: أثاثة، يعني بفتح الهمزة. وقال الفراء: الأثاث: متاع البيت، ولا واحد له. قولها: (نمشي)، حال أي: ماشين. قولها: (فعثرت في مرطها)، وفي رواية مسلم: فعثرت أم مسطح في مرطها، عثرت، بفتح الثاء المثلثة أي: زلقت، و: المرط، بكسر الميم: كساء من صوف، قاله الداودي، وقال ابن فارس: ملحفة يؤتزر بها، وقال الهروي: المروط الأكسية، وضبطه ابن التين: المرط، بفتح الميم. قولها: (فقالت: تعس مسطح)، بكسر العين وفتحها، لغتان مشهورتان، ومعناه: عثر، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشر، وقيل: بعد، وقيل: سقط لوجهه، وقيل: التعس أن لا ينتعش من عثرته، وقيل: تعس تعسا وأتعسه الله، وقال ابن التبين: المحدثون يقرؤونه بكسر العين، وهو عند أهل اللغة بفتحها، وقيل: معناه انكب أي: أكبه الله. قولها: (فقالت: يا هنتاه)، وفي رواية: أي: هنتاه، وكذا في رواية البخاري في المغازي: وهنتاه، بفتح الهاء وسكون النون وفتحها والسكون أشهر، وبضم الهاء الأخيرة، وتسكن ونونها مخففة. وقال القرطبي: عن بعضهم تشديد النون، وأنكره الأزهري، قالوا: وهذه اللفظة تختص بالنداء، ومعناها: يا هذه، وقيل: يا امرأة، وقيل: يا بلها، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم، وقد تقدم في الحج في: باب من قدم ضعفة أهله بالليل، ويقال في التثنية: هنتان، وفي الجمع: هنات وهنوات، وفي المذكر: هن وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول: ياهنه، وأن تشبع الحركة فتصير ألفا فتقول: يا هناه، ولك ضم الهاء فتقول: يا هناه، أقبل. قولها: (ألم تسمعي؟)، وفي المغازي.. ولم تسمعي؟ وفي رواية مسلم: أو لم تسمعي؟ قولها: (إئذن لي إلى أبوي) أي: إئذن لي أن آتي أبوي، وفي رواية مسلم، رضي الله تعالى عنه: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قولها: (من قبلهما)، بكسر القاف أي: من جهتهما. قولها: (لقلما كانت امرأة قط وضئية)، اللام في: لقلما للتأكيد. و: قل، فعل ماض دخلت عليه كلمة: ما، لتأكيد معنى القلة، وتارة تستعمل هذه الكلمة في نفي
231

أصل الفعل، وتارة في القلة جدا. وضيئة، على وزن فعيلة.. أي: جميلة حسنة من الوضاءة وهو الحسن. وقال النووي في (شرح مسلم): وفي نسخة ابن ماهان: حظية، من الحظوة، وهي الوجاهة، يقال: حظيت المرأة عند زوجها تحظى حظوة وحظوة، بالضم والكسر: أي: سعدت به ودنت من قلبه وأحبها. قولها: (ولها ضرائر)، بالألف، وهو الصواب، وهو جمع ضرة، وزوجات الرجل ضرائر، لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم، وفي بعض النسخ: ضرار، وأصله من: الضر، بكسر الضاد وضمها. قولها: (إلا أكثرن عليها)، بالثاء المثلثة، أي: أكثرن عليها القول في عيبها ونقصها. قولها: (لا يرقأ لي دمع)، مهموز، أي: لا ينقطع من رقأ الدمع إذا انقطع. قولها: (ولا أكتحل بنوم)، أي: لا أنام، وهو استعارة. قولها: (حين استلبث الوحي)، أي: حين أبطأ. ولبث ولم ينزل. قولها: (يستشيرهما)، جملة حالية مقدرة من الاستشارة. قولها: (أهلك)، روي بالنصب أي: إلزم أهلك، وروي بالرفع أي: هي أهلك لا تسمع فيها شيئا. قولها: (وأما علي بن أبي طالب...) إلى آخره، إنما قال علي ذلك مصلحة ونصيحة للرسول، صلى الله عليه وسلم، في اعتقاده لأنه رأى انزعاج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهذا الأمر وقلقه، فأراد راحة خاطره صلى الله عليه وسلم لا لعداوة لعائشة، رضي الله تعالى عنها، قولها: (يريبك)، من راب، وقد ذكر مرة يعني: هل رأيت شيئا فيها ما يريبك؟ وفي رواية مسلم: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قولها: (إن رأيت منها) أي: ما رأيت منها. قولها: (أغمصه عليها)، بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر الميم وضم الصاد المهملة، أي: أعيبها به وأطعن عليها. قولها: (فتأتي الداجن)، وهي الشاه التي تألف
البيت ولا تخرج إلى المرعى، وقال ابن التين: هي الشاة التي تحبس في البيت لدرها لا تخرج إلى المرعى، وقيل: هو دجاجة أو حمام أو وحش أو طير يألف البيت، وقال الطبري: الداجن الشاة المعتادة للقيام في المنزل إذا سمنت للذبح، واللبن ولم تسرح في السرح وكل معتاد موضعا هو به يقيم فهو كذلك داجن، يقال: دجن فلان بمكان كذا وأدجن به إذا أقام به. قولها: (فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم من يومه)، وفي رواية مسلم: (قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني). قولها: (فاستعذر من عبد الله بن أبي)، أي: طلب من يعذره منه أي: من ينصفه منه. قولها: (من يعذرني من رجل)، وقال الخطابي: (من يعذرني)، يؤول على وجهين أي: من يقوم بعذره فيما يأتي إلي من المكروه منه؟ والثاني: من يقوم بعذري إن عاقبته على سوء فعله؟ وقال النووي: معناه: من يقوم بعذري إن كافأته على قبح فعاله، ولا يلومني على ذلك؟ وقيل: معناه: من ينصرني، والعذير الناصر، وقيل: معناه من ينتقم لي منه، ويشهد لهذا جواب سعد بن معاذ: أنا أعذرك منه. قولها: (رجلا)، هو صفوان. قولها: (فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! أنا أعذرك منه) إنما قال ذلك لأن الأوس من قومه وهم بنو النجار، ومن آذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وجب قتله، ثم إن الموجود في الأصول: سعد بن معاذ، وقع في موضع آخر: سعد بن عبادة، وقال ابن حزم: هذا عندنا وهم لأن سعد بن معاذ مات إثر غزوة بني قريظة بلا شك وبني قريظة كان في إخر ذي القعدة من سنة أربع فبين الغزوتين نحو من سنتين والوهم لم يعر منه أخحد من البشر وقال ابن العربي ذكر سعد بن معاذ وهم اتفق فيه الرواة وقال بن عمر هم وهم وخطأ، وتبعه على ذلك جماعة. وقال القاضي عياض: قال بعض شيوخنا: ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم، والأشبه أنه غيره، ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في (السير) وإنما قال: إن المتكلم أولا وآخرا أسيد بن حضير.
وقال القاضي: هذا مشكل، لأن هذه القصة كانت في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست، وسعد بن معاذ مات في إثر غزاة الخندق من الرمية التي أصابته، وذلك في سنة أربع، ولهذا قيل وهم الأشبه أنه غيره وقال القاضي في الجواب أن موسى بن عقبة ذكر أن اليسيع سنة أرع وهي سنة الخندق، فيحتمل أن المريسي وحديث الإفك كانا في سنة أربع قبل الخندق. قلت: هذا يبين صحة ما ذكره البخاري من أنه سعد بن معاذ، وهو الذي في (الصحيحين). أما سعد بن معاذ، بضم الميم فهو: ابن النعمان بن امرئ القيس ابن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن النبيت، واسمه: عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الأشهلي، أسلم على يد مصعب بن عمير لما أرسله النبي، صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يعلم المسلمين، شهد بدرا لم يختلفوا فيه وشهد أحدا والخندق، ورماه يومئذ حبان بن عرفة في أكحله، ومر عن قريب تاريخ وفاته. وأما سعد بن عبادة، بضم العين، فهو ابن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة، بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وفتح الميم
232

بعدها هاء: ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر أخي الأوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء ابن عمرو المزيقياء بن عامر ماء السماء، وأم الأوس والخزرج: قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن قضاعة، وقيل: قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة، وكان نقيب بني ساعدة، شهد بدرا عند بعضهم ولم يبايع أبا بكر ولا عمر، رضي الله تعالى عنهما، وسار إلى الشام، فأقام بحوران إلى أن مات سنة خمس عشرة، ولم يختلفوا أنه وجد ميتا على مغتسله. وأما أسيد، بضم الهمزة فهو: ابن حضير، بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة: ابن سماك بن عتيك بن امريء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم ابن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الأشهلي أبو يحيى، أسلم على يد مصعب بن عمير بالمدينة بعد العقبة الأولى. وقيل: الثانية، واختلف في شهوده بدرا فنفاه ابن إسحاق الكلبي، وأثبته غيرهما، وشهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وشهد مع عمر، رضي الله تعالى عنه، فتح البيت المقدس، مات بالمدينة سنة عشرين، وصلى عليه عمر، رضي الله تعالى عنه.
قولها: (وكان قبل ذلك رجلا صالحا)، وفي مسلم وكان رجلا صالحا، يعني: لم يكن قبل ذلك يحمي لمنافق. قولها: (ولكن احتملته الحمية)، بحاء مهملة وميم أي: أغضبته، وعند مسلم: أجتهلته، بجيم وهاء أي: أغضبته وحملته على الجهل، فالروايتان صحيحتان. قولها: (كذبت لعمر الله والله)، أي: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، كذا قال الداودي، وقال ابن التين: معناه أنه قال له: كذبت إنك لا تقدر على قتله، وهذا هو الظاهر. قولها: (فقام أسيد بن الحضير)، قد مرت ترجمته الآن، فقال: كذبت لعمر الله، والله لنقتله، أي: إن أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم قتلناه، وقوم أسيد بنو عبد الأشهل. قولها: (فإنك منافق)، أي: تفعل فعل المنافقين، ولم يرد به النفاق الحقيقي. قولها: (فثار الحيان الأوس والخزرج)، أي: تناهضوا للنزاع والعصبية، وأصله من ثار الشيء يثور إذا ارتفع وانتشر. قولها: (حتى هموا)، أي: حتى قصدوا المحاربة وتناهضوا للنزاع. قولها: (فخفضهم)، يعني تلطف بهم حتى سكتوا. قولها: (وقد بكيت ليلتين ويوما)، هذا هكذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: ليلتي ويوما، وفي رواية النسفي وأبي الوقت: ليلتي ويومي. قولها: (فالق)، من فلق؛ إذا شق. قولها: (وأنا أبكي)، جملة حالية. قولها: (إذ استأذنت) كلمة: إذا، للمفاجأة وكذلك؛ إذ، في قولها: (إذ دخل). قولها: (قيل في)، بكسر الفاء وتشديد الياء. قولها: (وقد مكث شهراف لا يوحى إليه)، وفي رواية مسلم: ولقد لبثت شهرا لا يوحى إليه، وذلك ليعلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم المتكلم من غيره. قولها: (في شأني) أي: في أمري وحالي. قولها: (ألممت بشيء) وفي رواية: بذنب، وكذا في رواية مسلم، وهو من الإلمام، وهو النزول النادر غير المتكرر، وقال الكرماني: أي: فعلت ذنبا، مع أنه ليس من عادتك. قولها: (فإن العبد إذا اعترف بذنبه تاب الله عليه) قال الداودي: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر كغيرها، لأنه لا ينبغي عند الشارع امرأة أصابت ذنبا. قولها: (قلص دمعي)، بفتح القاف واللام أي: ارتفع وانقبض، وقال القرطبي: يعني: أن الحزن والوجدة قد انتهت نهايتهما وبلغت غايتهما ومهما انتهى الأمر إلى ذلك قلص الدمع لفرط حرارة المصيبة. وقال الداودي: قلص دمعي أي: ذهب. وقيل: نقص، وقال
ابن السكيت: قلص الماء في البيت إذا ارتفع، وماء قليص. قولها: (ما أحس)، بضم الهمزة من الإحساس، قال تعالى: * (هل تحس منهم من أحد) * (مريم: 89). قولها: (قال: والله ما أدري ما أقول)، معناه: إن الأمر الذي سألها رسول الله، صلى الله عليه وسلم لا يقف منه على أمر زائد على ما عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي من حسن الظن. قولها: (إلا أبا يوسف) أي: إلا مثل يعقوب، عليه الصلاة والسلام، وهو: الصبر، وكأنها من شدة حزنها لم تتذكر اسم يعقوب، وإنما قالت: أبا يوسف، لأنه لما جاء إخوة يوسف أباهم يعقوب ومعهم قميص يوسف بدم كذب. قال يعقوب: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) * (يوسف: 81). قولها: (إذ قال)، أي: حين قال. قولها: (فوالله ما رام مجلسه)، أي: ما برح المجلس ولا قام عنه، يقال: رامه يريمه ريما، أي: برحه ولازمه. قولها: (من البرحاء) بضم الباء الموحدة على وزن: فعلاء، من البرح، وهي: شدة الحمى وغيرها من الشدائد، وقيل: البرح: شدة الحر، وقال الخطابي: شدة الكرب، مأخوذ من قولك: برحت بالرجل إذا بلغت به غاية الأذى والمشقة. قولها: (ليتحدر)، اللام فيه للتأكيد، أي: ينزل ويقطر، من: حدر يحدر حدرا وحدورا، والحدور ضد الصعود، ويتعدى ولا يتعدى. قولها: (مثل الجمان)، بضم الجيم وتخفيف الميم، وهو الدر، كذا ذكره ابن التين وغيره، وقال ابن سيده: الجمان هنوات على أشكال اللؤلؤ من فضة، فارسي معرب، واحدته جمانة، وربما سميت
233

الدرة جمانة. وقيل: الجمان: الحرز يبيض بماء الفضة، وفي (المغيث): هو اللؤلؤ الصغير، وقال الجواليقي، وقد جعل لبيد الدرة جمانة فقال:
* كجمانة البحري سل نظامها
*
قولها: (فلما سري)، وهو مشدد مبني لما لم يسم فاعله ومعناه: لما كشف وأزيل عنه. قال ابن دحية: ونزل عذرها بعد سبع وثلاثين ليلة. قولها: (والله لا أقوم إليه)، قالت ذلك إدلالا عليهم وعتابا لكونهم شكوا في حالها مع علمهم بحسن طرائفها وجميل أحوالها وتنزهها عن هذا الباطل الذي افتراه الظلمة، لا حجة لهم ولا شبهة فيه. قولها: (لقرابته)، وذلك أن أم مسطح، سلمى هي بنت خالة أبي بكر الصديق. قولها: * (ولا يأتل) * (النور: 22). أي: ولا يحلف * (أولوا الفضل منكم) * (النور: 22). والآلية: اليمين والفضل هنا المال * (والسعة) * (النور: 22). في العيش والرزق. فإن قلت: قوله: * (أولوا) * (النور: 22). جمع، والمراد هنا الصديق؟ قلت: قال الضحاك: أبو بكر وغيره من المسلمين. قولها: (إلى قوله: * (غفور رحيم) * (النور: 22).) وفي رواية مسلم: إلى قوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * (النور: 22). قال ابن حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله، فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبدا. قولها: (الذي كان يجدى عليه)، أي: يعطى، من الجداء، وهو العطية. وكذلك: الجدوي. قولها: (أحمي)، أي: أصون (سمعي) من أن أقول: سمعت ولم أسمع، (وبصري) من أن أقول: أبصرت ولم أبصر، أي: لا أكذب حماية لهما. قولها: (تساميني) أي: تضاهيني بكمالها ومكانها عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهي مفاعلة من السمو، وهو: الارتفاع.
قال: وحدثنا فليح عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة وعبد الله بن الزبير مثله
أي: قال أبو الربيع سليمان بن داود: وحدثنا فليح بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة وعبد الله بن الزبير مثله، أي: مثل الحديث المذكور الذي رواه فليح عن الزهري عن عروة.
قال: وحدثنا فليح عن ربيعة بن أبي عبد الرحمان ويحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر مثله
أي: قال أبو الربيع سليمان: وحدثنا فليح... إلى آخره، والحاصل أن فليح بن سليمان روى الحديث المذكور من أربعة مشايخ. الأول: ابن شهاب الزهري الثاني: هشام بن عروة. والثالث: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، شيخ مالك. والرابع: يحيى بن سعيد الأنصاري.
ذكر ما يستفاد من الحديث المذكور: فيه: جواز رواية الحديث عن جماعة، عن كل واحد قطعة مبهمة منه، وإن كان فعل الزهري وحده فقد أجمع المسلمون على قبوله منه والاحتجاج به. وفيه: صحة القرعة بين النساء، وبه استدل مالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة: في القسم بين الزوجات، وفي العتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك، وقال أبو عبيد: عمل بها ثلاثة من الأنبياء، عليهم السلام، وقد ذكرناه في أول الباب. وقال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع ولا معنى لقول من يردها، والمشهور عن أبي حنيفة، إبطالها، وحكي عنه إجازتها. وقال ابن المنذر وغيره: القياس تركها، لكن عملنا بها بالآثار. انتهى. قلت: ليس المشهور عن أبي حنيفة إبطال القرعة، وأبو حنيفة لم يقل كذلك، وإنما قال: القياس يأباها، لأنه تعليق لا استحقاق بخروج القرعة، وذلك قمار، ولكن تركنا القياس للآثار وللتعامل الظاهر من لدن رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، وإنما قال ههنا: يفعل تطييبا لقلوبهن، والحديث محمول عليه، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم تكن التسوية واجبة عليه في الحضر، وإنما كان يفعله تفضلا، وقد قال بعض أصحابنا: وعند أبي حنيفة والشافعي إذا أراد الرجل سفرا أقرع بين نسائه، لا يجوز أخذ بعضهن بغير ذلك، والذي في القدوري: عن مذهب أبي حنيفة: لا حق لهن في حالة السفر يسافر بمن شاء منهن، وقال الأقطع في (شرحه): لأن الزوج لا يلزمه استصحاب واحدة منهن ولا يلزمه القسمة في حالة السفر، والأولى والمستحب أن يقرع لتطييب قلوبهن. وقال النووي: وعن مالك: يسافر بمن شاء منهن بغير قرعة، لأن القسمة سقطت للضرورة. وقال ابن التين: قال مالك: الشارع يفعل ذلك تطوعا منه لأنه لا يجب عليه أن يعدل بينهن. وفيه: عدم وجوب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات، وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا. وقال النووي: وحكم السفر القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح، وخالف فيه
234

بعض أصحابنا. وفيه: جواز سفر الرجل بزوجته. وفيه: جواز الغزو بهن. وفيه: جواز ركوب النساء في الهوادج. وفيه: جواز خدمة الرجال لهن في ذلك في الأسفار. وفيه: أن إرتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير، وفيه: جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج، وهذا من الأمور المستثناة. وفيه: جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر. وفيه: أن من يركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما إلا لحاجة، لأنهم حملوا ولم يكلموا من يظنونها فيه. وفيه: فضيلة الاقتصاد في الأكل للنساء وغيرهن، ولا يكثرن منه بحيث يهبلهن اللحم. وفيه: جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض لهم. وفيه: إغاثة الملهوف وعون المنقطع، وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار، كما فعل صفوان بهذا كله. وفيه: حسن الأدب مع الأجنبيات، لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها. وفيه: أنه إذا أركب أجنبية ينبغي أن يمشي قدامها ولا يمشي بجنبها ولا وراءها. وفيه: استحباب الاسترجاع عند المصائب سواء كانت في الدين أو في الدنيا، وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه. وفيه: تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي، سواء كان صالحا أو غيره. وفيه: جواز الحلف من غير استحلاف. وفيه: أنه يستحب أن يسر عن الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، هذا الأمر شهرا ولم تسمعه بعد ذلك، إلا بعارض عرض، وهو قول أم مسطح: تعس مسطح. وفيه: استحباب ملاطفة الرجل زوجته ويحسن معاشرتها. وفيه: أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه لتفطن أن ذلك لعارض، فتسأل عن سببه فتزيله. وفيه: استحباب السؤال عن المريض. وفيه: أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن يكون معها رفيقة لها لتأنس بها ولا يتعرض لها. وفيه: كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه. وفيه: فضيلة أهل بدر والذب عنهم، كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح. وفيه: أن المرأة لا تذهب لبيت أبويها إلا بإذن زوجها. وفيه جواز التعجب بلفظ التسبيح وفيه استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاء فيما ينويه من الإمور وفيه: جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة لمن له بها تعلق، وأما غيره فمنهي عنه، وهو تجسس وفضول. وفيه: خطبة الإمام الناس عند نزول أمر بهم. وفيه: اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في أهله أو في نفسه. وفيه: فضائل ظاهره لصفوان بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بما شهد وبفعاله الجميلة. وفيه: المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات. وفيه: فضيلة سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وفيه: قبول التوبة والحث عليها. وفيه: تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف. وفيه: جواز الاستشهاد بآيات القران العزيز، ولا خلاف أنه جائز. وفيه: استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية بارزة. وفيه: براءة عائشة، رضي الله تعالى عنها، من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن، فلو تشكك فيها إنسان صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين. وفيه: تجديد شكر الله تعالى تجدد النعمة. وفيه: فضائل لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) * (النور: 22). وفيه استحباب صلة الأرحام وإن كانوا مسيئين وفيه استحباب العفو والصفح عن المسئ وفيه: استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات. وفيه: استحباب لمن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي بالذي هو خير، فيكفر عن يمينه. وفيه فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها وفيه التثبيت في الشهادة وفيه أن الخطبة مبتداة بالحمد لله والثناء عليهوفيه: استحباب القول: بأما بعد، في الخطبة بعد: الحمد لله والصلاة على رسوله، صلى الله عليه وسلم. وفيه: غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم بدفع ذلك. وفيه: جواز سب المتعصب لمبطل، كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة لتعصبه للمنافق، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين، وقد ذكرنا أنه لم يرد به النفاق الحقيقي. وفيه: جواز تعديل النساء، لأنه صلى الله عليه وسلم سأل بريرة وزينب عن عائشة وهما من أخبرتا بفضلها، وكمال دينها، وبه احتج أبو حنيفة في جواز تعديل النساء بعضهن بعضا. وفيه: أن من آذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم في أهله أو عرضه، فإنه يقتل، لقول أسيد بن حضير: إن كان من الأوس قتلناه، ولم يرد عليه النبي، صلى الله عليه وسلم شيئا، قال ابن بطال: وكذا من سب عائشة، رضي الله تعالى عنها، بما برأها الله منه أنه يقتل لتكذيبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: لا يقتل من سبها بغير ما برأها الله تعالى منه، وقال المهلب: والنظر عندي أن يقتل من سب زوجات سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما رميت به عائشة أو بغير ذلك. وفيه:
235

وجوب تعظيم أهل بدر والذب عنهم. وفيه: أن الصبر الجميل فيه الغبطة والعزة في الدارين. وفيه: ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة، كما ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم حد ابن سلول. وفيه: أن الاعتراف بما يشاء من الباطل لا يحل. وفيه: أن الوحي ما كان يأتيه متى أراد، لبقائه شهرا لم يوح إليه. وفيه: جواز تحلي النساء بالذهب والفضة واللؤلؤ والخرز ونحوها. وفيه: حرمة التشكيك في تبرئة عائشة من الإفك. وفيه: أن العصبية تنقل عن اسم، كما قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا. وفيه: الكشف والبحث عن الأخبار الواردة، إن كان لها نظائر، أم لا، لسؤاله، صلى الله عليه وسلم، بريرة وأسامة وزينب وغيرهم من بطانته عن عائشة وعن سائر أفعالها، وما يغمص عليها، والحكم بما يظهر من الأفعال على ا قيل، وذكر ابن مردويه في (تفسيره) من حديث يونس بن بكير عن هشام عن أبيه عن عائشة: سأل، يعني، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جارية لي سوداء، فقال: (أخبرينا بما علمك بعائشة..) فذكرت العجين، ومعه ناس، فأداروها حتى فطنت. فقالت: سبحان الله! والله ما أعلم على عائشة إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. وفي لفظ: جارية نوبية، وهذه الفوائد ما تنيف على ستين فائدة، والله هو المستعان.
61
((باب إذا زكى رجل رجلا كفاه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا زكى رجل رجلا كفاه أي: كفى رجلا الذي هو المزكى، بفتح الكاف، يعني لا يحتاج إلى آخر معه، وقد ذكر في أوائل الشهادات: باب
تعديل كم يجوز، فتوقف في جوابه، وههنا صرح بالأكتفاء بالواحد، وفيه خلاف: فعند محمد بن الحسن: يشترط اثنان كما في الشهادة، وهو المرجح عند الشافعية والمالكية، واختاره الطحاوي. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: يكتفى بواحد، والاثنان أحب، وكذا الخلاف في الرسالة والترجمة.
وقال أبو جميلة وجدت منبوذا فلما رآني عمر قال عسى الغوير بؤسا كأنه يتهمني قال عريفي أنه رجل صالح قال كذلك اذهب وعلينا نفقته
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (قال عريفي أنه رجل صالح، قال كذلك اذهب)، فإنه يدل على أن عمر، رضي الله تعالى عنه، قبل تزكية الواحد واكتفى به، وأبو جميلة، بفتح الجيم وكسر الميم: واسمه سنين، بضم السين المهملة وبنونين أولاهما مفتوحة مخففة بينهما ياء آخر الحروف، كذا ضبطه عبد الغني بن سعيد والدارقطني وابن ماكولا، وقال بعضهم: ووهم من شدد التحتانة كالداودي. قلت: كيف ينسب الداودي إلى الوهم ولم ينفرد هو بالتشديد، فإن البخاري ذكر في (تاريخه) كان ابن عيينة وسليمان بن كثير يثقلان سنينا، واقتصر عليه ابن التين، وهذا التعليق رواه البخاري عن إبراهيم بن موسى: حدثنا هشام عن معمر عن الزهري عن سنين أبي جميلة، وأنه أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وخرج معه عام الفتح، وأنه التقط منبوذا، فأتى عمر، رضي الله تعالى عنه، فسأله عنه فأثنى عليه خيرا، وأنفق عليه من بيت المال، وجعل ولاءه له. وقال الكرماني: أبو جميلة سنين، وقيل: ميسرة ضد الميمنة ابن يعقوب الطهوي، بضم الطاء وفتح الهاء، وقيل: بسكونها، وقد يفتحون الطاء مع سكون الهاء، ففيه ثلاث لغات، ورد عليه: بأن أبا جميلة الذي ذكره وترجمه ليس بأبي جميلة المذكور في البخاري، فإنه تابعي طهوي كوفي، وذاك صحابي عند الأكثرين، وإن كان العجلي ذكره من التابعين واسمه سنين بن فرقد. وقال ابن سعد: هو سلمي، وقال غيره: هو ضمري، وقيل: سليطي. وذكره الذهبي في (الصحابة) وقال: أبو جميلة سنين السلمي، أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وحديثه في الترمذي روى عنه الزهري. قلت: تفرد الزهري بالرواية عنه. قوله: (وجدت منبوذا)، بفتح الميم وسكون النون وضم الباء الموحدة وسكون الواو وفي آخره ذال معجمة، ومعناه: اللقيط. قوله: (فلما رأى عمر)، أي: فلما رآه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: (قال: عسى الغوير أبؤسا) كذا وقع في رواية الأصيلي، وفي رواية أبي ذر، رضي الله تعالى عنه عن الكشميهني، وسقط في رواية الباقين، وكذا رواه ابن أبي شيبة فقال: حدثنا ابن علية عن الزهري، رضي الله تعالى عنه، أنه سمع سنينا أبا جميلة يقول: وجدت منبوذا
236

فذكره عريفي لعمر، رضي الله تعالى عنه، فأتيته فقال: هو حر وولاؤه لك ورضاعه علينا، ومعنى تمثيل عمر بهذا المثل عسى النوير أبؤسا أن عمر اتهمه أن يكون ولده أتى به للفرض له في بيت المال، ويحتمل أن يكون ظن أنه يريد أن يفرض ويلي أمره ويأخذ ما يفرض له. ويصنع ما شاء، فقال عمر هذا المثل، فلما قال له عريفه: إنه رجل صالح صدقه، وقال الميداني في (مجمع الأمثال) تأليفه: الغوير تصغير غار، والأبؤس جمع بؤس، وهو الشدة. ويقال الأبؤس الداهية. وقال الأصمعي: إن أصل هذا المثل أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم، أو قال: فأتاهم عدو فقتلهم فيه، فقيل ذلك لكل من دخل في أمر لا يعرف عاقبته. وفي (علل الخلال) قال الزهري: هذا مثل يضربه أهل المدينة. وقال سفيان: أصله أن ناسا كان بينهم وبين آخرين حرب، فقالت لهم عجوز: إحذروا واستعدوا من هؤلاء فإنهم يألونكم شرا، فلم يلبثوا أن جاءهم فزع. فقالت العجوز: عسى الغوير أبؤسا، تعني: لعله أتاكم الناس من قبل الغوير، وهو الشعب. وقال الكلبي: غوير ماء لكلب معروف في ناحية السماوة، وقال ابن الأعرابي: الغوير طريق يعبرون فيه، وكانوا يتواصون بأن يحسروه لئلا يؤتوا منه، وروى الحربي عن عمرو عن أبيه. أن الغوير نفق في حصن الرباء، ويقال: هذا مثل لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر، وانتصاب أبؤسا بعامل مقدر، تقديره: عسى الغوير يصير أبؤسا وقال أبو علي: جعل: عسى بمعنى: كان، ونزله منزلته، يضرب للرجل يقال له: لعل الشر جاء من قبلك، ويقال: تقديره: عسى أن يأتي الغوير بشر. قوله: (كأنه يتهمني)، أي: بأن يكون الولد له، كما ذكرنا أن يكون قصده الفرض له من بيت المال. قوله: (قال عريفي)، العريف النقيب، وهو دون الرئيس، قال ابن بطال: وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، قسم الناس أقساما وجعل على كل ديوان عريفا ينظر عليهم، وكان الرجل النابذ من ديوان الذي زكاه عند عمر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (قال: كذلك)، أي: قال عمر لعريفه: هو صالح مثل ما يقول، وزاد مالك في روايته: قال: نعم، يعني: كذلك. قوله: (إذهب وعلينا نفقته)، وفي رواية مالك: إذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته، يعني: من بيت المال. وقال ابن بطال في هذه القضية: إن القاضي إذا سأل في مجلس نظره عن أحد فإنه يجتزىء بقول الواحد، كما صنع عمر، رضي الله تعالى عنه، وأما إذا كلف المشهود له أن يعدل شهوده، فلا يقبل أقل من اثنين.
وفيه: جواز الالتقاط، وإن لم يشهد، وأن نفقته إذا لم يعرف في بيت المال وأن ولاءه لملتقطه. وفيه: أن اللقيط حر، وقال قوم: إنه عبد، وممن قال: إنه حر، علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وعمر بن عبد العزيز، وإبراهيم، والشعبي.
2662 حدثنا ابن سلام قال أخبرنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمان بن أبي بكرة عن أبيه قال أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال ويلك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا ثم قال من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه.
قال الكرماني: قال شارح التراجم: وجه مطابقة الحديث للترجمة أنه، صلى الله عليه وسلم، أرشد إلى أن التزكية كيف تكون، فلو لم تكن مقيدة لما أرشد إليها، لكن للمانع أن يقول: إنها مقيدة مع تزكية أخرى لا بمفردها. وليس في الحديث ما يدل على أحد الطريقين. انتهى. قلت: قوله: إنها مقيدة مع تزكية أخرى، غير مسلم والمنع بطريق ما ذكره غير صحيح، لأن الحديث يدل على أنه، صلى الله عليه وسلم، اعتبر تزكية الرجل إذا اقتصد، ولا يتغالى ولم يعب صلى الله عليه وسلم عليه إلا الإغراق والغلو في المدح، وبهذا يرد قول من قال: ليس في الخبر: إن تزكية الواحد للواحد كافية. حيث يحتاج إلى التزكية البتة، وكذا فيه رد لقول من قال: استدلال البخاري على الترجمة بحديث أبي بكرة ضعيف، لأنه ضعف ما هو صحيح، لأنه علل بقوله: فإن غايته أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر تزكية الرجل أخاه إذا
اقتصد ولم يغل، وتضعيفة بهذا هو عين تصحيح وجه المطابقة بين الحديث والترجمة لما ذكرناه، وكل هذه التعسفات مع الرد على البخاري بما ذكر لأجل الرد على أبي حنيفة حيث احتج بهذا الحديث على اكتفائه في التزكية بواحد، فافهم.
ثم رجال الحديث المذكور خمسة: الأول: محمد بن سلام، وفي بعض النسخ اسمه واسم أبيه. الثاني: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي البصري. الثالث: خالد
237

ابن مهران الحذاء البصري. الرابع: عبد الرحمن بن أبي بكرة. الخامس: أبوه أبو بكرة، بفتح الباء الموحدة، واسمه: نفيع بن الحارث الثقفي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن آدم وعن موسى بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في آخر الكتاب عن يحيى بن يحيى وعن محمد بن عمر وأبي بكر وعن عمرو الناقد وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن يونس. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.
قوله: (أثنى رجل على رجل عند النبي، صلى الله عليه وسلم)، قيل: يحتمل أن يكون المثني، بكسر النون هو: محجن بن الأدرع الأسلمي، وأن يكون المثنى عليه ذو البجادين، لأن للأول حديثا عند الطبراني لا يبعد أن يكون هو إياه، وللثاني حديثا عند ابن إسحاق يشعر أن يكون المثنى عليه ذا البجادين. ومحجن، بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وفي آخره نون: ابن الأدرع، قال الذهبي: قديم الإسلام، نزل البصرة واختط مسجدها، له أحاديث قلت: عند أبي داود والنسائي: وذو البجادين، بكسر الباء الموحدة بعدها الجيم: واسمه عبد الله بن عبد بهم بن عفيف المزني، مات في غزوة تبوك، قال عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه: دفنه النبي، صلى الله عليه وسلم وحطه بيده في قبره، وقال: (اللهم إني قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه). قال ابن مسعود: فليتني كنت صاحب الحفرة. قال الذهبي: حديث صحيح قوله: (ويلك)، لفظ الويل في الأصل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، ويستعمل بمعنى التفجع والتعجب، وههنا كذلك، وينتصب عند الإضافة ويرتفع عند القطع. ووجه انتصابه بعامل مقدر من غير لفظه. قوله: (قطعت عنق صاحبك)، وفي رواية: قطعتم عنق الرجل، وفي رواية أخرى: قطعتم ظهر الرجل، وهي استعارة من قطع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك. قوله: (لا محالة)، بفتح الميم أي: البتة لا بد منه قوله: (أحسب فلانا)، أي: أظنه، من: حسب يحسب بكسر عين الفعل في الماضي وفتحها في المستقبل محسبة وحسبانا، بالكسر ومعناه الظن، وأما: حسبته أحسبه بالضم حسبا وحسبانا وحسابة إذا عددته. قوله: (والله حسيبه)، أي: كافيه، فعيل بمعنى مفعول، من أحسبني الشيء إذا كفاني. قوله: (ولا أزكي على الله أحدا) أي: لا أقطع له على عاقبة أحد بخير ولا غيره، لأن ذلك مغيب عنا، ولكن نقول: نحسب ونظن، لوجود الظاهر المقتضي لذلك. قوله: (أحسبه كذا وكذا)، أي: أظنه على حالة كذا، وصفة كذا، إن كان يعلم ذلك منه: والمراد من قوله: يعلم، يظن، وكثيرا يجيء العلم بمعنى الظن، وإنما قلنا: معناه يظن، حتى لا يقال: إذا كان يعلم منه فلم يقول أحسبه؟ فإن قلت: قد جاء أحاديث صحيحة بالمدح في الوجه. قلت: النهي محمول على الإفراط فيه أو على من يخاف عليه، وأما من لا يخاف عليه، ذلك لكما تقواه ورسوخ عقله فلا نهى إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كالإزدياد عليه، والاقتداء به كان مستحبا، قاله النووي في (شرح مسلم).
71
((باب ما يكره من الإطناب في المدح وليقل ما يعلم))
أي: هذا باب في بيان ما يكره من الإطناب في مدح الرجل، والإطناب، بكسر الهمزة في الكلام: المبالغة فيه. قوله: (وليقل)، أي: المادح، ما يعلمه في الممدوح ولا يتجاوزه ولا يطنب فيه.
3662 حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء قال حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موساى رضي الله تعالى عنه قال سمع النبي، صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في مدحه فقال أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل.
(الحديث 3662 طرفه في: 0606).
مطابقته للترجمة في قوله: (ويطريه في مدحه)، وهو ظاهر. فإن قلت: كيف دل الحديث على الجزء الأخير من الترجمة، وهو قوله: وليقل ما يعلم؟ قلت: الذي يطنب لا بد أن يقول بما لا يعلم، لأنه لا يطلع على سريرته وخلواته، فيستقضي أن لا يطنب، وهذا الحديث بمعنى الحديث السابق، لأنهما متحدان في المعنى، وأشار به إلى أن الثناء على الرجل في وجهه لا يكره، وإنما يكره الإطناب، فلذلك ذكر هذه الترجمة.
ومحمد بن الصباح، بتشديد الباء الموحدة: مر في الصلاة، وإسماعيل بن زكرياء أبو زياد الأسدي، مولاهم الخلقاني الكوفي، وبريد، بضم الباء الموحدة: ابن عبد الله بن أبي بردة، بضم الباء أيضا، يروي عن
238

أبي بردة وهو جده، وجده يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري، وهو عبد الله بن قيس، واسم أبي بردة: الحارث، ويقال: عامر، ويقال: اسمه كنيته.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب، ومسلم في آخر الكتاب، كلاهما عن محمد بن الصباح عن إسماعيل بن زكرياء.
قوله: (رجلا يثني على رجل)، يحتمل أن يكونا ما ذكرناه في الحديث الماضي. قوله: (ويطريه) بضم الياء من الإطراء، وهو المبالغة في المدح، ويقال أطراه أي: مدحه، وجاوز الحد فيه، وذكره الجوهري في معتل اللام اليائي. وإنما قال: (أهلكتم)، لئلا يغتر الرجل ويرى أنه عند الناس كذلك بتلك المنزلة ليحصل منه العجب فيجد إليه سبيلا.
81
((باب بلوغ الصبيان وشهادتهم))
أي: هذا باب في بيان حد بلوغ الصبيان وحكم شهادتهم. والترجمة مشتملة على حكمين. الأول: بلوغ الصبيان، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الاحتلام في الرجال والحيض في النساء هو البلوغ الذي يلزم به العبادات والحدود والاستئذان وغيره، واختلفوا فيمن تأخر احتلامه من الرجال أو حيضه من النساء، فقال الليث وأحمد وإسحاق ومالك: الإنبات، أو أن يبلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ، وقال ابن القاسم: وذلك سبع عشرة سنة أو ثمان عشرة سنة، وفي النساء هذه الأوصاف أو الجبل، إلا أن مالكا لا يقيم الحد بالإنبات إذا زنى أو سرق ما لم يحتلم أو يبلغ من السن ما يعلم أن مثله لا يبلغه حتى يحتلم، فيكون عليه الحد، وأما أبو حنيفة فلم يعتبر الإنبات، وقال: حد البلوغ في الجارية سبع عشرة، وفي الغلام تسع عشرة، وفي رواية: ثماني عشرة مثل قول ابن القاسم، وهو قول الثوري ومذهب الشافعي: أن الإنبات علامة بلوغ الكافر لا المسلم، واعتبر خمس عشرة سنة في الذكور والإناث، ومذهب أبي يوسف ومحمد كمذهب الشافعي، وبه قال الأوزاعي وابن وهب وابن الماجشون. الحكم الثاني: في شهادة الصبيان، واختلفوا فيها. فعن النخعي: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض، وعن علي بن أبي طالب وشريح والحسن والشعبي، مثله، وعن شريح: أنه كان يجيز شهادة الصبيان في السن والموضحة، ويأباه فيما سوى ذلك. وفي رواية: أنه أجاز شهادة غلمان في أمة وقضى فيها بأربعة آلاف، وكان عروة يجيز شهادتهم، وقال عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما: هم أحرى إذا سئلوا عم رؤا أن يشهدوا. وقال مكحول: إذا بلغ خمس عشرة سنة فأجز شهادته. وقال القاسم وسالم: إذا أنبت، وقال عطاء: حتى يكبروا، وقال ابن المنذر: وقالت طائفة: لا تجوز شهادتهم، روي هذا عن ابن عباس والقاسم وسالم وعطاء والشعبي والحسن وابن أبي ليلى والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد، وقالت طائفة: تجوز شهادتهم بعضهم على بعض في الجراح والدم، روي ذلك عن علي وابن الزبير وشريح والنخعي وعروة والزهري وربيعة ومالك إذا لم يتفرقوا.
وقول الله تعالى * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) * (النور: 95).
وقول الله، بالجر عطفا على: بلوغ الصبيان، أي: وفي بيان قوله تعالى، وتمامه: * (كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) * (النور: 95). وإنما ذكر هذا لأن فيه تعليق الحكم ببلوغ الحلم، لأن الترجمة في بلوغ الصبيان والأطفال: جمع طفل، وهو الصبي، ويقع على الذكر والأنثى والجماعة، ويقال: طفلة وأطفال قاله ابن الأثير، وقال الجوهري: الطفل المولود، والجمع: أطفال، وقد يكون الطفل واحدا وجمعا، مثل: الجنب، قال الله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا) * (النور: 13). وذكر في كتاب (خلق الإنسان) لثابت: ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، وإذا ولدته يسمى صبيا ما دام رضيعا، فإذا فطم سمي غلاما إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج، ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمدا إلى خمس وعشرين سنة، ثم يصير عنطنطا إلى ثلاثين سنة، ثم يصير صملا إلى أربعين سنة، ثم يصير كهلا إلى خمسين سنة، ثم يصير شيخا إلى ثمانين سنة، ثم يصير هرما بعد ذلك فانيا كبيرا. انتهى. قلت: فعلى هذا: لا يقال الصبي إلا للرضيع ما دام رضيعا. وعلى قول ابن الأثير: الصبي والطفل واحد. قوله تعالى: * (وإذا بلغ الأطفال منكم) * (النور: 95). أي: الصبيان. قال النسفي: منكم، أي: من الأحرار دون المماليك. قوله: * (الحلم) * أي: البلوغ، ومنه: الحالم، وهو الذي يبلغ مبلغ الرجال، وهو من: حلم، بفتح اللام، والحلم بالكسر: الأناءة، وهو من: حلم، بضم اللام. قوله: * (فليستأذنوا) * أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم.
239

قوله: * (كما استأذن الذين من قبلهم) * (النور: 95). أي: الأحرار الذين بلغوا الحلم من قبلهم، وأكثر العلماء على أن هذه الآية محكمة، وحكي عن سعيد بن المسيب، أنها منسوخة، وعن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: آية لا يؤمن بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جارتي أن تستأذن علي، وسأله عطاء، رضي الله تعالى عنه: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية.
وقال مغيرة: احتلمت وأنا ابن ثنتي عشرة سنة
مغيرة، بضم الميم وكسرها وبالألف واللام ودونها: ابن مقسم الضبي الكوفي الفقيه الأعمى، وكان من فقهاء إبراهيم النخعي عن يحيى، ثقة مأمون وكان عثمانيا، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وكان ممن أخذ عن أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، وكان يفتي بقوله ويحتج به. قوله: (وأنا ابن ثنتي عشرة سنة) وجاء مثله عن عمرو بن العاص، فإنهم ذكروا أنه لم يكن بينه وبين ابنه عبد الله ابن عمرو في السن سوى ثنتي عشرة سنة.
وبلوغ النساء في الحيض لقوله عز وجل * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم) * إلى قوله * (أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4).
هو بقية من الترجمة، و: بلوغ، بالجر عطفا على قوله: وشهادتهم، أي: باب في حكم بلوغ الصبيان وشهادتهم، وفي حكم بلوغ النساء في الحيض، ويجوز رفعه على أن يكون مبتدأ وخبره. قوله: (في الحض)، ووجه الاستدلال بالآية أن فيها تعليق الحكم في العدة بالأقراء على حصول الحيض، فدل على أن الحيض بلوغ في حق النساء، وهذا مجمع عليه. قوله: * (واللائي) * (الطلاق: 4). أي: النساء اللائي * (يئسن) * (الطلاق: 4). أي: لا يرجون أن يحضن، وبعده: * (إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4). قوله: * (إن ارتبتم) * (الطلاق: 4). أي: إن شككتم أن الدم الذي يظهر منها لكبرها من المحيض أو الاستحاضة، فعدتهن ثلاثة أشهر * (واللائي لم يحضن) * (الطلاق: 4). يعني: الصغار * (فعدتهن ثلاثة أشهر) * (الطلاق: 4). فحذف لدلالة المذكور عليه. قوله: * (وأولات الأحمال) * (الطلاق: 4). أي: الحبالى: * (أجلهن) * (الطلاق: 4). أي: عدتهن * (أن يضعن حملهن) * (الطلاق: 4). من المطلقات والمتوفى عنها زوجها، وإن ارتفعت حيضة المرأة وهي شابة فإن ارتابت أحامل هي أم لا؟ فإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، وإن لم يستبن فاختلف فيه، فقال بعضهم: يستأنى بها، وأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ورووا ذلك عن عمر وغيره، وأهل العراق يرون عدتها بثلاث حيض بعدما كانت حاضت في باقي عمرها، وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس من الحيض
فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر، وهذا هو الأصح من مذهب الشافعي، وعليه أكثر العلماء، وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه.
وقال الحسن بن صالح: أدركت جارة لنا جدة بنت إحدى وعشرين سنة
الحسن بن صالح ابن أخي مسلم بن حبان بن شفي بن هني بن رافع الهمداني الثوري أبو عبد الله الكوفي العابد، ولد سنة مائة ومات سنة تسع وتسعين ومائة. قوله: (جدة)، بالنصب على أنه بدل من: جارة. وقوله: (بنت)، منصوب على أنه صفة لجدة، وتصوير ذلك بأن هذه حاضت وعمرها تسع سنين وولدت وعمرها عشر سنين، وعرض لبنتها، مثلها، وأقل ما يمكن مثله في تسع عشرة سنة، وقد روي عن الشافعي أيضا أنه رأى باليمن جدة بنت إحدى وعشرين سنة، وأنها حاضت لاستكمال تسع، ووضعت بنتا لاستكمال عشر، ووقع لبنتها كذلك.
4662 حدثنا عبيد الله بن سيد قال حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبيد الله قال حدثني نافع قال حدثني ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ثم عرضني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني قال نافع
240

فقدمت على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فحدثته هاذا الحديث فقال إن هذا لحد بين الصغير والكبير وكتب إلى عماله أن يفرضوا لمن بلغ خمس عشرة.
(الحديث 4662 طرفه في: 7904).
مطابقته للترجمة من حيث إنه يوضحها بأن بلوغ الصبي في خمس عشرة سنة باعتبار السن، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أجاز لابن عمر، وسنه خمس عشرة، فدل على أن البلوغ بالسن بخمس عشرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبيد الله بن سعيد، كذا وقع في جميع الأصول: عبيد الله بتصغير عبد وهو أبو قدامة السرخسي، ووقع لبعض الحفاظ: عبيد بن إسماعيل، وبذلك جزم البيهقي في (الخلافيات): فأخرج الحديث من طريق محمد ابن الحسين الخثعمي عن عبيد بن إسماعيل، ثم قال: أخرجه البخاري عن عبيد بن إسماعيل. قلت: عبيد بن إسماعيل، واسمه في الأصل: عبد الله يكنى أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من مشايخ البخاري، ومن أفراده، ويحتمل أن يكون البخاري روى الحديث المذكور عنهما جميعا، فوقع هنا في كثير من النسخ: عبيد الله بن سعيد، ووقع في بعضها: عبيد بن إسماعيل، على أن عبيد بن إسماعيل أيضا روى عن أبي أسامة. الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة، وقد تكرر ذكره. الثالث: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب...
وفي السند: االتحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع.
والحديث أخرجه ابن ماجة في الحدود عن علي بن محمد.
ذكر معناه: قوله: (عرضه يوم أحد) ذكر ابن عمر هنا: عرضه، وبعد ذلك قال: عرضني، لأن الأصل: عرضه، وأما التكلم على سبيل الحكاية فهو نقل كلام ابن عمر بعينه، فإن كان الكل كلام ابن عمر لا كلام الراوي، يكون من باب التجريد، فإن ابن عمر جرد من نفسه شخصا وعبر عنه بلفظ الغائب، وجاز في أمثالها وجهان: تقول: أنا الذي ضربت زيدا، وأنا الذي ضرب زيدا. قوله: (فلم يجزني)، يعني في ديوان المقاتلين ولم يقدر لي رزقا مثل أرزاق الأجناد، وفي (صحيح ابن حبان): فلم يجزني ولم يرني بلغت. قوله: (يوم الخندق)، ووقع في (جمع) الحميدي، بدل الخندق: يوم الفتح، وهو غلط نقله أبو الفضل بن ناصر السلامي عن تعليقة أبي مسعود، وخلف، قال: وتبعهما شيخنا الحميدي، وراجعنا الكتابين في هذا فلم نجد فيهما إلا الخندق. وهو الصواب، وفي رواية ذكرها ابن التين: عرضت عام الخندق، ولي أربع عشرة، فأجازني، قال: وقيل: إنما عرض يوم بدر فرده وأجازه بأحد، وقال بعضهم: ذكر الخندق وهم، وإنما كانت غزوة ذات الرقاع، لأن الخندق كانت سنة خمس، وهو قال إنه كان في أحد ابن أربع عشرة، فعلى هذا يكون غزوة ذات الرقاع هي المرادة، لأنها كانت في سنة أربع، بينها وبين أحد سنة، وقد يجاب: بأنه يحتمل أن ابن عمر في أحد دخل في أول سنة أربع من حين مولده، وذلك في شوال منها ثم تكملت له سنة أربع عشرة في شوال من الآتية، ثم دخل في الخامس عشرة إلى شوالها الذي كانت فيه الخندق، فكأنه أراد أنه في أحد في أول الرابعة، وفي الخندق في آخر الخامسة. وقد روي عن موسى بن عقبة وغيره: أن الخندق كانت سنة أربع، فلا حاجة إذن لهذه الأمور. قوله: (قال نافع) موصول بالإسناد المذكور. قوله: (إن هذا لحد)، أي: إن هذا السن، وهو خمس عشرة سنة، نهاية الصغر وبداية البلوغ، وفي رواية ابن عيينة عن عبيد الله بن عمر عند الترمذي، فقال: هذا حد ما بين الذرية والمقاتلة. قوله: (وكتب إلى عماله)، بضم العين المهملة وتشديد الميم، جمع: عامل، وهم النواب الذين استنابهم في البلاد، وفي رواية مسلم زيادة. قوله: ومن كان دون ذلك فاجعلوه في العيال. قوله: (أن يفرضوا)، أي: يقدروا لهم رزقا في ديوان الجند.
ومما يستفاد منه: أن من استكمل خمس عشرة سنة أجريت عليه أحكام البالغين وإن لم يحتلم فيكلف بالعبادات وإقامة الحدود، ويستحق سهم الغنيمة ويقتل إن كان حربيا وغير ذلك من الأحكام. ومن ذلك: أن الإمام يستعرض من يخرج معه للقتال قبل أن يقع الحرب، فمن وجده أهلا استصحبه، ومن لا فيرده. وقال بعضهم: وعند المالكية والحنفية لا تتوقف الإجازة للقتال
241

على البلوغ، بل للإمام أن يجيز من الصبيان من فيه قوة ونجدة، فرب مراهق أقوى من بالغ، وحديث ابن عمر حجة عليهم. انتهى. قلت: ليس بحجة عليهم أصلا، لأن حكم المراهق كحكم البالغ، حتى إذا قال: قد بلغت، يصدق.
5662 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (واجب على كل محتلم)، إذ لو لم يتصف المحتلم بالبلوغ لما وجب عليه شيء، وهذا البلوغ بالإنزال. فإن قلت: الجزء الأخير من الترجمة الشهادة وليس فيه ولا فيما قبله ذكرها؟ قلت: أجيب بأنه ترجم بها، ولكنه لم يظفر بشيء من ذلك على شرطه. والحديث مضى في كتاب الجمعة في: باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟ وقد مضى الكلام فيه هناك.
91
((باب سؤال الحاكم المدعي هل بينة قبل اليمين))
أي: هذا باب في بيان سؤال الحاكم المدعي، بكسر العين: هل لك بينة تشهد بما تدعي قبل عرض اليمين على المدعى عليه؟
7662 حدثنا محمد قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرى مسلم لقي الله وهو عليه غضبان قال فقال الأشعث بن قيس في والله كان ذالك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألك بينة قال قلت لا قال فقال لليهودي احلف قال قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بمالي قال فأنزل الله تعالى * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * إلى آخر الآية.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ألك بينة؟ قال: قلت: لا). ومحمد شيخ البخاري هو ابن سلام، صرح به في (الأطراف) قال الجياني: وكذا نسبه أبو محمد بن السكن. والحديث رواه الإسماعيلي عن القاسم عن أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية، فيجوز أن يكون هو أبو معاوية محمد بن خازم، بالخاء والزاي المعجمتين: الضرير، والأعمش هو سليمان، وشقيق أبو وائل، وعبد الله هو ابن مسعود. والحديث قد مضى بعين هذا الإسناد والمتن في الخصومات في: باب كلام الخصوم بعضهم ببعض، وقد مضى الكلام فيه هناك.
02
((باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود))
أي: هذا باب في بيان أن اليمين على المدعى عليه دون المدعي. قوله: (في الأموال والحدود)، يعني: سواء كان اليمين الذي على المدعى عليه في الأموال أو الحدود، وأراد به أن هذا الحكم عام، وقال بعضهم: يشير به إلى الرد على الكوفيين في تخصيصهم اليمين على المدعى عليه في الأموال دون الحدود.
قلت: هذه الترجمة مشتملة على حكمين.
الأول: أن اليمين على المدعى عليه وهو يستلزم شيئين. أحدهما: أن لا يجب يمين الاستظهار، وفيه اختلاف العلماء، وهو أن المدعي إذا أثبت ما يدعيه ببينه فللحاكم أن يستحلفه أن بينته شهدت بحق، وإليه ذهب شريح وإبراهيم النخعي والأوزاعي والحسن بن حي، وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عن الحسن أن عليا، رضي الله تعالى عنه، استحلف عبد الله بن الحر مع بينته، وذهب مالك والكوفيون والشافعي وأحمد إلى أنه: لا يمين عليه، وقال إسحاق إذا استراب الحاكم أوجب ذلك، والحجة لهم حديث ابن مسعود الذي مضى في الباب السابق من حيث إنه، صلى الله عليه وسلم، لم يقل للأشعث: تحلف مع البينة، فلم
242

يوجب على المدعي غير البينة، وأيضا قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء...) * (النور: 4). الآية، فأبرأه الله تعالى من الجلد بإقامة أربعة شهداء من غير يمين. والآخر: أن لا يصح القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي، لأن الشارع جعل اليمين على المدعى عليه، وفيه اختلاف أيضا نذكره عن قريب.
والحكم الثاني: أن اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، وفيه اختلاف أيضا، فذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى القول بعموم ذلك في الأموال والحدود والنكاح ونحوه، واستثنى مالك النكاح والطلاق والعتاق والفدية، فقال: لا يجب في شيء منها اليمين حتى يقيم المدعي البينة، ولو شاهدا واحدا. وقال الكوفيون: يختص اليمين بالمدعى عليه في الأموال دون الحدود. وفي (التوضيح): قام الإجماع على استحلاف المدعى عليه في الأموال، واختلفوا في الحدود والطلاق والنكاح والعتق، فذهب الشافعي: إلى أن اليمين واجبة على كل مدعى عليه إذا لم يكن للمدعي بينة، وسواء كانت الدعوى في دم أو جراح أو طلاق أو نكاح أو عتق أو غير ذلك، واحتج بحديث الباب: شاهداك أو يمينه، قال: ولم يخص مدعي مال دون مدعي دم أو غيره، بل الواجب أن يحمل على العموم. ألا يرى أنه جعل القسامة في دعوى الدم، وقال للأنصار: يبرئكم يهود بخمسين يمينا؟ والدم أعظم حرمة من المال. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا ادعت المرأة على زوجها خلعا أو طلاقا، وجحد الزوج الطلاق، فعليها البينة وإلا يستحلف الزوج، وإن ادعى الخلع على مال، فأنكرت، فإن أقام البينة لزمها المال وإلا حلفت ولزم الزوج الفراق، لأنه أقر به، وإن ادعى العبد العتق، ولا بينة له، يستحلف السيد فإن حلف برئ وإن ادعى السيد أنه أعتقه على مال، وأنكر العبد حلف، ولزم السيد العتق، وكان أبو يوسف ومحمد يريان بأن يستحلف على النكاح، فإن أبى ألزم النكاح.
قلت: مذهب أبي حنيفة: أن المدعى عليه لا يستحلف في النكاح بأن يدعي على امرأة نكاحا. وهي تجحد، أو ادعت هي كذلك وهو يجحد. ولا في الرجعة، بأن ادعى بعد انقضاء عدتها أنه كان راجعها في العدة، وهي تجحد، أو ادعت هي كذلك وهو يجحد. ولا في فيء الإيلاء بأن ادعى بعد مضي مدة الإيلاء أنه فاء إليها في المدة،
وهي تجحد أو ادعت المرأة كذلك، وهو يجحد. ولا في الاستيلاد، بأن ادعت الأمة على سيدها أنها ولدت منه، وأنكر المولى، ولا يتصور العكس من قبله عليها، لأن الاستيلاد يثبت بإقراره. ولا في الرق بأن ادعى على مجهول النسب أنه عبده أو ادعى مجهول النسب أنه معتقه. ولا في النسب، بأن ادعى الولد على الوالد أو الوالد على الولد، وأنكر الآخر. ولا في الولاء: بأن ادعى على معروف النسب أنه معتقه، أو ادعى معروف النسب أنه معتقه، أو كان ذلك في الموالاة. وقال أبو يوسف ومحمد: يستحلف في الكل، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. ولا يستحلف باتفاق أصحابنا في الحد، بأن قال رجل لآخر: لي عليك حد قذف، وهو ينكر، لا يستحلف لأنه يندرىء بالشبهات إلا إذا تضمن حقا، بأن علق عتق عبده بالزنا، وقال: إن زنيت فأنت حر، فادعى العبد أنه زنى ولا بينة له عليه، يستحلف المولى، حتى إذا نكل ثبت العتق دون الزنا. وقال القاضي الإمام فخر الدين، المعروف: بقاضيخان الفتوى، على أنه يستحلف المنكر في الأشياء الستة المذكورة، وذكر ابن المنذر عن الشعبي والثوري وأصحاب الرأي أنه: لا يستحلف على شيء من الحدود، ولا على القذف، وقالوا: يستحلف يستحلف على السرقة فإن نكل لزمه المال وعند مالك لا يمين في النكاح والطلاق والعتق والفرقة إلا أن يقيم المدعى شاهدا واحد فإذا أقالمه استحلف المدعى عليه، وقال ابن حبيب: إذا أقامت المرأة أو العبد شاهدا واحدا على أن الزوج طلقها، أو أن السيد أعتقه، فاليمين تكون على السيد والزوج، فإن حلفا سقط عنهما الطلاق والعتق، وهذا قول مالك وابن الماجشون وابن كنانة، وقال في المدونة: فإن نكل قضى بالطلاق والعتق، ثم رجع مالك، فقال: لا يقضي بالطلاق ويسجن، فإن طال سجنه دين، وترك وبه قال ابن القاسم، وطول السجن عنده سنة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه
وصل البخاري هذا التعليق في آخر الباب من حديث الأشعث بن قيس، وهذا صريح أن الذي على المدعى البينة، والذي على المدعى عليه اليمين، فيقتضي منع يمين المدعي عند الرد عليه، ويمين الاستظهار أيضا كما ذكرنا. وارتفاع: شاهداك، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: المثبت لدعواك أو الحجة لك شاهداك، ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: شاهداك هو المطلوب في دعواك، أو شاهداك هما المثبتان لدعواك، ونحو ذلك.
243

وقال قتيبة حدثنا سفيان عن ابن شبرمة كلمني أبو الزناد في شهادة الشاهد ويمين المدعي فقلت قال الله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما الأخراى) * (البقرة: 282). قلت إذا كان يكتفى بشهادة شاهد ويمين المدعي فما يحتاج أن تذكر إحداهما الأخراى ما كان يصنع بذكر هاذه الأخراى
كذا هكذا في كثير من النسخ: قال قتيبة، معلقا، وفي بعضها: حدثنا قتيبة، وكذا نقل عن الشيخ قطب الدين الحلبي الشارح، وقال صاحب (التلويح) وكان الأول أظهر لأن البخاري لم يحتج في (صحيحه) بابن شبرمة، وابن شبرمة هو عبد الله بن شبرمة بضم الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة والراء المضمومة: ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي، فقيه أهل الكوفة، عداده في التابعين، وكان عفيفا صارما عاقلا فقيها، يشبه النساك، ثقة في الحديث، شاعرا، حسن الخلق، استشهد به البخاري في (الصحيح) وروى له في الأدب وروى له مسلم وأبو داود وابن ماجة، مات سنة أربع وأربعين ومائة، وروى عن أبي حنيفة حديثا واحدا. وأبو الزناد، بكسر الزاي وتخفيف النون، واسمه عبد الله بن ذكوان القرشي المدني قاضي المدينة، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، سمع من أنس بن مالك، مات سنة ثلاثين ومائة. قوله: إذا كان شرط، وقوله: فما يحتاج، جزاء، وكلمة: ما، نافية بخلاف قوله: ما كان، فإنها استفهامية، والفعلان: أعني: يحتاج ويصنع، بلفظ المجهول أي: إذا جاز الكفاية على شاهد ويمين فلا يحتاج إلى تذكير إحداهما الأخرى إذ اليمين تقوم مقامها، فما فائدة ذكر التذكير في القرآن؟ وقال الكرماني: فائدته تتميم شاهد، إذ المرأة الواحدة لا اعتبار لها، لأن المرأتين كرجل واحد. انتهى. قلت: هذا كلام عجيب كأنه مخترع من عنده، فكيف يكون حاصله: أن مذهب أبي الزناد القضاء بشاهد ويمين المدعي كأهل بلده، ومذهب ابن شبرمة خلافه كأهل بلده؟ فاحتج عليه أبو الزناد بالخبر الوارد في ذلك، واحتج عليه ابن شبرمة بما ذكره من الآية الكريمة. وقال بعضهم: وإنما يتم له الحجة بذلك على أصل مختلف فيه بين الفريقين. وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا لزيادة على ما في القرآن: هل يكون نسخا؟ والسنة لا تنسخ القران، أو لا؟ يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به، والأول مذهب الكوفيين والثاني مذهب الحجازيين، ومع قطع النظر عن ذلك لا ينهض حجة ابن شبرمة لأنه يصير معارضة للنص بالرأي. انتهى. قلت: مذهب ابن شبرمة هو مذهب ابن أبي ليلى وعطاء والنخعي والشعبي والأوزاعي والكوفيين والأندلسيين من أصحاب مالك، وهم يقولون: نص الكتاب العزيز في باب الشهادة: رجلان، فإذا لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، والحكم بشاهد ويمين مخالف للنص، فلا يجوز، والأخبار التي وردت بشاهد ويمين أخبار أحاد فلا يعمل بها عند مخالفتها النص، لأنه يكون نسخا ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز، وقال بعضهم: النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا، وأيضا الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص. قلت: النسخ رفع الحكم قسم من أقسام النسخ لأنه على أربعة أقسام: نسخ الحكم والتلاوة جميعا، ونسخ الحكم دون التلاوة، ونسخ التلاوة دون الحكم، والرابع: نسخ وصف الحكم، وهو أيضا مثل الزيادة على النص، وهو نسخ عندنا، وعند الشافعي هو بمنزلة تخصيص العام، حتى جوز ذلك بالقياس وبخبر الواحد، وقول هذا القائل: النسخ رفع الحكم، ليس على إطلاقه، لأن النسخ من قبيل بيان التبديل، لأن البيان عندنا خمسة أقسام: بيان تقرير، وبيان تفسير، وبيان تغيير، وبيان ضرورة، وبيان تبديل. والنسخ منه، ومعناه: أن يزول شيء ويخلفه غيره، ولا شك أن الحكم بشاهد ويمين رفع حكم الشاهدين، أو الشاهد، والمرأة، وكيف يقول هنا: ولا رفع هنا؟ وقوله: وأيضا الناسخ والمنسوخ... إلى آخره ليس على إطلاقه، لأنا نسلم أنه لا بد من توارد الناسخ والمنسوخ في محل واحد ولكن لا نسلم قوله: وهذا غير متحقق في الزيادة على النص، لأن قائل هذا، أي من كان لم يفرق بين نسخ الوصف وبين نسخ الذات، والنسخ هنا من قبيل نسخ الوصف لا من قبيل نسخ الذات، ونحن نقول: إن نسخ
الوصف مثل نسخ الذات في الحكم، فلهذا منعنا الحكم بشاهد ويمين، وقال هذا القائل أيضا: وتخصيص الكتاب بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه، قلنا: لا نسلم أن الزيادة على النص كالتخصيص مطلقا، وإنما يكون كالتخصيص إذا كانت
244

الزيادة حكما مستقلا بنفسها، فحينئذ يكون كالتخصيص، لأنها لا تغير. والتخصيص بيان عدم إرادة بعض ما يتناوله اللفظ، فيبقى الباقي بذلك النظم بعينه، فإن العام إذا خص منه بعض الأفراد بقي الحكم فيما وراءه بلفظ العام بعينه، كلفظ المشركين إذا خص منه أهل الذمة بقي الحكم في غيرهم ثابتا بلفظ المشركين، فلم يكن التخصيص نسخا، لأن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم الثابت، وبالتخصيص تبين أن المخصوص لم يكن مرادا بالعام فلا يكون رفعا بعد الثبوت، بل منعا عن الدخول في حكم العام، ولهذا قلنا: إن التخصيص لا يكون إلا مقارنا، لأنه بيان محض، وشرط النسخ أن يكون متأخرا، فيكون تبديلا لا بيانا محضا، ثم نظر هذا القائل في كون الزيادة على النص كالتخصيص. بقوله: كما في قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 42). وأجمعوا على تحريم العمة مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية، قلنا: الجواب عن هذين الحكمين أنهما حكمان مستقلان بأنفسهما، ولم يغيرا لحكم فيهما حتى يكون نسخا. وقد قلنا: إن مثل هذا كالتخصيص ثم قال هذا القائل: وقد أخذ من رد أن الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن: كالوضوء بالنبيذ، والوضوء من القهقهة، ومن القيء، والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء، واستبراء المسبية، وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة، ولا قود إلا بالسيف، ولا جمعة إلا في مصر جامع، ولا تقطع الأيدي في الغزو، ولا يرث الكافر المسلم، ولا يؤكل الطافي من السمك، ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، ولا يقل الوالد بالوالد، ولا يرث القاتل من القتيل، وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب، قلنا: هذا كله لا يرد علينا، والجواب عن هذا كله ما قلنا: إن الزائد على النص إذا كان حكما مستقلا بنفسه لا يضر ذلك، فلا يسمى نسخا، لأنه لا يغير ولا يبدل، والذي فيه التغيير بحسب الظاهر لا من حيث الوصف ولا من حيث الذات يكون كالتخصيص.
وقوله: وأجابوا بأنها أحاديث كثيرة شهيرة، فوجب العمل بها لشهرتها. لا نقول به، لأنا لا نلتزم شهرة تلك الأحاديث، فالأصل الذي نحن عليه فيه الكفاية. وقوله: فيقال لهم: وحديث القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة، بل ثبت من طرق صحيحية متعددة، فنقول: إن كان مرادهم بهذه الشهرة الشهرة عندهم فلا يلزمنا ذلك، وإن كان المراد الشهرة عند الكل فلا نسلم ذلك، لأن شهرتها عند الكل ممنوعة، فمن ادعى ذلك فعليه البيان، ولئن سلمنا شهرتها فالزيادة بها على القرآن لا تخرج عن كونها نسخا، والذي قال هؤلاء وظيفة التواتر فلا تواتر أصلا.
قوله: فمنها ما أخرجه مسلم من حديث ابن عباس: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، وقال في التمييز: إنه حديث صحيح لا يرتاب في صحته، وقال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في صحته ولا في إسناده.
والجواب عنه من وجهين: أحدهما: بطريق المنع، وهو أن مسلما روى هذا الحديث من حديث سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس... إلى آخره، وذكر الترمذي في (العلل الكبير): سألت محمد بن إسماعيل عنه، فقال: عمرو بن دينار لم يسمع عندي هذا الحديث من ابن عباس، وقال الطحاوي: قيس لا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشيء، فقد رمي الحديث بالانقطاع في موضعين من البخاري بين عمرو وابن عباس، ومن الطحاوي بين قيس وعمرو، رد البيهقي في (الخلافيات) على الطحاوي، وأشار إلى أن قيسا سمع من عمرو، واستدل على ذلك برواية وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت قيس بن سعد يحدث عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فذكر المحرم الذي وقصته ناقته، ثم قال البيهقي: ولا يبعد أن يكون له عن عمرو غير هذا.
قلت: لم يصرح أحد من أهل هذا الشأن فيما علمنا أن قيسا سمع من عمرو، لا يلزم من قول جرير: سمعت قيسا يحدث عن عمرو، أن يكون قيس سمع ذلك من عمرو، وذكر الذهبي سيفا في كتابه في (الضعفاء) وقال: رمي بالقدر، وقال في (الميزان): ذكره ابن عدي في (الكامل) وساق له هذا الحديث. وسأل عباس يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظ، وضعف أحمد بن حنبل محمد بن مسلم، ثم ذكر البيهقي هذا الحديث من وجه آخر من حديث معاذ بن عبد الرحمن عن ابن عباس. قلت: رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن ربيعة ابن عثمان، وإبراهيم هو الأسلمي مكشوف الحال، مرمي بالكذب وغيره من المصائب، وربيعة هذا، قال أبو زرعة: ليس بذلك، وقال أبو حاتم: منكر الحديث.
والجواب الآخر: بطريق التسليم، وهو أنه من أخبار الآحاد، فلا يجوز الزيادة به على النص.
قوله: ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. قلت: هذا أخرجه أبو داود، وقال: حدثنا أحمد
245

ابن أبي بكر أبو مصعب الزهري حدثنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي أيضا، وقالا: حديث حسن غريب. قلنا: هذا حديث معلول، لأن عبد العزيز الدراوردي قد سأل سهيلا عنه فلم يعرفه، وهذا قدح فيه، لأن الخصم يضعف الحديث بما هو أدنى من ذلك، فإن قلت: يجوز أن يكون رواه ثم نسيه. قلت: يجوز أن يكون وهم في أول الأمر، وروى ما لم يكن سمعه، وقد علمنا أن آخر أمره كان جحوده وفقد العلم به، فهو أولى، وقال صاحب (الجوهر النقي): فيه مع نسيان سهيل أنه قد اختلف عليه، فرواه زهير بن محمد عنه عن أبيه عن زيد بن ثابت كما ذكره البيهقي.
قوله: ومنها حديث جابر، مثل حديث أبي هريرة، أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وأبو عوانة قلت أخرجه الترمذي وابن ماجة عن عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر: أن النبي، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد وأخرجه الترمذي أيضا عن إسماعيل بن جعفر دحدثنا جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد الواحد. انتهى، الأول مرفوع، والثاني مرسل، وعبد الوهاب اختلط في آخر عمره، كذا ذكره ابن معين
وغيره وقال محمد بن سعد: كان ثقة وفيه ضعف. وقال ابن المهدي: أربعة كانوا يحدثون من كتب الناس ولا يحفظون ذلك الحفظ، فذكر منهم عبد الوهاب، وقد خالفه في هذا الحديث من هو أكبر منه وأوثق كمالك وغيره، فأرسلوه. وقال صاحب (التمهيد): إرساله أشهر. وقال الترمذي إن المرسل أصح، وكذا روى الثوري عن جعفر عن أبيه مرسلا، ولهذا ذكر في كتاب المعرفة: أن الشافعي لم يحتج بهذا الحديث في هذه المسألة، لذهاب بعض الحفاظ إلى كونه غلطا، وقال هذا القائل: وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة، فيها الحسان والضعاف، وبدون ذلك تثبت الشهرة ودعوى نسخه مرودودة. قلت: الجواب ثبوت الشهرة بذلك، وقد ذكرناه عن قريب، وأما قوله: ودعوى نسخه مردودة، فمردود لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على المدعى عليه)، وقوله: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) يرد ما قاله: وكذا قوله: شاهداك أو يمينه مع ظاهر القرآن، لأنه أوجب عند عدم الرجلين قبول رجل وامرأتين، وإذا وجد شاهد واحد فالرجلان معدومان، ففي قبوله مع اليمين نفي ما اقتضته الآية، ويؤيد قول من يدعي النسخ: إن الأشعث إنما وفد سنة عشرة، وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه)، وأيضا فإنه تعالى قال: * (ممن ترضون من الشهداء) * (البقرة: 282). وليس المدعي بشاهد واحد ممن يرضى باستحقاق ما يدعيه بقوله ويمينه. وزعموا أن يمين المدعي قائمة مقام المرأتين، فعلى هذا، لو كان المدعي ذميا فأقام شاهدا وجب أن لا يقبل منه، كما لو كانت المرإتان ذميتين.
وأما الذي روي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فمنهم: ابن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وعلي بن أبي طالب وسرق وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو وعمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة وزبيب بن ثعلبة وعمارة بن حزم وعبد الله بن عمر ورجل له صحبة والزبير بن العوام، وقد ذكرنا أحاديث: ابن عباس وأبي هريرة وجابر، رضي الله تعالى عنهم. أما حديث زيد ابن ثابت فأخرجه ابن عدي والبيهقي في (سننه) من رواية زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت، أورده ابن عدي في ترجمة زهير بن محمد، قال: لم يقل: عن سهيل عن أبيه عن زيد غيره، وقال أبو عمر في (التمهيد): هذا خطأ، والصواب: عن أبيه عن أبي هريرة، وقال ابن حبان: زيد بن ثابت وهم من زهير بن محمد. وأما حديث علي، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه ابن عدي أيضا في ترجمة الحارث بن منصور الواسطي عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: وهذا لا أعلم رواه عن الثوري غير الحارث. وقال الترمذي: وهكذا روى سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسلا. وأما حديث سرق فأخرجه ابن ماجة من رواية عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب، وهذا فيه مجهول. وأما حديث سعد بن عبادة، فقال الترمذي بعد أن روى حديث أبي هريرة من رواية ربيعة ابن أبي عبد الرحمن، قال: قال ربيعة: وأخبرني ابن سعد بن عبادة، قال: وجدنا في كتاب سعد أن النبي، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهذ، هكذا رواه غير مسمى. وأما حديث عبد الله بن عمرو فرواه ابن عبد البر في (التمهيد) وابن عدي أيضا من رواية
246

محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمر الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال ابن عدي: ومحمد هذا غير ثقة. وأما حديث عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة فأخرجهما البيهقي في (سننه) من رواية سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعد بن عبادة أنه وجد كتابا في كتب آبائه، هذا ما وقع، أو ذكر عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة، قالا: بينا نحن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهد له على حقه، فجعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم يمين صاحب الحق مع شاهده فاقتطع بذلك حقه. وأما حديث زبيب، بضم الزاي وفتح الباء الموحدة: ابن ثعلبة العنبري فأخرجه أبو داود من رواية شعيب بن عبد الله بن زبيب العنبري: حدثني أبي قال: سمعت جدي الزبيب... الحديث مطولا، فلينظر فيه وأورده ابن عدي في ترجمة شعيب بن عبد الله، وقال: أرجو أنه يصدق فيه. وأما حديث عمارة بن حزم فأخرجه أحمد في (مسنده) قال: حدثنا يعقوب حدثنا عبد العزيز بن المطلب عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل عن جده أنه قال: كتاب وجدته في كتب سعيد بن سعد بن عبادة: أن عمارة بن حزم شهد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد، وقد اختلف فيه على عبد العزيز بن المطلب. وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه ابن عدي من رواية أبي حذافة السهمي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وقال: هذا عن مالك بهذا الإسناد باطل، وقال أبو عمر: حديث أبي حذافة منكر. وأما حديث رجل له صحبة فأخرجه البيهقي في (سننه) من حديث الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد عن ربيعة بن عثمان عن معاذ بن عبد الرحمن عن ابن عباس، وآخر له صحبة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، وقد ذكرنا عن قريب أن إبراهيم بن محمد يرمى بالكذب، وربيعة منكر الحديث، قاله أبو حاتم. وأما حديث عبد الله بن الزبير فذكره الحافظ أبو سعيد محمد بن علي بن عمرو في كتاب (الشهود) أنبأنا أحمد بن محمد بن موسى حدثنا الحسين بن أحمد بن بسطام حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا عباد عن شعيب بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده الزبير بن العوام: أن النبي، صلى الله عليه وسلم قضى بيمين مع الشاهد.
فإن قلت: هذه الأحاديث دلت على جواز الحكم باليمين والشاهد، وروى النسائي أيضا من حديث أبي الزناد عن ابن أبي صفية الكوفي: أنه حضر شريحا في مسجد الكوفة قضى باليمين مع الشاهد، وعن أبي الزناد: أن عمر بن عبد العزيز وشريحا قضيا باليمين مع الشاهد، قال أبو الزناد: كتب عمر إلى عبد الحميد ابن عبد الرحمن، عامله على المدينة، أن يقضي به. وفي (المحلى) روينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: قضى باليمين والشاهد الواحد. قال: وروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وإياس بن معاوية، ويحيى ابن معمر، والفقهاء السبعة وغيرهم، وقال أبو عمر وروي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر والقضاء باليمين، وإن كان في الأسانيد عنها ضعف. قلت: أما الأحاديث فقد وقفت على حالها، وأما هؤلاء المذكورون فإن كان روى عنهم بأسانيد ضعيفة، فقد روى عن غيرهم بأسانيد صحاح، أنه لا يجوز. منها: ما رواه ابن أبي شيبة: حدثنا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب
عن الزهري قال: هي بدعة وأول من قضى بها معاوية، وهذا السند على شرط مسلم، وقال عطاء بن أبي رباح: أول من قضى به عبد الملك بن مروان، وقال محمد بن الحسن: إن حكم به قاض نقض حكمه، وهو بدعة، وقد ذكرنا عن جماعة، فيما مضى، عدم الجواز به.
8662 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضاى باليمين على المدعاى عليه.
(انظر الحديث 4152 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الترجمة باب اليمين على المدعى عليه، والحديث فيه أنه صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه، وأبو نعيم الفضل بن دكين، ونافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجمحي القرشي من أهل مكة، مات بمكة، سنة تسع وستين، ومائة وابن أبي مليكة: هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مليكة، بضم الميم، وقد تكرر ذكره، والحديث أخرجه البخاري في الرهن عن خلاد بن يحيى عن نافع بن عمر... إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك، وفيه حجة للحنفية أن اليمين وظيفة المدعى عليه، وأنها لا ترد على المدعي، ولا يمين الاستظهار، ولا يمين بشاهد واحد.
وقد أخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبد الله بن إدريس عن ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة، قال: كنت قاضيا لابن الزبير على الطائف، فكتبت إلى ابن عباس، فكتب إلي: أن رسول
247

الله، صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وهذه الزيادة ليست في (الصحيحين) وإسنادها حسن، وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، بقوله، صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم).
وقيل: الحكمة في كون البينة على المدعي لأن جانبه ضعيف، لأنه يقول خلاف الظاهر فيتقوى بها، وجانب المدعى عليه قوي، لأن الأصل فراغ ذمته، فاكتفى منه باليمين لأنها حجة ضعيفة. فإن قلت: قال الأصيلي: حديث ابن عباس هذا لا يصح مرفوعا، إنما هو قول ابن عباس: كذا رواه أيوب ونافع الجمحي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، قلت: رواه الشيخان من رواية ابن جريج مرفوعا، وهذا يكفي لصحة الرفع، ومع هذا فإن كان مراد الأصيلي جميع الحديث الذي رواه البيهقي فلا يصح، لأن المقدار الذي أخرجه الشيخان متفق على صحته، وإن كان مراده هذه الزيادة، وهي قوله: لو يعطى الناس... إلى آخره، فغريب فافهم.
((باب))
قد مر غير مرة أن الباب إذا كان مذكورا مجردا يكون كالفصل في الباب الذي قبله، وقد ذكرنا أيضا أن لفظ: الكتاب، يجمع على الأبواب، والأبواب تجمع الفصول، وباب هنا غير معرب، لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد، والتركيب اللهم إلا إذا قلنا: التقدير: هذا باب، فحينئذ يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وليس هذا بمذكور في كثير من النسخ.
0762 حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل قال قال عبد الله من حلف على يمين يستحق بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان ثم أنزل الله عز وجل تصديق ذالك إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم إلى عذاب أليم ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا فقال ما يحدثكم أبو عبد الرحمان فحدثناه بما قال فقال صدق لفي أنزلت كان بيني وبين رجل خصومة في شيء فاختصمنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال شاهداك أو يمينه فقلت له إنه إذا يحلف ولا يبالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يستحق بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذالك ثم اقترأ هذه الآية.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: شاهداك، لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب بذلك الأشعث، وكان هو المدعي، فجعل صلى الله عليه وسلم البينة عليه، وهذا الحديث مضى في الرهن في: باب إذا اختلف الراهن والمرتهن، بعين هذا الإسناد والمتن، غير أن هناك أخرجه: عن قتيبة بن سعيد عن جرير... إلى آخره، وههنا: عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير... إلى آخره، ومضى الكلام فيه هناك. وقال بعضهم: واستدل بهذا الحصر على رد القضاء باليمين والشاهد. وأجيب: بأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم (شاهداك) على رجل ويمين الطالب
أي: بينتك، سواء كانت رجلين أو رجلا وامرأتين أو رجلا ويمين الطالب. انتهى. قلت: هذا تأويل غير صحيح، فسبحان الله كيف يدل. قوله: (شاهداك)، شاهداك بالبينة، والبينة قد عرفت بالنص أنها: رجلان أو رجل وامرأتان، ليس إلا وتخصيص لفظ: الشاهدين، لكونهما أكثر وأغلب، فافهم. والله أعلم.
12
((باب إذا إدعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا ادعى رجل بشيء على آخر. قوله: (أو قذف) أي: أو قذف رجل رجلا أو قذف امرأته بأن رماها بالزنا. قوله: (فله) أي: فلهذا المدعي أو لهذا القاذف والضمير هنا مثل الضمير في قوله: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8). فإن هو يرجع
248

إلى العدل الذي يدل عليه: إعدلوا، وكذلك قوله: أدعى، يدل على المدعي، وقوله: أو قذف، يدل على القاذف. قوله: (وينطلق) بالنصب عطفا على قوله: (أن يلتمس) وفيه: إشارة إلى أن له حق المهلة في التماس البينة، وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من باب اللف والنشر، وخصص هذا بالقسم الثاني أي: القذف موافقة
للفظ الحديث. قلت: هو قوله: فقال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ ثم قال الكرماني: فإن قلت: ليس في الحديث إلا هذا، فمن أين علم حكم الادعاء؟ قلت: بالقياس عليه.
35 - (حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن هشام قال حدثنا عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي
بشريك بن سمحاء فقال النبي
البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل يقول البينة وإلا حد في ظهرك فذكر حديث اللعان)
مطابقته للترجمة في قوله ينطلق يلتمس البينة * فإن قلت الحديث ورد في الزوجين والترجمة أعم من ذلك والانطلاق لالتماس البينة لتمكين القاذف من إقامة البينة حتى يندفع الحد عنه وليس الأجنبي كذلك (قلت) كان ذلك قبل نزول آية اللعان حيث كان الزوج والأجنبي سواء ثم كما ثبت للقاذف ذلك ثبت لكل مدع بطريق الأولى ومحمد بن بشار بتشديد الشين المعجمة قد تكرر ذكره وابن أبي عدي بفتح العين المهملة وكسر الدال المهملة هو محمد بن أبي عدي واسمه إبراهيم وهشام هو ابن حسان القردوسي البصري والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير وفي الطلاق وأبو داود في الطلاق والترمذي في التفسير والطلاق كلهم عن بندار وهو محمد بن بشار المذكور
(ذكر معناه) قوله ' هلال بن أمية ' بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف واسمه مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوسي الأنصاري الواقفي شهد بدرا وأحدا وكان قديم الإسلام وأمه أنيسة بنت هدم أخت كلثوم بن الهدم الذي نزل عليه النبي
لما قدم المدينة مهاجرا وهو الذي لاعن امرأته على ما نذكره وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وقال الطبري والمهلب بن أبي صفرة يستنكر قوله في الحديث هلال بن أمية وإنما القاذف عويمر العجلاني وكانت هذه القضية في شعبان سنة تسع منصرف سيدنا رسول الله
من تبوك وقال المهلب وأظنه غلط من هشام بن حسان ومما يدل على أنها قضية واحدة توقف سيدنا رسول الله
حتى أنزل الله عز وجل الآية ولو أنهما قضيتان لم يتوقف عن الحكم فيهما والحكم في الثانية بما أنزل الله تعالى قلت لم ينفرد به هشام بل تابعه عباد بن منصور ذكره الترمذي وقال ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس متصلا ورواه أيوب عن عكرمة مرسلا ولم يذكر ابن عباس وروى الطبري في تفسيره قال حدثنا أبو أحمد الحسين بن محمد حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال قذف هلال امرأته قيل له ليجلدنك رسول الله
ثمانين جلدة فنزلت له الآية الحديث مطولا ولما رواه الحاكم كذلك من حديث الحسن بن محمد المروزي عن جرير به قال صحيح على شرط البخاري ورواه ابن مردويه في تفسيره عن عباد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس وقال الخطيب حديث هلال وعويمر صحيحان فلعلهما اتفقا معا في مقام واحد أو مقامين ونزلت الآية الكريمة في تلك الحال لا سيما وفي حديث عويمر كره رسول الله
السائل يدل على أنه سبق بالمسألة مع ما روينا عن جابر أنه قال ما نزلت آية اللعان إلا لكثرة السؤال وقال الماوردي الأكثرون على أن قضية هلال أسبق من قضية عويمر والنقل فيهما مشتبه مختلف وقال ابن الصباغ في الشامل قصة هلال تبين الآية نزلت فيه أولا وقول النبي
لعويمر ' إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك ' معناه ما نزل في قضية هلال لأن ذلك حكم عام لجميع المسلمين
249

قال النووي ولعلها نزلت فيهما جميعا لاحتمال سؤالهما في وقتين متقاربين فنزلت وسبق هلال باللعان قوله ' قذف ' القذف في اللغة الرمي بقوة ولكن المراد هنا رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه يقال قذف يقذف قذفا فهو قاذف قوله ' امرأته ' زعم مقاتل في تفسيره أن المرأة اسمها خولة بنت قيس الأنصارية قوله ' بشريك بن سمحاء ' سمحاء أمه وأبو عبدة بفتح العين المهملة وفتح الباء الموحدة ابن معتب بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة من فوق وفي آخره باء موحدة كذا ضبطه الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى وقال الدارقطني مغيث بالغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ثاء مثلثة ابن الجد بفتح الجيم وتشديد الدال ابن عجلان بن حارثة بن ضبيعة البلوي وهو ابن عم معن وعاصم بن عدي بن الجد وهو حليف الأنصار وهو صاحب اللعان قيل أنه شهد مع أبيه أحدا وهو أخو البراء بن مالك لأمه وهو الذي قذفه هلال بن أمية بامرأته وعن أنس أنه أول من لاعن في الإسلام وإنما سميت أمه سمحاء لسوادها قيل اسمها لبينة وقيل مانية بنت عبد الله قوله ' البينة ' بالنصب أي أحضر البينة أو أقمها ويجوز الرفع على معنى الواجب عليك البينة قوله ' أو حد ' أي الواجب عند عدم البينة حد في ظهرك ويروي البينة وإلا حد أي وإن لم تحضر البينة أو إن لم تقمها فجزاؤك حد في ظهرك والجزء الأول من الجملة الجزائية والفاء محذوفان وكلمة في بمعنى على أي على ظهرك كما في قوله تعالى * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * أي عليها قوله ' يلتمس البينة ' جملة حالية من الالتماس وهو الطلب قوله ' فجعل يقول ' أي فجعل الرسول يقول المعنى أنه يكرر قوله البينة أو حد في ظهرك قوله فذكر حديث اللعان أي فذكر ابن عباس حديث اللعان وهو الذي ذكره البخاري في التفسير في سورة النور والذي ذكره هنا قطعة منه وذكره بالسند المذكور عن محمد بن بشار المذكور من قوله أو حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام وأنزل عليه * (والذين يرمون أزواجهم) * فقرأ حتى بلغ * (إن كان من الصادقين) * فانصرف النبي
فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي
يقول ' إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ' ثم قامت فشهدت فلما كان عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي
' أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سمحاء ' فجاءت به كذلك فقال النبي
' لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن ' وأبو داود له طريقان في حديث ابن عباس هذا أحدهما عن محمد بن بشار إلى آخره نحو رواية البخاري شيخا وسندا ومتنا والآخر عن الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا على رسول الله
فقال يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فرأيت عندهم رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله
ما جاء به واشتد عليه فنزلت * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا نفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات) * الآيتين كلتيهما فسرى عن رسول الله
فقال ' أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجا ومخرجا ' قال هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي فقال رسول الله
أرسلوا إليها فجاءت فتلا عليها رسول الله
وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال والله لقد صدقت عليها فقالت كذب فقال رسول الله
' لاعنوا بينهما ' فقيل لهلال اشهد فشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فلما كان الخامسة قيل له يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل لها اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما كان الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وأن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله
بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضى أن لا بيت عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان
250

من غير طلاق ولا متوفي عنها وقال إن جاءت به أصيهب أريصح أثيبج حمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابق الأليتين فقال رسول الله
لولا الأيمان لكان لي ولها شأن قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب ولنذكر تفسير ما وقع في الأحاديث المذكورة من الألفاظ الغريبة * قوله الموجبة أي توجب العذاب. قوله فتلكأت أي تبطأت عن إتمام اللعان. قوله ونكصت أي رجعت إلى ورائها وهو القهقرى يقال نكص ينكص من باب نصر ينصر. قوله لا أفضح بضم الهمزة من الإفضاح. قوله سابغ الأليتين أي تامهما وعظيمهما من سبوغ الثوب والنعمة. قوله خدلج الساقين أي عظيمهما. قوله لولا ما مضى من كتاب الله وهو قوله تعالى * (ويدرؤ عنها العذاب) *. قوله فلم يهجه أي لم يزعجه ولم ينفره من هاج الشيء يهيج هيجا واهتاج أي ثار وهاجه غيره. قوله أصيهب تصغير أصهب وكذا في رواية أصهب بالتكبير وهو الذي تعلو لونه صهبة وهي كالشقرة وقال الخطابي والمعروف أن الصهبة مختصة بالشعر وهي حمرة يعلوها سواد. قوله أريصح تصغير الأرصح وهو الناتىء الأليتين ومادته راء وصاد وحاء مهملتان ويجوز بالسين قاله الهروي والمعروف في اللغة أن الأرسخ والأرصح هو الخفيف لحم الأليتين قوله أثيبج تصغير الأثبج وهو الناتىء الثبج أي ما بين الكتفين والكاهل ومادته الثاء المثلثة والباء الموحدة والجيم. قوله حمش الساقين أي دقيقهما يقال رجل حمش الساقين وأحمش الساقين ومادته حاء مهملة وميم وشين معجمة. قوله أورق أي أسمر والورقة السمرة يقال جمل أورق وناقة ورقاء. قوله جعد الجعد في صفات الرجال يكون مدحا وذما فالمدح معناه أن يكون شديد الأسر والخلق أو يكون جعد الشعر وهو ضد السبط لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم وأما الذم فهو القصير المتردد الخلق. قوله جماليا بضم الجيم وتشديد الياء الضخم الأعضاء التام الأوصال
(ذكر ما يستفاد منه) أجمع العلماء على صحة اللعان واللعان عندنا شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعان قائمة مقام القذف في حقه ولهذا يشترط كونها ممن يحد قاذفها ولا يقبل شهادته بعد اللعان أبدا وقائمة مقام حد الزنا في حقها ولهذا لو قذفها مرارا يكفي لعان واحد كالحد وعند الشافعي ومالك وأحمد هي أيمان مؤكدات بلفظ الشهادة فيشترط أهلية اليمين عندهم فيجري بين المسلم وامرأته الكافرة وبين الكافر وامرأته الكافرة وبين العبد وامرأته وعندنا يشترط أهلية الشهادة فلا يجري إلا بين المسلمين الحرين العاقلين البالغين غير محدودين في قذف لقوله تعالى * (فشهادة أحدهم) * ويجري عندنا بين الفاسق وامرأته وبين الأعمى وامرأته لأن هذه الشهادة مشروعة في مواضع التهمة وإن كان لا يقبل شهادة الفاسق والأعمى في سائر المواضع والشرط أيضا كون المرأة ممن يحد قاذفها فلا بد من إحصانها والشرط أيضا أن يكون القذف بالزنا بأن يقول أنت زانية أو زنيت ولو قذفها بغير الزنا لا يجب اللعان وقال القرطبي الأكثر على أنهما بفراغهما من اللعان يقع التحريم المؤبد ولا تحل له أبدا وإن أكذب نفسه متمسكين بقوله لا سبيل لك عليها وربما جاء في حديث ابن شهاب لمضت سنة المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان. وقال أبو حنيفة وأصحابه إذا التعنا بانت بتفريق الحاكم حتى لو مات أحدهما قبل حكم الحاكم ورثه الآخر وقال زفر لا تقع الفرقة إلا إذا تلاعنا جميعا فإذا تلاعنا وقعت بغير قضاء وبه قال مالك وأحمد في رواية وقال أبو حنيفة ومحمد وعبيد الله بن الحسن التفريق تطليقة بائنة حتى إذا أكذب نفسه جاز نكاحها وعند أبي يوسف تحريم مؤبد وبه قال مالك والشافعي وأحمد وزفر. وقال عثمان البتي لا تأثير للعان في الفرقة وإنما يسقط النسب والحد وهما على الزوجية كما كانا حتى يطلقها وحكاه الطبري أيضا عن جابر بن زيد قال أبو بكر الرازي قال مالك والحسن بن صالح والشافعي والليث أي منهما نكل حد إن كان الزوج فللقذف ولها فللزنا وعن الشعبي والضحاك ومكحول إذا أبت رجمت وأيهما نكل حبس حتى يلاعن وذكر ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه واستدل الشافعي بقوله قذف امرأته بشريك بن سمحاء على أنه لا حد على الرامي زوجته إذا سمى الذي رماها به ثم التعن وعند مالك يحد ولا يكتفى بلعانه واعتذر بعض أصحابه عن حديث شريك بأن شريكا لم يطلب حقه. وزعم أبو بكر الرازي أنه كان حد القاذف
251

الجلد بدلالة قوله ' البينة وإلا حد في ظهرك ' وأنه نسخ الجلد إلى اللعان. وفيه في قوله لولا ما مضى من كتاب الله أن الحكم إذا وقع بشرطه لا ينقض وإن بين خلافه إذا لم يقع خلل أو تفريط في شيء * وفيه في قوله البينة وإلا حد في ظهرك مراجعة الخصم الإمام إذا رجا أن يظهر له خلاف ما قال له لأن قوله
هذا كالفتيا * وفيه أن الحدود والحقوق يستوي فيه الصالح وغيره قاله الداودي (فإن قلت) لم سمي هذا الحكم لعانا ولم اختير لفظ اللعن على لفظ الغضب وما الحكمة في مشروعيته (قلت) أما التسمية باللعان فلقول الزوج علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين واللعان والتلاعن والملاعنة واحد يقال تلاعنا والتعنا ولاعن القاضي بينهما وقيل سمي لعانا لأنه من اللعن وهو الطرد والإبعاد ولا شك أن كل واحد منهما يبعد عن صاحبه وأما وجه اختيار لفظ اللعن على لفظ الغضب فلأن لفظ اللعن مقدم في الآية الكريمة وفي صورة اللعان ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانب المرأة لأنه قادر على الابتداء باللعان دونها وأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس وأما مشروعية اللعان فلحفظ الأنساب ودفع المعرة عن الأزواج (فإن قلت) فلم جعل اللعن للرجل والغضب للمرأة (قلت) لأن الإنسان لا يؤثر أن يهتك زوجه بالمحال * -
22
((باب اليمين بعد العصر))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في الخبر من اليمين بعد العصر.
2762 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له وإلا لم يف له ورجل ساوم رجلا بسلعة بعد العصر فحلف بالله لقد أعطى به كذا وكذا فأخذها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والأعمش هو سليمان وأبو صالح ذكوان السمان. والحديث مضى في الشرب في: باب الخصومة في البئر، بأتم منه. قوله: (بعد العصر)، قد ذكرنا أن تخصيص هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذبا لشهود ملائكة الليل والنهار في هذا الوقت، والأحسن أن يقال: لأن فيه ارتفاع الأعمال، لأن هؤلاء الملائكة يشهدون بعد صلاة الصبح أيضا. قوله: (به)، أي: بالمتاع الذي يدل عليه السلعة، ويروى: بها، وهو ظاهر. قوله: (فأخذها) فيه حذف، أي: أخذ الرجل الثاني، وهو المشتري السلعة بذلك الثمن اعتمادا على حلفه.
32
((باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين ولا يصرف من موضع إلى غيره))
أي: هذا باب يذكر فيه أن المدعى عليه إذا توجهت عليه اليمين يحلف حيث ما وجبت عليه، ولا يصرف من موضعه ذلك، وهذا قول الحنفية والحنابلة، وإليه مال البخاري، وقال ابن عبد البر: جملة مذهب مالك في هذا أن اليمين لا تكون عند المنبر من كل جامع، ولا في الجامع حيث كان، إلا في ربع دينار فصاعدا، وما دون ذلك حلف في مجلس الحاكم، أو حيث شاء من المواضع في السوق أو غيرها، وليس عليه التوجه إلى القبلة. قال: ولا يعرف مالك منبرا إلا منبر المدينة فقط، قال: ومن أبى أن يحلف عنده فهو كالناكل عن اليمين، ويحلف في أيمان القسامة عند مالك إلى مكة، شرفها الله وعظمها، كل من كان من أهلها فيحلف بين الركن والمقام، وكذلك المدينة، ويحلف عند المنبر، وحكى أبو عبيد: أن عمر بن عبد العزيز حمل قوما اتهمهم بفلسطين إلى الصخرة، فحلفوا عندها. وقال أبو عمر: وذهب الشافعي إلى نحو قول مالك: إلا أن الشافعي لا يرى اليمين عند منبر المدينة، ولا بين الركن والمقام بمكة إلا في عشرين دينارا فصاعدا وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب الاستحلاف عند منبر النبي، صلى الله عليه وسلم على أحد، ولا بين الركن والمقام على أحد في قليل الأشياء ولا في كثيرها، ولا في الدماء ولا
252

غيرها، لكن الحكام يحلفون من وجب عليه اليمين في مجالسهم.
قضى مروان باليمين على زيد بن ثابت على المنبر فقال أحلف له مكاني فجعل زيد يحلف وأبى أن يحلف على المنبر فجعل مروان يعجب منه
مروان هو ابن الحكم الأموي، كان والي المدينة من جهة معاوية بن أبي سفيان، وهذا التعليق رواه مالك في (الموطأ) عن داود ابن الحصين: سمع أبا غطفان بن طريف المزي، قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع يعني: عبد الله إلى مروان في دار، فقضى باليمين على زيد على المنبر، فقال: أحلف له مكاني. فقال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق، فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك، قال مالك: لا أرى أن يحلف على المنبر في أقل من ربع دينار، وذلك ثلاثة دراهم. قوله: (على المنبر) يتعلق بقوله: على المنبر ظاهرا، لكن السياق يقتضي أن يتعلق باليمين. قوله: (أحلف) بلفظ المتكلم، وإن كان المعنى صحيحا بلفظ الأمر أيضا. قوله: (فجعل) بمعنى: طفق، من أفعال المقاربة، وروى ابن جريج عن عكرمة، قال: أبصر عبد الرحمن ابن عوف، رضي الله تعالى عنه قوما يحلفون بين المقام والبيت، فقال: أعلى دم؟ قيل: لا، قال: أفعلى عظيم من المال؟ قال: لا، قال: لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. قال: ومنبر النبي، صلى الله عليه وسلم، في التعظيم مثل ذلك، لما ورد فيه من الوعيد على من حلف عنده بيمين كاذبة.
واحتيج أبو حنيفة بما روي عن زيد بن ثابت أنه: لم يحلف عند المنبر، ومن يرى ذلك مال إلى قول مروان بغير حجة، وقال صاحب (التوضيح): واحتج عليه الشافعي فقال: لو لم يعلم زيد أن اليمين عند المنبر سنة، لأنكر ذلك على مروان، وقال له: لا والله لا عليه أحلف إلا في مجلسك. انتهى. قلت: هذا عجيب! كيف يقول هذا؟ فلو علم زيد أنه سنة لما حلف على أنه لا يحلف إلا في مجلسه، وعدم سماعه كلام مروان أعظم من الإنكار عليه صريحا، والاحتجاج بزيد بن ثابت أولى
بالاحتجاج، بل أحق من مروان. وقد اختلف في الذي يغلظ فيه من الحقوق، فعن مالك: ربع دينار، وعن الشافعي: عشرون دينارا فأكثر، ونقل القاضي في مغربته
عن بعض المتأخرين: أنه يغلظ في القليل والكثير، وقال ابن الجلاب: يحلف على أقل من ربع دينار في سائر المساجد، وقال مالك: فيما حكاه ابن القاسم عنه: أنه يحلف قائما إلا من به علة، وروى عنه ابن كنانة: لا يلزمه القيام، وقال ابن القاسم: لا يستقبل القبلة، وخالفه مطرف وابن الماجشون، وهل يحلف في دبر صلاة وحين اجتماع الناس إذا كان المال كثيرا؟ قال ابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: ليس ذلك عليه. وقال ابن كنانة عن مالك: يتحرى به الساعات التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة.
واختلف في صفة ما يحلف به، فقال مالك: بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، وقال الشافعي: يزيد: الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. قال سحنون: يحلف بالله وبالمصحف، ذكره عنه الداودي، وعند أصحابنا الحنفية: اليمين بالله لا بالطلاق والعتاق إلا إذا ألح الخصم، ولا يبالي باليمين بالله، فحينئذ يحلف بهما، لكن إذا نكل لا يقضي عليه بالنكول، لأنه امتنع عما هو منهي عنه شرعا، ولو قضى عليه بالنكول لا ينفذ ويغلظ اليمين بأوصاف الله تعالى، وقيل: لا يغلظ على المعروف بالصلاح، ويغلظ على غيره، وقيل: يغلظ في الخطير من المال دون الحقير، ولا يغلظ بزمان ولا بمكان. وفي (التوضيح): هل يحلف بحضرة المصحف؟ أباه مالك، وألزمه ذلك بعض المالكيين في عشرين دينارا فأكثر، وعن ابن المنذر: أنه حكى عن الشافعي أنه قال: رأيت مطرفا يحلف بحضرة المصحف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه فلم يخص مكانا دون مكان
لما كان مذهب البخاري أن يحلف المدعى عليه حيث ما وجبت عليه اليمين، احتج بهذا على ما ذهب إليه، وقد مر هذا مسندا في حديث الأشعث، وهذا عجيب منه حيث وافق الحنفية في هذا. قيل: قد اعترض عليه بأنه ترجم لليمين بعد العصر، فأثبت التغليظ بالزمان ونفى هنا الغليظ بالمكان، وأجيب أنه لا يلزم من ترجمته بذلك أنه يوجب تغليظ اليمين بالزمان، ولم يصرح هناك بشيء من النفي والإثبات.
253

3762 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا عبد الواحد عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان.
.
مطابقته للترجمة، وإن كان فيها بعد، ولكن يمكن أن يوجه بشيء بتعسف، وهو أن الترجمة في أن المدعى عليه يحلف حيث ما يجب عليه اليمين. والحديث في الوعيد الشديد فيمن يحلف كاذبا، فالذي يتعين عليه اليمين يتحرى الصدق، سواء كان يحلف في مكان وجبت عليه اليمين فيه أو في غيره من الأمكنة التي تغلظ فيها اليمين، احترازا عن الوقوع في هذا الوعيد الشديد. والحديث مضى قريبا بأتم منه.
42
((باب إذا تسارع قوم في اليمين))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا تسارع قوم، يعني: قوم وجبت عليهم اليمين فتسارعوا جميعا أيهم يبدأ أولا، وجواب: إذا، محذوف يبينه الحديث، يعني: يقرع بينهم، وهو الجواب.
52
((باب قول الله تعالى * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77).))
أي: هذا باب في بيان الوعيد الشديد الذي تتضمنه هذه الآية الكرمية في حق الذي يرتكبون الأيمان الكاذبة الفاجرة، الآثمة، وقد ذمهم الله تعالى بقوله: * (إن الذين يشترون) * (آل عمران: 77). أي: يعتاضون * (بعهد الله) * (آل عمران: 77). أي: بما عاهد الله عليه * (وأيمانهم) * (آل عمران: 77). الكاذبة * (ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77). أي: عوضا يسيرا. قيل: نزلت هذه الآية الكريمة في الأشعث بن قيس حين خاصم اليهودي في أرض، على ما مر حديثه عن قريب، وقيل: إن رجلا أقام سلعته في السوق أول النهار، فلما كان آخره جاء رجل فساومه عليها، فحلف بالله منعتها أول النهار من كذا، ولولا المساء لما بعت على ما يجيء الآن، وتمام الآية: * (أولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر
254

إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * (آل عمران: 77). قوله: * (لا خلاق لهم) * (آل عمران: 77). أي: لا نصيب لهم. قوله: * (ولا يكلمهم الله) * (آل عمران: 77). فإن كان ذلك من اليهود فلا يكلمه أصلا، وإن كان من العصاة فلا يكلمهم كلاما يسرهم ولا ينفعهم. * (ولا يزكيهم) * (آل عمران: 77). أي: ولا يثني عليهم. وقيل: لا يطهرهم من الذنوب والآثام، بل يأمر بهم إلى النار * (ولهم عذاب أليم) * (آل عمران: 77). أي: مؤلم شديد.
5762 حدثنا إسحاق قال أخبرنا يزيد بن هارون قال أخبرنا العوام قال حدثني إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي سمع عبد الله بن أوفى رضي الله تعالى عنهما يقول أقام رجل سلعته فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطها فنزلت * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *
(انظر الحديث 8802 وطرفه).
مطابقته للترجمة للآية من حيث أنها نزلت في حق الرجل الذي أقام سلعة فحلف يمينا فاجرة. فإن قلت: قد ذكر فيما مضى أن الأشعث بن قيس قال: في نزلت هذه الآية
. قلت: لا معارضة بينهما، لأنه يحتمل نزول هذه الآية في كل من القضيتين وإسحاق شيخ البخاري قال الغساني: لم أجده منسوبا لأحد من شيوخنا، لكن صرح البخاري بنسبته في: باب شهود الملائكة بدرا. قال: حدثنا إسحاق بن منصور، وقال أبو نعيم الأصبهاني: هو إسحاق بن راهويه، والعوام، بتشديد الواو: ابن حوشب، وإبراهيم ابن عبد الرحمن أبو إسماعيل السكسكي الكوفي والسكسكي في كندة ينسب إلى السكاسك بن أشرس بن كندة، منهم إبراهيم هذا، وابن أبي أوفى هو عبد الله، واسم أبي أوفى، علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، له ولأبيه صحبة. والحديث مضى في البيوع في: باب ما يكره من الحلف في البيع، وقد مر الكلام فيه هناك.
وقال ابن أبي أوفى الناجش آكل ربا خائن
هو موصول بالإسناد المذكور إليه، وقد مر في البيوع في: باب النجش، ومر الكلام فيه هناك.
7762 حدثنا بشر بن خالد قال حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين كاذبا ليقتطع مال رجل أو قال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان وأنزل الله تصديق ذالك في القرآن * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * (آل عمران: 77). الآية فلقيني الأشعث فقال ما حدثكم عبد الله اليوم قلت: كذا وكذا قال: في أنزلت.
.
مطابقته للباب المتضمن للآية الكريمة ظاهرة لا تخفى، والحديث تكرر ذكره عن قريب وبعيد. قوله: (ما حدثكم عبد الله) هو عبد الله بن مسعود الراوي، وفي الأحاديث الماضية: ما حدثكم أبو عبد الرحمن، هو كنية عبد الله، وسليمان هو الأعمش، وأبو وائل شقيق.
62
((باب كيف يستحلف))
أي: هذا باب يذكر فيه: كيف يستحلف من يتوجه عليه اليمين، ويستحلف، بضم الياء: على صيغة المجهول.
قال الله تعالى: * (يحلفون بالله لكم) * (التوبة: 26). وقوله عز وجل * (ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) * (النساء: 26). وقول الله * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) * (التوبة: 65). ويحلفون بالله لكم ليرضوكم) * (التوبة: 26). * (فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) * (المائدة: 701).
ذكر هذه الآيات التي فيها الحلف بالله، وهي مناسبة للترجمة، وقال بعضهم: غرضه بذلك أنه لا يجب تغليظ الحلف بالقول: قلت: غرضه بذلك الإشارة إلى أن أصل اليمين أن تكون بلفظ الله، لما يذكر عن قريب عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)..
يقال بالله وتالله ووالله
أشار بهذا إلى الاسم الذي يحلف به، وإلى حروف القسم، أما الاسم الذي يحلف به فهو لفظ الله، وهو الأصل فيه، وأما حروف
255

القسم فهي: الباء الموحدة نحو: بالله، والتاء المثناة من فوق نحو: تالله، والواو نحو: والله، والكل ورد في القرآن أما الباء فقوله تعالى: * (قالوا تقاسموا بالله) * (النمل: 94). و (أما التاء فقوله تعالى: * (تالله لقد آثرك الله علينا) * (يوسف: 19). وأما الواو فقوله * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (الأنعام: 32).، وقد ذكرنا كيفية اليمين والخلاف فيه عن قريب في: باب يحلف المدعى عليه حيث ما وجبت عليه اليمين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم ورجل حلف بالله كاذبا بعد العصر ولا يحلف بغير الله
هذا التعليق قطعة من حديث ذكره موصولا عن أبي هريرة في: باب اليمين بعد العصر، وذكره هنا بالمعنى، وغرضه من ذكره هنا هو قوله: (ورجل حلف بالله). قوله: (ولا يحلف بغير الله) ليس من الحديث، بل من كلام البخاري ذكره تكميلا للترجمة.
8762 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد الله يقول جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأله عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة فقال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام رمضان قال هل علي غيره قال لا إلا أن تطوع قال وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال هل علي غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح إن صدق.
(انظر الحديث 64).
مطابقته للترجمة في قوله: (والله لا أزيد على هذا)، فهذا هو صورة الحلف بلفظ اسم الله، وبالباء الموحدة، والحديث بعين هذا الإسناد قد مضى في كتاب الإيمان في: باب الزكاة من الإسلام، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
9762 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا جويرية قال ذكر نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فليحلف بالله)، وجويرية تصغير: جارية ابن أسماء، على وزن حمراء، وهما من الأسماء المشتركة بين الذكور والإناث، وقد تكرر
ذكره، وعبد الله هو ابن عمر بن الخطاب.
قوله: (من كان حالفا...) إلى آخره، أي: من أراد أن يحلف (فليحلف بالله) أو لا يحلف أصلا، وهو دال على المنع من الحلف بغير الله، ولا شك في انعقاد اليمين باسم الذات والصفات العلية، وأما اليمين بغير ذلك فهو ممنوع.
واختلفوا: هل هو منع تحريم أو تنزيه؟ والخلاف فيه موجود عند المالكية، فالأقسام ثلاثة: الأول: ما يباح اليمين به، وهو ما ذكرنا من اسم الذات والصفات. الثاني: ما يحرم اليمين به بالإنفاق كالأنصاب والأزلام واللات والعزى، فإن قصد تعظيمها فهو كفر، كذا قال بعض المالكية معلقا للقول فيه، حيث يقول: فإن قصد تعظيمها يكفر، وإلا فحرام، والقسم بالشيء تعظيم له. والثالث: ما يختلف فيه بالتحريم، والكراهة، وهو مما عدا ذلك مما لا يقتضي تعظيمه، وقال ابن بطال: وأجمعوا أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف إلا بالله لا بالعتاق أو الحج أو المصحف وإن اتهمه القاضي غلظ عليه اليمين بزيادة من صفات الله عز وجل، وقد مر الكلام فيه في: باب كيف يستحلف.
72
((باب من أقام البينة بعد اليمين))
أي: هذا باب في بيان حكم من أقام البينة بعد يمين المدعى عليه، وجواب: من، محذوف، تقديره: هل تقبل البينة أم لا؟ وإنما لم يصرح به لمكان الخلاف فيه على عادته التي جرت هكذا، فالجمهور على أنها تقبل، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي والليث وأحمد وإسحاق، وقال مالك في (المدونة): إن استحلفه وهو لا يعلم بالبينة، ثم علمها قضى له بها، وإن استحلفه ورضي بيمينه تاركا لبينته، وهي حاضرة أو غائبة، فلا حق له إذا شهدت له، قاله مطرف وابن الماجشون، وقال ابن أبي ليلى: لا تقبل بينته بعد استحلاف المدعى عليه. وبه قال أبو عبيد وأهل الظاهر.
256

وقال النبي لعل بعضكم ألحن لجته من بعض
هذا قطعة من حديث يذكره عن أم سلمة في هذا الباب موصولا، وذكره أيضا في المظالم في: باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، وقد مر الكلام فيه هناك. فإن قلت: ما مناسبة ذكر هذا في هذا الباب؟ قلت: إذا اختصم اثنان أو أكثر لا بد أن يكون لكل منهم حجة حتى يكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، وذلك لا يكون إلا فيما إذا جاز إقامة البينة بعد اليمين.
وقال طاووس وإبراهيم وشريح البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة
طاووس هو ابن كيسان، وإبراهيم بن يزيد النخعي وشريح القاضي، وقد طول الشراح في معنى كلام هؤلاء بحيث إن الناظر فيه لا يرجع بمزيد فائدة، وحاصل معنى كلامهم: أن المدعى عليه إذا حلف دفع المدعي باليمين، ثم إذا أقام المدعي البينة المرضية وهو معنى: العادلة، على دعواه ظهر أن يمين المدعى عليه كانت فاجرة أي كاذبة، فسماع هذه البينة العادلة أولى بالقبول من تلك اليمين الفاجرة، فتسمع هذه البينة ويقضى بها، والله أعلم. وتعليق شريح رواه البغوي عن علي بن الجعد: أنبأنا شريك عن عاصم عن محمد بن سيرين عن شريح، قال: من ادعى قضائي فهو عليه حتى تأتي بينة الحق أحق من قضائي الحق أحق من يمين فاجرة، وذكر ابن حبيب في (الواضحة) بإسناد له عن عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: البينة العادلة خير من اليمين الفاجرة.
0862 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه شيئا بقوله فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها.
.
أنكر بعضهم دخول هذا الحديث في هذا الباب، ورد عليه بعضهم بكلام يمل السامع، وقد ذكرنا وجه دخوله في هذا الباب اان، وقد مضى هذا الحديث في المظالم في: باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، من غير هذا الطريق، وفيه بعض زيادة على هذا.
قوله: (ألحن) أي: أفطن، يقال: لحن، بكسر الحاء: إذا فطن، وقال الخطابي: اللحن متحركة الحاء الفطنة، وساكنة الحاء: الزيغ في الإعراب يعني إزالة الإعراب عن جهته. قوله: (فإنما أقطع له قطعة من النار)، دال على أن حكم الحاكم لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وسواء فيه المال وغيره من الحقوق.
وقد اتفق العلماء على تحريم ذلك في الأموال، وقال أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: حكمه في الطلاق والنكاح والنسب يحتمل الأمور عما عليه في الباب بخلاف الأموال وفيه: أن القاضي يحكم بعلمه فيما علمه بعد القضاء من حقوق الآدميين، ولا يحكم فيما علمه قبله، وقال مالك: لا يحكم بعلمه مطلقا. وفيه: أن الحاكم إنما يحكم بالظاهر، وأن على من علم من الحاكم أنه قد أخطأ في الحكم فأعطاه شيئا ليس له أن يأخذه. وفيه: أن البينة مسموعة بعد اليمين، والله هو المعين.
82
((باب من أمر بإنجاز الوعد))
أي: هذا باب في بيان من أمر بإنجاز الوعد، أي: الوفاء به، يقال: أنجز الوعد إنجازا أوفى به، ونجز الوعد وهو ناجز إذا حصل وتم. وقال الكرماني: وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات هو أن الوعد كالشهادة على نفسه. وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، ولا خلاف في أن ذلك مستحسن، وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده، وفي بنذره، وذلك من مكارم الأخلاق، ولما كان
الشارع أمر الناس بها وندبهم إليها أدى ذلك عنه خليفته الصديق، وقام فيه مقامه، ولم يسأل جابرا البينة على ما ادعاه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم من العدة، لأنه لم يكن شيئا ادعاه جابر في ذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإنما ادعى شيئا في بيت المال، والفيء، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام، وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا لا، فمن قال: لآخر: تزوج ولك كذا، فتزوج لذلك وجب الوفاء به.
257

وفعله الحسن
أي: فعل إنجاز الوعد الحسن البصري. وقال الكرماني: الفعل، بلفظ المصدر، والحسن صفة مشبهة صفة للفعل، وفي بعضها: فعل بلفظ الماضي، والحسن البصري. قلت: الوجه الأول أحسن وأوجه على ما لا يخفى، ومعناه فعل إنجاز الوعد الحسن، فارتفاع الحسن في هذا الوجه مرفوع على الوصفية، على الوجه الثاني يكون ارتفاعه بالفاعلية، فافهم.
وذكر * (إسماعيل إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 45).
أي: ذكر الله تعالى إسماعيل صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم بقوله: * (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 45). وهذا الذي في المتن رواية النسفي، وفي رواية غيره * (واذكر في الكتاب...) * (مريم: 45). إلى آخره، وروى ابن أبي حاتم من طريق الثوري أنه بلغه أن إسماعيل صلى الله عليه وسلم دخل قرية هو ورجل، فأرسله في حاجة، وقال له: إنه ينتظره، فأقام حولا في انتظاره، ومن طريق ابن شوذب: أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا، فسمي من يومئذ: صادق الوعد.
وقضاى ابن الأشوع بالوعد
ابن الأشوع هو سعيد بن عمرو بن الأشوع الهمداني قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وذلك بعد المائة، مات في ولاية خالد، وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال يحيى بن معين: مشهور يعرفه الناس، وابن الأشوع، بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الواو وفي آخره عين مهملة. قوله: (بالوعد) أي: بإنجاز الوعد.
وذكر ذالك عن سمرة
أي: ذكر ابن الأشوع القضاء بإنجازالوعد عن سمرة بن جندب، رضي الله تعالى عنه، وقع ذلك في تفسير إسحاق بن راهويه.
وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له قال: وعدني فوفى لي
المسور، بكسر الميم، ومخرمة بفتحها. قوله: (وذكر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم صهرا له يعني: أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعني أبا بكر، رضي الله تعالى عنه. واعلم أن الأختان من قبل المرأة، والأحماء من قبل الرجل، والصهر يجمعهما، وكان صلى الله عليه وسلم صهر أبي الربيع لأنه كان زوج بنته زينب، وصهر أبي بكر الصديق أيضا لأنه كان زوج بنته عائشة الصديقة. قوله: (قال: وعدني) أي: قال ومنها: صلى الله عليه وسلم (صهري وعدني فوفى لي)، ويروى: فوفاني، ويروى فأوفاني.
قال أبو عبد الله ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن الأشوع
أبو عبد الله البخاري نفسه، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه. قوله: (يحتج بحديث ابن الأشوع)، هو الحديث الذي ذكره عن سمرة بن جندب، وأراد به أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد، ووقع في كثير من النسخ: ذكر إسماعيل، بين التعليق عن ابن الأشوع وبين نقل البخاري عن إسحاق، والذي وقع في نسختنا أولى.
1862 حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال وهاذه صفة نبي.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (والوفاء بالعهد)، يعني: كان صادق الوعد، وإبراهيم بن حمزة وأبو إسحاق الزبيري المديني، وهو من أفراده، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المديني، وصالح هو ابن كيسان أبو محمد
258

مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وهذا قطعة من حديث قصة هرقل، ذكره في أول الكتاب، وذكرنا هناك ما فيه الكفاية.
2862 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك ابن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وإذا وعد أخلف)، لأن ضده: إذا وعد صدق، فسلم من طائفة النفاق، وصادق الوعد يندب منه إنجاز وعده، وقد مضى الحديث في كتاب الإيمان في: باب علامة المنافق، فإنه أخرجه هناك: عن سليمان بن أبي الربيع عن إسماعيل بن جعفر، وهنا: عن قتيبة عن إسماعيل.
46 - (حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال لما مات النبي
جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر من كان له على النبي
دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا قال جابر فقلت وعدني رسول الله
أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات قال جابر فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله ' أو كانت له قبله عدة ' أي وعد وهذا لولا أن إنجاز الوعد أمر مرغوب مندوب إليه لما التزم أبو بكر بذلك بعد وفاة النبي
وقيل أن ذلك من خصائص النبي
فلذلك دفع أبو بكر إلى جابر ما كان وعده رسول الله
له وإبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي يعرف بالصغير وهشام بن يوسف أبو عبد الرحمن اليماني قاضيها وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وقد مضى مثل هذا الحديث في الكفالة في باب من تكفل عن ميت دينا فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن سفيان عن عمرو بن دينار إلى آخره قوله ' من قبل العلاء ' بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي من جهته والعلاء بالمد ابن الحضرمي عبد الله كان عاملا لرسول الله
على البحرين وأقره الشيخان عليها إلى أن مات سنة أربع عشرة
47 - (حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال أخبرنا سعيد بن سليمان قال حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى قلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله
إذا قال فعل)
مطابقته للترجمة من قوله إذا قال فعل لأن رسول الله
أما موسى أو غيره على ما نذكره من محاسن أخلاقه من إنجاز وعده وكذا أي رسول كان لأن وعدهم صادق ولا خلف عندهم.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى كان يقال له صاعقة. الثاني سعيد بن سليمان المشهور بسعدويه البغدادي وقد مر. الثالث مروان بن شجاع أبو عمرو مولى مروان بن محمد بن الحكم القرشي الأموي الجزري مات ببغداد سنة أربع وثمانين ومائة. الرابع سالم بن عجلان الأفطس قتل صبرا سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الخامس سعيد بن جبير. السادس عبد الله بن عباس *
259

(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه الإخبار كذلك في موضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه سؤال اليهودي عن سعيد بن جبير وسؤال سعيد عن ابن عباس وفيه أن سالما ليس له رواية في البخاري إلا هذا وآخر في الطب وكذا الراوي عنه مروان وفيه أن سعيد بن سليمان من مشايخ البخاري وكثيرا يروي عنه بدون الواسطة وهنا روى عنه بواسطة وهو محمد بن عبد الرحيم
(ذكر معناه) قوله ' من أهل الحيرة ' بكسر الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء مدينة معروفة بالعراق قريب الكوفة وكانت للنعمان بن المنذر قوله ' أي الأجلين ' أي المشار إليهما في قوله تعالى * (ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) * قوله ' حتى أقدم ' أي على ابن عباس بمكة قوله ' على حبر العرب ' بفتح الحاء المهملة وسكون الياء الموحدة ونص أبو العباس في فصيحه على فتح الحاء وفي المخصص عن صاحب العين هو العالم من علماء الديانة مسلما كان أو ذميا بعد أن يكون كتابيا والجمع أحبار وذكر المطرز عن ثعلب يقال للعالم حبر وحبر وقال المبرد سمي حبرا لأنه مما يحبر به الكتب أي تحسن وفي الواعي سمي العالم حبرا لتأثيره في الكتب لأن الحبر والحبار الأثر وقال ابن الأثير وكان يقال لابن عباس الحبر والبحر لعلمه وسعته واختلفوا فيمن سماه بذلك فذكر أبو نعيم الحافظ أن عبد الله انتهى يوما إلى رسول الله
وعنده جبريل عليه السلام فقال له ' إنه كائن حبر هذه الأمة فاستوص به خيرا ' وفي المنثور لابن دريد الأزدي أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما أرسل ابن عباس رسولا إلى جرجير ملك المغرب فتكلم معه فقال له جرجير ما ينبغي إلا أن يكون حبر العرب فسمي عبد الله من يومئذ الحبر قوله ' قضى أكثرهما وأطيبهما ' كذا رواه سعيد بن جبير موقوفا وهو في حكم المرفوع لأن ابن عباس كان لا يعتمد على أهل الكتاب وقد صرح برفعه عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله
سأل جبريل عليه السلام ' أي الأجلين قضى موسى قال أتمهما وأكملهما ' وفي حديث جابر أوفاهما وفي حديث أبي سعيد أتمهما وأطيبهما عشر سنين والمراد بالأطيب أي في نفس شعيب عليه السلام قوله ' أن رسول الله
إذا قال فعل ' قال الكرماني أي موسى عليه السلام أو أراد جنس الرسول فيتناوله تناولا أوليا وقال بعضهم المراد برسول الله من اتصف بذلك ولم يرد شخصا بعينه * -
92
((باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يسأل... إلى آخره، ويسأل على صيغة المجهول، وأراد بهذا عدم قبول شهادتهم. وقد اختلف العلماء في ذلك: فعند الجمهور: لا تقبل شهادتهم أصلا ولا شهادة بعضهم على بعض، ومنهم من أجار شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض للمسلمين، وهو قول إبراهيم، ومنهم من أجاز شهادة أهل الشرك بعضهم على بعض، وهو قول عمر بن عبد العزيز والشعبي ونافع وحماد ووكيع، وبه قال أبو حنيفة، ومنهم من قال: لا تجوز شهادة أهل ملة إلا على أهل ملتها
اليهودي على اليهودي والنصراني على النصراني وهو قول الزهري والضحاك والحكم وابن أبي ليلى وعطاء وأبي سلمة ومالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وروى عن شريح والنخعي تجوز شهادتهم على المسلمين في الوصية في السفر للضرورة وبه قال الأوزاعي.
وقال الشعبي لا تجوز شهادة أهل الملل بعضهم على بعض لقوله تعالى: * (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) * (المائدة: 41).
أي: قال عامر بن شراحيل الشعبي. قوله: (أهل الملل)، أي: ملل الكفر، وهو بكسر الميم جمع: ملة، والملة الدين كملة الإسلام ومل اليهودي وملة النصارى، هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع: حدثنا سفيان عن داود عن الشعبي، قال: لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين. واحتج الشعبي بقوله تعالى: * (فأغرينا) * (المائدة:)، أي: ألصقنا، ومنه سمي الغري الذي يلصث به، وقال الربيع: يعني به النصارى خاصة لأنهم افترقوا: نسطورية ويعقوبية وملكائية، وعن ابن أبي نجيح يعني به: اليهود والنصارى،
260

واختلف فيه على الشعبي، فروى عبد الرزاق عن الثوري عن عيسى، وهو الحناط عن الشعبي، قال: كان يجيز شهادة النصراني على اليهودي واليهودي على النصراني، وروى ابن أبي شيبة من طريق أشعث عن الشعبي، قال: تجوز شهادة أهل الملل للمسلمين بعضهم على بعض.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل) * (البقرة: 631). الآية
هذا التعليق وصله البخاري في تفسير سورة البقرة من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، والغرض منه هنا النهي عن تصديق أهل الكتاب فيما لا يعرف صدقه من قبل غيرهم فيدل على رد شهادتهم وعدم قبولها.
5862 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤنه لم يشب وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسائلتهم ولا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه الرد عن مساءلة أهل الكتاب، لأن أخبارهم لا تقبل لكونهم بدلوا الكتاب بأيديهم، فإذا لم يقبل أخبارهم لا تقبل شهادتهم بالطريق الأولى، لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية.
ورجاله قد ذكروا غير مرة.
والأثر أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن موسى بن إسماعيل وفي التوحيد عن أبي اليمان عن شعيب.
قوله: (كيف تسألون أهل الكتاب؟) إنكار من ابن عباس عن سؤالهم من أهل الكتاب. قوله: (وكتابكم)، أي: القرآن، وارتفاعه على أنه مبتدأ، وقوله: (الذي أنزل على نبيه)، صفته. وقوله: (أحدث الأخبار) خبره. قوله: (على نبيه)، أي: محمد، صلى الله عليه وسلم. قوله: (الإخبار)، بكسر الهمزة بمعنى المصدر، وبفتحها بمعنى الجمع، ومعناه: إنه أقرب الكتب نزولا إليكم من عند الله، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم وهو في نفسه قديم على ما عرف في موضعه. قوله: (لم يشب)، على صيغة المجهول من الشوب، وهو الخلط، أي: لم يخلط ولم يبدل ولم يغير. وفي (مسند أحمد) رحمه الله، من حديث جابر مرفوعا: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم، وقد ضلوا...) الحديث. قوله: (بدلوا)، من التبديل، قال الله تعالى في حق اليهود: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا) * (البقرة: 97). قوله: (ولا والله)، كلمة: لا، زائدة، إما تأكيد لنفي ما قبله أو ما بعده، يعني: هم لا يسألونكم، فأنتم بالطريق الأولى أن لا تسألوهم، واحتج بهذا الحديث المانعون عن شهادتهم أصلا،
وفيه: أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا، كما أخبر الله تعالى عنهم في القرآن الكريم، وسأل محمد بن الوضاح بعض علماء النصارى، فقال: ما بال كتابكم معشر المسلمين لا زيادة فيه ولا نقصان؟ وكتابنا بخلاف ذلك؟ فقال: لأن الله تعالى وكل حفظ كتابكم إليكم. فقال: استحفظوا من كتاب الله، فلما وكله إلى مخلوق دخله الخرم والنقصان، وقال في كتابنا: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9). فتولى الله حفظه، فلا سبيل إلى الزيادة فيه، ولا النقصان منه.
03
((باب القرعة في المشكلات))
أي: هذا باب في بيان مشروعية القرعة في الأشياء المشكلات التي يقع فيها النزاع بين اثنين أو أكثر، ووقع في رواية السرخسي: من المشكلات، وكلمة: في، أصوب، وأما كلمة: من، إن كانت محفوظة فتكون للتعليل، أي: لأجل المشكلات، كما في قوله تعالى: * (مما خطاياهم) * (العنكبوت: 21). أي: لأجل خطاياهم. قيل: وجه إدخال هذا الباب في كتاب الشهادات أنها من جملة البينات التي تثبت بها
261

الحقوق. قلت: الأحسن أن يقال: وجه ذلك أنه كما يقطع النزاع، والخصومة بالبينة، فكذلك يقطع بالقرعة، وهذا المقدار كاف لوجه المناسبة.
وقوله * (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * (آل عمران: 44). وقال ابن عباس اقترعوا فجرت الأقلام مع الجرية وعال قلم زكرياء الجرية فكفلها زكرياء) * (آل عمران: 44).
وقوله، بالجر عطفا على القرعة، وذكر هذه الآية في معرض الاحتجاج لصحة الحكم بالقرعة، بناء على أن شرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يقص الله علينا بالإنكار،
ولا إنكار في مشروعيتها، وما نسب بعضهم إلى أبي حنيفة بأنه أنكرها فغير صحيح، وقد بسطنا الكلام فيه عن قريب في تفسير قصة أهل الإفك. وأول الآية: * (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) * (آل عمران: 44). قوله: ذلك إشارة إلى ما ذكر من قضية مريم. قوله (من أبناء الغبيب) أي أخبار الغيب، (نوحيه إليك) أي: نقصه عليك * (وما كنت لديهم) * أي: وما كنت يا محمد عندهم * (إذ يلقون) * أي: حين يلقون * (الأقلام أيهم يكفل مريم) *، أي: يضمها إلى نفسه ويربيها، وذلك لرغبتهم في الأجر * (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * أي: حين يختصمون في أخذها. وأصل القصة أن امرأة عمران، وهي حنة بنت فاقود، لا تحمل: فرأت يوما طائرا يزق فرخه، فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا، فاستجاب الله دعاءها، فواقعها زوجها فحملت منه، فلما تحققت الحمل ندرت أن يكون محررا، أي: خالصا لخدمة بيت المقدس، فلما وضعت قالت: * (رب إني وضعتها أنثى) * (آل عمران: 63). ثم خرجت بها في خرقتها إلى بني الكاهن بن هروة أخي موسى بن عمران، وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي، فقالوا: هذه ابنة إمامنا، وكان عمران يؤمهم في الصلاة وصاحب القربان، فقال زكرياء: إدفعوها إلي، فإن خالتها تحتي، فقالوا: لا تطيب نفوسنا، هي ابنة إمامنا فعند ذلك اقترعوا بأقلامهم عليها، وهي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكرياء، عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة وغير واحد أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فيه، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكرياء، فإنه ثبت، فأخذها فضمها إلى نفسه، وقد ذكر المفسرون أن الأقلام هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، كما ذكرناه، ويقال: الأقلام السهام، وسمي السهم قلما لأنه يقلم: أي: يبرى. قوله: * (أيهم يكفل مريم) * (آل عمران: 44). أي: يأخذها بكفالتها. قوله: (اقترعوا)، يعني: عند التنافس في كفالة مريم. قوله: (مع الجرية) بكسر الجيم للنوع من الجريان وقال ابن التين صوابه اقرعوا أو قارعوا لأنه رباعي قلت قد جاء اقترعوا كما جاء أقرعوا فلا وجه لدعوى الصواب فيه. قوله: (عال) أي: غلب الجرية ويروى: علا، ويروى: عدا، حاصله: ارتفع قلم زكرياء، ويقال: إنهم اقترعوا ثلاث مرات، وعن ابن عباس: فلما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي.
وقوله * (فساهم) * أقرع * (فكان من المدحضين) * (الصافات: 141). من المسهومين
وقوله، بالجر عطفا على قوله الأول. قوله: (أقرع)، تفسير لقوله: فساهم، والضمير فيه يرجع إلى يونس، عليه السلام. وفسر البخاري المدحضين بمعنى: المسهومين، يعني: المغلوبين، يقال: ساهمته فسهمته، كما يقال: قارعته فقرعته. وقوله: * (فساهم) *: اقرع تفسير ابن عباس أخرجه الطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طالحة عن ابن عباس وروى عن السدى قال: قوله: * (فساهم) * أي: قارع. قال بعضهم: هو أوضح. قلت: كونه أوضح باعتبار أنه من باب المفاعلة التي هي للاشتراك بين اثنين. وحقيقة المدحض المزلق عن مقام الظفر والغلبة. وقال القرطبي: يونس بن متى لما دعا قومه أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطىء دجلة للدخول في دينه أبطؤوا عليه، فدعا عليهم ووعدهم العذاب بعد ثلاث، وخرج عنهم فرأى قومه دخانا ومقدمات العذاب، فآمنوا به وصدقوه وتابوا إلى الله، عز وجل، وردوا المظالم حتى ردوا حجارة مغصوبة، كانوا بنوا
262

بها وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، ولم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب، ثم إن يونس ركب سفينة فلم تجر، فقال أهلها: فيكم آبق، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه، فالتقمه الحوت. وقد اختلف في مدة لبثه في بطنه من يوم واحد إلى أربعين يوما. فأوحى الله تعالى إلى الحوت أن يلتقمه ولا يكسر له عظما. وذكر مقاتل: أنهم قارعوه ست مرات خوفا عليه من أن يقذف في البحر، وفي كلها خرج عليه، وفي يونس ست لغات: ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمزة وتركه، والأشهر ضم النون بغير همز.
وقال أبو هريرة عرض النبي صلى الله عليه وسلم على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم أيهم يحلف
هذا التعليق قد مر موصولا في: باب إذا سارع قوم في اليمين، وقد مر عن قريب، وهذا أيضا يدل على مشروعية القرعة.
6862 حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثني الشعبي أنه سمع النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا مالك قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوا أهلكوه وأهلكوا أنفسهم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (استهموا سفينة)، وهذا الحديث مضى في الشركة في: باب هل يقرع في القسمة؟ والاستهام فيه، فإنه أخرجه هناك: عن أبي نعيم عن زكرياء. قال: سمعت عامرا، وهو الشعبي يقول: سمعت النعمان بن بشير... إلى آخره، وفي بعض النسخ وقع حديث النعمان هكذا في آخر الباب.
قوله: (مثل المدهن)، وهناك: مثل القائم على حدود الله تعالى، والمدهن، بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر الهاء، وفي آخره نون من الإدهان، وهو المحاباة في غير حق، وهو الذي يرائي ويضيع الحقوق ولا يغير المنكر، ووقع عند الإسماعيلي في الشركة: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمدهن فيها، وهذه ثلاث فرق، وجودها في المثل المضروب هو أن الذين أرادوا خرق السفينة بمنزلة الواقع في حدود الله، ثم من عداهم إما منكر وهو القائم، وإما ساكت وهو المداهن.
وقال الكرماني: فإن قلت: قال ثمة، يعني: في كتاب الشركة: مثل القائم على حدود الله، وقال ههنا: مثل المدهن، وهما نقيضان إذ الآمر هو القائم بالمعروف
والمدهن هو التارك له، فما وجهه؟ قلت: كلاهما صحيح، فحيث قال القائم نظر إلى جهة النجاة، وحيث قال المدهن نظر إلى جهة الهلاك، ولا شك أن التشبيه مستقيم على كل واحد من الجهتين. واعترض عليه بعضهم بقوله: كيف يستقيم هنا الاقتصار على ذكر المدهن، وهو: التارك للأمر بالمعروف، وعلى ذكر الواقع في الحد وهو العاصي، وكلاهما هالك، والحاصل أن بعض الرواة ذكر المدهن والقائم، وبعضهم ذكر الواقع والقائم، وبعضهم جمع الثلاثة. وأما الجمع بين المدهن والواقع دون القائم فلا يستقيم. انتهى.
قلت: لا وجه لاعتراضه على الكرماني، لأن سؤال الكرماني وجوابه مبنيان على القسمين المذكورين في هذا الحديث، وهما: المدهن المذكور هنا، والقائم المذكور هناك، وهو لم يبين كلامه على التارك الأمر بالمعروف، والواقع في الحد، فلا يرد عليه شيء أصلا، تأمل، فإنه موضع يحتاج فيه إلى التأمل.
قوله: (استهموا سفينة) أي: اقترعوها فأخذ كل واحد منهم سهما، أي: نصيبا من السفينة بالقرعة، وقال ابن التين: وإنما يقع ذلك في السفينة ونحوها فيما إذا أنزلوا معا، أما لو سبق بعضهم بعضا فالسابق أحق بموضعه، وقال بعضهم: هذا فيما إذا كانت مسبلة، أما إذا كانت مملوكة لهم مثلا فالقرعة مشروعة: إذا تنازعوا. قلت: إذا وقعت المنازعة تشرع القرعة سواء كانت مسبلة أو مملوكة، ما لم يسبق أحدهم في المسبلة. قوله: (فتأذوا به)، أي: بالمار عليهم، أو: بالماء الذي مع المار عليهم. قوله: (ينقر)، بفتح الياء وسكون النون وضم القاف من النقر، وهو الحفر سواء كان في الخشب أو الحجر، أو نحوهما، قوله:
263

(فإن أخذوا على يديه) أي: منعوه من النقر، ويروى: على يده. قوله: (نجوه) أي: نجو المار، ويروى: أنجوه: بالهمزة، ونجوا أنفسهم، بتشديد الجيم، وهكذا إقامة الحدود تحصل بها النجاة لمن إقامها وأقيمت عليه، وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا بها.
وقال المهلب: في هذا الحديث: تعذيب العامة بذنب الخاصة، واستحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحكم بضرب المثل.
7862 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني خارجة بن زيد الأنصاري أن أم العلاء امرأة من نسائهم قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن عثمان بن مظعون طار له سهمه في السكناى حين اقترعت الأنصار سكنى المهاجرين قالت أم العلاء فسكن عندنا عثمان بن مظعون فاشتكى فمرضناه حتى إذا توفي وجعلناه في ثيابه دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم وما يدريك أن الله أكرمه فقلت لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم أما عثمان فقد جاءه والله اليقين وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به قالت فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذالك قالت فنمت فأريت لعثمان عينا تجري فجئت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال ذلك عمله.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا السند بعينه قد مر غير مرة، والحديث مر في كتاب الجنائز في: باب الدخول على الميت بعد الموت، وتقدم الكلام فيه هناك مستوفى. وخارجة بن زيد بن ثابت أبو زيد الأنصاري النجاري المديني أحد الفقهاء السبعة، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وأم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن خارجة بن ثعلبة بن الجلاس بن أمية بن جدارة بن عوف بن الحارث بن الخزر، وهي والدة خارجة بن زيد بن ثابت وعثمان بن مظعون، بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة وضم العين المهملة: ابن حبيب بن وهب الجمحي أبو السائب، أحد السابقين.
قوله: (اشتكى) أي: مرض. قوله: (فمرضناه) بتشديد الراء من التمريض، وهو القيام بأم المريض. قوله: (أبا السائب) كنية عثمان. قوله: (بأبي أنت وأمي) أي: مفدى. قوله: (ذلك عمله) إنما عبر الماء بالعمل وجريانه بجريانه، لأن كل ميت تمم على عمله إلا الذي مات مرابطا، فإن عمله ينمو إلى يوم القيامة.
8862 حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذالك رضاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد: والحديث مضى في أول حديث الإفك، ومر الكلام فيه هناك.
9862 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون
264

ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا.
مطابقته للترجمة في قوله: (إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) أي: لاقترعوا عليه، وكل ما ذكر في هذا الباب من الحديث وغيره في مشروعية القرعة. والحديث مر في كتاب مواقيت الصلاة في: باب الاستهام في الأذان، وقد مر الكلام فيه هناك.
بسم الله الرحمان الرحيم
35
((كتاب الصلح))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلح، هكذا بالبسملة، وبقوله: كتاب الصلح، وقع عند النسفي والأصيلي وأبي الوقت، ووقع لغيرهم: باب، موضع: كتاب، ووقع لأبي ذر في الإصلاح بين الناس، ووقع للكشميهني: الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، والصلح على أنواع في أشياء كثيرة لا يقتصر على بعض شيء. كما قاله بعضهم، والصلح في اللغة اسم بمعنى المصالحة، وهي المسالمة، خلاف المخاصمة، وأصله من الصلاح ضد الفساد، وفي الشرع: الصلح عقد يقطع النزاع من بين المدعي والمدعى عليه، ويقطع الخصومة، فافهم.
1
((باب ما جاء في الإصلاح بين الناس))
أي: هذا باب في بيان حكم الإصلاح بين الناس، وفي بعض النسخ: باب ما جاء في الإصلاح بين الناس.
وقول الله تعالى * (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * (النساء: 411).
وقول الله بالجر عطفا على قوله في الإصلاح، ذكر هذه الآية في بيان فضل الإصلاح بين الناس. وأن الصلح: أمر مندوب إليه، وفيه قطع النزاع والخصومات. قوله: * (من نجواهم) * (النساء: 411). يعني: كلام الناس، ويقال: النجوى السر، وقال النحاس: كل كلام ينفرد به جماعة سرا كان أو جهرا، فهو نجوى. قوله: * (إلا من أمر) * (النساء: 411). تقديره: إلا نجوى من أمر... إلى آخره، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى: لكن من أمر بصدقة أو معروف، فإن في نجواه خيرا. وقال الداودي: معناه: لا ينبغي أن يكون أكثر نجواهم إلا في هذه الخلال. قوله: * (أو معروف) * (النساء: 411). المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله عز وجل، والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وهو من الصفات الغالبة، أي: أمر معروف بين الناس إذا رواه لا ينكرونه. قوله: * (ابتغاء مرضاة الله) * (النساء: 411). أي: طلبا لرضاه مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله تعالى.
وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس بأصحابه
وخروج الإمام، بالجر عطفا على قوله: وقول الله، وهو من بقية الترجمة. قال المهلب: إنما يخرج الإمام ليصلح بين الناس إذا أشكل عليه أمرهم وتعذر ثبوت الحقيقة عنده فيهم، فحينئذ يخرج إلى الطائفتين ويسمع من الفريقين، ومن الرجل والمرأة، ومن كافة الناس سماعا شافيا يدل على الحقيقة، هذا قول عامة العلماء، وكذلك ينهض الإمام على العقارات والأرضين التي يتشاح في قسمتها، فيعاين ذلك وقال عطاء: لا يحل للإمام إذا تبين القضاء أن يصلح بين الخصوم، وإنما يسعه ذلك في الأمور المشكلة، وأما إذا استبانت الحجة لأحد الخصمين على الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم على المظلوم، فلا يسعه أن يحملها على الصلح، وبه قال أبو عبيد، وقال الشافعي: يأمرهما بالصلح ويؤخر الحكم بينهما يوما أو يومين. وقال الكوفيون: إن طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يرددهما، ولا ينفذ الحكم بينهما لعلهما يصطلحان ولا يرددهم أكثر من مرة أو مرتين، فإن لم يطمع أنفذ الحكم بينهما، واحتجوا بما روي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: رددوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين الناس الضغائن.
265

0962 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن ناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه يصلح بينهم فحضرت الصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بلال فأذن بالصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى أبي بكر فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم حبس وقد حضرت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت فأقام الصلاة فتقدم أبو بكر ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف حتى قام في الصف الأول الأول فأخذ الناس بالتصفيح حتى أكثروا وكان أبو بكر لا يكاد يلتفت في الصلاة فالتفت فإذا هو بالنبي صلى الله عليه وسلم وراءه فأشار إليه بيده فأمره أن يصلي كما هو فرفع أبو بكر يده فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه حتى دخل في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس إذا نابكم شيء في صلاتكم أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه إلا التفت يا أبا بكر ما منعك حين أشرت إليك لم تصل بالناس فقال ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه في الإصلاح بين الناس، ولا سيما للجزء الأخير من الترجمة، وهو قوله وخروج الإمام ومطابقته له صريح في قوله: فخرج إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو غسان، بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة وفي آخره نون: واسمه محمد بن مطرف الليثي المدني، نزل عسقلان، وأبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي: سلمة بن دينار. والحديث مضى في كتاب مواقيت الصلاة في: باب من دخل ليؤم الناس، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي حازم، وقد تقدم الكلام فيه هناك مستقصى،
قوله: (كان بينهم شيء) أي: من الخصومة قوله: (وحبس)، على صيغة المجهول، أي: حصل له التوقف بسبب الإصلاح. قوله: (بالتصفيح) هو التصفيق وهو ضرب اليد على اليد بحيث يسمع له صوت. قوله: (إذا نابكم)، كلمة: إذا، للظرفية المحضة لا للشرط. قوله: (لم تصل) قال الكرماني: هو مثل: ما منعك إلا لا تسجد، وثمة صح أن يقال: لا، زائدة، فما قولك هنا إذ لم لا تكون زائدة؟ ثم أجاب بقوله: (منعك)، مجاز عن دعاك حملا للنقيض على النقيض.
1962 حدثنا مسدد قال حدثنا معتمر قال سمعت أبي أن أنسا رضي الله تعالى عنه قال قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله
عليه وسلم وركب حمارا فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * (الحجرات: 9).
266

مطابقته للترجمة من حيث إنه، صلى الله عليه وسلم، خرج إلى موضع فيه عبد الله بن أبي بن سلول ليدعوه إلى الإسلام، وكان ذلك في أول قدومه المدينة إذ التبليغ فرض عليه، وكان يرجو أن يسلم من وراءه بإسلامه لرياسته في قومه، وقد كان أهل المدينة عزموا أن يتوجوه بتاج الإمارة لذلك، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر من أعظم الإصلاح فيهم، قيل: إنما خرج إليهم ولم ينفذ إليهم لكثرتهم، وليكون خروجه أعظم في نفوسهم، وقيل: لقرب عهدهم بالإسلام. وقال الداودي: كان هذا قبل إسلام عبد الله بن أبي. قلت: لكن بشكل عليه قوله: أنزلت: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9). على ما نذكره عن قريب.
ورجاله أربعة: الأول: مسدد، وقد تكرر ذكره. الثاني: معتمر على وزن اسم فاعل من الاعتمار. الثالث: أبوه سليمان ابن طرخان. الرابع: أنس بن مالك، وهؤلاء كلهم بصريون.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر عن أبيه به.
ذكر معناه: قوله: (لو أتيت)، كلمة: لو، هنا للتمني، فلا يحتاج إلى جواب، ويجوز أن تكون على أصلها، والجواب محذوف تقديره: لكان خيرا، ونحو ذلك. قوله: (وركب حمارا)، جملة حالية، وكذلك قوله: (يمشون)، جملة حالية، قوله: (سبخة)، بفتح الباء الموحدة، واحدة السباخ، وأرض سبخة، بكسر الباء: ذات سباخ، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. قوله: (إليك عني)، يعني: تنح عني. قوله: (فقال رجل من الأنصار) قال ابن التين: قيل: إنه عبد الله بن رواحة. قوله: (لحمار)، اللام فيه للتأكيد، وارتفاعه على الابتداء وخبره قوله: (أطيب ريحا منك). قوله: (فغضب لعبد الله) أي: لأجل عبد الله، وهو ابن أبي بن سلول. قوله: (فشتمه) كذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: فشتما، بالتثنية بلا ضمير، أي: فشتم كل واحد منهما الآخر. قوله: (بالجريد)، بالجيم والراء كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني بالحديد بالحاء المهملة والدال. قوله: (فبلغنا)، القائل هو أنس بن مالك، قوله: (إنها) أي: إن الآية أنزلت وأوضحها بقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9). وقال ابن بطال: ويستحيل أن تكون الآية الكريمة نزلت في قصة ابن أبي، وقتال أصحابه مع الصحابة، لأن أصحاب عبد الله ليسوا مؤمنين، وقد تعصبوا له بعد الإسلام في قصة الإفك، وقد جاء هذا المعنى مبينا في هذا الحديث في كتاب الاستئذان من رواية أسامة بن زيد، قال: مر رسول الله، صلى الله عليه وسلم بمجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الأوثان واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليهم الإيمان قال ابن أبي: إجلس في بيتك، فمن جاءك يريد الإسلام... الحديث، فدل أن الآية لم تنزل في قصة ابن أبي وإنما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حد، فاقتتلوا بالعصي والنعال، قاله سعيد بن جبير والحسن وقتادة، ويشبه أن تكون نزلت في بني عمرو بن عوف الذين خرج إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، ليصلح بينهم... الحديث المذكور في الصلاة، وفي تفسير مقاتل: مر صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو راكب حماره يعفور، فبال، فأمسك ابن أبي بأنفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: خل للناس سبيل الريح من نتن هذا الحمار، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فانصرف)، فقال ابن رواحة ألا أراك أمسكت على أنفك من بول حماره؟ والله لهو أطيب من ريح عرضك، فكان بينهم ضرب بالأيدي والسعف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم، فأنزل الله تعالى: * (وإن طائفتان) * (الحجرات: 9). الآية. وفي (تفسير ابن عباس): وأعان ابن أبي رجال من قومه وهم مؤمنون فاقتتلوا، ومن زعم أن قتالهم كان بالسيوف فقد كذب.
قلت: التحرير في هذا أن حديث أنس هذا مغاير لحديث سهل بن سعد الذي قبله، لأن قصة سهل في بني عمرو بن عوف وهم من الأوس، وكانت منازلهم بقباء، وقصة أنس في رهط عبد الله بن أبي، وهم من الخزرج، وكانت منازلهم بالعالية، فلهذا استشكل ابن بطال، ثم قال: يشبه أن تكون الآية نزلت في بني عمرو بن عوف، فإذا كان نزول الآية فيهم لا إشكال فيه، وإذا قلنا: نزولها في قضية عبد الله بن أبي، يبقى الإشكال، ولكن يحتمل أن يزول الإشكال من وجه آخر، وهو أن في حديث أنس ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان يمضي بنفسه ليبلغ ما أنزل إليه لقرب عهدهم بالإسلام، فبهذا يزول الإشكال إن صح ذلك، مع أن الداودي نص على أنه كان قبل إسلام عبد الله، كما ذكرناه، فإن صح ما ذكره الداودي فالإشكال باق، ويحتمل إزالة الإشكال أيضا من وجه آخر، وهو: أن قول أنس في الحديث المذكور: بلغنا أنها أنزلت... لا يستلزم النزول، في ذلك الوقت،
267

والدليل على ذلك أن الآية في الحجرات ونزولها متأخر جدا.
على أن المفسرين اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مداراة في حق بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذن حقي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وأن الآخر دعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف، وقال الكلبي: إنها نزلت في حرب سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، وأمر نبيه والمؤمنين أن يصلحوا بينهم. وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أم زيد تحت رجل، وكان بينها وبين زوجها شيء، قال: فرقى بها إلى علية وحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها، فجاؤوا وجاء قومه فاقتتلوا بالأيدي والنعال، فأنزل الله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9)
[/ ح.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: بيان ما كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، عليه من الصفح والحلم والصبر على الأذى والدعاء إلى الله تعالى، وتأليف القلوب على ذلك. وفيه: أن ركوب الحمار لا نقص فيه على الكبار، وكان ركوبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع، ركب مرة فرسا لأبي طلحة في فزع كان بالمدينة، وركب يوم حنين بغلته ليثبت المسلمون إذا رأوه عليها، ووقف بعرفة على راحلته، وسار منها إلى مزدلفة وهو عليها ومن مزدلفة إلى منى وإلى مكة. وفيه: ما كان عليه الصحابة من تعظيم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والأدب معه والمحبة الشديدة. وفيه: جواز المبالغة في المدح، لأن الصحابي أطلق على أن ريح الحمار أطيب من ريح عبد الله بن أبي، ولم ينكر عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذلك. وفيه: إباحة مشي التلامذة والشيخ راكب.
2
((باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس))
أي: هذا باب يذكر فيه ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، لأن فيه دفع المفسدة، وقمع الشرور ومعناه: أن هذا الكذب لا يعد كذبا بسبب الإصلاح، مع أنه ل يخرج من حقيقته. فإن قلت: الذي في الحديث: ليس الكذاب)، فلفظ الترجمة لا يطابقه قلت: في لفظ مسلم من رواية معمر عن ابن شهاب كلفظ الترجمة، فلا يضر هذا القدر من الاختلاف، وقال بعضهم: وكان حق السياق أن يقول: ليس من يصلح بن الناس كاذبا، لكنه ورد على طريق القلب، وهو سائغ، انتهى. قلت: الذي ذكره هو حق السياق، لأن الحديث هكذا، فراعى المطابقة، غير أن الاختلاف في لفظ الكذاب والكاذب، وكلاهما لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث واحد، فلا يعد اختلافا، ودعوى القلب لا دليل عليه، مع أن معنى قوله في الحديث: * (ليس الكذاب)، أنه من باب ذي كذا، أي: ليس بذي كذب، كما قيل في قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 64). أي: وما ربك بذي ظلم، لأن نفي الظلامية لا يستلزم نفي كونه ظالما، فلذلك يقدر كذا، لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، يعني ليس عنده ظلم أصلا.
2962 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمان أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس الأويسي، وفي بعض النسخ لفظ الأويسي مذكور، وهو نسبته إلى أحد أجداده. الثاني: إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف. الثالث: صالح بن كيسان. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: حميد، بضم الحاء: ابن عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف. السادس: أمه، أم كلثوم، بنت عقبة، بضم العين وسكون القاف: ابن أبي معيط، كانت تحت زيد بن حارثة، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم تزوجها الزبير بن العوام، ثم تزوجها عمرو بن العاص، وهي أخت الوليد بن
268

عقبة وأخت عثمان بن عفان لأمه، أسلمت وهاجرت وبايعت وكانت هجرتها سنة سبع.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن كلهم مدنيون. وفيه: ثلاثة من التابعين في نسق وهم: صالح وابن شهاب وحميد. وفيه: رواية الابن عن الأم. وفيه: رواية التابعي عن الصحابية.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الأدب عن عمرو بن الناقد وعن حرملة. وأخرجه أبو داود فيه عن نصر بن علي، وعن مسدد وعن أحمد بن محمد وعن الربيع بن سليمان. وأخرجه الترمذي في البر عن أحمد بن منيع، وأخرجه النسائي في السير عن عبيد الله بن سعيد وفي عشرة النساء عن محمد بن زنبور وعن كثير بن عبيد وعن أبي الطاهر بن السرح.
ذكر معناه: قوله: (الذي يصلح بين الناس) في محل النصب لأنه خبر: ليس، ويصلح، بضم الياء من الإصلاح. قوله: (فينمي)، من: نمى الحديث إذا رفعه وبلغه على وجه الإصلاح، وأنماه إذا بلغه على وجه الإفساد، وكذلك: نماه، بالتشديد. وقال ابن فارس: نميت الحديث إذا أشعته. ونميت بالتخفيف: أسندته، وقال الزجاج في (فعلت وأفعلت) نميت الشيء وأنميته بمعنى، وفي (فصيح ثعلب): نمى ينمي أي: زاد، وكثر وحكى اللحياني: ينمو، بالواو قال: وهما لغتان فصيحتان، وفيه لغة أخرى حكاها ابن القطاع وغيره: نمو، على وزن: شرف، وقال الكسائي: لم أسمعه بالواو إلا من أخوين من بني سليم. قال: ثم سألت عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو، وفي (الصحاح): ربما قالوا بالواو، وينمو، وفي (الواعي) وغيره: ينمى أفصح، وذكر أبو حاتم في (تقويم المفسد): لا يقال: ينمو. وعن الأصمعي: العامة يقولون ينمو، ولا أعرف ذلك يثبت، وذكر الليلي: أن بعض اللغويين فرق بين ينمى وينمو، فقال: ينمى بالياء للمال، وبالواو لغير المال، وقال الحربي: وأكثر المحدثين يقولون: نمى خيرا، بتخفيف الميم، وهذا لا يجوز في النحو، وسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، ومن خفف الميم يلزمه أن يقول: خير، بالرفع انتهى. لقائل أن يقول: يجوز أن ينتصب خيرا: بينمى، كما ينتصب: بقال، وذكر ابن قرقول عن القعنبي: ينمي، بضم الياء وكسر الميم، قال: وليس بشيء، ووقع في رواية: ينهى، ذلك، بالهاء، وهو تصحيف. وقد يخرج على معنى أن يبلغ به من: أنهيت الأمر إلى كذا، أي: أوصلته إليه. أوصلته إليه. وفي (المحكم): أنميته: أذعته على وجه النميمة. قوله: (أو يقول خيرا)، شك من الراوي، وزاد مسلم في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن
أبيه عن صالح عن الزهري، قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، وجعل يونس هذه الزيادة عن الزهري، فقال: لم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس: كذب إلا في ثلاث، وعند الترمذي: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس، وقال الطبري: اختلف العلماء في هذا الباب، فقالت طائفة: الكذب المرخص فيه في هذه هو جميع معاني الكذب، فحمله قوم على الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك لما فيه من المصلحة، فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة للمسلمين، واحتجوا بما رواه عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة، قال: كنا عند عثمان وعنده حذيفة، فقال له عثمان: بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا، فقال حذيفة: والله ما قلته، قال: وقد سمعناه قال ذلك، فلما خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقوله؟ قال: بلى، قلنا: فلم حلفت؟ فقال: إني أستر ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله، وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، وما جاء في هذا إنما هو على التورية وطريق المعاريض، تقول للظالم: فلان يدعو لك، وتنوي قوله: اللهم اغفر لجميع المسلمين، ويعد زوجته وبنته، ويريد في ذلك أن قدر الله تعالى أو إلى مدة، وكذلك الإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها يحتمل أنه مما يحدث أحدهما الآخر من وده له واغتباطه به، والكذب في الحرب هو أن يظهر من نفسه قوة ويتحدث بما يشحذ به بصيرة أصحابه ويكيد به عدوه، وقد قال سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة) وقال المهلب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبي، صلى الله عليه وسلم عن الكذب نهيا مطلقا، وأخبر أنه مخالف للإيمان، فلا يجوز استباحة شيء منه، وإنما أطلق النبي، صلى الله عليه وسلم، للمصلح بين الناس أن يقول ما علم من الخير بين الفريقين ويسكت عما سمع من الشر بينهم، ويعد أن يسهل ما صعب ويقرب ما بعد، لا أنه يخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه، لأن الله قد حرم ذلك ورسوله، وكذلك الرجل يعد المرأة
269

ويمنيها وليس هذا من طريق الكذب، لأن حقيقته الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى ينجز، وإلانجاز مرجو في الاستقيال، فلا يصلح أن يكون كذبا، وكذلك في الحرب إنما يجوز فيها المعاريض والإبهام بألفاظ تحتمل وجهين، فيوري بها عن أحد المعنيين ليغتر السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقته الإخبار عن الشيء بخلافه وضده، ونحو ذلك ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه مازح عجوزا، فقال: (إن العجز لا يدخلن الجنة). فأوهمها في ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن الجنة أصلا، وإنما أراد: أنهن لا يدخلن الجنة إلا شبابا، فهذا وشبهه من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وأما صريح الكذب فليس بجائز لأحد. وأما قول حذيفة، رضي الله تعالى عنه. فإنه خارج من معاني الكذب الذي روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه أذن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذي يضطر إلى الميتة ولحم الخنزير فيأكل ليحيى نفسه، وكذلك الخائف، له أن يخلص نفسه ببعض ما حرم الله تعالى عليه، وله أن يحلف على ذلك ولا حرج عليه ولا إثم، قال عياض: وأما المخادعة في منع حق عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أولها فهو حرام بالإجماع.
3
((باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح))
أي: هذا باب في بيان قول الإمام... إلى آخره. قوله: (نصلح)، مجزوم لأنه جواب الأمر.
3962 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي وإسحاق بن محمد الفروي قالا حدثنا محمد بن جعفر عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن عبد الله هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب أبو عبد الله الذهلي النيسابوري، روى عنه البخاري في قريب من ثلاثين موضعا، ولم يقل: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي مصرحا، ويقول: حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، وربما يقول: محمد بن عبد الله، فينسبه إلى جده، ويقول أيضا: محمد بن خالد، وينسبه إلى جد أبيه، والسبب في ذلك أن البخاري، لما دخل نيسابور شغب عليه محمد بن يحيى الذهلي في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه، فلم يترك الرواية عنه ولم يصرح باسمه، مات بعد البخاري بيسير، سنة سبع وخمسين ومائتين، وأما عبد العزيز بن عبد الله الأويسي فهو أيضا من مشايخ البخاري، وقد روى عنه بلا واسطة في الباب الذي قبله، وروى هنا بواسطة محمد بن يحيى، وهكذا وقع في رواية الأكثرين، ووقع في رواية النسفي وأبي أحمد الجرجاني بإسقاطه، وصار الحديث عندهما: عن البخاري عن عبد العزيز وإسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة أبو يعقوب الفروي، وهو أيضا من مشايخ البخاري، روى عنه وعن محمد غير منسوب عنه، وهو من أفراده، وعبد العزيز وإسحاق كلاهما رويا عن محمد بن جعفر بن أبي كثير عن أبي حازم: سلمة بن دينار عن سهل بن دينار عن سهل بن سعد الأنصاري، وهذا الحديث طرف من حديث سهل بن سعد الذي مضى في أول كتاب الصلح.
قوله: (نصلح)، يجوز بالجزم وبالرفع، أما الجزم: فلأنه جواب الأمر. وأما الرفع فعلى تقدير: نحن نصلح.
وفيه: خروج الإمام مع أصحابه للإصلاح بين الناس عند تفاقم أمورهم وشدة تنازعهم. وفيه: ما كان صلى الله عليه وسلم من التواضع والخضوع والحرص على قطع، الخلاف وحسم دواعي الفرقة عن أمته، كما وصفه الله تعالى.
4
((باب قول الله تعالى: * (أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير) * (النساء: 821).))
أول الآية، قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير، وأحضرت الأنفس الشح، وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) * (النساء: 821). يقول الله تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه منها، وتارة عند فراقه لها. فالحالة
270

الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال الله تعالى: * (فلا جناح عليهما أن يصالحها بينهما صلحا) * (النساء: 821). ثم قال: * (والصلح خير) * (النساء: 821). أي: من الفراق، وروى أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية: * (وإن امرأة خافت) * (النساء: 821). الآية ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى عن أبي داود الطيالسي. وقال: حسن غريب، وقيل: نزلت في رافع بن خديج طلق زوجته واحدة وتزوج شابة، فلما قارن انقضاء العدة قالت: أصالحك على بعض الأيام، ثم لم تسمح، فطلقها أخرى ثم سألته ذلك فراجعها، فنزلت هذه الآية، قوله: * (نشوزا) * النشوز أصله الارتفاع، فإذا أساء عشرتها ومنعها نفسه والنفقة فهو نشوز، وقال ابن فارس: نشز بعلها إذا جفاها وضربها، وقال الزمخشري: النشوز أن يتجافى عنها، بأن يمنعها الرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بسب أو ضرب، والإعراض أن يعرض عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها، وذلك لبعض الأسباب من طعن في سن أو دمامة أو شيء في خلق أو خلق أو ملال أو نحو ذلك. قوله: * (أن يصالحا) * أصله: أن يتصالحا، فأبدلت التاء صادا وأدغمت الصاد في الصاد، فصار: يصالحا، وقريء: (أن يصلحا) أي: أن يصطلحا، وأصله: يصتلحا، فأبدلت التاء صادا وأدغمت في الأخرى، وقرئ: أن يصلحا. وقوله: * (صلحا) * (النساء: 821). في معنى مصدر كل واحد من الأفعال الثلاثة. قوله: * (والصلح خير) * (النساء: 821). أي: من الفرقة أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة. قال الزمخشري: هذه الجملة اعتراض، وكذلك قوله: * (وأحضرت الأنفس الشح) * (النساء: 821). ومعنى إحضار الأنفس الشح: أن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، ولا تنفك عنه، يعني أنها مطبوعة عليه، والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمتها، والرجل لا يكاد نفسه تسمح بأن يقسم لها وأن يمسكها إذا رغب عنها، وأحب غيرها. قوله: * (وإن تحسنوا) * (النساء: 821). أي: بالإقامة على نسائكم وتتقوا النشوز والإعراض، وما يؤدي إلى الأذى والخصومة، * (فإن الله كان بما تعملون) * (النساء: 821). من الإحسان والتقوى * (خبيرا) * (النساء: 821). يثيبكم عليه.
4962 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * (النساء: 821). قالت هو الرجل يراى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها فتقول أمسكني واقسم لي ما شئت قالت فلا بأس إذا تراضيا.
هذا الحديث تفسير عائشة، رضي الله تعالى عنها، هذه الآية، وسفيان هو ابن عيينة، قوله: كبرا، بالنصب بيان لقوله: ما لا يعجبه، أي: كبر السن أو غيره من سوء خلق أو خلق، ويروى وغيره، بالواو. قوله: (فتقول)، أي المرأة تقول لزوجها: عائشة فلا بأس بذلك إذا تراضيا أي الرجل وامرأته، ودل هذا على أن ترك التسوية بين النساء وتفضيل بعضهم على بعض لا يجوز إلا بإذن المفضولة ورضاها، ويدخل في هذا المعنى جميع ما يقع بين الرجل والمرأة في: مال أو وطء أو غير ذلك، وكل ما تراضيا عليه من الصلح فهو حلال للرجل، من زوجته للآية المذكورة، ونقل الداودي عن مالك: أنها إذا رضيت بالبقاء بترك القسم لها أو الإنفاق عليها، ثم سألت العدل، كان ذلك لها، والذي قاله في المدونة، ذكره في القسم لها، وأما النفقة فيلزمها ذلك إذا تركته، والفرق أن الغيرة لا تملك بخلاف النفقة.
5
((باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا اصطلح قوم على صلح جور، الجور في الأصل الظلم، يقال: جار جورا، أي: ظلما، ولفظ: جور، يجوز أن يكون صفة لصلح، ويجوز أن يكون مضافا إليه قوله (فالصلح) بالفاء جواب إذا المتضمنة معنى الشرط.
271

6962 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهما قالا جاء أعرابي فقال يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله فقال الأعرابي أن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فقالوا لي على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة ثم سألت أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هاذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أما الوليدة والغنم فرد عليك)، لأنه في معنى الصلح عما وجب على العسيف من الحد، ولم يكن ذلك جائزا في الشرع فكان جورا.
وآدم هو ابن أبي إياس: واسمه عبد الرحمن، أصله من خراسان، سكن في عسقلان. وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، والزهري هو محمد بن مسلم، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وبعض هذا الحديث مر في الوكالة في: باب الوكالة في الحدود، وقد مر الكلام فيما يتعلق به وبتعدد موضعه ومن أخرجه غيره، ولنتكلم بما يتعلق به هنا.
ذكر معناه: قوله: (بكتاب الله) أي: بحكم كتاب الله تعالى. فإن قلت: هذا وخصمه كانا يعلمان أنه صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بكتاب الله، فما معنى قولهما:
إقض بيننا بكتاب الله تعالى؟ قلت: ليفصل بينهما بالحكم الصرف، لا بالصلح، إذ للحاكم أن يفعل ذلك لكن برضاهما. قوله: (عسيفا)، أي: أجيرا، ويجمع على: عسفاء، ذكره الأزهري وعسفة، على غير قياس، ذكره ابن سيده، وقيل: كل خادم عسيف، وقال ابن الأثير: وعسيف فعيل بمعنى مفعول كأسير، أو بمعنى: فاعل، كعليم من العسف الجور أو الكفاية. قوله: (على هذا)، إنما قال: على هذا، ولم يقل: لهذا، ليعلم أنه أجير ثابت الأجرة عليه، وإنما يكون كذلك إذا لابس العمل وأتمه، ولو قال: لهذا، لم يلزم ذلك. قوله: (ووليدة)، أي: قوله: (ثم سألت أهل العلم)، أراد بهم الصحابة الذين كانوا يفتون في عصر النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم الخلفاء الأربعة وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم. قوله: (وتغريب عام)، التغريب، بالغين المعجمة: النفي عن البلد الذي وقعت فيه الجناية، يقال: أغربته وغربته إذا نحيته وأبعدته، والغرب البعد. قوله: (لأقضين بينكما بكتاب الله)، أي: بحكمه، إذ ليس في الكتاب ذكر الرجم، وقد جاء الكتاب بمعنى الفرض قال تعالى: * (كتب عليكم الصيام) * (البقرة: 381). أي: فرض، ويحتمل أن يكون: فرض أولا ثم نسخ لفظه دون حكمه، على ما روي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قرأناها فيما أنزل الله تعالى: * (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة) * (النساء: 61). ويقال: الرجم، وإن لم يكن منصوصا عليه في القرآن باسمه الخاص، فإنه مذكور فيه على سبيل الإجمال، وهو قوله عز وجل: * (فآذوهما) * (النساء: 61). والأذى يتسع في معناه الرجم وغيره من العقوبة. قوله: (فرد عليك)، رد مصدر، ولهذا وقع خبرا، والتقدير: فهو رد، أي: مردود عليك، ويروى: (فترد عليك)، على صيغة المجهول من المضارع. قوله: (يا أنيس)، تصغير أنس قيل: هو ابن الضحاك الأسلمي يعد في الشاميين، ومخرج حديثه عليهم، وقد حدث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال ابن التين: هو تصغير أنس بن مالك خادم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذهب ابن عبد البر إلى أنه الضحاك بن مرثد الغنوي والأول أشهر، قوله: (فاغد) أي: ائتها غدوة، قاله ابن التين، ثم قال: قيل فيه تأخير الحكم إلى الغد، وقال غيره: ليس معناه أمض إليها بكرة، بل معناه: إمش إليها، وكذا معنى قوله: فغدا عليها، أي: مشى إليها. قوله: (فرجمها)، أي: بعد أن ثبت باعترافها فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص أنيس بهذا الحكم؟ قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأمر في القبيلة إلا رجلا منها لنفورهم من حكم غيرهم، وأنيسا كان أسلميا، والمرأة كانت أسلمية.
ذكر ما يستفاد منه: من ذلك احتج به الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى والحسن ابن أبي حي، والشافعي وأحمد
272

وإسحاق، على أن الرجل إذا لم يكن محصنا وزنى فإنه يجلد مائة جلدة ويغرب عاما. وقال أبو عمر: لا خلاف بين المسلمين إن البكر إذا زنى يجلد مائة جلدة.
واختلفوا في التغريب، فقال مالك: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة، ولا العبد، وقال الأوزاعي: ينفى الرجل ولا تنفى المرأة، وقال الثوري والشافعي والحسن بن حي: ينفى الزاني إذا جلد، امرأة كان أو رجلا. واختلف قول الشافعي في العبد، فقال مرة: استحيى الله في تغريب العبد، وقال مرة: ينفى العبد نصف سنة، وقال مرة: ينفى سنة إلى غير بلده، وبه وقال الطبري، وقال الترمذي: وقد صح عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم النفي والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من التابعين، وهو قول سفيان الثوري، ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: البكر إذا زنى جلد مائة ولا ينفى، إلا أن يرى الإمام أن ينفيه للدعارة التي كانت منه، فينفيه إلى حيث أحب، كما ينفي الدعار غير الزناة. قلت: الدعر والدعارة الشر والفساد. ومدة نفي الدعار موكولة إلى رأي الإمام، وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه غرب في الخمر، وكان عمر إذا غضب على رجل نفاه إلى الشام، وروي عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أنه قطع يد سارق ونفاه إلى زرارة، وهي قرية قريبة من الكوفة، وكذا جاء النفي في المخنثين على ما يجيء في الكتاب، إن شاء الله تعالى.
واحتج أبو حنيفة ومن معه في ذلك بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: (إذا زنت ولم تحصن فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير...) الحديث، قالوا: فلما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الأمة: إذا زنت أن تجلد، ولم يأمر مع الجلد، نفي، وقال الله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 52). فأعلمنا بذلك أن ما يجب على الإماء إذا زنين هو نصف ما يجب على الحرائر إذا زنين، ثم ثبت أن لا نفي على الأمة إذا زنت، كذلك أيضا لا نفي على الحرة إذا زنت، وقال الطحاوي: وقال الطحاوي: وقد رويناه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم، فدل ذلك أن لا تسافر المرأة في حد الزنى ثلاثة أيام بغير محرم، وفي ذلك إبطال النفي عن النساء في الزنى. وانتفى ذلك عن الرجال أيضا، لأن في درئه إياه عن الحرائر دليل على درئه عن الأحرار. فإن قلت: يلزم الحنفية على ما ذكروا أن لا يمنعوا من تغريب المرأة إلى ما دون ثلاثة أيام. قلت: لا يلزمهم ذلك، لأن النفي ليس من الحد حتى يستعملوه فيما يمكنهم، وإنما هو من باب التعزير. وقالوا أيضا: النص جعل الحد مائة، والزيادة على مطلق النص نسخ، وما رووه منسوخ بحديث ماعز. قلت: هذا إذا ثبت تأخر أمر ماعز عنه، ولأن في التغريب تعريضا لها للفساد، ولهذا قال علي، رضي الله تعالى عنه: كفى بالنفي فتنة، وعمر، رضي الله تعالى عنه، نفي شخصا فارتد ولحق بدار الحرب، فحلف أن لا ينفى بعده أبدا، وبهذا عرف أن نفيهم كان بطريق السياسة والتعزيز لا بطريق الحد، لأن مثل عمر لا يحلف أن لا يقيم الحدود فافهم.
وفيه: أن أولى الناس بالقضاء الخليفة إذا كان عالما بوجوه القضاء. وفيه: أن المدعى أولى بالقول، والطالب أحق أن يتقدم بالكلام، وإن بدأ المطلوب. وفيه: أن الباطل من القضاء مردود، وما خالف السنة الواضحة من ذلك فباطل. وفيه: أن قبض من قضى له بما قضى له به إذا كان خطأ وجورا وخلافا للسنة، لا يدخله قبضه في ملكه، ولا يصح ذلك له، وعليه رده. وفيه: أن للعالم إن يفتي في مصر فيه من هو أعلم منه إذا أفتى بعلم. وفيه: أنه لم تقع الفرقة بينهما بالزنى. وفيه: أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه. وفيه: دليل على وجوب قبول خبر الواحد. وفيه: أدب السائل في طلب الأذن. وفيه: أن الرجم لا يجب إلا على المحصن
، وهذا لا خلاف فيه، ولا يلتفت إلى ما يحكى عن الخوارج، وقد خالفوا السنن. وفيه: أنه لم يجعل قاذفا بقوله: زنى بامرأته. وفيه: أنه لم يشترط في الاعتراف التكرار، وهو حجة على الشافعي، وقال ابن أبي ليلى: وأحمد لا يجب إلا بالأعتراف أربع مرات. وفيه: أن للإمام أن يسأل المقذوف، فإن اعترف حكم عليه بالواجب، وإن لم يعترف وطالب القاذف أخذ له بحقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء، فقال مالك: لا يحد الإمام القاذف حتى يطالبه المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه فيحده إن كان معه شهود غيره عدول، وقال أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعي والشافعي: لا يحد القاذف إلا بمطالبة المقذوف. وقال ابن أبي ليلى: يحده الإمام، وإن لم يطلبه المقذوف. وفيه: أنه لم يسأله عن كيفية الزنى، لأنه مبين في قضية ماعز، وهذا صحيح، إن ثبت تأخير هذا الخبر عن خبر ماعز، فيحمل على أن الابن كان بكرا وعلي
273

أنه اعترف، وإلأ فإقرار الأب عليه غير مقبول، أو يكون هذا إفتاء، أي: إن كان كذا فكذا. وفيه: سقوط الجلد مع الرجم خلافا لمسروق وأهل الظاهر في إيجابهم الجمع بينهما. قلنا: لو كان واجبا لأمر به. وفيه: استدلال للظاهرية على أن المقر بالزنى لا يقبل رجوعه عنه، وليس في الحديث التعريض للرجوع، وقال مالك وأصحابه: يقبل منه إن رجع إلى شبهة، وإن رجع إلى غيرها فيه خلاف. وفيه: إقامة الحاكم الحكم بمجرد إقرار المحدود من غير شهادة عليه، وهو أحد قولي الشافعي وأبي ثور، ولا يجوز ذلك عند مالك إلا بعد الشهادة عليه، وقال للقرطبي: هذا كله مبنى على أن أنيسا كان حاكما، ويحتمل أن يكون رسولا ليستفصلها، ويعضد هذا التأويل قوله في آخر الحديث في بعض الروايات: فاعترفت فأمر بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم فرجمت، فهذا يدل على أن أنيسا إنما سمع إقرارها، وأن تنفيذ الحكم كان من النبي، صلى الله عليه وسلم. قال: وحينئذ يتوجه إشكال آخر. وهو أن يقال: فكيف اكتفى في ذلك بشاهد واحد؟ وقد اختلف في الشهادة على الإقرار بالزنى: هل يكتفي بشهادة شاهدين؟ أو لا بد من أربعة؟ على قولين لعلمائنا، ولم يذهب أحد من المسلمين إلى الاكتفاء بشهادة واحد؟ فالجواب: أن هذا اللفظ الذي قال فيه: فاعترفت فأمر بها فرجمت، هو من رواية الليث عن الزهري، ورواه عن الزهري مالك بلفظ: فاعترفت فرجمها، لم يذكر فأمر بها النبي، صلى الله عليه وسلم فرجمت، وعند التعارض. فحديث مالك أولى لما يعلم من حفظ مالك وضبطه وخصوصا في حديث الزهري، فإنه من أعرف الناس به، والظاهر أن أنيسا كان حاكما فيزول الإشكال، ولو سلمنا أنه كان رسولا فليس في الحديث ما ينص على انفراده بالشهادة، ويكون غيره قد شهد عليها عند النبي، صلى الله عليه وسلم بذلك. ويعضد هذا أن القضية اشتهرت وانتشرت فيبعد أن ينفرد بها واحد، سلمنا، لكنه خبر وليس بشهادة فلا يشترط العدد فيه، وحينئذ يستدل بها على قبول أخبار الآحاد والعمل بها في الدماء وغيرها. قال القرطبي: وفيه: أن زنى المرأة لا يفسخ نكاحها من زوجها. وفيه: أن الحدود التي هي محضة لحق الله لا يصح الصلح فيها.
واختلف في حد القذف: هل يصح الصلح فيه أم لا؟ ولم يختلف في كراهته لأنه ثمن عرض، ولا خلاف في جوازه قبل رفعه، وأما حققو الأبدان من الجراح، وحقوق الأموال، فلا خلاف في جوازه مع الإقرار، واختلف في الصلح على الإنكار، فأجازه مالك وأبو حنيفة ومنعه الشافعي.
7962 حدثنا يعقوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد.
مطابقته للترجمة من حيث إن من اصطلح على صلح جور فهو داخل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا...) الحديث. ويعقوب شيخ البخاري، قيل: هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وقيل: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، وقيل: يعقوب بن حميد بن كاسب، وقيل: يعقوب بن محمد بن الزهري، كذا ذكره ابن السكن وأنكره الحاكم، وزعم أبو نعيم أنه يعقوب بن إبراهيم، وذكر الكلاباذي والحاكم أنه يعقوب بن حميد، والذي وقع في رواية الأكثرين يعقوب، كذا غير منسوب، وانفرد ابن السكن بقوله: يعقوب بن محمد، وكذا وقع في المغازي في: باب فضل من شهد بدرا، قال البخاري: حدثنا يعقوب حدثنا إبراهيم بن سعد، فوقع عند ابن السكن: يعقوب بن محمد، أي: الزهري، وعند الأكثرين غير منسوب، ولكن قال أبو ذر في روايته في المغازي: يعقوب بن إبراهيم، أي الدورقي. قوله: (عن أبيه) هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ووقع منسوبا، كذلك في مسلم، وقال في روايته: أي والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي المديني؟
والحديث أخرجه مسلم في الأقضية عن محمد بن الصباح البزار، وعبد الله بن عوف الخزاز وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، وأخرجه أبو داود في السنة عن محمد بن الصباح به، وعن محمد بن عيسى، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي مروان محمد بن عثمان.
قوله: (من أحدث في أمرنا هذا) الإحداث في أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، هو اختراع شيء في دينه بما ليس فيه، مما لا يوجد في الكتاب والسنة. قوله: (فهو رد) أي: مردود، ومن باب إطلاق المصدر على اسم المفعول، كما يقال: هذا خلق الله، أي: مخلوقه، وهذا نسج فلان، أي: منسوجه، وحاصل معناه: أنه باطل غير معتد به.
وفيه: رد المحدثات وأنها ليست من الدين لأنه ليس عليها أمره، صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمر الدين.
274

رواه عبد الله بن جعفر المخرمي وعبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم
أي: روى الحديث المذكور عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ونسبه المخرمي إلى جده الأعلى، مخرمة، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، وعبد الواحد بن أبي عون الدوسي من أنفسهم، وثقه ابن معين، مات سنة أربع وأربعين ومائة، أما رواية عبد الله بن جعفر فوصلها مسلم، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد عن أبي عامر، قال عبد: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم، قال: سألت القاسم بن محمد عن
رجل له مساكن فأوصى بثلث كل مسكن منها. قال: يجمع ذلك كله في مسكن واحد، ثم قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وأما رواية عبد الواحد بن أبي عون فوصلها الدارقطني من طريق عبد العزيز بن محمد عنه بلفظ: (من فعل أمرا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وليس لعبد الواحد في البخاري سوى هذا الموضع، وكذلك لعبد الله بن جعفر.
6
((باب كيف يكتب هاذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان وإن لم ينسبه إلى نسبه أو قبيلته))
أي: هذا باب يذكر فيه: كيف يكتب كتاب الصلح، يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان وفلان بن فلان، فيكتفى بهذا المقدار إذا كان مشهورا معروفا بين الناس، ولا يحتاج أن ينسب في الكتاب إلى نسبه أو إلى قبيلته، وأما الذي يكتبه أهل الوثائق ويذكرون فيه اسمه واسم جده، ويذكرون نسبته إلى شيء من الأشياء فهو احتياط لخوف اللبس والاشتباه، فإذا أمن من ذلك تكون الكتابة بذلك على سبيل الاستحباب: ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في كتاب المقاضاة مع المشركين على أن كتب: محمد بن عبد الله، ولم يزد عليه لما أمن الالتباس فيه، لأنه لم يكن هذا الاسم لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الفقهاء استحبوا أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده ونسبه، لرفع الإشكال. وقل ما يقع مع ذكر هذه الأربعة اشتباه في اسمه، ولا التباس في أمره.
8962 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء ابن عازب رضي الله تعالى عنهما قال لما صالح رسول الله، صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي بينهم كتابا فكتب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولا لم نقاتلك فقال لعلي امحه فقال علي ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم بيده وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام ولا يدخلوه إلا بجلبان السلاح فسألوه ما جلبان السلاح فقال القراب بما فيه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فكتب: محمد رسول الله)، حيث لم يذكر اسم أبيه ولا اسم جده، لأنه لم يكن هذا الاسم إلا له، كما ذكرناه عن قريب، وغندر هو محمد بن جعفر، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن أبي موسى وبندار كلاهما وعن غندر وعن عبيد الله بن معاذ عن أبيه، وأخرجه أبو داود في الحج عن أحمد ابن حنبل عن غندر.
قوله: (إمحه)، أمر بفتح الحاء وضمها، يقال: محوت الشيء أمحوه وأمحاه، وقول علي، رضي الله تعالى عنه: ما أنا بالذي أمحاه، ليس بمخالفة لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنه علم بالقرينة أن الأمر ليس للإيجاب. قوله: (إلا بجلبان السلاح)، بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة، كذا ضبطه ابن قتيبة، وبعض المحدثين، قال: وهو أوعية السلاح بما فيها، قال: وما أراه سمى به إلا بجفائه، ولذلك قيل للمرأة الجافية الغليظة: جلبانة، وقد فسر في الحديث بأنها القراب، بكسر القاف وتخفيف الراء وفي آخره باء موحدة، وهو شيء يخرز من الجلد يضع فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه ويعلقه في الرحل، وقال
275

الأزهري: القراب غمد السيف، والجلبان من الجلبة وهي: الجلدة التي تجعل على القتب، والجلدة التي تغشى التميمة لأنها كالغشاء للقراب. قال الخطابي: الجلبان يشبه الجراب من الأدم، يضع الراكب فيه سيفه بقرابه، ويضع فيه سوطه يعلقه الراكب من وسط رحله أو من آخره، ويحتمل أن تكون اللام ساكنة، وهو جلب، بضم الجيم واللام وتشديد الباء، ودليله قوله في رواية مؤمل عن سفيان: (إلا بجلب السلاح)، قال وجلب نفس السلاح كجلب الرحل نفس عيبته، كأنه يراد به نفس السلاح، وهو السيف خاصة من غير أن يكون معه من أدوات الحرب من لامة ورمح وجحفة ونحوها، ليكون علامة للأمن، والعرب لا تضع السلاح إلا في الأمن، قال: وقد جاء: جربان السيف، في هذا المعنى، وقال الأصمعي: الجربان: قراب السيف، فلا ينكر أن يكون ذلك من باب تعاقب اللام والراء، والذي ضبطه في أكثر الكتب بجلب السلاح، بضم اللام وتشديد الباء وضبطه الجوهري وابن فارس جربان بضم الراء وتشديد الباء بضم الراء وتشديد الباء، وقال ابن فارس: جريان السيف: قرابه، وقيل: حده، قوله: (القراب بما فيه)، تفسير الجلبان، وفسر أيضا بالسيف والقوس ونحوه. وفي رواية: لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب، وفي لفظ: ولا يحمل سلاحا إلا سيوفا.
9962 حدثنا عبيد الله بن موساى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله تعالى عنه قال اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا هاذا ما قاضاى عليه محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالوا لا نقر بها فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك لاكن أنت محمد بن عبد الله قال أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب هاذا ما قاضاى عليه محمد بن عبد الله لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه وأن لا يمنع أحدا من أصحابه أراد أن يقيم بها فلما دخلها ومضاى الأجل أتوا عليا فقالوا قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضاى الأجل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة يا عم يا عم فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة عليها السلام دونك ابنة عمك حملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر فقال علي أنا أحق بها وهي ابنة عمي وقال جعفر ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد ابنة أخي فقضاى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة بمنزلة الأم وقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي. وقال لزيد أنت أخونا ومولانا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ولفظ المقاضاة يدل عليها، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، يروي عن جده. والحديث أخرجه الترمذي أيضا.
قوله: (في ذي القعدة)، بكسر القاف وسكون العين. قوله: (أن يدعوه)، أي: أن يتركوه. قوله: (حتى قاضاهم)، معنى قاضى، فاصل، وأمضى أمرهما عليه، وهو بمعنى صالح، ومنه: قضى القاضي إذا فصل الحكم وأمضاه. قوله: (هذا)، إشارة إلى ما في الذهن، مبتدأ وخبره قوله: ما قاضى، ومقوله: (لا نقربها)، قوله: أي بالرسالة. قوله: (فلو نعلم)، إعلم أن لو للماضي، وإنما عدل هنا إلى المضارع ليدل على الاستمرار، أي: استمر عدم علمنا برسالتك، كما في قوله تعالى، قوله: * (لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم) * (الحجرات: 7). قوله: (فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب)، أي: أمر عليا، رضي الله تعالى عنه، فكتب، كقولك: ضرب الأمير، أي: أمر به. وقال الشيخ أبو الحسن: ما رأيت هذا اللفظ: فكتب، إلا في هذا الموضع، وقيل: إنه مختص بهذا الموضع، وقيل: إنه كالرسم، لأن بعض من لا يكتب يرسم اسمه بيده لتكراره عليه، وقيل: وكتب، وأما قوله: * (وما كنت تتلو
276

من قبله من كتاب) * (العنكبوت: 84). الآية، لأنه تلا بعد، وأما قوله: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)، لأنه كان فيهم من يكتب، لكن عادة العرب يسمون الجملة باسم أكثرها، فلذلك كان أكثر أمره أن لا يحسن، فكتب مرة. وقيل: لما أخذ القلم أوحى الله إليه فكتب، وقيل: ما مات حتى كتب، وقيل: كتب على الاتفاق من غير قصد، ووقع في بعض نسخ أطراف أبي مسعود أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الكتاب، ولم يحسن أن يكتب، فكتب مكان رسول الله: محمدا، وكتب: (هذا ما قاضى عليه محمد) والثابت ما ذكرناه أنه أمر عليا فكتب. وفي رواية: فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب وأن من معجزاته أنه يحسن من وقته، لأنه خرق للعادة، وقال به أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وأبو الوليد الباجي، وصنف فيه وأنكر عليه، وقال السهيلي: وكتب على ذلك اليوم نسختين إحداهما مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم والأخرى مع سهيل، وشهد فيهما أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة ابن الجراح ومحمد بن مسلمة ومكرز بن حفص وهو يومئذ مشرك وحويطب بن عبد العزى. قوله: (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله: لا يدخل مكة) هذا إشارة إلى ما في الذهن مبتدأ وقوله: ما قاضى، خبره، ومفسر له. وقوله: لا يدخل، تفسير للتفسير. قوله: (وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه) لا يخرج، بضم الياء من الإخراج من أهلها، أي: من أهل مكة. فإن قلت: خرجت بنت حمزة ومضت معه؟ قلت: النساء لم يدخلن في العهد، والشرط إنما وقع في الرجال فقط، وقد بينه البخاري في كتاب الشروط بعد هذا، وفي بعض طرقه: فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل هو على دينك إلا رددته إلينا، ولم يذكر النساء، فصح بهذا أن أخذه لابنة حمزة، رضي الله تعالى عنهما، كان لهذه العلة. ألا تراه رد أبا جندل إلى أبيه، وهو العاقد لهذه المقاضاة؟ وقال البخاري، فيما سيأتي: قول الله تعالى: * (إذا جاءك المؤمنات) * (الممتحنة: 21). فيه نسخ السنة بالقرآن، وهذا على أحد القولين فإن هذا العهد كان يقتضي أن لا يأتيه مسلم إلا رده، فنسخ الله تعالى ذلك في النساء خاصة، على أن لفظ المقاضاة: لا يأتيك رجل، وهو إخراج النساء، وقال السهيلي: وفي قول سهيل: لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته، منسوخ عند أبي حنيفة بحديث سرية خالد، رضي الله تعالى عنه، حين وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خثعم، وفيهم ناس مسلمون، فاعتصموا بالسجود، فقتلهم خالد، رضي الله تعالى عنه، فوداهم النبي صلى الله عليه وسلم نصف الدية، وقال: أنا بريء من كل مسلم بين مشركين. قوله: (فلما دخلها)، أي: مكة في العام المقبل، (ومضى الأجل) أي: قرب انقضاء الأجل، كقوله تعالى: * (فإذا بلغن أجلهن) * (البقرة: 432 والطلاق: 2). ولا بد من هذا التأويل لئلا يلزم عدم الوفاء بالشرط. قوله: (فتبعتهم ابنة حمزة)، وهي أمامة. وقيل: عمارة، وأمها سلمى بنت عميس. قوله: (يا عم) مرتين إن قالت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم فهو عمها من الرضاعة، وإن قالته لزيد فكان مصافيا لحمزة ومؤاخيا له. قوله: (دونك)، يعني: خذيها، وهو من أسماء الأفعال، وفي رواية: أن زيدا أتى بها، واحتج حين خاصم فيها لأنه تجشم الخروج بها، قال ابن التين: أما أن يكون في إحدى الروايتين، وهم، أو يكون خرج مرة فلم يأت بها وسعت إليه في هذه المرة فأتى بها (فتناولها علي) رضي الله تعالى عنه. وقال الداودي: وفيه: يتناول غير ذات المحرم عند الاضطرار إليه، والصحيح أنها الآن ذات محرم، لأن فاطمة، رضي الله تعالى عنها، أختها من الرضاعة، وهي تحت علي، فهي ذات محرم، إلا أنها غير مؤبدة التحريم. قوله: (حملتها)، بلفظ الماضي، ولعل الفاء فيه محذوفة، ويروى: احمليها، وفي رواية: احتمليها. قوله: (فقال زيد: ابنة أخي) أي: قال زيد بن حارثة: هي ابنة أخي، وليست بابنة أخيه، فإن أبا زيد هو حارثة، وأبا حمزة هو عبد المطلب، وأم حمزة هالة، وأم زيد سعدى، ولا رضاع بينهما، لأن زيدا كان ابن ثمان سنين لما دخل مكة وخالط قريشا، وإنما آخى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين زيد وبين حمزة، فقال ذلك باعتبار هذه المؤاخاة. قوله: (فقضى بها)، أي: بابنة حمزة (لخالتها). وفيها: دلالة أن للخالة حقا في الحضانة، فقال صلى الله عليه وسلم: الخالة بمنزلة الأم. قوله: (وقال لعلي) رضي الله تعالى عنه: (أنت مني) أي: متصل بي، و: من، هذه تسمى اتصالية، فطيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم قلوب الكل بنوع من التشريف على ما يليق بالحال. وفيه: منقبة عظيمة جليلة لعلي، رضي الله تعالى عنه، وأعظم من قوله: (أنت مني) قوله: (وأنا منك). قوله: (أشبهت خلقي وخلقي) الأول بفتح الخاء والثاني بضمها. قوله: (أنت أخونا) أي باعتبار أخوة الإسلام، والمراد بقوله: (ومولانا)، المولى الأسفل لأنه أصابه سباء فاشتري لخديجة، رضي الله تعالى عنها، فوهبته للنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو صبي فأعتقه وتبناه، قال ابن عمر: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت: * (أدعوهم لآبائهم) * (الأحزاب: 5). وآخى صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة، وعن عائشة، رضي الله
277

تعالى عنها، ما بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي لاستخلفه، قتل بمؤتة، رضي الله تعالى عنه.
7
((باب الصلح مع المشركين))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلح مع المشركين.
فيه عن أبي سفيان
أي: في هذا الباب شيء يروى عن أبي سفيان، يعني: في، باب الصلح مع المشركين مثل الذي مر في شأن هرقل، وهو أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش في المدة التي ماد فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم كفار قريش... الحديث مطولا في أول الكتاب، وفيه: ونحن في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، وهي مدة الصلح بينهم.
وقال عوف بن مالك عن النبي، صلى الله عليه وسلم ثم تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر
هذا التعليق طرف من حديث وصله البخاري بتمامه في الجزية من طريق أبي إدريس الخولاني، وعوف بن مالك ابن أبي عوف الأشجعي الغطفاني أبو عبد الله، شهد فتح مكة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم نزل الشام وسكن دمشق ومات بحمص سنة اثنين وسبعين. قوله: (ثم تكون هدنة)، بضم الهاء وهو الصلح، وفيه المطابقة للترجمة. وبنو الأصفر: الروم، وقال ابن الأنباري: سموا به لأن جيشا من الحبشة غلب على بلادهم في وقت، فوطىء نساءهم فولدت أولادا صفرا بين سواد الحبشة وبياض الروم.
وفيه عن سهل بن حنيف
أي: وفي الباب روي عن سهل بن حنيف بن واهب الأنصاري الأوسي أبو ثابت، ويروى: وفيه سهل بن حنيف، بدون كلمة: عن، وهذا التعليق أيضا طرف من حديث وصله البخاري في آخر الجزية، قال: حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة، قال: سمعت الأعمش، قال: سألت أبو وائل: شهدت صفين؟ قال: نعم، فسمعت سهل بن حنيف يقول: (أتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل، فلو أستطيع أن أرد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، لرددته...) الحديث. وسهل بن حنيف شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وكبر ستا. ووقع في رواية أبي ذر والأصيلي: كذا، وفيه عن سهل بن حنيف (لقد رأيتنا يوم أبي جندل). ولم يقع هذا في رواية غيرهما. وأبو جندل: اسمه العاص بن سهيل بن عمرو، قتل مع أبيه بالشام، وقال المدائني: ثتل سهيل بن عمرو باليرموك، وقيل: مات في طاعون عمواس. قوله: (أتهموا رأيكم)، يخاطب به سهل بن حنيف أبا وائل، ومعناه: أنتم أفسدتم رأيكم حيث تركم رأي علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، يوم صفين حتى جرى ما جرى. قوله: (رأيتني) أي: رأيت نفسي يوم أبي جندل، وهو اليوم الذي حضر أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم كان يكتب هو وسهيل بن عمرو كتاب الصلح. وكان قد حضر أبو جندل، وهو يرسف في الحديد، وكان قد أسلم بمكة وأبوه حبسه وقيده، فهرب فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه أبو سهيل أخذ بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته، يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل! إصبر واحتسب، فأن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين بمكة فرجا ومخرجا، وإنا قد عقدنا بيننا وبينهم صلحا وعهدا، فإنا لا نغدر بهم)، وقيل: إنما رد أبا جندل لأنه كان يأمن عليه القتل لحرمة أبيه سهيل بن عمرو، ومعنى قول سهل بن حنيف: فلو فلو أستطيع إلى آخره يعني ما كنت يومئذ عن قتال المشركين ولكن ما كنت أستطيع أن أراد أمر النبي صلى الله عليه وسلم استطعت لرددته، وأراد بأمره هذا هو عقده الصلح معهم، ولما وقع الصلح تأخر كل من كان في قلبه القتال امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأسماء والمسور عن النبي صلى الله عليه وسلم
278

أي: وفي الباب أيضا عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وعن المسور بن مخرمة، ويجوز في أسماء والمسور الرفع على أن يكون عطفا على قوله: وفيه سهل بن حنيف على رواية سهل بالرفع بدون كلمة: عن، على ما ذكرناه. قوله: (عن النبي، صلى الله عليه وسلم)، أي: في ذكر الصلح. أما حديث أسماء فكأنه أشار به إلى حديثها الذي مضى في الهبة في: باب هدية المشركين: حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، قالت: (وقدمت على أمي وهي مشركة...) والحديث، فإن فيه معنى الصلح، على ما لا يخفى. وأما حديث المسور بن مخرمة فسيأتي في أول كتاب الشروط بعد سبعة أبواب.
0072 وقال موساى بن مسعود قال حدثنا سفيان بن سعيد عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء على أن من أتاه من المشركين رده إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه فجاء أبو جندل يحجل في قيوده فرده إليهم.
. موسى بن مسعود أبو حذيفة النهدي، مر في: باب العتق وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق هو السبيعي، وقد مر عن قريب، وهذه الطريقة أخرجها البيهقي، رضي الله تعالى عنه، وغيره. قوله: (من قابل) أي: من عام قابل. قوله: (يحجل)، بفتح الياء وسكون الحاء المهملة وضم الجيم، أي: يمشي مشي الحجلة، الطير المعروف، وقيل: أي يمشي مشية المقيد، والأصل فيه أن يرفع رجلا ويقوم على أخرى، وذلك أن المقيد لا يمكنه أن ينقل رجليه معا، وقيل: هو أن يقارب خطوه، وهو مشية المقيد، وقيل: فلان يحجل في مشيته أي: يتبختر، وروي يجلجل في قيوده. قوله: (فرده إليهم)، يريد رده إلى أبيه سهيل بن عمرو.
قال أبو عبد الله لم يذكر مؤمل عن سفيان أبا جندل وقال إلا بجلب السلاح
أبو عبد الله هو البخاري نفسه أراد أن مؤمل بن إسماعيل تابع موسى بن مسعود في رواية هذا الحديث عن سفيان الثوري، لكنه لم يذكر قصة أبي جندل. وقال: * (إلا بجلب السلاح) بدل قوله: (إلا بجلبان السلاح)، والجلب، بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة، وقد ذكرناه عن قريب، وقال الخطابي بتخفيف الياء، جمع: جلبة، وطريق مؤمل هذا أخرجه أحمد في (مسنده) موصولا عنه.
1072 حدثنا محمد بن رافع قال حدثنا سريج بن النعمان قال حدثنا فليح عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ولا يقيم بها إلا ما أحبوا فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم فلما أقام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج.
(الحديث 1072 طراه في: 2524).
مطابقته للترجمة في قوله: (وقاضاهم) لأن في المقاضاة معنى الصلح، ومحمد بن رافع، بالفاء والعين المهملة: ابن أبي زيد القشيري النيسابوري، ومات سنة خمس وأربعين ومائتين، وسريج، بضم السين المهملة وبالجيم: أبو الحسين البغدادي الجوهري روى عنه البخاري، وروى عن محمد بن رافع عنه هنا، وروى عن محمد غير منسوب عنه في الحج، وفليح، بضم الفاء وفتح اللام وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان بن المغيرة، وكان اسمه: عبد الملك، ولقبه: فليح، فاشتهر به، يكنى أبا يحيى الخزاعي.
279

قوله: (معتمرا) حال. قوله: (فحال كفار قريش)، أي: منعوا بينه وبين البيت. قوله: (وقاضاهم)، أي: صالحهم، وهذه المصالحة ترتبت عليها المصلحة العظيمة، وهي ما ظهر من ثمراتها: فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا، وذلك أنهم كانوا قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا يعرفون طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلة، فلما حصل الصلح واختلطوا بهم وعرفوا أحواله من المعجزات الباهرة وحسن السيرة وجميل الطريقة، تألفت نفوسهم إلى الإسلام فأسلموا قبل الفتح كثيرا، ويوم الفتح كلهم، وكانت العرب في البوادي ينتظرون إسلام أهل مكة، فلما أسلموا أسلم العرب كلهم، والحمد لله.
2072 حدثنا مسدد قال حدثنا بشر قال حدثنا يحيى عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهي يومئذ صلح) يعني: مصالحة أهلها اليهود مع المسلمين، وبشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن المفضل، وقد مر في العلم، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وبشير، بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة مصغر بشر: ابن يسار ضد اليمين المدني مولى الأنصار، وسهل بن أبي حثمة، بفتح الحاء المهملة وسكون الثاء المثلثة، واسم أبي حثمة: عامر ابن ساعدة أبو يحيى الأنصاري الحارثي المدني الصحابي، وعبد الله بن سهل الأنصاري الحارثي، الذي قتله اليهود بخيبر ابن أخي محيصة، بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف مكسورة وتخفيفها وبالصاد المهملة: ابن مسعود بن كعب بن عامر بن عدي الحارثي، ووقع هنا عند البخاري: مسعود بن زيد، وعند جميع أصحاب الكتب كابن عبد البر وابن الأثير وغيرهما لم يذكروا إلا مسعود بن كعب.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن مسدد أيضا، وفي الأدب عن سليمان بن حرب وفي الديات عن أبي نعيم وفي الأحكام عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل بن أبي أويس، كلاهما عن مالك. وأخرجه مسلم في الحدود عن عبد الله بن عمر القواريري عن حماد وعن القواريري عن بشر بن المفضل به، وعن عمرو بن الناقد وعن محمد بن المثنى وعن قتيبة عن ليث وعن يحيى بن يحيى وعن القعنبي عن سليمان بن بلال وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن إسحاق بن منصور. وأخرجه أبو داود في الديات عن القواريري ومحمد بن عبيد وعن الحسن بن علي وعن أبي الطاهر بن السرح وعن الحسن بن محمد بن الصباح، وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة، وأخرجه النسائي في القضاء وفي القسامة عن قتيبة وعن أبي الطاهر وعن أحمد بن عبدة وعن محمد بن منصور وعن محمد بن بشار وعن إسماعيل بن مسعود وعن عمرو بن علي وعن أحمد بن سليمان وعن محمد بن إسماعيل وعن الحارث بن مسكين، وأخرجه ابن ماجة في الديات عن يحيى بن حكيم.
قوله: (وهي يومئذ صلح)، ويروى: وهم يومئذ صلح، أي: أهل خيبر يومئذ في صلح مع المسلمين.
8
((باب الصلح في الدية))
أي: هذا باب في بيان أحكام الصلح في الدية بأن وجب قصاص ووقع على مال معين، والدية أصلها: ودية، لأنه من: ودى يدي، يقال: وديت القتيل أديه دية: إذا أعطيت ديته، واتديت إذا أخذت ديته، والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة.
3072 حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثني حميد أن أنسا حدثهم أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فقال أنس بن النضر أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال يا أنس كتاب الله القصاص فرضي القوم وعفوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره زاد الفزاري عن حميد عن أنس ثم رضي القوم وقبلوا الأرش.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم رضي القوم وقبلوا الأرش) لأن قبول الأرش عوض القصاص لم يكن إلا بالصلح، فإن قلت: قوله:
280

(فرضيب القوم وعفوا) يدل على أن لا صلح فيه، فمن أين المطابقة؟ قلت: رواية الفزاري تدل على أن معنى: عفوا، يعني: عن القصاص، وفيه الجمع بين الروايتين فافهم. والحديث من ثلاثيات البخاري، وهي العاشرة منها.
ومحمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، ولي قضاء البصرة ثم قصاء بغداد أيام الرشيد، وولد سنة ثماني عشرة ومائة، ومات سنة خمس عشرة ومائتين، وحميد هو الطويل، وقد تكرر ذكره.
والحديث أخرجه البخاري في التفسير وفي الديات عن الأنصاري تارة مطولا وتارة مختصرا، وفي (صحيح مسلم) من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنسانا، وفيه: فقالت أم الربيع: والله لا تكسر ثنيتها، وكذا هو في (سنن النسائي) فرجح جماعة من العلماء رواية البخاري، وقرر النووي فجعلهما قضيتين، فينظر، لأن الأول رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة في آخرين.
ذكر معناه: قوله: (أن الربيع)، بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة وفي آخره عين مهملة: بنت النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن ضمضم بن زيد بن حرام بن حبيب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصارية، وهي عمة أنس بن مالك، خادم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثنية جارية)، الثنية مقدم الأسنان، والجارية المرأة الشابة لا الأمة هنا، ليتصور القصاص بينهما. قوله: (فطلبوا الأرش)، أي: فطلب قوم الربيع من قوم الجارية أخذ الأرش. قوله: (وطلبوا العفو)، يعني: قالوا: خذوا الأرش أو اعفوا عن هذه، فأبوا، يعني: قوم الجارية امتنعوا فلا رضوا بأخذ الأرش ولا بالعفو، فعند ذلك أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وتخاصموا بين يديه، فأمرهم النبي، صلى الله عليه وسلم بالقصاص. قوله: فقال أنس بن النضر، وهو عم أنس بن مالك، قتل يوم أحد شهيدا ووجد به بضعة وثمانون من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وفيه نزلت: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه) * (الأحزاب: 32). قوله: (أتكسر؟) الهمزة فيه للاستفهام، وتكسر على صيغة المجهول، ولم ينكر أنس حكم الشرع، والظاهر أن ذلك كان منه قبل أن يعرف أن (كتاب الله القصاص) وظن التخيير لهم بين القصاص والدية، أو كان مراده الاستشفاع من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو قال ذلك توقعا ورجاء من فضل الله تعالى أن يرضي خصمها ويلقي في قلبه أن يعفو عنها. وقال الطيبي: كلمة: لا، في قوله: (لا والله)، ليس ردا للحكم بل نفي لوقوعه. ولفظ: (لا تكسر) إخبار عن عدم الوقوع، وذلك بما كان له عند الله من الثقة بفضل الله ولطفه في حقه أنه لا يخيبه، بل يلهمهم العفو، ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، حيث يعلمه من جملة عباد الله المخلصين. قوله: (كتاب الله القصاص)، أي: حكم كتاب الله القصاص على حذف مضاف، وهو إشارة إلى قوله تعالى: * (والجروح قصاص) * (المائدة: 54). أو إلى قوله تعالى: * (والسن بالسن) * (المائدة: 54). أو إلى قوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 621). أو الكتاب بمعنى الفرض والإيجاب. قوله: (لأبره) أي: صدقه، يقال بر الله قسمه وأبره. قوله: (زاد الفزاري)، بفتح الفاء وتخفيف الزاي والراء، وهو مروان بن معاوية بن الحارث الكوفي سكن مكة. شرفها الله، والفزاري ينسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيص بن ريث بن غطفان، وتعليق الفزاري أسنده البخاري في تفسير سورة المائدة، فقال: حدثنا محمد بن سلام عن مروان بن معاوية الفزاري، فذكره، والله أعلم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: وجوب القصاص في السن، قال النووي: وهو مجمع عليه إذا قلعها كلها، وفي كسر بعضها، وفي كسر العظام خلاف مشهور بين العلماء، والأكثرون على أنه: لا قصاص قال القرطبي: وذهب مالك إلى أن القصاص في ذلك كله إذا أمكنت المماثلة، وما لم يكن مخوفا كعظم الفخذ والصلب أخذا بقوله تعالى: * (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 491). وبقوله تعالى: * (والسن بالسن) * (البقرة: 491). وذهب الكوفيون والليث والشافعي إلى أنه: لا قود في كسر العظام ما خلا السن لعدم الثقة بالمماثلة، وقال أبو داود: قيل لأحمد: كيف يقتص من السن؟ قال يبرد. وذكر ابن رشد في (القواعد) أن ابن عباس روى عنه (أن لا قصاص في عظم)، وكذا عن ابن عمر، قال: وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل) إلا أنه ليس بالقوي. وفيه: جواز الحلف فيما يظنه الإنسان. وفيه: جواز الثناء على من لا يخاف عليه الفتنة بذلك. وفيه: دلالة على كرامات الأولياء. وفيه: استحباب العفو عن القصاص والشفاعة فيه. وفيه: إثبات القصاص بين النساء وفي الأسنان. وفيه: فضيلة أنس. وفيه: أن الخيرة في القصاص والدية إلى مستحقه لا إلى المستحق عليه.
281

9
((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين))
أي: هذا باب في ذكر قول االنبي، صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهما إلى آخره، قوله: (ابني هذا) جملة اسمية. لأن قوله: ابني، خبر عن قوله: هذا، قوله: (سيد)، خبر بعد خبر، والسيد الرئيس، قال كراع: وجمعه سادة، قيل: سادة جمع: سائد، وهو من السؤدد، وهو الشرف، وقال ابن سيده: وقد يهمز السؤدد وتضم، وقد سادهم سودا وسوددا وسيادة وسيدودة، واستادهم كسادهم، وسوده هو، وذكر الزبيدي في كتابه (طبقات النحويين): أن أبا محمد الأعرابي قال لإبراهيم بن الحجاج الثائر بأشبيلية: بالله أيها الأمير ما سيدتك العرب إلا بحقك، يقولها بالياء، فلما أنكر عليه، قال: السواد السخام، وأصر على أن الصواب معه، ومالأه على ذلك الأمير لعظم منزلته في العلم. وقيل: اشتقاق السيد من السواد، أي: الذي يلي السواد العظيم من الناس. قوله: (ولعل الله)، استعمل: لعل، استعمال: عسى، لاشتراكهما في الرجاء. قوله: (فئتين عظيمتين) ووصفهما بالعظيمتين لأن المسلمين كانوا يومئذ فرقتين: فرقة مع الحسن، رضي الله تعالى عنه، وفرقة مع معاوية، وهذه معجزة عظيمة من النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بهذا فوقع مثل ما أخبر.
وأصل القضية أن علي بن أبي طالب، لما ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي يوم الجمعة لثلاث عشرة بقيت من رمضان من سنة أربعين من الهجرة، قاله ابن الجوزي. وقال ابن الهيثم: ضربه في ليلة سبعة وعشرين من رمضان، وقال أبو اليقظان: في الليلة السابعة عشر من رمضان، وقال الحسن: كانت ليلة القدر، الليلة التي عرج فيها بعيسى، عليه الصلاة والسلام، ونبىء فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومات فيها موسى ويوشع بن نون، عليهما السلام، مكث يوم الجمعة وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين من الهجرة، وبويع لابنه الحسن بالخلافة في شهر رمضان من هذه السنة، فقيل: في اليوم الذي استشهد فيه علي، قاله الواقدي، وقيل: في الليلة التي دفن فيها، وقيل: بعد وفاته بيومين، وقال هشام: وأقام الحسن أياما مفكرا في أمره ثم رأى اختلاف الناس فرقة من جهته وفرقة من جهة معاوية، ولا يستقيم الأمر، ورأى النظر في إصلاح المسلمين وحقن دمائهم أولى من النظر في حقه، سلم الخلافة لمعاوية في الخامس من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وقيل: من ربيع الأخر، وقيل: في غرة جمادي الأولى، وكانت خلافته ستة أشهر إلا أياما. وسمي هذا العام عام الجماعة. وهذا الذي أخبر به النبي، صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين).
وقوله جل ذكره * (فأصلحوا بينهما) * (الحجرات: 9).
وقوله، بالجر عطفا على قوله: قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار بذكر هذه القطعة من الآية الكريمة: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * (الحجرات: 9). إلى أن الصلح أمر مشروع ومندوب إليه.
4072 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن أبي موسى قال سمعت الحسن يقول استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص إنى لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم من لي بضيعتهم فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الرحمان بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز فقال اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له فطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك قال فمن لي بهذا قالا نحن
282

لك به فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به فصالحه فقال الحسن ولقد سمعت أبا بكرة يقول رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها مأخوذة من الحديث، وعبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي وسفيان هو ابن عيينة، وأبو موسى هو إسرائيل بن موسى البصري، نزل الهند، والحسن هو البصري
والحديث أخرجه البخاري أيضا في فضل الحسن، رضي الله تعالى عنه عن صدقة بن الفضل وفي الفتن عن علي بن عبد الله وفي علامات النبوة عن عبد الله بن محمد، وأخرجه أبو داود في السنة عن مسدد ومسلم بن إبراهيم وعن محمد بن المثنى. وأخرجه الترمذي في المناقب عن بندار. وأخرجه النسائي فيه عن أبي قدامة السرخسي وفي الصلاة عن محمد بن منصور وفي اليوم والليلة عن قتيبة بن سعيد وعن محمد بن عبد الأعلى وعن أحمد بن سليمان مرسل.
ذكر معناه: قوله: (الحسن بن علي) فاعل قوله: استقبل، ولفظة: والله، معترضة بينهما، ومعاوية، بالنصب مفعوله. قوله: (بكتائب) جمع كتيبة، وهي: الجيش، ويقال: الكتبية ما جمع بعضها إلى بعض، ومنه قيل للقطعة المجتمعة من الجيش: كتيبة، قال الداودي: سميت بذلك لأنه كتب اسم كل طائفة من كتاب فلزمها هذا الاسم. قوله: (أمثال الجبال) أي: لا يرى لها طرف لكثرتها، كما لا يرى من قابل الجبل طرفيه، وكانت ملاقاة الحسن مع معاوية بمنزلة من أرض الكوفة، وكان الحسن لما مات علي رضي الله تعالى عنه، بايعه أهل الكوفة، وبايع أهل الشام معاوية، فالتقيا في الموضع المذكور، وبعد كلام طويل ومحاورات جرت بينهما سلم الحسن الأمر إلى معاوية وصالحه وبايعه على الأمر والطاعة على إقامة كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم رحل الحسن إلى الكوفة فأخذ معاوية البيعة لنفسه على أهل العراقين، فكانت تلك السنة سنة الجماعة لاجتماع الناس واتفاقهم، وانقطاع الحرب، وبايع معاوية كل من كان معتزلا عنه، وبايعه سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة، وتباشر الناس بذلك، وأجاز معاوية الحسن بن علي بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا، ومائة جمل، ثم انصرف الحسن إلى المدينة وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة، وولى البصرة عبد الله بن عامر، وانصرف إلى دمشق واتخذها دار مملكته. قوله: (فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي)، أراد عمرو بهذا الكلام تحريض معاوية على القتال مع الحسن، رضي الله تعالى عنه، و: لا تولي، من التولية، وهي الإدبار أي: إن تولت بغير حملة غلبت لكثرتها. قوله: (أقرانها)، بفتح الهمزة جمع: قرن، بكسر القاف وهو الكفؤ والنظير في الشجاعة والحرب. قوله: (فقال له معاوية) أي: قال لعمرو بن العاص معاوية جوابا عن قوله: (إني لأرى كتائب...) إلى آخره. قوله: (أي عمرو!) مقول قول معاوية، أي: يا عمرو (وإن قتل هؤلاء هؤلاء...) إلى آخره. قوله: (وكان والله خير الرجلين)، من كلام الحسن البصري، وقع معترضا بين قوله: (قال له معاوية)، وبين قوله: (أي عمرو). وقوله: (والله أيضا) معترض بين: كان وخبره، وأراد بالرجلين: معاوية وعمرا، وأراد بخيرهما معاوية، وإنما قال ذلك لأنه كان يعلم أن خلاف عمرو على الحسن بن علي كان أشد من خلاف معاوية إياه، لأنه كان يحرض معاوية على القتال معه ومعاوية كان يتوقع الصلح ويريد أن يرد الحسن بدون القتال، وأنه يبايعه ويأخذ منه ما يريده، ويذهب إلى المدينة وهكذا وقع في آخر الأمر. وإثبات الحسن البصري الخيرية، لمعاوية بالنسبة إلى عمرو لا بالنسبة إلى غيره، لأنه لم يشك هو ولا غيره أن الحسن
بن علي كان خير الناس كلهم في ذلك الزمان. قوله: (إن قتل هؤلاء هؤلاء)، أي: إن قتل عسكر الحسن عسكرنا أو عسكرنا عسكره، فهؤلاء الأول في محل الرفع على الفاعلية، والثاني النصب على المفعولية في الموضعين. قوله: (من لي؟) جواب الشرط، أعني. قوله: (إن قتل)، أي: من يتكفل لي بأمور الناس؟ يعني: على كلا التقديرين أنا المطالب عند الله، فإذا وقع الصلح فأكون أنا أول من يسلم في الدنيا والآخرة، وهذا يدل على نظر معاوية في العواقب ورغبته في دفع الحرب. قوله: (من لي بضيعتهم)، هكذا هو في كثير من النسخ، والضيعة، بفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالعين المهملة: والمراد به ههنا: العقار، ويروى: (بصبيتهم)، وعلى هذه الرواية فسرها الكرماني بقوله: (والصبية)، المراد بها الأطفال
283

والضعفاء لأنهم لو تركوا بحالهم لضاعوا لعدم استقلالهم بالمعاش. قوله: (عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب)، ضد العدو ابن عبد شمس القرشي أسلم يوم الفتح، وهو الذي فتح سجستان ومات بالبصرة أو بمرو سنة إحدى وخمسين، وعبد الله بن عامر ابن كريز، بضم الكاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالزاي، مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقد افتتح خراسان وأصبهان وكرمان، وقتل كسرى في ولايته، وقيل: أحرم من نيسابور شكرا الله تعالى، ومات سنة تسع وخمسين. قوله: (واطلبا إليه)، أي: يكون مطلوبكما مفوضا إليه وطلبكما منتهيا إليه، أي: التزما مطالبه. قوله: (إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال)، معناه إنا بنو عبد المطلب المجبولون على الكرم والتوسع لمن حوالينا من الأهل والموالي، وقد أصبنا من هذا المال بالخلافة ما صارت لنا به عادة إنفاق وأفضال على الأهل والحاشية، فإن تخليت من هذا الأمر قطعنا العادة، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قتل بعضها بعضا، فلا يكفون إلا بالمال، فأراد أن يسكن الفتنة ويفرق المال فيما لا يرضيه غير المال، فقال عبد الرحمن وعبد الله: نفرض لك من المال في كل عام كذا، ومن الأقوات والثياب ما تحتاج إليه لكل ما ذكرت، فصالحاه على ذلك، فقبل منهما لعلمه أن معاوية لا يخالفهما، واشترط شروطا، وسلم الأمر إلى معاوية. قوله: (قالا: فإنه يعرض عليك) أي: قال عبد الرحمن وعبد الله: فإن معاوية يعرض عليك. قوله: (قال: فمن لي بهذا؟) أي: قال الحسن: فمن يكفل لي بالذي تذكر أنه؟ (قالا: نحن لك به) أي: نحن نكفل لك بالذي ذكرنا. قوله: (فما سألهما شيئا) أي: فما سأل الحسن عبد الرحمن وعبد الله شيئا من الأشياء. (إلا قالا: نحن لك به) أي: نحن نكفل لك به. قوله: (فصالحه) أي: فلما فرغت هذه المحاورات بينهما وبين الحسن صالح الحسن معاوية. قوله: (فقال الحسن) أي: الحسن البصري. قوله: (أبا بكرة)، هو نفيع بن الحارث الثقفي، والواو في قوله: (والحسن) وفي قوله: (وهو يقبل) للحال. قوله: (فئتين)، تثنية فئة، الفئة: الفرقة مأخوذة من: فأوت رأسه بالسيف، وفأيت: إذا شققته، وجمع الفئة فئات وفئون، وقال ابن الأثير، رحمه الله تعالى: الفئة الجماعة من الناس في الأصل، والطائفة التي تقيم وراء الجيش، فإن كان عليهم خوف أو هزيمة التجئوا إليهم، ومعنى: عظيمتين، قد مر في أول الباب.
وفيه: فضيلة الحسن، رضي الله تعالى عنه، دعاه ورعه إلى ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله تعالى، ولم يكن ذلك لعلة ولا لذلة ولا لقلة، وقد بايعه على الموت أربعون ألفا، فصالحه رعاية لمصلحة دينه ومصلحة الأمة، وكفى به شرفا وفضلا، فلا أسيد ممن سماه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سيدا. وفيه: وفيه أن الرسل يسمع قولهم ولا يتعرض إليه. وفيه ولاية المفضول على الفاضل لأن معاوية ولى وسعد وسعيد حيان وهما يدريان أن قتال المسلم المسلم لا يخرجه عن الإسلام إذا كان على تأويل. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)، المراد به تأكيد الوعيد عليهم، وقال المهلب: الحديث يدل على أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس، لأنه، صلى الله عليه وسلم، علق السيادة بالإصلاح بين الناس.
وقال أبو عبد الله قال لي علي بن عبد الله إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث
أبو عبد الله هو البخاري، وعلي بن عبد الله هو المعروف بابن المديني. قوله: (سماع الحسن)، أي: البصري من أبي بكرة نفيع المذكور، لأنه صرح بالسماع منه والحديث المذكور روي عن جابر أيضا، قال البزار: وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا، وحديث جابر أعرف، وذكر ابن بطال أنه روى أيضا عن المغيرة بن شعبة، وزعم الدارقطني أن الحسن رواه أيضا عن أم سلمة. قال: وهذه الرواية وهم، ورواه أبو داود عن ابن أزهر وعوف الأعرابي عن الحسن مرسلا، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه المرجع والمآل.
01
((باب هل يشير الإمام بالصلح))
أي: هذا باب يذكر فيه هل يشير الإمام لأحد الخصمين، أولهما جميعا، بالصلح، وإن اتجه الحق لأحدهما، وفيه خلاف، فلذلك لم يذكر جواب الاستفهام، فالجمهور استحبوا ذلك ومنعه المالكية، وقال ابن التين: ليس في حديثي الباب ما ترجم به، وإنما فيه ا
284

الحض على ترك بعض الحق، ورد عليه بأن أشارته صلى الله عليه وسلم بحط بعض الحق بمعنى الصلح.
5072 حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أخي عن سليمان عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمان أن أمه عمرة بنت عبد الرحمان قالت سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء وهو يقول والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين المتألى على الله لا يفعل المعروف فقال أنا يا رسول الله وله أي ذالك أحب.
مطابقته للترجمة من حيث إن في قوله: (وله أي ذلك أحب) معنى الصلح، وأخو إسماعيل هو عبد الحميد بن أبي أويس واسمه عبد الله بن أبي بكر الأصبحي المدني، وسليمان هو ابن بلال أبو أيوب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري وكنى بأبي الرجال لما كان له أولاد عشرة كلهم صاروا
رجالا كاملين، وأمه عمرة، بفتح العين المهملة: بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، ماتت سنة ست ومائة.
ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون. وفيه: ثلاثة من التابعين في نسق واحد.
والحديث أخرجه مسلم في الشركة، وقال: حدثنا غير واحد عن إسماعيل بن أبي أويس، قال عياض: إن قول الراوي: حدثنا غير واحد، أو حدثنا الثقة، أو بعض أصحابنا، ليس من المقطوع ولا من المرسل ولا من المعضل عند أهل هذا الفن، بل هو من باب الرواية عن المجهول، قال: ولعل مسلما أراد بقوله: غير واحد، البخاري وغيره، وأبو داود عد هذا النوع مرسلا وعند أبي عمر والخطيب هو منقطع.
ذكر معناه: قوله: (صوت خصوم)، الخصوم، بضم الخاء: جمع خصم، قال الجوهري: الخصم يستوي فيه الجمع والمؤنث لأنه في الأصل مصدر، ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول: خصمان وخصوم، والخصم، بفتح الخاء وكسر الصاد أيضا: الخصم، والجمع: خصماء، ويقال: الخصم، بكسر الصاد: شديد الخصومة والخصومة الاسم. قوله: (عالية أصواتهما)، ويروى (أصواتهم)، أي: أصوات الخصوم، وهو ظاهر، لأن الخصوم جمع، وأما وجه: أصواتهما، بتثنية الضمير فباعتبار الخصمين المتنازعين. وقال الكرماني: هذا على قول من قال: أقل الجمع اثنان، وقال بعضهم: وليس فيه حجة لمن يجوز صيغة الجمع بالاثنين، كما زعم بعض الشراح، قلت: إن كان مراده من بعض الشراح الكرماني: فليس كذلك، لأنه لم يزعم ذلك، بل ذكر أنه: على قول من قال أقل الجمع اثنان، ويروى: أصواتها، بإفراد الضمير للمؤنث، ووجهه أن يكون بالنظر إلى لفظ الخصوم الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، كما قلنا. قوله: (عالية)، يجوز فيه الجر والنصب، أما الجر فعلى أنه صفة، وأما النصب فعلى الحال. وقوله: (أصواتهما)، بالرفع بقوله: عالية، لأن اسم الفاعل يعمل عمل فعله. قوله: (وإذا أحدهما)، كلمة: إذا، للمفاجأة و: أحدهما، مرفوع بالابتداء. (ويستوضع) خبره، وإنما قال: أحدهما، بتثنية الضمير لما قلنا: إنه باعتبار الخصمين، ومعنى: يستوضع، يطلب أن يضع من دينه شيئا. قوله: (ويسترفقه)، أي: يطلب منه أن يرفق به في الاستيفاء والمطالبة، قوله: (في شيء)، أي من الدين وحاصله في حط شيء منه قوله (وهو يقول) أي والحال أن الآخر وهو الطالب يقول (والله لا أفعل) أي: لا أحط شيئا. قوله: (فخرج عليهما)، أي: على المتخاصمين اللذين بالباب. قوله: (أين المتألي؟)، بضم الميم وفتح التاء المثناة من فوق والهمزة وتشديد اللام المكسورة، أي: الحالف المبالغ في اليمين، مأخوذ من: الألية، بفتح الهمزة وكسر اللام وتشديد الياء آخر الحروف، وهي اليمين. قوله: (فله أي ذلك أحب)، أي: فلخصمي أي شيء من الحط أو الرفق أحب، وفي روايلاة ابن حبان: دخلت امرأة على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقالت: (إني ابتعت أنا وابني من فلان تمرا، فأحصيناه. لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا، أو نطعمه مسكينا، وجئنا نستوضعه ما نقصنا، فقال: إن شئت وضعت ما نقصوا وإن شئت من رأس المال). فوضع ما نقصوا، وقال بعضهم: هذا يشعر بأن المراد بالوضع: الحط من رأس المال، وبالرفق: الاقتصار عليه، وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح: أنه يريد بالرفق الإمهال. قلت: قد فسر الشيخ محي الدين
285

الرفق: بالرفق في المطالبة وهو الإمهال.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع عنه. وفيه: الزجر عن الحلف على ترك فعل الخير، وقال الداودي: إنما كره ذلك لكونه حلف على ترك أمر عسى أن يكون قد قدر الله وقوعه، واعترض عليه ابن التين بأنه: لو كان كذلك لكره الحلف لمن حلف: ليفعلن خيرا، وليس كذلك، بل الذي يظهر أنه كره له قطع نفسه عن فعل الخير، قال: ويشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق، ولم ينكر عليه حلفه على ترك الزيادة، وهي من فعل الخير. وأجيب: بأن في قصة الأعرابي كان في مقام الدعاء إلى الإسلام والاستمالة إلى الدخول فيه، بخلاف من تمكن في الإسلام، فيحضه على الازدياد من نوافل الخير. وفيه: سرعة فهم الصحابة لمراد الشارع وطواعيتهم لما يشير إليه وحرصهم على فعل الخير. وفيه: الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللغظ ورفع الصوت عند الحاكم. وفيه: جواز سؤال المديون الحطيطة من صاحب الدين، خلافا لمن كرهه من المالكية، واعتل بما فيه من تحمل المنة، وقال القرطبي: لعل من أطلق كراهته أنه أراد أنه خلاف الأولى. قلت: ينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة أيضا هكذا لأنه علل في جواز تيمم المسافر الذي عدم الماء، ومع رفيقه ماء، بقوله: لأن في السؤال ذلا. وقال النووي: وفيه: أنه لا بأس بالسؤال بالوضع والرفق لكن بشرط أن لا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس أو الإيذاء، ونحو ذلك إلا من ضرورة. وفيه: الشفاعة إلى أصحاب الحقوق وقبول الشفاعة في الخير. فإن قلت: هل كانت في يمين المتألي المذكور كفارة أم لا؟ قلت: قال صاحب (التوضيح): إن كانت يمينه بعد نزول الكفارة ففيها الكفارة، وقال النووي: ويستحب لمن حلف أن لا يفعل خيرا أن يحنث فيكفر عن يمينه.
6072 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال حدثني عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أنه كان له على عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي مال فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا كعب فأشار بيده كأنه يقول النصف فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفا.
.
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق. والحديث مضى في كتاب الصلاة في: باب التقاضي والملازمة في المسجد عن عبد الله بن محمد... إلى آخره. والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز، وروى ابن أبي شيبة أن الدين المذكور كان أوقيتين. وقال ابن بطال: هذا الحديث أصل لقول الناس: (خير الصلح على الشطر). قوله: (النصف)، منصوب بتقدير: ارتك النصف، أو نحوه.
11
((باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم))
أي: هذا باب في بيان فضيلة الإصلاح إلى آخره.
7072 حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم كل سلاماى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة.
مطابقته للترجمة في قوله: (يعدل بين اثنين صدقة) وفيه الإصلاح أيضا على ما لا يخفى، وعطف العدل على الإصلاح من عطف العام على الخاص، وإسحاق هو ابن منصور، وهكذا وقع في رواية أبي ذر: ووقع في جميع الروايات غير روايته غير منسوب. ومعمر، بفتح الميمين: ابن راشد، وهمام، بالتشديد: ابن منبه.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن إسحاق بن نصر، وفي موضع آخر منه عن إسحاق: وأخرجه مسلم في الزكاة عن محمد بن رافع.
قوله: (كل سلامي) بضم السين المهملة وتخفيف
286

اللام وفتح الميم مقصورا، أي: كل مفصل. وقال ابن الأعرابي: هي عظام أصابع اليد والقدم، وسلامى البعير عظام فرسنه. قال: وهي عظام صغار على طول الإصبع أو قريب منها، في كل يد ورجل أربع سلاميات أو ثلاث، وفي (الجامع): هي عظام الأصابع والأشاجع والأكارع، كأنها كعاب، والجمع: السلاميات. يقال: آخر ما يبقى في المخ في السلامي والعين، وقيل: السلاميات فصوص على القدمين، وهي من الإبل في داخل الأخفاف، ومن الخيل في الحوافر. وفي (الصحاح) واحده وجمعه سواء. وقال ابن الجوزي: وربما شدده إحداث طلبة الحديث لقلة علمهم، ومعنى هذا الحديث: أن عظام الإنسان هي من أصل وجوده، وبها حصول منافعه، إذ لا يتأتى الحركة والسكون إلا بها، فهي من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، وحق المنعم عليه أن يقابل كل نعمة منها بشكر يخصها، فيعطي صدقة كما أعطى منفعة. لكن الله، عز وجل، لطف وخفف بأن جعل العدل بين الناس وشبهه صدقة. وفي مسلم: السلامي مفاصل الإنسان، وهي ثلاثمائة وستون مفصلا، قال القرطبي: ظاهر هذا يقتضي الوجوب، ولكن خففه الله تعالى حيث جعل ما خفي من المندوبات مسقطا له. قوله: (كل يوم)، بالنصب ظرف لما قبله، وبالرفع مبتدأ، والجملة بعده خبره، والعائد يجوز حذفه. فافهم. قوله: (يعدل بين اثنين)، فاعل: يعدل، الشخص أو المكلف، وهو مبتدأ على تقدير: أن يعدل، أي: عدله، وخبره: صدقة. وهذا كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، والتقدير: أن تسمع، أي: سماعك.
21
((باب إذا أشار الإمام بالصلح فأباى حكم عليه بالحكم البين))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا أشار الإمام إلى آخره. قوله: (فأبى)، أي: الخصم امتنع من الصلح. قوله: (بالحكم البين)، أي: الظاهر، أراد الحكم عليه بما ظهر له من الحق البين.
8072 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم للزبير اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوعاى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حقه للزبير وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم قبل ذالك أشار على الزبير برأي سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله، صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم قال عروة قال الزبير والله ما أحسب هاذه الآية نزلت إلا في ذالك * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 56). الآية.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث. وهذا الإسناد بهؤلاء الرجال على نسق، قد مر غير مرة. وأبو اليمان: الحكم ابن نافع الحمصي، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، والحديث قد مضى في الشرب في ثلاثة أبواب متوالية.
قوله: (في شراج) بالشين المعجمة وبالجيم: وهو مسيل الماء. قوله: (من الحرة)، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء: أرض ذات حجارة سود. قوله: (كلاهما) تأكيد، ويروى: كلاهما، بفتح الكاف واللام. قوله: (أن كان) بفتح الهمزة وكسرها. قوله: (الجدر) بفتح الجيم وسكون الدال: أي: الجدار. قوله: (فاستوعى) أي: استوفى. قوله: (سعة له) بالنصب أي: للسعة، يعني مسامحة لهما، وتوسيعا عليهما على سبيل الصلح والمجاملة. قوله: (احفظ) أي: أغضب، ومادته: حاء مهملة وفاء وظاء معجمة، وقال الخطابي: يشبه أن يكون قوله: (فلما أحفظ...) إلى آخره، من كلام الزهري. وقد كان من عادته أن يصل بعض كلامه بالحديث إذا رواه، فلذلك قال له موسى بن عقبة: ميز بين قولك وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
287

31
((باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث، وهم الوارثة. وقال الكرماني: لفظ: بين، يقتضي طرفين: الغرماء وأصحاب الميراث. قلت: كلامه يشعر أن الصلح بين الغرماء وبين أصحاب الميراث، فقط، وليس كذلك، بل كلامه أعم من أن يكون بينهم وبينهم، ومن أين يكون بين كل من الغرماء وأصحاب الميراث. قوله: والمجازفة في ذلك، يعني عند المعاوضة، أراد أن المجازفة في الاعتياض عن الدين جائزة.
وقال ابن عباس لا بأس أن يتخارج الشريكان فيأخذ هذا دينا وهذا عينا فإن توي لأحدهما لم يرجع على صاحبه
هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة، واختلف العلماء فيه، فقال الحسن البصري: إذا اقتسم الشريكان الغرماء فأخذ هذا بعضهم وهذا بعضهم، فتوى نصيب أحدهما وخرج نصيب آخر، قال: إذا أبرأه منه فهو جائز، وقال النخعي: ليس بشيء وما توى أو خرج فهو بينهما نصفان، وهو قول مالك والشافعي والكوفيين، وقال سحنون: إذا قبض أحد الشريكين من دينه عرضا، فإن صاحبه بالخيار، إن شاء جوز له ما أخذ واتبع الغريم بنصيبه، وأن شاء رجع على شريكه بنصف ما قبض واتبعا الغريم جميعا بنصف الدين فاقتسماه بينهما نصفين، وهذا قول ابن القاسم. قوله: (فإن توي) بفتح التاء المثناة من فوق والواو: أي هلك واضمحل، وضبطه بعضهم بكسر الواو على وزن: علم، قال ابن التين: وليس هذا ببين، واللغة هو الأول.
9072 حدثني محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا عبيد الله عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال توفي أبي وعليه دين فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه فأبوا ولم يروا أن فيه وفاء فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذالك له فقال إذا جددته فوضعته في المربد آذنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم فجاء ومعه أبو بكر وعمر فجلس عليه ودعا بالبركة ثم قال ادع غرماءك فأوفهم فما تركت أحدا له على أبي دين إلا قضيته وفضل ثلاثة عشر وسقا سبعة عجوة وستة لون أو ستة عجوة وسبعة لون فوافيت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم المغرب فذكرت ذالك له فضحك فقال ائت أبا بكر وعمر فأخبرهما فقالا لقد علمنا أذ صنع رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما صنع أن سيكون ذلك. وقال هشام عن وهب عن جابر صلاة العصر ولم يذكر أبا بكر ولا ضحك وقال وترك أبي عليه ثلاثين وسقا دينا وقال ابن إسحاق عن وهب عن جابر صلاة الظهر.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن فيه صلح الوارث مع الغرماء يشعر بذلك. قوله: (فما تركت أحدا له على أبي دين إلا قضيته) لأن فيهم من لا يخلو عن الصلح في قبض دينه.
وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعبيد الله بن عمر، وقد مضى الحديث في الاستقراض في: باب إذا قاص أو جازفه في الدي. وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى، ولنتكلم هنا بعض شيء.
قوله: (إذا جددته)، بالدال المهملة والمعجمة أي: إذا قطعته. قوله: (في المربد)، بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء الموحدة وبالدال المهملة. وهو الموضع الذي يحبس فيه الإبل وغيره، وأهل المدينة يسمون الموضع الذي يجفف فيه التمر مربدا، والجرين في لغة أهل نجد. قوله: (آذنت)، أي: أعلمت، وضع المظهر موضع المضمر لتقوية الداعي وللإشعار بطلب البركة منه، أو نحوه. قوله: (وفضل)، من باب دخل يدخل، وجاء من باب حذر يحذر، ومن باب فضل بالكسر يفضل بالضم، وهو شاذ. قوله: (عجوة)، وهو ضرب من أجود تمور المدينة. قوله: (لون)، قال ابن الأثير: اللون نوع من النخل، وقيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله
288

ما خلا البرني، والعجوة يسميه أهل المدينة الألوان، واحدته لينة، وأصله: لونة، قلبت الواء ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. قوله: (إذ صنع)، أي: حين صنع. قوله: (أن سيكون)، بفتح الهمزة، لأنه مفعول لقوله: علمنا، قوله: (وقال هشام)، أي: ابن عروة، ورواية هشام هذه قد تقدمت موصولة في الاستقراض. قوله: (وقال ابن إسحاق) أي: روى محمد ابن إسحاق عن وهب بن كيسان عن جابر صلاة الظهر.
واعلم أن هذا الاختلاف، في رواية عبيد الله بن عمر: (صلاة المغرب، وفي رواية هشام، صلاة العصر)، وفي رواية ابن إسحاق: (صلاة الظهر) غير قادح في صحة أصل الحديث، لأن تعيين الصلاة بعينها لا يترتب عليه كبير معنى.
41
((باب الصلح بالدين والعين))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلح بالدين والعين، وقال ابن بطال: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمة عن دراهمه بدراهم أقل منها أنه جائز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا، وإذا صالحه بد حلول الأجل عن دراهم بدنانير أو عكسه لم يجز إلا بالقبض، لأنه صرف، فإن قبض بعضا وبقي بعضا جاز فيما قبض وانتقض فيما لم يقبض.
0172 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا يونس. وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الله بن كعب أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى كعب بن مالك فقال يا كعب فقال لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر فقال كعب قد فعلت يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فاقضه.
.
قال ابن التين: ليس فيه ما ترجم به. وأجيب: بأن فيه الصلح فيما يتعلق بالدين، وقال الكرماني. فإن قلت: ليس في الحديث ذكر العين، فكيف دل على الترجمة؟ قلت: بالقياس على الدين، وهذا الحديث قد تقدم قبل ثلاثة أبواب، وفي كتاب الصلاة كما ذكرناه، وأخرجه هنا من طريقين: الثاني معلق وهو قوله: وقال الليث،
ووصله الذهلي في الزهريات.
بسم الله الرحمان الرحيم
45
((كتاب الشروط))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الشروط، وهو جمع شرط، وهو العلامة. وفي الاصطلاح: الشرط ما يتوقف عليه وجود الشيء ولم يكن داخلا فيه. وقيل: ما يلزم من انتفائه انتفاء المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، والمراد هنا بيان ما يصح من الشروط وما لا يصح.
1
((باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة))
أي: هذا باب في بيان ما يجوز من الشروط في الإسلام، يعني الدخول فيه، وهذا كما اشترط النبي، صلى الله عليه وسلم، على جرير حين بايعه على الإسلام: (النصح لكل مسلم)، وفي لفظ: (على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)، ولا يجوز أن يشترط من يدخل في الإسلام أن لا يصلي أو لا يزكي عند القدرة. ونحو ذلك. قوله: (والأحكام)، أي: العقود والفسوخ والمعاملات. قوله: (والمبايعة)، من عطف الخاص على العام، وهذا الباب، وقبله: كتاب الشروط، رواية أبي ذر، وليس في رواية غيره لفظ: كتاب الشروط.
289

2172 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال لما كاتب سهيل بن عمر و يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه وأبى سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل ابن عمر و ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها أليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن * (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن) * (الممتحنة: 01). إلى قوله: * (ولا هم يحلون لهن) * (الممتحنة: 01). قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) * (الممتحنة: 01). إلى * (غفور رحيم) * (الممتحنة: 21). قال عروة قالت عائشة فمن أقر بهاذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاما يكلمها به والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (كان فيما اشترط سهيل بن عمرو) إلى قوله: (وجاء المؤمنات). ورجاله قد ذكروا غير مرة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطلاق، ومروان هو ابن الحكم والمسور، بكسر الميم: ابن مخرمة، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة، له ولأبيه صحبة.
قوله: (يخبران عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) هكذا قال عقيل عن الزهري، وهو مرسل عنهما لأنهما لم يحضرا القصة، فعلى هذا فالحديث من مسند من لم يسم من الصحابة، ولم يصب من أخرجه من أصحاب الأطراف في مسند المسور أو مروان، أما مروان، فإنه لا يصح له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحبة لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبي، صلى الله عليه وسلم أباه الحكم، وكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما، وقد روى حديث الحديبية بطوله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المسور فصح سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم لكنه إنما قدم مع أبيه وهو صغير بعد الفتح، وكانت هذه القصة قبل ذلك بسنتين، ولا يقال: إنه رواية عن المجهول، لأن الصحابة كلهم عدول فلا قدح فيه بسبب عدم معرفة أسمائهم. قوله: (لما كاتب سهيل بن عمرو)، قد ذكرنا ترجمته فيما مضى عن قريب، وكان أحد أشراف قريش وخطيبهم، أسر يوم بدر، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: (انزع ثنيته فلا يقوم عليك خطيبا)، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (دعه، فعسى أن يقوم مقاما تحمده). أسلم يوم الفتح وكان رقيقا كثير البكاء عند قراءة القرآن، فمات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس بمكة، وارتد كثيرون، فقام سهيل خطيبا. وسكن الناس ومنعهم من الاختلاف، وهذا هو المقام الذي أشار إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (يومئذ) أي: يوم صلح الحديبية. قوله: (فامتعضوا منه)، بعين مهملة وضاد معجمة، وقال ابن الأثير: معناه: شق عليهم وعظم، يقال: معض من شيء سمعه وامتعض إذا غضب وشق عليه، وقال القاضي: لا أصل لهذا من كلام العرب، وأحسبه: فكرهوا ذلك وامتعضوا منه أي: شق عليهم. وقال ابن قرقول: (امتعظوا)، كذا للأصيلي والهمداني، وفسروه: كرهوه، وهو غير صحيح، وفي الخط والهجاء وإنما يصح لو كان امتعضوا بضاد غير مشالة، كما عند أبي ذر هنا وعبدوس، بمعنى: (كرهوا وانفوا) وقد وقع مفسرا كذلك في بعض الروايات في (الأم) وعند القابسي أيضا في (المغازي): (امعظوا) بتشديد الميم وبالظاء المعجمة، وكذا لعبدوس، وعند بعضهم: (اتغظوا)، من الغيظ، وعند بعضهم عن النسفي، واتغضوا، بغين
290

معجمة وضاد معجمة غير مشالة، قال: وكل هذه الروايات إحالات وتغييرات، ولا وجه لشيء من ذلك إلا: امتعضوا، ومعنى: انغضوا في رواية النسفي: تفرقوا من الإنغاض، قال الله تعالى: * (فسينغضون إليك) * (الإسراء: 15). قوله: (مهاجرات) نصب على الحال من * (المؤمنات). قوله: (أم كلثوم)، بضم
الكاف وسكون اللام وضم الثاء المثلثة بنت عقبة، بضم العين المهملة وسكون القاف وفتح الباء الموحدة: ابن أبي معيط، بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره طاء مهملة: أم حميد بن عبد الرحمن. قوله: (وهي عاتق)، جملة حالية، والعاتق بالتاء المثناة من فوق: الجارية الشابة أول ما أدركت. قوله: (أن يرجعها)، بفتح الياء، ورجع يتعدى ولا يتعدى. قوله: * (إذا جاءكم المؤمنات) * وأولها قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهم مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن، ولا تمسكوا بعصم الكوفر، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم، وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون، يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) * (الممتحنة: 01 21). قوله: * (إذا جاءكم المؤمنات) * سماهن: مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة الشهادة، ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك. قوله: (مهاجرات) يعني: من دار الكفر إلى دار الإسلام. قوله: * (فامتحنوهن) * أي: فاختبروهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن. وقال ابن عباس: معنى امتحانهن أن يستحلفن ما خرجن من بغض زوج وما خرجن عن أرض إلى أرض، وما خرجن التماس دنيا، وما خرجن إلا حبا لله ورسوله. قوله: * (الله أعلم بإيمانهن) * أي: أعلم منكم لأنكم تكسبون فيه علما يطمئن معه نفوسكم إذا استحلفتموهن، وعند الله حقيقة العلم به * (فإن علمتموهن مؤمنات) * العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات. * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * ولا تردوهن مؤمنات) * العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * ولا تردوهن إلى أزواجهن المشركين * (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) * لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك. قوله: * (وآتوهم) * أي: أعطوا أزواجهن الكفار ما أنفقوا مثل ما دفعوا إليهن من المهر، سمي الظن الغالب علما في قوله: * (فإن علمتموهن مؤمنات) * إيذانا بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس بشرائطها جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 63). قوله: * (ولا جناح عليكم) * يعني: * (أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) * وإن كان لهن أزواج كفار لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن بالحيض، والمراد من الأجور: مهورهن، لأن المهر أجر البضع. قوله: * (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) * العصم: جمع العصمة، وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والكوافر جمع كافرة، ونهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، وأمرهن بفراقهن، وقال ابن عباس: يقول: لا نأخذ بعقد الكوافر، فمن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يتقيدن بها، فقد انقطعت عصمتها منه. قال الزهري: فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له بمكة مشركتين: قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة. والأخرى أم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة، رجل من قومها وهما على شركهما. قوله: * (واسألوا ما أنفقتم) * أي: اسألوا أيها المؤمنون * (الذين ذهبت أزواجهم) * فلحقن بالمشركين ما أنفقتم عليهن من الصداق من تزوجهن منهم * (وليسألوا) * يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن منكم من تزوجها منكم ما أنفقوا أي: أزواجهن المشركين من المهر. قوله: * (ذلكم) * إشارة إلى جميع ما ذكر في هذه الآية. قوله: * (حكم الله يحكم بينكم) * إشارة إلى جميع ما ذكر في هذه الآية. قوله: * (حكم الله يحكم بينكم) * كلام مستأنف، وقيل: حال من حكم الله على حذف الضمير، أي: يحكم الله بينكم * (والله عليم حكيم) *. قوله: * (وإن فاتكم شيء من أزواجكم) * أي: وإن سبقكم وانفلت منكم من أزواجكم * (إلى الكفار فعاقبتم) * يعني: فظفرتم وأصبتم من الكفار عقبى، وهي الغنيمة، وظفرتم وكانت العاقبة لكم * (فآتوا الذين ذهبت أزواجهم) * إلى الكفار منكم * (مثل ما أنفقوا عليهن) * من الغنيمة التي صارت في أيديكم من أموال الكفار. وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكيم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شداد الفهري.
291

وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة، أخت أم سلمة، كانت تحت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت. وبروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى، وزوجها عمرو بن ود. وهند بنت أبي جهل بن هشام، وكانت تحت هشام بن العاص. وكلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر بن الخطاب، فأعطاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة. قوله: * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات...) * (الممتحنة: 01). الآية، لما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفرغ من بيعة الرجال جاءت النساء يبايعنه. فنزلت هذه الآية. قوله: (يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) يعني: لا يأتين بولد ليس من أزواجهن، فينسبنه إليهم، وقيل * (بين أيديهن) * ألسنتهن * (وبين أرجلهن) * فروجهن، وقيل: هو توكيد. مثل * (ما كسبت أيديكم) * (الشورى: 03). قوله: * (ولا يعصينك في معروف) * قيل: هذا في النوح. وقيل: (لا يخلون بغير ذي محرم) وقيل: (في كل حق معروف لله تعالى). قوله: (عروة فأخبرتني عائشة رضي الله تعالى عنها)، هو متصل بالإسناد المذكور أو لا، قوله: (كلاما): هو كلام عائشة، وقع حالا. قوله: (والله ما مست يده) إلى آخره، وكانت عائشة تقول: كان صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية وما مس يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إلا يد امرأة يملكها. وعن الشعبي: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يبايع النساء وعلى يده ثوب قطري، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء، فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه.
واختلف العلماء في صلح المشركين على أن يرد إليهم من جاء منهم مسلما، فقال قوم: لا يجوز هذا، وهو منسوخ بقوله، عليه السلام: أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب، وقد أجمع المسلمون أن هجرة دار الحرب فريضة على الرجال والنساء، وذلك الذي بقي من فرض الهجرة، هذا قول الكوفيين، وقول
أصحاب مالك وقال الشافعي: هذا الحكم في الرجال غير منسوخ، وليس لأحد هذا العقد إلا للخليفة أو لرجل يأمره، فمن عقد غير الخليفة فهو مردود، وفي (التوضيح): وقول الشافعي، وهذا الحكم في الرجال غير منسوخ يدل أن مذهبه أنه في النساء منسوخ.
4172 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال سمعت جريرا رضي الله تعالى عنه يقول بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم فاشترط علي والنصح لكل مسلم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وسفيان هو الثوري، والحديث مضى في آخر كتاب الإيمان بأتم منه. قوله: والنصح لكل مسلم عطف على مقدر يعلم من الحديث الذي بعده.
5172 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
.
هذا طريق آخر في الحديث المذكور عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن إسماعيل بن أبي خالد البجلي عن قيس ابن أبي حازم، بالحاء المهملة والزاي: واسمه عبد عوف، وإسماعيل وقيس وجرير ثلاثتهم بجليون كوفيون مكنون بأبي عبد الله، قوله: (على إقام الصلاة) أصله: إقامة الصلاة، وإنما جاز حذف التاء فيها لأن المضاف إليه عوض عنها. وقد مر الكلام في الحديثين المذكورين في آخر كتاب الإيمان مستوفى.
2
((باب إذا باع نخلا قد أبرت))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا باع شخص نخلا حال كونها قد أبرت، على صيغة المجهول، من التأبير، وهو تلقيح النخل وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني بعد قوله: (أبرت ولم يشترط الثمر)، أي: والحال أيضا أن المشتري لم يشترط الثمر وجواب إذا محذوف، وهو قوله: (فالثمرة للبائع) إلا أن يشترط المشتري، ولم يذكره لدلالة ما في الحديث عليه.
292

6172 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. والحديث قد مضى في كتاب البيوع في: باب من باع نخلا قد أبرت، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: (المبتاع) أي: المشتري.
3
((باب الشروط في البيع))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في البيع.
7172 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرته أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا قالت لها عائشة إرجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك بريرة إلى أهلها فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن هذا الحديث روي بوجوه مختلفة: منها ما رواه ابن أبي ليلى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم (قال: اشترى بريرة واشترطي لهم الولاء). فهذا فيه عند البيع، وفيه شرط. وفيه وجه المطابقة، وبهذا استدل ابن أبي ليلى: أن من اشترى شيئا وأشترط شرطا فالبيع جائز والشرط باطل، وفيه مذهب أبي حنيفة: أن البيع والشرط كلاهما باطلان، ومذهب ابن شبرمة كلاهما جائزان، وقد ذكرنا هذا في كتاب البيوع في: باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، ومضى الحديث أيضا فيه، وفي كتاب العتق أيضا وغيره، والترجمة المذكورة مطلقة يحتمل جواز الاشتراط في البيوع، ويحتمل عدم جوازها، ولم يوضحه البخاري لمكان الاختلاف فيه، ولم أر أحدا من الشراح ذكر هنا شيئا حتى إن منهم من لم يذكر الباب ولا الترجمة، ومنهم من ذكر الترجمة، وقال: فيه حديث عائشة، وأحاله إلى ما سبق، وهذا مما لا يفيد الناظرين، والشارح إن لم يتبع كلام المصنف كلمة كلمة، ولم يذكر المقصود فيه، فليس بشرح.
4
((باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا اشترط البائع ظهر الدابة التي باعها يعني: اشترط ركوبها إلى مكان مسمى معين جاز هذا البيع، وإنما أطلقه مع أن فيه الخلاف، لأنه يرى بصحة هذا البيع لصحة الدليل وقوته عنده، وبه قال أيضا جماعة وهم: الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، فإنهم قالوا: (إذا باع من رجل دابة
بثمن معلوم على أن يركبها البائع. أن البيع جائز، والشرط جائز، واحتجوا في ذلك بحديث جابر، هذا وقال: فرقة: (البيع جائز والشرط باطل) وهم: ابن أبي ليلى وأحمد في رواية وأشهب من المالكية، وقال آخرون: البيع فاسد، وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي، وقد بسطنا الكلام فيه في كتاب البيوع.
8172 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زكرياء قال سمعت عامرا يقول حدثني جابر رضي الله تعالى عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم فضربه فدعا له فسار بسير ليس يسير مثله ثم قال بعنيه بوقية قلت لا ثم قال بعنيه بوقية فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت فأرسل على إثري قال ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذالك فهو مالك.
.
293

مطابقته للترجمة في قوله: (فبعته فاستثنيت حملانه إلى أهلي، فإنه بيع فيه شرط ركوب الدابة إلى مكان مسمى، وهو المدينة، وكان بينه وبين المدينة ثلاثة أيام، ومن هذا قال مالك: إن كان الاشتراط في الركوب إلى مكان قريب: كاليوم واليومين والثلاثة، فالبيع جائز، وإن كان أكثر من ذلك فلا يجوز.
وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وزكرياء هو ابن أبي زائدة الكوفي، وعامر هو الشعبي. والحديث مضى في الاستقراض وغيره، ومضى الكلام فيه هناك، ولنتكلم أيضا لزيادة الفائدة، وإن وقع مكررا.
قوله: (قد أعيى) أي: تعب. قوله: (فضربه فدعا له) كذا بالفاء فيهما، كأنه عقب الدعاء له بضربه، وفي رواية مسلم وأحمد من هذا الوجه: فضربه برجله ودعا له، وفي رواية يونس بن بكير عن زكرياء عند الإسماعيلي، فضربه ودعا له فمشى مشية ما مشى قبل ذلك مثلها وفي رواية مغيرة: فزجره ودعا له، وفي رواية عطاء وغيره عن جابر التي تقدمت في الوكالة: فمر بي النبي، صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ قلت: جابر بن عبد الله. قال: مالك؟ قلت: إني على جمل ثقال، فقال: أمعك قضيب؟ قلت: نعم. قال: أعطنيه. فأعطيته فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم. وفي رواية النسائي، من هذا الوجه: فأزحف، فزجره النبي، صلى الله عليه وسلم، فانبسط حتى كان أمام الجيش، وفي رواية وهب بن كيسان عن جابر التي تقدمت في البيوع: (فتخلف فنزل فحجنه بمحجنه)، ثم قال لي: إركب، فركبته فقد رأيته أكفه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعند أحمد، من هذا الوجه: قلت: يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا. قال: أنخه، وأناخ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أعطني هذه العصا، أو اقطع لي عصا من هذه الشجرة، فقطعت، فأخذها فنخسه بها نخسات، ثم قال: إركب، فركبت. وفي رواية الطبراني من حديث زيد ابن أسلم عن جابر: فأبطأ علي جملي حتى ذهب الناس، فجعلت أرقبه ويهمني شأنه، فإذا النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: أجابر؟ قلت: نعم. قال: ما شأنك؟ قلت: أبطأ علي جملي، فنفث فيها، أي: في العصا. ثم مج من الماء في نحره، ثم ضربه بالعصا، فانبعث فما كدت أمسكه، وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم، فكنت بعد ذلك أحبس خطامه لأسمع حديثه، وله من طريق أبي نضرة عن جابر: فنخسه ثم قال: إركب بسم الله، زاد في رواية مغيرة، فقال: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك. قوله: (فسار بسير)، سار ماض، وبسير: جار ومجرور، ومصدر ليس يسير بلفظ فعل المضارع. قوله: (بعنيه بوقية)، بفتح الواو وحذف الألف فيه، لغة، قال الجوهري: وهي أربعون درهما. قلت: كان هذا في عرفهم في ذلك الزمان، وفي عرف الناس بعد ذلك عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم اثني عشر درهما، وفي عرف أهل الشام: خمسون درهما، وفي عرف أهل حلب: ستون درهما، وفي عرف أهل عينتاب: مائة درهم، وفي عرض بعض أهل الروم: مائة وخمسون درهما، وفي مواضع أكثر من ذلك، حتى إن موضعا فيه الوقية ألف درهم. قوله: (قلت: لا) أي: لا أبيعه. قال ابن التين: قوله: لا، ليس بمحفوظ إلا أن يريد: لا أبيعكه، هو لك بغير ثمن. قلت: كأن ابن التين نزه جابرا عن قوله: لا، لسؤال النبي، صلى الله عليه وسلم، ولكنه ثبت قوله لا ولكن معناه لا أبيع بل أهبه لك والنفي يوتوجه لترك البيع لا الكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم والدليل عليه رواية وهب بن كيسان عن جابر عند أحمد: أتبيعني جملك هذا يا جابر؟ قلت: بل أهبه لك. فإن قلت: جاء في رواية أحمد: فكرهت أن أبيعه. قلت: كراهته لوقوع صورة البيع بينه وبين رسول الله، صلى الله عليه وسلم. لأن قصده كان صورة الهبة فالكراهة لا ترجع إلى سؤال الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنه لما سأله ثانيا أجاب بالبيع امتثالا لكلامه، ومع هذا أخذ الثمن، والجمل على ما دل عليه الحديث. قوله: (فاستثنيت حملانه) بضم الحاء أي: حمله، أي: اشترطت أن يكون لي حق الحمل عليه إلى المدينة، كأنه استثنى هذا الحق من حقوق البيع، وفي رواية الإسماعيلي بلفظ: واستثنيت ظهره إلى أن تقدم. قوله: (فلما قدمنا) أي: المدينة، وفي رواية مغيرة عن الشعبي المتقدمة في الاستقراض: فلما دنونا من المدينة استأذنته، فقال: تزوجت بكرا أم ثيبا. وسيأتي في النكاح، فقدمت المدينة فأخبرت خالي ببيع الجمل، فلامني، وفي رواية أحمد من رواية نبيح: أتيت عمتي بالمدينة فقلت لها: ألم تري أني بعت ناضحنا؟ فما رأيتها أعجبها. قلت: نبيح، بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: واسم خال جابر، جد، بفتح الجيم وتشديد الدال. ابن قيس، واسم عمته. هند بنت عمر. وقوله: (على إثري) بكسر الهمزة أي: ورائي. قوله: (ما كنت لآخذ
294

جملك) ووقع في رواية أبي نعيم، شيخ البخاري بلفظ: أتراني إنما ماكستك لآخذ جملك ودراهمك؟ همالك. قوله: (ماكستك) من المماكسة أي: المناقصة في الثمن، ووقع في رواي البزار، من طريق أبي المتوكل عن جابر: أن الجمل كان أحمر.
قال شعبة عن مغيرة عن عامر عن جابر أفقرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم ظهره إلى المدينة
أشار البخاري بهذا، وبما بعده إلى اختلاف ألفاظ جابر، رضي الله تعالى عنه، مغيرة هو ابن مقسم الكوفي، وعامر هو الشعبي وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق يحيى بن كثير عنه. قوله: أفقرني، بتقديم الفاء على القاف، أي: حملني على فقاره، وهو عظام الظهر.
وقال إسحاق عن جرير عن مغيرة فبعته على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة
إسحاق هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وجرير هو ابن عبد الحميد، وهو التعليق يأتي موصولا في الجهاد.
وقال عطاء وغيره لك ظهره إلى المدينة
عطاء هو ابن أبي رباح يعني: روى عطاء عن جابر وغيره أيضا بهذا اللفظ، وهذا التعليق تقدم موصولا في الوكالة.
وقال محمد بن المنكدر عن جابر شرط ظهره إلى المدينة
هذا التعليق وصله البيهقي من طريق المنكدر عن أبيه به، ووصله الطبراني من طريق عثمان بن محمد الأخنسي عن محمد بن المنكدر، بن محمد بن المنكدر بلفظ: فبعته إياه وشرطت إلى ركوبه إلى المدينة.
وقال زيد بن أسلم عن جابر ولك ظهره حتى ترجع
هذا التعليق وصله الطبراني والبيهقي من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه بتمامه.
وقال أبو الزبير عن جابر أفقرناك ظهره إلى المدينة
أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير به، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: فبعته منه بخمس أواق. قلت: على أن لي ظهره إلى المدينة. قال: ولك ظهره إلى المدينة. وللنسائي من طريق ابن عيينة عن أيوب. قال: أخذته بكذا وكذا، وقد أعرتك ظهره إلى المدينة.
وقال الأعمش عن سالم عن جابر تبلغ عليه إلى أهلك
الأعمش هو سليمان. وسالم هو ابن أبي الجعد، وهذا التعليق وصله أحمد ومسلم وعبد بن حميد من طريق الأعمش. فلفظ أحمد: قد أخذته بوقية أركبه فإذا قدمت فأتنا به، ولفظ مسلم: فتبلغ عليه إلى المدينة، ولفظ عبد بن حميد: تبلغ عليه إلى إهلك، وكذا لفظ ابن سعد والبيهقي.
قال أبو عبيد الله الاشتراط أكثر وأصح عندي
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، أشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا في قضية جابر هذه: هل وقع الشرط في العقد عند البيع أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي، صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية؟ وقال: وقوع الإشتراط فيه أكثر طرقا وأصح عندي مخرجا، وهذا وجه من وجوه الترجيح، ومن جملة من صحح الاشتراط الإمام الحافظ الطحاوي، رحمه الله، ولكنه تأول بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة، لقوله في آخره: (أتراني ماكستك...) إلى آخره، قال: إنه يشعر بأن القول المتقدم لم يكن على التبايع حقيقة. قيل: رده القرطبي، (بأنه دعوى مجردة وتغيير وتجريف)، لا تأويل، (وكيف يصنع قائله في قوله: بعته منك بأوقية بعد المساومة). وقوله: (قد أخذته)، وغير ذلك من الألفاظ المنصوصة في ذلك، انتهى. قلت: لا تسلم أنه دعوى مجردة، بل أثبت ما قاله بقوله: (أتراني ماكستك؟) وبقوله أيضا لجابر: (ترى إني إنما حبستك لأذهب ببعيرك، يا بلال! أعطه أوقية، وخذ بعيرك، فهما، لك). فهذا صريح أنه: لم يكن ثمة عقد حقيقة؟ فضلا عن أن يكون فيه شرط، وقال ابن حزم: أخبر
295

عليه الصلاة والسلام: (أنه لم يماكسه ليأخذ جمله)، فصح أن البيع لم يتم فيه، فقط، فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط، وقول القرطبي، وكيف يصنع قائله في قوله: (بعته منك)، لا يرد على الطحاوي، لأنه لا ينكر صورة البيع، وإنما ينكر حقيقة البيع لما ذكرنا، والقرطبي كيف يصنع بقوله: (ترى أني حبستك لأذهب ببعيرك؟) فإذا تأمل من له قريحة حادة، يعلم أن التغيير والتحريف منه لا من الطحاوي، وقد ذكر الإسماعيلي أيضا أن النكتة في ذكر البيع أنه، عليه الصلاة والسلام، أراد أن يبر جابر على وجه لا يحصل لغيره طمع في مثله، فبايعه في جمله على اسم البيع: ليتوفر عليه بره، ويبقى الجمل قائما على ملك فيكون ذلك أهنأ لمعروفه. وقيل: حاصله أن الشرط لم يقع في نفس العقد، وإنما وقع سابقا ولاحقا، فتبرع بمنفعته أولا، كما تبرع برقبته آخرا. فإن قلت: وقع في كلام القاضي أبي الطيب الطبري من الشافعية إن في بعض طرق هذا الخبر: (فلما نقدني الثمن شرطت حملاني إلى المدينة)، واستدل بها على أن الشرط تأخر عن العقد. قلت: هذه مجرد دعوى تحتاج إلى بيان ذلك، على أنا، وإن سلمنا ثبوت ذلك، يحتاج إلى أن يؤول على أن معنى: نقدني الثمن، أي: قرره لي، واتفقنا على تعيينه، لأن الروايات الصحيحة صريحة في أن قبضه الثمن إنما كان بالمدينة.
وقال عبيد الله وابن إسحاق عن وهب عن جابر اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم بوقية
عبيد الله هو ابن عمر العمري، وابن إسحاق هو محمد بن إسحاق، ووهب هو ابن كيسان. أما تعليق عبيد الله فوصله البخاري في البيوع، ولفظه: (قال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم، فاشتراه مني بأوقية). وأما تعليق ابن إسحاق فوصله أحمد وأبو يعلى والبزار بطوله وفي حديثهم: (قال: قد أخذته بدرهم، قلت: إذا تغبنني يا رسول الله! قال: فبدرهمين؟ قلت: لا، فلم يزل يرفع لي حتى بلغ أوقية... الحديث.
وتابعه زيد بن أسلم عن جابر
أي: تابع وهبا زيد بن أسلم عن جابر في ذكر الأوقية، ووصل البيهقي هذه المتابعة.
وقال ابن جريج عن عطاء وغيره عن جابر أخذته بأربعة دنانير وهاذا يكون وقية على حساب الدينار بعشرة دراهم
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعطاء هو ابن أبي رباح، وهذا التعليق وصله البخاري في الوكالة. قوله: (وهذا يكون...) إلى آخره، قيل: إنه من كلام البخاري، وقال صاحب (التوضيح): هذا من كلام عطاء. قلت: يحتمل هذا، وهذا، والأقرب أن يكون من كلام عطاء، وقل بعضهم: (الدينار) مبتدأ، وقوله: (بعشرة)، خبره أي: دينار ذهب بعشر دراهم فضة. قلت: هذا تصرف عجيب ليس له وجه أصلا، لأن لفظ (الدينار)، وقع مضافا إليه، وهو مجرور بالإضافة، ولا وجه لقطع لفظ حساب عن الإضافة، ولا ضرورة إليه، والمعنى أصبح ما يكون لأن معنى قوله: (وهذا يكون وقية)، يعني: أربعة دنانير، يكون وقية على حساب الدينار أي: الدينار الواحد بعشرة دراهم، ولقد تعسف في تفسير الدينار بالذهب والدراهم بالفضة، لأن الدينار لا يكون إلا من الذهب، والدراهم لا تكون إلا من الفضة، ولا خفاء في ذلك.
ولم يبين الثمن مغيرة عن الشعبي عن جابر وابن المنكدر وأبو الزبير عن جابر
أشار بهذا إلى أن هؤلاء الثلاثة: الشعبي ومحمد بن المنكدر وأبو الزبير محمد بن مسلم لم يذكروا كمية الثمن في روايتهم عن جابر. قوله: (وابن المنكدر)، بالرفع معطوف على المغيرة الذي هو مرفوع بقوله: (لم يبين) و (الثمن)، بالنصب مفعوله، أما رواية المغيرة عن الشعبي فتقدمت موصولة في الاستقراض، وستأتي مطولة في الجهاد، وليس فيها ذكر تعيين الثمن، وكذا أخرجه مسلم والنسائي وغيرهما بلا ذكر الثمن. وأما رواية ابن المنكدر فوصلها الطبراني، وليس فيها التعيين أيضا. وأما رواية أبي الزبير فوصلها النسائي ولم يعين الثمن، ولكن مسلما أخرجه من طريقه وعين فيه الثمن. ولفظه: (فبعته منه بخمس أواق على أن لي ظهره إلى المدينة).
296

وقال الأعمش عن سالم عن جابر وقية ذهب
أي: قال سليمان الأعمش في رواية عن سالم ابن أبي الجعد عن جابر وقية ذهب، وهذا التعليق وصله مسلم وأحمد وغيرهما هكذا.
وقال أبو إسحاق عن سالم عن جابر بمائتي درهم
أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وسالم مر الآن، ولم تختلف نسخ البخاري أنه قال: (بمائتي درهم)، وقال النووي في بعض الروايات للبخاري: (ثمان مائة درهم)، والظاهر أنه تصحيف.
وقال داود بن قيس عن عبيد الله بن مقسم عن جابر اشتراه بطريق تبوك أحسبه قال بأربع أواق
داود بن قيس الفراء الدباغ المديني أبو سليمان وعبيد الله بن مقسم، بكسر الميم وسكون القاف القرشي المدني، وهذه الروايات تصرح بأن قصة جابر وقعت في طريق تبوك، فوافقه على ذلك علي بن زيد بن جدعان عن أبي المتوكل عن جابر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (مر بجابر في غزوة تبوك)، فذكر الحديث، وقد أخرجه البخاري من وجه آخر عن أبي المتوكل عن جابر فقال: في بعض أسفاره، ولم يعينه، وكذا أبهمه أكثر الرواة عن جابر، ومنهم من قال: كنت في سفر، ومنهم من قال: كنت في غزوة، ولا منافاة بين هاتين الروايتين وجزم ابن إسحاق عن وهب بن كيسان في روايته أن ذلك كان في غزوة ذات الرقاع، وكذلك أخرجه الواقدي من طريق عطية بن عبد الله بن أنيس عن جابر، ويؤيد هذه رواية الطحاوي: أن ذلك وقع في رجوعهم من طريق مكة إلى المدينة، وليست طريق تبوك ملاقية لطريق مكة: بخلاف غزوة ذات الرقاع، وجزم السهيلي أيضا بما قاله ابن إسحاق قوله: (بأربع أواق)، بالتنوين، ويروى: بأربع أواقي، بالياء المشددة على الأصل فخفف بحذف أحدهما ثم أعل إعلال قاض.
وقال أبو نضرة عن جابر اشتراه بعشرين دينارا
أبو نضرة، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: واسمه المنذر بن مالك العبدي، مات سنة ثمان ومائة، وهذا التعليق وصله ابن ماجة من طريق الجريري عنه بلفظ: فما زال يزيدني دينارا دينارا حتى بلغ عشرين دينارا، وأخرجه مسلم والنسائي من طريق أبي نضرة، ولم يعين الثمن.
وقول الشعبي بوقية أكثر الإشتراط أكثر وأصح عندي قاله أبو عبد الله
هذا كلام البخاري، أي: قول عامر الشعبي: بوقية، أكثر من غيره في الروايات، ووقع في بعض النسخ: بعد هذا الاشتراط، أكثر، وأصح عندي قاله أبو عبد الله، وقد مر هذا فيما مضى عن قريب، وأبو عبد الله هو البخاري واعلم أنك رأيت في قصة جابر هذا الاختلاف في ثمن الجمل المذكور فيها: فروى أوقية وروي: (أربعة دنانير)، وروي: أوقية ذهب، وروي أربع أواق، وروي: خمس أواق، وروي: مائتا درهم، وروى: (عشرون دينارا) هذا كله في رواية البخاري، وروى أحمد والبزار من حديث أبي المتوكل عن جابر: (ثلاثة عشر دينارا)، وهذا اختلاف عظيم، والثمن في نفس الأمر واحد منها، والرواة كلهم عدول، فقال الإسماعيلي: ليس اختلافهم في قدر الثمن بضائر، لأن الغرض الذي سيق الحديث لأجله بيان كرمه صلى الله عليه وسلم وتواضعه وحنوه على أصحابه وبركة دعائه وغير ذلك، ولا يلزم من وهم بعضهم في قدر الثمن توهين لأصل الحديث.
وقال القرطبي: اختلفوا في ثمن الجمل اختلافا لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبني على أمر لم يصح نقله، ولا استقام ضبطه، مع أنه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما يحصل من مجموع الروايات أنه باعه البعير بثمن معلوم، بينهما، وزاد عند الوفاء زيادة معلومة، ولا يضر عدم العلم بتحقيق ذلك. وقال الكرماني في وجه التوفيق: وقية الذهب قد تساوي مائتي درهم المساوية لعشرين دينارا على حساب الدينار بعشرة، وأما وقية الفضة فهي أربعون درهما المساوية لأربعة دنانير، وأما أربعة أواق فلعله اعتبر اصطلاح أن كل وقية عشرة دراهم، فهي أيضا وقية بالاصطلاح الأول، والكل راجع
297

إلى وقية، ووقع الاختلاف في اعتبارها كما وكيفا. وقال عياض: قال أبو جعفر الداودي: ليس لوقية الذهب وزن معلوم وأوقية الفضة أربعون درهما. قال: وسبب اختلاف هذه الروايات أنهم رووا بالمعنى، وهو جائز، والمراد: أوقية الذهب كما وقع به العقد، وعنى: أواقي الفضة، كما حصل به إنفاذه، ويحتمل هذا كله زيادة على الأوقية، كما ثبت في الروايات أنه قال: وزادني.، وأما رواية: أربعة دنانير، فموافقة أيضا لأنه يحتمل أن يكون أوقية الذهب حينئذ وزن أربعة دنانير، ورواية عشرين دينارا محمولة على دنانير صغار كانت لهم، وأما رواية: أربع أواق شك فيه الراوي، فلا اعتبار بها، وفوائد الحديث مر ذكرها في الاستقراض.
5
((باب الشروط في المعاملة))
أي: هذا باب في بيان أحكام الشروط في المعاملة، أي: المزارعة وغيرها.
9172 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقال الأنصار تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة)، لأن فيه شرطا على ما لا يخفى، ورجال هذا الحديث قد تكرر ذكرهم، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن أبي حمزة، وأبو الزناد بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان الزيات، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز. والحديث مضى في المزارعة في: باب إذا قال: إكفني مؤونة النخل، بعين هذا الإسناد والمتن، وإنما أعاده هنا لأجل الترجمة المذكورة.
قوله: (إخواننا)، أراد بهم المهاجرين. قوله: (قال: لا) أي: قال للأنصار: لا، وأفرد نظرا إلى أنه صار علما لهم، ويروى. قالوا. قوله: (تكفونا) ويروى: (وتكفوننا)، والمؤونة تهمز ولا تهمز، وهي: التعب والشدة، والمراد به ههنا السقي والجداد، ونحو ذلك. قوله: (ونشرككم)، بفتح الراء، وهذا يسمي بعقد المساقاة. قال الكرماني: فإن قلت: أين الشرط؟ وإن كان فأي شرط هو من الأقسام الثلاثة؟ قلت: تقديره: إن تكفوننا المؤونة نقسم أو نشرككم، وهذا شرط لغوي اعتبره الشارع.
0272 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه، صلى الله عليه وسلم (ما أعطى خيبر اليهود إلا بشرط أن يعملوها ويزرعوها) وهذا هو عقد المزارعة، وموسى هو ابن إسماعيل أبو سلمة البصري المعروف بالتبوذكي، والحديث مضى في المزارعة، في: باب المزارعة مع اليهود، والله أعلم.
6
((باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في المهر عند عقدة النكاح، بضم العين، أي: عند عقد النكاح.
وقال عمر إن مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت
عمر هو ابن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وهذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم عن عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: لها شرطها، قال: رجل إذا يطلقنا. فقال عمر: إن مقاطع الحقوق عند الشروط. قوله: (مقاطع الحقوق)، المقاطع جمع مقطع، وهو موضع القطع في الأصل، وأراد بمقاطع الحقوق مواقفه التي ينتهي إليها.
298

وقال المسور سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صهرا له فأثناى عليه في مصاهرته فأحسن قال حدثني وصدقني ووعدني فوفاى لي
المسور، بكسر الميم: ابن مخرمة، وهذا التعليق مضى عن قريب في باب: (من أمر بإنجاز الوعد)، وأراد بصهره، أبا العاص ابن الربيع زوج بنته زينب، رضي الله تعالى عنها، أسر يوم بدر فمن عليه بلا فداء كرامة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان قد أبى أن يطلق بنته، إذ مشى إليه المشركون في ذلك، فشكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم مصاهرته، وأثنى عليه، ورد زينب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعد بدر بقريب حين طلبها منه، وأسلم قبل الفتح.
9 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله
أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث وهو أن أحق الشروط بالوفاء ما يستحل به الرجل فرج المرأة وهو المهر والترجمة الشروط في المهر عند عقد النكاح من تعيينه وبيان كميته وكونه حالا أو منجما كله أو بعضه وغير ذلك وأبو الخير ضد الشر واسمه مرثد بن عبد الله اليزني والحديث أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن أبي الوليد وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن أيوب وعن ابن نمير وعن ابن أبي شيبة وعن أبي موسى وأخرجه أبو داود فيه عن عيسى بن حماد عن الليث به وأخرجه الترمذي فيه عن أبي موسى محمد بن المثنى به وعن يوسف بن عيسى وأخرجه النسائي فيه عن عيسى بن حماد به وعن عبد الله بن محمد وفي الشروط عن عبيد الله بن سعيد
وأخرجه ابن ماجة في النكاح عن عمرو بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل
(ذكر معناه) قوله ' أحق الشروط ' وفي رواية الترمذي ' أن أحق الشروط ' هل المراد بقوله أحق الحقوق اللازمة أو هو من باب الأولوية قال صاحب الإكمال أحق هنا بمعنى أولى لا بمعنى الإلزام عند كافة العلماء قال وحمله بعضهم على الوجوب والمراد بالشروط التي هي أحق بالوفاء هل هو عام في الشروط كلها أو الشروط المباحة أو ما يتعلق بالنكاح من المهر والنحلة والعدة أو المراد به وجوب المهر فقط ولا شك في أن الشروط التي لا تجوز خارجة عن هذا وأنها لا يوفي بها وكذلك الشروط التي تنافي موجب العقد كاشتراط أن يطلقها أو أن لا ينفق عليها أو نحو ذلك * ثم اختلفوا هل تلزم الشروط الجائزة كلها أو ما يتعلق بالنكاح من المهر ونحوه فروى ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الشعثاء عن الشعبي قال إذا شرط لها دارها فهو بما استحل من فرجها وقال النووي قال الشافعي وأكثر العلماء هذا محمول على شروط لا تنافي مقتضى النكاح بل تكون من مقتضاه ومقاصده كاشتراط العشرة بالمعروف والإنفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف وأنه لا يقصر في شيء من حقوقها ويقسم لها كغيرها وأما شرط يخالف مقتضاه كشرط أن لا يقسم لها ولا يتسرى عليها ولا ينفق عليها ولا يسافر بها ونحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل يلغو الشرط ويصح النكاح بمهر المثل واستدل بعضهم على أنه إذا اشترط الولي لنفسه شيئا غير الصداق أنه يجب على الزوج القيام به لأنه من الشروط التي استحل به فرج المرأة فذهب عطاء وطاوس والزهري أنه للمرأة وبه قضى عمر بن عبد العزيز وهو قول الثوري وأبي عبيد وذهب علي بن الحسين ومسروق إلى أنه للولي وقال عكرمة إن كان هو الذي ينكح فهو له وخص بعضهم ذلك بالأب خاصة لتبسطه في مال الولد * وذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير إلى التفرقة بين أن يشترط ذلك قبل عصمة النكاح أو بعده فقالا أيما امرأة أنكحت على صداق أو عدة لأهلها فإن كان قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان من حباء لأهلها فهو لهم فقال مالك إن كان هذا الاشتراط في حال العقد فهو للمرأة وإن كان بعده فهو لمن وهب له واحتج لذلك بما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من رواية ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي
قال
299

' أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما أكرم عليه الرجل ابنته أو أخته ' وبقول مالك أجاب الشافعي في القديم ونص عليه في الإملاء رواه البيهقي في المعرفة ثم قال في آخر الباب وقد قال الشافعي في كتاب الصداق الصداق فاسد ولها مهر مثلها وقال شيخنا هذا ما صححه أصحاب الشافعي قال الرافعي والظاهر من الخلاف القول بالفساد ووجوب مهر المثل وقال النووي أنه المذهب وقال الترمذي العمل على حديث عقبة عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي
منهم عمر بن الخطاب قال إذا تزوج رجل امرأة وشرط لها أن لا يخرجها من مصرها فليس له أن يخرجها وهو قول بعض أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال شرط الله قبل شرطها كأنه رأى للزوج أن يخرجها وإن كانت اشترطت على زوجها أن لا يخرجها وذهب بعض أهل العلم إلى هذا وهو قول سفيان الثوري وبعض أهل الكوفة * -
7
((باب الشروط في المزارعة))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في المزارعة. والباب الذي قبل هذا الباب أعني: باب الشروط في المعاملة أعم من هذا الباب، لأن ذلك يشمل المزارعة والمساقاة، وهذا مخصوص بالمزارعة.
2272 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا ابن عيينة قال حدثنا يحيى بن سعيد قال سمعت حنظلة الزرقي قال سمعت رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه يقول كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض فربما أخرجت هذه ولم تخرج ذه فنهينا عن ذالك ولم ننه عن الورق.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه شرطا، بين ذلك رافع في حديثه الذي مضى في المزارعة في: باب ما يكره من الشروط في المزارعة، ولفظه: وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي، صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه البخاري هناك عن صدقة بن الفضل: أخبرنا ابن عيينة عن يحيى سمع حنظلة الزرقي عن رافع.. إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (حقلا)، نصب على التمييز، والحقل: الزرع والقراح وغير ذلك. قوله: (ولم ننه) على صيغة المجهول. قوله: (عن الورق)، أي: لم ينهنا النبي، صلى الله عليه وسلم عن الاكتراء بالورق، بكسر الراء، أي: بالدراهم.
8
((باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح))
أي: هذا باب في بيان ما لا يجوز فعله من الشروط في عقد النكاح.
3272 حدثنا حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لا يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يزيدن على بيع أخيه ولا يخطبن على خطبته ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتستكفيء إناءها.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ولا تسأل المرأة..) إلى آخره، ولكن بتعسف يجيء على قول من يقول: إن معنى قوله: (ولا تسأل المرأة..) إلى آخره: وهو أن تسأل الأجنبية طلاق زوجة الرجل على أن ينكحها ويصير إليها ما كان من نفقته ومعروفه: كأن فيه شرطا وهو طلاق الأولى بنكاح الثانية، ومعمر هو ابن راشد، وسعيد هو ابن المسيب، والحديث مضى في كتاب البيوع في: باب لا يبيع على بيع أخيه، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (أختها)، أي: ضرتها، وقيل: أختها في الإسلام، ويدخل في هذا الحكم الكافرة. قوله: (لتستكفيء)، من الاستكفاء، يقال: كفأت الإناء أي: كببته وقلبته، وأكفأته أي: أملته، والإناء الظرف.
300

9
((باب الشروط التي لا تحل في الحدود))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط التي لا تحل في الحدود.
5272 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ل يث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا أن رجلا من الأعراب أتاى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم الآخر وهو أفقر منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزناى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هاذا الرجم فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام اغد يا انيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قال فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم فرجمت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فافتديت منه بمائة شاة ووليدة) لأن ابن هذا كان عليه جلد مائة وتغريب عام، وعلى المرأة الرجم، فجعلوا في الحد الفداء بمائة شاة ووليدة، كأنهما وقعا شرطا لسقوط الحد عنهما، فلا يحل هذا في الحدود، وفيه تعسف لا يخفى، لأن الذي وقع فيه صلح، ولهذا ذكر الحديث المذكور في: باب إذا اصطلحوا على صلح جوز، وهنا بين الترجمة، والحديث بعد لا يخفى، ومضى الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (أنشدك الله إلا قضيت) أي: ما أطلب منك إلا قضاءك بكتاب الله. قوله: (وائذن لي) عطف على قوله: (إقض) إذ المستأذن هو الرجل الأعرابي لا خصمه.
01
((باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق))
أي: هذا باب في بيان ما يجوز شروط المكاتب إلى آخره، وكلمة: على، هنا للتعليل، والتقدير: إذا رضي بالبيع لأجل عتقه، كما في قوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * (البقرة: 581 والحج: 73). أي: لهدايته إياكم.
6272 حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبيه قال دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت يا أم المؤمنين اشتريني فإن أهلي يبيعوني فأعتقيني قالت نعم قالت إن أهلي لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي قالت لا حاجة لي فيك فسمع ذالك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه فقال ما شأن بريرة فقال اشتريها فأعتقيها وليشترطوا ما شاؤوا قالت فاشتريتها فأعتقتها واشترط أهلها ولاءها فقال النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط.
.
مطابقته للترجمة تفهم من معنى الحديث، لأن بريرة قالت لعائشة: إشتريني فأعتقيني، والحال أنها كانت مكاتبة، فكأنها شرطت عليها أن تعتقها إذا اشترتها. والحديث قد مر فيما مضى في مواضع، وهذا هو الثالث عشر منها، ومضى الكلام فيه مستوفى، وخلاد بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام، أيمن ضد الأيسر الحبشي مولى ابن أبي عمرو المخزومي القرشي المكي، وهو من أفراد البخاري، ودخول أيمن على عائشة، إما أنه كان قبل آية الحجاب، أو من وراء الحجاب. قوله: (فإن أهلي يبيعوني)، ويروى: يبيعونني على الأصل، وكذا في قوله: لا يبيعوني.
301

11
((باب الشروط في الطلاق))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في تعليق الطلاق.
وقال ابن المسيب والحسن وعطاء إن بدأ بالطلاق أو أخر فهو أحق بشرطه
ابن المسيب هو سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح. قوله: (إن بدأ بالطلاق) يعني: في التعليق. (أو أخر) أي: أواخر لفظ الطلاق بأن
قال: أنت طالق إن دخلت الدار، أو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فلا تفاوت بينهما في الحكم، وروى ابن أبي شيبة: حدثنا عباد بن العوام عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب، والحسن في الرجل يحلف بالطلاق فيبدأ به، قالا: له ثنياه، قدم الطلاق أو أخره. قوله: ثنياه أي: له ما شرطه في ذلك شرطا أو علقه على شيء، فله ما شرط منه أو استثنى منه، ومذهب شريح وإبراهيم النخعي: إذا بدأ بالطلاق قبل يمينه، وقع الطلاق، بخلاف ما إذا أخره، وقد خالفهما الجمهور في ذلك.
7272 حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال نهاى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبتاع المهاجر للأعرابي وأن تشترط المرأة طلاق أختها وأن يستام الرجل على سوم أخيه ونهى عن النجش وعن التصرية.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأن تشترط المرأة طلاق أختها)، لأن مفهومه أنه إذا اشترطت ذلك فطلق أختها، لأنه لو لم يقع لم يكن للنهي عنه معنى. قاله ابن بطال ومحمد بن عرعرة، بفتح العينين المهملتين وسكون الراء الأولى: الناجي السامي البصري، وأبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي: اسمه سليمان الأشجعي.
والحديث أخرجه مسلم في البيوع عن عبيد الله بن معاذ وعن أبي بكر بن نافع وعن ابن المثنى وعن عبد الوارث بن عبد الصمد، وأخرجه النسائي فيه عن عبد الله بن محمد بن تميم.
ذكر معناه: قوله: (عن التلقي)، أي: تلقي الركبان بشراء متاعهم قبل معرفة سعر البلد. قوله: (وأن يبتاع) أي: يشتري (المهاجر) أي: المقيم (للأعرابي) الذي يسكن البادية. وفيه بيان أن النهي في بيع الحاضر للبادي يتناول الشراء قوله: (وعن التصرية)، أي: تصرية ضرع الحيوان ليخدع المشتري بكثرة اللبن، وقد مر الكلام في الأحكام التي في هذا الحديث مفرقا في مواضعه.
تابعه معاذ وعبد الصمد عن شعبة
أي: تابع محمد بن عرعرة معاذ بن معاذ بن نصر العنبري التميمي، قاضي البصرة، وعبد الصمد بن عبد الوارث كلاهما تابعا محمد بن عرعرة في تصريحه برفع الحديث إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وإسناد النهي إليه صريحا، فرواية معاذ وصلها مسلم، ولفظه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نهى عن التلقي... الحديث، ورواية عبد الصمد وصلها مسلم أيضا بمثل حديث معاذ.
وقال غندر وعبد الرحمان نهي
غندر محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي، يعني: كلاهما روياه أيضا عن شعبة. وقالا: (نهي)، بضم النون وكسر الهاء على صيغة المجهول من الماضي المفرد، ورواية غندر وصلها مسلم عن أبي بكر بن نافع عن غندر.
وقال آدم نهينا
أي: قال آدم بن أبي إياس عن شعبة. (نهينا)، على صيغة المجهول للمتكلم مع الغير.
302

وقال النضر وحجاج بن منهال نهى
النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة، وحجاج. كلاهما أيضا رويا عن شعبة: (نهى)، بفتح النون على المعلوم من الماضي المفرد، ولم يعينا الفاعل، ورواية النضر وصلها إسحاق بن راهويه في (مسنده) عنه، ورواية حجاج وصلها البيهقي من طريق إسماعيل القاضي.
21
((باب الشروط مع الناس بالقول))
أي: هذا باب في بيان الشروط مع الناس بالقول دون الإشهاد والكتابة.
8272 حدثنا إبراهيم بن موساى قال أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبره قال أخبرني يعلاى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير قال إنا لعند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال حدثني أبي بن كعب قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم موساى رسول الله فذكر الحديث * (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) * (الكهف: 27 و 57). كانت الأولى نسيانا والوسطاى شرطا والثالثة عمدا قال * (لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا) * (الكهف: 37). لقيا غلاما فقتله فانطلقا * (فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه) * (الكهف: 77). قرأها ابن عباس أمامهم ملك.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (والوسطى شرطا)، لأن المراد به هو قوله: * (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * (الكهف 67). والتزم موسى، عليه الصلاة والسلام، بذلك ولم يقع بينه وبين الخضر، عليه الصلاة والسلام، في ذلك لا إشهاد، ولا كتابة، وإنما وقع ذلك شرطا بالقول، والترجمة الشرط مع الناس بالقول، و إبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي، وقد مر غير مرة، و هشام هو ابن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني اليماني قاضيها. و ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ويعلى على وزن: يرضى ابن مسلم بن هرمز.
قوله: (وغيرهما)، بالرفع عطفا على فاعل: أخبرني. قوله: (سمعته)، الضمير المرفوع الذي فيه هو جريج، والمنصوب يرجع إلى الغير. قوله: (إنا لعند ابن
عباس)، اللام فيه مفتوحة، لام التوكيد. قوله: (قال موسى رسول الله) مبتدأ وخبر أي: صاحب الخضر هو موسى بن عمران كليم الله ورسوله، عليه السلام، لا موسى آخر، كما زعم نوف البكالي. قوله: (كانت الأولى)، أي: المسألة الأولى، اعتذر ههنا بقوله: (لا تؤاخذني بما نسيت) قوله: (والوسطى شرطا)، أي: كانت المسؤلة الوسطى شرطا، يعني: كانت بالشرط، بالقول كما ذكرناه، وهو قوله: * (ان سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) * قوله والثالثة (عمدا) أي وكانت المسألة الثالثة عمدا أي قصدا وهو قوله * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * (الكهف: 77). قوله: * (ولا ترهقني من أمر عسرا) * (الكهف: 37). أي: لا تلحق بي عسرا. وقال الفراء: لا تعجلني، وقيل: لا تضيق علي. قوله: (لقيا غلاما...) إلى آخره، إشارة إلى ما ذكر من كل من القصص بحديث يحصل المقصود، وإن لم يكن على ترتيب القرآن أي: لقي موسى والخضر، عليهما الصلاة والسلام، غلاما يسمى حيسونا، وقيل: حيسورا، قال ابن وهب: كن اسم أبيه: ملاس، واسم أمه رحمي. قوله: (فقتله) اختلفوا في كيفية قتله، فقال سعيد بن جبير، أضجعه ثم ذبحه بالسكين، وقال الكلبي: صرعه ثم نزع رأسه من جسده، وقيل: رفصه برجله فقتله، وقيل: ضرب رأسه بالجدار فقتله، وقيل: أدخل إصبعه في سرته فاقتلعها فمات. قوله: (أن ينقض)، وقرئ: ينقاص، بصاد مهملة قوله: قرأ ابن عباس: (أمامهم ملك) أي: قدامهم.
واختلف فيه: هل هو من الأضداد؟ فزعم أبو عبيدة وقطرب والأزهري في آخرين: أنه منها. وقال الفراء وثعلب: أمام ضد وراء، وإنما يصلح أن يكون من الأضداد في الأماكن والأوقات، يقول الرجل: إذا وعد وعدا في رجب لرمضان. ثم قال: من ورائك شعبان، يجوز، وإن كان أمامه لأنه يخلفه إلى وقت وعده، وكذلك: وراءهم
303

ملك يجوز لأنه يكون أمامهم، وطلبتهم خلفه فهو من وراء طلبتهم، وكان اسم الملك جلندي، وكان كافرا، وقال محمد بن إسحاق منوه بن حلندي الأزدي. وقال شعيب: هدد بن بدد، وقال مقاتل: كان من ثقيف وهو جد الحجاج ابن يوسف الثقفي.
وقال المهلب: وفيه: النسيان عذر لا مؤاخذة فيه. وفيه: أن الرفق بالعلماء أولى من الهجوم عليهم بالسؤال عن معاني أقوالهم في كل وقت إلا عند انبساط نفوسهم، لا سيما إذا اشترط ذلك العالم على المتعلم. وفيه: جواز سؤال العالم عن معاني أقواله وأفعاله.
31
((باب الشروط في الولاء))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في الولاء.
9272 حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت جاءتني بريرة فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني فقالت إن أحبوا أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ثم قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق.
.
مطابقته للترجمة فيه من حيث اشتراط أهل بريرة الولاء لهم، وأمره، عليه الصلاة والسلام، عائشة بأن تشترط الولاء لهم مع قوله: (وإنما الولاء لمن أعتق)، وقد مضى هذا في مواضع متعددة، وهذا هو الموضع الرابع عشر الذي يذكر فيه خبر بريرة.
41
((باب إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجتك))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا اشترط رب الأرض في عقد المزارعة إذا شئت أخرجتك، وترجم لحديث هذا الباب بهذه الترجمة وقد ترجم لهذا الحديث أيضا في كتاب المزارعة، بقوله: إذا قال: (رب الأرض أقرك ما أقرك الله)، ولم يذكر أحلا معلوما، فهما على تراضيهما، وقال هناك في قصة يهود خيبر بلفظ: نقركم على ذلك ما شئنا. وفي حديث الباب: (نقركم ما أقركم الله)، والأحاديث يفسر بعضها بعضا، فعلم أن المراد بقوله: (ما أقركم الله)، ما قدر الله أنا نترككم، فإذا شئنا أخرجناكم.
0372 حدثنا أبو أحمد قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني قال أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيبا فقال إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أموالهم وقال نقركم ما أقركم الله وإن عبد الله بن عمر خرج إلي ماله هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه
304

ورجلاه وليس هناك عدو غيرهم هم عدونا وتهمتنا وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع عمر على ذلك أتاه أحد بني أبي الحقيق فقال يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا فقال عمر أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة فقال كانت هذه هزيلة من أبي القاسم قال كذبت يا عدو الله فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك
.
مطابقته للترجمة في قوله: (نقركم ما أقركم الله)، وقد قلنا: إن معناه: ما قدر الله أنا نترككم فإذا شئنا أخرجناكم، وأبو أحمد. اختلفوا فيه، فذكر البيهقي في (كتاب الدلائل) وأبو مسعود وأبو نعيم الأصفهاني: أنه المرار، بفتح الميم وتشديد الراء: ابن حمويه، بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم: الهمداني، بفتح الميم، وهو ثقة مشهور، وكذا سماه ابن السكن في روايته، وأبو ذر الهروي، وقال الحاكم: أهل بخارى يزعمون أن أبا أحمد هذا هو محمد بن يوسف البيكندي، ووقع في البخاري للأكثرين كذا: أبو أحمد، غير مسمى ولا منسوب، ولابن السكن في روايته عن الفربري: حدثنا أبو أحمد مرار بن حمويه، ووافقه أبو ذر، وليس له في البخاري غير هذا الحديث، وكذا شيخه وهو ومن فوقه مدنيون.
ذكر معناه: قوله: (لما فدع أهل خيبر عبد الله)، فدع بالفاء والدال والعين المهملتين، فعل ماض، وأهل خيبر بالرفع فاعله، وعبد الله بالنصب مفعوله. وزعم الهروي وعبد الغافر في (معجمه): أن عمر، رضي الله تعالى عنه، أرسل عبد الله ابنه إلى أهل خيبر ليقاسمهم التمر (ففدع)، الفدع: ميل في المفاصل كلها، كأن المفاصل قد زالت عن مواضعها، وأكثر ما يكون في الأرساغ. قال: وكل ظليم أفدع لأن في أصابعه اعوجاجا، قاله الأزهري في (التهذيب): وقال النضر بن شميل: الفدع في اليد أن تراه يعني: البعير يطأ على أم قرانه، فأشخص شخص خفه، ولا يكون إلا في الرسغ. وقال غيره: أن يصطك كعباه ويتباعد قدماه يمينا وشمالا. وقال ابن الأعرابي: الأفدع الذي يمشي على ظهر قدمه، وعن الأصمعي: هو الذي ارتفع أخمص رجله ارتفاعا، لو وطئ صاحبها على عصفور ما آذاه، وفي (خلق الإنسان) لثابت: إذا زاغت القدم من أصلها من الكعب وطرف الساق فذاك الفدع، رجل أفدع وامرأة فدعاء، وقد فدع فدعا. وفي (المخصص): هو عوج في المفاصل، أو داء، وأكثر ما يكون في الرسغ فلا يستطاع بسطه، وعن ابن السكيت: الفدعة موضع الفدع، وقال ابن قرقول: في بعض تعاليق البخاري: فدع يعني: كسر، والمعروف ما قاله أهل اللغة. وقال الكرماني: فدع بالفاء والمهملة المشددة ثم المعجمة المفتوحات من: الفدغ، وهو كسر الشيء المجوف. وقال بعضهم: ووقع في رواية ابن السكن، بالغين المعجمة أي: شدخ، وجزم به الكرماني، وهو وهم قلت: ليس الكرماني بأول قائل به حتى ينسب الوهم إليه، مع أنه جنح في أثناء كلامه إلى أنه بالعين المهملة. قوله: (كان عامل يهود خيبر على أموالهم)، يعني: التي كانت لهم قبل أن يفيئها الله على المسلمين. قوله: (نقركم ما أقركم الله)، أي: إذا أمرنا في حقكم بغير ذلك فعلناه، قاله ابن الجوزي، قوله: (فعدي عليه من الليل)، بضم العين وكسر الدال، أي: أظلم عليه، وقال الخطابي: كان اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه، قيل: يحتمل أن يكونوا ضربوه، ويؤيده تقييده بالليل، ووقع في رواية حماد بن سلمة التي علق البخاري إسنادها آخر الباب، بلفظ: فلما كان زمان عمر، رضي الله تعالى عنه، غشوا المسلمين وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه.. الحديث، قوله: (وتهمتنا) بضم التاء المثناة من فوق وفتح الهاء وقد تسكن، أي: الذين نتهمهم بذلك، وأصله: وهمتنا، قلبت الواو تاء كما في: التكلان، أصله: وكلان. قوله: (وقد رأيت إجلاءهم)، أي: إخراجهم من أوطانهم، يقال: جلا القوم عن مواضعهم جلاء، وأجليتهم أنا إجلاء، وجلوتهم. قاله ابن فارس، وقال الهروي: جلا وأجلى بمعنى، والإجلاء: الإخراج من الوطن على وجه الإزعاج والكراهة. قوله: (فلما أجمع عمر على ذلك) أي: عزم، يقال: أجمع على الأمر إجماعا إذا عزم. قاله ابن عرفة. وابن فارس، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي: جعله جميعا بعدما كان متفرقا. قوله: (أحد بني الحقيق) بضم
305

الحاء المهملة وبقافين بينهما ياء آخر الحروف ساكنة، وبنو الحقيق، رؤساء اليهود. قوله: (أتخرجنا؟) من الإخراج، والهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، والواو في: (وقد أقرنا) للحال. قوله: (وقد عاملنا) بفتح اللام. قوله: (وشرط ذلك) أي: إقرارنا في أوطاننا. قوله: (أظننت؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، والخطاب فيه لأحد بني حقيق. قوله: (إذا أخرجت)، على صيغة المجهول. قوله: (تعدو بك قلوصك) أي: تجري بك قلوصك، والقلوض بفتح القاف وبالصاد: الناقة الصابرة على السير، وقيل: الشابة، وقيل: أول ما يركب من إناث الإبل. وقيل: الطويل القوائم. قوله: (كانت هذه)، هذا هكذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: كان ذلك. قوله: (هزيلة)، بضم الهاء تصغير: هزلة، والهزل ضد الجد. قوله: (وأعطاهم قيمة ما كان لهم)، أي: بعد أن أجلاهم وأعطاهم. قوله: (مالا تمييز للقيمة)، فإن قلت: الإبل، والعروض أيضا: مال قلت: قد يراد بالمال النقد خاصة، والمزروعات خاصة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، أجلى يهود خيبر عنها، لقوله، صلى الله عليه وسلم: (لا يبقين دينان بأرض العرب)، وإنما كان صلى الله عليه وسلم أقرهم على أن سالمهم في أنفسهم، ولا حق لهم في الأرض، واستأجرهم على المساقاة ولهم شطر الثمر، فلذلك أعطاهم عمر، رضي الله تعالى عنه، قيمة شطر الثمر من إبل وأقتاب، وحبال يستقلون بها، إذا لم يكن لهم في رقبة الأرض شيء. وفيه: دلالة أن العداوة توجب المطالبة بالجنايات، كما طالبهم عمر بفدعهم ابنه، ورشح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، وإنما ترك مطالبتهم بالقصاص، لأنه فدع ليلا وهو نائم، فلم يعرف عبد الله أشخاص من فدعه، فأشكل الأمر كما أشكلت قضية عبد الله بن سهل حين وداه النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه. وفيه: من استدل أن المزارع إذا كرهه رب الأرض لجناية بدت منه أن له أن يخرجه بعد أن يبتديء في العمل، ويعطيه فيما عمله ونصيبه، كما فعل عمر، رضي الله تعالى عنه، وقال آخرون: ليس له إخراجه إلا عند رأس العام، وتمام الحصاد والجداد. وفيه: جواز العقد مشاهرة ومسانهة ومياومة، خلافا للشافعي، واختلف أصحاب مالك: هل يلزمه واحد مما سمى أولا يلزمه شيء، ويكون كل واحد منهما بالخيار، كذا في (المدونة)، والأول قول عبد الملك. وفيه: أن أفعال النبي، صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة على وجهها من غير عدول، حتى يقوم دليل المجاز والتعريض.
رواه حماد بن سلمة عن عبيد الله أحسبه عن نافع عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم اختصره
أي: روى الحديث المذكور حماد بن سلمة عن عبيد الله بن عمر بن حفص العمري. قوله: (أحسبه)، كلام حماد، أراد أنه: يشكه في وصله، وذكره الحميدي بلفظ: قال حماد: (وأحسبه)، عن نافع عن ابن عمر، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجاهم إلى قصورهم، وعليهم على الأرض). الحديث ورواه الوليد بن صالح عن حماد بغير شك. قوله: (اختصره) أي: اختصر حماد الحديث المذكور، وقال الإسماعيلي: إن حمادا كان يطوله تارة، ويرويه تارة مختصرا.
306