الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: ٤
الوفاة: ٨٥٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

7
((كتاب التيمم))
الكلام فيه على وجوه. الأول: أن قبله (بسم ا الرحمن الرحيم) في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر بعده. وتقديم البسملة على الكتاب ظاهر للحديث الوارد فيه، وأما تأخيرها عن الكتاب فوجهه أن الكتب التي فيها التراجم مثل السور، حتى يقال سورة كذا وسورة كذا، والبسملة تذكر بعدها على رأس الأحاديث، كما تذكر على رؤوس الآيات ويستفتتح بها.
الثاني: وجه المناسبة بين هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أن المذكور قبله أحكام الوضوء بالماء، والمذكور ههنا التيمم، وهو خلف عن الماء، فيذكر الأصل أولا ثم يذكر الخلف عقيبه.
الثالث: في إعرابه: وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب التيمم، والإضافة فيه بمعنى: في، أي: هذا كتاب في بيان أحكام التيمم، ويجوز نصب الكتاب بعامل مقدر تقديره. خذ، أو: هاك كتاب التيمم.
الرابع: في معنى التيمم: وهو مصدر تيمم تيمما من باب التفعل، وأصله من الأم وهو: القصد. يقول أمه يؤمه أما إذا قصده. وذكر أبو محمد في الكتاب (الواعي): يقال: أم وتأمم ويمم وتيمم بمعنى واحد، والتيمم أصله من ذلك، لأنه يقصد التراب فيتمسح به. وفي (الجامع) عن الخليل: التيمم يجري مجرى التوخي تقول: تيمم أطيب ما عندك فأطعمنا منه، أي: توخاه. وأجاز أن يكون التيمم العمد والقصد. وهذا الاسم كثر حتى صار اسما للتمسح بالتراب. قال الفراء: ولم أسمع: يممت بالتخفيف، وفي (التهذيب) لأبي منصور: التيمم التعمد، وهو ما ذكره البخاري في التفسير في سورة المائدة، ورواه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سفيان. قلت: التيمم في اللغة: مطلق القصد، قال الشاعر:
* ولا أدري إذا يممت أرضا
* أريد الخير أيهما يليني؟
*
وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر واستعماله بصفة مخصوصة، وهو مسح اليدين والوجه لاستباحة الصلاة وامتثال الأمر.
الخامس: الأصل فيه الكتاب، وهو قوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) والسنة وهي أحاديث الباب وغيره، والإجماع على جوازه للمحدث وفي الجنابة أيضا، وخالف فيه عمر بن الخطاب وابن مسعود والنخعي والأسود كما نقله ابن حزم، وقد ذكروا رجوعهم عن هذا.
السادس: أن التيمم فضيلة خصت بها هذه الأمة دون غيرها من الأمم.
وقول الله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) * (المائدة: 6).
وقع في رواية الأصيلي: قول ا، بلا: واو، فوجهه أن يكون مبتدأ وخبره هو قوله: * (فلم تجدوا) * (النساء: 36، المائدة: 6)، والمعنى: قول في شأن التيمم هذه الآية، وفي رواية غيره؟ بواو العطف على كتاب التيمم، والتقدير: وفي بيان قول الله تعالى * (فلم تجدوا) *. وقال بعضهم: الواو استئنافية، وهو غير صحيح لأن الاستئناف جواب عن سؤال مقدر وليس لهذا محل ههنا، فإن قال: هذا القائل: مرادي الاستئناف اللغوي. قلت: هذا أيضا غير صحيح، لأن الاستئناف في اللغة الإعادة ولا محل لهذا المعنى ههنا. فافهم. قوله: (فلم تجدوا ماء) القرآن هكذا في سورة النساء والمائدة، ورواية الأكثرين على هذا وهو الصواب، وفي رواية النسفي وعبدوس والحموي والمستملي: (فإن لم تجدوا)، ووقع التصريح به في رواية حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه عن عائشة، رضي الله تعالى
2

عنها، في قصتها المذكورة. قال: فأنزل ا آية التيمم: فإن لم * (تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) الحديث، والظاهر أن هذا وهم من حماد أو غيره، أو قراءة شاذة لحماد. قوله: (صعيدا طيبا) أي أرضا طاهرة. قال الأصمعي: الصعيد وجه الأرض، فعيل بمعنى مفعول، أي: مصعود عليه. وحكاه ابن الأعرابي، وكذلك قاله الخليل وثعلب. وفي (الجمهرة): وهو التراب الذي لا يخالطه رمل ولا سبخ، هذا قول أبي عبيدة. وقيل: وهو الظاهر من وجه الأرض. وقال الزجاج في (المعاني): الصعيد وجه الأرض ولا تبالي أكان في الموضع تراب أم لم يكن، لأن الصعيد ليس اسما للتراب، إنما هو وجه الأرض ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه. قال تعالى: * (فتصبح صعيدا زلقا) * (الكهف: 04) فأعلمك أن الصعيد يكون زلقا. وعن قتادة أن الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر، ومعنى: طيبا طاهرا. وقال أبو إسحاق: الطيب النظيف. وقيل: الحلال. وقيل: الطيب ما تستطيبه النفس، وأكثر العلماء أن معناه: طاهرا قوله: (وأيديكم) إلى هنا في رواية أبي ذر بدون لفظة: منه. وفي رواية كريمة: منه، وهي تعين آية المائدة دون آية النساء، لأن آية النساء ليس فيها: منه، ولفظة: منه، في آية المائدة.
4331 ح دثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة زوج النبي قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول اللهصلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه علي فخذي قد نام فقال حبست رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي فلا
يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله على فخذي فقام رسول الله حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن الحضير ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه فأصبنا العقد تحته. (الحديث 433 أطرافه في: 633، 2763، 3773، 3854، 7064، 8064، 4615، 0525، 2885، 4486، 5486).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه أشار أولا إلى مشروعية التيمم بالكتاب، وهو الآية المذكورة، ثم بهذا الحديث المذكور.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا غير مرة، وعبد الرحمن بن القاسم هو بن محمد بن أبي بكر الصديق.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار وكذلك. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول، وفيه: أن رواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن عبد ا بن يوسف، وفي فضل أبي بكر، رضي ا عنه، عن قتيبة، وفي التفسير، وفي المحاربين عن إسماعيل بن أبي أويس. وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه النسائي فيه، وفي التفسير عن قتيبة، أربعتهم عن مالك به.
ذكر لغاته: قوله: (بالبيداء) قال أبو عبيد البكري: البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم قال: هو السرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة. وقال الكرماني: البيداء، بفتح الموحدة وبالمد، وذات الجيش، بفتح الجيم وسكون التحتانية وبإعجام السين: موضعان بين المدينة ومكة. وكلمة: أو، للشك من عائشة، رضي ا تعالى عنها. قوله: (عقد لي)، بكسر العين وسكون القاف: وهو القلادة، وهو كل ما يعقد ويعلق في العنق. وذكر السفاقسي أن ثمنه كان يسيرا. وقيل: كان ثمنه اثنا عشر درهما. قوله: (يطعنني)
3

، بضم العين، وكذلك جميع ما هو حسي. وأما المعنوي فيقال: يطعن بالفتح هذا هو المشهور فيهما. وحكي الفتح فيهما معا، كذا في (المطالع) وحكى صاحب (الجامع) الضم فيهما. قوله: (في خاصرتي)، وهي الشاكلة. قوله: (بركتكم)، البركة: كثرة الخير. قوله: (يا آل أبي بكر) لفظ: آل، مقحمة وأراد به: أبا بكر نفسه ويجوز أن يراد به أبا بكر وأهله وأتباعه، والآل: يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل. ولا يرد * (أدخلوا آل فرعون) * (غافر: 64) لأنه بحسب تصوره ذكر ذلك أو بطرق التهكم، ويجوز فيه: يال أبي بكر، بحذف الهمزة للتخفيف.
ذكر معانيه: قوله: (في بعض أسفاره) قال ابن عبد البر في (التمهيد) يقال: إنه كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في كتاب (الاستذكار)، وورد ذلك عن ابن سعد وابن حبان قبله، وغزوة بني المصطلق هي: غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الإفك. قال أبو عبيد البكري في حديث الإفك: (فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاؤه). وقال ابن سعد: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان سنة خمس)، ورجحه أبو عبد ا في (الإكليل) وقال البخاري: عن ابن إسحاق سنة ست، وقال عن موسى بن عقبة سنة أربع، وزعم ابن الجوزي أن ابن حبيب قال: سقط عقدها في السنة الرابعة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق قصة الإفك. قلت: يعارض هذا ما رواه الطبراني أن الإفك قبل التيمم، فقال: حدثنا القاسم عن حماد. حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا سلمة بن الفضل وإبراهيم بن المختار عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن عبد ا بن الزبير عن أبيه عن عائشة، قالت: (لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى حبس الناس على التماسه، وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر ما شاء ا، وقال: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء؟ ليس مع الناس ماء فأنزل ا الرخصة في التيمم. فقال أبو بكر: إنك ما عملت لمباركة).
قلت: إسناده جيد حسن، وادعى بعضهم تعدد السفر برواية الطبراني هذه، ثم إن بعض المتأخرين استبعد سقوط العقد في المريسيع. قال: لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر، لقولها في الحديث: (حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش)، وهما بين المدينة وخيبر، كما جزم به النووي، ويرد هذا ما ذكرناه عن أبي عبيد في فصل اللعان، وجزم أيضا ابن التين أن البيداء هي ذو الحليفة، وقال أبو عبيد أيضا: إن ذات الجيش من المدينة على بريد، قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر. ويؤيد هذا أيضا ما رواه الحميدي في (مسنده) عن سفيان: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث، فقال: فيه أن القلادة سقطت ليلة الأبواء. انتهى. والأبواء بين مكة والمدينة، وفي رواية علي بن مسهر في هذا الحديث، عن هشام قال: وكان ذلك المكان يقول له: الصلصل: رواه جعفر الفريابي في كتاب الطهارة له، وابن عبد البر من طريقه، والصلصل. بصادين مهملتين ولامين أولاهما ساكنة. قال البكري: هو جبل عند ذي الحليفة. وذكره في حرف الصاد المهملة، ووهم فيه صاحب (التلويح) مغلطاي، فزعم أنه بالضاد المعجمة، وتبعه على ذلك صاحب (التوضيح) ابن الملقن، وقال صاحب (العباب): الصلصل موضع على طريق المدينة، وصلصل ماء قريب من اليمامة لبني العجلان، وصلصل ماء في جوف هضبة جراء، ودارة صلصل لبني عمرو بن كلاب، وهي بأعلى دارها، ذكر ذلك كله في الصاد المهملة. وقال في (المعجمة): الضلضلة موضع.
قوله: (على التماسه) أي: لأجل طلبه. قوله: (وليس معهم ماء)، كذا في رواية الأكثرين في الموضعين، وسقطت الجملة الثانية في الموضع الأول في رواية أبي ذر. قوله: (ما صنعت عائشة) أي: من إقامة رسول ا، والناس اسندوا الفعل إليها لأنه كان بسببها. قولها: (فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء ا أن يقول). وفي رواية عمرو بن الحارث: (فقال: حبست الناس في قلادة) أي: لأجلها. فإن قلت: لم تقل عائشة: أبي، بل سمته باسمه. قلت: مقام الأبوة لما كان يقتضي الحنو والشفقة، وعاتبها أبو بكر صار مغايرا لذلك، فلذلك أنزلته بمنزلة الأجنبي، فلم تقل: أبي. قوله: (فقام رسول الله حين أصبح) وفي رواية: (فنام حتى أصبح)،
والمعنى فيهما متقارب، لأن كلا منهما يدل على أن قيامه من نومه كان عند الصبح. ويقال: ليس المراد بقوله (حتى أصبح) بيان غاية النوم إلى الصباح، بل بيان غاية فقد الماء إلى الصباح، لأنه قيد قوله: (حين أصبح) بقوله (على غير ماء) أي: آل أمره إلى الصبح على غير ماء (قلت) قوله: على غير ماء متعلق بقام وأصبح على طريقة بقوله تنازع العاملين. وأصبح، بمعنى: دخل في الصباح، وهي تامة فلا تحتاج إلى خبر. قوله: (فأنزل ا آية التيمم) قال ابن
4

العربي: هذه معضلة ما وجدت لدائها من دواء، لأنا لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة، رضي ا تعالى عنها. وقال ابن بطال: هي أية النساء وآية المائدة، وقال القرطبي: هي آية النساء. لأن آية المائدة تسمى: آية الوضوء، وليس في آية النساء ذكر الوضوء، وأورد الواحدي في (أسباب النزول) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضا. وقال السفاقسي، كلاما طويلا ملخصه: أن الوضوء كان لازما لهم، وآية التيمم، أما المائدة أو النساء، وهما مدنيتان، ولم يكن صلاة قبل إلا بوضوء، فلما نزلت آية التيمم لم يذكر الوضوء لكونه متقدما متلوا، لأن حكم التيمم هو الطارىء على الوضوء.
وقيل: يحتمل أن يكون نزل أولا أول الآية، وهو فرض الوضوء، ثم نزلت عند هذه الواقعة آية التيمم وهو تمام الآية وهو: * (وإن كنتم مرضى) * (النساء: 34، والمائدة: 6) ويحتمل أن يكون الوضوء كان بالسنة لا بالقرآن، ثم أنزلا معا، فعبرته عائشة بالتيمم إذ كان هو المقصود. قلت: لو وقف هؤلاء على ما ذكره أبو بكر الحميدي في جمعه في حديث عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، رضي ا تعالى عنها، فذكر الحديث، وفيه فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) * (المائدة: 6) الآية إلى قوله: * (لعلكم تشكرون) * (المائدة: 6) لما احتاجوا إلى هذا التخرص، وكأن البخاري أشار إلى هذا إذ تلا بقية هذه الآية الكريمة. قوله: (فتيمموا) صيغة الماضي، أي: فتيمم الناس بعد نزول الآية وهي. قوله: (فلم تجدوا ماء) والظاهر أنه صيغة الأمر على ما هو لفظ القرآن ذكره بيانا أو بدلا عن آية التيمم، أي: أنزل ا تعالى: * (فتيمموا) * (المائدة: 6 النساء: 36).
قوله: (فقال أسيد بن الحضير)، بضم الهمزة: مصغر أسد، والحضير، بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء. قال الكرماني: وفي بعضها بالنون، قال: وفي بعضها: الحضير، بالألف واللام. وهو نحو: الحارث، من الأعلام التي تدخلها لام التعريف جوازا. قلت: إنما يدخلونها للمح الوصفية، وأسيد بن حضير بن شمال الأوسي الأنصاري الأشهلي، أبو يحيى، أحد النقباء ليلة العقبة الثانية، مات بالمدينة سنة عشرين، وحمل عمر، رضي ا عنه، جنازته من حملها وصلى عليه ودفن بالبقيع. فإن قلت: في رواية عبد ا بن نمير عن هشام: (فبعث رجلا فوجدها)، وفي رواية مالك: (فبعثنا البعير فأصبنا العقد)، وبينهما تضاد. قلت: قال المهلب: ليس بينهما تناقض، لأنه يحتمل أن يكون المبعوث هو أسيد بن حضير فوجدها بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبي وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين إليها، فلا يكون بينهما تعارض. انتهى. قلت: هما واقعتان كما أشرنا إليه في الرواية الأولى: (عقد)، وفي الأخرى: (قلادة)، فلا تعارض حينئذ، ويحتمل أن يكون قوله: بعث رجلا، يعني أميرا على جماعة كعادته، فعبر بعض الرواة: بأناس، يعني أسيدا وأصحابه. وبعضهم: برجلا، يعني المشار إليه، أو يكون قولها، فوجده، تعني بذلك النبي، لا الرجل المبعوث.
فإن قلت: ما معنى قول أسيد ما قاله دون غيره؟ قلت: لأنه كان رأس المبعوثين في طلب العقد الذي ضاع. قوله: (ما هي بأول بركتكم) أي: ليس هذه البركة أول بركتكم، بل هي مسبوقة بغيرها من البركات، والقرينة الحالية والمقالية تدلان على أن قوله: (هي)، يرجع إلى البركة وإن لم يمض ذكرها، وفي رواية عمرو بن الحارث: (لقد بارك ا للناس فيكم)، وفي تفسير إسحاق البستي من طريق ابن أبي مليكة عنها: (أن النبي، قال لها: ما كان أعظم بركة قلادتك). وفي رواية هشام بن عروة الآتية في الباب الذي يليه: (فوا ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل ا للمسلمين خيرا). وفي النكاح من هذا الوجه: (إلا جعل ا لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة)، وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوي قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأنصاري، فقال: (سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق)، وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أول، فقال الداودي: كانت قصة التيمم في غزوة الفتح، ثم تردد في ذلك، وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، رضي ا عنه، قال: (لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع). الحديث، فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق. لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف، وسيأتي في المغازي، إن شاء ا تعالى، أن البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى الأشعري، رضي ا تعالى عنه، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق عباد بن عبد ا بن الزبير عن عائشة، رضي ا تعالى عنها. وتقدم ذكره عن قريب.
قوله: (فبعثنا البعير) أي: أثرنا البعير الذي كنت عليه حالة
5

السير. قوله: (فأصبنا) أي: وجدنا، وهذا يدل على أن الذين توجهوا في طلبه أولا لم يجدوه. فإن قلت: وفي رواية عروة في الباب الذي يليه: (فبعث رسول ا، رجلا فوجدها). أي: القلادة. وللبخاري في فضل عائشة من هذا الوجه، وكذا لمسلم: (فبعث ناسا من الصحابة في طلبها)، وفي رواية أبي داود (فبعث أسيد بن حضير وناسا معه). قلت: الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، كما ذكرنا، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره، وكذا أسند الفعل إلى واحد منهم. وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وآثاروا البعير وجده أسيد بن حضير، فعلى هذا فقوله في رواية عروة الآتية: فوجدها أي: بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره، وقال النووي: يحتمل أن يكون فاعل: وجدها، هو النبي، وقد بالغ الداودي في توهيم رواية عروة، ونقل عن إسماعيل القاضي أنه حمل الوهم فيها على عبد ا بن نمير، وقد بان بذلك أن لا تخالف بين الروايتين ولا وهم. فإن قلت: في رواية عمرو بن الحارث: (سقطت قلادة لي)، وفي رواية عروة الآتية عنها: أنها استعارت قلادة من أسماء يعني أختها فهلكت، أي: ضاعت، فكيف التوفيق ههنا؟ قلت: إضافة القلادة إلى
عائشة لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها لتصريح عائشة بذلك في رواية عروة المذكورة.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام الأول: أن بعضهم استدل منه على جواز الإقامة في المكان الذي لا ماء فيه، وسلوك الطريق الذي لا ماء فيها، وفيه نظر، لأن المدينة كانت قريبة منهم وهم على قصد دخولها، ويحتمل أن النبي لم يعلم بعدم الماء مع الركب، وإن كان قد علم بأن المكان لا ماء فيه، ويحتمل أن يكون معنى قوله: (ليس معهم ماء) أي: للوضوء، وأما ما يحتاجون إليه للشرب فيحتمل أن يكون كان معهم.
الثاني: فيه شكوى المرأة إلى أبيها، وإن كان لها زوج، وإنما شكوا إلى أبي بكر، رضي ا تعالى عنه، لكون النبي كان نائما، وكانوا لا يوقظونه، كذا قالوا. قلت: يجوز أن تكون شكواهم إلى أبي بكر دون النبي خوفا على خاطر النبي من تغيره عليها.
الثالث: فيه نسبة الفعل إلى من كان سببا فيه لقولهم: ألا ترى إلى ما صنعت؟ يعني: عائشة.
الرابع: فيه جواز دخول الرجل على ابنته، وإن كان زوجها عندها إذا علم رضاه بذلك ولم يكن حالة المباشرة.
الخامس: فيه تأديب الرجل ابنته ولو كانت متزوجة كبيرة خارجة عن بيته، ويلتحق بذلك تأديب من له تأديبه وإن لم يأذن له الإمام.
السادس: فيه استحباب الصبر لمن ناله ما يوجب الحركة إذ يحصل به التشويش لنائم، وكذا المصلي أو قارىء أو مشتغل بعلم أو ذكر.
السابع: فيه الاستدلال على الرخصة في ترك التهجد في السفر إن ثبت أن التهجد كان واجبا عليه.
الثامن: فيه أن طلب الماء لا يجب إلا بعد دخول الوقت، لقوله في رواية عمرو بن الحارث، بعد قوله: (وحضرت الصلاة فالتمس الماء).
التاسع: فيه دليل على أن الوضوء كان واجبا عليه قبل نزول آية الوضوء، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع، وقال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند. فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك، ما الحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به. قلت: ليكون فرضه متلوا بالتنزيل، ويحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديما فعملوا به، ثم نزلت بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة، فإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكل على البعض، لكن رواية عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم في هذا الحديث، فنزلت: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) * إلى قوله: * (تشكرون) * (المائدة: 6) تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، ويقال: كان الوضوء بالسنة لا بالقرآن أولا. ثم أنزلا معا، فعبرت عائشة بالتيمم إذ كان هو المقصود. فإن قلت: ذكر الحافظ في كتاب (البرهان) أن الأسلع الأعرجي الذي كان يرحل للنبي صلى الله عليه وسلم، قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوما: إني جنب وليس عندي ماء، فأنزل ا آية التيمم. قلت: هذا ضعيف، ولئن صح فجوابه يحتمل أن يكون قضية الأسلع واقعة في قضية سقوط العقد، لأنه كان يخدم النبي، وكان صاحب راحلته، فاتفق له هذا الأمر عند وقوع قضية سقوط العقد.
العاشر: فيه دليل على وجوب النية في التيمم، لأن معنى: (تيمموا) اقصدوا، وهو قول فقهاء الأمصار إلا الأوزاعي وزفر.
الحادي عشر: فيه دليل على أنه يستوي فيه الصحيح والمريض والمحدث والجنب، ولم يختلف فيه علماء الأمصار بالحجاز والعراق والشام والمشرق والمغرب، وقد كان عمر بن
6

الخطاب وابن مسعود رضي ا تعالى عنهما، يقولان: الجنب لا يطهره إلا الماء، لقوله عز وجل: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6) وقوله: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) * (النساء: 34) وذهبا إلى أن الجنب لم يدخل في المعنى المراد بقوله: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) ولم يتعلق بقولهما أحد من الفقهاء للأحاديث الثابتة الواردة في تيمم الجنب.
الثاني عشر: فيه دليل على جواز التيمم في السفر، وهذا أمر مجمع عليه، واختلفوا في الحضر، فذهب مالك وأصحابه إلى أن التيمم في الحضر والسفر سواء إذا عدم الماء أو تعذر استعماله لمرض أو خوف شديد أو خوف خروج الوقت، قال أبو عمر: هذا كله قول أبي حنيفة ومحمد؛ وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف، وبه قال الطبري؛ وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف خروج الوقت. وقال الشافعي أيضا. والليث والطبري: إذا عدم الماء في الحضر مع خوف فوت الوقت الصحيح والسقيم يتيمم ويصلي ويعيد. وقال عطاء بن أبي رباح: لا يتيمم المريض إذا وجد الماء ولا غير المريض. قلت: قوله: وهذا كله قول أبي حنيفة، غير صحيح، فإن عنده: لا يجوز التيمم لأجل خوف فوت الوقت.
الثالث عشر: فيه جواز السفر بالنساء في الغزوات وغيرها عند الأمن عليهن، فإذا كان لواحد نساء فله أن يسافر مع أيتهن شاء، ويستحب أن يقرع بينهن، فمن خرجت قرعتها أخرجها معه؛ وعند مالك والشافعي وأحمد: القرعة واجبة.
الرابع عشر: فيه دليل على حرمة الأموال الحلال ولا يضيعها، وإن قلت: ألا ترى أن العقد كان ثمنه اثني عشر دهما؟ كما ذكرناه.
الخامس عشر: فيه جواز حفظ الأموال وإن أدى إلى عدم الماء في الوقت.
السادس عشر: فيه جواز الاستعارة، وجواز السفر بالعارية عند إذن صاحبها.
السابع عشر: فيه جواز اتخاذ النساء الحلي، واستعمال القلادة تجملا لأزواجهن.
الثامن عشر: فيه جواز وضع الرجل رأسه على فخذ امرأته.
التاسع عشر: فيه جواز احتمال المشقة لأجل المصلحة، لقول عائشة رضي ا عنها: (فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي).
العشرون: فيه دليل على فضيلة عائشة رضي ا تعالى عنها، وتكرر البركة منها.
533 ح دثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم ح قال و حدثني سعيد بن النضر قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا سيار قال حدثنا يزيد هو ابن صهيب الفقير قال أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لإحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). (الحديث 533 طرفاه في: 834، 213).
مناسبة إيراد هذا الحديث ومطابقته للترجمة المطلقة في قوله: (وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا).
ذكر رجاله: وهم ستة. الأول: محمد بن سنان، بكسر السين المهملة وتخفيف النون: العوقي، بفتح العين المهملة والواو وبالقاف: الباهلي البصري، مر في أول كتاب العلم، تفرد به البخاري. الثاني: هشيم، بضم الهاء وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف: ابن بشير، بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: أبو معاوية الواسطي. قال ابن عون: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء عشاء الآخرة قبل أن يموت بعشر سنين، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة ببغداد. الثالث: سعيد بن النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: أبو عثمان البغدادي، مات بساحل جيحون. الرابع: سيار، بفتح السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالراء: ابن أبي سيار، ورد ان أبو الحكم، بفتح الكاف: الواسطي، مات بواسط سنة اثنتين وعشرين ومائة. الخامس: يزيد، من الزيادة: بن صهيب مصغرا مخففا، الفقير ضد الغني، أبو عثمان الكوفي، أحد مشايخ الإمام أبي حنيفة، رضي ا تعالى عنه، وقيل له: الفقير، لأنه كان يشكو فقار ظهره ولم يكن فقيرا من المال. وفي (المحكم): رجل فقير: مكسور
7

فقار ظهره، ويقال له: فقير، بالتشديد أيضا. السادس: جابر بن عبد ا الأنصاري، تقدم في كتاب الوحي.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري وواسطي وبغدادي وكوفي. وفيه: صورة (ح) إشارة إلى التحويل من إسناد إلى إسناد يعني: يروي البخاري عن هشيم بواسطة شيخه، أحدهما: محمد بن سنان، والآخر: سعيد بن النضر. وفيه: أن سيار، المذكور متفق على توثيقه، وأخرج له الأئمة الستة وغيرهم، وقد أدرك بعض الصحابة لكن لم يلق أحدا منهم، فهو من كبار أتباع التابعين، ولهم شيخ آخر يقال له: سيار، لكنه تابعي شامي، أخرج له الترمذي، وذكره ابن حبان في الثقات، وروي: يعني حديث الباب عن أبي أمامة، ولم ينسب في الرواة كما لم ينسب سيار هذا في هذا الحديث، وربما لم يميز بينهما من لا وقوف له على هذا، فيتوهم أن في الإسناد اختلافا، وليس كذلك.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة، وفي الخمس. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي في الطهارة بتمامه، وفي الصلاة ببعضه عن الحسن بن إسماعيل به.
ذكر لغاته ومعناه: قوله: (أعطيت خمسا) أي: خمس خصال، وعند مسلم من حديث أبي هريرة: (فضلت على الأنبياء عليهم السلام بست: أعطيت جامع الكلم، وختم بي النبيون). الحديث، وعنده أيضا من حديث حذيفة: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء). ولفظ الدارقطني: (وترابها طهورا). وعند النسائي: (وأوتيت هؤلاء الآيات: آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش لم يعط أحد منه قبلي، ولا يعطى منه أحد بعدي). وعند أبي محمد بن الجارود في (المنتقى) من حديث أنس رضي ا تعالى عنه: (جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا). وعن أبي أمامة أن نبي الله قال: (إن ا تعالى قد فضلني على الأنبياء أو قال: أمتي على الأمم بأربع: جعل الأرض كلها لي ولأمتي طهورا ومسجدا، فأينما أدركت الرجل من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره، ونصرت بالرعب يسير بين يدي مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي). الحديث. وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: (وأوتيت الكوثر). وفي حديث علي عند أحمد: (وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم). وعنده أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه قال، ذلك عام غزوة تبوك. وفي حديث السائب ابن أخت النمر: (فضلت على الأنبياء عليهم السلام: أرسلت إلى الناس كافة، وادخرت شفاعتي لأمتي، ونصرت بالرعب شهرا أمامي وشهرا خلفي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. وأحلت لي الغنائم). قلت: السائب المذكور هو ابن يزيد بن سعيد المعروف بابن أخت نمر، قيل: إنه ليثي كناني، وقيل: أزدي، وقيل: كندي، حليف بني أمية، ولد في السنة الثانية، وخرج في الصبيان إلى ثنية الوداع، وتلقى النبي، مقدمه من تبوك، وشهد حجة الوداع، وذهبت به خالته وهو وجع إلى النبي فدعا له ومسح برأسه، وقال: نظرت إلى خاتم النبوة. وفي (تاريخ نيسابور) للحاكم: وأحل لي الأخماس.
وإذا تأملت وجدت هذه الخصال اثنتي عشرة خصلة، ويمكن أن توجد أكثر من ذلك عند إمعان التتبع، وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب (شرف المصطفى) أن الذي اختص به نبينا من بين سائر الأنبياء عليهم السلام ستون خصلة. فإن قلت: بين هذه الروايات تعارض، لأن المذكور فيها الخمس والست والثلاث؛ قلت: قال القرطبي: لا يظن أن هذا تعارض، وإنما هذا من توهم أن ذكر الأعداد يدل على الحصر وليس كذلك، فإن من قال: عندي خمسة دنانير مثلا، لا يدل هذا اللفظ على أنه ليس عنده غيرها، ويجوز له أن يقول مرة أخرى: عندي عشرون، ومرة أخرى ثلاثون، فإن من عنده ثلاثون صدق عليه أن عنده عشرين وعشرة. فلا تعارض ولا تناقض، ويجوز أن يكون الرب سبحانه وتعالى، أعلمه بثلاث ثم بخمس ثم بست. قلت: حاصل هذا أن التنصيص على الشيء بعدد لا يدل على نفي ما عداه، وقد علم في موضعه.
قوله: (لم يعطهن أحد قبلي) قال الداودي: يعني: لم يجمع لأحد قبله هذه الخمس، لأن نوحا عليه السلام، بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط واحدة منهن قبله أحدا، وأما كونها مسجدا فلم يأت أن غيره منع منها، وقد كان عيسى عليه الصلاة والسلام يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة، وزعم بعضهم أن نوحا عليه السلام، بعد خروجه من السفينة، كان مبعوثا إلى كل من في الأرض، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا، وقد كان
8

مرسلا إليهم. وأجيب عن ذلك: بأن هذا العموم الذي في رسالته لم يكن في أصل البعثة، وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث، وهو: انحصار الخلق في الموجودين معه بهلاك سائر الناس، وعموم رسالة نبينا، في أصل البعثة. وزعم ابن الجوزي أنه: كان في الزمان الأول، إذا بعث نبي إلى قوم بعث غيره إلى آخرين، وكان يجتمع في الزمن الواحد جماعة من الرسل، فأما نبينا عليه الصلاة والسلام، فإنه انفرد بالبعثة، فصار بذلك للكل من غير أن يزاحمه أحد.
فإن قلت: يقول أهل الموقف لنوح، كما صح في حديث الشفاعة: أنت أول رسول إلى أهل الأرض، فدل على أنه كان مبعوثا إلى كل من في الأرض. قلت: ليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، ولئن سلمنا أنه يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه، سبحانه وتعالى، في عدة آيات على أن إرسال نوح عليه الصلاة والسلام إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم. فإن قلت: لو لم يكن مبعوثا إلى أهل الأرض كلهم لما أهلكت كلهم بالغرق إلا أهل السفينة، لقوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 51). قلت: قد يجوز أن يكون غيره أرسل إليهم في ابتداء مدة نوح، وعلم نوح، بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. قيل: هذا جواب حسن، ولكن لم ينقل أنه نبىء في زمن غيره. قلت: يحتمل أنه قد بلغ جميع الناس دعاؤه قومه إلى التوحيد فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا ذهب يحيى بن عطية في تفسيره سورة هود، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته. وقال القشيري: توحيد ا تعالى يجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم. قلت: فيه نظر لا يخفى، وأجاب بعضهم بأنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم. قلت: وفيه نظر أيضا، لأنه تكون بعثته عامة لقومه لكونهم هم الموجودين، وعندي جواب آخر، وهو جيد إن شاء ا تعالى، وهو أن الطوفان لم يرسل إلا على قومه الذين هو فيهم، ولم يكن عاما.
قوله: (نصرت بالرعب) زاد أبو أمامة: (يقذف في قلوب أعدائي)، كما ذكرناه، وهو بضم الراء وسكون العين: الخوف. وقرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بسكونها، يقال: رعبت الرجل أرعبته رعبا أي: ملأته خوفا، ولا يقال: أرعبته، كذا ذكره أبو المعالي. وحكي عن ابن طلحة: أرعبته ورعبته، فهو مرعب. وفي (المحكم) فو رعيب، ورعبته ترعيبا وترعابا فرعب. وفي (الجامع) للقزاز: رعبته فأنا راعب، ويقال: رعب فهو مرعوب، والاسم: الرعب بالضم، وفي (الموعب) لابن التياني: رجل رعب ومرتعب وقد رعب ورعب. قوله: (مسيرة شهر). والنكتة في جعل الغاية شهرا لأنه لم يكن بين المدينة وبين أحد من أعدائه أكثر من شهر. قوله: (وجعلت لي الأرض مسجدا) أي: موضع سجود، وهو وضع الجبهة على الأرض. ولم يكن اختص السجود منها بموضع دون موضع، ويحتمل أن يكون المراد من المسجد هو المسجد المعروف الذي يصلي فيه القوم، فإذا كان جوازها في جميعها كان المسجد المعهود كذلك، وقال القاضي عياض: من كان قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إنما أبيح لهم الصلاة في مواضع مخصوصة: كالبيع والكنائس، وقيل: في موضع يتيقنون طهارته من الأرض، وخصت هذه الأمة بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا في المواضع المستثناة بالشرع، أو موضع تيقنت نجاسته. فإن قلت: كان عيسى، عليه السلام، يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة. قلت: ذكر مسجدا وطهورا، وهذا مختص بالنبي حيث كان يجوز له أن يصلي في أي موضع أدركته الصلاة فيه، وكذلك التيمم منه، ولم يكن لعيسى عليه السلام، إلا الصلاة دون التيمم.
قوله: (فأيما رجل). لفظ أي، مبتدأ متضمن لمعنى الشرط، ولفظة: ما زيدت لزيادة التعميم. وقوله: (فليصل) خبر المبتدأ، ودخول: الفاء، فيه لكون المبتدأ متضمنا لمعنى الشرط. وقيل: معناه فليتيمم ليصل ليناسب الأمرين المسجد والطهور. قوله: (من أمتي) يتعلق بمحذوف تقديره: كائن من أمتي. وقوله: (أدركته الصلاة) جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل الجر لأنها صفة رجل. قوله: (الغنائم) وفي رواية الكشميهني: (المغانم)، والغنائم: جميع غنيمة، وهي مال حصل من الكفار بإيجاف خيل وركاب، والمغانم: جمع مغنم. وقال الجوهري: الغنيمة والمغنم بمعنى واحد. قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين: منهم من لم يؤذن
9

له في الجهاد فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد أنه خص بالتصرف من الغنيمة يصرفها كيف شاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم يحل لهم أصلا. قوله: (الشفاعة) هي سؤال فعل الخير وترك الضرر عن الغير لأجل الغير على سبيل الضراعة، وذكر الأزهري في تهذيبه عن المبرد وثعلب أن الشفاعة: الدعاء، والشفاعة؛ كلام الشفيع للملك عند حاجة يسألها لغيره. وعن أبي الهيثم أنه قال: (من يشفع شفاعة حسنة). أي: من يزدد عملا إلى عمل، وفي (الجامع): الشفاعة الطلب من فعل الشفيع، وشفعت لفلان إذا كان متوسلا بك فشفعت له، وأنت شافع له وشفيع. وقال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام، فيها للعهد، والمراد: الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وقيل: الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل: الشفاعة لخروج من في قلبه ذرة من إيمان من النار. وقيل: في رفع الدرجات في الجنة. وقيل: قوم استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم إياها. وقيل: إدخال قوم الجنة بغير حساب. وهي أيضا مختصة به. قوله: (وبعثت إلى الناس عامة) أي: لقومه ولغيرهم من العرب والعجم والأسود والأحمر، قال ا تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (سبإ: 82).
ذكر استنباط الأحكام: الأول: ما قاله ابن بطال: فيه دليل أن الحجة تلزم بالخبر كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن المعجزة باقية مساعدة للخبر مبينة له دافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهي القرآن الباقي، وخص ا سبحانه وتعالى نبيه ببقاء معجزته لبقاء دعوته ووجوب قبولها عل من بلغته إلى آخر الزمان.
الثاني: فيه ما خصه ا به من الشفاعة، وهو أنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا شفع فيه، كما ورد (قل يسمع، إشفع تشفع). ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء عليهم السلام.
الثالث: في قوله: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل)، يعني؛ يتيمم ويصلي، دليل على تيمم الحضري إذا عدم الماء وخاف فوت الصلاة، وعلى أنه لا يشترط التراب، إذ قد تدركه الصلاة في موضع من الأرض لا تراب عليها، بل رمل أو جص أو غيرهما. وقال النووي احتج به مالك وأبو حنيفة في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وقال أبو عمر: أجمع العلماء على أن التيمم بالتراب ذي الغبار جائز، وعند مالك يجوز بالتراب والرمل والحشيش والشجر والثلج والمطبوخ كالجص والآجر. وقال الثوري والأوزاعي: يجوز بكل ما كان على الأرض حتى الشجر والثلج والجمد، ونقل النقاش عن ابن علية وابن كيسان جوازه بالمسك والزعفران، وعن إسحاق منعه بالسباخ، ويجوز عندنا بالتراب والرمل والحجر الأملس المغسول والجص والنورة والزرنيخ والكحل والكبريت والتوتيا والطين الأحمر والأسود والأبيض والحائط المطين والمجصص والياقوت والزبرجد والزمرد والبلخش والفيروزج والمرجان والأرض الندية والطين الرطب. وفي (البدائع): ويجوز بالملح الجبلي، وفي قاضيخان: لا يصح على الأصح، ولا يجوز بالزجاج، ويجوز بالآجر في ظاهر الرواية وشرط الكرخي أن يكون مدقوقا. وفي (المحيط)، لا يجوز بمسبوك الذهب والفضة، ويجوز بالمختلط بالتراب إذا كان التراب غالبا، وبالخزف إذا كان من طين خالص. وفي المرغيناني: يجوز بالذهب والفضة والحديد والنحاس وشبهها ما دام على الأرض، وذكر الشاشي في (الحلية): لا يجوز التيمم بتراب خالطه دقيق أو جص، وحكى وجه آخر: أنه يجوز إذا كان التراب غالبا. ولا يصح التيمم بتراب يستعمل في التيمم، وعند أبي حنيفة: يجوز، وهو وجه لبعض أصحابنا، ومذهب الشافعي وأحمد: لا يجوز إلا بالتراب الذي له غبار، واحتجا بحديث حذيفة عند مسلم: (وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا). وأجيب: عن هذا بقول الأصيلي: تفرد أبو مالك بهذه اللفظة، وقال القرطبي، ولا يظن أن ذلك مخصص له، فإن التخصيص إخراج ما تناوله العموم عن الحكم، ولم يخرج هذا الخبر شيئا، وإنما عين واحدا مما تناوله الاسم الأول مع موافقته في الحكم، وصار بمثابة قوله تعالى: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * (الرحمن: 86) وقوله تعالى: * (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (البقرة: 89) فعين بعض ما تناوله اللفظ الأول مع الموافقة في المعنى على جهة التشريف، وكذلك ذكر التربة في حديث حذيفة. ويقال: الاستدلال بلفظ التربة على خصوصية التيمم بالتراب ممنوع، لأن تربة كل مكان ما فيه من تراب وغيره، وقال بعضهم: وأجيب: بأنه ورد في الحديث المذكور بلفظ: التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: (جعل التراب لي طهورا) أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، والجواب عنه ما ذكرناه الآن، على أن تعيين لفظ التراب في الحديث المذكور لكونه أمكن وأغلب
10

لا لكونه مخصوصا به، على أنا نقول: التمسك باسم الصعيد، وهو وجه الأرض وليس باسم التراب فقط، بل هو وجه الأرض وليس التراب فقط، بل هو وجه الأرض ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه أو غيره.
الرابع: فيه أن ا تعالى أباح الغنائم للنبي ولأمته كما ذكرنا.
2
((باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا لم يجد الرجل ماء ليتوضأ به ولا ترابا اليتيمم به، وجواب: إذا محذوف تقديره: هل يصلي بلا وضوء ولا تيمم أم لا؟ وفيه: مذاهب للعلماء على ما نذكره عن قريب إن شاء ا تعالى.
وجه المناسبة في تقديم هذا الباب على بقية الأبواب، بعد ذكر كتاب التيمم، هو أنه صدر أولا بذكر مشروعية التيمم عند عدم الماء، ثم ذكر بعده حكم من لم يجد ماء ولا ترابا، هذا على تقدير كون هذا الباب في هذا الموضع، وفي بعض النسخ ذكر بعد قوله: كتاب التيمم باب التيمم في الحضر، ثم ذكر بعده باب: إذا لم يجد ماء ولا ترابا، فعلى هذا المناسبة بين البابين من حيث إنه ذكر أولا حكم التيمم في السفر، ثم ذكر حكمه في الحضر، ثم ذكر حكم عادم الماء والتراب معا، وهو على الترتيب كما ينبغي، ولم يتعرض لمثل هذه النكتة أحد من الشراح.
6333 ح دثنا زكرياء بن يحيى قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله رجلا فوجدها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا فشكوا ذلك إلى رسول الله فأنزل الله آية التيمم فقال أسيد بن حضير لعائشة جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا.
وجه مطابقة الحديث للترجمة ظاهر في قوله: (فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء). وأما وجه زيادة قوله في الترجمة: ولا ترابا، فهو أنهم لما صلوا بلا وضوء ولم يتيمموا أيضا لعدم علمهم به، فكأنهم لم يجدوا ماء ولا ترابا، إذ كان حكمه حكم العدم عندهم، فصاروا كأنهم لم يجدوا ماء ولا ترابا. فإن قلت: روى الطحاوي من حديث عروة عن عائشة قالت: (أقبلنا مع النبي، من غزوة كذا، حتى إذا كنا بالمعرس، قريبا من المدينة، نعست من الليل، وكانت على قلادة تدعى السمط، تبلغ السرة، فجعلت أنعس فخرجت من عنقي، فلما نزلت مع النبي، لصلاة الصبح قلت: يا رسول ا خرت قلادتي، فقال للناس: إن أمكم قد ضلت قلادتها فابتغوها،
فابتغاها الناس ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرتهم الصلاة، ووجدوا القلادة ولم يقدروا على ماء، فمنهم من تيمم إلى الكف، ومنهم من تيمم إلى المنكب، وبعضهم تيمم على جلدة، فبلغ ذلك رسول الله فأنزلت آية التيمم). انتهى. وقد قلت: إنهم لم يتيمموا، وهذا الحديث فيه تصريح بأنهم تيمموا. قلت: هذا التيمم المختلف فيه عندهم كلا تيمم لعدم نزول النص حينئذ، فصار كأنهم صلوا بغير طهور، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في (الكبير) من حديث هشام بن عروة عن أبيه: (عن عائشة أنها استعارت قلادة من أسماء، فسقطت من عنقها فابتغوها فوجدوها، فحضرت الصلاة فصلوا بغير طهور)، الحديث.
وقوله: (بغير طهور)، يتناول الماء والتراب، فدل هذا أن التيمم الذي تيمموا على اختلاف صفته كان حكمه حكم العدم، ألا يرى أنه لو كان معتبرا به ومعتدا قبل نزول الآية لما سأل عمار رضي ا تعالى عنه، الذي هو أحد من تيمم ذلك التيمم المختلف فيه، رسول ا، عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنما كان بعد تيممه بذلك التيمم المختلف فيه. فإن قلت: هذا التيمم المختلف فيه هل هو عملوه باجتهاد ورأي من عندهم أم بالسنة؟ قلت: الظاهر أنه كان باجتهاد منهم، فيرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره هل يجوز أم لا؟ فمنهم من جوزه مطلقا، وهو المختار عند الأكثرين، ومنهم من منعه مطلقا. وقالت طائفة: يجوز للغائبين عن الرسول دون الحاضرين، ومنهم من جوزه إذا لم يوجد مانع.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: زكريا بن يحيى، هكذا وقع في جميع الروايات: زكريا بن يحيى، من غير ذكر جده
11

ولا نسبه ولا بشيء هو مشتهر به، والحال أنه روى عن اثنين كل منهما يقال له زكريا بن يحيى: أحدهما: زكريا بن يحيى بن صالح اللؤلؤي البلخي الحافظ المتوفى ببغداد سنة ثلاثين ومائتين، والآخر: زكريا بن يحيى بن عمر الطائي الكوفي، أبو السكين، بضم السين المهملة وفتح الكاف، مات ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائتين، وكلاهما يرويان عن عبد ا بن نمير، فزكريا هذا يحتملهما، فأيا كان منهما فهو على شرطه. قال الكرماني: فلا يوجب الاشتباه بينهما قدحا في الحديث وصحته، وميل الغساني والكلاباذي إلى الأول. قال الغساني: حدث البخاري عن زكريا البلخي في التيمم وفي غيره، وعن زكريا بن سكين في العيدين. وقال الكلاباذي: البلخي يروي عن عبد ا بن نمير في التيمم. انتهى. وقال ابن عدي: هو زكريا بن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، وإلى هذا مال الدارقطني لأنه كوفي.
الثاني: عبد ا بن نمير، بضم النون: الكوفي.
الثالث: هشام بن عروة.
الرابع: أبوه عروة بن الزبير.
الخامس: عائشة رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني.
ذكر بقية ما فيه من المعاني وغيرها: قوله: (من أسماء) هي أخت عائشة رضي ا تعالى عنها، وهي الملقبة بذات النطاقين، تقدمت في باب من أجاز الفتيا بإشارة. فإن قلت: قالت عائشة في الباب السابق: انقطع عقد لي، ويفهم من هذا أنه كان لعائشة، وههنا أنها استعارته من أسماء. قلت: إنما أضافته إلى نفسها هناك باعتبار أنه كان تحت يدها وتصرفها. قوله: (فهلكت)، أي: ضاعت. قوله: (رجلا) هو أسيد بن حضير. قوله: (فوجدها) أي: أصابها، ولا منافاة بين قولها فيما مضى: فأصبنا العقد تحت البعير، وبين قوله: (فوجدها) لأن لفظ: أصبنا، عام يشمل عائشة والرجل، فإذا وجد الرجل بعد رجوعه صدق قوله: (أصبنا). قوله: (فصلوا) أي بغير وضوء. وقد صرح في صحيح مسلم بذلك.
قال النووي فيه دليل على أن من عدم الماء والتراب يصلي على حاله، وهذه المسألة فيها خلاف، وهو أربعة أقوال: وأصحها: عند أصحابنا: أنه يجب عليه أن يصلي ويعيد الصلاة. والثاني: أنه لا يجب عليه الصلاة، ولكن يستحب، ويجب عليه القضاء سواء صلى أو لم يصل. والثالث: تحرم عليه الصلاة لكونه محدثا، وتجب عليه الإعادة، وهو قول أبي حنيفة رضي ا تعالى عنه. والرابع: تجب الصلاة ولا تجب الإعادة، وهو مذهب المزني، وهو أقوى الأقوال دليلا. ويعضده هذا الحديث، فإنه لم ينقل عن النبي إيجاب إعادة مثل هذه الصلاة. وقال ابن بطال: الصحيح من مذهب مالك أنه لا يصلي ولا إعادة عليه، قياسا على الحائض. وقال أبو عمر: قال ابن خواز منداد: الصحيح من مذهب مالك أن كل من لم يقدر على الماء، ولا على الصعيد حتى خرج الوقت أنه لا يصلي، ولا شيء عليه. ورواه المدنيون عن مالك وهو الصحيح.
قال أبو عمر: كيف أقدم على أن أجعل هذا صحيحا وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين؟ فكأنه قاسه على ما روي عن مالك فيمن كتفه الوالي وحبسه فمنعه من الصلاة حتى خرج وقتها. أنه لا إعادة عليه، ثم قال: والأسير المغلول، والمريض الذي لا يجد من يناوله الماء ولا يستطيع التيمم لا يصلي، وإن خرج الوقت، حتى يجد إلى الوضوء أو التيمم سبيلا. وعن الشافعي روايتان. إحداهما: هكذا، والأخرى: يصلي وأعاد إذا قدر، وهو المشهور عنه. وقال أبو حنيفة، في المحبوس في المصر إذا لم يجد ماء ولا ترابا نظيفا: لم يصل، وإذا وجده صلى. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي والثوري ومطرف: يصلي ويعيد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي: إن وجد المحبوس في المصر ترابا نظيفا صلى وأعاد. وقال زفر: لا يتيمم ولا يصلي، وإن وجد ترابا نظيفا، بناء على أن عنده لا تيمم في الحضر. وقال ابن القاسم: لو تيمم على التراب النظيف أو على وجه الأرض لم يكن عليه إعادة إذا صلى ثم وجد الماء. وقال أبو عمر: أما الزمن، قالوا: إن لم يقدر على الماء ولا على الصعيد صلى كما هو وأعاد إذا قدر على الطهارة.
3
((باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة))
أي: هذا باب في بيان حكم التيمم في الحضر إلى آخره، ذكر قيدين: أحدهما: فقدان الماء، والآخر: خوفه خروج وقت الصلاة، ويدخل في فقدان الماء عدم القدرة عليه وإن كان واجدا نحو ما إذا وجده في بئر وليس عنده آلة الاستقاء، أو كان بينه وبينه سبع أو عدو.
والمناسبة بين البابين من حيث إن الباب الأول كان في عادم الماء في السفر، وهذا في عادم الماء في الحضر، وجواب:
12

إذا، محذوف يدل على ما تقدمه، تقديره: إذا لم يجد الماء وخاف فوت وقت الصلاة يتيمم.
وبه قال عطاء.
أي: وبما ذكر من أن فاقد الماء في الحضر الخائف فوت الوقت يتيمم. قال عطاء بن أبي رباح: وقال بعضهم: أي بهذا المذهب. قلت: المعنى الذي يستفاد من التركيب ما ذكرته، ولا يرد عليه شيء، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) موصولا عن عمر عن ابن جريج عن عطاء. قال: (إذا كنت في الحضر وحضرت الصلاة وليس عندك ماء فانتظر الماء، فإن خشيت فوت الصلاة فتيمم وصل). وقال الكرماني: وبقول عطاء قال الشافعي. قلت: مذهبنا جواز التيمم لعادم الماء في الأمصار، ذكره في (الأسرار). وفي (شرح الطحاوي): التيمم في المصر لا يجوز إلا في ثلاث. إحداها: إذا خاف فوت صلاة الجنازة إن توضأ. والثانية: عند خوف فوت صلاة العيد. والثالثة: عند خوف الجنب من البرد بسبب الاغتسال. وقال الإمام التمرتاشي: من عدم الماء في المصر لا يجوز له التيمم لأنه نادر. قلت: الأصل جواز التيمم لعادم الماء، سواء كان في المصر أو خارجه لعموم النصوص، وفي (كتاب الأحكام) لابن بزيزة؛ الحاضر الصحيح يعدم الماء، هل يتيمم أو لا؟ قالت طائفة: يتيمم، وهو مذهب ابن عمر وعطاء والحسن وجمهور العلماء، وقال قوم من العلماء: لا يتيمم؛ وعن أبي حنيفة يستحب لعادم الماء وهو يرجوه أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ليقع الآداء بأكمل الطهارتين. وعن محمد: إن خاف فوت الوقت يتيمم. وفي (شرح الأقطع): التأخير عن أبي حنيفة ويعقوب حتم، كأنه يشير إلى ما رواه الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن علي رضي ا عنه: (إذا أجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم ثم صلى). وقال ابن حزم: وبه قال سفيان بن سعيد وأحمد بن حنبل وعطاء. وقال مالك: لا يعجل ولا يؤخر، ولكن في وسط الوقت. وقال مرة: إن أيقن بوجود الماء قبل خروج الوقت أخره إلى وسط الوقت، وإن كان موقنا أنه لا يجد الماء حتى يخرج الوقت فيتيمم في أول الوقت ويصلي. وعن الأوزاعي. كل ذلك سواء. وعند مالك: إذا وجد الحاضر الماء في الوقت هل يعيد أم لا؟ فيه قولان في (المدونة) وقيل: إنه يعيد أبدا.
وقال الحسن في المريض عنده الماء ولا يجد من يناوله يتيمم.
أي: الحسن البصري، رضي ا عنه. قوله: (الماء) في بعض النسخ: ماء، بلا لام. قوله: (من يناوله) أي: يعطيه ويساعده على استعماله. وجاز عند الشافعي: وإن وجد من يناوله بالمرض الذي يخاف من الغسل معه محذورا، ولا يجب عليه القضاء. قوله: (يتيمم)، وفي بعضها: (تيمم)، على صيغة الماضي، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن الحسن وابن سيرين قالا: (لا يتيمم ما رجى أن يقدر على الماء في الوقت)، وهذا في المعنى ما ذكره البخاري معلقا.
وأقبل ابن عمر من أرضه بالجرف فحضرت العصر بمربد النعم فصلى ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد.
الكلام فيه على أنواع.
الأول: أن هذا التعليق في موطأ مالك: (عن نافع أنه أقبل هو وعبد ا من الجرف حتى إذا كانا بالمدينة نزل عبد ا فتيمم صعيدا طيبا، فمسح وجهه ويديه إلى المرفقين ثم صلى)، رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن ابن عمر بلفظ: (ثم صلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة). قال الشافعي: والجرف قريب من المدينة. ورواه البيهقي من حديث عمرو بن محمد بن أبي رزين: حدثنا هشام بن حسان عن عبيد ا عن نافع عن عبد ا: (أن النبي تيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة بمكان يقال له: مربد النعم)، ثم قال: تفرد عمر بن محمد بإسناده هذا، والمحفوظ عن نافع عن ابن عمر من فعله، وفي (سنن الدارقطني) قال: حدثنا ابن صاعد حدثنا ابن زنبور حدثنا فضيل بن عياض عن ابن عجلان عن نافع أن ابن عمر تيمم وصلى وهو على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة. وفي حديث يحيى بن سعيد عن نافع: تيمم عبد ا على ثلاثة أميال أو ميلين من المدينة. وفي خبر عمر بن زرارة من طريق موسى بن ميسرة. عن ابن عمر مثله.
النوع الثاني: أن البخاري ذكر هذا معلقا مختصرا ولم يذكر فيه التيمم، مع أنه لا يطابق ترجمة الباب إلا به. وقال بعضهم: لم يظهر لي سبب حذفه قلت: الذي يظهر لي أن ترك هذا ما هو من البخاري، والظاهر أنه من الناسخ، واستمر الأمر عليه وليس له وجه غير هذا.
13

الثالث: في لغاته. فقوله: (بالجرف) بضم الجيم والراء، وقد تسكن الراء: وهو ما تجري فيه السيول وأكلته من الأرض، وهو جمع: جرفة، بكسر الجيم وفتح الراء. وزعم الزبير: أن الجرفة على ميل من المدينة. وقال ابن إسحاق: على فرسخ، وهناك كان المسلمون يعسكرون إذا أرادوا الغزو. وزعم ابن قر قول أنه على ثلاثة أميال إلى جهة الشام، به مال عمر وأموال أهل المدينة، ويعرف ببئر جشم وبئر جمل. قوله: (بمربد النعم). قال السفاقسي: رويناه بفتح الميم، وهو في اللغة بكسرها، وفي (المحكم): المربد محبس الإبل، وقيل: هي من خشبة أو عصى تعترض صدور الإبل فتمنعها من الخروج، ومربد البصرة من ذلك لأنهم كانوا يحبسون فيه الإبل، والمربد: فضاء وراء البيوت ترتفق به، والمربد: كالحجرة في الدار، ومربد التمر: جرينه الذي يوضع فيه بعد الجذاذ لييبس. وقال سيبويه: هو اسم كالمسطح، وإنما مثله به لأن المسطح ييبس. وقال السهيلي: المربد والجرين والمسطح والبيدر والاندر والجرجار: لغات بمعنى واحد. قوله: (النعم)، بفتح النون والعين: وهو المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
الرابع في حكم الأثر المذكور: وهو يقتضي جواز التيمم للحضري، لأن من يجيز التيمم في السفر يقصره على السفر الذي تقصر فيه الصلاة. قال محمد بن مسلمة: إنما تيمم ابن عمر بالمربد لأنه خاف فوت الوقت. قيل: لعله يريد فوات الوقت المستحب وهو أن تصفر الشمس. وقوله: (والشمس مرتفعة) يحتمل أن تكون مرتفعة عن الأفق والصفرة دخلتها، ويحتمل أن يكون ظن أنه لا يدخل المدينة حتى يخرج الوقت فتيمم على ذلك الاجتهاد. وقال ابن القاسم: من رجا إدراك الماء في آخر الوقت فتيمم في أوله وصلى أجزأه ويعيد في الوقت استحبابا، فيحتمل أن ابن عمر كان يرى هذا. وقال سحنون في (شرح الموطأ) كان ابن عمر على وضوء لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، فجعل التيمم عند عدم الماء عوض الوضوء، وقيل: كان ابن عمر يرى أن الوقت إذا دخل حل التيمم، وليس عليه أن يؤخر لقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 34، والمائدة: 6).
7334 ح دثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج قال سمعت عميرا مولى ابن عباس قال أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهيم أقبل النبي من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام.
13
50 وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة هو أن النبي لما تيمم في الحضر لرد السلام، وكان له أن يرده عليه قبل تيممه، دل ذلك أنه إذا خشي فوات الوقت في الصلاة في الحضر أن له التيمم، بل ذلك آكد، لأنه لا تجوز الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، ويجوز السلام بغيرهما.
ذكر رجاله: وهم سبعة. الأول: يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد ا بن بكير القريشي المخزومي، أبو زكريا المصري. الثاني: الليث بن سعد، الإمام المشهور. الثالث: جعفر بن ربيعة بن شرحبيل الكندي المصري، مات سنة خمس وثلاثين ومائة. الرابع: الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز راوية أبي هريرة، تقدم في باب حب الرسول من الإيمان. الخامس: عمير مصغر عمرو بن عبد ا الهاشمي، مات بالمدينة سنة أربع ومائة. السادس: عبد ا بن يسار، بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف السين المهملة: المدني الهلالي. السابع: أبو جهيم، بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف: هو عبد ا بن الحارث بن الصمة، بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم: الصحابي الخزرجي. وللبخاري حديثان عنه، ويروى: أبو الجهيم بالألف واللام، وقال الذهبي: أبو جهيم. ويقال: أبو الجهيم بن الحارث بن الصمة، كان أبوه من كبار الصحابة، وأبو جهم عبد ا بن جهيم. قال أبو نعيم وابن منده: أبو جهيم وابن الصمة واحد. وكذا قاله مسلم في بعض كتبه، وجعلهما ابن عبد البر اثنين. وعن ابن أبي حاتم عن أبيه قال: ويقال: أبو الجهيم هو الحارث بن الصمة، فعلى هذا تكون لفظة: ابن في متن الحديث زائدة، لكن صحح أبو حاتم أن الحارث اسم لأبيه لا اسمه، وفي الصحابة شخص آخر يقال له: أبو الجهم، وهو صاحب الأنبجانية، وهو غير هذا لأنه قريشي وهذا أنصاري. قلت: أبو الجهم هذا هو الذي قاله الذهبي: أبو جهم عبد ا بن جهيم.
14

ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين، ولكن في رواية الإسماعيلي: حدثني جعفر. وفيه: أن نصف الإسناد الأول مصريون، والنصف الثاني مدنيون. وفيه: عمير مولى ابن عباس، كذا ههنا، وهو مولى أم الفضل بنت الحارث والدة ابن عباس، وإذا كان مولى أم الفضل فهو مولى أولادها. وقد روى ابن إسحاق هذا الحديث وقال: مولى عبيد ا بن عباس، وقد روى موسى بن عقبة وابن لهيعة وأبو الحويرث هذا الحديث عن الأعرج عن أبي الجهيم ولم يذكروا بينها عميرا، والصواب إثباته، وليس له في الصحيح غير هذا الحديث وحديث آخر عن أم الفضل. وفيه: رواية الأعرج عنه رواية الأقران. وفيه: السماع والقول. وفيه: عبد ا بن يسار، وهو أخو عطاء بن يسار التابعي المشهور، ووقع عند مسلم في هذا الحديث: عبد ا بن يسار وهو وهم، وليس له في هذا الحديث رواية، ولهذا لم يذكره المصنفون في رجال الصحيحين.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الطهارة، وقال: روى الليث فذكره. وأخرجه أبو داود فيه عن عبد الملك بن شعيب بن الليث عن سعد عن أبيه عن جده. وأخرجه النسائي فيه عن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث به، ومسلم ذكر هذا الحديث منقعطا وهو موصول على شرطه، وفيه عبد الرحمن بن يسار، وهو وهم، كما ذكرناه، وفيه أبو الجهم مكبرا وهو أبو الجهيم مصغرا، وروى البغوي في (شرح السنة) بإسناده من حديث الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن أبي جهيم بن الصمة. قال: (مررت على النبي وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علي حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد علي)، قال: هذا حديث حسن.
ذكر معناه وما ورد فيه من الروايات: قوله: (من نحو بئر جمل)، أي: من جهة الموضع الذي يعرف ببئر جمل، بالجيم والميم المفتوحتين. ويروى: (ببئر الجمل)، بالألف واللام، وكذا في رواية النسائي، وهو موضع بقرب المدينة فيه مال من أموالها. قوله: (فلقيه رجل)، هو أبو الجهيم الراوي، وقد صرح به الشافعي في حديثه الذي ذكرناه الآن. قوله: (فلم يرد)، يجوز في داله الحركات الثلاث: الكسر، لأنه الأصل؛ والفتح، لأنه أخف؛ والضم لاتباع الراء. قوله: (حتى أقبل على الجدار) الألف واللام فيه للعهد الخارجي، أي: جدار هناك، والجدار كان مباحا فلم يحتج إلى الإذن في ذلك، أو كان مملوكا لغيره وكان راضيا به. وفي رواية الطبراني في (الأوسط): (حتى إذا كان الرجل أن يتوارى في السكة ضرب بيديه على الحائط فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام، وقال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر). وعند أبي داود، من حديث حيوة عن ابن الهاد: أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: (أقبل رسول الله من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل فسلم عليه فلم يرد عليه رسول الله حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه ثم رد على الرجل السلام). وعند البزار بسند صحيح: (عن
نافع عنه أن رجلا مر على النبي وهو يبول، فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام فلما جاوزه ناداه عليه السلام، فقال: (إنما حملني على الرد عليك خشية أن تذهب فتقول: إني سلمت على النبي فلم يرد علي، فذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي فإنك إن تفعل لا أرد عليك). وعند الطبراني من حديث البراء بن عازب (أنه سلم على النبي وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ)، وعنده أيضا من حديث جابر بن سمرة بسند فيه ضعف، قال: (سلمت على النبي وهو يبول فلم يرد علي، ثم دخل إلى بيته فتوضأ ثم خرج فقال: (وعليك السلام). وعند الحاكم من حغيث المهاجرين قنقذ، قال: (أتيت النبي، وهو يتوضأ فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما فرغ من وضوئه قال: (إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير وضوء). وأخرجه الطحاوي أيضا، ولفظه: (إلا أني كرهت أن أذكر ا إلا على طهارة). وأخرجه أبو داود ولفظه: (فلم يرد حتى توضأ ثم اعتذر إليه، قال: (إني كرهت أن أذكر ا إلا على طهر، أو على طهارة). وأخرجه النسائي وابن ماجة وأحمد والبيهقي وابن حبان والطبراني، وزاد: (فقمت مهموما، فدعا بوضوء فتوضأ ورد علي، وقال: (إني كرهت أن أذكر ا على غير وضوءه) وعند ابن ماجة من حديث أبي هريرة: (مر رجل على النبي، وهو يبول، فسلم فلم يرد عليه، فلما فرغ ضرب بكفيه الأرض فتيمم ثم رد عليه السلام).
15

ذكر استنباط الأحكام منه: منها: ما قال ابن التين، قال بعضهم: يستنبط منه جواز التيمم في الحضر، وعليه بوب البخاري، وقال بعضهم: فيه التيمم للحضر إلا أنه لا دليل فيه أنه رفع بذلك التيمم الحدث رفعا استباح به الصلاة، لأنه إنما فعله كراهة أن يذكر ا على غير طهارة، كذا رواه حماد في (مصنفه) وقال ابن الجوزي: كره أن يرد عليه السلام، لأنه اسم من أسماء ا تعالى، أو يكون هذا في أول الأمر ثم استقر الأمر على غير ذلك. وفي (شرح الطحاوي) حديث المنع من رد السلام منسوخ بآية الوضوء؛ وقيل: بحديث عائشة رضي ا تعالى عنها: كان يذكر ا على كل أحيانه، وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث رواه جابر الجعفي عن عبد ا بن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد ا بن علقمة بن الغفراء عن أبيه قال: (كان النبي إذا أراد الماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يسلم علينا حتى نزلت آية الرخصة * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) * (النساء: 34، والمائدة: 6) وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يعني حديث المهاجر بن قنفذ معلول ومعارض، أما كونه معلولا فلأن سعيد بن أبي عروبة كان قد اختلط في آخر عمره، فيراعى فيه سماع من سمع منه قبل الاختلاط، وقد رواه النسائي من حديث شعبة عن قتادة به وليس فيه أنه لم يمنعني إلى آخره، ورواه حماد بن سلمة عن حميد وغيره عن الحسن عن مهاجر منقطعا، فصار فيه ثلاث علل.
ب 05 2 وأما كونه معارضا، فما رواه البخاري ومسلم من حديث كريب عن ابن عباس. قال: (بت عند خالتي ميمونة). الحديث، ففي هذا ما يدل على جواز ذكر اسم ا وقراءة القرآن مع الحدث، وزعم الحسن أن حديث مهاجر غير منسوخ، وتمسك بمقتضاه، فأوجب الطهارة للذكر، وقيل: يتأول الخبر على الاستحباب، لأن ابن عمر: ممن روى في هذا الباب، كما ذكرناه عن قريب روى ذلك، والصحابي الراوي أعلم بالمقصود. ومنها: أنه استدل به بعض أصحابنا على جواز التيمم على الحجر، قال: وذلك لأن حيطان المدينة مبنية بحجارة سود. وقال ابن بطال، في تيمم النبي بالجدار رد على الشافعي في اشتراط التراب، لأنه معلوم أنه لم يعلق به تراب، إذ لا تراب على الجدار.
وقال الكرماني: أقول ليس فيه رد على الشافعي إذ ليس معلوما أنه لم يعلق به تراب، وما ذاك إلا تحكم بارد إذ الجدار قد يكون عليه التراب وقد لا يكون، بل الغالب وجود الغبار على الجدار، مع أنه قد ثبت أنه حت الجدار بالعصا ثم تيمم، فيجب حمل المطلق على المقيد. انتهى. قلت: الجدار إذا كان من حجر لا يحتمل التراب لأنه لا يثبت عليه، خصوصا جدران المدينة، لأنها من صخرة سوداء. وقوله؛ مع أنه ثبت... الخ، ممنوع لأن حت الجدار بالعصا رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد كما ذكرناه عن قريب، وهو حديث ضعيف. فإن قلت: حسنه البغوي كما ذكرنا. قلت: كيف حسنه وشيخ الشافعي وشيخ شيخه ضعيفان لا يحتج بهما؟ قاله مالك وغيره، وأيضا فهو منقطع، لأن ما بين الأعرج وأبي جهيم عمير كما سبق من عند البخاري وغيره، ونص عليه أيضا البيهقي وغيره، وفيه علة أخرى وهي زيادة حك الجدار لم يأت بها أحد غير إبراهيم، والحديث رواه جماعة كما ذكرناه وليس في حديث أحدهم هذه الزيادة، والزيادة إنما تقبل من ثقة، ولو وقف الكرماني على ما ذكرنا لما قال: مع أنه قد ثبت أنه، حت الجدار بالعصا. ومنها: أنه استدل به الطحاوي على جواز التيمم للجنازة عند خوف فواتها، وهو قول الكوفيين والليث والأوزاعي، لأنه، تيمم لرد السلام في الحضر لأجل فوت الرد، وإن كان ليس شرطا، ومنع مالك والشافعي وأحمد ذلك وهو حجة عليهم. ومنها: أن فيه دلالة على جواز التيمم للنوافل كالفرائض؛ وقال صاحب (التوضيح): وأبعد من خصه من أصحابنا بالفرائض. ومنها: أن التيمم مسح الوجه واليدين، لقوله: فمسح بوجهه ويديه. فإن قلت: أطلق يديه فيتناول إلى الكفين وإلى المرفقين وإلى ما وراء ذلك. قلت: المراد منه ذراعيه، ويفسره رواية الدارقطني وغيره في هذا الحديث: فمسح بوجهه وذراعيه، وفيه خلاف بين العلماء، وسيأتي بيانه إن شاء ا تعالى عن قريب.
4
((باب المتيمم هل ينفخ فيهما))
أي: هذا باب يذكر فيه المتيمم: هل ينفخ فيهما؟ أي: في اليدين. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: هل ينفح في يديه بعدما يضرب بهما الصعيد للتيمم؟ وإنما أورده بلفظ الاستفهام على سبيل الاستفسار، لأن نفخه، في يديه في التيمم على ما يأتي في حديث الباب يحتمل وجوها ثلاثة: الأول: أن يكون لشيء علق بيديه فخشي عليه السلام، أن يصيب
16

وجهه الكريم فنفخ لذلك. والثاني: أن يكون قد علق بيده من التراب ما يكرهه، فلذلك نفخ فيهما. والثالث: أن يكون لبيان التشريع وهو الظاهر، ولهذا احتج به أبو حنيفة، ولم يشترط التصاق التراب بيد المتيمم، فعلى هذا، الاحتمالات المذكورة التي ذهب إليها بعضهم غير سديدة، بل ظاهر الحديث لبيان التشريع، والحكمة فيه
إزالة التلويث عن الوجه واليدين، وتبويب البخاري أيضا بالاستفهام غير سديد.
ووجه المناسبة بين البابين ظاهر، وهو أن المذكور فيما قبل هذا الباب أحكام التيمم، والنفخ فيه أيضا من أحكامه.
5 - (حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن ابن أبزى عن أبيه قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجنبت فلم أصب الماء فقال عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب أما تذكر أنا كنا في سفر أنا وأنت فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت فصليت فذكرت ذلك للنبي
فقال النبي
إنما كان يكفيك هكذا فضرب النبي
بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه)
الحديث يطابق الترجمة من حيث ذكر النفخ ولكن ليس في الحديث استفهام فيه ولهذا قلنا أن تبويبه بالاستفهام ليس بسديد.
(ذكر رجاله) وهم ثمانية * الأول آدم بن أبي إياس وقد تكرر ذكره. الثاني شعبة بن الحجاج كذلك. الثالث الحكم بفتحتين ابن عتيبة بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة مر في باب السمر بالعلم. الرابع ذر بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء ابن عبد الله الهمداني بسكون الميم. الخامس سعيد بن عبد الرحمن بكسر العين. السادس أبوه عبد الرحمن بن أبزى بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالزاي المفتوحة وبالقصر وهو صحابي خزاعي كوفي استعمله علي رضي الله تعالى عنه على خراسان. السابع عمر بن الخطاب. الثامن عمار بن ياسر.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول وفيه ثلاثة من الصحابة وفيه أن رواته ما بين خراساني وكوفي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري ههنا عن آدم وأخرجه أيضا في الطهارة عن سليمان بن حرب ومسلم بن إبراهيم ومحمد بن كثير وفرقهم وعن بندار عن غندر ستتهم عن شعبة عن الحكم وأخرجه مسلم فيه عن إسحاق بن منصور عن النضر بن شميل وعن عبد الله بن هاشم وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن كثير عن سفيان وعن محمد بن العلاء وعن محمد بن بشار وعن علي بن سهل الرملي وعن مسدد وعن محمد بن المنهال وعن موسى بن إسماعيل وأخرجه الترمذي فيه عن أبي حفص عمرو بن علي وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن بن مهدي وعن عبد الله بن عبد الرحمن وعن عمرو بن يزيد وعن إسماعيل بن مسعود عن عبد الله بن محمد بن تميم وأخرجه ابن ماجة فيه عن بندار عن غندر
(ذكر ما فيه من الروايات واختلاف الألفاظ) وفي لفظ للبخاري ' ثم أدناهما من فيه ' وفي لفظ قال ' عمار كنا في سرية فأجنبنا وقال تفل فيهما ' وفي لفظ ' فأتيت النبي
فقال يكفيك الوجه والكفان ' وفي لفظ قال ' عمار فضرب رسول الله
بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه ' وفي لفظ ' قال أبو موسى لابن مسعود إذا لم تجد الماء لا تصل ' قال عبد الله لو رخصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا يعني تيمم وصلى قال أبو موسى فقلت فأين قول عمار لعمر رضي الله تعالى عنهما قال إني لم أر قنع عمر بقول عمار وفي لفظ ' كيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي
كان يكفيك قال ألم تر عمر لم يقنع بذلك منه فقال أبو موسى فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية فما درى عبد الله ما يقول ' وفي لفظ ' بعثني رسول الله
في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة فذكرت ذلك للنبي
فقال إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفيه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه ' وفي لفظ ' مسح وجهه وكفيه واحدة ' انتهى
17

وهو ظاهر في تقديم الكف على الوجه وهو شاهد لما يراه أبو حنيفة رأى ذلك محمد بن إدريس وبقول أبي حنيفة قال ابن حزم وحكاه عن الأوزاعي وعند مسلم ' ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ' وعند ابن ماجة من حديث محمد بن أبي ليلى القاضي عن الحكم وسلمة بن كهيل أنهما سألا عبد الله بن أبي أوفى عن التيمم فقال أمر الله النبي
عمارا أن يفعل هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفضهما ومسح على وجهه قال الحكم ويديه وقال سلمة ومرفقيه ' وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار ' فتيممنا مع النبي
إلى المناكب ' وسنده صحيح ومن حديث عبيد الله عن عمار عنده وعند أبي داود ' حين تيمموا مع النبي
فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التراب ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا وجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم ' قال أبو داود وكذا رواه ابن إسحاق قال به عن ابن عباس وذكر ضربتين كما ذكره يونس عن الزهري ورواه معمر ضربتين وعنده أيضا بسند صحيح متصل عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ' فقام المسلمون مع رسول الله
فضربوا بأيديهم إلى الأرض فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط ' وفي لفظ بسند صحيح ' ثم مسح وجهه ويديه إلى نصف الذراع ' وفي لفظ ' إلى نصف الساعد ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة ' وفي رواية ' شك سلمة بن كهيل قال لا أدري فيه إلى المرفقين ' يعني أو إلى الكفين ورواه شعبة عنه إلى المرفقين أو الذراعين قال شعبة ' كان سلمة يقول إلى الكفين والوجه والذراعين فقال له منصور ذات يوم أنظر ما تقول فإنه لا يذكر الذراعين غيرك ' وفي حديث موسى
بن إسماعيل حدثنا أبان عن قتادة عمن حدثه عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى ' أن رسول الله
قال إلى المرفقين ' وقال الطبراني في الأوسط لم يروه عن أبان بن يزيد العطار إلا عفان وفي كتاب الدارقطني قال الحربي فذكر لأحمد بن حنبل فعجب منه وقال ما أحسنه وقال ابن حزم هو حبر ساقط ورواه ابن أبي الذئب عن الزهري فذكر فيه ضربتين رواه ابن مردويه وعند الدارقطني ' لما تمرغ عمار رضي الله تعالى عنه وسأله رسول الله
فضرب بكفه ضربة إلى الأرض ثم نفضها وقال تمسح بها وجهك وكفيك إلى الرسغين ' وقال لم يروه عن حسين مرفوعا غير إبراهيم بن طهمان ووافقه شعبة وزائدة وغيرهما وعند الأثرم من رواية عنه ' ثم تمسح بوجهك وكفيك إلى الرسغين ' وفي الأوسط للطبراني عن عمار ' تمسح وجهك وكفيك بالتراب ضربة للوجه وضربة للكفين ' وقال لم يروه يعني عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن أبزى إلا إبراهيم بن محمد الأسلمي وفي المعجم الكبير له ' وضربة لليدين إلى المنكبين ظهرا وبطنا ' وفي لفظ ' ومن بطون أيديهم إلى الآباط ' وفي لفظ ' إلى المناكب والآباط ' وفي لفظ ' أما كان يكفيك من ذاك التيمم فإذا قدرت على الماء اغتسلت ' وفي لفظ ' عزبت في الإبل فأجنبت فأمرني بالتيمم وكنت تمعكت في التراب ' وفي الكنى للنسائي أنه قال لعمر رضي الله عنه ' أما تذكر أنا كنا نتناوب رعية الإبل فأجنبت ' وعند البيهقي بسند صحيح ' أن النبي
قال له إلى المرفقين '
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' جاء رجل ' وفي رواية للطبراني ' من أهل البادية ' وفي رواية سليمان بن حرب الآتية أن عبد الرحمن بن أبزى شهد ذلك قوله ' أني أجنبت ' بفتح الهمزة أي صرت جنبا ويروى جنبت بضم الجيم وكسر النون قوله ' فلم أصب الماء ' بضم الهمزة من الإصابة أي لم أجد قوله ' أما تذكر ' الهمزة للاستفهام وكلمة ما للنفي قوله ' في سفر ' وفي رواية مسلم ' في سرية ' قوله ' أنا كنا في سفر ' في محل النصب لأنه مفعول تذكر قوله ' أنا وأنت ' تفسير لضمير الجمع في كنا قوله ' فأما أنت ' تفصيل لما وقع من عمار وعمر رضي الله تعالى عنهما ولم يذكر في هذه الرواية جواب عمر وكذلك روى البخاري هذا الحديث في الباب الذي يليه من رواية ستة أنفس عن شعبة ولم يذكر فيها جواب عمر وذكره مسلم من طريق يحيى بن سعيد والنسائي عن حجاج بن محمد فقال ' لا تصل ' وزاد السراج ' حتى تجد الماء ' وهذا مذهب مشهور عن عمر رضي الله تعالى عنه ووافقه عليه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وجرت فيه مناظرة بين أبي موسى وابن مسعود على ما سيأتي في باب التيمم ضربة وقيل أن ابن مسعود رجع عن ذلك (فإن قلت) كيف
18

جاز لعمر رضي الله تعالى عنه ترك الصلاة (قلت) معناه أنه لم يصل بالتيمم لأنه كان يتوقع الوصول إلى الماء قبل خروج الوقت أو أنه جعل آية التيمم مختصة بالحدث الأصغر وأدى اجتهاده إلى أن الجنب لا يتيمم قوله ' فتمعكت ' وفي الرواية الآتية بعد ' فتمرغت ' بالغين المعجمة أي تقلبت
(ذكر استنباط الأحكام) الأول فيه أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن يرى للجنب التيمم لقول عمار له ' فأما أنت فلم تصل ' وقد ذكرنا أن البخاري لم يسق هذا الحديث بتمامه والأئمة الستة أخرجوه مطولا ومختصرا وروى أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبزى ' قال كنت عند عمر رضي الله تعالى عنه فجاءه رجل فقال إنا نكون بالمكان الشهر أو الشهرين فقال عمر أما أنا فلم أكن أصلي حتى أجد الماء قال فقال عمار يا أمير المؤمنين أما تذكر إذ كنت أنا وأنت في الإبل فأصابتنا جنابة فأما أنا فتمعكت فأتينا النبي
فذكرت ذلك له فقال إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع فقال عمر يا عمار اتق الله فقال يا أمير المؤمنين إن شئت والله لم أذكره أبدا فقال عمر كلا والله لنولينك ما توليت '. الثاني فيه دليل على صحة القياس لقول عمار ' أما أنا فتمعكت ' فإنه اجتهد في صفة التيمم ظنا منه أن حالة الجنابة تخالف حالة الحدث الأصغر فقاسه على الغسل وهذا يدل على أنه كان عنده علم من أصل التيمم ثم أنه لما أخبر به النبي
علمه صفة التيمم فإنه للجنابة والحدث سواء * الثالث فيه صفة التيمم وهي ضربة واحدة للوجه واليدين وبه قال عطاء والشعبي في رواية والأوزاعي في أشهر قوليه وهو مذهب أحمد واسحق والطبري وقال أبو عمر وهو أثبت ما روى في ذلك عن عمار وسائر أحاديث عمار مختلف فيها وأجابوا عن هذا بأن المراد ههنا هو صورة الضرب للتعليم وليس المراد جميع ما يحصل به التيمم وقد أوجب الله غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء ثم قال في التيمم * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * والظاهر أن اليد المطلقة ههنا هي المقيدة في الوضوء من أول الآية فلا يترك هذا الصريح إلا بدلالة صريح (فإن قلت) ما تقول في حديثه ' تيممنا مع النبي
إلى المناكب والآباط ' (قلت) ليس هو مخالفا لحديث الوجه والكفين ففي هذا دلالة أنه انتهى إلى ما علمه النبي
وقال ابن أبي حازم لا يخلو أن يكون حديث عمار بأمر أولا فإن يكن عن غير أمر فقد صح عن النبي
خلافه وإن كان عن أمر فهو منسوخ وناسخه حديث عمار أيضا * ثم إن العلماء اختلفوا في كيفية التيمم فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم والليث بن سعد إلى أنه ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين غير أن عند مالك إلى الكوعين فرض وإلى المرفقين اختيار وقال الحسن بن حيي وابن أبي ليلى التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه * وقال الخطابي لم يقل ذلك أحد من أهل العلم غيرهما في علمي * وقال الزهري يبلغ بالتيمم الآباط وفي شرح الأحكام لابن بزيزة قالت طائفة من العلماء يضرب أربع ضربات ضربتان للوجه وضربتان لليدين وقال ابن بزيزة وليس له أصل من السنة * وقال بعض العلماء يتيمم الجنب إلى المنكبين وغيره إلى الكوعين قال وهو قول ضعيف وفي القواعد لابن رشد روى عن مالك الاستحباب إلى ثلاث والفرض اثنتان وقال ابن سيرين ثلاث ضربات الثالثة لهما جميعا وفي رواية عنه ضربة للوجه وضربة للكف وضربة للذراعين انتهى ولما كانت لعمار في هذا الباب أحاديث مختلفة مضطربة وذهب كل واحد من المذكورين إلى حديث
منها كان الرجوع في ذلك إلى ظاهر الكتاب وهو يدل على ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين قياسا على الوضوء اتباعا بما روى في ذلك من أحاديث تدل على الضربتين إحداهما للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين. منها حديث الأسلع بن شريك التميمي خادم النبي
وقد ذكرناه فيما مضى عن قريب وفيه ضربتان رواه الطحاوي والطبراني والدارقطني والبيهقي. ومنها حديث ابن عمر رواه الدارقطني مرفوعا من حديث نافع عن ابن عمر عن النبي
قال ' التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ' قال الدارقطني كذا رواه علي بن طهمان مرفوعا ووقفه يحيى القطان وهشيم وغيرهما وهو الصواب ورواه الطحاوي أيضا من طرق موقوفا * ومنها حديث جابر رضي الله عنه رواه الدارقطني من حديث أبي الزبير عن
19

جابر عن النبي
قال ' التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين ' وأخرجه البيهقي أيضا والحاكم أيضا من حديث اسحق الحربي وقال هذا إسناد صحيح وقال الذهبي أيضا إسناده صحيح ولا يلتفت إلى قول من يمنع صحته وأخرجه الطحاوي وابن أبي شيبة موقوفا ووردت في ذلك آثار صحيحة. منها ما رواه الطحاوي من حديث قتادة عن الحسن أنه قال ' ضربة للوجه والكفين وضربة للذراعين إلى المرفقين ' وروى عن إبراهيم وطاووس وسالم والشعبي وسعيد بن المسيب نحوه وروى محمد عن أبي حنيفة قال حدثنا حماد عن إبراهيم في التيمم ' قال تضع راحتيك في الصعيد فتمسح وجهك ثم تضعهما الثانية فتمسح يديك وذراعيك إلى المرفقين ' قال محمد وبه نأخذ وقال ابن أبي شيبة في مصنفه أخبرنا ابن مهدي عن زمعة عن ابن طاوس عن أبيه قال ' التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين ' حدثنا ابن علية عن داود عن الشعبي قال ' التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ' وروى في ذلك أيضا عن أبي أمامة وعائشة رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ولكنهما ضعيفان فحديث أبي أمامة أخرجه الطبراني بإسناده إليه عن النبي
' قال التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ' وفي إسناده جعفر بن الزبير قال شعبة وضع أربع مائة حديث وحديث عائشة أخرجه البزار بإسناده عنها عن النبي
قال ' في التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ' وفي إسناده الحريش بن حريث ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة. الرابع احتج به أبو حنيفة على جواز التيمم من الصخرة التي لا غبار عليها لأنه لو كان معتبرا لما نفخ
في يديه. الخامس فيه أن النفخ سنة أو مستحب
5
((باب التيمم للوجه والكفين))
أي: هذا باب فيه بيان أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ومعنى أحاديث هذا الباب هو معنى الحديث الذي في الباب السابق، غير أنه روي هناك عن آدم عن شعبة مرفوعا، وههنا أخرجه عن ستة مشايخ كلهم عن شبعة، ثلاثة منها موقوفة، وثلاثة مرفوعة، كما ستقف عليها، وههنا: عن حجاج عن شعبة، وحجاح هو ابن منهال، بكسر الميم. وقوله: باب، منون خبر مبتدأ محذوف أي: التيمم، كما ذكرنا. وقوله؛ التيمم للوجه، مبتدأ، والكفين، عطف على: الوجه، أي: وللكفين، وخبره محذوف أي: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين كما قررناه الآن، ثم يقدر بعد ذلك لفظة: جوازا، يعني من حيث الجواز، أو يقدر وجوبا، يعني من حيث الوجوب. والمقصود منه إثبات أن التيمم ضربة واحدة سواء كان وجوبا أو جوازا. وقال بعضهم؛ باب التيمم للوجه والكفين، أي: هو الواجب المجزىء. قلت: تقييده بالوجوب لا يفهم منه، لأنه أعم من ذلك، ثم قال هذا القائل: وأتى بذلك بصيغة الجزم مع شهرة الخلاف فيه لقوة دليله، فإن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه، والراجح عدم رفعه. وأما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملا، وأما حديث عمار فورد بذكر الكفين في الصحيحين: وبذكر المرفقين في (السنن). انتهى. قلت: قوله: لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار، غير مسلم، وكنا قد ذكرنا أنه روي فيه عن جابر مرفوعا: (إن التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين)، وأن الحاكم قال: إسناده صحيح، وأن الذهبي قال: إسناده صحيح، ولا يلتفت إلى قول من يمنع صحته. فإن قلت: رواه جماعة موقوفا. قلت: الرفع أقوى وأثبت لأنه أسند من وجهين، وقوله: أما حديث أبي جهيم فورد بذكر اليدين مجملا، غير صحيح، ولا يطلق عليه حد الإجمال، بل هو مطلق يتناول إلى الكفين وإلى المرفقين وإلى ما وراء ذلك، ولكن رواية الدارقطني في هذا الحديث خصصته وفسرته، بقوله: (فمسح بوجهه وذراعيه). فإن قلت: هذا القائل لم يرد الإجمال الاصطلاحي، بل أراد الإجمال اللغوي. قلت: إن كان ذلك فحديث الدارقطني أوضحه وكشفه، كما ذكرنا.
933 ح دثنا حجاج قال أخبرنا شعبة أخبرني الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال عمار بهذا وضرب شعبة بيديه الأرض ثم أدناهما من فيه ثم مسح وجهه وكفيه.
20

قد ذكرنا أن البخاري أخرج هذا الحديث في هذا الباب عن ستة من المشايخ. الأول: موقوف يرويه عن حجاج بن منهال إلى آخره، وأخرجه الطحاوي: حدثنا محمد بن خزيمة قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني الحكم عن ذر عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار رضي ا تعالى عنه: (أن رسول الله قال له: إنما كان يكفيك هكذا وضرب شعبة بكفيه إلى الأرض وأدناهما من فيه، فنفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه). ثم قال الطحاوي: هكذا قال محمد بن خزيمة في إسناد هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، وإنما هو عن ذر عن ابن عبد الرحمن عن أبيه. قال بعضهم: أشار الطحاوي إلى أنه وهم فيه، لأنه أسقط لفظة (ابن)،
ولا بد منها لأن: أبزى، والد عبد الرحمن لا رواية له في هذا الحديث. قلت: رواية محمد بن خزيمة المذكورة تبتنى على صحة قول من يقول: إن أبزى والد عبد الرحمن صحابي، وهو قول ابن منده، فإنه جعله من الصحابة، وروى بإسناده عن هشام عن عبيد ا الرازي عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حبان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، (عن رسول الله أنه: خطب للناس قائما، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم)؟. الحديث، ورواه إسحاق بن راهويه في (المسند) عن محمد بن أبي سهل عن بكير بن معروف عن مقاتل عن علقمة بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن جده عن النبي بهذا، وقد رده أبو نعيم عليه، وقال: ذكر ابن منده أن البخاري ذكره في كتاب الوجدان، وأخرج له حديث أبي سلمة عن ابن أبزى عن النبي، ولم يقل فيه: عن أبيه، وقال ابن الأثير: أبزى، والد عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، ذكره البخاري في الوجدان، ولا يصح له صحبة ولا رواية، ولابنه عبد الرحمن صحبة ورواية. قلت: وكذلك لم يذكر أبو عمر: أبزى في الصحابة، وإنما ذكر عبد الرحمن لأنه لم يصح عنده صحبة أبزى، ومع هذا وقع الاختلاف في صحبة عبد الرحمن أيضا، فإن ابن حبان ذكره في التابعين، وقال: أبو بكر بن أبي داود: لم يحدث ابن أبي ليلى من التابعين إلا عن ابن أبزى، وقال البخاري: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي وصلى خلفه، روى عنه ابناه عبد ا وسعيد.
ذكر رجاله: وهم سبعة. الأول: حجاج بن منهال. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: الحكم بن عتيبة. الرابع: ذر بن عبد ا الهمداني. الخامس: سعيد بن عبد الرحمن. السادس: أبوه عبد الرحمن بن أبزى. السابع: عمار بن ياسر رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد، وهو قوله: (أخبرني الحكم) وهو رواية كريمة، والأصيلي وابن المنذر، وفي راية غيرهم عن الحكم. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: عن سعيد بن عبد الرحمن وهو رواية أبي ذر وأبي الوقت، وفي رواية غيرهما: عن ابن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (قال عمار بهذا)، أشار به إلى سياق المتن الذي قبله، من رواية آدم عن شعبة: وهو كذلك، إلا أنه ليس في رواية حجاج هذه قصة عمر رضي ا تعالى عنه. قوله: (وضرب شعبة) مقول الحجاج. قوله: (ثم أدناهما) أي: قربهما من فيه، وهي كناية عن النفخ، وفيه إشارة إلى أنه كان خفيفا، وفي رواية سليمان بن حرب: نقل فيهما، قال أهل اللغة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وبقية الكلام قد مرت مستوفاة.
وقال النضر أخبرنا شعبة عن الحكم قال سمعت ذرا يقول عن ابن عبد الرحمن ابن أبزى ا قال الحكم وقد سمعته من ابن عبد الرحمن عن أبيه قال قال عمار الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.
الكلام فيه على أنواع.
الأول: أنه تعليق، وقد وصله مسلم عن إسحاق بن منصور عن النضر. وأخرجه أبو نعيم في (مستخرجه) من طريق إسحاق بن راهويه عنه، وقال الكرماني: قال النضر من كلام البخاري: والظاهر أنه علق عن النضر لأنه مات سنة ثلاث ومائتين بالعراق، وكان البخاري حينئذ ابن سبع سنين ببخاري.
النوع الثاني في رجاله: وهم تسعة. الأول: النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن شميل، والبقية ذكروا غير مرة. وفيه: القول أولا والإخبار بصيغة الجمع ثانيا، والعنعنة ثالثا، والقول رابعا وخامسا بينهما السماع، والعنعنة سادسا، والقول سابعا، والسماع ثامنا، والعنعنة تاسعا، والقول عاشرا. قوله: (قال الحكم): الخ إشارة إلى أن الحكم كما سمع هذا الخبر من ذر، سمعه أيضا من شيخ ذر وهو سعيد بن عبد الرحمن، فكأنه
21

سمعه أولا من ذر ثم لقي سعيدا فأخذه عنه، ولكن سماعه من ذر أثبت لوروده كذا في أكثر الروايات. ثم قوله: (وقال الحكم): يحتمل أن يكون تعليقا من البخاري، ويحتمل أن يكون من كلام شعبة فيكون داخلا في إسناده. كذا قاله الكرماني. قلت: يحتمل أن يكون من كلام النضر، وهو الظاهر.
(النوع الثالث في معناه: قوله: (الصعيد الطيب) أي: الأرض الطاهرة، وقد مر مرة أن الصعيد وجه الأرض، فعيل بمعنى مفعول أي مصعود عليه، وقال قتادة: الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر، وقال أبو إسحاق: الطيب النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر. وقيل: الحلال، وقيل: الطيب، ما تستطيبه النفس، وذكر في (الهداية) في استدلال الشافعي على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب، بقوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) أي: ترابا منبتا، قاله ابن عباس قلت: في شرحه الذي قاله عبد ا بن عباس، رواه البيهقي من جهة قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: أطيب الصعيد حرث الأرض، والاستدلال للشافعي بهذا غير موجه لأنه غير قائل باشتراط الإنبات في التراب الذي يجوز به التيمم. وقال النووي: الإنبات ليس بشرط في الأصح. قوله: (يكفيه من الماء)، يعني: يكفي المسلم، أي: يجزيه عند عدم الماء.
933 ح دثنا حجاج قال أخبرنا شعبة أخبرني الحكم عن ذر عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال عمار بهذا وضرب شعبة بيديه الأرض ثم أدناهما من فيه ثم مسح وجهه وكفيه.
قد ذكرنا أن البخاري أخرج هذا الحديث في هذا الباب عن ستة من المشايخ. الأول: موقوف يرويه عن حجاج بن منهال إلى آخره، وأخرجه الطحاوي: حدثنا محمد بن خزيمة قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني الحكم عن ذر عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار رضي ا تعالى عنه: (أن رسول الله قال له: إنما كان يكفيك هكذا وضرب شعبة بكفيه إلى الأرض وأدناهما من فيه، فنفخ فيهما، ثم مسح وجهه وكفيه). ثم قال الطحاوي: هكذا قال محمد بن خزيمة في إسناد هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه، وإنما هو عن ذر عن ابن عبد الرحمن عن أبيه. قال بعضهم: أشار الطحاوي إلى أنه وهم فيه، لأنه أسقط لفظة (ابن)،
ولا بد منها لأن: أبزى، والد عبد الرحمن لا رواية له في هذا الحديث. قلت: رواية محمد بن خزيمة المذكورة تبتنى على صحة قول من يقول: إن أبزى والد عبد الرحمن صحابي، وهو قول ابن منده، فإنه جعله من الصحابة، وروى بإسناده عن هشام عن عبيد ا الرازي عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حبان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، (عن رسول الله أنه: خطب للناس قائما، ثم قال: ما بال أقوام لا يعلمون جيرانهم ولا يفقهونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم)؟. الحديث، ورواه إسحاق بن راهويه في (المسند) عن محمد بن أبي سهل عن بكير بن معروف عن مقاتل عن علقمة بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن جده عن النبي بهذا، وقد رده أبو نعيم عليه، وقال: ذكر ابن منده أن البخاري ذكره في كتاب الوجدان، وأخرج له حديث أبي سلمة عن ابن أبزى عن النبي، ولم يقل فيه: عن أبيه، وقال ابن الأثير: أبزى، والد عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، ذكره البخاري في الوجدان، ولا يصح له صحبة ولا رواية، ولابنه عبد الرحمن صحبة ورواية. قلت: وكذلك لم يذكر أبو عمر: أبزى في الصحابة، وإنما ذكر عبد الرحمن لأنه لم يصح عنده صحبة أبزى، ومع هذا وقع الاختلاف في صحبة عبد الرحمن أيضا، فإن ابن حبان ذكره في التابعين، وقال: أبو بكر بن أبي داود: لم يحدث ابن أبي ليلى من التابعين إلا عن ابن أبزى، وقال البخاري: له صحبة، وذكره غير واحد في الصحابة، وقال أبو حاتم: أدرك النبي وصلى خلفه، روى عنه ابناه عبد ا وسعيد.
ذكر رجاله: وهم سبعة. الأول: حجاج بن منهال. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: الحكم بن عتيبة. الرابع: ذر بن عبد ا الهمداني. الخامس: سعيد بن عبد الرحمن. السادس: أبوه عبد الرحمن بن أبزى. السابع: عمار بن ياسر رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد، وهو قوله: (أخبرني الحكم) وهو رواية كريمة، والأصيلي وابن المنذر، وفي راية غيرهم عن الحكم. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: عن سعيد بن عبد الرحمن وهو رواية أبي ذر وأبي الوقت، وفي رواية غيرهما: عن ابن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (قال عمار بهذا)، أشار به إلى سياق المتن الذي قبله، من رواية آدم عن شعبة: وهو كذلك، إلا أنه ليس في رواية حجاج هذه قصة عمر رضي ا تعالى عنه. قوله: (وضرب شعبة) مقول الحجاج. قوله: (ثم أدناهما) أي: قربهما من فيه، وهي كناية عن النفخ، وفيه إشارة إلى أنه كان خفيفا، وفي رواية سليمان بن حرب: نقل فيهما، قال أهل اللغة: التفل دون البزق، والنفث دونه، وبقية الكلام قد مرت مستوفاة.
وقال النضر أخبرنا شعبة عن الحكم قال سمعت ذرا يقول عن ابن عبد الرحمن ابن أبزى ا قال الحكم وقد سمعته من ابن عبد الرحمن عن أبيه قال قال عمار الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.
22

الكلام فيه على أنواع.
الأول: أنه تعليق، وقد وصله مسلم عن إسحاق بن منصور عن النضر. وأخرجه أبو نعيم في (مستخرجه) من طريق إسحاق بن راهويه عنه، وقال الكرماني: قال النضر من كلام البخاري: والظاهر أنه علق عن النضر لأنه مات سنة ثلاث ومائتين بالعراق، وكان البخاري حينئذ ابن سبع سنين ببخاري.
النوع الثاني في رجاله: وهم تسعة. الأول: النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن شميل، والبقية ذكروا غير مرة. وفيه: القول أولا والإخبار بصيغة الجمع ثانيا، والعنعنة ثالثا، والقول رابعا وخامسا بينهما السماع، والعنعنة سادسا، والقول سابعا، والسماع ثامنا، والعنعنة تاسعا، والقول عاشرا. قوله: (قال الحكم): الخ إشارة إلى أن الحكم كما سمع هذا الخبر من ذر، سمعه أيضا من شيخ ذر وهو سعيد بن عبد الرحمن، فكأنه سمعه أولا من ذر ثم لقي سعيدا فأخذه عنه، ولكن سماعه من ذر أثبت لوروده كذا في أكثر الروايات. ثم قوله: (وقال الحكم): يحتمل أن يكون تعليقا من البخاري، ويحتمل أن يكون من كلام شعبة فيكون داخلا في إسناده. كذا قاله الكرماني. قلت: يحتمل أن يكون من كلام النضر، وهو الظاهر.
(النوع الثالث في معناه: قوله: (الصعيد الطيب) أي: الأرض الطاهرة، وقد مر مرة أن الصعيد وجه الأرض، فعيل بمعنى مفعول أي مصعود عليه، وقال قتادة: الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر، وقال أبو إسحاق: الطيب النظيف، وأكثر العلماء على أنه الطاهر. وقيل: الحلال، وقيل: الطيب، ما تستطيبه النفس، وذكر في (الهداية) في استدلال الشافعي على أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب، بقوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) أي: ترابا منبتا، قاله ابن عباس قلت: في شرحه الذي قاله عبد ا بن عباس، رواه البيهقي من جهة قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: أطيب الصعيد حرث الأرض، والاستدلال للشافعي بهذا غير موجه لأنه غير قائل باشتراط الإنبات في التراب الذي يجوز به التيمم. وقال النووي: الإنبات ليس بشرط في الأصح. قوله: (يكفيه من الماء)، يعني: يكفي المسلم، أي: يجزيه عند عدم الماء.
0437 ح دثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الحكم عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أنه شهد عمر وقال له عمار كنا في سرية فأجنبنا وقال تفل فيهما.
هذه روايته الثالثة في الخبر المذكور، وهي عن سليمان بن حرب يروي عن شعبة إلى آخره. وأفادت روايته هذه أن عمر رضي ا تعالى عنه، كان قد أجنب، والدليل عليه أن اجتهاده خالف اجتهاد عمار. قوله: (شهد) أي: حضر. قوله: (وقال له عمار)، جملة وقعت حالا. قوله: (في سرية) بتخفيف الراء وتشديد الياء آخر الحروف، وهي القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة تبعث إلى العدو، وجمعها: السرايا، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس. وقيل: سموا بذلك لأنهم يبعثون سرا وخفية، وليس بالوجه، لأن لام السر: راء، وهذه: ياء، قوله: (فأجنبنا) أي: صرنا جنبا، والجنب يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، والمؤنث، وقد ذكرناه. قوله: (وقال تفل فيهما) أي: في اليدين، وهو بالتاء المثناة من فوق. قال الجوهري: التفل شبيه بالبزاق، وهو أقل
منه، أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ، والمقصود أنه قال مكان نفخ فيهما: تفل فيهما.
1438 ح دثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن الحكم عن ذر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن عبد الرحمن قال قال عمار لعمر تمعكت فأتيت النبي فقال: (يكفيك الوجه والكفين).
هذه روايته الرابعة عن محمد بن كثير عن شعبة الخ. قوله: (تمعكت) أي: تمرغت، وكذا هو في رواية. قوله: (يكفيك الوجه)، أي: يكفيك مسح الوجه والكفين في التيمم. قوله: (والكفين)، بالنصب رواية أبي ذر وكريمة، وفي رواية الأصيلي وغيره: (والكفان) بالرفع، وهو الظاهر لأنه معطوف على الوجه وهو مرفوع على الفاعلية، والأحسن في وجه النصب أن تكون: الواو، بمعنى: مع، أي: يكفيك الوجه مع الكفين. وقال الكرماني: الواو، بمعنى: مع، إذا الأصل مسح الوجه والكفين، فحذف المضاف وبقي المجرور به على ما كان عليه. انتهى. قلت: على قوله هذا ينبغي أن يكون الوجه أيضا مجرورا كالكفين، وهذا له وجه إن صحت الرواية به، وقال بعضهم في رواية أبي ذر: (يكفيك الوجه والكفين)، بالنصب فيهما على المفعولية إما بإضمار، أعني: أو التقدير يكفيك أن تمسح الوجه والكفين. انتهى. قلت: هذا كلام من ليس له مس من العربية. لأن في التقدير:
الأول: يبقى الفعل بلا فاعل وهو لا يجوز، وفي الثاني: أخذ الفعل فاعله فلا يحتاج إلى هذا التقدير لعدم الداعي إلى ذلك، والوجه ما ذكرناه.
ويستنبط منه: أن التيمم هو مسح الوجه والكفين لا غير، كما ذكرناه، وإليه ذهب جماعة منهم: أحمد وإسحاق، وقال النووي: رواه أبو ثور وغيره عن الشافعي في القديم، وأنكره الماوردي وغيره. قال: هو إنكار مردود لأن أبا ثور ثقة وقال هذا القول وإن كان مرجوحا عند الأصحاب ولكنه قوي من حيث الدليل، وقد ذكرنا أن المراد من هذا الحديث
22

بيان صورة الضرب للتعليم لا لبيان جميع ما يحصل به التيمم. وقال بعضهم: ويعقب بأن سياق الكلام يدل على التصريح أن المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، لأن ذلك هو الظاهر من قوله: إنما يكفيك. انتهى. قلت: قال الطحاوي وغيره. إن حديث عمار لا يصلح حجة في كون التيمم إلى الكفين أو الكوعين أو المرفقين أو المنكبين أو الإبطين، كما ذهبت إلى كل واحد طائفة من أهل العلم، وذلك لاضطرابه كما قد رأيت، فلذلك قال الترمذي: وقد ضعف بعض أهل العلم حديث عمار في التيمم للوجه والكفين لما روى عنه حديث المناكب والأباط.
6
((باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء))
أي: هذا باب يبين فيه الصعيد الطيب إلى آخره، وباب، بالتنوين. قوله: (الصعيد) مبتدأ (والطيب) صفته، وقوله: (وضوء المسلم) خبره. وقد ذكرنا عن قريب معنى: الصعيد الطيب. قوله: (يكفيه) أي: يجزيه ويغنيه عن الماء عند عدمه حقيقة أو حكما، ومثل هذه الترجمة روى البزار من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه ابن القطان. وقال الدارقطني: الصواب إرساله، وروى أبو داود من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر: (اجتمعت غنيمة عند رسول ا) الحديث، وفيه، فقال: (الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين). ورواه الترمذي أيضا، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي وابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (المستدرك) وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه، ولا يلتفت إلى تضعيف ابن القطان لهذا الحديث بعمرو بن بجدان لكون حاله لا يعرف، ويكفي تصحيح الترمذي إياه في معرفة حال عمرو بن بجدان، وبجدان، بضم الباء الموحدة وسكون الجيم بعدها دال مهملة وفي آخره نون. قوله: (ولو إلى عشر سنين) المراد بها الكثرة لا العشرة، وتخصيص العشرة لأجل الكثرة لأنها منتهى عدد الآحاد. والمعنى: أن له أن يفعل التيمم مرة بعد أخرى، وإن بلغت مدة عدم الماء إلى عشر سنين، وليس معناه: أن التيمم دفعة واحدة يكفيه عشر سنين.
وقال الحسن يجزئه التيمم ما لم يحدث.
أي: قال الحسن البصري: يكفيه التيمم الواحد ما لم يحدث، أي: مدة عدم الحدث. قوله: (يجزئه)، بضم الياء وبالهمزة في آخره من: الإجزاء، وهو لغة: الكفاية، واصطلاحا: الأداء الكافي لسقوط التعبد به، ويروى: (يجزيه)، بفتح الياء الأولى وسكون الثانية. وقال الجوهري: جزأت بالشيء اكتفيت به، وجزى عني هذا، أي: قضى فهو على التقديرين لازم، فلعل التقدير:
23

يقضي عن الماء التيمم، فحذف الجار وأوصل الفعل، والقصد أن التيمم حكمه حكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به والنوافل ما لم يحدث بأحد الحدثين، وهو قول أصحابنا، وبه قال إبراهيم وعطاء وابن المسيب والزهري والليث والحسن بن حيي وداود بن علي، وهو المنقول عن ابن عباس رضي ا تعالى عنهما. وقال الشافعي: يتيمم لكل صلاة فرض، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وهو قول قتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري وشريك والليث وأبي ثور، وذكره البيهقي عن ابن عمر وابن عباس من طرق ضعيفة، ومن حديث قتادة عن عمرو بن العاص والحارث عن علي بن أبي طالب رضي ا تعالى عنهم. وعند الحاكم مصححا من حديث أبي ذر، وقد طول الكرماني في الاحتجاج للشافعي ومن تبعه في هذا من طريق العقل والنقل يبطله، ثم إن البخاري ذكر عن الحسن معلقا، ووصله ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن. قال: (لا ينقض التيمم إلا الحدث)، وحكاه أيضا عن إبراهيم وعطاء، ووصله أيضا عبد الرزاق، ولفظه: (يجزئ تيمم واحد ما لم يحدث). ووصله أبو منصور أيضا، ولفظه: (التيمم بمنزلة الوضوء، إذا توضأت فأنت على وضوء حتى تحدث). وقال ابن حزم: وروينا عن حماد بن سلمة، يعني من (مصنفه) عن يونس بن عبيد عن الحسن، قال: (يصلي الصلوات كلها بتيمم واحد، مثل الوضوء، ما لم بحدث).
وأم ابن عباس وهو متيمم.
50
50 هذا التعليق وصله ابن بي شيبة والبيهقي أيضا بإسناد صحيح.
ثم وجه مناسبة هذا للترجمة من حيث إن التيمم وضوء المسلم، فإذا كان كذلك تجوز إمامة المتيمم للمتوضىء كإمامة المتوضىء، فدل ذلك على أن التيمم طهارة مطلقة غير ضرورية، إذ لو كان ضروريا لكان ضعيفا، ولو كان ضعيفا لما أم ابن عباس وهو متيمم بمن كان متوضئا، وهذا مذهب أصحابنا، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. عن محمد بن الحسن: لا يجوز، وبه قال الحسن بن حيي، وكره مالك وعبد ا بن الحسن ذلك، فإن فعل أجزأه. وقال ربيعة: لا يؤم المتيمم من جنابته إلا من هو مثله، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري. وقال الأوزاعي: لا يؤمهم إلا إذا كان أميرا، كذا قاله ابن حزم. وقال أبو طالب: سألت أبا عبد ا عن الجنب يؤم المتوضئين؟ قال: نعم قد أم ابن عباس أصحابه وفيهم عمار بن ياسر وهو جنب، فتيمم، وعمرو بن العاص صلى بأصحابه وهو جنب، فأخبر النبي فتبسم. قلت: حسان بن عطية سمع من عمرو بن العاص؟ قال: لا ولكن يقوى بحديث ابن عباس. فإن قلت: قد روي عن جابر مرفوعا: (لا يؤم المتيمم المتوضئين)، وعن علي بن أبي طالب موقوفا: (لا يؤم المتيمم المتوضئين، ولا المقيد المطلقين). قلت: هذان حديثان ضعيفان، ضعفهما الدارقطني وابن حزم وغيرهما. فإن قلت: ذكر أبو حفص بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ من حديث الزهري عن ابن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مرفوعا: (لا يؤم المتيمم المتوضئين). قلت: لما ذكره ابن شاهين ذكر بعده حديث عمرو بن العاص، ثم قال: يحتمل أن يكون هذا الحديث ناسخا للأول، وهذا الحديث أجود إسنادا من حديث الزهري، وإن صح فيحتمل أن يكون النهي في ذلك لضرورة وقعت مع وجود الماء. فإن قلت: يكون هذا رخصه لعمرو إذ لم ينهه ولم يأمره بالإعادة. قلت: لو كان رخصة له دون غيره لم يقل له؛ أحسنت وضحك في وجهه، وقال بعضهم: هذه المسألة وافق فيها الكوفيون والجمهور على خلاف ذلك. قلت: هذا عكس القضية، بل الجمهور على الموافقة، يقف عليه من يمعن النظر في الكتب. وقال هذا القائل أيضا: واحتج المصنف لعدم الوجوب بعموم قوله في حديث الباب: (فإنه يكفيك) أي: ما لم تحدث أو تجد الماء، وحمله الجمهور على أعم من ذلك، أي: لفريضة واحدة وما شئت من النوافل. انتهى. قلت: معنى قوله: (فإنه يكفيك) أي: في كل الصلوات فرضها ونفلها، وهذا هو معنى الأعمية، وليس في قوله: لفريضة واحدة وما شئت من النوافل معنى الأعمية، لأن معنى الأعمية في شيء أن يكون شاملا لجميع أفراد ذلك الشيء، وليس لقوله: لفريضة واحدة، إفراد. وأما النفل فإنه تبع للفرض، والتابع ليس له حكم مستقبل بل، حكمه حكم المتبوع. فافهم.
وقال يحيى بن سعيد لا بأس بالصلاة على السبخة والتيمم بها.
يحيى بن سعيد هو الأنصاري، ومطابقة هذا للترجمة من حيث إن معنى الطيب الطاهر والسبخة طاهرة، فتدخل تحت الطيب. ويدل عليه ما رواه ابن خزيمة من حديث عائشة رضي ا تعالى عنها، في شأن الهجرة، أنه قال: (أرأيت دار
24

هجرتكم سبخة ذات نخيل) يعني المدينة، قال: وقد سمى النبي المدينة طيبة فدل على أن السبخة داخلة في الطيب، ولم يخالف في ذلك إلا إسحاق بن راهويه، ولم يجوز التيمم بها، والسبخة بفتح حروفها كلها، واحدة السباخ. فإذا قلت: أرض سبخة، كسرت الباء. وقال ابن سيده: هي أرض ذات ملح ونزو، وجمعها: سباخ، وقد سبخت سبخا فهي سبخة، وأسبخت. وقال غيره: هي أرض تعلوها ملوحة لا تكاد تنبت إلا بعض الشجر. وفي (الباهر) لابن عديس: سبخت، بكسر الباء وفتحها. وفي (شرح الموطأ) لعبد الملك بن حبيب: السبخة: الأرض المالحة التي لا تنبت شيئا، وليست الردغة ولا الرداغ كما يقول من لا يعرف.
10 - (حدثنا مسدد قال حدثني يحيى بن سعيد قال حدثنا عوف قال حدثنا أبو رجاء عن عمران قال كنا في سفر مع النبي
وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها فما أيقظنا إلا حر الشمس وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء فنسي عوف ثم عمر بن الخطاب الرابع وكان النبي
إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناس وكان رجلا جليدا فكبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ لصوته النبي
فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم قال لا ضير أو لا يضير ارتحلوا فارتحلوا فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم قال ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم قال أصابتني جنابة ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك ثم سار النبي
فاشتكى إليه الناس من العطش فنزل فدعا فلانا كان يسميه أبو رجاء نسيه عوف ودعا عليا فقال اذهبا فابتغيا الماء فانطلقا فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء على بعير لها فقالا لها أين الماء قالت عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوفا قالا لها انطلقي إذا قالت إلى أين قالا إلى رسول الله
قالت الذي يقال له الصابىء قالا هو الذي تعنين فانطلقي فجاآ بها إلى النبي
وحدثاه الحديث قال فاستنزلوها عن بعيرها ودعا النبي
بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي ونودي في الناس اسقوا واستقوا فسقى من شاء واستقى من شاء وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال اذهب فأفرغه عليك وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملأة منها حين ابتدأ فيها فقال النبي
اجمعوا لها فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعاما فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها ووضعوا الثوب بين يديها قال لها تعلمين ما رزئنا من مائك شيئا ولكن الله هو الذي أسقانا فأتت أهلها وقد احتبست عنهم قالوا ما حبسك يا فلانة قالت العجب لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابىء ففعل كذا وكذا فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه
25

وقالت باصبعيها الوسطى والسبابة فرفعتهما إلى السماء تعني السماء والأرض أو إنه لرسول الله حقا فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون الصرم الذي هي منه فقالت يوما لقومها ما أري أن هؤلاء القوم يدعونكم عمدا فهل لكم في الإسلام فأطاعوها فدخلوا في الإسلام)
مطابقة الحديث للترجمة في قوله ' عليك بالصعيد فإنه يكفيك '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة * الأول مسدد بن مسرهد تقدم * الثاني يحيى بن سعيد القطان قال بندار ما أظن أنه عصى الله تعالى قط قد تقدم * الثالث عوف الأعرابي يقال له عوف الصدوق تقدم في باب اتباع الجنائز من الإيمان * الرابع أبو رجاء بفتح الراء وتخفيف الجيم وبالمد العطاردي اسمه عمران بن ملحان بكسر الميم وسكون اللام وبالحاء المهملة قال البخاري الأصح أنه ابن تيم أدرك زمان الرسول
ولم يره وأسلم بعد الفتح وأتى عليه مائة وعشرون سنة مات في سنة بضع ومائة. الخامس عمران بن حصين بضم الحاء المهملة وفتح المهملة أيضا أسلم عام خيبر وروي له عن رسول الله
مائة حديث وثمانون حديثا للبخاري منها اثنى عشر بعثه عمر رضي الله تعالى عنه إلى البصرة ليفقههم وكانت الملائكة تسلم عليه وكان قاضيا بالبصرة ومات بها سنة اثنتين وخمسين
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه القول وفيه حدثنا يحيى وفي بعض النسخ حدثني يحيى وفيه مسدد بن مسرهد في رواية أبي ذر وفي رواية غيره مسدد بذكره وحده وفيه أن رواته كلهم بصريون.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن أبي الوليد عن سلم بن زرير وأخرجه مسلم في الصلاة عن أحمد بن سعيد الدارمي وعن إسحاق بن إبراهيم وفي المستدرك من حديث الحسن عن عمران ' نمنا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس فأمر المؤذن فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام المؤذن فصلى الفجر ' وقال صحيح على ما قدمنا ذكره في صحة سماع الحسن عن عمران وعند الدارقطني من حديث الحسن عنه ' فصلى ركعتي الفجر حتى إذا أمكننا الصلاة صلينا ' وعند أحمد ' فلما كان آخر الليل عرس فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل يقوم دهشا إلى طهوره قال فأمرهم النبي
أن يسكنوا ثم ارتحلوا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد قال أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم ' وفي صحيح ابن خزيمة فقال
' إنما التفريط في اليقظة ' وعند ابن حزم من حديث إسماعيل بن مسلم حدثنا أبو رجاء ' ثم إن الجنب وجد الماء بعد فأمره أن يغتسل ولا يعيد الصلاة ' وعند مسلم من حديث ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة ' أن رسول الله
حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس قال لبلال اكلأ لنا الليل فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته فغلبته عيناه فلم يستيقظ ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله
أولهم استيقاظا فقال أي بلال فقال بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك ' وعنده أيضا من حديث أبي قتادة ' كنا مع النبي
سبعة رهط فمال عن الطريق فوضع رأسه ثم قال احفظوا علينا صلاتنا فكان أول من استيقظ رسول الله
والشمس في ظهره وقمنا فزعين ' فذكر حديث الميضأة مطولا ' وإن الناس فقدوا نبيهم فقال أبو بكر وعمر رسول الله
يعدكم لم يكن ليخلفكم وقال الناس رسول الله
بين أيديكم ' وعند أبي داود من حديث خالد بن سمير عن عبد الله بن رباح حدثنا أبو قتادة قال ' بعث رسول الله
جيش الأمراء ' فذكره قال أبو عمر ابن عبد البر وقول خالد جيش الأمراء وهم عند الجميع لأن جيش الأمراء كان في موتة وهي سرية لم يشهدها رسول الله
قال ابن حزم وقد خالف خالدا من هو أحفظ منه وعند أبي داود بسند صحيح من حديث جامع بن شداد سمعت عبد الرحمن ابن أبي علقمة عن ابن مسعود قال ' أقبل النبي
من الحديبية ليلا فنزلنا دهاشا من الأرض فقال من يكلأنا فقال بلال أنا قال إذا تنام قال لا فنام بلال حتى طلعت الشمس فاستيقظ فلان وفلان فيهم عمر رضي الله عنه فقال اهضبوا ' أي
26

تكلموا ' وأمضوا فاستيقظ رسول الله
' الحديث وذكر أبو مسلم الكجي في كتاب السنن عن عمرو بن مرزوق أخبرنا المسعودي عن جامع بلفظ ' قال عبد الله لما رجع النبي
من الحديبية قال من يحرسنا قال عبد الله فقلت أنا قال إنك تنام مرتين أو ثلاثا فقال أنت فحرست حتى كان في وجه الصبح أدركني ما قال النبي
فنمت ' الحديث وعند الطبراني وأبي داود بسند لا بأس به عن عمرو بن أمية الضمري ' كنا مع النبي
في سرية فتقدم الناس فقال هل لكم أن نهجع هجعة فمن يكلؤ لنا الليلة قال ذو مخبر أنا فأعطاه خطام ناقته وقال لا تكن لكع قال ذو مخبر فانطلقت غير بعيد فأرسلتها مع
ناقتي ترعيان فغلبني عيني فما أيقظني إلا حر الشمس على وجهي فجئت أدني القوم فأيقظته وأيقظ الناس بعضهم بعضا حتى استيقظ النبي
' وفي الموطأ عن زيد بن أسلم قال ' عرس رسول الله
ليلة بطريق مكة شرفها الله ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ' الحديث وفي كتاب عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني سعد بن إبراهيم عن عطاء بن يسار أن التعرس في غزوة تبوك وكذا ذكره عقبة بن عامر قال ' خرجنا مع النبي
في غزوة تبوك فاسترقد لما كان منها على ليلة فاستيقظ حين كانت الشمس قيد رمح فقال ألم أقل لك يا بلال ' وذكره البيهقي في كتاب الدلائل من حديث عبد الله بن مصعب بن منظور عن أبيه عنه
(ذكر معانيه ولغاته) قوله ' كنا في سفر مع النبي
' اختلفوا في تعيين هذا السفر ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه وقع عند رجوعهم من خيبر وفي حديث ابن مسعود رواه أبو داود ' أقبل النبي
من الحديبية ليلا فنزل فقال من يكلؤنا فقال بلال أنا ' وفي حديث زيد بن أسلم مرسلا أخرجه مالك في الموطأ ' عرس رسول الله
ليلا بطريق مكة ووكل بلالا ' وفي حديث عطاء بن يسار مرسلا رواه عبد الرزاق أن ذلك كان بطريق تبوك وكذا في حديث عقبة بن عامر رواه البيهقي في الدلائل وفي رواية لأبي داود كان ذلك في غزوة جيش الأمراء وقد ذكرنا هذه كلها عن قريب قوله ' إنا أسرينا ' وقال الكرماني وفي بعضها سرينا يعني بدون الهمزة (قلت) يقال سرى وأسرى لغتان وقال الجوهري سريت وأسريت بمعنى إذا سرت ليلا وفي المحكم السرى سير عامة الليل وقيل سير الليل كله والحديث يخالف هذا القول والسري يذكر ويؤنث ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث وقد سرى سرى وسرية وسرية فهو سار وذكر ابن سيده وقد سرى به وأسرى به وأسراه وفي الجامع سرى يسري سريا إذا سار ليلا وكل سائر ليلا فهو سار قوله ' وقعنا وقعة ' أي نمنا نومة كأنهم سقطوا عن الحركة قوله ' ولا وقعة ' كلمة لا لنفي الجنس ووقعة اسمه وقوله ' أحلى ' صفة للوقعة وخبر لا محذوف ويجوز أن يكون أحلى خبرا قوله ' منها ' أي من الوقعة في آخر الليل وهو كما قال الشاعر
* وأحلى الكرى عند الصباح يطيب
*)
* قوله ' وكان أول من استيقظ فلان ' اعلم أن كان ههنا يجوز أن تكون تامة وأن تكون ناقصة فإن كانت ناقصة فقوله أول بالنصب مقدما خبرها واسمها هو قوله فلان وإن كانت تامة بمعنى وجد فلا تحتاج إلى خبر فقوله أول يكون اسمه ويكون قوله فلان بدلا منه قوله ' يسميهم أبو رجاء ' جملة من الفعل والفاعل والمفعول أي يسمى المستيقظين وليس بإضمار قبل الذكر لأن قوله ' استيقظ ' يدل عليه (فإن قلت) ما موقع هذه الجملة من الإعراب (قلت) الأقرب أن تكون حالا وهذه الجملة والتي بعدها وهي قوله ' فنسي عوف ' ليس من كلام عمران بن حصين وإنما هي من كلام الراوي وعوف هو عوف الأعرابي المذكور في الإسناد وقوله ' الرابع ' مرفوع لأنه صفة عمر رضي الله تعالى عنه وعمر مرفوع لأنه معطوف على مرفوع وهو قوله ثم فلان وقال بعضهم ويجوز نصبه على خبر كان (قلت) لم يبين هذا القائل أي كان هذا والأقرب أن يكون مقدرا تقديره ثم كان عمر بن الخطاب الرابع يعني من المستيقظين وقال الكرماني وفي بعضها هو الرابع وقد سمى البخاري في علامات النبوة أول من استيقظ ولفظه ' فكان أول من استيقظ أبو بكر رضي الله تعالى عنه ' فعلى هذا فأبو بكر هو أحد المستيقظين من الأربعة أولا والرابع هو عمر بن الخطاب وبقي اثنان من الذين عدهم أبو رجاء ونسيهم عوف الأعرابي وبعضهم عين الثاني والثالث بالاحتمال فقال يشبه أن يكون الثاني عمران راوي القصة والثالث من شارك عمران في رواية هذه القصة وهو ذو مخبر فإنه قال في حديث عمر بن أمية رواه الطبراني ' فما أيقظني إلا حر الشمس ' وهذا تصرف بالحدس والتخمين
27

قوله ' وكان النبي
إذا نام لم نوقظه ' بنون المتكلم والضمير المنصوب يرجع إلى النبي
وفي بعض النسخ لم يوقظ على صيغة المجهول المفرد (فإن قلت) هذا النوم في هذه القصة هل كان مثل نوم غيره أم لا (قلت) قد يكون نومه كنوم البشر في بعض الأوقات ولكن لا يجوز عليه الإضغاث لأن رؤيا الأنبياء صلوات الله على نبينا وعليهم وحي (فإن قلت) ما تقول في نومه يوم الوادي وقد قال ' إن عيني تنامان ولا ينام قلبي ' قلت نعم هذا حكم قلبه عند نومه وعينيه في غالب الأوقات وقد يندر منه غير ذلك كما يندر من غيره بخلاف عادته والدليل على صحة هذا في الحديث نفسه ' إن الله قبض أرواحنا ' وفي الحديث الآخر ' لو شاء الله لأيقظنا ' ولكن أراد أن يكون لمن بعدكم ويكون هذا منه لأمر يريده الله تعالى من إثبات حكم وإظهار شرع وجواب آخر أن قلبه لا يستغرقه النوم حتى يكون منه الحدث فيه لما روي أنه كان محروسا وأنه كان ينام حتى ينفخ وحتى يسمع غطيطه ثم يصلي ولا يتوضأ (فإن قلت) في حديث ابن عباس المذكور في وضوءه عند قيامه من النوم (قلت) النوم فيه نومه مع أهله فلا يمكن الاحتجاج به على وضوئه بمجرد النوم إذا صلى ذلك لملامسته الأهل أو حدث آخر ألا ترى في آخر الحديث ' نام حتى سمعت غطيطه ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يتوضأ ' وقيل لا ينام قلبه من أجل الوحي وأنه يوحى إليه في النوم وليس في قصة الوادي إلا نوم عينيه عن رؤية الشمس وليس هذا من فعل القلب وقد قال
' إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا ' في حين غير هذا (فإن قلت) فلولا عادته من استغراق النوم لما قال لبلال اكلأ لنا الصبح (قلت) كان من شأنه
التغليس بالصبح ومراعاة أول الفجر ولا يصح هذا ممن نامت عينه إذا هو ظاهر يدرك بالجوارح الظاهرة فوكل بلال بمراعاة أوله ليعلمه بذلك كما لو شغل بشغل غير النوم عن مراعاته (فإن قلت) هل كان نومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر (قلت) قد جزم الأصيلي بأن القصة واحدة ورد عليه القاضي عياض بأن قصة أبي قتادة
مغايرة لقصة عمران بن حصين لأن في قصى أبي قتادة لم يكن أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبي
لما نام وفي قصة عمران أن أول من استيقظ أبو بكر ولم يستيقظ النبي
حتى أيقظه عمر رضي الله تعالى عنه ومن الذي يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها كما ذكرناها ولقد تكلف أبو عمر في الجمع بينهما بقوله أن زمان رجوعهم كان قريبا من زمان رجوعهم من الحديبية وأن طريق مكة يصدق عليهما وفيه تعسف على أن رواية عبد الرزاق بتعيين غزوة تبوك يرد عليه ثم أن أبا عمر زعم أن نوم النبي
كان مرة واحدة وقال القاضي أبو بكر بن العربي ثلاث مرات إحداها رواية أبي قتادة ولم يحضرها أبو بكر وعمر الثانية حديث عمران وحضراها والثالثة حضرها أبو بكر وبلال وقال عياض حديث أبي قتادة غير حديث أبي هريرة وكذلك حديث عمران ومن الدليل على أن ذلك وقع مرتين أنه قد روى أن ذلك كان زمن الحديبية وفي رواية بطريق مكة والحديبية كانت في السنة السادسة وإسلام عمران وأبي هريرة الراوي حديث قفوله من خيبر كان في السنة السابعة بعد الحديبية وهما كانا حاضرين الواقعة (قلت) فيه نظر لأن إسلام عمران كان بمكة ذكره أبو منصور الماوردي في كتاب الصحابة وقال ابن سعد وأبو أحمد العسكري والطبراني في آخرين كان إسلامه قديما قوله ' ما يحدث له ' بضم الدال من الحدوث أي ما يحدث له من الوحي وكانوا يخافون انقطاعه بالإيقاظ قوله ' ما أصاب الناس ' أي من فوات صلاة الصبح وكونهم على غير ماء قوله ' فلما استيقظ عمر ' جواب لما محذوف تقديره فلما استيقظ كبر وقوله ' فكبر ' يدل عليه قوله ' جليدا ' بفتح الجيم من جلد الرجل بالضم فهو جلد وجليد أي بين الجلادة بمعنى القوة والصلابة وزاد مسلم هنا ' أجوف ' أي رفيع الصوت يخرج صوته من جوفه قوله ' فكبر ' أي عمر رضي الله تعالى عنه وإنما رفع صوته بالتكبير لمعنيين أحدهما أن استعمال التكبير لسلوك طريق الأدب والجمع بين المصلحتين والآخر اختصاص لفظ التكبير لأنه أصل الدعاء إلى الصلاة قوله ' حتى استيقظ النبي
' فالنبي مرفوع لأنه فاعل استيقظ وهو لازم بمعنى تيقظ قوله ' لصوته ' أي لأجل صوته ويروى ' بصوته ' أي بسبب صوته قوله ' قال لا ضير ' ويروى ' فقال لا ضير ' أي لا ضرر من ضارة يضوره ويضيره ضورا وضيرا أي ضره قال الكسائي سمعت بعضهم يقول لا ينعني ذلك ولا يضورني قوله ' أو لا يضير ' شك من عوف الأعرابي وقد صرح بذلك البيهقي في روايته ولأبي نعيم في مستخرجه لا يسوء ولا يضير وإنما قال ذلك
لتأنيس قلوبهم لما عرض لهم من الأسف على فوات الصلاة من وقتها لأنهم لم يتعمدوا ذلك قوله ' ارتحلوا ' بصيغة الأمر
28

للجماعة المخاطبين من الصحابة قوله ' فارتحلوا ' بصيغة الجمع من الماضي أي ارتحلوا عقيب أمر النبي
بذلك ويروى ' فارتحل ' أي النبي
(فإن قلت) ما كان السبب في أمره
بالارتحال من ذلك المكان (قلت) بين ذلك في رواية مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة ' فإن هذا منزل حضر فيه الشيطان ' وقيل كان ذلك لأجل الغفلة وقيل لكون ذلك وقت الكراهة وفيه نظر لأن في حديث الباب ' لم يستيقظوا حتى وجدوا حر الشمس ' وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة وقيل الأمر بذلك منسوخ بقوله
' من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ' وفيه نظر لأن الآية مكية والقصة بعد الهجرة قوله ' فسار غير بعيد ' يدل على أن الارتحال المذكور وقع على خلاف سيرهم المعتاد قوله ' فدعا بالوضوء ' بفتح الواو وقوله ' ونودي بالصلاة ' المراد من النداء هو التأذين لأنه صرح في رواية مسلم من حديث أبي قتادة التصريح بالتأذين قوله ' إذا هو برجل ' لم يعلم اسمه وقال صاحب التوضيح هو خلاد بن رافع بن مالك الأنصاري أخو رفاعة وفيه نظر لأن ابن الكلبي قال هو شهد بدرا وقتل يوم إذ فوقعة البدر مقدمة على هذه القصة فاستحال أن يكون هو إياه وقيل له رواية فإذا صح هذا يكون قد عاش بعد النبي
(قلت) لا يلزم من روايته عيشه بعد النبي
لاحتمال انقطاعها أو نقلها صحابي آخر قوله ' معتزل ' أي منفرد عن الناس قوله ' ولا ماء ' قال بعضهم بفتح الهمزة أي معي (قلت) تفسيره تفسير من لم يمس شيئا من علم العربية لأن كلمة لا على قوله لنفي جنس الماء فأي شيء يقدر خبرها بقوله معي وعدم الماء عنده لا يستلزم عدمه عند غيره فحينئذ لا يستقيم نفي جنس الماء ويجوز أن تكون لا ههنا بمعنى ليس فيرتفع الماء حينئذ ويكون المعنى ليس ماء عندي قوله ' عليك بالصعيد ' كلمة عليك من أسماء الأفعال ومعناه الزم والألف واللام في الصعيد للعهد المذكور في الآية الكريمة وفي رواية سلم بن زرير ' فأمره أن يتيمم بالصعيد ': (قلت) سلم بفتح السين وسكون اللام وزرير بفتح الزاي المعجمة وبراءين مهملتين بينهما ياء آخر الحروف أولهما مقصورة قوله ' يكفيك ' أي لإباحة الصلاة والمعنى يكفيك للصلاة ما لم تحدث قوله ' فاشتكى الناس إليه ' أي إلى النبي
ويروى ' فاشتكوا الناس ' من قبيل أكلوني البراغيث قوله ' فدعا فلان ' هو عمران بن الحصين راوي الحديث ويدل على ذلك قوله في رواية ابن زرير ' ثم عجلني النبي
في ركب بين يديه فطلب الماء ' وهذه الرواية تدل على أنه كان هو وعلي رضي الله تعالى عنه فقط لأنهما خوطبا بلفظ التثنية وهو قوله ' اذهبا فابتغيا الماء ' (فإن قلت) في رواية ابن زرير في ركب فهذا يدل على الجماعة (قلت) يحتمل أن يكون معهما غيرهما ولكنهما خصا بالخطاب لأنهما تعينا مقصودين بالإرسال قوله ' فابتغيا ' من الابتغاء وهو الطلب يقال بغيت الشيء وابتغيته وتبغيته إذا طلبته وابتغيتك الشيء جعلتك طالبا له وفي رواية الأصيلي ' فابغيا ' ولأحمد ' فابغيانا ' قوله ' فتلقيا ' ويروى ' فلقيا ' قوله ' بين مزادتين ' المزادة بفتح الميم وتخفيف الزاي الراوية ويجمع على مزاد ومزائد وسميت مزادة لأنها يزاد فيها جلد آخر من غيرها ولهذا قيل أنها أكبر من القربة وتسمى أيضا السطيحة بفتح السين وكسر الطاء وقال ابن سيده السطيحة المزادة التي بين الأديمين قوبل أحدهما بالآخر وفي الجامع هي إداوة تتخذ من جلدين وهي أكبر من القربة قوله ' أو سطيحتين ' شك من الراوي وقال بعضهم شك من عوف (قلت) تعيينه به من أين وفي رواية مسلم ' فإذا نحن بامرأة سادلة ' أي مدلية رجليها بين مزادتين قوله ' أمس ' هو عند الحجازيين مبني على الكسر ومعرب غير منصرف للعدل والعلمية عند التميميين فعلى هذا هو بضم السين (فإن قلت) ما موقعه من
الإعراب (قلت) مرفوع على أنه خبر المبتدأ وهو قوله ' عهدي ' قوله ' هذه الساعة ' منصوب بالظرفية وقال ابن مالك أصله في مثل هذه الساعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قوله ' ونفرنا ' وفي المحكم النفر والنفر والنفير والنفور ما دون العشرة من الرجال والجمع أنفار وفي الواعي النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة والعرب تقول هؤلاء نفرك أي رهطك ورجالك الذين أنت معهم وهؤلاء عشرة نفر أي عشرة رجال ولا يقولون عشرون نفرا ولا ثلاثون نفرا تقول العرب جاءنا في نفره ونفيره ونفرته كلها بمعنى سموا بذلك لأنهم إذا حزبهم أمر اجتمعوا ثم نفروا إلى عدوهم وقال الخطابي لا واحد قوله ' خلوف ' بضم الخاء جمع الخالف أي المسافر نحو شاهد وشهود ويقال حي خلوف أي غيب وقال ابن عرفة الحي خلوف أي خرج الرجال وبقيت
29

النساء وقال الخطابي هم الذين خرجوا للأسفار وخلفوا النساء والأثقال وارتفاع خلوف على أنه خبر وفي رواية المستملي والحموي ' خلوفا ' بالنصب وقال الكرماني أي كان نفرنا خلوفا وقال بعضهم منصوب على الحال السادة مسد الخبر (قلت) ما الخبر هنا حتى تسد الحال مسده والأوجه ما قاله الكرماني أنه منصوب بكان المقدر قوله ' الصابىء ' بالهمزة وبغيرها فالأول من صبأ إذا خرج من دين إلى دين والثاني من صبا يصبو إذا مال وسنوسع الكلام فيه عند تفسير البخاري في آخر هذا الحديث قوله ' تعنين ' أي تريدين من عنى يعني إذا قصد قوله ' قالا هو الذي تعنين ' فيه حسن الأدب وحسن التخلص إذ لو قالا لا لفات المقصود ولو قالا نعم لم يحسن ذلك لأن فيه تقرير ذلك قوله ' فاستنزلوها ' من الاستنزال وهو طلب النزول وإنما ذكر فيه بلفظ الجمع لأنه كان مع عمران وعلي من تبعهما ممن يعينهما ويخدمهما قوله ' ودعا النبي
' فيه حذف تقديره فأتوا بها إلى النبي
وأحضروها بين يديه ودعا النبي
قوله ' ففرغ ' من التفريغ وفي رواية الكشميهني ' فأفرغ ' من الإفراغ وزاد الطبراني والبيهقي ' فمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين ' وبهذه الزيادة تظهر الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها وبهذا حصلت البركة لاختلاط ريقه المبارك للماء والأفواه جمع فم لأن أصله فوه فحذفوا الواو لأنها لا تحتمل التنوين عند الأفراد وعوضوا من الهاء ميما (فإن قلت) لكل مزادة فم واحد فكيف جمع (قلت) هذا من قبيل قوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) * قوله ' وأوكأ ' أي شد وهو فعل ماض من الإيكاء وهو شد الوكاء وهو ما يشد به رأس القربة ' وأطلق العزالي ' أي فتحها وهو جمع العزلاء بفتح العين وبالمد وهو فم المزادة الأسفل قال الجوهري العزالي بكسر اللام وإن شئت فتحت مثل الصحارى والصحاري ويقال العزلاء منصب الماء من الراوية والقربة وفي الجامع عزلاء القربة مصب يجعل في أحد يديها ليستفرغ منه ما فيها وإنما سميت عزالي السحاب تشبيها بها وقال السفاقسي رويناه بالفتح وهو أفواه المزادة السفلى وقال الداودي العزالي الجوانب الخارجة لرجلي الزق الذي يرسل منها الماء وقال الداودي ليس في أكثر الروايات أنهم فتحوا أفواه المزادتين أو السطيحتين ولا أنهم أطلقوا العزالي وإنما شقوا المزادتين وهو معنى صبوا منهما قال ثم أعاده فيهما إن كان هو المحفوظ قوله ' اسقوا واستقوا ' كل منهما أمر فالأول من السقي والثاني من الاستقاء والفرق بينهما أن السقي لغيره والاستقاء لنفسه ويقال أيضا سقيته لنفسه وأسقيته لماشيته قوله ' وكان آخر ذلك أن أعطى ' يجوز في آخر النصب والرفع أما النصب على أنه خبر كان مقدما على اسمها وهو أن أعطي لأن أن مصدرية تقديره وكان إعطاؤه للرجل الذي أصابته الجنابة آخر ذلك ويروي ذاك وأما الرفع فظاهر وهو أن يكون اسم كان وإن أعطى خبره والأمران جائزان وقال أبو البقاء والأولى أولى (قلت) وجه الأولوية لكون آخر مضافا إلى المعرفة فهو أولى بالاسمية وعندي كلاهما سواء لأن كلا معرفة قوله ' الذي أصابته الجنابة ' وهو الرجل المعتزل المذكور قوله ' فأفرغه ' بقطع الهمزة قوله ' وهي قائمة ' أي المرأة المذكورة قائمة تشاهد ذلك وهي جملة اسمية وقعت حالا على الأصل قوله ' وأيم الله ' بوصل الهمزة وقال الجوهري أيمن الله اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون وألفه ألف الوصل عند الأكثرين ولم يجيء في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير أيمن الله قسمي وربما حذفوا منه النون فقالوا أيم الله وقال أبو عبيد كانوا يحلفون ويقولون يمين الله لا أفعل فجمع اليمين على أيمن ثم كثر في كلامهم فحذفوا النون منه وألفه ألف قطع وهو جمع وإنما طرحت الهمزة في الوصل لكثرة استعمالهم إياها (قلت) فيها لغات جمع منها النووي في تهذيبه سبع عشرة وبلغ بها غيره عشرين قوله ' أقلع ' بضم الهمزة من الإقلاع يقال أقلع عن الأمر إذا كف عنه قوله ' أشد ملأة ' بكسر الميم وفتحها وسكون اللام بعدها همزة مفتوحة وفي رواية للبيهقي ' املأ منها ' معناه أنهم يظنون أن ما بقي فيها من الماء أكثر مما كان أولا قوله ' من بين عجوة ' العجوة تمر من أجود التمر بالمدينة وقال ابن التين العجوة نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني وتسمى اللينة وهي من أجود تمر المدينة قوله ' ودقيقة وسويقة ' بفتح أولهما وفي رواية كريمة بضم الدال مصغرا وقال الكرماني دقيقة وسويقة رويا مكبرين ومصغرين قوله ' حتى جمعوا لها طعاما ' وزاد أحمد في روايته ' كثيرا ' والطعام في اللغة ما يؤكل قاله الجوهري وقال وربما خص الطعام بالبر وفي حديث أبي سعيد كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله
صاعا من طعام أو صاعا من شعير ' وقال بعضهم فيه إطلاق
30

لفظ الطعام على غير الحنطة والذرة خلافا لمن أبى ذلك (قلت) هذا القول منه يخالف قول أهل اللغة والمراد ههنا من الطعام غير ما ذكر من العجوة وهو أعم من أن يكون حنطة أو شعيرا أو كعكا أو نحو ذلك قوله ' فجعلوه في ثوب ' ويروى ' فجعلوها ' قال الكرماني الضمير في جعلوه يرجع إلى الطعام وفي جعلوها إلى الأنواع المذكورة (قلت) لم يجعل الطعام وحده في الثوب حتى يرجع الضمير إليه وحده والصواب أن الضمير فيه يرجع إلى كل واحد باعتبار المذكور قوله ' قال لها ' ويروى ' قالوا لها ' وهي رواية الأصيلي وفي رواية الإسماعيلي ' قال لها رسول الله
' ووجه رواية الأصيلي أنهم قالوا لها ذلك بأمره
قوله ' وحملوها ' أي المزادة قوله ' بين يديها ' أي قدامها قوله ' تعلمين ' بفتح التاء والعين وتشديد اللام كذا ضبطه بعضهم ثم قال أي اعلمي (قلت) لا حاجة إلى هذا
التعسف وإنما هو مفرد مخاطب مؤنث من باب علم يعلم قوله ' ما رزئنا من مائك شيئا ' بفتح الراء وكسر الزاي أي ما نقصنا قال الكرماني وفي بعضها بفتحها يعني بفتح الزاي (قلت) الكسر هو الأشهر يقال ما رزأته ماله وما رزئته بالكسر ماله أي ما نقصته وارتزأ الشئ انتقصه قوله ' أسقانا ' ويروى ' سقانا ' قوله ' العجب ' مرفوع بفعل مقدر تقديره حبسني العجب وهو الأمر الذي يتعجب منه لغرابته وكذلك العجيب والعجاب بالضم والتخفيف والعجاب بالتشديد أكثر منه وكذلك الأعجوبة ولا يجمع عجب ولا عجيب ويقال جمع عجيب عجائب مثل تبيع وتبائع وأعاجيب جمع أعجوبة كأحاديث جمع أحدوثة وعجبت من كذا وتعجبت منه واستعجبت كلها بمعنى وأعجبني هذا الشيء لحسنه وعجبت غيري تعجيبا والعجب بضم العين وسكون الجيم اسم من أعجب فلان بنفسه فهو معجب برأيه وبنفسه قوله ' من بين هذه وهذه ' تعني من بين السماء والأرض قيل كان المناسب أن يقول في بين بلفظة في وأجيب بأن من بيانية مع جواز استعمال حروف الجر بعضها مكان بعض قوله ' وقالت بأصبعها ' أي أشارت بأصبعها ومن إطلاق القول على الفعل وقد مر نظير هذا غير مرة قوله ' السبابة ' يعني المسبحة قوله ' يغيرون ' بضم الياء من الإغارة بالخيل في الحرب قوله ' الصرم ' بكسر الصاد المهملة وهو أبيات من الناس مجتمعة والجمع إصرام وقال ابن سيده الصرم الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس والصرم أيضا الجماعة بين ذلك والجمع إصرام وأصاريم وصرمان والأخيرة عن سيبويه قوله ' فقالت يوما لقومها ما أرى أن هؤلاء يدعونكم عمدا ' هذه رواية الأكثرين وفي رواية أبي ذر ' ما أرى أن هؤلاء القوم ' وقال ابن مالك وقع في بعض النسخ ' ما أدري أن هؤلاء ' كلمة أرى بضم الهمزة بمعنى أظن وبفتحها بمعنى أعلم وما موصولة قوله ' يدعونكم ' بفتح الدال أي يتركونكم والمعنى ظني أنهم يتركونكم عمدا لاستئلافكم لا سهوا منهم وغفلة عنكم وقيل ما نافية وأن بمعنى لعل وقيل ما نافية وإن بالكسر ومعناه لا أعلم حالكم في تخلفكم عن الإسلام مع أنهم يدعونكم عمدا ' فهل لكم ' أي رغبة
(ذكر استنباط الأحكام منه) الأول فيه استحباب سلوك الأدب مع الأكابر كما في فعل عمر رضي الله تعالى عنه في إيقاظ النبي
. الثاني فيه إظهار التأسف لفوات أمر من أمور الدين. الثالث فيه لا حرج على من تفوته صلاة لا بتقصير منه لقوله
' لا ضير '. الرابع فيه أن من أجنب ولم يجد ماء فإنه يتيم لقوله
' عليكم بالصعيد '. الخامس فيه أن العالم إذا رأى أمرا مجملا يسأل فاعله عنه ليوضحه فيوضح له هو وجه الصواب. السادس فيه استحباب الملاطفة والرفق في الإنكار على أحد فيما فعله. السابع فيه التحريض على الصلاة بالجماعة. الثامن فيه الإنكار على ترك الشخص الصلاة بحضرة المصلين بغير عذر. التاسع فيه أن قضاء الفوائت واجب ولا يسقط بالتأخير ويأثم بتأخيره بغير عذر. العاشر فيه أن من حلت به فتنة في بلد فليخرج منه وليهرب من الفتنة بدينه كما فعل الشارع بارتحاله عن بطن الوادي الذي تشاءم به لأجل الشيطان. الحادي عشر فيه أن من ذكر صلاة فائتة له أن يأخذ من يصلح من وضوء وطهارة وابتغاء بقعة تطمئن نفسه للصلاة عليها كما فعل الشارع بعد أن ذكر الفائتة فارتحل بعد الذكر ثم توضأ وتوضأ الناس. الثاني عشر فيه استحباب الأذان للفائتة. الثالث عشر فيه جواز أداء الفائتة بالجماعة. الرابع عشر فيه طلب الماء للشرب والوضوء. الخامس عشر فيه أخذ الماء المملوك لغيره لضرورة العطش بعوض وفيه أن العطشان يقدم على الجنب عند صرف الماء إلى الناس. السادس عشر فيه جواز المعاطاة في الهبات والإباحات من غير لفظ من الجانبين. السابع عشر فيه تقديم
31

مصلحة شرب الآدمي والحيوان على غيره كمصلحة الطهارة بالماء (فإن قلت) قد وقع في رواية سلم بن زرير ' غير أنا لم نسق بعيرا ' (قلت) هذا محمول على أن الإبل لم تكن محتاجة إذ ذاك إلى السقي. الثامن عشر فيه جواز الخلوة بالأجنبية عند أمن الفتنة في حالة الضرورة الشرعية. التاسع عشر فيه جواز استعمال أواني المشركين ما لم يتيقن فيها نجاسة. العشرون فيه جواز أخذ مال الناس عند الضرورة بثمن إن كان له ثمن كذا استدل به بعضهم وفيه نظر. الحادي والعشرون فيه جواز اجتهاد الصحابة بحضرة النبي
وفيه خلاف مشهور وقد ذكرناه عن قريب. الثاني والعشرون فيه جواز تأخير الفائتة عن وقت ذكرها إذا لم يكن عن تغافل أو استهانة وذلك من قوله ' ارتحلوا ' بصيغة الأمر فافهم. الثالث والعشرون فيه مراعاة ذمام الكافر والمحافظة به كما حفظ النبي
هذه المرأة في قومها وبلادها فراعى في قومها ذمامها وإن كانت من صميمهم. الرابع والعشرون فيه جواز الحلف من غير الاستحلاف. الخامس والعشرون فيه جواز الشكوى من الرعايا إلى الإمام عند حلول أمر شديد. السادس والعشرون فيه استحباب التعريس للمسافر إذا غلبه النوم. السابع والعشرون فيه مشروعية قضاء الفائت الواجب وأنه لا يسقط بالتأخير. الثامن والعشرون فيه جواز الأخذ للمحتاج برضا المطلوب منه وبغير رضاه إن تعين. التاسع والعشرون فيه جواز النوم على النبي
كنوم واحد منا في بعض الأوقات وقد مر التحقيق فيه. الثلاثون فيه إباحة السفر من غير أن يعين يوما أو شهر
فوائد. فيه من دلائل النبوة حيث توضؤوا وشربوا وسقوا واغتسل الجند مما سقط من العزالي وبقيت المزادتان مملوءتان ببركته وعظيم برهانه
وكانوا أربعين نص عليه في رواية سلم بن زرير وإنهم ملأوا كل قربة معهم وقال القاضي عياض وظاهر هذه الرواية أن جملة من حضر هذه القصة كانوا أربعين ولا نعلم مخرجا لرسول الله
يخرج في هذا العدد فلعل الركب الذين عجلهم بين يديه لطلب الماء وأنهم وجدوا المرأة وأنهم أسقوا لرسول الله
قبل الناس وشربوا ثم شرب الناس بعدهم. وفيه أن جميع ما أخذوه من الماء مما زاده الله وأوجده وأنه لم يختلط فيه شيء من ماء تلك المرأة في الحقيقة وإن كان في الظاهر مختلطا وهذا أبدع وأغرب في المعجزة. وفيه دلالة أن عمر رضي الله تعالى عنه أجلد المسلمين وأصلبهم في أمر الله تعالى.
(وفيه أسئلة) الأول أن الاستيلاء على الكفار بمجرده يبيح رق نسائهم وصبيانهم وإذا كان كذلك فقد دخلت المرأة في الرق باستيلائهم عليها وكيف وقع إطلاقها وتزويدها
وأجيب بأنها أطلقت لمصلحة الاستئلاف الذي جر دخول قومها أجمعين في الإسلام ويحتمل أنها كان لها أمان قبل ذلك أو كانت من قوم لهم عهد. الثاني كيف جوزوا التصرف حينئذ في مالها وأجيب بالنظر إلى كفرها أو لضرورة الاحتياج إليه والضروريات تبيح المحظورات. الثالث أن النبي
نهى عن التشاؤم وههنا ارتحل عن الوادي الذي تشاءم به وأجيب بأنه
كان يعلم حال ذلك الوادي ولم يكن غيره يعلم به فيكون خاصا به
وأخذ بعض العلماء بظاهر ما وقع منه
من رحيله من ذلك الوادي أن من انتبه من نوم عن صلاة فائت في سفر فإنه يتحول عن موضعه وإن كان بواد فليخرج عنه وقيل إنما يلزم بذلك الوادي بعينه وقيل هو خاص بالنبي
كما ذكرنا
(قال أبو عبد الله صبأ خرج من دين إلى غيره. وقال أبو العالية الصابئين فرقة من أهل الكتاب يقرؤن الزبور).
هذا إلى آخره رواية المستملي وحده وأبو عبد الله هو البخاري نفسه وأراد بإيراد هذه الإشاوة إلى الفرق بين الصابىء المراد في هذا الحديث والصابىء المنسوب إلى الطائفة الذين بينهم أبو العالية رفيع بن مهران الرباحي أما الصابىء الذي هو المراد في هذا الحديث في قول المرأة المذكورة الذي يقال له الصابىء فهو من صبا إلى الشيء يصبو إذا مال وهو غير مهموز وكانت العرب تسمي النبي
الصابىء لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام ويسمون من يدخل في دين الإسلام مصبو لأنهم كانوا لا يهمزون ويسمون المسلمين الصباة بغير همزة جمع صاب غير مهموز كقاض وقضاة وغاز وغزاة وقد يقال
32

صبا الرجل إذا عشق وهوى وقد يقال صابىء بالهمز من صبا يصبو بغير همز وأن الصابئون الذين ذكرهم أبو العالية فأصله من صبأ يصبأ صبأ وصبوأ إذا خرج عن دين إلى آخر وهذه الطائفة يسمون الصابئين واختلف في تفسيره فقال أبو العالية هم فرقة من أهل الكتاب يقرؤن الزبور وقد وصل هذا التعليق ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس عنه وعن مجاهد ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وكذا روى عن الحسن وابن نجيح وقال ابن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة جزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي ولم يؤمنوا بالنبي
وعن الحسن قال أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة ويصلون الخمس قال فأراد أن يضع عليهم الجزية فأخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة وعن قتادة وأبي جعفر الرازي هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤن الزبور وفي الكتاب الزاهر لابن الأنباري هم قوم من النصارى قولهم ألين من قول النصارى قال الله تعالى * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) * فيقال الذين آمنوا هم المنافقون أظهروا الإيمان وأضمروا الكفر والذين هادوا اليهود المغيرون المبدلون والنصارى المقيمون على الكفر بما يصفون به عيسى عليه الصلاة والسلام من المحال والصابئون الكفار أيضا المفارقون للحق ويقال الذين آمنوا المؤمنون حقا والذين هادوا الذين تابوا ولم يغيروا أو النصارى نصار عيسى عليه الصلاة والسلام والصابئون الخارجون من الباطل إلى الحق من آمن بالله معناه من دام منهم على الإيمان بالله تعالى فله أجره وفي كتاب الرشاطي الصابي نسبه إلى صابي بن متوشلخ بن خنوخ بن برد بن مهليل بن فتين بن ياش بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام وقال أبو المعاني في كتابه المنتهى هم جنس من أهل الكتاب يزعمون أنهم من ولد صاب بن إدريس النبي عليه الصلاة والسلام وقيل نسبتهم إلى الصابىء بن ماري وكان في عصر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال النسفي في منظومته
* الصابئيات كالكتابيات
* في حكم حل العقد والذكاة
* وشرحه أن أبا حنيفة يقول إنهم يعتقدون نبيا ولهم كتاب فتحل مناكحة نسائهم وتؤكل ذبائحهم وقال أبو يوسف ومحمد هم يعتقدون الكواكب فلا تحل مناكحة نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم
7
((باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا خاف الجنب: الخ. وقد ذكر فيه حكم ثلاث مسائل.
الأولى: إذا خاف الجنب على نفسه المرض يباح له التيمم مع وجود الماء، وهل يلحق به خوف الزيادة؟ فيه قولان للعلماء والشافعي، والأصح عنده: نعم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وعن مالك رواية بالمنع، وقال عطاء والحسن البصري في رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلا وكرهه طاوس، وإنما يجوز له التيمم عند عدم الماء، وأما مع وجوده فلا، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ذكره في (التوضيح). وفي (شرح الوجيز): أما مرض يخاف منه زيادة العلة وبطء البرء، فقد ذكروا فيه ثلاث طرق، أظهرها أن في جواز التيمم له قولان: أحدهما المنع، وهو قول أحمد، وأظهرهما الجواز وهو قول الإصطخري وعامة أصحابه، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وفي (الحلية): وهو الأصح. وإن كان مرض لا يلحقه باستعمال الماء ضرر كالصداع والحمى لا يجوز له التيمم، وقال داود: يجوز، ويحكى ذلك عن مالك، وعنه أنه لا يجوز. ولو خاف من استعمال الماء شيئا في المحل، قال أبو العباس؛ لا يجوز له التيمم على مذهب الشافعي، وقال غيره إن كان الشين
كأثر الجدري والجراحة ليس لهم التيمم، وإن كان يشوه من خلقه ويسود من وجهه كثيرا فيه قولان. والثاني من الطرق أنه: لا يجوز قطعا، والثالث: أنه يجوز قطعا.
الثانية: إذا خاف الجنب على نفسه الموت يجوز له التيمم بلا خلاف، وفي قاضيخان: الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك للبرد جاز له التيمم، وأما المسافر، إذا خاف الهلاك من الاغتسال جاز له التيمم بالاتفاق، وأما المحدث في المصر فاختلفوا فيه على قول أبي حنيفة، فجوزه شيخ الإسلام، ولم يجوزه الحلواني.
الثالثة: أنه إذا خاف على نفسه العطش يجوز له التيمم، وكذا عندنا إذا خاف على رفيقه أو على حيوان معه نحو دابته وكلبه وسنوره وطيره. وفي (شرح الوجيز): لو خاف على نفسه أو ماله من سبع أو سارق فله التيمم، ولو احتاج إلى الماء لعطش في الحال أو توقعه في المآل، أو لعطش رفيقه أو لعطش حيوان محترم جاز له التيمم. وفي (المغني) لابن قدامة؛ أو كان الماء عند جمع فساق فخافت المرأة على نفسها الزنا جاز لها التيمم.
قوله: (أو خاف العطش)، غير مقتصر على الجنب الذي يخاف العطش، بل الجنب والمحدث
33

فيه سواء.
وجه المناسبة بين هذا الباب والذي قبله والذي بعده ظاهر، لأن هذه الأبواب كلها في حكم التيمم.
ويذكر أن عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم وتلا * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) * (النساء: 92) فذكر للنبي فلم يعنفه.
عمرو بن العاص القريشي السهمي أبو عبد ا، قدم على النبي في سنة ثمان قبل الفتح مسلما، وهو من زهاد قريش، ولاه النبي على عمان ولم يزل عليها حتى قبض النبي، روي له سبعة وثلاثون حديثا، للبخاري ثلاثة، مات بمصر عاملا عليها سنة ثلاث وأربعين على المشهور يوم الفطر، صلى عليه ابنه عبد ا، ثم صلى العيد بالناس. قوله: (ويذكر)، تعليق بصيغة التمريض، ووصله أبو داود وقال: حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص، قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي، فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت ا تعالى يقول: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن ا كان بكم رحيما) * (النساء: 92) فضحك نبي ا عليه الصلاة والسلام، ولم يقل شيئا). ورواه الحاكم أيضا. قوله: (في غزوة ذات السلاسل)، وهي وراء وادي القرى، بينها وبين المدينة عشرة أيام. وقيل: سميت بها لأنها بأرض جذام يقال له السلسل، وكانت في جمادي الأولى سنة ثمان من الهجرة. قوله: (فأشفقت) أي: خفت. قوله: (فلم يعنفه) أي: لم يعنفه النبي، يعني لم ينكر عليه، كذا لم يعنفه بالضمير في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فلم يعنف)، بدون الضمير حذف للعلم به، وعدم تعنيفه إياه دليل الجواز والتقرير، وبه علم عدم إعادة الصلاة التي صلاها بالتيمم في هذه الحالة، وهو حجة على من يأمره بالإعادة، ودل أيضا على جواز التيمم لمن يتوقع من استعمال الماء الهلاك، سواء كان للبرد أو لغيره، وسواء كان في السفر أو في الحضر، وسواء كان جنبا أو محدثا. وفيه دلالة على جواز الاجتهاد في عصره.
54311 ح دثنا بشر بن خالد قال حدثنا محمد هو غندر عن شعبة عن سليمان عن أبي وائل قال قال أبو موسى لعبد الله بن مسعود إذا لم يجد الماء لا يصلي. قال عبد الله لو رخصت لهم في هذا كان إذا وجد أحدهم البرد قال هكذا يعني تيمم وصلى قال قلت فأين قول عمار لعمر قال إني لم أر عمر قنع بقول عمار.
مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (يعني تيمم وصلى).
ذكر رجاله وهم سبعة. الأول: بشر بن خالد العسكري، أبو محمد الفرائضي، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين. الثاني: محمد بن جعفر البصري الملقب بغندر، بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال على الأشهر. الثالث: شعبة بن الحجاج. الرابع: سليمان المشهور بالأعمش. الخامس: أبو وائل شقيق بن سلمة. السادس: أبو موسى الأشعري؛ عبد ا بن قيس. السابع: عبد ا بن مسعود، والكل تقدموا.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصفة الجمع مرتين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول. وقوله: هو غندر، ليس في رواية الأصيلي. قوله: (عن شعبة)، وفي رواية الأصيلي: (حدثنا شعبة). وفيه: أن قوله؛ هو غندر، من عند البخاري وليس هو من لفظ شيخه، وفيه: إن الأعمش ذكر باسمه وشهرته بلقبه، وقلت: رواية يذكر فيها كذا سليمان مجردا. وفيه: محاورة صحابيين جليلين.
ذكر معناه: قوله: (إذا لم يجد الماء) هذا على سبيل الاستفهام، والسؤال من أبي موسى الأشعري عن عبد ا بن مسعود يعني: إذا لم يجد الجنب الماء لا يصلي. وقوله: (لم يجد)، بصيغة الغائب، وكذلك: (لا يصلي) بصيغة الغائب، وهي رواية كريمة. وفي رواية غيرها بصيغة الخطاب في الموضعين، فأبو موسى يخاطب عبد ا، وكذا في رواية الإسماعيلي ما يدل على هذا، ولفظه: (فقال عبد ا: نعم إذا لم أجد الماء شهرا لا أصلي). قوله: (لو رخصت)، أي: قال عبد ا لأبي موسى: لو رخصت لهم في هذا، أي: في جواز التيمم للجنب إذا وجد أحدهم البرد، وفي رواية الحموي: (إذا وجد أحدكم البرد). قوله: (قال هكذا)، فيه
34

إطلاق القول على الفعل، ثم فسره بقوله: يعني تيمم وصلى، وهو مقول قول أبي موسى. قوله: (قال: قلت) أي: قال أبو موسى: قلت لعبد ا: فأين قول عمار بن ياسر لعمر بن الخطاب؟ وهو قوله: (كنا في سفر فأجنبت فتمعكت في التراب فذكرت لرسول الله فقال: يكفيك الوجه والكفين)؟ قوله: (قال) أي: قال ابن مسعود: إني لم أر عمر بن الخطاب قنع بقول عمار بن ياسر، وإنما لم يقنع عمر بقوله لأنه كان حاضرا معه في تلك السفرة، ولم يتذكر القصة، فارتاب في ذلك ولم يقنع بقوله، وهذا وقع هكذا مختصرا في رواية شعبة ويأتي الآن في رواية عمر بن حفص، ثم في رواية أبي معاوية أتم وأكمل.
64321 ح دثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال سمعت شقيق بن سلمة قال كنت عند عبد الله وأبي موسى فقال له أبو موسى أرأيت يا أبا عبد الرحمن
إذا أجنب فلم يجد ماء كيف يصنع فقال عبد الله لا يصلي حتى يجد الماء فقال أبو موسى فكيف تصنع بقول عمار حين قال له النبي كان يكفيك قال ألم تر عمر لم يقنع بذلك فقال أبو موسى فدعنا من قول عمار كيف تصنع بهذه الآية فما درى عبد الله ما يقول فقال إنا لو رخصنا لهم في هذا لأوشك إذا برد على أحدهم الماء ان يدعه ويتيمم فقلت لشقيق فإنما كره عبد الله لهذا قال نعم.
وهذا طريق آخر في الحديث المذكور عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن سليمان الأعمش، وفي رواية أبي ذر وأبي الوقت: حدثنا الأعمش، وفيه فائدة تصريح سماع الأعمش من شقيق. قوله: (أرأيت) أي: أخبرني. قوله: (يا با عبد الرحمن) أصله: يا أبا عبد الرحمن، فحذفت الهمزة فيه تخفيفا، وأبو عبد الرحمن: كنية عبد ا بن مسعود. قوله: (إذا أجنب) أي: الرجل: (فلم يجد الماء)، ويروى: (إذا أجنبت فلم تجد). بتاء الخطاب فيهما. قوله: (كيف يصنع؟) بياء الغيبة، أي: كيف يصنع الرجل؟ وعلى رواية الخطابي: (كيف تصنع؟) بتاء الخطاب أيضا، والرواية بالغيبة أشهر وأوجه بدليل قوله: (فقال عبد ا لا يصلي) أي: لا يصلي الرجل الذي لا يجد الماء حتى يجد، أي: إلى أن يجد الماء. قوله: (كان يكفيك) أي: مسح الوجه والكفين. قوله: (فدعنا من قول عمار) أي: أتركنا، وكلمة: دع، أمر من: يدع، وأمات العرب ماضيه، والمعنى: اقطع نظرك عن قول عمار، فما تقول فيما ورد في القرآن؟ هو قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) وهو معنى قوله: (كيف تصنع بهذه الآية) وهي قوله تعالى: * (فلم تجدوا) * (النساء: 34، والمائدة: 6) الآية. قوله: (فما درى عبد ا ما يقول) أي: فلم يعرف عبد ا ما يقول في توجيه الآية على وفق فتواه، ولعل المجلس ما كان يقتضي تطويل المناظرة، وإلا فكان لعبد ا أن يقول: المراد من الملامسة في الآية تلاقي البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلا من الوضوء فقط، فلا يدل على جواز التيمم للجنب. قوله: (في هذا)، أي: في التيمم للجنب. قوله: (لأوشك) أي: قرب وأسرع، وهذا رد على من زعم أنه لا يجيء من باب: يوشك أوشك ماضيا، ولا يستعمل إلا مضارعا. قوله: (إذا برد) بفتح الباء والراء، وقال الجوهري. بضم الراء، والمشهور الفتح، وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه الملازمة بين الرخصة في تيمم الجنب وتيمم المتبرد، حتى صح أن يقال: لو رخصنا لهم في ذلك لكان إذا وجد أحدهم البرد تيمم؟ قلت: الجهة الجامعة بينهما اشتراكهما في عدم القدرة على استعمال الماء، لأن عدم القدرة إما بفقد الماء، وإما بتعذر الاستعمال. قوله: (فقلت) أي: قال الأعمش: قلت لشقيق. قوله: (لهذا) أي: لأجل هذا المعنى، وهو احتمال أن يتيمم المتبرد، وقال الكرماني: فإن قلت: الواو، لا تدخل بين القول ومقوله، فلم قال: وإنما كره قلت: هو عطف على سائر مقولاته المقدرة أي قلت؛ كذا وكذا أيضا. انتهى. قلت: كأنه اعتمد على نسخة فيها، وإنما بواو العطف، والنسخ المشهورة: فإنما بالفاء.
ذكر ما فيه من الفوائد: الأولى: فيه جواز الماظرة، وقال الخطابي: هذه مناظرة، والظاهر منهما يأتي على إهمال حكم الآية، وأي عذر لمن ترك العمل بما في هذه الآية من أجل أن بعض الناس عساه أن يستعملها على وجهها، وفي غير جنسها. وما الوجه فيما ذهب إليه عبد ا من إبطال هذه الرخصة مع ما فيه من إسقاط الصلاة عمن هو مخاطب بها ومأمور بإقامتها؟ وأجيب: عن هذا بأن
35

عبد ا لم يذهب بهذا المذهب الذي ظنه هذا القائل، وإنما كان يتأول الملامسة المذكورة في الآية على غير معنى الجماع، إذ لو أراد الجماع لكان فيه مخالفة الآية صريحا، وذلك مما لا يجوز من مثله في علمه وفهمه وفقهه.
الثانية: فيه أن رأي عمر وعبد ا رضي ا عنهما، انتقاض الطهارة بملامسة البشرتين، وإن الجنب لا يتيمم لقوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) * (المائدة: 6). الثالثة: قال ابن بطال: فيه جواز التيمم للخائف من البرد. قلت: يجوز التيمم للجنب المقيم إذا خاف البرد عند أبي حنيفة، خلافا لصاحبيه. الرابعة: فيه جواز الانتقال في المحاجة من دليل إلى دليل آخر بما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك جائز للمتناظرين عند تعجيل القطع. وإلإفحام للخصم كما في محاجة إبراهيم ونمرود عليه اللعنة، ألا ترى أن إبراهيم لما قال: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 852) وقال نمرود: * (أنا أحيي وأميت) * (البقرة: 852) لم يحتج إلى أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته؟ بل انتقل إلى قوله: * (فإن ا يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * (البقرة: 852) فأفحم نمرود عند ذلك.
8
((باب التيمم ضربة))
أي: هذا باب يقال فيه: التيمم ضربة، وقال الكرماني: باب التيمم ضربة بالنصب، وفي بعضها بالرفع قلت: لم يبين وجه ذلك. قلت: رواية الكشميهني: باب، بلا تنوين بل بالإضافة إلى التيمم، وضربة منصوب على الحال، والتقدير: هذا باب في بيان صفة التيمم حال كونه ضربة واحدة، وقد ذكرنا أن في صفة التيمم أقوالا، وأن رواية؛ ضربة واحدة، من رواية: ضربتين، عند البخاري، فلذلك بوب عليه، ورواية الأكثرين: باب، منون على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله؛ (التيمم ضربة) بالرفع لأنه خبر، والتيمم، مبتدأ.
74331 ح دثنا محمد بن سلام قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق قال كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري فقال له أبو موسى لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم ويصلي فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة * (فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا) * فقال عبد الله لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد قلت وإنما كرهتم هذا لذا قال نعم فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر بعثني رسول الله في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة فذكرت ذلك للنبي فقال إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بهما وجهه فقال عبد الله أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار رضي ا عنهما.
هذه طريقة أخرى، وهي أتم من الطريقتين المذكورتين، عن محمد بن سلام، وفي رواية الأصيلي: هو محمد بن سلام بتخفيف اللام البيكندي عن أبي معاوية الضرير محمد بن خازم بالمعجمتين عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة، وهو أبو وائل المذكور في الباب السابق في الطريقة الأولى، وهي رواية بشر بن خالد. قوله: (أجنب) أي: إذا صار جنبا. قوله: (أما كان يتيمم؟) والهمزة فيه في رواية كريمة والأصيلي، وفي رواية مسلم: (كيف تصنع بالصلاة؟ قال عبد ا: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا) ونحوه لأبي داود. (قال: فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية)؟ ثم الهمزة فيه أما مقحمة وإما للتقرير، و: ما، نافية على أصلها، وعلى التقديرين الأولين وقع جوابا: للو، إما على تقدير الإقحام، فإن وجوده كعدمه، وأما على تقدير التقرير، فإنه لم يبق على معنى الاستفهام الذي هو المانع من وقوعه جزاء للشرط، والقول مقدر قبل لو. وحاصله يقولون: لو أجنب رجل ما تيمم، كيف تصنعون؟ وعلى التقدير الثالث: وقع جوابا: بتقدير القول أي: لو أجنب رجل يقال في حقه: إما يتيمم، ويحتمل أن يكون جواب: لو، هو: فكيف تصنعون؟.
قوله: (في سورة المائدة)، وفي رواية الكشميهني: (فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة؟) وليس في رواية الأصيلي لفظ: الآي، وقوله: (فلم تجدوا)، هو بيان للمراد من الآية،
36

ووقع في رواية الأصلي: (فإن لم تجدوا)، وهو مغاير للتلاوة. وقيل: إنه كان كذلك في رواية أبي ذر ثم أصلحها على وفق الآية، وإنما عين سورة المائدة لكونها أظهر في مشروعية تيمم الجنب من آية النساء، لتقدم حكم الوضوء في المائدة، وقال الخطابي وغيره: فيه دليل على عبد ا كان يرى أن المراد بالملامسة الجماع، فلهذا لم يدفع دليل أبي موسى وإلا لكان يقول له: المراد من الملامسة التقاء البشرتين فيما دون الجماع، وجعل التيمم بدلا من الوضوء لا يستلزم أن يكون بدلا من الغسل. قلت: لو أراد بالملامسة الجماع لكان مخالفة للآية صريحا، وإنما تأولها على معنى غير الجماع، كما ذكرنا عن قريب. قوله: (أن يتيمموا الصعيد) أي: أن يقصدوه، ويروى: (أن يتيمموا بالصعيد). قوله: (قلت)، هو مقول شقيق، كذا قاله الكرماني. قلت: ليس كذلك، بل القائل ذلك هو الأعمش، والمقول له هو شقيق، كما صرح بذلك في رواية عمر بن حفص التي مضت قبل هذه. قوله: (هذا) أي: تيمم الجنب. قوله: (لذا) أي: لأجل تيمم صاحب البرد. قوله: (كما تمرغ الدابة)، بالتشديد وضم الغين المعجمة، وأصله: تتمرغ بالتائين فحذفت إحداهما للتخفيف، كما في قوله تعالى: * (نارا تلظى) * (الليل: 41) أصله: تتلظى. قوله: (بكفه ضربة) ويروى: (بكفيه).
وقال الكرماني: اعلم أن هذه الكيفية مشكلة من جهات: أولا: مما ثبت من الطريق الآخر أنه ضربتان، وقال النووي: الأصح المنصوص ضربتان: وثانيا: من جهة الاكتفاء بمسح ظهر كف واحدة، وبالاتفاق مسح كلا ظهري الكفين. واجب، ولم يجوز أحد الاجتزاء بأحدهما. وثالثا: من حيث إن الكف إذا استعمل ترابه في ظهر الشمال كيف مسح به الوجه وهو صار مستعملا. ورابعا: من جهة أنه لم يمسح الذارعين. وخامسا: من عدم مراعاة الترتيب وتقديم الكف على الوجه انتهى.
قلت: هذه خمسة إشكالات أوردها. ثم تكلف في الجواب عنها، ثم قال في آخره: هذا غاية وسعنا في تقريره ولعل عند غيرنا خيرا منه. أقول: وبا التوفيق: ملخص جوابه عن الأول بالمنع بأنا لا نسلم أن هذا التيمم كان بضربة واحدة. قلت: منعه ممنوع لأنه كان بضربة واحدة، لأنه صرح فيه بأن: الضربة الواحدة كافية، فيحمل هذا على الجواز، وما ورد من الزيادة عليها على الكمال. وقوله: وقال النووي: الأصح المنصوص ضربتان، اعتراض على الحديث بالمذهب، وهو غير صحيح. وأجاب عن الثاني: بأنه لا بد من تقدير: ثم ضرب ضربة أخرى ومسح بها يديه. قلت: لا يحتاج إلى هذا التقدير لأن أصل الفرض يقوم بضربة واحدة، كما في الوضوء، على أن مذهب جمهور العلماء الاكتفاء بضربة واحدة، كذا ذكره ابن المنذر، واختاره هو أيضا، والبخاري أيضا، فلذلك بوب عليه. وأجاب عن الثالث: بما لا طائل تحته، والجواب السديد ملخصا: أن التراب لا يأخذ حكم الاستعمال، وهذا الحكم في الماء دون التراب. وأجاب عن الرابع: بمنع إيجاب مسح الذراعين، وأكد ذلك بقوله: ولهذا قالوا مسح الكفين أصح في الرواية، ومسح الذارعين أشبه بالأصول. قلت: فعلى هذا، الإشكال الرابع غير وارد من الأول. وأجاب عن الخامس: بمنع إيجاب الترتيب كما هو مذهب الحنفية. قلت: هذه استعانة برأي من هو يخالف رأيه.
قوله: (ثم مسح بها ظهر كفه)، ويروى: (مسح بهما). قوله: (أو ظهر شماله بكفه)، كذا هو بالشك في جميع الروايات إلا في رواية أبي داود فإنه رواه أيضا من طريق أبي معاوية، كما رواه البخاري ولفظه، فقال: (إنما يكفيك أن تصنع هكذا، وضرب بيديه على الأرض فنفضهما ثم ضرب بشماله على يمينه وبيمينه على شماله على الكفين ثم مسح وجهه). انتهى. وهذا يحرر رواية غيره، لأن الحديث واحد، واختلاف الألفاظ باختلاف الرواية، وفيه دليل صريح على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين جميعا، ولكن العامة أجابوا عن هذا: إن هذا الضرب المذكور كان للتعليم وليس المراد به بيان جميع ما يحصل به التيمم، لأن ا تعالى أوجب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء في أول الآية، ثم قال في التيمم * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) * (النساء: 34، والمائدة: 6) والظاهر أن اليد المطلقة هنا هي المقي دة في الوضوء. فافهم.
قوله: (فقال عبد ا)، ويروى: قال عبد ا بدون: الفاء. قوله: (ألم تر عمر؟) وفي رواية الأصيلي وكريمة: (أفلم تر؟) بزيادة الفاء، فيه. قوله: (لم يقنع بقول عمار)، ووجه عدم قناعته بقول عمار هو أنه كان معه في تلك الفضية، ولم يتذكر عمر ذلك أصلا، ولهذا قال لعمار، فيما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن أبزى: (اتق ا يا عمار فيما ترويه وتثبت فيه فلعلك نسيت أو اشتبه عليك، فإني كنت معك ولا أتذكر شيئا من هذا)، ومعنى قول عمار؛ إني رأيت المصلحة في الإمساك عن التحديث به راجحة على التحديث وافقتك وأمسكت، فإني قد بلغته ولم يبق علي حرج؛ فقال له عمر رضي ا تعالى عنه: إنا نوليك
37

ما توليت. أي: لا يلزم من كوني لا أتذكره أن لا يكون حقا في نفس الأمر، فليس لي منعك من التحديث به.
وزاد يعلى عن الأعمش عن شقيق كنت مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى ألم تسمع قول عمار لعمر إن رسول الله بعثني أنا وأنت فأجنبت فتمعكت بالصعيد فأتينا رسول الله فأخبرناه فقال إنما كان يكفيك هكذا ومسح وجهه وكفيه واحدة؟.
يعلى، بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وفتح اللام: ابن عبيد أبو يوسف الطنافسي الحنفي الكوفي، مات سنة تسع ومائتين. قال الكرماني: هذا إما داخل تحت إسناد محمد بن سلام، وإما تعليق من البخاري مع احتمال سماع البخاري منه، لأنه أدرك عصره. قلت: هذا تعليق وصله أحمد في (مسنده) ووصله الإسماعيلي عن ابن زيدان: حدثنا أحمد بن حازم حدثنا يعلى حدثنا الأعمش فذكره. قوله: (إن رسول ا)، ويروى: (إن النبي عليه الصلاة والسلام). قوله: (بعثني أنا وأنت). قيل: كان القياس بعثني إياي وإياك، لأن: أنا، ضمير مرفوع فكيف وقع تأكيدا للضمير المنصوب؟ والمعطوف في حكم المعطوف عليه؟ وأجيب: بأن الضمائر يقام بعضها مقام البعض، وتجري بينهما المناوبة. قوله: (هكذا)، وفي رواية الكشميهني: (هذا). قوله: (واحدة) يعني ضربة واحدة، وهذا التقدير هو المناسب لغرض البخاري لأنه ترجم الباب بقوله: باب التيمم ضربة، ويحتمل أن يقدر مسحة واحدة وهو الظاهر من اللفظ. قال الكرماني: فيكون التيمم بالضربتين. قلت: لا يدل شيء ههنا على ذلك، ثم سأل، فإذا حملته على الضربة واستعمل في الوجه فكيف مسح به الكفين؟ وأجاب: بأن السؤال ساقط على مذهب من قال: التراب لا يصير مستعملا، وأما على مذهبنا فوجهه أنه يمسح الوجه بكف واحدة، ثم ينفض بعض الغبار في الكف الغير المستعملة إلى الأخرى، أو يدلك إحداهما بالأخرى ثم يمسح اليدين بهما. قلت: هذا الذي ذكره وجعله مذهبا لا يفهم من هذا الحديث.
9
((باب))
وقع هكذا باب مجردا عن الترجمة في رواية الأكثرين، وليس بموجود أصلا في رواية الأصيلي، فعلى روايته يكون الحديث الذي فيه داخلا في الترجمة الماضية، فعلى قول الأكثرين يكون: باب، بمنزلة؛ فصل، ولا يكون معربا، لأن الإعراب يكون بالعقد والتركيب.
84341 ححدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عوف عن أبي رجاء قال حدثنا عمران بن حصينغ الخزاعي أن رسول الله رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك.
عبدان، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة. وعبد ا هو ابن المبارك، وعوف هو ابن الأعرابي، وأبو رجاء العطاردي واسمه عمران بن ملحان والكل تقدموا.
ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في الموضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد.
وهذا الحديث مختصر من الحديث الطويل الذي مضى في: باب الصعيد الطيب. فإن قلت: هذا لا يطابق الترجمة لأنه ليس فيه التصريح بكون الضرب في التيمم مرة واحدة. قلت: إن كان لفظ: باب، موجودا على رأس الحديث فلا يحتاج إلى الجواب لأنه حينئذ لا اختصاص له بذلك، بل للإشارة إلى أن الصعيد كاف للجنب وغيره، وإن كان غير موجود فجوابه أنه أطلق ولم يقيد بضربة ولا ضربتين، وأقله يكون مرة واحدة، فيدخل في الترجمة. فافهم، فإنه دقيق.
38

بسم الله الرحمن الرحيم
8
((كتاب الصلاة))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة، وارتفع: كتاب، على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قدرناه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، أي: كتاب الصلاة هذا، ويجوز أن ينتصب على تقدير خذ كتاب الصلاة، وقد مضى تفسير الكتاب مرة. ولما فرغ من بيان الطهارة التي منها شروط الصلاة، شرع في بيان الصلاة التي هي المشروطة. فلذلك أخرها عن الطهارات، لأن شرط الشيء يسبقه، وحكمه يعقبه، ثم معنى الصلاة في اللغة الغالبة الدعاء. قال تعالى: * (وصل عليهم) * (:) أي: ادع لهم. وفي الحديث، في إجابة الدعوة: (وإن كان صائما فليصل) أي: فليدع لهم بالخير والبركة. وقيل: هي مشتقة من: صليت العود على النار: إذا قومته. قال النووي: هذا باطل، لأن لام، الكلمة في: الصلاة: واو، بدليل الصلوات، وفي: صليت: فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية؟
قلت: دعواه بالبطلان غير صحيحة، لأن اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر، فإن قلت: لو كانت واوية كان ينبغي أن يقال: صلوت، ولم يقل ذلك. قلت: هذا لا ينفي أن تكون واوية لأنهم يقلبون: الواو ياء إذا وقعت رابعة. وقيل؛ الصلاة مشتقة من: الصلوين، تثنية: الصلا، وهو ما عن يمين الذنب وشماله، قاله الجوهري. قلت: هما العظمان الناتئان عند العجيزة، وذلك لأن المصلي يحرك صلويه في الركوع والسجود. وقيل: مشتقة من المصلى، وهو الفرس الثاني من خيل السباق، لأن رأسه تلي صلوي السابق. وقيل: أصلها من التعظيم، وسميت العبادة المخصوصة: صلاة، لما فيها من تعظيم الرب. وقيل: من الرحمة، وقيل: من التقرب، من قولهم: شاة مصلية، وهي التي قربت إلى النار. وقيل: من اللزوم، قال الزجاج: يقال: صلى واصطلى: إذا لزم. وقيل: هي الإقبال على الشيء. وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات لاختلاف لام الكلمة في بعض هذه الأقوال، فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف. قلت: قد أجبنا الآن عن ذلك. وأما معناها الشرعي: فهي عبارة عن الأركان المعهودة والأفعال المخصوصة.
وقد ذكر بعضهم وجه المناسبة بين أبواب كتاب الصلاة، وهي تزيد على عشرين نوعا في هذا الموضع، ثم قال: آخر ما ظهر من مناسبة ترتيب كتاب الصلاة في هذا الجامع الصحيح، ولم يتعرض أحد من الشراح لذلك. قلت: نحن نذكر وجه المناسبة بين كل بابين من هذه الأبواب بما يفوق ذلك على ما ذكره، يظهر ذلك عند المقابلة
، وذكرها في موضعها أنسب وأوقع في الذهن وأقرب إلى الصواب، وبا التوفيق.
1
((باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء))
أي: هذا باب في بيان كيفية فرضية الصلاة في ليلة الإسراء، وفي رواية الكشميهني والمستملي: (كيف فرضت الصلوات)، بالجمع، واختلفوا في المعراج والإسراء هل كانا في ليلة واحدة أو في ليلتين؟ وهل كانا جميعا في اليقظة أو في المنام؟ أو أحدهما في اليقظة والآخر في المنام؟ فقيل: إن الإسراء كان مرتين: مرة بروحه مناما، ومرة بروحه وبدنه يقظة. ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضا، حتى قال: إنه أربع إسراآت، وزعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة، ووفق أبو شامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعل ثلاث إسراآت مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماوات على البراق أيضا. ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات. وجمهور السلف والخلف على الإسراء كان ببدنه وروحه. وأما من مكة إلى بيت المقدس فبنص القرآن، وكان في السنة الثانية عشرة من النبوة؛ وفي رواية البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أه أسري به قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وعن السدي قبل مهاجرته بستة عشر شهرا، فعلى قوله يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري: يكون في ربيع الأول. وقيل: كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرو المقدسي في سيرته، ومنهم من يزعم أنه كان في أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لها، ثم قيل: كان قبل موت أبي طالب. وذكر ابن الجوزي أنه كان بعد موته في سنة اثنتي عشرة للنبوة،
39

ثم قيل: كان في ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثالثة عشرة للنبوة. وقيل: كان في ربيع الأول. وقيل: كان في رجب، وا أعلم.
فإن قلت: ما وجه ذكر هذا الباب بعد قوله: كتاب الصلاة؟ وما وجه تتويج الأبواب الآتية بهذا الباب؟ قلت: لأن هذا الكتاب يشتمل على أمور الصلاة وأحوالها. ومن جملتها معرفة كيفية فرضيتها، لأنها هي الأصل والباقي عارض عليه، فما بالذات مقدم على ما بالصفات.
وقال ابن عباس حدثني: أبو سفيان في حديث هرقل فقال يأمرنا يعني النبي بالصلاة والصدق والعفاف.
الكلام فيه على أنواع. الأول أن ابن عباس هو عبد ا حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، وأبو سفيان اسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكي، وهو والد معاوية وإخوته، أسلم ليلة الفتح ومات بالمدينة سنة إحدى وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان. وهرقل، بكسر الهاء وفتح الراء على المشهور، وحكى جماعة إسكان الراء وكسر القاف: كخندف، منهم الجوهري، وهو اسم عجمي تكلمت به العرب على أنه غير منصرف للعلمية والعجمة، ملك إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات النبي، ولقبه: قيصر، كما إن من ملك الفرس يقال له: كسرى، والترك يقال له: خاقان.
الثاني: أن هذا تعليق من البخاري، وقطعه من حديث طويل ذكره في أول الكتاب مسندا، أو قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عبيد ا بن عبد ا بن عتبة بن مسعود أن عبد ا بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش إلى أن قال: (وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا ا ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف...) الحديث.
الثالث في معناه: قوله: (النبي)، منصوب لأنه مفعول لقوله: يعني، وبالرفع فاعل لقوله: (يأمرنا)، والباء في: بالصلاة، يتعلق بقوله: (يأمرنا)، وفي رواية للبخاري: (ويأمرنا بالصلاة والصدقة)، وفي رواية مسلم: (ويأمرنا بالصلاة والزكاة)، وكذا في رواية البخاري في التفسير، والبخاري أخرج هذا الحديث في أربعة عشر موضعا، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، ولم يخرجه ابن ماجة. والصلاة: هي العبادة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم. والصدق: هو القول المطابق للواقع. والعفاف: الانكفاف عن المحرمات وخوارم المروءات.
الرابع في وجه مناسبة هذا للترجمة: قال بعضهم: مناسبته لهذه الترجمة أن فيه إشارة إلى أن الصلاة فرضت بمكة قبل الهجرة، لأن أبا سفيان لم يلق النبي بعد الهجرة إلى الوقت الذي اجتمع فيه بهرقل لقاء يتهيأ له معه أن يكون آمرا له بطريق الحقيقة، والإسراء كان قبل الهجرة بلا خلاف، فظهرت المناسبة. انتهى. قلت: الترجمة في كيفية الفرضية بمعنى: كيف فرضت؟ لا في بيان وقت الفرض، فكيف تظهر المناسبة حتى يقول هذا القائل: فظهرت المناسبة، وليس في هذا الحديث الذي رواه عبد ا بن عباس مطولا ما يشعر بكيفية فرضية الصلاة؟ بل يذكر ذلك في حديث الإسراء الآتي، ولكن يمكن أن يوجه لذكر هذا ههنا وجه، وهو أن معرفة كيفية الشيء تستدعي معرفة ذاته قبلها، فأشار بهذا أولا إلى ذات الصلاة من حيث الفرضية، ثم أشار إلى كيفية فرضيتها بذكر حديث الإسراء، فصار ذكر قول ابن عباس المذكور توطئة وتمهيدا لبيان كيفيتها، فدخل فيها، فبهذا الوجه دخل تحت الترجمة، وهذا مما سنح به خاطري من الأنوار الإلهية، ولم يسبقني بهذا أحد من الشراح.
94351 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال كان أبو ذر يحدث أن رسول الله قال: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء افتح قال من هذا قال جبريل قال هل معك أحد قال نعم
40

معي محمد فقال أأرسل إليه قال نعم فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت لجبريل من هذا قال هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى حتى عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح فقال له خازنها مثل ما قال الأول ففتح) قال أنس فذكر
أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة قال أنس فلما مر جبريل بالنبي بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا قال هذا إدريس ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قلت من هذا قال هذا عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والإبن الصالح قلت من هذا قال هذا إبراهيم قال ابن شهاب فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي: (ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام). قال ابن حزم وأنس بن مالك قال النبي ففرض الله على امتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال ما فرض الله لك على أمتك قلت فرض خمسين صلاة قال فارجع إلي ربك فإن أمتك لا تطيق ذلكع فراجعني فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت وضع شطرها فقال راجع ربك فإن أمتك لا تطيق فراجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدى فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت استحييت من ربي ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك). (الحديث 943 طرفاه في: 6361، 2433).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، لأن فيه بيان كيفية فرضية الصلاة.
ذكر رجاله وهم ستة: يحيى بن بكير، بضم الباء، تكرر ذكره، والليث بن سعد، ويونس بن يزيد، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأنس بن مالك وأبو ذر، بتشديد الراء، واسمه: جندب بن جنادة.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول. وفيه: أن رواته ما بين مصري ومدني. وفيه: رواية صحابي عن صحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الحج مختصرا عن عبدان عن عبد ا عن يونس عن الزهري عن أنس عن أبي ذر، وأخرجه أيضا في بدء الخلق عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة، وأخرجه في الأنبياء أيضا عن عبدان عن عبد ا عن يونس عن الزهري، قال: قال أنس: وعن أحمد
41

بن صالح عن عنبسة عن يونس عن ابن شهاب، قال: قال أنس: عن أبي ذر، وأخرجه أيضا في باب قوله: * (وكلم ا موسى تكليما) * (النساء: 461) في أواخر الكتاب عن عبد العزيز بن عبد ا عن سليمان عن شريك بن عبد ا عن أنس بن مالك. وأخرجه مسلم في الإيمان عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب، وعن أبي موسى عن ابن أبي عدي، وعنه عن معاذ بن هشام. وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمد بن بشار عن غندر. وأخرجه النسائي في الصلاة عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وقد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، لكن طرقه في الصحيحين دائرة عن أنس مع اختلاف أصحابه عنه، فرواه الزهري عن أبي ذر كما في هذا الباب، ورواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة، ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البناني عنه عن النبي بلا واسطة، وفي سياق كل منهم ما ليس عند الآخر. وأخرجه النسائي أيضا من طرق كثيرة عن أنس.
ذكر لغاته ومعانيه: قوله: (فرج عن سقف بيتي)، بضم الفاء وكسر الراء وبالجيم أي: فتح فيه فتح، وروي: (فشق)، فإن قلت: كان البيت لأم هانىء، فكيف قال: بيتي، بإضافته إلى نفسه؟ قلت: إضافة إليه بأدنى ملابسة، وهذا كثير في كلام العرب، كما يقول أحد حاملي الخشبة للآخر: خذ طرفك. فإن قلت: روي أيضا أنه كان في الحطيم، فكيف الجمع بينهما؟ قلت: أما على كون العروج مرتين فظاهر، وأما على كونه مرة واحدة فلعله، بعد غسل صدره دخل بيت أم هانىء ومنه عرج به إلى السماء، والحكمة في دخول الملائكة من وسط السقف ولم يدخلوا من الباب، كون ذلك أوقع صدقا في القلب فيما جاؤوا به. قوله: (ففرج صدري)، بفتح الفاء والراء والجيم، وهو فعل ماض، أي: شقه، ويروى: (شرح صدر)، ومنه: شرح ا صدره. فإن قلت: ذكر في سير ابن إسحاق: شق صدره وهو مسترضع في بني سعد عند حليمة، ورجحه عياض. قلت: أجاب السهيلي بأن ذلك وقع مرتين، والحكمة في الشق الأول نزع العلقة التي قيل له، عند نزعها: (هذا حظ الشيطان منك). وفي الثاني: ليكون مستعدا للتلقي لما حصل له في تلك الليلة. وقد روى الطيالسي والحارث في (مسنديهما) من حديث عائشة: أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبرائيل عليه السلام، إليه بالوحي في غار حراء، وفي (الدلائل) لأبي نعيم، (والأحاديث الجياد) للضياء محمد بن عبد الواحد: أن صدره شق وعمره عشر سنين. قوله: (ثم غسله بماء زمزم) الغسل: طهور، والطهور: شطر الإيمان، وزمزم، غير منصرف: اسم للبئر التي في المسجد الحرام. قوله: (بطست) بفتح الطاء وسكون السين المهملة وفي آخره تاء مثناة من فوق، وقال ابن سيده؛ الطس والطسة والطسة، معروف، وجمع: الطس أطساس وطسوس وطسيس، وجمع: الطسة والطسة طساس، ولا يمنع أن يجمع الطسة على طسيس، بل ذلك قياسه، والطساس بائع الطسوس، والطساسة حرفته، وعن أبي عبيدة: الطست فارسي. قلت: هو في الفارسية بالشين المعجمة. وقال الفراء: طي تقول: طست، وغيرهم يقول: طس، وهذا يرد ما حكاه ابن دحية، قال الفراء: يقال: الطسة، أكثر في كلام العرب، والطس، ولم يسمع من العرب: الطست، وفي كتاب (التذكير والتأنيث) لابن الأنباري، يقال: الطست، بفتح الطاء وكسرها، قاله أبو زيد، وقال ابن قرقول: طس، بالفتح والكسر والفتح أفصح، وهي مؤنثة، وخص الطست بذلك دون بقية الأواني لأنه آلة الغسل عرفا. قوله: (من ذهب) ليس فيه ما يوهم استعمال آنية الذهب لنا، فإن ذلك فعل الملائكة واستعمالهم وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، أو لأن ذلك كان أول الأمر قبل استعمال الأواني من النقدين، لأنه كان على أصل الإباحة، والتحريم إنما كان بالمدينة، وإنما كان من ذهب لأنه أعلى أواني الجنة، وهو ورأس الأثمان، وله خواص منها: أنه لا تأكله النار في
حال التعليق، ولا تأكله الأرض، ولا تغيره، وهو أنقى كل شيء وأصفاه، ويقال في المثل: أنقى من الذهب، وهو بيت الفرح والسرور. وقال الشاعر:
* صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
* لو مسها حجر مسته سراء
*
وهو أثقل الأشياء فيجعل في الزئبق الذي هو أثقل الأشياء فيرسب، وهو موافق لثقل الوحي، وهو عزيز، وبه يتم الملك. قوله: (ممتلئ حكمة وإيمانا) الحكمة: اسم من حكم بضم عين الفعل أي: صار حكيما، وصاحب الحكمة. المتقن للأمور، وأما: حكم، بفتح عين الفعل، فمعناه: قضى، ومصدره: حكم بالضم، والحكم أيضا: الحكمة بمعنى: العلم، والحكيم: العالم، وزعم النووي: أن الحمكة فيها أقوال مضطربة، صفي لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتملة على المعرفة با تعالى، المصحوب
42

بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل، فالحكيم من حاز ذلك كله. وقال ابن دريد: كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة. وقيل: الحكمة المانعة من الجهل. وقيل: هي النبوة. وقيل: الفهم عن ا تعالى. وقال ابن سيده: القرآن كفى به حكمة لأن الأمة صارت علماء بعد الجهل. وفي (التوضيح)، وفي هذا الحديث دلالة صريحة أن شرح صدره كان ليلة المعراج، وفعل به ذلك لزيادة الطمأنينة لما يرى من عظم الملكوت، أو لأنه يصلي بالملائكة عليهم والسلام.
قوله: (فأفرغه في صدري) أي: أفرغ كل واحد من الحكمة والإيمان اللذين كانا في الطست في صدري. قوله: (ثم أطبقه) أي؛ ثم أطبق صدره، يقال: أطبقت الشيء إذا غطيته وجعلته مطبقا. وفي (التوضيح): لما فعل به ذلك ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء، فجمع ا له أجزاء النبوة وختمها، فهو خاتم النبيين، وختم عليه فلم يجد عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك، لأن الشيء المختوم محروس، وقد جاء أنه استخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، وذكر عياض أن موضع الخاتم إنما هو شق الملكين بين كتفيه، ذكره القرطبي. وقال: هذه غفلة، لأن الشق إنما كان ولم يبلغ بالسن حتى نفذ إلى ظهره، ورواه أبو داود الطيالسي والبزار وغيرهما من حديث عروة عن أبي ذر، ولم يسمع منه في حديث الملكين، قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم خاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن، وهذا دال مع حديث البخاري، كما نبه عليه القرطبي، وأنه في الصدر دون الظهر، وإنما كان الخاتم في ظهره ليدل على ختم النبوة به، وأنه لا نبي بعده، وكان تحت نغض كتفه لأن ذلك الموضع منه يوسوس الشيطان. قوله: (فعرج بي) يعني: صعد، والعروج: الصعود. يقال: عرج يعرج عروجا من باب: نصر ينصر، وقال ابن سيده: عرج في الشيء وعليه يعرج وعرج يعرج عروجا: رقي، وعرج الشيء فهو عريج: ارتفع وعلا، والمعراج شبه سلم مفعال من العروج، كأنه آلة له. وقال ابن سيده: المعراج شبه سلم تعرج عليه الأرواح. وقيل: هو حيث تصعد أعمال بني آدم. قوله: (إلى السماء الدنيا) وروى ابن حبان في (صحيحه) مرفوعا: (بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام). وذكر في كتاب (العظمة) لأبي سعيد أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي: عن عبد ا، قال: (ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين السماء إلى السماء التي تليها مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي كذلك، والماء على الكرسي، والعرش على ذلك الماء). وفي كتاب (العرش) لأبي جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة، بإسناده إلى العباس، قال: قال رسول ا: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا؛ ا ورسوله أعلم. قال: بينهما خمسمائة عام، وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض). وروي أيضا عن أبي ذر مرفوعا مثله. قوله: (افتح) أي: إفتح الباب، وهذا يدل على أن الباب كان مغلقا، والحكمة فيه أن السماء لم تفتح إلا لأجله، بخلاف ما لو وجده مفتوحا، وهذا يدل أيضا على أن عروجه، كان بجسده، إذ لو لم يكن بجسده لما استفتح الباب.
قوله: (قال من هذا؟) أي: قال الخازن: من هذا الذي يقرع الباب؟ قال: جبريل، وفيه إثبات الاستئذان، وأن يقول: فلان، ولا يقول: أنا، كما نهي عنه في حديث جابر. قوله: (أسودة) جمع سواد، كالأزمنة جمع زمان، والسواد الشخص، وقيل: الجماعات، وسواد الناس: عوامهم، وكل عدد كثير، ويقال: هي الأشخاص من كل شيء. قال أبو عبيد: هو شخص كل شيء من متاع أو غيره، والجمع: أسودة، وأساودة جمع الجمع. قوله: (مرحبا) معناه أصبت رحبا وسهلا، فاستأنس ولا تستوحش. قوله؛ (بالنبي الصالح)، وهو القائم بحقوق ا وحقوق العباد، وكلهم قالوا له: بالنبي الصالح، لشموله سائر الخلال المحمودة الممدوحة من الصدق والأمانة والعفاف والفضل، ولم يقل له أحد: مرحبا بالنبي الصادق، ولا: بالنبي الأمين، لما ذكرنا أن الصلاح شامل لسائر أنواع الخير. قوله: (نسم بنيه) النسم؛ بفتح النون والسين، والنسمة: نفس الروح، و: ما بها نسمة أي: نفس، والجمع: نسم، قاله ابن سيده. وقال الخطابي: هي النفس، والمراد أرواح بني آدم، وقال ابن التين: ورويناه: نسيم بني آدم، والأول أشبه. وقال القاضي عياض: فيه دلالة أن نسم أهل النار في السماء ثم قال: قد جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، فكيف تكون مجتمعة في السماء؟ وأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا فصادف وقت عرضها مرور النبي. فإن قلت: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار
43

كما هو نص القرآن. قلت: يحتمل أن الجنة كانت في جهة يمين آدم والنار في جهة شماله، وكان يكشف له عنهما، ويحتمل أن يقال: إن النسم المرئية هي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلمه ا بما يصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من عن يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من عن يساره. قوله: (قال أنس: فذكر)، ويروى: (فقال أنس: فذكر)، أي أبو ذر.
قوله: (أنه) أي: أن النبي. قوله: (ولم يثبت) من الإثبات أي: لم يعين أبو ذر لكل نبي سماء معينا غير ما ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السادسة، وفي (الصحيحين): من حديث أنس عن مالك بن صعصة أنه وجد في السماء الدنيا آدم كما سلف في حديث أبي ذر، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة، هارون وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو مخالف لرواية أنس عن أبي ذر أنه وجد إبراهيم في السادسة، وكذا جاء في صحيح مسلم. وأجيب: بأن الإسراء إن كان مرتين فيكون رأى إبراهيم في إحداهما في إحدى السمائين، ويكون استقراره بها ووطنه، وفي الثانية في سماء غير وطنه، وإن كان مرة فيكون أولا رآه في السماء السادسة، ثم ارتقى معه إلى السابعة، ويقال: إن المعراج إذا كان مرة فالأرجح رواية الجماعة بقوله فيها أنه رآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وهو في السابعة بلا خلاف، وقول هذا القائل: بلا خلاف، غير صحيح، لأن فيه خلافا، روي عن ابن عباس ومجاهد والربيع أنه في السماء الدنيا، وروي عن علي رضي ا عنه، أنه عند شجرة طوبى في السادسة، وروي عن مجاهد والضحاك أنه في السابعة.
فإن قلت: كيف يجمع بين هذه الأقوال وفيها منافاة قلت: لا منافاة بينهما، لأنه يحتمل أن ا رفعه ليلة المعراج إلى السماء السادسة عند سدرة المنتهى، ثم إلى السابعة تعظيما للنبي حتى يراه في أماكن، ثم أعاده إلى السماء الدنيا. وفي (تفسير النسفي) البيت المعمور حذاء العرش بحيال الكعبة يقال له: الضراح، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدا، وخادمه ملك يقال له: رزين. وقيل: كان في الجنة فحمل إلى الأرض لأجل آدم، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان. قلت: الضراح، بضم الضاد المعجمة وبالحاء المهملة. وقال الصغاني: ويقال له: الضريح أيضا.
قوله: (قال أنس)، ظاهره أن هذه القطعة لم يسمعها أنس من أبي ذر. قوله: (قال ابن شهاب) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. قوله: (ابن حزم) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري المدني، وأبوه محمد، ولد في عهد رسول ا، وأمر أباه أن يكتبه بأبي عبد الملك، وكان فقيها فاضلا، قتل يوم الحرة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وهو تابعي، وذكر ابن الأثير في الصحابة ولم يسمع الزهري منه لتقدم موته. قوله: (وأبا حبة)، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة، وهو المشهور. وقال القابسي: بالياء آخر الحروف، وغلطوه في ذلك. وقال الواقدي بالنون، واختلف في اسمه، فقال أبو زرعة: عامر، وقيل: عمر، وقيل: ثابت، وقال الواقدي: مالك. قالوا: في هذا الإسناد وهم لأن المراد بابن حزم أما أبو بكر، فهو لم يدرك أبا حبة، وأما محمد فهو لم يدركه الزهري. وأجيب: بأن حزم روى مرسلا حيث نقل بكلمة: ان، عنهما، ولم يقل نحو: سمعت وأخبرني، فلا وهم فيه، وهكذا أيضا في (صحيح مسلم). قوله: (حتى ظهرت) أي: علوت وارتفعت، ومنه قوله:
* والشمس في حجرتها لم تظهر
*
قوله: (لمستوى) بفتح الواو، وقال الخطابي: المراد به المصعد، وقال النضر بن شميل: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وهو على السطح، فقال: استوي: اصعد. وقيل: هو المكان المستوي. قوله: (صريف الأقلام) بفتح الصاد المهملة، وهو تصويتها حال الكتابة. وقال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية ا تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء ا تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده ا من أمره وتدبيره في خلقه، سبحانه وتعالى، لا يعلم الغيب إلا هو الغني عن الاستذكار بتدوين الكتب والاستثبات بالصحف، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. قوله: (قال ابن حزم)، أي: عن شيخه، وأنس بن مالك أي: عن أبي ذر، وقال الكرماني: الظاهر أنه من جملة مقول ابن شهاب، ويحتمل أن يكون تعليقا من البخاري، وليس بين أنس وبين رسول الله ذكر أبي ذر، ولا بين ابن حزم ورسول الله ذكر ابن عباس وأبي حبة فهو إما من قبيل المرسل، وإما أنه ترك الواسطة اعتمادا على ما تقدم آنفا، مع أن الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: قال رسول ا، يكون بدون الواسطة، فلعل أنسا سمع هذا البعض من الحديث من رسول ا، والباقي سمعه من أبي ذر؟.
قوله: (ففرض ا على أمتي خمسين صلاة) وفي رواية ثابت عن أنس عند مسلم؛ (ففرض ا علي خمسين صلاة كل يوم وليلة)، ونحوه في رواية مالك بن صعصعة عند
44

البخاري، فيحتمل أن يقال: في كل من رواية الباب والرواية الأخرى اختصار، أو يقال: ذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما يستثنى من خصائصه. قوله: (فارجع إلى ربك)، أي: الموضع الذي ناجيت ربك أولا. قوله: (فراجعت)، هذا رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فراجعني)، والمعنى واحد. قوله: (فوضع شطرها)، وفي رواية مالك بن صعصعة؛ (فوضع عني عشرا)، ومثله لشريك، وفي رواية ثابت: (فحط عني خمسا). وقال الكرماني: الشطر: النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمس وعشرون، وفي الثانية ثلاثة عشر، يعني بتكميل المتكرر، إذ لا معنى لوضع بعض صلاة، وفي الثالثة: سبعة. قلت: هذا كلام لا يتجه، وهو يخالف ظاهر عبارة حديث الباب، لأن المراجعة المذكورة فيه ثلاثة مرات، ولم يحصل الوضع إلا في المرتين الأوليين، وفي المرة الثالثة، قال: (هن خمس وهن خمسون)، فلم يحصل الوضع ههنا، ويلزم من كلامه أن تكون المراجعة أربع مرات. في الأولى الشطر، وفي الثانية ثلاثة عشر، وفي الثالثة سبعة، وفي الرابعة قال: (هن خمس وهن خمسون)، وليس الأمر كذلك. قال ابن المنير: ذكر الشطر أعم من كونه وضع دفعة واحدة، وقال بعضهم: قلت: وكذا العشر في دفعتين، والشطر في خمس دفعات. انتهى. قلت: على هذا يكون سبع دفعات، في المراجعة الأولى دفعتان وهما عشرون كل دفعة عشرة، وفي الثانية تكون خمسه دفعات كل دفعة خمس فتصير خمسة وعشرين، ولكن هل كل دفعة في مراجعة فتصير سبع مراجعات؟ أو دفعتان في المراجعة الأولى وخمس دفعات في الثانية؟ فلكل منهما وجه بالاحتمال، ولكن ظواهر الروايات لا تساعد شيئا من ذلك إلا بالتأويل، وهو أن يكون المراد من الشطر البعض، وقد
جاء في كلام العرب ذلك، وقد جاء بمعنى الجهة أيضا كما في قوله تعالى: * (فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 441) أي: جهته، فإذا كان كذلك فيكون المراد من الشطر في المراجعة الأولى العشر مرتين، وفي الثانية الخمس خمس مرات، فتكون الجملة خمسا وأربعين. إلى أن قال: (هن خمس)، يعني خمس صلوات في العمل، (وهي خمسون) في الثواب، لأن لكل حسنة عشر أمثالها، كما في النص. وكان الفرض في الأول خمسين ثم إن ا تعالى رحم عباده وجعله بخمس تخفيفا لنا ورحمة علينا، ثم هل هذا نسخ أم لا؟ يأتي الكلام فيه عن قريب إن شاء ا تعالى. فإن قلت: إذا كان الفرض أولا هو الخمسين، كيف جاز وقوع التردد والمراجعة بين النبي وبين موسى كليم ا عليه الصلاة والسلام؟ قلت: كانا يعرفان أن الأول غير واجب قطعا، ولو كان واجبا قطعا لما كان يقبل التخفيف، ولا كان النبيان العظيمان يفعلان ذلك.
قوله: (هي خمس وهن خمسون)، وفي رواية: (هن خمس وهي خمسون)، يعني خمس من جهة العدد في الفعل، وخمسون باعتبار الثواب، كما ذكرناه الآن. قوله: (لا يبدل القول لدي) أي: قال تعالى: لا يبدل القول لدي. قوله: (ارجع إلى ربك)، ويروى: (راجع ربك). قوله: (قلت) ويروى (فقلت). قوله: (استحييت من ربي) وجه استحيائه من ربه أنه لو سأل الرفع بعد الخمس لكان كأنه قد سأل رفع الخمس بعينها، فلذلك استحيي من أن يراجع بعد ذلك، ولا سيما سمع من ربه: لا يبدل القول لدي بعد قوله: (هن خمس وهن خمسون) وقال بعضهم: يحتمل أن يكون سبب الاستحياء أن العشرة آخر جمع القلة، وأول جمع الكثرة، فخشي أن يدخل في الإلحاح في السؤال. قلت: هذا ليس بجواب في رواية هذا الباب، وأما في رواية مالك بن صعصعة وشريك (فوضع عني عشرا) ففيه إلحاح، لأن السؤال قد تكرر، وكيف، والإلحاح في الطلب من ا تعالى مطلوب؟.
قوله: (إلى السدرة المنتهى) السدر: شجر النبق، واحدته: سدرة، وجمعها سدر وسدور، الأخيرة نادرة. وقال أبو حنيفة عن أبي زياد: السدر، من العضاه، وهو لونان، فمنه عبري ومنه ضال، فأما العبري فما لا شوك فيه إلا ما لا يضير، وأما الضال فهو ذو شوك، وللسدر ورقة عريضة مدورة، وربما كانت السدرة محل الإقلال، وورق الضال صغار. قال وأجود نبق يعلم بأرض العرب نبق بهجر في بقعة واحدة تحمى للسلطان، وهو أشد نبق يعلم حلاوة، وأطيبه رائحة، يفوح فم آكله وثياب لابسه كما يفوح العطر. وفي (نوادر) الهجري: السدر يطبخ ويصبغ به، وفي كتاب النووي: تجمع السدر على؛ سدرات، بإسكان الدال، ويقال بفتحها، ويقال بكسرها مع كسر السين فيها. قوله: (المنتهى) يعني المنتهى فوق السماء السابعة، وقال الخليل: في السابعة قد أظلت السماوات والجنة، وفي رواية: (هو في السماء السادسة) والأول أكثر، ويحمل على تقدير الصحة أن يكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة، وزعم عياض أن أصلها في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. انتهى، وليس هذا بلازم، بل معناه: أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد ا تعالى
45

حتى تخرج من الأرض وتسير فيها وروي أن من أصلها تخرج أربعة أنهار: نهران باطنان وهما: السلسبيل والكوثر، ونهران ظاهران، وهما: النيل والفرات، وعن ابن عباس: هي عن يمين العرش. وقال ابن قرقول: إنها أسفل العرش لا يجاوزها ملك ولا نبي، وفي الأثر إليها ينتهي ما يعرج من الأرض وما ينزل من السماء، فيفيض منها. وقيل: ينتهي إليها علم كل ملك مقرب ونبي مرسل. وقال كعب: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا ا. وقيل ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقيل: إن روح المؤمن ينتهي به إليها فتصلي عليه هناك الملائكة المقربون. قاله ابن سلام في تفسيره، قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: (ثم أدخلت الجنة) يدل على أن السدرة ليست في الجنة، وقال ابن دحية: ثم في هذا الحديث في مواضع ليست للترتييب، كما في قوله تعالى: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 71) إنما هي مثل: الواو، للجمع والاشتراك، فهي بذلك خارجة عن أصلها.
قوله: (حبائل اللؤلؤ) كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع، بالحاء المهملة، ثم الموحدة وبعد الألف ياء آخر الحروف ساكنة، ثم لام. وذكر جماعة منهم أنه تصحيف، وإنما هو: جنابذ، بالجيم والنون وبعد الألف باء موحدة ثم ذال معجمة، كما وقع عند المصنف في أحاديث الأنبياء عليهم السلام، ومن رواية ابن المبارك وغيره عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة. وقال ابن الأثير: إن صحت رواية: حبائل، فيكون أراد به مواضع مرتفعة كحبال الرمل، كأنه جمع: حبالة، وحبالة جمع: حبل، على غير قياس، وفي رواية الأصيلي عن الزهري: (دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ). وقال ابن قرقول: كذا لجميعهم في البخاري حبائل، ومن ذهب إلى صحة الرواية، قال: إن الحبائل القلائد والعقود، أو يكون من حبال الرمل أي: فيها اللؤلؤ كحبال الرمل، وهو جمع حبل، وهو الرمل المستطيل، أو من الحبلة وهو ضرب من الحلي معروف. وقال صاحب (التلويح): وهذا كله تخيل ضعيف، بل هو بلا شك تصحيف من الكاتب، والحبائل إنما تكون جمع: حبالة، أو حبلة. و: الجنابذ، جمع: جنبذ، بضم الجيم وسكون النون وبالموحدة المضمومة وبالذال المعجمة: وهو ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، والعامة تقول بفتح الباء، والأظهر أنه فارسي معرف. قلت: هو في لسان العجم: كنبذ، بضم الكاف الصماء وسكون النون وفتح الباء الموحدة: وهي القبة.
ذكر إعرابه وما يتعلق بالبيان: قوله: (وأنا بمكة) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (ممتلئ حكمة وإيمانا) ممتلئ: بالجر، صفة: طست، وتذكيره باعتبار الإناء، لأن الطست مؤنثة. وكلمة؛ من في: من ذهب، بيانية و: (حكمة وإيمانا) منصوبان على التمييز، وجعل الإيمان والحكمة في الإناء وإفراغهما مع أنهما معنيان، وهذه صفة الأجسام من أحسن المجازات، أو أنه من باب التمثيل، أو؛ تمثل له المعاني كما تمثل له أرواح الأنبياء الدارجة بالصور التي كانوا عليها، ومعنى المجاز فيه كأنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمى ذلك الشيء حكمة وإيمانا لكونه سببا لهما. قوله: (فعرج بي إلى السماء) ويروى: (فعرج به)، بضمير الغائب، وهو من باب التجريد، فكأن النبي جرد من نفسه شخصا فأشار إليه. وفيه وجه آخر، وهو أن الراوي نقل كلامه بالمعنى لا بلفظه بعينه. وقال بعضهم: فيه التفات. قلت: هو تجريد كما قلنا. قوله: (أأرسل إليه؟) بهمزتين: أولاهما: للاستفهام وهي مفتوحة والثانية: همزة التعدي، وهي مضمومة.
وفي رواية الكشميهني: (أو أرسل إليه)؟ بواو مفتوحة بين الهمزتين، وهذا السؤال من الملك الذي هو خازن السماء يحتمل وجهين: أحدهما الاستعجاب بما أنعم ا عليه من هذا التعظيم والإجلال حتى أصعد إلى السماوات، والثاني: الاستبشار بعروجه إذا كان من البين عندهم أن أحدا من البشر لا يرقى إلى أسباب السماء من غير أن يأذن ا له، ويأمر ملائكته بإصعاده. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته. قلت: كيف يخفى عليه ذلك لاشتغاله بعبادته، وقد قال أولا: من هذا؟ حين قال جبريل: إفتح. وقال أيضا: هل معك أحد؟ قال جبريل: نعم معي محمد؟ وأين الخفاء بعد ذلك؟ وأين الاشتغال بالعبادة في هذا الوقت وهو وقت المحاورة والسؤال؟ وأمر نبوته كان مشهورا في الملكوت لأنها لا تخفى على خزان السماوات وحراسها، فصح أن لا يكون السؤال عن أصل الرسالة، وإنما كان سؤالا عن أنه أرسل إليه للعروج. والإسراء، فحينئذ احتمل سؤالهم الوجهين المذكورين.
فإن قلت: جاء في رواية شريك: (أو قد بعث؟) وهذا يؤيد ما قاله هذا القائل. قلت: معنى: أرسل وبعث سواء، على أن المعنى ههنا أيضا: أو قد بعث إلى هذا المكان؟ وذلك استعجاب منه واستعظام لأمره. قوله: (علونا السماء الدنيا)، ضمير الجمع فيه يدل على أنهما كان معهما ملائكة آخرون، فكأنهما كلما عد يا سماء تشيعهما الملائكة إلى أن يصلا إلى سماء أخرى؛ والدنيا،
46

صفة السماء في محل النصب، بمعنى أنه: لا يظهر النصب. قوله: (مرحبا) منصوب بأنه مفعول مطلق، أي: أصبت سعة لا ضيقا، والنصب فيه كما في قولهم: أهلا وسهلا. قوله: (فإذا رجل قاعد). ويروى: إذا، بدون؛ الفاء، كلمة: إذا، ههنا للمفاجأة، وتختص بالجمل الإسمية، ولا تحتاج إلى الجواب، وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرد، وظرف زمان عند الزجاج.
قوله: (قبل شماله)، كلام إضافي منصوب بقوله؛ نظر، وهو بكسر القاف وفتح الباء، بمعنى الجهة. قوله: (بإدريس) الباء، فيه، وفي قوله: (بالنبي) يتعلقان كلاهما بقوله: مر فالأولى للمصاحبة، والثانية للإلصاق ويندفع بهذا سؤال من يقول: لا يجوز تعلق حرفين من جنس واحد بمتعلق واحد لأنهما ليسا من جنس واحد. قوله: (ثم مررت بموسى عليه الصلاة والسلام)، هذا قول النبي، وفيه حذف تقديره؛ قال النبي: ثم مررت بموسى، لأنه قال أولا: فلما مر جبريل، فما وجه قوله بعد هذا: (ثم مررت)؟ فالذي قدرناه هو وجهه، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون الأول نقلا بالمعنى، والثاني يكون نقلا باللفظ بعينه. قوله: (حتى ظهرت لمستوى) اللام: فيه للتعليل، أي: علوت لأجل استعلاء مستوى، أو لأجل رؤيته، أو يكون بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: * (أوحى لها) * (الزلزلة: 5) أي: إليها، ويجوز أن يكون متعلقا بالمصدر أي: ظهرت ظهور المتسوى. قلت: إذا كان: اللام، بمعنى: إلى، يكون المعنى: إني أقمت مقاما بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث اطلعت على الكوائن، وظهر لي ما يراد من أمر ا تعالى وتدبيره في خلقه، وهذا هو المنتهى الذي لا يقدر أحد عليه. ويقال: لام، الغرض و: إلى، الغاية يلتقيان في المعنى. قلت: قال الزمخشري، في قوله تعالى: * (كل يجري إلى أجل مسمى) * (:) فإن قلت: يجري لأجل مسمى، ويجري إلى أجل مسمى، هو من تعاقب الحرفية. قلت: كلا، ولن يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن، ولكن المعنيين، أعني: الانتهاء والاختصاص، كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض، لأن قولك: يجري إلى أجل مسمى معناه: يبلغه وينتهي إليه، وقولك: يجري لأجل مسمى، يريد: يجري لإدراك أجل مسمى. قوله: (هن خمس) الضمير فيه مبهم يفسره الخبر، كقوله:
* هي النفس ما حملتها تتحمل
*
قوله: (فإذا فيها). كلمة: إذا ههنا وإلى في قوله: (وإذا ترابها) للمفاجأة.
ذكر استنباط الأحكام والفوائد: منها: أن الذي يفهم من ترتيب البخاري ههنا أن الإسراء والمعراج واحد، لأنه قال أولا: كيف فرضت الصلاة في الإسراء، ثم أورد الحديث، وفيه: (ثم عرج بي إلى السماء)، وظاهر إيراده في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقتضي أن الإسراء غير المعراج، فإنه ترجم للإسراء ترجمة، وأخرج فيها حديثا، ثم ترجم للمعراج ترجمة وأخرج فيها حديثا. ومنها: أن قوله: (فنزل جبريل)، وقوله: (فعرج بي إلى السماء) يدلان على رسالة النبي وعلى خصوصيته بأمور لم يعطها غيره. ومنها: أن جبريل عليه الصلاة والسلام، هو الذي كان ينزل على النبي من عند ا وبأمره. ومنها: أن بعضهم استدل بقوله: (ثم أخذ بيدي) على أن المعراج وقع غير مرة، لكون، الإسراء إلى بيت المقدس لم يذكر ههنا. وقال بعضهم: يمكن أن يقال: هو من باب اختصار الراوي. قلت: هذا غير مقنع، لأن الراوي لا يختصر ما سمعه عمدا. ومنها: أن فيه إثبات الاستئذان وبيان الأدب فيما إذا استأذن أحد بدق الباب ونحوه، فإذا قيل له: من أنت؟ يقول: زيد، مثلا. ولا يقول: أنا، إذ لا فائدة فيه لبقاء الإبهام، كذا قالوا: قلت: ولا يقتصر على قوله: زيد، مثلا، لأن المسمى: بزيد، قد يكون كثيرا فيشتبه عليه، بل يذكر الشيء الذي هو مشهور بين الناس به. ومنها: أن رسول الرجل يقول مقام آذنه، لأن الخازن لم يتوقف على الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عمل بلازم الإرسال إليه. ومنها: أنه علم منه أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها. ومنها: أنه علم أن رسول الله من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (والابن الصالح)، بخلاف غيره من الأنبياء المذكورين فيه، فإنهم قالوا: الأخ الصالح. ومنها: جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتن. ومنها: أن فيه شفقة الوالد على ولده وسروره بحسن حاله. ومنها: ما قالت الشافعية: إن فيه عدم وجوب صلاة الوتر حيث عين الخمس. قلنا؛ نحن أيضا نقول: لم يجب الوتر في ذلك، وإنما كان وجوبه بعد ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن ا زادكم صلاة). الحديث، فلذلك انحطت درجته عن الفرض، لأن ثبوت الفرض الخمس بدليل قطعي ومنها أن في ظاهره أن أرواح بني آدمر من أهل الجنة والنار في درجته عن الفرض لأن ثبوت الفرض الخمس بدليل قطعي. ومنها: أن
الجنة والنار مخلوقتان. قال ابن بطال: وفيه: دليل أن الجنة في السماء. ومنها: أنه قد استدل به بعضهم على جواز تحلية المصحف. وغيره بالذهب، وهذا استدلال بعيد، لأن ذلك كان فعل الملائكة واستعمالهم،
47

وليس بلازم أن يكون حكمهم كحكمنا، ويحتاج أيضا إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به، ومع هذا كان هذا على أصل الإباحة وتحريم استعمال النقدين كان بالمدينة.
ومنها: أن قوما استدلوا بالنقض على أنه يجوز نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين. أحدهما: البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل بها، لأن ذلك عنده من البداء، والبداء على ا سبحانه وتعالى محال. الثاني: أن العبادة، وإن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يراه، فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الأرض ووصولها إلى المخاطبين. قال: وإنما ادعى النسخ فيها القاشاني ليصحح بذلك مذهبه في أن البيان لا يتأخر. قال أبو جعفر: وهذا إنما هي شفاعة شفعها رسول الله لأمته، ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته، ولا يسمى نسخا. وقال السهيلي: قول أبي جعفر: وذلك بداء، ليس بصحيح، لأن حقيقة البداء أن يبدو للآمر رأي يتبين الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق ا تعالى، والذي يظهر أنه نسخ ما وجب على النبي عليه الصلاة والسلام، من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب، وهذا نسخ على الحقيقة، نسخ عنه ما وجب عليه من التبليغ، فقد كان في كل مرة عازما على تبليغ ما أمر به ومراجعته، وشفاعته لا تنفي النسخ، فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم، فشفاعته كان سببا للنسخ لا مبطلة لحقيقته، ولكن المنسوخ ما ذكرناه من حكم التبليغ الواجب عليه قبل النسخ، وحكم الصلوات في خاصته، وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم إذ لا يتصور نسخ الحكم قبل وصوله إلى المأمور.
والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرا لا تعبدا، فإذا كان خبرا لا يدخله النسخ، ومعنى الخبر أنه أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة، ومعناه أنها في اللوح المحفوظ خمسون، فتأولها عليه الصلاة والسلام، على أنها خمسون بالفعل، فبينها له ربه تعالى عند مراجعته أنها في الثواب لا في العمل. ومنها: وجوب الصلوات الخمس، والباب معقود لهذا، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وقال ابن إسحاق: ثم إن جبريل عليه السلام، أتى فهمز بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت عين ماء مزن، فتوضأ جبريل عليه السلام، ومحمد عليه السلام، ينظر، فرجع رسول الله فأخذ بيد خديجة رضي ا تعالى عنها، ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل عليه السلام، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل عليه الصلاة والسلام. وقال نافع بن جبير: أصبح النبي، ليلة الإسراء فنزل جبريل حين زاغت الشمس فصلى به وقال جماعة: لم تكن صلاة مفروضة قبلها، إلا ما كان أمر به من قيام الليل من غير تحديد ركعات ووقت حضور، وكان يقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. ومنها: أن أرواح المؤمنين يصعد بها إلى السماء. ومنها: أن أعمال نبي آدم الصالحة تسر آدم وأعمالهم السيئة تسوءه. ومنها: أنه يجب أن يرحب بكل أحد من الناس في حين لقائه بإكرام النازل، وأن يلاقيه بأحسن صفاته، وأعمها بجميل الثناء عليه. ومنها: أن أوامر ا تعالى تكتب بأقلام شتى، وأن العلم ينبغي أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة ا في سماواته، فكيف في أرضه؟ ومنها: أن ما قضاه وأحكمه من آثار معلومة وآجال مكتوبة وشبه ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه رفقا لعباده فهو الذي قال فيه * (يمحو ا ما يشاء ويثبت) * (الرعد: 93).
الأسئلة والأجوبة فمنها ما قيل: ما وجه اعتناء موسى عليه الصلاة والسلام، بهذه الأمة من بين سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، الذين رآهم النبي ليلة الإسراء؟ وأجيب: لما ورد أنه قال: يا رب اجعلني من أمة محمد، لما رأى من كرامتهم، على ربهم، فكان اعتناؤه بأمرهم وإشفاقه عليهم كما يعتني بالقوم من هو منهم. وقال الداودي؛ إنما كان ذلك من موسى لأنه أول من سبق إليه حين فرضت الصلاة، فجعل ا في قلب موسى عليه الصلاة والسلام، ذلك ليتم ما سبق من علم ا تعالى.
ومنها ما قيل: ما معنى نقص الصلاة عشرا بعد عشر؟ وأجيب: ليس كل الخلق يحضر قلبه في الصلاة من أولها إلى آخرها، وقد جاء أنه يكتب له ما حضر قلبه منها، وأنه يصلي فيكتب له نصفها وربعها حتى انتهى إلى عشرها، ووقف، فهي خمس في حق من يكتب له عشرها، وعشر في حق من يكتب له أكثر من ذلك، وخمسون في حق من كملت صلاته بما يلزمه من تمام خشوعها وكمال سجودها وركوعها.
ومنها ما قيل: إن النبي كيف رأى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، في السماوات ومقرهم في الأرض؟ وأجيب: بأن ا تعالى شكل أرواحهم على هيئة صور أجسادهم. ذكره ابن عقيل، وكذا ذكره ابن التين، وقال: وإنما تعود الأرواح إلى الأجساد يوم البعث إلا عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنه حي لم يمت، وهو ينزل إلى الأرض. قلت: الأنبياء أحياء، فقد رآهم النبي حقيقة، وقد مر على موسى عليه الصلاة والسلام، وهو قائم يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة.
ومنها ما قيل: ما الحكمة في أنه عين من الأنبياء آدم
48

وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى في حديث هذا الباب، وفي غيره ذكر أيضا: يحيى ويوسف وهارون، وهم ثمانية؟ وأجيب. أما آدم فإنه خرج من الجنة بعداوة إبليس عليه اللعنة، له وتحيله، فكذلك نبينا خرج من مكة بأذى قومه له ولمن أسلم معه، وأيضا، فإن ا تعالى أراد أن يعرض على نبيه نسم بنيه من أهل اليمين وأهل الشمال، ليعلم بذلك أهل الجنة وأهل النار. وأيضا فإن آدم أبو البشر وأول الأنبياء المرسلين، وكنيته أبو البشر أيضا. وقيل: أبو محمد، وروى ابن عساكر من حديث علي رضي ا تعالى عنه مرفوعا: (أهل الجنة ليس لهم كنى إلا آدم فإنه يكنى: أبا محمد). ومن حديث كعب الأحبار: (ليس لأحد من أهل الجنة لحية إلا آدم، فإن له لحية سوداء إلى سرته). وذلك لأنه لم يكن له لحية في الدنيا، وإنما كانت اللحى بعد آدم، ثم قيل: إن اسم آدم سرياني، وقيل: مشتق، فقيل: أفعل من الأدمة. وقيل: من لفظ الأديم، لأنه خلق من أديم الأرض. وقال النضر بن شميل: سمي آدم لبياضه. وذكر محمد بن علي: أن الآدم من الظباء الطويل القوائم. وفي حديث أبي هريرة مرفوعا: (إن ا خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعا، فكل من يدخل الجنة على صورته وطوله، وولد له أربعون ولدا في عشرين بطنا، وعمر ألف سنة، ولما أهبطه من الجنة هبط (بسر نديب) من الهند على جبل يقال له؛ (نوذ) ولما حضرته الوفاة اشتهى قطف عنب، فانطلق بنوه ليطلبوه فلقيتهم الملائكة فقالوا
: أين تريدون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى قطفا. قالوا: ارجعوا فقد كفيتموه، فرجعوا فوجدوه قد قبض، فغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل عليه الصلاة والسلام، والملائكة خلفه وبنوه خلفهم، ودفنوه. وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم). ودفن في غار يقال له: غار الكنز، في أبي قبيس، فاستخرجه نوح عليه الصلاة والسلام، في الطوفان وأخذه وجعله في تابوت معه في السفينة، فلما نضب الماء رده نوح عليه الصلاة والسلام إلى مكانه.
وأما إدريس، عليه الصلاة والسلام، فإنه كان أول من كتب بالقلم وانتشر منه بعده في أهل الدنيا، فكذلك نبينا، كتب إلى الآفاق، وسمي بذاك لدرسه الصحف الثلاثين التي أنزلت عليه، فقيل: إنه خنوخ، ويقال: أخنوخ، ويقال: اخنخ، ويقال: اهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم. وقال الحراني: اسم أمه: برة، وخنوخ سرياني، وتفسيره بالعربي: إدريس، قال وهب: هو جد نوح، وقد قيل: إنه إلياس، وإنه ليس بجد نوح ولا هو في عمود هذا النسب، ونقله السهيلي عن ابن العربي، واستشهد بحديث الإسراء حيث قال فيه: (مرحبا بالأخ الصالح)، ولو كان في عمود هذا النسب لقال له، كما قال إبراهيم: (والابن الصالح)، وذكر بعضهم أن إدريس كان نبيا في بني إسرائيل، فإن كان كذلك فلا اعتراض. وقال النووي: يحتمل أنه قال تلطفا وتأدبا، وهو أخ، وإن كان ابنا والأبناء أخوة، والمؤمنون أخوة. وقال ابن المنير: أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ. قال: وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه فيها بالإبن الصالح. وقال المازري: ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح، فإن قام دليل على أن إدريس أرسل، لم يصح قول النسابين: إنه جد نوح، لإخبار نبينا عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: (ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه ا إلى أهل الأرض)، وإن لم يقم دليل جازم، قال: وصح أن إدريس كان نبيا ولم يرسل، قال السهيلي: وحديث أبي ذر الطويل يدل على أن آدم وإدريس رسولان. قلت: حديث أبي ذر أخرجه ابن حبان في (صحيحه): رفع إلى السماء الرابعة، ورآه فيها، ورفع وهو ابن ثلاث مائة وخمس وستين سنة.
وأما إبراهيم، فإن نبينا، رآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور، فكذلك حال نبينا، كان في حجه البيت واختتام عمره بذلك، كان نظير لقائه إبراهيم في آخر السماوات، ومعنى إبراهيم: أب رحيم، وكنيته أبو الضيفان. قيل: إنه ولد بغوطة دمشق ببرزة في جبل قاسيون، والصحيح أنه ولد بكوثا من إقليم بابل من العراق، وكان بينه وبين نوح عدة قرون، وقيل: ولد على رأس ألف سنة من خلق آدم عليه الصلاة والسلام، وذكر الطبري: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إنما نطق بالعبرانية حين عبر النهر فارا من نمرود، عليه اللعنة. وقال نمرود للذين أرسلهم وراءه في طلبه: إذا وجدتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه، فلما أدركوه استنطقوه، فحول ا لسانه عبرانيا، وذلك حين عبر النهر، فسميت العبرانية بذلك. قلت: المراد من هذا النهر هو الفرات، وبلغ إبراهيم مائتي سنة. وقيل: تنتقص خمسة وعشرين. ودفن بالبلدة المعروفة بالخليل.
وأما موسى، عليه الصلاة والسلام، فإن أمره آل إلى قهر الجبابرة وإخراجهم من أرضهم،
49

فكذلك نبينا حاله مثل ذلك، حيث فتح مكة وقهر المتجبرين المستهزئين من قريش. وموسى: هو عمران بن قاهث بن يصهر بن لاوي بن يعقوب عليه الصلاة والسلام.
وأما عيسى، عليه الصلاة والسلام، فإن اليهود راموا قتله، فرفعه ا إليه، فكذلك نبينا، فإن اليهود أرادوا قتله حين سموا له الشاة، فنجاه ا تعالى من ذلك. واسم عيسى عبراني، وقيل سرياني.
وأما يحيى، عليه الصلاة والسلام، فإن نبينا رآه مع عيسى في السماء، وإنه رأى من اليهود ما لا يوصف حتى ذبحوه، فكذلك نبينا رأى من قريش ما لا يوصف، ولكن ا تعالى نجاه منهم.
وأما يوسف، عليه الصلاة والسلام، فإنه عفا عن إخوته حيث قال: * (لا تثريب عليكم) * (يوسف: 29) الآية، فكذلك نبينا عفا عن قريش يوم فتح مكة.
وأما هارون، عليه الصلاة والسلام، فإنه كان محببا إلى بني إسرائيل، حتى إن قومه كانوا يؤثرونه على موسى، عليه الصلاة والسلام، فكذلك كان نبينا ثم صار محببا عند سائر الخلق.
ومنها ما قيل: إن قوله في الحديث: لم يثبت كيف منازلهم، يخالفه كلمة؛ ثم التي للترتيب؟ وأجيب: بأنه إما أن أنسا لم يرو هذا عن أبي ذر، وإما أن يقال: لا يلزم منه تعيين منازلهم لبقاء الإبهام فيه، لأن بين آدم وإبراهيم ثلاثة من الأنبياء وأربعة من السماوات أو خمسة، إذ جاء في بعض الروايات: وإبراهيم في السماء السابعة.
ومنها ما قيل: قوله تعالى: * (ما يبدل القول لدي) * (ق: 92) لم لا يجوز أن يكون معناه: لا ينقص عن الخمس ولا يبدل الخمس إلى أقل من ذلك؟ وأجيب: بأنه لا يناسب لفظ: (استحييت من ربي)، فإن قيل: ألم يبدل القول لديه حيث جعل الخمسين خمسا؟ أجيب: بأن معناه لا يبدل الإخبارات، مثل أن ثواب الخمس خمسون لا التكليفات، أو لا يبدل القضاء المبرم لا القضاء المعلق الذي يمحو ا ما يشاء منه ويثبت منه، أو معناه: لا يبدل القول بعد ذلك.
ومنها ما قيل: إن الإسراء كان ليلا بالنص، فما الحكمة في كونه ليلا؟ وأجيب: بأوجه: الأول: أنه وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك، وهو أشرف من مجالستهم نهارا، وهو وقت مناجاة الأحبة. الثاني: أن ا تعالى أكرم جماعة من أنبيائه بأنواع الكرامات ليلا، قال تعالى في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * (الأنعام: 67) وفي قصة لوط، عليه الصلاة والسلام، * (فأسر بأهلك بقطع من الليل) * (هود: 18، والحجر: 56) وفي قصة يعقوب، عليه الصلاة والسلام: * (سوف استغفر لكم ربي) * (يوسف: 89) وكان آخر دعائه وقت السحر من ليلة الجمعة، وقرب موسى نجيا ليلا، وذلك تعالى: * (إذ قال لأهله امكثوا إني آنست نارا) * (طه: 01، والقصص: 92) وقال: * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * (الأعراف: 241). وقال له لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل: * (فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون) * (الدخان: 32). وأكرم نبينا أيضا ليلا بأمور منها: انشقاق القمر، وإيمان الجن به، ورأى
الصحابة آثار نيرانهم كما ثبت في (صحيح مسلم) وخرج إلى الغار ليلا. الثالث: أن ا تعالى قدم ذكر الليل على النهار في غير ما آية فقال: * (وجعلنا الليل والنهار آيتين) * (الإسراء: 21) وقال: * (ولا الليل سابق النهار) * (يس: 04) وليلة النحر تغني عن الوقوف نهارا. الرابع: أن الليل أصل، ولهذا كان أول الشهور، وسواده يجمع ضوء البصر ويحد كليل النظر ويستلذ فيه بالسمر ويجتلى فيه وجه القمر. الخامس: أنه لا ليل إلا ومعه نهار، وقد يكون نهار بلا ليل، وهو: يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة. السادس: أن الليل محل استجابة الدعاء والغفران والعطاء. فإن قلت: ورد في الحديث: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، أو يوم الجمعة) قلت: قالوا ذلك بالنسبة إلى الأيام. قلت: ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد دخل في هذه الليلة أربعة آلاف جمعة بالحساب الجملي، فتأمل هذا الفضل الخفي. السابع: أن أكثر أسفاره كان ليلا، وقال: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل). والثامن: لينفي عنه ما ادعته النصارى في عيسى، عليه الصلاة والسلام، من البنوة لما رفع نهارا تعالى ا عن ذلك. التاسع: لأن الليل وقت الاجتهاد للعبادة، وكان قام حتى تورمت قدماه. وكان قيام الليل في حقه واجبا وقال في حقه: * (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) * (المزمل: 1 2) فلما كانت عبادته ليلا أكثر أكرم بالإسراء فيه، وأمره بقوله: * (ومن الليل فتهجد به) * (الإسراء: 97). العاشر: ليكون أجر المصدق به أكثر، ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارا.
ومنها ما قيل: إنه ذكر في هذا الحديث أن صدره غسل بماء زمزم، وقلبه بالثلج؟ وأجيب: بأنه غسل بالثلج أولا ليثلج اليقين إلى قلبه، وهذه لدخول الحضرة القدسية، وقيل: فعل به ذلك في حال صغره ليصير قلبه مثل قلوب الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، في الانشراح. والثانية: ليصير حاله مثل حال الملائكة.
ومنها ما قيل: ما كانت الحكمة في الإسراء؟ أجيب: بأنه إنما كان للمناجاة، ولهذا كان من غير مواعدة، وهذا أوقع وأعظم، وكان التكليم
50

في موسى عن مواعدة وموافاة، فأين ذلك من هذا؟ وشتان ما بين المقامين وبين من كلم على الطور، وبين من دعي إلى أعالي البيت المعمور، وبين من سخرت له الريح مسيرة شهر، وبين من ارتقى من الفرش إلى العرش في ساعة زمانية.
ومنها ما قيل: إنه عليه الصلاة والسلام عرج به على دابة يقال لها البراق، وثبت ذلك بالتواتر، وما الحكمة في ذلك، وكان ا قادرا على رفعه في طرفة عين بلا براق؟ وأجيب: بأن ذلك للتأنيس بالمعتاد، والقلب إلى ذلك أميل، وعرج به لكرامة الراكب على غيره، ولذلك لم ينزل عنه على ما جاء في حديث حذيفة؛ ما زال على ظهر البراق حتى رجع، وإنما لم يذكر في الرجوع للعلم به لقرينة الصعود. وسمي: براقا لسرعته تشبيها ببرق السحاب، وكانت بغلته، عليه الصلاة والسلام، بيضاء، أي: شهباء، فكذلك كان البراق، وفيه أسئلة. الأول: كون البراق على شكل البغل دون الخيل مع أن الخيل أفضل وأحسن. والجواب: كان الركوب في السلم والأمن لا في الخوف والحرب، ولإسراعه عادة، ولتحقيق ثباته وصبره، فلذلك كان، ركب بغلته في الحرب في قصة حنين لتحقيق ثباته في مواطن الحرب، وأما ركوب الملائكة الخيل فلأنه المعهود بالخيل في الحروب، وما لطف من البغال واستدار أحسن من الخيل في الوجوه التي ذكرناها. الثاني: استصعاب البراق لماذا كان؟ والجواب: كان تيها وزهوا لركوبه، وقول جبريل: أبمحمد تستصعب تحقيق الحال وقد ارفض عرقا من تيه الجمال؟ وقد قيل: إنه ركبه الأنبياء قبله أيضا. وقيل: إن جبريل ركب معه. الثالث: تشمس البراق حين قدومه إليه للركوب، قاله قتادة. الجواب: إن تشمسه ونفرته كان لبعد عهده من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وطول الفترة بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام. وقال: قال جبريل، عليه السلام لمحمد، حين تشمس به البراق: لعلك يا محمد مسست الصفراء اليوم، يعني الذهب؟ فأخبر النبي أنه مامسها إلا أنه مر بها. فقال: تبا لمن يعبدك من دون ا تعالى، وما شمس إلا لذلك ذكره السهيلي. وسمعت من بعض أستاذي الكبار، أنه: إنما شمس ليعد له النبي عليه الصلاة والسلام، بالركوب عليه أولا يوم القيامة، فلما وعد له قر.
ومنها ما قيل: ما معنى قوله: (وغشيها ألوان لا أدري ما هي)؟. أجيب: بأن هذا كقوله تعالى: * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) * (النجم: 61) في أن الإبهام للتفخيم والتهويل، وإن كان معلوما. وقيل: فراش من ذهب، وقيل: لعله مثل ما يغشى من الأنوار التي تنبعث منها وتتساقط على موقعها بالفراش، وجعلها من الذهب لصفائها وإضاءتها في نفسها.
ومنها ما قيل: كيف تصور الصعود إلى السماوات وما فوقها، والجسم الإنساني كثيف قبل هذا؟ أجيب: بأن الأرواح أربعة أقسام. الأول: الأرواح الكدرة بالصفات البشرية، وهي أرواح العوام، غلبت عليها القوى الحيوانية فلا تقبل العروج أصلا. والثاني: الأرواح التي لها كمال القوة النظرية للبدن باكتساب العلوم، وهذه أرواح العلماء. والثالث: الأرواح التي لها كمال القوة المدبرة للبدن باكتساب الأخلاق الحميدة، وهذه أرواح المرتاضين، إذ كسروا قوى أبدانهم بالارتياض والمجاهدة. والرابع: الأرواح التي حصل لها كمال القوتين، فهذه غاية الأرواح البشرية، وهي أرواح الأنبياء والصديقين، فكلما ازدادت قوة أرواحهم ازداد ارتفاع أبدانهم من الأرض، ولهذا لما كان الأنبياء، صلوات ا عليهم وسلامه، قويت فيهم هذه الأرواح، عرج بهم إلى السماء وأكملهم قوة نبينا، فعرج به إلى قاب قوسين أو أدنى.
05361 ح دثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (الحديث 053 طرفاه في: 0901، 5393).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة كلهم قد ذكروا، وعبد ا بن يوسف التنيسي، ومالك بن أنس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وكذلك الإخبار في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين مصري ومدني، وهذا من مراسيل عائشة لأنها لم تدرك القصة، ويحتمل أن تكون أخذت ذلك من النبي أو من صحابي آخر، وعلى كل حال فهو حجة لأن هذا مما لا مجال
للرأي فيه.
ذكر تعدد موضعه ومن
51

أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الهجرة عن مسدد عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر النبي ففرضت أربعا). وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي، والنسائي فيه عن قتيبة، أربعتهم عن مالك عن صالح بن كيسان به.
ذكر معناه وما يستنبط منه. قوله: (فرض ا) أي: قدر ا، والفرض في اللغة التقدير، هكذا فسره أبو عمر. قولها: (الصلاة) أي: الصلاة الرباعية، وذلك لأن الثلاثة وتر صلاة النهار، وأشار إلى ذلك في رواية أحمد من حديث ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن عروة: إلى آخره، وفيه: (إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا): وذكر الداودي أن الصلوات زيدت فيها ركعتان ركعتان، وزيدت في المغرب ركعة. وفي سنن البيهقي من حديث داود بن أبي هند عن عامر عن مسروق عن عائشة قالت: (إن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فلما قدم النبي المدينة واطمأن زاد ركعتين، غير المغرب، لأنها وتر صلاة الغداة. قال: وكان إذا سافر صلى الصلاة الأولى). قولها: (ركعتين ركعتين) بالتكرار ليفيد عموم التثنية لكل صلاة، لأن قاعدة كلام العرب أن تكرار الاسم المراد تقسيم الشيء عليه، ولولاه لكان فيه إيهام أن الفريضة في السفر والحضر ما كانت إلا فرد ركعتين فقط. وانتصب: (ركعتين ركعتين) على الحالية، والتكرار في الحقيقة عبارة عن كلمة واحدة نحو: مثنى، ونظيرها قولك: هذا مزاي، قائم مقام الحلو والحامض. قولها: (وزيد في صلاة الحضر)، يعني: زيدت فيها حتى تكملت خمسا، فتكون الزيادة في عدد الصلوات، ويكون قولها: فرضت الصلاة ركعتين، أي: قبل الإسراء، لأن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس، وصلاة قبل طلوعها. ويشهد له قوله تعالى: * (وسبح بالعشي والأبكار) * (آل عمران: 14) قاله أبو إسحاق الحربي ويحيى بن سلام، وقال بعضهم: يجوز أن يكون معنى: (فرضت الصلاة)، أي ليلة الإسراء حين فرضت الصلاة الخمس فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك، فتكون الزيادة في عدد الركعات، وهذا هو المروي عن بعض رواة هذا الحديث عن عائشة، وممن رواه هكذا الحسن والشعبي أن الزيادة في الحضر كانت بعد الهجرة بعام، أو نحوه. وقد ذكر البخاري من رواية معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، قالت: (فرضت الصلاة) الحديث، وقد ذكرناه عن قريب، وقال بعضهم؛ فرضت الصلاة ركعتين، يعني: إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعا فله ذلك. وقيل: يحتمل أن تريد بقولها: فرضت الصلاة، أي: قدرت، ثم تركت صلاة السفر على هيئتها في المقدار لا في الإيجاب.
والفرض في اللغة: التقدير، وقال النووي: يعني فرضت الصلاة ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم، وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار، واحتج أصحابنا بهذا الحديث، أعني: قول عائشة، رضي ا تعالى عنها، المكذور في هذا الباب، على أن القصر في السفر عزيمة لا رخصة، وبما رواه مسلم أيضا عن مجاهد عن ابن عباس، قال: (فرض ا الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة). ورواه الطبراني في (معجمه) بلفظ: (افترض رسول ا، ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا). وبما رواه النسائي وابن ماجة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي ا تعالى عنه، قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد). ورواه ابن حبان في صحيحه ولم يقدحه بشيء. فإن قلت: قال النسائي: فيه انقطاع لأن ابن أبي ليلى لم يسمعه من عمر. قلت: حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى من عمر، وصرح في بعض طرقه فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: سمعت عمر بن الخطاب. فذكره ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده: عن الحسين بن واقد عن الأعمش. عن حبيب بن أبي ثابت أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب. فذكره.
وقال الشافعي ومالك وأحمد: القصر رخصة. واحتجوا بحديث أخرجه أبو دادو بإسناده عن يعلى بن أمية قال: قلت: لعمر بن الخطاب: عجبت من اقتصار الناس الصلاة اليوم، وإنما قال ا تعالى: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101) فقد ذهب ذلك اليوم. فقال: عجبت مما عجبت منه، فذكرت ذلك للنبي فقال: (صدقة تصدق ا بها عليكم فاقبلوا صدقته). وأخرجه مسلم أيضا والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان. وبما أخرجه الدارقطني عن عمر بن سعيد عن
52

عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي ا عنها أن النبي: (كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم). وقال الدارقطني: إسناده صحيح، وقد رواه البيهقي عن طلحة بن عمرو ودلهم بن صالح والمغيرة بن زياد، وثلاثتهم ضعفاء عن عطاء عن عائشة. قال: والصحيح عن عائشة موقوف.
والجواب عن الحديث الأول أنه حجة لنا لأنه أمر بالقبول، فلا يبقى خيار الرد شرعا، إذ الأمر للوجوب. فإن قلت: المتصدق عليه يكون مختارا في قبول الصدقة كما في المتصدق عليه من العباد. قلت: معنى قوله: (تصدق ا بها عليكم) حكم عليكم، لأن التصدق من ا فيما لا يحتمل التمليك يكون عبارة عن الإسقاط كالعفو من ا. و الجواب عن الحديث الثاني: أنه معارض بحديث آخر أخرجه البخاري ومسلم عن حفص بن عاصم عن ابن عمر قال: (صحبت رسول الله في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه ا، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه ا تعالى، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه ا تعالى)، وقد قال ا تعالى: * (لقد كان لكم في رسول ا أسوة حسنة) * (الأحزاب: 12) وإليه ذهب علماء أكثر السلف وفقهاء الأمصار، أي: إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس، روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة وقال حماد بن أبي سليمان: يعيد من صلى في السفر أربعا. وعن مالك: يعيد ما دام في الوقت. وقال أحمد: السنة ركعتان. وقال مرة أخرى: أنا أحب العافية من هذه المسألة. وقال الخطابي: والأولى أن يقصر المسافر الصلاة لأنهم أجمعوا على جوازها
إذا قصر، واختلفوا فيما إذا أتم، والإجماع مقدم على الاختلاف، وسقط بهذا كله ما قاله بعضهم: ويدل على أنه أي القصر رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: (صدقة تصدق ا بها عليكم). وقال أيضا؛ احتج مخالفهم أي: مخالف الحنفية بقوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101). لأن القصر إنما يكون من شيء أطول منه.
قلت: الجواب عنه أن المراد من القصر المذكور فيها هو القصر في الأوصاف من ترك القيام إلى القعود، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لخوف العدو بدليل أنه علق ذلك بالخوف، إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا قصر الأوصاف مباح لا واجب، مع أن رفع الجناح في النص لدفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم. وقال هذا القائل أيضا، والزموا الحنفية على قاعدتهم فيما إذا عارض رأي الصحابي روايته، فالعبرة بما روي بأنه ثبت عن عائشة أنها كانت تتم في السفر. قلت: قاعدة الحنفية على أصلها، ولا يلزم من إتمام عائشة في السفر النقض على القاعدة، لأن عائشة كانت ترى القصر جائزا والإتمام جائزا، فأخذت بأحد الجائزين، وإنما يرد على قاعدتنا ما ذكره أن لو كانت عائشة تمنع الإتمام، وكذلك الجواب في إتمام عثمان رضي ا تعالى عنه، وهذا هو الذي ذكره المحققون في تأويلهما. وقيل: لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما كانا في منازلهما، وأبطل بأنه عليه الصلاة والسلام، كان أولى بذلك منهما. وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة وأبطل بأنه سافر بأزواجه وقصر، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنون أن فرض الصلاة ركعتان أبدا سفرا وحضرا، وأبطل بأن هذا المعنى إنما كان موجودا في زمن النبي، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان، وقيل: لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج، وأبطل بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث، وقيل: كان لعثمان أرض بمنى، وأبطل بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة.
2
((باب وجوب الصلاة في الثياب))
أي: هذا باب في بيان وجوب الصلاة في الثياب، والمراد: ستر العورة. وقال أبو الوليد بن رشد في (القواعد): اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق، واختلفوا: هل شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة، مستدلا بحديث عمرو بن سلمة لما تقلصت بردته، فقالت امرأة: غطوا عنا أست قارئكم، وعند بعضهم: شرط عند الذكر دون النسيان، وعند أبي حنيفة والشافعي وعامة الفقهاء وأهل الحديث: أن ذلك شرط في صحة الصلاة. فرضها ونفلها، وإنما قال في الثياب، بلفظ الجمع نحو قولهم: فلان يركب الخيول ويلبس البرود.
ووجه المناسبة بين البابين من حيث إنه ذكر في الباب السابق فرضية الصلاة، وذكر في هذا أن ذلك الفرض لا يقوم إلا بستر العورة، لأنه فرض مثلها. فإن قلت: للصلاة شروط غير هذا فما وجه تخصيصه بالتقديم على غيره؟ قلت: لأنه ألزم من غيره، وفي تركه بشاعة عظيمة بخلاف غيره من الشروط.
53

وقول الله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 13).
هذا عطف على قول: وجوب الصلاة، والتقدير: وفي بيان معنى قول ا تعالى، أراد بالزينة: ما يوراي العورة، وبالمسجد: الصلاة، ففي الأول إطلاق اسم الحال على المحل. وفي الثاني إطلاق اسم المحل على الحال لوجود الاتصال الذاتي بين الحال والمحل، وهذا لأن أخذ الزينة نفسها وهي عرض محال، فأريد محلها وهو الثوب مجازا، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نعبد ا في ثياب أذنبنا فيها، فنزلت. لا يقال: نزول الآية في الطواف، فكيف يثبت الحكم في الصلاة؟ لأنا نقول: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهذا اللفظ عام لأنه قال: عند كل مسجد، ولم يقل: عند المسجد الحرام. فيعمل بعمومه، ويقال: * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13) من قبيل إطلاق المسبب على السبب، لأن الثوب سبب الزينة، ومحل الزينة الشخص، وقيل: الزينة ما يتزين به من ثوب وغيره، كما في قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * (النور: 13) والستر لا يجب لعين المسجد بدليل جواز الطواف عريانا، فعلم من هذا أن ستره للصلاة لا لأجل الناس حتى لو صلى وحده ولم يستر عورته لم تجز صلاته، وإن لم يكن عنده أحد. وقال بعضهم، بعد قوله، وقول ا عز وجل: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 13) يشير بذلك إلى تفسير طاوس في قوله تعالى: * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13) قال: الثياب. قلت: هذا تخمين وحسبان، وليس عليه برهان، وقد اتفق العلماء على أن المراد منه ستر العورة، وعن مجاهد: وار عورتك ولو بعباءة، وفي مسلم من حديث أبي سعيد مرفوعا: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة). وعن المسور، قال له النبي: (ارجع إلى ثوبك فخذه ولا تمشوا عراة). وفي (صحيح ابن خزيمة)، عن عائشة يرفعه: (لا يقبل ا صلاة امرأة قد حاضت إلا بخمار). وقال ابن بطال: أجمع أهل التأويل على أن نزولها في الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، وقال ابن رشد: من حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغيره من الملابس التي هي زينة، مستدلا بما في الحديث أنه كان رجال يصلون مع النبي عاقدي أزرهم على أعناقهم كيهئة الصبيان، ومن حمله على الوجوب استدل بحديث مسلم عن ابن عباس: (كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة فتقول: من يعيرني تطوافا؟ وتقول:
* اليوم يبدو بعضه أو كله)
*
فنزلت * (خذوا زينتكم) * (الأعراف: 13).
ويذكر عن سلمة بن الأكوع أن النبي قال: (يزره ولو بشوكة).
هذا أخرجه أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن موسى بن إبراهيم عن سلمة بن الأكوع قال: (قلت: يا رسول ا إني رجل أصيد أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وإزاره ولو بشوكة) وأخرجه النسائي أيضا قوله: (أفأصلي)؟ الهمزة فيه للاستفهام، فلذلك قال في جوابه: نعم، أي: صل. قوله: (ولو بشوكة) الباء فيه تتعلق بمحذوف تقديره: ولو أن تزره بشوكة، وهذه اللفظة فيما ذكره البخاري بالإدغام على صيغة المضارع، وفي رواية أبي داود بالفك على صيغة الأمر، من زريزر، من باب نصر ينصر، ويجوز في الأمر الحركات الثلاث في الراء، ويجوز الفك أيضا فهي أربعة أحوال، كما في مد الأمر، ويجوز في مضارعه الضم والفتح والفك. وقال ابن سيده: الزر الذي يوضع في القميص، والجمع أزرار وزرور، وأزر القميص جعل له زرا وأزره شد عليه أزراره. وقال ابن الأعرابي: زر القميص إذا كان محلولا فشده، وزر الرجل شد زره، وأورد البخاري هذا للدلالة على وجوب ستر العورة، وللإشارة إلى أن المراد بأخذ الزينة في الآية السابقة لبس الثياب لا تزيينها وتحسينها، إنما أمر بالزر ليأمن من الوقوع عن بدنه، ومن وقوع نظره على عورته من زيقه حالة الركوع، ومن هذا أخذ محمد بن شجاع من أصحابنا أن من نظر إلى عورته من زيقه تفسد صلاته، كما ذكرناه عن قريب.
وفي إسناده نظر.
أي: وفي إسناد الحديث المذكور نظر، وجه النظر من موسى بن إبراهيم، وزعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وهو منكر الحديث، فلعل البخاري أراده. فلذلك قال: في إسناده نظر، وذكره معلقا بصيغة التمريض، ولكن أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) عن نصر بن علي عن عبد العزيز عن موسى بن إبراهيم، قال: سمعت سلمة، وفي رواية: (وليس على إلا قميص واحد، أوجبه واحدة، فأزره؟ قال: نعم ولو بشوكة). ورواه ابن حبان أيضا في (صحيحه): عن إسحاق بن إبراهيم حدثنا ابن أبي عمر حدثنا عبد العزيز بن محمد عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن ربيعة عن سلمة بن الأكوع،
54

(قلت: يا رسول ا إني أكون في الصيد، وليس علي إلا قميص واحد قال: فأزرره ولو بشوكة). رواه الحاكم في (مستدركه) قال: وهذا حديث مدني صحيح، فظهر بهذه الرواية أن موسى ههنا غير موسى ذاك الذي ظنه ابن القطان، وفيه ضعف أيضا، لكنه دون ذاك وروى الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن قتيبة، قال: أخبرنا الداراوردي عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة بن الأكوع، وهذا اختلاف آخر. وقال بعضهم: من صحح هذا الحديث فقد اعتمد على رواية الدراوردي. قلت: يجوز أن يكون وجه ذلك اعتمادا على رواية موسى بن إبراهيم المخزومي، لا على رواية موسى بن إبراهيم التيمي، والمخزومي هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد ا بن أبي ربيعة بن عبد ا بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وهذا هو الوجه في تصحيح من صححه، ويشهد لما قلنا رواية ابن حبان، ولا يبعد أن يكون كل واحد من المخزومي والتيمي روى هذا الحديث عن سلمة بن الأكوع، وحمل عنهما الدراوردي ورواه، وقال هذا القائل: ذكر محمد فيه شاذ. قلت: حكمه بشذوذه إن كان من جهة انفراد الطحاوي به فليس بشيء، لأن الشاذ من ثقة مقبول.
ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه ما لم ير فيه أذى.
قال الكرماني: هو من تتمة الترجمة، وقال صاحب (التوضيح): وهذا منه دال على الاكتفاء بالظن فيما يصلي فيه لا القطع، وقال بعضهم، يشير، إلى ما رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معاوية بن أبي سفيان: (أنه سأل أخته أم حبيبة: هل كان رسول الله يصلي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم إذا لم ير فيه أذى). قلت: لما قاله الكرماني وجه لأنه اقتبس هذا من الحديث المذكور، وأراد به إدخاله في ترجمة الباب، وهذا كما رأيته قد أخذ من ثلاثة أحاديث وأدخلها في ترجمة الباب. الأول: حديث سلمة بن الأكوع، وقد مر. والثاني: حديث أم حبيبة، أخرجه أبو داود، وقال: حدثنا عيسى بن حماد المصري، قال: حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن معاوية بن أبي سفيان: (أنه سأل أخته أم حبيبة، زوج النبي، هل كان رسول ا، يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ فقالت: نعم إذا لم ير فيه أذى). وأخرجه النسائي وابن ماجة. والثالث: حديث أبي هريرة، رضي ا تعالى عنه، على ما نذكره عن قريب. قوله: (ما لم ير فيه أذى)، سقط لفظة: فيه، من رواية المستملي والحموي، وفي رواية: (إذا لم ير فيه دما) والأذى: النجاسة.
وأمر النبي أن لا يطوف بالبيت عريان.
وفي بعض النسخ: وأمر النبي، هذا أيضا اقتباس من حديث أبي هريرة، وقد وصله البخاري في الباب الثامن بعد هذا الباب، قال: (بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان). واستدل به على اشتراط ستر العورة في الصلاة لأنه إذا كان شرطا في الطواف الذي هو يشبه الصلاة، فاشتراطه في الصلاة أولى وأجدر. وقال بعضهم: أشار بذلك إلى حديث أبي هريرة. ولكن ليس فيه التصريح بالأمر. قلت: قد ذكرت لك أن هذا اقتباس، والاقتباس ههنا اللغوي لا الاصطلاحي، لأن الاصطلاحي هو أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه، وههنا ليس كذلك، بل المراد ههنا أخذ شيء من الحديث والاستدلال به على حكم، كما كان يستدل به من الحديث المأخوذ منه، فحديث أبي هريرة المذكور يدل على اشتراط ستر العورة في الصلاة بالوجه الذي ذكرناه، وهو يتضمن أمر أبي بكر، وأمر أبي بكر بذلك من أمر النبي. وأخذ البخاري من ذلك المتضمن صورة أمر، فقال: وأمر رسول الله أن لا يطوف بالبيت عريان، واقتصر من الحديث على هذا لأنه هو الذي يطابق ترجمة الباب. فافهم. فإنه دقيق لم ينبه عليه أحد من الشراح. قوله: (أن لا يطوف) بالنصب لأنه في الحديث المأخوذ منه عطف على المنصوب. وهو قوله: (أن لا يحج بعد العام مشرك).
15371 ح دثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد عن أم عطية
55

قالت أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن قالت امرأة يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب
قال (لتلبسها صاحبتها من جلبابها). (انظر الحديث 423).
مطبابقته للترجمة في قوله: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) لأنه أكد باللبس حتى بالعارية للخروج إلى صلاة العيدين، فإذا كان للخروج إلى العيد هكذا، فلأجل الفرض يكون بالطريق الأولى، وقد مر هذا الحديث في كتاب الطهارة في باب شهود الحائض العيدين بأتم من هذا، وتقدم الكلام فيه متسوفى. ويزيد بن إبراهيم هو: التستري أبو سعيد البصري، مات سنة إحدى وستين ومائة، ومحمد هو ابن سيرين، ورجال الإسناد كلهم بصريون. قوله: (أمرنا) بضم الهمزة، ولمسلم من طريق هشام عن حفصة: (عن أم عطية قالت: أمرنا رسول ا). قوله: (الحيض) بضم الحاء وتشديد الياء، جمع حائض. قوله: (يوم العيدين)، وفي رواية المستملي والكشميهني: (يوم العيد) بالإفراد. قوله: (عن مصلاهن)، أي: عن مصلى النساء اللاتي لسن بحيض، وفي رواية المستملي؛ (عن مصلاهم)، بالتذكير على التغليب، وفي رواية الكشميهني؛ (عن المصلى) بالإفراد، وهو، بضم الميم وفتح اللام: موضع الصلاة. قوله: (قالت امرأة) هذه المرأة هي أم عطية، وكنت به عن نفسها، وفي رواية: (قلت: يا رسول ا إحدانا). قوله: (إحدانا) مبتدأ، أي: بعضنا، وخبره. قوله: (ليس لها جلباب)، وهو بكسر الجيم: الملحفة. قوله: (لتلبسها)، بالجزم.
وقال عبد الله بن رجاء حدثنا عمران حدثنا محمد بن سيرين حدثتنا أم عطية سمعت النبي بهذا.
هذا التعليق وصله الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز عن عبد ا بن رجاء، فذكره. وفائدته: تصريح محمد بن سيرين بتحديث أم عطية له، وبطل بهذا زعم بعضهم من أن محمدا إنما سمعه من أخته حفصة عن أم عطية، لأنه تقدم قبل روايته له عن حفصة أخته عنها ولهذا قال الداودي الصحيح رواية ابن سيرين عن أم عطية وعبد ا بن رجاء بالمد هو الغداني، بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون: نسبة إلى غدانة، وهو أشرس بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، هكذا وقع في أكثر الروايات: عبد ا بن رجاء، بدون النسبة، ولكن المراد منه: الغداني، وقد وهم من قال: إنه عبد ا بن رجاء المكي وعمران المذكور هو القطان، وا أعلم.
3
((باب عقد الإزار على القفا في الصلاة))
أي: هذا باب في بيان، عقد المصلي إزاره على قفاه، والحال أنه داخل في الصلاة، والقفا: مقصور، مؤخر العنق يذكر ويؤنث، والجمع قفي، مثل؛ عصي جمع عصا. وقد جاء أقفية، على غير قياس.
ووجه المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله وبين الأبواب الخمسة عشر التي بعده ظاهر، لأن الكل في أحكام الثياب، غير أنه تخلل فيها خمسة أبواب ذكرها وهي غير متعلقة بأحكام الثياب. وهي: باب ما يذكر في الفخذ. وباب الصلاة في المنبر والسطوح والخشب. وباب: الصلاة على الحصير. وباب: الصلاة على الخمرة. وباب: الصلاة على الفراش.
أما مناسبة باب الفخذ بالباب الذي قبله، هو أن المذكور فيه هو الصلاة في ثوب ملتحفا به لستر العورة، والمذكور في الذي بعده حكم الفخذ، وهو أنه عورة، فإذا كان عورة يجب ستره، والستر إنما يكون بالثياب فتحققت المناسبة بينهما من هذا الوجه. وأما مناسبة باب الصلاة في المنبر بالباب الذي قبله هي: أن الثوب فيه مستعل على الذي يصلي عليه، فالمناسبة من حيث الاستعلاء متحققة، وإن كان الاستعلاء في نفسه مختلفا. وأما: المناسبة بين الأبواب الثلاثة، وهي: باب الصلاة على الحصير، وباب الصلاة على الخمرة والفراش، فظاهرة جدا.
وبقي وجه: تخلل باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد، ووجه ذلك أن السجدة فيه كانت على الخمرة، وفي الباب الذي قبله كان على المنبر
56

أو السطوح، وكل منهما مسجد بفتح الميم فالمناسبة من هذه الجهة موجودة. على أنا نقول: إن هذه الوجوه التي ذكرناها إقناعية ولسيت ببرهانية، والاستئناس في مثل هذا بأدنى شيء كاف.
وقال أبو حازم عن سهل صلوا مع النبي عاقدي أزرهم على عواتقهم.
هذا تعليق أخرجه المصنف مسندا في الباب الثالث، وهو باب إذا كان الثوب ضيقا: عن مسدد حدثنا يحيى عن سفيان، قال: حدثنا أبو حازم عن سهل. ومطابقته للترجمة ظاهرة، وإنما ذكر بعض هذا الحديث ههنا معلقا، مع أنه ذكره بتمامه في الباب الثالث، لأجل الترجمة المذكورة، وذكر هذه الترجمة لتأكيد ستر العورة، لأنه إذا عقد إزاره في قفاه وركع لم تبد عورته. وقال ابن بطال: عقد الإزار على القفا إذا لم يكن مع الإزار سراويل، وأبو حازم، بالحاء المهملة والزاي: اسمه سلمة بن دينار الأعرج الزاهد المدني، وسهل هو ابن سعد الساعدي أبو العباس الأنصاري الخزرجي، وكان اسمه حزنا فسماه رسول الله سهلا، مات سنة إحدى وتسعين، وهو آخر من مات من الصحابة في المدينة. قوله: (صلوا)، فعل ماض: (وعاقدي أزرهم) أصله: عاقدين أزرهم، فلما أضيف سقطت منه النون، وهي جملة حالية، وفي رواية الكشميهني: (عاقدوا أزرهم)، فعلى هذا هو خبر مبتدأ محذوف أي: صلوا وهم عاقدو أزرهم، والأزر، بضم الهمزة وسكون الزاي: جمع إزار. وفي (المحكم) الإزار: الملحفة، والجمع أزرة وأزر حجازية، وأزر، تميمية، وهو يذكر ويؤنث. قال الداودي: سمي إزارا لأنه يشد به الظهر. قال تعالى: * (فآزره) * (:) وهو المئزر واللحاف والقرام والمقرم، والعواتق جمع العاتق وهو موضع الرداء من المنكبين فيذكر ويؤنث.
25381 ح دثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عاصم بن محمد قال حدثني واقد بن محمد عن محمد بن المنكدر قال صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة
على المشجب قال له قائل تصلي في إزار واحد فقال إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأينا كان له ثوبان على عهد النبي. (الحديث 253.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أحمد بن يونس، هو: أحمد بن عبد ا بن يونس بن عبد ا بن قيس التميمي اليربوعي أبو عبد ا الكوفي، وينسب إلى جده، مات بالكوفة في ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وهو ابن أربع وتسعين، وقد تقدم ذكره في باب من قال إن الإيمان هو العمل. الثاني: هو عاصم بن محمد بن زيد بن عبد ا بن عمر بن الخطاب. الثالث: واقد بن محمد أخو عاصم بن محمد، وهو بكسر القاف وبالدال المهملة: القريشي العدوي العمري المدني. الرابع: محمد بن المنكدر التابعي المشهور، تقدم في باب صب النبي وضوءه. الخامس: جابر بن عبد ا الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني. وفيه: رواية الأخ عن الأخ، وهما عاصم وواقد فإنهما أخوان ابنا محمد بن زيد بن عبد ا بن عمر، كما ذكرناه. وفيه: رواية التابعي عن التابعي من طبقة واحدة وهما: واقد ومحمد بن المنكدر، وهذا الطريق انفرد به البخاري.
ذكر لغاته وإعرابه قوله: (من قبل قفاه)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، بمعنى: الجهة، كلمة: من، تتعلق بقوله: (عقده) وهذه الجملة في محل الجر لأنها صفة لإزار. وقوله: (وثيابه موضوعة) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (المشجب)، بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم وفي آخره باء موحدة: وهو ثلاث عيدان يعقد رؤوسها ويفرج بين قوائمها تعلق عليها الثياب. وفي (المحكم): الشجاب: خشبات موثقة منصوبة توضع عليها الثياب، والجمع: شجب، والمشجب كالشجاب، وهو الخشبات الثلاث التي يعلق عليها الراعي دلوه وسقاه. وفي كتاب (المنتهى في اللغة) يقال فلان مثل المشجب من حيث أممته وجدته. قلت: المشجب يقال له السيبة في لغة أهل الحضر، وهي بكسر السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وفي آخره هاء. قوله: (فقال له قائل)، ويروى: (قال له)، بدون: الفاء، ووقع في مسلم أنه: عباد بن الوليد بن الصامت. قوله:
57

(تصلي في إزار واحد؟) التقدير: أتصلي؟ بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: (إنما صنعت هذا)، ويروى: (إنما صنعت ذلك)، وأشار به إلى ما فعله من صلاته وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب. قوله: (ليراني) أي: لأن يراني. وقوله: (أحمق)، بالرفع فاعله، ومعناه: الجاهل، وهو صفة مشبهة من الحمق، بضم الحاء وسكون الميم، هو قلة العقل، وقد حمق الرجل، بالضم، حماقة فهو أحمق. وحمق أيضا بالكسر يحمق حمقا، مثل: غنم غنما، فهو حمق، وامرأة حمقاء، وقوم ونسوة حمق وحمقى، وأحمقت الرجل إذا وجدته أحمق، وحمقته تحميقا نسبته إلى الحمق، وحامقته إذا ساعدته على حمقه واستحمقته أي: عددته أحمق، وتحامق فلان إذا تكلف الحماقة. وقال ابن الأثير: وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحه. قوله: (مثلك) بالرفع صفة أحمق، ولفظة: مثل، وإن أضيفت إلى المعرفة لا يتعرف لتوغله في التنكير إلا إذا أضيفت بما اشتهر بالمماثلة، وههنا ليس كذلك، فلذلك وقعت صفة لنكرة، وهو قوله: (أحمق).
فإن قلت: اللام في قوله: (ليراني) للتعليل والغرض، فكيف وجه جعل إراءته الأحمق غرضا؟ قلت: الغرض بيان جواز ذلك الفعل فكأنه قال: صنعته ليراني الجاهل فينكر علي بجهله فأظهر له جوازه، وإنما أغلظ عليه نسبته إلى الحماقة لإنكاره على فعله؛ بقوله: (تصلي في إزار واحد؟) لأن همزة الإنكار فيه مقدرة على ما ذكرنا. قوله: (وأينا) استفهام يفيد النفي، ومقصوده بيان إسناد فعله إلى ما تقرر في عهد رسول ا.
ذكر ما يستنبط منه: فمن ذلك جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول جماعة الفقهاء، وروي عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود، فروى ابن أبي شيبة عنه: (لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض). وقال ابن بطال. إن ابن عمر لم يتابع على قوله. قلت: فيه نظر لأنه روي عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر كما ذكرنا، وروي عن مجاهد أيضا أنه للا يصلي في ثوب واحد إلا إن لا يجد غيره، نعم عامة الفقهاء على خلافه، وفيه الأحاديث الصحيحة عن جماعة من الصحابة جابر وأبي هريرة وعمرو بن أبي سلمة. وسلمة بن الأكوع رضي ا تعالى عنهم. ومن ذلك أن العالم يأخذ بأيسر الشيء مع قدرته على أكثر منه توسعة على العامة ليقتدى به. ومن ذلك: لا بأس للعالم أن يصف أحدا بالحمق إذا عاب عليه ما غاب عنه علمه من السنة. وفيه: جواز التغليظ في الإنكار على الجاهل.
35391 ح دثنا مطرف أبو مصعب قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر قال رأيت جابر بن عبد الله يصلي في ثوب واحد وقال رأيت النبي يصلي في ثوب..
هذه طريقة أخرى لحديث جابر رضي ا تعالى عنه، وفيها الرفع إلى النبي وأن الصلاة في ثوب واحد وقعت من النبي عليه الصلاة والسلام، كما ذكرها لأنها أوقع في النفس وأصرح في الرفع من الطريقة الأولى. وقال الكرماني: فإن قلت: كيف دلالة هذا الحديث على الترجمة؟ قلت: أما أنه مخروم من الحديث السابق، وإما أنه يدل عليه بحسب الغالب، إذ لولا عقده على القفا لما ستر العورة غالبا، وأنكر بعضهم على الكرماني في هذا السؤال وجوابه، وقال: ولو تأمل لفظه وسياقه بعد ثمانية أبواب لعرف اندفاع احتماليه، فإنه طرف من الحديث المذكور هناك لا من السابق، ولا ضرورة لما ادعاه من الغلبة، فإن لفظه: (وهو يصلي في ثوب ملتحفا به)، وهي قصة أخرى كان الثوب فيها واسعا، فالتحف به. وكان في الأول ضيقا فعقده. قلت: لا هو مخروم من الحديث السابق، ولا هو طرف من الحديث المذكور في الباب الثامن، بل كل واحد حديث مستقل بذاته. ومطرف، بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء المهملتين وفي آخره فاء: ابن عبد ا بن سليمان الأصم أبو مصعب المدني
مولى أم المؤمنين وهو صاحب مالك، مات سنة عشرين ومائتين. وعبد الرحمن: هو ابن زيد بن أبي الموالي، بفتح الميم على وزن: الجواري، وفي بعض النسخ: الموال، بدون الياء.
4
58

2 (باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به))
أي: هذا باب في بيان صلاة من يصلي في الثوب الواحد حال كونه ملتحفا به. الالتحاف، لغة: التغطي، وكل شيء تغطيت به فقد التحفت به، وقال الليث: اللحف تغطيتك الشيء باللحاف، وقال غيره: لحفت الرجل ألحفه لحفا: إذا طرحت عليه اللحاف، أو غطيته بشيء، وتلحفت: اتخذت لنفسي لحافا.
قال الزهري في حديثه الملتحف المتوشح وهو المخالف بين طرفيه على عاتقيه وهو الإشتمال على منكبيه.
13
50 أي: قال محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في حديثه الذي رواه في الالتحاف عن سالم بن عمر عن عبد ا بن عمر، قال: (رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي ملتحفا، فقال له عمر، رضي ا تعالى عنه، حين سلم: لا يصلين أحدكم ملتحفا، ولا تشبهوا باليهود). رواه الطحاوي عن ابن أبي داود عن عبد ا بن صالح عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم به، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر: (أن عمر بن الخطاب رأى رجلا يصلي ملتحفا، فقال: لا تشبهوا باليهود، من لم يجد منكم إلا ثوبا واحدا فليتزر به). وكذا في حديثه الذي رواه عن سعيد عن أبي هريرة، رواه أحمد وغيره.
قوله: (المتوشح) اسم فاعل من باب التفعل، من: توشح يتوشح، والتوشح بالثوب: التغشي به، والأصل فيه من الوشاح، وهو شيء ينسج عريضا من أديم، وربما رصع بالجواهر والخرز، وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها. ويقال فيه: وشاح وإشاح، وقال ابن سيده: التوشح أن يتوشح بالثوب ثم يخرج الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفيها على صدره، وقد وشحه الثوب. قوله: (وهو المخالف) أي: المتوشح هو الذي يخالف بين طرفي الثوب، وأوضح ذلك بقوله: (وهو الاشتمال على منكبيه)، والضمير يرجع إلى التوشح الذي يدل عليه قوله: (المتوشح)، كما في قوله تعالى: * (أعدلوا هو أقرب) * (المائدة: 8) والظاهرأن الزهري لما فسر الملتحف بالمتوشح عند رواية حديثه فيه، أوضحه البخاري بقوله: وهو المخالف. إلى آخره.
قال: قالت أم هانىء: التحف النبي بثوب وخالف بين طرفيه على عاتقيه.
13
50 هذا التعليق رواه البخاري موصولا في هذا الباب، ولكن ليس فيه. (وخالف بين طرفيه)، وفائدة ذكر هذا هي الإشارة إلى أن أم هانىء فسرت التحاف النبي بثوب بقولها: (وخالف بين طرفيه) وقال ابن بطال: وفائدة هذه المخالفة في الثوب أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع. قلت: يجوز أن تكون الفائدة أيضا أن لا يسقط إذا ركع وإذا سجد.
وأم هانىء، بالنون وبالهمزة: بنت أبي طالب القريشية الهاشمية، أخت علي بن أبي طالب، اسمها فاختة، وقيل: هند وقد تقدم ذكرها.
45302 حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه. (الحديث 453 طرفاه في: 553، 653).
مطابقة هذا للترجمة ظاهرة لأن قوله: (قد خالف بين طرفيه) هو الالتحاف الذي هو التوشح، والاشتمال على المنكبين.
ذكر رجاله: وهم أربعة. الأول: عبيد ا، بتصغير العبد: بن موسى بن باذام أبو محمد العبسي، مولاهم الكوفي، قال البخاري: مات في سنة ثلاث عشرة ومائتين، وقد مر في باب دعاؤكم إيمانكم. الثاني: هشام بن عروة. الثالث: عروة بن الزبير بن العوام. الرابع: عمر بن أبي سلمة، بضم العين، واسم أبي سلمة: عبد ا المخزومي أبو حفص، ربيب رسول ا، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة، وقبض زمان عبد الملك بن مروان بالمدينة سنة ثلاث وثمانين.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي لأن هشاما تابعي روى عن أبيه وهو تابعي وروى هو عن صحابي، وهذا سند عال جدا يشبه سند الثلاثيات، ولو كان هشام يرويه عن صحابي لكان ثلاثيا حقيقة. لأنه يكون حينئذ بين البخاري وبين
59

الصحابي اثنين، فيكون: ثلاثيا، وهنا بينه وبين الصحابي: ثلاثة، فيشبه الثلاثي من جهة العلو، وليس بثلاثي حقيقة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري من ثلاثة طرق عن عبيد ا بن موسى، وعن محمد بن المثنى، وعن عبيد ا بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى، وعن أبي كريب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة عن الليث، والنسائي عن قتيبة عن مالك، وابن ماجة عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن وكيع، الكل عن هشام بن عروة عن أبيه به. وبقية الكلام ظاهرة.
53312 ح دثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى قال حدثنا هشام قال حدثني أبي عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقيه.
هذه طريقة أخرى في الحديث المذكور، ولكنها أنزل درجة من الطريقة الأولى، وفائدة هذه الطريقة أن فيها التصريح عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي يصلي في ثوب واحد، وفيها زيادة وهي قوله: (في بيت أم سلمة). وفائدة هذه الزيادة تعيين المكان الذي يؤيد التصريح المذكور.
ورجاله المذكورون قد مروا غير مرة، ويحيى هو القطان، وأم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية. وقد مرت غير مرة، وهي أم عمر بن أبي سلمة المذكور.
هذه طريقة أخرى في الحديث المذكور بالنزول عن عبيد بضم العين مصغرا ابن إسماعيل ويقال اسمه عبد الله ويعرف بعبيد أبو محمد الهباري بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة الكوفي مات سنة خمس ومائتين يروي عن أبي أسامة حماد بن أسامة وقد تقدم في باب فضل من علم وفي هذه الطريقة فائدتان ليستا في الطريقتين الأوليين إحداهما أن فيها تصريح هشام عن أبيه بأن عمر أخبره وفي الطريقتين الأوليين العنعنة والأخرى فيها ذكر لفظ الاشتمال وهو في الحقيقة تفسير قوله ' قد خالف بين طرفيه وألقى طرفيه على عاتقيه ' وأخرج الطحاوي هذا الحديث من أربع طرق صحاح الأولى عن أبي بكرة قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا هشام بن حسان وشعبة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة ' أنه رأى رسول الله
يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة '. الثانية عن يونس عن ابن وهب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ' عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى رسول الله
يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة واضعا طرفيه على عاتقيه ' * الثالثة عن ابن أبي داود قال حدثنا ابن أبي مريم وعبد الله بن صالح قال حدثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل عن عمر بن أبي سلمة قال ' رأيت النبي
يصلي في ثوب واحد ملتحفا به ' وأخرجه أبو داود عن قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد إلى آخره ولفظه في آخره ' مخالفا بين طرفيه على منكبيه '. الرابعة مثل رواية أبي داود عن علي بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث قال حدثني يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل عن عمر بن أبي سلمة قال ' رأيت رسول الله
يصلي في ثوب واحد ملتحفا به مخالفا بين طرفيه على منكبيه ' قوله ' يصلي في ثوب واحد ' جملة فعلية في محل النصب على أنها مفعول ثان لقوله ' رأيت ' قوله ' مشتملا ' بالنصب على الحال من الرسول هذه رواية الأكثرين وفي رواية المستملي والحموي بالجر أو الرفع فوجه الجر للمجاورة ووجه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير وهو مشتمل به قوله ' في بيت أم سلمة ' أما ظرف لقوله يصلي أما للاشتمال وأما لهما وقال ابن بطال التوشح نوع من الاشتمال تجوز الصلاة به والفقهاء مجمعون على جواز الصلاة في ثوب واحد وقد روي عن ابن مسعود
60

خلاف ذلك (قلت) ذهب طاوس وإبراهيم النخعي وأحمد في رواية وعبد الله بن وهب من أصحاب مالك ومحمد بن جرير الطبري إلى أن الصلاة في ثوب واحد مكروهة إذا كان قادرا على ثوبين وإن لم يكن قادرا إلا على ثوب واحد يكره أيضا أن يصلي به ملتحفا مشتملا به بل السنة أن يأتزر به واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي قال حدثنا ابن أبي داود قال حدثنا زهير بن عباد قال حدثنا حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله
' إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من تزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود ' ورواه البيهقي أيضا. وذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين إلى أن الصلاة في ثوب واحد تجوز والذين ذهبوا إلى ذلك جماعة من الصحابة وهم ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وأنس بن مالك وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعمار بن ياسر وأبي بن كعب وعائشة وأسماء وأم هانيء رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وسعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن الحنفية وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم ومن الفقهاء أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد في رواية وإسحاق بن راهويه وآخرون كثيرون واحتجوا في ذلك بالأحاديث المذكورة في هذا الباب وقال الطحاوي تواترت الأحاديث وتتابعت بجواز الصلاة في الثوب الواحد متوشحا به في حال وجود غيره من الثياب وأخرج في ذلك عن أحد عشر صحابيا وهم أبو هريرة وطلق بن علي وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعمر بن أبي سلمة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عباس وأبي بن كعب وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وأم هانيء رضي الله تعالى عنهم ولما أخرج الترمذي حديث عمر بن أبي سلمة في الصلاة في ثوب واحد قال وفي الكتاب عن أبي هريرة وجابر وسلمة بن الأكوع وأنس وعمرو ابن أبي أسد وأبي سعيد وكيسان وابن عباس وعائشة وأم هانيء وعمار بن ياسر وطلق بن علي وعبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنهم (قلت) وفي الباب أيضا عن حذيفة وعبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن أبي أنيس وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان وأبي أمامة وأبي عبد الرحمن حاضن عائشة وأم حبيبة وأم الفضل ورجل لم يسم فحديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود وحديث طلق بن علي عند أبي داود والطحاوي وحديث جابر عند الطحاوي والبزار وحديث عبد الله بن عمر عند الطحاوي وحديث عمر بن أبي سلمة عند البخاري وغيره وحديث سلمة بن الأكوع عند أبي داود والطحاوي وحديث أم هانيء عند البخاري وغيره وحديث عبد الله بن عباس عند الطحاوي وحديث أبي بن كعب عند ابن أبي شيبة والطحاوي وحديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجة والطحاوي وحديث أنس بن مالك عند أحمد والطحاوي وحديث عمرو بن أبي أسد عند البغوي في معجم الصحابة والحسن بن سفيان في مسنده وحديث كيسان عند ابن ماجة وحديث عائشة عند أبي داود وحديث عمار بن ياسر عند (1) وحديث عبادة بن الصامت عند الطبراني في الكبير وحديث حذيفة عند أحمد وحديث عبد الله بن أبي أمية عند الطبراني في الكبير وحديث عبد الله بن أبي أنيس عند الطبراني أيضا وحديث عبد الله بن سرجس عنده أيضا وحديث عبد الله بن عبد الله المغيرة عند أحمد وحديث علي بن أبي طالب عند الطبراني. وحديث معاذ عنده أيضا وحديث معاوية عنده أيضا وحديث أبي أمامة عنده أيضا وحديث عبد الرحمن حاضن عائشة عنده أيضا في الأوسط وحديث أم حبيبة عند أحمد وحديث أم الفضل عنده أيضا وحديث الرجل الذي لم يسم عنده أيضا فمن أراد أن يقف على متون أحاديثهم
بأسانيدها فعليه بشرحنا شرح معاني الآثار. وأما الجواب عما احتجت به الطائفة الأولى من حديث عبد الله بن عمر فهو أن ابن عمر روى عن النبي
إباحة الصلاة في ثوب واحد أخرجه الطحاوي عن أبي بكرة عن روح عن زمعة بن صالح قال سمعت ابن شهاب يحدث عن سالم عن أبيه عن النبي
مثل ما روى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه فظهر من هذا أن حديثه ذاك في استعمال الأفضل فبهذا يرتفع الخلاف بين روايتيه وكذلك كل ما روي في هذا الباب من منع الصلاة في ثوب واحد فهو محمول على الأفضل لا على عدم الجواز وقيل هو محمول على التنزيه لا على التحريم
61

75332 ح دثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني مالك بن أنس عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله أن أبا مرة مولى أم هانىء بنت أبي طالب أخبره أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول ذهبت إلى رسول الله عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره قالت فسلمت عليه فقال من هذه فقلت أنا أم هانيء بنت أبي طالب فقال مرحبا بأم هانىء فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد فلما انصرف قلت يا رسول الله زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن هبيرة فقال رسول الله قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء قالت أم هانيء وذاك ضحى. (انظر الحديث 02 وطرفيه).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا غير مرة، وأبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: واسمه سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبيد ا بن معمر القريشي التيمي، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وأبو مرة، بضم الميم وتشديد الراء: اسمه يزيد.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد. وفيه: السماع. وفيه: القول. وفيه: أن رواته مدنيون. وفيه: أن أبا مرة مولى أم هانىء، وذكر في باب العلم مولى عقيل، وهو في نفس الأمر مولى أم هانيء، ونسب إلى ولاء عقيل مجازا لإكثاره الملازمة لعقيل.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطهارة وفي الأدب عن القعنبي. وأخرجه مسلم في الطهارة، وفي الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وفي الطهارة أيضا عن محمد بن رمح، عن أبي كريب، وفي الصلاة أيضا عن حجاج بن الشاعر. وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن إسحاق بن موسى عن معن عن مالك به، وفي السير عن أبي الوليد الدمشقي. وأخرجه النسائي في الطهارة عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن مهدي عن مالك، وفي السير عن إسماعيل بن مسعود. وأخرجه ابن ماجة في الطهارة عن محمد بن رمح.
ذكر معانيه وإعرابه قوله: (عام الفتح) أي: فتح مكة. قوله: (يغتسل) جملة حالية. وقوله: (وفاطمة تستره)، جملة اسمية حالية أيضا. قوله: (فقلت أنا). ويروى: (قلت). بدون: الفاء. قوله: (مرحبا)، منصوب بفعل مقدر تقديره: لقيت رحبا وسعة. قوله: (ثماني ركعات) بكسر النون وفتح الياء، قال الكرماني: ثمان ركعات، بفتح النون. قلت: حينئذ يكون منصوبا بقوله: فصلى، وقال الجوهري: هو في الأصل منسوب إلى الثمن، لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية فهو ثمنها، ثم إنهم فتحوا أوله لأنهم يغيرون في النسب، وحذفوا منه إحدى يائي النسبة وعوضوا منها الألف، كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن، فثبتت ياؤه عند الإضافة كما ثبتت ياء القاضي تقول: ثماني نسوة، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر، وتثتب عند النصب لأنه ليس بجمع. قوله: (ملتحفا)، نصب على الحال من الضمير الذي في: صلى. قوله: (فلما انصرف) أي: من الصلاة. قوله: (زعم)، معناه هنا: قال أو ادعى.
قوله: (ابن أمي) وفي رواية الحموي: (ابن أبي)، ولا تفاوت في المقصود لأنها أخت علي، رضي ا تعالى عنه، من الأب والأم، ولكن الوجه في رواية: (ابن أمي) تأكيد الحرمة والقرابة والمشاركة في البطن، وذلك كما في قوله تعالى، حكاية عن هارون لموسى، عليهما الصلاة والسلام: * (قال يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي) * (طه: 49). قوله: (إنه قاتل) لفظ قاتل اسم فاعل لا ماض من باب المفاعلة، والمعنى أنه عازم لقتله، لأنه لم يكن قاتلا حقيقة في ذلك الوقت، ولكن لما عزم على التلبس بالفعل أطلقت عليه القاتل. قوله: (رجلا) منصوب بقوله: قاتل. قوله: (قد أجرته) جملة في محل النصب لأنها صفة لرجل، وهو بفتح الهمزة بدون المد، ولا يجوز فيه المد لأنه إما من الجور فتكون الهمزة فيه للسلب. والإزالة يعني لسلب الفاعل على المفعول أصل الفعل، نحو: أشكيته، أي: أزلت شكايته. وإما من الجوار بمعنى: المجاورة.
قوله: (فلان بن هبيرة) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، وأما النصب فعلى أنه بدل من: رجلا، أو من الضمير المنصوب
62

في أجرته. وهبيرة، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وبالراء: ابن أبي وهب بن عمر بن عائد بن عمران المخزومي زوج أم هانىء بنت أبي طالب، شقيقة علي بن أبي طالب، كرم ا وجهه، وهي أسلمت عام الفتح، وكان لهبيرة أولاد منها وهم: عمر، وبه كان يكنى، وهانيء ويوسف وجعدة، وقد ذكرنا أن اسم أم هانىء: فاختة، وكنيت بهانىء أحد أولادها المذكورين. ثم قولها؛ فلان ابن هبيرة، فيه اختلاف كثير من جهة الرواية ومن جهة التفسير، ففي (التمهيد) من حديث محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعد عن أبي مرة: (عن أم هانىء قالت: أتاني يوم الفتح حموان لي فاجرتهما، فجاء علي يريد قتلهما فأتيت النبي وهو في قبة بالأبطح بأعلى مكة). الحديث، وفيه: (أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت). وفي (معجم الطبراني) (إني أجرت حموي).
وفي رواية: (حموي ابن هبيرة). وفي رواية: (حموي ابني هبيرة). وقال أبو عمر: في حديث أبي النضر ما يدل على أن الذي أجرته كان واحدا، وفي هذا اثنين: وأما من جهة التفسير فقال أبو العباس ابن سريج: الرجلان هما: جعدة بن هبيرة، ورجل آخر، وكانا من الشرذمة الذين قاتلوا خالدا، رضي ا تعالى عنه، ولم يقبلوا الأمان ولا ألقوا السلاح، فأجارتهما أم هانيء، وكانا من أحمائها، وروى الأزرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانيء هذا: أنهما الحارث بن هاشم، وابن
هبيرة بن أبي وهب، وجزم ابن هشام في (تهذيب السيرة) بأن اللذين أجرتهما أم هانىء هما: الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. وقال الكرماني: أرادت أم هانىء ابنها من هبيرة أو ربيبها، كما أن الإبهام فيه محتمل أن يكون من أم هانيء، وأن يكون الراوي نسي اسمه فذكره بلفظ: فلان، قال الزبير بن بكار: فلان بن هبيرة هو: الحارث بن هشام المخزومي، وقال بعضهم؛ الذي يظهر لي أن في رواية الباب حذفا، لأنه كان فيه فلان بن عم هبيرة، فسقط لفظ: عم، أو كان فيه: فلان قريب هبيرة، فتغير لفظ: قريب، بلفظ: ابن، وكل من الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وعبد ا بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه: ابن عم هبيرة. وقريبه، لكون الجميع من بني المخزوم.
قلت: الأصوب والأقرب أن يقول في توجيه رواية أبي النضر. فلان بن هبيرة، أن يكون المراد من فلان هو: ابن هبيرة من غير أم هانيء: فنسي الراوي اسمه وذكره بلفظ: فلان، ويدل على صحة هذا رواية ابن عجلان في (التمهيد) وروايات الطبراني، فإنها تدل على أن الذي أجرته أم هانيء هو حموها. فإن قلت: المذكور في رواية أبي النضر واحد، وفي هذه الروايات اثنان. قلت: لا يضر ذلك لأنه يحتمل أن يكون الراوي اقتصر على ذكر واحد منهما نسيانا، كما أبهم اسمه نسيانا، وقال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منها فهو جعدة، وجوز أبو عمر أن يكون من غيرها وهو الأصوب لما ذكرنا. فإن قلت: قال بعضهم: نقل أبو عمر، من أهل النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدا من غيرها. قلت: لا يلزم من عدم ذكرهم ذلك أن لا يكون له ابن من غيرها. فإن قلت: قال هذا القائل: جعدة معدود فيمن له رواية ولم يصح له صحبة، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين: البخاري وابن حبان وغيرهما، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا حتى يحتاج إلى الأمان؟ ثم لو كان ولد أم هانىء لم يهم، علي رضي ا عنه، بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها؟ قلت: كونه تابعيا أو صحابيا على ما فيه الاختلاف لا ينافي ما ذكرناه فيما قبل ذلك، وقوله: فكيف يتهيأ إلى آخره؟ مجرد دعوى فيحتاج إلى برهان، فظهر مما ذكرنا أن قول الكرماني: أرادت أم هانىء ابنها من هبيرة أو ربيبها أقرب إلى الصواب وأوجه.
وقول بعضهم: والذي يظهر لي... الخ بعيد من ذلك، وتصرف من عنده بغير وجه لأن فيه ارتكاب الحذف والمجاز والتقدير بشيء بعيد غير مناسب، ومخالف لما ذكره هؤلاء المذكورون آنفا، وهذا كله خلاف الأصل، ومما يمجه من له يد في التصرف في الكلام.
قوله: (وذلك ضحى) ويروى: (وذاك ضحى)، وهو إشارة لما ذكرته من قولها: (فصلى ثماني ركعات) أي: كان ذلك وقت ضحى، والدليل عليه ما في رواية أحمد في هذا الحديث، وذلك يو فتح مكة ضحى، ويجوز أيضا يقال: وذلك صلاة ضحى، والدليل عليه ما في رواية أبي حفص بن شاهين أن أم هانىء قالت: يا رسول ا؟ ما هذه الصلاة؟ قال: (الضحى)، وما رواه ابن أبي شيبة: (ثم صلى الضحى ثماني ركعات)، وهذا الوجه هو الأصح، وهذا أيضا يمنع التحرض في ذلك بأن قال بعضهم هي: صلاة الفتح، وبعضهم: صلاة الإشراق، والدليل على ذلك ما في رواية مسلم: (ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى).
63

ذكر استنباط الأحكام منه: منها: جواز تستر الرجال بالنساء. ومنها: جواز السلام من وراء حجاب. ومنها: عدم الاكتفاء بلفظ: أنا، في الجواب، بل يوضح غاية التوضيح كما في ذكر الكنية والنسب ههنا. ومنها: استحباب الترحيب بالزائر وذكر كنيته. ومنها: أنه يدل على صلاة الضحى وأنها ثماني ركعات. ومنها: جواز أمان رجل حر أو امرأة حرة لكافر واحد أو جماعة، ولم يجز بعد ذلك قتالهم إلا أن يكون في ذلك مفسدة، ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم، ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم، ولا أمان عبد عند أبي حنيفة إلا أن يأذن له مولاه في القتال. وقال محمد: يجوز، وهو قول الشافعي وأبي يوسف في رواية، وفي رواية أخرى عنه. مثل قول أبي حنيفة، ولو أمن الصبي وهو لا يعقل لا يصح، كالمجنون. وإن كان يعقل وهو محجور عن القتال فعلى الخلاف، وإن كان مأذونا له في القتال فالأصح أنه يصح بالاتفاق.
24 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله
عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله
أولكلكم ثوبان)
مطابقة للترجمة ظاهرة لأن السؤال فيه عن الصلاة في الثوب الواحد والجواب في الحقيقة أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة على ما تقرر عن قريب
(ذكر رجاله) وهم خمسة قد ذكروا غير مرة ومالك هو ابن أنس وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع.
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن ابن شهاب إلى آخره نحوه وقال حدثني حرملة بن يحيى قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث قال حدثني أبي عن جدي قال حدثني عقيل بن خالد كلاهما عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي
وأخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك والنسائي عن قتيبة بن سعيد عن مالك وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار كلاهما عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وأخرجه الطحاوي من ستة طرق وأحمد والدارمي والبيهقي وروى ابن حبان هذا الحديث من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب لكن قال في الجواب ' ليتوشح به ثم ليصل فيه ' وأخرجه أبو داود عن مسدد حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي حدثنا عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه قال ' قدمنا على نبي الله
فجاء رجل فقال يا نبي الله ما ترى في الصلاة في الثوب الواحد قال فأطلق رسول الله
إزاره وطارق له رداء فاشتمل بهما ثم قام فصلى بنا رسول الله
فلما أن قضى الصلاة قال أوكلكم يجد ثوبين ' وأخرجه الطبراني وفي روايته طابق قوله ' طارق ' من قولهم طارق الرجل بين الثوبين إذا ظاهر بينهما أي لبس أحدهما على الآخر وكذلك معنى طابق وأخرج الطحاوي حديث طلق بن علي هذا من طريقين أحدهما نحو حديث أبي هريرة سواء.
(ذكر معناه) قوله ' أن سائلا ' وفي رواية الطحاوي عن أبي هريرة قال ' قام رجل فقال يا رسول الله أونصلي في ثوب واحد قال نعم فقال أوكلكم يجد ثوبين ' وفي رواية أبي شيبة عن أبي هريرة قال ' سئل النبي
عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أولكلكم ثوبان ' وعلى كل تقدير السائل مجهول قوله ' أولكلكم ثوبان ' الهمزة فيه للاستفهام (وقال الكرماني) (فإن قلت) ما المعطوف عليه بالواو (قلت) مقدر أي أأنت سائل عن مثل هذا الظاهر ومعناه لا سؤال عن أمثاله ولا ثوبين لكلكم إذ الاستفهام مفيد لمعنى النفي بقرينة المقام وهذا التقدير على سبيل التمثيل (قلت) اللفظ وإن كان لفظ الاستفهام ولكن المعنى بالإخبار عما كان يعلمه
من حالهم في العدم وضيق الثياب يقول فإذا كنتم بهذه الصفة وليس لكل واحد منكم ثوبان والصلاة واجبة عليكم فاعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة وقال القاضي عياض وقول النبي
أولكلكم ثوبان أو يجد ثوبين صيغته صيغة الاستفهام ومعناه التقرير والإخبار عن معهود حالهم وفي ضمنه دليل على الرخصة وتنبيه على أن الثوب أفضل وأتم وهو المفهوم منه عند أكثر العلماء (قلت) ذهب الطحاوي والباجي أيضا إلى أن مفهومه التسوية بين
64

الصلاة في الثوب الواحد مع وجود غيره وعدمه في الإجزاء وقال الخطابي لفظه استخبار ومعناه الإخبار عن الحال التي كانوا عليها من ضيق الثياب والتقتير لما عندهم وقد وقعت في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى كأنه استزادهم في هذا علما وفقها يقول إذا كان ستر العورة واجبا على كل واحد منكم وكانت الصلاة لازمة له وليس لكل واحد منكم ثوبان فكيف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة وقال الطحاوي لو كانت الصلاة مكروهة في الثوب الواحد لكرهت لمن لا يكون له إلا ثوب واحد لأن حكم الصلاة في الثوب الواحد لمن يجد ثوبين كهو في الصلاة لمن لا يجد غيره. وقال بعضهم وهذه الملازمة في مقام المنع للفرق بين القادر وغيره والسؤال إنما كان عن الجواز وعدمه لا عن الكراهة (قلت) أخذ هذا القائل صدر الكلام من كلام الطحاوي ثم غمز فيه ولو أخذ جميع كلامه لما كان يجد إلى ما قاله سبيلا
5
((باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه))
أي: هذا باب فيه إذا صلى الرجل إلى آخره أي: فليجعل بعضه على عاتقيه، وفي بعض النسخ على عاتقه بالإفراد، وفي بعضها فليجعل على عاتقه شيئا. وفي (المخصص): ومن المنكبين إلى أصل العنق عاتقان. وقال أبو عبيد: هو مذكر وقد أنث، وقد قال أبو حاتم: وليس يثبت، وزعموا أن هذا البيت مصنوع، وهو:
* لا صلح بيني فاعلموه ولا
* بينكم ما حملت عاتقي
*
والجمع: عتق وعواتق، وزاد في (المحكم): وعتق، وعن اللحياني: هو مذكر لا غيره، وفي (الموعب): صفح العنق من موضع الرداء من الجانبين جميعا يقال له: العاتق. وقال أبو حاتم: روى من لا أثق به التأنيث، وسألت بعض الفصحاء فأنكر التأنيث، وقد أنشدني من لا أثق به بيتا ليس بمعروف ولا عن ثقة. (لا صلح بيني)... إلى آخره. وقال ابن التياني: قال أبو عبيد: قال الأحمر: العاتق يذكر ويؤنث، وأنشدنا. (لا صلح بيني). الخ. وقال ابن الأنباري عن الفراء مثله، وفي (الجامع): هو مذكر وبعض العرب يؤنث، وأنكره بعضهم، وقال: هذا لا يعرف، وأما يعقوب بن السكيت فذكره مذكرا ومؤنثا من غير تردد، وتبعه على ذلك جماعة منهم: أبو نصر الجوهري، وقد أنشد ابن عصفور في ذكر الأعضاء التي تذكر وتؤنث:
* وهاك من الأعضاء ما قد عددته
* يؤنث أحيانا وحينا يذكر
*
* لسان الفتى والعنق والإبط والقفا
* وعاتقه والمتن والضرس يذكر
*
* وعندي ذراع والكراع مع المعا
* وعجز الفتى ثم القريض المحبر
*
* كذا كل نحوي حكى في كتابه
* سوى سيبويه وهو فيهم مكبر
*
* يرى أن تأنيث الذراع هو الذي
* أتى وهو للتذكير في ذاك منكر
*
وقال صاحب (دستور اللغة): بديع الزمان: باب الأسماء الخالية من علامات التأنيث، والأسماء التي اشترك فيها التذكير والتأنيث، وهي حدود مائتي اسم ونيف، وعلامة المشترك يجمعها قوله نظما:
* عين يمين عضد كف شكا
* ل أذن سن معا رجل يد
*
* قتب ذراع أصبع ناب عجو
* زعجز ساق كراع كبد
*
* وحش جراد رجلها أروى سعي
* ر زندها ذكاء طاغوت يد
*
* ذود طباع خنصر روح شبا
* خيل اتان وصف أنثى المفرد
*
وذكر بعد هذا أحد عشر بيتا على قافية الباء الموحدة، وسبعة أبيات أخرى على قافية اللام.
95352 ح دثنا أبو عاصم عن مالك عن أبي الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال قال النبي لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه شيء. (الحديث 953 طرفه في: 063).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله: قد تقدموا غير مرة، وأبو عاصم هو: الضحاك بن مخلد، بفتح الميم: البصري المشهور بالنبيل، وأبو الزناد، بكسر الزاي وتخفيف النون: وهو عبد ا بن ذكوان. قوله: (لا يصلي) بإثبات الياء لأنه نفي، لأن لا نافية، ولا النافية لا تسقط
65

شيئا، ولكن معناه النهي، ونص ابن الأثير على إثبات الياء في (الصحيحين) ورواه الدارقطني في (غرائب مالك) بلفظ: (لا يصل) بغير: ياء، على أن كلمة: لا، ناهية. ورواه النسائي، وقال: أخبرنا محمد بن منصور، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول ا: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) بزيادة: نون التوكيد في: (لا يصلي)، ورواه الإسماعيلي من طريق الثوري عن أبي الزناد بلفظ: (نهى رسول ا)، ورواه أبو داود قال: حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول ا: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على منكبه منه شيء) وأخرج الطحاوي هذا الحديث من أربع طرق، وذلك بعد أن قال: تواترت الآثار عن النبي بالصلاة في الثوب الواحد متوشحا به في حال وجود غيره، ثم قال: فقد يجوز أن يكن ذلك على ما اتسع من الثياب خاصة لا على ما ضاق منها، ويجوز أن يكون على كل الثياب ما ضاق منه وما اتسع، فنظرنا في ذلك فإذا عبد الرحمن بن عمر الدمشقي قد حدثنا، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا فطر بن خليفة عن شرحبيل بن سعد، قال: (حدثنا جابر أن رسول الله كان يقول: إذا اتسع الثوب فتعطف به على عاتقك، وإذا ضاق فاتزر به ثم صل). فثبت بهذا الحديث أن الاشتمال هو المقصود، وأنه هو الذي ينبغي أن يفعل في الثياب التي يصلي فيها، فإذا لم يقدر عليه لضيق الثوب اتزر به.
واحتجنا أن ننظر في حكم الثوب الواسع الذي يستطيع أن يتزر به ويشتمل، هل يشتمل به أو يتزر؟ فكيف يفعل؟ فإذا يونس قد حدثنا قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي، قال: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) فنهى عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي الزناد عن الصلاة في الثوب الواحد متزرا به. وقد جاء عنه أيضا: (أنه نهى أن يصلي الرجل في السراويل وحده ليس عليه غيره). حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: حدثنا عبد ا بن وهب، قال: أخبرني زيد بن الحباب عن أبي المنيب عن عبد ا بن بريدة عن أبيه عن رسول الله بذلك، فهذا مثل ذلك، وهذا عندنا على الوجود معه غيره
، وإن كان لا يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه، كما لا بأس بالصلاة في الثوب الصغير متزرا به، فهذا تصحيح معاني هذه الآثار المروية عن رسول الله في هذا الباب.
قوله: (ليس على عاتقه شيء) جملة حالية بدون الواو، ويجوز في مثل هذا: الواو، تركه. (قال الكرماني) هذا النهي للتحريم أم لا؟ قلت: ظاهر النهي يقتضي التحريم، لكن الإجماع منعقد على جوز تركه، إذ المقصود ستر العورة، فبأي وجه حصل جاز. قلت: فيه نظر، لأن الإجماع ما انعقد على جواز تركه، وهذا أحمد لا يجوز صلاة من قدر على ذلك وتركه، ونقل ابن المنذر عن محمد بن علي عدم الجواز، ونقل بعضهم وجوب ذلك عن نص الشافعي، رحمه ا، واختاره، مع أن المعروف في كتب الشافعية خلافه. وقال الخطابي: هذا نهي استحباب وليس على سبيل الإيجاب، فقد ثبت أنه صلى في ثوب كان بعض طرفيه على بعض نسائه، وهي نائمة، ومعلوم أن الطرف الذي هو لابسه من الثوب غير متسع لأن يتزر به، ويفضل منه ما يكون لعاتقه، إذ لو كان لا بد أن يبقى من الطرف الآخر منه القدر الذي يسترها، وفي حديث جابر الذي يتلو هذا الحديث أيضا جواز الصلاة من غير شيء على العاتق.
06362 ح دثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعته أو كنت سألته قال سمعت أبا هريرة يقول أشهد أني سمعت رسول الله يقول من صلى في ثوب واحد فليخالف بين طرفيه. (انظر الحديث 953).
وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن المخالفة بين طرفي الثوب لا يتيسر إلا بجعل شيء من الثوب على العاتق. وقال بعضهم: في بعض طرق هذا الحديث: فليخالف بين طرفيه على عاتقيه، وهو عند أحمد من طريق معمر عن يحيى، وعند الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق حسين عن شيبان، ثم ادعى أن هذا أولى في مطابقة الترجمة، لأن فيه التصريح بالمراد، فالمصنف أشار إليه كعادته. قلت: دعوى الأولوية غير صحيحة، لأن الدلالة على المراد من الطريق الذي للمصنف من نفس الكلام المسوق أولى من الكلام الأجنبي عنه.
ذكر رجاله: وهم خمسة. الأول: أبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، بضم الدال. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن. الثالث: يحيى بن أبي كثير، ضد قليل. الرابع: عكرمة مولى ابن عباس. الخامس:
66

أبو هريرة رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: الشك من يحيى بين السماع والسؤال حيث قال أولا: سمعته، أي سمعت عكرمة، ثم قال: أو كنت سألته يعني: سمعت منه إما بسؤالي أو بغير سؤالي، لا أحفظ كيفية الحال. وأخرجه الإسماعيلي عن مكي بن عبدان عن حمدان السلمي عن أبي نعيم بلفظ: سمعته أو كتب به إلي، والشك هنا بين السماع والكتابة. وقال الإسماعيلي: لا أعلم أحدا ذكر فيه سماع يحيى عن عكرمة. ورواه هشام وحسين المعلم ومعمر وزيد بن سنان، كل قال: عن عكرمة لم يذكر خبرا ولا سماعا. وأخرجه أبو داود من حديث يحيى عن عكرمة عن أبي هريرة بالعنعنة من غير شك، ولفظه: (إذا صلى أحدكم في ثوب فليخالف بطرفيه على عاتقيه). وفيه: الشهادة والسماع من أبي هريرة حيث قال: أشهد أني سمت رسول ا، وذلك إشارة إلى حفظه وإتقانه واستحضاره.
ذكر معناه قوله: (في ثوب واحد)، لفظ: واحد، في رواية الكشميهني وفي رواية غيره: (في ثوب)، بدون ذكر لفظ: واحد. قوله: (فليخالف بين طرفيه)، أي: بين طرفي الثوب، والمخالفة بطرفيه على عاتقيه هو التوشح وهو الاشتمال على منكبيه، وإنما أمر بذلك لستر أعالي البدن وموضع الزينة. وقال ابن بطال: وفائدة المخالفة في الثوب أن لا ينظر المصلي إلى عورة نفسه إذا ركع قلت: فائدة أخرى وهي أن لا يسقط إذا ركع، وهذا الأمر للندب عند الجمهور، حتى لو صلى وليس على عاتقه شيء صحت صلاته. ويقال: إذا لم يخالف بين طرفيه ربما يحتاج إلى إمساكه بيده فيشتغل بذلك وتفوته سنة وضع اليد اليمنى على اليسرى، واحتج أحمد بظاهر الحديث، وشرط الوضع على عاتقه عند القدرة، وعنه أنه: تصح صلاته ولكنه يأثم بتركه.
6
((باب إذا كان الثوب ضيقا))
أي: هذا باب فيه كيف يفعل المصلي إذا كان الثوب ضيقا، والضيق، بفتح الضاد وتشديد الياء، وجاز فيه تخفيف الياء: وهو صفة مشبهة، واسم الفاعل من هذه المادة: ضائق، على وزن: فاعل، والفرق بينهما: أن الصفة المشبهة تدل على الثبوت، واسم الفاعل يدل على الحدوث.
27 - (حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال خرجت مع النبي
في بعض أسفاره فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي وعلي ثوب واحد فاشتملت به وصليت إلى جانبه فلما انصرف قال ما السري يا جابر فأخبرته بحاجتي فلما فرغت قال ما هذا الاشتمال الذي رأيت قلت كان ثوبا يعني ضاق قال فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله ' فإن كان واسعا ' إلى آخره.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. الأول يحيى بن صالح أبو زكريا الوحاظي بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة الحمصي الحافظ الفقيه مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين. الثاني فليح بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وبالحاء المهملة تقدم في أول كتاب العلم. الثالث سعيد بن الحارث الأنصاري قاضي المدينة. الرابع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع وبصيغة الجمع في موضع وفيه العنعنة في موضع وفيه السؤال وفيه أن رواته ما بين حمصي ومدني.
(ذكر من أخرجه غيره) هذا الحديث من أفراد البخاري من طريق سعيد بن الحارث وأخرجه مسلم من حديث عبادة عن جابر مطولا وفيه ' إذا كان واسعا فخالف بين طرفيه وإن كان ضيقا فاشدده على حقوك ' وأخرجه أبو داود كذلك قوله ' على حقوك ' بفتح الحاء المهملة وكسرها الإزار والأصل فيه معقد الإزار ثم سمى به الإزار للمجاورة وجمعه أحق وأحقاء *
67

(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' في بعض أسفاره ' عينه مسلم في روايته ' غزوة بواط ' بضم الباء الموحدة وتخفيف الواو وبعد الألف طاء مهملة قال الصغاني بواط جبال جهينة من ناحية ذي خشب وبين بواط والمدينة ثلاثة برد أو أكثر وقال ابن إسحاق جميع ما غزا رسول الله
بنفسه الكريمة سبع وعشرون غزوة. ودان وهي غزوة الأبواء وغزوة بواط من ناحية رضوى ثم عد الجميع قوله ' فجئت ' أي إلى رسول الله
قوله ' لبعض أمري ' أي لأجل بعض حوائجي والأمر هو واحد الأمور لا واحد الأوامر قوله ' يصلي ' في محل النصب على أنه مفعول ثان لوجدت قوله ' وعلى ثوب واحد ' جملة اسمية في محل النصب على الحال قوله ' وصليت إلى جانبه ' كلمة إلى في الأصل للانتهاء فالمعنى صليت منتهيا إلى جانبه ويجوز أن تكون بمعنى في لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض ويجوز أن يقال فيه تضمين معنى الانضمام أي صليت منضما إلى جانبه قوله ' فلما انصرف ' أي من الصلاة واستقبال القبلة قوله ' فقال ما السرى ' بضم السين مقصورا وهو السير بالليل وهو استفهام عن سبب سراه بالليل والسؤال ليس عن نفس السرى بل عن سببه قوله ' ما هذا الاشتمال ' كأنه استفهام إنكار وسبب الإنكار أن الثوب كان ضيقا وأنه خالف بين طرفيه وتواقص أي انحنى عليه حتى لا يسقط فكأنه عند المخالفة بين طرفي الثوب لم يصر ساترا إذا انحنى ليستتر فأعلمه عليه الصلاة والسلام بأن محل ذلك فيما إذا كان الثوب واسعا وأما إذا كان ضيقا فإنه يجزيه أن يتزر به لأن المقصود هو ستر العورة وهو يحصل بالاتزار ولا يحتاج إلى الانحناء المغاير للاعتدال المأمور به قوله ' كان ثوبا ' أي كان المشتمل به ثوبا فيكون انتصاب ثوبا على أنه خبر كان وفي رواية أبي ذر وكريمة ' كان ثوب ' بالرفع ووجهه أن تكون كان تامة فلا تحتاج إلى الخبر وفي رواية الإسماعيلي ' كان ثوبا ضيقا ' قوله ' فاتزر به ' أمر وقال الكرماني بإدغام الهمزة المقلوبة تاء في التاء وقول التصريفيين اتزر خطأ هو الخطأ (قلت) تحقيق هذه المادة أن أصل الفعل أزر على ثلاثة أحرف فلما نقل إلى باب الافتعال صار امتزر على وزن افتعل بهمزتين أولاهما مكسورة وهي همزة الافتعال والأخرى ساكنة وهي همزة الفعل ثم يجوز فيه الوجهان أحدهما أن تقلب الهمزة ياء آخر الحروف فيقال أيتزر والآخر أن تقلب تاء مثناة من فوق وتدغم التاء في التاء وهو معنى قول الكرماني بإدغام الهمزة المقلوبة تاء في التاء ولفظ الحديث على الوجه الأول.
(ذكر استنباط الحكم منه) قال الخطابي الاشتمال الذي أنكره النبي
هو اشتمال الصماء وهو أن يجلل نفسه بثوبه ولا يرفع شيئا من جوانبه ولا يمكنه إخراج يديه إلا من أسفله فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك وقال ابن بطال حديث جابر هذا تفسير حديث أبي هريرة الذي في الباب المتقدم وهو ' لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ' في أنه أراد الثوب الواسع الذي يمكن أن يشتمله وأما إذا كان ضيقا فلم يمكنه أن يشتمل به فليتز به وقال الكرماني فإن قيل الحديث السابق فيه نهي عن الصلاة في الثوب الواحد متزرا به وظاهره يعارض ' وإن كان ضيقا فاتزر به ' وأجاب الطحاوي بأن النهي عنه للواجد لغيره وأما من لم يجد غيره فلا بأس بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة في الثوب الضيق متزرا. ومما يستنبط منه جواز طلب الحوائج بالليل من السلطان لخلأ موضعه وجواز مجيء الرجل إلى غيره بالليل لحاجته. ومن ذلك أن الثوب إذا كان واسعا يخالف بين طرفيه وإن كان ضيقا يتزر به.
28 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني أبو حازم عن سهل قال كان رجال يصلون مع النبي
عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان)
ذكر البخاري هذا الحديث في أول باب عقد الإزار على القفا معلقا حيث قال وقال أبو حازم عن سهل ' صلوا مع النبي
عاقدي أزرهم على عواتقهم ' وأخرجه ههنا مسندا عن مسدد بن مسرهد عن يحيى القطان عن سفيان الثوري عن أبي حازم بالحاء المهملة سلمة بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه إلى آخره وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع به وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري عن وكيع به وأخرجه النسائي فيه عن عبيد الله بن سعيد عن يحيى به ولفظ أبي داود عن سهل بن سعد قال ' رأيت الرجال عاقدي
68

أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر خلف رسول الله
في الصلاة كأمثال الصبيان فقال قائل يا معشر النساء لا ترفعن رؤسكن حتى يرفع الرجال '.
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' عن سفيان ' قد ذكرنا أنه الثوري وقال الكرماني يحتمل أن يكون سفيان بن عيينة لأنهما يرويان عن أبي حازم (قلت) نص المزي في الأطراف أنه سفيان الثوري قوله ' كان رجال ' قال الكرماني التنكير فيه للتنويع أو للتبعيض أي بعض الرجال ولو عرفه لأفاد الاستغراق وهو خلاف المقصود وتبعه بعضهم في شرحه فقال التنكير فيه للتنويع وهو يقتضي أن بعضهم كان بخلاف ذلك وهو كذلك (قلت) ما في رواية أبي داود المذكورة يرد ما ذكراه لأن في روايته رأيت الرجال بالتعريف قوله ' يصلون ' خبر كان قوله ' عاقدي أزرهم ' أصله عاقدين أزرهم فلما أضيف سقطت النون وهي حال ويجوز أن يكون انتصابه على أنه خبر كان ويكون قوله ' يصلون ' في محل النصب على الحال قوله ' كهيئة الصبيان ' وفي رواية أبي داود ' كأمثال الصبيان ' كما ذكرنا والمعنى قريب. ومما يستنبط منه أن الثوب إذا كان يمكن الالتحاف به كان أولى من الاتزار به لأنه أبلغ في الستر
(ويقال للنساء لا ترفعن رؤسكن حتى يستوي الرجال جلوسا)
قال الكرماني أي قال رسول الله
وفي رواية أبي داود ' فقال قائل يا معشر النساء ' كما ذكرناه الآن وهذا القائل أعم من أن يكون النبي
أو غيره ويؤيده رواية الكشميهني ' ويقال للنساء ' وفي رواية النسائي ' فقيل للنساء ' وروى أبو داود ثم البيهقي من حديث أسماء بنت أبي بكر ' سمعت رسول الله
يقول من كان منكن تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤسهم كراهية أن ترين عورات الرجال ' وهذا فيه التصريح بأن القائل رسول الله
قوله ' لا ترفعن ' أي من السجود قوله ' جلوسا ' أما جمع جالس كالركوع جمع راكع وأما مصدر بمعنى جالسين وعلى كل حال انتصابه على الحال وإنما نهى عن رفع رؤسهن قبل جلوس الرجال خشية أن يلمحن شيئا من عورات الرجال عند الرفع منه
7
((باب الصلاة في الجبة الشامية))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في الجبة الشامية، والجبة، بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة. هي التي تلبس، وجمعها جباب، والشامية. نسبة إلى الشام، وهو الإقليم المعروف دار الأنبياء عليهم السلام. ويجوز فيه الألف والهمزة الساكنة، والمراد بالجبة الشامية هي: التي تنسجها الكفار، وإنما ذكره بلفظ الشامية مراعاة للفظ الحديث. وكان هذا في غزوة تبوك، والشام إذ ذاك كانت بلاد كفر، ولم تفتح بعد، وإنما أولنا بهذا لأن الباب معقود لجواز الصلاة في الثياب التي تنسجها الكفار ما لم تتحقق نجاستها. وقال الحسن في الثياب ينسجها المجوس لم ير بها بأسا.
الحسن: هو البصري، ووصله نعيم بن حماد، وعن معتمر عن هشام عنه. ولفظه: (لا بأس بالصلاة في الثوب الذي ينسجه المجوس قبل أن يغسل). وروى أبو نعيم الفضل بن دكين في كتاب (الصلاة) تأليفه: عن الربيع، (عن الحسن: لا بأس بالصلاة في رداء اليهودي والنصراني). قوله: (المجوس) جمع المجوسي، وهو معرفة سواء كان محلى بالألف واللام أم لا، والأكثر على أنه يجري مجرى القبيلة لا مجرى الحي في باب الصرف، وفي بعض النسخ: ينسجها المجوسي، بالياء، والجملة صفة للثياب، والمسافة بين النكرة والمعرفة بلام الجنس قصيرة، فلذلك وصفت المعرفة بالنكرة. كما وصف اللئيم بقوله: يسبني في قول الشاعر:
* ولقد أمر على اللئيم يسبني
*
وفي بعض النسخ: (في ثياب ينسجها المجوس) بتنكير الثياب، وعلى هذه النسخة لا يحتاج إلى ما ذكرنا، وينسج من باب: ضرب يضرب، ومن باب: نصر ينصر، وقال ابن التين: قرأناه بكسر السين. قوله: (لم ير)، على صيغة المعلوم أي: لم ير الحسن. وقال الكرماني: (لم ير) بلفظ المجهول، أي: القوم، فعلى الأول يكون من باب التجريد، كأنه جرد عن نفسه شخصا فأسند إليه.
69

وقال معمر رأيت الزهري يلبس من ثياب اليمن ما صبغ بالبول.
معمر، بفتح الميم: هو ابن الراشد، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، ووصله عبد الرزاق في (مصنفه) عنه. قوله: (بالبول) إن كان المراد منه جنس البول فهو محمول على أنه كان يغسله قبل لبسه، وإن كان المراد منه البول المعهود، وهو بول ما يؤكل لحمه فهو طاهر عند الزهري.
وصلى علي في ثوب غير مقصور.
50
50 علي: هو ابن أبي طالب، وأراد: بغير مقصور الخام. والمراد أنه كان جديدا لم يغسل. وقال ابن التين: غير مقصور، أي: غير مدقوق. يقال: قصرت الثوب إذا دققته، ومنه القصار. قلت: القصر ليس مجرد الدق، والدق لا يكون إلا بعد الغسل الذي يبالغ فيه. وقال الداودي: أي لم يلبس بعد، وروى ابن سعد من طريق عطاء بن محمد. قال: (رأيت عليا رضي ا تعالى عنه، صلى وعليه قميص كرابيس غير مغسول). وعلم من هذه الآثار الثلاثة جواز لبس الثياب التي ينسجها الكفار، وجواز لبس الثياب التي تصبغ بالبول بعد الغسل، وجواز لبس الثياب الخام قبل الغسل. وقال ابن بطال: اختلفوا في الصلاة في ثياب الكفار، فأجاز الشافعي والكوفيون لباسها، وإن لم تغسل حتى تتبين فيها النجاسة. وقال مالك: يستحب أن لا يصلي على الثياب إلا من حر أو برد أو نجاسة بالموضع، وقال مالك أيضا: تكره الصلاة في الثياب التي ينسجها المشركون، وفيما لبسوه، فإن فعل يعيد في الوقت. وقال إسحاق جميع ثيابهم طاهرة.
فإن قلت: ما مناسبة أثر الزهري وعلي للترجمة؟ قلت: لما ذكر أثر الحسن المطابق للترجمة ذكر الأثرين الآخرين استطرادا.
36392 ح دثنا يحيى قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن مغيرة ابن شعبة قال كنت مع النبي في سفر فقال يا مغيرة خذ الإداوة فأخذتها فانطلق رسول الله حتى توارى عني فقضى حاجته وعليه جبة شامية فذهب ليخرج يده من كمها فضاقت فأخرج يده من أسفلها فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ومسح على خفيه ثم صلى..
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة. الأول: يحيى بن موسى أبو زكريا البلخي، يعرف بخت، بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق. وقال الغساني في (التقييد): قال البخاري في باب الصلاة في الجبة الشامية وفي الجنائز وفي تفسير سورة الدخان: حدثنا يحيى حدثنا أبو معاوية، فنسب ابن السكن الذي في الجنائز بأنه يحيى بن موسى
البلخي، وأهمل الموضعين الآخرين، ولم أجدهما منسوبين لأحد من شيوخنا. وقال الكرماني: وأنا وجدته في بعض النسخ منسوبا إلى جعفر ابن أبي زكريا البخاري البيكندي، ويحتمل أن يكن يحيى بن معين: لأنه روى عن أبي معاوية، والبخاري يروي عنه. الثاني: أبو معاوية محمد بن خازم، بالمعجمتين. الثالث: سليمان بن مهران الأعمش. الرابع: مسلم بن صبيح، بضم الصاد: أبو الضحى العطار، وتردد الكرماني في هذا، فقال: مسلم بن عمران البطين، بفتح الباء الموحدة، أو مسلم بن صبيح، وكذا تردد في أبي معاوية. وقال محمد بن خازم: ويحتمل أن يراد به أبو معاوية شيبان النحوي، ثم قال: وأمثال هذه الترددات لا تقدح في صحة الحديث ولا في إسناده، لأن أيا كان منهم فهو عدل ضابط بشرط البخاري، بدليل أنه قد روى في (الجامع) عن كل منهم. وقال بعضهم: لم يرو يحيى عن شيبان. قلت: هذا نفي لا يعارض الإثبات. الخامس: مسروق بن الأجدع الهمداني، سمي به لأنه سرق في صغره. السادس: المغيرة بن شعبة رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين بلخي وكوفي.
تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن موسى بن إسماعيل، وفي
70

اللباس عن قيس بن حفص، كلاهما عن عبد الواحد بن زياد، وعن إسحاق بن نصر عن أبي أسامة مختصرا. وأخرجه مسلم في الطهارة عن أبي بكر وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية. وعن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم، كلاهما عن عيسى بن يونس أربعتهم عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عنه به. وأخرجه النسائي فيه عن علي بن خشرم به، وفي الزينة عن أحمد بن حرب عن أبي معاوية نحوه. وأخرجه ابن ماجة في الطهارة عن هشام بن عمار عن عيسى به.
ذكر معناه. قوله: (الإداوة) بكسر الهمزة: المطهرة. قوله: (حتى توارى) أي: غاب وخفي. قوله: (فضاقت)، أي: الجبة.
وفيه جواز أمر الرئيس غيره بالخدمة، والتستر عن أعين الناس عند قضاء الحاجة، والإعانة على الوضوء، والمسح على الخف. وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب المسح على الخفين.
8
((باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها))
وفي رواية الكشميهني والحموي: باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها، أي: هذا باب في بيان كراهة التعري في نفس الصلاة وغيرها أي: غير الصلاة.
46303 ح دثنا مطر بن الفضل قال حدثنا روح قال حدثنا زكرياء بن إسحاق قال حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يحدث أن رسول الله كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره فقال له العباس عمه يا ابن أخي لو حللت إزارك فجعلت على منكبيك دون الحجارة قال فحله على منكبيه فسقط مغشيا عليه فما رؤي بعد ذلك عريانا. (الحديث 463 طرفاه في: 2851، 9283).
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث عموم قوله: (فما رؤي بعد ذلك عريانا)، لأن ذلك يتناول ما بعد النبوة كما يتناول ما قبلها، ثم بعمومه يتناول حالة الصلاة وغيرها.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: مطر بن الفضل المروزي. الثاني: روح، بفتح الراء وسكون الواو: ابن عبادة التنيسي، مر في باب اتباع الجنائز من الإيمان. الثالث: زكريا بن إسحاق المكي. الرابع: عمرو بن دينار الجمحي، تقدم في باب كتاب العلم. الخامس: جابر بن عبد ا.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: التحديث بصيغة الإفراد والمضارع. وفيه: أن رواته ما بين تنيسي ومروزي ومكي، وهذا الحديث من مراسيل الصحابة، رضي ا تعالى عنهم، فإن جابرا لم يحضر القضية. وهي حجة، خلافا لطائفة قد شذوا فيه، ففي نفس الأمر لا يخلو إما أن يكون سمع ذلك من رسول الله بعد ذلك، أو من بعض من حضر ذلك من الصحابة، والأقرب أنه سمعه من العباس، لأنه حدث به عنه أيضا، وسياقه أتم. أخرجه الطبراني، وفيه؛ (فقام وأخذ إزاره، وقال: نهيت أن أمشي عريانا).
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في بنيان الكعبة. وأخرجه مسلم في الطهارة عن زهير بن حرب عن روح بن عبادة عنه به.
ذكر معناه: قوله: (كان ينقل معهم) أي: مع قريش. قوله: (للكعبة) أي: لبناء الكعبة. وقال الزهري: لما بنت قريش الكعبة لم يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام، الحلم. وقال ابن بطال وابن التين: كان عمره خمس عشرة سنة. وقال هشام: بين بناء الكعبة والمبعث خمس سنين. وقيل: إن بناء الكعبة كان في سنة ست وثلاثين من مولده، وذكر البيهقي بناءا لكعبة قبل تزوجه خديجة رضي ا تعالى عنها، والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزوج خديجة بعشر سنين، فيكون عمره إذ ذاك خمسة وثلاثين سنة. وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق، وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وهكذا قاله مجاهد وغيره، وفي (سيرة ابن إسحاق) أنه كان يحدث عما كان ا يحفظه في صغره أنه قال: (لقد رأيتني في غلمان قريش بنقل الحجارة لبعض ما تلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعل على
71

رقبته يحمل عليها الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لا كم، ما أراه إلا لكمة وجيعة، ثم قال شد عليك إزارك. فأخذته فشددته علي ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي). وقال السهيلي: وحديث ابن إسحاق هذا إن صح فهو محمول على أن هذا الأمر كان مرتين، في حال صغره. وعند بنيان الكعبة. قوله: (وعليه إزار) ويروى: (عليه إزاره)، بالضمير، وهذه الجملة حال بالواو، وفي بعض النسخ بلا واو. قوله: (عمه) مرفوع لأنه عطف بيان. قوله: (لو حللت)، جواب: لو، محذوف إن كانت شرطية، وتقدير: لو حللت إزارك لكان أسهل عليك، ويجوز أن تكون: لو، للتمني فلا تحتاج إلى
جواب حينئذ. قوله: (فجعلت) أي الإزار، وفي رواية الكشميهني: (فجعلته)، بالضمير. وجاء في رواية غير (الصحيحين): (إن الملك نزل عليه فشد إزاره). قوله: (قال: فحله)، يحتمل أن يكون مقول جابر أو مقول من حدثه. قوله: (فسقط) أي: رسول الله مغشيا عليه، أي مغمى عليه، وذلك لانكشاف عورته. قوله: (فما رؤي)، بضم الراء بعدها همزة مكسورة ويجوز كسر الراء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم همزة مفتوحة. وفي رواية الإسماعيلي: (فلم يتعر بعد ذلك)، قوله: (عريانا) نصب على أنه مفعول ثان لرؤي.
ذكر ما فيه من الفوائد منها: أن النبي كان في صغره محميا عن القبائح، وأخلاق الجاهلية، منزها عن الرذائل والمعايب قبل النبوة وبعدها. ومنها: أنه كان جبله ا تعالى على أحسن الأخلاق والحياء الكامل حتى كان أشد حياء من العذراء في خدرها، فلذلك غشي عليه، وما رؤي بعد ذلك عريانا. ومنها: أنه لا يجوز التعري للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشي عريانا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رخص فيه من رؤية الحلائل لأزواجهن عراة. قالوا: وقد دل حديث العباس المذكور أنه لا يجوز التعري في الخلوة، ولا لأعين الناس. وقيل: إنما مخرج القول منه للحال التي كان عليها، فحيث كانت قريش رجالها ونساؤها تنقل معه الحجارة، فقال: نهيت أن أمشي عريانا في مثل هذه الحالة، لو كان ذلك نهيا عن التعري في كل مكان لكان قد نهاه عنه في غسل الجنابة في الموضع الذي قد أمن أن يراه فيه أحد، ولكنه نهاه عن التعري بحيث يراه فيه أحد، والقعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى عورته في معنى المشي عريانا، ولذلك نهى الشارع عن دخول الحمام بغير إزار فإن قلت: روى القاسم عن أبي أمامة مرفوعا: (لو أستطيع أن أواري عورتي من شعاري لواريتها). وقال علي رضي ا تعالى عنه: (إذا كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك). وقال أبو موسى الأشعري: (إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حياء من ربي). قلت: كل ذلك محمول على الاستحباب لاستعمال الستر، لا على الحرمة، وفي (التوضيح): إذا أوجبنا الستر في الخلوة فهل يجوز أن ينزل في ماء النهر والعين بغير مئزر؟ وجهان: أحدهما: لا، للنهي عنه، والثاني: نعم، لأن الماء يقوم مقام المئزر في ستر العورة، وا أعلم.
9
((باب الصلاة في القميص والسراويل والتبان والقباء))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في القميص إلى آخره. القميص معروف، وجمعه: قمصان وأقمصة، وقمصه تقميصا وتقمصة أي؛ لبسه: والسراويل أعجمي عرب، نقل سيبويه عن يونس، وزعم ابن سيده أنه فارسي معرب يذكر ويؤنث، ولم يعرف الأصمعي فيها إلا التأنيث، والجمع سراويلات، وقال سيبويه: لا تكسر لأنه لو كسر لم يرجع إلا إلى لفظ الواحد فترك. ويقال. هو جمع سروالة. وقال أبو حاتم السجستاني: السراويل، مؤنث لا يذكرها أحد علمناه، وبعض العرب يظن السراويل جماعة، وسمعت من الأعراب من يقول: الشروال بالشين المعجمة. قلت: ولما استعملته العرب بدلوا الشين سينا ثم جمعوه على سراويل، وقد يقال فيه: سراوين، بالنون موضع اللام، وفي (الجامع) للقزاز: سراويل وسروال وسرويل، ثلاث لغات. والتبان، بضم التاء المثناة من فوق وتشديد الباء الموحدة. قال في (المحكم): التبان يشبه السراويل يذكر. وفي (الصحاح): التبان سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة، فقد يكون للملاحين. قلت: وهو عند العجم من جلد بلا رجلين يلبسه المصارعون. والقبا، بفتح القاف والباء الموحدة المخففة. قال الكرماني: ممدود، وتبعه على ذلك بعضهم. قلت: لم يذكر غيره، بل الظاهر أنه مقصور. وفي كتاب الجواليقي: قال بعضهم: هو فارسي معرب، وقيل: عربي واشتقاقه من: القبو، وهو الضم والجمع
72

وقال أبو علي: سمي قباء لتقبضه، وقبوت الشيء: جمعته، وقال أبو عبيد: هو اليلمق، فارسي معرب، والقردماني. وقال السيرافي: قباء محشو، وقال في (الجامع): سمي قباء لأنه يضم لابسه. وفي (الصحاح): تقبيت إذا لبست قباء، وفي (المحكم): قبا الشيء قبوا جمعه بأصابعه، والقبوة انضمام ما بين الشفتين، والقباء من الثياب مشتق من ذلك لانضمام أطرافه، والجمع: أقبية، وفي (مجمع الغرائب) للفارسي، عن كعب: أول من لبس القباء سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فكان إذا أدخل رأسه في الثياب لنصت الشياطين، يعني: فصلت أنوفها. وزعم أبو موسى في (المغيث) بالسين: لنست.
563 ح دثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال قام رجل إلى النبي فسأله عن الصلاة في الثوب الواحد فقال أو كلكم يجد ثوبين ثم سأل رجل عمر فقال إذا وسع الله فأوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل في إزار ورداء في إزار وقميص في إزار وقباء في سراويل ورداء في سراويل وقميص في سراويل وقباء في تبان وقميص قال وأحسبه قال في تبان ورداء. (انظر الحديث 853).
مطابقة هذا للترجمة ظاهرة لأنها في ذكر الصلاة في الأشياء الأربعة المذكورة، وصدر هذا الحديث، أعني المرفوع منه، قد تقدم الكلام فيه في آخر باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، لأنه رواه هناك عن عبد ا بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: (أن سائلا سأل رسول الله عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول ا: أو لكلكم ثوبان؟). وههنا عن سليمان بن حرب الخ.
وأيوب: هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين، وقد تقدموا غير مرة.
قوله: (أو لكلكم؟) بهمزة الاستفهام وواو العطف، أي: لا يجد كل واحد ثوبين، فلهذا تصح الصلاة في الثوب الواحد. قوله: (ثم سأل رجل عمر) أي: سأل عن الصلاة في ثوب واحد، ولم يسم الرجل في الموضعين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ابن مسعود، لأنه اختلف هو وأبي بن كعب رضي ا تعالى عنهما؛ في ذلك. فقال أبي: الصلاة في الثوب الواحد، يعني لا تكره. وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك وفي الثياب قلة، فقال عمر: القول ما قال أبي، ولم يأل ابن مسعود أي: لم يقصر. قلت: اختلاف أبي وابن مسعود في ذلك لا يدل على أن السائل من عمر هو ابن مسعود بعينه، ويحتمل أن يكون أبي، والاحتمال موجود فيهما، مع أنه حدس
وتخمين. وأما اختلافهما في ذلك فقد أخرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمر وعن الحسن قال: اختلف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في ثوب واحد، فقال أبي: لا بأس به، وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابا. فأما إذا وجدوها فالصلاة في ثوبين. فقام عمر على المنبر فقال: الصواب ما قال أبي لا ما قال ابن مسعود. قوله: (فقال: إذا وسع ا) أي: فقال عمر في جواب الرجل الذي سأله عن الصلاة في الثوب الواحد.
قوله: (جمع رجل عليه) الخ من بقية قول عمر. وتتمة كلامه، والضمير في: عليه، يرجع إلى الرجل: أي جمع رجل على نفسه ثيابه، ولفظه: جمع، وإن كانت صيغة الماضي ولكن المراد منها الأمر، وكذلك قوله: (صلى). فلذلك قال ابن بطال: يريد ليجمع عليه ثيابه وليصل فيها، ذكره بلفظ الماضي ومراده المستقبل، كقوله تعالى: * (وإذ قال ا يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) * (المائدة: 611) والمعنى: يقول ا، يدل عليه قول عيسى عليه الصلاة والسلام: * (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) * (المائدة: 711). قوله: (صلى رجل). أي: ليصل رجل في إزار ورداء، وهذه تسع صور. الأولى: هذه، والفرق بين الإزار والرداء بحسب العرف، لأن الإزار للنصف الأسفل، والرد للنصف الأعلى. الثانية: من الصور: هي قوله: (في إزار وقميص) أي: ليصل في إزار وقميص. الثالثة: قوله: (في إزار وقباء)، أي: ليصل فيهما، وإنما قدم هذه الثلاثة لأنها أستر وأكثر استعمالا. الرابعة: قوله: (في سراويل ورداء) أي: ليصل فيهما. الخامسة: قوله: (في سراويل وقميص). السادسة: قوله: (في سراويل وقباء). السابعة: قوله: (في تبان وقباء). الثامنة: قوله: (في تبان وقميص). التاسعة: قوله: (في تبان ورداء). ولم يقصد بذلك العدد الحصر، بل ألحق بذلك ما يقوم مقامه.
فإن قلت: كان المناسب أن يقول: أو كذا أو كذا. بحرف العطف. فلم ترك حرف العطف؟ قلت: أخرج هذا على سبيل التعداد فلا حاجة إلى ذكر حرف
73

العطف، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (تصدق امرؤ من ديناره من درهمه من صاع تمره). ويجوز أن يقال: حذف حرف العطف على قول من يجوز ذلك من النحاة، والتقدير حينئذ: صلى رجل في إزار ورداء، أو في إزار وقميص، أو في إزار وقباء. إلى آخره كذلك، وقال الكرماني: هو من باب الإبدال. قلت: كأنه أشار بذلك إلى ما قاله ابن المنير: إنه كلام في معنى الشرط، كأنه قال: إن جمع رجل عليه ثيابه فحسن، ثم فصل الجمع بصور على البدلية. قوله: (قال وأحسبه) أي: قال أبو هريرة: وأحسب عمر قال: في ثياب ورداء. فإن قلت: كيف يدخل حرف العطف بين قوله ومقوله؟ قلت: هو عطف على مقدر تقديره: بقي شيء من الصور المذكورة، وأحسبه قال: في تبان ورداء.
فإن قلت: كيف لم يجزم به أبو هريرة، بل ذكره بالحسبان؟ قلت: لإمكان أن عمر أهمل ذلك، لأن التبان لا يستر العورة كلها بناء على أن الفخذ من العورة، فالستر به حاصل مع القباء ومع القميص، وأما الرداء فقد لا يحصل. ورأى أبو هريرة أن انحصار القسمة يقتضي ذكر هذه الصور، وأن الستر قد يحصل بها إذا كان الرداء سابغا. وقال ابن بطال: اللازم من الثياب في الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر رضي ا تعالى عنه؛ إذا وسع ا، يدل عليه، وجمع الثياب فيها اختيار واستحسان. ويقال: ذكر صورا تسعا: ثلاثة منها سابغة: الرداء ثم القميص ثم القباء، وثلاثة ناقصة: الإزار ثم السراويل ثم التبان، وأفضلها: الإزار ثم السراويل، ومنهم من عكس. واختلف أصحاب مالك فيمن صلى في سراويل وهو قادر على الثياب، ففي (المدونة): لا يعيد في الوقت ولا في غيره. وعن ابن القاسم مثله، وعن أشهب عليه الإعادة في الوقت، وعنه أن صلاته تامة إن كان ضيقا. وأخرج أبو داود من حديث عبد ا بن بريدة عن أبيه، قال: (نهى رسول ا، أن يصلي في لحاف ولا يوشح به). والآخر: أن تصلي في سراويل ليس عليك رداء، وبظاهره أخذ بعض أصحابنا. وقال: تكره الصلاة في السراويل وحدها، والصحيح أنه إذا ستر عورته لا تكره الصلاة فيه.
66323 ح دثنا عاصم بن علي قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال سأل رجل رسول الله فقال ما يلبس المحرم فقال لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا ثوبا مسه الزعفران ولا ورس فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين..
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث جواز الصلاة بدون القميص والسراويل.
وأخرج البخاري هذا الحديث في آخر العلم عن عاصم بن علي أيضا. وأخرجه في العلم، وفي اللباس أيضا عن آدم عنه به. وأخرجه أيضا في الحج عن أحمد بن عبد ا بن يونس عنه به، وسيجئ البحث فيه في كتاب الحج مستوفى، إن شاء ا تعالى.
وعاصم بن علي بن عاصم أبو الحسين الواسطي، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين بواسط. وابن أبي ذئب هو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. والزهري هو: محمد بن مسلم.
قوله: (فقال) الفاء فيه تفسيرية إذ هو نفس: سأل. قوله: (ولا ثوبا) روي بالنصب والرفع، وتقدم بيان جوازه في آخر كتاب العلم. قوله: (حتى يكونا) بصورة التثنية، وفي رواية الحموي والمستملي: (حتى يكون)، بالإفراد على تقدير كل واحد منهما.
وعن نافع عن ابن عمر عن النبي مثله.
50
50 - 0 أي: روي عن نافع مولى ابن عمر عنه عن النبي مثل حديث سالم. وقال الكرماني: هذا تعليق من البخاري، ويحتمل أن يكون عطفا على سالم، فيكون متصلا. وشنع بعضهم عليه. وقال: التجويزات العقلية لا يجوز استعمالها في الأمور النقلية. قلت: هذا تشنيع غير موجه، لأن الكرماني إنما قال: هذا تعليق بالنظر إلى ظاهر الصورة، ولم يجزم بذلك، ولهذا قال: ويحتمل إلى آخره، ثم إنه قال: عطفا على سالم، وقال بعضهم: وعن نافع، عطف على قوله: عن الزهري، قلت:
قصده بذلك إظهار المخالفة بأي وجه يكون، وإلا فلا فساد في المعنى، بل كلاهما بمعنى واحد.
ورواية نافع هذه أخرجها البخاري في آخر كتاب العلم عن آدم عن
74

ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر عن النبي، وعن الزهري عن سالم (عن ابن عمر عن النبي أن رجلا سأله: ما يلبس المحرم؟...) الحديث، فتقدم طريق نافع وعطف عليه طريق الزهري، وههنا عكس ذاك حيث قدم طريق الزهري وعطف عليه طريق نافع.
01
((باب ما يستر من العورة))
أي: هذا باب في بيان ستر العورة، وكلمة: ما، مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، والتقدير: باب في بيان الشيء الذي يستر، أي: الذي يجب ستره، وكلمة؛ من، بيانية في الوجهين، ثم هذا أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها، وقيد بعضهم قوله: أي خارج الصلاة فكأنه أخذ ذلك من لفظ الأحتباء الذي في حديث الباب، فإنه قيد النهي فيه بقوله: ليس على فرجه منه شيء، وهذا ليس فيه تخصيص بخارج الصلاة، بل النهي أعم من أن يكون في الصلاة أو خارج الصلاة، ثم قول هذا القائل: والظاهر من تصرف المصنف أنه يرى أن الواجب ستر السوءتين ليس بشيء، لأن الذي، يدل على ذلك، أي: تصرف منه ههنا. وإن كان مذهبه ذلك، والعورة: سوءة الإنسان وكل ما يستحى منه.
76333 ح دثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ل يث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري أنه قال نهى رسول الله عن اشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء. (الحديث 763 أطرافه في: 1991، 4412، 7412، 0285، 2285، 4826).
مطابقته للترجمة في قوله: (ليس على فرجه منه شيء) فإن النهي فيه أن يكون الفرج مكشوفا، فهو يدل على أن ستر العورة واجب، والباب في ستر العورة.
ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وأبو سعيد اسمه سعيد بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: قول الصحابي عن نهي النبي. وفيه: أن رواته ما بين بلخي وبصري ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن محمد عن مخلد عن ابن جريج عن الزهري عنه، وأخرجه في البيوع عن سعد بن عفير عن الليث، وفي اللباس أيضا عن يحيى بن بكير عن الليث، وأخرجه أيضا في البيوع عن عباس عن عبد الأعلى عن معمر، وفي الاستئذان عن علي بن عبد ا عن سفيان. وأخرجه مسلم في البيوع عن سعيد بن عفير عن الليث، وفي اللباس عن يحيى بن بكير عن الليث، وعن عمرو الناقد عن يعقوب بن إبراهيم. وأخرجه أبو داود في البيوع عن أحمد بن صالح وعن قتيبة وأبي الطاهر بن السرح، كلاهما عن سفيان به. وأخرجه النسائي في البيوع عن يونس بن عبد الأعلى، وعن أبي داود الحراني، وعن إبراهيم بن يعقوب، وأخرجه في الزينة أيضا عن قتيبة به، وأخرجه في البيوع أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به، وعن الحسين بن حريث عن سفيان بالنهي عن البيعتين فيه، وبالنهي عن اللبستين في الزينة. وأخرجه ابن ماجة في التجارات عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسهل بن أبي سهل الرازي كلاهما عن سفيان.
ذكر معناه. قوله: (عن اشتمال الصماء) بالصاد المهملة والمد، واختلف في تفسيره، ففي (الصحاح): هو أن يجلل جسده كله بالإزار أو بالكساء، فيرده من قبل يمينه على يده اليسرى. وعاتقه الأيسر، ثم يرده ثانيا من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعا. وفي (النهاية) لابن الأثير: هو التجلل بالثوب وإرساله من غير أن يرفع جانبه، وفي كتاب (اللباس): هو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، وعن الأصمعي: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده لا يرفع منه جانبا فلا يبقى ما يخرج منه يده، وعن أبي عبيد: إن الفقهاء يقولون: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيبدو منه فرجه. وقال الكرماني: فإذا قلت اشتمل فلان الصماء كأنك قلت: اشتمل الشملة التي تعرف بهذا الاسم، لأن الصماء ضرب من الاشتمال. انتهى.
قلت: تحقيق هذه الكملة أن الاشتمال مضاف إلى الصماء، والصماء في الأصل صفة، يقال: صخرة صماء إذا لم يكن فيها خرق ولا منفذ، ومعنى النهي عن اشتمال الصماء نهي عن اشتمال الثوب كاشتمال الصخرة الصماء، واشتمالها كون عدم الخرق والمنافذ فيها، وتشبيه الاشتمال المنهي بها كونه يسد المنافذ كلها، والذي ذكره الكرماني ليس تفسير ما في لفظ الحديث على ما لا يخفى. قوله:
75

(وأن يحتبي الرجل) أي: ونهي أيضا عن أن يحتبي الرجل، وكلمة: إن مصدرية والتقدير: وعن احتباء الرجل في ثوب واحد، والاحتباء أن يقعد الإنسان على أليتيه وينصب ساقيه ويحتبي عليهما بثوب أو نحوه أو بيده، واسم هذه القعدة تسمى: الحبوة، بضم الحاء وكسرها، وكان هذا الاحتباء عادة العرب في أنديتهم ومجالسهم، وإن انكشف معه شيء من عورته فهو حرام. وقال الخطابي: الاحتباء هو أن يحتبي الرجل بالثوب ورجلاه متجافيتان عن بطنه، فيبقى هناك، إذا لم يكن الثوب واسعا قد أسبل شيئا منه على فرجه، فرجة تبدو منها عورته. قال: وهو منهي عنه إذا كان كاشفا عن فرجه. وقال في موضع آخر: الاحتباء أن يجمع ظهره ورجليه بثوب.
ذكر ما يستنبط منه وهو حكمان: الأول: اشتمال الصماء، وقد نهى عنه رسول ا، قالوا: على تفسير أهل اللغة: اشتمال الصماء إنما يكره لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك، فيعسر أو يتعذر عليه إخراج يده، فيلحقه الضرر. وعلى تفسير الفقهاء: يحرم الاشتمال المذكور إن انكشف به بعض العورة، وإلا فيكره. والثاني: النهي عن الاحتباء الذي فيه كشف العورة، وهو حرام مطلقا، سواء كان في الصلاة أو خارجها.
86343 ح دثنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال نهى النبي عن بيعتين عن اللماس والنباذ وأن يشتمل الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد..
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: قبيصة، بفتح القاف: بن عقبة، بضم العين وسكون القاف. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: أبو الزناد، بكسر الزاي وبالنون: عبد ا بن ذكوان. الرابع: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول بالحكاية. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، وأبو الزناد راوية الأعرج، وعن البخاري أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في مواضع: هنا عن قبيصة، وفي الصلاة عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة وعن محمد عن عبدة بن سليمان، وفي اللباس عن محمد بن بشار عن عبد الرحمن الثقفي، ثلاثتهم عن عبيد ا بن عمر عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم بهذا الطريق عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد ا بن نمير وأبي أسامة، وعن محمد بن عبد ا بن نمير عن أبيه، وعن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي، ثلاثتهم عن عبيد ا بن عمر، وأخرجه أيضا في البيوع عن أبي كريب وابن أبي عمر، كلاهما عن وكيع عن سفيان به. وأخرجه الترمذي فيه عن أبي كريب ومحمود بن غيلان. وأخرجه النسائي أيضا فيه من طريق حفص بن عاصم. وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة به منقطعا في الصلاة وفي التجارات وفي اللباس.
ذكر معناه قوله: (عن بيعتين) تثنية: بيعة، بفتح الباء الموحدة وكسرها، والفرق بينهما أن؛ الفعلة، بالفتح، للمرة وبالكسر للحالة والهيئة. قوله: (عن اللماس) بكسر اللام، وهو مصدر من: لامس، من باب: فاعل. وقد علم أن مصدره يأتي على: مفاعلة، مثل: ملامسة. وعلى: فعال، مثل: لماس. وكذلك الكلام في (النباذ)، بكسر النون وبالذال المعجمة، يأتي من بابه: فعال، مثل: نباذ، و: مفاعلة، مثل: منابذة. وفسر: اللماس، في كتاب البيع بأنه لمس الثوب بلا نظر إليه، والنباذ: بأن الرجل يطرح ثوبه بالبيع قبل أن يقلبه أو ينظر إليه. وقال النووي: إن لأصحابنا في الملامسة تأويلات. أحدها: أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المستام، فيقول صاحبه: بعتكه بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته. الثاني: أن يجعلا نفس اللمس بيعا، فيقول إذا لمسته فهو مبيع لك. الثالث: أن يبيعه شيئا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس.
76

وفي المنابذة أيضا ثلاثة أوجه، أن يجعل نفس. النبذ بيعا، وأن يقول: إذا نبذته إليك انقطع الخيار. وإن يراد به نبذ الحصا، وله أيضا تأويلات أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، وأن يقول: لك الخيار إلى أن أرمي بهذه الحصاة، وأن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا، فيقول: إذ رميت هذا الثوب بالحصاة فهو مبيع بكذا. وقال أصحابنا: الملامسة والمنابذة وإلقاء الحجر كانت بيوعا في الجاهلية، وكان الرجلان يتساومان المبيع، وإذا ألقى المشتري عليه حصاة، أو نبذه البائع إلى المشتري، أو لمسه المشتري: لزم البيع، وقد نهى الشارع عن ذلك. قوله: (وأن يشتمل) عطف على قوله: (عن بيعتين) أي: ونهى أيضا أن يشتمل. و: أن، مصدرية أي؛ وعن اشتمال الصماء، وكذلك الكلام في: (أن يحتبي) وتفسيرهما قد مر، والمطلق في الاحتباء هنا محمول على المقيد في الحديث الذي قبله.
96353 ح دثنا إسحاق قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين يوم النحر نؤذن بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف رسول الله عليا فأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. (الحديث 963 أطرافه في: 2261، 7713، 3634، 5564، 6564، 7564).
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا يطوف بالبيت عريان). فإن منع الطواف عاريا يدل على وجوب ستر العورة، وقد تقدم الكلام في هذا الجزء من هذا الحديث في باب وجوب الصلاة في الثياب.
ذكر رجاله: وهم ستة. الأول: إسحاق بن إبراهيم، ووقع في رواية الأكثرين إسحاق مجردا غير منسوب، فلذلك تردد فيه الحفاظ، فمنهم من قال: إسحاق بن منصور، ومنهم من قال إسحاق بن إبراهيم المشهور بابن راهويه، لأن كلا منهما يروي عن يعقوب بن إبراهيم، والنسخة التي فيها إسحاق بن إبراهيم هي الأصح. وقال الكرماني: قوله: إسحاق، أي ابن إبراهيم المشهور بابن راهويه في آخر باب فضل من علم. وقال بعضهم: ووقع في نسختي من طريق أبي ذر: إسحاق بن إبراهيم، فتعين أنه ابن راهويه، إذ لم يرو البخاري عن إسحاق بن أبي إسرائيل واسمه إبراهيم شيئا قلت: وقوع إسحاق منسوبا في نسخته إنما علم أنه ابن راهويه من جهة أبي ذر لا من جهة نسخته، وأيضا فإنه قال: أولا وردده الحفاظ بين ابن منصور وبين ابن راهويه، فكيف يعلل بعد هذا بقوله: إذ لم يرو البخاري عن إسحاق بن أبي إسرائيل؟ الثاني: يعقوب بن إبراهيم بن سعد، سبط عبد الرحمن بن عوف. الثالث: ابن أخي بن شهاب، هو: محمد بن عبد ا ابن أخي الزهري، والزهري محمد بن مسلم بن شهاب. الرابع: عمه، وهو الزهري. الخامس: حميد، بضم الحاء؛ ابن عبد الرحمن بن عوف، رضي ا تعالى عنه. السادس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد. وفيه: أربعة زهريون، وهم: يعقوب إلى أبي هريرة. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجزية عن أبي اليمان، وفي المغازي عن أبي الربيع الزهراني، وفي الحج عن يحيى بن بكير، وفي التفسير عن سعيد بن عفير وعن عبد ا بن يوسف، وعن إسحاق بن منصور، وعن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان. وأخرجه مسلم في الحج عن هارون بن سعيد، وعن حرملة بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن يحيى بن فارس. وأخرجه النسائي عن أبي داود الحراني.
ذكر معانيه قوله: (في تلك الحجة)، أي التي أمر رسول الله الصديق على الحاج، وهي قبل حجة الوداع بسنة، وهي السنة التاسعة كما ذكر في (المغازي). قوله: (في مؤذنين) أي: في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر، كأنه مقتبس مما قال ا تعالى: * (وأذان من ا ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) * (التوبة: 3) وفي رواية أبي داود، يوم الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأكبر: قلت: الحج الأصغر العمرة. قوله: (ألا يحج)، أصله: أن لا يحج، فأدغمت النون في: لا، فصار: ألا، بفتح الهمزة
77

وتشديد اللام وهذه رواية الأكثرين. وفي رواية الكشميهني: (ألا لا يحج)، بأداة الاستفتاح قبل حرف النفي. وقال بعضهم: بحرف النهي، وليس كذلك، بل هو حرف النفي. وقال الكرماني: هل يكون ذلك العام داخلا في ذلك الحكم أم لا؟ قلت: الظاهر أن المراد بعد خروج هذا العام لا بعد دخوله. ينبغي أن يدخل هذا العام أيضا بالنظر إلى التعليل.
قوله: (قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف رسول ا) هذا مرسل من قبيل مراسيل التابعين، لأن حميدا ليس بصحابي حتى يقال: إنه شاهده بنفسه. وقال الكرماني: ولفظ: قال حميد، وقال أبو هريرة، يحتمل أن يكون كل منهما تعليقا من البخاري، وأن يكونا داخلين تحت الإسناد لكن ظاهر أن مسألة الإرداف لم يسندها حميد، وفي (التوضيح): وقول حميد: ثم أردف رسول ا... إلى آخره، يحتمل أن يكون تلقاه من أبي هريرة وأن يكون الزهري رواه عنه موصولا عند البخاري، قلت: الوجه هو الذي ذكرته، كما نص عليه المزي وغيره. قوله: (ثم أردف رسول الله عليا) أي: ثم أرسل رسول الله علي بن طالب وراء أبي بكر، فأمره أن يؤذن ببراءة. قال ابن عبد البر: أمر رسول ا، أبا بكر بالخروج إلى الحج وإقامته للناس، فخرج أبو بكر ونزل صدر براءة بعده، فقيل: يا رسول ا لو بعثت بها إلى أبي بكر يقرؤها على الناس في الموسم؟ فقال: إنه لا يؤديها عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا عليا فقال: أخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن بها في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا في منى، فخرج على ناقة رسول ا، العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق فقيل: بذي الخليفة، وقيل: بالعرج فوصل بالسحر، فسمع أبا بكر رغاء ناقة رسول الله فإذا علي، فقال أبو بكر: استعملك رسول الله على الحج؟ قال: لا، ولكن بعثني أن أقرأ براءة على الناس. فقال أبو بكر: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور. وقال: لا يذهب بها إلا رجل من أهل بيتي). وفي لفظ: (فرجع أبو بكر، فقال: يا رسول ا نزل في شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل، عليه الصلاة والسلام، جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك). فإن قلت: ما الحكمة في إعطاء علي براءة؟ قلت: لأن براءة تضمن نقض العهد، وكانت سيرة العرب أن لا يحل العقد إلا الذي عقده أو رجل من أهل بيته، فأراد عليه الصلاة والسلام، أن يقطع ألسنة العرب بالجحد، وأرسل ابن عمه الهاشمي، حتى لا يبقى لهم متكلم. وقيل: إن في سورة براءة ذكر الصديق يعني قوله تعالى: * (ثاني اثنين إذ هما في الغار) * (التوبة: 04) فأراد أن غيره يقرؤها فإن قلت: علي كان مأمورا بالتأذين ببراءة، فيكف قال؛ فأذن معناه بأنه لا يحج؟ قلت: إما لأن ذلك داخل في سورة براءة، وإما أن معناه أنه أذن فيه أيضا معناه بعد تأذينه ببراءة.
ذكر ما يستنبط منه هو أنه أبطل ما كانت الجاهلية عليه من الطواف عراة، واستدل به على أن ستر العورة واجب، وهو الموافق لترجمة الباب. وقال الكرماني: واستدل به على أن الطواف يشترط له ستر العورة. قلت: إذا طاف الحج عريانا فلا يعتد به عندهم، وعندنا يعتد، ولكن يكره.
11
((باب الصلاة بغير رداء))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة بغير رداء.
07363 ح دثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني ابن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر قال دخلت على جابر بن عبد الله وهو يصلى في ثوب ملتحفا به ورداؤه موضوع فلما انصرف قلنا يا أبا عبد الله تصلى ورداؤك موضوع قال نعم أحببت أن يراني الجهال مثلكم رأيت النبي يصلي هكذا.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وتقدم في حديث جابر هذا في باب عقد الإزار على القفا، وهناك أخرجه عن أحمد بن يونس عن عاصم بن محمد عن واقد بن محمد عن محمد بن المنكدر. قال: (صلى جابر في إزار...) الخ، وأخرجه أيضا هناك عن مطرف عن
78

عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر، قال: (رأيت جابرا يصلي في ثوب...) الحديث، وههنا أخرجه عن عبد العزيز بن عبد ا الأويسي عن عبد الرحمن بن أبي الموالي، بفتح الميم.
وقد تكلمنا هناك بما فيه الكفاية. ولنتكلم ههنا بما لم نتكلم هناك.
فقوله: (وهو يصلي) جملة حالية. قوله: (ملتحفا) بالنصب، حال، وهو رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (ملتحف) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ملتحف. وقال بعضهم: وفي نسختي عنهما بالجر على المجاورة. قلت: نسخته ليست بعمدة حتى يسلم الجر، ثم يقال: للمجاورة. قوله: (
ورداؤه موضوع)، جملة اسمية وقعت حالا، أي: موضوع على شيء، وهناك: موضوعة على المشجب. قوله: (فلما انصرف) أي: من الصلاة. قوله: (قلنا: يا أبا عبد ا) أصله: يا أبا عبد ا، بالهمزة فحذفت تخفيفا، وهو كنية جابر رضي ا تعالى عنه. قوله: (أحببت أن يراني الجهال)، وهناك: (ليراني أحمق مثلك) سبب تغليظه القول فيه كونه فهم من كلام السائل إنكاره عليه، والغرض في محبته لرؤية الجهال أن يقع السؤال والجواب فيستفاد منه بيان الجواز. قوله: (مثلكم) بالرفع، صفة: للجهال، وهو بضم الجيم وتشديد الهاء، جمع: جاهل، وهناك ذكرنا أن لفظ: مثل، متوغل في النكرة فلا يتعرف، وإن أضيف إلى المعرفة، فلذلك وقع صفة للنكرة. وهو قوله: (أحمق)، وأما ههنا فإنه وقع صفة للمعرفة، فوجهه أنه إذا أضيف إلى ما هو مشهور بالمماثلة يتعرف، وههنا كذلك، على أن التعريف في: الجهال، للجنس فهو في حكم النكرة. و: المثل، بعني: المثيل، على وزن: فعيل، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، فلذلك ما طابق الجهال مع أن التطابق بين الصفة والموصوف في الإفراد والجمع شرط، أو تقول: هو اكتسب الجمعية من المضاف إليه أو هو جنس يطلق على المفرد والمثنى والجمع. قوله: (يصلي كذا) وفي رواية الكشميهني: (هكذا).
21
((باب ما يذكر في الفخذ))
أي: هذا باب ما يذكر في حكم الفخذ، يجوز في: خاء، الفخذ الكسر والسكون معا.
وقد ذكرنا وجه إدخال هذا الباب بين الأبواب التي في حكم الثياب، ووجه مناسبته بما قبله.
قال أبو عبد ا.
هو البخاري، وذكر نفسه بكنيته وليس هذا بموجود في غالب النسخ.
ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي الفخذ عورة.
هذا تعليق بصيغة التمريض ذكره عن ثلاثة أنفس.
الأول: عن عبد ا بن عباس، وهو عند الترمذي موصول، أخرجه عن واصل بن عبد الأعلى عن يحيى بن آدم عن إسرائيل بن يونس عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي قال: (الفخذ عورة). وقال: هذا حديث حسن غريب، وأبو يحيى القتات ضعيف وهو مشهور بكنيته، واختلف في اسمه على سبعة أقوال: قيل: مسلم، وقيل: زاذان، وقيل: عبد الرحمن بن دينار، وقيل: يزيد، وقيل: زيان، وقيل: عمران، وقيل: دينار وهو المشهور، والقتات، بتفح القاف وتشديد التاء المثناة من فوق.
وأما حديث جرهد فأخرجه مالك في (الموطأ) عن ابن النضر عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه عن جده، قال: وكان جدي من أهل الصفة، قال: (جلس رسول الله عندي وفخذي مكشوفة، فقال: خمر عليك أما علمت أن الفخذ عورة). قال الدارقطني: روى هذا الحديث أصحاب (الموطأ): ابن بكير وابن وهب ومعن وعبد ا بن يوسف، وهو عند القعنبي خارج (الموطأ) في الزيادات عن مالك، ولم يذكره ابن القاسم في (الموطأ) ولا ابن عفير ولا أبو مصعب، ورواه عن مالك ابن مهدي وإبراهيم بن طهمان وعمرو بن مرزوق وأبو قرة وإسحاق بن عدي ومطرف وإسماعيل بن أبي أويس، وفي رواية ابن بكير وابن طهمان ومطرف وغيرهم، زرعة بن عبد الرحمن عن أبيه، من غير ذكره جده، وعن ابن عساكر: رواه عبد ا بن نافع عن مالك عن أبي النضر عن زرعة بن عبد الرحمن ابن جرهد عن أبيه عن جده، ورواه قبيصة عن الثوري عن أبي النضر عن زرعة بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده جرهد، لم يذكر أباه، ورواه ابن أبي عمر عن ابن عيينة عن أبي النضر عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن أبيه عن جده. وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) من حديث أبي عاصم: عن سفيان عن أبي الزناد عن زرعة بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده.
ورواه الترمذي
79

عن ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد ا عن زرعة بن مسلم بن جرهد الأسلمي عن جده جرهد قال: (مر النبي، بجرهد في المسجد وقد انكشف فخذه، وقال: إن الفخذ عورة)، هذا حديث حسن ما أرى إسناده بمتصل. وقال: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثني عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن أبي الزناد، قال: أخبرني ابن جرهد عن أبيه: (أن النبي، مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: غط فخذك فإنها من العورة). هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه عن واصل من حديث ابن عباس أيضا، وقد ذكرناه ورواه الشافعي عن سفيان عن أبي الزناد عن آل جرهد، ولما ذكره ابن القطان أعله بالاضطراب وبجهالة حال الراوي عن جرهد، ولما ذكره البخاري في (تاريخه) من حديث ابن أبي الزناد عن زرعة عن عبد الرحمن عن جده قال: ورواه صدقة عن ابن عيينة عن أبي الزناد عن آل جرهد، وعن سالم أبي النضر عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن جرهد، قال البخاري؛ ولا يصح. وقال ابن الحذاء: إنما لم يخرجه البخاري في مصنفه لهذا الاختلاف، و: جرهد، بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الهاء، وفي آخره دال مهملة. وفي (التهذيب): جرهد الأسلمي هو ابن رزاح بن عدي، وقيل: غير ذلك، له صحبة، عداده في أهل المدينة، له عن النبي، حديث واحد: (الفخذ عورة) وفي إسناد حديثه اختلاف كثير، يقال: إنه مات سنة إحدى وستين. وقال أبو عمر: جعل ابن أبي حاتم: جرهد بن خويلد غير جرهد بن رزاح، ثم قال: هذا وهم، وهو رجل واحد من أسلم لا يكاد يسلم، له صحبة.
وأما حديث محمد بن جحش فرواه الطبراني عن يحيى بن أيوب عن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير، مولى محمد بن
جحش، عنه قال: (كنت أصلي مع النبي، فمر على معمر وهو جالس عند داره بالسوق وفخذاه مكشوفتان فقال: يا معمر غط فخذيك فإن الفخذين عورة). وقال ابن حزم: رواية أبي كثير مجهولة، وذكره البخاري في (تاريخه) وأشار إلى الاختلاف فيه، ورواه أحمد في (مسنده) والحاكم في (مستدركه) من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه، ومحمد بن جحش هو محمد بن عبد ا بن جحش، نسب إلى جده، له ولأبيه عبد ا صحبة، وزينب بنت جحش أم المؤمنين هي عمته، وكان محمد صغيرا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وقد حفظ عنه. وقال الواقدي: كان مولده قبل الهجرة لخمس سنين، هاجر مع أبيه إلى المدينة، له صحبة. وا أعلم.
وأما معمر المذكور في الحديث المذكور فهو ابن عبد ا بن فضلة العدوي، وقد أخرج ابن نافع هذا الحديث من طريقه أيضا.
وقال أنس حسر النبي عن فخذه.
13
هذا أيضا تعليق، ولكنه قد وصله في هذا الباب كما يأتي قريبا، وحسر، بفتح حروفها المهملات، ومعناه: كشف، وسنتكلم فيه مستقصى عن قريب.
وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى نخرج من اختلافهم.
لما وقع الخلاف في الفخذ: هل، هو عورة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه ليس بعورة، واحتجوا بحديث أنس، وذهب آخرون إلى أنه عورة، واحتجوا بحديث جرهد، وبما روي مثله في هذا الباب، كأن قائلا قال؛ إن الأصل أنه إذا روي حديثان في حكم أحدهما أصح من الآخر فالعمل يكون بالأصح، فههنا حديث أنس أصح من حديث جرهد ونحوه، فكيف وقع الاختلاف؟ فأجاب البخاري عن هذا بقوله: (وحديث أنس أسند) إلى آخره تقديره: أن يقال: نعم، حديث أنس أسند، يعني أقوى وأحسن سندا من حديث جرهد، إلا أن العمل بحديث جرهد لأنه الأحوط، يعني أكثر احتياطا في أمر الدين، وأقرب إلى التقوى، للخروج عن الاختلاف، وهو معنى قوله: (حتى نخرج من اختلافهم) أي: من اختلاف العلماء، وهو على صيغة جماعة المتكلم من المضارع، بفتح النون وضم الراء.
ولأجل هذه النكتة لم يقل البخاري: باب الفخذ عورة، ولا قال أيضا: باب الفخذ ليس بعورة، بل قال: باب ما يذكر في الفخذ، أما القوم الذين ذهبوا إلى أن الفخذ ليس بعورة فهم: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وإسماعيل بن علية ومحمد بن جرير الطبري وداود الظاهري وأحمد، في رواية، ويروى ذلك أيضا عن الإصطخري من
80

أصحاب الشافعي حكاه الرافعي عنه، وقال ابن حزم في (المحلى): والعورة المفروض سترها عن الناظر وفي الصلاة من الرجال الذكر وحلقة الدبر فقط، وليس الفخذ منه عورة، وهي من المرأة جميع جسدها حاشا الوجه والكفين فقط، الحر والعبد والحرة والأمة سواء في ذلك، ولا فرق. ثم قال، بعد أن روى حديث أنس الذي أخرجه البخاري: (إن رسول ا عليه الصلاة والسلام، غزا خيبر...) وفيه: (... ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ النبي عليه الصلاة والسلام). فصح أن الفخذ من الرجل ليس بعورة، ولو كان عورة لما كشفها ا تعالى من رسوله المطهر المعصوم من الناس في حال النبوة والرسالة، ولا أراها أنس بن مالك ولا غيره، وهو تعالى عصمه من كشف العورة في حال الصبا، وقبل النبوة.
وأما الآخرون الذين هم خالفوهم وقالوا: الفخذ عورة، فهم جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم: أبو حنيفة ومالك في أصح أقواله والشافعي وأحمد في أصح روايتيه وأبو يوسف ومحمد وزفر بن الهذيل، حتى قال أصحابنا: إن الصلاة مكشوف العورة فاسدة. وقال الأوزاعي: الفخذ عورة إلا في الحمام، وقال ابن بطال: أجمعوا على أن من صلى مكشوف العورة لا إعادة عليه. قلت: دعوى الإجماع غير صحيحة، فيكون مراده إجماع أهل مذهبه.
وفي (التوضيح): حاصل ما في عورة الرجل عندنا خمسة أوجه. أصحها وهو المنصوص أنها: ما بين السرة والركبة، وهما ليستا بعورة، وهو صحيح مذهب أحمد بن حنبل، وقال به زفر ومالك. وثانيها: أنهما عورة، كما هو رواية عن أبي حنيفة. وثالثها: السرة من العورة. ورابعها: عكسه. وخامسها: للإصطخري: القبل والدبر، وهو شاذ. انتهى. وفي (الوبري): السرة من العورة عند أبي حنيفة. وفي (المفيد): الركبة مركبة من عظم الفخذ والساق، فاجتمع الحظر والإباحة فغلب الحظر احتياطا.
وأما الجواب عن حديث أنس فهو أنه محمول على غير اختيار الرسول فيه بسبب ازدحام الناس، يدل عليه مس ركبة أنس فخذه. وقال القرطبي: ويرجح حديث جرهد وهو أن تلك الأحاديث المعارضة له قضايا معينة في أوقات وأحوال مخصوصة، يتطرق إليها الاحتمال ما لا يتطرق لحديث جرهد، فإنه أعطى حكما كليا، فكان أولى. وبيان ذلك أن تلك الوقائع تحتمل خصوصية النبي بذلك، أو البقاء على البراءة الأصلية، أو كأن لم يحكم عليه في ذلك الوقت بشيء، ثم بعد ذلك حكم عليه بأنه عورة. فإن قلت: روى الطحاوي، وقال؛ حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو خالد عن عبد ا بن سعيد المديني، قال: حدثتني حفصة بنت عمر قالت: (كان رسول الله ذات يوم قد وضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن فأذن له النبي على هيئته، ثم جاء عمر بمثل هذه الصفة، ثم جاء أناس من أصحابه والنبي على هيئته، ثم جاء عثمان فاستأذن عليه فأذن له ثم أخذ رسول الله ثوبه فجلله، فتحدثوا ثم خرجوا. فقلت: يا رسول ا جاء أبو بكر وعمر وعلي وأناس من أصحابك وأنت على هيئتك، فلما جاء عثمان جللت بثوبك؟ فقال: (أو لا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟) قالت: وسمعت أبي وغيره يحدثون نحوا من هذا. وأخرجه أحمد والطبراني أيضا. قلت: أجاب الطحاوي عنه: بأن هذا الحديث عن قاسم بن زكريا على هذا الوجه غريب، لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير هذا الوجه المذكور، وليس فيه. ذكر: كشف الفخذين، فحينئذ لا تثبت به الحجة. وقال أبو عمر: الحديث الذي رووه عن حفصة فيه اضطراب. وقال البيهقي: قال الشافعي: والذي روي في قصة عثمان من كشف الفخذين مشكوك فيه. وقال الطبري في كتاب (تهذيب الآثار والأخبار): التي رويت عن النبي أنه دخل عليه أبو بكر
وعمر وهو كاشف فخذه واهية الأسانيد لا يثبت بمثلها حجة في الدين، والأخبار الواردة بالأمر بتغطية الفخذ والنهي عن كشفها أخبار صحاح. وقول الطحاوي: لأن جماعة من أهل البيت رووه على غير هذا الوجه، حديث عائشة وعثمان أخرجه مسلم: حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد، قال: حدثنا بي عن جدي، قال: حدثنا عقيل بن خالد عن ابن شهاب: (عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره إن عائشة، زوج النبي، وعثمان رضي ا تعالى عنه، حدثاه: أن أبا بكر استأذن على رسول الله وهو مضطجع على فراشه، لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر رضي ا تعالى عنه، فأذن له وهو على تلك الحالة، فقضى إليه حاجته ثم انصرف. قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: إجمعي عليك ثيابك، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة يا رسول ا ما لي لم أرك، فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ قال رسول ا: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت: إن أذنت له على تلك الحالة أن لا
81

يبلغ إلي في حاجته).
وأخرجه الطحاوي أيضا، وقال: فهذا أصل هذا الحديث، ليس فيه ذكر كشف الفخذين أصلا فإن قلت: قد روى مسلم أيضا في (صحيحه) وأبو يعلى في (مسنده) والبيهقي في (سننه) هذا الحديث، وفيه ذكر كشف الفخذين. فقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قال يحيى بن يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل يعنون ابن جعفر (1) عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء وسليمان ابني يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: (كان رسول الله مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك، فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول ا وسوى ثيابه. قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال) ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟، قلت: لما أخرجه البيهقي قال. لا حجة فيه. وقال الشافعي: إن هذا مشكوك فيه لأن الراوي قال: (فخذيه أو ساقيه)، فدل ذلك على ما قاله الطحاوي: إن أصل الحديث ليس فيه ذكر كشف الفخذين، وقال أبو عمر: هذا حديث مضطرب.
وقال أبو موسى غطى النبي ركبتيه حين دخل عثمان.
وجه مطابقة هذا للترجمة من حيث إن الركبة إذا كانت عورة فالفخذ بالطريق الأولى، لأنه أقرب إلى الفرج الذي هو عورة إجماعا. وأبو موسى هو الأشعري، واسمه: عبد ا بن قيس، وهذا طرف حديث ذكره البخاري في مناقب عثمان من رواية عاصم الأحول: عن أبي عثمان النهدي عنه، وفيه: (أن النبي كان قاعدا في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته، أو ركبتيه، فلما دخل عثمان غطاها). وزعم الداودي الشارح: أن هذه الرواية المعلقة عن أبي موسى وهم، وأنها ليست من هذا الحديث، وقد أدخل بعض الرواة حديثا في حديث: (إنما أتى أبو بكر إلى رسول الله وهو في بيته منكشف فخذه، فلما استأذن عثمان غطى فخذه، فقيل له في ذلك، فقال: إن عثمان رجل حيي، فإن وجدني على تلك الحالة لم يبلغ حاجته). قلت: الذي ذكرناه من رواية عاصم يرد عليه بيان ذلك أنا قد ذكرنا إن في حديث عائشة: (كاشفا عن فخذيه أو ساقيه)، وعند أحمد بلفظ: (كاشفا عن فخذه)، من غير شك، وعنده من حديث حفصة مثله، وقد ظهر من ذلك أن البخاري لم يدخل حديثا في حديث، بل هما قضيتان متغايرتان، في إحداهما كشف الركبة، وفي الأخرى كشف الفخذ، وفي رواية أبي موسى التي علقها البخاري: (كشف الركبة)، ورواية عائشة، (في كشف الفخذ)، ووافقها حفصة ولم يذكر البخاري روايتهما، وإنما ذكر مسلم رواية عائشة كما ذكرنا، وقال الكرماني: الركبة لا تخلو إما أن تكون عورة أو لا؟ فإن كانت عورة فلم كشفها قبل دخول عثمان؟ وإن لم تكن فلم غطاها عنه؟ قلت: الشق الثاني هو المختار، وأما التغطية فكانت للأدب والاستحياء منه. وقال ابن بطال. فإن قلت: فلم غطى حين دخوله؟ قلت: قد بين معناه بقوله: (ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء؟) وإنما كان يصف كل وحد من الصحابة بما هو الغالب عليه من أخلاقه، وهو مشهور فيه، فلما كان الحياء الغالب على عثمان استحى منه، وذكر أن الملك يستحي منه فكانت المجازاة له من جنس فعله.
وقال زيد بن ثابت أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي.
هذا أيضا تعليق وطرف من حديث وصله البخاري في تفسير سورة النساء في نزول قوله تعالى: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * (النساء: 59) الآية حدثنا إسماعيل بن عبد ا حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب حدثني سهل بن سعد الساعدي... الحديث. وفيه: (فأنزل ا على رسوله وفخذه على فخذي...) إلى آخره، وأخرجه أيضا في الجهاد عن عبد العزيز بن عبد ا. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد، وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي في
82

الجهاد عن محمد بن يحيى وعن محمد بن عبد ا. قوله: (ما أنزل ا على رسوله) أي قوله تعالى: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * (النساء: 59). قوله: (وفخذه على فخذي) جملة اسمية حالية. قوله: (أن ترض)، بضم التاء المثناة من فوق وفتح الراء: على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضا من الرض، وهو: الدق. وكل شيء كسرته فقد رضضته، وإيراد البخاري هذا الحديث ههنا ليس له وجه، لأنه لا يدل على أن الفخذ عورة، ولا يدل أيضا على أنه ليس بعورة، فأي شق مال إليه لا يدل عليه على أنه مال إلى أن الفخذ عورة، حيث قال: وحديث جرهد أحوط. نعم، لو كان فيه التصريح بعدم الحائل لدل على أنه ليس بعورة، إذ لو كان عورة في هذه الحالة لما مكن النبي فخذه على فخذ زيد، وقال بعضهم: والظاهر أن المصنف تمسك بالأصل. قلت: لم يبين ما مراده من الأصل، فعلى كل حال لا يدل الحديث على مراده صريحا.
173 ح دثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا إسماعيل بن علية قال حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس أن رسول الله غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجري نبي الله في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاثا قال وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا محمد قال عبد العزيز وقال بعض أصحابنا والخميس يعني الجيش قال فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية فقال يا نبي الله أعطني جارية من السبي قال اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي فقال يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال ادعوه بها فجاء بها فلما نظر إليها النبي قال خذ جارية من السبي غيرها قال فأعتقها النبي وتزوجها فقال له ثابت يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل فأصبح النبي عروسا فقال من كان عنده شيء فليجيء به وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الرجل يجيء بالسمن قال وأحسبه قد ذكر السويق قال فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله. (الحديث 173 أطرافه في: 016، 749، 8222، 5322، 9882، 3982، 3492، 4492، 5492، 1992، 5803، 6803، 7633، 7463، 3804، 4804، 7914، 8914، 9914، 0024، 1024، 1124، 2124، 3124، 5805، 9515، 9615، 7835، 5245، 8255، 8695، 5816، 3636، 9636، 3337).
هذا وصل الحديث الذي علقة فيما قبل قريبا، وهو قوله: (وقال أنس: حسر النبي عن فخذه) فإن قلت: ما كانت فائدة هذا التعليق بذكر قطعة من هذا الحديث المتصل قبل أن يذكر الحديث بكماله؟ قلت: يحتمل أنه أراد به الإشارة إلى ما ذهب إليه أنس من أن الفخذ ليس بعورة، فلهذا ذكره بعد ذكر ما ذهب إليه ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش: أنه عورة.
ذكر رجاله وهم أربعة. الأول: يعقوب بن إبراهيم الدورقي. الثاني: إسماعيل بن علية، بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف. الثالث: عبد العزيز بن صهيب البناني البصري الأعمي. الرابع: أنس بن مالك رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده:. هذا الإسناد بعينه تقدم في باب حب الرسول من الإيمان. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: من هو مشهور باسم أمه وهو إسماعيل ابن إبراهيم بن سهم بن مقسم البصري أبو بشر الأسدي، أسد خزيمة مولاهم، المعروف بابن علية، وهي أمه، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. وفيه: أن
83

رواته ما بين كوفي وبصري وأصل الدورقي من الكوفة وليس هو من بلد دورق، وإنما كان يلبس قلنسوة دورقية فنسب إليها.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرج البخاري حديث: (أعتق صفية وجعل عتقها صداقها) في النكاح عن قتيبة من حديث ثابت وشعيب بن الحجاب، كلاهما عن أنس به وعن مسدد عن ثابت وعبد العزيز، كلاهما عن أنس به في حديث خيبر، وحديث الباب أخرجه مسلم أيضا في النكاح، وفي المغازي عن زهير بن حرب وأخرجه أبو داود في الخراج عن يعقوب بن إبراهيم وأخرجه النسائي في النكاح، وفي الوليمة عن زياد بن أيوب، وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم.
ذكر معانيه وإعرابه: قوله: (غزا خيبر)، يعني غزا بلدة تسمى خيبر، وخبير بلغة اليهود: حصن، وقيل: أول ما سكن فيها رجل من بني إسرائيل يسمى خيبر فسميت به، وهي بلد عترة في جهة الشمال والشرق من المدينة النبوي على ستة مراحل، وكان لها نخيل كثير، وكانت في صدر الإسلام دارا لبني قريظة والنضير، وكانت غزوة خيبر في جمادى الأولى سنة سبع من الهجرة، قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: أقام رسول ا، بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، وخرج في بقيته غازيا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة إلا شهر وأيام، وهو غير منصرف العلمية والتأنيث. قوله: (بغلس)، بفتح الغين واللام: وهو ظلمة آخر الليل. قوله: (فركب نبي ا) أي: ركب مركوبه، وعن أنس بن مالك، قال: (كان رسول ا، يوم قريظة والنضير على حمر، ويوم خيبر عل حمار مخطوم برسن ليف وتحته إكاف من ليف). رواه البيهقي والترمذي وقال: وهو ضعيف، وقال ابن كثير: والذي ثبت في (الصحيح) عند البخاري عن أنس: (أن رسول ا، أجري في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه). فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار، ولعل هذا الحديث، إن كان صحيحا، فهو محمول على أنه ركبه في بعض الأيام وهو محاصرها. قوله: (وركب أبو طلحة) هو: زيد بن سهل الأنصاري، شهد العقبة والمشاهد كلها وهو أحد النقباء، روي له اثنان وتسعون حديثا، روى له البخاري منها ثلاثة، مات سنة اثنتين أو أربع وثلاثين بالمدينة أو بالشام أو في البحر، وكان أنس ربيبه. قوله: (وأنا رديف أبي طلحة)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (فأجرى)، على وزن أفعل، من الإجراء، وفاعله النبي، والمفعول محذوف أي: أجرى مركوبه. قوله: (في زقاق خيبر)، بضم الزاي وبالقافين: وهو السكة، يذكر ويؤنث، والجمع: أزقة. وزقان، بضم الزاي وتشديد القاف وبالنون. وفي (الصحاح): قال الأخفش: أهل الحجاز يؤنثون الطريق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وبنو تميم يذكرون هذا كله، والجمع: الزقان. والأزقة، مثل: حوار وحوران وأحورة. قوله: (عن فخذه) يتعلق بقوله: (حسر) على صيغة المجهول، والدليل على صحة هذا ما وقع في رواية أحمد في (مسنده) من رواية إسماعيل بن علية: (فانحسر)، وكذا وقع في رواية مسلم، وكذا رواه الطبري عن يعقوب بن إبراهيم شيخ البخاري في هذا الموضع، وروى الإسماعيلي هذا الحديث عن يعقوب بن إبراهيم، ولفظه: (فأجرى نبي ا، في زقاق خيبر إذ خر الإزار)، ولا شك أن الخرور هنا بمعنى الوقوع، فيكون لازما، وكذلك الانحسار في رواية مسلم، وهذا هو الأصوب، لأنه لم يكشف إزاره، عن فخذه قصدا، وإنما انكشف عن فخذه لأجل الزحام، أو كان ذلك من قوة إجرائه، وقال بعضهم: الصواب أنه عند البخاري بفتحتين يعني؛ أن حسر، على صيغة الفاعل، ثم استدل عليه بقول أنس في أوائل الباب: (حسر النبي عن فخذه) قلت: اللائق بحاله الكريمة أن لا ينسب إليه كشف فخذه قصدا مع ثبوت قوله: (الفخذ عورة)، على
ما تقدم، وقال هذا القائل أيضا: لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم أن لا يقع عند البخاري على خلافه.
قلت: منع الملازمة ممنوع، ولئن سلمنا فيحتمل أن أنسا لما رأى فخذ رسول الله مكشوفا ظن أنه كشفه، فأسند الفعل إليه، وفي نفس الأمر لم يكن ذلك إلا من أجل الزحام أو من قوة الجري على ما ذكرناه. وقال الكرماني: وفي بعضها، أي: وفي بعض النسخ أو في بعض الرواية: على فخذه، أي: الإزار الكائن على فخذه، فلا يتعلق بحسر، إلا أن يقال: حروف الجر يقام بعضها مقام بعض. قلت: إن صحت هذه الرواية يكون متعلق: على، محذوفا كما قاله، لأنه
84

حينئذ لا يجوز أن يتعلق: على، بقوله: (حسر) لفساد المعنى، ويجوز أن تكون: على، بمعنى: من، كما في قوله تعالى: * (إذا اكتالوا على الناس) * (المطففين: 2) أي: من الناس، لأن: على، تأتي لتسعة معان، منها أن تكون بمعنى: من. قوله: (حتى أني أنظر)، وفي رواية الكشميهني: (حتى أني لأنظر)، بزيادة لام التأكيد. قوله: (فلما دخل القرية) أي: خيبر، وهذا مشعر بأن ذلك الزقاق كان خراج القرية. قوله: (خربت خيبر) أي: صارت خرابا، وهل ذلك على سبيل الخبرية؟ فيكون ذلك من باب الإخبار بالغيب؟ أو يكون ذلك على جهة الدعاء عليهم؟ أو على جهة التفاؤل لما رآهم خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم؟ وذلك من آلات الحراث. ويجوز أن يكون أخذ من اسمها، وقيل: إن ا أعلمه بذلك. قوله: (بساحة قوم) قال الجوهري: ساحة الدار ناحيتها، والجمع: ساحات وسوح وساح، أيضا مثل: بدنة وبدن، وخشبة وخشب. قلت: على هذا أصل: ساحة سوحة، قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وأصل الساحة الفضاء بين المنازل، ويطلق على: الناحية والجهة والبناء. قوله: (وخرج القوم إلى أعمالهم). قال الكرماني: أي: مواضع أعمالهم. قلت: بل معناه خرج القوم لأعمالهم التي كانوا يعملونها، وكلمة: إلى، تأتي بمعنى: اللام. قوله: (فقالوا: محمد) أي: جاء محمد، وارتفاعه على أنه فاعل لفعل محذوف، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا محمد. قوله: (قال عبد العزيز) وهو: عبد العزيز بن صهيب، وهو أحد رواة الحديث عن أنس. قوله: (وقال بعض أصحابنا) أشار بهذا إلى أنه لم يسمع هذه اللفظة من أنس، وإنما سمعه من بعض أصحابه عنه، وهذه رواية عن المجهول، إذ لم يعين هذا البعض من هو، وقال بعضهم، يحتمل أن يكون بعض أصحاب عبد العزيز محمد بن سيرين لأن البخاري أخرج من طريقه أيضا، أو يكون ثابتا البناني، لأن مسلما أخرجه من طريقه أيضا. قلت: يحتمل أن يكون غيرهما، فعلى كل حال لا يخرج عن الجهالة، والحاصل أن عبد العزيز قال: سمعت من أنس، قالوا: جاء محمد. فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا محمد والخميس، ثم فسر عبد العزيز: الخميس، بقوله: يعني الجيش، ويجوز أن يكون التفسير ممن دونه، وعلى كل حال هو مدرج.
قوله: (والخميس)، بفتح الخاء، وسمي الجيش خميسا لأنه خمسة أقسام: مقدمة وساقة وقلب وجناحان، ويقال: ميمنة وميسرة وقلب وجناحان، وقال ابن سيده: لأنه يخمس ما وجده، وقال الأزهري (1): الخمس إنما ثبت بالشرع، وكانت الجاهلية يسمونه بذلك، ولم يكونوا يعرفون الخمس. ثم ارتفاع: الخميس، بكونه عطفا على؛ محمد، ويجوز أن تكون: الواو، فيه بمعنى: مع، على معنى: جاء محمد مع الجيش. قوله: (عنوة) بفتح العين وهو القهر، يقال: أخذته عنوة أي: قهرا. وقيل: أخذته عنوة، أي: عن غير طاعة. وقال ثعلب: أخذت الشيء عنوة أي: قهرا في عنف، وأخذته عنوة أي: صلحا في رفق. وقال ابن التين: ويجوز أن يكون عن تسليم من أهلها وطاعة بلا قتال، ونقله عن القزاز في (جامعه): قلت: فحيئذ يكون هذا اللفظ من الأضداد. وقال أبو عمر: الصحيح في أرض خيبر كلها عنوة، وقال المنذري: اختلفوا في فتح خيبر كانت عنوة أو صلحا؟ أو جلاء أهلها عنها بغير قتال؟ أو بعضها صلحا وبعضها عنوة وبعضها جلاء أهلها عنها؟ قال: وهذا هو الصحيح، وبهذا أيضا يندفع التضاد بين الآثار. قوله: (فجاء دحية)، بفتح الدال وكسرها: ابن خليفة بن فروة الكلبي، وكان أجمل الناس وجها، وكان جبريل عليه الصلاة والسلام، يأتي رسول الله في صورته وتقدم ذكره مستوفى، في قصة هرقل.
قوله: (فقال: اذهب)، ويروى: قال، بدون: الفاء. قوله: (فخذ جارية)، وقال الكرماني: فإن قلت: كيف جاز للرسول إعطاؤها لدحية قبل القسمة؟ قلت: صفي المغنم لرسول ا، فله أن يعطيه لمن شاء. قلت: هذا غير مقنع، لأنه قال له ذلك قبل أن يعين الصفي، وههنا أجوبة جيدة. الأول: يجوز أن يكون أذن له في أخذ الجارية على سبيل التنفيل له، إما من أصل الغنيمة أو من خمس الخمس، سواء كان قبل التمييز أو بعده. الثاني: يجوز أن يكون أذن له على أنه يحسب من الخمس إذا ميز. الثالث: يجوز أن يكون أذن له ليقوم عليه بعد ذلك ويحسب من سهمه. قوله: (فأخذ صفية بنت حيي)، بفتح الصاد المهملة، وحيي، بضم الحاء المهملة وكسرها وفتح الياء الأولى المخففة وتشديد الثانية: ابن أخطب بن سعية، بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة وفتح الياء آخر الحروف: ابن سفلة بن ثعلبة، وهي من بنات هارون عليه الصلاة والسلام، وأمها برة بنت سمؤل. قال الواقدي: ماتت في خلافة معاوية سنة خمسين. وقال غيره: ماتت في خلافة علي رضي ا تعالى عنه. سنة ست وثلاثين، ودفنت بالبقيع، وكانت تحت كنانة بن أبي
85

الحقيق؛ بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى: قتل يوم خيبر. قوله: (فجاء رجل)، مجهول لم يعرف. قوله: (قريظة)، بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالظاء المعجمة. (والنضير)، بفتح النون وكسر الضاد المعجمة، وهما قبيلتان عظيمتان من يهود خيبر، وقد دخلوا في العرب على نسبهم إلى هارون عليه الصلاة والسلام. قوله: (خذ جارية من السبي غيرها) أي: غير صفية. وقال الكرماني. فإن قلت: لما وهبها من دحية فكيف رجع عنها؟ قلت: إما لأنه لم يتم عقد الهبة بعد وإما لأنه أبو المؤمنين، وللوالد أن يرجع عن هبة الولد، وإما لأنه اشتراها منه. قلت: أجاب بثلاثة أجوبة: الأول: فيه نظر لأنه لم يجر عقد هبته حتى يقال: إنه رجع عنها، وإنما كان إعطاؤها إياه بوجه من الوجوه التي ذكرناها عن قريب. الثاني: فيه نظر أيضا، لأنه لا يمشي ما ذكره في مذهب غيره. الثالث: ذكر أنه اشتراها منه، أي: من دحية، ولم يجر بينهما عقد بيع أولا، فكيف اشتراها منه بعد ذلك؟
فإن قلت: وقع في رواية مسلم: أن النبي، اشترى صفية منه بسبعة أرؤس. قلت: إطلاق الشراء على ذلك على سبيل المجاز، لأنه لما أخذها منه على الوجه الذي
نذكره الآن، وعوضه عنها بسبعة أرؤس على سبيل التكرم والفضل، أطلق الراوي الشراء عليه لوجود معنى المبادلة فيه، وأما وجه الأخذ فهو أنه لما قيل له: إنها لا تصلح له من حيث إنها من بيت النبوة، فإنها من ولد هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، ومن بيت الرياسة، فإنها من بيت سيد قريظة والنضير، مع ما كانت عليه من الجمال الباعث على كثرة النكاح المؤدية إلى كثرة النسل، وإلى جمال الولد لا للشهوة النفسانية، فإنه معصوم منها.
وعن المازري: يحمل ما جرى مع دحية على وجهين: أحدهما: أن يكون رد الجارية برضاه، وأذن له في غيرها. الثاني: أنه إنما أذن له في جارية من حشو السبي لا في أخذ أفضلهن، ولما رأى أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبا وشرفا وجمالا استرجعها لئلا يتميز دحية بها على باقي الجيش، مع أن فيهم من هو أفضل منه، فقطع هذه المفاسد وعوضه عنها. وفي (سير) الواقدي: أنه أعطاه أخت كنانة بن الربيع بن أي الحقيق، وكان كنانة زوج صفية، فكأنه طيب خاطره لما استرجع منه صفية بأن أعطاه أخت زوجها. وقال القاضي: الأولى عندي أن صفية كانت فيئا لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع، وهو وأهله من بني الحقيق كانوا صالحوا رسول ا، وشرط عليهم أن لا يكتموا كنزا، فإن كتموه فلا ذمة لهم، وسألهم عن كنز حي بن أخطب فكتموه، فقالوا: أذهبته النفقات، ثم عثر عليه عندهم، فانتقض عهدهم فسباهم، وصفية من سبيهم، فهي فيء لا يخمس بل يفعل فيه الإمام ما رأى. قلت: هذا تفريع على مذهبه: أن الفيء لا يخمس، ومذهب غيره أنه يخمس. قوله: (فأعتقها) أي: فاعتق النبي صفية، وسنذكر تحقيقه في الأحكام. قوله: (فقال له ثابت) أي: قال لأنس رضي ا تعالى عنه، ثابت البناني: (يا با حمزة). أصله، يا أبا حمزة، حذفت الألف تخفيفا. قوله: (وأبو حمزة) كنية أنس. قوله: (أم سليم)، بضم السين المهملة، وهي: أم أنس. قوله: (حتى إذا كان بالطريق) جاء في (الصحيح): (فخرج بها حتى إذا بلغنا سد الروحاء)، و: السد، بفتح السين وضمها، وهو جبل الروحاء، وهي قرية جامعة من عمل الفرع لمزينة على نحو أربعين ميلا من المدينة أو نحوها، و: الروحاء، بفتح الراء وبالحاء المهملة ممدود. وفي رواية: (أقام عليها بطريق خيبر ثلاثة أيام حين أعرس بها، وكانت فيمن ضرب عليها الحجاب). وفي رواية: (أقام بين خيبر والمدينة ثلاثة أيام، فبنى بصفية).
قوله: (فاهدتها) أي: أهدت أم سليم صفية لرسول ا، ومعناه: زفتها. وقال الكرماني: وفي بعضها: فهدتها، له، وقيل: هذا هو الصواب. وقال الجوهري: الهداء مصدر قولك أهديت أنا المرأة إلى زوجها هداء. قوله: (عروسا) على وزن، فعول، يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما. يقال: رجل عروس وامرأة عروس، وجمع الرجل: عروس، وجمع المرأة: عرائس. وفي المثل: كاد العروس أن يكون ملكا. والعروس. اسم حصن باليمن، وقول العامة: العروس للمرأة، والعريس للرجل ليس له أصل. قوله: (من كان عنده شيء فليجىء به): كذا هو في البخاري. قال النووي: وهو رواية، وفي بعضها: (فليجئني به)، بنون الوقاية. قوله: (نطعا) بكسر النون وفتح الطاء، وعن أبي عبيد: هو الذي اختاره ثعلب في (الفصيح) وفي (المخصص): فيه أربع لغات: نطع، بفتح النون وسكون الطاء، ونطع؛ بفتحتين، ونطع، بكسر النون وفتح الطاء، و: نطع، بكسر النون وسكون الطاء. وجمعه: أنطاع ونطوع، وزاد في (المحكم): أنطع. وقال أبو عمرو الشيباني في (نوادره): النطع: هو المبناة والستارة. وقال ابن قتيبة: المبناة والمبناة: النطع.
قوله: (قال: وأحسبه قد ذكر السويق) أي: قال عبد العزيز بن صهيب:
86

أحسب أنسا ذكر السويق أيضا، وجزم عبد الوارث في روايته بذكر السويق. وقال الكرماني: أي قال: وجعل الرجل يجيء بالسويق، ويحتمل أن يكون فاعل: قال، هو البخاري. ويكون مقولا للفربري، ومفعول: أحسب، يعقوب، والأول هو الظاهر. قوله: (فحاسوا حيسا) الحيس، بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة: هو تمر يخلط بسمن وأقط، يقال: حاس الحيس يحيسه أي: يخلطه. وقال ابن سيده: الحيس هو الأقط يخلط بالسمن والتمر، وحاسه حيسا وحيسة: خلطه. قال الشاعر:
* وإذا تكون كريهة يدعى لها
* وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
*
قال الجوهري: الحيس: الخلط، ومنه سمي الحيس، وفي (المخصص) قال الشاعر:
* التمر والسمن جميعا والأقط
* الحيس إلا أنه لم يختلط
*
وفي (الغريبين): هو ثريد من أخلاط. قال الفارسي في (مجمع الغرائب): ا أعلم بصحته. قوله: (فكانت وليمة رسول ا) اسم: كانت، الضمير الذي فيه يرجع إلى الأشياء الثلاثة التي اتخذ منها الحيس. قوله: (وليمة النبي) بالنصب: خبره.
ذكر الأحكام التي تستنبط منه منها: جواز إطلاق صلاة الغداة على صلاة الصبح، خلافا لمن كرهه من بعض الشافعية. ومنها: جواز الإرداف إذا كانت الدابة مطيقة، وفيه غير ما حديث. ومنها: استحباب التكبير والذكر عند الحرب، وهو موافق لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا ا كثيرا) * (الأنفال: 54) ومنها: استحباب التثليث في التكبير لقوله: (قالها ثلاثا) أي ثلاث مرات. ومنها: أن فيه دلالة على أن الفخذ ليس بعورة، وقد ذكرنا الجواب عنه. ومنها: أن إجراء الفرس يجوز ولا يضر بمراتب الكبار، لا سيما عند الحاجة أو لرياضة الدابة أو لتدريب النفس على القتال. ومنها: استحباب عتق السيد أمته وتزوجها، وقد
صح أن له أجرين كما جاء في حديث أبي موسى، وسيأتي، إن شاء ا تعالى. وقال ابن حزم: اتفق ثابت وقتادة وعبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه: عتق صفية وجعل عتقها صداقها، وبه قال قتادة في رواية، وأخذ بظاهره أحمد والحسن وابن المسيب، ولا يحل لها مهر غيره، وتبعهم ابن حزم فقال: هو سنة فاضلة ونكاح صحيح وصداق صحيح، فإن طلقها قبل الدخول فهي حرة فلا يرجع عليها بشيء، ولو أبت أن تتزوجه بطل عتقها. وفي هذا خلاف متأخر ومتقدم.
قال الطحاوي: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا أبان وحماد بن زيد، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب عن أنس بن مالك: (أن رسول الله أعتق صفية وجعل عتقها صداقها). وأخرجه مسلم، وأخرجه الترمذي، وأبو داود، والنسائي. ثم قال الطحاوي: فذهب قوم إلى أن الرجل إذا أعتق أمته على أن عتقها صداقها جاز ذلك، فإن تزوجت فلا مهر لها غير العتاق. قلت: أراد بهؤلاء القوم: سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي وعامر الشعبي والأوزاعي ومحمد بن مسلم الزهري وعطاء بن أبي رباح وقتادة وطاوسا والحسن بن حيي وأحمد وإسحاق فإنهم قالوا: إذا أعتق الرجل أمته على أن يكون عتقها صداقها جاز ذلك، فإذا عقد عليها لا تستحق عليه مهرا غير ذلك العتاق، وممن قال بذلك: سفيان الثوري وأبو يوسف ويعقوب بن إبراهيم، وذكر الترمذي أنه مذهب الشافعي أيضا. وقال عياض: وقال الشافعي: هي بالخيار إذا أعتقها، فإن امتنعت من تزوجه فله عليها قيمتها إن لم يمكن الرجوع فيها، وهذه لا يمكن الرجوع فيها، وإن تزوجت بالقيمة الواجبة له عليها صح بذلك عنده.
وفي (الأحكام) لابن بزيزة، في هذه المسألة: اختلف سلف الصحابة، وكان ابن عمر لا يراه، وقد روينا جوازه عن علي وأنس وابن مسعود، وروينا عن ابن سيرين أنه استحب أن يجعل مع عتقها شيئا ما كان، وصح كراهة ذلك أيضا عن الحسن البصري وجابر بن زيد والنخعي. وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يعتق الرجل جاريته ثم يتزوجها، وجعلوه كالراكب بدنته. وقال الليث بن سعد وابن شبرمة وجابر بن زيد وأبو حنيفة ومحمد وزفر ومالك: ليس لأحد غير رسول الله أن يفعل هذا فيتم له النكاح بغير صداق، وإنما كان ذلك لرسول الله خاصة، لأن ا تعالى لما جعل له أن يتزوج بغير صداق كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق. ثم إن فعل هذا وقع العتاق، ولها عليه مهر المثل، فإن أبت أن تتزوجه تسعى له في قيمتها عند
87

أبي حنيفة ومحمد، وقال مالك وزفر: لا شيء له عليها. وفي (الأحكام) لابن بزيزة: وقال الشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إن كرهت نكاحه غرمت له قيمتها ومضى النكاح، فإن كانت معسرة استسعيت في ذلك. وقال مالك وزفر: إن كرهت فهي حرة ولا شيء له عليها إلا أن يقول: لا أعتق إلا على هذا الشرط، فإن كرهت لم تعتق لأنه من باب الشرط والمشروط، ثم إن الطحاوي استدل على الخصوصية بقوله تعالى: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت) * (الأحزاب: 05) الآية وجه الاستدلال أن ا تعالى لما أباح لنبيه أن يتزوج بغير صداق كان له أن يتزوج على العتاق الذي ليس بصداق، ومما يؤيد ذلك أن النبي أخذ جويرية بنت الحارث في غزوة بني المصطلق فأعتقها وتزوجها. وجعل عتقها صداقها، رواه الطحاوي من حديث ابن عمر، ثم روي عن عائشة كيف كان عتاقه جويرية التي تزوجها عليه وجعله صداقها. قالت: لما أصاب رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبت على نفسها. قالت: وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله لتستعينه في كتابتها، فوا ما هي إلا إن رأيتها على باب الحجرة، وعرفت أنه سيرى منها مثل ما رأيت، فقالت: يا رسول ا أنا جويرية. بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما لم يخف عليك، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو ابن عم له، فكاتبته، فجئت رسول الله أستعينه على كتابتي. فقال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول ا؟ قال أقضي عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: نعم. قال: فقد فعلت.
وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث، فقالوا: صهر رسول ا، فأرسلوا ما في أيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة من أهل بيت من بني المصطلق، فلا نعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. ورواه أيضا أبو داود، وفيه أيضا حكم يختص بالنبي دون غيره، وهو أن يؤدي كتابة مكاتبة غيره لتعتق بذلك، ويكون عتقه مهرها لتكون زوجته، فهذا لا يجوز: لأحد غير النبي، وهذا إذا كان جائزا للنبي فجعله عتق الذي تولى عتقه هو مهرا لمن أعتقه أولى وأحرى أن يجوز. وقال البيهقي: قال القاضي البرني: قال لي يحيى بن أكتم: هذا كان للنبي خاصة، وكذا روي عن الشافعي أنه حمله على التخصيص، وموضع التخصيص أنه أعتقها مطلقا ثم تزوجها على غير مهر.
قوله: (حلوة)، بالضم من: الحلاوة. قوله: (ملاحة)، بضم الميم وتشديد اللام، معناه: شديدة الملاحة، وهو من أبنية المبالغة. وقال الزمخشري: وكانت امرأة ملاحة، بتخفيف اللام، أي: ذات ملاحة، وفعال مبالغة في فعيل، نحو كريم وكرام، وكبير وكبار، وفعال بالتشديد أبلغ منه، وقد ناقش ابن حزم في هذا الموضع مناقشة عظيمة، وخلاصة ما ذكره أنه قال: دعوى الخصوصية بالنبي في هذا الموضع كذب، والأحاديث التي ذكرت ههنا غير صحيحة، وقد ردينا عليه في جميع ذلك في شرحنا (لمعاني الآثار) للطحاوي، فمن أراد الوقوف عليه فعليه بالمراجعة إليه. ومنها: أن الزفاف في الليل، وقد جاء أنه دخل عليها نهارا ففيه جواز الأمرين. ومنها: أن فيه دلالة على مطلوبية الوليمة للعرس، وأنها بعد الدخول، وقال الثوري: ويجوز قبله وبعده، والمشهور عندنا أنها سنة، وقيل: واجبة، وعندنا إجابة الدعوة سنة سواء كانت وليمة أو غيرها، وبه قال أحمد ومالك في رواية. وقال الشافعي: إجابة وليمة العرس واجبة، وغيرها مستحبة، وبه قال مالك في رواية، والوليمة: عبارة عن الطعام المتخذ للعرس، مشتقة من: الولم، وهو الجمع، لأن الزوجين يجتمعان فتكون الوليمة خاصة بطعام العرس، لأنه طعام الزفاف، والوكيرة: طعام البناء، والخرس طعام الولادة، وما تطعمه النفساء نفسها خرسة، والإعذار طعام الختان، والنقيعة طعام القادم من سفره، وكل طعام صنع لدعوة مأدبة ومأدبة جميعا، والدعوة الخاصة: التقري، والعامة: الجفلى والأجفلى.
ومنها: أن فيه إدلال الكبير لأصحابه وطلب طعامهم. في نحو هذا، ويستحب لأصحاب الزوج وجيرانه مساعدته في الوليمة بطعام من عندهم. ومنها: أن فيه الوليمة تحصل بأي طعام كان، ولا تتوقف على شاة، والسنة تقوم بغير لحم، وا سبحانه وتعالى أعلم.
31
((باب في كم تصلي المرأة من الثياب))
باب منون خبر مبتدأ محذوف أي: هذا باب، ولفظ: كم، لها الصدارة سواء كانت استفهامية أو خبرية، ولم تبطل صدارتها ههنا لأن الجار والمجرور في حكم كلمة واحدة، ومميز: كم، محذوف تقديره: كم ثوبا.
88

وقال عكرمة لو وارت جسدها في ثوب لأجزته.
عكرمة: هذا هو مولى ابن عباس، أحد فقهاء مكة، هذا التعليق وصله عبد الرزاق ولفظه: (لو أخذت المرأة ثوبا فتقنعت به حتى لا يرى من جسدها شيء أجزأ عنها)، وروى ابن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن الجريري عن عكرمة، قال: (تصلي المرأة في درع وخمار خصيف)، وحدثنا أبان بن صمعة عن عكرمة عن ابن عباس، قال: (لا بأس بالصلاة في القميص الواحد إذا كان صفيقا) وذكر عن ميمونة أنها صلت في درع وخمار، ومن طريق أخرى صحيحة أنها صلت في درع واحد فضلا، وقد وضعت بعض كمها على رأسها، ومن طريق مكحول عن عائشة، وعلي: تصلي في درع سابغ وخمار، وكذا روي عن أم سلمة من طريق أم محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ، ومن حديث ليث عن مجاهد: لا تصلي المرأة في أقل من أربعة أثواب، وعن الحكم: في درع وخمار وعن حماد درع وملحفة تغطي رأسها. قوله: (لو وارت) أي: سترت وغطت جاز، وفي رواية الكشميهني: (لأجزأته)، بفتح لام التأكيد وسكون الجيم من الإجزاء.
27383 ح دثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة أن عائشة قالت لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد.
.
وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (متلفعات في مروطهن) لأن المستفاد منه صلاتهن في مروط، والمرط ثوب واحد كما سنفسره عن قريب.
ذكر رجاله: وهم خمسة: أبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن أبي حمزة، والزهري بن محمد بن مسلم، وعروة بن الزبير وعائشة رضي ا عنها، والكل تقدموا.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: القول. وفيه: ان رواته ما بين حمصي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد ا بن يوسف والقعنبي، وأخرجه مسلم فيه عن نصر بن علي وإسحاق بن موسى، كلاهما عن معن بن عيسى، ثلاثتهم عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة عن مالك به، وعن إسحاق بن موسى به. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به. وأخرجه ابن ماجة من حديث عروة.
ذكر معناه: قوله: (لقد كان) اللام فيه جواب قسم محذوف. قوله: (تشهد) أي: تحضر، والنساء من الجمع الذي لا واحد له من لفظه، وهو جمع امرأة. قوله: (ملتفعات) نصب على الحال من النساء من التلفع، بالفاء والعين المهملة، أي: ملتحفات، وروي بالفاء المكررة بدل العين، والأكثر على خلافه. قال الأصمعي: التلفع بالثوب أن يشتمل به حتى يجلل به جسده، وهو اشتمال الصماء عند العرب، لأنه لم يرفع جانبا منه فيكون فيه فرجة، وهو عند الفقهاء مثل الاضطباع، إلا أنه في ثوب واحد وعن يعقوب: اللفاع: الثوب تلتفع به المرأة أي: تلتحف به فيغيبها، وعن كراع وهو الملفع أيضا، وعن ابن دريد: اللفاع الملحفة أو الكساء، وقال أبو عمر: وهو الكساء، وعن صاحب (العين): تلفع بثوبه إذا اضطبع به، وتلفع الرجل بالشيب كأنه غطى سواد رأسه ولحيته. وفي (شرح الموطأ): التلفع أن يلقي الثوب على رأسه ثم يلتف به، لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس، وقد أخطأ من قال الالتفاع مثل الاشتمال. وأما التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه، وفي (المحكم) الملفعة ما يلفع به من رداء أو لحاف أو قناع. وفي (المغيث): وقيل: اللفاع النطع، وقيل: الكساء الغليظ، وفي (الصحاح) لفع رأسه تلفيعا أي: غطاه.
قوله: (في مروطهن) المروط جمع مرط بكسر الميم، قال القزاز: المرط ملحفة يتزر بها. والجمع أمراط ومروط، وقيل: يكون المرط كساء من خز أو صوف أو كتان وفي (الصحاح): المرط بالكسر. وفي (المحكم) وقيل: هو الثوب الأخضر. وفي (مجمع الغرائب) أكسية من شعر أسود وعن الخليل، هي أكسية معلمة. وقال ابن الأعرابي: هو الإزار، وقال النضر بن شميل: لا يكون المرط إلا درعا، وهو من خز أخضر، ولا يسمى المرط إلا أخضر، ولا يلبسه النساء. وقال عبد الملك في (شرح الموطأ): هو
89

كساء صوف رقيق خفيف مربع، كن النساء في ذلك الزمان يتزرن به ويلتفعن. قوله: (ما يعرفهن أحد) وفي (سنن ابن ماجة): يعني من الغلس، وعند مسلم: (ما يعرفن من الغلس. ثم عدم معرفتهن يحتمل أن يكون لبقاء ظلمة من الليل، أو لتغطيهن بالمروط غاية التغطي، وقيل: معنى ما يعرفهن أحد، يعني ما يعرف أعيانهن، وهذا بعيد، والأوجه فيه أن يقال: ما يعرفهن أحد، أي: أنساء هن أم رجال؟ وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام منها: هو الذي ترجم له، وهو أن المرأة إذا صلت في ثوب واحد بالالتفاع جازت صلاتها، لأنه استدل به على ذلك. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون التفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى، فلا يتم له الاستدلال به. قلت: الحديث ساكت عن هذا بحسب الظاهر، ولكن الأصل عدم الزيادة، واختياره
يؤخذ في عادته من الآثار التي يترجم بها، وهذا الباب مختلف فيه. قال ابن بطال: اختلفوا في عدد ما تصلي فيه المرأة من الثياب، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: تصلي في درع وخمار، وقال عطاء: في ثلاثة درع وإزار وخمار. وقال ابن سيرين. في أربعة، الثلاثة المذكورة، وملحفة. وقال ابن المنذر: عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، سواء سترته بثوب واحد أو أكثر، ولا أحسب ما روي من المتقدمين من الأمر: بثلاثة أو أربعة، إلا من طريق الاستحباب. وزعم أبو بكر بن عبد الرحمن أن كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهي رواية عن أحمد. وقال مالك والشافعي: قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت في الوقت عند مالك، وكذلك إذا صلت وشعرها مكشوف. وعند الشافعي تعيد أبدا. وقال أبو حنيفة والثوري: قدم المرأة ليست بعورة فإن صلت وقدمها مكشوفة صحت صلاتها. ولكن فيه روايتان عن أبي حنيفة.
ومنها: أنه احتج به مالك والشافعي وأحمد وإسحاق أن الأفضل في صلاة الصبح التغليس، ولنا أحاديث كثيرة في هذا الباب رويت عن جماعة من الصحابة منهم: رافع بن خديج، روى أبو داود من حديث محمود بن لبيد عنه، قال: قال رسول ا: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجركم أو أعظم للأجر) ورواه الترمذي أيضا. وقال: حديث حسن صحيح، ورواه النسائي وابن ماجة أيضا. قوله: (أصبحوا بالصبح) أي: نوروا به، ويروى: (أصبحوا بالفجر)، ورواه ابن حبان في صحيحه، ولفظه: (أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر). وفي لفظ له: (فكلما أصبحتم بالصبح فإنه أعظم لأجركم). وفي لفظ للطبراني: (فكلما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر). ومنهم: محمود بن لبيد، روى حديثه أحمد في مسنده. نحو رواية أبي داود، ولم يذكر فيه رافع بن خديج، ومحمود بن لبيد صحابي مشهور. كذا قيل: قلت: قال المزي: محمود بن لبيد بن عصمة بن رافع بن امرئ القيس الأوسي، ثم الأشهلي. ولد على عهد رسول ا، وفي صحبته خلاف. انتهى. قلت: ذكره مسلم في التابعين في الطبقة الثانية، وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. قال: وقال أبي: لا يعرف له صحبة. وقال أبو عمر: قول البخاري أولى، فعلى هذا يحتمل أنه سمع هذا الحديث من رافع أولا، فرواه عنه ثم سمعه من النبي فرواه عنه، إلا أن في طريق أحمد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وفيه ضعف. ومنهم: بلال، روى حديثه البزار في مسنده نحو حديث رافع، وفيه: أيوب بن يسار، وقال البزار: فيه ضعف. ومنهم: أنس، روى حديثه البزار أيضا عنه مرفوعا. ولفظه: (أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر). ومنهم: قتادة ابن النعمان، روى حديثه الطبراني في معجمه من حديث عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه، ورواه البزار أيضا. ومنهم: ابن مسعود، روى حديثه الطبراني أيضا عنه مرفوعا نحوه. ومنهم: أبو هريرة، روى حديثه ابن حبان عنه مرفوعا. ومنهم: رجال من الأنصار، أخرج حديثهم النسائي من حديث محمود بن لبيد عن رجال من قومه من الأنصار، أن النبي قال: (أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر). ومنهم: أبو هريرة وابن عباس رضي ا عنهما، أخرج حديثهما الطبراني من حديث حفص بن سليمان عن ابن عباس وأبي هريرة: (لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بالفجر). ومنهم: أبو الدرداء أخرجه أبو إسحاق وإبراهيم بن محمد بن عبيد من حديث أبي الزاهرية عن أبي الدرداء عن النبي عليه السلام، قال: (أسفروا بالفجر تفقهوا). ومنهم: حواء الأنصارية، أخرج حديثها الطبراني من حديث ابن بجيد الحارثي عن جدته الأنصارية، وكانت من المبايعات، قالت: سمعت رسول الله يقول: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر)، وابن بجيد، بضم الباء الموحدة وفتح الجيم بعدها ياء آخر الحروف ساكنة: ذكره ابن حبان في الثقات، وجدته
90

حواء بنت زيد بن السكن أخت أسماء بنت زيد بن السكن.
فإن قلت: كان ينبغي أن يكون الإسفار واجبا لمقتضى الأوامر فيه قلت: الأمر إنما يدل على الوجوب إذا كان مطلقا مجردا عن القرائن الصارفة إلى غيره، وهذه الأوامر ليست كذلك فلا تدل إلا على الاستحباب. فإن قلت: قد يؤول الاستحباب في هذه الأحاديث بظهور الفجر، وقد قال الترمذي: وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: معنى الإسفار أن يصبح الفجر، ولا يشك فيه، ولم يروا أن الإسفار تأخير الصلاة. قلت: هذا التأويل غير صحيح، فإن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار، كما ذكره أهل اللغة، وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الصبح، فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير، وهو التأخير عن الغلس وزوال الظلمة، وأيضا فقوله: (أعظم للأجر) يقضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره لم يكن في وقت الغلس أجر، لخروجه عن الوقت، وأيضا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم، والطبراني في (معجمه) من حديث رافع بن خديج، قال: قال رسول الله لبلال: (يا بلال نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار). وحديث آخر يبطل تأويلهم رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتابه (غريب الحديث): حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر سمعت بيانا أخبرنا سعيد، قال: سمعت أنسا يقول: (كان رسول الله يصلي الصبح حين يفسح البصر). انتهى. يقال: فسح البصر وانفسح إذا رأى الشيء عن بعد، يعني به إسفار الصبح. فإن قلت: قد قيل: إن الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي المقمرة، لأن الصبح لا يستبين فيها جدا فأمرهم بزيادة التبين استظهارا باليقين في الصلاة. قلت: هذا تخصيص بلا مخصص، وهو باطل، ويرده أيضا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي: ما اجتمع أصحاب محمد على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر، وأخرجه الطحاوي في (شرح الآثار) بسند صحيح، ثم قال: ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول ا. فإن قلت: قد قال ابن حزم: خبر الأمر بالإسفار صحيح، إلا أنه لا حجة لكم فيه إذا أضيف إلى الثابت من فعله في التغليس، حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن. قلت: الثابت من فعله في التغليس لا يدل على الأفضلية، لأنه يجوز أن يكون غيره أفضل منه، وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر، لأن قوله: (أعظم للأجر) أفعل التفضيل، فيقتضي أجرين: أحدهما أكمل من الآخر، لأن صيغة: أفعل، تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين، فحينئذ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس، ولكن حصوله في الإسفار أعظم وأكمل منه، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت.
فإن قلت: روى أبو داود من حديث ابن مسعود: (أنه صلى الصبح بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات، لم يعد إلى أن يسفر). ورواه ابن حبان أيضا في (صحيحه)، كلاهما من حديث أسامة بن زيد الليثي. قلت: يرد هذا ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود، قال: (ما رأيت رسول ا، صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها). انتهى. قالت العلماء: يعني: وقتها المعتاد في كل يوم، لا أنه صلاها قبل الفجر، وإنما غلس بها جدا، ويوضحه رواية البخاري: (والفجر حين بزغ)، وهذا دليل على أنه كان يسفر بالفجر دائما، وقل ما صلاها بغلس، وبه استدل الشيخ في (الإمام) لأصحابنا. على أن أسامة بن زيد قد تكلم فيه، فقال أحمد: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي.
فإن قلت: قد قال البيهقي، رجح الشافعي حديث عائشة بأنه أشبه بكتاب ا تعالى، لأن ا تعالى، يقول: * (حافظوا على الصلوات) * (البقرة: 832) فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة، وإن رسول الله لا يأمر بأن يصلي صلاة في وقت يصليها هو في غيره، وهذا أشبه بسنن رسول ا. قلت: المراد من المحافظة هو المداومة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وليس فيها دليل على أن أول الوقت أفضل، بل الآية دليل لنا. لأن الذي يسفر بالفجر يترقب الإسفار في أول الوقت، فيكون هو المحافظ المداوم على الصلاة، ولأنه ربما تقع صلاته في التغليس قبل الفجر، فلا يكون محافظا للصلاة في وقتها. فإن قلت: جاء في الحديث:
91

(أول الوقت رضوان ا وآخره عفو ا)، وهو لا يؤثر على رضوان ا شيئا، والعفو لا يكون عن تقصير. قلت: المراد من العفو الفضل كما في قوله تعالى: * (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) * (البقرة: 912) أي: الفضل، فكان معنى الحديث، وا أعلم، أن من أدى الصلاة في أول الوقت، فقد نال رضوان ا، وأمن من سخطه وعذابه لامتثال أمره، وأدائه ما وجب عليه، ومن أدى في آخر الوقت فقد نال فضل ا، ونيل فضل ا لا يكون بدون الرضوان، فكانت هذه الدرجة أفضل من تلك. فإن قلت: جاء في الحديث: (وسئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: الصلاة في أول وقتها). وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به.
قلت: ذكر الأول للحث والتحضيض والتأكيد على إقامة الصلوات في أوقاتها، وإلا فالذي يؤدي في ثاني الوقت أو في ثالثة أو رابعة كالذي يؤديها في أوله لا أن الجزء الأول له مزية على الجزء الثاني أو الثالث أو الرابع، فحاصل المعنى: الصلاة في وقتها أفضل الأعمال، ثم يتميز الجزء الثاني في صلاة الصبح عن الجزء الأول بالأمر الذي فيه الإسفار الذي يقتضي التأخير عن الجزء الأول. فإن قلت: قال البيهقي: قال الشافعي في حديث رافع: له وجه لا يوافق حديث عائشة ولا يخالفه، وذلك أن رسول الله لما حض الناس على تقديم الصلاة، وأخبر بالفضل فيه، احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر، فقال: أسفروا بالفجر حتى يتبين الفجر الآخر، معترضا، فأراد عليه الصلاة والسلام، فيما يرى الخروج من الشك حتى يصلي المصلي بعد تبين الفجر، فأمرهم بالإسفار أي: بالتبيين. قلت: يرد هذا التأويل ويبطله ما رواه أبو داود الطيالسي عن رافع، قال: قال رسول الله لبلال: (يا بلال نور صلاة الصبح حتى تبصر القوم مواضع نبلهم من الإسفار). وقد مر هذا عن قريب. فإن قلت: قال ابن حازم في كتاب (الناسخ والمنسوخ): قد اختلف أهل العلم في الإسفار بصلاة الصبح والتغليس بها، فرأى بعضهم الإسفار هو الأفضل، وذهب إلى قوله: (أصبحوا بالصبح)، ورواه محكما، وزعم الطحاوي أن حديث الإسفار ناسخ لحديث التغليس، وأنهم كانوا يدخلون مغلسين ويخرجون مسفرين، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن حديث التغليس ثابت، وأن النبي داوم عليه حتى فارق الدنيا.
قلت: يرد هذا ما رويناه من حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم، وقد ذكرناه عن قريب، وذكرنا أن فيه دليلا على أنه، كان يسفر بالفجر دائما، والأمر مثل ما ذكره الطحاوي وليس مثل ما ذكره ابن حازم، بيان ذلك أن اتفاق الصحابة رضي ا تعالى عنهم، بعد النبي، على الإسفار بالصبح، على ما ذكره الطحاوي بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال: (ما اجتمع أصحاب محمد على شيء ما اجتمعوا على التنوير) دليل واضح على نسخ حديث التغليس، لأن إبراهيم أخبر أنهم كانوا اجتمعوا على ذلك، فلا يجوز عندنا، وا أعلم، اجتماعهم على خلاف ما قد فعله النبي، إلا بعد نسخ ذلك وثبوت خلافه، والعجب من بعض شراح البخاري أنه يقول: ووهم الطحاوي حيث ادعى أن حديث: (أسفروا..) ناسخ لحديث التغليس، وليس الواهم إلا هو، ولو كان عنده إدراك مدارك المعاني لما اجترأ على مثل هذا الكلام.
ومنها: أن فيه دلالة على خروج النساء، وهو جائز بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن، وكرهه بعضهم للشواب، وعند أبي حنيفة تخرج العجائز لغير الظهر والعصر، وعندهما: يخرجن للجميع، واليوم يكره للجميع، للعجائز والشواب، لظهور الفساد وعموم الفتنة. وا أعلم.
41
((باب إذا صلى في ثوب له أعلام ونظر إلى علمها))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا صلى شخص وهو لابس ثوبا وله أعلام، ونظر إلى أعلامه، هل يكره ذلك أم لا؟ وقال الكرماني: ونظر إلى علمه، وفي بعضها: إلى علمها، والتأنيث فيه باعتبار الخميصة، ونقله بعضهم عنه بالعكس حيث قال: قال الكرماني في رواية: ونظر إلى علمه، والأعلام جمع علم، بفتح اللام.
37393 ح دثنا أحمد بن يونس قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة
92

فلما انصرف قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة ذكروا غير مرة. وأحمد بن عبد ا بن يونس وينسب إلى جده، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وابن شهاب هو محمد
بن مسلم الزهري، وعروة بن الزبير بن العوام.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته كوفيون ومدنيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه أبو داود أيضا فيه عن موسى بن إسماعيل به. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب، وأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن منصور عن سفيان. وأخرجه ابن ماجة في اللباس عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان به.
ذكر لغاته ومعانيه: قوله: (في خميصة)، بفتح الخاء المعجمة وكسر الميم وبالصاد المهملة: وهي كساء أسود مربع له علمان أو أعلام، ويكون من خز أو صوف، ولا يسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، سميت بذلك للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طويت، مأخوذ من الخمص وهو: ضمور البطن. وقال ابن حبيب في (شرح الموطأ): الخميصة كساء صوف أو مرعزي معلم الصنعة. قوله: (لها أعلام) جملة وقعت صفة لخميصة، والأعلام جمع: علم، بفتحتين، وقد فسرناه عن قريب. قوله: (فلما انصرف)، أي: من صلاته واستقبال القبلة. قوله: (إلى أبي جهم)، بفتح الجيم وسكون الهاء: واسمه عامر بن حذيفة العدوي القرشي المدني الصحابي. وقيل: اسمه عبيد، أسلم يوم الفتح وكان معظما في قريش وعالما بالنسب، شهد بنيان الكعبة مرتين، مات في آخر خلافة معاوية، وهو غير أبي جهيم، المصغر المذكور في المرور.
قوله: (بأنبجانية أبي جهم)، قد اختلفوا في ضبط هذا اللفظ ومعناه، فقيل: بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء النسبة. وقال ثعلب: يقال كبش إنبجاني، بكسر الياء وفتحها إذا كان ملتفا كثير الصوف، وكساء أنبجاني، كذلك وقال الجوهري: إذا نسبت إلى منبج فتحت الباء فقلت: كساء منبجاني، أخرجوه مخرج: مخبراني ومنظراني، وقال أبو حاتم في (لحن العامة): لا يقال: كساء أنبجاني، وهذا مما تخطىء فيه العامة، وإنما يقال: منبجاني، بفتح الميم والباء. قال: وقلت للأصمعي: لم فتحت الباء وإنما نسب إلى منبح بالكسر؟ قال: خرج مخرج: منظراني ومخبراني. قال: والنسب مما يغير البناء، وقال القزاز في (الجامع): والنباج موضع تنسب إليه الثياب المنبجانية. وفي (الجمهرة): ومنبج موضع أعجمي، وقد تكلمت به العرب ونسبوا إليه الثياب المنبجانية. وفي (المحكم) أن منبج موضع، قال سيبويه: الميم، فيه زائدة بمنزلة: الألف، لأنها إنما كثرت مزيدة أولا، فموضوع زيادتها كموضع الألف وكثرتها ككثرتها إذا كانت أولا في الاسم والصفة، وكذلك النباج، وهما نباجان: نباج نبتل ونباج بن عامر، و: كساء منبجاني، منسوب إليه على غير قياس. وفي (المغيث): المحفوظ كسر باء الأنبجانية، وقال ابن الحصار في (تقريب المدارك): من زعم أنه منسوب إلى منبج فقد وهم. قلت: منبج، بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وفي آخره جيم: بلدة من كور قنسرين بناها بعض الأكاسرة الذي غلب على الشام، وسماها: منبه، وبنى بها بيت نار ووكل بها رجلا، فعربت فقيل: منبج، والنسبة إليها: منبجي، على الأصل: ومنبجاني على غير قياس، والباء تفتح في النسبة كما يقال في النسبة إلى: صدف، بكسر الدال: صدفي بفتحها. ومن هذا قال ابن قرقول: نسبة إلى منبج، بفتح الميم وكسر الباء ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وعن هذا قال ثعلب: يقال كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث، وأما تفسيرها، فقال عبد الملك بن حبيب في (شرح الموطأ): هي كساء غليظ تشبه الشملة يكون سداه قطنا غليظا أو كتانا غليظا، ولحمته صوف ليس بالمبرم، في فتله لين، غليظ يلتحف به في الفراش، وقد يشتمل بها في شدة البرد. وقيل: هي من أدوان الثياب الغليظة تتخذ من الصوف، ويقال: هو كساء غليظ لا علم له، فإذا كان للكساء علم فهو خميصة، وإن لم يكن فهو أنبجانية.
قوله: (ألهتني) أي: أشغلتني، وهو من: الإلهاء، وثلاثية: لهي الرجل عن الشيء يلهى عنه إذا غفل، وهو من باب: يعلم، وأما: لها يلهو إذا لعب فهو من باب:
93

نصر ينصر. وفي (الموعب): وقد لهى يلهو والتهى وألهاني عنه، كذا... أي أنساني وشغلني. قوله: (آنفا) أي: قريبا، واشتقاقه من الائتلاف بالشيء أي: الابتداء به، وكذلك الاستئناف، ومنه أنف كل شيء وهو أوله. ويقال: قلت آنفا وسالفا، وانتصابه على الظرفية، قال ابن الأثير: قلت: الشيء آنفا في أول وقت يقرب مني. قوله: (عن صلاتي) أي: عن كمال الحضور فيها وتدبير أركانها وأذكارها، والاستقصاء في التوجه إلى جناب الجبروت.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام فيه: جواز لبس الثوب المعلم وجواز الصلاة فيه. وفيه: أن اشتغال الفكر اليسير في الصلاة غير قادح فيها، وهو مجمع عليه، وقال ابن بطال: وفيه أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر مما ليس متعلقا بالصلاة، والذي حكي عن بعض السلف أنه مما يضر غير معتد به. وفيه: طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها ونفي كل ما يشغل القلب ويلهي عنه، ولهذا قال أصحابنا: المستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده، لأنه أقرب إلى التعظيم من إرسال الطرف يمينا وشمالا. وفيه: المبادرة إلى ترك كل ما يلهي ويشغل القلب عن الطاعة والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها. وفيه: منع النظر وجمعه عما لا حاجة بالشخص إليه في الصلاة وغيرها، وقد كان السلف لا يخطئ أحدهما موضع قدميه، إذا مشى. وفيه: تكنية العالم لمن دونه، وكذلك الإمام. وفيه: كراهة تزويق المحراب في المسجد وحائطه ونقشه وغير ذلك من الشاغلات. وفيه: قبول الهدية من الأصحاب والإرسال إليهم، واستدل به الباجي على صحة المعاطاة في العقود بعدم ذكر الصيغة، وقال الطيبي: إنما أرسل إليه لأنه كان أهداها إياه، فلما ألهاه علمها أي: شغله إياه عن الصلاة بوقوع نظره على نقوش العلم، ردها، أو تفكر في أن مثل ذلك الرعونة التي لا تليق به، ردها إليه واستبدل منه أنبجانية كيلا يتأذى قلبه بردها إليه. وفيه: كراهية الأعلام التي يتعاطاه الناس على أردانهم. وفيه: أن لصور الأشياء الظاهرة تأثيرا في النفوس الطاهرة والقلوب الزكية.
الأسئلة والأجوبة: منها ما قيل: كيف بعث بشيء يكرهه لنفسه إلى غيره؟ وأجيب: بأن بعثها إلى أبي جهم لم يكن لما ذكر، وإنما كان لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن الخشوع وعن ذكر ا، كما قال: أخرجوا عن هذا الوادي الذي أصابكم فيه الغفلة، فإنه واد به شيطان، ألا ترى إلى قوله لعائشة في الضب: (إنا لا نتصدق بما لا نأكل) وهو عليه الصلاة والسلام، أقوى خلق ا لرفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع الوسوسة. وقال ابن بطال: وأما بعثه بالخميصة إلى أبي جهم وطلب أنبجانيته فهو من باب الإدلال عليه لعلمه بأنه يفرح به.
ومنها ما قيل: ما وجه تعيين أبي جهم في الإرسال إليه؟ وأجيب بأن أبا جهم هو الذي أهداها له، فلذلك ردها عليه. وروى الطحاوي عن المزني عن الشافعي قال: حدثنا مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة رضي ا تعالى عنها، قالت: (أهدى أبو جهم إلى النبي خميصة شامية لها علم، فشهد فيها النبي الصلاة، فلما انصرف قال: ردي هذه الخميصة إلى أبي جهم فإنها كادت تفتنني).
ومنها ما قيل: أليس فيه تغيير خاطره بالرد عليه؟ وأجيب: بما ذكرناه الآن عن ابن بطال، والأولى من هذا ما دلت عليه رواية أبي موسى المدني: ردوها عليه وخذوا أنبجانيته، لئلا يؤثر رد الهدية في قلبه. وعند أبي داود. (شغلني أعلام هذه، وأخذ كرديا كان لأبي جهم، فقيل: يا رسول ا الخميصة كانت خيرا من الكردي).
ومنها ما قيل: أليس فيه إشارة إلى استعمال أبي جهم إياها في الصلاة؟ وأجيب: بأنه لا يلزم منه ذلك، ومثله قوله في حلة عطارد، حيث بعث بها إلى عمر: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها، وإنما أباح له الانتفاع بها من جهة بيع أو إكساء لغيره من النساء. فإن قلت: ليست قضية أبي جهم مثل قضية عمر، رضي ا تعالى عنه، لأنه قال له: لم أبعث بها إليك لكذا وكذا، وهي إذا ألهت سيد الخلق مع عصمته فكيف لا تلهي أبا جهم، على أنه قيل: إنه كان أعمى فالإلهاء مفقود عنه. قلت: لعله علم أنه لا يصلي فيها، ويحتمل أن يكون خاصا بالشارع، كما قال: (كل فإنني أناجي من لا تناجي).
ومنها ما قيل: كيف يخاف الافتتان من لا يلتفت إلى الأكوان * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 71) وأجيب: بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه فأشبه ذلك نظره من ورائه، فأما إذا رد إلى طبعه البشري فإنه يؤثر فيه ما يؤثر في البشر.
ومنها ما قيل: إن المراقبة شغلت خلقا من أتباعه حتى إنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب: بأن أولئك يؤخذون عن طباعهم فيغيبون عن وجودهم، وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق
94

الخواص غير الكل، فقال: (لست كأحدكم)، وإذا سلك طريق غيرهم، قال: (إنما أنا بشر)، فرد إلى حالة الطبع، فنزع الخميصة ليس به من ترك كل شاغل.
وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال النبي كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني.
قال الكرماني: هذا عطف على قوله: قال ابن شهاب، وهو من جملة شيوخ إبراهيم، ويحتمل أن يكون تعليقا. قلت: هذا رواه مسلم في (صحيحه): عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام، ورواه أبو داود عن عبيد ا عن معاذ عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عنه، ورواه أبو معمر فقال: عمرة عن عائشة قال الإسماعيلي، ولعله غلط منه، والصحيح: عروة، ولم يذكر أبو مسعود هذا التعليق، وذكره خلف. قوله: (وأنا في الصلاة) جملة حالية. قوله: (أن تفتنني)، بفتح التاء من: فتن يفتن من باب: ضرب يضرب، ويجوز أن تكون بالإدغام، وأن تكون بضم التاء من الثلاثي المزيد فيه يقال: فتنه وأفتنه، وأنكره الأصمعي.
واعلم أن في هذه الرواية لم يقع له شيء من الخوف من الإلهاء لأنه قال: (فأخاف) وهذا مستقبل، ويدل عليه أيضا رواية مالك: (فكاد يفتنني)، فهذا يدل على أنه لم يقع، والرواية الأولى تدل على أنه قد وقع لأنه صرح بقوله: (فإنها ألهتني) والتوفيق بينهما يمكن بأن يقال: للنبي حالتان: حالة بشرية وحالة تختص بها خارجة عن ذلك، فبالنظر إلى الحالة البشرية قال: (ألهتني)، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: (أخاف)، ولا يلزم من ذلك الوقوع. وأيضا فيه تنبيه لأمته ليحترزوا عن مثل ذلك في صلاتهم، لأن الصلاة المعتبرة أن يكون فيها خشوع، وما يلهي المصلي ينافي الخشوع والخضوع.
51
((باب إن صلى في ثوب مصلب أو تصاوير هل تفسد صلاته وما ينهى من ذلك.))
باب: منون، خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب يذكر فيه إن صلى شخص حال كونه في (ثوب مصلب) بضم الميم وفتح اللام المشددة. قال بعضهم: أي فيه صلبان. قلت: ليس المعنى كذلك، بل معناه: إن صلى في ثوب منقوش بصور الصلبان. قوله: (أو تصاوير) قال الكرماني: أو تصاوير عطف على ثوب لا على مصلب، والمصدر بمعنى المفعول، أو: على مصلب، لكن بتقدير أنه في معنى ثوب مصور بالصليب، فكأنه قال: مصور بالصليب، أو بتصاوير غيره. وقال بعضهم: أو تصاوير، أي في ثوب ذي تصاوير، كأنه حذف المضاف لدلالة المعنى عليه. قلت: جعل الكرماني: تصاوير، مصدرا بمعنى المفعول غير صحيح، لأن التصاوير اسم للتماثيل، كذا قال أهل اللغة. قال الجوهري: التصاوير: التماثيل، وقد جاء التصاوير والتماثيل والتصاليب، فكأنها في الأصل جمع: تصوير وتمثال وتصليب، ولئن سلمنا كون التصاوير مصدرا في الأصل جمع تصوير، فلا يصح أن يقال، عند كونه عطفا على ثوب أن يقدرا: أو إن صلى في ثوب مصورة، لعدم التطابق حينئذ بين الصفة والموصوف، مع أنه شرط، والظاهر أنه عطف على: مصلب، مع حذف حرف الصلة، تقديره؛ إن صلى في ثوب مصور بصلبان، أو ثوب مصور بتصاوير، التي هي التماثيل.
وقول بعضهم: لدلالة المعنى عليه، ولم يبين أن المعنى الدال عليه ما هو، والقول بحذف حرف الصلة أولى من القول بحذف المضاف، لأن ذاك شائع ذائع. وفرق بعض العلماء بين الصورة والتمثال، فقال: الصورة تكون في الحيوان، والتمثال تكون فيه وفي غيره. ويقال: التمثال ما له جرم وشخص، والصورة ما كان رقما أو
تزويقا في ثوب أو حائط. وقال المنذري: قيل: التماثيل الصور، وقيل في قوله تعالى: * (وتماثيل) * (سبأ: 31) إنها صور العقبان والطواويس على كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام، وكان مباحا. وقيل: صور الأنبياء والملائكة، عليهم الصلاة والسلام، من رخام أو شبه لينشطوا في العبادة بالنظر إليهم. وقيل: صور الآدميين من نحاس، وا تعالى أعلم.
قوله: (هل تفسد صلاته؟) استفهام على سبيل الاستفسار، جرى البخاري في ذلك على عادته في ترك القطع في الشيء الذي فيه اختلاف، لأن العلماء اختلفوا في النهي الوارد في الشيء، فإن كان لمعنى في نفسه فهو يقتضي الفساد فيه، وإن كان لمعنى في غيره فهو يقتضي الكراهة أو الفساد، فيه خلاف. قوله: (وما ينهى من ذلك): أي: والذي ينهى عنه من المذكور، وهو؛ الصلاة في ثوب مصور بصلبان أو بتصاوير، وفي بعض النسخ لفظة: عنه، موجودة، وفي رواية: عن ذلك، بكلمة: عن، موضع: من، والأول أصح.
95

47304 ح دثنا أبو معمر عبد الله بن عمر و قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز ابن صهيب عن أنس كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي: (أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي).
وجه مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن ستر الذي فيه التصاوير إذا نهى عنه الشارع، فمنع لبسه بالطريق الأولى. فإن قلت: الترجمة شيئان، والحديث لا يدل إلا على شيء واحد، وهو الثوب الذي فيه الصورة. قلت: يلحق به الثوب الذي فيه صور الصلبان لاشتراكهما في أن كلا منهما عبد من دونه ا عز وجل.
ذكر رجاله: وهم أربعة، الكل قد ذكروا: ومعمر بفتح الميم، وعبد الوارث هو ابن سعيد.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، والعنعنة في موضع واحد ورجاله كلهم بصريون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في اللباس. وأخرجه النسائي بألفاظ، ففي لفظ: (يا عائشة أخرجي هذا فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا). وفي لفظ: (فإن فيه تمثال طير مستقبل البيت إذا دخل الداخل). وفي لفظ: (فيه تصاوير، فنزعه رسول ا، فقطعه وسادتين، فكان يرتفق عليهما). وفي لفظ: (كان في بيتي ثوب فيه تصاوير فجعلته إلى سهوة في البيت، فكان رسول الله يصلي إليه ثم قال: يا عائشة أخرجيه عني، فنزعته فجعلته وسائد). وفي لفظ: (دخل علي رسول الله وقد اشتريت بقرام فيه تماثيل، فلما رآه تلون وجهه ثم هتكه بيده، وقال؛ إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق ا). وفي لفظ: (قدم النبي من سفر وقد اشتريت بقرام على سهوة لي فيه تماثيل فنزعه). وفي لفظ: (خرج رسول ا، خرجة ثم دخل وقد علقت قراما فيه الخيل أولات الأجنحة، فلما رآه قال: إنزعيه).
ذكر معانيه قوله: (قرام)، بكسر القاف وتخفيف الراء: وهو ستر رقيق من صوف ذو ألوان. وقال أبو سعد: القرام: صوف غليظ جدا. يفرش في الهودج. وفي (المحكم): هو ثوب من صوف ملون، والجمع: قرم. وعن ابن الأعرابي، جمعه: قروم، هو ثوب من صوف فيه ألوان من عهن، فإذا خيط صار كأنه بيت، فهو كلة. وقال القزاز وابن دريد: هو الستر الرقيق وراء الستر الغليظ على الهودج وغيره. وقال الخليل: يتخذ سترا أو يغشى به هودج أو كلة، وزعم الجوهري أنه: ستر فيه رقم ونقوش. وقال: وكذلك المقرم والمقرمة. قوله: (أميطي) أي: أزيلي، وهو أمر من أماط يميط. قال ابن سيده: يقال: ماط عني ميطا ومياطا وأماط: تنحى وبعد، وماطه عني وأماطه: نحاه ودفعه. قال بعضهم؛ مطت به وأمطته، على حكم ما يتعدى إليه الأفعال غير المتعدية بالنقل في الغالب، وماط الأذى ميطا وأماطه: نحاه ودفعه. قوله: (لا تزال تصاوير)، بدون الضمير، وفي بعض الرواية: تصاويره، بإضافته إلى الضمير، والضمير في: فإنه للشأن. وفي الرواية التي بالضمير: يحتمل أن يرجع إلى الثوب. قوله: (تعرض) بفتح التاء وكسر الراء أي: تلوح، وفي رواية الإسماعيلي. (تعرض). بفتح العين وتشديد الراء، وأصله: تتعرض، فحذفت إحدى التاءين كما في * (نارا تلظى) * (الليل: 41).
ذكر ما يستنبط منه: قال الخطابي: فيه: دليل على أن الصور كلها منهي عنها، سواء كانت أشخاصا ماثلة أو غير ماثلة، كانت في ستر أو بساط أو في وجه جدار أو غير ذلك. وقال ابن بطال: علم من الحديث النهي عن اللباس الذي فيه التصاوير بالطريق الأولى، وهذا كله على الكراهة، فإن من صلى فيه فصلاته مجزئة، لأنه لم يعد الصلاة، ولأنه ذكر أنها عرضت له، ولم يقل: إنها قطعتها. ومن صلى بذلك أو نظر إليه فصلاته مجزئة عند العلماء. وقال المهلب: وإنما أمر باجتناب هذا لإحضار الخشوع في الصلاة وقطع دواعي الشغل. وقيل: إنه منسوخ بحديث سهل بن حنيف، رواه مالك بن أنس: (عن أبي النضر عن عبيد ا بن عبد ا أنه دخل على طلحة الأنصاري يعوده، فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنسانا ينزع نمطا تحته، فقال له سهل: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال رسول ا: ما قد علمت قال: ألم يقل: إلا ما كان رقما في ثوب؟ قال؛ بلى، ولكنه أطيب للنفس). وأخرجه النسائي عن علي بن شعيب عن معن عن مالك به، واحتج أصحابنا
96

بهذا أن الصور التي تكون فيما تبسط وتفترش وتمتهن خارجة عن النهي الوارد في هذا الباب، وبه قال الثوري والنخعي ومالك وأحمد في رواية، وقال أبو عمر: ذكر أبو القاسم، قال: كان مالك يكره التماثيل في الأسرة والقباب، وأما البسط والوسائد والثياب فلا بأس به. وكره أن يصلي إلى قبة فيها تماثيل. وقال الثوري: لا بأس بالصور في الوسائد لأنها توطأ ويجلس عليها، وكان أبو حنيفة وأصحابه يكرهون التصاوير في البيوت بتمثال، ولا يكرهون ذلك فيما يبسط، ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة، وقال أبو عمر: وكره الليث التماثيل في البيوت والأسرة والقباب والطساس والمنارات إلا ما كان رقما في ثوب، وأما الشافعية فإنهم كرهوا الصور مطلقا، سواء كانت على الثياب أو على الفرش والبسط ونحوها، واحتجوا بعموم الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك، ولم يفرقوا في ذلك، وا تعالى أعلم.
61
((باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه))
أي: هذا باب يذكر فيه من صلى، وهو لابس فروجا من حرير ثم نزعه، وهو حكاية ما وقع من النبي في ذلك، والفروج، بفتح الفاء وضم الراء المشددة وفي آخره جيم، وقال أبو عبد ا: هو القباء الذي شق من خلفه، وقال يحيى بن بكير: سألت الليث بن سعد عن الفروج، فقال: القبا، وعن ابن الجوزي بإسناده عن أبي العلاء المعري: يقال، فيه بضم الفاء من غير تشديد على وزن: خروج، وقال القرطبي: قيد بفتح الفاء وضمها، والضم المعروف، وأما الراء فمضمومة على كل حال مشددة، وقد تخفف. وقال ابن قرقول بفتح الفاء والتشديد في الراء، ويقال: بتخفيفها أيضا. وقال القرطبي: القباء والفروج كلاهما: ثوب ضيق الكمين ضيق الوسط مشقوق من خلف يشمر فيه للحرب والأسفار، وقوله: (حرير) بالجر صفة الفروج.
41 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث عن يزيد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال أهدي إلى النبي
فروج حرير فلبسه فصلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له وقال لا ينبغي هذا للمتقين)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عبد الله بن يوسف التنيسي تكرر ذكره. الثاني الليث بن سعد وقال الكرماني عرض عليه المنصور ولاية مصر فاستعفى (قلت) قد قيل أنه ولي مدة يسيرة وكان على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. الثالث يزيد بن حبيب. الرابع أبو الخير مرثد بفتح الميم وبالثاء المثلثة اليزني بفتح الياء آخر الحروف والزاي بعدها النون المكسورة. الخامس عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه روى له خمسة وخمسون حديثا للبخاري منها ثمانية كان واليا على مصر لمعاوية مات بها سنة ثمان وخمسين.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول وفيه بعد قوله عن يزيد هو ابن أبي حبيب في رواية الأصيلي وفيه أن رواته كلهم مصريون.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن قتيبة عن الليث وأخرجه مسلم عن قتيبة به وعن أبي موسى وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة وعيسى بن حماد كلاهما عن الليث به.
(ذكر معناه) قوله ' أهدي ' على صيغة المجهول من الماضي وكان الذي أهداه إلى النبي
أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل وذكر أبو نعيم أنه أسلم وأهدى إلى النبي
حلة سيراء وقال ابن الأثير أهدى لرسول الله
وصالحه ولم يسلم وهذا لا خلاف فيه بين أهل السير ومن قال أنه أسلم فقد أخطأ خطأ ظاهر أو كان نصرانيا ولما صالحه النبي
عاد إلى حصنه وبقي فيه ثم أن خالدا أسره لما حاصر دومة الجندل أيام أبي بكر رضي الله عنه فقتله مشركا نصرانيا وأكيدر بضم الهمزة ودومة الجندل اسم حصن قال الجوهري أصحاب اللغة يقولون بضم الدال وأهل الحديث يفتحونها وهو اسم موضع فاصل بين الشام والعراق على سبعة مراحل من دمشق وعلى ثلاثة عشر مرحلة من المدينة قوله ' فروج حرير ' بالإضافة كما في ثوب خز وخاتم فضة ويجوز أن يكون حرير صفة لفروج والإعراب يحتمل ذلك والكلام في الرواية والظاهر أنها الأول قوله ' ثم انصرف ' أي من صلاته واستقبال القبلة قوله ' لا ينبغي هذا للمتقين ' أي للمتقين عن الكفر أي المؤمنين أو عن المعاصي كلها
97

أي الصالحين (فإن قلت) النساء المتقيات يدخلن فيهم مع أن الحرير حلال لهن (قلت) هذه مسألة مختلف فيها والأصح أن جمع المذكر السالم لا يدخل فيه النساء فلا يقتضي فيه الاشتراك ولئن سلمنا دخولهن فالحل لهن علم بدليل آخر
(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام) منها حرمة لبس الحرير للرجال في كل الأحوال إلا في صور تستثنى منها في الحرب يجوز لبسها للرجال عند أبي يوسف ومحمد. ومنها للجرب. ومنها لأجل البرد إذا لم يجد غيره وقد جوز طائفة من الظاهرية لبسه للرجال مطلقا وإليه ذهب عبد الله بن أبي مليكة واحتجوا في ذلك بحديث مسور بن مخرمة أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي على ما نذكره في موضعه وحجج الجمهور في ذلك كثيرة. منها الحديث المذكور وأخرج الطحاوي في هذا الباب عن خمسة عشر نفرا من الصحابة وهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية بن أبي سفيان وحذيفة بن اليمان وعمران بن الحصين والبراء بن عازب وعبد الله بن الزبير وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومسلمة بن مخلد وعقبة بن عامر الجهني وأبو أمامة وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم وفي الباب عن أم هانىء عن أبي يعلى الموصلي وأبي ريحانة عند أبي داود واسم أبي ريحانة شمعون وأبي موسى الأشعري عند الترمذي وأحاديث هؤلاء نسخت ما فيه الإباحة للبسه (فإن قلت) إذا كان حراما على الرجال فكيف لبسه رسول الله
(قلت) كان ذلك قبل التحريم وقال النووي ولعل أول النهي والتحريم كان حين نزعه ولهذا قال في حديث جابر الذي عند مسلم ' صلى في قبا ديباج ثم نزعه وقال نهاني عنه جبريل صلى الله عليه وسلم ' فيكون أول التحريم بهذا وجعل الكرماني هذا تخصيصا ولم يجعله نسخا حيث قال شرط النسخ أن يكون المنسوخ حكما شرعيا ثم قال ولئن سلم أنه شرعي فالنسخ هو رفع الحكم عن كل المكلفين وهذا إنما هو عن البعض فهو تخصيص (قلت) لبسه
حكم ثم نزعه حكم آخر ينسخ الأول فكما أن الثاني حكم شرعي كان الأول كذلك ولكنه نسخ وكان الثاني يعم الرجال والنساء لكن خرجت النساء بدليل آخر وذهبت طائفة
إلى تحريم الحرير للرجال والنساء جميعا واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي قال حدثنا أبو بكرة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال سألت امرأة ابن عمر قالت أتحلى بالذهب قال نعم قالت ما تقول في الحرير فقال يكره ذلك قالت ما يكره أخبرني أحلال أم حرام قال كنا نتحدث أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ' وبما رواه أيضا عن يحيى بن نصر حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا عشانة المعافري حدثه أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يخبر ' أن رسول الله
كان يمنع أهله الحلية والحرير ويقول إن كنتن تحببن حلية الجنة وحريرها فلا تلبسنها في الدنيا ' وبما رواه من حديث الأزرق بن قيس قال ' سمعت عبد الله بن الزبير يخطب يوم التروية وهو يقول يا أيها الناس لا تلبسوا الحرير ولا تلبسوها نساءكم ولا أبناءكم فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ' وأخرجه مسلم أيضا * وأجاب الجمهور عن ذلك بأن ما روي عن ابن عمر محمول على الرجال خاصة يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله
' الذهب والحرير حل لإناث أمتي وحرام على ذكورها ' رواه الطحاوي والطبراني وما روي أيضا عن علي بن أبي طالب ' أن رسول الله
أخذ حريرا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا فجعله في شماله ثم قال إن هذين حرام على ذكور أمتي ' أخرجه الطحاوي وابن ماجة وما روي أيضا عن أبي موسى الأشعري عن النبي
أنه قال ' الحرير والذهب حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها ' أخرجه الطحاوي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي الباب أيضا عن عبد الله بن عمرو وعقبة بن عامر وبأن ما روي عن عقبة تخالفه روايته الأخرى وهي ' سمعت رسول الله
يقول الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ' وبأن ما روي عن ابن الزبير بأنه لم يبلغه الحديث المخصص لعموم الحرمة في قوله ' من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ' * وقال ابن العربي اختلف العلماء في لباس الحرير على عشرة أقوال: الأول محرم بكل حال. والثاني محرم إلا في الحرب. والثالث يحرم إلا في السفر. والرابع يحرم إلا في المرض. والخامس يحرم إلا في الغزو. والسادس يحرم إلا في العلم. والسابع يحرم على الرجال والنساء. والثامن يحرم لبسه من فوق دون لبسه من أسفل وهو الفرش قاله أبو حنيفة وابن الماجشون. والتاسع مباح بكل حال. والعاشر يحرم وإن خلط مع غيره كالخز. ومنها ما احتج به
98

بعضهم في جواز الصلاة في الثياب الحرير لكونه
لم يعد تلك الصلاة ولا حجة لهم في ذلك لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم أما بعد ففيه اختلاف العلماء فقال أصحابنا تصح صلاته ولكنها تكره ويأثم لارتكابه الحرام وبه قال الشافعي وأبو ثور وقال ابن القاسم عن مالك من صلى في ثوب حرير يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره وعليه جل أصحابه وقال أشهب لا إعادة عليه في الوقت ولا في غيره وهو قول أصبغ وخفف ابن الماجشون لباسه في الحرب والصلاة للترهيب على العدو والمباهات وقال آخرون إن صلى فيه وهو يعلم أن ذلك لا يجوز يعيد. ومنها أن فيه جواز قبول هدية المشرك للإمام لمصلحة يراها
71
((باب الصلاة في الثوب الأحمر))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في الثوب الأحمر، يعني: تجوز. وقال بعضهم: يشير إلى الجواز، والخلاف في ذلك مع الحنفية. قلت: لا خلاف للحنيفة في جواز ذلك، ولو عرف هذا القائل مذهب الحنفية لما قال ذلك، ولم يكتف بهذا حتى قال: وتأولوا حديث الباب بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر، ولا يحتاج إلى هذا التأويل، لأنهم لم يقولوا بحرمة لبس الأحمر حتى تأولوا هذا، وإنما قالوا: مكروه لحديث آخر، وهو نهيه عن لبس المعصفر، والعمل بما روي من الحديثين أولى من العمل بأحدهما، فاحتجوا بالأول على الجواز، وبالثاني على الكراهة. وقال أيضا: ومن أدلتهم ما أخرجه أبو داود من حديث عبد ا بن عمرو قال: (مر بالنبي رجل وعليه ثوبان أحمران، فسلم عليه فلم يرد عليه). وهو حديث ضعيف الإسناد. قلت: عرق العصبية حين تحرك حمله على أن سكت عن قول الترمذي، عقيب إخراجه هذا الحديث: هذا حديث حسن.
67324 ح دثنا محمد بن عرعرة قال حدثني عمر بن أبي زائدة عن عون ابن أبي جحيفة عن أبيه قال رأيت رسول الله في قبة حمراء من أدم ورأيت بلالا أخذ وضوء رسول الله ورأيت الناس يبتدرون ذاك الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به ومن لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها وخرج النبي في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العنزة بالناس ركعتين ورأيت الناس والدواب يمرون من بين يدي العنزة..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: محمد بن عرعرة، بالمهملتين المفتوحتين وسكون الراء الأولى، مر في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله. الثاني: عمر بن أبي زائدة، أخو زكريا الهمداني الكوفي، وعمر بدون: الواو. الثالث: عون، بالنون في آخره: ابن أبي جحيفة. الرابع: أبوه أبو جحيفة، بضم الجيم وفتح الحاء المهلة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الفاء وفي آخره هاء: واسمه وهب بن عبد ا السوائي، بضم السين المهملة وتخفيف الواو وبالهمزة بعد الألف: الكوفي، مر في كتاب العلم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول. وفيه: أن رواته ما بين كوفي وبصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن محمد بن عرعرة عن عون به، وفي اللباس أيضا عن إسحاق عن النضر بن شميل عنه ببعضه. وأخرجه أيضا في باب سترة الإمام سترة من خلفه، وبعده بقليل في باب الصلاة إلى العنزة. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن حاتم عن بهز عنه، وأخرجه أيضا عن محمد بن مثنى ومحمد بن بشار، وعن زهير بن حرب. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري عن وكيع. وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق. وأخرجه النسائي في الزينة عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام عن إسحاق الأزرق. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أيوب بن محمد الهاشمي عن عبد الواحد بن زياد.
99

ذكر معانيه قوله: (في قبة حمراء من أدم) قال الجوهري: القبة من البناء، والجمع: قبب وقباب قلت: المراد من القبة هنا هي التي تعمل من الجلد، وقد فسر ذلك بكلمة: من، البيانية، والأدم، بفتح الهمزة والدال جمع: الأديم. وفي (المحكم) الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر، وقيل: هو المدبوغ. وقيل: هو بعد الأفيق، وذلك إذا تم واحمر، والأفيق: هو الجلد الذي لم يتم دباغه. وقيل: هو ما دبغ بغير القرظ، قاله ابن الأثير. والأدم اسم الجمع عند سيبويه. والأدام جمع أديم: كيتيم وأيتام، وإن كان هذا في الصفة أكثر، وقد يجوز أن يكون جمع: أدم. وفي (المخصص): عن أبي حنيفة: إذا رشف الجلد وبسط حتى يبالغ فيه ما قبل من الدباغ فهو حينئذ أديم، وأدم وأدمة. وفي (نوادر اللحياني) من خط الحافظ: الأدم والأدم جمع الأديم، وهو الجلد. وفي (الجامع): الأديم باطن الجلد. ورؤية أبي جيحيفة النبي كانت بالأبطح بمكة، صرح بذلك في رواية مسلم: (أتيت النبي بمكة وهو بالأبطح). وهو الموضع العروف، ويقال له: البطحاء، ويقال: إنه إلى منى أقرب، وهو: المحصب، وهو: خيف بني كنانة. وزعم بعضهم: أنه ذو طوى وليس كذلك، كما نبه عليه ابن قرقول، وعند النسائي: (وهو في قبة حمراء في نحو من أربعين رجلا).
قوله: (وضوء رسول ا) بفتح الواو: هو الماء الذي يتوضأ به. وقوله: (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون إليه تبركا بآثاره الشريفة. وفي رواية مسلم: (وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك). وفي رواية: (فأخرج فضل وضوء رسول الله فابتدره الناس، فنلت منه شيئا). قوله: (ذلك) ويروى: (ذاك الوضوء). قوله: (من بلل يد صاحبه) ويروى: (من بلال يد صاحبه). قوله: (عنزة) بفتح العين المهملة والنون والزاي، وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئا. وفيها سنان مثل سنان الرمح، والعكازة قريب منها. قوله: (في حلة حمراء) في موضع النصب على الحال، والحلة: ثوبان: إزار ورداء، وقيل: أن يكون ثوبين من جنس واحد سميا بذلك، لأن كل واحد منهما يحل على الآخر. وقيل: أصل تسميتها بهذا إذا كان الثوبان جديدين، فما حل طيهما فقيل لهما: حلة، لهذا، ثم استمر عليهما الاسم. وقال ابن الأثير: الحلة واحدة الحلل، وهي: برود اليمن، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. وقال غيره: والجمع: حلل وحلال، وحلله الحلة: ألبسه إياها. وفي رواية أبي داود: (وعليه حلة حمراء برود يمانية قطري). قوله: (برود) جمع: برد، مرفوع لأنه صفة للحلة. وقوله: (يمانية) صفة للبرود أي منسوبة إلى اليمن. قوله (قطري) بكسر القاف وسكون الطاء، والأصل: قطري، بفتح القاف والطاء لأنه نسبة إلى؛ قطر، بلد بين عمان وسيف البحر، ففي النسبة خففوها وكسروا القاف وسكنوا الطاء، ويقال: القطري، ضرب من البرود فيها حمرة، ويقال: ثياب حمر لها أعلام فيها بعض الخشونة. وقيل: حلل جياد تحمل من قبل البحرين، وإنما لم يقل: قطرية، مع أن التطابق بين الصفة والموصوف شرط لأنه بكثرة الاستعمال صار كالاسم. لذلك النوع من الحلل، ووصف الحلة بثلاث صفات: الأولى: صفة الذات وهي قوله: (حمراء) والثانية: صفة الجنس وهي قوله: (برود) بين به أن جنس هذه الحلة الحمراء من البرود اليمانية. والثالثة: صفة النوع، وهي قوله: (قطري)، لأن البرود اليمانية أنواع، نوع منها قطري بينه بقوله: (قطري). وقيل: إنما لبس النبي الحلة الحمراء في السفر ليتأهب للعدو، ويجوز أن يلبس في الغزو ما لا يلبس في غيره. قلت: فيه نظر، لأنه لم يكن في هذا السفر للغزو، لأنه كان عقيب حجة الوداع، ولم يبق له غزو إذ ذاك، وكأنه هذا القائل نقل عن بعض الحنفية أنه ذهب إلى عدم جواز لبس الثوب الأحمر، ثم لما أوردوا عليه ما روي في هذا الحديث أجاب بما ذكرنا. قلت: لا النقل عنه صحيح، ولا هو مذهب الحنفية، فلا يحتاج إلى الجواب المذكور. قوله: (مشمرا) بكسر الميم الثانية، نصب على الحال من النبي. يقال: شمر إزاره تشميرا، أي: رفعه، وشمر عن ساقه، وشمر في أمره أي: خف، والمعنى: رفعها إلى أنصاف ساقيه، كما جاء في رواية مسلم؛ (كأني أنظر إلي بياض ساقيه). قوله: (صلى بالناس) صلاته هذه هي صلاة الظهر، وفي رواية مسلم: (فتقدم فصلى الظهر ركعتين، ثم صلى العصر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة). قوله: (يمرون بين يدي العنزة)، وفي رواية: (تمر من ورائها المرأة). وفي لفظ: (يمر بين يديه الحمار والكلب لا يمنع).
ذكر استنباط الأحكام منه: فيه: جواز لبس الثوب الأحمر والصلاة فيه، والباب معقود عليه، وقد مر الكلام فيه عن قريب. وفيه: جواز ضرب الخيام والقباب. وفيه: التبرك بآثار الصالحين. وفيه: نصب علامة بين يدي المصلي في الصحراء. وفيه: جواز
100

قصر الصلاة في السفر، وهو الأفضل عند أصحابنا، والذي في مسلم يدل عليه. وفيه: جواز المرور وراء سترة المصلي، وقال ابن بطال: فيه: أنه يجوز لباس الثياب الملونة للسيد الكبير والزاهد في الدنيا، والحمرة أشهر الملونات وأجل الزينة في الدنيا. وفيه: طهارة الماء المستعمل. قيل: فيه حجة على الحنفية في قولهم بنجاسة الماء المستعمل. قلت: ليس كذلك، فإن المذهب أن الماء المستعمل طاهر حتى يجوز شربه والتعجين به، غير أنه ليس بطهور، فلا يجوز به الوضوء ولا الاغتسال، وكونه نجسا رواية عن أبي حنيفة وليس العمل عليها، على أن حكم النجاسة في هذه الرواية باعتبار إزالة الآثام النجسة عن البدن المذنب فيتنجس حكما، بخلاف فضل وضوء النبي فإنه طاهر من بدن طاهر وهو طهور أيضا أطهر من كل طاهر وأطيب.
81
((باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في المنبر. إلى آخره، يعني: يجوز، ولما كان فيه خلاف لبعض التابعين، وللمالكية في المكان المرتفع لمن كان إماما لم يصرح بالجواز وعدمه، ولكن مراده الجواز. قوله: (في المنبر) كان ينبغي أن يقول: على المنبر، وحديث الباب يدل عليه، ولكن كلمة. في، تجيء بمعنى: على، كما في قوله تعالى: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * (طه: 17) والمنبر، بكسر الميم، من: نبرت الشيء إذا رفعته، والقياس فيه فتح الميم لأن الكسرة علامة الآلة، ولكنه سماعي، و: (السطوح) جمع سطح البيت، و: (الخشب) بفتحتين وبضمتين أيضا.
قال أبو عبد الله.
هو البخاري نفسه.
ولم ير الحسن بأسا أن يصلى على الجمد والقناطر وإن جري تحتها بول أو فوقها أو أمامها إذا كان بينهما سترة.
مطابقة هذا الأثر للترجمة تأتي في القناطر، والمراد من الحسن هو: البصري.
قوله: (على الجمد)، بفتح الجيم وسكون الميم وفي آخره دال مهملة. قال السفاقسي: الجمد، بفتح الجيم وضمها: مكان صلب مرتفع، وزعم ابن قرقول أن في كتاب الأصيلي وأبي ذر بفتح الميم. قال: والصواب سكونها، وهو الماء الجليد من شدة البرد. وفي (المحكم): الجمد الثلج، وفي (المثنى) لابن عديس: الجمد، بالفتح والإسكان: الثلج. قال أبو عبد ا موسى بن جعفر: الجمد، محرك الميم: الثلج الذي يسقط من السماء. وقال غيره: الجمد والجمد بالفتح والضم، والجمد بضمتين: ما ارتفع من الأرض وفي (ديوان الأدب) للفارابي: الجمد ما جمد من الماء، وهو نقيض الذوب، وهو مصدر في الأصل. وفي (الصحاح) الجمد، بالتحريك جمع؛ جامد، مثل: خادم وخدم، والجمد والجمد مثل: عسر وعسر، مكان صلب مرتفع، والجمع: أجماد وجماد، مثل: رمح وأرماح ورماح. قوله: (والقناطر) جمع قنطرة. قال ابن سيده: هي ما ارتفع من البنيان، وقال القزاز: القنطرة معروفة عند العرب. قال الجوهري: هي الجسر قلت: القنطرة ما تبنى بالحجارة، والجسر يعمل من الخشب أو التراب.
قوله: (وإن جرى تحتها بول) يتعلق بالقناطر فقط ظاهرا، قاله الكرماني. قلت: يجوز أن يتعلق بالجمد، لأن الجمد في الأصل ماء فبشدة البرد يجمد، وربما يكون ماء النهر يجمد فيصير كالحجر حتى يمشي عليه الناس، فلو صلى شخص عليه وكان تحته بول أو نحوه ولا يضر صلاته. فإن قلت: على هذا كيف يرجع الضمير في (تحتها) إلى الجمد وهو غير مؤنث؟ قلت: قد مر أن الجوهري قال: إن الجمد جمع جامد، فإذا كان جمعا يجوز إعادة الضمير المؤنث إليه، وكذلك الضمير في: (فوقها) و (أمامها) يجوز أن يرجع إلى القناطر بحسب الظاهر، وإلى الجمد بالاعتبار المذكور، والمراد من أمامها: قدامها. وقال بعضهم: الجمد الماء إذا جمد، وهو مناسب لأثر ابن عمر الآتي أنه صلى على الثلج.
قلت: إن لم يقيد الثلج بكونه متجمدا متلبدا لا تجوز الصلاة عليه فلا يكون مناسبا له، وفي (المحتبى): سجد على الثلج أو الحشيش الكثير أو القطن المحلوج يجوز إن اعتمد حتى استقرت جبهته ووجد حجم الأرض وإلا فلا. وفي (فتاوى أبي حفص): لا بأس أن يصلي على الجمد والبر والشعير والتين والذرة، ولا يجوز على الأرز لأنه لا يستمسك، ولا يجوز على الثلج المتجافي والحشيش وما أشبهه حتى يلبده فيجمد حجمه. قوله: (إذا كان بينهما سترة) قال الكرماني: أي: بين القناطر والبول، أو؛ بين المصلي والبول، وهذا التقييد مختص بلفظ: (بأمامها) دون (أخويها). قلت: المصلي غير مذكور إلا أن يقال: إن قوله: أن يصلي، يدل على المصلى، والمراد من السترة أن يكون المانع بينه وبين النجاسة إذا كانت قدامه، ولم يعين حد ذلك، والظاهر أن المراد منه أن لا يلاقي النجاسة سواء كانت قريبة منه أو بعيدة، وقال ابن حبيب، من المالكية. إن تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه أعاد إلا أن تكون بعيدة
101

جدا. وفي (المدونة): من صلى وأمامه جدار أو مرحاض أجزأه.
وصلى أبو هريرة على ظهر المسجد بصلاة الإمام.
مطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة وهي في قوله: (والسطوح). وقوله: (على ظهر المسجد) رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: (على سقف المسجد)، ووصل ابن أبي شيبة هذا الأثر عن وكيع عن ابن أبي ذئب عن صالح، مولى التوءمة، قال: (صليت مع أبي هريرة فوق المسجد بصلاة الإمام وهو أسفل). وصالح تلكم فيه غير واحد من الأئمة، ولكن رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن أبي هريرة فتقوى بذلك، فلأجل ذلك ذكره البخاري بصيغة الجزم، وروى ابن أبي شيبة عن أبي عامر عن سعيد بن مسلم، قال: (رأيت سالم بن عبد ا يصلي فوق ظهر المسجد صلاة المغرب ومعه رجل آخر يعني، ويأتم بالإمام). وروي عن محمد بن عدي عن ابن عون قال: سئل محمد عن الرجل يكون على ظهر بيت يصلي بصلاة الإمام في رمضان، فقال: لا أعلم به بأسا إلا أن يكون بين يدي الإمام. وقال الشافعي: يكره أن يكون موضع الإمام أو المأموم أعلى من موضع الآخر إلا إذا أراد تعليم أفعال الصلاة، أو أراد المأموم تبليغ القوم. وقال في (المهذب): إذ كره أن يعلو الإمام فالمأموم أولى، وعندنا أيضا يكره أن يكون القوم أعلى من الإمام. وقال ابن حزم؛ وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز. قلت: ليس مذهب أبي حنيفة هذا، ومذهبه أنه يجوز ولكن يكره. وقال شيخ الإسلام: إنما يكره إذا لم يكن من عذر، أما إذا كان من عذر فلا يكره، كما في الجمعة إذا كان القوم على الرف وبعضهم على الأرض، والرف، بتشديد الفاء: شبه الطاق، قاله الجوهري. وعن الطحاوي: إنه لا يكره، وعليه عامة المشايخ.
وصلى ابن عمر على الثلج.
وكان الثلج متلبدا لأنه إذا كان متجافيا لا تجوز كما ذكرنا، وليس لهذا الأثر مطابقة للترجمة إلا إذا شرطنا التلبد لأنه حينئذ يكون متحجرا فيشبه السطح أو الخشب.
77334 ح دثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا أبو حازم قال سألوا سهل بن سعد من أي شيء المنبر فقال ما بقي بالناس أعلم مني هو من أثل الغابة عمله فلان مولى فلانة لرسول الله وقام عليه رسول الله حين عمل ووضع فاستقبل القبلة كبر وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض ثم عاد إلى المنبر ثم قرأ ثم ركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه. (الحديث 773 أطرافه في: 844، 719، 4902، 9652).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: علي بن عبد ا هو ابن المديني. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: أبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي: سلمة بن دينار. الرابع: سهل بن سعد الساعدي، آخر من مات من الصحابة بالمدينة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وصيغة الإخبار كذلك في موضع. وفيه: السؤال. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن قتيبة، وكذلك أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن قتيبة، وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن علي بن المديني، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أحمد بن ثابت الجحدري عنه به.
ذكر لغاته ومعانيه. قوله: (من أي شيء) أي: من أي عود، واللام في (المنبر) للعهد أي: عن منبره عليه الصلاة والسلام. وفي رواية أبي داود: (أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر، مم عوده؟) أي: وقد شكوا في منبر النبي من أي شيء كان عوده؟ قوله: (ما بقي بالناس) أي في الناس ويروى كذلك عن الكشمهيني قوله: (هو)، مبتدأ وقوله: (من أثل الغابة)، خبره وفي رواية أبي داود: (من طرفاء الغابة)، وفسر الخطابي: الأثل: بالطرفاء، وقال ابن سيده: الأثل يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه. وقال أبو زياد: من العضاه أثل، وهو طوال في السماء ليس له ورق ينبت مستقيم الخشبة، وخشبه
102

جيد يحمل إلى القرى فيبنى عليه بيوت المدر، ورقه هدي رقاق وليس له شوك، ومنه تصنع القصاع والأواني الصغار والكبار والمكاييل والأبواب، وهو النضار. وقال أبو عمر: وهو أجود الخشب للآنية، وأجود النضار الورس لصفرته، ومنبر رسول الله نضار. وفي (الواعي): الأثلة خمصة مثل الأشنان ولها حب مثل حب التنوم ولا ورق لها وإنما هي أشنانة يغسل بها القصارون، غير أنها ألين من الأشنان. وقال القزاز: هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء وليس به، وهو أجود منه عودا، ومنه تصنع قداح الميسر. والتنوم، بفتح التاء المثناة من فوق وضم النون المشددة وبعد الواو الساكنة ميم: وهو نوع من نبات الأرض فيه ثمر وفي ثمره سواد قليل.
و: الغابة، بغين معجمة وباء موحدة: أرض على تسعة أميال من المدينة كانت إبل النبي مقيمة بها للرعي وبها وقعت قصة العرنين الذين أغاروا على سرحه، وقال ياقوت: بينها وبين المدينة أربعة أميال. وقال البكري: هما غابتان عليا وسفلى. وقال الزمخشري: الغابة بريد من المدينة من طريق الشام. قال الواقدي، ومنها صنع المنبر. وفي (الجامع): كل شجر ملتف فهو غابة. وفي (المحكم): الغابة الأجمة التي طالت ولها أطراف مرتفعة باسقة. وقال أبو حنيفة: هي أجمة القصب، قال: وقد جعلت جماعة الشجر غابا مأخوذ من الغيابة، والجمع: غابات وغياب، و: الطرفاء، بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين ممدودة: شجر من شجر البادية واحدها: طرفة، مثل: قصبة وقصباء، وقال سيبويه: الطرفاء واحد وجمع. قوله: (عمله فلان) بالتنوين لأنه منصرف، لأنه كناية عن علم المذكر بخلاف: فلانة، فإنه كناية عن علم المؤنث، والمانع من صرفه وجود العلتين وهما: العلمية والتأنيث، واختلفوا في اسم: فلان، الذي هو نجار منبره، ففي (كتاب الصحابة) لابن أمين الطليطلي: إن اسم هذا النجار: قبيصة المخزومي. قال: ويقال: ميمون. وقال: وقيل: صلاح غلام العباس ابن عبد المطلب، وقال ابن بشكوال: وقيل: ميناء. وقيل: إبراهيم. وقيل: باقوم، بالميم في آخره. وقال ابن الأثير: كان روميا غلاما لسعيد بن العاص مات في حياة النبي، وروى أبو سعد في (شرف المصطفى) من طريق ابن لهيعة: عن عمارة بن غزية عن بعاس بن سهل عن أبيه قال: كان بالمدينة نجار واحد يقال له ميمون، فذكر قصة المنبر. وقال ابن التين: عمله غلام لسعد بن عبادة. وقيل: لامرأة من الأنصار وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود عن نافع: (عن ابن عمر أن النبي، لما بدا قال له تميم الداري ألا اتخذ لك منبرا يا رسول ا تجمع أو تحمل عظامك؟. قال: بلى، فاتخذ له منبرا مرقاتين). وفي (طبقات ابن سعد) من حديث أبي هريرة وغيره، قالوا: (كان النبي، يخطب يوم الجمعة إلى جذع فقال: إن القيام يشق عليه، فقال تميم الداري ألا أعمل لك منبرا كما رأيته بالشام؟ فشاور النبي، المسلمين في ذلك فروا أن يتخذه، فقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له: كلاب، أعمل الناس. فقال النبي: مره أن يعمله، فعلمه درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه). وعند ابن سعد أيضا بسند صحيح: (إن الصحابة قالوا: يا رسول ا إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت قال: ما شئتم؟ قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذاك النجار إلى الغابتين، فقطعت هذا المنبر من أثله). وفي لفظ: (وحمل سهل منهن خشبة).
قوله: (مولى فلانة)، لم يعرف اسمها، ولكنها أنصارية، ووقع في (الدلائل) لأبي موسى المدني، نقلا عن جعفر المستغفري: أنه قال في أسماء النساء من الصحابة: علاثة، بالعين المهملة وبالثاء المثلثة، ثم ساق هذا الحديث من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم، وقال فيه: (أرسل إلى علاثة امرأة) قد سماها سهل، ثم قال أبو موسى: صحف فيه جعفر أو شيخه، وإنما هي فلانة. وقال الحافظ الذهبي: علاثة، في حديث سهل: (أن مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا) وإنما هي فلانة، وقال الكرماني: قيل في فلانة: اسمها عائشة الأنصارية، وقال بعضهم: وأظنه صحف المصحف قلت: هذا الطبراني روى في معجمه الأوسط من
حديث جابر رضي ا تعالى عنه، (أن رسول ا عليه الصلاة والسلام، كان يصلي إلى سارية المسجد ويخطب إليها ويعتمد عليها، وأمرت عائشة فصنعت له منبره هذا). انتهى. وبه يستأنس أن فلانة هي: عائشة، المذكورة. ولا سيما قال قائله: الأنصارية، ولا يستعبد هذا، وإن كان إسناد الحديث ضعيفا فحينئذ إن المصحف من قال: علاثة، لا من قال: عائشة الأنصارية. وقد جاء في الرواية في الصحيح: (أرسل، أي: النبي، إلى فلانة سماها سهل مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثم جاء بها، فأرسلت
103

بها إلى رسول ا، فأمر بها فوضعت ههنا). وعن جابر: (إن امرأة قالت: يا رسول ا ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؟ فإن لي غلاما نجارا...) الحديث. وفي (الإكليل) للحاكم: عن يزيد بن رومان: (كان المنبر ثلاث درجات، فزاد به معاوية، لعله قال: جعله ست درجات، وحوله عن مكانه فكسفت الشمس يومئذ). قال الحاكم: وقد أحرق الذي عمله معاوية، ورد منبر النبي إلى المكان الذي وضعه فيه. وفي (الطبقات): كان بينه وبين الحائط ممر الشاة. وقيل في (الإكليل) أيضا: من حديث المبارك بن فضالة. عن الحسن عن أنس رضي ا تعالى عنه (لما كثر الناس قال النبي: إبنوا لي منبرا، فبنوا له عتبتين). وقد ذكرنا عن أبي داود في حديث ابن عمر: مرقاتين، وهي تثنية مرقاة وهي: الدرجة. فإن قلت: في (الصحيح): ثلاث درجات، فما التوفيق بينهما؟ قلت: الذي قال: مرقاتين، كان لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها، والذي روى له ثلاثا اعتبرها. قوله: (فقام عليه)، ويروى: (فرقى عليه). قوله: (حين عمل ووضع)، كلاهما مجهولان. قوله: (كبر) بدون: الواو، لأنه جواب عن سؤال، كأنه قيل: ما عمل انتصاب بعد الاستقبال؟ قال: كبر. ويروى: (فكبر). وفي بعض النسخ: (وكبر)، بالواو. قوله: (ثم رجع القهقرى)، أي: رجع إلى ورائه. فإذا قلت: رجعت القهقرى فكأنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم، لأن القهقري ضرب من الرجوع، فيكون انتصاب على أنه مفعول مطلق، لكنه من غير لفظه، كما تقول: قعدت جلوسا. قوله: (على الأرض)، وذكر بعضه: بالأرض، وذكر الفرق بينما من حيث إن في الأول: لوحظ معنى الاستعلاء، وفي الثاني: معنى الإلصاق.
ذكر استنباط الأحكام منه: منها: أن فيه الدلالة على ما ترجم له وهي الصلاة على المنبر، وقد علل، صلى ا تعالى عليه وسلم، صلاته عليه وارتفاعه على المأمومين بالاتباع له والتعليم، فإذا ارتفع الإمام على المأموم فهو مكروه إلا لحاجة. كمثل هذا فيستحب، وبه قال الشافعي وأحمد والليث، وعن مالك والشافعي: المنع، وبه قال الأوزاعي، وحكى ابن حزم عن أبي حنيفة المنع، وهو غير صحيح، بل مذهبه الجواز مع الكراهة، وقد مر الكلام فيه عن قريب. وعن أصحابنا عن أبي حنيفة جوازه إذا كان الإمام مرتفعا مقدار قامة، وعن مالك: تجوز في الارتفاع اليسير.
ومنها: أن المشي اليسير في الصلاة لا يفسدها. وقال صاحب (المحيط): المشي في الصلاة خطوة لا يبطلها، وخطوتين أو أكثر يبطلها، فعلى هذا ينبغي أن تفسد هذه الصلاة على هذه الكيفية، ولكنا نقول: إذا كان لمصلحة ينبغي أن لا تفسد صلاته ولا تكره أيضا كما في مسألة من انفرد خلف الصف وحده، فإن له أن يجذب واحدا من الصف إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تفسد صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين. وقال الخطابي: فيه أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة، وكان المنبر ثلاث مراقي، ولعله إنما قام على الثانية منها فليس في نزوله وصعوده إلا خطوتان.
ومنها: أن فيه استحباب اتخاذ المنبر، وكون الخطيب على مرتفع كمنبر أو غيره.
ومنها: أن فيه تعليم الإمام المأمومين أفعال الصلاة، وأنه لا يقدح ذلك في صلاته، وليس من باب التشريك في العبادة، بل هو كرفع صوته بالتكبير ليسمعهم.
ومنها: أن فيه أن العالم إذا انفرد بعلم شيء يقول ذلك ليؤديه إلى حفظه.
قال أبو عبد الله قال علي بن عبد الله سألني أحمد بن حنبل رحمه الله عن هذا الحديث قال فإنما أردت أن النبي كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث قال فقلت إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرا فلم تسمعه منه قال لا.
13
50 أبو عبد ا هو: البخاري نفسه. وعلي بن المديني الإمام الحجة شيخه، وأحمد بن حنبل الإمام الجليل المشهورة آثاره في الإسلام المذكورة مقاماته في الدين، قال ابن راهويه: هو حجة بين ا وبين عباده في أرضه، مات ببغدا سنة إحدى وأربعين ومائتين. قوله: (بهذا الحديث) أي: بدلالة هذا الحديث، وجوز العلو بقدر درجات المنبر. وقال بعض الشافعية: لو كان الإمام على رأس منارة المسجد، والمأموم في قعر بئر، صح الاقتداء. قوله: (قال: فقلت): أي: قال علي بن المديني لأحمد بن
104

حنبل. وفي بعض النسخ: (قال: قلت)، بدون: الفاء. قوله: (إن سفيان)،، وفي بعض النسخ: (فإن سفيان) بالفاء. قوله: (يسأل)، على صيغة المجهول. قوله: (فلم تسمعه) متضمن للاستفهام بدليل الجواب بكلمة: لا، ثم إن المنفي هو جميع الحديث لأنه صريح في ذلك، ولا يلزم من ذلك عدم سماع البعض، والدليل على ذلك أن أحمد قد أخرج في مسنده عن ابن عيينة بهذا الإسناد من هذا الحديث قول سهل: كان المنبر من أثل الغابة فقط.
87344 ح دثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه وآلى من نسائه شهرا فجلس في مشربة له درجتها من جذوع فأتاه أصحابه يعودنه فصلى بهم جالسا وهم قيام فلما سلم قال (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وإن صلى قائما فصلوا قياما ونزل لتسع وعشرين فقالوا يا رسول الله إنك آليت شهرا فقال إن الشهر تسع وعشرون) (الحديث 873 أطرافه في: 986، 237، 337، 508، 4111، 1191، 9642، 1025، 9825، 4866).
مطابقة الحديث للترجمة في صلاته، عليه الصلاة والسلام، بأصحابه على ألواح المشربة وخشبها، والخشب مذكور في الترجمة، قاله ابن بطال، واعترض عليه الكرماني بقوله: ليس في الحديث ما يدل على أنه صلى على الخشب، إذ المعلوم منه أن درجها من جذوع النخل لا نفسها، ثم قال: ويحتمل أنه ذكره لغرض بيان الصلاة على السطح، إذ يطلق السطح على أرض الغرفة. قلت: الظاهر أن الغرفة كانت من خشب، فذكر كون درجها من النخل لا يستلزم أن تكون البقية من البناء، فالاحتمال الذي ذكره ليس بأقوى من الاحتمال الذي ذكرناه.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: محمد بن عبد الرحيم البغدادي الحافظ المعروف بصاعقة. الثاني: يزيد بن هارون، تكرر ذكره. الثالث: حميد، بضم الحاء: الطويل. الرابع: أنس بن مالك رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته ما بين بغدادي وواسطي وبصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن عبد ا بن المثنى، وفي المظالم عن محمد هو: ابن سلام، وفي الصوم وفي النذور عن عبد العزيز بن عبد ا، وفي النكاح عن خالد بن مخلد، وفي الطلاق عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه، وهو عبد الحميد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، والنسائي فيه عن قتيبة، وأخرجه ابن ماجة.
ذكر لغاته ومعانيه وإعرابه: قوله: (سقط عن فرس)، وفي رواية أبي داود: (فصرع عنه)، ومعناه: سقط، أيضا وكان ذلك في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. قوله: (فجحشت)، بضم الجيم وكسر الحاء المهملة: من الجحش، وهو سجح الجلد وهو الخدش، يقال: جحشه يجحشه جحشا: خدشه. وقيل: أن يصيبه شيء ينسجح كالخدش أو أكير من ذلك. وقيل: الجحش فوق الخدش. وقال الخطابي: معناه أنه قد انسجح جلده، وقد يكون ما أصاب رسول الله من ذلك السقوط مع الخدش رض في الأعضاء وتوجع، فلذلك منعه القيام إلى الصلاة. قوله: (أو كتفه) على الشك من الراوي، ويروى: بالواو، الواصلة. وفي رواية للبخاري: (فجحش شقه الأيمن). وفي لفظ عند أحمد عن حميد عن أنس بسند صحيح: (انفكت قدمه). قوله: (وآلى من نسائه) أي: حلف أن لا يدخل عليهن شهرا، وليس المراد منه الإيلاء المتعارف بين الفقهاء وهو الحلف على ترك قربان امرأته أربعة أشهر أو أكثر منها، وعند مالك والشافعي وأحمد: لا بد من أكثر، والمولى من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه، فإن وطئها في المدة كفر لأنه حنث في يمينه وسقط الإيلاء، وإلا بانت بتطليقة واحدة، وكان الإيلاء طلاقا في الجاهلية، فغير الشرع حكمه، ويأتي حكمه في بابه إن شاء ا تعالى. والإيلاء: على وزن إفعال، هو: الحلف. يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى تأليا، وإلالية: اليمين، والجمع ألايا، كعطية وعطايا، وإنما عدي: آلى، بكلمة: من، وهو لا يعدى إلا بكلمة: على، لأنه ضمن فيه معنى البعد، ويجوز أن تكون: من، للتعليل مع أن الأصل فيه أن يكون للابتداء
105

أي: آلى من نسائه، أي بسبب نسائه ومن أجلهن.
قوله: (في مشربة) بفتح الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الراء وضمها: وهي الغرفة. وقيل: هي أعلى البيت، شبه الغرفة. وقيل: الخزانة، وهي بمنزلة السطح لما تحتها. قوله: (من جذوع النخل) جمع جذع، بكسر الجيم وسكون الذال وجمعه جذوع وأجذاع، قاله ابن دريد. وقال الأزهري في (التهذيب): ولا يتبين للنخلة جذع حتى يتبين ساقها. وفي (المحكم): الجذع ساق النخلة. قوله: (جالسا) حال. وقوله: (وهم قيام) جملة اسمية حالية، والقيام جمع قائم أو مصدر بمعنى اسم الفاعل. قوله: (إنما جعل الإمام) كلمة: إنما، للحصر لأجل الاهتمام والمبالغة، والمفعول الثاني لقوله: جعل، محذوف تقديره: إنما جعل الإمام إماما، والمفعول الأول قائم مقام الفاعل. قوله: (ليؤتم به) أي ليقتدى به ويتبع أفعاله.
قوله: (إن صلى قائما فصلوا قياما) مفهومه: إن صلى قاعدا يصلي المأموم أيضا قاعدا، وهو غير جائز، ولا يعمل به لأنه منسوخ لما ثبت أنه في آخر عمر صلى قاعدا وصلى القوم قائمين. فإن قلت: جاء في بعض الروايات: (فإن صلى قاعدا فصلوا قعودا). قلت: معناه: فصلوا قعودا إذا كنتم عاجزين عن القيام مثل الإمام، فهو من باب التخصيص، وهو منسوخ كما ذكرنا. قوله: (إن الشهر): اللام، فيه للعهد عن ذلك الشهر المعين، إذ كل الشهور لا يلزم أن تكون تسعا وعشرين.
ذكر استنباط الأحكام منه: منها: جواز الصلاة على السطح وعلى الخشب لأن المشربة بمنزلة السطح لما تحتها، والصلاة فيها كالصلاة على السطح، وبذلك قال جمهور العلماء. وكره الحسن وابن سيرين الصلاة على الألواح والأخشاب، وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي ا تعالى عنهم، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، وذكره أيضا عن مسروق أنه: كان يحمل لبنة في السفينة ليسجد عليها، وحكاه أيضا عن ابن سيرين بسند صحيح.
ومنها: أن فيه مشروعية اليمين، لأنه عليه الصلاة والسلام، آلى أن لا يدخل على نسائه شهرا.
ومنها: أن الشهر لا يأتي كاملا دائما، وإن من حلف على فعل شيء أو تركه في شهر كذا، وجاء الشهر تسعا وعشرين يوما، يخرج عن يمينه، فلو نذر صوم شهر بعينه فجاء الشهر تسعة وعشرين يوما لم يلزمه أكثر من ذلك، وإذا قال: علي صوم شهر من غير تعيين، كان عليه إكمال عدد ثلاثين يوما.
ومنها: ما احتج أحمد وإسحاق وابن حزم والأوزاعي ونفر من أهل الحديث: أن الإمام إذا صلى قاعدا يصلي من خلفه قعودا. وقال مالك: لا تجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائما ولا قاعدا. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأبو ثور وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما. وقال المرغيناني: الفرض والنفل سواء. والجواب عن الحديث من وجوه.
الأول: إنه منسوخ، وناسخه صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، بالناس في مرض موته قاعدا وهم قيام، وأبو بكر رضي ا تعالى عنه، قائم يعلمهم بأفعال صلاته بناء على أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموما في تلك الصلاة. فإن قلت: كيف وجه ذا النسخ وقد وقع في ذلك خلاف، وذلك أن هذا الحديث
الناسخ وهو حديث عائشة فيه أنه كان إماما وأبو بكر مأموما؟ وقد ورد فيه العكس كما أخرجه الترمذي والنسائي عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق (عن عائشة قالت؛ صلى رسول الله في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدا). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي أيضا عن حميد عن أنس قال: (آخر صلاة صلاها رسول الله مع القوم، صلى في ثوب واحد متوشحا خلف أبي بكر رضي ا تعالى عنه). قلت: مثل هذا ما يعارض ما وقع في الصحيح، مع أن العلماء جمعوا بينهما، فقال البيهقي في (المعرفة): ولا تعارض بين الحديثين، فإن الصلاة التي كان فيها النبي، إماما هي صلاة الظهر يوم السبت أو الأحد والتي كان فيها مأموما هي صلاة الصبح من يوم الاثنين، وهي آخر صلاة صلاها رسول ا، حتى خرج من الدنيا. قال: هذا لا يخالف ما ثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين، وكشفه الستر ثم إرخائه، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى، ثم إنه وجد في نفسه خفة فخرج فأدرك معه الركعة الثانية. وقال القاضي عياض: نسخ إمامة القاعد بقوله: (لا يؤمن أحد بعدي جالسا). وبفعل الخلفاء بعده، وإنه لم يؤم أحد منهم قاعدا. وإن كان النسخ لا يمكن بعد النبي فمثابرتهم على ذلك تشهد بصحة نهيه عن إمامة القاعد بعده. قلت:
106

هذا الحديث أخرجه الدارقطني ثم البيهقي في (سننيهما) عن جابر الجعفي عن الشعبي. وقال الدارقطيني: لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. وقال عبد الحق في (أحكامه): ورواه عن الجعفي مجالد وهو أيضا ضعيف.
الثاني: أنه كان مخصوصا بالنبي وفيه نظر، لأن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل كما عرف في الأصول.
الثالث: يحمل قوله: (فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا) على أنه إذا كان الإمام في حالة الجلوس فأجلسوا ولا تخالفوه بالقيام، وإذا صلى قائما فصلوا قياما: يعني إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله: (فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا). ولقائل أن يقول: لا يقوى الاحتجاج على أحمد بحديث عائشة المذكور أنه عليه الصلاة والسلام، صلى جالسا والناس خلفه قيام، بل ولا يصلح لأنه يجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائما. ثم قعد لعذر، ويجعلون هذا منه، سيما وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر رضي ا تعالى عنه، رواه الدارقطني في (سننه) وأحمد في (مسنده). فإن قلت: قال ابن القطان في كتابه (الوهم والإيهام): وهي رواية مرسلة، فإنها ليست من رواية ابن عباس عن النبي وإنما رواها ابن عباس عن أبيه العباس عن النبي، كذا رواه البزار في (مسنده) بسند فيه قيس بن الربيع وهو ضعيف، ثم ذكر له مثالب في دينه. قال: وكان ابن عباس كثيرا ما يرسل. قلت: رواه ابن ماجة من غير طريق قيس، فقال: حدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: (لما مرض رسول ا...) فذكره إلى أن قال: (قال ابن عباس: وأخذ رسول الله في القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر رضي ا عنه). وقال الخطابي: وذكر أبو داود هذا الحديث من رواية جابر وأبي هريرة وعائشة، ولم يذكر صلاة رسول الله آخر ما صلاها بالناس وهو قاعد والناس خلفه قيام، وهذا آخر الأمرين من فعله، ومن عادة أبي داود فيما أنشأه من أبواب هذا الكتاب أن يذكر الحديث في بابه، ويذكر الذي يعارضه في باب آخر على إثره، ولم أجده في شيء من النسخ فلست أدري كيف غفل عن ذكر هذه القصة وهي من أمهات السنن، وإليه ذهب أكثر الفقهاء. قلت: إما تركها سهوا أو غفلة أو كان رأيه في هذا الحكم مثل ما ذهب إليه الإمام أحمد، فلذلك لم يذكر ما ينقضه. وا تعالى أعلم.
ومنها: أن في قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) دليلا على وجوب المتابعة للإمام في الأفعال حتى في الموقف والنية. وقال الشافعي وطائفة: لا يضر اختلاف النية، وجعل الحديث مخصوصا بالأفعال الظاهرة. وقال أبو حنيفة ومالك: يضر اختلافهما، وجعلا اختلاف النيات داخلا تحت الحصر في الحديث. وقال مالك: لا يضر الاختلاف بالهيئة بالتقدم في الموقف، وجعل الحديث عاما فيما عدا ذلك.
ومنها: أن أبا حنيفة احتج بقوله: (فكبروا) على أن المقتدي يكبر مقارنا لتكبير الإمام لا يتقدم الإمام ولا يتأخر عنه، لأن: الفاء، للحال. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل أن يكبر بعد فراغ الإمام من التكبير، لأن الفاء للتعقيب وإن كبر مع الإمام أجزأه عند محمد رواية واحدة، وقد أساء. وكذلك في أصح الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية: لا يصير شارعا، ثم ينبغي أن يكون اقترانهما في التكبير على قوله كاقتران حركة الخاتم والإصبع، والبعدية على قولهما؛ أن يوصل ألف: ا، براء: أكبر، وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: قول أبي حنيفة أدق وأجود، وقولهما أرفق وأحوط، وقول الشافعي كقولهما. وقال الماوردي، في تكبيرة الإحرام قبل فراغ الإمام منها: لم تنعقد صلاته ولو ركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سابقه فقد أساء ولا تبطل صلاته، فإن سلم قبل إمامه بطلت صلاته إلا أن ينوي المفارقة ففيه خلاف مشهور.
ومنها: أن الفاء في قوله: (فاركعوا) وفي قوله: (فاسجدوا) تدل على التعقيب وتدل على أن المقتدي لا يجوز له أن يسبق الإمام بالركوع والسجود حتى إذا سبقه فيهما ولم يلحقه الإمام فسدت صلاته.
ومنها: أن فيه استحباب العبادة عند حصول الخدشة ونحوها.
ومنها: أن فيه جواز الصلاة جالسا عند العجز. وا أعلم.
91
((باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أصاب ثوب المصلي امرأته وهو في حالة السجود، هل تفسد صلاته أم لا؟ وظاهر حديث الباب يدل على صحة الصلاة، وكانت عادة
البخاري أن يأتي بمثل هذه العبارة في التراجم إذا كان في الحكم اختلاف، وهذا الحكم
107

ليس فيه اختلاف. فإن قلت: روي عن عمر بن عبد العزيز رضي ا تعالى عنه، أنه كان يؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فيسجد عليه. قلت: كان هذا منه على تقدير الصحة للمبالغة في التواضع والخشوع، لا على أنه كان لا يرى الصلاة على الخمرة، وكيف هذا وقد صلى عليها وهو أكثر تواضعا وأشد خضوعا؟ فإن قلت: روى ابن أبي شيبة عن عروة أنه كان يكره على كل شيء دون الأرض. قلت: لا حجة لأحد في خلاف ما فعله النبي، ويمكن أن يقال: إن مراده من الكراهة التنزيه، وكذا يقال في كل من روي عنه مثله.
97354 ح دثنا مسدد عن خالد قال حدثنا سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد عن ميمونة قالت كان رسول الله يصلي وأنا حذاءه وأنا حائض وربما أصابني ثوبه إذا سجد قالت وكان يصلي على الخمرة..
مطابقته للترجمة ظاهرة ذكر رجاله: وهم خمسة تقدم ذكرهم، وخالد هو ابن عبد ا الواسطي الطحان أبو الهيثم، وسليمان هو أبو إسحاق التابعي، وعبد ا بن شداد بن الهاد، وميمونة بنت الحارث أم المؤمنين.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري وواسطي وكوفي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن الحسن بن مدرك، وفي الصلاة أيضا عن عمرو بن زرارة وعن أبي النعمان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود فيه عن عمرو بن عون. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة به.
ذكر معناه وإعرابه. قوله: (يصلي) جملة في محل النصب على أنها خبر: كان. قوله: (وأنا حذاءه)، جملة اسمية وقعت حالا أي: والحال أنا بإزائه ومحاذيه، والحذاء والحذوة والحذة كلها بمعنى. قال الكرماني: حذاءه، نصب على الظرفية، ويروى: حذاؤه، بالرفع. قلت: الصحيح الرفع على الخبرية. قوله: (وأنا حائض) أيضا جملة اسمية وقعت حالا إما من الأحوال المترادفة أو من الأحوال المتداخلة الأولى: بالواو والضمير، والثانية: بالواو فقط. قوله: (وربما) كلمة ربما تحتمل التقليل حقيقة والتكثير مجازا. قوله: (على الخمرة)، بضم الخاء المعجمة وسكون الميم: سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط. قيل: سميت خمرة لأنها تستر وجه المصلي عن الأرض. ومنه سمي الخمار الذي يستر الرأس. وقال ابن بطال: الخمرة مصلى صغير ينسج من السعف، فإن كان كبيرا قدر طول الرجل أو أكثر فإنه يقال له حينئذ: حصير، ولا يقال له خمرة، وجمعها: خمر. وفي حديث ابن عباس: (جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول ا، على الخمرة التي كان قاعدا عليها، فأحرقت منها مثل موضع درهم). وهذا ظاهر في إطلاق الخمرة على الكبيرة من نوعها.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام. الأول: فيه جواز مخالطة الحائض. الثاني: فيه طهارة بدن الحائض وثوبها. الثالث: إذا أصاب ثوب المصلي المرأة لا يضر ذلك صلاته ولو كانت المرأة حائضا. الرابع: جواز الصلاة على الخمرة من غير كراهة، وعن ابن المسيب: الصلاة على الخمرة سنة، وقد فعل ذلك جابر وأبو ذر وزيد بن ثابت وابن عمر رضي ا تعالى عنهم. وقال الكرماني: وفيه: أن الصلاة لا تبطل بمحاذاة المصلي، وتبعه بعضهم فقال. وفيه: أن محاذاة المرأة لا تفسد الصلاة. قلت: قصدهما بذلك الغمز في مذهب أبي حنيفة في أن محاذاة المرأة للمصلي مفسدة لصلاة الرجل، ولكن هيهات لما قالا لأن المحاذاة المفسدة عنده أن يكون الرجل والمرأة مشتركين في الصلاة أداء وتحريمة، وهو أيضا يقول: إن المحاذاة المذكورة في هذا الحديث غير مفسدة، فحينئذ إطلاقهما الحكم فيه غير صحيح، وهو من ضربان عرق العصبية.
02
((باب الصلاة على الحصير))
أي: هذا باب في بيان الصلاة على الحصير، يعني جائزة، والحصير، بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين. وذكر ابن سيده
108

في (المحكم) و (المحيط) الأعظم: أنها سفيفة تصنع من بردى وأسل، ثم تفرش، سمي بذلك لأنه على وجه الأرض، ووجه الأرض يسمى حصيرا، والسفيفة، بفتح السين المهملة وبالفاءين: شيء يعمل من الخوص كالزنبيل؛ والأسل، بفتح الهمزة والسين المهملة وفي آخره لام. نبات له أغصان كثيرة دقاق لا ورق لها. وفي (الجمهرة): والحصير عربي، سمي حصيرا لانضمام بعضها إلى بعض. وقال الجوهري: الحصير البارية.
فإن قلت: ما المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله؟ قلت: قد ذكرت عند قوله: باب عقد الإزار على القفا، أن الأبواب المتعلقة بالثياب سبعة عشر بابا، والمناسبة بينها ظاهرة، غير أنه تخلل بين هذه الأبواب خمسة أبواب ليس لها تعلق بأحكام الثياب، وقد ذكرنا وجه تخللها والمناسبة بينها هناك فارجع إليه تظفر بجوابك.
وصلى جابر وأبو سعيد في السفينة قائما.
الكلام فيه من وجوه.
الأول في معناه: واسم أبي سعيد: سعد بن مالك الخدري. قوله: (في السفينة) هي: الفلك لأنها تسفن وجه الماء أي تقشره، فعيلة بمعنى فاعلة، والجمع سفائن وسفن وسفين. قوله: (قياما) جمع قائم وأراد به التثنية أي: قائمين، نصب على الحال وفي بعض النسخ: قائما، بالإفراد بتأويل كل منهما قائما.
الثاني: أن هذا تعليق وصله أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح: عن عبيد ا بن أبي عتبة مولى أنس، قال: (سافرت مع أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد ا
وأناس قد سماهم، قال: فكان إمامنا يصلي بنا في السفينة قائما، ونصلي خلفه قياما، ولو شئنا لأرفينا). أي: لأرسينا. يقال أرسى السفينة بالسين المهملة، وأرفى، بالفاء: إذا وقف بها على الشط. والبخاري اقتصر هنا على ذكر الاثنين، وهما: جابر وأبو سعيد الخدري رضي ا تعالى عنهما.
الثالث: في وجه مناسبة إدخال هذا الأثر في باب الصلاة على الحصير، فقال ابن المنير: لأنهما اشتركا في الصلاة على غير الأرض لئلا يتخيل أن مباشرة المصلي الأرض شرط من، قوله: عليه الصلاة والسلام، لمعاذ رضي ا تعالى عنه: (عفر وجهك في التراب). قلت: ثمة وجه أقوى مما ذكره في المناسبة وهو أن هذا الباب في الصلاة على الحصير، وفي الباب الذي قبله: وكان يصلي على الخمرة، وكل واحد من الحصير والخمرة يعمل من سعف النخل، ويسمى: سجادة، والسفينة أيضا مثل السجادة على وجه الماء، فكما أن المصلي يسجد على الخمرة والحصير دون الأرض، فكذلك الذي يصلي في السفينة يسجد على غير الأرض.
الرابع في استنباط الحكم منه: وهو أن الصلاة في السفينة إنما تجوز: إذا كان قائما. وقال أبو حنيفة: تجوز قائما وقاعدا بعذر وبغير عذر. وبه قال الحسن بن مالك وأبو قلابة وطاوس، روى عنه ابن أبي شيبة، وروى أيضا عن مجاهد أن جنادة بن أبي أمية قال: (كنا نغزو معه لكنا نصلي في السفينة قعودا)، أو لأن الغالب دوران الرأس فصار كالمحقق، والأولى أن يخرج إن استطاع الخروج منها، وقال أبو يوسف ومحمد: لا تجوز قاعدا إلا من عذر، لأن القيام ركن فلا يترك إلا من عذر، والخلاف في غير المربوطة، فلو كانت مربوطة لم تجز قاعدا إجماعا. وقيل: تجوز عنده في حالتي الإجراء والإرساء ويلزمه التوجه عند الافتتاح كلما دارت السفينة لأنها في حقه كالبيت، حتى لا يتطوع فيها موميا مع القدرة على الركوع والسجود، بخلاف راكب الدابة.
وقال الحسن تصلي قائما ما لم تشق على أصحابك تدور معها وإلا فقاعدا.
الحسن هو البصري، ووصل هذا التعليق ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا حفص عن عاصم عن الشعبي، والحسن وابن سيرين أنهم قالوا: صل في السفينة قائما. وقال الحسن: لا تشق على أصحابك، وفي رواية الربيع بن صبيح: أن الحسن ومحمدا قالا: يصلون فيها قياما جماعة، ويدورون مع القبلة حيث دارت. والبخاري اقتصر على الذكر عن الحسن. قوله: (تصلي) خطاب لمن سأله عن الصلاة في السفينة: هل يصلي قائما أو قاعدا؟ فأجاب له: (تصلي قائما) أي: حال كونك قائما (ما لم تشق على أصحابك تدور معها) أي: مع السفينة. قوله: (وإلا) أي؛ وإن شق على أصحابك القيام فقاعدا، أي: فصل حال كونك قاعدا، لأن الحرج مدفوع.
08364 ح دثنا عبد الله قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن
109

مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله لطعام صنعته له فأكل منه ثم قال: (قوموا فلأضلي لكم) قال أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله ركعتين ثم انصرف. (الحديث 083 أطرافه في: 727، 068، 178، 478، 4611).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: عبد ا بن يوسف التنيسي، والإمام مالك بن أنس وإسحاق بن عبد ا بن أبي طلحة، وربما يقال إسحاق بن أبي طلحة، بنسبته إلى جده، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري النجاري، وكان مالك لا يقدم على إسحاق أحد في الحديث، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. والرابع: أنس بن مالك خادم النبي. والخامس: جدته مليكة، بضم الميم، والآن يأتي بيانها مفصلا.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك. وفيه: العنعنة في موضعين وفيه: عن إسحاق بن عبد ا بن أبي طلحة، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني والحموي: عن إسحاق بن أبي طلحة بنسبته إلى جده. وفيه: الاختلاف في الضمير الذي في جدته. فقال ابن عبد البر وعبد الحق وعياض يعود على إسحاق، وصححه النووي، ويؤيده ما رواه أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا المثنى بن سعيد حدثنا قتادة عن أنس بن مالك: (أن النبي كان يزور أم سليم فتدركه الصلاة أحيانا فيصلي على بساط لنا، وهو حصير ننضحه بالماء). وأم سليم هي: أم أنس، وأمها مليكة بنت مالك بن عدي، وهي جدة أنس. واختلف في اسم: أم سليم، فقيل: سهلة. وقيل: رميلة. وقيل: رميثة. وقيل: الرميصاء. وقيل: الغميصاء. وقيل: أنيفة، بالنون والفاء مصغرة، وتزوج أم سليم: مالك بن النضر فولدت له أنس بن مالك، ثم خلف عليها أبو طلحة فولدت له: عبد ا وأبا عمير، وعبد ا هو والد إسحاق، راوي هذا الحديث عن عمه أخي أبيه لأمه: أنس بن مالك. وقال ابن سعد وابن منده وابن الحصار: يعود الضمير في جدته على أنس نفسه، ويؤيده ما ذكره أبو الشيخ الأصبهاني في الحادي عشر من (فوائد العراقيين): حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر، قال؛ حدثنا مقدم بن محمد بن يحيى عن عمه القاسم بن يحيى عن عبيد ا بن عمر عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس، قال: (أرسلت، جدتي إلى النبي واسمها مليكة فجاءنا فحضرت الصلاة فقمت إلى حصير لنا...) الحديث. ولا تنافي بين كون مليكة جدة أنس، وبين كونها جدة إسحاق.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن إسماعيل بن أبي أويس، وعن أبي نعيم وعن عبد ا بن محمد المسندي. وأخرجه مسلم فيه عن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي، والترمذي فيه عن إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى، والنسائي فيه عن قتيبة.
ذكر اختلاف ألفاظ هذا الحديث: وعند مسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله فنقوم خلفه، وكان بساطهم من جريد النخل). وعند ابن أبي شيبة: عن أنس بن مالك، قال: (صنع بعض عمومتي للنبي طعاما، فقال إني أحب أن تأكل في بيتي وتصلي فيه. قال:
فأتاه وفي البيت فحل من تلك الفحول، فأمر بجانب منه فكنس. ورش فصلى فصلينا معه). وعند النسائي: (أن أم سليم سألت رسول الله أن يأتيها فيصلي في بيتها فتتخذه مصلى، فأتاها فعمدت إلى حصير فنضحته فصلى عليه، وصلينا معه). وفي (الغرائب) للدارقطني: عن أنس، قال: (صنعت مليكة طعاما لرسول الله فأكل منه وأنا معه، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم قال لي: قم فتوضأ ومر العجوز فلتتوضأ ومر هذا اليتيم فليتوضأ. فلأصلي لكم. قال: فعمدت إلى حصير عندنا خلق قد اسود). وفي رواية: (قطعة حصير عندنا خلق). وفي (سنن البيهقي) من حديث أبي قلابة: عن أنس (أن النبي، كان يأتي أم سليم يقيل عندها، وكان يصلي على نطع، وكان كثير العرق فتتبع العرق من النطع فتجعله في القوارير مع الطيب، وكان يصلي على الخمرة).
110

ذكر معناه قوله: (لطعام) أي: لأجل طعام، وقال بعضهم: وهو مشعر بأن مجيئه كان لذلك لا ليصلي بهم ليتخذوا مكان صلاته مصلى لهم، كما في قصة عتبان بن مالك الآتية، وهذا هو السر في كونه بدأ في قصة عتبان بالصلاة قبل الطعام، وههنا بالطعام قبل الصلاة، فبدأ في كل منهما بأصل ما دعي له. قلت: لا مانع في الجمع بين الدعاء للطعام وبين الدعاء للصلاة، ولهذا صلى رسول الله في هذا الحديث، والظاهر أن قصد مليكة من دعوتها كان للصلاة، ولكنها جعلت الطعام مقدمة لها. وقوله: وهذا هو السر إلى آخره، فيه نظر، لأنه يحتمل أن الطعام كان قد حضر وتهيأ في دعوة مليكة، والطعام إذا حضر لا يؤخر فيقدم على الصلاة، وبدأ بالصلاة في قصة عتبان لعدم حضور الطعام.
قوله: (فنضحته) من النضح وهو الرش، وذلك إما لأجل تلبين الحصير، أو لإزالة الأوساخ منه لأنه أسود من كثرة الاستعمال. وقوله: (من طول ما لبس) كناية عنها وأصل هذه المادة تدل على مخالطة ومداخلة، وليس ههنا: لبس، من: لبست الثوب، وإنما هو من قولهم: لبست امرأة، أي: تمتعت بها زمانا، فحينئذ يكون معناه: قد اسود من كثرة ما تمتع به طول الزمان، ومن هذا يظهر لك بطلان قول بعضهم، وقد استدل به على منع افتراش الحرير لعموم النهي عن لبس الحرير، وقصد هذا القائل الغمز فيما قال أبو حنيفة من جواز افتراش الحرير وتوسده، ولكن الذي يدرك دقائق المعاني ومدارك الألفاظ العربية يعرف ذلك، ويقر بأن أبا حنيفة لا يذهب إلى شيء سدى. قوله: (واليتيم)، هو ضميرة بن أبي ضميرة، وأبو ضمير مولى رسول ا، كذا قاله الذهبي في (تجريد الصحابة)، ثم قال: له ولأبيه صحبة. وقال في (الكنى) أبو ضميرة مولى رسول ا، كان من حمير، اسمه سعد، وكذا قال البخاري: إن اسمه سعد الحميري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعيد الحميري هو جد حسين بن عبد ا بن ضميرة بن أبي ضميرة. انتهى. ويقال: اسم أبي ضميرة: روح بن سندر، وقيل: روح بن شيرزاد؛ وضميرة، بضم الضاد المعجمة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء في آخره هاء. قوله: (والعجوز) هي: مليكة المذكورة أولا. قوله: (ثم انصرف) أي: من الصلاة، وذهب إلى بيته.
ذكر إعرابه: قوله: (صنعته) جملة فعلية في محل الجر لأنها صفة لطعام. قوله: (فلأصلي لكم) فيه ستة أوجه من الإعراب. الأول: فلأصلي، بكسر اللام وضم الهمزة وفتح الياء، ووجهه أن اللام فيه. لام كي، والفعل بعدها منصوب: بأن، المقدرة تقديره: فلأن أصلي. قال القرطبي: رويناه كذا، و: الفاء، زائدة، أو: الفاء، جواب الأمر، ومدخول: الفاء، محذوف تقديره: قوموا فقيامكم لأصلي لكم. ويجوز أن تكون: الفاء، زائدة على رأي الأخفش، واللام متعلق: بقوموا. الوجه الثاني: فلأصلي، مثلها إلا أنها ساكنة الياء، ووجهه أن تسكين الياء المفتوحة للتخفيف في مثل هذا لغة مشهورة. الثالث: فلأصل: بحذف الياء، لكون اللام لام الأمر، وهي رواية الأصيلي. الرابع: فأصلي، على صيغة الإخبار عن نفسه، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأنا أصلي، والجملة جواب الأمر. الخامس: فلنصل؛ بكسر اللام في الأصل وبنون الجمع، ووجهه أن: اللام، لام الأمر، والفعل مجزوم بها وعلامة الجزم سقوط الياء. السادس: فلأصلي، بفتح اللام، وروي هكذا في بعض الروايات، ووجهه: أن تكون: اللام، لام الابتداء للتأكيد، أو تكون جواب قسم محذوف، و: الفاء، جواب شرط محذوف تقديره: إن قمتم فوا لأصلي لكم.
قوله: (فصففت أنا واليتيم) كذا رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (فصففت واليتيم)، بغير لفظ، أنا، وفي مثل هذا خلاف بين البصريين والكوفيين، فعند البصريين لا يعطف على الضمير المرفوع، إلا بعد أن يؤكد بضمير منفصل ليحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل، بارزا كان أو مستترا. كقوله تعالى: * (اسكن أنت وزوجك الجنة) * (البقرة: 53، والأعراف: 91) وعند الكوفيين: يجوز ذلك بدون التأكيد، والأول هو الأفصح. قوله: (واليتيم) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فلأنه معطوف على الضمير المرفوع. وقال الكرماني: بالنصب، ولو صح رواية الرفع فهو مبتدأ و: وراء، خبره، والجملة حال. قلت: وجه النصب هو أن تكون: الواو، فيه: واو المصاحبة، والتقدير: فصففت أنا مع اليتيم. قوله: (والعجوز من ورائنا) جملة اسمية وقعت حالا. وفي حالة الرفع تكون معطوفا. فافهم. قوله: (فصلى) أي، النبي: (لنا)، أي: لأجلنا.
ذكر استنباط الأحكام: فيه: إجابة الدعوة وإن لم تكن وليمة عرس والأكل من طعامها. وفيه: جواز النافلة جماعة. فإن قلت: قد جاء في رواية أبي الشيخ الحافظ: (فحضرت الصلاة). قلت: لا يلزم من حضور وقت الصلاة أن صلاته
111

في بيت مليكة كانت للفرض، ألا ترى أن في رواية مسلم: (قوموا فلأصلي لكم)، في غير وقت صلاة، فصلى بنا فإن قلت: قد جاء في رواية أخرى لمسلم: (فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا). قلت: الجواب ما ذكرناه الآن، ومع هذا كره أصحابنا وجماعة آخرون التنفل بالجماعة في غير رمضان. وقال ابن حبيب، عن مالك: لا بأس أن يفعله الناس اليوم في الخاصة من غير أن يكون مشتهرا، مخافة أن يظنها الجهال من الفرائض.
وفيه: أن الأفضل أن تكون النوافل في البيت لأن المساجد تبنى لأداء الفرائض.
وفيه: الصلاة في دار الداعي وتبركه بها، وقال بعضهم: ولعله أراد تعليم أفعال الصلاة مشاهدة مع تبركهم، فإن المرأة قلما تشاهد أفعاله في المسجد، فأراد أن تشاهدها وتتعلمها وتعلمها غيرها.
وفيه: تنظيف مكان المصلي من الأوساخ، ومثله التنظيف من الكناسات والزبالات.
وفيه: قيام الطفل مع الرجال في صف واحد.
وفيه: تأخر النساء عن الرجال.
ويستنبط منه أن إمامة المرأة للرجال لا تصح لأنه إذا كان مقامها متأخرا عن مرتبة الصبي فبالأولى أن لا تتقدمهم، وهو قول الجمهور، خلافا للطبري وأبي ثور، في إجازتهما إمامة النساء مطلقا، وحكى عنهما أيضا إجازة ذلك في التراويح إذا لم يوجد قارىء غيرها.
وفيه: أن الأفضل في نوافل النهار أن تكون ركعتين، وقال بعضهم: وفيه: الاقتصار في نافلة النهار على ركعتين، خلافا لمن اشترط أربعا. قلت: إن كان مراده أبا حنيفة، فليس كذلك، لأنه لم يشترط ذلك، بل قال الأربع أفضل سواء كان في الليل أو في النهار. وفيه: صحة صلاة الصبي المميز. وقال النووي: احتج بقوله: من طول ما لبس أصحاب مالك في المسألة المشهورة بالخلاف، وهي إذا حلف لا يلبس ثوبا ففرشه فعندهم يحنث، وأجاب أصحابنا: بأن لبس كل شيء بحسبه، فحملنا اللبس في الحديث على الافتراش للقرينة، ولأنه المفهوم منه، بخلاف من حلف لا يلبس ثوبا، فإن أهل العرف لا يفهمون من لبسه الافتراش. انتهى. قلت: ليس معنى اللبس في الحديث الافتراش، وإنما معناه التمتع، كما قال صاحب (اللغة) يقال: لبست امرأة أي تمتعت بها زمانا طويلا، وليس هو من: اللبس، الذي من: لبست الثياب، وقد ذكرناه عن قريب.
وفيه: الصلاة على الحصير وسائر ما تنبته الأرض، وهو إجماع إلا من شذ بحديث أنه لم يصل عليه، وهو لا يصح قلت: كذا ذكره صاحب (التلويح) وأراد بقوله: لا يصح، الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن المقادم عن أبيه شريح بن هانىء: (أنه سأل عائشة رضي ا تعالى عنها، أكان النبي يصلي على الحصير؟ وا تعالى يقول: * (وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) * (الإسراء: 8) فقالت: لا لم يكن يصلي على الحصير) وقالوا: هذا غير صحيح لضعف يزيد بن المقدام، ولهذا بوب البخاري باب الصلاة على الحصير، فإن هذا الحديث لم يثبت عنده، أورده لمعارضة ما هو أقوى منه، والذي شذ فيه هو عمر بن عبد العزيز فإنه كان يسجد على التراب، ولكن يحمل فعله هذا على التواضع.
وفيه: أن الأصل في الحصير ونحوه الطهارة، ولكن النضح فيه إنما كان لأجل التليين أو لإزالة الوسخ، كما ذكرنا. وقال القاضي عياض: الأظهر أنه كان للشك في نجاسته. قلنا: هذا على مذهبه في أن النجاسة المشكوك فيها تطهر بنضحها من غير غسل، وعندنا الطهارة لا تحصل إلا بالغسل.
وفيه: أن الاثنين يكونان صفا وراء الإمام، وهو مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود، فإنه قال: يكون الإمام بينهما. وفي (التوضيح): وبه قال أبو حنيفة والكوفيون. قلت: مذهب أبي حنيفة ليس كذلك، بل مذهبه أنه إذا أم اثنين يتقدم عليهما، وبه قال محمد، واحتجا في ذلك بهذا الحديث المذكور في الباب، نعم، عن أبي يوسف رواية أنه يتوسطهما. قال صاحب (الهداية): ونقل ذلك عن ابن مسعود. قلت: هذا موقوف عليه، وقد رواه مسلم من ثلاث طرق ولم يرفعه في الأوليين، ورفعه إلى النبي في الثالثة. وقال؛ هكذا فعل رسول ا. وقال أبو عمر: هذا الحديث لا يصح رفعه، وأما فعله هو فإنما كان لضيق المسجد، رواه الطحاوي في (شرح الآثار) بسند عن ابن سيرين أنه قال: لا أرى ابن مسعود فعل ذلك إلا لضيق المسجد، أو لعذر آخر، لا على أنه السنة.
وفيه: أن المنفرد خلف الصف تصح صلاته بدليل وقوف العجوز في الأخير، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي ومالك، وقال أحمد وأصحاب الحديث: لا يصح لقوله: (لا صلاة للمنفرد خلف الصف). قلنا؛ أريد به نفي الكمال.
وفيه: أن السلام ليس بواجب في الخروج من الصلاة، لقوله؛ ثم انصرف، ولم يذكر سلاما. فإن قلت: المراد منه الانصراف من البيت الذي فيه. قلت: ظاهره الانصراف من الصلاة، وإن كان يحتمل الانصراف من البيت، وبهذا الاحتمال لا تقوم الحجة.
12
112

2 (باب الصلاة على الخمرة))
أي: هذا باب في بيان الصلاة على الخمرة: يعني تجوز.
فإن قلت: قد ذكر ذلك في حديث ميمونة في الباب الذي قبل باب الصلاة على الحصير، فما فائدة إعادته؟ قلت: لأنه روي هناك عن مسدد مطولا، وههنا روي عن أبي الوليد مختصرا، فأعاده موافقة له، وقد مر تفسير الخمرة عن قريب.
18374 ح دثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال حدثنا سليمان الشيباني عن عبد الله ابن شداد عن ميمونة قالت كان النبي يصلي على الخمرة..
هذا طريق آخر في حديث ميمونة، والطريق الأول ذكره في باب: إذا أصاب ثوب المصلي امرأته إذا سجد، لكن هناك عن مسدد عن خالد عن سليمان الشيباني، وههنا عن أبي الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج عن سليمان الشيباني.
وفائدة تكراره اختلاف بعض رجال الإسناد كما ترى، وبيان مقصد شيخه عند نقله الحديث، واختلاف استخراج الأحكام منه، ولكل من مشايخه مقصود غير مقصود الآخر.
22
((باب الصلاة على الفراش))
أي: هذا باب في بيان الصلاة على الفراش، يعني: تجوز، والفراش هنا اسم لما يفترش من أي نوع كان من أنواع ما يبسط، ويجمع على: فرش، ويجيء مصدرا من: فرشت الشيء أفرشه فراشا: بسطته. وهو من باب: نصر ينصر.
والمناسبة بين البابين ظاهرة.
وصلى أنس على فراشه.
هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور، كلاهما عن ابن المبارك عن حميد قال: كان أنس يصلي على فراشه.
وقال أنس كنا نصلي مع النبي فيسجد أحدنا على ثوبه.
هذا التعليق وصله البخاري أيضا فيما بعد في الباب الذي يليه. قوله: (أحدنا) أي: بعضنا. قوله: (على ثوبه)، يحتمل أن يكون المراد منه بعض ثوبه الذي كان لابسه، نحو الفاضل من كمه أو ذيله، ويحتمل أن يكون ثوبه الذي يقلعه من جسمه فيسجد عليه، وحديثه المسند يصرح بأن المراد منه بعض ثوبه حيث قال فيه: فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود، على ما يأتي إن شاء ا تعالى.
ووجه مناسبة هذه الأثر للترجمة ظاهرة، وهو أنه إذا سجد على ثوبه يكون ساجدا على الفراش، لأنه اسم لما يبسط كما ذكرنا.
283 ح دثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. (الحديث 283 أطرافه في: 383، 483، 805، 115، 215، 315، 415، 515، 915، 799، 9021، 6726).
وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قولها: (كنت أنام)، لأن نومها كان على الفراش، وقد صرحت في حديثها الآخر بقولها: (على الفراش) الذي ينامان عليه.
ذكر رجاله: وهم خمسة: إسماعيل بن عبد ا بن أبي أويس المدني ابن أخت مالك بن أنس، وأبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: اسمه سالم مولى عمر، بدون الواو: ابن عبيد ا التيمي، وأبو سلمة عبد ا بن عبد الرحمن بن عوف.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة الإفراد في آخر. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول. وفيه: أن رواته مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن القعنبي وعبد ا بن يوسف كلاهما عن مالك. وأخرجه مسلم
113

في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك عن أبي النضر. وأخرجه أبو داود فيه عن عاصم بن النضر عن المعتمر بن سليمان عن عبيد ا بن عمر عن أبي النضر. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن مالك به.
ذكر معناه: قوله: (ورجلاي في قبلته) جملة وقعت حالا أي: في مكان سجوده. قوله: (غمزني)، من الغمز باليد. قال الجوهري: غمزت الشيء بيدي، وغمزته بعيني، قال تعالى: * (وإذا مروا بهم يتغامزون) * (المطففين: 03) والمراد ههنا: الغمز باليد، وروى أبو داود من حديث أبي سلمة عن عائشة أنها قالت: (كنت أكون نائمة ورجلاي بين يدي رسول الله وهو يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد ضرب رجلي فقبضتهما، فسجد). قوله: (فقبضت رجلي)، بفتح اللام وتشديد الياء بصيغة التثنية، وهذه رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (رجلي)، بكسر اللام وسكون الياء، بصيغة الإفراد. قوله: (بسطتهما)، بتثنية الضمير على رواية الأكثرين، وبالإفراد على رواية المستملي. قوله: (والبيوت)، مبتدأ. و قوله: (ليس فيها مصابيح) خبره، والجملة حال، والمصابيح جمع: مصباح، وهذا اعتذار من عائشة رضي ا تعالى عنها، عن نومها على هذه الهيئة، والمعنى: لو كانت المصابيح لقبضت رجلي عند إرادته السجود، ولما أحوجته إلى غمزي، وهذا يدل على أنها كانت راقدة غير مستغرقة في النوم، إذ لو كانت مستغرقة لما كانت تدرك شيئا، سواء كانت مصابيح أو لم تكن. قوله: (يومئذ) معناه: وقئتذ، أي: وقت إذ كان الرسول حيا، وإنما فسرناه هكذا لأن المصابيح من وظائف الليل، فلا يمكن إجراء اليوم على حقيقة معناه، وقد يذكر اليوم ويراد به الوقت، كما في قوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من ا ومأواه جهنم وبئس المصير) * (الأنفال: 61).
ذكر استنباط الأحكام منه: الأول: فيه جواز صلاة الرجل إلى المرأة، وأنها لا تقطع صلاته، وكرهه بعضهم لغير الشارع لخوف الفتنة بها واشتغال القلب بالنظر إليها، وأما النبي فمنزه عن هذا كله، مع أنه كان في الليل ولا مصابيح فيه.
الثاني: فيه استحباب إيقاظ النائم للصلاة.
الثالث: أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها، ولا من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء سلفا وخلفا، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومعلوم أن اعتراضها بين يديه أشد من مرورها، وذهب بعضهم إلى أنه يقطع مرور المرأة والحمار والكلب، وقال أحمد: يقطعها الكلب الأسود، وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء. والجواب: عن حديث قطع الصلاة بهؤلاء من وجهين: إن المراد من القطع: النقص، لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها لأن المرأة تغير الفكر فيها، والحمار ينهق، والكلب يهوش، فلما كانت هذه الأشياء آيلة إلى القطع أطلق عليها القطع.
والثاني: أنها منسوخة بحديث: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم)، وصلى الشارع وبينه وبين القبلة عائشة، رضي ا تعالى عنها، وكانت الأتان ترتع بين يديه ولم ينكره أحد، لكن النسخ لا يصار إليه إلا بأمور منها التاريخ، وأنى به؟ وذهب ابن عباس وعطاء إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة إنما هي الحائض، ورد بأنه جاء في روايات هذا الحديث، قال شعبة: (وأحسبها قالت: وأنا حائض). قال: فإن قلت: ورد في الحديث: (يقطع الصلاة اليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير)؟ قلت: هذا حديث ضعيف.
الرابع: أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح.
الخامس: جواز الصلاة إلى النائم، وكرهه بعضهم واحتجوا بحديث ابن عباس أنه قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث). قلت: قال أبو داود: روى هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، كلها واهية، وهذا أمثلها وهو أيضا ضعيف، وصرح به الخطابي، وغيره؛ (وكان ابن عمر لا يصلي خلف رجل يتكلم إلا يوم الجمعة). رواه أبو داود بسند منقطع، وفي (مراسيله) بسند ضعيف: (نهى النبي أن يتحدث الرجلان وبينهما أحد يصلي)، وفي (كامل ابن عدي بسند واه عن ابن عمر: (نهى رسول الله أن يصلي الإنسان إلى نائم أو متحدث). وفي (الأوسط) للطبراني. من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف مرفوعا: (نهيت أن أصلي خلف النائم والمتحدثين). وفي (كتاب الصلاة) لأبي نعيم: حدثنا سفيان عن ابن إسحاق عن معدي كرب عن عبد ا، قال: (لا يصلي بين يدي قوم يمترون). وعن سعيد بن جبير: (إذا كانوا يذكرون ا فلا بأس). وفي رواية: (كره سعيد أن يصلي وبين يديه متحدث)، وضرب عمر بن الخطاب رضي ا تعالى عنه، رجلين أحدهما يستقبل الآخر وهو يصلي.
السادس: قال بعضهم: وقد استدل بقولها: غمزني، على أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وتعقب باحتمال الحائل أو بالخصوصية،
114

قلت: هذا القائل أخذ بعض هذا من الكرماني، فإنه قال: فإن قلت: هل هو دليل على أن لمس المرأة لا ينتقض الوضوء؟ قلت: لا لاحتمال أن يكون بينهما حائل من ثوب ونحوه، بل هو الظاهر من حال النائم. قلت: هذا غير موجه، قال ابن بطال: الأصل في الرجل أن يكون بغير حائل عرفا. وكذلك اليد، وقول الشافعي: كان غمزه إياها على ثوب فيه بعد. وقوله: أو بالخصوصية، غير صحيح، لأن النبي في هذا المقام في مقام التشريع لا الخصوصية، إذ من المعلوم أن ا عصمه في جميع أفعاله وأقواله، وأيضا مجرد دعوى الخصوصية بلا دليل باطل، فإذا كان الأمر كذلك قام لنا الدليل من الحديث أن لمس المرأة غير ناقض للوضوء، والعناد بعد ذلك مكابرة.
السابع: فيه جواز الصلاة على الفراش، وعقد البخاري الباب المذكور لذلك، وفي (التلويح): واختلف في الصلاة على الفراش وشبهه، فعند أبي حنيفة والشافعي: يصلي على البساط والطنفسة. وحكى ابن أبي شيبة ذلك عن أبي الدرداء بلفظ: (ما أبالي لو صليت على ست طنافس بعضها فوق بعض). قال: وصلى ابن عباس على مسح وعلى طنفسة قد طبقت البيت صلاة المغرب، وفعله أبو وائل وعمر بن الخطاب وعطاء وسعيد بن جبير، وقال الحسن: لا بأس بالصلاة على الطنفسة. وصلى قيس بن عباد على لبد دابته، وكذلك قرة الهمداني، وصلى على المسح عمر بن عبد العزيز وجابر بن عبد ا، وعلي بن أبي طالب وأبو الدرداء وعبد ا بن مسعود رضي ا تعالى عنهم، وقال مالك: البساط الصوف والشعر وشبهه إذا وضع المصلي جبهته ويديه على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسا، كأنه يريد ما ذكره ابن أبي شيبة عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن الأسود وأصحابه أنهم كانوا يكرهون أن يصلوا على الطنافس والفرا والمسوح، وقال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن أنه كان يصلي على طنفسة وقدماه وركبتاه عليها ويديه وجبهته على الأرض أو بردي، وعن ابن سيرين وابن المسيب وقتادة: الصلاة على الطنفسة محدث، وكره الصلاة على غير الأرض عروة بن الزبير وجابر بن زيد وابن مسعود، ونهى أبو بكر عن الصلاة على البرادع، وقال أبو نعيم في (كتاب الصلاة) تأليفه: حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس: (أن النبي صلى على بساط)، وحدثنا زمعة عن عمرو بن دينار عن كريب عن أبي معبد عن ابن عباس، قال: (قد صلى رسول ا، على بساط).
38394 ح دثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله كان يصلي وهي بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة..
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: بكير، بضم الباء والليث: هو ابن سعد، وعقيل، بضم العين: ابن خالد بن عقيل، بفتح العين، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وعروة بن الزبير بن العوام.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع، وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية. وفيه: أن رواته ما بين مصري ومدني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: (كان النبي: يصلي صلاته كلها من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله اعتراض الجنازة). وفي لفظ: (وسط السرير وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة تكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فأستقبله، فأنسل انسلالا من قبل رجليه). وفي لفظ: (وأنا حذاءه وأنا حائض). وربما قالت: (أصابني ثوبه إذا سجد). وفي لفظ: (علي مرط وعليه بعضه). وأخرجه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة: (أن رسول الله كان يصلي صلاة من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة راقدة
على الفراش الذي يرقد عليه، حتى إذا أراد أن يوتر أيقظها فأوترت). وفي لفظ: (فإذا أراد أن يسجد ضرب رجلي فقبضتهما). وفي لفظ: (فإذا أراد أن يوتر قال؛ تنحي). وأخرجه ابن ماجة أيضا من حديث الزهري عن عروة به.
115

ذكر معناه: قوله: (وهي بينه وبين القبلة) أي: والحال أن عائشة بين النبي وبين موضع سجوده. قوله: (اعتراض الجنازة)، كلام إضافي منصوب بنزع الخافض، أي: كاعتراض الجنازة، وهو في الحقيقة صفة لمصدر محذوف تقديره، وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراضا كاعتراض الجنازة. والمراد: أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله، كما تكون الجنازة بين يدي المصلي. والجنازة، بكسر الجيم وهو اختيار ثعلب في (فصيحه)، وحكى في (نوادره) عن أبي زيد: الجنازة، مكسورة الجيم ولا تفتح، وكذا ذكره أبو علي أحمد بن جعفر الدينوري في كتابه (إصلاح المنطق)، وحكى المطرزي عن الأصمعي: الجنازة والجنازة لغتان بمعنى واحد، وكذا قاله كراع في (المنتخب) وقال ابن الأعرابي: الجنازة النعش، والجنازة الميت. وفي (الصحاح): العامة تقول: الجنازة، بالفتح والمعنى: الميت على السرير، وفي (شرح الفصيح) لابن علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي: الجنازة اسم المتوفي في الأصل. وقال بعضهم، بفتح الجيم في المتوفى، وقال الخليل: الجنازة بكسر الجيم: السرير، يعني سرير الميت. وقال أبو جعفر: لا يقال للميت جنازة حتى يكون على نعش، ولا يقال للنعش جنازة حتى يكون عليها ميت. وفي (المحكم): جنز الشيء يجنزه جنزا: ستره، وقال ابن دريد عن قوم: إن اشتقاق الجنازة من ذلك، قال: ولا أدري ما صحته، وقد قيل: هو نبطي.
32
((باب السجود على الثوب في شدة الحر))
أي: هذا باب في بيان سجود المصلي على طرف ثوبه مثل كمه وذيله لأجل شدة الحر، ولفظ: الحر، ليس بقيد، لأن حكم البرد كذلك. وإنما ذكر موافقة للفظ الحديث.
والمناسبة بين البابين ظاهرة.
وقال الحسن كان القوم يسجدون على العمامة والقلنسوة ويداه في كمه.
مطابقة هذا الأثر للترجمة غير ظاهرة إلا بالتعسف، لأن الترجمة في السجود على الثوب، وهذا لا يطلق على العمامة، ولا على القلنسوة، ولكن كان هذا الباب والأبواب الثلاثة التي قبله في السجود على غير وجه الأرض، بل كان على شيء هو على الأرض، وهو أعم من أن يكون حصيرا أو خمرة أو فراشا أو عمامة أو قلنسوة أو نحو ذلك، فبهذه الحيثية تدخل العمامة والقلنسوة في الباب؛ والحسن هو: البصري، وأراد بالقوم الصحابة، والقلسنوة: غشاء مبطن تلبس على الرأس. قاله القزاز في (شرح الفصيح) وعن ابن خالويه: العرب تسمي القلنسوة برنسا. وفي (التلخيص) لأبي هلال العسكري: البرنس: القلنسوة الواسعة التي تغطي بها العمائم، تستر من الشمس والمطر. وفي (المحكم): هي من ملابس الرؤوس معروف. وقال ابن هشام في (شرحه): هي التي تقول لها العامة الشاشية، وذكر ثعلب في (فصيحه) لغة أخرى وهي: القليسية، بضم القاف وفتح اللام وسكون الياء وكسر
116

السين وفتح الياء وفي آخره هاه، وفي (المحكم): وعندي أن قليسية ليست بلغة، وإنما هي مصغرة، وفي (شرح الغريب) لابن سيده: وهي قلنساة وقلساة، وجمعها: قلانس وقلاسي وقلنس وقلونس، ثم يجمع على: قلنس، وفيه قلب حيث جعل الواو قبل النون، وعن يونس: أهل الحجاز يقولون: قلنسية، وتميم يقولون: قلنسوة. وفي (شرح المرزوقي): قلنست الشيء إذا غطيته.
قوله: (ويداه في كمه)، هكذا في رواية الأكثرين. وفي رواية الكشميهني: (ويديه في كمه)، وجه الأول أن: يداه، كلام إضافي مبتدأ، وقوله: في كمه، خبره والجملة حال، والتقدير: ويدا كل واحد في كمه، فلأجل ذلك قال: ويداه في كمه، وذلك لأن المقام يقتضي أن يقال: وأيديهم في أكمامهم، ووجه الثاني: أن: يديه، منصوب بفعل مقدر تقديره: ويجعل كل واحد يديه في كمه، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن أبي أسامة عن هشام عن الحسن قال: (إن أصحاب النبي كانوا يسجدون وأيديهم في ثيابهم، ويسجد الرجل منهم على قلنسوته وعمامته).
وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه عن هشام بن حسان عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن هشيم عن يونس: (عن الحسن أنه كان يسجد في طيلسانه). وأخرجه عن محمد بن عدي: (عن حميد: رأيت الحسن يلبس أنبجانيا في الشتاء ويصلي فيه ولا يخرج يديه). وكان عبد الرحمن بن زيد يسجد على كور عمامته، وكذلك الحسن وسعيد بن المسيب وبكر بن عبد ا، ومكحول والزهري وعبد ا بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن يزيد، وكان عبادة بن الصامت وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبو عبيدة وإبراهيم النخعي وابن سيرين وميمون بن مهران وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وجعدة بن هبيرة يكرهون السجود على العمامة، وذكر محمد بن أسلم الطوسي في كتابه (تعظيم قدر الصلاة): عن خلاد بن يحيى عن عبد ا بن المحرز عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة: (أن النبي سجد على كور عمامته). قال ابن أسلم: هذا سند ضعيف.
58315 ح دثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثني غالب القطان عن بكر بن عبد الله عن أنس بن مالك قال كنا نصلي مع النبي فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. (الحديث 583 طرفاه في: 245، 8021).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة، ذكروا، و: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون المعجمة: ابن المفضل، بضم الميم وفتح الفاء وتشديد المعجمة المفتوحة: الرقاشي، بفتح الراء: العثماني، كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة. وغالب، بالغين المعجمة وكسر اللام: ابن خطاف، بضم الخاء المعجمة وبفتحها وتشديد الطاء المهملة: القطان، بالقاف.
ذكر لطائف إسناده وفيه: التحديث بصيغة الجمع في أبي الوليد، وفي بشر وبالإفراد في غالب عند الأكثرين. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: حكاية قول الصحابي عما يفعله، والنبي يشاهده ولا ينكره، فيكون تقريرا منه. فإن قلت: كان أنس خلف النبي؟ قلت: ما كان يخفى عليه شيء من أحوال من كان خلفه في الصلاة، لأنه قد كان يرى من خلفه كما يرى من قدامه، فيكون قول الصحابي، كنا نفعل كذا من قبيل المرفوع، ولا سيما اتفق الشيخان على تخريج هذا الحديث في صحيحيهما، وغيرهما كذلك.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن مسدد، وعن محمد بن مقاتل. وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك، وأخرجه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك. وأخرجه ابن ماجة فيه عن إسحاق بن إبراهيم.
ذكر معناه قوله: (فيضع أحدنا) جملة معطوفة على قوله: (كنا نصلي). قوله: (طرف ثوبه)، كلام إضافي منصوب لأنه مفعول: يضع، وفي رواية مسلم وأبي داود: (بسط ثوبه فسجد عليه). وفي رواية النسائي: (كنا إذا صلينا خلف رسول الله بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر). وعند ابن أبي شيبة: (كنا نصلي مع النبي في شدة الحر والبرد فيسجد على ثوبه).
ذكر ما يستنبط منه احتج به أبو حنيفة ومالك، وأحمد وإسحاق على جواز السجود على الثوب فيشدة الحر والبرد، وهو قول عمر بن الخطاب، رضي ا تعالى عنه، رواه ابن أبي شيبة من حديث إبراهيم قال: (صلى
117

عمر ذات يوم بالناس الجمعة في يوم شديد الحر، فطرح طرف ثوبه بالأرض فجعل يسجد عليه، ثم قال: يا أيها الناس إذا وجد أحدكم الحر فليسجد على طرف ثوبه). ورواه زيد بن وهب عن عمر بنحوه، وأمر به إبراهيم أيضا وعطاء، وفعله مجاهد. وقال الحسن: لا بأس به، وحكاه ابن المنذر أيضا عن الشعبي وطاوس والأوزاعي والنخعي والزهري ومكحول ومسروق وشريح. وقال صاحب (التهذيب) من الشافعية: وبه قال أكثر العلماء، والحديث حجة على الشافعي حيث لم يجوز ذلك. وقال النووي: حمله الشافعي على الثوب المنفصل، قلنا: لفظ: ثوبه، دل على المتصل به من حيث اللفظ، وهو تعقيب السجود بالبسط، كما في رواية مسلم وأبي داود، وكذا دل على المتصل به من خارج اللفظ، وهو قلة الثياب عندهم. فإن قلت: أيد البيهقي حمل الشافعي على الثوب المنفصل بما رواه الإسماعيلي في هذا الحديث بلفظ: (فيأخذ أحدنا الحصى في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه). قال: فلو جاز السجود على شيء متصل به لما احتاجوا إلى تبريد الحصى مع طول الأمر فيه.
قلت: ورد هذا باحتمال أن يكون الذي كان يبرد الحصى لم يكن في ثوبه فضلة يسجد عليها مع بقاء سترة له. فإن قلت: احتج الشافعي بحديث خباب قال: (شكونا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حر الرمضاء في جباهنا فلم يشكنا). أي: فلم يزل شكوانا، وبما روى عنه أنه قال: (ترب جبينك يا رباح). قلت: حديث خباب ليس فيه ذكر الجباه والأكف في المسانيد المشهورة، ثبت فهو محمول على التأخير الكثير حتى تبرد الرمضاء، وذلك يكون في أرض الحجاز بعد العصر. ويقال: إنه منسوخ بقوله: (أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم). ويدل عليه ما رواه عبد ا بن عبد الرحمن قال: (جاءنا رسول ا عليه الصلاة والسلام، فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد). رواه أحمد وابن ماجة. فإن قلت: هذا محمول على الثوب المنفصل الذي لا يتحرك بحركته.
قلت: هذا بعيد لقوله: (بسط ثوبه فسجد عليه). إذ: الفاء، فيه للتعقيب. وكل حديث احتج به الشافعي في هذا الباب فهو محتمل، وما احتج به غيره من الأئمة المذكورين فهو محكم، فيحمل المحتمل على المحكم على أنه قد روي عن جماعة من الصحابة أنهم رووا سجوده، عليه الصلاة والسلام، على كور عمامته. منهم: أبو هريرة، أخرج حديثه عبد الرزاق في (مصنفه). وابن عباس، أخرج حديثه أبو نعيم في (الحلية). وعبد ا بن أبي أوفي، أخرج حديثه الطبراني في (الأوسط)، وجابر أخرج حديثه ابن عدي في (الكامل). وأنس أخرج حديثه ابن أبي حاتم في كتابه (العلل). وابن عمر أخرج حديثه الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد الرازي في (فوائده). فإن قلت: قال البيهقي في (المعرفة): أما ما روى أن النبي كان يسجد على كور عمامته فلا يثبت منه شيء. قلت: حديث ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى جياد، وما كان منه من الضعيف يشتد بالقوي، وقد مر الكلام فيه مستوفى في هذا الباب. وبما ذكرنا ههنا يحصل الجواب عما قاله الكرماني في هذا الباب من فرقه بين المحمول المتحرك وغيره، والاستدلال بقوله: (ترب وجهك)، وحديث الباب أيضا يرد ما ذكره من قوله: والقياس على سائر الأعضاء قياس بالفارق، وقياس في مقابلة النص.
قلنا: لا نسلم ذلك لأنا عملنا أولا بالحديث الذي ورد في هذا الباب، وبالقياس أيضا، فهذا أقوى. وقوله: ثبت أنه كان يباشر الأرض بوجهه في سجوده، فنقول: باشر أيضا ثوبه في سجوده، كما مر، وبدليل ما لو سجد على البساط يجوز بالإجماع، فإن احتج بقوله: (مكن جبهتك وأنفك من الأرض)، فنقول بموجبه، وهو وجدان حجم الأرض حتى إذا امتنع حجمها لا يجوز. وقال بعضهم: فيه أي في حديث الباب تقديم الظهر في أول الوقت قلنا: ظاهر الأحاديث الواردة في الأمر بالإيراد بالظهر يعارضه، ودفعها إما بأن نقول: إن التقديم رخصة والإيراد سنة، فإذا قلنا: أحاديث الأمر بالإيراد ناسخة لا يبقى تعارض. فافهم.
ومما يستنبط من الحديث المذكور أن العمل اليسير في الصلاة عفو، لأن وضع طرف الثوب في موضع السجود، عمل. وا أعلم.
42
((باب الصلاة في النعال))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في النعال، أي: على النعال أو؛ بالنعال، لأن الظرفية غير صحيحة.
والمناسبة بين البابين من حيث إن في الباب السابق تغطية الوجه بالثوب الذي يسجد عليه، وفي هذا الباب تغطية بعض القدمين.
118

68325 ح دثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا شعبة قال أخبرنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد الأزري قال سألت أنس بن مالك أكان النبي يصلي في نعليه قال نعم. (الحديث 683 طرفه في 0585).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة مر ذكرهم، وأبو مسلمة، بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح اللام، وسعيد بالياء، ويزيد من الزيادة.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: السؤال. وفيه: أن رواته ما بين عسقلاني وكوفي وبصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن بشر بن المفضل وعن أبي الربيع الزهراني عن عباد بن العوام. وأخرجه الترمذي فيه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن إبراهيم. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن يزيد بن زريع وغسان بن مضر.
ذكر معناه واستنباط الحكم منه: قوله: (أكان النبي) استفهام على سبيل الاستفسار. قوله: (يصلي في نعليه؟) أي: على نعليه، أو بنعليه، كما ذكرنا. والنعل: الحذاء مؤنثة وتصغيرها: نعيلة، وقال ابن بطال: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن في النعلين نجاسة فلا بأس بالصلاة فيهما، وإن كان فيهما نجاسة فليمسحهما ويصلى فيهما. واختلفوا في تطهير النعال من النجاسات، فقالت طائفة: إذا وطئ القذر الرطب يجزيه أن يمسحهما بالتراب ويصلي فيه. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجزيه أن يطهر الرطب إلا بالماء، وإن كان يابسا أجزأه حكه. وقال الشافعي: لا يطهر النجاسات إلا الماء في الخف والنعل وغيرهما. وقال ابن دقيق العيد: الصلاة في النعال من الرخص لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة.
قلت: كيف لا تكون من المستحبات بل ينبغي أن تكون من السنن، لأن أبا داود روى في (سننه): حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مروان ابن معاوية الفزاري عن هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه، قال: قال رسول ا: (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم). ورواه الحاكم أيضا، فيكون مستحبا من جهة قصد مخالفة اليهود، وليست بسنة لأن الصلاة في النعال ليست بمقصوده بالذات، وقد روى أبو داود أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: (رأيت رسول الله حافيا ومتنعلا)، وهذا يدل على الجواز من غير كراهة، وحكى الغزالي في (الإحياء) عن بعضهم أن الصلاة فيه أفضل.
ومما يستنبط منه: جواز المشي في المسجد بالنعل.
52
((باب الصلاة في الخفاف))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في الخفاف أي: بالخفاف. وهو جمع خف.
والمناسبة بين البابين ظاهرة.
78335 ح دثنا آدم قال حدثنا شعبة عنه الأعمش قال سمعت إبراهيم يحدث عن همام بن الحارث قال رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح على خفيه ثم قام فصلى فسئل فقال رأيت النبي صنع مثل هذا قال إبراهيم فكان يعجبهم لأن جريرا كان من آخر من أسلم.
مطابقته للترجمة في قوله: (ومسح على خفيه ثم قام فصلى) لأنه صلى وهو لابس خفيه، إذ لو نزعهما بعد الغسل لوجب غسل رجليه، ولو غسلهما لنقل في الحديث.
ذكر رجاله وهم ستة: آدم بن أبي إياس، وشعبة بن الحجاج، وسليمان الأعمش، وإبراهيم بن يزيد النخعي، وهمام: على وزن فعال بالفتح والتشديد، كان من العباد مات في زمن الحجاج، وجرير، بفتح الجيم: ابن عبد ا البجلي الصحابي، رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والتحديث بصيغة الإفراد من المضارع. وفيه: السماع
119

في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول والرواية. وفيه: أن رواته ما بين بغدادي وكوفي. وفيه: ثلاثة من التابعين: الأعمش وإبراهيم، وعلي بن خشرم وعن يحيى بن يحيى وإسحاق وأبي كريب وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن ابن أبي شيبة وعن ابن أبي عمرو عن منجاب بن الحارث. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن وكيع. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، وفي الصلاة عن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة في الطهارة عن علي بن محمد، الكل عن الأعمش عن إبراهيم به، ومعنى حديثهم واحد. وأخرجه أبو داود عن علي بن الحسين عن عبد ا بن داود عن بكير بن عامر عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير: (أن جريرا بال ثم توضأ فمسح على خفيه، قال: ما يمنعني أن أمسح وقد رأيت رسول الله يمسح؟ قالوا: إنما كان ذلك قبل نزول المائدة. قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة). ورواه
الطبراني في الأوسط من حديث ربعي بن حراش عنه، قال: (وضأت رسول الله فمسح على خفيه بعد ما نزلت سورة المائدة). ثم قال: لم يروه عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي إلا ياسين الزيات، تفرد به عبد الرزاق، وياسين متكلم فيه، وفي رواية له من حديث محمد بن سيرين عنه أنه كان مع رسول الله في حجة الوداع فذهب النبي عليه الصلاة والسلام، يتبرز فرجع فتوضأ ومسح على خفيه، ثم قال: لم يروه عن محمد بن سيرين إلا خالد الحذاء، ولا عن خالد إلا حارث بن شريح، تفرد به سنان بن فروخ.
ذكر معناه: قوله: (ثم قام فصلى)، ظاهره أنه صلى في خفيه كما ذكرناه الآن. قوله: (فسئل)، على صيغة المجهول أي: سئل جرير عن المسح عل الخفين والصلاة فيهما، وقد بين الطبراني في حديثه من طريق جعفر بن الحارث عن الأعمش أن السائل له عن ذلك هو همام بن الحارث المذكور، وله من طريق زائدة عن الأعمش، فعاب عليه ذلك رجل من القوم. قوله: (مثل هذا) أي: من المسح على خفيه والصلاة فيهما. قوله: (قال إبراهيم) أي: المذكور، وهو النخعي. قوله: (فكان) أي: فكان حديث جرير يعجبهم، أي: يعجب القوم لأنه من جملة الذين أسلموا في آخر حياة رسول ا، وقد أسلم في السنة التي توفي فيها رسول ا، وفي رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش: كان يعجبهم هذا الحديث، ومن طريق عيسى بن يونس، فكان أصحاب عبد ا بن مسعود يعجبهم. قوله: (من آخر من أسلم)، وفي رواية مسلم: (لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة).
وفي رواية أبي داود: (إنما كان ذلك...) أي: مسح النبي عليه الصلاة والسلام، على الخفين بعد نزول المائدة. فقال جرير: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة، وقد ذكرناه عن قريب. وفي رواية الترمذي، من طريق شهر بن حوشب: (قال: رأيت جرير بن عبد ا...) فذكر نحو حديث الباب، قال: (فقلت له: أقبل المائدة أم بعدها؟ قال: ما أسلمت إلا بعد المائدة). قال الترمذي: هذا حديث مفسر، لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول أن مسح النبي على الخفين كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة، فيكون منسوخا: فذكر جرير في حديثه أنه رآه يمسح بعد نزول المائدة، فكان أصحاب ابن مسعود يعجبهم حديث جرير لأن فيه ردا على أصحاب التأويل المذكور. قلت: قال ا تعالى في سورة المائدة: * (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * (النساء: 34، والمائدة: 6) الآية، فلو كان إسلام جرير متقدما على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخرا علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف، فتكون السنة مخصصة للآية. وفي (سنن البيهقي): عن إبراهيم بن أدهم رضي ا عنه، قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير رضي ا عنه، وقد ورد مؤرخا بحجة الوداع في حديث الطبراني كما ذكرناه.
واعلم أنه وردت في المسح على الخفين عدة أحاديث تبلغ التواتر على رأي كثير من العلماء. قال الميموني: عن أحمد: فيها سبعة وثلاثون صحابيا. وفي رواية الحسن بن محمد عنه: أربعون، كذا قاله البزار في (مسنده). وقال ابن أبي حاتم: أحد وأربعون صحابيا. وفي (الأشراف) عن الحسن: حدثني به سبعون صحابيا. وقال ابن عبد البر: مسح على الخفين سائر أهل بدر والحديبية، وغيرهم من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وعامة أهل العلم والأثر، ولا ينكره إلا مخذول مبتدع خارج عن جماعة المسلمين. وفي (البدائع): المسح على الخفين جائز عند عامة الفقهاء وعامة الصحابة إلا ما روي عن ابن عباس: إنه لا يجوز، وهو قول الرافضة. ثم قال: روي عن الحسن البصري أنه قال:
120

أدركت سبعين بدريا من الصحابة رضي ا تعالى عنهم، كلهم يرون المسح على الخفين، ولهذا رآه أبو حنيفة من شرائط السنة والجماعة، فقال: منها أن تفضل الشيخين، وتحب الختنين، وترى المسح على الخفين، وأن لا تحرم نبيذ الجر يعني المثلث. وروي عنه أنه قال: ما قلت بالمسح حتى جاءني مثل ضوء النهار، فكان الجحود ردا على كبار الصحابة، ونسبته إياهم إلى الخطأ فكان بدعة، ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: جواز البول بمشهد الرجل وإن كانت السنة الاستتار عنه. وفيه: المسح على الخفين جائز، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب المسح على الخفين. وفيه: الإعجاب ببقاء حكم من الأحكام، وهو يدل على عدم النسخ، وقال ابن بطال: وهذا الباب كالباب الذي قبله في أن الخف لو كان فيه قذر فحكمه حكم النعل.
62
((باب إذا لم يتم السجود))
أي: هذا باب في حكم المصلي إذا لم يتم سجوده في صلاته، يعني أنه: لا يجوز لترتب الوعيد الشديد في حقه. هذا الباب، والباب الذي يليه لم يقعا ههنا أصلا عند المستملي، لأن محلهما في أبواب صفة الوضوء، وإنما وقعا عند الأصيلي، ولكن قبل باب الصلاة في النعال، وقال بعضهم: إعادة هاتين الترجمتين هنا، وفي باب السجود، الحمل فيه عندي على النساخ بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك وهو أحفظهم. قلت: تكرار هذا الباب وإعادته له وجه، لأن عادته التكرار عند وجود الفائدة، وهي موجودة فيه لأنه ترجم هنا بقوله: (باب إذا لم يتم السجود)، وهناك ترجم بقوله: (باب إذا لم يتم الركوع). وشيخه هنا: الصلت ابن محمد يروي عن مهدي عن واصل عن أبي وائل عن حذيفة أنه رأى رجلا... وهناك شيخه: حفص بن عمر عن شعبة عن سليمان، قال: سمعت زيد بن وهب، قال: رأى حذيفة رجلا. وفي بقية المتن أيضا تغاير. وأما الباب الثاني فليس لذكره محل ههنا، لأنه كما هو مذكور ههنا مذكور هناك، كذلك: ترجمة ورواة ومتنا.
فإن قلت: على ما ذكره الأصيلي: ما وجه المناسبة بين هذا الباب وبين باب السجود على الثوب في شدة الحر؟ قلت: ظاهر، لأن كلا منهما في حكم السجود.
55 - (أخبرنا الصلت بن محمد أخبرنا مهدي عن واصل عن أبي وائل عن حذيفة أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة ما صليت قال
وأحسبه قال لو مت مت على غير سنة محمد
)
121

مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول الصلت بن محمد بن عبد الرحمن الخاركي البصري ونسبته إلى خارك بالخاء المعجمة والراء والكاف وهو من سواحل البصرة. الثاني مهدي بلفظ المفعول ابن ميمون أبو يحيى الأزدي مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. الثالث واصل بن حبان الأحدب. الرابع أبو وائل شقيق بن سلمة. الخامس حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته ما بين بصري وكوفي النصف الأول بصري والنصف الثاني كوفي وحديث حذيفة هذا معلق من إفراد البخاري قوله ' لا يتم ركوعه ' جملة وقعت صفة لقوله ' رجلا ' قوله ' فلما قضى صلاته ' أي فلما أدى صلاته والقضاء يجيء بمعنى الأداء كما في قوله تعالى * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * قوله ' ما صليت ' قد نفى الصلاة عنه لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء فانتفاء إتمام الركوع مستلزم لانتفاء الركوع المستلزم لانتفاء الصلاة وكذا حكم السجود قوله ' وأحسبه ' أي قال أبو وائل وأحسب حذيفة قال أيضا لو مت ويروى فيه كسر الميم من مات يمات وضمها من مات يموت والمراد من السنة الطريقة المتناولة للفرض والنفل وقال ابن بطال ما صليت يعني صلاة كاملة ونفى عنه العمل لقلة التجويد فيها كما تقول للصانع إذا لم يجد ما صنعت شيئا تريد نفي الكمال وهو يدل على أن الطمأنينة سنة (قلت) هذا التأويل لمن يدعي أن الطمأنينة في الركوع والسجود سنة وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف والشافعي فرض على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
72
((باب يبدي ضبعيه ويجافي في السجود))
أي: هذا باب في بيان أن السنة للمصلي أن يبدي ضبعيه. قوله: (يبدي)، بضم الياء من الإبداء، وهو: الإظهار. قوله: (ضبعيه) تثنية: ضبع، بفتح الضاد وسكون الباء. وفي (الموعب): الضبع مثال صقر: العضد، مذكر ويقال: الإبط. وقيل: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاه. وفي (المخصص): قيل: الضبع هو إذا أدخلت يدك تحت إبطيه من خلفه واحتملته، والعضد يذكر ويؤنث. وفي (المحكم): الضبع يكون للإنسان وغيره. وفي (الجامع)، للقزاز و (الجمهرة) لابن دريد: الضبعان رأس المنكبين، الواحد ضبع، ساكن الباء. وفي (الجامع) و (الصحاح): الجمع أضباع. وقال السفاقسي: الضبع ما تحت الإبط، ومعنى: يبدي ضبعيه، لا يلصق عضديه بجنبيه. قوله: (ويجافي) أي: يباعد عضديه عن جنبيه ويرفعهما عنهما، ويجافي: من الجفاء، وهو البعد عن الشيء. يقال: جفاه إذا بعد عنه، وأجفاه إذا أبعده ويجافي بمعنى يجفي أي: يبعد جنبيه، وليست المفاعلة ههنا على بابها، كما في قوله تعالى: * (وسارعوا) * (آل عمران: 331) أي: أسرعوا.
فإن قلت: ما المناسبة بين البابين على تقدير ثبوت هذا الباب ههنا. قلت: من حيث إن المذكور في الباب السابق حكم الطمأنينة في السجود، وههنا إبداء الضبعين ومجافاة الجنبين في السجود، وكلها من أحكام السجود.
56 - (أخبرنا يحيى بن بكير قال حدثنا بكر بن مضر عن جعفر عن ابن هرمز عن عبد الله بن مالك بن بحينة أن النبي
كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه)
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله ' كان إذا صلى ' لأن المراد من قوله صلى سجد من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء. وإذا فرج بين يديه لا بد من إبداء ضبعيه والمجافاة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة يحيى بن بكير بضم الباء الموحدة وبكر بفتح الباء الموحدة ابن مضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وروى غير منصرف للعلمية والعدل مثل عمر وقال الكرماني أما باعتبار العجمة (قلت) هذا بعيد لأنه لفظ عربي خالص من مضر اللبن يمضر مضورا وهو الذي يحذي اللسان قبل أن يروب وقال أبو عبيد قال أبو الوليد اسم مضر مشتق منه وهو مضر بن نزار بن معد بن عدنان وجعفر هو ابن ربيعة بن شرحبيل المصري توفي سنة خمس وثلاثين ومائة وابن هرمز بضم الهاء والميم هو عبد الرحمن الأعرج المشهور بالرواية عن أبي هريرة وعبد الله بن مالك بن القشب بكسر القاف وسكون الشين المعجمة وبالباء الموحدة الأزدي وبحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وهو اسم أم عبد الله فهو منسوب إلى الوالدين أسلم قديما وصحب النبي
وكان ناسكا فاضلا يصوم الدهر مات زمن معاوية وقال النووي الصواب فيه أن ينون مالك
122

ويكتب ابن بالألف لأن ابن بحينة ليس صفة لمالك بل صفة لعبد الله اسم أبيه مالك واسم أمه بحينة فبحينة امرأة مالك وأم عبد الله فليس الابن واقعا بين علمين متناسبين
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته ما بين مصري ومدني.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في صفة النبي
عن قتيبة عن بكر بن مضر وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة به وعن عمرو بن سواد عن ابن وهب وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به
(ذكر معناه وما اختلف من ألفاظه) قوله ' فرج بين يديه ' معناه فرج بين يديه وجنبيه وفرج الله الغم بالتشديد والتخفيف وهو من باب ضرب يضرب وهو لفظ مشترك بين
الفرج العورة والثغر وموضع المخافة والحكمة فيه أنه أشبه بالتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة من الأرض وأبعد من هيئات الكسالى قوله ' بين يديه ' على حقيقته يعني قدامه وأراد يبعد قدامه من الأرض حتى يبدو بياض إبطيه ويؤيد هذا ما في رواية مسلم ' إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه ' وفي رواية الليث ' كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى أني لأرى بياض إبطيه ' وعنده أيضا من حديث ميمونة ' كان
إذا سجد لو شاءت بهمة أن تمر بين يديه لمرت ' وفي رواية ' خوى بيديه ' يعني جنح ' حتى يرى وضح إبطيه من ورائه ' وعند الترمذي محسنا وعند الحاكم مصححا عن عبد الله بن أقرم فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه
إذا سجد وعند الحاكم مصححا عن ابن عباس ' أتيت النبي
من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مجخ قد فرج يديه ' وعند الدارقطني ملزما للبخاري تخريجه عن أحمد بن جزء أنه قال ' كنا لنأوي لرسول الله
مما يجافي مرفقيه عن جنبيه إذا سجد ' وعند أحمد وصححه أبو زرعة الرازي وابن خزيمة عن جابر ' كان النبي
إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه ' وعند ابن خزيمة عن عدي بن عميرة ' كان النبي
إذا سجد يرى بياض إبطيه ' وفي صحيح ابن خزيمة أيضا عن البراء ' كان النبي
إذا سجد جنح ' وعند الحاكم على شرطهما عن أبي هريرة ' إذا سجد يرى وضح إبطيه ' وعند مسلم من حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة ' إذا سجد جافى بين يديه ' وعند أبي داود عن أبي مسعود ووصف صلاته
وفيه ' ثم جافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه ' قوله ' يجنح ' من التجنيح وهو أن يرفع ساعديه في السجود عن الأرض فيصيران له مثل جناحي الطير فكذلك التجنح قوله ' وضح إبطيه ' أي بياضهما وهو بفتح الواو والضاد المعجمة قوله ' بهمة ' بفتح الباء الموحدة قال الجوهري البهمة من أولاد الضأن خاصة وتطلق على الذكر والأنثى والسخال أولاد المعزى وقال أبو عبيد وغيره البهمة واحد البهم وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث وجمع البهم البهام بكسر الباء وفي رواية الحاكم والطبراني بهيمة بالصغير وقيل هو الصواب وفتح الباء خطأ قوله ' خوى ' بالخاء المعجمة وتشديد الواو المفتوحة أي جافى بطنه عن الأرض ورفعها وجافى عضديه عن جنبيه حتى يخوى ما بين ذلك قوله ' مجخ ' بضم الميم وكسر الجيم وبالخاء المعجمة المشددة من جخ بفتح الجيم والخاء المعجمة المشددة إذا فتح عضديه عن جنبيه ويروى جخي بالياء وهو أشهر وهو مثل جخ وقيل كان إذا صلى جخ يعني تحول من مكان إلى مكان قوله ' لنأوى ' أي نرق له ونرثي يقال أويت الرجل أوى له إذا أصابه شيء فرثيت له والعفرة بضم العين المهملة وسكون الفاء البياض وزعم أبو نعيم في دلائل النبوة أن بياض إبطيه
من علامات نبوته
(ذكر ما يستنبط منه) فيه التفريج بين يديه وهو سنة للرجال والمرأة والخنثى تضمان لأن المطلوب في حقهما الستر وحكي عن بعضهم أن السنة في حق النساء التربع وبعضهم خيرها بين الانفراج والانضمام وقال ابن بطال وشرعت المجافاة في المرفق ليخف على الأرض ولا يثقل عليها كما روى أبو عبيدة عن عطاء أنه قال خففوا على الأرض وفي المصنف وممن كان يجافي أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وقاله الحسن البصري وإبراهيم وعلي بن أبي طالب قال وممن رخص أن يعتمد المصلي بمرفقيه أبو ذر وابن مسعود وابن عمر وابن سيرين وقيس بن سعد قال وحدثنا ابن عيينة عن سمي عن النعمان
123

ابن أبي عياش قال ' شكونا إلى النبي
الإدغام والاعتماد في الصلاة فرخص لهم أن يستعين الرجل بمرفقيه على ركبتيه أو فخذيه ' وعند الترمذي عن أبي هريرة ' أنه اشتكى أصحاب النبي
مشقة السجود عليهم فقال استعينوا بالركب ' وروى أبو داود أيضا ولفظه ' اشتكى أصحاب النبي
إلى النبي
مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال استعينوا بالركب وفي المصنف حدثنا يزيد بن هارون عن ابن عون قال ' قلت لمحمد الرجل يسجد إذا اعتمد بمرفقيه على ركبتيه قال ما أعلم به بأسا حدثنا عاصم عن ابن جريج عن نافع قال كان ابن عمر يضم يديه إلى جنبيه إذا سجد حدثنا ابن نمير حدثنا الأعمش عن حبيب قال ' سأل رجل ابن عمر أضع مرفقي على فخذي إذا سجدت فقال اسجد كيف تيسر عليك ' حدثنا وكيع عن أبيه عن أشعث بن أبي الشعثاء عن قيس بن السكن قال كل ذلك قد كانوا يفعلون ويضمون ويتجافون كان بعضهم يضم وبعضهم يتجافى. وفي الأم للشافعي يسن للرجل أن يجافي مرفقيه عن جنبيه ويرفع بطنه عن فخذيه وتضم المرأة بعضها إلى بعض وقال القرطبي وحكم الفرائض والنوافل في هذا سواء
(وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة نحوه)
هذا التعليق أخرجه مسلم في صحيحه فقال حدثنا عمرو بن سواد عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث والليث بن سعد كلاهما عن جعفر بن ربيعة وفي رواية عمرو بن الحارث ' إذا سجد يجنح في سجوده حتى يرى وضح إبطيه ' وفي رواية الليث ' كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى أني لأرى بياض إبطيه ' وقال الكرماني وقال الليث عطف على بكر أي حدثنا يحيى قال الليث حدثني جعفر بلفظ التحديث وما روى بكر عنه بطريق العنعنة
82
((باب فضل استقبال القبلة))
لما فرغ من بيان أحكام ستر العورة بأنواعها شرع في بيان استقبال القبلة على الترتيب، لأن الذي يريد الشروع في الصلاة يحتاج أولا إلى ستر العورة، ثم إلى استقبال القبلة، وذكر ما يتبعها من أحكام المساجد.
يستقبل بأطراف رجليه قاله أبو حميد عن النبي.
0 أي: يستقبل المصلي برؤوس أصابع رجليه نحو القبلة، هذا تعليق قطعة من حديث طويل في صفة الصلاة، رواه أبو حميد عن النبي، وخرجه البخاري مسندا فيما بعد في باب سنة الجلوس في التشهد، وجعل هذه القطعة ترجمة لباب آخر فيما بعد، حيث قال: باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه، قال أبو حميد عن النبي، واسم أبي حميد: عبد الرحمن بن سعد الساعدي الأنصاري المدني، قيل: اسمه المنذر، غلبت عليه كنيته، مات في آخر زمن معاوية.
فإن قلت: ما مطابقة هذه القطعة للترجمة؟ قلت: إذا عرف فرض الاستقبال وعرف فضله عرفت المطابقة؛ أما فرضه فهو توجه المصلي بكليته إلى القبلة، وأما فضله فهو استقباله بجميع ما يمكن من أعضائه حتى بأطراف أصابع رجليه في التشهد، وبوب عليه النسائي، فقال: الاستقبال بأطراف أصابع القدم القبلة عند القعود للتشهد، ثم روى حديث عبد ا بن عمر رضي ا تعالى عنهما، قال: من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة والجلوس على اليسرى. وقال بعضهم: أراد بذكره بيان مشروعية الاستقبال بجميع ما يمكن من الأعضاء. قلت: ليس كذلك، لأن الترجمة في فضل الاستقبال لا في مشروعيته، على ما لا يخفى.
19375 ح دثنا عمرو بن عباس قال حدثنا ابن مهدي قال حدثنا منصور بن سعد عن ميمون بن سياه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته). (الحديث 193 طرفاه في: 293، 393).
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (واستقبل قبلتنا)، بيانه أنه أفرد بذكر استقبال القبلة بعد قوله: (من صلى
124

صلاتنا) مع كونه داخلا فيها، لأنه من شرائطها، وذلك للتنبيه على تعظيم شأن القبلة وعظم فضل استقبالها، وهو غير مقتصر على حالة الصلاة، بل أعم من ذلك على ما لا يخفى.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عمرو، بالواو: ابن عباس، بتشديد الباء الموحدة: أبو عثمان الأهوازي البصري، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين. الثاني: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان أبو سعيد البصري اللؤلؤي. الثالث: منصور بن سعد، وهو صاحب اللؤلؤي البصري. الرابع: ميمون بن سياه، بكسر السين المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف هاء، وهو بالفارسية، ومعناه: الأسود، ويجوز فيه الصرف ومنعه، أما منعه فللعلمية والعجمة، وأما صرفه فلعدم شرط المنع، وهو أن يكون علما في العجم. ولفظ: سياه، ليس بعلم في العجم، فلذلك يكون صرفه أولى. وقال بعضهم: وهو فارسي، وقيل: عربي. قلت: قوله: وقيل عربي، غير صحيح لعدم تصرف وجوه الاشتقاق فيه. الخامس: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه النسائي في الإيمان عن حفص بن عمر عن عبد الرحمن به.
ذكر لغاته ومعناه وإعرابه. قوله: (من صلى صلاتنا) أي: صلى كما نصلي، ولا يوجد إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، ومن اعترف بنبوة محمد فقد اعترف بجميع ما جاء به عن ا تعالى، فلهذا جعل الصلاة علما لإسلامه، ولم يذكر الشهادتين لأنهما داخلتان في الصلاة، وإنما ذكر استقبال القبلة والصلاة متضمنة له مشروطة به، لأن القبلة أعرف من الصلاة، فإن كل أحد يعرف قبلته وإن كان لا يعرف صلاته، ولأن من أعمال صلاتنا ما هو يوجد في صلاة غيرنا: كالقيام والقراءة، واستقبال قبلتنا مخصوص بنا، ثم لما ذكر من العبادات ما يميز المسلم من غيره أعقبه بذكر ما يميزه عادة وعبادة: فقال: (وأكل ذبيحتنا)، فإن التوقف عن أكل الذبائح كما هو من العادات، فكذلك هو من العبادات الثابتة في كل ملة. قال الطيبي: وأقول، وا أعلم، إذا أجري الكلام على اليهود سهل تعاطي عطف الاستقبال على الصلاة بعد الدخول فيها، ويعضده اختصاص ذكر الذبيحة، لأن اليهود خصوصا يمتنعون من أكل ذبيحتنا، وهم الذين حين تحولت القبلة شنعوا بقولهم: * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * (البقرة: 241) أي: صلوا صلاتنا وتركوا المنازعة في أمر القبلة والامتناع عن أكل الذبيحة، لأنه من باب عطف الخاص على العام، فلما ذكر الصلاة عطف ما كان الكلام فيه وما هو مهتم بشأنه عليها، كما أنه يجب عليهم أيضا عند الدخول في الإسلام أن يقروا ببطلان ما يخالفون به المسلمين في الاعتقاد بعد إقرارهم بالشهادتين.
قوله: (صلاتنا)، منصوب بنزع الخافض، وهو في نفس الأمر صفة لمصدر محذوف أي: من صلى صلاة كصلاتنا، كما ذكرناه. قوله: (فذلك المسلم)، جواب الشرط، وذلك، مبتدأ وخبره: المسلم، وقوله: (الذي) صفته، وقوله: (ذمة ا)، كلام إضافي مبتدأ وخبره. هو قوله: له، والجملة صلة الموصول. قوله: (ذمة ا)، الذمة: الأمان والعهد، ومعناه في أمان ا وضمانه، ويجوز أن يراد بها الذمام وهو الحرمة. ويقال: الذمة الحرمة أيضا. قال القزاز: الذمام كل حرمة تلزمك منها مذمة، تقول: ألزمني لفلان ذمام وذمة ومذمة، هذا بكسر الذال، وكذا لزمتني له ذمامة، مفتوح الأول. وفي (المحكم): الذمام والمذمة: الحق، والجمع: أذمة، والذمة: العهد والكفالة، والجمع: ذمم، وفي (الغريبين): قال ابن عرفة: الذمة الضمان وبه سمي أهل الذمة لدخولهم في ضمان المسلمين. قال الأزهري في قوله تعالى: * (إلا ولا ذمة) * أي: ولا أمانا. قوله: (فلا تخفروا ا)، قال ثعلب في (فصيحه): خفرت الرجل إذا أجرته وأخفرته إذا نقضت عهده. وقال كراع في (المجرد) وابن القطاع في كتاب (الأفعال) أخفرته بعثت معه خفيرا، وقال القزاز، خفر فلان بفلان وأخفره إذا غدر به، وقال ابن سيده: خفره خفرا وخفرا وأخفره: نقض عهده وغدره، وأخفر الذمة: لم يف بها. قلت: لا تخفروا، بضم التاء من الإخفار، والهمزة فيه للسلب، أي: لسلب الفاعل عن
المفعول أصل الفعل نحو أشكيته، أي: أزلت شكايته، وكذلك: أخفرته، أي: أزلت خفارته. وقال الخطابي: فلا تخفروا ا، معناه: ولا تخونوا ا في تضييع حق من هذا سبيله، وإنما اكتفى في النهي بذمة ا وحده، ولم يذكر الرسول كما ذكر أولا، لأنه ذكر الأصل لحصول المقصود به ولاستلزامه عدم إخفاره ذمة الرسول، وأما ذكره أولا فللتأكيد وتحقيق عصمته مطلقا، والضمير في ذمته يرجع إلى المسلم أو إلى ا تعالى، فافهم.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: أن أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك، فإذا دخل رجل غريب في بلد من بلاد المسلمين بدين أو مذهب في الباطن
125

غير أنه عليه زي المسلمين حمل على ظاهر أمره على أنه مسلم حتى يظهر خلاف ذلك. وفيه: ما يدل على تعظيم شان القبلة، وهي من فرائض الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدا فلا صلاة له، ومن لا صلاة له فلا دين له. وفيه: أن استقبال القبلة شرط للصلاة مطلقا، إلا في حالة الخوف، ثم من كان بمكة شرفها ا تعالى فالفرض في حقه إصابة عينها سواء كان بين المصلي وبين الكعبة حائل بجدار أو لم يكن، حتى لو اجتهد وصلى فبان خطؤه، فقال الرازي: يعيد، ونقل ابن رستم عن محمد بن الحسن: لا يعيد إذا بان خطؤه بمكة أو بالمدينة، قال: وهو الأقيس لأنه أتى بما في وسعه، وذكر أبو البقاء أن جبريل عليه الصلاة والسلام وضع محراب رسول الله مسامت الكعبة، وقيل: كان ذلك بالمعاينة، بأن كشف الحال وأزيلت الحوائل، فرأى رسول الله الكعبة فوضع قبلة مسجده عليها، وأما من كان غائبا عن الكعبة ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهو قول الكرخي وأبي بكر الرازي وعامة مشايخ الحنفية. وقال أبو عبد ا الجرجاني، شيخ أبي الحسن القدوري الفرض إصابة عينها في حق الحاضر والغائب، وهو مذهب الشافعي. قال النوووي: الصحيح عن الشافعي فرض المجتهد مطلوبية عينها. وفي تعلم أدلة القبلة ثلاثة أوجه: أحدها: أنه فرض كفاية. الثاني: فرض عين ولا يصح. الثالث: فرض كفاية إلا أن يريد سفرا. وقال البيهقي في (المعرفة): والذي روي مرفوعا: (الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الآفاق). فهو حديث ضعيف لا يحتج به. وفيه: أن من جملة الشواهد بحال المسلم أكل ذبيحة المسلمين، وذلك أن طوائف من الكتابيين والوثنيين يتحرجون من أكل ذبائح المسلمين، والوثني الذي يعبد الوثن أي الصنم.
29385 ح دثنا نعيم قال حدثنا ابن المبارك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله..
حديث أنس هذا أخرجه البخاري في هذا الباب من ثلاثة أوجه. الأول: مسند عن عمرو بن عباس الخ، وقد مر. والثاني: فيه خلاف بين الرواة من أربعة أوجه. الأول: حدثه البخاري عن نعيم بن حماد الخزاعي، ونعيم خرجه معلقا من حيث قال: قال ابن المبارك، وهو عبد ا بن المبارك، وهذا هو المذكور في نسختنا. الثاني: قال ابن شاكر راوي البخاري عنه: قال نعيم بن حماد: فالبخاري علقه. والثالث: رواية الأصيلي وكريمة، قال ابن المبارك بغير ذكر نعيم: فالبخاري أيضا علقه. والرابع: وقع مسندا حيث قال في بعض النسخ: حدثنا نعيم حدثنا ابن المبارك... الخ. والثالث من الأوجه: التي ذكرها البخاري: معلق موقوف على ما يأتي عن قريب.
وأخرج أبو داود هذا الحديث في الجهاد والترمذي في الإيمان عن سعيد بن يعقوب عن ابن المبارك. وأخرجه النسائي في المحاربة عن محمد بن حاتم عن حبان عن ابن المبارك.
قوله: (أمرت) أي: أمرني ا تعالى، وإنما طوى ذكر الفاعل لشهرته ولتعظيمه. قوله: (أن أقاتل الناس) أي: بأن أقاتل، وكملة: أن، مصدرية، وأراد بالناس: المشركين. قوله: (حتى يقولوا لا إله إلا ا)، إنما اكتفى بذكر هذا الشرط من غير انضمام: محمد رسول ا، لأنه عبر على طريق الكناية عن الإقرار برسالته بالصلاة والاستقبال والذبح، لأن هذه الثلاثة من خواص دينه، لأن القائلين: لا إله إلا ا، كاليهود فصلاتهم بدون الركوع، وقبلتهم غير الكعبة، وذبيحتهم ليست كذبيحتنا. وقد يجاب بأن هذا الشرط الأول من كلمة الشهادة شعار لمجموعها، كما يقال قرأت: * (ألم ذلك الكتاب) * (البقرة: 1 2) والمراد كل السورة، لا يقال: فعلى هذا لا يحتاج إلى الأمور الثلاثة، لأن مجرد هذه الكلمة التي هي شعار الإسلام محرمة للدماء والأموال، لأنا نقول: الغرض منه بيان تحقيق القول بالفعل وتأكيد أمره، فكأنه قال: إذا قالوها وحققوا معناها بموافقة الفعل لها فتكون محرمة. وأما تخصيص هذه الثلاثة من بين سائر الأركان وواجبات الدين فلكونها أظهرها وأعظمها وأسرعها علما بها، إذ في اليوم الأول من الملاقاة مع الشخص يعلم صلاته وطعامه، غالبا، بخلاف نحو الصوم فإنه لا يظهر الامتياز بيننا وبينهم به ونحو الحج فإنه قد يتأخر إلى شهور وسنين، وقد لا يجب عليه أصلا. قوله: (وذبحوا ذبيحتنا) أي: ذبحوا المذبوح مثل مذبوحنا،
126

والذبيحة على وزن: فعيلة بمعنى: المذبوح. فإن قلت: فعيل: إذا كان بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث فلا تدخله التاء. قلت: لما زال عنه معنى الوصفية وغلبت الإسمية عليه واستوى فيه المذكر والمؤنث فدخله التاء، وقد يقال: إن الاستواء فيه عند ذكر الموصوف معه، وأما إذا انفرد عنه فلا. قوله: (إلا بحقها). أي: إلا بحق الدماء والأموال، وفي حديث ابن عمر: (فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام). قوله: (وحسابهم على ا)، على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب على ا في تحقق الوقوع، وإلا فلا يجب على ا شيء، وكان الأصل فيه أن يقال: وحسابهم أو إلى ا، وقد مر تحقيق الكلام في هذا الباب مستوفى في باب * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (التوبة: 5، 11).
وقال علي بن عبد الله حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا حميد قال سأل ميمون بن سياه أنس بن مالك قال يا أبا حمزة وما يحرم دم العبد وماله فقال من شهد أن لا إله إلا الله
واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم.
هذا معلق وموقوف أما التعليق فإنه قال: قال علي بن عبد ا هو ابن المديني. وفاعل قال الأول: هو: البخاري، وفاعل قال الثاني: ظاهر وهو شيخه علي بن المديني. وأما الوقف فإن أنسا لم يرفعه. قوله: (يا با حمزة) أصله: يا أبا حمزة، فحذفت الهمزة للتخفيف، وأبو حمزة كنية أنس. قوله: (وما يحرم؟)، بالتشديد من التحريم، وكلمة: ما، استفهامية. فإن قلت: و: ما يحرم، عطف على: ماذا؟ قلت: على شيء محذوف كأنه سأل عن شيء قبل هذا، ثم قال: وما يحرم، ولم تقع: الواو، في رواية الأصيلي وكريمة. وقال بعضهم: الواو استئنافية. قلت: الاستئناف كلام مبتدأ فعلى هذا لا يبقى مقول لقال، فيحتاج إلى تقدير. فإن قلت: الجواب: ينبغي أن يكون مطابقا للسؤال، والسؤال هنا عن سبب التحريم، فالجواب كيف يطابقه؟ قلت: المطابقة ظاهرة لأن قوله: من شهد، الخ هو الجواب وزيادة، لأنه لما ذكر الشهادة وما عطف عليها علم أن الذي يفعل هذا هو المسلم، والمسلم يحرم دمه وماله إلا بحقه. قوله: (له) أي: من النفع، و: (عليه) أي: من المضرة، والتقديم يفيد الحصر أي: له ذلك لا لغيره.
(393) قال ابن أبي مريم أخبرنا يحيى قال حدثنا حميد قال حدثنا أنس عن النبي.
هذا أيضا معلق رواه ابن أبي مريم، وهو سعيد بن الحكم المصري عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، وقد وصله أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد الجرجاني حدثنا، إبراهيم بن موسى حدثنا إبراهيم بن هانىء حدثنا عمرو بن الربيع (ح) وحدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا أبو عروبة حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا ابن أبي مريم، قالا: حدثنا يحيى بن أيوب أخبرني حميد سمع أنسا... فذكره، وفي هذا فائدة وهي: تصريح حميد بسماعه إياه من أنس، ولكن طعن فيه الإسماعيلي وقال: الحديث حديث ميمون وإنما سمعه حميد منه، ولا يحتج بيحيى بن أيوب في قوله: عن حميد حدثنا أنس قال، ويدل على ذلك ما أخبرنا يحيى بن محمد بن البحتري حدثنا عبيد ا بن معاذ حدثنا أبي عن حميد عن ميمون، قال: (سألت أنسا ما يحرم مال المسلم ودمه؟) الحديث
قلت: رواية معاذ لا دليل فيها على أن حميدا لم يسمعه من أنس، لأنه يجوز أن يكون سمعه من أنس ثم استثبت فيه عن ميمون، فكأنه تارة يحدث به عن أنس لأجل العلو، وتارة عن ميمون للاستثبات، وقد جرت عادة حميد وغيره بهذه الطريقة. فإن قلت: جاء عن أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا ا، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). وجاء عن ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا ا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)، وجاء عن أنس المذكور في هذا الباب، فما التوفيق بين هذه الروايات الثلاث؟ قلت: إنما اختلفت هذه الألفاظ فزادت ونقصت لاختلاف الأحوال والأوقات التي وقعت هذه الأقوال فيها، وكانت أمور الشريعة تشرع شيئا فشيئا فخرج كل قول فيها على شرط المفروض في حينه، فصار كل منها في زمانه شرطا لحقن الدم وحرمة المال، ولا منافاة بين الروايات ولا اختلاف.
127

92
((باب قبلة أهل المدينة وأهل الشأم والمشرق ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة))
هذا الموضع يحتاج إلى تحرير قوي، فإن أكثر من تصدى لشرحه لم يغن شيئا بل بعضهم ركب البعاد وخرط القتاد، فنقول، وبا التوفيق: إن قوله: باب، إما أن يضاف إلى ما بعده أو يقطع عنه، وإن لفظة: قبلة، بعد قوله: ولا في المغرب، إما أن تكون موجودة أو لا، ولكل واحد من ذلك وجه.
ففي القطع وعدم وجود لفظة: قبلة، يكون لفظة. باب، منونا على تقدير: هذا باب. ويجوز أن يكون ساكنا مثل تعداد الأسماء لأن الإعراب لا يكون إلا بالعقد والتركيب، ويكون قوله: قبلة أهل المدينة، الذي هو كلام إضافي مبتدأ، أو، قوله: وأهل الشام، بالجر عطفا على المضاف إليه، وكذلك قوله: والمشرق، بالجر. و قوله: ليس في المشرق، خبر المبتدأ. ولكن لا بد فيه من تقديرين: أحدهما: أن يقدر لفظ: قبلة، الذي هو المبتدأ بلفظ: مستقبل أهل الشام، لوجوب التطابق بين المبتدأ والخبر في التذكير والتأنيث. والثاني: أن يؤول لفظ: المشرق، بالتشريق، ولفظ: المغرب، بالتغريب، والعرب تطلق المشرق والمغرب لمعنى التشريق والتغريب، قاله ثعلب وأنشد.
أبعد مغربهم بغداد ساحتها
وقال ثعلب: معناه أبعد تغريبهم؟ فإن قلت: لم لم يذكر: المغرب، بعد قوله: والمشرق، مع أن العلة فيهما مشتركة؟ قلت: اكتفى بذلك عنه كما في قوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 18) أي: والبرد، وأما تخصيص المشرق فلأن أكثر بلاد الإسلام في جهة المشرق.
وأما في الإضافة، وتقدير وجود لفظ: قبلة، بعد قوله: ولا في المغرب، فتقديره؛ هذا باب في بيان قبلة أهل المدينة وقبلة أهل الشام وقبلة أهل المشرق، ثم بين ذلك بالجملة الاستئنافية، وهي قوله: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، ولهذا ترك العاطف، والجملة الاستئنافية في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه: لما قال: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، انتصب سائل فقال: كيف قبلة هذه المواضع؟ فقال: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة. وقال السفاقسي: يريد أن قبلة هؤلاء المسلمين ليست في المشرق منهم ولا في المغرب، بدليل أن النبي، أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق منهم والمغرب. قلت: معناه: القبلة ما بينهما، لما روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال النبي: (ما بين المشرق والمغرب قبلة). ثم قال: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي: ما بين المشرق والمغرب قبلة، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس، وقال ابن عمر: (إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة) وقوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة)، ليس عاما في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة الشريفة، وما وافق قبلتها، وقال البيهقي في (
الخلافيات): والمراد، وا أعلم، أهل المدينة. ومن كانت قبلته على سمت أهل المدينة. وقال أحمد بن خالد الذهبي: قول عمر بن الخطاب، رضي ا تعالى عنه: ما بين المشرق والمغرب قبلة، قاله بالمدينة، فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة فهو من سعة ما بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال، ونحو ذلك؛ وقال ابن بطال: تفسير هذه الترجمة يعني: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة والشام في الأمر بالانحراف عند الغائط، لأنهم إذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها. قال: وأما ما قابل مشرق مكة من البلاد التي تكون تحت الخط المار عليها من مشرقها، إلى مغربها فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم أن يشرقوا. ولا أن يغربوا لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة، وإذا غربوا استقبلوها، وكذلك من كان موازيا بمغرب مكة إن غرب استدبر القبلة، وإن شرق استقبلها، وإنما ينحرف إلى الجنوب أو الشمال، فهذا هو تغريبه وتشريقه.
قال: وتقدير الترجمة: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب ليس في التشريق ولا في التغريب يعني أنهم عند الانحراف للتشريق والتغريب ليسوا مواجهين للقبلة ولا مستدبرين لها.
لقول النبي (لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا). هذا التعليق رواه النسائي موصولا. فقال: أخبرنا منصور، قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي، قال: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا). واحتج البخاري
128

بعموم هذا الحديث، وسوى بين الصحاري والأبنية، وجعله دليلا للترجمة التي وضعها، واعترض عليه بأن في نفس حديثه الذي ذكره أبو داود في (سننه) والبخاري أيضا على ما يجيء الآن، ما يدل على عكس ما أراده وذلك أن أبا أيوب رضي ا تعالى عنه، قال في حديثه، (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، لكنا ننحرف عنها، ونستغفر ا عز وجل). قلت: لا يرد عليه هذا أصلا لأن المنع لأجل تعظيم القبلة وهو موجود في الصحراء والبنيان، ولهذا قال أبو أيوب: (لكنا ننحرف عنها ونستغفر ا عز وجل)، وهذا هو الذي ذهب إليه أبو حنيفة، وبه قال أحمد في رواية، وذهب الشافعي ومالك إلى أنه يحرم استقبال القبلة في الصحراء بالبول والغائط، ولا يحرم ذلك في البنيان، وقد استقصينا الكلام فيه في كتاب الوضوء.
49395 ح دثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) قال أبو أيوب فقدمنا الشأم فوجدنا مراحيض بنيت قبل القبلة فننحرف ونستغفر الله تعالى. (انظر الحديث 441).
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (شرقوا أو غربوا) لأنه قال فيها: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة، فإذا لم تكن فيهما قبلة يتوجه المستنجي إليها إما يشرق وإما يغرب.
ذكر رجاله وهم خمسة: علي بن عبد ا المديني، وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، واسم أبي أيوب خالد بن زيد رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب عن الزهري، وأخرجه مسلم فيها عن يحيى بن يحيى وزهير وابن نمير، وأبو داود فيها أيضا عن مسدد، والترمذي أيضا عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، خمستهم عن سفيان به، والنسائي أيضا عن محمد بن منصور عن سفيان به، وابن ماجة كذلك عن أبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب عن يونس عن الزهري نحوه.
ذكر معناه قوله: (الغائط)، اسم للأرض المطمئنة لقضاء الحاجة. قوله: (فقدمنا الشام)، وهو إقليم مشهور يذكر ويؤنث، ويقال مهموزا ومسهلا، وسميت بسام بن نوح عليه الصلاة والسلام، لأنه أول من نزلها، فجعلت السين شينا معجمة تغييرا للفظ الأعجمي، وقيل: سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض فشبهت بالشامات. قوله: (مراحيض)، بفتح الميم وبالحاء المهملة والضاد المعجمة: جمع مرحاض، بكسر الميم، وهو البيت المتخذ لقضاء حاجة الإنسان، أي: التغوط، قوله: (قبل الكعبة)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: مقابلها. قوله: (فننحرف) أي: عن جهة القبلة من الانحراف. ويروى: (فنتحرف) من التحرف. قوله: (ونستغفر ا تعالى)، قيل: نستغفر ا لمن بناها فإن الاستغفار للمذنبين سنة. وقيل: نستغفر ا من الاستقبال، وقيل: نستغفر ا من ذنوبه. ويقال: لعل أبا أيوب لم يبلغه حديث ابن عمر في ذلك ولم يره مخصصا. وحمل ما رواه على العموم، وهذا الاستغفار لنفسه لا للناس على هذه الهيئة. فإن قلت: الغالط والساهي لم يفعل إثما فلا حاجة فيه إلى الاستغفار. قلت: أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذا بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في التحفظ ابتداء، وقد مر ما يستنبط منه فيما مضى في كتاب الوضوء.
وعن الزهري عن عطاء قال سمعت أبا أيوب عن النبي مثله.
قوله: (وعن الزهري) عطف على قوله: (حدثنا سفيان عن الزهري) يعني بالإسناد المذكور أيضا عن الزهري عن عطاء بن يزيد المذكور، سمعت أبا أيوب. وفائدة ذكره مكررا أن في الطرق الأول عنعن الزهري عن عطاء عن أبي أيوب، وفي هذا الطريق صرح عطاء بالسماع عن أبي أيوب، والسماع أقوى من العنعنة. وقال الكرماني: السماع أقوى من العنعنة. وهي أقوى من أن، لكن فيه ضعف من جهة التعليق عن الزهري. قلت: الظاهر مع الكرماني، ولكن الحديث بهذا
129

الطريق مسندا في مسند إسحاق بن راهويه عن سفيان. إلى آخره. وا أعلم.
03
((باب قول الله تعالى: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) *
(البقرة: 521).))
أي هذا باب قول ا تعالى إنما بوب بهذه الآية الكريمة لأن فيها بيان القبلة على ما نذكره، وهذا أيضا هو وجه المناسبة في ذكر هذا الباب بين هذه الأبواب المذكورة ههنا المتعلقة بالقبلة وأحكامها. قوله: (واتخذوا) بلفظ الأمر على القراءة المشهورة. وقال الزمخشري: واتخذوا على إرادة القول أي: وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهو على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب. وقال غيره: وقرئ بلفظ الماضي عطفا على * (جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا) * (البقرة: 521) وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن شيبة النميري حدثنا أبو خلف، يعني: عبد ا بن عيسى، حدثنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521) قال: مقام إبراهيم الحرم كله، وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك. وقال السدي: المقام: الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام، حتى غسلت رأسه، حكاه القرطبي وضعفه ورجح غيره، وحكاه الرازي في (تفسيره) عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن حجة النبي قال: (لما طاف النبي قال له عمر رضي ا تعالى عنه: هذا مقام أبينا إبراهيم عليه السلام؟ قال: نعم. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل ا عز وجل: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521).
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: قال عمر: (قلت: يا رسول ا هذا مقام خليل ربنا؟ قال: نعم. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 521). وقال ابن مردويه؛ حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا غيلان بن عبد الصمد حدثنا مسروق بن المرزبان حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون: (عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم عليه السلام فقال: يا رسول ا أليس تقوم مقام خليل ا؟ قال: بلى. قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (البقرة: 521) وحكى ابن بطال عن ابن عباس أنه قال: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله مقام إبراهيم، وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح عنه قال: هو عرفة وجمع ومنى. وقال عطاء: مقام، إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار، واختلفوا في قوله: * (مصلى) * (البقرة: 521) فقال مجاهد: مدعى، كأنه أخذه من: صليت، بمعنى: دعوت. وقال الحسن؛ قبلة، وقال السدي وقتادة: أمروا أن يصلوا عنده، ولا شك أن من صلى إلى الكعبة من غير الجهات الثلاث التي لا تقابل مقام إبراهيم فقد أدى فرضه، فالفرض إذا البيت لا المقام، وقد صلى الشارع خارجها، وقال: هذه القبلة، ولم يستقبل المقام حين صلى داخلها، ثم استقبل المقام فإن المقام إنما يكون قبلة، إذا جعله المصلى بينه وبين القبلة.
60 - (حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار قال سألنا ابن عمر عن رجل طاف بالبيت للعمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته فقال قدم النبي
فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة وقد لكم في رسول الله أسوة حسنة وسألنا جابر بن عبد الله فقال لا يقربنها حتى يطوف بين الصفا والمروة)
مطابقته للترجمة في قوله ' وصلى خلف المقام '
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول الحميدي بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف واسمه عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي أبو بكر المكي ونسبته إلى بطن من قريش يقال له حميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى. الثاني سفيان بن عيينة. الثالث عمرو بن دينار المكي. الرابع عبد الله بن عمر بن الخطاب. الخامس جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهم.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه السؤال في موضعين وفيه أن رواته الثلاثة مكيون ولا يدخل هذا الحديث في مسند جابر لأنه لم يرفعه إنما هو من مسند ابن عمر قاله خلف *
130

(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري ههنا وفي الحج عن الحميدي وفي الحج أيضا عن قتيبة وعلي بن عبد الله فرقهم ثلاثتهم عن سفيان وعن آدم عن شعبة وعن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج وأخرجه مسلم في الحج عن زهير بن حرب عن سفيان وعن يحيى بن يحيى وعن أبي الربيع الزهراني كلاهما عن حماد بن زيد وعن عبد الله بن حميد عن محمد بن بكر عن ابن جريج وأخرج النسائي فيه عن قتيبة ومحمد بن منصور وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري فرقهم ثلاثتهم عن سفيان وعن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد وعمرو بن عبد الله كلاهما عن وكيع
(ذكر معناه) قوله ' طاف بالبيت للعمرة ' كذا هو في رواية الأكثرين وفي رواية المستملي والحموي ' طاف بالبيت للعمرة ' بحذف اللام من قوله ' للعمرة ' ولا بد من تقديره إذ المعنى لا يصح بدونه قوله ' ولم يطف ' أي لم يسع بين الصفا والمروة فأطلق الطواف على السعي إما لأن السعي نوع من الطواف وإما للمشاكلة ولوقوعه في مصاحبة طواف البيت قوله ' يأتي امرأته ' الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستفسار أي أيجوز له الجماع يعني أحصل له التحلل من الإحرام قبل السعي بين الصفا والمروة أم لا قوله ' فقال ' أي ابن عمر في جوابه قدم النبي
إلى آخره فأجاب ابن عمر بالإشارة إلى وجوب اتباع النبي
لا سيما في أمر المناسك لقوله
' خذوا عني مناسككم ' والنبي
ما تحلل قبل السعي فيجب التأسي به وهو معنى قوله ' وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ' والأسوة بضم الهمزة وكسرها أي قدوة قوله ' لا يقربنها ' جملة فعلية مضارعية مأكدة بالنون الثقيلة وهذا جواب جابر بن عبد الله بصريح النهي عنه وإنما خص إتيان المرأة بالذكر وإن كان الحكم سواء في جميع المحرمات لأن إتيان المرأة من أعظم المحرمات
(ذكر ما يستنبط منه) فيه أن السعي واجب في العمرة وهو مذهب العلماء كافة إلا ما حكاه عياض عن ابن عباس أنه أجاز التحلل بعد الطواف وإن لم يسع وهو ضعيف ومخالف للسنة. وفيه أن الطواف لا بد فيه من سبعة أشواط. وفيه الصلاة ركعتين خلف المقام فقيل أنها سنة وقيل واجبة وقيل تابعة للطواف إن كان الطواف سنة فالصلاة سنة وإن كان واجبا فالصلاة واجبة
61 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سيف قال سمعت مجاهدا قال أتي ابن عمر فقيل له هذا رسول الله
دخل الكعبة فقال ابن عمر فأقبلت والنبي
قد خرج وأجد بلالا قائما بين البابين فسألت بلالا فقلت أصلى النبي
في الكعبة قال نعم ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين)
مطابقته للترجمة في قوله ' فصلى في وجه الكعبة ' أي مواجه باب الكعبة وهو مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول مسدد بن مسرهد. الثاني يحيى القطان. الثالث سيف بفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء ابن سليمان أو ابن أبي سليمان المخزومي المكي ثبت صدوق مات سنة إحدى وخمسين ومائة. الرابع مجاهد الإمام المفسر تكرر ذكره. الخامس عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه السماع وفيه أن رواته ما بين بصري ومكي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري في مواضع هنا عن مسدد عن يحيى وأخرجه أيضا عن أبي نعيم عن يحيى عن سيف وفي الحج عن قتيبة عن الليث عن ابن شهاب عن سالم وحديث أن النبي
صلى بين العمودين أخرجه البخاري أيضا في الصلاة وفي الأطراف للمزي في المغازي عن إبراهيم بن المنذر وعن ابن
131

محمد عن ابن المبارك وعن عبد الله بن يوسف عن مالك وعن موسى بن إسماعيل وعن محمد بن شريح بن النعمان وفي الجهاد عن يحيى بن بكير عن الليث وفي الصلاة عن أبي النعمان وقتيبة كلاهما عن حماد بن زيد وأخرجه مسلم في الحج عن قتيبة ومحمد بن رمح كلاهما عن الليث وعن حرملة وعن يحيى بن يحيى وعن أبي الربيع وعن ابن أبي عمر وعن أبي بكر ابن أبي شيبة وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن زهير بن حرب وعن حميد بن مسعدة. وأخرجه أبو داود في الحج عن القعنبي وعن عبد الله بن محمد بن إسحاق وعن عثمان ابن أبي شيبة وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين وعن يعقوب بن إبراهيم وعن أحمد بن سليمان وعن عمرو بن علي وعن محمد بن عبد الأعلى وأخرجه ابن ماجة فيه عن عبد الرحمن بن إبراهيم
(ذكر معناه) قوله ' أتى ابن عمر ' بضم الهمزة على صيغة المجهول قوله ' خرج ' أي من الكعبة قوله ' وأجد ' على صيغة المتكلم وحده من المضارع وكان المناسب أن يقول ووجدت بعد قوله ' فأقبلت ' لكنه عدل عن الماضي إلى المضارع حكاية عن الحال الماضية واستحضارا لتلك الحالة قوله ' بلالا ' منصوب لأنه مفعول أجد وقائما منصوب لأنه حال من بلال قوله ' بين البابين ' قال الكرماني أي مصارعي الباب إذا الكعبة لم يكن لها حينئذ إلا باب واحد وأطلق ذلك باعتبار ما كان من البابين لها في زمن إبراهيم عليه السلام أو أنه كان في زمان رواية الراوي لها بابان لأن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه جعل لها بابين وقال بعضهم بين البابين أي المصراعين وحمله الكرماني على حقيقة التثنية وقال أراد بالباب الثاني الباب الذي لم تفتحه قريش حين بنت الكعبة وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالا في وسط الكعبة وفيه بعد (قلت) الكرماني فسر قوله بين البابين بثلاثة أوجه فأخذ هذا القائل الوجه الأول من تفسيره ولم يعزه إليه ثم نسب إليه ما لم تشهد به عبارته لأن عبارة الكرماني في شرحه ما ذكرته الآن ثم قال وهذا يلزم منه أن يكون ابن عمر وجد بلالا في وسط الكعبة (قلت) هذه الملازمة ممنوعة لأن عبارة الكلام لا تقتضي ذلك ثم قال وفيه بعد (قلت) ما فيه بعد بل البعد في الذي اختاره من التفسير وهو ظاهر لا يخفى في رواية الحموي ' وأجد بلالا قائما بين الناس ' بالنون والسين المهملة قوله ' أصلى النبي
' الهمزة فيه للاستفهام قوله ' قال نعم ركعتين ' أي نعم صلى ركعتين قوله ' بين الساريتين ' تثنية سارية وهي الأسطوانة قوله ' على يساره ' الضمير فيه يرجع إلى الداخل بقرينة إذا دخلت وفي بعض النسخ ' يسارك ' وهذا هو المناسب أو كان يقول إذا دخل ووجه الأول أن يكون من الالتفات أو يكون الضمير فيه عائدا إلى البيت قوله ' ثم خرج ' أي من البيت قوله ' في وجه الكعبة ' أي مواجه باب الكعبة وهو مقام إبراهيم عليه السلام أو يكون المعنى في جهة الكعبة فيكون أعم من جهة الباب قوله ' ركعتين ' مفعول قوله ' فصلى '
(ذكر ما يستنبط منه) فيه جواز الدخول في البيت وفي المغني ويستحب لمن حج أن يدخل البيت ويصلي فيه ركعتين كما فعل النبي
ولا يدخل البيت بنعليه ولا خفيه ولا يدخل الحجر أيضا لأن الحجر من البيت. وفيه استحباب الصلاة ركعتين في البيت فإن بلالا أخبر في هذا الحديث أنه
صلى فيه ركعتين قال النووي أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت ومعه زيادة علم فوجب ترجيحه وأما نفي من نفى كأسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة
أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي
يدعو فاشتغل هو أيضا بالدعاء في ناحية من نواحي البيت ورسول الله
في ناحية أخرى وبلال قريب منه ثم صلى النبي
فرآه بلال بقربه ولم يره أسامة لبعده مع خفة الصلاة وإغلاق الباب واشتغاله بالدعاء وجاز له نفيها عملا بظنه وقال بعض العلماء يحتمل أنه
دخل البيت مرتين فمرة صلى فيه ومرة دعا فلم يصلي ولم تتضاد الأخبار (قلت) روى الدارقطني من حديث ابن عباس قال ' دخل رسول الله
البيت فصلى بين الساريتين ركعتين ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين ثم قال هذه القبلة ثم دخل مرة أخرى فقام فيه يدعو ثم خرج ولم يصل (فإن قلت) روى الطبراني من حديث ابن عباس قال ' ما أحب أن أصلي في الكعبة من صلى فيها فقد ترك شيئا خلفه ولكن حدثني أخي أن رسول الله
حين دخلها خر بين العمودين ساجدا ثم قعد فدعا ولم يصل ' (قلت) هذان نفي وإثبات في روايتين فرواية الإثبات مقدمة كما ذكرنا وكيف
132

وقد صرح بلال في الحديث المذكور بقوله ' نعم ركعتين ' (فإن قلت) قال الإسماعيلي المشهور عن ابن عمر من طريق نافع وغيره عنه أنه قال ' ونسيت أن أسأله كم صلى ' فدل على أنه أخبره بالكيفية وهي تعيين الموقف في الكعبة ولم يخبره بالكمية ونسي هو أن يسأله عنها (قلت) أجيب بأن المراد من قوله صلى الصلاة المعهودة وأقلها ركعتان لأنه لم ينقل عن النبي
أنه تنفل في النهار بأقل من ركعتين فكانت الركعتان متحققا وقوعهما وأصرح من هذا ما رواه عمرو بن أبي شيبة في كتاب مكة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث ' فاستقبلني بلال فقلت ما صنع رسول الله
ههنا فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى ' فعلى هذا يحمل قوله ' نسيت أن أسأله كم صلى ' على أنه لم يسأله باللفظ ولم يجبه باللفظ وإنما استفيد منه صلاته الركعتين بالإشارة لا بالنطق وقد قيل يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر نسي أن يسأل بلالا ثم لقيه مرة أخرى فسأل وقال بعضهم فيه نظر من وجهين أحدهما أن القصة لم تتعدد لأنه أتى في السؤال بالفاء المعقبة في الروايتين معا فقال في هذه فأقبلت ثم قال فسألت بلالا وقال في الأخرى فبدرت فسألت بلالا فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد وثانيهما أن راوي قول ابن عمر ونسيت هو نافع مولاه ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمر على حكاية النسيان ولا يتعرض لحكاية الذكر أصلا (قلت) في نظره نظر من وجوه. الأول أن قوله أن القصة لم تتعدد دعوى بلا برهان فما المانع من تعددها. والثاني أنه علل على ذلك بالفاء لكونها للتعقيب ولقائل أن يقول له فلم لا يجوز أن تكون الفاء ههنا بمعنى ثم كما في قوله تعالى * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة) * فإن الفاء في * (فخلقنا المضغة) * وفي * (فكسونا) * بمعنى ثم لتراخي معطوفاتها وتارة تكون بمعنى الواو كما في قول الشاعر
* بين الدخول فحومل
*. ولئن سلمنا أنها للتعقيب وهو في كل شيء بحسبه ألا ترى أنه يقال تزوج فلان فولد له إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل وإن كان مدة متطاولة ودخلت البصرة فبغداد إذا لم يقم في البصرة ولا بين البلدتين. والثالث أن قوله ويبعد مع طول ملازمته إلى آخره غير بعيد فإن الإنسان مأخوذ من النسيان (فإن قلت) قال عياض أن قوله ركعتين غلط من يحيى بن سعيد القطان لأن ابن عمر قد قال نسيت أن أسأله كم صلى وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين (قلت) لم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتى يغلط فقد تابعه أبو نعيم عند البخاري والنسائي وأبو عاصم عند ابن خزيمة وعمر بن علي بن الإسماعيلي وعبد الله بن نمير عند أحمد عنه كلهم عن سيف ولم ينفرد به سيف أيضا فقد تابعه عليه خصيف عن مجاهد عند أحمد ولم ينفرد به مجاهد عن ابن عمر فقد تابعه عليه ابن أبي مليكة عند أحمد. والنسائي وعمرو بن دينار عند أحمد أيضا باختصار ومن حديث عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني بإسناد قوي ومن حديث أبي هريرة عند البزار ومن حديث عبد الرحمن بن صفوان قال ' فلما خرج سألت من كان معه فقالوا صلى ركعتين عند السارية الوسطى ' أخرجه الطبراني بإسناد صحيح ومن حديث شيبة بن عثمان قال ' لقد صلى ركعتين عند العمودين ' أخرجه الطبراني بإسناد جيد فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقدم عياض على تغليط حافظ جهبذ من غير تأمل في بابه. وفيه حجة لمن يقول الأولى في نفل النهار ركعتان والشافعي يقول الأفضل في النوافل مثنى مثنى في الليل والنهار وهو قول مالك وأحمد وقال أبو يوسف ومحمد مثنى أفضل بالليل وقال أبو حنيفة الأربع أفضل في الليل والنهار واحتج في ذلك بحديث ابن عباس حين بات عند خالته ميمونة يرقب صلاة النبي
وفيه ' كان يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن '. وفيه حجة على ابن جرير الطبري حيث قال بعدم جواز الصلاة في الكعبة فرضا كان أو نفلا وقال مالك لا تصلى فيه الفريضة ولا ركعتا الطواف الواجب فإن صلى أعاد في الوقت ويجوز أن يصلي فيه النافلة وفي المسالك لابن العربي روى محمد عن أصبغ أن من صلى في البيت أعاد أبدا وقال محمد لا إعادة عليه وقال أشهب من صلى على ظهر البيت أعاد أبدا وعند أبي حنيفة يجوز الفرض والنفل فيه وبه قال الشافعي
89326 حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال سمعت ابن عباس قال لما دخل النبي البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل
133

حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: (هذه القبلة). (الحديث 893 أطرافه في: 1061، 1533، 2533، 8824).
مطابقته للترجمة في قوله: (قبل الكعبة)، والمراد: مقابل الكعبة، وهو مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: إسحاق بن نصر، ذكر في (أسماء رجال الصحيحين) إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي، وكان ينزل المدينة، وروى عنه البخاري في غير موضع في كتابه، مرة يقول: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سعد، ومرة يقول: حدثنا إسحاق بن نصر، فينسبه إلى جده. الثاني: عبد الرزاق بن
همام. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: عبد ا بن عباس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: إسحاق وقع منسوبا في الروايات كلها، وبذلك جزم الإسماعيلي وأبو نعيم وابن مسعود وآخرون، وذكر أبو العباس في (الأطراف) له: أن البخاري أخرجه عن إسحاق غير منسوب، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في (مستخرجيهما) من طريق إسحاق بن راهويه عن عبد الرزاق شيخ إسحاق بن نصر فيه بإسناده هذا، فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد، وكذلك رواه مسلم من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج، وهو الأرجح. قلت: هذا يدل على أن هذا الحديث من مراسيل ابن عباس، وأيضا لم يثبت أن ابن عباس دخل الكعبة مع النبي. وفيه: أن رواته ما بين مدني وصنعاني ومكي.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم في المناسك عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد بن حميد، كلاهما عن محمد بن بكر عن ابن جريج عن عطاء به، وفيه قصة، وأخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق عن ابن جريج بإسناده، ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن أسامة، ولم يذكر ابن عباس.
ذكر معانيه قوله: (في نواحيه) جمع: ناحية وهي الجهة. قوله: (ركع) أي: صلى، أطلق الجزء وأراد الكل. قوله: (في قبل الكعبة)، بضم القاف والباء الموحدة، وتضم الباء وتسكن أي: مقابلها وما استقبلك منها. قوله: (هذه القبلة)، الإشارة إلى الكعبة. وقال الخطابي: معناه أن أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم فصلوا إليه أبدا، ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الإمام فإنه يقف في وجهها دون أركانها وجوانبها الثلاثة، وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة. ويحتمل أنه دل بهذا القول على أن حكم من شاهد البيت وعاينه خلاف حكم الغائب عنه فيما يلزمه من مواجهته عيانا دون الاقتصار على الاجتهاد، وذلك فائدة ما قال: هذه القبلة، وإن كانوا قد عرفوها قديما وأحاطوا بها علما. وقال النووي: ويحتمل معنى آخر وهو: أن معناه: هذه الكعبة هي المسجد الحرام أمرتم باستقباله، لا كل الحرم ولا مكة ولا المسجد الذي هو حول الكعبة، بل هي الكعبة نفسها فقط. فإن قلت: روى البزار من حديث عبد ا بن حبشي الخثعمي قال: (رأيت رسول الله يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: أيها الناس إن الباب قبلة البيت). قلت: هذا محمول على الندب لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته، كما أشرنا إليه.
ووجه التوفيق بين هذه الرواية والتي قبلها قد مر مستوفى.
13
((باب التوجه نحو القبلة حيث كان))
أي: هذا باب في بيان التوجه إلى جهة القبلة حيث كان المصلي، أي: حيث وجد في سفر أو حضر، وكان، تامة فلذلك: اقتصر على اسمه، والمراد به: في صلاة الفريضة، وذلك لقوله تعالى: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 441، 051).
والمناسبة بين البابين ظاهرة.
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استقبل القبلة وكبر).
هذا التعليق طرف من حديث أبي هريرة في قصة المسئ في صلاته، ساقه البخاري بهذا اللفظ في كتاب الاستئذان.
99336 ح دثنا عبد الله بن رجاء قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي ا عنهما قال كان رسول الله صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة
134

عشر شهرا وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله عز وجل قد نرى تقلب وجهك في السماء فتوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعدما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر نحو بيت المقدس فقال هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة..
مطابقته للترجمة في قوله: (فتوجه نحو الكعبة التي استقرت قبلة أبدا) في أي حالة كان المصلي صلاة الفرض.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: عبد ا بن رجاء، بتخفيف الجيم: الغداني، بضم الغين المعجمة. الثاني: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق. الثالث: أبو إسحاق السبيعي، جد إسرائيل واسمه: عمرو بن عبد ا الكوفي. الرابع: البراء بن عازب رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في باب الصلاة من الإيمان عن عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء، وأخرجه في التفسير أيضا عن أبي نعيم وعن محمد بن المثنى، وفي خبر الواحد عن يحيى عن وكيع. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن المثنى وأبي بكر بن خلاد. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقد ذكرنا جميع ذلك في باب الصلاة من الإيمان.
ذكر معناه قوله: (صلى نحو بيت المقدس) أي: بالمدينة، صلى جهة بيت المقدس (ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا) فالشك من البراء، وكذا وقع الشك عند البخاري في رواية زهير وأبي نعيم، ورواه أبو عوانة في (صحيحه): من رواية أبي نعيم، فقال: ستة عشر، من غير شك، وكذا في رواية مسلم رواية الأحوص، والنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة. ووقع في رواية أحمد والطبراني، عن ابن عباس: سبعة عشر، ونص النووي على صحة ستة عشر، والقاضي على صحة
سبعة عشر وهو قول أبي إسحاق وابن المسيب ومالك بن أنس؛ والجمع بينهما أن من جزم بستة عشر أخذ من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا، وألغى الأيام الزائدة فيه، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد فيهما، وذلك أن قدوم النبي المدينة كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب في السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
وجاءت فيه روايات أخرى: ففي (سنن) أبي داود وابن ماجة: ثمانية عشر شهرا، وحكى المحب الطبري: ثلاثة عشر شهرا، وفي رواية أخرى سنتين، وأغرب منهما: تسعة أشهر، وعشرة أشهر، وهما شاذان. قوله: (أن يوجه) على صيغة المجهول. قوله: (وصلى مع النبي عليه الصلاة والسلام، رجل) واسمه: عباد بن بشر، قاله ابن بشكوال. وقال أبو عمر: عباد بن نهيك، بفتح النون وكسر الهاء، ووقع في رواية المستملي والحموي: (فصلى مع النبي رجال)، بالجمع. وقال الكرماني: فعلى هذه الرواية إلى ما يرجع الضمير في قوله: (ثم خرج)؟ قلت: إلى ما دل عليه؛ رجال، وهو مفرد، أو معناه: ثم خرج خارج. قلت: معناه على هذا: ثم خرج خارج منهم، فيكون الفاعل محذوفا. قوله: (بعدما صلى) كلمه: ما، إما مصدرية وإما موصولة. قوله: (في صلاة العصر نحو بيت المقدس)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس)، أي: جهته. قوله: (فقال) أي: الرجل.
قوله: (وهو يشهد) أراد به نفسه، ولكن عبر عنها بلفظ الغيبة على سبيل التجريد، أو على طريقة الالتفات، أو نقل كلامه بالمعنى، ويؤيده الرواية المذكورة في باب الإيمان من الصلاة بلفظ: أشهد، ووقع هنا صلاة العصر، وجاء في رواية أخرى عن ابن عمر في البخاري ومسلم والنسائي: صلاة الصبح، والتوفيق بينهما أن هذا الخبر وصل إلى قوم كانوا يصلون في نفس المدينة صلاة العصر، ثم وصل إلى أهل قبا في صبح اليوم الثاني، لأنهم
135

كانوا خارجين عن المدينة، لأن قبا من جملة سوادها، وفي حكم رساتيقها، وقد استقصينا الكلام فيه في باب الصلاة من الإيمان.
ذكر ما يستنبط منه فيه: جواز نسخ الأحكام عند الجمهور إلا طائفة لا يقولون به ولا يعبأ بهم. وفيه: الدليل على نسخ السنة بالقرآن عند الجمهور، وللشافعي فيه قولان. وفيه: دليل على قبول خبر الواحد. وفيه: وجوب الصلاة إلى القبلة والإجماع على أنها الكعبة. وفيه: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين. وفيه: أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، وفي هذا الباب أبحاث طويلة، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالمراجعة إلى ما ذكرنا في شرح باب الصلاة من الإيمان.
00446 حدثنا مسلم قال حدثنا هشام قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن عن جابر قال كان رسول الله يصلي على راحلته حيث توجهت فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة. (الحديث 004 أطرافه في: 4901، 9901، 0414).
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (فاستقبل القبلة).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: مسلم بن إبراهيم القصاب، الثاني: هشام الدستوائي. الثالث: يحيى بن أبي كثير، بالثاء المثلثة. الرابع: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري المدني. الخامس: جابر بن عبد ا الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: ذكر مسلم شيخ البخاري غير منسوب وفي رواية الأصيلي مسلم بن إبراهيم. وفيه: ذكر هشام أيضا غير منسوب، وفي رواية الأصيلي: هشام بن أبي عبد ا. وفيه: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس له في الصحيح عن جابر غير هذا الحديث، وفي طبقته: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، ولم يخرج له البخاري عن جابر شيئا. وفيه: أن رواته ما بين بصري ويماني ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في تقصير الصلاة عن معاذ بن فضالة عن هشام، وعن أبي نعيم عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير به، وأخرجه أيضا في المغازي عن آدم عن ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبد ا بن سراقة عن جابر رضي ا تعالى عنه. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر، قال: (رأيت رسول الله يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر). وأخرج أبو داود والترمذي من حديث جابر: (بعثني النبي في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض)، قال الترمذي: حسن صحيح. وفي الباب عن أنس عند الدارقطني في (غرائب مالك) وعامر بن أبي ربيعة عند البخاري ومسلم وأبي سعيد عند (1).
ذكر معناه قوله: (على راحلته)، الراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، ويقال: الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى. قوله: (حيث توجهت به)، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (توجهت) بدون لفظة: به. قوله: (فإذا أراد الفريضة) أي: إذا أراد أن يصلي صلاة الفرض نزل عن الراحلة واستقبل القبلة.
ذكر ما يستنبط منه فيه: الدلالة على عدم ترك استقبال القبلة في الفريضة، وهو إجماع، ولكن رخص في شدة الخوف، وفي خلاصة الفتاوي، أما صلاة الفرض على الدابة بالعذر فجائزة، ومن الأعذار: المطر، وعن محمد: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء فلم يجد مكانا يابسا ينزل للصلاة، فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه يصلي مستدبر القبلة وهذا إذا كان الطين بحال يغيب وجهه، فإن لم يكن بهذه المثابة لكن الأرض ندية صلى هنالك، ثم قال: هذا إذا كانت الدابة تسير بنفسها، أما إذا سيرها صاحبها فلا يجوز التطوع ولا الفرض، فمن الأعذار كون الدابة جموحا لو نزل لا يمكنه الركوب. ومنها: اللص والمرض وكونه شيخا كبيرا لا يجد من يركبه. ومنها: الخوف من السبع، وفي (المحيط): تجوز الصلاة على الدابة في هذه الأحوال، ولا يلزمه الإعادة بعد زوال العذر، وهذا كله إذا كان خارج المصر. وفي (المحيط): من الناس من يقول إنما يجوز التطوع
136

على الدابة إذا توجهت إلى القبلة عند افتتاحها ثم يترك التوجه وانحرف عن القبلة، أما لو افتتحها إلى غير القبلة لا تجوز، وعند العامة: تجوز كيف ما كان، وصرح
في (الإيضاح): أن القائل به الشافعي. وقال ابن بطال: استحب ابن حنبل وأبو ثوران يفتتحها متوجها إلى القبلة، ثم لا يبالي حيث توجهت. وقالت الشافعية: المنفرد في الركوب على الدابة إن كانت سهلة يلزمه أن يدير رأسها عند الإحرام إلى القبلة في أصح الوجهين، وهو رواية ابن المبارك، ذكرها في (جوامع الفقه). وفي الوجه الثاني: لا يلزمه، وفي القطار والدابة الصعبة لا يلزمه، وفي العمادية وفي المحمل الواسع يلزمه التوجه كالسفينة، وقيل: في الدابة يلزمه في السلام أيضا، والأصح أن الماشي يتم ركوعه وسجوده ويستقبل فيهما وفي إحرامه ولا يمشي إلا في قيامه، ومذهب أصحابنا قول الجمهور، وهو قول علي وابن الزبير وأبي ذر وأنس وابن عمر، وبه قال طاوس وعطاء والأوزاعي والثوري ومالك والليث، ولا يشترط أن يكون السفر طويلا عند الجمهور، بل لكل من كان خارج المصر فله الصلاة على الدابة. واشترط مالك مسافة القصر، ويحكى هذا أيضا عن بعض الشافعية، ومذهب ابن عمر منع التنفل في السفر بالنهار جملة. وجوازه ليلا على الأرض والراحلة، حكاه ابن المنذر في (حواشيه). وأما التنفل على الدابة في الحضر فلا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد والإصطخري من الشافعية، ويجوز عند أبي يوسف. وعن محمد: يجوز ولكن يكره، والأحاديث الدالة على جواز التنفل على الدابة وردت في السفر، ففي رواية جابر: كانت في غزوة أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع، وفي رواية: (أرسلني رسول الله وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره). وفي رواية ابن عمر: (بطريق مكة)، وفي رواية: (متوجه إلى المدينة). وفي رواية: (متوجه إلى خيبر)، والحاصل أنها كانت مرات كلها في السفر. فإن قلت: روي عن أبي يوسف في جوازه في المدينة أيضا، فقال: حدثني فلان، ورفع الإسناد: (أن رسول الله ركب الحمار في المدينة يعود سعد بن عبادة وكان يصلي). قلت: هذا شاذ، وهو فيما تعم به البلوى لا يكون حجة، ولكن لقائل أن يقول: لأبي يوسف على ما ذهب إليه أن يحتج بما رواه أنس: (أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومي إيماء)، ذكره ابن بطال.
10456 ح دثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال قال عبد الله صلى النبي قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال (وما ذاك) قالوا صليت كذا وكذا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم فلما أقبل علينا بوجهه قال لإنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين). (الحديث 104 أطرافه في: 404، 6221، 1766، 9427).
مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (فثنى رجليه واستقبل القبلة) لأنه استقبلها بعد أن سلم سلام الخروج من الصلاة.
ذكر رجاله وهم ستة. الأول: عثمان بن أبي شيبة. الثاني: جرير بن عبد الحميد. الثالث: منصور بن المعتمر. الرابع: إبراهيم بن يزيد النخعي. الخامس: علقمة بن قيس النخعي. السادس: عبد ا بن مسعود، رضي ا عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون وأئمة إجلاء وإسناده من أصح الأسانيد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في النذور عن إسحاق. وأخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة، وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن يحيى وأبي كريب ومحمد بن حاتم وعبد ا بن عبد الرحمن الدارمي ومحمد بن المثنى ويحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن عثمان به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد ا المخزومي وعن الحسن بن إسماعيل وعن سويد بن نصر وعن محمد بن رافع. وأخرجه ابن ماجة فيه عن بندار وعن علي بن محمد عن وكيع به.
137

ذكر معناه وإعرابه: قوله: (صلى النبي) هذه الصلاة قيل: الظهر، وقيل: العصر. وروى الطبراني من حديث طلحة بن مصرف عن إبراهيم به: أنها العصر، فنقص في الرابعة ولم يجلس حتى صلى الخامسة. ومن حديث شعبة عن حماد عن إبراهيم أنها الظهر وأنه صلاها خمسا. قوله: (قال إبراهيم) أي: النخعي المذكور. قوله: (لا أدري زاد أو نقص) مدرج، وفي رواية أبي داود: (فلا أدري)، أي: فلا أعلم هل زاد النبي في صلاته أو نقص، والمقصود أن إبراهيم شك في سبب سجود السهو المذكور، هل كان لأجل الزيادة أو النقصان؟ وهو مشتق من النقص المتعدي لا من النقصان اللازم، والصحيح كما قال الحميدي: إنه زاد. قوله: (أحدث؟) الهمزة فيه للاستفهام، ومعناه السؤال عن حدوث شيء من الوحي يوجب تغيير حكم الصلاة بالزيادة على ما كانت معهودة، أو بالنقصان عنه. قوله: (حدث) بفتح الدال معناه: وقع، وأما: حدث، بضم الدال فلا يستعمل في شيء من الكلام إلا في قولهم: أخذني ما قدم وما حدث، للازدواج.
قوله: (وما ذاك؟) سؤال من لم يشعر بما وقع منه ولا يقين عنده ولا غلبة ظن، وهو خلاف ما عندهم حيث قال: صليت كذا وكذا، فإنه إخبار من يتحقق ما وقع. وقوله: (كذا وكذا)، كناية عما وقع إما زائدا على المعهود أو ناقصا. قوله: (فثنى)، بتخفيف النون، مشتق من الثني أي: عطف، والمقصود منه: فجلس كما هوهيئة القعود للتشهد. قوله: (رجله) بالإفراد، وفي رواية الكشميهني والأصيلي: (رجليه) بالتثنية. قوله: (لنبأتكم به): لأخبرتكم به، وهذا من باب؛ نبأ، بتشديد الباء، وهو مما ينصب ثلاثة مفاعيل، وكذلك: أنبأ، منباب أفعل، والثلاثي: نبأ، والمصدر، النبأ، معناه الخبر. تقول نبأ وأنبأ ونبأ، أي: أخبر، ومنه أخذ النبي لأنه أنبأ عن ا تعالى، وللأم فيه لام الجواب. وتفيد التأكيد أيضا، وزعم بعضهم أن: اللام، بعد: لو، جواب قسم مقدر.
فإن قلت: أين المفاعيل الثلاثة ههنا؟ قلت: الأول: ضمير المخاطبين، والثاني: الجار والمجرور، أعني لفظة: به، والضمير يه يرجع إلى الحدوث الذي يدل عليه قوله: (لو حدث في الصلاة شيء)، كما في قوله: * (أعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8). والثالث: محذوف. قوله: (ولكن إنما أنا بشر مثلكم) لا نزاع أن كلمة؛ إنما، للحصر، لكن تارة تقتضي الحصر المطلق، وتارة حصرا مخصوصا، ويفهم ذلك بالقرائن والسياق، ومعنى الحصر في الحديث بالنسبة إلى
الاطلاع على بوانط المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء، فإن لرسول الله أوصافا أخر كثيرة.
قوله: (أنسى كما تنسون)، النسيان في اللغة خلاف الذكر ولحفظ، وفي الاصطلاح: النيسان غفلة القلب عن الشيء، ويجيء النسيان بمنى الترك كما في قوله تعالى: * (نسوا ا فنسيهم) * (ولا تنسوا الفضل بينكم) (التوبة: 76، والبقرة: 732). قوله: (فذكروني) أي: في الصلاة بالتسبيح ونحوه. قوله: (وإذا شك أحدكم) الشك في اللغة خلاف اليقين، وفي الاصطلاح الشك: ما يستوي فيه طرف العلم والجهل، وهو الوقوف بين الشيئين بحيث لا يميل إلى أحدهما، فإذا قوي أحدهما وترجح على الآخر، ولم يأخذ بما رجح ولم يطرح الآخر فهو الظن، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو أكبر الظن، وغالب الرأي، فيكون الظن أحد طرقي الشك بصفة الرجحان. قوله: (فليتحر) الصواب التحري: القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، وفي رواية لمسلم: (فينظر أحرى ذلك إلى الصواب). وفي رواية: (فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب). وفي رواية: (فليتحر الذي يرى أنه صواب. ويعلم من هذا أن التحري طلب أحد الأمرين، وأولاهما بالصواب. قوله: (فليتم عليه) أي: فليتم بانيا عليه، ولولا تضمين الإتمام معنى البناء لما جاز استعماله بكلمة الاستعلاء، وقصد الصواب في البناء على غالب الظن عند أبي حنيفة وعند الشافعي: الأخذ باليقين. قوله: (ثم يسجد سجدتين)، ويروى: (ثم ليسجد سجدتين) يعني للسهو.
ذكر استنباط الأحكام منها: أن فيه دليلا على جواز النسخ وجواز توقع الصحابة ذلك، دل على ذلك استفهامهم حيث قيل له: أحدث في الصلاة شيء؟ ومنها: أن فيه جواز وقوع السهو من الأنبياء. عليهم الصلاة والسلام، في الأفعال. وقال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي السهو، وهذا الحديث يرد عليهم. قلت: هم منعوا السهو عليه في الأفعال البلاغية، وأجابوا عن الوظاهر الواردة في ذلك بأن السهو لا يناقض النبوة وإذا لم يقر عليه لم تحل منه مفسدة بل تحصل فيه فائدة، وهو بيان أحكام الناس وتقرير الأحكام، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرايني، وقال القاضي عياض: واختلفوا في جواز السهو عليه في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان
138

أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده. وأما السهو في الأقوال الدنيوية، وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها، ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم، إذ لا مفسدة فيه. قال القاضي عياض: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا، لا في صحة ولا في مرض، ولا رضى ولا غضب. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع.
ومنها: أن فيه جواز النسيان في الأفعال على الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، واتفقوا على أنهم لا يقرون عليه بل يعلمهم ا تعالى به. وقال الأكثرون: شرطه تنبيهه على الفور أي متصلا بالحادثة، وجوزت طائفة تأخير مدة حياته. فإن قلت: ما الفرق بين السهو والنسيان؟ قيل: النسيان غفلة القلب عن الشيء، والسهو غفلة الشيء عن القلب، ففي هذا قال قوم: كان النبي لا يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النسيان في حديث ذي اليدين، (بقوله: لم أنس)، لأن فيه غفلة، ولم يغفل. وقال القشيري: يبعد الفرق بينهما في استعمال اللغة، وكأنه يتلوح من اللفظ على أن النيسان عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسهو عدم الذكر لا لأجل الإعراض. وقال القرطبي: لا نسلم الفرق، ولئن سلم فقد أضاف النسيان إلى نفسه في غير ما موضع كقوله: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني). وقال القاضي: إنما أنكر: نسيت المضاف إليه وهو قد نهى عن هذا بقوله: (بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي)، وقد قال أيضا: (لا أنسى) على النفي، (ولكن أنسى (. وقد شك بعض الرواة في روايته فقال: (أنسى أو أنسى). وإن: أو، للشك أو للتقسيم، وإن هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك في حديث ذي اليدين أنكره، وقال: كل ذلك لم يكن، وفي الرواية الأخرى: (لم أنس ولم تقصر)، أما القصر فبين، وكذلك: لم أنس حقيقة من قبل نفسي، ولكن ا أنساني. وسنتكلم في هذا كما هو المطلوب في موضعه إن شاء ا تعالى.
ومنها: أن بعضهم احتج به على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة. وقال أبو عمر: ذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يبطلها، كقول مالك وأصحابه سواء، وإنما الخلاف بينهما أن مالكا يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روي عنه في المنفرد، وهو قول أحمد، ذكر الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم يفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه. وذكر الخرقي عنه: أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته إلا الإمام خاصة، فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم: إن من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ناسيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة لا تبطل، وأجمعوا على أن الكلام عامدا إذا كان المصلي يعملم أنه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة إلا ما روي عن الأوزاعي أنه: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته، وهو قول ضعيف في النظر. وفي (المغني): وقال ابن المنذر ما ملخصه: إن الكلام لغير مصلحة الصلاة ينقسم خمسة أقسام:
الأول: الكلام جاهلا بتحريمه فيها. قال القاضي في (الجامع): لا أعرف عن أحد نصا فيه، ويحتمل أن لا تبطل.
الثاني: الكلام ناسيا وهو على نوعين: أحدهما: أن ينسى أنه في الصلاة، ففيه روايتان: إحداهما: لا تبطل، وهو قول مالك والشافعي. والأخرى: تبطل، وهو قول النخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي. والنوع الآخر: أن يظن أن صلاته تمت فيتكلم، فإن كان سلاما لا تبطل رواية واحدة، وإلا فالمنصوص عن أحمد: إن كان لأمر الصلاة لا تبطل، وإن كان لغير أمرها مثل: إسقني يا غلام ماء، تبطل. وعنه رواية ثانية أنها تفسد بكل حال، وهذا مذهب أصحاب الرأي، وفيه
رواية ثالثة: أنها لا تبطل بالكلام في تلك الحال بحال، سواء كان من شأن الصلاة أو لم يكن، إماما كان أو مأموما، وهذا مذهب مالك والشافعي. وتخرج رواية رابعة وهو أن المتكلم إن كان إماما تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد، وإن تكلم غيره فسدت.
القسم الثالث: أن يتكلم مغلوبا على الكلام، وهو ثلاثة: أنواع: أحدها: بأن تخرج الحروف من فيه بغير اختياره، مثل: إن تثاوب فقال: آه، أو تنفس
139

فقال: آه، أو يسعل فينطق في السعلة بحرفين وما أشبه هذا، أو يغلط في القراءة فيعدل إلى كلمة من غير القرآن، أو يجيئه بكاء فيبكي ولا يقدر على رده، فهذا لا تفسد صلاته، نص عليه أحمد. وقال القاضي: فيمن تثاوب فقال: آه، آه، فسدت صلاته: النوع الثاني: أن ينام فيتكلم، فقد توقف أحمد عن الجواب فيه، وينبغي أن لا تبطل. النوع الثالث: أن يكره على الكلام، فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي، والصحيح إن شاء ا أن هذا تفسد صلاته.
القسم الرابع: أن يتكلم بكلام واجب، مثل أن يخشى على صبي أو ضرير الوقوع في هلكة، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلا أو نائما، أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شيء ونحو هذا، فلا يمكنه التنبيه بالتسبيح، فقال أصحابنا: تبطل الصلاة بهذا، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، ويحتمل أن لا تبطل، وهو ظاهر قول أحمد، وهذا ظاهر مذهب الشافعي.
القسم الخامس: أن يتكلم لإصلاح الصلاة، وجملته أن من سلم من نقص في صلاته يظن نها قد تمت، ثم تكلم ففيه ثلاث روايات: إحداها: لا تفسد إذا كان لشأن الصلاة. والثانية: تفسد، وهو قول الخلال وأصحاب الرأي. والثالثة: صلاة الإمام لا تفسد، وصلاة المأموم الذي تكلم تفسد انتهى.
ومذهب أصحابنا أنه: لا يجوز الكلام في الصلاة إلا بالتكبير والتسبيح والتهليل وقراءة القرآن، ولا يجوز أن يتكلم فيها لأجل شيء حدث من الإمام في الصلاة، والكلام يبطل الصلاة سواء كان عامدا أو ناسيا أو جاهلا، وسواء كان إماما أو منفردا، وهو مذهب إبراهيم النخعي وقتادة، وحماد بن أبي سليمان وعبد ا بن وهب وابن نافع من أصحاب مالك، واحتجوا في ذلك بحديث معاوية بن الحكم السلمي أخرجه مسلم مطولا، وفيه: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا، وهذا نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان عامدا أو ناسيا، لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها. فإن احتاج إلى تنبيه إمام ونحوه سبح إن كان رجلا، وصفقت إن كانت امرأة، وذلك لقوله: (من نابه شيء في الصلاة فليقل: سبحان ا، وإنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال)، رواه سهل بن سعد، أخرجه الطحاوي عنه، وأخرجه البخاري مطولا، ولفظه: (أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق؟ وإنما التصفيق للنساء، من نابه شيء في صلاته فليقل: سبحان ا، فإنه لا يسمعه أحد حين يقول: سبحان ا، إلا التفت). وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: (من نابه) أي من نزل به شيء من الأمور المهمة، والمراد من التصفيق ضرب ظاهر إحدى يديه على باطن الأخرى، وقيل: بإصبعين من أحدهما على صفحة الأخرى للإنذار والتنبيه. وقال الطحاوي: إن هذا الحديث دل على أن كلام ذي اليدين لرسول الله بما كلمه به في حديث عمران وابن عمر وأبي هريرة، رضي ا تعالى عنهم، كان قبل تحريم الكلام في الصلاة.
ومنها: أن فيه دليلا على أن سجود السهو سجدتان، وهو قول عامة الفقهاء، وحكي عن الأوزاعي أنه يلزمه لكل سهو سجدتان، وكذا حكي عن ابن أبي ليلى. وقال النووي: وفيه حديث ضعيف.
ومنها: أن فيه دليلا عل أن سجدتي السهو بعد السلام، وهو حجة على الشافعي ومن تبعه في أنهما قبل السلام، وفي (المغني): السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما: إذا سلم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، نص على هذا في رواية الأثرم، وبه قال سليمان بن داود وأبو خيثمة وابن المنذر. وحكى أبو الخطاب عن أحمد روايتين أخريين: إحداهما: إن السجود كله قبل السلام، والثانية: أنها قبل السلام إن كانت لنقص، وبعد السلام إن كانت لزيادة، وهذا مذهب مالك وأبي ثور، وبما قال أصحابنا الحنفية قال إبراهيم النخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري وسفيان الثوري، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد ا بن مسعود وعبد ا بن عباس وعمار بن ياسر وعبد ا بن الزبير وأنس بن مالك، رضي ا عنهم: فإن قلت: لو سجد للسهو قبل السلام كيف يكون حكمه عن الحنفية. قلت: قال القدوري: لو سجد للسهو قبل السلام جاز عندنا، هذا في رواية الأصول، وروي عنهم أنه: لا يجوز، لأنه أداه قبل وقته. وفي (الهداية): وهذا الخلاف في الأولوية، وكذا قاله الماوردي في (الحاوي) وابن عبد البر وغيرهم.
ومنها: أن فيه الرجوع إلى المأمومين، وفيه إشكال على مذهب الشافعي لأن عندهم أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إماما كان أو مأموما، ولا يعمل إلا على يقين نفسه، واعتذر النووي عن هذا بأنه سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر، فعلم السهو فبنى عليه لا أنه رجع إلى مجرد قولهم، ولو
140

جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره لرجع ذو اليدين حين قال: (لم تقصر ولم أنس). قلت: هذا ليس بجواب مخلص لأنه لا يخلو عن الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكر أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه. فافهم. وقال ابن القصار: اختلفت الرواية في هذا عن مالك، فمرة قال: يرجع إلى قولهم، وهو قول أبي حنيفة، لأنه قال: يبنى على غالب ظنه. وقال مرة أخرى: يعمل على يقينه ولا يرجع إلى قولهم، كقول الشافعي.
ومنها: أن فيه دلالة على أن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة لقوله: (لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به).
ومنها: أن فيه حجة لأبي حنيفة ولغيره من أهل الكوفة على أن: من شك في صلاته في عدد ركعاتها تحرى لقوله: (فليتحر الصواب)، ويبني على غالب ظنه ولا
يلزمه الاقتصار على الأقل، وهو حجة على الشافعي ومن تبعه في قولهم فيمن شك: هل صلى ثلاثا أم أربعا مثلا؟ لزمه البناء على اليقين، وهو الأقل فيأتي بما بقي ويسجد للسهو. فإن قلت: أمر الشارع بالتحري وهو القصد بالصواب، وهو لا يكون إلا بالأخذ بالأقل الذي هو اليقين، على ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري عن رسول ا: (إذا صلى أحدكم فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليبن على اليقين ويدع الشك...) الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. قلت: هذا محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، ففي هذا نقول: يبني على الأقل لأن حديثه ورد في الشك، وهو ما استوى طرفاه ولم يترجح له أحد الطرفين، ففي هذا يبنى على الأقل بالإجماع، فإن قلت: قال النووي في دفع هذا: إن تفسير الشك هكذا اصطلاح طار للأصوليين، وأما في اللغة فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى شكا، سواء المستوي والراجح والمرجوح، والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية، أو عرفية، فلا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح. قلت: هذا غير مجد ولا دافع، لأن المراد الحقيقة العرفية، وهي أن: الشك ما استوى طرفاه، ولئن سلمنا أن يكون المراد معناه اللغوي فليس معنى الشك في اللغة ما ذكره، لأن صاحب (الصحاح) فسر الشك في باب: الكاف، فقال: الشك خلاف اليقين، ثم فسر اليقين في باب: النون، فقال: اليقين العلم، فيكون الشك ضد العلم، وضد العلم الجهل، ولا يسمى المتردد بين وجود الشيء وعدمه جاهلا، بل يسمى شاكا، فعلم، أن قوله: وأما في اللغة فالتردد بين وجود الشيء وعدمه يسمى شكا هو الحقيقة العرفية لا اللغوية.
ومنها: أن فيه دليلا على أن سجود السهو يتداخل ولا يتعدد بتعدد أسبابه، فإن النبي تكلم بعد أن سها، واكتفى فيه بسجدتين، وهذا مذهب الجمهور من الفقهاء، ومنهم من قال: يتعدد السجود بتعدد السهو.
ومنها: أن فيه دليلا على أن سجود السهو في آخر الصلاة: لأنه لم يفعله إلا كذلك، وقيل: في حكمته: إنه أخر لاحتمال سهو آخر فيكون جابرا للكل، وفرع الفقهاء على أنه لو سجد ثم تبين أنه لم يكن آخر الصلاة لزمه إعادته في آخرها، وصوروا ذلك في صورتين. إحداهما: أن يسجد للسهو في الجمعة ثم يخرج الوقت وهو في السجود الأخير فيلزمه إتمام الظهر ويعيد السجود. والثانية: أن يكون مسافرا فيسجد للسهو وتصل به السفينة إلى الوطن أو ينوي الإقامة فيتم ثم يعيد السجود.
الأسئلة والأجوبة منها ما قاله الكرماني: فإن قلت: قوله: (وسجد سجدتين) دليل على أنه لم ينقص شيئا من الركعات ولا من السجدات وإلا لتداركها فكيف صح أن يقول إبراهيم: لا أدري؟ بل تعين أنه زاد إذ النقصان لا يجبر بالسجدتين، بل لا بد من الإتيان بالمتروك أيضا؟ قلت: كل نقصان لا يستلزم الإتيان به بل كثير منه ينجبر بمجرد السجدتين، ولفظ: نقص، لا يوجب النقص في الركعة ونحوها. قلت: قد ذكرنا فيما مضى عن الحميدي أنه قال: بل زاد، وكانت زيادته أنه صلى الظهر خمسا. كما ذكره الطبراني، فحينئذ كان سجوده لتأخير السلام ولزيادته من جنس الصلاة، وقوله: إذ النقصان لا ينجبر بالسجدتين، غير مسلم، لأن النقصان إذا كان في الواجبات أو في تأخيرها عن محلها أو في تأخير ركن من الأركان ينجبر بالسجدتين. وقوله: بل لا بد من الإتيان بالمتروك، إنما يجب إذا كان المتروك ركنا، وأما إذا كان من الواجبات و من السنن التي هي في قوة الواجب فلا يلزمه الإتيان بمثله، وإنما ينجبر بالسجدتين.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا: فإن قلت: الصواب غير معلوم، وإلا لما كان ثمة شك، فكيف يتحرى الصواب؟ قلت: المراد منه: المتحقق والمتيقن، أي: فليأخذ باليقين. قلت: هذا الذي قاله بناء على مذهب إمامه، فإنه فسر الصواب بالأخذ باليقين، وأما عند أبي حنيفة: المراد
141

منه البناء على غالب الظن واليقين في أين ههنا؟ ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: كيف رجع إلى الصلاة بانيا عليها وقد تكلم بقوله: وما ذاك؟ قلت: إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو أنه كان خطابا للنبي وجوابا، وذلك لا يبطل الصلاة، أو كان قليلا وهو في حكم الساهي أو الناسي، لأنه كان يظن أنه ليس فيها. قلت: مذهب إمامه أن الكلام في الصلاة إذا كان ناسيا أو ساهيا لا يبطلها، فلا فائدة حينئذ في قوله: إنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة. والجواب الثاني: لا يمشي بعد النبي. والجواب الثالث: غير موجه لأنه قوله: (وما ذاك؟) غير قليل على ما لا يخفى.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قيل: كيف رجع النبي إلى قول غيره، ولا يجوز للمصلي الرجوع في حال صلاته إلا إلى علمه ويقين نفسه؟ فجوابه: أن النبي سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، أو أن قول السائل أحدث شكا عند رسول الله فسجد بسبب حصول الشك له، فلا يكون رجوعا إلا إلى حال نفسه قلت: هذا كلام فيه تناقض، لأن قوله: سألهم إلى قوله: فبنى عليه، رجوع إلى الغير بلا نزاع، وقوله: لا أنه رجع إلى مجرد قول الغير، يناقض ذلك. وقوله: فسجد بسبب حصول الشك، غير مسلم، لأن سجوده إنما كان للزيادة لا للشك الحاصل من كلامهم، لأنه لو شك لكان ترددا، إذ مقتضى الشك التردد، فحين سمع قولهم: صليت كذا وكذا ثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: آخر الحديث يدل على سجود السهو بعدالسلام وأوله على عكسه. قلت: مذهب الشافعي أنه يسن قبل السلام، وتأول آخر الحديث بأنه قول، والأول فعل، والفعل مقدم على القول لأنه أدل على المقصود، أو أنه أمر بأن يسجد بعد السلام بيانا للجواز، وفعل نفسه قبل السلام لأنه أفضل. قلت: لا نسلم أن الفعل مقدم على القول، لأن مطلق القول يدل على الوجوب، على أنا نقول: يحتمل أن يكون سلم قبل أن يسجد سجدتين، ثم سلم سلام سجود السهو، فالراوي اختصره، ولأن في السجود بعد السلام تضاعف الأجر، وهو الأجر الحاصل من سلام الصلاة ومن سلام سجود السهو، ولأنه شرع جبرا للنقص أو للزيادة التي في غير محلها وهي أيضا نقص كالإصبع الزائدة، والجبر لا يكون إلا بعد تمام المجبور، وما بقي عليه سلام الصلاة، فهو في الصلاة.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: لم عدل عن لفظ الأمر إلى الخبر وغير أسلوب الكلام؟ قلت: لعل السلام والسجود كانا ثابتين يومئذ، فلهذا أخبر عنهما، وجاء بلفظ الخبر بخلاف التحري والإتمام، فإنهما ثبتا بهذا الأمر، أو للإشعار بأنهما ليسا بواجبين كالتحري والإتمام. قلت: الفصاحة من التفنن في أساليب الكلام، والنبي
أفصح الناس لا يجارى في فصاحته، وقوله: أو للإشعار بأنهما ليسا بواجبين، غير مسلم، بل هما واجبان لمقتضى الأمر المطلق، وهو قوله: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم)، والصحيح من المذهب هو الوجوب، ذكره في (المحيط) و (المبسوط) و (الذخيرة) و (البدائع) وبه قال مالك وأحمد، وعند الكرخي من أصحابنا: أنه سنة، وهو قول الشافعي. وعلى رواية: (فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين)، لا يرد هذا السؤال فلا يحتاج إلى الجواب.
ومنها ما قاله الكرماني أيضا. فإن قلت: السجدة مسلم أنها ليست بواجبة، لكن السلام واجب. قلت: وجوبه بوصف كونه قبل السجدتين ممنوع، وأما نفس وجوبه فمعلوم من موضع آخر. قلت: قوله: مسلم، غير مسلم لما ذكرنا الآن، وقوله: ممنوع، غير ممنوع أيضا لأن محل السلام الذي هو للصلاة في آخرها متصلا بها فوجب بهذا الوصف، ولا يمتنع أن يكون الشيء واجبا من جهتين.
ومنها ما قيل: إن التحري في حديث الباب محمول على الأخذ بالأقل الذي هو اليقين، لأن التحري هو القصد، ومنه قوله تعالى: * (تحروا رشدا) * (الجن: 41) ومعنى قوله (فليتحر الصواب): فليتقصد الصواب فليعمل به، وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه عنه مسلم، قال: قال رسول ا: (إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى ثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك وليبن على اليقين...) الحديث. وأجيب: بأنه محمول على ما إذا تحرى ولم يقع تحريه على شيء، فحينئذ نقول: إنه يبني على الأقل، ولا يخالف هذا لما قلنا.
ومنها ما قيل: المصير إلى التحري لضرورة، ولا ضرورة ههنا، لأنه يمكنه إدراك اليقين بدونه بأن يبني على الأقل. فلا حاجة إلى التحري؟ وأجيب: بأنه قد يتعذر عليه الوصول إلى ما اشتبه عليه بدليل من الدلائل، والتحري عند عدم الأدلة مشروع كما في أمر القبلة. فإن قيل: يستقبل. قلت: لا وجه لذلك لأنه عسى أن يقع له ثانيا. وثانيا إلى ما لا يتناهى،
142

فإن قلت: يبنيه على الأقل. قلت: لا وجه لذلك أيضا، لأن ذلك لا يوصله إلى ما عليه، فلا يبني على الأقل إلا عند عدم وقوع تحريه على شيء، كما ذكرنا.
23
((باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في أمر القبلة، وهو بخلاف ما تقدم قبل هذا الباب، فإن ذاك في حكم التوجه إلى القبلة، وهذا في حكم من سها فصلى إلى غير القبلة. وأشار إلى حكم هذا بقوله: ومن لم ير الإعادة. إلى آخره. وهذا باب فيه الخلاف، وهو أن الرجل إذا اجتهد في القبلة فصلى إلى غيرها فهل يعيد أم لا؟
فقال إبراهيم النخعي والشعبي وعطاء وسعيد بن المسيب وحماد: لا يعيد، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وإليه ذهب البخاري. وعن مالك كذلك، وعنه: يعيد في الوقت استحسانا. وقال ابن المنذر؛ وهو قول الحسن والزهري، وقال المغيرة: يعيد أبدا. وعن حميد بن عبد الرحمن وطاووس والزهري: يعيد في الوقت. وقال الشافعي: إن فرغ من صلاته ثم بان له أنه صلى إلى المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يبن له ذلك إلا باجتهاده فلا إعادة عليه. وفي (التوضيح): وقال الشافعي: إن لم يتيقن الخطأ فلا إعادة عليه، وإلا أعاد وروى الترمذي وابن ماجة من حديث أنه قال: (كنا مع النبي في سفر فغيمت السماء وأشكلت علينا القبلة فصليناه وأعلمنا، فلما طلعت الشمس إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك للنبي فأنزل ا تعالى * (فإينما تولوا فثم وجه ا) * (البقرة: 511)). وروى البيهقي في (المعرفة) من حديث جابر: (أنهم صلوا في ليلة مظلمة كل رجل منهم على حياله، فذكروا ذلك للنبي فقال: (مضت صلاتكم)، ونزلت * (فأينما تولوا فثم وجه ا) * (البقرة: 511) ويحتج بهذين الحديثين لما ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه في المسألة المذكورة. فإن قلت: قال الترمذي: ليس إسناده بذاك. وقال البيهقي: حديث جابر ضعيف قلت: روي حديث جابر من ثلاث طرق: إحداها أخرجه الحاكم في (المستدرك) عن محمد بن سالم عن عطاء بن أبي رباح عنه، ثم قال: هذا حديث صحيح، ومحمد بن سالم لا أعرفه بعدالة ولا جرح. وقال الواحدي: مذهب ابن عمران: الآية نازلة في التطوع بالنافلة. وقال ابن عباس، رضي ا تعالى عنهما: لما توفي النجاشي جاء جبريل عليه السلام إلى النبي، فقال: إن النجاشي توفي فصل عليه. فقال الصحابة في أنفسهم: كيف نصلي على رجل مات ولم يصل إلى قبلتنا؟ وكان النجاشي يصلي إلى بيت المقدس إلى أن مات، فنزلت الآية. وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 441) وهي رواية عن ابن عباس. قوله: (ومن لم ير الإعادة)، وفي بعض النسخ (ومن لم يرى الإعادة)، وهو عطف على قوله: (في القبلة) أي: وباب ما جاء فيمن لا يرى إعادة الصلاة على من سها فصلى إلى غير القبلة. وقال الكرماني: فصلى تفسير لقوله: سها، والفاء، تفسيرية. قلت: وفيه: بعد، والأولى إن تكون للسببية كما في قوله تعالى: * (ألم تر أن ا أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) * (الحج: 36) ولو قال: بالواو، لكن أحسن على ما لا يخفى.
وقد سلم النبي في ركعتي الظهر وأقبل على الناس بوجهه ثم أتم ما بقي.
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث عدم وجوب الإعادة على من صلى ساهيا إلى غير القبلة، وهو ظاهر لأنه، في حال إقباله على الناس داخل في حكم الصلاة، وأنه في ذلك الزمان ساه مصل إلى غير القبلة؛ وهذا التعليق قطعة من حديث أبي هريرة رضي ا تعالى عنه، في قصة ذي اليدين، وزعم ابن بطال وابن التين أنه طرف من حديث ابن مسعود الذي سلف، وهذا وهم منهما، لأن حديث ابن مسعود ليس في شيء من طرقه أنه سلم من ركعتين.
66 - (حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا هشيم عن حميد عن أنس قال قال عمر وافقت ربي في ثلاث فقلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام
143

إبراهيم مصلى وآية الحجاب قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي
في الغيرة عليه فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت هذه الآية)
مطابقة هذا الحديث للترجمة في الجزء الأول وهو قوله ' لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ' والمراد من مقام إبراهيم الكعبة على قول وهي قبلة والباب فيما جاء في القبلة وعلى قول من فسر مقام إبراهيم بالحرم فالحرم كله قبلة في حق الأفاقيين والباب في أمور القبلة وأما على قول من فسر المقام بالحجر الذي وقف عليه إبراهيم صلى الله عليه وسلم فتكون المطابقة للترجمة متعلقة بالمتعلق بالقبلة لا بنفس القبلة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عمرو بن عون أبو عثمان الواسطي البزاز بالزاي المكررة نزيل البصرة مات سنة خمس وعشرين ومائتين. الثاني هشيم بضم الهاء وفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف ابن بشير بفتح الباء الموحدة وقد مر ذكره في أول كتاب التيمم. الثالث حميد الطويل وقد تكرر ذكره. الرابع أنس بن مالك. الخامس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه العنعنة في موضعين. وفيه القول. وفيه أن رواته ما بين واسطي وبصري وفيه رواية صحابي عن صحابي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن عمرو بن عون وفي التفسير أيضا عن مسدد عن يحيى عن حميد بقصة الحجاب فقط وأخرجه الترمذي في التفسير عن أحمد بن منيع عن هشيم بالقصة الأولى وعن عبد بن حميد عن حجاج وأخرجه النسائي فيه عن هناد عن يحيى بن زائدة عن حميد بالقصة الأولى وعن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن حميد بالقصة الثانية قصة الحجاب وعن يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن هشيم بالقصة الثالثة اجتمع نساؤه في الغيرة وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمد بن الصباح عن هشيم بالقصة الأولى.
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' وافقت ربي ' من الموافقة من باب المفاعلة التي تدل على مشاركة اثنين في فعل ينسب إلى أحدهما متعلقا بالآخر والمعنى في الأصل وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت ولكنه راعى الأدب فأسند الموافقة إلى نفسه لا إلى الرب جل وعز قوله ' في ثلاث ' أي في ثلاثة أمور وإنما لم يؤنث الثلاث مع أن الأمر مذكر لأن المميز إذا لم يكن مذكورا جاز في لفظ العدد التذكير والتأنيث (فإن قلت) حصلت الموافقة له في أشياء غير هذه الثلاث. منها في أسارى بدر حيث كان رأيه أن لا يفدون فنزل * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * ومنها في منع الصلاة على المنافقين فنزل * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * ومنها في تحريم الخمر. ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد ' عن أنس قال عمر وافقت ربي في أربع ' وذكر ما في البخاري قال ' ونزلت * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * إلى قوله * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * فقلت أنا * (تبارك الله أحسن الخالقين) * فنزلت كذلك '. ومنها في شأن عائشة رضي الله عنها ' لما قال أهل الإفك ما قالوا فقال يا رسول الله من زوجكها فقال الله تعالى قال أفتنظر أن ربك دلس عليك فيها * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * فأنزل الله ذلك ' ذكره المحب الطبري في أحكامه وقد ذكر أبو بكر ابن العربي أن الموافقة في أحد عشر موضعا (قلت) يشهد لذلك ما رواه الترمذي مصححا من حديث ابن عمر ' ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر رضي الله تعالى عنه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه وهذا يدل على كثرة موافقته فإذا كان كذلك فكيف نص على الثلاث في العدد (قلت) التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد وقيل يحتمل أنه ذكر ذلك قبل أن يوافق في أربع وما زاد وفيه نظر لأن عمر أخبر بهذا بعد موت النبي
فلا يتجه ما ذكر من ذلك ويقال يحتمل أن الراوي اعتنى بذكر الثلاث دون ما سواها لغرض له قوله ' قلت ' ويروى ' فقلت ' قوله ' لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ' جواب لو محذوف ويجوز أن يكون لو للتمني فلا يحتاج إلى جواب واختلفوا فيه فقال ابن الصائغ وابن هشام هي قسم برأسها لا يحتاج إلى جواب كجواب الشرط
144

ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت وقال بعضهم هي لو الشرطية أشربت معنى التمني وقال ابن مالك هي لو المصدرية أغنت عن فعل التمني قوله ' وآية الحجاب ' هي قوله تعالى * (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) * وآية الحجاب كلام إضافي يجوز فيه الرفع والنصب والجر أما الرفع فيحتمل وجهين أحدهما بالابتداء محذوف الخبر تقديره وآية الحجاب كذلك والآخر أن يكون معطوفا على مقدر تقديره هو اتخاذ المصلى وآية الحجاب وأما النصب فعلى الاختصاص وأما الجر فعلى أنه معطوف على مجرور وهو بدل من ثلاث والتقدير في ثلاث اتخاذ المصلى وآية الحجاب قوله ' البر ' بفتح الباء الموحدة صفة مشبهة من بررت أبر من باب علم يعلم فأنا بر وبار ويجمع البر على أبرار والبار على البررة والبر مقابل الفاجر من الفجور قال الجوهري فجر فجورا أي فسق وفجر أي كذب وأصله الميل والفاجر المائل قوله ' في الغيرة ' بفتح الغين المعجمة وهي الحمية والأنفة يقال رجل غيور وامرأة غيور بلا هاء لأن فعولا يشترك فيه الذكر والأنثى يقال غرت على أهلي أغار غيرة فأنا غائر وغيور للمبالغة
(ذكر استنباط الأحكام) وهي على ثلاثة أنواع كما صرح بها في الحديث. الأول سؤال عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله
أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى وقال الخطابي سأل عمر رضي الله تعالى عنه أن يجعل ذلك الحجر الذي فيه أثر مقامه مصلى بين يدي القبلة يقوم الإمام عنده فنزلت الآية وقال ابن الجوزي فإن قيل ما السر في أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يقنع بما في شرعنا حتى طلب الاستنان بملة إبراهيم عليه السلام وقد نهاه
عن مثل هذا حين أتى بأشياء من التوراة فالجواب أن عمر لما سمع قوله تعالى في إبراهيم * (إني جاعلك للناس إماما) * ثم سمع * (أن اتبع ملة إبراهيم) * على أن الائتمام به مشروع في شرعنا دون غيره ثم رأى أن البيت مضاف إليه وأن أثر قدمه في المقام كرقم اسم الباني في البناء ليذكر به بعد موته فرأى الصلاة عند المقام
كقراءة الطائف بالبيت اسم من بناه انتهى ولم تزل آثار قدمي إبراهيم عليه السلام ظاهرة فيه معروفة عند العرب في جاهليتها ولهذا قال أبو طالب في قصيدته اللامية المعروفة
* وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة
* على قدميه حافيا غير ناعل
* وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما قال عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم قال رأيت المقام فيه أصابعه
أخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم وقال ابن جرير حدثنا بشر بن معاذ حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيها فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى. الثاني الحجاب فكان
جاريا فيه على عادة العرب ولم يكن يخفى عليه
أن حجبهن خير من غيره لكنه كان ينتظر الوحي بدليل أنه لم يوافق عمر حين أشار بذلك قاله القرطبي وكان الحجاب في السنة الخامسة في قول قتادة وقيل في السنة الثالثة قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وعند ابن سعد في ذي القعدة سنة أربع وكان السبب في ذلك أنه لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فأكل جماعة وهي مولية بوجهها إلى الحائط ولم يخرجوا فخرج رسول الله
ولم يخرجوا وعاد ولم يخرجوا فنزلت آية الحجاب وقال عياض أما الحجاب الذي خص به زوجات النبي
فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا لغيرها ولا إظهار شخصهن إذا خرجن كما فعلت حفصة يوم مات أبوها ستر شخصها حين خرجت وبنيت عليها قبة لما توفيت قال تعالى * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) *. الثالث اجتماع نساء النبي
في الغيرة عليه وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة البقرة حدثنا مسدد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس قال ' قال عمر رضي الله تعالى عنه وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فقلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي
بعض نسائه فدخلت عليهن قلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن حتى أتيت إحدى
145

نسائه فقالت يا عمر أما في رسول الله
ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله تعالى * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات) * ' الآية وأخرج في سورة التحريم وقال حدثنا عمرو بن عون حدثنا هشيم عن حميد عن أنس قال ' قال عمر رضي الله تعالى عنه اجتمع نساء النبي
في الغيرة عليه فقلت لهن * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) * فنزلت الآية ' وأصل هذه القضية أن رسول الله
كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه امرأة امرأة وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما عكة من عسل فكانت إذا دخل عليها رسول الله
مسلما حبسته وسقته منها وأن عائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خضرة إذا دخل رسول الله
على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا تصنع فأخبرتها الخبر وشأن العسل فغارت فأرسلت إلى صواحبها وقالت إذا دخل عليكن رسول الله
فقلن إنا نجد منك ريح مغافير وهو صمغ العرفط كريه الرائحة وكان رسول الله
يكره ويشق عليه أن يوجد منه ريح منتنة لأنه يأتيك الملك فدخل رسول الله
على سودة قالت فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله
ثم إني فرقت من عائشة فقلت يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك أكلت المغافير قال لا ولكن حفصة سقتني عسلا ثم دخل رسول الله
على امرأة امرأة وهن يقلن له ذلك ثم دخل على عائشة فأخذت بأنفها فقال لها النبي
ما شأنك قالت أجد ريح المغافير أأكلتها يا رسول الله قال لا بل سقتني حفصة عسلا قالت جرست إذا نحله العرفط فقال لها والله لا أطعمه أبدا فحرمه على نفسه قالوا وكان رسول الله
قسم الأيام بين نسائه فلما كان يوم حفصة قالت يا رسول الله إن لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها فأذن لها فلما خرجت أرسل رسول الله
إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم وكان قد أهداها له المقوقس فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فجلست عند الباب فخرج رسول الله ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي فقال ما يبكيك فقالت إنما أذنت لي من أجل هذا أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي أما رأيت لي حرمة وحقا ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن فقال رسول الله
أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن وهو عندك أمانة فلما خرج رسول الله
قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت ألا أبشرك أن رسول الله
قد حرم عليه أمته مارية فقد أراحنا الله منها وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي
فلم يزل نبي الله
حتى حلف أن لا يقربها فأنزل الله تعالى * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) * يعني العسل ومارية ثم أن عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه ذلك دخل على نسائه
فوعظهن وزجرهن ومن جملة ما قال * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) * فأنزل الله هذه الآية فهذا من جملة ما وافق عمر ربه عز وجل ووافقه ربه. وقال صاحب الكشاف (فإن قلت) كيف يكون المبدلات خيرا منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين (قلت) إذا طلقهن رسول الله
لعصيانهن له وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله
النزول على هواه ورضاه خيرا منهن وإنما أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات فلم يكن بد من الواو وقال النسفي الآية واردة في الإخبار عن القدرة لا عن الكون في الوقت لأنه تعالى قال إن طلقكن وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) * الآية فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد
(قال أبو عبد الله قال ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب قال حدثني حميد قال سمعت أنسا بهذا)
أبو عبد الله هو البخاري نفسه وابن أبي مريم هو سعيد بن محمد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم ويحيى بن أيوب الغافقي أو حميد الطويل وهذا ذكره البخاري معلقا ههنا وفي التفسير أيضا ونص عليه أيضا خلف وصاحب المستخرج
146

وهو الظاهر ووقع في رواية كريمة حدثنا ابن أبي مريم وهو غير ظاهر لأن البخاري لم يحتج بيحيى بن أيوب وإنما ذكره في الاستشهاد والمتابعة (فإن قلت) قال ابن بطال خرج له الشيخان (قلت) فيه نظر لأنه نقض كلام نفسه بنفسه بذكره له ترجمة في إفراد مسلم (فإن قلت) ما فائدة ذكر البخاري له إذا كان الأمر كما ذكرت (قلت) ليفيد تصريح حميد فيه بسماعه إياه من أنس فحصل الأمن من تدليسه وقال الكرماني إنما استشهد بهذا الطريق للتقوية دفعا لما في الإسناد السابق من ضعف عنعنة هشيم إذ قيل أنه مدلس (قلت) فيه نظر لأن معنعنات الصحيحين كلها مقبولة محمولة على السماع وكلامه يدل على هذا فحينئذ ذكره كما ذكرنا هو الواقع في محله ثم قال الكرماني (فإن قلت) لم ما عكس بأن يجعل هذا الإسناد أصلا (قلت) لما في يحيى من سوء الحفظ ولأن ابن أبي مريم ما نقله بلفظ النقل والتحديث بل ذكره على سبيل المذاكرة ولهذا قال البخاري قال ابن أبي مريم (قلت) يعكر على ما قاله رواية كريمة حدثنا ابن أبي مريم كما ذكرناه والظاهر أن الكرماني لو اطلع على هذه الرواية لما قال ما ذكره قوله ' بهذا ' أي بالحديث المذكور سندا ومتنا فهو من رواية أنس عن عمر لا من رواية أنس عن النبي
فافهم
67 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك بن أنس عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله
قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)
مطابقته للترجمة ظاهرة من حيث الدلالة عليها من الجزء الأول وهو قوله ' وقد أمر أن يستقبل الكعبة ' ومن الجزء الثاني أيضا وذلك لأنهم صلوا في أول تلك الصلاة إلى القبلة المنسوخة التي هي غير القبلة الواجب استقبالها جاهلين بوجوبه والجاهل كالناسي حيث لم يؤمروا بإعادة صلاتهم. ورجاله أئمة مشهورون. وفيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك والعنعنة في موضعين وفيه القول
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن يحيى بن قزعة وقتيبة فرقهما وفي خبر الواحد عن إسماعيل بن أبي أويس وأخرجه مسلم في الصلاة والنسائي فيه وفي التفسير جميعا عن قتيبة أربعتهم عنه به
(ذكر معناه) قوله ' بينا ' أصله بين فأشبعت الفتحة فصارت ألفا يقال بينا وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل مبتدأ وخبر ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه إذ وإذا وقد جاآ كثيرا تقول بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه عمرو وإذا دخل عليه وبينا ههنا أضيف إلى المبتدأ والخبر وجوابه قوله إذ جاءهم آت وفي قباء ست لغات المد والقصر والتذكير والتأنيث والصرف والمنع وأفصحها المد وهو موضع معروف ظاهر المدينة والمعنى هنا بينا الناس في مسجد قباء وهم في صلاة الصبح واللام في الناس للعهد الذهني لأن المراد أهل قباء ومن حضر معهم في الصلاة قوله ' آت ' فاعل من أتى يأتي فأعل إعلال قاض وهذا الآتي هو عباد بالتشديد ابن بشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وفي حديث البراء المتقدم في صلاة العصر ولا منافاة بين الخبرين وقد ذكرنا وجهه في حديث البراء وهو أن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة ووقت الصبح في اليوم الثاني إلى من هو خارجها قوله ' وقد أنزل عليه الليلة قرآن ' أطلق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازا وأراد بالقرآن قوله تعالى * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) * الآيات وفيه أيضا مجاز حيث ذكر الكل وأراد الجزء وفي بعض النسخ القرآن بالألف واللام التي هي للعهد قوله ' وقد أمر ' على صيغة المجهول أي أمر النبي
قوله ' أن يستقبل الكعبة ' أي بأن يستقبل وأن مصدرية والمعنى باستقبال الكعبة قوله ' فاستقبلوها ' على صيغة الجمع من الماضي والضمير فيه يرجع إلى النبي
وأصحابه ويحتمل أن يكون الضمير لأهل قباء يعني حين سمعوا من الآتي ما بلغهم استقبلوا الكعبة وفي رواية الأصيلي ' فاستقبلوها ' بكسر الباء على صيغة الأمر للجمع والأمر لأهل قباء من الآتي قوله ' وكانت وجوههم '
147

هو من كلام ابن عمر لا كلام الرجل المخبر بتغير القبلة قاله الكرماني (قلت) لا مانع أن يكون من كلام المخبر فعلى هذا تكون الواو للحال فتكون جملة حالية على
رواية الأكثرين وهو أن يكون صيغة الجمع من الماضي وعلى رواية الأصيلي تكون الواو للعطف وجاء عطف الجملة الخبرية على الإنشائية والضمير في وجوههم يحتمل الوجهين المذكورين وقال بعضهم عوده إلى أهل قباء أظهر ويرجح رواية الكسر أنه عند المصنف في التفسير ' وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها ' فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله (قلت) إلا في مثل هذا الموضع تكون للتنبيه لتدل على تحقق ما بعدها ولا يسمى حرف استفتاح إلا في مكان يهمل معناها وفي ترجيحه الكسر بهذا نظر لأنه يعكر عليه قوله ' فاستداروا ' إذا جعل وكانت وجوههم من كلام ابن عمر
(ذكر ما يستنبط منه) قد مر أكثره في حديث البراء بن عازب * وفيه ما يؤمر به النبي
يلزم أمته * وفيه أن أفعاله يجب الإتيان بها عند قيام الدليل على الوجوب ويسن ويستحب بحسب المقام والقرائن * وفيه قبول خبر الواحد * وفيه جواز تعليم من ليس في الصلاة من هو فيها * وفيه استماع المصلي لكلام من ليس في الصلاة لا يضر صلاته * وفيه أن من تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك فالفرض غير لازم له هكذا استنبطه الطحاوي منه
404 ح دثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال صلى النبي الظهر خمسا فقالوا أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا فثنى رجليه وسجد سجدتين..
مطابقته للترجمة التي هي قوله: (ومن لم ير الإعادة على من سها فصلى) ظاهرة لأنه سهى فصلى ولم يعد تلك الصلاة، وهذا الحديث مضى عن قريب في الباب الذي قبل هذا الباب، ويحيى هو القطان، وشعبة بن الحجاج والحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس النخعي وعبد ا بن مسعود.
فإن قلت: ما وجه احتجاج البخاري بهذا الحديث؟ قلت: هو أن إقباله على الناس بوجهه بعد انصرافه بعد السلام كان في غير صلاة، فلما بنى على صلاته بان أنه كان في وقت استدبار القبلة في حكم المصلي، لأنه لو خرج من الصلاة لم يجز له أن يبني على ما مضى منها، فظهر بهذا أن من أخطأ القبلة لا يعيد.
33
((باب حك البزاق باليد من المسجد))
أي: هذا باب في بيان حك البزاق باليد، سواء كان بآلة أو لا. فإن قلت: في حديث الباب الحك باليد من غير ذكر آلة وكذلك في الترجمة قلت: قوله: باليد، أعم من أن يكون فيها آلة أو لا، على أن أبا داود روى عن جابر قال: (أتانا رسول الله في مسجدنا وفي يده عرجون ابن طاب، فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها فحتها بالعرجون...) الحديث، فهذا يدل على أنه باشر بيده بعرجون فيها؛ والعرجون، بضم العين: هو العود الأصغر الذي فيه الشماريخ إذا يبس وأعوج، وهو من الانعراج، وهو الانعطاف، وجمعه: عراجين، و: الواو والنون فيه زائدتان، و: ابن طاب، رجل من أهل المدينة ينسب إليه نوع من تمر المدينة، ومن عاداتهم أنهم ينسبون ألوان التمر كل لون إلى أحد، ومع هذا يحتمل تعدد القصة. وفي البزاق ثلاث لغات: بالزاي والصاد والسين، والأوليان مشهورتان.
ولما فرغ من بيان أحكام القبلة شرع في بيان أحكام المساجد، والمناسبة ظاهرة.
50496 ح دثنا قتيبة قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس أن النبي رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده فقال: (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدميه) ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال أو يفعل هكذا..
148

مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا الإسناد بعينه تقدم في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في باب كفارة البزاق في المسجد، وفي باب إذا بدره البزاق وفي باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة، وفي باب ليبصق عن يساره، وفي باب ما يجوز من البزاق، وفي باب المصلي يناجي ربه. وأخرجه مسلم أيضا. وأخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي، وفي هذا الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وعائشة يأتي عن قريب، وحديث النسائي عن أنس قال: (رأى رسول الله نخامة في قبلة المسجد فغضب حتى احمر وجهه، فقامت امرأة من الأنصار فحكتها وجعلت مكانها خلوقا، قال رسول ا: ما أحسن هذا) وفي كتاب (المساجد) لأبي نعيم: (من ابتلع ريقه إعظاما للمسجد ولم يمح اسما من أسماء ا تعالى ببزاق كان من خيار عباد ا). وفي سنده ضرار بن عمرو، وفيه كلام، وذكر ابن خالويه في هذا (أن النبي لما رأى النخامة في المحراب قال: من إمام هذا المسجد؟ قالوا؛ فلان. قال: قد عزلته، فقالت امرأته: لم عزل النبي زوجي عن الإمامة؟ فقال: رأى نخامة في المسجد فعمدت إلى خلوق طيب فخلقت به المحراب، فاجتاز عليه الصلاة والسلام بالمسجد فقال: من فعل هذا؟ قال: امرأة الإمام قال: قد وهبت ذنبه لامرأته ورددته إلى الإمامة). فكان هذا أول خلوق كان في الإسلام.
ذكر معناه قوله: (نخامة)، بضم النون: النخاعة، وقد ذكره البخاري بهذا اللفظ في باب الالتفات. يقال: تنخم الرجل إذا تنخع. وفي (المطالع): النخامة ما يخرج من الصدر وهو البلغم اللزج. وفي (النهاية): النخامة البزقة التي تخرج من الرأس. ويقال: النخامة ما يخرج من الصدر. والبصاق ما يخرج من الفم، والمخاط ما يسيل من الأنف. قوله: (في القبلة) أي: في حائط من جهة قبلة المسجد. قوله: (حتى رؤي في وجهه)، بضم الراء وكسر الهمزة وفتح الياء، أي: شوهد أثر المشقة في وجهه، وقد ذكرنا أن في رواية النسائي: (فغضب حتى أحمر وجهه)، وللبخاري في الأدب من حديث ابن عمر: (فتغيظ على أهل المسجد). قوله: (إذا قام في صلاته)، الفرق بين: قام في الصلاة، وقام إلى الصلاة، أن الأول يكون بعد الشروع، والثاني عند الشروع. قوله: (فإنه)، الفاء: فيه جواب: إذا،
والجملة الشرطية، قائمة مقام خبر المبتدأ. قوله: (يناجي ربه)، من المناجاة. قال النووي: المناجاة إشارة إلى إخلاص القلب وحضوره وتفريغه لذكر ا تعالى. قلت: المناجاة والنجوى هو السر بين الاثنين، يقال: ناجيته إذا ساررته، وكذلك نجوت نجوى، ومناجاة الرب مجاز لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوسا، إلا من طرف العبد، فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير، ويجوز أن تكون من باب التشبيه أي: كأنه ربه ينادي، والتحقيق فيه أنه شبه العبد وتوجهه إلى ا تعالى في الصلاة وما فيها من القراءة والأذكار وكشف الأسرار واستنزال رحمته ورأفته مع الخضوع والخشوع. بمن يناجي مولاه ومالكه، فمن شرائط حسن الأدب أن يقف محاذيه ويطرق رأسه ولا يمد بصره إليه ويراعي جهة أمامه حتى لا يصدر من تلك الهيئات شيء وإن كان ا تعالى منزها عن الجهات، لأن الآداب الظاهرة والباطنة مرتبط بعضها ببعض. قوله: (أو أن ربه بينه وبين القبلة)، كذا هو بالشك في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: بواو، العطف ولا يصح حمل هذا الكلام على ظاهره، لأن ا تعالى منزه عن الحلول في المكان، فالمعنى على التشبيه، أي: كأنه بينه وبين القبلة، وكذا معنى قوله في الحديث الذي بعده: (فإن ا قبل وجهه). وقال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين قبلته، فأمر أن تصان تلك الجهة عن البزاق ونحوه من أثقال البدن. قوله: (قبل)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة. أي: جهة القبلة. قوله: (أو تحت قدمه اليسرى) كما في حديث أبي هريرة أي: في الباب الذي بعده، وزاد أيضا من طريق همام عن أبي هريرة: (فيدفنها)، كما سيأتي إن شاء ا تعالى. قوله: (ثم أخذ طرف ردائه...) الخ، فيه البيان بالفعل ليكون أوقع في نفس السامع. قوله: (أو يفعل هكذا) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك، أي: ولكن يبزق عن يساره أو يفعل هكذا، وليست كلمة: أو، ههنا للشك بل للتنويع، ومعناه أنه: مخير بين هذا وهذا.
ذكر ما يستنبط منه فيه: تعظيم المساجد عن إثقال أبدن، وعن القاذورات بالطريق الأولى. وفيه: احترام جهة القبلة. وفيه: إزالة البزاق وغيره من الأقذار من المسجد. وفيه: أنه إذا بزق يبزق عن يساره ولا يبزق أمامه تشريفا
149

للقبلة، ولا عن يمينه تشريفا لليمين، وجاء في رواية البخاري: (فإن عن يمينه ملكا)، وعند ابن أبي شيبة بسند صحيح: (لا يبزق عن يمينه فعن يمينه كاتب الحسنات، ولكن يبزق عن شماله أو خلف ظهره). وقوله: (فإن عن يمينه ملكا) دليل على أنه لا يكون حالتئذ عن يساره ملك، لأنه في طاعة فإن قلت: يخدش في هذا قوله: (إن الكرام الكاتبين لا يفارقان العبد إلا عند الخلاء والجماع). قلت: هذا حديث ضعيف لا يحتج به. قال النووي: هذا في غير المسجد، أما فيه فلا يبزق إلا في ثوبه.
قلت: وسياق الحديث على أنه في المسجد. واعلم أن البصاق في المسجد خطيئة مطلقا، سواء احتاج إليه أم لا، فإن احتاج يبزق في ثوبه، فإن بزق في المسجد يكون خطيئة وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفنه، وقال القاضي عياض: البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، فأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، وهذا غير صحيح، والحق ما ذكرناه. واختلفوا في المراد: بدفنه، فالجمهور على أنه الدفن في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كانت فيه هذه الأشياء، وإلا يخرجها. وعن أصحاب الشافعي قولان: أحدهما إخراجه مطلقا، وهو المنقول عن الروياني، فإن لم تكن المساجد تربة وكانت ذات حصير فلا يجوز احتراما للمآلية، وفيه أن البزاق طاهر، وكذا النخامة طاهرة، وليس فيه خلاف إلا ما حكي عن إبراهيم النخعي يقول: البزاق نجس. وقال القرطبي: الحديث دال على تحريم البصاق في القبلة، فإن الدفن لا يكفيه. قيل: هو كما قال. وقيل: دفنه كفارته. وقيل: النهي فيه للتنزيه، والأصح أنه للتحريم، وفي (صحيحي) ابن خزيمة وابن حبان، من حديث حذيفة مرفوعا: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه). وفي رواية لابن خزيمة، من حديث ابن عمر، مرفوعا: (يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه). وروى أبو داود من حديث أبي سهلة السائب بن خلاد، قال أحمد، من أصحاب النبي: (إن رجلا أم قوما فبصق في القبلة ورسول الله ينظر، فقال رسول الله حين فرغ: لا يصلي لكم، فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول ا، فذكر ذلك لرسول الله فقال: نعم، وحسبت أنه قال: إنك آذيت ا ورسوله). والمعنى: أنه فعل فعلا لا يرضي ا ورسوله. وروى أبو داود أيضا من حديث جابر أنه قال: (أتانا رسول الله في مسجدنا هذا، وفي يده عرجون ابن طاب...)، ذكرناه في أول الباب، وفي رواية مسلم: (ما بال أحدكم يقوم يستقبل ربه، عز وجل، فيتنخع أمامه، أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟...) الحديث.
60407 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلى). (الحديث 604 أطرافه في: 357، 3121، 1116).
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إن المتبادر إلى الفهم من إسناد الحك إليه أنه كان بيده، وأن المعهود من جدار القبلة، جدار قبلة مسجد رسول ا، وبهذا التقدير يسقط سؤال من يقول: إن هذا الحديث لا يدل إلا على بعض الترجمة، ولا يعلم أن الحك كان بيده ولا من المسجد فافهم.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب وغيره. وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى. وأخرجه النسائي عن قتيبة، ثلاثتهم عنه به.
قوله: (في جدار القبلة)، وفي رواية المستملي: (في جدار المسجد)، وفي رواية للبخاري في أواخر الصلاة من طريق أيوب عن نافع: (في قبلة المسجد) وزاد فيه: (ثم نزل فحكها بيده)، وفيه إشعار بأنه كان في حالة الخطبة، وصرح الإسماعيلي بذلك في رواية من طريق شيخ البخاري، وزاد فيه أيضا قال: (وأحسبه دعا بزعفران فلطخه به)، وزاد عبد الرزاق في رواية عن معمر عن أيوب، فلذلك صنع الزعفران في المساجد. قوله: (فإن ا قبل وجهه)، بكسر القاف وفتح الباء، أي: جهة وجهه، وهذا أيضا على سبيل التشبيه، أي كأن ا تعالى في مقابل وجهه. وقال النووي: فإن ا قبل الجهة التي عظمها، وقيل: فإن قبله ا وقبله ثوابه ونحو ذلك، فلا يقابل هذه الجهة بالبزاق الذي هو الاستخفاف لمن يبزق إليه وتحقيره.
70417 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
150

أم المؤمنين أن رسول الله رأى في جدار القبلة مخاطا أو بصاقا أو نخامة فحكه.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا الحديث أخرجه البخاري في الصلاة أيضا. وأخرجه مسلم. أيضا. قوله: (أو بصاقا أو نخامة)، كذا هو وقع في (الموطأ) بالشك، وفي وراية الإسماعيلي من طريق معن عن مالك: (أو نخاعا) بدل: (مخاطا). وقد ذكرنا الفرق بين هذه الثلاثة.
43
((باب حك المخاط بالحصى من المسجد))
أي: هذا باب في بيان حك المخاط بالحصى من المسجد. فإن قلت: ذكر في الباب السابق حك البصاق باليد، وذكر ههنا حك المخاط بالحصى، فهل فيه زيادة فائدة؟ قلت: نعم، وذلك أن المخاط غالبا يكون له جرم لزج فيحتاج في قلعه إلى معالجة وهي بالحصى ونحوه، والبصاق ليس له ذلك فيمكن نزعه بلا آلة، اللهم إلا أن يخالطه بلغم فحينئذ يلحق بالمخاط. فإن قلت: الباب معقود على حك المخاط، والحديث يدل على حك النخامة. قلت: لما كانا فضلتين طاهرتين لم يفرق بينهما إشعارا بأن حكمهما واحد، هذا الذي ذكره الكرماني، والأوجه أن يقال: وإن كان بينهما فرق، وهو أن المخاط يكون من الأنف والنخامة من الصدر، كما ذكرناه عن (المطالع)، لكنه ذكر المخاط في الترجمة والنخامة في الحديث إشعارا بأن بينهما اتحادا في الثخانة واللزوجة، وأن حكمهما واحد من هذه الحيثية أيضا.
قال ابن عباس رضي ا عنهما إن وطئت على قذر رطب فاغسله وإن كان يابسا فلا.
قال بعضهم: مطابقته للترجمة الإشارة إلى أن العلة في النهي احترام القبلة لا مجرد التأذي بالبزاق، فلهذا لم يفرق فيه بين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار فلا يضر وطء اليابس منه. قلت: هذا تعسف وبعد عظيم، لأن قوله: العلة في النهي احترام القبلة لا مجرد التأذي بالبزاق، غير موجه لأن علة النهي فيه احترام القبلة، وحصول التأذي منه كما ذكره في حديث أبي سهلة (أنك آذيت ا ورسوله): وحصول الأذى فيه هو ما ذكره في الحديث، (فإن ا قبل وجهه إذا صلى)، وبزاقه إلى تلك الجهة أذى كبير وهو منباب ذكر اللازم وإرادة الملزوم، ومعناه: لا يرضى ا به ولا يرضى به رسوله أيضا، وتأذيه من ذلك هو أنه نهاه عنه ولم ينته، وفيه ما فيه من الأذى، فعلم من ذلك أن العلة العظمى هي حصول الأذى مع ترك احترام القبلة، والحكم يثبت بعلل شتى. وقوله بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار، فلا يضره وطء اليابس غير صحيح، لأن علة النهي فيه كونه نجسا، ولم تسقط عنه صفة النجاسة، غير أن وطء يابسه لا يضره لعدم التصاقه بالجسم وعدم التلوث، لا لمجرد كونه يابسا، حتى لو صلى على مكان عليه نجس يابس لا تجوز صلاته، ولو كان على بدنه أو ثوبه نجاسة يابسة لا يجوز أيضا، فعلم أن النجاسة المائعة تضره مطلقا، غير أنه عفى عن يابسها في الوطء، ويمكن أن يوجه له تناسب بوجهه وهو أن يقال: المذكور في حديث الباب حك النخامة بالحصى، وفي الترجمة حك المخاط بالحصى، وذا يدل على أنه كان يابسا إذ الحك لا يفيد في رطبه لأنه ينتشر به ويزداد التلوث، فظهر الفرق بين رطبه ويابسه وإن لم يصرح به في ظاهر الحديث، ففي الرطب يزال بما تمكن إزالته به، وفي اليابس بالحصاة ونحوها، فكذلك في أثر ابن عباس: الفرق حيث قال: إن كان رطبا فاغسله وإن كان يابسا فلا، أي: فلا يضرك وطؤه، فتكون المناسبة بينهما من هذه الحيثية، وهذا القدر كاف، لأنه أقناعي غير برهاني، ثم إن أثر ابن عباس ذكره البخاري معلقا، ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح، وقال في آخره: وإن كان يابسا لم يضره.
904 ح دثنا موسى بن إسماعيل قال أخبرنا إبراهيم بن سعد قال أخبرنا ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله رأى نخامة في جدار المسجد فتناول حصاة فحكها فقال إذا تنخم أحدكم فلا يننخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. (الحديث 804 طرفاه في: 014، 614) (الحديث 904 طرفاه في: 114، 414).
151

مطابقته للترجمة في قوله: (فتناول حصاة فحكها).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: موسى بن إسماعيل المنقري البصري المعروف بالتبوذكي. الثاني: إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني. الثالث: محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري. الرابع: حميد بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري. الخامس: أبو هريرة. السادس: أبو سعيد الخدري، واسمه: سعد بن مالك، رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة التثنية في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون ما خلا موسى بن إبراهيم فإنه بصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن علي بن عبد ا عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري ولم يذكر سفيان أبا هريرة. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة به، وعن زهير بن حرب عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه وعن أبي الطاهر بن السرح والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن وهب به. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة أيضا عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني عن إبراهيم بن سعد به.
ذكر معناه قوله: (فحكها) أي: حك النخامة، وفي رواية الكشميهني: (فحتها)، بالتاء المثناة من فوق، ومعناهما واحد. قوله: (إذا تنخم) أي: إذا رمى بالنخامة. وبقية الكلام تقدمت.
53
((باب لا يبصق عن يمينه في الصلاة))
أي: هذا باب فيه يذكر لا يبصق المصلي عن يمينه في الصلاة.
114 ح دثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة وأبا سعيد أخبراه أن رسول الله رأى نخامة في حائط المسجد فتناول رسول الله حصاة فحتها ثم قال: (إذا تنخم أحدكم فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى). (انظر الحديثين 804 و 904 وطرفيهما).
مطابقته للترجمة في قوله: (فلا يتنخم قبل وجهه ولا عن يمينه) أي: ولا يتنخم عن يمينه. فإن قلت: الترجمة: لا يبصق عن يمينه، ولفظ حديث الباب: (لا يتنخم؟) قلت: جعل النبي، حكم النخامة والبصاق واحدا، ألا ترى أنه قال في حديث أنس الآتي: (لا يبزقن في قبلته، ولكن عن يساره) بعد أن رأى نخامة في القبلة، فدل ذلك عل تساويهما في الحكم، وهذا الحديث هو عين الحديث الذي مضى في الباب الذي قبله، غير أنه من طريق أخرى عن ابن شهاب، فبين البخاري وبين ابن شهاب ثلاثة أنفس، وهم: يحيى بن بكير، بضم الباء الموحدة، والليث بن سعد، وعقيل بن خالد. وفي ذاك الحديث بينهما اثنان، وهما: موسى بن إسماعيل وإبراهيم بن سعد، وهناك أن أبا هريرة وأبا سعيد: حدثاه، وههنا: أخبراه. وهناك في: جدار المسجد، وههنا في: حائط المسجد، وهناك: فحكها، وههنا: فحتها، وهناك: فلا يتنخمن؛ بالنون المؤكدة، وههنا: فلا يتنخم، بدون التأكيد، وهناك: تحت قدمه، وههنا: تحت قدمه اليسرى، وقوله هناك: تحت قدمه، أعم من أن يكون قدمه اليمنى أو اليسرى، وههنا فسر أن المراد من القدم هو اليسرى لأن اليمين له فضل عن اليسار.
ثم هذا الحديث غير مقيد بحالة الصلاة إلا في حديث أنس المتقدم الذي رواه عن قتيبة، وفي حديث ابن عمر المتقدم الذي رواه عن عبد ا بن يوسف، وفي حديث أنس الآتي الذي رواه عن آدم، ومن ذلك جزم النووي بالمنع في كل حالة داخل الصلاة وخارجها، وسواء كان في المسجد أو غيره، ونقل عن مالك أنه قال: لا بأس به خارج الصلاة، وروى عبد الرزاق عن ابن مسعود أنه كره أن يبصق عن يمينه وليس في الصلاة. وعن معاذ بن جبل، قال: ما بصقت عن يميني منذ أسلمت، وعن عمر بن عبد العزيز أنه نهى ابنه عنه مطلقا، وهذه كلها تشهد للمنع مطلقا. وقال القاضي عياض: النهي عن البصاق عن اليمين في الصلاة إنما هو مع إمكان غيره، فإن تعذر فله ذلك. وقال الخطابي: إن كان عن يساره واحد فلا يبزق في واحد من الجهتين، لكن تحت
152

قدمه أو ثوبه، وقد روى أبو داود عن طارق بن عبد ا المحاربي قال: قال رسول ا: (إذا قام الرجل إلى الصلاة، أو إذا صلى أحدكم، فلا يبزق أمامه ولا عن يمينه، ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغا، أو تحت قدمه اليسرى ثم ليقل به). وهذا الحديث يؤيد ما قاله الخطابي، ومعنى قوله: (إن كان فارغا) أي: متمكنا من البزق في يساره. قوله: (ثم ليقل به)، أي: ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى، وقد ذكرنا أن لفظ: القول، يستعمل عند العرب في معان كثيرة.
21447 ح دثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة قال أخبرني قتادة قال سمعت أنسا قال قال النبي (ل ا يتفلن أحدكم بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت رجله)..
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن معنى: لا يتفلن: لا يبزقن. وهو بالتءا المثناة من فوق وبضم الفاء وكسرها، والتفل شبيه بالبزق، وهو قل منه أوله البزق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ. وقد ذكر المصنف حديث أنس هذا في مواضع، وقد ذكرناها.
63
((باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى))
أي: هذا باب فيه يذكر البصق عن يساره، وفي بعض النسخ: (ليبزق)، ومعناهما واحد، وذكر فيه هذا الباب حديثين: أحدهما: عن أنس بن مالك، وقد تكرر وفيه القيد بالصلاة، والآخر: عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه القيد بالصلاة على ما يجيء بيانه، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
314 ح دثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك قال قال النبي (إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه)..
مطابقته للترجمة في قوله: (ولكن عن يساره)، ومعناه: ولكن ليبصق عن يساره، وقد ذكر هذا في باب حك البزاق باليد من المسجد بأزيد منه، وقد تقدم ما فيه من الكلام.
وفي إسناده: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: التصريح بسماع قتادة عن أنس رضي ا عنه.
41467 ح دثنا علي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي سعيد أن النبي أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة ثم نهى أن يبزق الرجل بين يديه أو عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى. (انظر الحديث 904 وطرفه).
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق، وعلي هو ابن عبد ا المديني، ووقع في رواية الأصيلي بتصريح عبد ا، وهذا الحديث تقدم ذكره من وجهين آخرين عن الزهري وهو: محمد بن شهاب، ولم يذكر سفيان وهو ابن عيينة فيهما، وإنما ذكر ههنا. ووقع في رواية ابن عساكر عن أبي هريرة بدل أبي سعيد، والظاهر أنه وهم، ووافقه في هذا ما ذكره البخاري في آخر الحديث، و: عن الزهري سمع حميدا عن أبي سعيد، فظن أنه عن أبي هريرة وأبي سعيد معا وفرقهما. وقال الكرماني:
فإن قلت: هذه الترجمة مقيدة بالقدم اليسرى، ولفظ القدم في الحديث لا تقييد فيه؟ قلت: يقيد به عملا بالقاعدة المقررة من تقييد المطلق. قلت: لفظ الحديث: (أو تحت قدمه اليسرى)، وكأن نسخته قد سقطت منها لفظة: اليسرى، فبنى هذا السؤال والجواب على هذا، ومع هذا سأل أيضا بقوله: فإن قلت: لفظة: عن يساره، شامل لقدمه اليسرى، فما فائدة تخصيصها بالذكر؟ قلت: ليس شاملا لها إذ جهة اليمين والشمال غير جهة التحت والفوق، وبين كلاميه تناقض. قوله: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه) كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية أبي الوقت: (وتحت قدمه)، بواو العطف من غير شك، ووقع في رواية مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة رضي ا عنه: (ولكن عن يساره تحت قدمه)، بحذف كلمة: أو، وكذا للبخاري من حديث أنس رضي ا عنه، في أواخر الصلاة ورواية كلمة: أو، أعم وأشمل.
153

وعن الزهري سمع حميدا عن أبي سعيد نحوه.
أشار البخاري بها أن محمد بن مسلم الزهري روى أن سفيان بن عيينة روى هذا الحديث من وجهين: أحدهما: بالعنعنة والآخر: صرح فيه بسماعه من حميد، قال الكرماني: هذا تعليق، وقال بعضهم: ووهم بعض الشراح في زعمه أن قوله: (وعن الزهري) معلق، بل هو موصول قلت: أراد بالبعض: الكرماني، وظاهر الأمر معه، وهو ادعى أنه موصول ولم يبين وجه ذلك.
73
((باب كفارة البزاق في المسجد))
أي: هذا باب في بيان كفارة البزاق في المسجد، والكفارة على وزن: فعالة، للمبالغة، كقتالة وضرابة، وهي من الصفات الغالبة في باب الإسمية، وهي عبارة عن الفعلة والخصلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي: تسترها وتمحوها، وأصل المادة من الكفر وهو الستر، ومنه سمى الزارع: كافرا لأنه يستر الحب في الأرض، وسمي المخالف لدين الإسلام كافرا لأنه يستر الدين الحق، والتكفير هو فعل ما يجب بالحنث، والاسم منه: الكفارة.
51477
((حدثنا آدم قا حدثنا شعبة قال حدثنا قتادة قال سمعت أنس بن مالك قال قال النبي (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها).))
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: التصريح بسماع قتادة عن أنس. وفيه: القول.
وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن حبيب عن خالد بن الحارث. وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم.
قوله: (البزاق في المسجد) وفي رواية مسلم: (التفل في المسجد)، بالتاء المثناة من فوق، وفي رواية أبي داود: (وكفارته أن تواريه) أي: أن تغيبه يعني: تدفنه. قوله: (في المسجد) ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه يتناوله النهي. قوله: (خطية) أي إثم، وأصلها بالهمزة، ولكن يجوز تشديد الياء. واختلف العلماء في المراد بدفن البزاق، فالجمهور على أنه الدفن في تراب المسجد ورمله وحصائه إن كانت فيه هذه الأشياء وإلا يخرجه. وروى أبو داود من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول ا: (من دخل هذا المسجد فبزق فيه أو تنخم فليحفر فليدفنه. فإن لم يفعل فليبزق في ثوبه ثم ليخرج به). قوله: (فإن لم يفعل)، أي: فإن لم يحفر أو: لم يمكن الحفر (فليبزق في ثوبه). وروى الطبراني في (الأوسط) عن ابن عباس يرفعه: (البزاق في المسجد خطية وكفارته دفنه)، وإسناده ضعيف. وقال النووي: هذا في غير المسجد، وأما المصلي في المسجد فلا يبزق إلا في ثوبه، ورد عليه بأحاديث كثيرة إن ذلك كان في المسجد، وروى أحمد في (مسنده) من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا بإسناد حسن: (من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه). وروى أحمد أيضا، والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعا، قال: (من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة). وفي حديث مسلم عن أبي ذر: (ووجدت في مساوىء أعمال أمتي النخامة تكون في المسجد ولا تدفن). وقال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد، بل به وبتركها غير مدفونة، وروى سعيد بن منصور: (عن أبي عبيدة أنه تنخم في المسجد ليلة فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شعلة من نار ثم جاء فطلبها حتى دفنها، ثم قال: الحمد الذي لم يكتب علي خطيئة الليلة).
78 - (حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة
154

عن النبي
قال إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)
مطابقته للترجمة في قوله ' فيدفنها '
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول إسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر وقد تقدم. الثاني عبد الرزاق صاحب المصنف. الثالث معمر بن راشد. الرابع همام على وزن فعال بالتشديد ابن منبه. الخامس أبو هريرة.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك وفيه العنعنة في موضعين وفيه التصريح بسماع همام عن أبي هريرة وفيه عنعنة أبي هريرة عن النبي
وفيه أن رواته ما بين بخاري بالباء الموحدة والخاء المعجمة وصنعاني وبصري
(ذكر معناه) قوله ' فلا يبصق ' نهى الغائب قوله ' فإنما يناجي الله ' وفي رواية الكشميهني ' فإنه يناجي ' قوله ' ما دام في مصلاه ' أي مدة دوامه في مصلاه (فإن قلت) هذا تخصيص المنع بما إذا كان في الصلاة ورواية ' أذى المسلم ' تقتضي المنع مطلقا ولو لم يكن في الصلاة (قلت) هذه مراتب فكونه في الصلاة أشد إثما مطلقا وكونه في جدار القبلة أشد إثما من كونه في غيرها من جدر المسجد قوله ' فيدفنها ' بنصب النون لأنه جواب الأمر ويجوز رفعها على أن تكون خبر مبتدأ محذوف أي فهو يدفنها ويجوز الجزم عطفا على الأمر وتأنيث الضمير في ' فيدفنها ' على تأويل البصقة التي يدل عليها قوله وليبصق وقيل إنما لم يقل يغطيها لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يؤمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض (قلت) يؤيد هذا ما رواه الطبراني ' فليحفره وليدفنه ' وعند ابن أبي شيبة مرفوعا ' إذا بزق في المسجد فليحفر وليمعن ' وفي صحيح ابن خزيمة ' فليبعد ' لا يقال أن الباب معقود على دفن النخامة والحديث يدل على دفن البزاق لأنا نقول قد قلنا فيما مضى أنه لا تفاوت بينهما في الحكم (فإن قلت) قوله ' فإن عن يمينه ملكا ' يقتضي اختصاص منع البزق عن يمينه لأجل الملك وفي يساره أيضا ملك (قلت) أجيب بأنا لو سلمنا ذلك فلليمين شرف وفيه نظر لا يخفى وقيل بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب السيئات فيها وفيه نظر أيضا لأنه ولو لم يكتب لا يغيب عنه فأحسن ما يجاب به أن يقال أن لكل واحد قرينا وموقفه يساره كما ورد في حديث أبي أمامة رواه الطبراني ' فإنه يقوم بين يدي الله وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره ' فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان ولا يصيب الملك منه شيء
83
((باب دفن النخامة في المسجد))
أي: هذا باب في بيان دفن النخامة في المسجد، يعني جواز ذلك. والمناسبة بين البابين ظاهرة.
93
((باب إذا بدره البزاق فليأخذ بطرف ثوبه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا بدره البزاق: إذا غلب عليه ولم يقدر على دفعه، ولكن لا يقال: بدره، بل يقال: بدر إليه، قال الجوهري: بدرت إلى الشيء أبدر بدورا: أسرعت، وكذلك: بادرت إليه، وتبادر القوم تسارعوا، وأجاب بعضهم عن هذا نصرة للبخاري بأنه يستعمل في المغالبة فيقال: بادرت كذا فبدرني أي: سبقني قلت: هذا كلام من لم يمس شيئا من علم التصريف. فإن في المغالبة يقال: بادرني فبدرته، ولا يقال: بادرت كذا فبدرني، والفعل اللازم في باب المغالبة يجعل متعديا بلا حرف صلة، يقال: كارمني فكرمته، وليس هنا باب المغالبة حتى يقال: بدره.
71497 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا زهير قال حدثنا حميد عن أنس أن النبي رأى نخامة في القبلة فحكها بيده ورؤي منه كراهية أو رؤي كراهيته لذلك وشدته عليه وقال (إن أحدكم إذا قام في صلاة فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين قبلته فلا يبزقن في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه) ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه ورد بعضه على بعض قال أو يفعل هكذا..
155

الترجمة مشتملة على شيئين: أولهما مبادرة البزاق، والآخر هو أخذ المصلي بزاقه بطرف ثوبه، وفي الحديث ما يطابق الثاني وهو قوله: (ثم أخذ طرف ردائه فبزق فيه) وليس للجزء الأول ذكر في الحديث أصلا، ولهذا اعترض عليه في ذلك، ولكن يمكن أن يقال، وإن كان فيه تعسف: كأنه أشار بذلك إلى ما في بعض طرق الحديث، وهو ما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: (وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض). وروى أبو داود: (فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، وضعه على فيه ثم دلكه). قوله: (بادرة) أي: حدة، وبادرة الأمر: حدته، والمعنى: إذا غلب غليه البصاق والنخامة فليقل بثوبه هكذا. وقوله: (وضعه على فيه) تفسير لقوله: (فليقل به)، ولأجل ذلك ترك العاطف أي: وضع ثوبه على فمه حتى يتلاشى البزاق فيه.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، وقد مر في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. الثاني: زهير، بالتصغير: ابن معاوية الكوفي. الثالث: حميد الطويل. الرابع: أنس بن مالك.
وقد تقدم هذا الحديث في باب حك البزاق باليد من المسجد، وذكرنا هناك ما يتعلق به من الأبحاث. ولنذكر ههنا ما لم نذكره هناك. قوله: (كراهية)، مرفوع بقوله: رؤي، على صيغة المجهول. قوله: (أو رؤي كراهيته) شك من الراوي قوله: (لذلك) أي: لأجل رؤية النخامة في القبلة. قوله: (وشدته عليه) يجوز فيه الرفع والجر عطفا على الكراهية أو على لذلك قوله: (أو ربه) مبتدأ وخبره هو قوله: (بينه وبين القبلة)، والجملة معطوفة على: (يناجي ربه)، عطف الجملة الإسمية على الفعلية. قوله: (وقال) في بعض النسخ: (فقال)، بالفاء.
وفيه من الفوائد: استحباب إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد. وفيه: تفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها. وفيه: أن للمصلي أن يبصق في الصلاة ولا تفسد صلاته. وفيه: أنه إذا نفخ أو تنحنح جاز، كذا قالوا، ولكن هذا بالتفصيل وهو أن التنحنح لا يخلو إما أن يكون بغير اختياره فلا شيء عليه، وإن كان باختياره فإن حصلت منه حروف ثلاثة تفسد صلاته، وفي الحرفين قولان، وعن أبي حنيفة: إن النفخ إذا كان يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة. وفيه: إن البصاق طاهر، وكذا النخامة والمخاط، خلافا لمن يقول: كل ما تستقذره النفس حرام. ومن فوائده: أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع، لكون اليمين مفضلة على اليسار، واليد
مفضلة على القدم.
04
((باب عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وذكر القبلة))
أي: هذا باب في بيان وعظ الإمام الناس بأن يتموا صلاتهم ولا يتركوا منها شيئا، والعظة على وزن: علة، مصدر من: وعظ يعظ وعظا وعظة وموعظة، وأصل: عظة: وعظ، فلما حذفت منه الواو عوضت منها التاء في آخره، أما الحذف فلوجوده في فعله، وأما كسر العين فمن الواو. فافهم. والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، ويقال: وعظته فاتعظ أي: قبل الموعظة.
وجه المناسبة في ذكر هذا الباب عقيب الأبواب المذكورة من حيث إنه كان فيها أمر ونهي وتشديد فيهما، وهي كلها وعظ ونصح، وهذا الباب أيضا في الوعظ والنصح. قوله: (وذكر القبلة) بالجر عطف على: (عظة) أي: وفي بيان القبلة.
814 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال (هل ترون قبلتي ههنا فوا ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري). (الحديث 814 طرفه في: 147).
مطابقته للترجمة من حيث إن في هذا الحديبث وعظا لهم وتذكيرا وتنبيها لا يخفى عليه ركوعهم وسجودهم، يظنون أنه لا يراهم لكونه مستدبرا لهم، وليس الأمر كذلك، لأنه يرى من خلفه مثل ما يرى من بين يديه.
ذكر رجاله: وقد تكرر ذكرهم، وأبو الزناد، بكسر الزاي وتخفيف النون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا ههنا عن إسماعيل عن مالك. وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن قتيبة عن مالك.
156

ذكر معناه: قوله: (هل ترون قبلتي؟) استفهام على سبيل إنكار ما يلزمه منه، المعنى، أنتم تحسبون قبلتي ههنا، وإنني لا أرى إلا ما في هذه الجهة، فوا إن رؤيتي لا تختص بجهة قبلتي هذه، فإني أرى من خلفي كما أرى من جهة قبلتي، ثم العلماء اختلفوا ههنا في موضعين: الأول: في معنى هذه الرؤية، فقال قوم: المراد بها العلم إما بطريق أنه كان يوحى إليه بيان كيفية فعلهم، وإما بطريق الإلهام، وهذا ليس بشيء، لأنه لو كان ذلك بطريق العلم ما كانت فائدة في التقييد بقوله: (من وراء ظهري)، وقال قوم: المراد به أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره، ممن تدركه عينه مع التفات يسير في بعض الأحوال وهذا أيضا ليس بشيء، وهو ظاهر. وقال الجمهور، وهو الصواب: إنه من خصائصه، عليه الصلاة والسلام، وإن إبصاره إدراك حقيقي انخرقت له فيه العادة، ولهذا أخرجه البخاري هذا الحديث في علامات النبوة، وفيه دلالة للأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة، وجوزوا إبصار أعمى الصين بقعة أندلس قلت: هو الحق عند أهل السنة: إن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص، ولا مقابلة ولا قرب، فلذلك حكموا بجواز رؤية ا تعالى في الدار الآخرة خلافا للمعتزلة في الرؤية مطلقا، وللمشبهة والكرامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنهم إنما جوزوا رؤية ا تعالى لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية ا تعالى بالنقل والعقل، كما ذكر في موضعه، وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي. الموضع الثاني: اختلفوا في كيفية رؤية النبي، عليه الصلاة والسلام، من خلف ظهره، فقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائما، وقيل: كانت له بين كتفيه عينان مثل سم الخياط، يعني: مثل خرق الإبرة يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره. وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد بذلك أفعالهم. قوله: (لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم) يعني: إذا كنت في الصلاة مستدبرا لكم؛ ويجوز أن يكون المراد من الخشوع السجود لأنه غاية الخشوع، وقد صرح في رواية مسلم بالسجود، ويجوز أن يراد به أعم من ذلك. فيتناول جميع أفعالهم في صلاتهم. فإن قلت: إذا كان الخشوع بمعنى الأعم يتناول الركوع أيضا، فما فائدة ذكره، قلت: لكونه من أكبر عمد الصلاة، وذلك لأن الرجل ما دام في القيام لا يتحقق أنه في الصلاة، فإذا ركع تحقق أنه في الصلاة، ويكون فيه عطف العام على الخاص. قوله: (فوا)، قسم منه وجوابه قوله: (لا يخفى). وقوله: (إني لأراكم) إما بيان وإما بدل. قوله: (ركوعكم) بالرفع فاعل (لا يخفى) وقوله: (ولا خشوعكم)، عطف عليه، أي: لا يخفى علي خشوعكم، والهمزة في لأراكم مفتوحة، واللام للتأكيد.
ومما يستفاد منه أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدا مقصرا في شيء من أمور دينه أو ناقصا للكمال منه أن ينهاه عن فعله، ويحضه على ما فيه جزيل الحظ. ألا ترى أنه كيف وبخ من نقص كمال الركوع والسجود، ووعظهم في ذلك بأنه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه؟ وفي تفسير سنيد: حدثنا حجاج عن ابن أبي ذئب حدثنا يحيى بن صالح حدثنا فليح عن هلال ابن علي عن أنس قال: (صلى لنا رسول الله صلاة، ثم رقى المنبر فقال، في الصلاة وفي الركوع إني لأراكم من ورائي كما أراكم). وفي لفظ: (أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري). وفي لفظ: (أقيموا الركوع والسجود فوا إني لأراكم من بعدي، وربما قال: من بعد ظهري، إذا ركعتم وإذا سجدتم). وعند مسلم: (صلى بنا ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس: إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي، ثم قال. والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. قالوا: وما رأيت يا رسول ا؟ قال رأيت: الجنة والنار).
81 - (حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن أنس بن مالك قال صلى بنا النبي
صلاة ثم رقي المنبر فقال في الصلاة وفي الركوع إني لأراكم من ورائي كما أراكم)
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث الذي قبله.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. يحيى بن صالح الوحاظي بضم
157

الواو * الثاني فليح بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة وقد مر ذكره * الثالث اهلال بن علي ويقال هلال بن أبي هلال بن علي ويقال ابن أسامة الفهري المديني مات في آخر خلافة هشام بن عبد الملك * الرابع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا عن محمد بن سليمان عن فليح وأخرجه في الرقاق عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه به.
(ذكر معناه) قوله ' صلى لنا ' أي صلى لأجلنا قوله ' صلاة ' بالتنكير للإبهام قوله ' ثم رقي المنبر ' بكسر القاف ويجوز فتحها على لغة طيء قوله ' فقال في الصلاة ' فيه حذف تقديره فقال في شأن الصلاة وفي أمرها أو يكون متعلقها محذوفا تقديره أراكم في الصلاة وقال بعضهم هو متعلق بقوله بعد لأراكم (قلت) هذا غلط لأن ما في حيز ان لا يتقدم عليها قوله ' وفي الركوع ' إنما أفرده بالذكر وإن كان داخلا في الصلاة للاهتمام بشأنه إما لأنه أعظم أركانها بدليل أن المسبوق لو أدرك الركوع أدرك تلك الركعة بتمامها وإما لأنه
علم أنهم قصروا في حال الركوع فذكره لزيادة التنبيه قوله ' من ورائي ' وفي بعض الروايات ' من وراء ' حذفت الياء منه واكتفى بالكسرة عنها وقال الكرماني (فإن قلت) الرؤية من الوراء كانت مخصوصة بحال الصلاة أم هي عامة لجميع الأحوال (قلت) اللفظ سيما في الحديث السابق يقتضي العموم والسياق يقتضي الخصوص (قلت) نقل عن مجاهد أنه كان في جميع أحواله قوله ' كما أراكم ' أي كما أراكم من أمامي وصرح به في رواية أخرى كما سيأتي إن شاء الله تعالى وفي رواية مسلم ' إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي ' وعن بقي بن مخلد أنه
كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء والكاف في كما أراكم للتشبيه فالمشبه به الرؤية المقيدة بالوراء وبقية الكلام مرت في الحديث السابق
14
((باب هل يقال مسجد بني فلان))
أي: هذا باب في بيان إضافة مسجد من المساجد إلى قبيلة أو إلى أحد مثل بانيه أو الملازم للصلاة فيه، هل يجوز أن يقال ذلك؟ نعم يجوز، والدليل عليه حديث ابن عمر الآتي ذكره، وإنما ترجم الباب بلفظة: هل، التي للاستفهام لأن في هذا خلاف إبراهيم النخعي، فإنه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان، أو: مصلى فلان، لقوله تعالى: * (وإن المساجد) * (الجن: 81) ذكره ابن أبي شيبة عنه، وحديث الباب يرد عليه، والجواب عن تمسكه بالآية أن الإضافة فيها حقيقة، وإضافتها إلى غيره إضافة تمييز وتعريف.
فإن قلت: ما وجه ذكر هذا الباب ههنا؟ وما وجه المناسبة بينه وبين الأبواب المتقدمة؟ قلت: المذكور في الأبواب السابقة أحكام تتعلق بالمساجد، والمذكور في هذا الباب أيضا حكم من أحكامها، وهذا المقدار كاف.
02428 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها. (الحديث 024 أطرافه في: 8682، 9682، 0782، 6337).
مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (إلى مسجد بني زريق)، ورجاله تكرروا غير مرة. والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن يحيى عن مالك. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي في الخيل عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم عن مالك.
ذكر معناه: قوله: (سابق)، من المسابقة وهي السبق الذي يشترك في الاثنان، وباب المفاعلة يقتضي ذلك، والخيل التي أضمرت هي التي كانت المسابقة بينها، وكان فرس النبي، صلى ا تعالى عليه وسلم، بينها يسمى: السكب، وكان أغر محجلا طلق اليمين له مسحة، وهو أول فرس ملكه، وأول فرس غزا عليه، واشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي: الضرس، فسماه رسول ا صلى ا تعالى عليه وآله وسلم: السكب، وسابق عليه فسبق وفرح به، وهو أول فرس سابق عليه فسبق وفرح المسلمون به. قوله: (أضمرت)، بضم الهمزة على صيغة
158

المجهول من الإضمار، يقال: ضمر الفرس، بالفتح وأضمرته أنا والضمر، بضم الضاد وسكون الميم: الهزال، وكذلك الضمور، وتضمير الفرس أن يعلف حتى يسمن ثم يرده إلى القوت، وذلك في أربعين يوما. وفي (النهاية): وتضمير الخيل هو أن تظاهر عليها العلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف. وقيل: تشد عليها سروجا وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها فيذهب رهلها ويشتد لحمها. قوله: رهلها، بفتح الراء والهاء وباللام، من رهل لحمه، بالكسر: اضطرب واسترخى، قاله الجوهري، والمضمر الذي يضمر خيله لغزو أو سباق، والمضمار الموضع الذي يضمر فيه الخيل، وتكون وقتا للأيام التي يضمر فيها.
قوله: (من الحفياء)، بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء وبالياء آخر الحروف والألف الممدودة، وقدم بعضهم الياء على الفاء، وهو اسم موضع بينه وبين ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة أو سبعة، وثنية الوادع عند المدينة سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشي معه المودعون إليها، والثنية: لغة الطريقة إلى العقبة، فاللام فيه للعهد. قوله: (وأمدها) الأمد، بفتح الهمزة وفتح الميم: الغاية. قوله: (بني زريق)، بضم الزاي المعجمة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره قاف، وبنو زريق ابن عامر حارثة بن غضب بن جشم بن الخزرج. وقال صاحب (التوضيح): وبنو زريق بطن من الخوارج قلت: تفسيره بهذا هنا غلط، والصحيح هو الذي ذكرناه. قوله: (وأن عبد ا)، يجوز أن يكون مقول عبد الله بن عمر بطريق الحكاية عن نفسه باسمه على لفظ الغيبة، كما تقول عن نفسك: العبد فعل كذا،
ويجوز ان يكون مقول نافع قوله: (بها) أي: بالخيل أو بهذه المسابقة.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: جواز المسابقة بين الخيول وجواز تضميرها وتمرينها على الجري، وإعدادها لذلك لينتفع بها عند الحاجة في القتال كرا وفرا، وهذا إجماع، وعن الشافعية أنها سنة، وقيل: مباح، وكانت الجاهلية يفعلونها فأقرها الإسلام، ولا يختص جوازها بالخيل، خلافا لقوم، والحديث محمول على ما إذا كان بغير رهان، والفقهاء شرطوا فيها شروطا منها: جواز الرهان من جانب واحد، ومن الجانبين قمار إلا بمحلل، وقد علم في موضعه، وليس في الحديث دلالة على جواز ذلك ولا على منعه. وقال ابن التين: إنه سابق بين الخيل على حلل أتته من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل وأعطى الثاني حلتين والثالث حلة والرابع دينارا، والخامس درهما، والسادس فضة. وقال: (بارك ا فيك. وفي كلكم وفي السابق والفسكل). قلت: الفسكل، بكسر الفاء وسكون السين المهملة بينهما وفي آخره اللام: وهو الذي يجيء في الجلبة آخر الخيل.
وفيه: تجويع البهائم على وجه الصلاح وليس من باب التعذيب. وفيه: بيان الغاية ومقدار أمدها. وفيه: جواز إضافة المسجد إلى بانيه وإلى مصل فيه، كما ذكرنا، وكذلك تجوز إضافة أعمال البر إلى أربابها ونسبتها إليهم وليس في ذلك تزكية لهم.
24
((باب القسمة وتعليق القنو في المسجد))
أي: هذا باب في بيان قسمة الشيء في المسجد يعني: يجوز لأنه فعلها كما في حديث الباب. قوله: (في المسجد)، يتعلق بالقسمة. (وتعليق القنو) عطف على القسمة.
والمناسبة بين هذه الأبواب ظاهرة لأنها في أحكام تتعلق بالمسجد.
قال أبو عبد الله القنو العزق والإثنان قنوان والجماعة أيضا قنوان مثل صنو وصنوان.
أبو عبد الله هو: البخاري نفسه، وفسر القنو بالعذق، والقنو، بكسر القاف وسكون النون. وقال ابن سيده: القنو والقنا الكياسة، والقنا بالفتح لغة فيه عن أبي حنيفة، والجمع في كل ذلك أقناء وقنوان وقنيان. وفي (الجامع): في القنوان لغتان، بكسر القاف وضمها، وكل العرب تقول: قنو وقنو في الواحد. قوله: (العذق) بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة: هو كالعنقود للعنب، والعذق، بفتح العين: النخلة. قوله: (والاثنان قنوان)، على وزن: فعلان، بكسر الفاء، وكذلك الجمع هذا الوزن؟ فإن قلت: فبأي شيء يفرق بين التثنية والجمع؟ قلت: بسقوط النون في التثنية عند الإضافة وثبوتها في الجمع، وبكسرها في التثنية وإعرابها في الجمع. قوله: (مثل صنو) يعني: في الحركات والسكنات، وفي التثنية والجمع، والصنو هو: النخلتان أو ثلاثة تخرج من أصل واحدة، وكل واحد منهن صنو، والاثنان صنوان، بكسر النون، الجمع: صنوان بإعرابها، والبخاري لم يذكر جمعه لظهوره من الأول.
159

(وقال إبراهيم يعني ابن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال أتي النبي
بمال من البحرين فقال انثروه في المسجد وكان أكثر مال أتي به رسول الله
فخرج رسول الله
إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له رسول الله
خذ فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إلي قال لا قال فارفعه أنت علي قال لا فنثر منه ثم ذهب يقله فقال يا رسول الله أؤمر بعضهم يرفعه علي قال لا قال فارفعه أنت علي قال لا فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق فما زال رسول الله
يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه فما قام رسول الله
وثمة منها درهم)
هذا تعليق من البخاري قال الإسماعيلي ذكره البخاري عن إبراهيم وهو ابن طهمان فيما أحسب بغير إسناد يعني تعليقا وفي بعض الرواية قال إبراهيم بغير ذكر أبيه والأول هو الأصح وطهمان بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء ابن شعبة الخراساني أبو سعيد مات سنة ثلاث وستين ومائة بمكة وأخرجه البخاري أيضا معلقا في الجهاد وفي الجزية وقال الحافظ المزي هكذا هو في البخاري إبراهيم غير منسوب وذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي في ترجمة عبد العزيز بن صهيب عن أنس وكذلك رواه عمر بن محمد بن بجير بضم الباء الموحدة وفتح الجيم ونسبة عمر إلى جده البجيري في صحيحه من رواية إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس وقيل أنه عبد العزيز بن رفيع وقد روى أبو عوانة في صحيحه حديثا من رواية إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن أنس ' تسحروا فإن في السحور بركة ' وروى أبو داود والنسائي حديثا من رواية إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله تعالى عنها حديث ' لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث ' الحديث فيحتمل أن يكون هذا ويحتمل أن يكون هذا والله أعلم أيهما هو وقال بعضهم قال المزي في الأطراف قيل أنه عبد العزيز بن رفيع وليس بشيء (قلت) قوله ليس بشيء راجع إلى قوله صاحب هذا القيل لأن المزي قال بالاحتمال كما ذكرنا ثم إن هذا المعلق وصله أبو نعيم الحافظ حدثنا محمد بن إبراهيم بن علي حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد حدثني أبي حدثني إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز يعني ابن صهيب عن أنس قال ' أتى رسول
الله
بمال من البحرين ' الحديث (فإن قلت) الترجمة مشتملة على شيئين أحدهما القسمة في المسجد والآخر تعليق القنو فيه وليس في حديث الباب إلا ما يطابق الجزء الأول (قلت) ذكر أبو محمد بن قتيبة في غريب الحديث تأليفه في هذا أنه لما خرج رأى أقناء معلقة في المسجد وكان أمر بين كل حائط بقنو يعلق في المسجد ليأكل منه من لا شيء له وقال ثابت في كتاب الدلائل وكان عليها على عهده
معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه انتهى ومن عادة البخاري الإحالة على أصل الحديث وما أشبهه والمناسبة بينهما أن كل واحد منهما وضع في المسجد للأخذ منه لا للادخار وعدم التفات النبي
إليه استقلالا للدنيا وما فيه فسقط بما ذكرنا قول ابن بطال في عدم ذكر البخاري حديثا في تعليق القنو أنه أغفله وكذلك سقط كلام ابن التين أنساه
(ذكر معناه) قوله ' أتى النبي
' بضم الهمزة على صيغة المجهول قوله ' بمال من البحرين ' وقد تعين المال فيما رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد مرسلا أنه كان مائة ألف وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين قال
160

وهو أول خراج حمل إلى رسول الله
وقد روى البخاري في المغازي من حديث عمر بن عوف ' أن النبي
صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم فقدم أبو عبيدة بمال فسمعت الأنصار بقدومه ' الحديث (فإن قلت) ذكر الواقدي في الردة أن رسول العلاء بن الحضرمي بالمال هو العلاء بن حارثة الثقفي (قلت) يحتمل أنه كان رفيق أبي عبيدة فاختصر في رواية الواقدي عليه (فإن قلت) في صحيح البخاري من حديث جابر رضي الله تعالى عنه ' أن النبي
قال له لو جاء مال البحرين أعطيتك ' وفيه ' فلم يقدم مال البحرين حتى مات النبي
' فهذا معارض لحديث الباب (قلت) لا معارضة لأن المراد أنه لم يقدم في السنة التي مات فيها النبي
لأنه كان مال خراج أو جزية فكان يقدم من سنة إلى سنة * وأما البحرين فهو تثنية بحر في الأصل وهي بلدة مشهورة بين البصرة وعمان وهي هجر وأهلها عبد القيس بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وقال القاضي عياض قيل بينها وبين البصرة أربعة وثمانون فرسخا. وقال أبو عبيد البكري لما صالح أهله رسول الله
أمر عليهم العلاء بن الحضرمي وزعم أبو الفرج في تاريخه أنها ريبة وأن ساكنيها معظمهم مطحولون وأنشد
* ومن يسكن البحرين يعظم طحاله
* ويغبط بما في جوفه وهو ساغب
*
وزعم ابن سعد أن رسول الله
لما انصرف من الجعرانة يعني بعد قسمة غنائم حنين أرسل العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي وهو بالبحرين يدعوه إلى الإسلام فكتب إلى رسول الله
بإسلامه وتصديقه قوله ' انثروه ' أي صبوه قوله ' إليه ' أي إلى المال الذي قدم قوله ' إذ جاءه العباس ' وهو عم النبي
ابن عبد المطلب وكلمة إذ ظرف في الغالب والعامل فيه يجوز أن يكون قوله فجلس إليه ويجوز أن يكون قوله يرى قوله ' فاديت نفسي ' يعني يوم بدر حيث أخذ أسيرا وفاديت من المفاداة يقال فأداه يفاديه إذا أعطى فداءه وأنقذ نفسه وقال فدى وأفدى وفادى ففدى إذا أعطى المال لخلاص غيره وفادى إذا افتك الأسير بأسير مثله لخلاص نفسه وأفدى إذا أعطى المال قوله ' وفاديت عقيلا ' بفتح العين وهو ابن أبي طالب وكان هو أيضا أسر يوم بدر مع عمه العباس قوله ' فحثى ' بفتح الحاء المهملة والثاء المثلثة والضمير فيه يرجع إلى العباس يقال حثوت له إذا أعطيته شيئا يسيرا قوله ' في ثوبه ' أي في ثوب العباس قوله ' يقله ' بضم الياء من الإقلال وهو الرفع والحمل قوله ' فلم يستطع ' أي حمله قوله ' مر بعضهم يرفعه علي ' أي مر بعض الحاضرين يرفع المال الذي أخذته وإنما قال ذلك لأنه لم يستطع حمله (فإن قلت) ما وزن مر (قلت) عل لأن المحذوف منه فاء الفعل لأن أصله أؤمر لأنه من أمر يأمر مهموز الفاء فحذفت همزة الكلمة لاجتماع المثلين في أول الكلمة المؤدي إلى الاستثقال فبقي أمر فاستغنى عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها فحذفت فصار مر على وزن عل وفي رواية أؤمر على الأصل قوله ' يرفعه ' بياء المضارع والضمير المستتر فيه يرجع إلى البعض والبارز إلى المال الذي جثاه العباس في ثوبه ويجوز فيه الرفع والجزم أما الرفع فعلى الاستئناف والتقدير هو يرفعه وأما الجزم فعلى أنه جواب الأمر ويروى برفعه بالباء الموحدة (فإن قلت) كيف ما أمر النبي
بإعانته في الرفع ولا أعانه بنفسه (قلت) زجرا له عن الاستكثار من المال وأن لا يأخذ إلا قدر حاجته أو لينبهه على أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا قوله ' فألقاه ' أي العباس على كاهله والكاهل ما بين الكتفين قوله ' يتبعه بصره ' بضم الياء من الاتباع أي لم يزل
يتبع العباس بصره حتى خفي عليه وذلك تعجبا من حرصه وهو معنى قوله عجبا من حرصه وانتصابه على أنه مفعول مطلق من قبيل ما يجب حذف عامله ويجوز أن
يكون منصوبا على أنه مفعول له قوله ' وثمة ' بفتح الثاء المثلثة أي هنالك وقوله ' درهم ' مبتدأ وخبره قوله منها مقدما والجملة وقعت حالا والمقصود منه إثبات القيام عند انتفاء الدرهم إذ الحال قيد للمنفي لا للنفي والمجموع منتف بانتفاء القيد لانتفاء المقيد وإن كان ظاهره نفي القيام حال ثبوت الدرهم
(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام) منها أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده. ومنها ما قاله ابن بطال أن العطاء لأحد الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في كتابه دون غيرهم لأنه أعطى العباس لما شكى إليه من الغرم ولم يسوه في القسمة مع الثمانية الأصناف فلو قسم ذلك على التساوي لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان وقال الكرماني لا يصح هذا الكلام لأن الثمانية هي
161

مصارف الزكاة والزكاة حرام على العباس بل كان هذا المال إما فيئا أو غنيمة (قلت) لم يكن هذا المال فيئا وإنما كان خراجا ولو وقف الكرماني على ما ذكرناه عن ابن أبي شيبة فيما مضى عن قريب لما قال هذا الذي قاله وكذلك ابن بطال وهم فيما قاله حيث جعل المال من الزكاة وتبعه صاحب التلويح حيث قال وفيه دلالة لأبي حنيفة ومن قال بقوله أنه يجوز الاقتصار على بعض الأصناف المذكورين في الآية الكرمية لأنه أعطى العباس لما شكى الغرم بغير وزن ولم يسوه في القسم مع الأصناف الثمانية ولم ينقل أنه أعطى أحدا مثله (قلت) هذا أيضا كلام صادر من غير تأمل لأنه ليس للأصناف الثمانية دخل في هذا ولا المال كان من مال الزكاة * ومنها أن السلطان إذا علم حاجة لأحد إلى المال لا يحل له أن يدخر منه شيئا. ومنها أن فيه كرم النبي
وزهده في الدنيا وأنه لم يمنع شيئا سئله إذا كان عنده. ومنها أن للسلطان أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده وله أن يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان في ذلك حاجة. ومنها أن فيه وضع ما الناس مشتركون فيه من صدقة وغيرها في المسجد لأن المسجد لا يحجب من أحد من ذوي الحاجة من دخوله والناس فيه سواء وقال ابن القاسم وسئل مالك عن الافتاء في المسجد وما يشبه ذلك فقال لا بأس بها وسئل عن الماء الذي يسقى في المسجد أترى أنه يشرب منه قال نعم إنما جعل للعطش ولم يرد به أهل المسكنة فلا أرى أنه يترك شربه ولم يزل هذا من أمر الناس
34
((باب من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب منه))
أي: هذا باب في بيان حكم من دعى إلى آخره، وقوله: (في المسجد) يتعلق بقوله: (دعا)، لا بقوله: (لطعام). فإن قلت: صلة: دعا، بكلمة: إلى، نحو: * (وا يدعوا إلى دار السلام) * (يونس: 52) وبالباء في نحو: (دعا هرقل بكتاب رسول ا صلى ا تعالى عليه وسلم)، و: اللام، للاختصاص، فما وجه هذا؟ قلت: تختلف صلات الفعل بحسب اختلاف المعاني، فإذا قصد بيان الانتهاء جيء بكلمة: إلى، وإذا قصد معنى الطلب جيء: بالباء، وإذا قصد معنى الاختصاص جيء: باللام، وههنا قصد معنى الاختصاص. قوله: (ومن أجاب منه) في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (ومن أجاب إليه). فإن قلت: ما الفرق بين الروايتين؟ قلت: كلمة: من، في رواية: منه للابتداء، والضمير يعود على: المسجد، وفي رواية: إلى، يعود الضمير إلى الطعام. فإن قلت: ما قصد البخاري من هذا التبويب؟ قلت: الإشارة إلى أن هذا من الأمور المباحة، وليس من اللغو والذي يمنع في المساجد.
فإن قلت: ما وجه المناسب بين هذا الباب والذي قبله؟ قلت: من قوله: باب حك البزاق باليد من المسجد، إلى قوله: باب سترة الإمام، خمسة وخمسون بابا كلها فيما يتعلق بأحكام المساجد، فلا يحتاج إلى ذكر وجه المناسبة بينها على الخصوص.
224 حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله سمع أنسا قال وجدت النبي في المسجد معه ناس فقمت فقال لي أرسلك أبو طلحة قلت نعم فقال لطعام قلت نعم فقال لمن معه قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم. (الحديث 224 أطرافه في: 8753، 1835، 0545، 8866).
مطابقة هذا الحديث للترجمة كلها ظاهرة، أما الشق الأول: فلأنا قد ذكرنا أن: في المسجد، يتعلق بقوله: دعا، لا بقوله: لطعام، فحصل الدعاء إلى الطعام في المسجد. وأما الشق الثاني: فهو إجابة النبي بقوله لمن حوله: قوموا، فبهذا التقرير يندفع اعتراض من يقول: إن المطابقة للترجمة في الشق الثاني فقط فافهم.
ورجال الحديث قد تكرر ذكرهم، إسحاق بن عبد الله، ابن أخي أنس من جهة الأم. وأخرجه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس وفرقهما. وأخرجه أيضا في علامات النبوة مطولا، وفي الأطعمة والإيمان والنذور. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وفي الأطعمة. وأبو داود فيه عن القعنبي، والترمذي فيه عن إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى، وفي المناقب والنسائي فيه عن قتيبة كلهم عن مالك به، وأخرجه في الوليمة أيضا.
ذكر معناه: قوله: (وجدت) أي: أصبت، ولهذا اكتفى بمفعول واحد. قوله: (في المسجد)، حال من النبي
162

وقوله: (ومعه ناس)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (أرسلك)، ويروي: (أأرسلك) بهمزة الاستفهام. قوله: (أبو طلحة)، هو: زيد بن سهل الأنصاري أحد نقباء العقبة، شهد المشاهد كلها، روي له اثنان وتسعون حديثا، منها للبخاري ثلاثة، وهو زوج أم أنس، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين على الأصح. قوله: (قال لطعام)، ويروى: (للطعام). قوله: (قال لمن حوله) منصوب بالظرفية أي: لمن كان حوله. قوله: (فانطلق) أي: إلى بيت أبي طلحة، وفي بعض النسخ: (فانطلقوا) أي: انطلق النبي، صلى ا تعالى عليه وآله وسلم، ومن كان معه.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: جواز الحجابة، وهو أن يتقدم بعض الخدام بين يدي الإمام ونحوه. وفيه: الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن وليمة. وفيه: أن الدعاء إلى ذلك من المسجد وغيره سواء، لأن ذلك من أعمال البر، وليس ثواب الجلوس في المسجد بأقل من ثواب الإطعام. وفيه: دعاء السلطان إلى الطعام القليل. وفيه: أن الرجل الكبير إذا دعي إلى طعام، وعلم أن صاحبه لا يكره أن يجلب معه غيره ان الطعام يكفيهم انه لا بأس بأن يحمل معه من حضره وانما حملهم النبي بأصلي ا تعالى عليه
وآله وسلم، إلى طعام، أبي طلحة، وهو قليل، لعلمه أنه يكتفي جميعهم ببركته وما خصه ا تعالى به من الكرامة والفضيلة، وهو من علامات النبوة.
44
((باب القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء))
أي: هذا باب في بيان القضاء، وهو: الحكم وحكم اللعان في المسجد، وعطف اللعان على القضاء من عطف الخاص على العام، لأن القضاء أعم من أن يكون في اللعان أو غيره، واللعان مصدر: لا عن من: اللعن، وهو الطرد والإبعاد، وسمي به لما فيه من لعن نفسه في الخامسة، وهي من تسمية الكل باسم البعض، كالصلاة تسمى ركوعا وسجودا. واللعان، عندنا: شهادات مؤكدات بالأيمان مقرونة باللعن قائمة مقام القذف في حقه، ومقام حد الزنا في حقها، وعند الشافعي ومالك وأحمد: هو أيمان مؤكدات بلفظ الشهادة بشرط أهليه اليمين، وصفة اللعان ما نطق به نص القرآن في سورة النور، وهو أن يبتدئ القاضي بالزوج فيشهد أربع شهادات يقول في كل مرة أشهد با أني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، يشير إليها في كل مرة، ويقول في الخامسة: لعنة ا عليه إن كان من الكاذبين، فيما رماها به من الزنا، ثم تشهد المرأة أربع شهادات تقول في كل مرة أشهد با أنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، وتقول في الخامسة: غضب ا عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا. قوله: (بين الرجال والنساء)، حشو، ولهذا لم يثبت إلا في رواية المستملي.
32448 حدثنا يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني ابن شهاب عن سهل بن سعد أن رجلا قال يا رسول ا أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد. (الحديث 324 أطرافه في: 5474، 6474، 9525، 8035، 9035، 4586، 5617، 6617، 4037).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (أيقتله)، لأنه لو لم ير مباشرة تامة لما سأل رسول ا عن جواز قتل الرجل، وإلا فمجرد وجدان الرجل مع امرأته من غير مباشرة لا يقتضي سؤال القتل فيه، ففي الجملة ليس فيه إشعار بالزنا، ولا يقتضيه إلا ما يفهم من قوله: أيقتله؟.
ذكر رجاله: خمسة: الأول: يحيى بن موسى أبو زكريا، يعرف بالخت، بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق. الثاني: عبد الرزاق بن همام الصنعاني. الثالث: عبد الملك بن جريج. الرابع: محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري. الخامس: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الخزرجي الساعدي، أبو العباس، وقيل: أبو يحيى.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: ح دثنا يحيى مجردا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: يحيى بن موسى. وقال ابن السكن: هو يحيى بن موسى، وقيل: هو يحيى بن جعفر البيكندي. وقال الكرماني: ويحتمل أن يراد به: يحيى بن معين، لأنه سمع من عبد الرزاق قلت: الأصح ما قاله ابن السكن. وفيه: أن رواته ما بين بلخي وصنعاني ومكي ومدني.
163

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطلاق عن إسماعيل بن عبد الله، وفي التفسير عن عبد الله بن يوسف، كلاهما عن مالك، وفي الاعتصام عن آدم عن ابن أبي ذئب، وفي الأحكام، وفي المحاربين عن علي بن عبد الله عن سفيان، وفي التفسير عن أبي الربيع الزهراني عن فليح، وعن إسحاق عن الفريابي عن الأوزاعي، وفي الطلاق أيضا عن يحيى عن عبد الرزاق. وأخرجه مسلم في اللعان عن يحيى بن يحيى عن مالك، وعن حرملة عن ابن وهب، وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق. وأخرجه أبو داود في الطلاق عن القعنبي عن مالك مطولا، وعن أبي الربيع الزهراني ببعضه، وعن مسدد ووهب بن بيان وأحمد بن عمرو بن السرح وعمرو بن عثمان، وعن محمود بن خالد، وعن أحمد بن صالح، وعن محمد بن جعفر الوركاني، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي مروان محمد بن عثمان.
ذكر معناه وما يستنبط منه: قوله: (أن رجلا) اختلفوا فيه، فقيل: إنه هلال بن أمية وقيل: عاصم بن عدي، وقيل: عويمر العجلاني. قلت: روى الطحاوي من حديث الزهري: (عن سهل بن سعد الساعدي أن عويمرا جاء إلى عاصم ابن عدي فقال: أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله أتقتلونه؟ سل يا عاصم رسول ا)... الحديث، وفي حديث أنس، رضي ا تعالى عنه، هلال بن أمية، روى الطحاوي عن حديث ابن سيرين: (عن أنس بن مالك أن هلال بن أمية قذف شريك ابن سمحاء بامرأته، فرفع ذلك إلى رسول الله فقال: (ائت بأربعة شهداء، وإلا فحد في ظهرك)... الحديث. وفيه: (فنزلت آية اللعان)، وأخرجه مسلم والنسائي أيضا، وفي حديث ابن عباس: عويمر العجلاني: (أن رسول الله لا عن بين العجلاني وامرأته)... الحديث، وراه الطحاوي وأحمد في (مسنده) والبيهقي في (سننه) ووقع في حديث عبد الله بن مسعود: وكان رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله فلاعن امرأته. وقال المهلب: الصحيح أن القاذف: عويمر، والذي ذكر في حديث ابن عباس من قوله العجلاني هو عويمر، وكذا في قول عبد الله بن مسعود، وكان رجلا، وهلال بن أمية خطأ، وأظنه غلطا من هشام بن حسان، وذلك لأنها قصة واحدة، والدليل على ذلك توقفه فيها حتى نزلت الآية الكريمة، ولو أنهما قضيتان لم يتوقف على الحكم في الثانية بما نزل عليه في الأولى. قلت: كأنه تبع في هذا الكلام محمد بن جرير، فإنه قال في (التهذيب): يستنكر قوله في الحديث: هلال بن أمية، وإنما القاذف عويمر بن الحارث بن زيد بن الجد بن عجلان. وفيما قالاه نظر لأن قضية هلال وقذفه زوجته بشريك ثابتة في صحيح البخاري في موضعين: الشهادات والتفسير وفي صحيح مسلم من حديث أنس. وقال ابن التين: الصحيح أن هلالا لا عن قبل عويمر، وقال الماوردي في الحاوي. الأكثرون على أن قصة هلال أسبق من قصة عويمر، وفي (الشامل) لابن الصباغ قصة هلال، تبين أن الآية الكريمة نزلت فيه أولا.
قوله: (أرأيت رجلا؟) الهمزة فيه للاستفهام، أي: أخبرني بحكمه في أنه هل يجوز قتله أو لا؟ قوله: (فتلاعنا)، فيه حذف كثير وقد بين ذلك في غيره من
الأحاديث التي أخرجها البخاري مكررة، كما ذكرنا، والمحذوف بعد قوله: (أيقتله) أم كيف يفعل؟ فأنزل ا في شأنه ما ذكر في القرآن من أمر المتلاعنين، فقال النبي: قد قضى فيك وفي امرأتك، قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فلما فرغا قال: كذبت عليها يا رسول ا إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يإمره رسول الله حين فرغا من التلاعن، ففارقها عند النبي فقال: (ذاك تفريق بين كلا متلاعنين)... الحديث وسيأتي أحكام اللعان مستقصاة في كتاب اللعان، وإنما ذكر البخاري هذا الحديث مختصرا لأجل جواز القضاة في المسجد، وهو جائز عند عامة العلماء، وقال مالك: جلوس القاضي في المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به، وقال ابن حبيب: وكان من مضى من القضاء لا يجلسون إلا في رحاب المساجد خارجا. وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في بيته أو حيث أحب، واستحب بعضهم الرحاب، وفي (المعونة): الأولى أن يقضي في المسجد، وكان شريح وابن أبي ليلى يقضيان فيه، وروي عن سعيد بن المسيب كراهية ذلك، قال: لو كان لي من الأمر شيء ما تركت اثنين يختصمان في المسجد. وعن الشافعي كراهيته في المسجد إذا أعده لذلك دون ما إذا أنفقت له حكومة فيه، إذ فيه حديث: (جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم وخصوماتكم)، ولا يعترض على هذا باللعان لأنها أيمان ويراد بها الترهيب ليرجع المبطل.
قلت: قال أصحابنا جميعا: والمستحب أن يجلس في مجلس الحكم في الجامع، فإن كان مسجدا
164

بجنب داره فله ذلك، وإن قضى في داره جاز، والجامع أرفق المواضع بالناس وأجدر أن لا يخفى على أحد جلوسه ولا يوم حكمه، وقد كان الشعبي يقضي في الجامع، وشريح يقضي في المسجد ويخطب بالسواد، وقد قضى النبي في مسجده بين الأنصار في مواريث تقادمت، وكانت الأئمة يقضون في المساجد، وعثمان، رضي ا تعالى عنه في الحر يقيم في المسجد وقضى بين سقا وخصم له في المسجد، وإن حضر في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره له أن يحكم بينهما، وعن عمر بن عبد العزيز: لا يقعد القاضي في المسجد يدخل فيه المشركون، فإنهم نجس، وتلا الآية. وكان يحيى بن يعمر في الطريق، وقصده رجل إلى منزله فقال: القاضي لا يؤتى في منزله.
54
((باب إذا دخل بيتا يصلى حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا دخل رجل بيت أحد يصلي فيه حيث شاء؟ وهمزة الاستفهام مقدرة فيه تقديره أيصلي حيث شاء؟ أو حيث أمر؟ أو يصلي حيث أمره صاحب البيت. وفي بعض النسخ هكذا بهمزة الاستفهام، والمعنى. على هذا وإلا لا يطابق الحديث الترجمة جميعا، ولا يطابق إلا الشق الثاني، وهو قوله، صلى ا تعالى عليه وسلم: (أين تحب أن أصلي لك من بيتك؟) وعن هذا قال ابن بطال: لا يقتضي لفظ الحديث أن يصلي حيث شاء، وإنما يقتضي أن يصلي حيث أمر، لقوله: أين تحب أن أصلي لك؟ فكأنه قال: باب دخل بيتا هل يصلي حيث شاء أو حيث أمر، لأنه استأذنه في موضع الصلاة ولم يصل حيث شاء، فيبطل حكم: حيث شاء، ويؤيد هذا قوله: ولا يتجسس، أي: ولا يتفحص موضعا يصلي فيه، وهو بالجيم، وقيل: بالحاء، والمعنى متقارب، والأول أظهر وأكثر.
85 - (حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك أن النبي
أتاه في منزله فقال أين تحب أن أصلي لك من بيتك قال فأشرت له إلى مكان فكبر النبي
فصففنا خلفه فصلى ركعتين)
وجه مطابقة الحديث للترجمة قد ذكرناه
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عبد الله بن مسلمة القعنبي. الثاني إبراهيم بن سعد سبط عبد الرحمن بن عوف. الثالث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع محمود بن الربيع بفتح الراء الخزرجي الأنصاري الصحابي. الخامس عتبان بكسر العين المهملة وضمها وسكون التاء المثناة من فوق بعدها الباء الموحدة الأنصاري السالمي المدني الأعمى وكان إمام قومه على عهد رسول الله
روي له عشرة أحاديث للبخاري منها واحد قاله في الكمال مات بالمدينة زمن معاوية.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وصرح أبو داود الطيالسي في مسنده بسماع إبراهيم بن سعد من ابن شهاب وفيه أن رواته كلهم مدنيون وفيه رواية الصحابي عن الصحابي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) هذا الحديث أخرجه البخاري مطولا ومختصرا في أكثر من عشرة مواضع ففي الصلاة عن هناد عن عبد الله بن مسلمة وعن حبان بن موسى وعن معاذ بن أسد وعن إسماعيل عن مالك وعن إسحاق عن يعقوب وعن سعيد بن عفير وفي الرقاق عن معاذ بن أسد وفي استتابة المرتدين عن عبدان وفي المغازي عن القعنبي وعن سعيد بن عفير وعن يحيى بن كثير وعن أحمد بن صالح وفي الأطعمة عن يحيى بن كثير وأخرجه مسلم أيضا في عدة مواضع ففي الصلاة عن حرملة وعن محمد بن رافع وعبد بن حميد وعن إسحاق بن إبراهيم وفي الإيمان عن شيبان بن فروخ عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وعن أبي بكر بن نافع وأخرجه النسائي أيضا في مواضع ففي الصلاة عن هارون بن عبد الله وعن الحارث بن مسكين وعن نصر بن علي وفي اليوم والليلة عن أبي بكر بن نافع وعن محمد بن سلمة وعن عمرو بن علي وعن محمد بن علي بن ميمون. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أبي مروان محمد بن عثمان عن إبراهيم بن سعد بطوله *
165

(ذكر معناه وما يستنبط منه) قوله ' أتاه في منزله ' وعند الطبراني ' أن النبي
أتاه يوم السبت ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ' وفي لفظ ' أن عتبان لقي النبي
يوم جمعة فقال إني أحب أن تأتيني ' وفي بعضها ' أن عتبان بعث إليه ' ورواه أبو الشيخ الأصبهاني من حديث النضر بن أنس عن أبيه قال ' لما أصيب عتبان ' فجعله من مسند أنس بن مالك وعند ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ' أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله
أن تعال فخط لي مسجدا في داري أصلي فيه وذلك بعدما عمي فجاء ففعل ' انتهى هذا كأنه عتبان والله تعالى أعلم قوله ' أن أصلي لك ' هكذا في رواية المستملي وفي رواية الأكثرين ' أن أصلي من بيتك ' وفي رواية الكشميهني ' في بيتك ' (فإن قلت) الصلاة لله فكيف قال لك (قلت) نفس الصلاة لله تعالى والأداء في الموضع المخصوص له قوله ' فصففنا ' ويروى ' وصففنا ' بالواو ويروى ' فصفنا ' بالتشديد أي صفنا رسول الله
أي جعلنا صفا خلفه. ومما يستنبط منه استحباب تعيين مصلى في البيت إذا عجز عن حضور المساجد. وفيه جواز الجماعة في البيوت. وفيه جواز النوافل بالجماعة. وفيه إتيان الرئيس إلى بيت المرؤس. وفيه تسوية الصف خلف الإمام. وفيه ما يدل على حسن خلقه وتواضعه مع جلالة قدره وعظم منزلته
64
((باب المساجد في البيوت))
أي: هذا باب في بيان جواز اتخاذ المساجد في البيوت، هذا الباب والذي قبله في الحقيقة باب واحد لأن للبخاري حديثا واحدا عن عتبان، وإنما أخرجه في عدة مواضع كما ذكرنا مفرقا مطولا ومختصرا لأجل التراجم.
وصلى البراء بن عازب في مسجده في داره في جماعة
هذا تعليق روى معناه ابن أبي شيبة في قصة. قوله: (في جماعة) هكذا رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (جماعة) بدون كلمة: في، منصوبة.
86 - (حدثنا سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله
ممن شهد بدرا من الأنصار أنه أتى رسول الله
فقال يا رسول الله قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ووددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى قال فقال له رسول الله
سأفعل إن شاء الله قال عتبان فغدا رسول الله
وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله
فأذنت له فلم يجلس حين دخل البيت ثم قال أين تحب أن أصلي من بيتك قال فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله
فكبر فقمنا فصفنا فصلى ركعتين ثم سلم قال وحبسناه على خزيرة صنعناها له قال فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا فقال قائل منهم أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن فقال بعضهم ذلك منافق لا يحب الله ورسوله فقال رسول الله
لا تقل ذلك ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله قال الله ورسوله أعلم قال فإنا نرى وجهه ونصيحته
166

إلى المنافقين قال رسول الله
فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله * قال ابن شهاب ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري وهو أحد بني سالم وهو من سراتهم عن حديث محمود بن الربيع فصدقه بذلك)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم ستة سعيد بن عفير بضم العين المهملة وفتح الفاء وهو سعيد بن كثير بن عفير المصري والليث بن سعد المصري وعقيل بضم العين ابن خالد الأيلي ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة الإفراد في موضعين وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه أن رواته ما بين مصري وأيلي ومدني وفيه رواية الصحابي عن الصحابي (فإن قلت) من قوله أن عتبان بن مالك إلى قوله قال عتبان من رواية محمود بن الربيع بغير واسطة فيكون هذا القدر مرسلا فلا يكون رواية الصحابي عن الصحابي ومن هذا قال الكرماني الظاهر أنه مرسل لأنه لا جزم أن محمودا سمع من عتبان ولا أنه رأى بعينه ذلك لأنه كان صغيرا عند وفاة رسول الله
(قلت) قد وقع تصريحه بالسماع عند البخاري من طريق معمر ومن طريق إبراهيم بن سعد كما مر في الباب الماضي ووقع التصريح بالتحديث أيضا بين عتبان ومحمود من رواية الأوزاعي عن ابن شهاب عند أبي عوانة فتكون رواية الصحابي عن الصحابي فيحمل قوله قال عتبان على أن محمودا أعاد اسم شيخه اهتماما بذلك لطول الحديث وقد ذكرنا تعدد موضعه ومن أخرجه غيره
(ذكر معناه) قوله ' أن عتبان بن مالك ' ظاهره الإرسال وقد حققناه الآن واختلفوا فيما إذا قال حدثنا فلان أن فلانا قال كذا أو فعل كذا فقال الإمام أحمد وجماعة يكون منقطعا حتى يتبين السماع وقال الجمهور هو كعن محمول على السماع بشرط أن يكون الراوي غير مدلس وبشرط ثبوت اللقاء على الأصح قوله ' ممن شهد بدرا من الأنصار ' وفائدة ذكر قوله من أصحاب رسول الله
تقوية الرواية وتعظيمه والافتخار والتلذذ به وإلا كان هو مشهورا بذلك أو غرضه تعريف الجاهل به قوله ' أن عتبان بن مالك ' في محل النصب على أنه مفعول ثان لقوله أخبرني قوله ' أنه أتى ' بدل من أن عتبان وفي رواية ثابت عن أنس عن عتبان (فإن قلت) جاء في رواية مسلم أنه بعث إلى النبي
يطلب منه ذلك فما وجه الروايتين (قلت) يحتمل أن يكون جاء إلى النبي
بنفسه مرة وبعث إليه رسوله مرة أخرى لأجل التذكير وقال بعضهم يحتمل أن يكون نسب إتيان رسول الله
إلى نفسه مجازا (قلت) الأصل الحقيقة والدليل عليه ما رواه الطبراني من طريق أبي أويس عن ابن شهاب بسنده أنه قال للنبي
يوم جمعة لو أتيتني يا رسول الله وفيه أنه أتاه يوم السبت قوله ' قد أنكرت بصري ' يحتمل معنيين العمى أو ضعف الإبصار وفي رواية مسلم ' لما ساء بصري ' وفي رواية الإسماعيلي ' جعل بصري يكل ' وفي رواية أخرى لمسلم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت أصابني في بصري بعض الشيء وكل ذلك يدل على أنه لم يكن بلغ العمى وفي رواية للبخاري في باب الرخصة في المطر من طريق مالك عن ابن شهاب فقال فيه ' أن عتبان كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله
أنها تكون الظلمة والسيل وأنا رجل ضرير البصر ' (فإن قلت) بين هذه الرواية والروايات التي تقدمت تعارض ظاهرا (قلت) لا معارضة فيها لأنه أطلق عليه العمى في هذه الرواية لقربه منه وكان قد قرب من العمى بالكلية والشيء إذا قرب من الشيء يأخذ حكمه قوله ' وأنا أصلي لقومي ' أي لأجلهم والمعنى أنه كان يؤمهم وصرح بذلك أبو داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد قوله ' فإذا كانت الأمطار ' أي فإذا وجدت وكانت تامة فلذلك ليس لها خبر قوله ' سال الوادي ' من قبيل إطلاق اسم المحل على الحال أي سال ماء الوادي قوله ' بيني وبينهم ' وفي رواية الإسماعيلي ' يسيل الوادي الذي بيني وبين مسجد قومي فيحول بيني وبين الصلاة معهم ' قوله ' فأصلي بهم ' بالنصب عطف على قوله ' أن آتي ' ويروى لهم بدل بهم قوله ' ووددت ' بكسر الدال قاله ثعلب ومعناه تمنيت وفي الجامع للقزاز وحكى الفراء عن الكسائي وددت بالفتح ولم يحكها غيره والمصدر ود فيهما ويقال في المصدر الود والود والوداد والوداد والكسر أكثر
167

والودادة والودادة قوله ' وجاء مودة ' حكاه مكي في شرحه وقال اليزيدي في نوادره ليس في شيء من العربية وددت مفتوحة قوله ' فتصلي ' بسكون الياء ويجوز النصب لوقوع الفاء بعد التمني قوله ' فاتخذه ' بالرفع وبالنصب أيضا لأن الفاء وقعت بعد التمني المستفاد من الودادة قوله ' إن شاء الله ' تعليق بمشيئة الله عملا بقوله تعالى * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * قال الكرماني وليس لمجرد التبرك إذ محل استعماله إنما هو فيما كان مجزوما به (قلت) يجوز أن يكون للتبرك لأن اطلاعه بالوحي على الجزم بأنه سيقع غير مستبعد في حقه قوله ' فغدا على ' زاد الإسماعيلي ' بالغد ' وللطبراني من طريق أبي أويس أن السؤال وقع يوم الجمعة والتوجه إليه وقع يوم السبت على ما ذكرنا قوله ' وأبو بكر ' لم يذكر جمهور الرواة عن ابن شهاب غيره حتى أن في رواية الأوزاعي ' فاستأذنا فأذنت لهما ' لكن في رواية أبي أويس ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وفي رواية مسلم من طريق أنس عن عتبان ' فأتاني ومن شاء الله تعالى من أصحابه ' وفي رواية الطبراني من وجه آخر عن أنس ' في نفر من أصحابه ' (فإن قلت) ما التوفيق بين هذه الروايات (قلت) هو أن أبا بكر كان معه في ابتداء توجهه ثم عند الدخول أو قبله بقليل اجتمع عمر وغيره من أصحابه فدخلوا معه قوله ' فلم يجلس حين دخل ' وفي رواية الكشميهني ' حتى دخل ' قال النووي في شرح مسلم زعم بعضهم أن حتى غلط وليس بغلط إذ معناه لم يجلس في الدار ولا في غيرها حتى دخل البيت مبادرا إلى قضاء حاجته التي طلبها منه وجاء بسببها وهي الصلاة في بيته وفي رواية يعقوب عند البخاري وعند الطيالسي أيضا ' فلما دخل لم يجلس حتى قال أين تحب ' وكذا الإسماعيلي من وجه آخر (قلت) إنما يتعين كون رواية الكشميهني غلطا إذا لم يكن لعتبان دار فيها بيوت وأما إذا كانت له دار فلا يتعين قوله ' فقام رسول الله
فكبر ' هذا يدل على أنه حين دخل البيت جلس ثم قام فكبر للصلاة وبينه وبين ما قبله تعارض ودفعه يمكن بأن يقال لما دخل قبل أن يجلس قال أين تحب ويحتمل أنه جلس بعده جلوسا ما ثم قام فكبر (فإن قلت) حديث مليكة في باب الصلاة على الحصير ' بدأ بالأكل ثم صلى ' وههنا ' صلى ثم أكل ' فما الفرق بينهما (قلت) كان دعاء عتبان النبي
للصلاة ودعاه مليكة كان للطعام ففي كل واحد من الموضعين بدأ بالأهم وهو ما دعي إليه قوله ' أن أصلي من بيتك ' كذا في رواية الأكثرين وعند جمهور الرواة من الزهري وفي رواية الكشميهني وحده ' أن أصلي في بيتك ' (فإن قلت) ما معنى ' من بيتك ' وأصل من للابتداء (قلت) الحروف ينوب بعضها عن بعض فمن ههنا بمعنى في كما في قوله تعالى * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * قوله ' وحبسناه ' أي منعناه عن الرجوع قوله ' على خزيرة ' بفتح الخاء المعجمة وكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وفتح الراء في آخره هاء قال ابن سيده هي اللحم الغاث بالثاء المثلثة أي المهزول يؤخذ فيقطع صغارا ثم يطبخ بالماء فإذا أميت طبخا ذر عليه الدقيق فعصد به ثم أدم بأي أدام بشيء ولا تكون الخزيرة إلا وفيها لحم وقيل هي ثلاثة النخالة تصفى ثم تطبخ وقيل الخزيرة والخزير الحساء من الدسم والدقيق عن أبي الهيثم إذا كان من دقيق فهي خزيرة وإذا كان من نخالة فهي حرير بالمهملات وفي الجمهرة لابن دريد الخزير دقيق يلبك بشحم كانت العرب تعير بأكله وفي موضع يعير به بنو مجاشع قال والخزيرة السخينة وقال الفارسي أكثر هذا الباب على فعيلة لأنه في معنى مفعول وفي رواية الأوزاعي عند مسلم ' على جشيشة ' بجيم ومعجمتين قال أهل اللغة هي أن تطحن الحنطة قليلا ثم يلقى فيها شحم أو غيره وفي المطالع أنها رويت في الصحيحين بخاء ورائين مهملات وحكى البخاري في الأطعمة عن النضر أنه تصنع من اللبن قوله ' فثاب في البيت رجال ' بالثاء المثلثة وبعد الألف باء موحدة أي اجتمعوا وجاءوا يقال ثاب الرجل إذا رجع بعد ذهابه وقال ابن سيده ثاب الشيء ثوبا وثؤبا رجع وثاب جسمه ثوبانا أقبل وقال الخليل المثابة مجتمع الناس بعد افتراقهم ومنه قيل للبيت مثابة قوله ' من أهل الدار ' أي من أهل المحلة كقوله
' خير دور الأنصار دار بني النجار ' أي محلتهم والمراد أهلها ويقال الدار القبيلة أيضا وإنما جاءوا لسماعهم بقدوم النبي
قوله ' فقال قائل منهم ' لم يسم هذا القائل قوله ' مالك بن الدخيشين ' بضم الدال المهملة وفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الشين المعجمة وفي
168

آخره نون قوله ' أو ابن الدخشن ' بضم الدال وسكون الخاء وضم الشين وحكى كسر أوله والشك فيه من الراوي هل هو مصغر أم مكبر وعند البخاري في المحاربين من رواية معمر الدخشن بالنون مكبرا من غير شك وكذا في رواية مسلم من طريق يونس وعنده من طريق معمر بالشك ونقل الطبراني عن أحمد بن صالح أن الصواب الدخشن بالميم وهي رواية الطيالسي وكذا في رواية لمسلم عن أنس عن عتبان وكذا للطبراني من طريق النضر بن أنس عن أبيه قوله ' فقال بعضهم ' قيل هو عتبان راوي الحديث وبعضهم نسب هذا القول بأنه عتبان إلى ابن عبد البر وهو غير ظاهر لأنه قال لا يصح عن مالك النفاق وقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه وقال أيضا لم يختلف في شهود مالك بدرا وهو الذي أسر سهيل بن عمرو ثم ساق بإسناد حسن عن أبي هريرة ' أن رسول الله
قال لمن تكلم فيه أليس قد شهد بدرا ' وذكر ابن إسحاق في المغازي أن النبي
بعث مالكا هذا ومعن بن عدي فحرقا مسجد الضرار فدل ذلك كله أنه بريء مما اتهم به من النفاق (فإن قلت) إذا كان كذلك فكيف قال هذا القائل أنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين (قلت) لعل كان له عذر في ذلك كما كان لحاطب بن أبي بلتعة وهو أيضا ممن شهد بدرا ولعل الذي قال بالنظر إلى الظاهر ألا ترى أن النبي
كيف قال عند قوله هذا ' فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ' وهذا إنكار لقوله هذا ويجوز أن يكون اتهامه إياه بالنفاق غير نفاق الكفر كذا قيل قوله ' لا تقل ذاك ' أي القول بأنه منافق قوله ' ألا تراه قد قال لا إله إلا الله ' وفي رواية الطيالسي ' أما يقول لا إله إلا الله ' وفي رواية مسلم ' أليس يشهد أن لا إله إلا الله ' قوله ' يريد بذلك وجه الله ' أي ذات الله وهذه شهادة من رسول الله
بإيمانه باطنا وبراءته من النفاق ' فإنا نرى وجهه ' أي توجهه قوله ' ونصيحته للمنافقين ' ويروى ' إلى المنافقين ' وعلى هذه الرواية قال الكرماني (فإن قلت) يقال نصحت له لا إليه ثم أجاب عنه بقوله قد ضمن معنى الانتهاء وقال بعضهم الظاهر أن قوله ' إلى المنافقين ' متعلق بقوله ' وجهه ' فهو الذي يتعدى بإلى وأما متعلق ونصيحته فمحذوف للعلم به (قلت) كل منهما لم يمشي على قانون العربية لأن قوله ' ونصيحته ' عطف على قوله ' وجهه ' داخل في حكمه لأنه تابع وكلمة إلى تتعلق بقوله وجهه ولا يحتاج إلى دعوى حذف متعلق المعطوف لأنه يكتفي فيه بمتعلق المعطوف عليه قوله ' يبتغي ' أي يطلب بذلك وجه الله فيه رد على المرجئة الغلاة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق فقط من غير اعتقاد (فإن قلت) لا بد من محمد رسول الله
(قلت) قال الكرماني هذا إشعار لكلمة الشهادة بتمامها (قلت) هذا في حق المشرك وأما في حق غيره فلا بد من ذلك قوله ' فإن الله تعالى قد حرم على النار ' المراد من التحريم هنا تحريم التخليد جمعا بينه وبين ما ورد من دخول أهل المعصية فيها وتوفيقا بين الأدلة وعن الزهري أنه نزلت بعد هذا الحديث فرائض وأمور نرى أن الأمر انتهى إليها وعند الطبراني أنه من كلام عتبان واعترض ابن الجوزي وقال أن الصلوات الخمس فرضت بمكة قبل هذه القضية بمدة وظاهر الحديث يقتضي أن مجرد القول يدفع العذاب ولو ترك الصلاة وإنما الجواب أن من قالها مخلصا فإنه لا يترك العمل بالفرائض إذ إخلاص القول حامل على أداء اللازم أو أنه يحرم عليه خلوده فيها وقال ابن التين معناه إذا غفر له وتقبل منه أو يكون أراد نار الكافرين فإنها محرمة على المؤمنين فإنها كما قال الداودي سبعة أدراك والمنافقون في الدرك الأسفل من النار مع إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه قوله ' قال ابن شهاب ' وهو محمد بن مسلم الزهري أحد رواة الحديث وقال بعضهم أي قال ابن شهاب بالإسناد ووهم من قال أنه معلق (قلت) ظاهره التعليق فإنه قال قال ابن شهاب بدون العطف على ما قبله قوله ' ثم سألت الحصين بن محمد ' وفي رواية الكشميهني ' ثم سألت بعد ذلك الحصين ' بضم الحاء المهملة وبالصاد المهملة المفتوحة وهكذا ضبطه عند جميع الرواة إلا القابسي فإنه ضبطه بالضاد المعجمة وغلطوه في ذلك وهو الحصين بن محمد الأنصاري المدني من ثقات التابعين وقال الكرماني (فإن قلت) محمود كان عدلا فلم سأل الزهري غيره (قلت) إما للتقوية ولاطمئنان القلب وإما لأنه عرف أنه نقله مرسلا وإما لأنه تحمله حال الصبا واختلف في قبول المتحمل زمن الصبا قوله ' وهو من سراتهم ' أي الحصين بن محمد من سراة بني سالم والسراة بفتح السين جمع سرى وقال أبو عبيدة وهو المرتفع القدر وفي المحكم السرو المروءة والشرف سرو سراوة وسروا الأخيرة عن سيبويه واللحياني وسرى سروا وسرى يسري سراء ولم يحك اللحياني مصدر سرى إلا ممدودا ورجل
169

سرى من قوم أسرياء وشرفاء كلاهما عن اللحياني والسراة اسم للجمع وليس بجمع عند سيبويه ودليل ذلك قولهم سروات وفي الصحاح وجمع السرى سراة وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة ولا يعرف غيره وفي الجامع وقولهم فلان سرى إنما معناه في كلام العرب الرفيع وهو سرا الرجل يسرو صار رفيعا وأصله من السراة وهو من أرفع المواضع من ظهر الدابة وقيل بل السراة الرأس وهو أرفع الجسم قوله ' عن حديث محمود بن الربيع ' يتعلق بقوله ' سألت ' قوله ' فصدقه بذلك ' أي بالحديث المذكور وهذا يحتمل أن يكون الحصين سمعه أيضا من عتبان ويحتمل أن يكون سمعه من صحابي آخر وليس للحصين ولا لعتبان في الصحيحين سوى هذه الحديث
(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام والفوائد) منها جواز إمامة الأعمى * ومنها جواز التخلف عن الجماعة للعذر نحو المطر والظلمة أو الخوف على نفسه * ومنها أن فيه إخبار المرء عن نفسه بما فيه من عاهة وليس يكون من الشكوى * ومنها جواز اتخاذ موضع معين للصلاة (فإن قلت) روى أبو داود في سننه النهي إيطان موضع معين من المسجد (قلت) هو محمول على ما إذا استلزم رياء ونحوه * ومنها أن فيه تسوية الصفوف وقال ابن بطال فيه رد على من قال إذا زار قوما فلا يؤمهم مستدلا بما روى وكيع عن أبان بن يزيد عن بديل بن ميسرة عن أبي عطية عن رجل منهم ' كان مالك بن الحويرث يأتينا في مصلانا فحضرت الصلاة فقلنا له تقدم فقال لا يتقدم
بعضكم فإن النبي
قال من زار قوما فلا يؤمهم وليؤمهم رجل منهم ' قال ابن بطال هذا إسناده ليس بقائم وأبو عطية مجهول يروي عن مجهول وصلاة النبي
في بيت عتبان مخالفة له وكذا ذكره السفاقسي وفيه نظر في مواضع. الأول رواه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم وابن ماجة عن سويد عن عبد الله وأبو الحسين المعلم عن محمد بن سليمان الباغندي حدثنا محمد بن أبان الواسطي قال حدثنا أبان. الثاني قوله إسناده ليس بقائم يرده قول الترمذي هذا حديث حسن. الثالث الذي في أبي داود والترمذي والنسائي والمصنف أن أبا عطية قال كان مالك بن الحويرث يأتينا فذكروه من غير واسطة وقال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي
وغيرهم قالوا صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر وقال بعض أهل العلم إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به وقال اسحق لا يصلي أحد بصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل وكذلك صاحب المنزل لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم يقول ليصلي بهم رجل منهم وقال مالك يستحب لصاحب المنزل إذا حضر فيه من هو أفضل منه أن يقدمه للصلاة وقد روي عن أبي موسى أنه أمر ابن مسعود وجذبه في داره وقال أبو البركات ابن تيمية أكثر أهل العلم على أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المنزل. وفيه أن المسجد المتخذ في البيوت لا يخرج عن ملك صاحبه بخلاف المسجد المتخذ في المحلة وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه أن من دعا من الصلحاء إلى شيء يتبرك به منه فله أن يجيب إليه إذا أمن العجب. وفيه الوفاء بالعهد. وفيه صلاة النافلة في جماعة بالنهار. وفيه إكرام العلماء إذا دعوا إلى شيء بالطعام وشبهه. وفيه التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند السلطان. وفيه أن السلطان يجب عليه أن يستثبت في أمر من يذكر عند بفسق ويوجه له أجمل الوجوه. وفيه أن الجماعة إذا اجتمعوا للصلاة وغاب أحد منهم أن يسألوا عنه فإن كان له عذر وإلا ظن به الشر وهو مفسر في قوله ' لقد هممت أن آمر بحطب ' وفيه جواز استدعاء المفضول للفاضل لمصلحة الفرض. وفيه إمامة الزائر المزور برضاه. وفيه أن السنة في نوافل النهار ركعتان وفيه خلاف على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وفيه جواز استتباع الإمام والعالم أصحابه. وفيه الاستئذان على الرجل في منزله وإن كان قد تقدم منه استدعاء. وفيه أنه يستحب لأهل المحلة إذا ورد رجل صالح إلى منزل بعضهم أن يجتمعوا إليه ويحضروا مجلسه لزيارته وإكرامه والاستفادة منه. وفيه الذب عمن ذكر بسوء وهو بريء منه. وفيه أنه لا يخلد في النار من مات على التوحيد (قلت) ظاهر الحديث يدل على أن من قال لا إله إلا الله مخلصا تحرم عليه النار وفيه جواز إسناد المسجد إلى القوم
74
170

2 (باب التيمن في دخول المسجد وغيره))
أي: هذا باب في بيان البداءة باليمين في دخول المسجد وغيره. قال الكرماني: وغيره، بالجر عطف على: الدخول لا على: المسجد، ولا على: التيمن، وتبعه بعضهم على ذلك قلت: لم لا يجوز أن يكون عطفا على المسجد، أي: وغير المسجد، مثل: البيت والمنزل.
وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى فإذا خرج بدأ برجله اليسرى
مطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، ويؤيد فعل ابن عمر ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق معاوية بن قرة: (عن أنس، رضي ا تعالى عنه، أنه كان يقول: من السنة إذا دخلت السمجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى). وقول الصحابي: من السنة كذا، محمول على أنه مرفوع إلى النبي، وهو الصحيح. قوله: (يبدأ) أي: في دخول المسجد، وذكر خرج في مقابله قرينة له.
62478 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة قالت كان النبي يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله..
مطابقته للترجمة من حيث عمومه لأن عمومه يدل على البداءة باليمين في دخول المسجد، وذكر هذا الحديث في باب التيمن في الوضوء والغسل عن حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني أشعث بن سليم، قال: سمعت أبي عن مسروق عن عائشة، رضي ا تعالى عنها، قالت: (كان النبي يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره في شأنه كله)، وقد ذكرنا هناك أن الجماعة أخرجوا هذا الحديث، وأن البخاري أخرجه أيضا في اللباس وفي الأطمعة، وتكلمنا فيه بما فيه الكفاية مستوفى، ولنذكر ما يتعلق به ههنا.
قوله: (ما استطاع) كلمة: ما، يجوز أن تكون موصولة وتكون بدلا من التيمن، ويجوز أن تكون بمعنى: ما دام، وبه احترز عما لا يستطيع فيه التيمن شرعا كدخول الخلاء والخروج من المسجد. قوله: (في شأنه) يتعلق بالتيمن، ويجوز أن يتعلق بالمحبة أو بهما على سبيل التنازع. قوله: (في طهوره)، بضم الطاء بمعنى طهره. قوله: (وترجله) أي: تمشيطه الشعر، قوله: (وتنعله) أي: لبسه النعل. فإن قلت: ما موقع: في طهوره، من الإعراب؟ قلت: بدل من: شأنه، بدل البعض من الكل فإن قلت: إذا كان كذلك يفيد استحباب التيمن في بعض الأمور، وتأكيد شأنه بالكل يفيد استحبابه في كلها قلت: هذا تخصيص بعد تعميم، وخص هذه الثلاثة بالذكر اهتماما بها وبيانا لشرفها، ولا مانع أن يكون بدل الكل من الكل، إذ الطهور مفتاح أبواب العبادات، والترجل يتعلق بالرأس، والتنعل بالرجل، وأحوال الإنسان إما أن تتعلق بجهة الفوق أو بجهة التحت أو بالأطراف، فجاء لكل منها بمثال. قلت: كيف قالت عائشة، رضي ا تعالى عنها (كان النبي يحب التيمن)، والمحبة أمر باطني، فمن أين علمت ذلك؟ قلت: عملت حبه بهذه الأشياء إما بالقرائن أو بإخباره، صلى ا تعالى وسلم، لها بذلك.
84
((باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد))
أي: هذا باب يذكر فيه نبش قبور المشركون الذين هلكوا في الجاهلية، يعني: يجوز ذلك لما صرح به في حديث الباب فإن قلت: كيف يفسر كذلك وفيه كلمة: هل، للاستفهام؟ قلت: هل هنا للاستفهام التقريري، وليس بإستفهام حقيقي صرح بذلك جماعة من المفسرين، وقوله تعالى: * (هل أتى على الإنسان) * (الإنسان: 1) ويأتي: هل، أيضا بمعنى: قد كذا فسر الآية جماعة، منهم ابن عباس والكسائي والفراء والمبرد، وذكر في (المقتضب) هل للاستفهام نحو: هل جاء زيد؟ وتكون بمنزلة: قد، نحو قوله تعالى: * (هل اتى على الإنسان) * (الإنسان: 1) وقد بالغ الزمخشري فزعم أنها أبدا بمعنى: قد وإنما الاستفهام مستفاد من همزة مقدرة معها، ونقله في (المفصل) عن سيبويه، وقال في (الكشاف): * (هل أتى) * (الإنسان: 1) أي: قد أتى، على معنى التقرير والتقريب فيه جميعا، ومن عكس الزمخشري ههنا فقد عكس نفسه:
171

* إذا قالت حذام فصدقوها
* فإن القول ما قالت حذام
*
وهذا الذي ذكرنا أحسن من الذي يقال: إن ذكر كلمة: هل، ههنا ليس له محل، لأن عادته إنما يذكر: هل، إذا كان حكم الباب فيه خلاف، وليس ههنا خلاف، ولم أر شارحا هنا شفى العليل ولا أروى الغليل، وقد فسر بعضهم باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ بقوله: أي: دون غيرها من قبور الأنبياء وأتباعهم، قلت: هذا تفسير عجيب مستفاد من سوء التصرف، لأن معناه ظاهر، وهو جواز نبش قبور المشركين لأنه لا حرمة لهم فيستفاد منه عدم جواز نبش قبور غيرهم سواء كانت قبور الأنبياء أو قبور غيرهم من المسلمين لما فيه من الإهانة لهم، فلا يجوز ذلك، لأن حرمة المسلم لا تزول حيا وميتا، فإن كان هذا القائل اعتمد في هذا التفسير على حديث عائشة المذكور في الباب، فليس فيه ذكر النبش وهو ظاهر، وانما فيه أنهم إذا مات فيهم رجل صالح يبنون على قبره مسجدا ويصورون فيه تصاوير، ولا يلزم من ذلك النبش، لأن بناء المسجد على القبر من غير نبش متصور. قوله: (ويتخذ مكانها مساجد) عطف على قوله: (تنبش) و: (مكانها) منصوب على الظرفية. و: (مساجد)، مرفوع لأنه مفعول ناب عن الفاعل، وهذا الوجه إذا جعل الإتخاذ متعديا إلى مفعول واحد، وأما إذا جعل متعديا إلى مفعولين على ما هو الأصل، لأنه من أفعال التصيير كما في قوله تعالى: * (واتخذ ا إبراهيم خليلا) * (النساء: 521) فيكون أحد المفعولين: مكانها، فحينئذ يرفع على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، بخلاف الوجه الأول فإنه فيه منصوب على الظرفية، كما ذكرنا، والمفعول الثاني هو: مساجد بالنصب. فإنهم. فإن الكرماني ذكر فيه ما لا يخلو عن نظر وتأمل.
لقول النبي: (لعن ا اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
هذا تعليل قوله: (ويتخذ مكانها مساجد)، خاصة لأن الترجمة شيئان والتعليل للشق الثاني.
وجه الاستدلال به أن اليهود لما خصوا باللعنة باتخاذهم قبور الأنبياء مساجد علم جواز اتخاذ قبور غيرهم ومن هم في حكمهم من المسلمين. فإن قلت: أليس في اتخاذ قبور المشركين مساجد تعظيم لهم؟ قلت: لا يستلزم ذلك، لأنه إذا نبشت قبورهم ورميت عظامهم تصير الأرض طاهرة، منهم، والأرض كلها مسجد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا) وهذا الحديث أخرجه البخاري في آخر كتاب الجنائز في باب ما جاء في قبر النبي، حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن هلال عن عروة: (عن عائشة، رضي ا تعالى عنها، قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: لعن ا اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، الحديث. وأخرجه أيضا في مواضع أخر في الجنائز، وفي المغازي أيضا عن الصلت بن محمد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد.
وما يكره من الصلاة في القبور
هذا عطف على قوله: (هل تنبش)، لا يقال: إن هذه جملة خبرية وقوله: هل تنبش، طلبية، فكيف يصح عطفها عليها؟ لأنا نقول: قد ذكرنا أن: هل استفهام تقريري، وهو في حكم الجملة الخبرية الثبوتية مثلها، وقوله هذا يتناول ما إذا صلى على القبر أو إليه أو بينهما، وفيه حديث أبي مرثد، واسمه كناز بن الحصين. وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي: بلفظ: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول ا: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام).
ورأى عمر أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال القبر القبر ولم يأمره بالإعادة.
هذا التعليق رواه وكيع بن الجراح في مصنفه فيما حكاه ابن حزم عن سفيان بن سعيد عن حميد (عن أنس قال: رآني عمر، رضي ا تعالى عنه، أصلي إلى قبر، فنهاني، فقال: القبر أمامك). قال: وعن معمر عن ثابت (عن أنس قال: رآني عمر أصلي عند قبر فقال لي: القبر، لا تصلي إليه. قال ثابت: فكان أنس يأخذ بيدي إذا أراد أن يصلي فيتنحى عن القبور). ورواه أبو نعيم شيخ البخاري عن حريث بن السائب، قال: سمعت الحسن يقول: (بينا أنس، رضي ا تعالى عنه، يصلي إلى قبر فناداه عمر: القبر القبر، وظن أنه يعني القمر، فلما رأى أنه يعني القبر تقدم وصلى وجاز القبر). قوله: (القبر القبر)، منصوب على التحذير، يجب حذف عامله وهو: إتق، أو اجتنب. وفي بعض الرواية بهمزة الاستفهام. أي: أتصلي عند القبر؟ قوله: (ولم يأمره بالإعادة)
172

أي: لم يأمر عمر أنسا بإعادة صلاته تلك، فدل على أنه يجوز ولكن يكره.
واعلم أن العلماء اختلفوا في جواز الصلاة على المقبرة، فذهب أحمد إلى تحريم الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه
من النجاسة أم لا، ولا بين أن تكون بين القبور أو في مكان منفرد عنها، كالبيت والعلو، وقال أبو ثور: لا يصلى في حمام ولا مقبرة على ظاهر الحديث، يعني قوله: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). وذهب الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي إلى كراهة الصلاة في المقبرة، وفرق الشافعي بين المقبرة المنبوشة، وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم وما يخرج منها لم يجز الصلاة فيها للنجاسة، فإن صلى رجل في مكان طاهر منها أجزأته صلاته. وقال الرافعي: أما المقبرة فالصلاة فيها مكروهة بكل حال، ولم ير مالك بالصلاة في المقبرة بأسا، وحكى أبو مصعب عن مالك كراهة الصلاة في المقبرة كقول الجمهور، وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الصلاة في المقبرة، سواء كانت مقابر المسلمين أو الكفار، وحكى ابن حزم عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك وهم: عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس، رضي ا تعالى عنهم. وقال: ما نعلم لهم مخالفا من الصحابة، وحكاه عن جماعة من التابعين إبراهيم النخعي ونافع بن جبير بن مطعم وطاوس وعمرو بن دينار وخيثمة وغيرهم.
قلت: قوله: لا نعلم لهم مخالفا من الصحابة، معارض بما حكاه الخطابي في (معالم السنن) عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة، وحكي أيضا عن الحسن البصري أنه صلى في المقبرة. وفي (شرح الترمذي): حكى أصحابنا اختلافا في الحكمة في النهي عن الصلاة في المقبرة، فقيل: المعنى فيه ما تحت مصلاه من النجاسة، وقد قال الرافعي: لو فرش في المجزرة والمزبلة شيئا وصلى عليه صحت صلاته، وبقيت الكراهية لكونه مصليا على نجاسة وإن كان بينهما حائل، وقال القاضي حسين: إنه لا كراهة مع الفرش على النجاسة مطلقا. وحكى ابن الرفعة في (الكفاية): أن الذي دل عليه كلام القاضي: أن الكراهة لحرمة الموتى، وعلى كل تقدير من هذين المعنيين، فينبغي أن تقيد الكراهة بما إذا حاذى الميت، أما إذا وقف بين القبور بحيث لا يكون تحته ميت ولا نجاسة فلا كراهة، إلا أن ابن الرفعة بعد أن حكى المعنيين السابقين قال: لا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر أو بجانبه. أو إليه، قال: ومنه يؤخذ أنه: تكره الصلاة بجانب النجاسة وخلفها.
72488 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى عن هشام قال أخبرني أبي عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك للنبي فقال إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور فأولئك شرار الخلق عند ا يوم القيامة. (الحديث 724 أطرافه في: 434، 1431، 8783).
وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله: (لعن ا اليهود)، من حيث إنه يوافقه، وذلك أنه لعن اليهود لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وفي هذا الحديث ذم النصارى بشيء أعظم من اللعن في كونهم كانوا إذا مات الرجل الصالح فيهم بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تصاوير.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن المثنى، بفتح النون المشددة بعد الثاء المثلثة. الثاني: يحيى بن سعيد القطان. الثالث: هشام بن عروة. الرابع: أبوه عروة بن الزبير بن العوام. الخامس: عائشة أم المؤمنين. رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية الإسماعيلي من هذا الوجه: أخبرتني عائشة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في هجرة الحبشة عن محمد بن المثنى، وأيضا أخرجه مسلم في الصلاة عن زهير بن حرب، والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد به.
ذكر معناه: قوله: (أن أم حبيبة)، بفتح الحاء المهملة أم المؤمنين اسمها: رملة، بفتح الراء على الأصح بنت أبي سفيان صخر الأموية، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش، بتقديم الجيم على الحاء المهملة إلى الحبشة، فتوفي هناك فتزوجها رسول الله وهي هناك سنة ست من الهجرة، وكان النجاشي أمهرها من عنده عن رسول ا، وبعثها إليه، وكانت من السابقات إلى الإسلام، توفيت سنة أربع وأربعين بالمدينة على الأصح. قوله: (وأم سلمة)، فتح اللام،
173

أم المؤمنين أيضا، واسمها: هند، على الأصح، بنت أبي أمية المخزومية، هاجر بها زوجها أبو سلمة إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة مات زوجها فتزوجها رسول ا، تقدمت في باب العظة بالليل. قوله: (ذكرتا)، بلفظ التثنية للمؤنث من الماضي، والضمير فيه يرجع إلى: أم حبيبة وأم سلمة، وهو على الأصح في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (ذكرا)، بالتذكير وهو على خلاف الأصل، والأظهر أنه من النساخ أو من بعض الرواة غير المميزين. قوله: (كنيسة) بفتح الكاف، وهي معبد النصارى. وفي موضع آخر: يقال لها مارية، والمارية بتخفيف الياء: البقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء. قوله: (رأينها)، بصيغة جمع المؤنث من الماضي، وإنما جمع باعتبار من كان مع أم حبيبة وأم سلمة، وفي رواية الكشميهني والأصيلي: (رأتاها)، على الأصل بضمير التثنية. قوله: (فيها تصاوير) جملة اسمية في محل النصب لأنها صفة كنيسة، والتصاوير: التماثيل. قوله: (إن أولئك)، بكسر الكاف ويجوز فتحها. قوله: (فمات)، عطف على قوله: (كان). قوله: (بنوا) جواب: إذا. قوله: (تيك الصور) بكسر التاء المثناة وسكون الياء آخر الحروف بدل اللام في: تلك، وهي لغة فيه، وهي في رواية المستملي وفي رواية غيره: (تلك).
قوله: (فأولئك)، ويروى: (وأولئك)، بالواو، والكلام فيه مثل الكلام في: أولئك، الماضية. قوله: (شرار الخلق)، بكسر الشين المعجمة جمع: الشر، كالخيار جمع الخير، والبحار جمع البحر، وأما الأشرار فقال يونس: واحدها شر أيضا. وقال الأخفش: شرير، مثل: يتيم وأيتام. قال القرطبي: إنما صور أوائلهم الصور ليأتنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون ا عند قبورهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النبي عن مثل ذلك سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسدا للذرائع في قبره، وكان ذلك في مرض
موته إشارة إلى أنه من الأمر المحكم الذي لا ينسخ بعده، ولما احتاجت الصحابة، رضي ا تعالى عنهم، والتابعون إلى زيادة مسجده عليه الصلاة والسلام بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا تصل إليه العوام فيؤدي إلى ذلك المحذور، ثم بنوا جدارين بين ركني القبر الشمالي حرفوها حتى التقيا حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام: قال ابن بطال: فيه: نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير، وإنما نهى عنه لاتخاذهم القبور والصور آلهة. وفيه: دليل على تحريم تصوير الحيوان خصوصا الآدمي الصالح. وفيه: منع بناء المساجد على القبور ومقتضاه التحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟ وأما الشافعي وأصحابه فصرحوا بالكراهة، وقال البندنيجي: والمراد أن يسوى القبر مسجدا فيصلى فوقه، وقال: إنه يكره أن يبنى عنده مسجد فيصلى فيه إلى القبر، وأما المقبرة الداثرة إذا بني فيها مسجد ليصلى فيه فلم أر فيه بأسا، لأن المقابر وقف، وكذا المسجد، فمعناها واحد. وقد ذكرنا عن قريب مذاهب العلماء في الصلاة على القبر. وقال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا لعنهم النبي ومنع المسلمين عن مثل ذلك، فأما من اتخذ مسجدا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجه إليه فلا يدخل في الوعيد المذكور. وفيه: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به. وفيه: ذم فاعل المحرمات. وفيه: أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل.
82498 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس قال قدم النبي المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام النبي فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا متقلدي السيوف كأني أنظر إلي النبي على راحلته وأبو بكر ردفه وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب وكان يحب أن يصلى حيث أدركته الصلاة ويصلي في مرابض الغنم وأنه
174

أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا لا وا لا نطلب ثمنه إلا إلى ا فقال أنس فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للانصار والمهاجره
.
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: مسدد بن مسرهد. الثاني: عبد الوارث بن سعيد التيمي. الثالث: أبو التياح، بفتح المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: واسمه يزيد بن حميد الضبغي، والكل تقدموا. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف اسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول. وفيه: أن رواته كلهم بصريون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الصلاة في موضعين من الوصايا، وفي هجرة النبي عن مسدد، وفي الحج عن أبي معمر عبد الله بن عمرو، وفي البيوع عن موسى بن إسماعيل وفي الوصايا عن إسحاق عن عبد الصمد بن عبد الوراث، وفي الهجرة عن إسحاق بن منصور عن الصمد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وشبيان بن فروخ. وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد به وعن موسى بن إسماعيل عن حماد، وأخرجه النسائي فيه عن عمان ابن موسى عن عبد الوارث نحوه. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد بن وكيع عن حماد بن سلمة ببعضه.
ذكر معناه: قوله: (قدم النبي المدينة): قال الحاكم: تواترت الأخبار بورود النبي، عليه الصلاة والسلام، قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول. وقال محمد بن موسى الخوارزمي، وكان ذلك يوم الخميس الرابع من تيرماه، ومن شهور الروم العاشرة من أيلول سنة سبعمائة وثلاثة وثلاثين لذي القرنين، وقال الخوارزمي: من حين ولد إلى حين أسري به: أحد وخمسون سنة وسبعة أشهر وثمانية وعشرون يوما، ومنه إلى اليوم الذي هاجر: سنة وشهران ويوم، فذلك ثلاث وخمسون سنة، وكان ذلك يوم الخميس. وفي (وطبقات ابن سعد): أن رسول الله خرج من الغار ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول، ويقال: لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فنزل على كلثوم بن هدم، وهو المثبت عندنا، وذكر البرقي أنه قدم المدينة ليلا، وعن جابر: لما قدم المدينة نحر جزورا. قوله: (فنزل أعلى المدنية) ويروى: في المدينة، وفي رواية أبي داود: (فنزل في علو المدينة) بالضم وهي العالية.
قوله: (في حي)، بتشديد الياء وهي: القبيلة، وجمعها أحياء. قوله: (بنو عمرو بن عوف)، بفتح العين فيهما، (فأقام فيهم أربع عشرة ليلة)، وهذه رواية الأكثرين، وكذا في رواية أبي داود عن شيخه مسدد، وفي رواية المستملي والحموي: (أربعا وعشرين ليلة)، وعن الزهري: أقام فيهم (بضع عشرة ليلة). وعن عويمر بن ساعدة: (لبث فيهم ثماني عشرة ليلة ثم خرج) قوله: (ثم أرسل إلى بني النجار)، وبنو النجار هم بنو تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الجموح، والنجار قبيل كبير من الأنصار، منه بطون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هو النجار، سمي بذلك لأنه اختتن بقدوم، وقيل: بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه، ذكره الكلبي وأبو عبيدة، وإنما طلب بني النجار لأنهم كانوا أخواله، لأن هاشما جده تزوج سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار بالمدينة فولدت له عبد المطلب. قوله: (فجاؤوا متقلدي السيوف)، هكذا في رواية كريمة بإضافة: متقلدين إلى السيوف وسقوط النون للإضافة، وفي رواية الأكثرين (متقلدين السيوف)، بنصب السيوف وثبوت النون لعدم الإضافة، وعلى كل حال هو منصوب على الحال من الضمير الذي في: جاؤوا، والتقلد جعل نجاد السيف على المنكب. قوله: (على راحلته)،
الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، وكانت
175

راحلته ناقة تسمى القصواء.
قوله: (وأبو بكر ردفه)، جملة اسمية في موضع النصب على الحال، والردف بكسر الراء وسكون الدال: المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب. وأردفته أنا إذا أركبته معك، وذاك الموضع الذي يركبه: رداف، وكل شيء تبع شيئا فهو: ردفه. وكان لأبي بكر ناقة، فلعله تركها في بني عمرو بن عوف لمرض أو غيره، ويجوز أن يكون ردها إلى مكة ليحمل عليها أهله، وثم وجه آخر حسن وهو: أن ناقته كانت معه، ولكنه ما ركبها لشرف الارتداف خلفه، لأنه تابعه والخليفة بعده. قوله: (وملأ بني النجار حوله) جملة اسمية حالية أيضا و: الملأ، أشراف القوم ورؤساؤهم، سموا بذلك لأنهم ملاء بالرأي والغنى، والملأ: الجماعة، والجمع أملاء. وقال ابن سيده: وليس الملأ من باب: رهط، وإن كان اسمين، لأن رهطا لا واحد له من لفظه، والملأ: رجل مالىء جليل ملأ العين بجهرته، فهو كالعرب والزوج، حكى ملأته على الأمر أملؤه وملأته كذلك، أي: شاورته، و: ما كان الأمر عن ملأ منا أي: عن تشاور وإجماع. قوله: (ألقى) أي: حتى ألقى رحله والمفعول محذوف، يقال: ألقيت الشيء إذا طرحته. وقوله: (بفناء أبي أيوب) أي: بفناء دار أبي أيوب، الفناء، بكسر الفاء: سعة أمام الدار والجمع أفنية، وفي (المجمل): فناء الدار ما امتد من جوانبها. وفي (المحكم): وتبدل الباء من الفاء. واسم أبي أيوب: خالد بن زيد الأنصاري، رضي ا تعالى عنه، وقد ذكرناه عن قريب، وفي (شرف المصطفى): لما نزلت الناقة عند دار أبي أيوب جعل جبار ابن صخر ينخسها برجله، فقال أبو أيوب: يا جبار، أعن منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لولا الإسلام لضربتك بالسيف قلت: جبار بن صخر بن أمية بن خنساء السلمي، ويقال: جابر بن صخر الأنصاري، شهد العقبة وبدرا وهو صحابي كبير، روى محمد بن إسحاق عن أبي سعد الخطمي سمع جبار بن عبد الله قال: (صليت خلف رسول الله أنا وجابر بن صخر فأقامنا خلفه). والصحيح: أن اسمه: جبار بن صخر. وذكر محمد بن إسحاق في كتاب (المبتدأ وقصص الأنبياء)، عليهم الصلاة والسلام، تأليفه: أن تبعا وهو ابن حسان لما قدم مكة قبل مولد رسول ا، بألف عام، وخرج منها إلى يثرب وكان معه أربع مائة رجل من الحكماء، فاجتمعوا وتعاقدوا على أن لا يخرجوا منها، وسألهم تبع عن سر ذلك فقالوا: إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار مهاجره، فنحن نقيم لعل أن نلقاه، فأراد تبع الإقامة معهم، ثم بني لكل واحد من أولئك دار، واشترى له جارية وزوجها منه، وأعطاهم مالا جزيلا، وكتابا فيه إسلامه وقوله:
شهدت على أحمد أنه رسول من ا بارىء النسم في أبيات، وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم، وسأله أن يدفعه إلى محمد إن أدركه وإلا من أدركه من ولده، وبني للنبي دارا ينزلها إذا قدم المدينة، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب، رضي ا تعالى عنه وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، قال: وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربع مائة، ويزعم بعضهم أنهم كانوا الأوس والخررج، ولما خرج رسول ا صلى تعالى عليه وآله وسلم، أرسلوا إليه كتاب تبع مع رجل يسمى أبا ليلى، فلما رآه قالت: أنت أبو ليلى ومعك كتاب تبع الأول، فبقي أبو ليلى متفكرا ولم يعرف النبي، فقال: من أنت فإني لم أر في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر، فقال: أنا محمد، هات الكتاب. فلما قرأه، قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح، ثلاث مرات، وفي سيرة ابن إسحاق: اسمه تبان أسعد أبو كرب، وهو الذي كسى البيت الحرام، وفي (مغايص الجوهر في أنساب حمير): كان يدين بالزبور، وفي (معجم الطبراني): (لا تسبوا تبعا). وقال الثعلبي بإسناده إلى سهل بن سعد، رضي ا تعالى عنه، إنه قال: (سمعت رسول الله يقول: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم). وأخرجه أحمد في مسنده.
وتبع، بضم التار المثناة من فوق وفتح الباء المشددة وفي آخره عين مهملة: لقب لكل من ملك اليمن، ككسرى لقب لكل من ملك الفرس، وقيصر لكل من ملك الروم، وقال عكرمة: إنما سمي لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار، فسألم قال: وهذا تبع الأوسط، قال: وأقام ملكا ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل: ثمانين سنة. وقال ابن سيرين: هو أول من كسى البيت وملك الدنيا والأقاليم بأسرها، وحكى القاسم بن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: كان إذا عرض الخيل قاموا صفا من دمشق إلى صنعاء، وهذا بعيد إن أراد به صنعاء اليمن، لأن بينها وبين دمشق أكثر من شهرين، والظاهر أنه أراد بها صنعاء دمشق، وهي قرية على باب دمشق من ناحية
176

باب الفرديس، واتصلت حيطانها بالعقبة، وهي محلة عظيمة بظاهر دمشق، وذكر ابن عساكر في كتابه: أن تبعا هذا لما قدم مكة وكسى الكعبة وخرج إلى يثرب كان في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة. وذكر أيضا: أن تبعا لما خرج من يثرب مات في بلاد الهند، وذكر السهيلي: أن دار أبي أيوب هذه صارت بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب فاشتراه منه، بعد ما خرب، المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بعد حيلة احتالها عليه المغيرة، فأصلحه المغيرة وتصدق به على أهل بيت فقراء بالمدينة.
قوله: (ويصلي في مرابض الغنم)، المرابض جمع: مربض، وهو: مأوى الغنم. قوله: (إنه أمر) بكسر الهمزة في: إن، لأنه كلام مستقبل بذاته، أي: إن النبي أمر ببناء المسجد، ويروى: أمر، على بناء المفعول، فعلى هذا يكون الضمير في: أنه، للشأن، والمسجد: هو بكسر الجيم وفتحها، وهو الموضع الذي يسجد فيه. وفي (الصحاح): المسجد، بفتح الجيم: موضع السجود، وبكسرها: البيت الذي يصلى فيه. ومن العرب من يفتح في كلا الوجهين، وعن الفراء: سمعنا المسجد والمسجد، والفتح جائز وإن لم نسمعه. وفي (المعاني) للزجاج: كل موضع يتعبد فيه مسجد. قوله: (ثامنوني) بالثاء المثلثة، وقال الكرماني: أي بيعونيه بالثمن، وقال بعضهم: أي اذكروا لي ثمنة. وقال صاحب (التوضيح): أي قدروا ثمنه لأشتريه منكم وبايعوني فيه. قلت: كل ذلك ليس تفسيرا لموضوع هذه المادة، وإن كان يدل على المقصود، والتفسير هو الذي ذكرته في (شرح سنن أبي داود) وهو: أن هذه اللفظة من: ثامنت الرجل، في البيع أثامنه، إذا قاولته في ثمنه، وساومته على بيعه وشرائه. قوله: (بحائطكم)، الحائط ههنا البستان يدل عليه قوله: (وفيه نخل)، وبالنخل فقطع، وفي لفظ: كان مربدا، وهو الموضع الذي
يجعل فيه التمر لينشف. قوله: (لا نطلب ثمنه إلا إلى ا عز وجل)، وقال الكرماني ما حاصله: لا نطلب ثمن المصروف في سبيل ا، وأطلق الثمن على سبيل المشاكلة. ثم قال: فإن قلت: ر
الطلب يستعمل: بمن، فالقياس أن يقال: إلا من ا قلت: معناه: لا نطلب الثمن من أحد، لكنه مصروف إلى ا تعالى، قلت: وهذا كله تعسف مع تطويل، بل معناه: لا نطلب الثمن إلا من ا تعالى، وكذا وقع عند الإسماعيلي: لا نطلب ثمنه إلا من ا. وقد جاء: إلى، في كلام العرب للابتداء، كقوله:
فلا يروى إلى ابن أحمد. أي: منى، ويجوز أن تكون: إلى ههنا، على معناها لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: ننهي طلب الثمن إلى ا، كما في قولهم: أحمد إليك ا، والمعنى: أنهي حمده إليك، والمعنى لا نطلب منك الثمن بل نتبرع به، ونطلب الثمن أي: الأجر من ا تعالى، وهذا هو المشهور في (الصحيحين). وذكر محمد بن سعد في (الطبقات): على الواقدي أن النبي، صلى ا تعالى عليه وسلم، اشتراه منهم بعشرة دنانير، دفعها أبو بكر الصديق. ويقال: كان ذلك مربد اليتيمين، فدعاهما النبي صلى ا تعالى عليه وسلم، فساومهما ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول ا، فأبى رسول ا، صلى ا تعالى عليه وسلم، حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك. وفي (المغازي) لأبي معشر: فاشتراه أبو أيوب منهما وأعطاه الثمن، فبناه مسجدا. واليتيمان هما: سهل وسهيل، ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو، من بني النجار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقيل: معاذ بن عفراء، وقال معاذ: يا رسول ا أنا أرضيهما، فاتخذه مسجدا. ويقال أن بني النجار جعلوا حائطهم وقفا وأجازه النبي، صلى ا تعالى عليه وآله وسلم، واستدل ابن بطال بهذا على صحة وقف المشاع. وقال: وقف المشاع جائز عند مالك، وهو قول أبي يوسف والشافعي، خلافا لمحمد بن الحسن، والصحيح أن بني النجار لم يوقفوا شيئا، بل باعوه ووقفه النبي، فليس وقف مشاع.
قوله: (قبور المشركين) بالرفع بدل أو بيان لقوله: (ما أقول). قوله: (وفيه خرب) قال أبو الفرج: الرواية المعروفة: (خرب)، بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء، جمع خربه. كما يقال: كلمة وكلم، وقال أبو سليمان: حدثناه الخراب، بكسر الخاء وفتح الراء وهو: جمع الخراب، وهو ما يخرب من البناء في لغة بني تميم، وهما لغتان صحيحتان رويتا، وقال الخطابي: لعل صوابه: خرب، بضم الخاء المعجمة: جمع: خربة، وهي الخروق في الأرض إلا أنهم يقولونها في ثقبة مستديرة في أرض أو جدار، قال: ولعل الرواية جرف جمع الجرفة، ويه جمع الجرف، كما يقال: خرج وخرجة، وترس وترسة، وأبين من ذلك إن ساعدته الرواية أن يكون حدبا جمع حدبة، وهو الذي يليق بقوله: فسويت، وإنما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه
177

خروق وهدوم، فأما الخرب فإنها تعمر ولا تسوى، وقال عياض: هذا التكلف لا حاجة إليه فإن الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أمر يقطع النخل لتسوية الأرض، أمر بالخرب فرفعت رسومها وسويت مواضعها لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فعل بالقبور. وفي (مصنف) ابن أبي شيبة، بسند صحيح: وأمر بالحرث فحرث، وهو الذي زعم ابن الأثير أنه روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد الموضع المحروث للزراعة. قلت: كذا هو في رواية الكشميهني، ولكن قيل: إنه وهم. قوله: (وبالنخل) أي: أمر بالنخل فقطع. قوله: (فصفوا النخل) من صففت الشيء صفا، وفي (مغازي ابن بكير) عن ابن إسحاق: جعلت قبلة المسجد من اللبن، ويقال: بل من حجارة منضودة بعضها على بعض، وسيأتي في (الصحيح): أن المسجد كان على عهده مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئا، ولعل المراد بالقبلة جهتها، لا القبلة المعهودة اليوم، فإن ذلك لم يكن ذلك الوقت، وورد أيضا أنه كان في موضع المسجد الغرقد فأمر أن يقطع، وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله فنبشت، وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء مستنجل فستره حتى ذهب. قوله: نز قليل الجري، من النجل وهو: الماء القليل، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع،، ويقال: كان أقل من المائة، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن، وجعل النبي ينقل معهم اللبن والحجارة بنفسه ويقول:
* هذا الجمال لا جمال خيبر
* هذا أبر ربنا وأطهر
*
وجعل قبلته إلى القدس، وجعل له ثلاثة أبواب بابا في مؤخره، وبابا يقال له: باب الرحمة، وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة، والثالث: الذي يدخل منه، عليه الصلاة والسلام، وهو الباب الذي يلي آل عثمان، وجعل طول الجدار قامة وبسطة، وعمده الجذوع، وسقفه جريدا فقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: عريش كعريش موسى خشيبات، وتمام الأمر أعجل من ذلك، وسيأتي في الكتاب عن قريب: عن ابن عمر: أن المسجد كان على عهد رسول الله مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد النبي باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة وجعل عمده حجارة منقوشة، وسقفه بالساج. وفي (الإكليل) ثم بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز، وفي (الروض): ثم بناه المهدي، ثم زاد فيه المأمون، ثم لم يبلغنا تغيره إلى الآن. قوله: (عضادتيه) تثنية: عضادة، بكسر العين. قال ابن التياني في (الموعب): قال أبو عمر: وهي جانب الحوض، وعن صاحب (العين): أعضاد كل شيء ما يشده من حواليه من البناء وغيره، مثال عضاد الحوض، وهي صفائح من حجارة ينصبن على شفيره، وعضادتا الباب ما كان عليهما يطبق الباب إذا أصفق. وفي (التهذيب) للأزهري: عضادتا الباب الخشبتان المنصوبتان عن يمين الداخل منه وشماله، وزاد القزاز: فوقهما العارضة. قوله: (يرتجزون) أي: يتعاطون الرجز، من: الرجز، وهو ضرب من الشعر، وقد رجز الراجز وأرجزه، وقد اختلف العروضيون وأهل الأدب في الرجز هل هو شعر أم لا، مع اتفاق أكثرهم على أن الرجز لا يكون شعرا، وعليه يحمل ما جاء من النبي من ذلك: لأن الشعر حرام عليه بنص القرآن
العظيم. وقال القرطبي: الصحيح في الرجز أنه من الشعر، وإنما أخرجه من الشعر من أشكل عليه إنشاد النبي إياه، فقال: لو كان شعرا لما علمه. قال: وهذا ليس بشيء، لأن من أنشد القليل من الشعر أو قاله أو تمثل به على وجه الندور لم يستحق اسم شاعر، ولا يقال فيه: إنه يعلم الشعر، ولا ينسب إليه. وقال ابن التين: لا يطلق على الرجز شعرا، إنما هو كلام مرجز مسجع بدليل أنه يقال لصانعه: راجز، ولا يقال: شاعر. ويقال: أنشد رجزا ولا يقال أنشد شعرا. وقيل: أن ما قاله الشاعر ليس برجز ولا موزون، وقد اختلف هل يحل له الشعر؟ فعلى القول بنفي الجواز هل يحكى بيتا واحدا؟ فقيل: لا يتمه إلا متغيرا وأبعد من قال: البيت الواحد ليس بشعر، ولما ذكر قول طرفه.
* ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.
*
قال: قال:
* ويأتيك من لم تزود بالأخبار
*
. فقال أبو بكر: يا رسول ا لم يقل هكذا، وإنما قال:
* ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
*
فقال: كلاهما سواء، فقال: أشهد أنك لست بشاعر، ولا تحسنه. ولما أنشد، على ما ذكرنا، خرج أن يكون شعرا، وقد قيل: قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر) * (يس: 96) أي: صنعته، وهي الآلة التي له، فأما أن يحفظ ما قال الناس فليس بممتنع عليه. قوله:
178

(والنبي معهم)، جملة حالية، أي: والنبي يرتجز معهم، وكذا قوله: (وهو يقول) حال قوله: (اللهم) معناه: يا ا، وقال البصريون: اللهم، دعاء بجميع أسمائه إذ: الميم، تشعر بالجمع كما في: عليهم، وقال الكوفيون: أصله ا أمنا بخير، أي: اقصدنا، فخفف فصار: اللهم قوله: (لا خير إلا خير الآخرة). وفي رواية أبي داود.
(اللهم إن الخير خير الآخرة). قوله: (فاغفر للأنصار)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (فاغفر الأنصار)، بحذف: اللام، ووجهه أن يضمن: أغفر، معنى: استر، وفي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري وشيخه أيضا، بلفظ: (فانصر الأنصار)، والأنصار جمع نصير، كأشراف جمع شريف، والنصير الناصر من نصره ا على عدوه ينصره نصرا، والأسم: النصرة، وسموا بذلك لأنهم أعانوه على أعدائه وشدوا منه، (والمهاجرة) الجماعة المهاجرة، وهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة النبوية محبة فيه وطلبا للآخرة،، والهجرة في الأصل من الهجر ضد الوصل، وقد هجره هجرا وهجرانا، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية. يقال منه هاجر مهاجرة، وقال الكرماني: واعلم أنه لو قرىء هذا البيت بوزن الشعر ينبغي أن يوقف على: الآخرة، والمهاجرة، إلا أنه قيل: إنه قرأهما بالتاء متحركة خروجا عن وزن الشعر.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام: فيه: جواز الإرداف. وفيه: جواز الصلاة في مرابض الغنم. وفيه: جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع. وفيه: جواز نبش قبور المشركين لأنه لا حرمة لهم. فإن قلت: كيف يجوز إخراجهم من قبورهم والقبر مختص بمن دفن فيه فقد جازه فلا يجوز بيعه ولا نقله عنه؟ قلت: تلك القبور التي أمر النبي بنبشها لم تكن أملاكا لمن دفن فيها، بل لعلها غصبت، فلذلك باعها ملاكها وعلى تقدير التسليم أنها حبست فليس بلازم، إنما اللازم تحبيس المسلمين لا الكفار، ولهذا قالت الفقهاء: إذا دفن المسلم في أرض مغصوبة يجوز إخراجه فضلا عن المشرك، وقد يجاب بأنه دعت الضرورة والحاجة إلى نبشهم فجاز، فإن قلت: هل يجوز في هذا الزمان نبش قبور الكفار ليتخذ مكانها مساجد؟ قلت: أجاز ذلك قوم محتجين بهذا الحديث، وبما رواه أبو داود أن النبي قال: هذا قبر أبي رغال، وهو: أبو ثقيف، وكان من ثمود وكان بالحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة فدفن بهذا المكان، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب فابتدر الناس فنبشوه واستخرجوا الغصن، قالوا: فإذا جاز نبشها لطلب المال فنبشها للانتفاع بمواضعها أولى، وليست حرمتهم موتى بأعظم منها وهم أحياء، بل هو مأجور في ذلك، وإلى جواز نبش قبورهم للمال ذهب الكوفيون والشافعي وأشهب بهذا الحديث، وقال الأوزاعي: لا يفعل، لأن رسول الله لما مر بالحجر قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين). فنهى أن يدخل عليهم بيوتهم، فكيف قبورهم؟ وقال الطحاوي: قد أباح دخولها على وجه البكاء.
فإن قلت: هل يجوز أن تبنى على قبور المسلمين؟ قلت: قال ابن القاسم: لو أن مقبرة من مقابر المسلمين عفت فبنى قوم عليها مسجدا لم أر بذلك بأسا، وذلك لأن المقابر وقف من أوقاف المسلمين لدفن موتاهم لا يجوز لأحد أن يملكها، فإذا درست واستغنى عن الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد، لأن المسجد أيضا وقف من أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هذا واحد. وذكر أصحابنا أن المسجد إذا خرب ودثر ولم يبق حوله جماعة، والمقبرة إذا عفت ودثرت تعود ملكا لأربابها، فإذا عادت ملكا يجوز أن يبنى موضع المسجد دارا وموضع المقبرة مسجدا وغير ذلك، فإذا لم يكن لها أرباب تكون لبيت المال.
وفيه: أن القبر إذا لم يبق فيه بقية من الميت ومن ترابه المختلط بالصديد جازت الصلاة فيه. وفيه: جواز قطع الأشجار المثمرة للضرورة والمصلحة إما لاستعمال خشبها أو ليغرس موضعها غيرها أو لخوف سقوطها على شيء تتلفه أو لاتخاذ موضعها مسجدا، وكذا قطعها في بلاد الكفار إذا لم يرج فتحها لأن فيه نكاية وغيظا لهم
وإرغاما. وفيه: جواز الارتجاز وقول الأشعار ونحوها لتنشيط النفوس وتسهيل الأعمال والمشي عليها.
94
((باب الصلاة في مرابض الغنم))
أي: هذا باب في بيان الصلاة في مرابض الغنم، وقد ذكرنا أن المرابض جمع: مربض، بكسر الباء، لأنه من ربض يربض، مثل:
179

ضرب يضرب، يقال: ربض في الأرض إذا لصق بها، وأقام ملازما لها، واسم المكان: مربض، وهو مأوى الغنم، وربوض الغنم مثل بروك الإبل. وفي (الصحاح): ربوض الغنم والبقر والفرس والكلب مثل بروك الإبل، وجثوم الطير. وضبط بعضهم المربض، بكسر الميم: وهو غلط.
وجه المناسبة بين البابين من حيث إن المذكور في هذا الباب بعينه طرف من الحديث في الباب السابق لكن المذكور هناك أنه كان يحب الصلاة حيث أدركته إذا دخل وقتها، سواء كان في مرابض الغنم أو غيرها، والمذكور ههنا: كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد.
924 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي التياح عن أنس قال كان النبي يصلي في مرابض الغنم ثم سمعته يقول كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو التياح مضى ذكره في الباب السابق. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والعنعنة في موضعين. وفيه: القول، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب أبوال الإبل في كل الوجوه.
قوله: (ثم سمعته بعد يقول)، قال بعضهم: هو شعبة، يعني: يقول ثم سمعت أبا التياح يقول، بقيد بعد أن قال مطلقا، قلت: لم لا يجوز أن يكون القائل هو أبا التياح سمع من أنس أولا بإطلاق، ثم سمع بقيد يعني: أبو التياح يقول ثم سمعت أنسا بعد ذلك القول يقول: كان يصلي إلى آخره، أشار بذلك إلى أن قوله أولا مطلق وقوله ثانيا مقيد، فالحكم أنهما إذا وردا سواء يحمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، والمراد بالمسجد مسجد رسول ا، صلى ا تعالى عليه وآله وسلم.
05
((باب الصلاة في مواضع الإبل))
أي: هذا باب في بيان الصلاة في موضع الإبل، وفي بعض النسخ: في مواضع الإبل، بالجمع ثم إن البخاري إن إراد من مواضع الإبل معاطنها فالصلاة فيها مكروهة عند قوم، خلافا لآخرين، وإن أراد بها أعم من ذلك فالصلاة فيها غير مكروهة بلا خلاف، وعلى كل تقدير لم يذكر في الباب حديثا يدل على أحد الفصلين، وإنما ذكر فيه الصلاة إلى البعير وهو لا يطابق الترجمة، وعن هذا قال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث بيان أنه صلى في موضع الإبل، وإنما صلى إلى البعير لا في موضعه، وليس إذا أنيخ البعير في موضع صار ذلك عطنا أو مأوى للإبل. انتهى. قلت: لأن العطن اسم لمبرك الإبل عند الماء ليشرب عللا بعد نهل، فإذا استوفت ردت إلى المراعي، وأجاب بعضهم عن كلام الإسماعيلي بقوله: إن مراده الإشارة إلى ما ذكر من علة النهي عن ذلك وهي كونها من الشياطين، كأنه يقول: لو كان ذلك مانعا من صحة الصلاة لامتنع مثله في جعلها أمام المصلي، وكذلك صلاة راكبها، وقد ثبت أنه، صلى ا تعالى عليه وسلم، كان يصلي النافلة وهو على بعيره.
قلت: سبحان ا ما أبعد هذا الجواب عن موقع الخطاب، فإنه متى ذكر علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل حتى يشير إليه، ولم يذكر شيئا في كتابه من أحاديث النهي في ذلك، وإنما ذكره غيره، فمسلم ذكر حديث جابر بن سمرة من رواية جعفر بن أبي ثور عنه: (أن رجلا سأل رسول ا: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فلا تتوضأ. قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: فتوضأ من لحوم الإبل. قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.) وأبو داود ذكر حديث البراء من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى. وفيه: (سئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل، فإنها من الشياطين). والترمذي ذكر حديث أبي هريرة من حديث ابن سيرين عنه، قال: قال رسول ا،: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل). وابن ماجة ذكر حديث سبرة بن معبد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة ابن معبد الجهني أخبرني عن أبيه أن رسول الله قال: (لا تصلي في أعطان الإبل وتصلي في مراح الغنم). وذكر ابن ماجة أيضا حديث عبد الله بن مغفل من رواية الحسن عنه قال: قال رسول ا: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلف من الشياطين). وذكر أيضا حديث ابن عمر من حديث محارب بن دثار، يقول: سمعت
180

عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول ا، صلى ا تعالى عليه وسلم، يقول: (توضأوا من لحوم الإبل). الحديث. وفيه: (ولا تصلوا في معاطن الإبل). وذكر الطبراني في (الأوسط) حديث أسيد بن حضير. قال: قال رسول ا، صلى ا تعالى عليه وسلم: (توضأوا من لحوم الإبل ولا تصلوا في مناخها). وأخرج أيضا في (الكبير) حديث سليك الغطفاني عن النبي يعلى في (مسنده) حديث طلحة بن عبيد الله، قال: (كان رسول الله يتوضأ من ألبان الإبل ولحومها ولا يصلي في أعطانها). وذكر أحمد في (مسنده) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي: (كان يصلي في مرابض الغنم ولا يصلي في مرابد الإبل والبقر) وأخرجه الطبراني في (الكبير) أيضا ولفظه: (لا تصلوا في أعطان الإبل وصلوا في مراح الغنم). وذكر الطبراني أيضا، من حديث عقبة بن عامر في (الكبير) و (الأوسط) عن النبي قال: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل أو في مبارك الإبل). وذكر أحمد والطبراني أيضا حديث يعيش الجهني المعروف بذي الغرة من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه، قال: (عرض أعرابي لرسول ا). الحديث، وفيه: (تدركنا الصلاة ونحن في أعطان الإبل فنصلي فيها؟ فقال رسول ا: لا). وأخرجه
أحمد أيضا..
فهذا كما رأيت وقع في موضع: مبارك الإبل، وفي موضع: أعطان الإبل، وفي موضع: مناخ الإبل، وفي موضع: مرابد الإبل. ووقع عند الطحاوي في حديث جابر بن سمرة: (أن رجلا قال: يا رسول ا أصلي في مباءة الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مباءة الإبل؟ قال: لا، والمباءة المنزل الذي تأوي إليه الإبل). والأعطان جمع عطن وقد فسرناه، والمبارك جمع مبرك وهو موضع بروك الجمل في أي موضع كان، والمناخ، بضم الميم وفي آخره خاء معجمة: المكان الذي تناخ فيه الإبل، والمرابد هي، بالدال المهملة: الأماكن التي تحبس فيها الإبل وغيرها من البقر والغنم. وقال ابن حزم: كل عطن فهو مبرك، وليس كل مبرك عطنا، لأن العطن هو الموضع الذي تناخ فيه عند ورودها الماء فقط، والمبرك أعم، لأنه الموضع المتخذ له في كل حال، فإذا كان كذلك تكره الصلاة في مبارك الإبل ومواضعها، سواء كانت عطنا أو مناخا أو مباءة أو مرابد أو غير ذلك. فدل هذا كله أن علة النهي فيه كونها خلقت من الشياطين ولا سيما فإنه علل ذلك بقوله: (فإنها خلقت من الشياطين)، وقد مر في رواية أبي داود: (فإنها من الشياطين)، وفي راوية ابن ماجة: (فإنها خلقت من الشياطين)، فهذا يدل على أن الإبل خلقت من الجن، لأن الشياطين من الجن على الصحيح من الأقوال، وعن هذا قال يحيى بن آدم: جاء النهي من قبل أن الإبل يخاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذ ألا ترى أنه يقول: إنها جن، ومن جن خلقت، واستصوب هذا أيضا القاضي عياض.
وذكروا أيضا أن علة النهي فيه من ثلاثة أوجه أخرى:
أحدها: من شريك بن عبد الله أنه كان يقول: نهي عن الصلاة في أعطان الإبل لأن أصحابها من عادتهم التغوط بقرب إبلهم والبول، فينجسون بذلك أعطان الإبل، فنهى عن الصلاة فيها لذلك، لا لعلة الإبل، وإنما هو لعلة النجاسة التي تمنع من الصلاة في أي موضع ما كانت، بخلاف مرابض الغنم، فإن أصحابها من عادتهم تنظيف مواضعهم وتترك البول فيها والتغوط، فأبيحت الصلاة في مرابضها لذلك، وهذا بعيد جدا مخالف لظاهر الحديث.
والوجه الثاني: أن علة النهي هي كون أبوالها وأرواثها في معاطنها، وهذا أيضا بعيد أيضا لأن مرابض الغنم تشركها في ذلك.
والوجه الثالث: ذكره يحيى بن آدم. أن العلة في اجتناب الصلاة في معاطن الإبل: الخوف من قبلها، كما ذكرناه الآن، بخلاف الغنم، لأنه لا يخاف منها ما يخاف من الإبل. وقال الطحاوي: إن كانت العلة هي ما قال شريك فإن الصلاة مكروهة حيث يكون الغائط والبول سواء كان عطنا أو غيره، وإن كان ما قاله يحيى، فإن الصلاة مكروهة حيث يخاف على النفوس، سواء كان عطنا أو غيره، وغمز بعضهم في الطحاوي بقوله: قال إن النظر يقتضي عدم التفرقة بين الإبل والغنم في الصلاة وغيرها، كما هو مذهب أصحابه، وتعقب بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، فهو قياس فاسد الاعتبار.
قلت: هذا الكلام فاسد الاعتبار لأن الطحاوي ما قال قط: إن النظر يقتضي عدم التفرقة، وإنما قال: حكم هذا الباب من طريق النظر أنا رأيناهم لا يختلفون في مرابض الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا في أعطان الإبل، فقد رأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم في طهارتها، ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها في طهارتها أو نجاستها، فكان يجيء في النظر أيضا أن يكون حكم الصلاة في مواضع الإبل
181

كهو في مواضع الغنم قياسا، ونظرا على ما ذكرنا، فمن تأمل ما قاله علم أن القياس الذي ذكره ليس من جهة عدم التفرقة، وليس هو بمخالف للأحاديث الصحيحة المصرحة بالتفرقة، وإنما ذهب إلى عدم التفرقة من حيث معارضة حديث صحيح تلك الأحاديث المذكورة. وهو قوله: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، فعمومه يدل على جواز الصلاة في أعطان الإبل وغيرها بعد أن كانت طاهرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد وآخرون وكرهها الحسن البصري وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد في رواية مشهورة عنه أنه إذا صلى في أعطان الإبل فصلاته فاسدة، وهو مذهب أهل الظاهر. وقال ابن القاسم: لا بأس بالصلاة فيها. وقال أصبغ: يعيد في الوقت وفي (شرح الترمذي) وحمل الشافعي وجمهور العلماء النهي عن الصلاة في معاطن الإبل على الكراهة إذا كان بينه وبين النجاسة التي في أعطانها حائل، فإن لم يكن بينهما حائل لا تصح صلاته.
قلت: إذا لم يكن بين المصلي وبين النجاسة حائل لا تجوز صلاته في أي مكان كان، وجواب آخر عن الأحاديث المذكورة: إن النهي فيها للتنزيه كما أن الأمر في مرابض الغنم للإباحة وليس للوجوب اتفاقا ولا للنذب. فإن قلت: في حديث البراء عند أبي داود: (وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: صلوا فإنها بركة). وعند الطبري في حديث عبد الله بن مغفل: (فإنها بركة من الرحمن)، وفي رواية أحمد: (فإنها أقرب من الرحمة)، وعند البزار من حديث أبي هريرة: (فإنها من دواب الجنة). فكل هذا يدل على استحباب الصلاة في مرابض لما فيها من البركة، وقرب الرحمة قلت: ذكر هذا للترغيب في الغنم لإبعادها عن حكم الإبل، إذا وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة، ولا تعلق لاستحباب الصلاة بمرابض الغنم، فإن قلت: مرابد البقر هل تلحق بمرابض الغنم أم بمرابد الإبل؟ قلت: ذكر أبو بكر بن المنذر أنها ملحقة بمرايد الغنم، فلا تكره الصلاة فيها. فإن قلت: في حديث عبد الله بن عمرو من مسند أحمد إلحاقها بالإبل كما تقدم قلت: في إسناده عبد الله بن لهيعة، والكلام فيه مشهور.
91 - (حدثنا صدقة بن الفضل قال أخبرنا سليمان بن حيان قال حدثنا عبيد الله عن نافع قال رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره وقال رأيت النبي
يفعله)
قد ذكرنا أن هذا الحديث يخبر أنه يصلى إلى البعير لا في موضعه فلا تطابق له للترجمة وقد ذكر بعضهم فقال كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه لكن لها طرق قوية منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم وحديث البراء بن عازب عند أبي داود وحديث أبي هريرة عند الترمذي وحديث عبد الله
بن مغفل عند النسائي وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجة وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل انتهى (قلت) ليت شعري ما وجه هذه الإشارة وبما دل على ما ذكر وقوله وفيها كلها التعبير بمعاطن الإبل ليس كذلك فإن المذكور في حديث جابر بن سمرة مبارك الإبل والمبارك غير المعاطن لأن المبرك أعم وقد ذكرناه وكذلك المذكور في رواية أبي داود لفظ المبارك.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول صدقة بن الفضل أبو الفضل المروزي مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين وقد تقدم في باب العلم والعظة بالليل. الثاني سليمان بن حيان بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالنون منصرفا وغير منصرف أبو خالد الأحمر الأزدي الجعفري الكوفي الإمام مات سنة تسع وثمانين ومائة. الثالث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب كان من سادات أهل المدينة فضلا وعبادة وتوفي سنة سبع وأربعين ومائة. الرابع نافع مولى ابن عمر تقدم. الخامس عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه القول والرؤية في موضعين وفيه أن رواته ما بين مروزي وكوفي ومدني.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا يأتي ذكره عن قريب وترجم عليه باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل عن محمد بن أبي بكر المقدمي البصري قال حدثنا معتمر بن سليمان إلى آخره وأخرجه مسلم منقطعا وروى الشطر الأول عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير عن أبي خالد الأحمر قال ابن أبي شيبة كان يصلي إلى راحلته وقال ابن نمير صلى إلى بعير وروى الشطر الثاني
182

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر ورواه أيضا عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن عبيد الله بن عمر بلفظ كان يصلي سبحته حيث ما توجهت ناقته وأخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة ووهب بن بقية وابن أبي خلف وعبد الله بن سعيد عن أبي خالد الأحمر وأخرجه الترمذي عن سفيان بن وكيع حدثنا أبو خالد الأحمر عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي
صلى إلى بعيره أو راحلته وكان يصلي على راحلته حيث ما توجهت به قال أبو عيسى هذا حديث صحيح وفي الباب عن أبي الدرداء ورواه البزار في مسنده بلفظ ' صلى بنا رسول الله
إلى بعير من المغنم ' وذكر مالك في الموطأ أنه بلغه أن ابن عمر كان يستتر براحلته في السفر إذا صلى ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه
(ذكر معناه) قوله ' يصلي إلى بعيره ' وفي المحكم البعير الجمل الباذل وقيل الجذع وقد يكون للأنثى حكى عن بعض العرب شربت من لبن بعيري وصرعتني بعير لي والجمع أبعرة وأباعر وأباعير وبعران وبعران وفي المخصص قال الفارسي أباعر جمع أبعرة كأسقية وأساق وفي الجامع البعير بمنزلة الإنسان يجمع المذكر والمؤنث من الناس إذا رأيت جملا على البعد قلت هذا بعير فإذا استثبته قلت هذا جمل أو ناقة قال الأصمعي إذا وضعت الناقة ولدها ساعة تضعه سليل قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى فإذا علم فإن كان ذكرا فهو سقب وأمه مسقب وقد أذكرت فهي مذكر وإن كان أنثى فهي حائل وأمها أم حائل فإذا مشى فهو راشح والأم مرشح فإذا ارتفع عن الراشح فهو جادل فإذا جمل في سنامه شحما فهو مجذومكعر وهو في هذا كله حوار فإذا اشتد قيل ربع والجمع أرباع ورباع والأنثى ربعة فلا يزال ربعا حتى يأكل الشجر ويعين على نفسه ثم هو فصيل وهبع والأنثى فصيلة والجمع فصلان وفصلان لأنه فصل عن أمه فإذا استكمل الحول ودخل في الثاني فهو ابن مخاض والأنثى بنت مخاض فإذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة فهو ابن لبون والأنثى بنت لبون فإذا استكمل الثالثة ودخل في الرابعة فهو حينئذ حق والأنثى حقة سمي به لأنه استحق أن يحمل عليه ويركب فإذا مضت الرابعة ودخل في الخامسة فهو جذع والأنثى جذعة فإذا مضت الخامسة ودخل في السنة السادسة وألقى ثنيته فهو ثني والأنثى ثنية فإذا مضت السادسة ودخل في السابعة فهو حينئذ رباع والأنثى رباعية فإذا مضت السابعة ودخل في الثامنة وألقى السن فهو سديس وسدس لغتان وكذا يقال للأنثى فإذا مضت الثامنة ودخل في التاسعة فطرنا به وطلع فهو حينئذ فاطر وباذل وكذلك يقال للأنثى فلا يزال باذلا حتى تمضي التاسعة فإذا مضت ودخل في العاشرة فهو حينئذ مخلف ثم ليس له اسم بعد الإخلاف ولكن يقال له باذل عام وباذل عامين ومخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد على ذلك فإذا كبر فهو عود والأنثى عودة فإذا ارتفع عن ذلك فهو قحر والجمع أقحر وقحور قوله ' يفعله ' أي يصلي والبعير في طرف قبلته
(ذكر ما يستنبط منه) فيه جواز الصلاة إلى الحيوان ونقل ابن التين عن مالك أنه لا يصلى إلى الخيل والحمير لنجاسة أبوالها * وفيه جواز الصلاة بقرب البعير وأنه لا بأس أن يستتر المصلي بالراحلة والبعير في الصلاة وقد حكى الترمذي عن بعض أهل العلم أنهم لا يرون به بأسا وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أنس أنه صلى وبينه وبين القبلة بعير عليه محمله وروى أيضا الاستتار بالبعير عن سويد بن غفلة والأسود بن يزيد وعطاء بن أبي رباح والقاسم وسالم وعن الحسن لا بأس أن يستتر بالبعير وقال ابن عبد البر في الاستذكار لا أعلم فيه أي في الاستتار بالراحلة خلافا وقال ابن حزم من منع من الصلاة إلى البعير فهو مبطل
15
((باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به وجه الله تعالى))
أي: هذا باب في بيان حكم من صلى وبين يديه تنور أو شيء إلى آخره، يعني لا يكره، فإن قلت: لم يوضح البخاري ذلك بل أجمله وأبهمه يحتمل: لا يكره، ويحتمل: يكره، فمن أين ترجيح احتمال عدم الكراهة؟ قلت: إيراده بالحديثين المذكورين في الباب يدل على احتمال عدم الكراهة، لأن النبي لا يصلي صلاة مكروهة، ولكن لا يتم استدلاله بهذا من وجوه:
الأول: ما ذكره الإسماعيلي بقوله: ليس ما أراه ا تعالى من النار حين أطلعه عليها بمنزلة نار يتوجه المرء إليها وهي معبودة
183

لقوم، ولا حكم ما أري ليخبرهم كحكم من وضع الشيء بين يديه أو رآه قائما موضوعا، فجعله أمام مصلاه وقبلته. الوجه الثاني: ما ذكره السفاقسي: ليس فيه ما بوب عليه لأنه لم يفعله مختارا، وإنما عرض ذلك لمعنى أراده ا تعالى، ورؤيته للنار رؤية عين كشف ا عنها، فأراه إياها، وكذلك الجنة كما كشف له عن المسجد الأقصى. الوجه الثالث: ما ذكره القاضي السروجي في (شرح الهداية) فقال: لا دلالة في هذا الحديث على عدم الكراهة، لأنه، قال: أريت النار، ولا يلزم أن تكون أمامه متوجها إليها، بل يجوز أن تكون عن يمينه أو عن يساره أو غير ذلك. الوجه الرابع: ما ذكره هو أيضا، فقال: ويحتمل أن يكون ذلك وقع له قبل شروعه في الصلاة. انتهى. قلت: قد تصدى بعضهم في نصرة البخاري فأجاب عن هذين الوجهين بجواب تمجه الأسماع وتستمجه الطباع، وهو أن البخاري كوشف بهذا الاعتراض فعجل بالجواب عنه حيث صدر الباب بالمعلق عن أنس، ففيه: (عرضت علي النار وأنا أصلي). وأما كونه رآها أمامه فسياق حديث ابن عباس يقتضيه، ففيه أنهم قالوا له بعد أن انصرف: (يا رسول ا رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك تكعكعت) أي: تأخرت إلى خلف، وفي جوابه أن ذلك بسبب كونه أرى النار انتهى.
فانظر إلى هذا الأمر الغريب العجيب، شخص يكاشف اعتراض شخص يأتي من بعده بمدة مقدار خمسمائة سنة أو أكثر بقليل، ويجيب عنه بتصدير هذا الباب الذي فيه حديث أنس معلقا، وحديث ابن عباس موصولا، ومع هذا لا يتم الجواب بما ذكره، ولا يتم الاستدلال به للبخاري. بيان ذلك أن قوله: (وأنا أصلي)، في حديث أنس، يحتمل أن يكون المعنى: وأنا أريد الصلاة، ولا مانع من هذا التقدير. وأما تناوله الشيء وتأخره إلى خلف في حديث ابن عباس لا يستلزم أن يكون ذلك بسبب رؤيته النار أمامه، ولا يستحيل أن يكون ذلك بسبب رؤيته إياها عن يمينه أو عن شماله. وقوله وفي جوابه: إن ذلك بسبب كونه أري النار، مسلم إن ذلك كان بسبب كونه أري النار، ولكن لا نسلم أنه كان ذلك بسبب كون رؤيته النار أمامه، ولئن سلمنا جميع ذلك فنقول: لنا جوابان آخران غير الأربعة المذكورة:
أحدهما: أنه أريها في جهنم وبينه وبينها ما لا يحصى من بعد المسافة، فعدم كراهة صلاته لذلك. والآخر: يجوز أن يكون ذلك منه رؤية علم ووحي باطلاعه وتعريفه في أمورها، تفصيلا ما لم يعرفه قبل ذلك. وجواب آخر: ذكره ابن التين، وقال: لا حجة فيه على الترجمة، لأنه لم يفعل ذلك اختيارا، وإنما عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراده ا من تنبيهه للعباد، وقال بعضهم: وتعقب بأن الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه قلت: لا نسلم التسوية، فإن الكراهة تتأكد عند الاختيار، وأما عند عدمه فلا كراهة لعدم العلة الموجبة للكراهة، وهي التشبه بعبدة النار. وقال ابن بطال: الصلاة جائزة إلى كل شيء إذا لم يقصد الصلاة إليه وقصد بها ا تعالى، والسجود لوجهه خالصا. ولا يضره استقبال شيء من المعبودات وغيرها، كما لم يضر النبي، صلى ا تعالى عليه وسلم، ما رآه في قبلته من النار.
قوله: (وقدامه تنور) جملة اسمية وقعت حالا. فقوله: (تنور) مبتدأ، و (قدامه) بالنصب على الظرف خبره، و: التنور، بفتح التاء المثناة من فوق وضم النون المشددة، وقال الكرماني: حفيرة النار: قلت: التنور مشهور، وهو تارة يحفر في الأرض حفيرة، وتارة يتخذ من الطين ويدفن في الأرض وتوقد فيه النار إلى أن يحمى فيخبز فيه، وتارة يطبخ فيه، فقيل: هو عربي، وقيل: معرب توافقت عليه العرب والعجم. قوله: (أو نار)، عطف على قوله: (تنور). فإن قلت: هذا يغني عن ذكر التنور. قلت: هذا من عطف العام على الخاص، وفائدته الاهتمام به لأن عبدة النار من المجوس لا يعبدون إلا النار المكومة الظاهرة، وربما لا تظهر النار من التنور لعمقه أو لقلة النار. قوله: (أو شيء مما يعبد) عطف على ما قبله، والتقدير أو: من صلى وقدامه شيء مما يعبد كالأوثان والأصنام والتماثيل والصور ونحو ذلك مما يعبده أهل الضلال والكفر، وهذا أعم من النار والتنور. قوله: (فأراد به وجه ا) أي: فأراد المصلي الذي قدامه شيء من هذه الأشياء ذات ا تعالى، وأشار بهذا إلى أن الصلاة إلى شيء من الأشياء التي ذكرها لا تكون مكروهة إذا قصد به وجه ا تعالى، ولم يقصد الصلاة إليه. وعند أصحابنا يكره ذلك مطلقا لما فيه من نوع التشبه بعبدة الأشياء المذكورة ظاهرا، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن ابن سيربن أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: بيت نار.
وقال الزهري أخبرني أنس قال قال النبي عرضت علي النار وأنا أصلي
184

وجه مطابقة هذا الحديث المعلق للترجمة من حيث إنه، صلى ا تعالى عليه وسلم، شاهد النار وهو في الصلاة، ولكن فيه ما فيه، وقد أمعنا الكلام فيه، وقد ذكر البخاري هذا الذي علقه موصولا في باب: وقت الظهر عند الزوال، كما ستقف عليه عن قريب إن شاء ا تعالى، وأخرجه أيضا في الاعتصام عن أبي اليمان الحكم بن نافع، وأخرجه مسلم في فضائل النبي عن عبد الله ابن عبد الرحمن الدارمي عن أبي اليمان به.
134 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال انخسفت الشمس فصلى رسول الله ثم قال: أريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع..
وجه التطابق مع ما فيه ما ذكرناه هو الذي مضى في حديث أنس. ورجاله قد ذكروا غيره مرة.
ومن لطائف إسناده: أن فيه: صيغة التحديث بالجمع في موضع واحد، والباقي عنعنة، وأن: رواته كلهم مدنيون إلا أن عبد الله بن مسلمة سكن البصرة. وأن هذا الإسناد بعينه مر في باب كفران العشير.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في صلاة الخسوف، وفي الإيمان عن عبد الله بن مسلمة، وفي النكاح عن عبد الله بن يوسف، وفي بدء الخلق عن إسماعيل بن أبي أويس، ثلاثتهم عن مالك عن زيد بن أسلم عنه به، وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن رافع عن إسحاق بن عيسى عن مالك به، وعن سويد بن سعيد عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به. وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به.
ذكر معناه وإعرابه: قوله: (انخسفت الشمس) أي: انكسفت، روى جماعة أن الكسوف يكون في الشمس والقمر، وروى جماعة فيهما بالخاء، وروى جماعة في
الشمس بالكاف، وفي القمر بالخاء، والكثير في اللغة، وهو اختيار الفراء أن يكون الكسوف للشمس والخسوف للقمر، يقال: كسفت الشمس وكسفها ا تعالى، وانكسفت. وخسف القمر وخسفه ا وانخسف، وذكر ثعلب في (الفصيح) أن كسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلام. وفي (التهذيب) للأزهري خسف القمر وخسفت الشمس إذا ذهب ضوؤهما. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: خسف القمر وكسف واحد: ذهب ضوؤه، وقيل: الكسوف أن يكسف ببعضهما، والخسوف أن يخسف بكلهما، قال ا تعالى: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * (القصص: 18). وقال شمر: الكسوف في الوجه: الصفرة والتغير، وقال ابن حبيب في (شرح الموطأ): الكسوف تغير اللون، والخسوف انخسافهما، وكذلك تقول في عين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين وذهب نورها وضياؤها. وفي (نوادر اليزيدي) و (الغريبين) انكسفت الشمس، وانكر ذلك الفراء والجوهري. وقال القزاز: كسفت الشمس والقمر تكسف كسوفا فهي كاسفة، وكسفت فهي مكسوفة وقوم يقولون: انكسفت وهو غلط. وقال الجوهري: العامة يقولون: انكسفت وفي (المحكم): كسفها ا وأكسفها، والأولى أعلى، والقمر كالشمس. وقال اليزيدي: خسف القمر وهو يخسف خسوفا فهو خسف وخسيف وخاسف، وانخسف انخسافا قال: وانخسف أكثر في ألسنة الناس، وفي (شرح الفصيح) لأبي العباس أحمد بن عبد الجليل: كسفت الشمس اسودت في رأي العين من ستر القمر إياها عن الأبصار، وبعضهم يقول: كسفت على ما لم يسم فاعله، وانكسفت. وعن أبي حاتم: إذا ذهب ضوء بعض الشمس بخفاء بعض جرمها فذلك الكسوف، وزعم ابن التين وغيره: أن بعض اللغويين قال: لا يقال في الشمس إلا كسفت، وفي القمر إلا خسف، وذكر هذا عن عروة بن الزبير أيضا، وحكى عياض عن بعض أهل اللغة عكسه، وهذا غير جيد، لقوله تعالى: * (وخسف القمر) * (القيامة: 8). وعند ابن طريف: كسفت الشمس والقمر والنجوم والوجوه كسوفا، وفي (المغيث) لأبي موسى: روى حديث الكسوف علي وابن عباس وأبي بن كعب وسمرة وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله ابن عمرو والمغيرة وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو شريح الكعبي والنعمان بن بشير وقبيصة الهلالي، رضي ا عنهم جميعا، بالكاف. ورواه أبو موسى وأسماء وعبد الله بن عدي بن الخيار، بالخاء. وروي عن جابر وابن مسعود (1) وعائشة رضي ا عنهم باللفظين
185

جميعا، كلهم حكوا عن النبي: (لا ينكسفان)، بالكاف، فسمي كسوف الشمس والقمر كسوفا.
قلت: أغفل حديث ابن مسعود من عند البخاري: لا ينكسفان. قوله: (فصلى رسول ا) أي: صلاة الكسوف. قوله: (أريت)، بضم الهمزة وكسر الراء، أي: بصرت النار في الصلاة. قوله: (كاليوم)، الكاف للتشبيه بمعنى: مثل، وهو صفة لقوله: (منظرا)، وهو موضع النظر منصوب بقوله: (لم أر). قوله: (أفظع)، بالنصب صفة لقوله: (منظرا)، وفيه حذف أيضا وتقدير الكلام: فلم أر منظرا أفظع مثل منظر اليوم، وأفظع من الفظيع، وهو الشنيع الشديد، والمجاوز للمقدار، يقال: فظع الأمر بالضم، فظاعة فهو فظيع أي: شديد شنيع جاوز المقدار. وكذلك أفظع الأمر فهو مفظع، وأفظع الرجل، على ما لم يسم فاعله، أي: نزل به أمر عظيم. فإن قلت: أفظع أفعل، ولا يستعمل إلا بمن، قلت: أفظع هنا بمعنى فظيع، فلا يحتاج إلى: من، أو يكون على بابه، وحذف منه من، كما في ا أكبر، أي: أكبر من كل شيء. قوله: (قط) ههنا لاستغراق زمان مضى فتختص بالنفي، واشتقاقه من: قططته أي: قطعته، فمعنى: ما فعلته قط، ما فعلته فيما انقطع من عمري، وهي بفتح القاف وتشديد الطاء المضمومة في أفصح اللغات، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد تتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو اسكانها، وبنيت لتضمنها معنى: مذ، وإلى إذ المعنى: مذ أن خلقت إلى الآن. وإنما بنيت على الحركة لئلا يلتقي ساكنان، وعلى الضمة تشبيها بالغايات.
ذكر ما يستنبط منه: فيه استحباب صلاة الكسوف. وفيه: أن النار مخلوفة اليوم وكذا الجنة، إذ لا قائل بالفرق خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة. وفيه: من معجزات النبي، رؤيته النار رأي عين حيث كشف ا تعالى عنه الحجب، فرآها معاينة كما كشف ا له عن المسجد الأقصى. وفيه: على ما بوب البخاري عدم كراهة الصلاة إذا كانت بين يدي المصلي نار ولم يقصد به إلا وجه ا تعالى.
25
((باب كراهية الصلاة في المقابر))
أي: هذا باب في بيان كراهية الصلاة في المقابر، وفي بعض النسخ: كراهة الصلاة. الكراهة والكراهية كلاهما مصدران، تقول: كرهت الشيء أكرهه كراهة وكراهية، فهو شيء: كريه ومكروه. وبين البابين تناسب من حيث الضد، والمقابر جمع مقبرة، بضم الباء، هو المسموع، والقياس فتح الباء. وفي (شرح الهادي): إن ما جاء على: مفعلة بالضم يراد بها أنها موضوعة لذلك ومتخذة له، فإذا قالوا: المقبرة بالفتح أرادوا مكان الفعل، وإذا ضموا أرادوا البقعة التي من شأنها أن يقبر فيها، وكذلك: المشربة والمشربة، والتأنيث في هذه الأسماء لإرادة البقعة، أو للمبالغة، ليدل على أن لها ثباتا في أنفسها.
234 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن ابن عمر عن النبي قال: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا. (الحديث 234 طرفه في: 7811).
قيل: هذا الحديث لا يطابق الترجمة لأنها في كراهة الصلاة في المقابر، والمراد من الحديث: أن لا تكونوا في بيوتكم كالأموات في القبور حيث انقطعت عنهم الأعمال، وارتفعت عنهم التكاليف، وهو غير متعرض لصلاة الأحياء في ظواهر المقابر، ولهذا قال: لا تتخذوها قبورا، ولم يقل: مقابر. وقال الإسماعيلي: هذا الحديث يدل على النهي عن الصلاة في القبر لا في المقابر. وقال السفاقسي ما ملخصه: إن البخاري تأول هذا الحديث على منع الصلاة في المقابر، والهذا ترجم به، وليس كذلك لأن منع الصلاة في المقابر أو جوازها لا يفهم منه، وقال بعضهم في رد ما قال الإسماعيلي. قلت: قد ورد بلفظ: المقابر، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر). انتهى. قلت: هذا عجيب، كيف يقال: حديث يرويه غيره، بأنه مطابق لما ترجم به؟ وقال بعضهم أيضا، في رد ما قاله السفاقسي: إن
أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فسلم، وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا، فقد قدمنا وجه استنباطه. انتهى. قلت: وجه استنباطه أنه قال: استنبط من قوله في الحديث: (ولا تتخذوها قبورا). أن القبور ليست بمحل للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وكأنه أشار إلى أن ما رواه أبو داود والترمذي في ذلك حديث أبي سعيد الخدري، رضي ا عنه، مرفوعا: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام). انتهى.
186

قلت: دعواه بأن البخاري استنبط كذا، وأنه أشار إلى حديث أبي سعيد الخدري أعجب وأغرب من الأول لأن معنى قوله، صلى ا عليه وآله وسلم: (لا تتخذوها قبورا)، لا تتخذوها خالية من الصلاة وتلاوة القرآن كالقبور حيث لا يصلى فيها ولا يقرأ القرآن، ويدل على هذا ما رواه الطبراني من حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبيه، يرفعه: (نوروا بيوتكم بذكر ا تعالى وأكثروا فيها تلاوة القرآن، ولا تتخذوها قبورا كما اتخذها اليهود والنصارى، فإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن يتسع على أهله ويكثر خيره واتحضره الملائكة، وتدحض عنه الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يضيق على أهله ويقل خيره وتنفر منه الملائكة وتحضر فيه الشياطين). انتهى. وأيضا، فإن معنى هذا على التشبيه البليغ، فحذفت منه أداة التشبيه لأن معناه لا تجعلوها مثل القبور حيث لا يصلى فيها، ولا دلالة لهذا أصلا على أنها ليست بمحل للعبادة بنوع من أنواع الدلالات اللفظية.
ذكر رجاله: وهم خمسة: مسدد بن مسرهد، ويحيى القطان، وعبيد الله بن عمر العمري، ونافع مولى ابن عمر، وعبد الله بن عمر، والكل ذكروا غيره مرة.
وفيه من لطائف الإسناد: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد، وفيه: العنعنة في موضعين.
وأخرجه: مسلم عن محمد بن المثنى. وأبو داود عن أحمد بن حنبل ومسدد فرقهما. وابن ماجة عن زيد بن أخزم وعبد الرحمن بن عمرو مختصرا.
ذكر معناه: قوله: (من صلاتكم)، قيل: أي بعض صلاتكم. قال الكرماني: هو مفعول الجعل، وهو متعد إلى واحد، كقوله تعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) وهو إذا كان بمعنى: التصيير، يتعدى إلى مفعولين، كقوله تعالى: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) * (الأنعام: 561) قلت: معنى قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم): صلوا فيها ولا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصلاة، والمراد صلاة النافلة، أي: صلوا النوافل في بيوتكم. وقال القاضي عياض: قيل هذا في الفريضة، ومعناه: اجعلوا بعض فرائضكم في بيوتكم ليقتدي بكم من لا يخرج إلى المسجد من نسوة وعبيد ومريض ونحوهم. قال: وقال الجمهور: بل هو في النافلة لإخفائها، وللحديث الآخر: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). قلت: فعلى التقدير الأول يكون: من، في قوله: (من صلاتكم)، زائدة، ويكون التقدير: إجعلوا صلاتكم في بيوتكم، ويكون المراد منها النوافل، وعلى التقدير الثاني تكون: من، للتبعيض مطلقا. ويكون المراد: من الصلاة، مطلق الصلاة، ويكون المعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، على أن الأصح منع مجيء من، زائدة في الكلام المثبت، ولا يجوز حمل الكلام على الفريضة لا كلها ولا بعضها، لأن الحث على النفل في البيت، وذلك لكونه أبعد من الرياء وأصون من المحبطات، وليتبرك به البيت وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه على ما دل عليه الحديث الذي أخرجه الطبراني الذي ذكرناه عن قريب قوله: (ولا تتخذوها قبورا) من التشبيه البليغ البديع بحذف حرف التشبيه للمبالغة، وهو تشبيه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يتمكن الميت من العبادة فيه. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون معناه: لا تجعلوا بيوتكم أوطاتا للنوم لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت. وقال: وأما من أوله على النهي عن دفن الموتى في البيوت فليس بشيء، وقد دفن رسول الله في بيته الذي كان يسكنه أيام حياته. وقال الكرماني: هو شيء فيه نظر، ودفن رسول الله فيه لعله من خصائصه، سيما وقد روي: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون). قلت: هذه الرواية رواها ابن ماجة من حديث ابن عباس عن أبي بكر مرفوعا: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض). وفي إسناده: حسين بن عبد الله الهاشمي، وهو ضعيف، وروى الترمذي في (الشمائل) والنسائي في (الكبرى) من طريق سالم بن عبيد الأشجعي: (عن أبي بكر الصديق، رضي ا تعالى عنه أنه: قيل له: وأين يدفن رسول ا؟ قال: في المكان الذي قبض ا فيه روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب)، وهذا الإسناد صحيح ولكنه موقوف، وحديث ابن ماجة أكثر تصريحا في المقصود.
وقال بعضهم: وإذا حمل دفنه في بيته على الاختصاص لم يبعد نهي غيره عن ذلك، بل هو متجه لأن استمرار الدفن في البيوت ربما يصيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة. ولفظ أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث الباب، وهو قوله: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقا. قلت: لا نسلم هذا الاقتضاء من ظاهر اللفظ، بل المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ: لا تجعلوا بيوتكم
187

خالية عن الصلاة كالمقابر، فإنها ليست بمحل للعبادة، ولهذا احتجت به طائفة على كراهة الصلاة في المقابر.
ذكر ما يستنبط منه: قال الخطابي: فيه: دليل على أن الصلاة لا تجوز في المقابر. قلت: الحديث لا يدل على هذا، بل ترجمة الباب تساعده على ذلك، وقد حققنا الكلام فيه. وقد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة تدل على كراهة الصلاة في المقابر، بل استدلت بها جماعة على عدم الجواز كما ذكرنا فيما مضى، وهي ما روي عن أبي سعيد الخدري وعلي وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجابر وابن عباس وحذيفة وأنس وأبي أمامة وأبي ذر، وقال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر أبو عمار الحسين بن حريث، قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى عن أبيه سعيد الخدري قال: قال رسول ا: (الأرض كلها مسجدا إلا المقبرة والحمام). ثم قال: وفي الباب عن علي، وذكر من ذكرناهم إلى آخره، وللعلماء قولان في معنى حديث الباب: أحدهما: أنه ورد في صلاة النافلة لأنه قد سن الصلوات في جماعة كما هو مقرر في الشرع. والثاني: أنه ورد في صلاة الفريضة ليقتدي به من لا يستطيع الخروج إلى المسجد، وقد ذكرناه مفصلا عن قريب، من صلى في بيته جماعة فقد أصاب سنة الجماعة وفضلها. وقال إبراهيم: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة، ولهما التضعيف خمسا وعشرين درجة، وروي أن إسحاق وأحمد وعلي بن
المدني اجتمعوا في دار أحمد فسمعوا النداء، فقال أحدهم أخرج بنا إلى المسجد، فقال أحمد: خروجنا إنما هو للجماعة ونحن جماعة، فأقاموا الصلاة وصلوا في البيت: وقد روي عن جماعة أنهم كانوا لا يتطوعون في المسجد، منهم حذيفة والسائب بن يزيد والربيع بن خثيم وسويد بن غلفة، ومن هذا أخذ علماءونا أن الأفضل في غير الفرائض المنزل، وروى ابن أبي شيبة بسند جيد عن زيد بن خالد الجهني يرفعه: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا)، وروي أيضا من حديث جعفر بن إبراهيم عن ولد ذي الجناحين حدثني علي بن عمر عن أبيه جعفر الطيار عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده يرفعه: (لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا). وقال الطحاوي: حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا أبو المطرف بن أبي الوزير قال: حدثنا محمد بن موسى عن سعيد بن إسحاق عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ رأى الناس يسبحون، فقال: يا أيها الناس إنما هذه الصلاة في البيوت).
وأخرجه أبو داود وابن ماجة أيضا، وروى الطحاوي أيضا عن بحر بن نصر بإسناده عن عبد الله بن سعد، قال: (سألت النبي عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال: قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة). وأخرجه الطبراني أيضا، ثم قال الطحاوي: باب القيام في شهر رمضان هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام؟ ثم روى حديث أبي ذر، رضي ا تعالى عنه، قال: (صمت مع النبي)... الحديث وفيه: (إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة). ثم قال: فذهب قوم إلى أن القيام في شهر رمضان مع الإمام أفضل منه في المنازل، واحتجوا في ذلك بما ذكرنا، وأراد بهؤلاء: الليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وإسحاق وأحمد فإنهم قالوا: القيام مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: القيام في المسجد مع الإمام أحب إلي وأفضل من صلاة المرأ في بيته. وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي، فمن أصحاب أبي حنيفة: عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران. ومن أصحاب الشافعي: إسماعيل بن يحيى المزني ومحمد بن عبد الله بن الحكم. وقال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يصلونها في جماعة.
قلت: ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاوس، وهو مذهب أصحابنا الحنفية. وقال صاحب (الهداية) يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، ثم قال: والسنة فيها الجماعة على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل مسجد عن إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة، لأن أفراد الصحابة يروى عنهم التخلف، ثم قال الطحاوي: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام، وأراد بهؤلاء القوم: مالكا والشافعي وربيعة وإبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام. وقال أبو عمر: اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان، فقال مالك والشافعي: صلاة المنفرد في بيته أفضل، وقال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون
188

ولا يقومون مع الناس. وقال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول ا، صلى ا تعالى عليه وسلم، إلا في بيته. وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. وقال الترمذي: واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا، ثم احتج الطحاوي بهؤلاء بما رواه زيد بن ثابت عن النبي، صلى ا تعالى عليه وسلم، قال: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، ثم روى عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يصلي خلف الإمام في شهر رمضان، وروي أيضا إبراهيم النخعي، وذهب إليه الطحاوي أيضا حتى قال في آخر الباب: وذلك هو الصواب.
35
((باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في الأمكنة التي خسفت أو نزل عليها العذاب، وأبهم حكمه حيث لم يبين: هل هي مكروهة أو غير جائزة؟ ولكن تقديره: يكره لدلالة أثر علي، على ذلك، يقال: خسف المكان يخسف خسوفا: ذهب في الأرض، وخسف ا به الأرض خسفا، أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * (القصص: 18) وخسف هو في الأرض، وخسف به، وخسوف العين ذهابها في الرأس، وخسوف القمر كسوفه. قوله: (والعذاب)، من باب عطف العام على الخاص.
ويذكر أن عليا رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل
مطابقة هذا الأثر للترجمة ظاهرة، وهو يدل أيضا على أن مراده من عقد هذا الباب هو الإشارة إلى أن الصلاة في مواضع الخسف مكروهة وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، حدثنا سفيان حدثنا عبد الله بن شريك عن عبد الله بن أبي المحل العامري، قال: (كنا مع علي، رضي ا تعالى عنه، فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يصل حتى أجازه) أي: تعداه، و: المحل، بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، وروى أبو داود في (سننه): من حديث حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري (عن علي، رضي ا تعالى عنه، أنه مر ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما بدر منها أمر المؤذن، فأقام، فلما فرغ من الصلاة قال: إن حبيبي، صلى ا تعالى عليه وسلم، نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل، فإنها ملعونة).
قال ابن يونس أبو صالح الغفاري: سعيد بن عبد الرحمن روى عن علي، وما أظنه سمع منه. وقال ابن القطان: في سنده رجال لا يعرفون. وقال عبد الحق: هو حديث واه. وقال البيهقي في (المعرفة): إسناده غير قوي. وقال الخطابي: في سنده مقال ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصح منه، وهو قوله: (جعلت لي الأرض مسجدا) ويشبه، إن ثبت الحديث، أن يكون نهاه أن يتخذها وطنا ومقاما، فإذا أقام بها كانت صلاته بها، وهذا من باب
التعليق في علم البيان قلت: أراد بها الملازمة الشرعية، لأن من لازم إقامة شخص بمكان أن تكون صلاته فيه، فيكون من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وإنما قيدنا الملازمة بالشرعية لانتفاء الملازمة العقلية. وقال الخطابي أيضا: لعل النهي لعلي خاصة، ألا ترى أنه قال: نهاني، ولعل ذلك إنذار منه ما لقي من المحنة بالكوفة، وهي من أرض بابل. قال أبو عبيد البكري: بابل بالعراق مدينة السحر معروفة. وقال الجوهري: بابل، اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر، وقال الأخفش: لا ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف فإنه لا ينصرف في المعرفة، وقال أصحاب الأخبار: بنى نمرود المجدل، أي: القصر بها، وطوله في السماء خمسة آلاف ذراع، وهو البنيان الذي ذكره ا تعالى في كتابه العزيز، بقوله تعالى: * (فأتى ا بنيانهم من القواعد) * (النحل: 62) وبات الناس ولسانهم سرياني فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لسانا، كل يتبلبل بلسانه، فسمى الموضع بابلا. وقال الهمداني: وربما سموا العراق بابلا، قال عمر بن أبي ربيعة، وأتى البصرة فضافه ابن الهلال المعروف بصديق الجن:
* يا أهل بابل ما نفست عليكم
* من عيشكم إلا ثلاث خلال
*
:
* ماء الفرات، وظل عيش بادر
* وغنى مسمعتين لابن هلال
*
وذكر الطبراني في تفسيره: بابل، اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض، وقد اختلف أهل التأويل فيها، فقال بعضهم، وهو السدي: هي بابل دنباوند، وقال بعضهم: بل ذلك بالعراق، ورد ذلك في حديث مروي عن عائشة، رضي ا تعالى عنها
189

واعلم أنه قد وردت أحاديث فيها النهي عن الصلاة في مواضع، منها: حديث ابن عمر، رضي ا تعالى عنهما: (أن رسول الله نهى أن يصلى في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت ا)، رواه الترمذي وابن ماجة. وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: المواضع التي لا يصلى فيها ثلاثة عشر موضعا، فذكر السبعة المذكورة وزاد: إلى المقبرة. وأمامك جدار مرحاض عليه نجاسة والكنيسة والبيعة وفي قبلتك تماثيل وفي دار العذاب. وذكر غيره، الصلاة في الأرض المغصوبة وإلى النائم والمتحدث، والصلاة في بطن الوادي والصلاة في مسجد الضرار، فصارت الجملة ثمانية عشر موضعا.
فنقول: أما المزبلة فهي المكان الذي يلقى فيه الزبل، وهو السرجين، وفيها لغتان: فتح الباء وضمها، أما الصلاة فيها فإن كانت بها نجاسة فتحرم الصلاة فيها من غير حائل، وإن فرش عليها شيء حائل بينه وبينها انتفى التحريم وبقيت الكراهة. وأما المجرزة: فهي: بفتح الزاي: المكان الذي ينحر فيه الإبل ويذبح فيه البقر والغنم، وهي أيضا محل الدماء والأرواث، والكلام فيه مثل الكلام في المزبلة. وأما المقبرة: فقد مر الكلام فيها. وأما قارعة الطريق: فلما فيها من شغل الخاطر بمرور الناس ولغطهم. وأما الحمام: فقال أحمد: لا تصح الصلاة فيها، ومن صلى فيها أعاد أبدا، وعند الجمهور يكره ولا يبطل، ثم قيل: العلة الغسالات، وقيل: لأنها مأوى الشياطين، فعلى الأول إذا صلى في مكان طاهر فيها لا يكره، ويلزم من الثاني أن تكره الصلاة في غير الحمام أيضا لعدم خلو الأمكنة من الشياطين. وأما معاطن الإبل: فقد مر الكلام فيها. وأما الصلاة فوق ظهر بيت ا: ففيه خلاف وتفصيل عرف ذلك من الفروع. وفي (شرح الترمذي): ولم يصح فيه حديث. وأما الصلاة إلى جدار مر حاض: فلما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن عبد الله بن عمرو، قال: (لا يصلى إلى الحش)، وعن علي، رضي ا تعالى عنه: (لا تصلي تجاه حش). وعن إبراهيم: (كانوا يكرهون ثلاثة أبيات القبلة وذكر منها الحش). وفي (شرح الترمذي): وقد نص الشافعي على أنه لا تكره الصلاة إذا صلى وبين يديه جيفة، وحكى المحب الطبري في (شرح التنبيه): أنه يكره استقبال الجدار النجس والمتنجس في الصلاة، وقال ابن حبيب من المالكية: من تعمد الصلاة إلى نجاسة بطلت صلاته إلا أن يكون بعيدا جدا. وأما الصلاة في الكنيسة والبيعة: فكرهها الحسن البصري، وفي (مصنف ابن أبي شيبة): إن ابن عباس كره الصلاة في الكنيسة إذا كانت فيها تصاوير، ولم ير الشعبي وعطاء وابن أبي رباح بالصلاة في الكنيسة والبيعة بأسا وكذلك ابن سيرين، وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في الكنيسة.
وأما الصلاة إلى قبلة فيها تماثيل:، فقد مر الكلام فيها. وأما الصلاة في دار العذاب: فلما روي عن علي، رضي ا تعالى عنه، وقد ذكر عن قريب. وأما الصلاة في الأرض المغصوبة: فلما فيه من استعمال حق الغير بغير إذنه فيحرم وتصح ولا ثواب فيها. وأما الصلاة إلى النائم والمتحدث: فلما روي عن ابن عباس النهي في ذلك رواه أبو داود وابن ماجة. وأما الصلاة في بطن الوادي؛ فهو خوف السيل السالب للخشوع، قاله الرافعي، وإن لم يتوقع ذلك. فيجوز أن يقال: لا كراهة. وأما الصلاة في مسجد الضرار: فلقوله تعالى: * (لا تقم فيه أبدا) * (التوبة: 801) وقال ابن حزم: لا تصح الصلاة فيه لأنه ليس موضع صلاة، وقال: لا تجوز الصلاة أيضا في مسجد يستهزأ فيه با أو برسوله، أو بشيء من الدين، أو في مكان يكفر فيه بشيء، فإن لم يمكنه الزوال ولا قدرة صلى، وأجزأته صلاته.
33449 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي ا عنهما أن رسول قال لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا
باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم. (الحديث 334 أطرافه في: 0833، 1833، 9144، 0244، 2074).
هذا الحديث مطابق لأثر علي من حيث عدم النزول من النبي لما مر بالحجر ديار ثمود في حال توجهه إلى تبوك، ومن علي كذلك حيث لم ينزل لما أتى خسف بابل، فأثر علي، رضي ا تعالى عنه، مطابق للترجمة للوجه الذي ذكرناه، فكذلك حديث ابن عمر مطابق للترجمة، لأن المطابق للمطابق للشيء مطابق لذلك الشيء، وعدم نزولهما فيهما مستلزم لعدم الصلاة فيهما، وعدم الصلاة لأجل الكراهة والباب معقود لبيان الكراهة، فحصلت المطابقة فافهم.
ذكر رجاله: وهم أربعة، ذكروا
190

غير مرة، وإسماعيل هو المشهور بابن أويس.
ومن لطائف إسناده: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، والعنعنة في موضع، وأن رواته كلهم مدنيون.
وأخرجه: البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن بكر، وفي التفسير عن إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى عنه به.
ذكر معناه: قوله: (هؤلاء المعذبين)، بفتح الذال المعجمة: يعني ديار هؤلاء وهم أصحاب الحجر قوم ثمود وهؤلاء قوم صالح، عليه السلام، و: الحجر، بكسر الحاء وسكون الجيم: بلد بين الشام والحجاز، وعن قتادة فيما ذكره الطبري: الحجر اسم الوادي الذي كانوا به. وعن الزهري: هو اسم مدينتهم، وكان نهي النبي إياهم بقوله: (لا تدخلوا) حين مروا مع النبي بالحجر في حال توجههم إلى تبوك، وللبخاري في (أحاديث الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم). وقال المهلب: إنما قال: (لا تدخلوا) من جهة التشاؤم بتلك البقعة التي نزل بها السخط، يدل عليه قوله تعالى: * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * (إبراهيم: 54) في مقام التوبيخ على السكون فيها، وقد تشاءم بالبقعة التي نام فيها عن الصلاة، ورحل عنها ثم صلى، فكراهية الصلاة في موضع الخسف، أولى، ثم استثنى من ذلك قوله. (إلا أن تكونوا باكين) فأباح الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار، وهذا يدل على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته، موضع بكاء واعتبار.
وزعمت الظاهرية: أن من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك فعليه سجود السهو إن كان ساهيا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته. قلت: هذا خلف من القول إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول العذاب به. وقال الخطابي: معنى هذا الحديث أن الداخل في ديار القوم الذين أهلكوا بخسف وعذاب، إذا دخلها فلم يجلب عليه ما يرى من آثار ما نزل بهم بكاء، ولم يبعث عليه حزنا إما شفقة عليهم وإما خوفا من حلول مثلها به، فهو قاسي القلب قليل الخشوع غير مستشعر للخوف والوجل، فلا يأمن إذا كان حاله كذلك أن يصيبه ما أصابهم، وهو معنى قوله: (لا يصيبكم ما أصابهم). وهو بالرفع لأنه استئناف كلام.
وقال بعضهم: والمعنى فيه: لئلا يصبيكم. قلت: الجملة الاستئنافية لا تكون تعليلا. وقال هذا القائل أيضا: ويجوز الجزم على أن: لا ناهية وهو أوجه. قلت: هذا مبني على صحة الرواية بذلك. وقوله: وهو أوجه، غير موجه، لأنه لم يبين وجهه، وفي لفظ البخاري: (أن يصيبكم)، بفتح همزة: أن، وفيه إضمار تقديره: حذر أن يصيبكم، أو خشية أن يصيبكم. وقال الكرماني: فإن قلت: كيف يصيب عذاب الظالمين لغيرهم، * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 461، الإسراء: 51 فاطر: 81، الزمر: 7، النجم: 83) قلت: لا نسلم الإصابة إلى غير الظالم. قال تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (الأنفال: 52) وأما الآية الأولى فمحمولة على عذاب يوم القيامة، ثم لا نسلم أن الذي يدخل موضعهم ولا يتضرع ليس بظالم، لأن ترك التضرع فيما يجب فيه التضرع ظلم.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: دلالة على أن ديار هؤلاء لا تسكن بعدهم ولا تتخذ وطنا لأن المقيم المستوطن لا يمكنه أن يكون دهره باكيا أبدا، وقد نهى أن يدخل دروهم إلا بهذه الصفة. وفيه: المنع من المقام بها والاستيطان. وفيه: الإسراع عن المرور بديار المعذبين، كما فعل رسول الله في وادي محسر، لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك. وفيه: أمرهم بالبكاء لأنه ينشأ عن التفكر في مثل ذلك، وقال ابن الجوزي: التفكر الذي ينشأ عنه البكاء في مثل ذلك المقام ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: تفكر يتعلق با تعالى إذ قضى على أولئك بالكفر. الثاني: يتعلق بأولئك القوم إذا بارزوا ربهم الكفر والفساد. الثالث: يتعلق بالمار عليهم لأنه وفق للإيمان وتمكن من الاستدراك والمسامحة في الزلل. وفيه: الدلالة على كراهة الصلاة في موضع الخسف والعذاب، والباب معقود عليه.
45
((باب الصلاة في البيعة))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة في البيعة، بكسر الباء الموحدة: معبد النصارى، والكنيسة: معبد اليهود، فإن قلت: إذا كان كذلك فكيف عقد الباب للصلاة في البيعة، والمذكور في الحديث هو الكنيسة؟ قلت: عقد الباب هكذا على قول من لم يفرق بينهما، فإن الجوهري قال: الكنيسة والبيعة للنصارى، ويقال: البيعة صومعة الراهب، ذكره في (المحكم) ويقال: البيعة والكنيسة للنصارى، والصلوات لليهود، والصوامع للرهبان. وقال الداودي: البيع لليهود، والصلوات للصابئين. وقيل:
191

كالمساجد للمسلمين. وقال عياض: وأنكر بعض أهل اللغة هذه المقالة، وقال الجواليقي: جعل بعض العلماء البيعة والكنيسة فارسيتين معربتين. وقال المهلب: هذا الباب ليس معارضا لباب من صلى وقدامه نار أو تنور، وذلك أن الاختيار أن لا يبتدئ بالصلاة إلى شيء من معبودات الكفار، إلا أن يعرض له، كما في حديث صلاة الخسوف وعرض النار عليه، صلى ا تعالى عليه وسلم. قلت: تقرير معنى المعارضة بين البابين أن في هذا الباب كراهة الصلاة أو تحريمها، وفي ذاك الباب جوازها مع عدم الكراهة، وتقرير الجواب أن ما كان في ذاك الباب بغير الاختيار، وما في هذا الباب كقول عمر، رضي ا تعالى عنه: إنا لا ندخل كنائسكم، يعني بالاختيار
والاستحسان دون ضرورة تدعو إلى ذلك.
وقال عمر، رضي ا عنه، إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التمائيل التي فيها الصور
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إن عدم دخوله في كنائسهم لأجل الصور التي فيها، ولولا الصور وما كان يمتنع من الدخول، وعند الدخول لا تمنع الصلاة، فحينئذ صح فعل الصلاة في البيعة من غير كراهة إذا لم يكن فيها تماثيل، ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن سهل بن سعد عن حميد عن بكر، قال: (كتب إلى عمر، رضي ا تعالى عنه، من نجران أنهم لم يجدوا مكانا أنظف ولا أجود من بيعة فكتب انضحوها بماء وسدر وصلوا فيها). وأثر عمر وصله عبد الرزاق من طريق أسلم مولى عمر، قال: (لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعاما، وكان من عظمائهم، وقال: أنا أحب أن تجيبني وتكرمني. فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها). يعني التماثيل. قوله: (إنا لا ندخل كنائسكم) بكاف الخطاب، وفي رواية الأصيلي: (كنائسهم)، بضمير الجمع الغائب. قوله: (التي فيها الصور)، جملة اسمية، لأن الصور مبتدأ مرفوع، وقوله: (فيها) خبره، أي: في الكنائس، والجملة صلة الموصول وقعت صفة للكنائس لا للتماثيل لفساد المعنى، لأن التماثيل هي الصور. ويروى الصور، بالجر، فعلى هذا يكون الموصول مع صلته صفة للتماثيل، وتكون الصور بالجر بدلا من: التماثيل، أو عطف بيان. ويجوز نصب الصور على الاختصاص، ووجه بعضهم رفع الصور، بقوله: إن التماثيل مصورة، وهذا توجيه من لا يعرف من العربية شيئا. وفي رواية الأصيلي: والصور، بواو العطف على التماثيل، والمعنى: ولأجل الصورة التي فيها، والصور أعم من التمثال.
وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل.
هذا التعليق وصله البغوي في الجعديات، وزاد فيه: (فإن كان فيها تماثيل خرج فصلى في المطر)، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) بسند فيه خصيف، وفيه كلام: عن مقسم عن ابن عباس أنه كره الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير وممن لم ير بالصلاة في الكنائس والبيع بأسا: عطاء والشعبي وابن سيرين، وهو قول مالك، وروى عنه أنه كره الصلاة في الكنائس لما يصيب أهله فيها من الخنازير والخمر، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر.
43459 ح دثنا محمد قال أخبرنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله كنيسة رأنها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله. (انظر الحديث 724 وطرفيه).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور)، لأن الباب في الصلاة في البيعة، وقد مر أنها تكره في البيعة إذا كانت فيها صور، وهذا الحديث ذكره في باب: هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ قبل هذا الباب بخمسة أبواب، وذكرنا ما يتعلق به هناك مستوفى، ومحمد هو ابن سلام البيكندي، كما صرح به ابن السكن في روايته، وعبدة،
192

بفتح العين وسكون الباء الموحدة: هو ابن سليمان، واسمه: عبد الرحمن، وعبدة لقبه. قوله: (مارية) بالراء وتخفيف الياء آخر الحروف.
55
((باب))
غير منون، لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، ولم يذكر له ترجمة، وكذا روي في أكثر الروايات، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وله تعلق بذاك.
وجه التعلق أن كلا منهما مشتمل على الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، والتصوير مذكور هناك، وههنا يشير إلى أن اتخاذ القبور مساجد مذموم، سواء كان فعل ذلك بصور أم لا.
96 - (حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله
طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذروا ما صنعوا)
مطابقته لترجمة الباب المترجم في قوله ' اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ' لأنهم إذا اتخذوها مساجد يصلون فيها ويسمون المساجد البيع والكنائس والباب في الصلاة في البيع
(ذكر رجاله) وهم ستة * الأول أبو اليمان الحكم بن نافع. الثاني شعيب بن أبي حمزة. الثالث محمد بن مسلم الزهري. الرابع عبيد الله بن عبد الله بتصغير الابن وتكبير الأب. الخامس عائشة أم المؤمنين. السادس عبد الله بن عباس
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك في موضع واحد وبصيغة الإفراد في موضع آخر وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه أن رواته ما بين حمصي ومدني وفيه رواية صحابي عن صحابي وصحابية كلاهما عن النبي
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) * أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن يحيى بن بكير وفي المغازي عن سعد بن عفير كلاهما عن الليث عن عقيل وفي ذكر بني إسرائيل عن بشر بن محمد عن ابن المبارك عن معمر ويونس أربعتهم عن الزهري وأخرجه مسلم في الصلاة عن هارون بن سعيد الأيلي وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب عن يونس به وأخرجه النسائي فيه وفي الوفاة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وفي الوفاة أيضا عن عبد الله بن سعد بن إبراهيم عن عمه يعقوب
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' لما نزل ' على صيغة المعلوم في رواية أبي ذر وفاعله محذوف أي لما نزل الموت وفي رواية غيره بضم النون وكسر الزاي على صيغة المجهول قوله ' طفق ' جواب لما وهو من أفعال المقاربة وهي ثلاثة أنواع منها ما وضع للدلالة على الشروع في الخبر وأفعاله أنشأ وطفق وجعل وعلق وأخذ وتعمل هذه
الأفعال عمل كان إلا أن خبرهن يجب كونه جملة حكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب وطفق يطفق مثل علم يعلم ولم يستعمل له اسم فاعل واستعمل له مصدر حكى الأخفش طفوقا عمن قال طفق بالفتح وطفقا عمن قال طفق بالكسر ومعناه ههنا جعل وقوله يطرح جملة خبره وخميصة بالنصب مفعول يطرح وهي كساء له إعلام أو علمان أسود مربع وقد مر تفسيرها مستقصى قوله ' له ' في محل النصب لأنها صفة لخميصة قوله ' على وجهه ' يتعلق بقوله ' يطرح ' قوله ' فإذا اغتم ' بالغين المعجمة أي إذا تسخن وحمى قوله ' بها ' أي بالخميصة قوله ' فقال وهو كذلك ' أي في تلك الحال وقال بعضهم ويحتمل أن يكون ذلك في الوقت الذي ذكرت فيه أم سلمة وأم حبيبة أمر الكنيسة التي رأتاها بأرض الحبشة (قلت) هذا بعيد جدا لا يخفى على الفطن وقال الكرماني قوله وهو كذلك مقول الراوي أي قال رسول الله
وهو حال الطرح والكشف قوله ' لعنة الله ' اللعنة الطرد والإبعاد عن الرحمة قوله ' اتخذوا ' جملة استئنافية كأنها جواب عن سؤال سائل
193

ما سبب لعنهم فأجيب بقوله اتخذوا قوله ' يحذر ما صنعوا ' مقول الراوي لا مقول الرسول وهي أيضا جملة مستأنفة وإنما كان يحذرهم من ذلك الصنيع لئلا يفعل بقبره مثله ولعل الحكمة فيه أنه يصير بالتدريج شبيها بعبادة الأصنام
734 ح دثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال قاتل الله اليهود اتخذوا وقبور أنبيائهم مساجد.
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق. ورجاله مشهورون قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو: محمد بن مسلم الزهري. وفي إسناده صيغة الجمع بالتحديث، والباقي بالعنعنة، ورواته مدنيون، وفيه: رواية التابعي عن التابعي.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن سعيد بن هارون عن ابن وهب عن مالك ويونس، كلاهما عن الزهري به. وأخرجه أبو داود في الجنائز عن القعنبي به. وأخرجه النسائي في الوفاة عن عمرو بن سواد بن الأسود عن مالك به.
ذكر معناه وما يستنبط منه قوله: (قاتل ا اليهود)، أي: قتلهم ا، لأن فاعل يجيء بمعنى فعل أيضا، كقولهم: سافر وسارع بمعنى: سفر وسرع، ويقال: معناه لعنهم ا، ويقال: عاداهم ا، ويقال: القتال ههنا عبارة عن الطرد والإبعاد عن الرحمة، فمؤداه ومؤدي اللعنة واحد، وإنما خصص اليهود ههنا بالذكر بخلاف ما تقدم لأنهم أسسوا هذا الاتخاذ وابتدؤوا به، فهم أظلم، أو لأنهم أشد غلوا فيه. وقد استشكل بعضهم ذكر النصارى في الحديث الأول لأنهم ليس لهم نبي بين عيسى وبين نبينا، غير عيسى عليه الصلاة والسلام، وليس له قبر لأنه في السماء. وأجيب: عنه: بأنه كان فيهم أنبياء أيضا لكنهم غير مرسلين كالحواريين ومريم في قول. قلت: هذا الجواب فيه نظر لأنه جاء في رواية عن عكرمة وقتادة والزهري أن الثلاثة الذين أتوا إلى أنطاكية المذكورين في قوله تعالى: * (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) * (يس: 41) كانوا رسلا من ا تعالى وهم: صادق وصدوق وشلوم، وعن قتادة إنهم كانوا رسلا من عيسى، فعلى هذا لم يكونوا أنبياء فضلا عن أن يكونوا رسلا من ا تعالى، وأما مريم فزعم ابن حزم وآخرون أنها نبية، وكذلك سارة أم إسحاق وأم موسى، عليهما الصلاة والسلام، وعند الجمهور، كما حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة: أن النبوة مختصة بالرجال وليست في النساء نبية.
ومما يستنبط منه: منع البناء على القبر، لأن أبا داود أخرج هذا الحديث في باب البناء على القبر، وروي أيضا عن أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن الزبير أنه سمع جابرا يقول: (سمعت رسول ا، نهى أن يقعد على القبر وأن يقصص وأن يبنى عليه). وأخرجه مسلم أيضا والترمذي، وفي روايته: (وأن يكتب عليها). والنسائي أيضا وفي روايته: (وأن يزاد عليه).
65
((باب قول النبي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))
أي: هذا باب في بيان قول النبي: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، وإيراد هذا الباب عقيب الأبواب المتقدمة إشارة إلى أن الكراهة فيها ليست للتحريم، لأن عموم قوله: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا)، يدل على جواز الصلاة على أي جزء كان من أجزاء الأرض. وقال ابن بطل: فدخل في عموم هذا: المقابر والمرابض والكنائس وغيرها.
98 - (حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار هو أبو الحكم قال حدثنا يزيد الفقير قال حدثنا جابر بن عبد الله قال قال رسول الله
أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم وكان النبي
194

يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة)
الترجمة من نفس هذا الحديث ووضعه على هذا الوجه قد ذكرناه
(ذكر رجاله) * وهم خمسة. الأول محمد بن سنان أبو بكر العوفي الباهلي الأعمى مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين. الثاني هشيم بضم الهاء ابن بشير بضم الباء الموحدة السلمي مولاه الواسطي مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين ببغداد. الثالث سيار على وزن فعل بالتشديد بن أبي سيار واسمه وردان أبو الحكم العنزي الواسطي مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين. الرابع يزيد بفتح الياء آخر الحروف من الزيادة ابن صهيب الفقير * الخامس جابر بن عبد الله الأنصاري
(ذكر لطائف إسناده) جميع سنده بالتحديث بصيغة الجمع وهو من النوادر ورواته ما بين واسطي وكوفي وقد ذكرنا تعدد موضعه ومن أخرجه غيره في أول كتاب التيمم فالبخاري أخرجه هناك أيضا عن محمد بن سنان وسعيد بن النضر وفي الخمس أيضا عن محمد بن سنان وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وابن أبي شيبة
والنسائي في الطهارة بتمامه وفي الصلاة ببعضه عن الحسن بن إسماعيل خمستهم عن هشيم عن سيار وتكلمنا فيما يتعلق به هناك مستقصى قوله ' طهورا ' بفتح الطاء قوله ' كافة ' أي جميعا وهو مما يلزمه النصب على الحال واستهجن إضافتها نحو كافتهم
75
((باب نوم المرأة في المسجد))
أي: هذا باب في بيان نوم المرأة في المسجد، يعني: يجوز، وكذا إقامتها فيه إذا لم يكن لها مسكن، كما نذكره عن قريب إن شاء ا تعالى.
والمناسبة بين البابين من حيث إن كلا منهما فيما يتعلق بالمسجد، وسيأتي حكم نوم الرجل أيضا في الباب الذي يليه.
99 - (حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم قالت فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور قالت فوضعته أو وقع منها فمرت به حدياه وهو ملقى فحسبته لحما فخطفته قالت فالتمسوه فلم يجدوه قالت فاتهموني به قالت فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها قالت والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته قالت فوقع بينهم قالت فقلت هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو قالت فجاءت إلى رسول الله
فأسلمت قالت عائشة رضي الله عنها فكان لها خباء في المسجد أو حفش قالت فكانت تأتيني فتحدث عندي قالت فلا تجلس عندي مجلسا إلا قالت
* ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا
* ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني
*) قالت عائشة فقلت لها ما شأنك لا تقعدين معي مقعدا إلا قلت هذا قالت فحدثتني بهذا الحديث)
مطابقته للترجمة في قوله ' وكان لها خبأ في المسجد ' لأنها لم تنصب خبأ فيه إلا للبيتوتة والنوم فيها (ذكر رجاله) وهم خمسة * الأول عبيد بن إسماعيل بالتصغير وفي بعض الرواية عبيد الله * الثاني أبو أسامة حماد بن أسامة * الثالث هشام بن عروة * الرابع عروة بن الزبير بن العوام * الخامس أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهذا الإسناد بعينه قد تقدم في باب نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض
(ذكر معانيه وإعرابه) قوله ' إن وليدة ' أي أمة والوليدة في الأصل الطفلة وقد تطلق على الأمة وإن كانت كبيرة وفي المخصص إذا ولد المولود فهو وليد ساعة تلده أمه والأنثى وليدة وفي المحكم الجمع ولدان قوله ' كانت سوداء ' تعني
195

كانت امرأة كبيرة سوداء ولم يذكر أحد اسمها ولا اسم الحي التي كانت لهم ولا اسم الصبية قوله ' لحي من العرب ' أي لقبيلة منهم ومتعلق اللام محذوف تقديره كائنة لحي من العرب وهي في محل النصب على الوصفية قوله ' فخرجت صبية لهم ' أي لهؤلاء الحي وروى ثابت في الدلائل من طريق أبي معاوية عن هشام فزاد فيه ' أن الصبية كانت عروسا فدخلت في مغتسلها فوضعت الوشاح ' وهو بكسر الواو وبضمها ويقال الإشاح أيضا بكسر الهمزة على البدل من الواو وهو خيطان من لؤلؤ وجوهر منظومان يخالف بينهما معطوف أحدهما على الآخر والجمع أوشحة ووشح ووشائح قال كثير
* كأن قنا المران تحت خدودها
* ظباء الفلا نيطت عليها الوشائح
*
ذكره في المحكم وقال في المخصص عن الفارسي الوشاح من وسط إلى أسفل قال ولا يكون الوشاح وشاحا حتى يكون منظوما بلؤلؤ أو ودع وفي الجامع للقزاز الوشاح خرز تتوشح به المرأة ومنه قول امريء القيس
* إذا ما الثريا في السماء تعرضت
* تعرض أثناء الوشاح المفصل
*
ويقال أيضا الوشحن قال الراجز
* أحب منك موضع الوشحن
* ومعقد الإزار والقفن
*
وفي المنتهى أشاح وهو ينسج من أديم عرضا وينظم عليه الجواهر فيكون نظمان أحدهما معطوف على الآخر والجمع وشح وفي الصحاح الوشاح ينسج من أديم عرضا ويرصع بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقها وكشحها وفي المغيث الوشاح قلادة من سيور ذكره عند ذكر هذا الحديث وذكر فيه أيضا من سيور وهو جمع سير بفتح السين وهو ما يقدمن الجلد (فإن قلت) قوله من سيور يدل على أن الوشاح المذكور كان من جلد وكان عليه لؤلؤ فكيف حسبته الحدياة لحما حتى خطفته (قلت) لما رأت بياض اللؤلؤ على حمرة الجلد حسبته أنه لحم سمين فخطفته قوله ' أو وقع ' شك من الراوي قوله ' حدياة ' بضم الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبعدها ألف وفي
آخرها تاء والأصل أن يقال حديأة بهمزة بمفتوحة بعد الياء لأنها مصغر حدأة على وزن عنبة ولكن أبدلت الهمزة باء وأدغمت الياء في الياء وجمع حدأة حدء مقصور مهموز نص عليه ثعلب وقال ابن قتيبة جمعه حدان وقال ابن سيده والحداء أيضا بالمد والكسر جمع الحدأة وهو نادر وقال ابن درستويه فيما حكاه ابن عديس من العرب من يسميها أيضا الحدو بكسر الحاء وفتح الدال واو بعدها ساكنة وقال ابن منصور في التهذيب لا بأس بقتل الحدو وقال ابن عديس وفي الحدى مثل العزى وأهل الحجاز يقولون لها حدية يشددون الياء ولا يهمزون والجمع حداوى وعن أبي حاتم أنه خطأهم في هذا وحكى ابن الأنباري في مقصوره الحدا جمع حدأة وربما فتحوا الحاء فقالوا حداة وحداة والكسر أجود وفي الموعب هي طائر يأكل الجرذان (قلت) هو الطائر المعروف الذي هو من الفواسق الخمس المأذون بقتلهن في الحل والحرم قوله ' وهو ملقى ' أي الوشاح ملقى أي مرمي والجملة حالية قوله ' فخطفته ' بكسر الطاء وقيل بفتحها قوله ' فالتمسوه ' أي طلبوه وسألوا عنه قوله ' فطفقوا ' أي فجعلوا يفتشوني والأصل أن يقال يفتشونني ويروى يفتشون قوله ' قبلها ' بضم القاف والباء أي فرجها (فإن قلت) كان القياس أن يقال قبلي بياء المتكلم (قلت) إن كان هذا من كلام عائشة فهو على الأصل وإن كان من كلام الوليدة فهو من باب الالتفات أو من باب التجريد فكأنها جردت من نفسها شخصا وأخبرت عنه والظاهر أنه من كلام الوليدة وزاد فيه ثابت في الدلائل قالت ' فدعوت الله أن يبرئني فجاءت الحديأة وهم ينظرون ' قوله ' لقائمة ' اللام فيه للتأكيد قوله ' إذ مرت الحديأة ' كلمة إذ على أربعة أقسام أحدها أن تكون اسما للزمن الماضي والغالب في استعمالها أن تكون ظرفا وإذ ههنا من هذا القبيل وبقية الأقسام تعرف في موضعها قوله ' زعمتم ' مفعوله محذوف تقديره زعمتم أني أخذته قوله ' وأنا منه بريئة ' جملة حالية والضمير في منه يرجع إلى الزعم الذي يدل عليه زعمتم ويجوز أن يرجع إلى الوشاح أي من أخذه قوله ' وهو ذا هو ' فيه أوجه من الإعراب الأول أن يكون هو مبتدأ وذا خبره وهو الثاني خبر بعد خبر والثاني أن يكون هو الثاني تأكيدا للأول والثالث أن يكون تأكيدا لذا والرابع أن يكون بيانا له والخامس أن يكون ذا مبتدأ ثانيا وخبره هو الثاني والجملة خبر المبتدأ والسادس أن يكون هو ضمير الشأن
196

ويكون ذا مع هو الثاني جملة أو خبر الثاني محذوفا والجملة تأكيد الجملة والسابع أن يكون ذا منصوبا على الاختصاص ووقع في رواية أبي نعيم ' وها هو ذا ' وفي رواية ابن خزيمة ' وهو ذا كما ترون ' قوله ' قالت ' أي عائشة قوله ' فجاءت ' أي المرأة قوله ' خباء ' بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبالمد وهي خيمة تكون من وبر أو صوف وهي على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك وفي المخصص الخباء يكون من وبر أو صوف ولا يكون من شعر وقد أخبيت وخبيت وتخبيت وعن ابن السكيت أخبيناه خباء نصبناه واستخبينا نصبناه ودخلنا فيه وعن ابن دريد الخباء مشتق من خبأت خبيئا ويقال تخبأت وعن الفارسي أصل هذه الكلمة التغطية وقال ابن دريد الأخبية بيوت الأعراب وإذا ضخم الخباء فهو بيت وقال الكلبي بيوت العرب ستة مظلة من شعر خباء من صوف بجاد من وبر خيمة من شجر أفنة من حجر قبة من أدم قوله ' أو حفش ' بكسر الحاء المهملة وسكون الفاء وفي آخره شين معجمة وهو بيت صغير قليل السمك مأخوذ من الإتحفاش وهو الانضمام وذكر ابن عديس في الكتاب الباهر أنه الصغير من بيوت الأعراب وقيل الحفش بالفتح والكسر والإسكان وبفتح الفاء البيت القريب السمك من الأرض وجمعه أحفاش وحفاش وفي المخصص أنه من الشعر لا من الآجر وفي المغرب للمطرزي استعيرت من حفش المرأة وهو درجها وقال أبو عبيد هو البيت الرديء وقيل الخرب وقال الجوهري هو وعاء المغازل (قلت) لكنه استعير للبيت الصغير قوله ' فتحدث ' بلفظ المضارع أصله تتحدث من التحدث فحذفت إحدى التاءين فعند سيبويه المحذوف هو التاء الثانية لأن الثقل نشأ منها وقيل هي الأولى لأنها زائدة قوله ' ويوم الوشاح ' الخ من البحر الطويل وأجزاءه ثمانية وهي فعولن مفاعيلن ثمان مرات وفيه القبض في الجزء الثاني وهو حذف الخامس الساكن قوله ' إلا أنه ' بتخفيف اللام للضرورة قوله ' من تعاجيب ربنا ' أي من أعاجيب ربنا جمع أعجوبة وقال ابن سيده لا واحد للتعاجيب من لفظه ويروى من أعاجيب ربنا قوله ' ألا قلت هذا ' أي هذا البيت قوله ' بهذا الحديث ' أي بهذه القصة
(ذكر ما يستنبط منه) قال ابن بطال فيه أن من لم يكن له مسكن ولا مكان مبيت يباح له المبيت في المسجد سواء كان رجلا أو امرأة عند حصول الأمن من الفتنة وفيه اصطناع الخيمة وشبهها للمسكين رجلا كان أو امرأة. وفيه أن السنة الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان تشاؤما بها وربما كان الذي جرى عليه من المحنة سببا لخير إرادة الله بها في غير تلك البلدة كما جرى لهذه السوداء أخرجتها فتنة الوشاح إلى بلاد الإسلام ورؤية النبي سيد الأنام قال الله تعالى * (ألم تكن أرض الله واسعة) * وفيه فضل الهجرة من دار الكفر
85
((باب نوم الرجال في المسجد))
أي: هذا باب في بيان نوم الرجال في المسجد أي: جواز ذلك، فإن قلت: لم ما قال نوم الرجل مثل ما قال في الباب السابق نوم المرأة على الإفراد؟ قلت: أما الإفراد هناك فلأجل أن الحديث الذي فيه في قصة امرأة واحدة، وأما الجمع ههنا فلأن الأثر الذي ذكره في أول هذا الباب في الجماعة، على أن في بعض النسخ باب نوم الرجل. والمناسبة بين البابين ظاهرة.
وقال أبو قلابة عن أنس قدم رهط من عكل عل النبي فكانوا في الصفة.
هذا التعليق قطعة من قصة العرنيين، وقد تقدم حديثهم في الطهارة، وهذا اللفظ أورده موصولا في المحاربين من طريق وهيب عن أيوب عن أبي قلابة، وهو بكسر القاف وخفة اللام وبالباء الموحدة: واسمه عبد ا بن زيد: (والرهط) ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. و: (عكل) بضم العين المهملة وسكون الكاف وباللام: قبيلة من العرب. و: (الصفة) بضم الصاد وتشديد الفاء: موضع مظلل من المسجد يأوي إليه المساكين.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر كان أصحاب الصفة الفقراء.
197

هذا التعليق أول حديث طويل يأتي ذكره في باب السمر مع الأهل، والضيف، وأوله: حدثنا أبو النعمان، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو عثمان عن عبد الرحمن بن أبي بكر: (أن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء، وأن النبي، قال: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث). الحديث، وعبد الرحمن هو: ابن أبي بكر الصديق، و: الصفة، كانت موضعا مظللا في مسجد النبي، كان الفقراء المهاجرون الذين ليس لهم منزل يسكنونها. وقيل؛ سموا بأصحاب الصفة لأنهم كانوا يصفون على باب المسجد، لأنهم غرباء لا مأوى لهم. قوله: (فقراء)، ويروى (الفقراء)، بالألف واللام.
100 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع قال أخبرني عبد الله بن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي
)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم قد ذكروا غير مرة وأما الإسناد بعينه تقدم في باب كراهة الصلاة في المقابر ويحيى هو القطان وعبيد الله هو ابن عمر العمري
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضعين ورجاله ما بين مصري ومدني
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه النسائي في الصلاة أيضا عن عبيد الله بن عمر وترجم البخاري أيضا على هذا الحديث في أواخر الصلاة باب فضل قيام الليل وذكره مطولا وفيه ' كنت غلاما شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله
' الحديث وسيأتي الكلام فيه هناك إن شاء الله تعالى وأخرجه مسلم وابن ماجة أيضا ولفظ مسلم ' كنت أبيت في المسجد ولم يكن لي أهل ' ولفظ ابن ماجة ' كنا ننام في المسجد على عهد رسول الله
'.
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' وهو شاب ' جملة اسمية وقعت حالا وأعزب صفة للشاب ووقع في رواية أبي ذر عزب بدون الألف وقال القزاز في الجامع العزب الذي لا امرأة له وكذلك المرأة التي لا زوج لها كل واحد منهما عزب وعزبة وقد عزب الرجل يعزب عزوبة فهو عزب ولا يقال أعزب ورد أبو إسحاق الزجاج على ثعلب في الفصيح في قوله وامرأة عزبة فقال هذا خطأ إنما يقال رجل أعزب وامرأة عزب ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأنه مصدر قال الشاعر
* يا من يدل عزبا على عزب
* على فتاة مثل نبراس الذهب
*
النبراس بكسر النون وسكون الباء الموحدة المصباح قاله الجوهري وقال ابن درستويه في شرحه العامة تقول عزبة وهو يجوز في المصادر إذا غلبت على الصفة حتى جرت مجرى الأسماء وليس بالمختار وفي المحكم رجل عزب ومعزابة لا أهل له وامرأة عزبة وعزب والجمع أعزاب وجمع العازب عزاب والعزب اسم للجمع وكذلك العزيب اسم للجمع وقال صاحب المنتهى العزب بالتحريك نعت للذكر والأنثى وقال الكسائي العزبة التي لا زوج لها والأول أشهر قوله ' لا أهل له ' أي لابن عمر رضي الله تعالى عنهما قيل العزب هو الذي لا زوج له فما فائدة قوله ' لا أهل له ' وأجيب بأنه للتأكيد أو التعميم لأن الأهل أعم من الزوجة قوله ' في مسجد ' يتعلق بقوله ' ينام '.
(ذكر ما يستنبط منه) وهو جواز النوم في المسجد لغير الغريب. وقد اختلف العلماء في ذلك فممن رخص في النوم فيه ابن عمر وقال ' كنا نبيت فيه ونقيل على عهد رسول الله
' وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء ومحمد بن سيرين مثله وهو واحد قولي الشافعي واختلف عن ابن عباس فروى عنه أنه قال ' لا تتخذوا المسجد مرفدا ' وروى عنه أنه قال ' إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس ' وقال مالك لا أحب لمن له منزل أن يبيت في المسجد ويقيل فيه وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك ' وقد كان أصحاب النبي
يبيتون في المسجد ' وكره النوم فيه ابن مسعود وطاوس ومجاهد وهو قول الأوزاعي وقد سئل سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار عن النوم فيه فقالا كيف تسألون عنها وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان مسكنهم المسجد وذكر الطبري عن الحسن قال رأيت
198

عثمان بن عفان نائما فيه ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين قال وقد نام في المسجد جماعة من السلف بغير محذور للانتفاع به فيما يحل كالأكل والشرب والجلوس وشبه النوم من الأعمال والله أعلم
101 - (حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي سهل بن حازم عن سعد قال جاء رسول الله
بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال أين ابن عمك قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي فقال رسول الله
لإنسان انظر أين هو فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقد فجاء رسول الله
وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله
يمسحه عنه ويقول قم أبا تراب قم أبا تراب)
مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. الأول قتيبة بن سعيد وقد تكرر ذكره. الثاني عبد العزيز بن أبي حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة المدني لم يكن بالمدينة أفقه منه بعد مالك مات سنة أربع وثمانين ومائة. الثالث أبوه أبو حازم واسمه سلمة بفتح اللام بن دينار الأعرج. الرابع سهيل بن سعد الصحابي وهو آخر من مات من الصحابة
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وهو إسناد رباعي ورواته مدنيون غير شيخ البخاري فإنه بلخي
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الاستئذان عن قتيبة أيضا وأخرجه في فضل علي رضي الله تعالى عنه أيضا عن القعنبي وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة
(ذكر معناه) قوله ' أين ابن عمك ' أراد به علي بن أبي طالب وفي الحقيقة ابن عم النبي
وإنما اختار هذه العبارة ولم يقل أين زوجك أو أين علي لأنه
فهم أنه جرى بينهما شيء فأراد استعطافها عليه بذكره القرابة النسبية التي بينهما قوله ' فغاضبني ' من باب المفاعلة الموضوع لمشاركة اثنين قوله ' فلم يقل ' بكسر القاف من القيلولة والقيلولة نوم نصف النهار ذكره ابن درستويه وفي الفصيح (قلت) من القائلة قيلولة وزعم الزمخشري أن الهاء في القائلة تدل على الساعة كقولهم الهاجرة وفي المصادر للفراء (قلت) وأنا أقيل قيلا ومقيلا وقيلولة وقائلة وفي نوادر اللحياني أنا قائل والجمع قائلون وقيال وفي المخصص قوم قيل وفي الصحاح قيل بالتخفيف مثل صاحب وصحب قوله ' وهو مضطجع ' جملة اسمية وقعت حالا ولكن في الكلام مقدر تقديره فجاء رسول الله
إلى المسجد ورآه وهو مضطجع وكذلك قوله ' قد سقط رداؤه ' جملة حالية قوله ' عن شقه ' أي عن جانبه قوله ' أبا تراب ' حذف منه حرف النداء والتقدير يا أبا تراب
(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام) الأول فيه جواز دخول الوالد في بيت ولده بغير إذن زوجها. الثاني فيه استعطاف الشخص على غيره بذكر ما بينهما من القرابة. الثالث فيه إباحة النوم في المسجد لغير الفقراء ولغير الغريب وكذا القيلولة في المسجد فإن عليا لم يقل عند فاطمة رضي الله تعالى عنها ونام في المسجد وفي كتاب المساجد لأبي نعيم من حديث بشر بن جبلة عن أبي الحسن عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه يرفعه ' لا تمنعوا القائلة في المسجد مقيما ولا ضيفا '. الرابع فيه الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية إذا كان ذلك لا يغضبه بل يؤنسه. الخامس فيه مدارة الصهر وتسلية أمره في غيابه. السادس فيه جواز التكنية بغير الولد فإنه
كناه أبا تراب وفي البخاري في كتاب الاستئذان ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي تراب وإنه كان يفرح إذا دعي بها. السابع فيه الفضيلة العظيمة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه
244201 ح دثنا يوسف بن عيسى قال حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي
199

هريرة قال لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
يوسف بن عيسى هو المروزي سبق في باب من توضأ من الجنابة، وابن فضيل، بضم الفاء وفتح المعجمة وسكون الياء آخر الحروف: هو محمد بن فضيل بن غزوان أبو عبد الرحمن الكوفي، مات سنة خمس وتسعين ومائة، وأبوه فضيل مر في باب التستر في الغسل، وأبو حازم هو سلمان الأشجعي الكوفي، وهو أكبر من أبي حازم الذي قبله في السن واللقاء، وإن كانا جميعا مدنيين تابعيين ثقتين، ويحتاج الواقف هنا أن يكون على التيقظ لئلا يقع التلبيس لأجل التشابه. قوله: (لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة)، هؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام، في غزوة بئر معونة وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة. قوله: (عليه رداء) هو: ما يستر النصف الأعلى من البدن، والإزار ما يكسو النصف الأسفل. قوله: (إما إزار) أي: فقط، (وإما كساء)، على الهيئة المشروحة في المتن. قوله: (قد ربطوا) أي: الأكسية، فحذف المفعول للعلم به. قوله: (فمنها) أي: فمن الأكسية باعتبار أن الكساء جنس. قوله: (فيجمعه بيده)، أي: الواحد منهم، وفي رواية الإسماعيلي زيادة وهي: إن ذلك في حال كونهم في الصلاة.
95
((باب الصلاة إذا قدم من سفر))
أي: هذا باب في بيان الصلاة إذا قدم الرجل من سفر، وغالب الأبواب في هذا الموضع فيما يتعلق بالمساجد فلا يحتاج إلى زيادة طلب وجوه المناسبات، فيها.
وقال كعب بن مالك كان النبي إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلي فيه.
هذا التعليق ذكره البخاري مسندا في غزوة تبوك، وهو حديث طويل يرويه عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد ا بن كعب بن مالك: أن عبد ا بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدثني تخلف عن غزوة تبوك... الحديث بطوله، يأتي إن شاء ا تعالى، وفيه: (وأصبح رسول الله قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس...) الحديث، ومطابقته للترجمة ظاهرة.
[344301 ح دثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا مسعر قال حدثنا محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال أتيت النبي وهو في المسجد قال مسعر أراه قال ضحى فقال صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني. (الحديث 344 أطرافه في: 1081، 7902، 9032، 5832، 4932، 6042، 0742، 3062، 4062، 8172،
1682، 7692، 7803، 9803، 0903، 2504، 9705، 0805، 3425، 4425، 5425، 6425، 7425، 7635، 7836).
مطابقته للترجمة من حيث إن الترجمة في بيان الصلاة عند القدوم من السفر، ومشروعية هذه الصلاة أعم من أن تكون بفعله، وأن تكون بقوله: فبين الأول: بالحديث المعلق، والثاني: بحديث جابر هذا. وقال بعضهم: ذكر حديث جابر بعد المعلق ليجمع بين فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره، فلا يظن أن ذلك من خصائصه. قلت: قوله: فلا يظن أن ذلك من خصائصه، ليس كذلك، لأنه يشعر أن كل فعل يصدر منه، عليه الصلاة والسلام، يظن فيه أنه من خصائصه، وليس كذلك. فإن مواضع الخصوص لها قرائن تدل على ذلك.
وقال الكرماني. فإن قلت: ما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: هذا الحديث مختصر من مطول ذكره في كتاب البيوع وغيره، وفيه أنه قال: (كنت مع النبي، في غزاة واشترى مني جملا بأوقية، ثم قدم رسول ا، قبلي وقدمت بالغداة
200

فوجدته على باب المسجد، قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فادخل فصل ركعتين. قلت: هذا في الحقيقة وجه الترجمة على ما ذكرناه، ولكنه اقتصر على مجرد النقل ولم يوف حق الكلام. وقال صاحب (التلويح): وليس فيه ما بوب عليه هذا لأن لقائل أن يقول: إن جابرا لم يقدم من سفر لأنه ليس فيه ما يشعر بذلك. قلت: هذا الكلام عجيب، وكيف هذا والحديث مختصر من مطول وفيه التصريح بقدومه من السفر؟ وقد جرت عادة البخاري في مثل هذا على الإحالة على أصل الحديث.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: خلاد على وزن فعال بالتشديد، مر في باب من بدا بشقه الأيمن في الغسل. الثاني: مسعر، بكسر الميم، مر في باب الوضوء بمد. الثالث: محارب، بضم الميم وبالحاء المهملة وبكسر الراء وفي آخره باء موحدة: ابن دثاء، بكسر الدال المهملة وبالثاء المثلثة وبالراء: السدوسي، قاضي الكوفة. الرابع: جابر بن عبد ا الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون. وفيه: من أفراد البخاري خلاد بن يحيى.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في سبعة عشر موضعا: هنا عن خلاد بن يحيى، وفي الاستقراض كذلك، وفي الهبة عن ثابت بن محمد، وفي الجهاد عن سليمان بن حرب، وفي الاستقراض عن أبي الوليد، وفي الهبة عن بندار عن غندر، وفي الشفاعة في وضع اليدين، وفي الشروط في الجهاد في أربعة مواضع، وفي النكاح في ثلاثة مواضع، وفي النفقات والدعوات. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أحمد بن جواس وفيه وفي البيوع عن عبيد ا بن معاذ، وفي البيوع أيضا عن يحيى بن حبيب. وأخرجه أبو داود في البيوع عن أحمد بن حنبل. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى، وعن محمد بن منصور، ومحمد بن عبد ا بن يزيد، وفي السير عن عمرو بن يزيد.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (وهو في المسجد)، جملة حالية. قوله: (أراه)، بضم الهمزة أي: أظن، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى محارب. وهذا كلام مدرج أعني قوله: (قال مسعر أراه قال: ضحى). قوله: (فقال) أي: النبي. قوله: (وكان لي عليه دين)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي. (وكان له)، أي: لجابر عليه أي على النبي، وهذا الدين كان ثمن جمل جابر، وقال بعضهم: فيه التفات، قلت: الالتفات لا يجيء إلا في رواية الحموي لا مطلقا. وقال النووي: هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر لا أنها تحية المسجد. وفيه: استحباب قضاء الدين زائدا وهو من باب المروءة وسيجئ فوائد هذا الحديث في موضعه إن شاء ا تعالى.
95
((باب الصلاة إذا قدم من سفر))
أي: هذا باب في بيان الصلاة إذا قدم الرجل من سفر، وغالب الأبواب في هذا الموضع فيما يتعلق بالمساجد فلا يحتاج إلى زيادة طلب وجوه المناسبات، فيها.
وقال كعب بن مالك كان النبي إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلي فيه.
هذا التعليق ذكره البخاري مسندا في غزوة تبوك، وهو حديث طويل يرويه عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن عبد ا بن كعب بن مالك: أن عبد ا بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدثني تخلف عن غزوة تبوك... الحديث بطوله، يأتي إن شاء ا تعالى، وفيه: (وأصبح رسول الله قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس...) الحديث، ومطابقته للترجمة ظاهرة.
[344301 ح دثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا مسعر قال حدثنا محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال أتيت النبي وهو في المسجد قال مسعر أراه قال ضحى فقال صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني. (الحديث 344 أطرافه في: 1081، 7902، 9032، 5832، 4932، 6042، 0742، 3062، 4062، 8172، 1682، 7692، 7803، 9803، 0903، 2504، 9705، 0805، 3425، 4425، 5425، 6425، 7425، 7635، 7836).
مطابقته للترجمة من حيث إن الترجمة في بيان الصلاة عند القدوم من السفر، ومشروعية هذه الصلاة أعم من أن تكون بفعله، وأن تكون بقوله: فبين الأول: بالحديث المعلق، والثاني: بحديث جابر هذا. وقال بعضهم: ذكر حديث جابر بعد المعلق ليجمع بين فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره، فلا يظن أن ذلك من خصائصه. قلت: قوله: فلا يظن أن ذلك من خصائصه، ليس كذلك، لأنه يشعر أن كل فعل يصدر منه، عليه الصلاة والسلام، يظن فيه أنه من خصائصه، وليس كذلك. فإن مواضع الخصوص لها قرائن تدل على ذلك.
وقال الكرماني. فإن قلت: ما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: هذا الحديث مختصر من مطول ذكره في كتاب البيوع وغيره، وفيه أنه قال: (كنت مع النبي، في غزاة واشترى مني جملا بأوقية، ثم قدم رسول ا، قبلي وقدمت بالغداة فوجدته على باب المسجد، قال: الآن قدمت؟ قلت: نعم، قال: فادخل فصل ركعتين. قلت: هذا في الحقيقة وجه الترجمة على ما ذكرناه، ولكنه اقتصر على مجرد النقل ولم يوف حق الكلام. وقال صاحب (التلويح): وليس فيه ما بوب عليه هذا لأن لقائل أن يقول: إن جابرا لم يقدم من سفر لأنه ليس فيه ما يشعر بذلك. قلت: هذا الكلام عجيب، وكيف هذا والحديث مختصر من مطول وفيه التصريح بقدومه من السفر؟ وقد جرت عادة البخاري في مثل هذا على الإحالة على أصل الحديث.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: خلاد على وزن فعال بالتشديد، مر في باب من بدا بشقه الأيمن في الغسل. الثاني: مسعر، بكسر الميم، مر في باب الوضوء بمد. الثالث: محارب، بضم الميم وبالحاء المهملة وبكسر الراء وفي آخره باء موحدة: ابن دثاء، بكسر الدال المهملة وبالثاء المثلثة وبالراء: السدوسي، قاضي الكوفة. الرابع: جابر بن عبد ا الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون. وفيه: من أفراد البخاري خلاد بن يحيى.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في سبعة عشر موضعا: هنا عن خلاد بن يحيى، وفي الاستقراض كذلك، وفي الهبة عن ثابت بن محمد، وفي الجهاد عن سليمان بن حرب، وفي الاستقراض عن أبي الوليد، وفي الهبة عن بندار عن غندر، وفي الشفاعة في وضع اليدين، وفي الشروط في الجهاد في أربعة مواضع، وفي النكاح في ثلاثة مواضع، وفي النفقات والدعوات. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أحمد بن جواس وفيه وفي البيوع عن عبيد ا بن معاذ، وفي البيوع أيضا عن يحيى بن حبيب. وأخرجه أبو داود في البيوع عن أحمد بن حنبل. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى، وعن محمد بن منصور، ومحمد بن عبد ا بن يزيد، وفي السير عن عمرو بن يزيد.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (وهو في المسجد)، جملة حالية. قوله: (أراه)، بضم الهمزة أي: أظن، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى محارب. وهذا كلام مدرج أعني قوله: (قال مسعر أراه قال: ضحى). قوله: (فقال) أي: النبي. قوله: (وكان لي عليه دين)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي. (وكان له)، أي: لجابر عليه أي على النبي، وهذا الدين كان ثمن جمل جابر، وقال بعضهم: فيه التفات، قلت: الالتفات لا يجيء إلا في رواية الحموي لا مطلقا. وقال النووي: هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر لا أنها تحية المسجد. وفيه: استحباب قضاء الدين زائدا وهو من باب المروءة وسيجئ فوائد هذا الحديث في موضعه إن شاء ا تعالى.
06
((باب إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس))
أي: هذا باب يقال فيه: إذا دخل... الخ، والنسخ مختلفة فيه، ففي بعضها مثل ما ذكرنا، وفي بعضها: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، وفي بعضها: إذا دخل المسجد فليركع قبل أن يجلس، ولما كانت كلمة: إذا، هنا بمعنى الشرط دخل في جوابها: الفاء.
444401 ح دثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة السلمي أن رسول الله قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس. (الحديث 444 طرفه في: 3611).
الترجمة ومتن الحديث سواء.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد ا بن يوسف التنيسي، من أفراد البخاري. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: عامر بن عبد ا بن الزبير بن العوام القرشي المدني أبو الحارث، بالمثلثة، كان عالما عابدا، مر في باب إثم من كذب. الرابع: عمرو، بفتح العين: ابن سليم، بضم السين: الزرقي، بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف: الأنصاري المدني. الخامس: أبو قتادة، واسمه: الحارث، بالمثلثة: ابن ربعي، بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وبالعين المهملة وبالياء
201

المشددة: السلمي، بفتح السين واللام كليهما. وقال ابن الأثير في (جامع الأصول): وأكثر أصحاب الحديث يكسرون اللام لأنه نسبة إلى: سلمة، بكسر اللام، فارس رسول ا، روي له مائة وسبعون حديثا، للبخاري ثلاثة عشر، مات بالمدينة سنة أربع وخمسين.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار كذلك في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن الإسناد كله مدني ما خلا شيخ البخاري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا عن مكي بن إبراهيم. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى والقعنبي وقتيبة، ثلاثتهم عن مالك به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به، وعن مسدد عن عبد الواحد بن زياد. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن العباس بن عثمان عن الوليد بن مسلم عن مالك، وقال الدارقطني: رواه شيخ يقال له: سعيد بن عيسى عن عبد ا بن إدريس عن زكريا عن عامر عن عبد ا بن الزبير عن أبي قتادة ولم يتابع عليه، وسعيد هذا ضعيف، وليس هو من حديث زكريا ولا من حديث الشعبي، والمحفوظ قول مالك ومن تابعه. وقال سهيل بن أبي صالح:: عن عامر بن عبد ا بن الزبير عن عمرو بن سليم عن جابر بن عبد ا، فوهم في ذكره جابرا. وقال
الطوسي في (الأحكام)، والترمذي في (الجامع): حديث سهيل غير محفوظ. وقال علي بن المديني: حديث سهيل خطأ. وقال ابن ماجة: رواه الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن عامر عن أبي قتادة وهو وهم. وفي (صحيح ابن حبان): عن أبي قتادة رفعه بزيادة: (قبل أن يجلس أو يستخبر). وفي (مصنف ابن أبي شيبة) زيادة من طريق حسنة: (أعطوا المساجد حقها. قيل: يا رسول ا وما حقها؟ قال: ركعتين قبل أن يجلس). وزاد أبو أحمد الجرجاني: (وإذا دخل بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن ا عز وجل جاعل له من ركعتيه في بيته خيرا). وقال إسناده منكر، وقال أبو محمد الإشبيلي: قال البخاري: هذه الزيادة لا أصل لها، وأنكر ذلك ابن القطان. وزعم أنه لا يصح نسبته إليه.
ذكر معناه قوله: (فليركع) أي: فليصل، أطلق الجزء وأراد الكل. فإن قلت: الشرط سبب للجزاء، فما السبب ههنا؟ أهو الركوع أو الأمر بالركوع؟ قلت: إن أريد بالأمر تعلق الأمر فهو الجزاء، وإلا فالجزاء هو لازم الأمر، وهو الركوع، والمراد من الركعتين تحية المسجد، ولا يتأدى هذا بأقل من ركعتين لأن هذا العدد لا مفهوم لأكثره بالاتفاق، واختلف في أقله، والصحيح اعتبارهما.
ذكر ما يستنبط منه: قال ابن بطال: اتفق أئمة الفتوى أنه محمول على الندب والإرشاد مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد لما روي: أن كبار أصحاب رسول الله يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون، وأوجب أهل الظاهر فرضا على كل مسلم داخل في وقت تجوز فيه الصلاة الركعتين، وقال بعضهم: واجب في كل وقت، لأن فعل الخير لا يمنع منه إلا بدليل معارض له. وقال الطحاوي: من دخل المسجد في أوقات النهي فليس بداخل في أمره بالركوع عند دخوله المسجد، واستدل الطحاوي أيضا في عدم الوجوب بقوله للذي رآه يتخطى: إجلس فقد آذيت، ولم يأمره بالصلاة. فقال السفاقسي: وفقهاء الأمصار حملوا هذا على الندب لقوله للذي سأله عن الصلاة: (هل على غيرها؟ قال: إلا أن تطوع). ولو قلنا بوجوبهما لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل به، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء لزم منه أنه لا يجب عليه سجودها عند دخوله، فإن قصد دخول المسجد ليصلي فيه في الأوقات المكروهة فلا يجوز له ذلك عند الشافعي. وقال النووي: هي سنة بإجماع، فإن دخل وقت كراهة يكره له أن يصليهما في قول أبي حنيفة وأصحابه، وحكي ذلك أيضا عن الشافعي، ومذهبه الصحيح أن لا كراهة. وا أعلم. وقال عياض: وظاهر مذهب مالك أنهما من النوافل. وقيل: من السنن، فإن دخل مجتازا فهل يؤمر بهما؟ خفف في ذلك مالك، وعن بعض أصحاب مالك: إن من تكرر دخوله المسجد سقطتا عنه، واستدل بعضهم بقوله: (قبل أن يجلس)، بأه إذا خالف وجلس لا يشرع له التدارك، ورد هذا بما رواه ابن حبان في (صحيحه) من حديث أبي ذر: (أنه دخل المسجد فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أركعت ركعتين؟ قال: لا، ثم قال: قم فاركعهما). ترجم عليه ابن حبان باب تحية
202

المسجد لا تفوت بالجلوس. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يقال: وقتهما قبل الجلوس وقت فضيلة وبعده وقت جواز، أو يقال: وقتهما قبله أداء وبعده قضاء، ويحتمل أن يحمل مشروعيتهما بعد الجلوس على ما إذا لم يطل الفصل.
16
((باب الحدث في المسجد))
أي: هذا باب في بيان حكم الحدث الحاصل في المسجد، والمراد منه الحدث الناقض للوضوء: كالريح ونحوه، وقد قيل: المراد منه في الحدث أعم من ذلك، وحكى بعضهم هذا ثم فسره بقوله: أي ما لم يحدث سوءا، ثم قال: ويؤيده رواية مسلم: (ما لم يحدث فيه، ما لم يؤذ فيه)، على أن الثانية تفسير للأولى. قلت: لا نسلم أن الثانية تفسير للأولى لعدم الإبهام. غاية ما في الباب ذكر فيه شيئين: أحدهما: حدث الوضوء، والآخر: حدث الإثم، على أن مالكا وغيره قد فسروا الحدث بنقض الوضوء، كما ذكرنا. فإن قلت: قد ذكر ابن حبيب عن إبراهيم النخعي أنه سمع عبد ا بن أبي أوفى يقول: هو حدث الإثم. قلت: لا منافاة بين التفسيرين لكونهما مصرحين في يرواية مسلم، وفي رواية البخاري مقتصرة على تفسير مالك وغيره، ولهذا في رواية أخرى للبخاري: (ما لم يؤذ بحدث فيه)، فهذه تصرح أن المراد من الأذى هو الحدث الناقض للوضوء وعن هذا قالوا: إن رواية الجمهور: ما لم يحدث، في الحديث بالتخفيف، من: الإحداث، لا بالتشديد من: التحديث، كما رواه بعضهم، وليست بصحيحة، ولهذا قال السفاقسي: لم يذكر التشديد أحد.
[/ بلشر
544401 حدثنا عبد ا بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه..
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن المراد من قوله: (ما دام في مصلاه الذي صلى فيه) هو المسجد، يدل على ذلك رواية البخاري فيما يتعلق بالمساجد على ما يأتي، وهي: (فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه ا بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي الملائكة عليه ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يؤذ بحدث فيه). والأحاديث يفسر بعضها بعضا، فعلم أن المراد بقوله: (في مصلاه) هو المكان الذي يصلي فيه في المسجد، وإن كان بحسب اللغة يطلق على المصلي الذي في غير المسجد.
ذكر رجاله وهم خمسة قذ ذكروا غير مرة، وأبو الزناد، بكسر الزاي المعجمة بعدها النون: عبد ا بن ذكوان، والأعرج هو: عبد ا بن هرمز.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن القعنبي عن مالك وأخرجه أبو داود أيضا فيه عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، وفي الملائكة عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به. وأخرجه مسلم من حديث أبي صالح عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري أيضا من هذا الوجه، وأخرجه مسلم أيضا من حديث أبي رافع الصائغ ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة، ويأتي في البخاري أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة.
ذكر معناه قوله: (إن الملائكة تصلي) هكذا في رواية الكشميهني بزيادة: إن، وفي رواية غيره: الملائكة، بدون: أن قال بعضهم: المراد بالملائكة أو السيارة أو أعم من ذلك. قلت: الملائكة جمع محلى باللام فيفيد الاستغراق. قوله: (في مصلاه)، بضم الميم: وهو اسم المكان. قوله: (تقول) بيان لقوله: (تصلي) وتفسير له. قوله: (اللهم اغفر له) يعني: يا ا اغفر له وارحمه، والفرق بين المغفرة والرحمة أن المغفرة ستر الذنوب، والرحمة إفاضة الإحسان إليه.
ذكر ما يستنبط منه: قال السفاقسي: الحدث في المسجد خطيئة يحرم به المحدث استغفار الملائكة، ولما لم يكن للحدث فيه كفارة ترفع
203

أذاه كما يرفع الدفن أذى النخامة فيه عوقب بحرمان الاستغفار من الملائكة لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة. وقال ابن بطال: من أراد أن تحط عنه ذنوبه من غير تعب فليغتنم ملازمة مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته لقوله تعالى: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (الأنبياء: 82). وفيه: بيان فضيلة من انتظر الصلاة مطلقا سواء ثبت في مجلسه ذلك من المسجد أو تحول إلى غيره. وفيه: أن الحدث في المسجد يبطل ذلك، ولو استمر جالسا. وفيه: أن الحدث في المسجد أشد من النخامة. وقال المازري: أشار البخاري إلى الرد على من منع المحدث أن يدخل المسجد أو يجلس فيه. قلت: قد اختلف السلف في جلوس المحدث في المسجد، فروي عن أبي الدرداء أنه خرج من المسجد فبال ثم دخل، فتحدث مع أصحابه ولم يمس ماء. وعن علي رضي ا تعالى عنه، مثله، وروي ذلك عن عطاء والنخعي وابن جبير، وكره ابن المسيب والحسن البصري أن يتعمد الجلوس في المجلس على غير وضوء.
26
((باب بنيان المسجد))
أي: هذا باب في بيان صفة بنيان المسجد النبوي، والبنيان: البناء، يقال: بنى يبني بنيا وبنية وبناء. قال الجوهري: البنيان الحائط، يقال: بنى فلان بيتا من البنيان، وبنى على أهله بناء أي: زفها، والعامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ.
وقال أبو سعيد كان سقف المسجد من جريد النخل.
13
50 مطابقة هذا التعليق للترجمة ظاهرة، وقد رواه مسندا في باب هل يصلي الإمام بمن حضر: حدثنا مسلم، قال: حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة، قال: (سألت أبا سعيد الخدري فقال: جاءت سحابة فمطرت حتى سال السقف وكان من جريد النخل، فأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته). قوله: (كان سقف المسجد) أي: سقف مسجد رسول ا، فالألف واللام فيه للعهد. وقول الكرماني: وأما لجنس المساجد فبعيد. قوله: (من جريد النخل) الجريد: هو الذي يجرد عنه الخوص وإن لم يجرد يسمى سعفا.
وأمر عمر ببناء المسجد وقال أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.
50
مطابقته للترجمة ظاهرة جدا، والمراد من المسجد: مسجد رسول ا، ويأتي في هذا الباب أنه روي من حديث نافع أن عبد ا أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله مبينا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد، وأعاد عمده خشبا. ورواه أبو داود أيضا. قوله: (باللبن)، بفتح اللام وكسر الباء الموحدة، ويقال: اللبنة، بكسر اللام وسكون الباء الموحدة: وهي الطوب النيء. قوله: (وعمده)، بضم العين والميم وبفتحهما، جمع الكثرة لعمود البيت، وجمع القلة: أعمدة. قوله: (أكن) فيه أوجه. الأول: أكن، بفتح الهمزة وكسر الكاف وفتح النون، على صورة الأمر من الإكنان، وهي رواية الأصيلي، وهي الأظهر، ويدل عليه قوله قبله: (أمر عمر) وقوله بعده: (وإياك) وذلك لأنه أولا أمر بالبناء وخاطب أحدا بذلك ثم حذره من التحمير والتصفير بقوله: (وإياك أن تحمر أو تصفر)، والإكنان من أكننت الشيء أي: صنته وسترته. وحكى أبو زيد والكسائي: كننته، من الثلاثي بمعنى: أكننته. وقال ثعلب في (الفصيح): أكننت الشيء أي: أخفيته، وكننته إذا سترته بشيء. ويقال: أكننت الشيء سترته وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي أسررته. وفي (كتاب فعل وافعل) لأبي عبيدة معمر بن المثنى: قالت تميم: كننت الجارية أكنها كنا، بكسرا لكاف، وأكننت العلم والسر. وقالت قيس: كننت العلم والسر بغير ألف، وأكننت الجارية بالألف. وقال ابن الأعرابي، في (نوادره): أكنننت السر، وكننت وجهي من الحر، وكننت سيفي، قال: وقد يكون هذا بالألف أيضا. الوجه الثاني: أكن الناس، بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة: بلفظ المتكلم من الفعل المضارع، وقال ابن التين: هكذا رويناه، وفي هذا الوجه التفات وهو أن عمر أخبر عن نفسه ثم التفت إلى الصانع فقال: وإياك، ويجوز أن يكون تجريدا، فكأن عمر بعد أن أخبر عن نفسه جرد عنها شخصا ثم خاطبه بذلك. الوجه
204

الثالث: قال عياض: كن الناس، بحذف الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون: من كن يكن، وهو صيغة أمر، وأصله أكن بالهمزة حذفت تخفيفا على غير قياس. الوجه الرابع: كن، بضم الكاف، من: كن فهو مكنون، وهذا له وجه، ولكن الرواية لا تساعده. قوله: (وإياك)، كلمة تحذير أي: احذر من أن تحمر. وكلمة: أن،
مصدرية، ومفعول: تحمر، محذوف تقديره: إياك تحمير المسجد أو تصفيره، ومراده الزخرفة. وقد روى ابن ماجة من طريق عمرو بن ميمون عن عمر رضي ا تعالى عنه، مرفوعا: (ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم). قوله: (فتفتن الناس)، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الفاء: من فتن يفتن، من باب ضرب يضرب، فتنا وفتونا إذا امتحنته، وضبطه ابن التين بضم تاء الخطاب من أفتن، والأصمعي أنكر هذا، وأبو عبيد أجازه، وقال: فتن وافتن بمعنى، وهو قليل، والفتنة اسم وهو في الأصل الامتحان والاختبار، ثم كثر استعمالها بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء. وقال الكرماني: ويفتن من الفتنة، وفي بعضها من التفتين. قلت: إذا كان من التفتين يكون من باب التفعيل، وماضيه: فتن، بتشديد التاء، وعلى ضبط ابن التين يكون من باب الإفعال وهو الإفتان بكسر الهمزة، وعلى كل حال هو بفتح النون لأنه معطوف على المنصوب بكلمة. أن.
وقال أنس يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا.
هذا التعليق مرفوع في (صحيح ابن خزيمة): عن محمد بن عمرو بن العباس حدثنا سعيد بن عامر عن أبي عامر الخراز قال: قال أبو قلابة: انطلقنا مع أنس نريد الزاوية، نعني قصر أنس، فمررنا بمسجد فحضرت صلاة الصبح فقال أنس: لو صلينا في هذا المسجد، فقال بعض القوم: نأتي المسجد الآخر، فقال أنس: إن رسول الله قال: (يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلا، أو قال: يعمرونها قليلا). ورواه أبو يعلى الموصلي أيضا في (مسنده)، وروى أبو داود في (سننه): حدثنا محمد بن عبد ا الخزاعي حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة وقتادة عن أنس: (إن النبي قال: لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد). وأخرجه النسائي وابن ماجة أيضا، وروى أبو نعيم في (كتاب المساجد) من حديث محمد بن مصعب القرقساني: عن حماد (يتباهى الناس ببناء المساجد)، ومن حديث علي بن حرب: عن سعيد بن عامر عن الخراز: (يتباهون بكثرة المساجد). قوله: (يتباهون)، بفتح الهاء من المباهاة وهي المفاخرة، والمعنى أنهم يزخرفون المساجد ويزينونها ثم يقعودن فيها ويتمارون ويتباهون ولا يشتغلون بالذكر وقراءة القرآن والصلاة. قوله: (بها)، أي: بالمساجد، والسياق يدل عليه. قوله: (إلا قليلا)، بالنصب، ويجوز الرفع من جهة النحو، فإنه بدل من ضمير الفاعل.
وقال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى.
هذا التعليق رواه أبو داود موصولا عن ابن عباس هكذا موقوفا، وروي عنه مرفوعا، قال: حدثنا محمد بن الصباح عن سفيان أخبرنا سفيان بن عيينة عن سفيان الثوري عن أبي فزارة عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس، قال: قال رسول ا: (ما أمرت بتشييد المساجد). قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى، وأبو فزارة اسمه راشد ابن كيسان، وإنما اقتصر البخاري على الموقوف منه ولم يذكر المرفوع منه للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، ويزيد هذا روى له مسلم والأربعة. قوله: (لتزخرفنها) أي: لتزخرفن المساجد، بضم الفاء ونون التأكيد، والضيمر فيه للمذكرين. وأما اللام فيه فقد ذكر الطيبي فيه وجهين. الأول: أن تكون مكسورة، وهي لام التعليل للنفي قبله، والمعنى: ما أمرت بتشييد المساجد لأجل زخرفتها، والتشييد من شيد يشيد: رفع البناء والإحكام، ومنه قوله تعالى: * (ولو كنتم في بروج مشيدة) * (النساء: 87). الوجه الثاني: فتح اللام على أنها جواب القسم، وقال بعضهم: هذا هو المعتمد، والأول لم تثبت به الرواية أصلا. قلت: الذي قاله الطيبي هو الذي يقتضيه الكلام، ولا وجه لمنعه، ودعوى عدم ثبوت الرواية يحتاج إلى برهان. ومعنى الزخرفة: التزيين، يقال: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل، والزخرف: الذهب، والمعنى ههنا: تمويه المساجد بالذهب ونحوه كما زخرفت اليهود كنائسهم والنصارى بيعهم. قال الخطابي: وإنما زخرفت اليهود والنصارى كنائسها وبيعها حين حرفت الكتب وبدلتها فضيعوا الدين وعرجوا على الزخاريف والتزيين. وقال محيي السنة: إنهم زخرفوا المساجد عندما بدلوا
205

دينهم وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم وسيصير أمركم إلى المراآة بالمساجد والمباهة بتزيينها، وبهذا استدل أصحابنا على أن نقش المسجد وتزيينه مكروه، وقول بعض صحابنا: ولا بأس بنقش المسجد، معناه تركه أولى ولا يجوز من مال الوقف، ويغرم الذي يخرجه سواء كان ناظرا أو غيره.
فإن قلت: ما وجه الكراهة إذا كان من ماله دون مال الوقف؟ قلت: ما اشتغال المصلي به، وإما إخراج المال في غير وجهه.
644 ح دثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال حدثني أبي عن صالح بن كيسان قال حدثنا نافع أن عبد الله أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمرو بناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج.
مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: علي بن عبد ا بن جعفر بن نجيح أبو الحسن، يقال له ابن المديني البصري. الثاني: يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أصله مدني كان بالعراق. الثالث: أبوه إبراهيم بن سعد. الرابع: صالح بن كيسان أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز. الخامس: نافع مولى ابن عمر. السادس: عبد ا بن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني. وفيه: رواية الأقران وهي رواية صالح عن نافع لأنهما من طبقة واحدة. وفيه: رواية التابعي عن التابعي لأن صالحا ونافعا كلاهما تابعيان. وفيه: زاد الأصيلي لفظة: ابن سعد، بعد قوله: حدثنا يعقوب ابن إبراهيم.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن يحيى بن فارس ومجاهد بن موسى وهو أتم، قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم إلى آخره.
ذكر معناه قوله: (كان على عهد رسول ا) أي: في زمانه وأيامه. قوله: (باللبن)، بفتح اللام وكسر الباء الموحدة، وقد مر تفسيره عن قريب، وكذلك معنى الجريد مر عن قريب. و: (العمد)، بضمتين وفتحتين أيضا، وقد ذكرناه. قوله: (فلم يزد فيه أبو بكر رضي ا تعالى عنه)، يعني: لم يغير فيه شيئا بالزيادة والنقصان. قوله: (وزاد فيه عمر رضي ا تعالى عنه)، يعني: في الطول والعرض ولم يغير في بنائه بل بناه على بينان النبي عليه الصلاة والسلام. قوله: (في عهد رسول ا)، إما صفة للبنيان أو حال، وإنما غير عمده لأنها تلفت. قال السهيلي: نخرت عمده في خلافة عمر فجددها، وهو معنى قوله: (وأعاد عمده خشبا). قوله: (ثم غير عثمان)، يعني من جهة التوسيع وتغيير الآلات. قوله: (بحجارة منقوشة) هكذا في رواية الحموي والمستملي، وفي رواية غيرهما (بالحجارة المنقوشة)، يعني: بدل اللبن. قوله: (والقصة) أي: وبالقصة، بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة، وهي الجص بلغة أهل الحجاز. قلت: الجص: لغة فارسية معربة وأصلها: كج، وفيه لغتان: فتح الجيم وكسرها، وهو الذي يسميه أهل مصر جيرا، وأهل البلاد الشامية يسمونه: كلسا. قوله: (وجعل عمده) عطف على قوله: (وبنى جداره). قوله: (وسقفه) بلفظ الماضي من التسقيف من باب التفعيل عطفا على جعل، ويروى بلفظ الاسم عطفا على عمده. قوله: (بالساج)، بالسين المهملة وبالجيم: وهو ضرب من الخشب معروف يؤتى به من الهند وله قيمة.
ذكر ما يستنبط منه قال ابن بطال: ما ذكره البخاري في هذا الباب يدل على أن السنة في بينيان المساجد القصد وترك الغلو في تشييدها خشية الفتنة والمباهاة ببنيانها، وكان عمر رضي ا تعالى عنه، مع الفتوح التي كانت في أيامه وتمكنه
206

من المال لم يغير المسجد عن بنيانه الذي كان عليه في عهد النبي، ثم جاء الأمر إلى عثمان والمال في زمانه أكثر ولم يزد على أن يجعل مكان اللبن حجارة وقصة وسقفه بالساج مكان الجريد، فلم يقصر هو وعمر رضي ا عنهما، عن البلوغ في تشييده إلى أبلغ الغايات، إلا عن علمهما بكراهة النبي ذلك، وليقتدي بهما في الأخذ من الدنيا بالقصد والزهد والكفاية في معالي أمورها وإيثار البلغة منها.
قلت: أول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك بن مروان، وذلك في أواخر عصر الصحابة رضي ا تعالى عنهم، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفا من الفتنة. وقال ابن المنير: لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها فانتدب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة. وقال بعضهم: ورخص في ذلك بعضهم، وهو قول أبي حنيفة إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد، ولم يقع الصرف على ذلك من بيت المال. قلت: مذهب أصحابنا أن ذلك مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقش المسجد، معناه: تركه أولى، وقد مر الكلام فيه عن قريب.
36
((باب التعاون في بناء المسجد))
أي: هذا باب في بيان تعاون الناس بعضهم بعضا في بناء المسجد، وأشار بهذا إلى أن في ذلك أجرا، ومن زاد في عمله في ذلك زاد في أجره، وفي بعض النسخ: في باء المساجد، بلفظ الجمع.
وقول الله * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) * (التوبة: 71 81).
13
50 كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: (* (ما كان للمشركين إن يعمروا مساجد ا) *) إلى قوله: * (المهتدين) * (التوبة: 71 81) ولم يقع في روايته لفظ: وقول ا عز وجل.
وسبب نزول هذه الآية أنه لما أسر العباس، رضي ا تعالى عنه، يوم بدر، أقبل عليه المسلمون فعيرونه بالكفر وأغلظ له علي رضي ا تعالى عنه، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا دون محاسننا؟ فقال له لي ألكم محاسن؟ قال؛ نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل ا تعالى هذه الآية. وقال بعضهم في توجيه ذكر البخاري هذه الآية ههنا وذكره هذه الآية مصير منه إلى ترجيح أحد الاحتمالين من أحد الاحتمالين، وذلك أن قوله تعالى: * (مساجد ا) * (التوبة: 71 81) يحتمل أن يراد بها مواضع السجود، ويحتمل أن يراد بها الأماكن المتخذة لإقامة الصلاة، وعلى الثاني يحتمل أن يراد بعمارتها بنيانها، ويحتمل أن يراد الإقامة فيها لذكر ا تعالى قلت: هذا الذي قاله هذا القائل لا يناسب معنى هذه الآية أصلا، وإنما يناسب معنى قوله تعالى: * (إنما يعمر مساجد ا من آمن با واليوم الآخر...) * (التوبة: 81) الآية، على أن أحدا من المفسرين لم يذكر هذا الوجه الذي ذكره هذا القائل، وإنما هذا تصرف منه بالرأي في القرآن فلا يجوز ذلك، ويجب الإعراض عن هذا. قال المفسرون: معنى هذه الآية: ما ينبغي للمشركين با أن يعمروا مساجد ا التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ومن قرأ مسجد ا أراد به المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض التي بنى من أول يوم على عبادة ا تعالى وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. وقال الزمخشري: أما القراءة بالجمع ففيها وجهان: أحدهما: أن يراد به المسجد الحرام؟ وإنما قيل: مساجد ا لأنه قبلة المساجد كلها، وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد.
والثاني: أن يراد به جنس المساجد، فإذا لم يصلحوا أن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد، لأن
طريقه طريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب ا، كنت أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك، ثم إن البخاري ذكر هذه الآية من جملة الترجمة وحديث الباب لا يطابقها، ولو ذكر قوله تعالى: * (إنما يعمر مساجد ا من آمن با...) * (التوبة: 81) الآية لكان أجدر وأقرب للمطابقة ولكن يمكن أن يوجه ذلك وإن كان فيه بعض تعسف، وهو أن يقال: إنه أشار به إلى أن التعاون في بناء المساجد المعتبر الذي فيه الأجر إنما كان للمؤمنين، ولم يكن ذلك للكافرين، وإن كانوا بنوا
207

مساجد ليتعبدوا فيها بعبدتهم الباطلة، ألا ترى أن العباس رضي ا تعالى عنه، لما أسر يوم بدر وعير بكفره وأغلظ له علي رضي ا تعالى عنه، ادعى أنهم كانوا يعمرون المسجد الحرام، فبين ا لهم ذلك أنه غير مقبول منهم لكفرهم حيث أنزل على نبيه الكريم: * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد ا) * (التوبة: 71) كما ذكرناه الآن، ثم أنزل في حق المسلمين الذين يتعاونون في بناء المساجد قوله: * (إنما يعمر مساجد ا من آمن با...) * (التوبة: 81) الآية، والمعنى: إنما العمارة المعتد بها عمارة من آمن با، فجعل عمارة غيرهم كلا عمارة حيث ذكرها بكلمة الحصر، وروى عبد بن حميد في مسنده: حدثنا يونس بن محمد حدثنا صالح المزي عن ثابت البناني وميمون بن سياه وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك، قال: قال رسول ا: (إن عمار المسجد هم أهل ا)، ورواه الحافظ أبو بكر البزار أيضا، ولا شك أن أهل ا هم المؤمنون.
744701 ح دثنا مسدد قال حدثنا عبد العزيز بن مختار قال حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي إنطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبي ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد فقال كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي فنفض التراب عنه وقال ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قال يقول عمار أعوذ بالله من الفتن. (الحديث 744 طرفه في: 2182).
مطابقته للترجمة الأولى ظاهرة، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
ذكر رجاله وهم ستة. الأول: مسدد بن مسرهد، وقد تكرر ذكره. الثاني: عبد العزيز بن مختار أبو إسحاق الدباغ البصري الأنصاري. الثالث: خالد بن مهران الحذاء، بفتح الحاء المهملة وتشديد الذال المعجمة، وقد تقدم. الرابع: عكرمة مولى ابن عباس. الخامس: علي بن عبد ا بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي أبو الحسن، ويقال: أبو محمد، كان مولده ليلة قتل علي بن أبي طالب فسمى باسمه وكنى بكنيته، وكان غاية في العبادة والزهد والعلم والعمل وحسن الشكل والفقهه، وكان يصلي كل يوم ألف ركعة، هو جد السفاح والمنصور الخليفتين، وكان يدعى: السجاد، لذلك. وكان له خمسمائة أصل زيتون يصلي كل يوم عند أصل كل شجرة ركعتين، مات بعد العشرين ومائة، إما سنة أربع عشرة أو سبع عشرة أو عشر، عن ثمان أو تسع وسبعين سنة. السادس: أبو سعيد الخدري رضي ا عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول. وفيه: أن إسناده كله بصري لأن ابن عباس أقام أميرا على البصرة مدة، وعكرمة مولاه معه.
ذكر تعدد موضعه: أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن إبراهيم بن موسى.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (ولابنه)، الضمير فيه يرجع إلى ابن عباس. قوله: (فإذا هو)، كلمة: إذا، ههنا للمفاجأة، أي: فإذا أبو سعيد الخدري في حائط، أي: بستان. وسمي به لأنه لا سقف له. قوله: (يصلحه) جملة في محل الرفع لأنها خبر لقوله: هو، ولفظ البخاري في باب الجهاد: (فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيانه) قيل: أخوه هذا لأمه، وهو قتادة بن النعمان، ورد بأن هذا لا يصح، لأن علي بن عبد ا بن عباس ولد في آخر خلافة علي بن أبي طالب، ومات قتادة بن النعمان قبل ذلك في أواخر خلافة عمر بن الخطاب رضي ا تعالى عنه، وليس لأبي سعيد أخ شقيق ولا أخ من أبيه ولا من أمه إلا قتادة، فيحتمل أن يكون المذكور أخاه من الرضاعة، وا تعالى أعلم. قوله: (فاحتبى)، بالحاء المهملة وبالباء الموحدة بعد التاء المثناة من فوق، يقال؛ احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيديه. قوله: (أنشأ) بمعنى: طفق، وهما من أفعال المقاربة وضعا للدلالة على الشروع في الخبر، ويعملان عمل: كان إلا أن خبرهما يجب أن يكون جملة، ويشاركهما في هذا الذي ذكرناه: جعل وعلق وأخذ.
قوله: (يحدثنا) في محل النصب لأنه خبر: أنشأ. قوله: (حتى أتى) وفي رواية كريمة: (حتى إذا أتى). قوله: (بناء المسجد)، أي: المسجد النبوي، فالألف واللام فيه للعهد. قوله: (قال): أي أبو سعيد الخدري. قوله: (لبنة)، بفتح اللام وكسر الباء الموحدة بعدها النون: وهي الطوب النيء، وانتصابها على أنها مفعول: نحمل، وانتصاب
208

الثانية بأنه تأكيد لها. قوله: (وعمار) أي: يحمل عمار بن ياسر لبنتين لبنتين. زاد معمر في روايته: (لبنة عنه ولبنة عن رسول ا). وفيه زيادة أيضا لم يذكرها البخاري، ووقعت عند الإسماعيلي وأبي نعيم في (المستخرج) من طريق خالد الواسطي: عن خالد الحذاء، وهي: (فقال النبي: يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد من ا الأجر).
قوله: (فرآه النبي)، الضمير المنصوب فيه يرجع إلى عمار. قوله: (فنفض التراب عنه)، ويروى: (فينفض التراب عنه)، وفيه التعبير بصيغة المضارع في موضع الماضي لاستحضار ذلك في نفس السامع كأنه شاهده، وفي رواية الكشميهني: (فجعل ينفض التراب عنه). وفي لفظ للبخاري في باب الجهاد: (عن رأسه)، وكذا في رواية مسلم. قوله: (ويح عمار)، كلمة: ويح، كلمة رحمة كما أن كلمة: ويل، كلمة عذاب. تقول: ويح لزيد وويل له، برفعهما على الابتداء، ولك أن تقول: ويحا لزيد وويلا له، فتنصبهما بإضمار فعل، وأن تقول: ويحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بالإضافة فتنصب أيضا بإضمار الفعل، وههنا بنصب الحاء لا غير. قوله: (الفئة) هي الجماعة: و: (الباغية) هم الذين خالفوا الإمام وخرجوا عن طاعته بتأويل باطل ظنا بمتبوع مطاع. قوله: (يدعوهم) أي: يدعو عمار
الفئة الباغية وهم الذين قتلوه في وقعة صفين، وأعيد الضمير إليهم، وهم غير مذكورين صريحا. قوله: (إلى الجنة) أي: إلى سببها، وهي الطاعة. كما أن سبب النار هو المعصية. قوله: (ويدعونه إلى النار)، أي: يدعو هؤلاء الفئة الباغية عمارا إلى النار. فإن قيل: كان قتل عمار بصفين، وكان مع علي رضي ا تعالى عنه، وكان الذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز أن يدعوه إلى النار؟ فأجاب ابن بطال عن ذلك فقال: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي عمارا يدعوهم إلى الجماعة، وليس يصح في أحد من الصحابة لأنه لا يجوز أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل. قلت: تبع ابن بطال في ذلك المهلب، وتابعه على ذلك جماعة في هذا الجواب، ولكن لا يصح هذا، لأن الخوارج إنما خرجوا على علي رضي ا تعالى عنه، بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم بذلك، لأن ابتداء أمرهم كان عقيب التحكيم بين علي ومعاوية، ولم يكن التحكيم إلا بعد انتهاء القتال بصفين، وكان قتل عمار قبل ذلك قطعا، وأجاب بعضهم بأن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش، وهذا أيضا لا يصح، لأنه وقع في رواية ابن السكن وكريمة وغيرهما زيادة توضيح بأن الضمير يعود على قتلة عمار، وهم أهل الشام. وقال الحميدي: لعل هذه الزيادة لم تقع للبخاري، أو وقعت فحذفها عمدا ولم يذكرها في الجمع. قال: وقد أخرجها الإسماعيلي والبرقاني في هذا الحديث، والجواب الصحيح في هذا أنهم كانوا مجتهدين ظانين أنهم يدعونه إلى الجنة، وإن كان في نفس الأمر خلاف ذلك، فلا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فإن قلت: المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، فكيف الأمر ههنا. قلت: الذي قلنا جواب إقناعي فلا يليق أن يذكر في حق الصحابة خلاف ذلك، لأن ا تعالى أثنى عليهم وشهد لهم بالفضل، بقوله: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 011)، قال المفسرون: هم أصحاب محمد.
ذكر ما يستنبط منه من الفوائد فيه: أن التعاون في بنيان المسجد من أفضل الأعمال لأنه مما يجري للإنسان أجره بعد موته، ومثل ذلك حفر الآبار وكري الأنهار وتحبيس الأموال التييعم العامة نفعها. وفيه: الحث على أخذ العلم من كل أحد وإن كان الآخذ أفضل من المأخوذ منه، ألا ترى أن ابن عباس مع سعة علمه أمر ابنه عليا بالأخذ عن أبي سعيد الخدري؟ قيل: يحتمل أن يكون إرسال ابن عباس إليه لطلب علو الإسناد، لأن أبا سعيد أقدم صحبة وأكثر سماعا من النبي. قلت: مع هذا لا ينافي ذلك ما ذكرناه. وفيه: أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له جلسة. وفيه: ترك التحديث في حالة المهنة إعظاما للحديث وتوقيرا لصحابه. وهكذا كان السلف. وفيه: أن للإنسان أن يأخذ من أفعال البر ما يشق عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين. وفيه: إكرام العامل في سبيل ا والإحسان إليه بالفعل والقول. وفيه: علامة النبوة لأنه أخبر بما يكون فكان كما قال. وفيه: إصلاح الشخص: بما يتعلق بأمر ديناه كإصلاح بستانه وكرمه بنفسه وكان السلف على ذلك لأن فيه إظهار التواضع ودفع الكبر وهما من أفضل الأعمال الصالحة. وفيه: فضيلة ظاهرة لعلي وعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه. وفيه: استحباب الاستعاذة من الفتن لأنه لا يدري أحد في الفتنة أمأجور هو أم مأزور؟ إلا بغلبة الظن، ولو كان مأورا لما استعاذ عمار من الأجر.
209

وقال ابن بطال. وفيه: رد للحديث الشائع: (لا تستعيذوا با من الفتن فإن فيها حصار المناقين) قلت: ويروى: (لا تكرهوا الفتن)، ولكن لم يصح هذا، فإن عبد ا بن وهب قد سئل عن ذلك فقال؛ إنه باطل.
46
((باب الأستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد))
أي: هذا باب في بيان الاستعانة (بالنجار) على وزن: فعال، بالتشديد وهو الذي يعمل صنعة النجارة. قوله: (والصناع) أي: والاستعانة بالصناع، بضم الصاد وتشديد النون، جمع: صانع وهو من قبيل عطف العام على الخاص. وقال بعضهم: فيه لف ونشر، فقوله: (في أعواد المنبر) يتعلق بالنجار، وقوله: (والمسجد)، يتعلق بالصناع أي: والاستعانة بالصناع في المسجد، أي في بناء المسجد. قلت: لا يصح ذلك من حيث المعنى لأن النجار داخل في الصناع، وشرط اللف والنشر أن يكون من متعدد. فافهم.
844801 ح دثنا قتيبة قال حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم عن سهل قال بعث رسول الله إلى امرأة أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن..
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد. الثاني: عبد العزيز بن أبي حازم، واسمه سلمة بن دينار، يروي عن أبيه أبي حازم وهو الثالث: الرابع: سهل بن سعد الساعدي، وقد مر في باب الصلاة في المنبر والسطوح، وكذلك حديثه بأتم منه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن رواته ما بين بلخي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن علي بن عبد ا. وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد ذكرناه في باب الصلاة في المنبر.
ذكر معناه وإعرابه. قوله: (إلى امرأة): هي أنصارية، وقد بينا الاختلاف في اسمها. في باب الصلاة في المنبر وكذلك في اسم غلامها. قوله: (أن مري) أن: هذه مفسرة بمنزلة: أي، كما في قوله تعالى: * (فأوحينا إليه أن أصنع الفلك) * (المؤمنون: 72) ويحتمل أن تكون مصدرية بأن يقدر قبلها حرف الجر، وعن الكوفيين إنكار بأن، التفسيرية البتة، ويروى: (مري) بدون: أن ومري: أمر من أمر يأمر، والياء علامة الخطاب للمؤنث. قوله: (يعمل)، مجزوم لأنه جواب الأمر. قوله: (أعوادا) أي: منبرا مركبا منها. قوله: (أجلس)، بالرفع أي: أنا أجلس عليها.
وههنا مسألة أصولية وهي أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء أم لا؟ وهل الغلام مأمور من قبل رسول الله أم لا؟ وفيه الخلاف، والأصح عدمه. وساق البخاري هذا الحديث في البيوع بهذا الإسناد بتمامه، وههنا اختصره.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الاستعانة بأهل الصنعة فيما يشمل المسلمين نفعه. وفيه: التقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير.
944901 ح دثنا خلاد قال حدثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر أن امرأة قالت يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه فإن لي غلاما نجارا قال إن شئت فعملت المنبر. (الحديث 944 أطرافه في: 819، 5902، 4853، 5853).
قال الكرماني: الحديث لا يدل على الشق الآخر من الترجمة، وهو؛ ذكر الصناع والمسجد. ثم قال: قلت: إما أنه اكتفى بالنجار والمنبر لأن الباقي يعلم منه، وإما أنه أراد أن يلحق إليه ما يتعلق بذلك، ولم يتفق له ولم يثبت عنده بشرطه ما يدل عليه. قلت: الجواب الأول أوجه من الثاني.
ذكر رجاله: وهم أربعة. الأول: خلاد، بتفح الخاء المعجمة وتشديد اللام: وهو ابن يحيى، سبق في باب الصلاة إذا قدم من سفره. الثاني: عبد الواحد بن أيمن، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الميم وفي آخره نون: الحبشي المكي القرشي المخزومي، وعبد الواحد هذا يروي عن أبيه أيمن هذا، وأبوه هو الثالث، وهو يروي عن جابر بن عبد ا رضي ا تعالى عنهما وهو الرابع.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومكي.
ذكر تعدد موضعه أخرجه
210

البخاري في البيوع أيضا عن خلاد بن يحيى أيضا، وأخرجه في علامة النبوة عن أبي نعيم.
ذكر معناه قوله: (أن امرأة)، هي التي ذكرت في حديث سهل بن سعد المذكور آنفا. قوله: (ألا؟) هي مخففة مركبة من همزة الاستفهام و: لا، النافية، وليست حرف التنبيه ولا حرف التحضيض. قوله: (فإن لي غلاما نجارا)، وفي رواية الكشميهني: (فإن لي غلام نجار). قوله: (إن شئت)، جزاؤه محذوف تقديره: إن شئت عملت، ويروى: (إن شئت فعلت)، بلا حذف. قوله: (فعملت)، أي: المرأة عملت المنبر، وهذا إسناد مجازي، لأن العامل هو الغلام وهي الآمرة، وهو من قبيل قولهم: كسا الخليفة الكعبة. قيل: هذا الحديث لا يدل على الاستعانة، لأن هذه المرأة قالت ذلك من تلقاء نفسها، أجيب: بأنها استعانة بالغلام في نجارة المنبر.
ومن فوائد هذا الحديث: قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن تعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير. وقال ابن بطال. فإن قلت: الحديثان متخالفان، ففي حديث سهل: أن النبي سأل المرأة أن تأمر عبدها بعمل المنبر، وفي حديث جابر: أن المرأة سألت النبي ذلك. قلت: يحتمل أن تكون المرأة بدأت بالمسألة، فلما أبطأ الغلام بعمله استنجزها إتمامه، إذ علم طيب نفس المرأة بما بذلته من صنعة غلامها، ويمكن أن يكون إرساله إلى المرأة ليعرفها صنعة ما يصنع الغلام من الأعواد.
56
((باب من بنى مسجدا))
أي: هذا باب في بيان فضل من بنى مسجدا.
110 - (حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب أخبرني عمرو أن بكيرا حدثه أن عاصم بن عمر بن قتادة حدثه أنه سمع عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول
إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي
يقول من بنى مسجدا قال بكير حسبت أنه قال يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة لأن الباب في بيان فضل من بنى المسجد
(ذكر رجاله) وهم سبعة. الأول يحيى بن سليمان الجعفي مر في باب كتابة العلم. الثاني عبد الله بن وهب وقد مر أيضا غير مرة. الثالث عمرو بفتح العين ابن الحارث الملقب بدرة الغواص مر في باب المسح على الخفين. الرابع بكير مصغر مخفف ابن عبد الله الأشج المدني خرج قديما إلى مصر فنزل بها. الخامس عاصم بن عمر بضم العين الأوسي الأنصاري مات بالمدينة سنة عشرين ومائة. السادس عبيد الله بتصغير العبد ابن الأسود الخولاني بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبالنون ربيب ميمونة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. السابع عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضعين وفيه الإخبار بصيغة الأفراد في موضع وفيه السماع في موضعين وفيه ثلاثة من التابعين في نسق واحد وهم بكير وعاصم وعبد الله وفيه ثلاثة من أول الإسناد مصريون وثلاثة من آخره مدنيون وفي وسطه مدني سكن مصر وهو بكير
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في آخر الكتاب عن هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى عن ابن وهب إلى آخره وأخرجه أيضا في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي بكر الحنفي وعبد الملك بن الصباح وفيه وفي آخر الكتاب عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى كلاهما عن الضحاك بن مخلد ثلاثتهم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن محمود بن لبيد عن عثمان بن عفان وأخرجه الترمذي في الصلاة عن بندار عن أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن محمود بن لبيد
عن عثمان إلى آخره وقال حديث حسن صحيح وأخرجه ابن ماجة عن بندار عن أبي بكر
211

الحنفي وقال الترمذي وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعلي وعبد الله بن عمرو وأنس وابن عباس وعائشة وأم حبيبة وأبي ذر وعمرو بن عنبسة وواثلة بن الأسقع وأبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهم. (قلت) حديث أبي بكر رواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية وهب بن حفص عن حبيب بن نوح عن محمد بن طلحة بن مصرف عن أبيه عن مرة الطيب عن أبي بكر الصديق فذكره ووهب بن حفص ضعيف وفي علل أبي حاتم الرازي قال هو منكر عن أبي بكر الصديق ' من بنى مسجدا لله ولو مثل مفحص قطاة '. وحديث علي رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن حبان ' من بني لله مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة '. وحديث عمر رضي الله تعالى عنه عند ابن ماجة من حديث عروة عن علي قال قال رسول الله
' من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة ' وإسناده ضعيف. وحديث عبد الله بن عمرو عند أبي نعيم الأصبهاني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وزاد ' أوسع منه ' وروى أحمد أيضا نحوه. وحديث أنس عند الترمذي رواه عن قتيبة بن سعيد حدثنا نوح بن قيس عن عبد الرحمن مولى قيس عن زياد النميري عن أنس قال قال رسول الله
' من بنى لله مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى الله له بيتا في الجنة ' وأخرجه أيضا أبو نعيم ولفظه ' من بني مسجدا لله في الدنيا يريد به وجه الله قالوا إذا نكثر يا رسول الله قال الله أكثر ' وفي لفظ ' كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا مسجدا فإن له به قصرا في الجنة من لؤلؤ '. وحديث ابن عباس عند أبي مسلم الكجي مثله وزاد ' ولو كمفحص قطاة '. وحديث عائشة عند مسدد في مسنده الكبير عن أبي داود عن كثير بن عبد الرحمن الطحان عن عطاء عن عائشة أنها قالت قال رسول الله
' من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة قلت يا رسول الله وهذه المساجد التي في طريق مكة قال وتلك '. وحديث أم حبيبة عند الطبراني في الأوسط. وحديث أبي ذر عند البزار. وحديث عمرو بن عنبسة عند النسائي. وحديث واثلة بن الأسقع عند الطبراني في معجمه الكبير ' من بني مسجدا يصلى فيه بنى الله له بيتا في الجنة أفضل منه '. وحديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط وعند البيهقي في شعب الإيمان ' من بني بيتا يعبد الله فيه حلالا بنى الله له بيتا في الجنة من الدر والياقوت ' * وحديث جابر عند ابن خزيمة ' من حفر ماء لم يشرب منه كبد حي من جن ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة ومن بنى مسجدا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا في الجنة ' (قلت) وفي الباب عن أبي قرصافة ونبيط بن شريط وعمر بن مالك وأسماء بنت يزيد ومعاذ وأبي أمامة وعبد الله بن أبي أوفى وأبي موسى وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم * فحديث أبي قرصافة واسمه جندرة بن خيشنة عند الطبراني في الكبير أنه سمع النبي
يقول ' ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها فمن بنى ' فذكره وزاد ' قال رجل يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطريق قال نعم وإخراج القمامة منها مهور حور العين ' وفي إسناده جهالة. وحديث نبيط عنده أيضا في الصغير. وحديث عمر بن مالك عند أبي موسى المديني في كتاب الصحابة ولفظه ' من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة '. وحديث أسماء بنت يزيد عند الطبراني نحوه ورواه أبو نعيم ولفظه ' من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه ' وحديث معاذ عند أبي الفرج في كتاب العلل ' من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ' ومن علق فيه قنديلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يطفى ذلك القنديل ومن بسط فيه حصيرا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يتقطع ذلك الحصير ومن أخرجه منه قذاة كان له كفلان من الأجر ' وفيه كلام كثير. وحديث أبي أمامة عند أبي نعيم ' لا يبني أحد مسجدا لله إلا بنى الله له بيتا في الجنة أوسع منه '. وحديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه الحافظ عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في جزء جمعه. وحديث أبي موسى كذلك. وحديث عبد الله بن عمر عند البزار والطبراني في الأوسط من رواية الحكم بن ظهير وهو متروك عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر فذكره وزاد فيه الطبراني ' ولو كمفحص قطاة ' فهؤلاء ثلاثة وعشرون صحابيا
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' يقول ' جملة وقعت حالا عن عثمان قوله ' عند قول الناس فيه ' أي في عثمان وذلك أن بعضهم أنكر عليه عند تغييره بناء المسجد وجعله بالحجارة المنقوشة والقصة ووقع بيان ذلك عند مسلم حيث أخرجه
212

من طريق محمود بن لبيد الأنصاري وهو من صغار الصحابة قال ' لما أراد عثمان رضي الله تعالى عنه بناء المسجد كره الناس ذلك وأحبوا أن يدعوه على هيئته ' أي في عهد النبي
قوله ' حين بنى ' أي حين أراد عثمان أن يبني ولم يبن عثمان إنشاء وإنما وسعه وشيده وقد ذكرناه في باب بنيان المسجد وقال بعضهم فيؤخذ منه إطلاق البناء في حق من جدد كما يطلق في حق من أنشأ أو المراد بالمسجد ههنا بعض المسجد من إطلاق الكل على البعض (قلت) ذكر هذا القائل شيئين الأول مستغنى عنه فلا حاجة إلى ذكره والثاني لا يصح لأنه ذكر في باب بنيان المسجد حديث عبد الله بن عمر وفيه ' ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بحجارة منقوشة والقصة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ' انتهى فهذا يدل على أنه غير الكل وزاد فيه يعني في الطول والعرض وكان المسجد مبنيا باللبن وسقفه بالجريد وعمده خشب النخل وبناه عثمان بالحجارة وجعل عمده بالحجارة وسقفه بالساج فكيف يقول هذا القائل أو المراد بالمسجد هنا بعض المسجد فهذا كلام من لم يتأمل ويتصرف من غير وجه قوله ' مسجد الرسول ' كذا في رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني والحموي ' مسجد رسول الله
' قوله ' إنكم أكثرتم ' مقولة لقوله يقول ومفعوله محذوف للعلم به والتقدير أنكم أكثرتم الكلام في الإنكار على فعلى قوله ' من بنى مسجدا ' التنوين فيه للشيوع فيتناول من بنى مسجدا كبيرا أو صغيرا يدل عليه حديث أنس الذي أخرجه الترمذي بهذا اللفظ على ما ذكرناه وروى ابن أبي شيبة حديث الباب عن عثمان من وجه آخر وزاد فيه ' ولو كمفحص قطاة ' وفي حديث جابر ' كمفحص قطاة أو أصغر ' وللعلماء في توجيه هذا قولان فقال أكثرهم هذا محمول على المبالغة لأن المكان الذي تفحص القطاة عنه
لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقدار للصلاة فيه ويؤيده حديث جابر الذي ذكرناه وقال آخرون هو على ظاهره فالمعنى على هذا أن يزيد في مسجد قدرا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة على هذا القدر أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر قيل هذا كله بناء على أن المراد من المسجد ما يتبادر إليه الذهن وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه فإن كان المراد بالمسجد موضع السجود وهو ما يسع الجهة فلا يحتاج إلى شيء مما ذكر (قلت) قوله ' من بنى ' يقتضي وجود بناء على الحقيقة فيحمل على المسجد المعهود بين الناس ويؤيد ذلك حديث أم حبيبة ' من بني لله بيتا ' وقد ذكرناه عن قريب وحديث عمر رضي الله تعالى عنه أيضا ' من بنى لله مسجدا يذكر فيه اسم الله ' وكل ذلك يدل على أن المراد بالمسجد هو المكان المتخذ لا موضع السجود فقط وهو الذي ذهب إليه الفرقة الأولى ولكن لا يمنع إرادة موضع السجود مجازا فيدخل فيه المواضع المحوطة إلى جهة القبلة وفيها هيئة المحراب في طرقات المسافرين والحال أنها ليست كالمساجد المبنية بالجدران والسقوف وربما يجعل منها موضع في غاية الصغر يدل عليه حديث أبي قرصافة الذي ذكرناه قوله ' قال بكير حسبت أنه ' أي أن عاصم بن عمر بن قتادة وهو شيخه الذي روى عنه هذا الحديث قال في روايته ' يبتغي به وجه الله ' وهذه الجملة مدرجة معترضة وقعت في البين ولم يجزم بها بكير فلذلك ذكرها بالحسبان وليست هذه الجملة في رواية جميع من روى هذا الحديث فإن لفظهم فيه ' من بني لله مسجدا بنى الله له مثله في الجنة ' فكأن بكير أنسى لفظة الله فذكرها بالمعنى فإن معنى قوله ' لله ' يبتغي به وجه الله لاشتراكهما في المعنى المقصود وهو الإخلاص ثم إن لفظة يبتغي به على تقدير ثبوتها في كلام الرسول تكون حالا من فاعل بنى والمراد بوجه الله ذات الله وابتغاء وجه الله في العمل هو الإخلاص وهو أن تكون نيته في ذلك طلب مرضاة الله تعالى من دون رياء وسمعة حتى قال ابن الجوزي من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدا من الإخلاص (فإن قلت) فعلى هذا لا يحصل الوعد المخصوص لمن يبنيه بالأجرة لعدم الإخلاص (قلت) الظاهر هذا ولكنه يؤجر في الجملة يدل عليه ما رواه أصحاب السنن وابن خزيمة والحاكم من حديث عقبة بن عامر مرفوعا ' أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه المحتسب في صنعته والرامي به والممد به ' فقوله ' المحتسب في صنعته ' هو من يقصد بذلك إعانة المجاهد وهو أعم من أن يكون متطوعا بذلك أو بأجرة لكن الإخلاص لا يكون إلا من المتطوع (فإن قلت) قوله ' من بنى ' حقيقته أن يباشر البناء بنفسه ليحصل له الوعد المخصوص فلا يدخل فيه الأمر بذلك (قلت) يتناول الأمر أيضا بنيته ' والأعمال بالنيات ' (فإن قلت) يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو
213

ممتنع (قلت) لا امتناع فيه عند الشافعي وأما عند غيره فبعموم المجاز وهو أن يحمل الكلام على معنى مجازي يتناول الحقيقة وهذا يسمى عموم المجاز ولا نزاع في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازي يكون المعنى الحقيقي من أفراده كاستعمال الدابة عرفا فيما يدب على الأرض ومثال ذلك فيمن أوصى لأبناء زيد مثلا وله أبناء وأبناء أبناء يستحق الجميع عند أبي يوسف ومحمد عملا بعموم المجاز حيث يطلق الأبناء على الفريقين قوله ' بنى الله له ' إسناد البناء إلى الله مجازا اتفاقا قطعا (فإن قلت) إظهار الفاعل فيه لماذا (قلت) لأن في تكرار اسمه تعظيما وتلذذا للذاكر قال الشاعر
* أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره
* هو المسك ما كررته يتضوع
*
وقال بعضهم لئلا تتنافر الضمائر أو يتوهم عوده على باني المسجد (قلت) كلا الوجهين غير صحيح أما الأول فلأن التنافر إنما يكون إذا كانت الضمائر كثيرة وأما الثاني فممنوع قطعا للقرينة الحالية والمقالية قوله ' مثله ' منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي بناء مثله والمثل في اللغة الشبه يقال هذا الشيء مثل هذا أي شبهه قال الجوهري مثل كلمة تسوية يقال هذا مثله ومثله كما تقول شبهه وشبهه وعند أهل المعقول المماثلة بين الشيئين هو الاتحاد في النوع كاتحاد زيد وعمرو في الإنسانية وإذا كان في الجنس يسمى مجانسة كاتحاد الإنسان مع الفرس في الحيوانية وقد اختلفوا في المراد بالمثلية ههنا فقال قوم منهم ابن العربي يعني مثله في المقدار والمساحة (قلت) يرد هذا حديث عبد الله بن عمرو ' بيتا أوسع منه ' وكذلك في حديث أسماء وأبي أمامة على ما ذكرناها وقال قوم مثله في الجودة والحصانة وطول البقاء (قلت) هذا ليس بشيء على ما لا يخفى مع أنه ورد في حديث واثلة عند أحمد والطبراني ' بنى الله له بيتا في الجنة أفضل منه ' وقال صاحب المفهم هذه المثلية ليست على ظاهرها وإنما يعنى أنه يبني له بثوابه بيتا أشرف وأعظم وأرفع وقال النووي يحتمل قوله ' مثله ' أمرين أحدهما أن يكون معناه بنى الله له مثله في مسمى البيت وأما صفته في السعة وغيرها فمعلوم فضلها فإنها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر والثاني أن معناه أن فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا (قلت) الوجه الثاني لا يخلو عن بعد وقال بعض شراح الترمذي ويحتمل أنه أراد أن ينبه بقوله ' مثله ' على الحض على المبالغة في إرادة الانتفاع به في الدنيا في كونه ينفع المصلين ويكنهم عن الحر والبرد ويكون في مكان يحتاج إليه ويكثر الانتفاع به ليقابل الانتفاع به في الدنيا انتفاعه هو بما يبنى له في الجنة. وقال صاحب المفهم وهذا البيت والله أعلم مثل بيت خديجة الذي بشرت به ببيت في الجنة من قصب يريد من قصب الزمرد والياقوت (قلت) قد ذكرنا حديث أبي هريرة من (1) عند الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان ' بنى الله له بيتا في الجنة من در (2) وياقوت ' (فإن قلت) قال الله تعالى * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * فما معنى التقييد بمثله (قلت) أجابوا عن هذا بأجوبة. الأول ما قاله بعضهم أنه
قاله قبل نزول هذه الآية (قلت) هذا بعيد ولا يعلم ذلك إلا بالتاريخ. الثاني أن المثلية إنما هي بحسب الكمية والزيادة بحسب الكيفية (قلت) المثلية بحسب الكمية تسمى مساواة كاتحاد مقدار مع آخر في القدر وفي الكيفية تسمى مشابهة. الثالث أن التقييد به لا ينفي الزيادة واستبعده بعضهم وليس ببعيد. الرابع أن المقصود منه بيان المماثلة في أن أجزاء هذه الحسنة من جنس العمل لا من غيره وعندي جواب فتح لي به من الأنوار الإلهية وهو أن المجازاة بالمثل عدل منه والزيادة عليه بحسب الكيفية والكمية
فضل منه قوله ' في الجنة ' قال بعضهم هو متعلق ببنى أو هو حال من قوله مثله (قلت) ليس كذلك وإنما هو متعلق بمحذوف وقع صفة لمثله والتقدير بنى الله له مثله كائنا في الجنة وكيف يكون حالا من مثله وشرط الحال أن يكون من معرفة كما عرف في موضعه ولفظ مثل لا يتعرف وإن أضيف
66
((باب يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد))
أي: هذا باب في بيان أن الشخص يأخذ بنصول السهام إذا مر في مسجد من المساجد، وإنما قدرنا هكذا لئلا يقع لفظ: باب ضائعا، وأيضا فيه بيان أن الضمير المرفوع في: يأخذ، يرجع إلى هذا المقدر، لئلا يكون إضمارا قبل الذكر، وليلتئم التركيب، ولم: أر أحدا من الشراح يذكر شيئا في مثل هذه المواضع، مع أن فيهم من يدعي دعاوي عريضة في هذا الباب
214

وليس له حظ من هذه الدقائق. والنصول: جمع نصل. قال الجوهري: النصل نصل السهم والسيف والرمح، والجمع نصول ونصال. والنبل، بفتح النون وسكون الباء الموحدة وفي آخره لام: السهام العربية، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، وجواب: إذا، هو قوله: يأخذ مقدما.
154111 ح دثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان قال قلت لعمر و أسمعت جابر بن عبد الله يقول مر رجل في المسجد ومعه سهام فقال له رسول الله أمسك بنصالها. (الحديث 154 طرفاه في: 3707، 4707).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه، أمر بإمساك النصال عند المرور في المسجد.
ذكر رجاله وهم أربعة. الأول: قتيبة بن سعيد. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: عمرو بن دينار. الرابع: جابر بن عبد ا الأنصاري.
ذمر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: القول. وفيه: السؤال عن السماع بطريق الاستفهام، ولم يذكر له جواب، قال ابن بطال. فإن قيل: حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد لأنه لم ينقل أن عمرا قال له: نعم. قلنا: قد ذكر البخاري في غير كتاب الصلاة أنه قال: نعم، فبان بقوله: نعم، إسناد الحديث. وقال صاحب (التلويح): هذه مسألة اختلف فيها المحدثون، فمنهم من شرط النطق إذا قال له التلميذ: أخبرك فلان بكذا وكذا، ومنهم من لم يتشرط، وذكر البخاري في موضع آخر عن علي بن عبد ا عن سفيان، فقال: نعم. انتهى. قلت: المذهب الراجح الذي عليه أكثر المحققين منهم البخاري أن قول الشيخ: نعم، لا يشترط، بل يكتفي بسكوت الشيخ إذا كان متيقظا، فعلى هذا فالإسناد في حديث جابر ظاهر، ومع ذلك فقد جاء في رواية الأصيلي أنه قال له: نعم، فانقطع النزاع. وقال بعضهم: حكي عن رواية الأصيلي أنه ذكره في حديثه، فقال: نعم، ولم أره فيها، قلت: عدم رؤيته لا يستلزم عدم الرواية عنه. فإن لم يره هو فقد حكى من هو أكبر منه أنه روي عنه لفظ. نعم.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الفتن عن علي بن عبد ا. وأخرجه مسلم في الأدب عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. وأخرجه النسائي في الصلاة عن عبد ا بن محمد بن عبد الرحمن ومحمد بن منصور. وأخرجه ابن ماجة في الأدب عن هشام بن عمار سبعتهم، عنه به، وأخرجه البخاري أيضا في الفتن عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن عمرو عن جابر، وأخرجه مسلم في الأدب عن يحيى بن يحيى وأبي الربيع عنه به. وأخرجه مسلم في الأدب أيضا عن قتيبة ومحمد بن رمح، كلاهما عن ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر: (أن النبي أمر رجلا كان يتصدق بالنبل في المسجد أن لا يمر بها إلا وهو آخذ بنصولها). وأخرجه أبو داود في الجهاد عن قتيبة به، وأخرجه الطبراني في (معجمه الأوسط) من حديث أبي البلاد عن محمد بن عبد ا، قال: (كنا عند أبي سعيد الخدري، فقلب رجل نبلا فقال أبو سعيد: أما كان هذا يعلم أن رسول الله نهى عن تقليب السلاح وسله) يعني في المسجد.
وروى ابن ماجة من حديث زيد بن جبير، وهو ضعيف، عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر يرفعه: (خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقا، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا يمر فيه بلحم نيء، ولا يضرب فيه حد، ولا يقتص فيه من أحد، ولا يتخذ سوقا). وروي أيضا من حديث الحارث بن نبهان، وهو متروك الحديث، عن عتبة بن يقظان، وهو غير ثقة، عن أبي سعيد، وهو مجهول الحال والعين، عن مكحول عن واثلة، وأنكر سماعه عنه ابن مسهر والحاكم. وقال البخاري في (التاريخ الأوسط) سمع منه أن النبي قال: (جنبوا مساجدنا صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع). وعنده أيضا من حديث ابن عباس: (نزهوا المساجد ولا تتخذوها طرقا، ولا تمر فيه حائض، ولا يقعد فيه جنب إلا عابري سبيل، ولا ينثر فيه نبل، ولا يسل فيه سيف، ولا يضرب به حد، ولا ينشد فيه شعر. فإن أنشد قيل: فض ا فاك).
ذكر ما يستنبط منه فيه: تأكيد حرمة المسلمين، لأن المساجد مورودة بالخلق لا سيما في أوقات الصلاة، وهذا التأكيد من النبي لأنه خشي أن يؤذى بها أحد. وفيه: كريم خلقه ورأفته بالمؤمنين. وفيه: التعظيم لقليل الدم وكثيره. وفيه: أن المسجد يجوز فيه إدخال السلاح.
76
215

2 (باب المرور في المسجد))
أي: هذا باب بيان جواز المرور بالنبل في المسجد إذا أمسك نصاله. وفي هذه الترجمة نوع قصور على ما لا يخفى.
254211 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا أبو بردة بن عبد الله قال سمعت أبا بردة عن أبيه عن النبي قال من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما. (الحديث 254 طرفه في: 5707).
وجه مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (من مر)، فإنه صرح فيه بلفظ المرور، وجعله شرطا، ورتب عليه الجزاء، وهو قوله: (فليأخذ)، فدل هذا على جواز المرور في المسجد بنبل يأخذ نصاله، وبهذا يحصل الجواب عن سؤال الكرماني، حيث قال: فإن قلت: ما وجه تخصيص هذا الحديث يعني حديث أبي موسى الأشعري بهذا الباب، وهو قوله: باب المرور في المسجد، وتخصيص الحديث السابق يعني حديث جابر المذكور بالباب السابق وهو قوله: باب يأخذ بنصول النبل إذا مر في المسجد، أن كلا من الحديثين يدل على كل من الترجمتين؟ وتقرير الجواب: هو أنه نظر إلى لفظ الرسول حيث لم يكن في الأول لفظ المرور، في لفظ الرسول، وفي الثاني ذكره مقصودا بالوجه الذي ذكرناه.
ذكر رجاله وهم خمسة. الأول: موسى بن إسماعيل التبوذكي، وقد مر في باب كتاب الوحي. الثاني: عبد الواحد بن زياد، بكسر الزاي المعجمة بعدها الياء آخر الحروف، وقد مر في باب الجهاد من الإيمان. الثالث: أبو بردة، بضم، الباء الموحدة وسكون الراء، واسمه: بريد، مصغر برد ضد الحر: ابن عبد ا. الرابع: أبو بردة الثاني، واسمه: عامر، وهو جد أبي بردة الأول. الخامس: أبو موسى الأشعري واسمه: عبد ا بن قيس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السماع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية الراوي عن جده وهو أبو بردة الأول يروي عن أبي بردة الثاني، وهو جده، كأنه قال: سمعت جدي يروي عن أبيه. وفيه: رواية الابن عن أبيه الصحابي، وهو رواية أبي بردة. الثاني: عن أبيه أبي موسى الأشعري. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الفتن عن أبي كريب عن أبي أسامة وأخرجه مسلم في الأدب عن أبي كريب وأبي عامر عبد ا بن أبي براد الأشعري. وأخرجه أبو داود عن أبي كريب في الجهاد. وأخرجه ابن ماجة في الأدب عن محمود بن غيلان عن أبي أسامة به.
ذكر معناه وإعرابه. قوله: (من مر)، كلمة: من، موصولة تضمنت معنى الشرط في محل الرفع على الابتداء، وخبره هو. قوله: (فليأخذ). قوله: (أو أسواقنا) كلمة؛ أو، للتنويع من الشارع وليست للشك من الراوي. قوله: (بنبل)، الباء، فيه للمصاحبة معناه: من مر مصاحبا للنبل، وليست: الباء، فيه مثل: الباء في قولك: بزيد، فإنها للإلصاق. قوله: (على نصالها) ضمنت كلمة الأخذ هنا معنى الاستعلاء للمبالغة فعديت بعلى، وإلا فالوجه أن يعدى الأخذ: بالباء. قوله: (لا يعقر) أي: لا يجرح، وهو مرفوع، ويجوز الجزم نظرا إلى أنه جواب الأمر. قوله: (بكفه): الباء، فيه تتعلق بقوله: (فليأخذ) لا بقوله: (لا يعقر) فإن العقر بالكف لا يتصور، ووقع في رواية الأصيلي: (فليأخذ على نصالها بكفه لا يعقر مسلما). وقال الكرماني: يحتمل أن يراد منه كف النفس أي: لا يعقر بكفه نفسه عن الأخذ أي: لا يجرح بسبب تركه أخذ النصال مسلما. قلت: لا يبعد هذا الاحتمال، ولكن الأول راجح ويؤيده رواية مسلم من حديث أبي أسامة: (فليمسك على نصالها بكفه أن يصيب أحدا من المسلمين). وله من طريق ثابت عن أبي بردة: (فليأخذ بنصالها) ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها).
[/
بشر
86
((باب الشعر في المسجد))
أي: هذا باب في بيان حكم الشعر في المسجد، وفي بعض النسخ باب إنشاد الشعر في المسجد.
216

354311 ح دثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة أنشدك الله هل سمعت النبي يقول يا حسان أجب عن رسول الله اللهم أيده بروح القدس قال أبو هريرة نعم. (الحديث 354 طرفاه في: 2123، 2516).
مطابقته للترجمة غير ظاهرة ههنا لأنه ليس فيه صريحا أنه كان في المسجد، والترجمة هو الشعر في المسجد، ولكن البخاري روى هذا الحديث في كتاب بدء الخلق وفيه التصريح أنه كان في المسجد، فقال: حدثنا علي بن عبد ا حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: (مر عمر رضي ا تعالى عنه، في المسجد وحسان ينشد، فلحظ إليه. قال: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك با أسمعته، يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: نعم). وهما حديث واحد، ويقال: إن الشعر المشتمل على الحق مقبول بدليل دعاء النبي، لحسان على شعره، فإذا كان كذلك لا يمنع في المسجد كسائر الكلام المقبول، ومراد البخاري من وضع هذه الترجمة هو الإشارة إلى جواز الشعر المقبول في المسجد، والحديث يدل على هذا بهذا الوجه، فيقع التطابق بين الحديث والترجمة لا محالة.
فإن قلت: لم يصح سماع أبي سلمة ولا سماع سعيد من عمر، وهذا إنما كان لما أنكره عمر على حسان. قلت: الأمر كذلك، لكن يحمل ذلك على أن سعيدا سمع ذلك من أبي هريرة بعد، أو سمع ذلك من حسان، أو وقع لحسان استشهاد أبي هريرة مرة أخرى، فحضر ذلك سعيد، ويؤيد هذا سياق حديث الباب، فإن فيه: إن أبا سلمة سمع حسانا يستشهد أبا هريرة، وأبو سلمة لم يدرك زمن مرور عمر أيضا فإنه أصغر من سعيد، فدل على تعدد الاستشهاد. غاية ما في الباب هنا أن يكون سعيد أرسل قصة المرور ثم سمع بعد ذلك استشهاد حسان لأبي هريرة وهو مرفوع موصول بلا تردد.
ذكر رجاله وهم ستة. الأول: أبو اليمان، بفتح الياء آخر الحروف، وقد تكرر ذكره. الثاني: شعيب بن أبي حمزة واسم أبي حمزة: دينار الحمصي. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: أبو سلمة، وهؤلاء تقدموا في باب كتاب الوحي. الخامس: حسان بن ثابت بن المنذر بن الحرام، ضد الحلال، الأنصاري المدني، شاعر
رسول ا، من فحول شعراء الإسلام والجاهلية، وعاش كل واحد منهم مائة وعشرين سنة وقال أبو نعيم: لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد واتفقت مدد أعمارهم هذا القدر غيرهم، وعاش حسان في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام كذلك، مات سنة خمسين بالمدينة. فإن قلت: هو منصرف أو غير منصرف قلت: إن كان مشتقا من: الحسن، فهو منصرف، وإن كان من: الحس، فغير منصرف. فافهم. السادس: أبو هريرة، وقد تكرر ذكره.
فإن قلت: هذا الحديث يعد من مسند حسان أو من مسند أبي هريرة؟ قلت: لم يذكر أبو مسعود والحميدي وغيرهما أن لحسان بن ثابت رواية في هذا الحديث، ولا ذكروا له حديثا مسندا، وإنما أوردوا هذا الحديث في مسند أبي هريرة، وخالف خلف فذكره في مسند حسان، وأنه روى عن النبي، هذا الحديث، وذكر في مسند أبي هريرة أن البخاري أخرجه في الصلاة عن أبي اليمان، وذكر ابن عساكر لحسان حديثين مسندين: أحدهما هذا، وذكر أنه في (سنن أبي داود) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: وليس في حديثه استشهاد حسان به، وأنه في النسائي مرة بالاستشهاد، ومرة من حديث سعيد عن عمر بعدمه، ثم أورده في مسند أبي هريرة رضي ا تعالى عنه، من طريق أبي سلمة عنه. وفي كتاب (من عاش مائة وعشرين) لابن منده: من حديث عبيد ا بن عبد ا عن أبي هريرة، قال: مر عمر رضي ا تعالى عنه، بحسان.... الحديث، وقال المنذري: وسعيد لم يصح سماعه من عمر، وإن كان سمع ذلك من حسان فمتصل.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وكذلك الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين حمصي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه
217

البخاري أيضا في بدء الخلق عن علي بن المديني كما ذكرناه، وفي الأدب أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر، وفيه أيضا عن أبي اليمان، كما أخرجه ههنا. وأخرجه مسلم في الفضائل عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن يحيى وعمر بن محمد الناقد، ثلاثتهم عن سفيان به، وعن عبد ا بن عبد الرحمن الدارمي عن أبي اليمان به، وعن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد، ثلاثتهم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد به. وأخرجه أبو داود في الأدب عن محمد بن أحمد بن أبي خلف، وأحمد بن عبدة، كلاهما عن سفيان به، وعن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق به. وأخرجه النسائي في الصلاة، وفي اليوم والليلة عن قتيبة ومحمد بن منصور فرقهما، كلاهما عن منصور عن سفيان به، وأخرجه أيضا عن خمسة أنفس، وأخرجه أيضا في القضاء عن محمد بن عبد ا بن بزيغ عن يزيد بن زريع عن شعبة عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب عن حسان بن ثابت قال: قال لي رسول ا: (أهجهم أو: هاجهم)، يعني المشركين، (وجبرائيل معك)، رواه سفيان بن حبيب عن شعبة فجعله من مسند البراء رضي ا تعالى عنه.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (يستشهد أبا هريرة) أي: يطلب منه الشهادة. ومحلها النصب على الحال من حسان، فإن قيل: لا بد في الشهادة من نصاب فكيف ثبت غرض حسان بشهادة أبي هريرة فقط؟ أجيب: بأن هذه رواية حكم شرعي، ويكتفى فيها عدل واحد. وأطلق الشهادة على سبيل التجوز لأنه في الحقيقة إخبار، فيكفي فيه عدل واحد، كما بين ذلك في موضعه. قوله: (أنشدك ا)، بفتح الهمزة وضم الشين: معناه سألتك با. قال الجوهري: نشدت فلانا أنشده نشدا إذا قلت له: نشدتك ا، أي: سألتك با، كأنك ذكرته، إياه، فنشد أي تذكر. وقال ابن الأثير: يقال: نشدتك ا وأنشدك ا وبا، وناشدتك ا أي: سألتك وأقسمت عليك، ونشدته نشدة ونشدانا ومناشدة، وتعديته إلى مفعولين إما لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك ا وبا، كما قالوا: دعوت زيدا وبزيد، أو لأنهم ضمنوه معنى ذكرت. وأما: أنشدتك با فخطأ.
قوله: (أجب عن رسول ا) وفي رواية سعيد: (أجب عني)، ومعنى الأول: أجب الكفار عن جهة رسول ا، ولفظ: جهة، مقدر، ويجوز أن يضمن: أجب معنى: إدفع، والمعنى: إدفع عن رسول ا. ويحتمل أن يكون الأصل رواية سعيد، وهي: أجب عني، ثم نقل حسان ذلك بالمعنى. وزاد فيه لفظة؛ رسول ا، تعظيما له، ويحتمل أن تكون تلك لفظة رسول ا، بعينه لأجل المهابة وتقوية لداعي المأمور، كما قال تعالى: * (فإذا عزمت فتوكل على ا) * (آل عمران: 951) وكما يقول الخليفة: أمير المؤمنين يرسم لك، لأن فيه تعظيما له، وتقوية للمأمور ومهابة بخلاف، قوله؛ أنا أرسم. والمراد بالإجابة: الرد على الكفار الذين هجوا رسول ا.
قوله: (اللهم أيده) هذا دعاء من رسول ا، لحسان، دعا له بالتأييد، وهو القوة على الكفار. قوله: (بروح القدس): الباء: فيه تتعلق بقوله: أيده، والمراد: بروح القدس، هنا جبريل عليه السلام، يدل عليه ما رواه البخاري أيضا من حديث البراء بلفظ: وجبريل معك. والقدس، بضم القاف والدال بمعنى: الطهر، وسمي جبريل بذلك لأنه خلق من الطهر. وقال كعب: القدس الرب، عز وجل، ومعنى: روح القدس روح ا، وإنما سمي بالروح لأنه يأتي بالبيان عن ا تعالى فتحيي به الأرواح. وقيل: معنى القدس البركة، ومن أسماء ا تعالى: القدوس، أي: الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص، ومنه الأرض المقدسة، وبيت المقدس، لأنه الموضع الذي يتقدس فيه، أي: يتطهر فيه من الذنوب.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام الأول: فيه الدلالة على أن الشعر الحق لا يحرم في المسجد، والذي يحرم فيه ما فيه الخناء والزور والكلام الساقط، يدل عليه ما رواه الترمذي مصححا من حديث عائشة: (كان رسول الله ينصب لحسان منبرا في المسجد فيقوم عليه ويهجو الكفار). فإن قلت: روى ابن خزيمة في صحيحه عن عبد ا بن سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (نهى رسول الله عن تناشد الأشعار في المساجد)، وحسنه الحافظان: الطوسي والترمذي، وروى أبو داود من حديث صدقة بن خالد عن محمد بن عبد ا الشعبي عن زفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام مرفوعا: (نهى النبي أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود). وروى عبد الرزاق في (مصنفه) من حديث ابن المنكدر: عن أسيد بن عبد الرحمن: (أن شاعرا جاء
218

النبي وهو في المسجد، قال: أنشدك يا رسول ا؟ قال: لا، قال: بلى، فقال له النبي: فأخرج من المسجد، فخرج فأنشده فأعطاه رسول الله ثوبا). وقال: هذا بدل ما مدحت به ربك. قلت: أما حديث عمرو: فمنهم من يقول: إنه صحيفة، حتى قال ابن حزم: لا يصح هذا، لكن يقول: من يصحح نسخته يصحح حديثه. وأما حديث حكيم بن حزام فقال أبو محمد الأشبيلي: إنه حديث ضعيف. وقال ابن القطان: لم يبين أبو محمد من أمره شيئا، وعلته الجهل بحال زفر، فلا يعرف. قلت: أما زفر فإنه ليس كما قال، بل حاله معروفة. قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى عنه، فقال: ثقة، وذكره ابن حبان في (كتاب الثقات)، وصحح له الحاكم حديثا عن المغيرة بن شعبة. وأما حديث أسيد ففي سنده ابن أبي يحيى شيخ الشافعي. وفيه كلام شديد، وقد جمع ابن خزيمة في (صحيحه) بين الشعر الجائز إنشاده في المسجد وبين الممنوع من إنشاده فيه. وقال أبو نعيم الأصبهاني في (كتاب المساجد): نهى عن تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين فيه، فأما أشعار الإسلام والمحقين فواسع غير محظور.
وقد اختلف العلماء أيضا في جواز إنشاد الشعر مطلقا، فقال الشعبي وعامر بن سعد البجلي ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد: لا بأس بإنشاد الشعر الذي ليس فيه هجاء، ولا نكب عرض أحد من المسلمين، ولا فحش. وقال مسروق بن الأجدع وإبراهيم النخعي وسالم بن عبد ا ولحسن البصري وعمرو بن شعيب: تكره رواية الشعر وإنشاده، واحتجوا في ذلك بحديث عمر بن الخطاب عن رسول الله قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا). ورواه ابن أبي شيبة والبزار والطحاوي، وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النبي قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا). وأخرجه ابن ماجة أيضا، وأخرجه البخاري عن ابن عمر عن النبي نحو رواية ابن أبي شيبة، وأخرجه مسلم أيضا عن أبي هريرة نحو روايته عن سعد، وأخرجه أيضا عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه الطحاوي أيضا عن عوف بن مالك عن النبي، وأخرجه الطبراني أيضا عن أبي الدرداء عن النبي، وأجاب الأولون عن هذا وقالوا: إنما هذه الأحاديث وردت على خاص من الشعر، وهو أن يكون فيه فحش وخناء، وقال البيهقي عن الشعبي: المراد به الشعر الذي هجي به النبي، وقال أبو عبيدة: الذي فيه عندي غير ذلك، لأن ما هجي به رسول الله لو كان شطر بيت لكان كفرا، ولكن وجهه عندي أن يمتلئ قلبه حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن والذكر. قيل: فيما قاله أبو عبيدة نظر، لأن الذين هجوا النبي كانوا كفارا، وهم في حال هجوهم موصوفون بالكفر من غير هجو، غاية ما في الباب: قدلازاد كفرهم وطغيانهم بهجوهم، والذي قاله الشعبي أوجه. قلت: قال الطحاوي: قال قوم: لو كان إريد بذلك ما هجي به رسول الله من الشعر لم يكن لذكر الامتلاء معنى، لأن قليل ذلك وكثيره كفر، ولكن ذكر الامتلاء ليس فيما دونه. قالوا: فهو عندنا على الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره، فأ ما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك، فليس ممن امتلأ جوفه شعرا، فو خارج من قول رسول ا: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا). وقال أبو عبد الملك: كان حسان ينشد الشعر في المسجد في أول الإسلام، وكذا لعب الحبش فيه، وكان المشركون إذ ذاك يدخلونه، فلما كمل الإسلام زال ذلك كله. قلت: أشار بذلك إلى النسخ، ولم يوافقه أحد على ذلك. قوله: (قيحا) نصب على التمييز، وهو: الصديق الذي يسيل من الدمل والجرح، قوله: (يريه) من الوري، وهو الداء يقال: ورى يوري فهو موري إذا أصاب جوفه الداء وقال الجوهري: وروى القيح جوفه يريه وريا: أكله، وقال قوم: معناه حتى يصيب ريته. قلت: فيه نظر.
الثاني من الأحكام: جواز الاستنصار من الكفار. قال العلماء: ينبغي أن لا يبدأ المشركون بالسب والهجاء مخافة من سبهم الإسلام وأهله، قال تعالى: * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون ا فيسبوا ا عدوا) * (الأنعام: 801) ولتنزيه ألسنة المسلمين عن الفحش، إلا أن تدعو إلى ذلك ضرورة كابتدائهم به، فكيف إذا هم أو نحوه كما فعله.
الثالث: فيه استحباب الدعاء لمن قال شعرا، مثل قصة حسان.
الرابع: فيه الدلالة على فضيلة حسان رضي ا تعالى عنه.
96
219

2 (باب أصحاب الحراب في المسجد))
أي: هذا باب في بيان جواز دخول أصحاب الحراب في المسجد، والمراد من أصحاب الحراب هنا هم الذين يتشاققون بالسلاح كالحراب ونحوها للاشتداد والقوة على الحرب مع أعداء الدين، وقال المهلب: المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين، وكل ما كان من الأعمال التي تجمع منفعة الدين وأهله واللعب بالحراب من تدريب الجوارح على معاني الحروب فهو جائز في المسجد وغيره، و: الحراب، بكسر الحاء: جمع حربة، كالقصاع: جمع قصعة. والحراب، أيضا مصدر من: حارب يحارب محاربة وحرابا، والمراد هنا الأول.
454411 ح دثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت لقد رأيت رسول الله يوما على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد ورسول الله يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم. زاد إبراهيم بن المنذر حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت رأيت النبي
والحبشة يلعبون بحرابهم)
مطابقته للترجمة في قوله ' والحبشة يلعبون بحرابهم '
(ذكر رجاله) وهم تسعة. الأول عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري المدني. الثاني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. الثالث صالح بن كيسان أبو محمد مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز. الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس عروة بن الزبير بن العوام. السادس إبراهيم بن المنذر الحزامي مر في كتاب العلم وهو شيخ البخاري. السابع عبد الله بن وهب. الثامن يونس بن يزيد الأيلي. التاسع عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع والإخبار بصيغة الإفراد في موضعين والعنعنة في أربعة مواضع وفيه أن عبد العزيز من أفراد البخاري وفيه ثلاثة من التابعين وهم صالح وابن شهاب وعروة وفيه أن رواته ما بين مدني ومصري وأيلي وفيه أن قوله زاد ابن المنذر يحتمل التعليق قاله الكرماني (قلت) هو تعليق بلا احتمال وقد وصله الإسماعيلي من طريق عثمان بن عمر عن يونس والذي زاده هو لفظ ' بحرابهم '
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في العيدين وفي مناقب قريش وأخرجه مسلم في العيدين أيضا عن أبي الطاهر بن السرح
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' لقد رأيت رسول الله
' أي والله لقد أبصرت فهم معنى القسم من اللام ولفظة قد اللتان تدلان على التأكيد ورأيت بمعنى أبصرت فلذلك اقتصر على مفعول واحد قوله ' يوما ' نصب على الظرف قوله ' والحبشة يلعبون ' جملة حالية والحبشة والحبش جنس من السودان مشهور قوله ' ورسول الله يسترني ' جملة حالية أيضا وهذا يدل على أنه كان بعد نزول الحجاب قوله ' أنظر ' أيضا جملة حالية قوله ' إلى لعبهم ' بفتح اللام وكسر العين وبكسر اللام وسكون العين قوله ' زاد ' فعل ماض وفاعله ابن المنذر وهو فاعل قال أيضا ومفعوله الذي زيد هو قوله ' بحرابهم ' كما ذكرنا
(ذكر ما يستنبط منه من الأحكام) فيه جواز اللعب بالحراب في المسجد على الوجه الذي ذكرناه في أول الباب وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة أما القرآن فقوله تعالى * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * وأما السنة في حديث واثلة بن الأسقع الذي أخرجه ابن ماجة ' جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ' ورد بأن الحديث ضعيف وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا عرف التاريخ حتى يثبت النسخ. وفيه جواز النظر إلى اللعب المباح وقال الكرماني وقد يمكن أن يكون ترك النبي
عائشة لتنظر إلى لعبهم لتضبط السنة في ذلك
220

وتنقل تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتي من أبناء المسلمين وتعرفهم بذلك * وفيه من حسن خلقه الكريم وجميل معاشرته لأهله. وفيه جواز نظر النساء إلى الرجال ووجوب استتارهن عنهم. وفيه فضل عائشة وعظم محلها عند رسول الله
*
((باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد))
أي هذا باب في بيان ذكر البيع والشراء يعني في الإخبار عن وقوعهما على المنبر في المسجد لا عن وقوعهما على المنبر وفي بعض النسخ على المنبر والمسجد قيل على هذه النسخة يكون التقدير وعلى المسجد ولا تدخل عليه كلمة الاستعلاء والأصل أن يقال وفي المسجد أجيب بأن هذا عكس ما عمل في قوله تعالى * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * والأصل أن يقال على جذوع النخل ولكن الحروف ينوب بعضها عن بعض وقال الكرماني يجوز أن يكون من باب
* علفتها تبتا وماء باردا
* (قلت) تقديره وسقيتها ماء باردا لأنه لا يعلف بالماء
654511 ح دثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة قالت أتتها بريرة تسألها فهي كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي وقال أهلها إن شئت أعطيتها ما بقي. وقال سفيان مرة إن شئت أعتقتها ويكون الولاء لنا فلما جاء رسول الله ذكرته ذلك فقال النبي ابتاعيها فأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق ثم قام رسول الله على المنبر. وقال سفيان مرة فصعد رسول الله على المنبر فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة مرة قال علي قال يحيى وعبد الوهاب عن يحيى عن عمرة. وقال جعفر بن عون عن يحيى قال سمعت عمرة قالت سمعت عائشة رضي ا عنها ورواه مالك عن يحيى عن عمرة أن بريرة ولم يذكر صعد المنبر..
مطابقة الحديث للترجمة تعلم من قوله: (ما بال أقوام يشترطون...) إلى آخره، فإنه ذكره هنا عقيب قضية مشتملة على بيع وشراء وعتق وولاء، فإنه لما قال: (ابتاعيها فأعتقيها فإن الولاء لمن أعتق)، قبل صعوده على المنبر، دل على حكم هذه الأشياء، ثم لما قال على المنبر: (ما بال أقوام...) الخ، أشار به إلى القضية التي وقعت، فكانت إشارته إليها كوقوعها على المنبر في المسجد، وهذا هو الوجه، لا ما ذكره أكثر الشراح مما تنفر عنه الطباع وتمج عنه الأسماع، وسيعلم ذلك من يقف عليه.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: علي بن عبد ا المديني. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري. الرابع: عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية، وقد تكرر ذكرهم. الخامس: عائشة، رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وعلى رواية الحميدي في (مسنده) في ثلاثة مواضع، لأن في روايته: حدثنا سفيان حدثنا يحيى. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين مديني ومكي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعية عن الصحابية.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري في مواضع عديدة: في الزكاة في باب الصدقة على موالي أزواج النبي. وفي العتق والمكاتب والهبة والبيوع والفرائض والطلاق والشروط والأطعمة وكفارة الأيمان، وأخرجه في الطلاق من حديث ابن عباس، وفي الفرائض من حديث ابن عمر، وأخرج مسلم طرفا من حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري أيضا في باب البيع والشراء مع النساء من طريق عروة عن عائشة، وفي باب إذا اشترط في البيع شروطا من حديث هاشم عن أبيه عنها. وأخرجه مسلم أيضا مطولا ومختصرا. وأخرجه أبو داود في العتق عن القعنبي وقتيبة من حديث الزهري عن عروة عن عائشة. وأخرجه الترمذي في الوصايا عن قتيبة به.
221

وأخرجه النسائي في البيوع عن قتيبة به، وفيه: وفي العتق عن يونس بن عبد الأعلى. وأخرجه النسائي أيضا عن عمرة عن عائشة في الفرائض عن أحمد بن سليمان وموسى بن عبد الرحمن ومحمد بن إسماعيل وهو ابن علية، ثلاثتهم عن جعفر بن عون به، وعن الحارث بن مسكين عن ابن أبي القاسم عن مالك به، وفي العتق وفي الشروط عن محمد بن منصور عن سفيان به، وفي الشروط أيضا عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان ببعضه. وأخرجه ابن ماجة أيضا في العتق عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي أن بريرة أتتها وهي مكاتبة قد كاتبها أهلها على تسع أواق، فقالت لها: إن شاء أهلك عددت لهم عدة واحدة وكان الولاء لي. قال: فأتت أهلها فذكرت ذلك لهم فأبوا إلا أن يشترط الولاء لهم، فذكرت عائشة ذلك للنبي فقال: إفعلي. قال: فقام النبي فخطب الناس فحمد ا وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب ا، كل شرط ليس في كتاب ا فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب ا أحق، وشرط ا أوثق، والولاء لمن أعتق).
ذكر اعراب ومعناه قوله: (قال: اتتها بريرة)، فاعل: قالت، يحتمل أن يكون: عمرة، ويحتمل أن يكون: عائشة، فإذا كانت: عائشة، ففيه التفات من الحاضر إلى الغائب، وبريرة، بفتح الباء الموحدة وكسر الراء الأولى وفتح الثانية بينهما ياء آخر الحروف ساكنة، وزعم القرطبي أن وزنها. فعيلة، من البر، ويحتمل أن تكون بمعنى مفعولة أي: مبرورة، كأكيلة السبع أي مأكولته ويحتمل أن تكون بمعنى: فاعلة، كرحيمة بمعنى: راحمة، وهي بنت صفوان، كانت لقوم من الأنصار، أو مولاة لأبي أحمد ابن جحش، وقيل: مولاة لبعض بني هلال، وكانت قبطية.
وقال الكرماني: بريرة مولاة لعائشة كانت لعتبة بن أبي لهب، قلت: ذكرها الذهبي في الصحابيات، وقال: يقال: إن عبد الملك بن مروان سمع منها، وفي (معجم الطبراني): من حديث عبد الملك بن مروان، قال: (كنت أجالس بريرة بالمدينة فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته فاحذر الدنيا، فإني سمعت رسول الله يقول: إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها بملىء محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق). انتهى.
وعبد الملك اختلف في مولده، فقال حنيفة بن خياط: سنة ثلاث، وقال أبو حسان الزيادي: سنة خمس، وقال محمد بن سعد سنة خمس، وقال محمد بن سعد. سنة ست وعشرين، وولاه معاوية ديوان الخراج وعمره ستة عشر سنة، فعلى هذا تكون بريرة موجودة بعد سنة أربعين. وقد اختلف في اسم زوج بريرة ففي (الصحيح): مغيث، بضم الميم وكسر الغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره ثاء، مثلثة، وعن الصريفيني عن العسكري: معتب، بعين مهملة وكسر التاء المثناة من فوق وفي آخره باء موحدة، وعند أبي، موسى الأصبهاني اسمه: مقسم، وا تعالى أعلم.
قوله: (تسألها في كتابتها)، جملة حالية وقعت حالا عن بريرة، والأصل في السؤال أن يعدى: بعن، كما في قوله تعالى: * (يسألونك عن الأنفال) * (الأنفال: 1) ولكن لما كان سؤالها بمعنى الاستعطاء، بمعنى: تستعطيها في أمر كتابتها، عدي بكلمة الظرف، ويجوز أن يكون معنى: تسأل، تستعين بالتضمين، على أن في رواية جاءت هكذا، والكتابة في اللغة مصدر: كتب من الكتب، وهو الجمع، ومنه كتبت القربة إذا خرزتها، وسمي هذا العقد؛ كتابة ومكاتبة، لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، أو لأن فيه جمعا بين نجمين فصاعدا، أو لأن كلا منهما يكتب الوثيقة، وفي الشرع: تحرير المملوك يدا في الحال، ورقبة في المآل، لأن المكاتب لا يتحرر رقبة إلا إذا أدى المال، وهو بدل الكتابة، وأما في الحال فهو حر من جهة اليد فقط حتى يكون أحق بكسبه، ويجب على المولى الضمان بالجناية عليه أو على ماله، ولهذا قيل: المكاتب طار عن ذل العبودية ولم ينزل في ساحة الحرية، فصار كالنعامة أن استطير تباعر، وان استحمل تطاير. قوله: (فقالت: إن شئت) أي: قالت عائشة مخاطبة لبريرة: إن شئت، وهو بكسر التاء. قوله: (أعطيت)، بلفظ المتكلم. قوله: (أهلك) المراد به: مواليها، وهو منصوب على أنه مفعول أول لأعطيت، ومفعوله الثاني محذوف وهو: ثمنك، لدلالة الكلام عليه. قوله: (ويكون الولاء لي) بفتح الواو، وهو في عرف الفقهاء عبارة عن تناصر يوجب الإرث، والعقد والولاء في اللغة. النصرة والمحبة، إلا أن اختص في الشرع: بولاء العتق، والموالاة واشتقاقه من الولي وهو: القرب، وحصول الثاني بعد الأول من غير فصل. قوله: (وقال أهلها) أي: أهل بريرة. قوله: (إن شئت
222

أعطيتها) مقول القول، التاء: في شئت وأعطيت، مكسورة لأنها خطاب لعائشة. قوله: (ما بقي) أي: الذي بقي من مال الكتابة في ذمة بريرة، ومحل هذه الجملة النصب لأنها وقعت مفعولا ثانيا لقوله؛ أعطيتها، ومفعوله الأول الضمير المنصوب في: أعطيتها. قوله: (وقال سفيان)، هو ابن عيينة أحد الرواة المذكورين في الحديث، وأشار به إلى أن سفيان حدث به. على وجهين: فمرة قال: إن شئت أعطيتها ما بقي، ومرة قال: إن شئت أعتقتها، ويكون الولاء لنا، يعني في الوجهين، و: التاء، في أعتقتها مكسورة لأنها خطاب لعائشة. وقوله: (قال سفيان) داخل في الموصول غير معلق. فافهم فإن قلت: كم كان مال الكتابة على بريرة؟ قلت: ذكر ف باب الكتابة من حديث يونس عن الزهري عن عروة: (عن عائشة قالت: إن بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين...) الحديث فإن قلت: ذكر في باب سؤال الناس: (كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقال: خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإنما
الولاء لمن أعتق)، فبين الروايتين تعارض. قلت: هذا الحديث أصح لاتصاله ولانقطاع ذاك، ولأن راوي هذا عن أمه وهو أعرف بحديث أمه وخالته، وقيل: يحتمل أن تكون هذه الخمسة الأواق التي قد استحقت عليها بالنجوم من جملة التسعة، أو أنها أعطت نجوما وفضل عليها خمسة، قلت: هذا يرده ما رواه البخاري في الشروط: في البيع، ولم تكن قضت من كتابتها شيئا. والأواق جمع: أوقية، بضم الهمزة وتشديد الياء، والجمع يشدد ويخفف مثل: أثفية وأثافي وأثاف، وربما يجيء في الحديث: وقية، وليست بالعالية وهمزتها زائدة، وكانت الأوقية قديما عبارة عن أربعين درهما، ثم أنها تختلف باختلاف اصطلاح البلاد. قوله: (ذكرته)، قال الكرماني: ذكرته، بلفظ التكلم، والمتكلم به عائشة، والراوي نقل لفظها بعينه، وبالغيبة: كأن عائشة جردت من نفسها شخصا فحكت عنها، فالأول: حكاية الراوي عن لفظ عائشة، والثاني: حكاية عائشة عن نفسها. انتهى. وقال بعضهم: (ذكرته ذلك)، كذا وقع هنا بتشديد الكاف، فقيل: الصواب ما وقع في رواية مالك وغيره بلفظ: ذكرت، لأن التذكير يستعدي سبق علم بذلك، ولا يتجه تخطئة هذه الرواية لاحتمال السبق على وجه الإجمال قلت: لم يبين أحد منهما راوي التشديد ولا راوي التخفيف، واللفظ يحتمل أربعة أوجه. الأول: ذكرته، بالتشديد وبالضمير المنصوب. والثاني: ذكرت، بالتشديد بدون الضمير المنصوب. والثالث: ذكرت، على صيغة الماضي للمؤنثة الواحدة بالتخفيف بدون الضمير. والرابع: ذكرته بالتخفيف، والضمير لأن ذكر بالتخفيف يعدى يقال: ذكرت الشيء بعد النسيان، وذكرته بلساني وبقلبي وتذكرته وأذكرته غيري وذكرته، بمعنى. قوله: (فقال ابتاعيها) أي: قال النبي لعائشة: اشتريها، أي: بريرة. قوله: (وقال سفيان مرة فصعد رسول ا) أراد أنه روي بوجهين: مرة قال: ثم قام رسول الله على المنبر، ومرة قال: فصعد رسول الله على المنبر، وذكر في باب الشراء والبيع مع النساء، قال لي النبي: (اشتري واعتقي فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام من العشي فأثنى على ا بما هو أهله...) الحديث.
قوله: (ما بال أقوام؟) أي: ما حالهم؟ وفي باب الشراء والبيع مع النساء: (ما بال أناس يشترطون شروطا...؟) الحديث. قوله: (ليست في كتاب ا تعالى)، أي: الشروط، ويروى: ليس، بالتذكير، ووجهه إما باعتبار جنس الشرط، أو باعتبار المذكور. وقال الكرماني: إما باعتبار الاشتراط. قلت: فيه نظر لا يخفى، والمراد: من كتاب ا، قال الشيخ تقي الدين: يحتمل أن يريد بكتاب ا، حكم ا، ويراد بذلك نفي كونها في كتاب ا بواسطة أو بغير واسطة، فإن الشريعة كلها في كتاب ا، أما بغير واسطة كمالنصوصات في القرآن من الأحكام، وأما بواسطة قوله تعالى: * (وما آتاكم الرسول فخذوه) * (الحشر: 7) * (وأطيعوا ا وأطيعوا الرسول) * (المائدة: 29، والنور: 452، والتغابن: 21) قال الخطابي: ليس المراد أن ما لم ينص عليه في كتاب ا فهو باطل، فإن لفظ: (الولاء لمن أعتق)، من قوله، لكن الأمر بطاعته في كتاب ا، فجاز إضافة ذلك إلى الكتاب انتهى. ويجوز أن يكون المراد بكتاب ا: حكم ا سواء ذكر في القرآن أو السنة، وقيل: المراد من الكتاب: المكتوب، يعني المكتوب في اللوح المحفوظ. قوله: (فليس له) أي: ذلك الشرط، أي: لا يستحقه. وفي رواية النسائي: (من شرط شرطا ليس في كتاب ا لم يجز له).
قوله: (وإن اشترط مائة مرة)، ذكر المائة للمبالغة في الكثرة، لا أن هذا العدد بعينه هو المراد. وقال بعضهم؛ لفظ مائة للمبالغة، فلا مفهوم له، قلت: لم يدر هذا القائل أن مفهوم اللفظ في اللغة هو معناه، فعلى قوله يكون هذا اللفظ مهملا وليس كذلك، وإن كان قال ذلك على رأي الأصوليين حيث فرقوا بين
223

مفهوم اللفظ ومنطوقه، فهذا الموضع ليس محله، وفي رواية للبخاري في باب الشراء والبيع مع النساء: (وإن اشترط مائة شرط، وشرط ا أحق وأوثق)، وكذا في رواية ابن ماجة أيضا. قوله: (ورواه مالك)، معلق وصله في باب المكاتب: عن عبد ا بن يوسف عنه، ورواه النسائي في الفرائض عن الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك، كما ذكره مرسلا، ورواه الشافعي عن مالك. ولفظه: (واشرطي لهم الولاء)، بغير: تاء. قال الطحاوي: معناه أظهري، لأن الإشراط: الإظهار. وقال القرطبي: وهي رواية تفرد الشافعي عن مالك بها. قوله: (قال علي) يعني ابن عبد ا المديني المذكور في أول الباب. قوله: (قال يحيى) هو ابن سعيد القطان و: (عبد الوهاب)، هو ابن عبد المجيد الثقفي، يريد بذلك أن الحديث من طريق هذين الرجلين مرسل، يوضحه قول الإسماعيلي: ليس فيما عندنا من حديث يحيى بن سعيد وعبد الوهاب عن يحيى ذلك المنبر وصعوده، وحديثهما مرسل. حدثنا أبو القاسم حدثنا بندار حدثنا يحيى بن سعيد، قال: وأنبأنا القاسم أنبأنا بندار حدثنا عبد الوهاب، قال: قال: سمعنا يحيى يقول: أخبرتني عمرة به. قوله: (عن عمرة نحوه) يعني: نحو رواية مالك. قوله: (وقال جعفر بن عون...) الخ، أفاد به تصريح يحيى بسماعه له عن عمرة، وكذا سماع عمرة عن عائشة، وخرجه النسائي عن أحمد بن سليمان وموسى بن عبد الرحمن ومحمد بن إسماعيل بن جعفر عن عون عن يحيى بن سعيد، فذكره فأمن بذلك ما فيه من الإرسال المذكور، وأعلم أن التعليق عن مالك متأخر في رواية كريمة عن طريق جعفر بن عون.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام الأول: فيه دليل على جواز الكتابة، فإذا كاتب رجل عبده أو أمته على مال شرط عليه وقبل العبد ذلك صار مكاتبا، والدليل عليه أيضا قوله تعالى: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * (النور: 33) ودلالة هذا على مشروعية العقد لا تخفى على العارف بلسان العرب، سواء كان الأمر للوجوب أو لغيره، وهذا ليس بأمر إيجاب بإجماع بين الفقهاء سوء ما ذهب إليه داود الظاهري ومن تبعه، وروي نحوه عن عمرو بن دينار وعطاء وأحمد في رواية، وروى صاحب (التقريب) عن الشافعي نحوه، فإن قلت: ظاهر الأمر للوجوب كما ذهب إليه هؤلاء قلت: هذا في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، وهنا مقيد بقوله: * (إن علمتم فيهم خيرا) * (النور: 33) فيكون أمر ندب، وذهب بعض أصحابنا إلى أنه أمر إباحة، وهو غير صحيح، لأن في الحمل على الإباحة إلغاء الشرط إذ هو مباح بدونه بالاتفاق، وكلام ا منزه عن ذلك، والمراد بالخير المذكور أن لا يضر المسلمين بعدالعتق، فإن كان يضرهم فالأفضل أن لا يكاتبه، وإن كان يصح. وعن ابن عباس وابن عمر وعطاء: الخير الكسب خاصة، وروي عن الثوري والحسن البصري أنه الأمانة والدين خاصة. وقيل؛ هو الوفاء والأمانة والصلاح، وإذا فقد الأمانة والكسب والصلاح لا يكره عندنا، وبه قال مالك والشافعي. وقال أحمد وإسحاق وأبو الحسين بن القطان من الشافعية؛ يكره ولا يعتق المكاتب إلا بأداء الكل عند جمهور
الفقهاء، لما روى أبو داود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال: (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم) وروى الشافعي في (مسنده) أخبرنا ابن أبي عيينة عن ابن نجيح عن مجاهد أن زيد ابن ثابت قال في المكاتب: (هو عبد ما بقي عليه درهم)، واختاره لمذهبه، وهو مذهب أصحابنا، وفيه اختلاف الصحابة. فمذهب ابن عباس أنه يعتق كما أخذ الصحيفة من مولاه يعني؛ يعتق بنفس العقد وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، ومذهب ابن مسعود أنه يعتق إذا أدى قيمة نفسه، ومذهب زيد ما ذكرناه، وإنما اختاره الأربعة لأنه مؤيد بالحديث المذكور.
الثاني من الأحكام: جواز تزويج الأمة المزوجة، لأن بريرة كانت مزوجة وقد ذكرنا اسمه والاختلاف فيه فإن قلت: كان زوجها حرا أو عبدا. قلت: في رواية البخاري (عن ابن عباس قال: رأيته عبدا) يعني: زوج بريرة، (كأني أنظر إليه يتبعها في سكك المدينة يبكي عليها ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي لعمه العباس: ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا؟ فقال النبي: لو راجعتيه قالت: يا رسول ا تأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه). فإن قلت: ذكر في الفرائض، قال الحكم: كان زوجها حرا قلت: قال: وقول الحكم مرسل، وذكر في باب ميراث السائبة، قال الأسود: وكان زوجها حرا. قال: وقول الأسود منقطع، وقول ابن عباس أصح. وفي مسلم أيضا قال عبد الرحمن. وكان زوجها عبدا.
الثالث: في ثبوت الولاء للمعتق عن نفس، فهذا لا خلاف فيه للحديث المذكور،
224

واختلفوا فيمن أعتق على أن لا ولاء له وهو المسمى بالسائبة، فمذهب الجمهور أن الشرط باطل والولاء لمن اعتق، ومذهب أحمد أنه لم يكن له الولاء عليه، فلو أخذ من ميراثه شيئا رده في مثله. وقال مالك ومكحول وأبو العالية والزهري وعمر بن عبد العزيز رضي ا عنه: يجعل، ولاؤه لجميع المؤمنين، كذا فعله بعض الصحابة.
الرابع: فيه دليل على تنجم الكتابة، لقولها: (كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية). وقال الشيخ تقي الدين: وليس فيه تعرض للكتابة الحالة فيتكلم عليه. قلت: يجوز عند أصحابنا أن يشترط المال حالا ومنجما لظاهر قوله تعالى: * (فكاتبوهم إن علمتم) * (النور: 33) من غير شرط التنجم والتأجيل، فلا يزاد على النص بالرأي، وبه قال مالك. وفي (الجواهر): قال أبو بكر: ظاهر قول مالك: إن التنجيم والتأجيل شرط فيه، ثم قال: وعلماؤنا النظار يقولون: إن الكتاب الحالية جائزة ويسمونها قطاعة، وهو القياس. وقال الشافعي: لا يجوز حالا. ولا بد من نجمين، وبه قال أحمد في ظاهر روايته.
الخامس: اشتراط الولاء للبائع هل يفسد العقد؟ فيه خلاف، فظاهرا لحديث أنه لا يفسده لما قال في هذا الحديث: (واشترطي لهم الولاء). ولا يأذن النبي، في عقد باطل. وقال الشيخ تقي الدين: إذا قلنا إن صحيح فهل يصح الشرط؟ فيه اختلاف في مذهب الشافعي، والقول ببطلانه موافق لألفاظ الحديث. فإن قلت: كيف يأذن النبي في البيع على شرط فاسد؟ وكيف يأذن في البيع حتى يقع على هذا الشرط ويقدم البائع عليه ثم يبطل اشتراطه؟ قلت: أجيب: عنه، بأجوبة: الأول: ما قاله الطحاوي: وهو أنه لم يوجد اشتراط الولاء في حديث عائشة إلا من رواية مالك عن هشام، فأما من سواه وهو: الليث بن سعد وعمرو بن الحارث فإنهما رويا عن هشام عن السؤال لولاء بريرة ءنما كان من عائشة لأهلها بأداء مكاتبتها إليهم، فقال: (لا يمنعك ذلك عنها: ابتاعي وأعتقي وإنما الولاء لمن اعتق). وهذا خلاف ما رواه مالك عن هشام: (خذيها واشرطي، فإنا الولاء لمن أعتق)، مع أنه يحتمل أن يكون معنى: أشرطي: أظهري، لأن الإشراط في كلام العرب الإظهار، ومنه قول أوس بن حجر.
* فأشرط فيها نفسه وهو معصم
*
أي: أظهر نفسه، أي: أظهري الولاء الذي يوجب اعتقاك إنه لمن يكون العتاق منه دون من سواه. الثاني: أن معنى: (واشترطي لهم) أي: عليهم، كقوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) قيل: فيه نظر، لأن سياق الحديث وكثيرا من ألفاظه ينفيه، ورد بأن القرينة الحالية تدل على هذا مع أن مجيء: اللام، بمعنى: على، كثير في القرآن والحديث والأشعار، على ما لا يخفى. الثالث: أنه على الوعيد الذي ظاهره الأمر وباطنه النهي، كما في قوله تعالى: * (اعملوا ما شئتم) * (فصلت: 04) وقوله: * (واستفزز من استطعت منهم) * (الإسراء: 46) ألا ترى أنه صعد المنبر وخطب وقال: ما بال رجال... إلى آخره.
الرابع: أنه قد كان أخبرهم بأن الولاء لمن. اعتق، ثم أقدموا على اشتراط ما يخالف هذا الحكم الذي علموه، فور دهذا اللفظ على سبيل الزجر والتوبيخ والنكير لمخالفتهم الحكم الشرعي. الخامس: أن إبطال هذا الشرط عقوبة ونكال لمعاندتهم في الأمر الشرعي، فصار هذا من باب العقوبة بالمال كحرمان القاتل من الميراث، وكان بين لهم حكم الولاء، وأن هذا الشرط لا يحل، فلما أحوا وعاندوا أبطل شرطهم. السادس: أن هذا خاص بهذه القضية عام في سائر الصور، ويكون سبب التخصيص بإبطال هذا الشرط المبالغة في زجرهم عن هذا الاشتراط المخالف للشرع، كما أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا بتلك الواقعة، مبالغة في إزالة ما كانوا عليه من منع العمرة في أشهر الحج. وقال القاضي: المشكل في هذا الحديث ما وقع من طريق هشام هنا، وهو قوله: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء)، كيف أمرها رسول ا، بهذا وفيه عقد بيع على شرط لا يجوز، وتغرير بالبائعين إذا شرط لهم ما لا يصح؟ ولما صعب الانفصال عن هذا على بعض الناس أنكر هذا الحديث أصلا، فحكي ذلك عن يحيى بن أكتم وقد وقع في كثير من الروايات سقوط هذه اللفظة، وهذا الذي شجع يحيى على إنكارها.
السادس من الأحكام: ما قاله الخطابي: إن فيه دليلا على جواز بيع المكاتب، رضي به أو لم يرض، عجز عن أداء نجومه أو لم: يعجز، أدى بعض النجوم أم لا. وقال الشيخ تقي الدين: اختلفوا في بيع المكاتب عل ثلاثة مذاهب: المنع، والجواز، والفرق بين أن يشتري للعتق فيجوز أو للاستخدام فلا. أما من أجاز بيعه فاستدل
بهذا الحديث، فإنه ثبت أن بريرة كانت مكاتبة، وهو قول عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك في رواية: لا يجوز بيعه، وهو قول ابن مسعود وربيعة. قلت: مذهب أبي حنيفة
225

وأصحابه أنه لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز، ولا يجوز بيع مكاتبه بحال، وهو قول الشافعي بمصر، وكان بالعراق يقول: يجوز بيعه. وقال النووي: وقال بعض العلماء: يجوز بيعه للعتق لا للاستخدام.
السابع: ما قاله الخطابي: فيه جواز بيع الرقبة بشرط العتق، لأن القوم قد تنازعوا الولاء ولا يكون الولاء إلا بعد العتق، فدل أن العتق كان مشروطا في البيع. قلت: إذا اشترط البائع على المبتاع إيقاع معنى من معاني البر فإن اشترط عليه من ذلك ما يتعجل كالعتق المعجل فذلك جائز عند الشافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة. فإن امتنع البائع من إنفاذ العتق؟ فقال أشهب: يجبر على العتق. وقال ابن كنانة: لو رضي البائع بذلك لم يكن له ذلك ويعتق عليه. وقال ابن القاسم: إن كان اشتراه على إيجاب العتق فهو حر، وإن كان اشتراه من غير إيجاب عتق لم يجبر على عتق، والإيجاب أن يقول: إن اشتريته منك فهو حر، وإن لم يقل ذلك، وإنما اشترط أن يستأنف عتقه بعد كمال ملكه فليس بإيجاب. وقال الشافعي: البيع فاسد ويمضي العتق اتباعا للسنة، وروي عنه: البيع جائز والشرط باطل، وروى المزني عنه: لا يجوز تصرف المشتري بحال في البيع الفاسد، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، واستحسن أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن ينجز له العتق ويجعل عليه الثمن، وإن مات قبل أن يعتقه كانت عليه القيمة. وقال أبو يوسف: العتق جائز وعليه القيمة، والحجة لأبي حنيفة في هذا الباب وأمثاله حديث عبد ا بن عمرو بن العاص عن النبي: أنه نهى عن بيع وسلف وعن شرطين في بيعة، وعنه أيضا: لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع، أخرجه الأربعة والطحاوي بأسانيد صحاح، وفسروا قوله: وعن شرطين في بيع، بأن البيع في نفسه شرط، فإذا شرط فيه شرط آخر فقد صار شرطين. وقول الخطابي: فدل أن العتق كان مشروطا في البيع لا دليل له فيه ظاهرا، والحكم به عى جواز البيع بالشرط غير صحيح، لأنه مخالف لظاهر الحديث الصحيح.
الثامن: ما قاله الخطابي فيه أيضا: إنه ليس كل شرط يشترط في بيع كان قادحا في أصله ومفسدا له، وإن معنى ما ورد من النهي عن بيع وشرط منصرف إلى بعض البيوع وإلى نوع من الشروط، وقال عياض: الشروط المقارنة للبيع ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون من مقتضى العقد: كالتسليم وجواز التصرف في المبيع، وهذا لا خلاف في جواز اشتراطه لأنه يقضي به وإن لم يشترط. والثاني: أن لا يكون من مقتضاه، ولكنها من مصلحته: كالتحميل والرهن واشتراط الخيار، فهذا أيضا يجوز اشتراطه لأنه من مصلحته فأشبه ما كان من مقتضاه. والثالث: أن يكون خارجا عن ذلك مما لا يجوز اشتراطه في العقود، بل يمنع من مقتضى العقد أو يوقع فيه غررا أو غير ذلك من الوجوه الممنوعة، فهذا موضع اضطراب العلماء. وا تعالى أعلم.
قلت: عند أصحابنا البيع بالشرط على ثلاثة أوجه. الأول: البيع والشرط كلاهما جائزان، وهو على ثلاثة أنواع: أحدها: أن كل شرط يقتضيه العقد ويلائمه فلا يفسده بأن يشتري أمة بشرط أن تخدمه أو يغشاه، أو دابة بشرط أن يركبها ونحو ذلك. النوع الثاني: كل شرط لا يقتضيه العقد ولكن يلائمه بأن يشترط أن يرهنه بالثمن رهنا، وسماه أن يعطيه كفيلا وسماه والكفيل حاضر فقبله، وكذلك الحوالة، جاز استحسانا خلافا لزفر. النوع الثالث: كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولكن ورد الشرع بجوازه: كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع به ولكنه متعارف متعامل بين الناس بأن اشترى نعلا على أن يحذوه البائع، أو قلنسوة بشرط أن يبطنه. جاز استحسانا خلافا لزفر. الوجه الثاني: البيع والشرط كلاهما فاسدان، وهو كل شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، وفيه منفعة لأحدهما أو للمعقود عليه. بأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع، أو عبدا على أن لا يبيعه، وكذا على أن لا يعتقه خلافا للشافعي فيه، فإن أعتقه ضمن الثمن استحسانا عند أبي حنيفة، وعندهما قيمته. الوجه الثالث: البيع جائز والشرط باطل، وهو على ثلاثة أنواع: الأول: كل شرط لا يقتضيه العقد وليس فيه منفعة بل فيه مضرة بأن باع ثوبا أو دابة بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه، أو طعاما بشرط أن لا يأكل ولا يبيع، جاز البيع وبطل الشرط. الثاني: كل شرط لا يقتضيه العقد وليس فيه منفعة ولا مضرة لأحد، بأن باع طعاما بشرط أن يأكله جاز البيع وبطل الشرط. الثالث: كل شرط يوجب منفعة لغير المتعاقدين والمبيع نحو: البيع بشرط أن يقرض أجنبيا لا يفسد البيع.
التاسع: قال الخطابي: فيه دليل على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه، ولا لمن حالف إنسانا على المناصرة، وقال الشيخ تقي الدين: فيه حصر الولاء للمعتق فيقضتي ذلك أن لا ولاء بالحلف والموالاة وبإسلام الرجل على يد الرجل
226

ولا بإلتقاطه للقيط، وكل هذه الصور فيها خلاف بين الفقهاء، ومذهب الشافعي: لا ولاء في شيء منها للحديث. قلت: الولاء عند أصحابنا نوعان: أحدهما: ولاء العتاقة، والآخر: ولاء الموالاة، وقد كانت العرب تتناصر بأشياء: بالقرابة والصداقة والمؤاخاة والحلف والعصبة، وولاء العتاقة وولاء الموالاة، وقرر رسول الله تناصرهم بالولاء بنوعين وهما: العتاقة وولاء الموالاة، وقال: (إن مولى القوم منهم وحليفهم منهم). رواه أربعة من الصحابة، فأحمد في (مسنده): من حديث إسماعيل بن عبيد بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه عن جده، قال: قال رسول ا: (مولى القوم منهم، وابن أختهم منهم، وحليفهم منهم). والبزار في (سننه): من حديث أبي هريرة عن النبي، قال: (حليف القوم منهم وابن أختهم منهم). والدارمي في (مسنده): من حديث عمرو بن عون أن رسول ا، قال: (ابن أخت القوم منهم وحليف القوم منهم). والطبراني في (معجمه): من حديث عتبة بن غزوان عن النبي نحوه، والمراد بالحليف مولى الموالاة لأنهم كانوا يؤكدون الموالاة بالحلف.
العاشر: أنه يستحب للإمام عند وقوع بدعة أن يخطب الناس ويبين لهم حكم ذلك وينكر عليها.
الحادي عشر: فيه أنه يستحب للإمام أن يحسن العشرة مع رعيته، ألا ترى أنه، لما خطب لم يواجه صاحب الشرط بعينه، لأن المقصود يحصل له ولغيره بدون
فضيحة وشناعة عليه.
الثاني عشر: فيه المبالغة في إزالة المنكر والتغليظ في تقبيحه.
الثالث عشر: في جواز كتابة الأمة دون زوجها.
الرابع عشر: فيه أن زوج الأمة ليس له منعها من السعي في كتابتها، وقال أبو عمر: لو استدل مستدل من هذا المعنى بأن الزوجة ليس عليها خدمة زوجها كان حسنا.
الخامس عشر: فيه دليل على أن العبد زوج الأمة له منعها من الكتابة التي تؤول إلى عتقها وفراقها له، كما أن لسيد الأمة عتق أمته تحت العبد، وإن أدى ذلك إلى إبطال نكاحه، وكذلك له أن يبيعها من زوجها الحر وإن كان في ذلك بطلان عقده.
السادس عشر: فيه دليل على أن بيع الأمة ذات الزوج ليس بطلاق لها، لأن العلماء قد اجتمعوا ولم يختلف في تلك الأحاديث أيضا أن بريرة كانت حين اشترتها عائشة ذات الزوج، وإنما اختلفوا في زوجها: هل كان حرا أو عبدا؟ وقد اجتمع علماء المسلمين على أن الأمة إذا أعتقت وزوجها عبد أنها تخير، واختلفوا إذا كان زوجها حرا هل تخير أم لا؟.
السابع عشر: فيه دليل على جواز أخذ السيد نجوم المكاتب من مسألة الناس، لترك النبي عليه الصلاة والسلام، زجرها عن مسألة عائشة إذا كانت تستعينها في أداء نجمها، وهذا يرد قول من كره كتابة المكاتب الذي يسأل الناس، وقال: يطعمني أوساخ الناس.
الثامن عشر: فيه دليل على جواز نكاح العبد الحرة لأنها إذا خيرت فاختارته بقيت معه وهي حرة وهو عبد.
التاسع عشر: قالوا: فيه ما يدل على ثبوت الولاء في سائر وجوه العتق: كالكتابة والتعليق بالصيغة وغير ذلك.
العشرون: فيه دليل على قبول خبر العبد والأمة، لأن بريرة أخبرت أنها مكاتبة، فأجابتها عائشة بما أجابت.
17
((باب التقاضي والملازمة في المسجد))
أي: هذا الباب في بيان حكم التقاضي، أي في مطالبة الغريم بقضاء الدين. قوله: (والملازمة) أي: وحكم ملازمة الغريم في طلب الدين. قوله: (في المسجد) يتعلق بالتقاضي وبالملازمة أيضا بالتقدير، لأنه معطوف عليه.
754611 ح دثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا يونس عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب قال لبيك يا رسول الله قال ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال لقد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه. (الحديث 754 أطرافه في: 174، 8142، 4242، 6072، 0172).
وجه مطابقته للترجمة في التقاضي ظاهر، وأما في الملازمة فبوجهين. أحدهما: أن كعبا لما طلب ابن أبي حدرد بدينه في
227

مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، لازمه إلى أن خرج النبي عليه السلام، وفصل بينهما. والآخر: أنه أخرج هذا الحديث في عدة مواضع كما سنذكرها، فذكر في باب الصلح وفي باب الملازمة عن عبد ا بن كعب عن أبيه أنه كان له على عبد ا بن أبي حدرد مال فلزمه... الحديث، فكأنه أشار بلفظ الملازمة هنا، إلى الحديث المذكور، على أن ما ذكره في عدة مواضع كلها حديث واحد، وله عادة في بعض المواضع يذكر التراجم بهذه الطريقة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: عبد ا بن محمد بن عبد ا بن جعفر بن اليمان، أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي، مات يوم الخميس لست ليال بقين من ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومائتين. الثاني: عثمان بن عمر، بضم العين: ابن فارس البصري. الثالث: يونس بن يزيد. الرابع: محمد بن الزهري. الخامس: عبد ا بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي المدني. السادس: أبو كعب ابن مالك الأنصاري الشاعر، أحد الثلاثة الذين تاب ا عليهم وأنزل ا فيهم: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * (التوبة: 811) روي له ثمانون حديثا، للبخاري منها أربعة، مات بالمدينة سنة خمسين، وكان ابنه عبد ا قائده حين عمي.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الجمع أيضا في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: شيخ البخاري من أفراده. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن رواته ما بين بخاري وبصري ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلح وفي الأشخاص عن عبد ا بن محمد وأخرجه أيضا في الملازمة وفي الصلح أيضا عن يحيى بن بكير عن الليث. وأخرجه مسلم في البيوع عن حرملة عن ابن وهب بن وعن إسحاق بن إبراهيم عن عثمان بن عمر به. وأخرجه أبو داود في القضايا عن أحمد بن صالح عن ابن وهب به. وأخرجه النسائي فيه عن أبي داود سليمان بن سيف عن عثمان بن عمر به، وعن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث عن أبيه، وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن كعب بن مالك مرسلا. وأخرجه ابن ماجة في الأحكام عن محمد بن يحيى الذهلي.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (إنه تقاضي) أي: أن كعبا تقاضي أي: طالب ابن أبي حدرد بالدين، و: تقاضى، على وزن: تفاعل، وأصل هذا الباب لمشاركة أمرين فصاعدا نحوه: تشاركا، قال الكرماني: هو متعد إلى مفعول واحد وهو الابن. قلت: إذا كان تفاعل من فاعل المتعدي إلى مفعول واحد: كضارب، لم يتعد وإن كان من المتعدي إلى مفعولين: كجاذبته الثوب، يتعدى إلى واحد. وقال الكرماني: دينا، منصوب بنزع الخافض أي: بدين قلت: إنما وجه بهذا لأنا قلنا: إن تفاعل إذا كان من المتعدي إلى مفعولين لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. قوله: (ابن أبي حدرد)، اسم ابن أبي حدرد: هو عبد ا بن أبي سلامة: كما صرح به البخاري في أحد
رواياته على ما ذكرنا، وهو صحابي على الأصح، شهد الحديبية وما بعدها، مات سنة إحدى أو اثنتين وسبعين عن إحدى وثمانين سنة. وقال الذهبي: عبد ا بن سلامة بن عمير هو ابن عبد ا بن أبي حدرد الأسلمي، أمر على غير سرية. وقال في باب الكنى: أبو حدرد الأسلمي سلامة بن عمير، روى عنه ابنه عبد ا ومحمد بن إبراهيم وغيرهما، وحروف حدرد كلها مهملة، والحاء مفتوحة وكذا الراء والدال ساكنة. قال الجوهري ثم الصنعاني: حدرد اسم رجل لم يأت من الأسماء على فعلع بتكرير العين غيره. قوله: (كان له عليه) جملة في محل النصب لأنها صفة لقوله: (دينا). قوله: (في مسجد) يتعلق بقوله: (تقاضى). قوله: (أصواتهما)، من قبيل قوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) ويجوز اعتبار الجمع في: صوتيهما باعتبار أنواع الصوت. قوله: (وهو في بيته) جملة اسمية في محل النصب على الحال من رسول ا. قوله: (فخرج إليهما) وفي رواية الأعرج: (فمر بهما النبي). فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين لأن الخروج غير المرور؟ قلت: وفق قوم بينهما بأنه يحتمل أن يكون مر بهما أولا ثم إن كعبا لما أشخص خصمه للمحاكمة فتخاصما وارتفعت أصواتهما فسمعهما النبي وهو في بيته فخرج إليهما. وقال بعضهم: فيه بعد، لأن في الطريقين أنه أشار إلى كعب بالوضيعة، وأمر غريمه بالقضاء، فلو كان أمره بذلك تقدم لما احتج إلى إعادته. قلت: الذي استبعد فقد أبعد، لأن إعدته بذلك قد تكون للتأكيد، لأن الوضيعة أمر مندوب والتأكيد بها مطلوب، ثم قال هذا القائل: والأولى فيما يظهر لي أن يحمل المرور على أمر معنوي لا حسي. قلت: إن أراد بالأمر المعنوي الخروج ففيه إخراج اللفظ عن معناه الأصلي بلا ضرورة، والأولى
228

أن يكون اللفظ على معناه الحقيقي، ويكون المعنى أنه: لما سمع صوتهما خرج من البيت لأجلهما ومر بهما. والأحاديث يفسر بعضها بعضا، ولا سيما في حديث واحد روي بوجوه مختلفة. وفي رواية الطبراني: من حديث زمعة بن صالح عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه: (أن النبي مر به وهو ملازم رجل في أوقيتين، فقال له النبي: هكذا يضع الشطر، وقال الرجل: نعم يا رسول ا، فقال: أد إليه ما بقي من حقه).
قوله: (سجف حجرته)، بكسر السين المهملة وفتحها بعدها جيم ساكنة، وقال ابن سيده: هو الستر، وقيل: هو الستران المقرونان بينهما فرجة، وكل باب ستر بسترين مقرونين فكل شق منه سجف، والجمع أسجاف وسجوف، وربما قالوا: السجاف والسجف والسجيف إرخاء السجف. زاد في (المخصص) و (الجامع): وبيت مسجف. وفي (الصحاح): أسجف الستر أي أرسلته. وقال عياض وغيره: لا يسمى سجفا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين. قلت: الذي قاله ابن سيده يرده. قوله؛ (لبيك)، تثنية. للبا، وهو الإقامة وهو مفعول مطلق يجب حذف عامله، وهو من باب الثنائي الذي للتأكيد والتكرار ومعناه: لبا بعد لب أي: أنا مقيم على طاعتك. قوله: (ضع)، على وزن: فع، أمر من: وضع يضع. قوله: (أي الشطر) تفسير لقوله: هذا، أي: ضع عنه الشطر أي: النصف. وجاء لفظ: النصف، مصرحا في رواية الأعرج على ما يجيء إن شاء ا تعالى، وهو منصوب لأنه تفسير للمنصوب، وهو قوله: هذا، لأنه منصوب بقوله: ضع. قوله: (لقد فعلت) مبالغة في امتثال الأمر لأنه أكد فعلت: باللام، وكلمة؛ قد، وفيه معنى القسم أيضا. قوله: (قم)، خطاب لابن أبي حدرد. قوله: (فاقضه) أمر على جهة الوجوب، لأن رب الدين لما أطاع بوضع ما أمر به تعين على المديان أن يقوم بما بقي عليه لئلا يجتمع على رب الدين وضيعة ومطل.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام فيه: إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والمطل، لأن صاحب الدين يتضرر كما ذكرنا. وفيه: المخاصمة في المسجد في الحقوق، والمطالبة بالديون، قاله ابن بطال. وفيه: دليل على إباحة رفع الصوت في المسجد ما لم يتفاحش لعدم الإنكار منه عليه الصلاة والسلام، وقد أفرد له البخاري بابا يأتي عن قريب، إن شاء ا تعالى فإن قلت: قد ورد في حديث واثلة من عند ابن ماجة يرفعه: (جنبوا مساجدكم صبيانكم وخصوماتكم)، وحديث مكحول من عند أبي نعيم الأصبهاني عن معاذ مثله، وحديث جبير بن مطعم، ولفظه: (ولا ترفع فيه الأصوات)، وكذا حديث ابن عمر من عند أبي أحمد. قلت: أجيب: بأن هذه الأحاديث ضعيفة، فبقي الأمر على الإباحة من غير معارض، ولكن هذا الجواب لا يعجبني لأن الأحاديث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إذا اختلفت طرقها ومخارجها، والأولى أن يقال: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش. وقال مالك: لا بأس أن يقضي الرجل في المسجد دينا، وأما التجارة والصرف فلا أحبه. وفيه: جواز الاعتماد على الإشارة لقوله: هكذا، أي: الشطر، وأنها بمنزلة الكلام إذا فهمت لدلالتها عليه، فيصح على هذا يمين الأخرس وشهادته ولعانه وعقوده إذا فهم عنه ذلك. وفيه: إشارة الحاكم إلى الصلح على جهة الإرشاد، وههنا وقع الصلح على الإقرار المتفق عليه، لأن نزاعهما لم يكن في الدين وإنما كان في التقاضي. وأما الصلح على الإنكار فأجازه أبو حنيفة ومالك، وهو قول الحسن. وقال الشافعي: هو باطل، وبه قال ابن أبي ليلى. وفيه: الملازمة للاقتضاء. وفيه: الشفاعة إلى صاحب الحق والإصلاح بين الخصوم وحسن التوسط بينهم. وفيه: قبول الشفاعة في غير معصية. وفيه: إرسال الستور عند الحجرة.
27
((باب كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان منه))
أي: هذا باب في بيان فضل كنس المسجد، وهو إزالة الكناسة منه، والالتقاط هو أن تعثر على شيء من غير قصد وطلب، و: الخرق، بكسر الخاء وفتح الراء جمع: خرقة، و: القذى، بفتح القاف والذال المعجمة جمع: قذاة، وجمع الجمع: أقذية. قال الجوهري: القذى في العين والشراب: ما يسقط فيه، قلت: المراد منه ههنا كسر الأخشاب والقش ونحو ذلك، و: العيدان، جمع: عود، وهو الخشب. قوله: (منه) ليس في أكثر النسخ، ولكن بقدر فيه، وهو يتعلق بالالتقاط.
229

854 ح دثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد فمات فسأل النبي عنه فقالوا مات قال أفلا كنتم آذنتموني به دلوني على قبره أو قال على قبرها فأتى قبره فصلى عليها. (الحديث 854 طرفاه في: 064. 7331).
مطابقة الحديث للترجمة في قوله: (كان يقم المسجد) أي: يكنسه، فإن قلت: التقاط الخرق إلى آخره من جملة الترجمة، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، قلت: قال الكرماني: لعل البخاري حمله بالقياس على الكنس، والجامع بينهما: التنظيف. وقيل: أشار البخاري بذلك كله إلى ما ورد في بعض طرقه صريحا: (وكانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد)، رواه ابن خزيمة، وفي حديث بريدة عن أبيه: (كانت مولعة بلقط القذى من المسجد).
ذكر رجاله. وهم خمسة: الأول: سليمان بن حرب الواشحي، بكسر الشين المعجمة وبالحاء المهملة، نسبة إلى: واشح، بطن من الأزد، البصري. الثاني: حماد بن زيد، وقد ذكر غير مرة. الثالث: ثابت البناني. الرابع: أبو رافع: نفيع، بضم النون وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف: الصائغ التابعي الكبير، ولقد وهم من قال: إنه أبو رافع الصحابي، وقال: وهو من رواية صحابي عن صحابي، وليس كما قال. فإن ثابتا البناني لم يدرك أبا رافع الصحابي. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن أحمد بن واقد، وفي الجنائز عن محمد بن الفضل. وأخرجه مسلم أيضا في الجنائز عن أبي الربيع الزهراني، وأبي كامل الجحدري. وأخرجه أبو داود فيه عن سليمان بن حرب ومسدد، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أحمد بن عبدة.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (أو امرأة سوداء)، الشك فيه إما من ثابت أو من أبي رافع، ولكن الظاهر أنه من ثابت لأنه رواه عنه جماعة هكذا، وأخرج البخاري أيضا عن حماد بهذا الإسناد. قال: ولا آراه، إلا امرأة. وأخرجه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، فقال: (امرأة سوداء)، من غير شك فيها، ووقع في رواية البيهقي: من حديث ابن بريدة عن أبيه: أن اسم المرأة أم محجن.
وفائدة أخرى فيه أن الذي أجاب النبي عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق. قوله: (كان يقم)، من: قم، الشيء يقم قما، من باب: نصر ينصر نصرا، ومعناه: كنسه، والقمامة، بضم القاف: الكناسة. قاله ابن سيده: وقال اللحياني: قمامة البيت ما كنس منه فألقي بعضه على بعض، وهي لغة حجازية، والمقمة، بكسر الميم: المكنسة. وفي (الصحاح) والجمع: القمام. قوله: (سئل عنه)، أي عن حاله، ومفعول: سأل، محذوف أي: سأل الناس عنه. قوله: (أفلا كنتم؟) لا بد من مقدر بعد الهمزة، والتقدير: أدفنتم؟ فلا كنتم آذنتموني: بالمد، أي: أعلمتنموني بموته حتى أصلي عليه. وإنما قال ذلك لأن صلاته رحمة ونور في قبورهم، على ما جاء في رواية مسلم: (إن امرأة أو شابا...) الحديث، وزاد في آخره: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن ا تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم). قيل: إن البخاري لم يخرج هذه الزيادة لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بين ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد. قلت: قال البيهقي، الذي يغلب على القلب أن هذه الزيادة في غير رواية أبي رافع عن أبي هريرة، فإما أن يكون عن ثابت عن النبي مرسلا، كما رواه أحمد بن عبدة ومن تابعه، أو عن ثابت عن أنس عن النبي كما رواه غير حماد بن زيد عن ثابت عن أبي رافع، فلم يذكرها. وروى ابن حبان من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت، قال: (خرجنا مع النبي، فلما ورد البقيع إذ مر بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل: فلانة. فعرفها، وقال: ألا آذنتموني بها؟ قالوا: كنت قائلا صائما فكرهنا أن نؤذيك. قال: فلا تفعلوا لأعرفن، ما مات فيكم ميت ما كنت بين أظهر كم إلا آذنتموني به، صلاتي عليه رحمة له، ثم أتى القبر فصففنا خلفه فكبر عليه أربعا). انتهى. كذا ذكره في صحيحه، وقال صاحب (التلويح): وهو يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أن يزيد قتل باليمامة سنة ثنتي عشرة، وخارجة توفي سنة مائة أو أقل من ذلك، وسنه سبعون سنة، فلا يتجه سماعه منه بحال.
230

ذكر ما يستنبط منه من الأحكام فيه: فضل تنظيف المسجد، وقال ابن بطال. وفيه: الحض على كنس المساجد وتنظيفها لأنه إنما رخصه بالصلاة عليه بعد دفنه من أجل ذلك، وقد روي عن النبي أنه كنس المسجد. وفيه: خدمة الصالحين والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب وافتقاده. وفيه: المكافأة بالدعاء والترحم على من وقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم. وفيه: الرغبة في شهود جنائز الصالحين. وفيه: جواز الصلاة على القبر، وهي مسألة خلافية جوزها طائفة، منهم: علي وأبو موسى وابن عمر وابن مسعود وعائشة رضي ا تعالى عنهم، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق. ومنعه: النخعي والحسن البصري والثوري. وهو قول أبي حنيفة والليث ومالك، ومنهم من قال: إنما يجوز إذا لم يصل الولي والوالي، ثم اختلف من قال بالجواز إلى كم يجوز؟ فقيل: إلى شهر، وقيل: ما لم يبل جسده، وقيل: أبدا، وسيأتي مزيد الكلام فيه في الجنائز، إن شاء ا تعالى. وفيه: استحباب الإعلام بالموت. وقال الكرماني: وفيه: أن على الراوي التنبيه على شكه فيما رواه مشكوكا.
37
((باب تحريم تجارة الخمر في المسجد))
أي: هذا باب في بيان تحريم تجارة الخمر، ولا بد فيه من تقدير مضاف، لأن المراد بيان ذلك، وتبين أحكامه وليس المراد بأن تحريمها مختص بالمسجد لأنها حرام، سواء كانت في المسجد أو في غيره، وقوله: في المسجد، يتعلق بالتحريم لا بالتجارة. وقال صاحب (التوضيح): أخذ من كلام ابن بطال: وغرض البخاري هنا في هذا الباب، وا أعلم، أن المسجد لما كان للصلاة ولذكر ا تعالى منزها من الفواحش، والخمر والربا من أكبر الفواحش يمنع من ذلك، فلما ذكر الشارع تحريمها في المسجد، ذكر أنه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار في المسجد على وجه النهي عنها، والمنع منها. انتهى. وأخذ بعضهم من كلامه: فقال: باب تحريم تجارة الخمر في المسجد، أي: جواز ذكر ذلك. قلت: كل هذا خارج عن المهيع أو تصرفات بغير تأمل، لأنه لا فائدة في بيان جواز ذكر ذلك في المسجد، إذ هو مبين من الخارج، وليس غرض البخاري ذلك، وإنما غرضه بيان أن تحريم تجارة الخمر وقع في المسجد، لأن ظاهر حديث الباب مصرح بذلك، لأن عائشة. قالت: لما نزلت الآيات
من سورة البقرة في الربا خرج النبي إلى المسجد إلى آخره، فهذا ظاهره أن تحريم تجارة الخمر بعد نزول آيات الربا. فإن قلت: كان تحريم الخمر قبل نزول آيات الربا بمدة طويلة، كما صرحوا به، فلما حرمت الخمر حرمت التجارة فيها أيضا قطعا، فما الفائدة في ذكر تحريم تجارتها ههنا. قلت: يحتمل كون تحريم التجارة فيها قد تأخرت عن وقت تحريم عينها، ويحتمل أن يكون ذكره هنا تأكيدا ومبالغة في إشاعة ذلك، أو يكون قد حضر المجلس من لم يبلغه تحريم التجارة فيها قبل ذلك، فأعاد ذكر ذلك للإعلام لهم، وكان ذلك ورسول الله في المسجد، وهذا أيضا هو موقع الترجمة، وليس ذلك مثل ما قال بعضهم: وموقع الترجمة أن المسجد منزه عن الفواحش قولا وفعلا، لكن يجوز ذكرها فيه للتحذير منها. انتهى. قلت: إذا كان ذكر الفواحش جائزا في المسجد لأجل التحذير، فما وجه تخصيص ذكر فاحشة تحريم الخمر في المسجد؟ وجواب هذا يلزم هذا القائل، فعلى ما ذكرنا لا يرد سؤال فلا يحتاج إلى جواب.
954811 ح دثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت لما أنزلت الآيات من سورة البقرة في الربا خرج النبي إلى المسجد فقرأهن على الناس ثم حرم تجارة الخمر. (الحديث 954 أطرافه في: 4802، 6222، 0454، 1454، 2454، 3454).
مطابقة الحديث للترجمة قد ذكرناها الآن.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: عبدان: هو عبد ا بن عثمان المروزي، وعبدان، بفتح العين وسكون الباء الموحدة: لقب له قال البخاري: مات سنة إحدى وعشرين ومائتين، وأصله من البصرة. الثاني: أبو حمزة، بالحاء المهملة والزاي: اسه محمد بن ميمون السكري، مر في باب نفض اليدين في الغسل. الثالث: سليمان الأعمش.
231

الرابع: مسلم بن صبيح، بضم الصاد وفتح الباء الموحدة: وكنيته أبو الضحى الكوفي. الخامس: مسروق بن الأجدع الكوفي. السادس: عائشة رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في خمسة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين مروزي وكوفي. وفيه: ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش ومسلم ومسروق.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في البيوع عن مسلم بن إبراهيم، وفي التفسير عن بشر بن خالد، وفيه أيضا عن عمر بن حفص، وفي البيوع والتفسير أيضا عن محمد بن بشار. وأخرجه مسلم في البيوع عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم وعن زهير بن حرب. وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم به، وعن عثمان عن أبي معاوية. وأخرجه النسائي فيه، وفي التفسير عن بشر بن خالد به، وعن محمود بن غيلان. وأخرجه ابن ماجة في الأشربة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن علي بن محمد، كلاهما عن أبي معاوية الضرير به.
ذكر معناه قوله: (لما نزلت الآيات) هي من قوله تعالى: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * (البقرة: 572) إلى قوله: * (لا تظلمون ولا تظلمون) * (البقرة: 972) وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس أنه قال: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق). قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وروى ابن جريرج فال: حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، وقرأ: * (لا يقومون إلا كما يقوم الذي بتخبطه الشيطان من المس) * (البقرة: 572) قال: وذلك حين يقوم من قبره). قوله: (من سورة البقرة) وفي لفظ للبخاري: (لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، قرأها رسول الله على الناس ثم حرم التجارة في الخمر). وقال ابن كثير في تفسيره: قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر، وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك. قلت: ظاهر هذا يدل على أن تحريم الخمر كان مع تحريم الربا، ولكن قالوا: إن تحريم الخمر قبل تحريم الربا بمدة طويلة، كما ذكرنا عن قريب. والربا: مقصور، من: ربا يربو إذا زاد فيكتب بالألف، وأجاز الكوفيون كتبه بالياء بسبب الكسرة في أوله، وقد كتب في المصحف: بالواو. قال الفراء: إنما كتبوه بالواو لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ولغتهم الربو، فعلموهم صورة الخط على لغتهم، قال: ويجوز كتبه بالألف وبالواو وبالياء. قوله: (تجارة الخمر) أي: بيعها وشراءها.
47
((باب الخدم للمسجد))
أي: هذا باب في بيان أمر الخدم، بفتح الخاء والدال: جمع خادم، هكذا بكلمة: في في رواية كريمة، وفي رواية الأكثرين: الخدم للمسجد، باللام: وكان المناسب أن يكون هذا الباب عقيب باب: كنس المسجد، على ما لا يخفى.
وقال ابن عباس * (نذرت لك ما في بطني) * تعني * (محررا) * للمسجد يخدمها.
13
50 أشار البخاري بهذا التعليق إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعا أيضا في الأمم الماضية، ألا ترى أن ا تعالى حكى عن حنة أم مريم أنها لما حبلت نذرت تعالى أن يكون ما في بطنها محررا، يعني عتيقا يخدم المسجد الأقصى، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أن خدمة المساجد مما يتقرب به إلى ا تعالى لما نذرت به، وهذا أيضا موضع الترجمة. وأما التعليق المذكور فإن الضحاك ذكره عن ابن عباس في تفسيره. قوله: (تعني) بلفظ المؤنث الغائب، لأنه يرجع إلى حنة أم مريم، و: حنة، بفتح الحاء المهملة وتشديد النون. قوله: (يخدمها)، ويروى: (ويخدمه)، أي: يخدم المسجد، وعلى الأول: يخدم المساجد أو الأرض المقدسة، ونحو
ذلك.
064911 ح دثنا أحمد بن واقد قال حدثنا حماد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة
232

أن امرأة أو رجلا كانت تقم المسجد ولا أراه إلا امرأة فذكر حديث النبي أنه صلى على قبره. (انظر الحديث 854 وطرفه).
وجه مطابقته للترجمة ظاهر، والكلام فيه قد مر مستوفى عن قريب، وأحمد بن واقد بالقاف هو أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني أبو يحيى، مات سنة إحدى وعشرين ومائتين ببغداد، وحماد هو ابن زيد، وثابت البناني وأبو رافع نفيع، وقد مر ذكرهم. قوله: (ولا أراه)، بضم الهمزة أي: لا أظنه، وهذا من كلام أبي رافع، ويحتمل أن يكون من كلام أبي هريرة، رضي ا تعالى عنه. قوله: (فذكر) أي: أبو هريرة رضي ا تعالى عنه، ذكر حديث النبي عليه الصلاة والسلام، الذي تقدم في الباب السابق.
57
((باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد))
أي: هذا باب في بيان إباحة ربط الأسير أو الغريم في المسجد، وكان القاضي شريح يأمر بربط الغريم في سارية من سواري المسجد. قوله: (الأسير)، فعيل بمعنى مفعول، قال الجوهري: أسره أي: شده بالإسار، وهو القد، ومنه سمي الأسير. وكانوا يشدونه بالقد فسمي كل أخيذ أسيرا، وإن لم يشد به، والغريم هو الذي عليه الدين، وقد يكون الغريم له الدين، والمراد هنا الأول. قوله: (يربط)، جملة وقعت حالا من كل واحد من: الأسير والغريم، بتقدير جملة أخرى نحوها للمطعوف عليه، ورواية الأكثرين بكلمة: أو التي للتنويع، وفي رواية ابن السكن وغيره: والغريم، بواو العطف.
164121 ح دثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي قال إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة أو كلمة نحوها ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فأردت إن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي قال روح فرده خاسئا. (الحديث 164 أطرافه في: 0121، 4823، 3243، 8084).
11
50 وجه مطابقته للترجمة في قوله: (الأسير)، ظاهر، وأما في قوله: (والغريم) فبالقياس عليه، لأن الغريم مثل الأسير في يد صاحب الدين.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه، تقدم في كتاب العلم. الثاني: روح، بفتح الراء: ابن عبادة، بضم العين المهملة وخفة الباء الموحدة. الثالث: محمد بن جعفر المشهور بغندر. الرابع: شعبة بن الحجاج. الخامس: محمد بن زياد، بكسر الزاي المعجمة وتخفيف الياء آخر الحروف، تقدم ذكره في باب غسل الأعقاب. السادس: أبو هريرة رضي ا تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: رواية إسحاق عن شيخين. وفيه: القول بينه وبينهما. وفيه: أن رواته ما بين مروزي وبصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن محمد بن بشار، وفي التفسير عن إسحاق بن إبراهيم أيضا، وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، عن محمد بن بشار أيضا، وفي صفة إبليس عن محمود ومحمد فرقهما، كلاهما عن شبابة. وأخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم وإسحاق بن منصور، وعن محمد بن بشار عن غندر، وعن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي في التفسير عن غندر عن بندار.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (إن عفريتا) قال ابن الحاجب: وزنه: فعليت وفي (المحكم): رجل عفر وعفرية وعفاريت وعفريت، بين العفارة: خبيث منكر. وقال الزجاج: العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه، من: خبث ودهاء، وقد تعفرت. وفي (الجامع): والشيطان عفريت وعفرية وهم العفاريت والعفارية، وفي القرآن: * (قال عفريت من الجن) * (النمل: 93) وقرأ بعض القراءة: قال عفرية من الجن، قال الجوهري: إذا سكنت الباء صيرت الهاء تاء، وإذا حركتها فالتاء هاء في الوقف. قوله: (من الجن)، قال ابن
233

سيده: الجن نوع من العالم، والجمع: جنان، وهم: الجنة، والجني منسوب إلى الجن، والجنة طائف من الجن، والمجنة الجن، وأرض مجنة: كثيرة الجن، والجان: أبو الجن، والجان: الجن، وهو اسم جمع.
واعلم أن الموجود الممكن الذي ليس بمتحيز ولا صفة للمتحيز هم الأرواح، وهي: إما سفلية وإما علوية. فالسفلية: إما خيرة وهم: صالحو الجن، أو شريرة وهم مردة الشياطين. والعلوية: إما متعلقة بالأجسام: وهي الأرواح الفلكية، أو غير متعلقة بالأجسام: وهي الأرواح المقدسة. وقال ابن دريد: الجن خلاف الإنس، يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه وغطاه في معنى واحد: إذا ستره، وكل شيء استتر فقد جن عنك، وبه سميت الجن، وقال ابن عقيل: إنما سمي الجن جنا لاستجنانهم واستتارهم عن العيون، ومنه سمي الجنين جنينا.
قوله: (تفلت)، بفتح الفاء وتشديد اللام: أي تعرض لي فلتة أي بغتة. وفي (المحكم): أفلت الشيء إذا أخذه بغتة في سرعة، و: كان ذلك فلتة أي: فجأة، والجمع: فلتات، لا يجاوز بها جمع السلامية، والفلتة الأمر يقع من غير إحكام. وفي (المنتهى): تفلت علينا وإلينا. وفي (الصحاح): أفلت الشيء يفلت وانفلت بمعنى، وأفلته غيره. قوله: (البارحة)، هي أقرب ليلة مضت. وفي (المنتهى): كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة أدنى ليلة زالت عنك، تقول: لقيته البارحة
، والبارحة الأولى، ومنذ ثلاث ليال. وفي (المحكم): البارحة هي الليلة الخالية ولا تحقر، وقال قاسم في (كتاب الدلائل): يقال: بارحة الأولى يضاف الاسم إلى الصفة، كما يقال: مسجد الجامع، ومنه الحديث: (كانت لي شاة فعدا عليها الذئب بارحة الأولى). وانتصابها على الظرفية. قوله: (أو كلمة نحوها) أي: أو قال كلمة، نحو: تفلت علي البارحة، مثل قوله في رواية أخرى للبخاري: (عرض لي فشد علي)، ووقع في رواية عبد الرزاق: (عرض لي في صورة هر)، وفي رواية مسلم من حديث أبي الدرداء: (جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي). قوله: (إلى سارية) وهي الأسطوانة. قوله: (حتى تصبحوا)، أي: حتى تدخلوا في الصباح، وهي تامة لا تحتاج إلى خبر. قوله: (كلكم)، بالرفع تأكيد للضمير المرفوع. قوله: (رب اغفر لي وهب لي) كذا في رواية أبي ذر، وفي بقية الروايات هنا: (رب هب لي)، قال الكرماني: ولعله ذكره على قصد الاقتباس من القرآن، لا على قصد أنه قرآن. انتهى. ووقع في رواية مسلم، كما في رواية أبي ذر: والأخوة بين سليمان وبين سيدنا محمد بحسب أصول الدين أو بحسب المماثلة في الدين. قوله: (قال روح فرده خاسئا) أي: قال روح بن عبادة المذكور في سند الحديث، فرده النبي، أي: العفريت، حال كونه خاسئا أي: مطرودا. وفي (المحكم): الخاسىء من الكلاب والخنازير والشياطين: البعيد الذي لا يترك أن يدنو من الناس، وخسأ الكلب يخسأ خسأ وخسوءا فخسأ وانخسأ، ويقال: اخسأ إليك واخسأ عني. وفي (الصحاح): خسأت الكلب طردته، وخسأ الكلب نفسه، يتعدى ولا يتعدى، ويكون الخاسىء بمعنى: الصاغر الذليل، ثم إن قوله هذا بحسب الظاهر يدل على أن هذه الزيادة في رواية روح دون رفيقه محمد بن جعفر، ولكن البخاري روى في أحاديث الأنبياء عن محمد بن بشار عن محمد بن جعفر وحده، فزاد في آخره أيضا: (فرددته خاسئا)، وفي رواية مسلم: (فرده ا خاسئا)، فعل هذا دل على أن قوله: قال روح، داخل تحت الإسناد، وبهذا يحصل الجواب عن قول الكرماني. فإن قلت: هذا تعليق للبخاري منه، أو هو داخل تحت الإسناد السابق.
ذكر ما يستنبط منه من الفوائد الأولى: قال الخطابي: فيه دليل على أن رؤية الجن البشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة والجسم، وإن لطف فدركه غير ممتنع أصلا، وأما قوله تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) * (الأعراف: 72) فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم ا بذلك وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبون الأمان من غائلتهم، ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك، وقال الكرماني: لا حاجة إلى هذا التأويل، إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقا، إذ المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت.
الثانية: فيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري، ولأنه، قال: (إن عدو ا إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي). وقال: (رأيت ليلة أسري بي عفريتا من الجن يطلبني بشعلة من نار كلما التفت إليه رأيته). ولو كانوا باقين على عنصرهم الناري، وأنهم نار محرقة، لما احتاجوا إلى أن يأتي الشيطان أو العفريت منهم بشعلة من نار، ولكانت يد الشيطان أو العفريت أو شيء من أعضائه إذا مس ابن آدم أحرقه، كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر
234

حتى صار إلى البرد ويؤيد ذلك قوله: (حتى وجدت برد لسانه على يدي)، وفي رواية: (برد لعابه).
الثالثة: فيه دليل على أن أصحاب سليمان كانوا يرون الجن، وهو من دلائل نبوته، ولولا مشاهدتهم إياهم لم تكن تقوم الحجة له لمكانته عليهم.
الرابعة: قال ابن بطال: رؤيته للعفريت هو مما خص به، كما خص برؤية الملائكة. وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي الشيطان في هذه الليلة، وأقدره ا عليه لتجسمه، لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى في روعه ما وهب سليمان فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه، رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصا على إجابة ا تعالى دعوته. وأما غير النبي من الناس فلا يمكن منه ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره لقوله تعالى: * (إنه يراكم) * (الأعراف: 72) الآية، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية، فقتله فمات الرجل به، فبين النبي ذلك بقوله: (إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم من هذه الهوام شيئا فاذنوه ثلاثا، فإن بدا لكم فاقتلوه)، رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، من حديث أبي سعيد الخدري.
ثم اعلم أن الجن يتصورون في صور شتى، ويتشكلون في صور الإنسان والبهائم والحيات والعقارب والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صورة الطيور. وقال القاضي أبو يعلى: ولا قدرة للشيطان على تغيير خلقتهم والانتقال في الصور، إنما يجوز أن يعلمهم ا كلمات وضربا من ضروب الأفعال إذا فعله وتكلم به نقله ا من صورة إلى صورة أخرى، وأما أن يتصور بنفسه فذلك محال، لأن انتقالها من صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء، وإذا انتقضت بطلت الحياة، والقول في تشكل الملائكة كذلك.
الخامسة: فيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد، وعل هذا بوب البخاري الباب، ومن هذا قال المهلب: إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه أو دين، والتوثق منه في المسجد أو غيره. فإن قلت: قوله: (وأردت أن أربطه)، ما وجهه وهو في الصلاة؟ قلت: يحتمل أن يكون ربطه بعد تمام الصلاة، أو يربطه بوجه كان شغلا يسيرا فلا تفسد به الصلاة.
67
((باب الإغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضا في المسجد))
أي: هذا باب في بيان حكم اغتسال الكافر إذا أسلم، وبيان ربط الأسير في المسجد، وهذه الترجمة وقعت هكذا في أكثر الروايات وليس في رواية الأصيلي وكريمة قوله
: (وربط الأسير أيضا في المسجد)، ووقع عند البعض لفظ: باب، بلا ترجمة والصواب هنا النسخة التي فيها ذكر الباب مفردا بلا ترجمة لأن حديث هذا الباب من جنس حديث الباب الذي قبله، ولكن لما كانت بينهما مغايرة ما فصل بينهما بلفظ: باب، مفردا، وأما قول ابن المنير: وذكر هذا الحديث في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد أوقع وأنص على المقصود، لأن ثمامة كان أسيرا فربط في المسجد، ولكنه لم يذكره هناك، لأنه، لم يربطه. ولم يأمر بربطه، فقول صادر من غير تأمل، لأن ابن إسحاق صرح في مغازيه أن النبي، وهو الذي أمرهم بربطه، فإذا كان كذلك كان حديث ثمامة من جنس حديث العفريت، ولكن لما كان بينهما مغايرة ما، وهو أن النبي، هم بربط العفريت بنفسه، ولكنه لم يربطه لمانع ذكرناه، وههنا ربطه غيره، فلذلك فصل البخاري بينهما بلفظ: باب، مفردا، وهو أصوب من النسختين المذكورتين، لأن في نسخة الجمهور ذكر الاغتسال إذا أسلم، وليس في حديث الباب ذكر لذلك ولا إشارة إليه، وفي نسخة الأصيلي ربط الأسير غير مذكور، وحديث الباب يصرح بذلك، وأبعد من الكل النسخة التي ذكرها ابن المنير وهي: باب ذكر الشراء والبيع، وفيه أبو هريرة: (بعث رسول الله خيلا...) الحديث، ثم قال: وجه مطابقة حديث ثمامة للبيع والشراء في المسجد أن الذي تخيل المنع مطلقا، إنما أخذه من ظاهر أن هذه المساجد إنما بنيت للصلاة ولذكر ا، فبين البخاري تخصيص هذا العموم بإجازة فعل غير الصلاة في المسجد، وهو ربط ثمامة، لأنه مقصود صحيح، فالبيع كذلك، انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف. وقال صاحب (التلويح)، بعد أن نقل هذا الكلام منكرا عليه ومستبعدا وقوعه منه:
وذاك لعمري قول من لم يمارس كتاب الصحيح المنتقى في المدارس
235

ولم ير ما قد قاله في الوفود من سياق حديث واضح متجانس
وكان الشيخ قطب الدين الحلبي تبع ابن المنير في ذلك، وأنكر عليه تلميذه صاحب (التوضيح) وهو محل الإنكار، لأن الترجمة التي ذكرها ليس في شيء من نسخ البخاري.
وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد.
مطابقة هذا الأثر للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، وهذا تعليق من البخاري، وقد وصله معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: (كان شريح إذا قضى على رجل بحق أمر بحبسه في المسجد إلى أن يقوم بما عليه، فإن أعطى الحق وإلا أمر به في السجن)، وشريح، بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: ابن الحارث الكندي، كان من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، وكان في زمن النبي ولم يلقه، قضى بالكوفة من قبل عمر، رضي ا تعالى عنه، ومن بعده ستين سنة، مات سنة ثمانين وقال ابن مالك في إعراب هذا وجهان: أحدهما: أن يكون الأصل بالغريم، وأن يحبس بدل اشتمال، ثم حذفت الباء كما في قوله:
أمرتك الخير
والثاني: أن يريد، كأن يأمره أن ينحبس فجعل المطاوع موضع المطاوع لاستلزامه إياه. انتهى. قلت: هذا تكلف، وحذف الباء في الشعر للضرورة ولا ضرورة ههنا، وهذا التركيب ظاهر فلا يحتاج إلى مثل هذا الإعراب، ولا شك أن المأمور، هو الغريم، أمر بأن يحبس نفسه في المسجد فإن قضى ما عليه ذهب في حاله وإلا أمر به في السجن، وأن يحبس أصله بأن يحبس ويحبس، على صيغة المجهول، يعني: أمره أن يحبس نفسه في المسجد أولا. وعند المطل يحبس في السجن.
264221 ح دثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثنا سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة قال بعث النبي خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي فقال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلي نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. (الحديث 264 أطرافه في: 964، 2242، 3242، 2734).
مطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، كما في الأثر المذكور.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: عبد ا بن يوسف التنيسي. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: سعيد بن أبي سعيد المقبري، والكل تقدموا. الرابع: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث في ثلاثة مواضع في موضعين بصيغة الجمع وفي موضع بصيغة الإفراد. وفيه: السماع والقول. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في الأشخاص عن قتيبة، وعنه أيضا في الصلاة. وأخرجه أيضا ا في الصلاة والأشخاص والمغازي عن عبد ا بن يوسف. وأخرجه مسلم في المغازي عن قتية. وأخرجه أبو داود في الجهاد، وعن عيسى بن حماد وقتيبة. وأخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة ببعضه، وببعضه في الصلاة.
ذكر معناه قوله: (خيلا) الخيل الفرسان، قاله الجوهري والخيل أيضا: الخيول. وقال بعضهم أي: رجالا على خيل. قلت: هذا تفيسر من عنده وهو غير صحيح، بل المراد ههنا من الخيل هم الفرسان. ومنه قوله تعالى: * (واجلب عليهم بخيلك ورجلك) * (الإسراء: 46) أي: بفرسانك ورجالتك، والخيالة: أصحاب الخيول. وقال ابن إسحاق؛ السرية التي أخذت ثمامة كان أميرها محمد بن مسلمة، أرسله، في ثلاثين راكبا إلى القرطاء من بني أبي بكر بن كلاب بناحية ضربة بالبكرات لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست، وعند ابن سعد: على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة، وكانت غيبته بها تسع عشرة ليلة وقدم لليلة بقيت من المحرم. قوله: القرطاء، بضم القاف وفتح الراء والطاء المهملة: وهم نفر من بني أبي بكر
236

بن كلاب، وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضرية، وبين ضرية والمدينة سبع ليال، وضرية، بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف: وهي أرض
كثيرة العشب، وإليها ينسب الحمى، وضربة: في الأصل بنت ربيعة بن نذار بن مد بن عدنان، وسمي الموضع المذكور باسمها، و: البكرات، بفتح الباء الموحدة في الأصل: جمع بكرة، وهي ماء بناحية ضرية. قوله: (قبل نجد)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة: وهو الجهة، ونجد، بفتح النون وسكون الجيم: وهو في جزيرة العرب. قال المدائني: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة ونجد وحجاز وعروض ويمن. أما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل سد من اليمن حتى يتصل بالشام وفيه المدينة وعمان، وأما العروض فهي اليمامة إلى البحرين. وقال الواقدي: الحجاز من المدينة إلى تبوك ومن المدينة إلى طريق الكوفة ومن وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة فهو نجد، وما بين العراق وبين وجرة وعمرة الطائف، نجد، وما كان وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز، سمي حجازا لأنه يحجز بينهما. قوله: (ثمامة)، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم وبعد الألف ميم أخرى مفتوحة، وأثال، بضم الهمزة وتخفيف الثاء المثلثة وبعد الألف لام.
قوله: (فانطلق إلى نجل) أي: فأطلقوه فانطلق إلى نجل، ونجل: بفتح النون وسكون الجيم وفي آخره لام؛ وهو الماء النابع من الأرض. وقال الجوهري: استنجل الموضع أي كثر به النجل، وهو الماء يظهر من الأرض، وهكذا وقع في النسخة المقروءة على أبي الوقت، وكذا زعم ابن دريد، وفي أكثر الروايات: إلى، نخل، بالخاء المعجمة، وكذا في رواية مسلم، ويؤيد هذا ما رواه ابن خزيمة في (صحيحه) من حديث أبي هريرة: (أن ثمامة أسر وكان النبي يغدو إليه فيقول: ما عندك يا ثمامة؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تمن تمن على شاكر، وإن ترد المال نعطك منه ما شئت، وكان أصحاب النبي يحبون الفداء ويقولون: ما نصنع بقتل هذا؟ فمر عليه النبي يوما فأسلم فحله وبعث به إلى حائط أبي طلحة، فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلى ركعتين، فقال: لقد حسن إسلام أخيكم). وبهذا اللفظ أخرجه أيضا ابن حبان في (صحيحه): وأخرجه البزار أيضا بهذه الطريق وفيه (فأمره النبي عليه الصلاة والسلام، أن يغتسل بماء وسدر)، وفي بعض الروايات: (أن ثمامة ذهب إلى المصانع فغسل ثيابه واغتسل)، وفي (تاريخ البرقي): فأمره أن يقوم بين أبي بكر وعمر فيعلمانه.
ذكر ما يستفاد منه من الفوائد. الأولى: جواز دخول الكافر المسجد. قال ابن التين: وعن مجاهد وابن محيريز جواز دخول أهل الكتاب فيه، وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك والمزني: لا يجوز. وقال أبو حنيفة؛ يجوز للكتابي دون غيره، واحتج بما رواه أحمد في (مسنده) بسند جيد: عن جابر رضي ا تعالى عنه، قال: قال رسول ا: (لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم) واحتج مالك بقوله تعالى: * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) * (التوبة: 82) وبقوله تعالى: * (في بيوت أذن ا أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * (النور: 63) ودخول الكفار فيها مناقض لرفعها، وبقوله: (إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من البول والقذر). والكافر لا يخلو عن ذلك، وبقوله عليه السلام: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) والكافر جنب. ومذهب الشافعي أنه: يجوز بإذن المسلم، سواء كان الكافر كتابيا أو غيره، واستثنى الشافعي من ذلك مسجد مكة وحرمه، وحجته حديث ثمامة، وبأن ذات المشرك ليست بنجسة.
الثانية: فيه أسر الكافر وجواز إطلاقه، وللإمام في حق الأسير العاقل القتل أو الاسترقاق أو الإطلاق منا عليه، أو الفداء. قال الكرماني: يحتمل أنه أطلق ثمامة لما علم أنه آمن بقلبه وسيظهره بكلمة الشهادة. وقال ابن الجوزي: لم يسلم تحت الأسر لعزة نفسه، وكأن رسول الله أحس بذلك منه، فقال: أطلقوه، فلما أطلق أسلم قلت: يرد هذا حديث أبي هريرة الذي رواه ابن خزيمة وابن حبان الذي ذكرناه الآن، وفيه: (فمر يوما فأسلم فحله). فهذا يصرح بأن إسلامه كان قبل إطلاقه، فيعذر الكرماني في هذا. لأنه قال بالاحتمال ولم يقف على حديث أبي هريرة، وأما ابن الجوزي فكيف غفل عن ذلك مع كثرة اطلاعه في الحديث؟
الثالث: فيه جواز ربط الأسير في المسجد. وقال القرطبي: يمكن أن يقال: ربطه بالمسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها فيأنس لذلك. قلت: يوضح هذا ما رواه ابن خزيمة في (صحيحه): عن عثمان بن أبي العاص: أن وفد ثقيف لما قدموا أنزلهم النبي المسجد ليكون أرق لقلوبهم.
237

وقال جبير بن مطعم، فيما ذكره أحمد، رحمه ا: دخلت المسجد والنبي يصلي المغرب، فقرأ بالطور، فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن، وقيل؛ يمكن أن يكون ربطه بالسمجد لأنه لم يكن لهم موضع يربط فيه إلا المسجد.
الرابعة: فيه اغتسال الكافر إذا أسلم وذهب الشافعي إلى وجوبه على الكافر إذا أسلم إن كانت عليه جنابة في الشرك، سواء اغتسل منها في الشرك أو لا، وقال بعض أصحابه: إن كان اغتسل منها أجزأه. وإلا وجب، وقال بعض أصحابه وبعض المالكية: لا غسل عليه ويسقط حكم الجنابة بالإسلام، كما تسقط الذنوب. وضعفوا هذا بالوضوء، وأنه يلزم بالإجماع. هذا إذا كان أجنب في الكفر، أما إذا لم يجنب أصلا، ثم أسلم، فالغسل مستحب. وكذا قاله مالك. وقال القرطبي: وهذا الحديث يدل على أن غسل الكافر كان مشروعا عندهم معروفا، وهذا ظاهر البطلان. وقال أيضا: والمشهور من قول مالك أنه إنما يغتسل لكونه جنبا. قال: ومن أصحابنا من قال: إنه يغتسل للنظافة، واستحبه ابن القاسم، ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس.
وقال ابن بطال: أوجب الإمام أحمد الغسل علي من أسلم. وقال الشافعي: أحب أن يغتسل فإن لم يكن جنبا أجزأه أن يتوضأ. وقال مالك: إذا أسلم النصراني فعليه الغسل، لأنهم لا يتطهرون. فقيل: معناه لا يتطهرون من النجاسة في أبدانهم، لأنه يستحيل عليهم التطهر من الجنابة، وإن نووها لعدم الشرع، وقال: وليس في الحديث أن النبي، أمره بالاغتسال، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أنه، أمر أحدا أسلم بالغسل. قلت: قد مر في حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والبزار، وفيه: فأمره أن يغتسل. وفي (تاريخ نيسابور) للحام: من حديث عبد ا بن محمد بن عقيل: عن أبيه عن جده قال: لما أسلمت أمرني النبي بالاغتسال. وفي (الحلية): لأبي نعيم عن واثلة، قال: (لما أسلمت قال لي النبي: غتسل بماء وسدر، واحلق عنك شعر الكفر). وفي كتاب القرطبي: روى عبد الرحيم بن عبيد ا بن عمر عن أبيه عن نافع، عن ابن عمر: (أن رسول الله أمر رجلا أسلم أن يغتسل). وروى مسلم ابن سالم عن أبي المغيرة عن البراء بن عازب. (أن النبي أمر
رجلا أسلم أن يغتسل بماء وسدر).
الخامسة: أخذ ابن المنذر من هذا الحديث جواز دخول الجنب المسلم المسجد، وأنه أولى من المشرك لأنه ليس بنجس، بخلاف المشرك.
[/ اآ
77
((باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم))
أي: هذا باب في بيان جواز الخيمة في المسجد لأجل (المرضى) وهو: جمع مريض. قوله: (وغيرهم) أي: وغير المرضى.
364321 ح دثنا زكرياء بن يحيى قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلم يرعهم وفي المسجد خيمة من بني غفار إلا الدم يسيل إليهم فقالوا يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم فإذا سعد يغدو جرحه دما فمات فيها. (الحديث 364 أطرافه في: 3182، 1093، 7114، 2214).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: زكريا بن يحيى بن عمر أبو السكن الطائي الكوفي. الثاني: عبد ا بن نمير، بضم النون وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، وقد تقدم. الثالث: هشام بن عروة بن الزبير بن العوام. الرابع: أبوه عروة. الخامس: عائشة أم المؤمنين.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول. وفيه: أن زكريا من أفراد البخاري ويجوز فيه المد والقصر. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري مقطعا في الصلاة، وفي المغازي، وفي الهجرة عن زكريا بن يحيى وفي الصلاة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد ا بن نمير به مختصرا. وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب. وأخرجه أبو داود في الجنائز عن عثمان بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي في الصلاة عن عبيد ا بن سعيد.
238

ذكر معناه قوله: (سعد) هو سعد بن معاذ أبو عمرو سيد الأوس، بدري كبير. قال أبو نعيم: مات في شوال سنة خمس، وكذا قال ابن إسحاق، ونزل في جنازته سبعون ألف ملك ما وطئوا الأرض قبل، واهتز له عرش الرحمن، وفي رواية: العرش فإن قلت: ما وجه اهتزاز العرش له؟ قلت: أجيب بأجوبه. الأول: أنه اهتز استبشارا بقدوم روحه. الثاني: أن المراد اهتزاز حملة العرش، ومن عنده من الملائكة. الثالث: أن المراد بالعرش الذي وضع عليه، وسيأتي عند البخاري أن رجلا قال لجابر بن عبد ا: إن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الحيين ضغائن. قال ابن الجوزي وغيره: يعني بالحيين: الأوس والخزرج. وكان سعد من الأوس، والبراء من الخزرج، وكل منهم لا يقر بفضل صاحبه عليه. قال صاحب (التلويح): وفيه نظر من حيث إن سعدا والبراء كل منهما أوسي، وإنما أشكل عليهم فيما أرى أنه رأى في نسب البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج، وسعد بن معاذ بن النعمان بن امريء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث الأوسي، فظن أن الخزرج الأول هو أبو الخزرجيين، ففرق بينهما، وإنما هو الخزرج أبو الحارثيين المذكورين في نسبهما، وهو ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة، كذا ذكر نسبهما بن سعد وابن إسحاق وخليفة في الآخرين.
قوله: (يوم الخندق)، ويسمى: الأحزاب، ذكرها ابن سعد في ذي القعدة، وموسى بن عقبة: في شوال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: في شوال سنة خمس، وزعم أبو عمر وغيره: أن سعدا مات بعد الخندق بشهر، وبعد قريظة بليال. قوله: (في الأكحل) على وزن: الأفعل، عرق في اليد، ويقال له: النساء في الفخذ، وفي الظهر الأبهر. قاله في (المخصص) و (المجمل) وقي: الأكحل هو عرق الحياة، ويدعى: نهر البدن، وفي كل عضو منه شعبة لها اسم على حدة، فذا قطع في اليد لم يرق الدم. وفي (الصحاح): هو عرق في اليد يفصد، ولا يقال عرق الأكحل. قوله: (فضرب النبي خيمة)، ضرب يستعمل لمعان كثيرة، وأصل التركيب يدل على الإيقاع، والباقي يستعمل ويحمل عليه، وههنا المعنى: نصب خيمة وأقامها على أوتاد مضروبة في الأرض، والخيمة؛ بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، والجمع: خيمات وخيم، مثل: بدرة وبدر، والخيم: مثل الخيمة، والجمع: خيام مثل؛ فرخ وفراخ، وعند أبي نعيم الأصبهاني: ضرب له النبي خباء في المسجد، والخباء واحد الأخبية من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة وما فوق ذلك، فهو بيت.
قوله: (فلم يرعهم)، بضم الراء وسكون العين المهملة: من الروع، وهو الفزع. يقال: رعت فلانا وروعته فارتاع، أي: أفزعته، ففزع. وقال الخطابي: الروع إعظامك الشيء وإكباره فترتاع. قال: وقد يكون من خوف، وفي (المحكم): الروع، والرواع واليروع: الفزع، راعني الأمر روعا ورووعا، عن ابن الأعرابي، كذلك حكاه بغير همز، وإن شئت همزة، وارتاع منه وله وروعته فتروع، ورجل روع ورائع متروع كلاهما على النسب، والمعنى ههنا؛ فلم يرعهم أي: لم يفزعهم إلا الدم، وقال الخطابي: والمعنى أنهم بينا هم في حال طمأنينة وسكون حتى أفزعهم رؤية الدم فارتاعوا له. قوله: (وفي المسجد خيمة من بني غفار) جملة معترضة بين الفعل، أعني: لم يرعهم، والفاعل أعني: إلا الدم. و: بني غفار بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء وفي آخره راء، وبنو غفار: من كنانة رهط أبي ذر الغفاري، رضي ا تعالى عنه، وهذه الخيمة كانت لرقية الأنصارية. وقيل: الأسلمية، وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بخدمتها من كانت به ضيعة من المسلمين. قوله: (من قبلكم) بكسر القاف، أي: من جهتكم قوله: (يغذو)، بالغين والذال المعجمتين أي: يسيل، وهو فعل مضارع من غذا العرق نفسه يغذو غدوا وغذوانا،
إذا سال، وكل ما سال فقد غذا، والغذوان المسرع. وقوله: (جرحه)، مرفوع لأنه فاعل: يغذو. وقوله: (دما)، نصب على التمييز. قوله: (منها) أي: من الجراحة، وهذه رواية الكشميهني والمستملي، وفي رواية غيرهما: (فمات فيها)، أي: في الخيمة أو في الجراحة التي الجرح بمعناها، وكانت جراحته في الأكحل، رماه رجل من قريش يقال له: حبان بن العرفة، وهو حبان ابن أبي قبيس من بني مغيص بن عامر بن لؤي، والعرفة هي أم عبد مناف، واسمها: قربة بنت سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص، سميت العرفة لطيب ريحها، فيما ذكره الكلبي. وقال أبو عبيد بن سلام: العرفة هي أم حبان، وتكنى: أم فاطمة، قال السهيلي: وهي جدة خديجة أم أمها هالة.
ذكر ما يستنبط من الأحكام الأول: استدل به مالك وأحمد على أن النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كانت
239

فرضا لما أجاز النبي للجريح أن يسكن في المسجد، وبه قال الشافعي في القديم. قلت: لقائل أن يقول: إن سكنى سعد في المسجد إنما كان بعد ما اندمل جرحه، والجرح، إذا اندمل زال ما يخشى من نجاسته. الثاني: قال ابن بطال: فيه: جواز سكنى المسجد للعذر، والباب مترجم به. الثالث: فيه أن السلطان أو العالم إذا شق عليه النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره ينقل المريض إلى موضع يخف عليه فيه زيارته، ويقرب منه، وللحديث فوائد أخرى يأتي عند ذكر البخاري تمامه إن شاء ا تعالى.
87
((باب إدخال البعير في المسجد للعلة))
أي: هذا باب في بيان إدخال البعير في المسجد للعلة أي: للحاجة، وهي أعم من أن تكون للضعف أو غيره، وقيل: المراد بالعلة الضعف، واعترض عليه بأن هذا ظاهر في حديث أم سلمة دون حديث ابن عباس. وأجيب: بأن أبا داود روي عنه أن النبي قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، ومع هذا كله تقييد العلة بالضعف، لا وجه له لأنا قلنا: إنها أعم، فتتناول الضعف وإن يكون طوافه على بعيره ليراه الناس، كما جاء عن جابر: أنه إنما طاف على بعيره ليراه الناس وليسألوه، فإن الناس غشوه.
وقال ابن عباس طاف النبي على بعير.
13
50 مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن فيه إدخال البعير في المسجد للعلة لأنه لما قدم مكة كان يشتكي على ما رواه أبو داود عنه، فذكره البخاري معلقا، وذكره مسندا في باب: من أشار إلى الركن في كتاب الحج.
124 - (حدثني عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله
أني أشتكي قال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة فطفت ورسول الله
يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور)
مطابقته للترجمة في قوله ' طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ' وفيه جواز إدخال البعير في المسجد لعلة الضعف
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول عبد الله بن يوسف التنيسي. الثاني الإمام مالك. الثالث محمد بن عبد الرحمن بن الأسود بن نوفل بفتح النون والفاء يعرف بيتيم عروة بن الزبير تقدم ذكره في باب الجنب يتوضأ ثم ينام. الرابع عروة بن الزبير. الخامس زينب بنت أبي سلمة وهي بنت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي وكان اسمها برة فسماها رسول الله
زينب. السادس أم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك وفيه العنعنة في أربعة مواضع وفيه القول وفيه رواية تابعي عن تابعي وهما محمد وعروة ورواية عروة عن صحابية وهي زينب لأنها سمعت النبي
عند البخاري وفيه رواية صحابية عن صحابية وهما زينب وأم سلمة وفيه أن رواة إسناده مدنيون ما خلا شيخ البخاري
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة وفي التفسير عن عبد الله بن يوسف وأخرجه في الحج عن إسماعيل والقعنبي وفيه أيضا عن محمد بن حرب وأخرجه مسلم في الحج عن يحيى بن يحيى عن مالك به وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين وفيه وفي التفسير عن عبيد الله بن سعيد وأخرجه ابن ماجة في الحج عن إسحاق بن منصور وأحمد بن سنان وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن معلى بن منصور عن مالك به
(ذكر معناه) قوله ' أني أشتكي ' في محل النصب فإنه مفعول شكوت يقال اشتكي عضوا من أعضائه إذا توجع منه
240

وشكوت فلانا إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك قوله ' فطفت ' أي راكبة على البعير حتى يدل الحديث على الترجمة قوله ' إلى جنب البيت ' أي الكعبة لأن البيت علم للكعبة شرفها الله وعظمها وقال الكرماني (فإن قلت) الصلاة إلى البيت فما فائدة ذكر الجنب (قلت) معناه أنه كان يصلي منها إلى الجنب يعني قريبا من البيت لا بعيدا منه انتهى وقال أبو عمرو صلاته إلى جنب البيت من أجل أن المقام كان حينئذ ملصقا بالبيت قبل أن ينقله عمر رضي الله تعالى عنه من ذلك المكان إلى صحن المسجد انتهى.
والوجه في ذلك أن البيت كله قبلة فحيث صلى المصلي منه إذا جعله أمامه كان مستحسنا جائزا قوله ' يقرأ بالطور ' أي بسورة الطور ولعلها لم تذكر واو القسم لأن لفظ الطور كأنه صار علما للسورة
(ذكر ما يستفاد منه) قال ابن بطال فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى ذلك وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك واعترض عليه بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول وفيه نظر لأن قوله
' طوفي وأنت راكبة ' لا يدل على أن الجواز وعدمه دائران مع التلويث بل ظاهره يدل على الجواز مطلقا عند الضرورة وقيل أن ناقته
كانت مدربة معلمة فيؤمن منها ما يحذر من التلويث وهي سائرة (قلت) سلمنا هذا في ناقة النبي
ولكن ما يقال في الناقة التي كانت عليها أم سلمة وهي طائفة ولئن قيل أنها كانت ناقة النبي
قيل له يحتاج إلى بيان ذلك بالدليل. ومن فوائده أن النساء ينبغي لهن أن يطفن من وراء الرجال لأن بالطواف شبها بالصلاة ومن سنة النساء فيها أن يكن خلف الرجال فكذلك في الطواف. ومنها أن راكب الدابة ينبغي له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع ولا يخالط الرجالة. ومنها أن فيه جواز الطواف راكبا للمعذور ولا كراهة فيه فإن كان غير معذور يعتبر عندنا وعند الشافعي لا يجوز لقوله
' الطواف بالبيت صلاة ' ولنا إطلاق قوله تعالى * (وليطوفوا) * وهو مطلق والحديث للتشبيه فلا عموم له وبقولنا قال ابن المنذر وجماعة وقال القرطبي الجمهور على كراهة ذلك قلنا نحن أيضا نقول بالكراهة حتى أنه يعيده ما دام بمكة وسيجئ مزيد الكلام فيه في باب الحج إن شاء الله تعالى
97
((باب))
إن لم يقدر شيء قبل لفظ: باب، أو بعده لا يكون معربا، لأن الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب. ثم إن البخاري جرت له عادة أنه إذا ذكر لفظ باب مجردا عن الترجمة يدل ذلك على أن الحديث الذي يذكر بعده يكون له مناسبة بأحاديث الباب الذي قبله، وههنا لا مناسبة بينهما أصلا بحسب الظاهر على ما لا يخفى، لكن تكلف في ذلك فقيل: تعلقه بأبواب المساجد من جهة أن الرجلين تأخرا مع النبي في المسجد في تلك الليلة المظلمة لانتظار صلاة العشاء معه، وقال بعضهم: فعلى هذا كان يليق أن يترجم له: فضل المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة.
قلت: كل واحد من الكلامين غير موجه، لأن حديث الباب لا يدل عليه أصلا، لأن حديث الباب في الرجلين اللذين خرجا من عند النبي في ليلة مظلمة حتى أتيا أهلهما، وقال ابن بطال: إنما ذكر البخاري هذا الحديث في باب أحكام المساجد وا تعالى أعلم، لأن الرجلين كانا مع النبي في المسجد وهو موضع جلوسه مع أصحابه. وأكرمهما ا تعالى بالنور في الدنيا ببركته وفضل مسجده وملازمته، قال: وذلك آية للنبي، وكرامة له قلت: هذا أيضا فيه بعد والوجه فيه أن يقال: إنهما لما كان في المسجد مع النبي، وهما ينتظران صلاة العشاء معه أكرما بهذه الكرامة، وللمسجد في حصول هذه الكرامة دخل، فناسب ذكر حديث الباب ههنا بهذه الحيثية.
124 - (حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي قتادة قال حدثنا أنس أن رجلين من أصحاب النبي
خرجا من عند النبي
241

في ليلة مظلمة ومعهما مئل المصباحين يضيئان بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله)
وجه المناسبة والمطابقة قد ذكرناه الآن
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول محمد بن المثنى بلفظ المفعول من التثنية مر في باب حلاوة الإيمان. الثاني معاذ بضم الميم مر في باب من خص بالعلم قوما. الثالث أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي البصري. الرابع قتادة بن دعامة السدوسي الأعمى البصري. الخامس أنس بن مالك
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبالإفراد في موضع واحد وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه أن رجاله كلهم بصريون وفيه أن الراوي عن الصحابي كان معه غيره فلذلك أخبر بصيغة الجمع.
(ذكر تعدد موضعه) أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة متنا وإسنادا وفي منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشر في مناقب الأنصاري وقال فيه وقال معمر عن ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا من الأنصار وقال حماد حدثنا ثابت عن أنس كان أسيد وعباد بن بشر عند النبي
(ذكر معناه) قوله ' أن رجلين ' هما عباد بن بشر وأسيد بن حضير وقال السفاقسي الرجلان عباد بن بشر وعويم بن الساعدة وأسيد بن حضير وعباد بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وبشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وأسيد بضم الهمزة مصغر أسد وحضير بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء وعويم بضم العين المهملة وفتح الواو مصغر عوم قوله ' مظلمة ' بكسر اللام يقال أظلم الليل وقال الفراء ظلم الليل بالكسر وأظلم بمعنى قوله ' ومعهما ' الواو فيه للحال قوله ' يضيئان ' من أضاء تقول ضاءت النار وأضاءت مثله وأضاءته النار يتعدى ولا يتعدى قال الزمخشري أضاء إما متعد بمعنى نور وإما غير متعد بمعنى لمع وأظلم يحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر وأن يكون متعديا. قوله ' بين أيديهما ' أي قدامهما وهو مفعول فيه إن كان فعل الإضاءة لازما ومفعول به إن كان متعديا قوله ' منهما ' أي من الرجلين قوله ' واحد ' أي من المصباحين وارتفاعه على أنه فاعل صار
(ومما يستفاد منه) أن فيه دلالة ظاهرة لكرامة الأولياء ولا شك فيه. وفيه رد على من ينكر ذلك وقد وقع مثل هذا قديما وحديثا. أما قديما فمن ذلك ما ذكره ابن عساكر
وغيره ' عن قتادة بن النعمان أنه خرج من عند رسول الله
وبيده عرجون فأضاء العرجون ' وفي دلائل البيهقي من حديث ميمون بن زيد بن أبي عبس حدثني أبي ' أن أبا عبس كان يصلي مع النبي
الصلوات ثم يرجع إلى بني حارثة فخرج في ليلة مظلمة مطيرة فنورت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة ' ومن حديث كثير بن زيد عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه قال ' كنا مع رسول الله
فنفرنا في ليلة مظلمة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعي لتنير ' وفي لفظ ' نفرت دوابنا ونحن في مشقة ' الحديث. وأما حديثا فمن ذلك ما ثبت بالتواتر عن جماعة من طلبة العلم الثقات أنهم كانوا مع الشيخ الإمام العلامة حسان الدين الرهاوي مصنف البحر وغيره في وليمة بمدينة عينتاب وكانت في ليلة مظلمة شاتية فلما تفرقوا أراد جماعة أن ينوروا على الشيخ إلى باب داره لشدة الظلمة فما رضي بذلك فرجعوا وتبعه جماعة من بعد فقالوا وهم يحلفون أنهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس أحدهما عن يمين الشيخ والآخر عن يساره فلم يزالا معه إلى أن وصل إلى باب داره فلما فتح الباب ودخل الشيخ ارتفع النوران ولقد أخبروا عنه بكرامات أخرى غير ذلك وهو أحد مشايخي الذين أخذت عنهم العلم وانتفعت بهم
08
((باب الخوخة والممر في المسجد))
أي: هذا باب يذكر فيه أمر الخوخة الكائنة في المسجد وأمر الممر فيه، وهو بفتح الميمين وتشديد الراء: موضع المرور،
242

والظاهر أن مراد البخاري من وضع هذه الترجمة الإشارة إلى جواز اتخاذ الخوخة والممر في المسجد، لأن حديث الباب يدل على ذلك.
664 ح دثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا أبو النضر عن عبيد بن حنين عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال خطب النبي فقال إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فبكى أبو بكر رضي الله عنه فقلت في نفسي ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله فكان رسول الله هو العبد وكان أبو بكر أعلمنا قال يا أبا بكر لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر. (الحديث 664 طرفاه في: 4563، 4093).
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الخوخة هي الباب الصغير، وقد تكون بمصراع واحد وبمصراعين، وأصلها فتح في الحائط، قال الجوهري: هي كوة في الجدار تؤدي الضوء. فإن قلت: الترجمة شيئان: أحدهما الخوخة، والآخر الممر، فمطابقته للخوخة ظاهرة، وليس فيه ذكر الممر قلت: الممر من لوازم الخوخة، فذكرها يغني عن ذكره.
ذكر رجاله: وهم ستة. الأول: محمد بن سنان، بكسر السين المهملة بعدها النون، وقد تقدم. الثاني: فليح، بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان، وكان اسمه عبد الملك، ولقبه: فليح، فغلب على اسمه واشتهر به. الثالث: أبو النضر، بفتح النون وسكون الصاد المعجمة: واسمه سالم بن أبي أمية. الرابع: عبيد، بضم العين، مصغر العبد ضد الحر: ابن حنين، بضم الحاء المهملة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون أيضا: أبو عبد ا المدني. الخامس: بسر، بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفي آخره راء: ابن سعيد، بفتح السين. السادس: أبو سعيد الخدري واسمه: سعد بن مالك.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: عن عبيد بن حنين. وفيه: عن بسر بن سعيد، هكذا في أكثر الروايات، وسقط في رواية الأصيلي: عن أبي زيد ذكر بسر بن سعيد فصار: عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد. وقال الكرماني: وقع في بعض النسخ: أبو النضر عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد، وفي بعضها: أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد، وفي بعضها: أبو النضر عن عبيد وعن بسر عن أبي سعيد بالجمع بينهما: بواو، العطف. وفي بعضها: أبو النضر عن عبيد عن بسر عن أبي سعيد بدون: الواو، بينهما قلت: قال ابن السكن: عن الفربري، قال محمد بن إسماعيل: هكذا رواه محمد بن سليمان. عن فليح عن أبي النضر عن عبيد عن بسر عن أبي سعيد، وهو خطأ، وإنما هو: عن عبيد بن حنين وعن بسر بن سعيد يعني: بواو، العطف.
وكذا أخرجه مسلم عن سعيد بن منصور عن فليح عن أبي النضر عن عبيد وبسر بن سعيد جميعا عن أبي سعيد، ورواه عن فليح كرواية سعيد بن يونس بن محمد عن ابن أبي شيبة، ورواية أبي زيد المروزي في (صحيح البخاري): حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا أبو النضر عن عبيد عن ابن سعيد، ورواه البخاري في فضل أبي بكر عن عبيد ا بن محمد عن ابن عامر حدثنا فليح حدثنا سالم عن بسر عن سعيد عن أبي سعيد، وفي هجرة النبي؛ عن إسماعيل بن عبد ا حدثني مالك عن أبي النضر عن عبيد بن حنين عن أبي سعيد، بلفظ: (أن يؤتيه ا من زهرة الدنيا ما شاء)، وفيه: (فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا). وكذا رواه مالك: عن عبد ا بن مسلمة وابن وهب ومعن ومطرف وإبراهيم بن طهمان ومحمد بن الحسن وعبد العزيز بن يحيى. قال الدارقطني: ولم أره في (الموطأ) إلا في (كتاب الجامع) للقعنبي ولم يذكر في (الموطأ) غيره ومن تابعه، فإنما رواه في غير (الموطأ) وا تعالى أعلم.
قلت: وكان هذا الاختلاف إنما أتى من فليح لأن الحديث حديثه وعليه يدور، وهو عند بعضهم: هو لين الرواية، وحاصل الرواية أن فليحا كان يروي تارة
243

عن عبيد وعن بسر كليهما، وتارة يقتصر على أحدهما. وأخطأ من محمد بن سنان حيث حذف الواو العاطفة. فافهم.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري أيضا في فضل أبي بكر رضي ا تعالى عنه، عن عبد ا بن محمد. وأخرجه مسلم في الفضائل.
ذكر معناه وإعرابه: قوله: (عنده) أي، عند ا وهو: الآخرة. قوله: (ما يبكي هذا الشيخ) من الإبكاء، وكلمة: ما، استفهامية. قوله: (إن يكن ا خير)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (إن يكن عبد خير)، فإعراب الأولى: هو: أن: إن، بالكسر شرط، ويكن، فعل الشرط وهو مجزوم، ولكنه لما اتصل بلفظ: ا، كسر لأن الأصل في الساكن إذا حرك حرك بالكسر. قال الكرماني: الجزاء محذوف يدل عليه السياق. قلت: لا حاجة إلى هذا، بل الجزاء قوله: (فاختار ما عند ا)، قوله: (خير) على صيغة المعلوم من: التخيير، وعبدا، مفعوله و: الضمير في: فاختار، يرجع إلى: العبد، و: ما عند ا، في محل النصب مفعوله. وإعراب الرواية الثانية: هو أن: إن أيضا كلمة شرط، و: يكن، مجزوم به. وقوله: عبد، مبتدأ وخبره هو قوله: مقدما، وقوله: خير، على صيغة المجهول في محل الرفع لأنه صفة لعبد، والجزاء هو قوله: (فاختار). وقال السفاقسي: ويصح أن تكون الهمزة، يعني همزة: أن، مفتوحة بأن يكون منصوبا: بأن، فيكون المعنى ما يبكيه لأجل أن يكون ا خير عبدا. وقال بعضهم: وجوز ابن التين فتحها، يعني: فتح: أن، على أنها تعليلية، وفي نظر. قلت: في نظره نظر، لأن التعليل هنا لأجل فراقه لا على كونه خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده. قوله: (هو العبد)، أي: المخير: قوله: (وكان أبو بكر أعلمنا) حيث فهم أنه رسول ا، وإنما قال عليه السلام: عبدا، على سبيل الإبهام ليظهر فهم أهل المعرفة ونباهة أصحاب الحذق، وكان ذلك في مرض موته كما يجيء في حديث ابن عباس بعده، إن شاء ا تعالى. ولما كان أبو بكر أعلم الصحابة، إذ لم ينكر أحد منهم ممن حضر حين قال أبو سعيد: وكان أبو بكر أعلمنا، اختصه الشارع بالخصوصية العظمى. وقال: (إن أمن الناس علي...) إلى آخره فظهر أن للصديق من الفضائل والحقوق ما لا يشاركه في ذلك مخلوق. قال العلماء: في ممعنى هذا الكلام، منهم الخطابي: أي أكثرهم جودا وسماحة لنا بنفسه وماله، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة، لأنه مبطل للثواب، لأن المنة ولرسوله في قبول ذلك. قال الخطابي: والمن في كلام العرب الإحسان إلى من يكافئه. قال تعالى: * (هذا عطاؤنا فامنن) * (ص: 93) وقال: * (ولا تمنن) * (المدثر: 6) أي: لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر ما أعطيت. وقال القرطبي: وزن: أمن، أفعل، من: المنة، أي الامتنان أي: أكثر منة. ومعناه: أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره لا متن بها، وذلك لأنه بادر بالتصديق ونفقة الأموال، وبالملازمة والمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأن ا ورسوله لهما المنة في ذلك والفضل، لكن رسول ا، بجميل أخلاقه وكريم أعراقه اعترف بذل عملا بشكر المنعم، ليس كما قال الأنصار. وفي (جامع الترمذي)، من حديث أبي هريرة مرفوعا: (ما لأحد عندنا يد إلا كافأنا ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه ا بها يوم القيامة). قوله: (ولو كنت متخذا خليلا)، الاتخاذ: افتعال من الأخذ، واتخذ يتعدى إلى مفعول واحد، ويتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف الجر، فيكون بمعنى: اختار واصطفى، وهنا سكت عن أحد مفعوليه وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنه قال: لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت منهم أبا بكر. والخليل: المخال، وهو الذي يخالك أي: يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخل وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك كما تسد خلله، أو يداخلك خلال منازلك. وقيل: صل الخلة الانقطاع، فخليل ا المنقطع إليه. وقال ابن فورك: الخلة صفاء المودة بتخلل الأسرار. وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله. وقال عياض: أصل الخلة الافتقار والانقطاع، فخليل ا أي: المنقطع إليه لقصره حاجته عليه. وقيل: الخلة الاختصاص بأصل الاصطفاء، وسمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، خليل ا لأنه وإلى فيه وعادى فيه. وقيل: سمي به لأنه تخلل بخلال حسنة وأخلاق كريمة، وخلة ا تعالى له نصره وجعله ءماما لمن بعده. وزعم السفاقسي أنه كان اتخذ خليلا من الملائكة. ولهذا قال: (لو كنت متخذا خليلا من أمتي). انتهى يردة قوله: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وفي رواية: (لو كنت متخذا خليلا غير ربي)، ومعنىء الحديث: أن أبا بكر متأهل لأن يتخذه خليلا لولا المانع المذكور، وهو أنه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة ا تعالى ومحبته ومراقبته حتى كأنها مزجت
244

أجزاء قلبه بذلك فلم يتسع قلبه لخليل آخر، فعلى هذا لا يكون الخليل، إلا واحدا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة أنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة التي هي فوق المحبة، وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن الخلة أعلى تمسكا بهذا الحديث، وذهب ابن فورك: إلى أن المحبة أعلى لأنها صفة نبينا محمد، وهو أفضل من الخليل. وقيل: هما سواء فلا يكون الخليل إلا حبيبا، ولا الحبيب إلا خليلا، وزعم الفراء أن معناه. فلو كنت أخص أحدا بشيء من العلم دون الناس لخصصت به أبا بكر، لأن الخليل من تفرد بخلة من الفضل لا يشاركه له فيها أحد، وقيل: معنى الحديث: لو كنت منقطعا إلى غير ا لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع لامتناع ذلك. فإن قلت: قال بعض الصحابة: سمعت خليلي. قلت: لا بأس في الانقطاع إلى النبي، لأن الانقطاع إليه انقطاع إلى ا تعالى، وفي حكم ذلك.
قوله: (ولكن أخوة الإسلام) كذا هو بالألف في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصلي: (ولكن خوة الإسلام) بحذف الألف. قال الكرماني: وتوجيهه أن يقال: نقلت حركة الهمزة إلى نون: لكن، وحذفت الهمزة، فعرض بعد ذلك استثقال ضمة من كسرة وضمة فسكن النون تخفيفا، فصار: ولكن خوة، وسكون النون بعد هذا العمل غير سكونه الأصيلي، ثم نقل عن ابن مالك أن فيه ثلاثة أوجه: سكون النون، وثبوت الهمزة بعدها مضمومة، وضم النون وحذف الهمزة، وسكونه وحذف الهمزة. فالأول أصل، والثاني فرع، والثالث فرع فرع. انتهى. قلت: كل هذا تكلف خارج عن القاعدة، ولكن الوجه أن يقال: إن: لكن، على حالها ساكنة النون، وحذفت الهمزة من أخوة، اعتباطا، ولهذا قال ابن التين: رويناه بغير همزة، ولا أصل لهذا، وكأن الهمزة سقطت هنا، وهي ثابتة في باقي المواضع: ثم إن قوله: إخوة الإسلام، كلام إضافي مبتدأ وخبره محذوف تقديره: ولكن أخوة الإسلام أفضل، ونحو ذلك، ويؤيده أن في حديث ابن عباس الذي بعده وقع هكذا. قوله: (ومودته) أي: مودة الإسلام، والفرق بين الخلة والمودة باعتبار المتعلق مع أنهما بمعنى واحد، وهو أنه أثبت المودة لأنها بحسب الإسلام والدين، ونفى الخلة للمعنى الذي ذكرناه
، والدليل على أنهما بمعنى واحد هو قوله في الحديث الذي بعده. ولكن خلة الإسلام، بدل لفظ المودة. وقد قيل: إن الخلة أخص وأعلى مرتبة من المودة فنفى الخاص وأثبت العام. فإن قيل: المراد من السياق أفضلية أبي بكر، وكل الصحابة داخلون تحت أخوة الإسلام، فمن أين لزم أفضليته؟ وأجيب: بأنها تعلم مما قبله ومما بعده. قوله: (لا يبقين)، بالنون المشددة: للتوكيد. وقال الكرماني: بلفظ مجهول، ويروى بلفظ: المعروف أيضا. قلت: في صيغة المجهول يكون لفظ: باب، مرفوعا على أنه مفعول ناب عن الفاعل، والتقدير: لا يبقى أحد في المسجد بابا إلا باب أبي بكر، وفي صيغة المعلوم يكون: باب، مرفوعا على أنه فاعل، ولا يقال: كيف نهى الباب عن البقاء وهو غير مكلف، لأنا نقول: إنه كناية لأن عدم البقاء لازم للنهي عن الإبقاء فكأنه قال: لا يبقيه أحد حتى لا يبقى؟ وذلك كما يقال: لا أرينك ههنا أي لا تقعد عندي حتى لا أراك؟ قوله: (إلا سد) الاستنثاء مفرغ تقديره: لا يبقين باب بوجه من الوجوه إلا بوجه السد إلا باب أبي بكر، أو يكون التقدير إلا بابا سد، حتى لا يقال: الفعل وقع مستثنى ومستثنى منه. فافهم.
ذكر ما يستفاد منه من الفوائد الأولى: ما قاله الخطابي: وهو أن أمره بسد الأبواب غير الباب الشارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر، يدل على اختصاص شديد لأبي بكر، وإكرام له، لأنهما كانا لا يفترقان. الثانية: فيه دلالة على أنه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشارك فيه، فأولى ما يصرف إليه التأويل فيه أمر الخلافة، وقد أكثر الدلالة عليها بأمره إياه بالإمامة في الصلاة التي بنى لها المسجد، قال الخطابي: ولا أعلم أن إثبات القياس أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر، مستدلين في ذلك باستخلافه إياه في أعظم أمور الدين، وهو الصلاة، فقاسوا عليها سائر الأمور، ولأنه كان يخرج من باب بيته وهو في المسجد للصلاة، فلما غلق الأبواب إلا باب أبي بكر دل على أنه يخرج منه للصلاة، فكأنه أمر بذلك على أن من بعده يفعل ذلك هكذا، فإن قلت: روي عن ابن عباس أنه قال: (سدوا الأبواب إلا باب علي) قلت: قال الترمذي: هو غريب، وقال البخاري: حديث: إلا باب أبي بكر أصح. وقال الحاكم: تفرد به مسكين بن بكير الحراني عن شعبة، وقال ابن عساكر: وهو وهم، وقال صاحب (التوضيح): وتابعه
245

إبراهيم بن المختار. الثالثة: قال ابن بطال: فيه: التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤهم خشية أن يدخل عليهم مساءة أو خزي. الرابعة: فيه أنه لا يستحق أخذ العلم حقيقة إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ: عالم بالنص لا بالمعنى. الخامسة: فيه دليل على أن أبا بكر أعلم الصحابة. السادسة: فيه الحض على اختيار ما عند ا والزهد في الدنيا والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين. السابعة: فيه أن على السلطان شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، واختصاصه بالفضيلة التي لم يشارك فيها. الثامنة: فيه ائتلاف النفوس بقوله: (ولكن أخوة الإسلام أفضل). التاسعة: فيه أن المساجد تصان عن تطرق الناس إليها من خوخات ونحوها إلا من أبوابها إلا من حاجة مهمة. العاشرة: فيه أن الخليل فوق الصديق والأخ.
126 - (حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال سمعت يعلى بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج رسول الله
في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول عبد الله بن محمد الجعفي بضم الجيم وسكون العين المهملة وبالفاء المسندي. الثاني وهب بن جرير بفتح الجيم. الثالث أبوه جرير بن حازم بالحاء المهملة وبالزاي العتكي. الرابع يعلى بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة ابن حكيم بفتح الحاء المهملة الثقفي المكي سكن البصرة ومات بالشام. الخامس عكرمة مولى ابن عباس. السادس عبد الله بن عباس.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه السماع والقول وفيه رواية الابن عن الأب. والحديث يأتي في الفرائض بزيادة وأخرجه النسائي في المناقب عن عمرو بن علي عن وهب.
(بيان معناه) قوله ' عاصبا رأسه ' انتصاب عاصبا على أنه حال ورأسه منصوب به ويروى ' عاصب رأسه ' بالإضافة وقال ابن التين المعروف عصب رأسه تعصيبا (قلت) ذكر صاحب دستور اللغة عصب بالتخفيف أيضا فقال عصب شد ذكره في باب فعل يفعل بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل قوله ' فحمد الله ' أي على وجود الكمال وأثنى أي على عدم النقصان قوله ' ابن أبي قحافة ' بضم القاف وتخفيف الحاء المهملة وبعد الألف فاء واسمه عثمان بن عامر التيمي أسلم يوم الفتح وعاش إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه مات وله سبع وتسعون سنة وليس في الصحابة من في نسله ثلاثة بطون صحابيون إلا هو قوله ' أنه ' أي أن الشأن ليس من الناس أحدا من علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة وفي حديث أبي سعيد السابق ' أن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ' والفرق بين العبارتين أن الأولى أبلغ لأن الثانية يحتمل أن يكون له من يساويه في المنة إذ المنفي هو الأفضلية لا المساواة قوله ' ولكن خلة الإسلام ' بضم الخاء المعجمة وقال ابن بطال وقع في الحديث ' ولكن خوة الإسلام ' ولا أعرف معناه قال وقد وجدت الحديث بعده ' خلة ' بدل خوة وهو الصواب لأنه
صرف الكلام على ما تقدمه من ذكر الخلالة فأتى بلفظ مشتق منها ولم أجد خوة بمعنى خلة في كلام العرب. ومما يستفاد من هذا الحديث جواز الخطبة قاعدا قاله الكرماني (قلت) هذه الخطبة لم تكن واجبة وباب التطوع واسع قوله ' سدوا ' بضم السين والدال المهملتين قوله ' غير خوخة أبي بكر ' كذا هو في رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني ' إلا خوخة أبي بكر '
18
246

2 (باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد))
أي: هذا باب في بيان اتخاذ الأبواب للكعبة ولغيرها من المساجد لأجل صونها عما لا يصلح فيها، ولأجل حفظ ما فيها من الأيدي العادية، ولهذا قال ابن بطال: اتخاذ الأبواب للمساجد واجب، وعلل الوجوب بما ذكرنا. قوله: (والغلق) بتحريك اللام، وهو المغلاق وهو ما يغلق به الباب.
قال أبو عبد الله وقال لي عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن ابن جريج قال قال لي ابن أبي مليكة يا عبد الملك لو رأيت مساجد ابن عباس وأبوابها.
مطابقته للترجمة في قوله: الأبواب. قوله: (قال أبو عبد ا)، المراد به البخاري نفسه، وعبد ا بن محمد هو الجعفي المسندي، مضى ذكره في الباب السابق، وسفيان: هو ابن عيينة، وابن جريج هو عبد ا بن جريج، وابن أبي مليكة هو عبد ا بن عبد الرحمن بن أبي مليكة، بضم الميم، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد ا بن جدعان التيمي الأحول المكي القاضي. قوله: (لو رأيت)، جزاؤه محذوف، أي: رأيتها كذا وكذا، ويحتمل أن تكون: لو، للتمنى فلا تحتاج إلى الجزاء، وهذا الكلام يدل على أن هذه المساجد كانت لها أبواب، وأغلاق بأحسن ما يكون، ولكن كانت في الوقت الذي قال ابن أبي مليكة لابن جريج: خربت واندرست.
127 - (حدثنا أبو النعمان وقتيبة قالا حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي
قدم مكة فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب فدخل النبي
وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة ثم أغلق الباب فلبث فيه ساعة ثم خرجوا قال ابن عمر فبدرت فسألت بلالا فقال صلى فيه فقلت في أي قال بين الأسطوانتين قال ابن عمر فذهب علي أن أسأله كم صلى)
مطابقته للترجمة في قوله ' ففتح الباب ' وفي قوله ' ثم أغلق '.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول أبو النعمان بضم الميم محمد بن المفضل السدوسي البصري. الثاني قتيبة بن سعيد وقد تكرر ذكره. الثالث حماد بن زيد وقد تقدم غير مرة. الرابع أيوب السختياني. الخامس نافع مولى ابن عمر. السادس عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه روى البخاري عن شيخين وفيه أن رواته ما بين بصري ومدني.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إبراهيم بن المنذر وعن أحمد بن محمد عن ابن المبارك وعن عبد الله بن يوسف عن مالك وعن موسى بن إسماعيل وعن محمد بن النعمان وفي الجهاد عن يحيى بن بكير وعن مسدد عن يحيى وعن أبي نعيم وأخرجه مسلم في الحج عن قتيبة وعن محمد بن رمح وعن يحيى بن يحيى عن مالك وعن أبي الربيع وقتيبة أبي كامل ثلاثتهم عن حماد به وعن ابن أبي عمرو عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن زهير بن حرب وعن حميد بن مسعدة وأخرجه أبو داود في الحج عن القعنبي وعن عبد الله بن محمد بن إسحاق وعن عثمان بن أبي شيبة وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن الليث وعن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين وعن يعقوب بن إبراهيم وعن أحمد بن سليمان وعن عمرو بن علي وعن محمد بن عبد الأعلى وأخرجه ابن ماجة فيه عن عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم وأخرجه ابن ماجة فيه عن عبد الرحمن بن إبراهيم
(ذكر معناه) قوله ' عثمان بن طلحة ' هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى العبدري الحجبي
247

قتل أبوه وعمه يوم أحد كافرين في جماعة من بني عمهما وهاجر هذا مع خالد بن الوليد وعمرو ودفع النبي
له وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان مفتاح الكعبة وقال الكرماني أسلم يوم هدنة الحديبية وجاء يوم الفتح بمفتاح الكعبة وفتحها فقال رسول الله
' خذوها ' يعني المفتاح ' يا آل أبي طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ' ثم نزل المدينة فأقام بها إلى وفاة النبي
ثم تحول إلى مكة ومات بها سنة اثنتين وأربعين قوله ' وبلال ' عطف على قول النبي أي ودخل بلال أيضا مع النبي
ودخل أيضا أسامة بن زيد وعثمان بن أبي طلحة وإدخاله
هؤلاء الثلاثة معه لمعان تخص كل واحد منهم فأما دخول بلال فلكونه مؤذنه وخادم أمر صلاته وأما أسامة فلأنه كان يتولى خدمة ما يحتاج إليه وأما عثمان فلئلا يتوهم الناس أنه
عزله ولأنه كان يقوم بفتح الباب وإغلاقه قوله ' فبدرت ' أي أسرعت قوله ' فسألت بلالا ' أي عن صلاة النبي
في الكعبة قوله ' فقلت في أي ' أي في أي نواحيه ويروى في أي نواحيه بوجود المضاف إليه قوله ' بين الأسطوانتين ' هي تثنية الأسطوانة بضم الهمزة وزنها أفعوالة وقيل فعلوانة وقيل افعلانة قوله ' فذهب علي ' أي فات مني سؤال الكمية قوله ' أن أسأله ' بفتح أن مصدرية في محل الرفع لأنه فاعل ذهب
(ومما يستفاد منه) ما قاله الخطابي وابن بطال أن إغلاق باب الكعبة كان لئلا يكثر الناس عليه فيصلوا بصلاته
ويكون ذلك عندهم من المناسك كما فعل في صلاة الليل حين لم يخرج إليهم خشية أن تكتب عليهم وقيل إنما كان ذلك لئلا يزدحموا عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعاله ليأخذوها عنه وقيل ليكون ذلك أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه. ومنها ما قال ابن بطال اتخاذ الأبواب للمساجد واجب وقد ذكرناه عن قريب. ومنها أن المستحب لمن يدخل الكعبة أن يصلي بين الأسطوانتين كما فعل النبي
وسيجئ في كتاب الحج عن ابن عمر أنه سأل بلالا هل صلى فيه رسول الله
قال نعم بين العمودين اليمانيين وفي لفظ ' جعل العمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى ' وفي لفظ ' فمكث
في البيت نهارا طويلا ثم خرج فابتدر الناس من الدخول فسبقتهم فوجدت بلالا قائما وراء البيت فقلت له أين صلى فقال بين ذينك العمودين المقدمين قال ونسيت أن أسأله كم صلى وعند المكان الذي صلى فيه مرة مرة حمراء ' وروى أحمد من حديث عثمان بن أبي طلحة بسند صالح ' أن النبي
دخل البيت فصلى ركعتين بين الساريتين ' وفي فوائد سمويه بن عبد الرحمن بن الوضاح قال ' قلت لشيبة زعموا أن النبي
دخل الكعبة فلم يصل فيها قال كذبوا وأبي لقد صلى ركعتين بين العمودين ثم ألصق بهما بطنه وظهره ' * -
28
((باب دخول المشرك المسجد))
أي: هذا باب في بيان جواز دخول المشرك المسجد، وفيه خلاف، فعندنا يجوز مطلقا، وعند المالكية والمزني المنع مطلقا، وعند الشافعية التفصيل بين المسجد الحرام وغيره، ولنا حديث الباب.
38
248

2 (باب رفع الصوت في المساجد))
أي: هذا باب في بيان حكم رفع الصوت في المساجد، ولكن هذا أعم من أن يكون ممنوعا، أو غير ممنوع، فذكره الحديثين فيه إشارة إلى بيان تفصيل فيه مع الخلاف، فالحديث الأول يدل على المنع، والحديث الثاني يدل على عدمه، وقد ذكرنا الخلاف فيه فيما تقدم، وهو باب التقاضي والملازمة في المسجد.
074921 ح دثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال حدثني يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد قال كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال من أنتما أو من أين أنتما قالا من أهل الطائف قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله.
مطابقته للترجمة في أحد احتماليها، وهو: المنع.
ذكر رجاله. وهم خمسة. الأول: علي بن المديني، وقد تكرر ذكره. الثاني: يحيى القطان، كذلك. الثالث: الجعيد، بضم الجيم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة، ويقال له: جعيد، أيضا بدون الألف واللام، ويقال له: الجعد، بدون التصغير، وهو اسمه الأصلي، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي: الجعد بن عبد الرحمن بن أوس، وهو ثقة روى له مسلم حديثا واحدا عن السائب. الرابع: يزيد، بفتح الياء آخر الحروف وكسر الزاي: أبو خصيفة، بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالفاء: ابن أخي السائب المذكور فيه، وخصيفة جده، وأبوه عبد ا بن خصيفة، وقد نسب إلى جده. الخامس: السائب، بالسين المهملة: ابن يزيد من الزيادة ابن أخت النمر الكندي الصحابي، وقد تقدم في باب استعمال فضل وضوء الناس، وروى ثمة الجعيد عن السائب بدون واسطة، وههنا روى عنه بواسطة، يزيد، وروى حاتم بن إسماعيل هذا الحديث عن الجعيد عن السائب بلا واسطة، أخرجه الإسماعيلي، وصح سماع الجعد عن الساب كما ذكرناه الآن، فلا يكون هذا الاختلاف قادحا، وروى عبد الرزاق هذا من طريق أخرى عن نافع قال: (كان عمر رضي ا تعالى عنه، يقول: لا تكثروا للغط. فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت). الحديث، وهذا فيه انقطاع لأن نافعا لم يدرك هذا الزمان.
ذكر لطائف إسناده. فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول. وفيه: أن رواته ما بين مديني ومدني وبصري. وفيه: رواية الراوي عن خاله كما ذكرنا.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (كنت قائما)، وقع في الأصول بالقاف، ويروى: (نائما)، بالنون ويؤيد هذه الرواية ما ذكره الإسماعيلي عن أبي يعلى حدثنا محمد بن عباد حدثنا حاتم بن إسماعيل عن الجعيد عن السائب، قال: (كنت مضطجعا فحصبني إنسان). قوله: (فحصبني)، من: حصبت الرجل أحصبه، بالكسر: رميته بالحصباء. قوله: (إذا هو عمر بن الخطاب) كلمة؛ إذا، للمفاجأة وهو: مبتدأ وعمر: خبره، ويروى: فإذا عمر بن الخطاب، فعلى هذا: عمر، مبتدأ وخبره محذوف تقديره؛ فإذا عمر حاضر، أو: واقف. قوله: (فقال: اذهب)، أي: فقال عمر للسائب: إذهب. قوله: (فاتني بهذين)، يعني: بهذين الشخصين وكانا ثقفيين، كذا في رواية عبد الرزاق. قوله: (لأوجعتكما)، وفي رواية الإسماعيلي: (لأوجعتكما جلدا). قوله: (ترفعان)، خطاب لهذين الاثنين، وهي جملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر، كأنهما قالا: لم توجعن؟ قال: لأنكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول ا. فإن قلت: ما وجه الجمع في أصواتكما، مع أن الموجود صوتان لهما؟ قلت: المضاف المثنى معنى، إذا كان جزء ما أضيف إليه، الأفصح أن يذكر بالجمع: كما في قوله تعالى: * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) ويجوز إفراده نحو: أكلت رأس شاتين، والتثنية مع أصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزءه فالأكثر
249

مجيئه بلفظ التثنية، نحو: سل الزيدان سيفيهما، وإن أمن اللبس جاز جل المضاف بلفظ الجمع، كما في قوله: (يعذبان في قبورهما) وفي رواية الإسماعيلي: (برفعكما أصواتكما)، أي: بسبب رفعكما أصواتكما.
ومما يستفاد منه. ما قاله ابن بطال: قال بعضهم: أما إنكار عمر فلأنهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، وإنما سألهما من أين أنتما ليعلم أنهما إن كانا من أهل البلد وعلما أن رفع الصوت في المسجد باللغط فيه غير جائز زجرهما وأدبهما، فلما أخبراه أنهما من غير البلد عذرهما بالجهل. وفيه: ما يدل على جواز قبول اعتذار أهل الجهل بالحلم إذا كان في شيء يخفى مثله. وفيه: جواز تأديب الإمام من يرفع صوته في المسجد باللغط ونحو ذلك، وقال بعضهم:
هذا الحديث له حكم الرفع لأن عمر لا يتوعد الرجلين المذكورين بالجلد إلا على مخالفة أمر توفيقي. قلت: لا نسلم ذلك لأنه يجوز أن يكون ذلك باجتهاده ورأيه.
174 ح دثنا أحمد قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال حدثني عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله وهو في بيته فخرج إليهما رسول الله حتى كشف سجف حجرته ونادى يا كعب بن مالك قال لبيك يا رسول الله فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك قال كعب قد فعلت يا رسول الله قال رسول الله قم فاقضه..
مطابقته للترجمة في الاحتمال الثاني، وهو: عدم المنع.
ذكر رجاله. وهم ستة: الأول: أحمد، قال الغساني: قال البخاري في كتاب الصلاة في موضعين: حدثنا أحمد قال: حدثنا ابن وهب، فقال ابن السكن: هو أحمد بن صالح المصري. قلت: وكذا وقع في رواية الفربري: حدثنا أحمد بن صالح. وقال الحاكم في (المدخل): إنه هو، وقيل: إنه أحمد بن عيسى التستري، ولا يخلو أن يكون واحدا منهما. وقال الكلاباذي: قال لي ابن منده الأصفهاني: كل ما قاله البخاري في (الجامع): أحمد عن ابن وهب، هو: أحمد ابن صالح المصري. الثاني: عبد ا بن وهب المصري. الثالث: يونس بن يزيد الأيلي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عبد ا بن كعب بن مالك. السادس: أبوه كعب بن مالك الأنصاري السلمي المدني الشاعر.
وهذا الحديث مع تحقيق معناه وفوائده قد مضى في باب التقاضي والملازمة في المسجد قبل مقدار عشرة أبواب.
قوله: (حتى سمعها)، أي: حتى سمع النبي، أصواتهما: وفي رواية الأصيلي: حتى سمعهما. وا تعالى أعلم.
48
((باب الحلق والجلوس في المسجد))
أي: هذا باب في بيان حكم الحلق والجلوس في المسجد، يعني: يجوز ذلك خصوصا إذا كان لعلم أو ذكر أو قراءة قرآن. قوله: (الحلق)، بكسر الحاء المهملة وفتح اللام، كذا قاله الخطابي في (إصلاح الغلط). وقال ابن التين: الحلق، بفتح الحاء واللام: جمع حلقة، مثل تمرة وتمر. وفي (المحكم): الحلقة كل شيء استدار كحلقة الحديد والفضة والذهب، وكذلك هو في الناس، والجمع: حلاق، على الغالب، و: حلق على النادر: هضبة وهضب، والحلق: عند سيبويه اسم للجمع وليس بجمع لأن فعلة ليست مما يكسر على فعل، ونظير هذا ما حكاه من قولهم؛ فلكة وفلك، وقد حكى سيبويه في: الحلقة، فتح اللام، وأنكره ابن السكيت يكسر على فعل، ونظير هذا ما حكاه من قولهم: فلكة وفلك، وقد حكى سيبويه في: الحلقة، فتح اللام، وأنكرها ابن السكيت وغيره. وقال اللحياني: حلقة الباب وحلقته بإسكان اللام وفتحها، وقال كراع: حلقة القوم وحلقتهم، وحكى الأموي: حلقة القوم وحلاق، وحكى أبو يونس عن أبي عمر بن العلاء: حلقة في الواحد بالتحريك والجمع: حلقات وفي (الموعب): الحلق مؤنثة في القياس إلا أني رايته في رجزدكين مذكرا، وبلغني أن بعضهم يقول: الحلقة، بالتحريك وهي لغة قليلة، فجاء التذكير
250

على هذا، وحكى مكي عن الخليل: بالتحريك. قال الفرزدق:
* يا أيها الجالس في وسط الحلقة
* أفي زنا جلدت أم في سرقة
*
وفي (المجرد) لكراع: حلقة القوم، وحلقة، وحلقة والجمع: حلق وحلق وحلاق.
274131 ح دثنا مسدد قال حدثنا بشر بن المفضل عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال سأل رجل النبي وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل قال مثنى مثنى فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى وإنه كان يقول اجعلوا آخر صلاتكم وترا فإن النبي أمر به. (الحديث 274 أطرافه في: 374، 099، 399، 599، 7311).
11
مطابقة هذا الحديث للجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، لأن كون النبي على المنبر يدل على كون جماعة جالسين في المسجد، ومنهم الرجل الذي سأله عن صلاة الليل، وهذا لم يعرف اسمه. وقال ابن بطال: شبه البخاري في الحديث جلوس الرجال في المسجد حول النبي وهو يخطب: بالحلق، والجلوس في المسجد للعلم. انتهى قلت: فعلى هذا طابق الحديث جزئي الترجمة كليهما.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: مسدد بن مسرهد، وقد تكرر ذكره. الثاني: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن المفضل، على صيغة المفعول، مر في باب قول النبي: (رب مبلغ أوعى). الثالث: عبيد ا بن عمر العمري، مر في باب الصلاة في مواضع الإبل. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد ا بن عمر رضي ا عنهم.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في هذا الباب على ما يأتي إن شاء ا تعالى عن أبي النعمان، وأخرجه أيضا عن عبد ا بن يوسف عن مالك عن نافع وعبد ا بن دينار عن ابن عمر. وأخرجه الطحاوي في (معاني الآثار) من اثني عشر طريقا.
ذكر معناه وإعرابه قوله: (وهو على المنبر) جملة حالية. قوله: (ما ترى؟) يحتمل أن يكون من الرأي، أي: ما رأيك؟ وأن يكون من الرؤية التي هي العلم، والمراد لازمة أي: ما حكمت؟ إذ العالم يحكم بعلمه شرعا. قوله: (مثنى مثنى) مقول القول، وهو في الحقيقة جملة لأن مقول القول يكون جملة، فالمبتدأ محذوف تقديره: صلاة الليل مثنى مثنى، أي: اثنين اثنين، والثاني تأكيد للأول، وهو غير منصرف لأن فيه العدل الحقيقي والصفة. قوله: (فأوترت) على صيغة الماضي، أي: أوترت تلك الواحد، له، أي: للمصلي. قوله: (ما صلى)، جملة في محل النصب لأنها مفعول أوترت، والفاعل فيه الضمير الذي يرجع إلى الواحدة. قوله: (وأنه)، جملة استئنافية، والضمير فيه يرجع إلى ابن عمر، والقائل هو نافع. قوله: (بالليل)، وقعت في رواية الكشميهني والأصيلي. فقط. قوله: (أمر به)، أي: بالوتر، أو بالجعل الذي يدل عليه قوله: (اجعلوا).
ذكر ما يستنبط منه فيه: جواز الحلق في المسجد للعلم والذكر وقراءة القرآن ونحو ذلك فإن قلت: روى مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: (دخل رسول الله المسجد وهم حلق، فقافل: مالي أراكم عزين؟) فهذا يعارض ذلك قلت: تحلقهم هذا كان لغير فائدة ولا منفعة، بخلاف تحلقهم في ذلك، لأنه كان لسماع العلم والتعلم، فلا معارضة. وفيه: أن الخطيب إذا سئل عن أمر الدين له أن يجاوب من سأله، ولا يضر ذلك خطبته. وفيه: أن صلاة الليل ركعتان.
واختلف العلماء في النوافل، فقال مالك والشافعي وأحمد: السنة أن تكون مثنى مثنى ليلا ونهارا. قال أبو حنيفة: الأفضل الأربع ليلا ونهارا. وقال أبو يوسف ومحمد: الأفضل بالليل ركعتان، وبالنهار أربع. واحتج أبو حنيفة في صلاة الليل بما رواه أبو داود في (سننه) من حديث عائشة (أنها سئلت عن صلاة رسول ا، في جوف الليل، فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة. ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه...) الحديث بطوله. وفي آخره: (حتى قبض على ذلك)، واحتج في صلاة النهار بما رواه مسلم من حديث معاذة (أنها سألت عائشة: كم كان رسول الله يصلي الضحى؟
251

قالت: أربع ركعات يزيد ما شاء)، رواه أبو يعلى في مسنده، وفيه: (لا يفصل بينهن بسلام). فإن قلت: روى الأربعة عن ابن عمر أن النبي قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، قلت: لما رواه الترمذي سكت عنه، إلا أنه قال: اختلف أصحاب شعبة فيه، فرفعه بعضهم ووقفه بعضهم، ورواه الثقات عن عبد ا بن عمر عن النبي ولم يذكر فيه صلاة النهار، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ، وقال في (سننه الكبرى) إسناد جيد إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه، فلم يذكروا فيه النهار، منهم: سالم ونافع وطاوس. والحديث في (الصحيحين) من حديث جماعة عن ابن عمر وليس فيه ذكر النهار، وروى الطحاوي عن ابن عمر أنه كان يصلي بالنهار أربعا. وبالليل ركعتين، ثم قال: فمحال أن يروي ابن عمر عن رسول الله شيئا ثم يخالف ذلك، فعلم بذلك أنه كان ما روي عنه عن رسول الله ضعيفا، أو كان موقوفا غير مرفوع. فإن قلت: روى الحافظ أبو نعيم في (تاريخ أصفهان): عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول ا: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، وروى إبراهيم الحربي في (غريب الحديث) عنه قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)؟ قلت: الذي رواه البخاري ومسلم أصح منهما وأقوى وأثبت، وعلى تقدير التسليم نقول: معناه شفعا لا وترا، بسبيل إطلاق اسم الملزوم على اللازم مجازا جمعا بين الدليلين.
وفيه إن قوله: (فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة)، احتج به من يقول: إن الوتر ركعة وادة، واحتجوا أيضا بما رواه مسلم من حديث ابن مجلز، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي قال: (الوتر ركعة من آخر الليل)، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وداود، وهم جعلوا هذا الحديث أصلا في الإيتار بركعة، إلا أن مالكا قال: ولا بد أن يكون قبلها شفع ليسلم بينهن في الحضر والسفر، وعنه: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وكذا فعله سحنون في مرضه، وقال ابن العربي: الركعة الواحدة لم تشرع إلا في الوتر، وفعله أبو بكر وعمر، وروي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن عباس ومعاوية وأبي موسى وابن الزبير وعائشة رضي ا تعالى عنهم.
وقال عمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد، في رواية الحسن بن حي وابن المبارك: الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن كصلاة المغرب، وقال أبو عمر: يروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب وعبد ا بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي أمامة وحذيفة والفقهاء السبعة، وأجابوا عما احتجت به أهل المقالة الأولى من الحديث المذكور ونحوه في هذا الباب بأن قوله: (الوتر ركعة من آخر الليل)، يحتمل ما ذهبوا إليه، ويحتمل أن يكون ركعة مع شفع تقدمها، وذلك كله وتر، فتكون تلك الركعة توتر الشفع المتقدم لها، وقد بين ذلك آخر حديث الباب الذي احتج به هؤلاء، وهو قوله: (فأوترت له ما صلى)، وكذلك قوله في الحديث الثاني من هذا الباب: (فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت)، وآخر حديثهم حجة عليهم، وروى الترمذي في (جامعه): عن علي رضي ا تعالى عنه، أن رسول ا: (كان يوتر بثلاث...)، الحديث، وروى الحاكم في (مستدركه) عن عائشة، قالت: (كان رسول ا، يوتر بثلاث لا يعقد إلا في آخره)، وروى النسائي والبيهقي من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن سعيد بن هشام عن عائشة، قالت: (كان رسول ا، لا يسلم في ركعتي الوتر). وقال الحاكم: لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر، وقال: هذا حديث حسن صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وروى الإمام محمد بن نصر المروزي من حديث عمران بن حصين: (أن النبي، كان يوتر بثلاث) الحديث، وروى مسلم وأبو داود من رواية علي بن عبد ا بن عباس عن أبيه أنه رقد عند رسول الله فذكر الحديث.
وفيه؛ ثم أوتر بثلاث، وروى النسائي من رواية يحيى بن الجزار عن ابن عباس قال: (كان رسول الله يصلي من الليل ثمان ركعات ويوتر بثلاث)، وروى أبو داود والنسائي وابن ماجة، من رواية عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب: (أن رسول الله كان يوتر بثلاث ركعات)، وروى ابن ماجة من رواية الشعبي، قال: سألت عبد ا بن عباس وعبد ا بن عمر رضي ا تعالى عنهم، عن صلاة رسول الله فقالا: ثلاث عشرة، منها: ثمان بالليل ويوتر بثلاث وركعتين بعد الفجر، وروى الدارقطني
في (سننه) من حديث عبد ا بن مسعود، قال: قال رسول ا: (وتر الليل ثلاث كوتر النهار: صلاة المغرب). وروى
252

محمد بن نصر المروزي من حديث أنس بن مالك: (أن النبي كان يوتر بثلاث) وروى أيضا من حديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه: (أن رسول الله كان يوتر بثلاث)، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) قال: حدثنا حفص عن عمرو عن الحسن، قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن. فإن قلت: روي عن أبي هريرة عن النبي، قال: (لا توتروا بثلاث وأوتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب). قلت: روي هذا موقوفا على أبي هريرة، كما روي مرفوعا، ومع هذا هو معارض بحديث علي وعائشة ومن ذكرنا معهما من الصحابة، وأيضا إن قوله: (لا توتروا بثلاث)، يحتمل كراهة الوتر من غير تطوع قبله من الشفع، ويكون المعنى: لا توتروا بثلاث ركعات وحدها من غير أن يتقدمها شيء من التطوع الفع، بل أوتروا هذه الثلاث مع شفع قبلها لتكون خمسا، وإليه أشار بقوله: (وأوتروا بخمس) أو: أوتروا هذه الثلاث مع شفعين قبلها لتكون سبعا، وإليه أشار بقوله: (أو بسبع) أي: أوتروا بسبع ركعات: أربع تطوع وثلاث وتر، ولا تفردوا هذه الثلاث كصلاة المغرب ليس قبلها شيء، وإليه أشار بقوله: (ولا تشبهوا بصلاة المغرب) ومعناه: لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها منفردة عن تطوع قبلها، وليس معناه: لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها ثلاث ركعات. والنهي ليس بوارد على تشبيه الذات بالذات، وإنما هو وارد على تشبيه الصفة بالصفة، ومع هذا فيما ذكره نفي أن تكون الركعة الواحدة وترا، لأنه أمر بالإيتار بخمس أو بسبع ليس إلا. فافهم. فإن قلت: قال محمد بن نصر المروزي: لم نجد عن النبي خبرا ثابتا مفسرا أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، كما وجدنا في الخمس والبسع والتسع، غير أنا وجدنا عنه أخبارا أنه أوتر بثلاث لا ذكر للتسليم فيها؟ قلت: يرد عليه ما ذكرناه من (المستدرك) من حديث عائشة: أنه إن يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وفي حديث أبي بن كعب: لا يسلم إلا في آخرهن، وقد قيل: لعل محمد بن نصر لا يرى هذا ثابتا. قلت: هذا تعصب لا يجدي ولا يلزم من عدم رؤيته ثابتا أن لا يكون ثابتا عند غيره.
وفيه: إن قوله: اجعلوا آخر صلاتكم... إلى آخره، دليل على أن ذلك يقتضي الوجوب لظاهر الأمر به، ولكنه مستحب في حق من لا يغلبه النوم، فإن كان يغلبه ولا يثق بالانتباه أوتر قبله.
474331 ح دثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة
253

أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره عن أبي واقد الليثي قال بينما رسول الله في المسجد فأقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله وذهب واحد فأما أحدهما فرأى فرجة فجلس وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الآخر فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله قال ألا أخبركم عن الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه. (انظر الحديث 66).
مطابقته للترجمة ظاهرة خصوصا في قوله: (فرأى فرجة في الحلقة)، وهذا الحديث بعينه بهذا الإسناد قد مر في كتاب العلم في باب: من قعد حيث ينتهي به المجلس. ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، غير أن شيخ البخاري هناك: إسماعيل عن مالك، وههنا: عبد ا بن يوسف عن مالك. وقد تكلمنا هناك بما فيه الكفاية. قوله: (أبا مرة) بضم الميم، و: (عقيل)، بفتح العين، و: (واقد) بالقاف. قوله: (فأوي إلى ا)، بالقصر، وقوله: (فآواه ا)، بالمد.
58
((باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل))
أي: هذا باب في بيان جواز الاستلقاء في المسجد، والاستلقاء مصدر: استلقى، وثلاثية من: لقي يلقى، فنقل إلى باب: الاستفعال، فقيل: استلقى على قفاه. ذكره الجوهري في باب اللقاء، وذكر فيه: واستلقى على قفاه، ومصدره إذن يكون: الاستلقاء. وذكره ابن الأثير في باب: سلنق يسلنق ومستلق: بالنون في الأول، والتاء في الثاني، والصحيح ما ذكره الجوهري.
574431 ح دثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله مستلقيا في المسجد واضعا إحدى رجليه على الأخرى. (الحديث 574 طرفاه في: 9695، 7826).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد ا بن مسلمة القعنبي. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: عباد، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة، تقدم في باب: لا يتوضأ من الشك. الخامس: عمه عبد ا بن زيد بن عاصم المازني، تقدم في هذا الباب أيضا.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: الرؤية. وفيه: رواية الرجل عن عمه. وفيه: أن رواته مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره. أخرجه البخاري في اللباس عن أحمد بن يونس عن إبراهيم بن سعد، وفي الاستئذان عن علي بن عبد ا عن سفيان. وأخرجه مسلم في اللباس عن يحيى بن يحيى عن مالك به، وعن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد ا بن نمير وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، خمستهم عن سفيان به، وعن أبي الطاهر بن السرح وحرملة، وكلاهما عن ابن وهب عن يونس وعن إسحاق بن إبراهيم وعن عبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق عن معمر، كلاهما عن الزهري به. وأخرجه أبو داود في الأدب عن القعنبي والنفيلي، كلاهما عن مالك به. وأخرجه الترمذي في الاستئذان عن سعيد بن عبد الرحمن عن سفيان به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة عن مالك به.
ذكر إعرابه وما يستفاد منه. قوله: (رأى) بمعنى: أبصر، فلذلك اكتفى بمفعول واحد. قوله: (مستلقيا) حال، وكذلك: (واضعا)، كلاهما من رسول الله وهما حالان مترادفتان، ويجوز أن يكون: واضعا، حالا من الضمير الذي في: مستلقيا، فعلى هذا يكون الحالان متداخلتين.
وقال الخطابي: فيه: بيان جواز هذا الفعل، والنهي الوارد عن ذلك منسوخ بهذا الحديث. قلت: النهي هو ما روى جابر بن عبد ا: (أن رسول ا، نهى أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق). وأجاب: الخطابي عن النهي بجواب آخر، وهو: أن علة النهي عنه أن تبدو عورة الفاعل لذلك، فإن الإزار ربما ضاق، فإذا شال لابسه إحدى رجليه فوق الأخرى بقيت هناك فرجة تظهر منها عورته. وممن جزم
254

بأنه منسوخ ابن بطال. وقال بعضهم: محمل النهي حيث يخشى أن تبدو عورة الفاعل أولى من ادعاء النسخ، لأنه لا يثبت بالاحتمال. قلت: القائل بالنسخ ما ادعى أن النسخ بالاحتمال، وإنما جزم به، فكيف يدعى الأولوية بالاحتمال؟ ويقوي دعوى النسخ ما روي عن عمر وعثمان أنهما كانا يفعلان ذلك، على ما نذكره إن شاء ا تعالى، ويقال: يحتمل أن يكون الشارع فعل ذلك لضرورة، أو كان ذلك بغير محضر جماعة، فجلوس رسول الله في الجامع كان على خلاف ذلك من التربع والاحتباء، وجلسات الوقار والتواضع. وفيه: جواز الاتكاء في المسجد والاضطجاع، وأنواع الاستراحة غير الانبطاح، وهو الوقوع على الوجه، فإن النبي قد نهى عنه، وقال: إنها ضجعة يبغضها ا تعالى.
وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال كان عمر وعثمان يفعلان ذلك.
قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا تعليقا، وأن يكون داخلا تحت الإسناد السابق، أي: عن مالك عن ابن شهاب، وقال صاحب (التوضيح): وعن ابن شهاب... إلى آخره، ساقه البخاري بالسند الأول، وقد صرح به أبو داود، وزاد أبو مسعود فيما حكاه الحميدي في جمعه، فقال: إن أبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفعلون ذلك. وقد أخرج البرقاني هذا الفصل من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري متصلا بالحديث الأول، ولم يذكر سعيد بن المسيب، وسعيد لم يصح سماعه عن عمر رضي ا تعالى عنه، وأدرك ثمان ولم يحفظ له عنه رواية عن رسول ا. وقال بعضهم: وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب. معطوف على الإسناد الأول، وقد صرح بذلك أبو داود في روايته عن القعنبي، وهو كذلك في (الموطأ)، وغفل عن ذلك من زعم أنه معلق.
قلت: يريد به الكرماني، والكرماني ما جزم بأنه معلق، بل قال: يحتمل، وهو صحيح بحسب الظاهر وتصريح أبي داود بذلك في كتابه لا يدل على أن هذا داخل في الإسناد المذكور ههنا قطعا، ورواية أبي داود هكذا: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان كانا يفعلان ذلك، أي: المذكور من الاستلقاء والوضع. قلت: اختلف جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم في هذا الباب، فذهب محمد بن سيرين ومجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي إلى أنه يكره وضع إحدى الرجلين على الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس وكعب بن عجرة، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بذلك، وهم: الحسن البصري والشعبي وسعيد بن المسيب وأبو مجلز ومحمد بن الحنفية، ويروى ذلك عن أسامة بن زيد وعبد ا بن عمر وأبيه عمر بن الخطاب وعثمان وعبد ا بن مسعود وأنس بن مالك. وقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن الماجشون عن الزهري عن سعيد بن المسيب: أن عمر وعثمان كانا يفعلانه، حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن عجلان عن يحيى بن عبد ا بن مالك عن أبيه قال: (دخل على عمر ورأى مستلقيا واضعا إحدى رجليه على الأخرى)، حدثنا مروان بن معاوية عن سفيان بن الحسن عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن عبد ا بن عبد ا بن الحارث (أنه رأى ابن عمر يضطجع فيضع إحدى رجليه على الأخرى)، حدثنا وكيع عن أسامة عن نافع قال: (كان ابن عمر يستلقي على قفاه ويضع إحدى رجليه على الأخرى، لا يرى بذلك بأسا، ويفعله بذلك وهو جالس لا يرى بذلك بأسا)، حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر بن عبد الرحمن بن الأسود عن عمه، قال: (رأيت ابن مسعود رضي ا تعالى عنه، مستلقيا واضعا إحدى رجليه فوق الأخرى وهو يقول: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * (يونس: 58) حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن عمران، يعني: ابن مسلم، قال: (رأيت أنسا واضعا إحدى رجليه على الأخرى).
68
((باب المسجد يكون في الطريق من غر ضرر بالناس))
أي: هذا باب في بيان جواز بناء المسجد يكون في طريق الناس، لكن بشرط أن لا يكون فيه ضرر، لهم، ولما كان بناء المسجد على أنواع: نوع منه يجوز بالإجماع وهو أن يبنيه في ملكه، ونوع منه لا يجوز بالإجماع وهو أن يبنيه في غير ملكه. ونوع يجوز ذلك بشرط أن لا يضر بأحد، وذلك في المباحات. وقد شذ بعضهم منهم: ربيعة، في منع ذلك. أراد البخاري بهذا الباب الرد على هؤلاء، واحتج على ذلك بقصة أبي بكر رضي ا تعالى عنه، وعلم بذلك النبي فلم ينكر عليه
255

فأقره على ذلك. فإن قلت: روي منع ذلك عن علي وابن عمر رضي ا تعالى عنهم. قلت: ذكره عبد الرزاق بإسناد ضعيف، والصحيح ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي ا تعالى عنه.
وبه قال الحسن وأيوب ومالك.
أي: بجواز بناء المسجد في الطريق بحيث لا يحصل ضرر للناس، قال الحسن البصري وأيوب السختياني ومالك بن أنس. فإن قلت: الجمهور على جواز ذلك، فما الفائدة في تصريح هؤلاء الثلاثة بأسمائهم وتخصيصهم به؟ قلت: لما ورد عنهم هذا الحكم صريحا، صرح بذكرهم.
135 - (حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي
قالت لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله
طرفي النهار بكرة وعشية ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزغ ذلك أشراف قريش من المشركين)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير أبو زكريا المخزومي المصري. الثاني الليث بن سعد المصري. الثالث عقيل بضم العين بن خالد الأيلي. الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس عروة بن الزبير بن العوام. السادس عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. (ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه الإخبار بصيغة الإفراد بالفاء وفي بعض النسخ أخبرني فوجه الفاء أن تكون للعطف على مقدر كأن ابن شهاب قال أخبرني عروة بكذا وكذا فأخبرني عقيب تلك الإخبارات بهذا وفيه رواية التابعي عن التابعي وفيه أن نصف الرواة مصريون وهم الثلاثة الأول والباقي مدنيون.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري هنا وفي الهجرة والإجارة وفي الكفالة وفي الأدب مختصرا ومطولا عن يحيى بن بكير وساق بعضه في غزوة الرجيع من حديث هشام بن عروة عن عائشة
(ذكر معناه) قوله ' لم أعقل ' أي لم أعرف قوله ' أبوي ' وأرادت عائشة أبا بكر وأمها أم رومان وهذه التثنية من باب التغليب وفي بعض النسخ أبواي بالألف وذلك على لغة بني الحارث بن كعب جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف كعصى فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب قوله ' يدينان الدين ' أي يتدينان بدين الإسلام وانتصاب الدين بنزع الخافض يقال دان بكذا ديانة وتدين به تدينا ويحتمل أن يكون مفعولا به ويدين بمعنى يطيع ولكنه فيه تجوز من حيث جعل الدين كالشخص المطاع قوله ' بكرة وعشية ' منصوبتان على الظرفية وقد ذكر البخاري في كتاب الهجرة مطولا بهذا الإسناد بعد قوله عشية وقبل قوله ثم بدا لأبي بكر قصة طويلة في خروج أبي بكر عن مكة ورجوعه في جوار ابن الدغنة واشتراطه عليه أن لا يستعلن بعبادته فعند فراغ القصة قال ثم بدا لأبي بكر أي ظهر له من بدا الأمر بدوا مثل قعد قعودا أي ظهر قال الجوهري بدا له في هذا الأمر أي نشأ له فيه رأي قوله ' بفناء داره ' بكسر الفاء ممدودا وهو ما امتد من جوانبها قوله ' بكاء ' على وزن فعال مبالغة باك قوله ' لا يملك عينيه ' أي لا يطيق إمساكهما ومنعهما من البكاء وفي بعض النسخ ' لا يملك عينه ' وهو وإن كان مفردا لكنه جنس يطلق على الواحد والاثنين قوله ' إذا قرأ ' إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر يدل عليه لا يملك قوله ' فأفزع ' من الإفزاع وهو الإخافة قوله ' ذلك ' أي الوقوف وكان خوفهم من ميل الأبناء والنساء إلى دين الإسلام
(ومما يستفاد منه) جواز بناء المسجد في الطريق إذا لم يكن ضرر للعامة كما ذكرناه وبيان فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه مما لا يشاركه فيه أحد لأنه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه ولم يبلغ شخص آخر هذه المنزلة
256

بعد رسول الله
* وفيه فضائل أخرى لأبي بكر وهي قدم إسلامه وإسلام أبويه وتردد رسول الله
إليه طرفي النهار وكثرة بكائه ورقة قلبه
78
((باب الصلاة في مسجد السوق))
أي: هذا باب في بيان جواز الصلاة في مسجد السوق، ويروى في مساجد السوق، بلفظ الجمع، وهي رواية الأكثرين، ولفظ الإفراد رواية أبي ذر، وقال الكرماني: المراد بالمساجد مواضع إيقاع الصلاة لا الأبنية الموضوعة للصلاة من المساجد، فكأنه قال: باب الصلاة في مواضع الأسواق. وقال ابن بطال: روي أن الأسواق شر البقاع، فخشي البخاري أن يوهم من رأى ذلك الحديث أنه لا تجوز الصلاة في الأسواق استدلالا به، فجاء بحديث أبي هريرة، إذ فيه إجازة الصلاة في السوق وإذا جازت الصلاة في السوق فرادى فكان أولى أن يتخذ فيه مسجد للجماعة. وقال بعضهم: موقع الترجمة الإشارة إلى أن الحديث الوارد في الأسواق شر البقاع، وأن المساجد خير البقاع، كما أخرجه البزار وغيره لا يصح إسناده، ولو صح لم يمنع وضع المسجد في السوق لأن بقعة المسجد حينئذ تكون بقعة خير.
قلت: كل منهم قد تكلف، أما الكرماني فإنه ارتكب المجاز من غير ضرورة، وأما ابن بطال فإنه من أين تحقق خشية البخاري مما ذكره حتى وضع هذا الباب؟ وأما القائل الثالث فإنه أبعد جدا، لأنه من أين علم أن البخاري أشار به إلى ما ذكره؟ والأوجه أن يقال: إن البخاري لما أراد أن يورد حديث أبي هريرة الذي فيه الإشارة إلى أن صلاة المصلي لا تخلو إما أن تكون في المسجد الذي بني لها، أو في بيته الذي هو منزله، أو السوق، وضع بابا فيه جواز الصلاة في المسجد الذي في السوق، وإنما خص هذا بالذكر من بين الثلاثة لأنه لما كان موضع اللغط واشتغال الناس بالبيع والشراء والإيمان الكثيرة فيه بالحق والباطل، وربما كان يتوهم عدم جواز الصلاة فيه من هذه الجهات خصه بالذكر.
وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب.
ليس في الترجمة ما يطابق هذا الأثر. وقال الكرماني: ولعل غرض البخاري منه الرد على الحنفية حيث قالوا بامتناع اتخاذ المساجد في الدار المحجوبة عن الناس، ونقله بعضهم في شرحه معجبا به، قلت: جازف الكرماني في هذا لأن الحنفية لم يقولوا هكذا، بل المذهب فيه أن من اتخذ مسجدا في داره وأفرز طريقه يجوز ذلك،
ويصير مسجدا، فإذا أغلق بابه وصلى فيه يجوز مع الكراهة، وكذا الحكم في سائر المساجد.
وابن عون، بفتح العين المهملة وسكون الواو وفي آخره نون: هو عبد ا بن عون، وقد تقدم في باب قول النبي: رب مبلغ.... وقال صاحب (التلويح): كذا في نسخة سماعنا، يعني أنه ابن عون، وقال ابن المنير: ابن عمر، قلت: قالوا إنه تصحيف، والصحيح إنه ابن عون، وكذا وقع في الأصول.
774 ح دثنا مسدد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي قال: صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه وتصلى يعني عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يوءذ يحدث فيه..
مطابقته للترجمة في قوله: (وصلاته في سوقه).
ذكر رجاله وهم خمسة، كلهم قد ذكروا، وأبو معاوية محمد بن حازم الضرير، والأعمش هو سليمان بن مهران، وأبو صالح هو ذكوان.
ذكر لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: رواية التابعي عن التابعي. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني.
257

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في باب فضل الجماعة عن موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد عن الأعمش. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب. وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد بن السري. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكرمعناه) قوله: (صلاة الجميع) أي: صلاة الجماعة، والجميع في اللغة ضد المتفرق والجيش أيضا والحي المجتمع، ويؤكد به، يقال: جاؤوا جميعا، أي: كلهم. وقال الكرماني: صلاة الجميع، أي: صلاة في الجميع، يعني صلاة الجماعة، قلت: هذا تصرف غير مرضي. قوله: (على صلاته في بيته) أي: على صلاة المنفرد، وقوله: (في بيته) قرينة على هذا إذ الغالب أن الرجل يصلي في بيته منفردا. قوله: (خمسا) نصب على أنه مفعول لقوله: تزيد، نحو قولك: زدت عليه عشرة ونحوها. قوله: (فإن أحدكم)، بالفاء في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميني: (بأن أحدكم) بالباء الموحدة، ووجهها أن تكون الباء للمصاحبة، فكأنه قال: تزيد على صلاته بخمس وعشرين درجة مع فضائل أخر، وهو رفع الدرجات وصلاة الملائكة ونحوها، ويجوز أن تكون للسببية. قوله: (فأحسن) كذا هو بدون مفعوله، والتقدير فأحسن الوضوء، والإحسان في الوضوء إسباغه برعاية السنن والآداب. قوله: (لا يريد إلا الصلاة)، جملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالا يجوز فيه الواو وتركه. قوله: (خطوة) قال السفاقسي: رويناه بفتح الخاء، وهي المرة الواحدة، وقال القرطبي: الرواية بضم الخاء، وهي واحدة الخطى، وهي ما بين القدمين، والتي بالفتح مصدر. قوله: (أو حط)، ويروي: (وحط) بالواو، وهذا أشمل. قوله: (ما كان يحبسه)، أي: ما كان المسجد يحبسه، وكلمة: ما، للمدة أي: مدة دوام حبس المسجد إياه. قوله: (وتصلي الملائكة عليه)، أي تدعو له بقولهم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. وقوله: (اللهم اغفر له)، تقديره: وتدعو الملائكة قائلين: اللهم، إذ لا يصح المعنى إلا به. وقيل: إنه بيان للصلاة، كذا هو بدون مفعوله، والتقدير: فأحسن الوضوء. قوله: (ما لم يؤذ)، بضم الياء آخر الحروف وبالذال المعجمة: من الإيذاء، والضمير المرفوع الذي فيه يرجع إلى المصلي، ومفعوله محذوف تقديره: ما لم يؤذ الملائكة، وايذاؤه إياهم بالحدث في المسجد، وهو معنى قوله: يحدث، بضم الياء من الإحداث بكسر الهمزة، وهو مجزوم وفي رواية الأكثرين على أنه بدل من: يؤذ، ويجوز رفعه على طريق الاستئناف. وفي رواية الشكميني: (ما لم يؤذ بحدث فيه)، بلفظ الجار والمجرور متعلقا: بيؤذ قال الكرماني: وفي بعض النسخ: (ما لم يحدث)، بطرح لفظ يؤذ، أي: ما لم ينقض الوضوء، والذي ينقض الوضوء الحدث. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون أعم من ذلك قلت: الحديث رواه أبو داود في سننه، ولفظه: (ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه). والأعمية التي قالها هذا القائل لا تمشي في رواية البخاري على ما يخفى، وتمشي في رواية أبي داود لأنه عطف: أو يحدث، على قوله: (لم يؤذ فيه)، والمعنى: ما لم يؤذ في مجلسه الذي صلى فيه أحدا بقوله أو فعله، أو: يحدث، بالجزم من الإحداث بمعنى الحدث لا من التحديث، فافهم. فإنه موضع تأمل.
ذكر تعدد الروايات في قوله: (خمسا وعشرين درجة) في رواية البخاري أيضا من حديث أبي سعيد: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته خمسا وعشرين درجة). وعند أبي ماجة: (بضعا وعشرين درجة)، وفي لفظ: (فضل الصلاة على صلاة أحدكم وحده خمسا وعشرين جزءا). وعند السراج: (تعدل خمسة وعشرين صلاة من صلاة الفذ)، وفي لفظ: (تزيد على صلاة الفذ خمسا وعشرين)، وفي لفظ: (سبعة وعشرين جزءا)، وفي لفظ: خير من صلاة الفذ)، وفي لفظ: (تزيد على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)، وفي لفظ: (صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين يصليها وحده). وفي كتاب ابن حزم: صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد سبعا وعشرين درجة، وفي (سنن الكجي): صلاة الجميع تفضل على صلاة الفذ، وعند ابن حبان: (فإن صلاها بأرض فيء فأتم وضوءها وركوعها وسجودها تكتب صلاته بخمسين درجة)، وعند أبي داود: (بلغت خمسين صلاة). وقال عبد الواحد بن زياد في هذا الحديث: صلاة الرجل في الفلاة، تضاعف على صلاته في الجماعة، موعند البخاري، من حديث نافع عن ابن عمر: (صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة). قال الترمذي: كذا رواه نافع، وعامة من روى عن النبي إنما قال: (خمسا وعشرين درجة)،
258

وعند ابن حبان من حديث أبي بن كعب: (أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين درجة، وصلاة الرجل أذكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أذكى من صلاته مع الرجل، وصلاته مع الثلاثة أذكى من صلاته مع الرجلين، وما أكثر فهو أحب إلى ا عز وجل)، وعند أبي نعيم: عن العمري عن نافع بلفظ: (سبعة أو خمسة
وعشرين)، وعند أحمد بسند جيد عن ابن مسعود، رضي ا تعالى عنه: (صلاة الجميع تفضل على صلاة الرجل وحده خمسة وعشرين ضعفا، كلها مثل صلاته)، وفي (مسند ابن أبي شيبة): (بضعا وعشرين درجة).
وعند السراج: (بخمس وعشرين صلاة)، وفي لفظ: (تزيد خمسا وعشرين)، وفي (تاريخ البخاري): من حديث الإفريقي عن قباث بن أشيم: (صلاة رجلين، يؤم أحدهما صاحبه، أذكى عند ا من أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم أحدهم أذكى عند ا من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أذكى عند ا من صلاة مائة تترى)، وعند السراج، من حديث أنس موقوفا بسند صحيح: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده بضعا وعشرين صلاة). وعند الكجي، من حديث أبان مرفوعا: (تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده بأربع وعشرين صلاة)، وعند السراج بسند صحيح، وعن عائشة: (تفضل على صلاته وحده خمسا وعشرين درجة)، وكذا رواه معاذ عند الطبراني، وعند ابن أبي شيبة: عن عكرمة عن ابن عباس: (فضل صلاة الجماعة على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة قال، فإن كانوا أكثر فعلى عدد من في المسجد، فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال: نعم). وعند ابن زنجويه، من حديث ابن الخطاب الدمشقي: عن زريق بن عبد ا الأنصاري: (صلاة الرجل في بيته، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة). وفي فضائل القدس لأبي بكر محمد بن أحمد الواسطي، من حديث أبي الخطاب: (وصلاة في مسجد القبائل بست وعشرين، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة). ومن حديث عمار بن الحسن: حدثنا إبراهيم بن هدبة عن أنس مرفوعا مثله: وصلاته على الساحل بألفي ألف صلاة، وصلاته بسواك بأربع مائة ألف صلاة.
ذكر وجه هذه الروايات اختلفوا في وجه الجمع بين سبع وعشرين درجة وبين خمس وعشرين. فقيل: السبع متأخرة عن الخمس فكأن ا أخبره بخمس ثم زاده، ورد هذا بتعذر التاريخ، ورد هذا الرد بأن الفضائل لا تنسخ، فتعين أنه متأخر. وقيل: إن صلاة الجماعة في المسجد أفضل من صلاة الفذ في المسجد بسبع وعشرين درجة، ورد هذا بقوله: (وصلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمس وعشرين ضعفا). وقيل: إن الصلاة التي لم تكن فيها فضيلة الخطى إلى الصلاة، ولا فضيلة انتظارها تفضل بخمس، والتي فيها ذلك تفضل بخمس، والتي فيها ذلك تفضل بسبع. وقيل: إن ذلك يختلف باختلاف المصلين والصلاة، فمن أكملها وحافظ عليها فوق من أخل بشيء من ذلك، وقيل: إن الزيادة لصلاتي العشاء والصبح لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، ويؤيده حديث أبي هريرة: (تفضل صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر). فذكر اجتماع الملائكة بواو فاصلة، واستأنف الكلام وقطعه من الجملة المتقدمة، وقيل: لا منافاة بين الحدثين لأن ذكر القليل لا ينافي الكثير، ومفهوم العدد باطل عند جماعة من الأصوليين. وقال ابن الأثير: إنما قال: درجة، ولم يقل: جزءا ولا نصيبا ولا حافظا ولا شيئا من أمثال ذلك، لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع، وأن تلك فوق هذه بكذا وكذا درجة، لأن الدرجات إلى جهة فوق قلت: قد جاء فيه لفظ: الجزء والضعف، وقد تقدما عن قريب، فكأنه لم يطلع عليهما. وقيل: إن الدرجة أصغر من الجزء، فكأن الخمسة والعشرين إذا جزئت درجات كانت سبعا وعشرين درجة قلت: هذا ليس بصحيح لأنه جاء في الصحيحين: سبعا وعشرين درجة وخمسا وعشرين درجة فاختلف القدر مع اتحاد لفظ الدرجة. وقد قيل: يحتمل أن تكون الدرجة في الآخرة والجزء في الدنيا فإن قلت: قد علم وجه الجمع بين هذين العددين، ولكن ما الحكمة في التنصيص عليهما؟ قلت: نقل الطيبي عن التوربشتي: وأما وجه قصر أبواب الفضيلة على خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين أخرى فإن المرجع في حقيقة ذلك إلى علوم النبوة التي قصرت عقل الألباء عن إدراك جملها وتفاصيلها، ولعل الفائدة فيما كشف به حضرة النبوة وهي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة والاقتداء بالإمام وإظهار شعائر الإسلام وغيرها انتهى قلت: هذا لا يشفي الغليل ولا يجدي العليل، والذي ظهر لي في هذا
259

المقام من الأنوار الإلهية والأسرار الربانية والعنايات المحمدية أن كل حسنة بعشر أمثالها بالنص، وأنه لو صلى في بيته كان يحصل له ثواب عشر صلوات، وكذا لو صلى في سوقه كان لكل صلاة عشر، ثم أنه إذا صلى بالجماعة يضاعف له مثله فيصير ثواب عشرين صلاة، أو زيادة الخمس فلأنه أدى فرضا من الفروض الخمسة، فأنعم ا عليه ثواب خمس صلوات أخرى نظير عدد الفروض الخمسة زيادة عشرين إنعاما وفضلا منه عليه، فتصير الجملة خمسة وعشرين. وجواب آخر، وهو: إن مراتب الأعداد آحاد وعشرات ومآت وألوف، والمآت من الأوساط، وخير الأمور أوسطها، والخمسة والعشرون ربع المائة، وللربع حكم الكل. وأما زيادة السبع، فقال الكرماني: يحتمل أن يكون ذلك لمناسبة أعداد ركعات اليوم والليلة إذ الفرائض سبعة عشر والرواتب المؤكدة عشرة. انتهى. قلت: الرواتب المذكورة اثني عشر، لحديث المثابرة فتصير: تسعة وعشرين، فلا يطابق الواقع، فنقول: يمكن أن يقال: إن أيام العمر سبعة، فإذا صلى بالجماعة يزاد له على العشرين ثواب سبع صلوات، كل صلاة من صلوات كل يوم وليلة من الأيام السبعة. وأما الوتر فلعله شرع بعد ذلك، ثم العلماء اختلفوا: هل هذا الفضل لأجل الجماعة فقط حيث كانت؟ أو أن ذلك إنما يكون ذلك في الجماعة التي تكون في المسجد لما يلزم ذلك من أفعال تختص بالمساجد؟ قال القرطبي: والظاهر الأول، لأن الجماعة هو الوصف الذي علق عليه الحكم. وا أعلم. ذكر ما يستفاد منه قال ابن بطال: فيه: أن الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة. وقال الكرماني: لم يقل يساوي صلاته منفردا خمسا وعشرين حتى يكون له درجة منها، بل قال: تزيد، فليس للمنفرد من الخمسة والعشرين شيء قلت: قال ذلك بالنظر في الرواية المذكورة في الباب، فلو كان وقف على الروايات التي ذكرناها لما قال ذلك كذلك. وفيه: الدلالة على فضيلة الجماعة. وفيه: جواز اتخاذ المساجد في البيوت والأسواق. وفيه: ما استدل به بعض المالكية على أن صلاة الجماعة لا يفضل بعضها على بعض بكثرة الجماعة، ورد هذا بما ذكرنا عن ابن حبان، وما كثر فهو أحب إلى ا تعالى، وإلى مطلوبية الكثرة ذهب الشافعي وابن حبيب المالكي.
88
((باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره))
أي: هذا باب في بيان جواز تشبيك الأصابع، سواء كان في المسجد أو غيره، والموجود في غالب النسخ في هذا الباب حديثان: أحدهما: حديث أبي موسى الأشعري، والآخر: حديث أبي هريرة. وفي بعض النسخ حديث آخر عن ابن عمر، رضي ا تعالى عنهما، وجد ذلك بخط البرزالي ولم يستخرجه الحافظان الإسماعيلي وأبو نعيم، ولا ذكره ابن بطال أيضا، وإنما حكى أبو مسعود الدمشقي في (كتاب الأطراف) أنه رآه في كتاب أبي رميح عن الفربري وحماد بن شاكر عن البخاري، وهو هذا.
874731 ح دثنا حامد بن عمر عن بشر قال حدثنا عاصم قال حدثنا واقد عن أبيه عن ابن عمر أو ابن عمرو قال شبك النبي أصابعه. وقال عاصم بن علي حدثنا عاصم بن محمد سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه فقومه لي واقد عن أبيه قال سمعت أبي وهو يقول قال عبد اا قال رسول الله يا عبد ا بن عمرو كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس بهذا ولفظه في جمع الحميدي في مسند ابن عمر شبك النبي أصابعه وقال كيف أنت يا عبد اا إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا وشبك بين أصابعه قال فكيف أفعل يا رسول اا قال تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر وتقبل على خاصتك وتدعهم وعوامهم. (انظرالحديث 974).
260

مطابقته للترجمة في أحد جزئيها، واكتفى البخاري بدلالته على بعض الترجمة حيث دل أبي هريرة على تمامها.
ذكر رجاله فيه تسعة أنفس: الأول: حامد بن عمر البكراوي من ذرية أبي بكر الثقفي نزيل نيسابور، وقاضي كرمان، روى عنه مسلم أيضا، مات بنيسابور أول سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. الثاني: بشر، بكسر الباء الموحدة: ابن المفضل الرقاشي الحجة، كان يصوم يوما ويفطر يوما ويصلي كل يوم أربعمائة ركعة، مات سنة تسع وثمانين ومائة. الثالث: عاصم بن محمد بن زيد بن عبد ا بن عمر بن الخطاب العمري المدني، وثقه أحمد وغيره. الرابع: أخو عاصم، وهو: واقد، بالقاف: ابن محمد بن زيد المذكور، ثقة أبو زرعة وغيره. الخامس: أبوه محمد بن عبد ا، وثقه غير واحد. السادس: عبد ا بن عمر بن الخطاب. السابع: عبد ا بن عمرو بن العاص. الثامن: أبو عبد ا وهو البخاري نفسه. التاسع: عاصم بن علي بن عاصم بن صهيب الواسطي شيخ البخاري والدارمي، وفي (تهذيب التهذيب): كان من ثقات الشيوخ وأعيانهم. وقال ابن معين: ضعيف، وفي رواية: ليس بشيء، وفي رواية: ليس بثقة، وفي رواية: كذاب، مات في نصف رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين.
ذكر لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول والسماع. وفيه: الشك بين عبد ا بن عمر بن الخطاب وبين عبد ا بن عمر بن العاص، والظاهر أن الشك من واقد. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر معناه) قوله: (قال عاصم بن علي) تعليق من البخاري ووصله إبراهيم الحربي في (غريب الحديث) له، قال: حدثنا عاصم بن علي حدثنا عاصم بن محمد عن واقد سمعت أبي يقول: قال عبد ا، قال: رسول ا، فذكره. قوله: (في حثالة) بضم الحاء المهملة وتخفيف الثاء المثلثة، قال ابن سيده: هو ما يخرج من الطعام من زوان ونحوه مما لا خير فيه. وقال اللحياني: هو أجل من التراب والدقاق قليلا، وخصه بالحنطة، والحثالة والحثل: الرديء من كل شيء، وقيل: هو القشارة من التمر والشعير وما أشبههما، وحثالة القرط نقايته. قوله: (مرجت عهودهم)، قال أبو المعالي في (المنتهى): مرجت عهودهم: إذا لم تثبت، وأمر حجوها: إذا لم يوفوا بها وخلطوها، ومرجت أمانتهم فسدت، ومرج الدين اختلط واضطرب. وفي (المحكم): مرج الأمر مرجا فهو مارج ومريج: التبس واختلط، ومرج أمره يمرجه: ضيعه، ورجل ممارج يمرج أموره ولا يحكمها ومرج العهد والدين والأمانة: فسد، وأمرج عهده: لم يف به، قوله: (وشبك بين أصابعه)، أي: شبك النبي بين أصابعه ليمثل لهم اختلاطهم.
ذكر ما يستفاد منه) فيه: جواز تشبيك الأصابع سواء في المسجد أو غيره لإطلاق الحديث، ولكن العلماء اختلفوا في تشبيك الأصابع في المسجد وفي الصلاة، وكره إبراهيم ذلك في الصلاة، وهو قول مالك، ورخص في ذلك ابن عمر وابنه سالم، فكان يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ذكره ابن أبي شيبة، وكان الحسن البصري يشبك بين أصابعه في المسجد. وقال مالك: إنهم لينكرون تشبيك الأصابع في المسجد وما به بأس.
وإنما يكره في الصلاة، وقدروه النهي عن ذلك في أحاديث. منها: ما أخرجه ابن حبان في (صحيحه)، فقال: حدثنا أبو عروبة حدثنا محمد بن سعدان حدثنا سليمان ابن عبد ا عن عبيد ا بن عمر عن زيد بن أبي أنيسة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة: (أن النبي قال له: يا كعب، إذا توضأت فأحسنت الوضوء، ثم خرجت إلى المسجد فلا تشبك بين أصابعك فإنك في صلاة). ومنها: ما أخرجه الحاكم في (مستدركه) من حديث إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة، قال: قال رسول ا: (إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد كان في صلاة حتى يرجع فلا يفعل هكذا، وشبك بين أصابعه)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن عبد ا بن عبد الرحمن بن موهب عن عمه عن مولى لأبي سعيد، وهو مع رسول ا، فدخل رسول الله المسجد فرأى رجلا جالسا وسط الناس وقد شبك بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه رسول الله فلم يفطن له، فالتفت إلى أبي سعيد فقال: (إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان). فإن قلت: هذه الأحاديث معارضة لأحاديث الباب قلت: غير مقاومة لها في الصحة، ولا مساوية. وقال ابن بطال: وجه إدخال هذه الترجمة في الفقه معارضة بما روي من النهي عن
261

التشبيك في المسجد، وقد وردت فيه مراسيل، ومسند من طرق غير ثابتة قلت: كأنه أراد بالمسند حديث كعب بن عجرة الذي ذكرناه فإن قلت: حديث كعب هذا رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان قلت: في اسناده اختلاف، فضعفه بعضهم بسببه، وقيل: ليس بين هذه الأحاديث معارضة لأن النهي إنما ورد عن فعل ذلك في
الصلاة أو في المضي إلى الصلاة وفعله ليس في الصلاة ولا في المضي إليها معارضة إذا، وبقي كل حديث على حياله فإن قلت: في حديث أبي هريرة الذي في الباب وقع تشبيكه وهو في الصلاة قلت: إنما بعد انقضاء الصلاة في ظنه فهو في حكم المنصرف عن الصلاة، والرواية التي فيها النهي عن ذلك ما دام في المسجد ضعيفه، لأن فيها ضعيفا ومجهولا، وقد رواها ابن أبي شيبة، ولفظه: (إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه) وقال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض، إذا المنهي عنه فعله على وجه العبث والذي في الحديث إنما هو المقصود التمثيل وتصوير المعنى في اللفظ فإن قلت: ما حكمه النهي عن التشبيك؟ قلت: أجيب بأجوبة. الأول: لكونه من الشيطان، كما مر الآن. الثاني: لأنه يجلب النوم، وهو من مظان الحدث. الثالث: أن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبه عليه في حديث ابن عمر، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه. قوله: للمصلين: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبهم)، وا تعالى أعلم.
284 ح دثنا إسحاق قال حدثنا ابن شميل أخبرنا ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة قل صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي قال سيرين قد سماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا قال فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة وفي
262

القوم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة قال لم أنس ولم تقصر فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر فربما سألوه ثم سلم فيقول نبئت أن عمران بن حصين قال ثم سلم. (الحديث 284 أطرافه في: 417، 517، 7221، 8221، 9221، 1506، 0527).
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث يدل على تمامها، لأن التشبيك إذا جاز في المسجد ففي غيره أولى بالجواز.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: إسحاق بن منصور بن بهرام، تقدم في باب فضل من علم. الثاني: النضر بن شميل، بضم المعجمة، تقدم في باب العنزة. الثالث: عبد ا بن عون، تقدم. الرابع: محمد بن سيرين، تكرر ذكره. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، الإخبار كذلك في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن إسحاق بن منصور هو المجزوم به عند أبي نعيم. وفيه: أن رواته ما بين مروزي وبصري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا عن عبد ا بن مسلمة عن مالك وعن حفص بن عمرو عن آدم عن شعبة. وأخرجه مسلم عن قتيبة عن مالك وعن حجاج بن الشاعر. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن علي ابن نصر بن علي، وعن محمد بن عبيد وعن معاذ عن أبيه. وأخرجه النسائي فيه عن حميد بن مسعدة عن يزيد ابن زريع، وعن عمرو بن عثمان. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد عن أبي أسامة. وأخرج الطحاوي هذا الحديث من ثلاثة عشر طريقا.
ذكر معناه). قوله: (إحدى صلاتي العشي)، هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي والمستملي: (العشاء)، بالمد، والظاهر أنه وهم لأنه صح في رواية أخرى للبخاري: (صلى بنا النبي الظهر أو العصر). وفي رواية مسلم: (صلى بنا النبي العصر فسلم في ركعتين)، وفي أخرى له. (صلى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلم)، وفي رواية أبي داود: (صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر)، وفي رواية الطحاوي: (صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر، وأكبر ظني أنه ذكر صلاة الظهر). قوله: (وأكبر ظني أنه ذكر صلاة الظهر) هو قول ابن سيرين أي: أكبر ظني أن أبا هريرة ذكر صلاة الظهر، وكذا ذكره البخاري في كتاب الأدب، وأطلق على الظهر والعصر صلاتي العشى، لأن العشى يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فإن قلت: قال الجوهري: العشي والعشية من صلاة المغرب إلى العتمة؟ قلت: الذي ذكره هو أصل الوضع، وفي الاستعمال يطلق على ما ذكرناه، وقال الأزهري: العشي، بفتح العين وكسر الشين وتشديد الياء: ما بين زوال الشمس وغروبها.
قوله: (معروضة) أي: موضوعة بالعرض أو مطروحة في ناحية المسجد. قوله: (وضع يده اليمنى)، يحتمل أن يكون هذا الوضع حال التشبيك وأن يكون بعد زواله، وعند الكشميهني: (وضع خده الأيمن) بدل: يده اليمنى). قوله: (السرعان) قال الجوهري: سرعان الناس، بالتحريك: أوائلهم، ويقال: أخفاؤهم والمستعجلون منهم، ويلزم الإعراب نونه في كل وجه، وهو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة، وكذا ضبطه المتقنون. وقال ابن الأثير: السرعان، بفتح السين والراء: أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الراء قلت: وكذا نقل القاضي عن بعضهم، قال: وضبطه الأصيلي في البخاري، بضم السين وإسكان الراء، ووجهه أنه جمع سريع كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان، ومن قال: سرعان، بكسر السين فهو خطأ. وقيل: يقال أيضا: سرعان بكسر السين والراء وهو جمع: سريع، كرعيل ورعلان. وأما أقوالهم: سرعان ما فعلت، ففيه ثلاث لغات: الضم والكسر والفتح مع إسكان الراء والنون مفتوحة أبدا. قوله:، ' قصرت الصلاة ' بضم القاف وكسر الصاد ويروى بفتح القاف وضم الصاد قوله ' فهاباه ' أي هاب أبو بكر وعمر النبي
263

ويروى: (فهابا)، بدون الضمير المنصوب، وهو من الهيبة، وهو: الخوف والاجلال، وقد هابه يهابه، والأمر منه: هب، بفتح الهاء. قوله: (أن يكلماه) كلمة أن، مصدرية، والتقدير: من التكليم. قوله: (وفي القوم رجل) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (ذو اليدين) فيه روايات: ففي رواية الطحاوي: (فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله سماه ذا اليدين). وفي رواية: (فقام ذو اليدين)، وفي رواية: (فقام رجل من بني سليم)، وفي رواية: (رجل يقال له الخرباق بن عمرو، وكان في يديه طول). وفي رواية: (وكان رجلا بسيط اليدين)، وقع ذلك في رواية الطحاوي في حديث عمران بن حصين: (أن رسول الله صلى بهم
الظهر ثلاث ركعات ثم سلم وانصرف، فقال له الخرباق: يا رسول ا إنك صليت ثلاثا؟ فجاء فصلى ركعة ثم سجد سجدتين للسهو ثم سلم). وأخرجه أحمد أيضا في (مسنده) والطبراني في (الكبير).
وخرباق، بكسر الخاء المعجمة: ابن عبد عمرو السلمي، وهو الذي يقال له: ذو اليدين جميعا. وقال ابن حبان في (الثقات): ذو اليدين، ويقال له: ذو الشمالين أيضا: ابن عبد عمرو بن فضلة الخزاعي. وقال أبو عبد ا العدني في (مسنده): قال أبو محمد الخزاعي: ذو اليدين أحد أجدادنا، وهو ذو الشمالين بن عمرو بن ثور بن ملكان بن أفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عكرمة قال: (صلى النبي بالناس ثلاث ركعات ثم انصرف، فقال له بعض القوم: حدث في الصلاة شيء؟ وما ذلك؟ قالوا: لم نصل إلا ثلاث ركعات. فقال: أكذاك يا ذا اليدين؟ وكان يسمى ذا الشمالين، فقال: نعم. فصلى ركعة وسجد سجدتين) وقال ابن الأثير في (معرفة الصحابة): ذو اليدين اسمه الخرباق من بني سليم، كان نزل بذي خشب من ناحية المدينة، وليس هو ذا الشمالين خزاعي حليف لبني زهرة، قتل يوم بدر، وأن قصة ذي الشمالين كانت قبل بدر، ثم أحكمت الأمور بعد ذلك.
وقال القاضي عياض في (شرح مسلم): وأما حديث ذي اليدين فقد ذكر مسلم في حديث عمران بن حصين أن اسمه الخرباق، وكان في يديه طول. وفي الرواية الأخرى: بسيط اليدين، وفي حديث أبي هريرة: رجل من بني سليم ووقع للعذري: سلم وهو خطأ، وقد جاء في حديث عبيد بن عمير مفسرا، فقال فيه: ذو اليدين أخو بني سليم، وفي رواية الزهري: ذو الشمالين رجل من بني زهرة، وبسبب هذه الكلمة ذهب الحنفيون إلى أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود، قالوا: لأن ذا الشمالين قتل يوم بدر فيما ذكره أهل السير، وهو من بني سليم، فهو ذو اليدين المذكور في الحديث، وهذا لا يصح لهم، وإن قتل ذو الشمالين يوم بدر فليس هو بالخرباق، وهو رجل آخر حليف لبني زهرة اسمه: عمير بن عبد عمرو من خزاعة، بدليل رواية أبي هريرة حديث ذي اليدين ومشاهدته خبره، ولقوله: صلى بنا رسول ا، وذكر الحديث، وإسلام أبي هريرة بخير بعد يوم بدر بسنتين، فهو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، وقد عدوا قول الزهري فيه هذا من وهمه، وقد عدهما بعضهم حديثين في نازلتين وهو الصحيح لاختلاف صفتهما، لأن في حديث الخرباق ذا الشمالين أنه: سلم من ثلاث، وفي حديث ذي اليدين: من اثنتين، وفي حديث الخرباق: إنها العصر، وفي حديث ذي اليدين: الظهر لغير شك عند نعضهم، وقد ذكر مسلم ذلك كله. اناتهى. وقال أبو عمر: ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل ما في حديث أبي هريرة. وأما قول الزهري في هذا الحديث: أنه ذو الشمالين، فلم يتابع عليه.
قلت: الجواب على ذلك كله مع تحرير الكلام في هذا الموضع أنه: وقع في كتاب النسائي: ذا اليدين وذا الشمالين واحد، كلاهما لقب على الخرباق كما ذكرنا حيث قال: أخبرنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن أبي هريرة قال: (صلى النبي الظهر أو العصر فسلم من ركعتين فانصرف، فقال له ذو اليدين وذو الشمالين ابن عمرو: أنقضت الصلاة أم نسيت؟ فقال النبي: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق يا رسول ا، فأتم لهم الركعتين اللتين نقصتا)، وهذا سند صحيح متصل صرح فيه بأن ذا الشمالين هو ذو اليدين. وقال النسائي أيضا: أن هارون بن موسى الفروي حدثني أبو ضمرة عن يونس عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة عن أبي هريرة قال: (نسي رسول الله فسلم في سجدتين، فقال ذو الشمالين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول ا؟ قال رسول ا: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فقام رسول الله فأتم الصلاة)، وهذا أيضا سند صحيح صريح فيه أيضا أن: ذا الشمالين، وهو: ذو اليدين. وقد تابع الزهري على ذلك
264

عمران بن أبي أنس، قال النسائي: أخبرنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن زيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة عن أبي هريرة: (أن رسول ا، صلى يوما فسلم في ركعتين ثم انصرف، فأدركه ذو اليدين فقال: يا رسول ا انقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم تنقص الصلاة ولم أنس قال: بلى، والذي بعثك بالحق قال رسول ا، أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم فصلى بالناس ركعتين): وهذا يضا سند صحيح على شرط مسلم. وأخرج نحوه الطحاوي: عن ربيع المؤذن عن شعيب بن الليث عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب إلى آخره نحوه، فثبت أن الزهري لم ينفرد بذلك، وأن المخاطب للنبي ذو الشمالين، وأن من قال ذلك لم يهم، ولا يلزم من عدم تخريج ذلك في الصحيح عدم صحته، فثبت أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وهذا أولى من جعله رجلين لأنه خلاف الأصل في هذا الموضع فإن قلت: أخرج البيهقي حديثا واستدل به على بقاء ذي اليدين بعد النبي، فقال: الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو بن فضلة، حليف بني زهرة من خزاعة: وأما ذو اليدين الذي أخبر النبي، بسهوه فإنه بقي بعد النبي. كذا ذكره شيخنا أبو عبد ا الحافظ، ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان، قال: حدثني شعيب بن مطير عن أبيه ومطير حاضر فصدقه، قال شعيب: يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك أن رسول ا: الحديث؛ ثم قال البيهقي: وقال بعض الرواة: في حديث أبي هريرة، فقال ذو الشمالين: يا رسول ا أقصرت الصلاة؟ وكان شيخنا أبو عبد ا يقول: كل من قال ذلك فقد أخطأ، فإن ذا الشمالين تقدم موته ولم يعقب وليس له راو قلت: سنده ضعيف لأن فيه معدي بن سليمان، فقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: يحدث عن ابن عجلان مناكير. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات، والملزوقات عن الأثبات لا يجوز الإحتجاج به إذا انفرد. وفي سنده أيضا شهيب لم يعرف حاله وولده مطير، قال فيه ابن الجارود: روى عنه ابنه شعيب لم يكتب حديثه، وفي (الضعفاء) للذهبي: لم يصح حديثه، وفي (الكاشف): مطير بن سليم عن ذي الزوائد وعنه أبناء شعيب وسليم لم يصح حديثه.
ولضعف هذا السند قال البيهقي في (كتاب المعرفة): ذو اليدين بقي بعد النبي فيما يقال، ولقد أنصف وأحسن في هذه العبارة، ثم إن قول شيخه أبي عبد ا: كل من قال ذلك فقد أخطأ، غير صحيح، روى مالك في (موطئه) عن ابن شهاب عن ابن أبي بكر بن سليمان عن أبي خثيمة: (بلغني أن رسول الله ركعه ركعتين في إحدى
صلاتي النهار، الظهر أو العصر، فسلم من اثنتين، فقال له ذو الشمالين، رجل من بني زهرة بن كلاب: أقصرت الصلاة؟)... الحديث، وفي آخره: مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن مثل ذلك، فقد صرح في هذه الرواية أنه ذو الشمالين وأنه من بني زهرة فإن قلت: هو مرسل. قلت: ذكر أبو عمر في (التمهيد): أنه متصل من وجوه صحاح، والدليل عليه ما ذكرنا مما رواه النسائي آنفا، ثم قول الحاكم عن ذي الشمالين: لم يعقب يفهم من ظاهرة أن ذا اليدين أعقب، ولا أصل لذلك فيما قد علمناه، وا تعالى أعلم. فإن قلت: إن ذا اليدين وذا الشمالين إذا كانا لقبا على شخص واحد على ما زعمتم فحينئذ يدل على أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة، وذلك لأن ذا اليدين الذي هو ذو الشمالين قتل ببدر، وأبو هريرة أسلم عام خيبر وهو متأخر بزمان كثير، ومع هذا فأبو هريرة يقول: (صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي، إما الظهر أو العصر)... الحديث، وفيه: (فقام ذو اليدين فقال يا رسول ا)... أخرجه مسلم وغيره. وفي رواية: (صلى بنا رسول ا، عليه الصلاة والسلام، فسلم في ركعتين فقام ذو اليدين)... الحديث قلت: أجاب الطحاوي بأن معناد: صلى بالمسلمين، وهذا جائز في اللغة، كما روي عن النزل بن سبرة قال: (قال لنا رسول ا: أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف)... الحديث والنزال لم ير رسول ا، وإنما أراد بذلك: قال لقومنا، وروي عن طاووس، قال: (قدم علينا معاذ ابن جبل فلم يأخذ من الخضراوات شيئا، وإنما أراد: قدم بلدنا، لأن معاذا قدم اليمن في عهد رسول ا، قبل أن يولد طاوس)، ومثله ما ذكره البيهقي في باب: البيان أن النهي مخصوص ببعض الأمكنة عن مجاهد، قال: جاءنا أبو ذر، رضي ا تعالى عنه؟ إلى آخره. قال البيهقي: مجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر. وقوله: (جاءنا)، أي: بلدنا. فأفهم.
قوله: (لم أنس ولم تقصر)، أي: الصلاة، وفي رواية مسلم: (كل ذلك لم يكن)، وفي رواية أبي داود: (كل ذلك لم أفعل)، قال
265

النووي فيه تأويلان: أحدهما: أن معناه لم يكن المجموع، ولا ينفي وجود أحدهما. والثاني: هو الصواب، معناه: لم يكن لا ذلك ولا ذا في ظني، بل ظني أني أكملت الصلاة أربعا. ويدل على صحة هذا التأويل، وأنه لا يجوز غيره، أنه جاء في رواية للبخاري في هذا الحديث: أن النبي قال: (لم نقصر ولم أنس يرجع إلى السلام أي: لم أنس فيه إنما سلمت قصدا، ولم أنس في نفس السلام، وإنما سهوت عن العدد. قال القرطبي: وهذا فاسد، لأنه حينئذ لا يكون جوابا عما سئل عنه. ويقال: بين النسيان والسهو فرق، فقيل: كان يسهو ولا ينسى، فلذلك نفي عن نفسه النسيان، لأن فيه غفلة، ولم يغفل. قاله القاضي. وقال القشيري: هذا أفرق بينهما في استعمال اللغة، وكأنه يلوح من اللفظ على أن النسيان عدم الذكر لأمر لا يتعلق باصلاة، والسهو عدم الذكر لأمر يتعلق بها، ويكون النسيان الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر، والسهو عدم الذكر لا لأجل الإعراض. وقال القرطبي: لا نسلم الفرق، ولئن سلم فقد أضاف النبي النسيان إلى نفسه في غير ما موضع، بقوله: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني). وقال القاضي: إنما أنكر نسيت المضافة إلى نفسه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: (بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نسي). وقد قال أيضا: لا أنسى، وقد شك بعض الرواة في روايته، فقال: أنسى أو أنسى، وأن: أو للشك أو للتقسيم، وأن هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك أنكره. وقال: (كل ذلك لم يكن) وفي الأخرى: (لم أنس ولم تقصر)، أما القصر فبين، وكذلك: لم أنس، حقيقة من قبل نفسي ولكن ا تعالى أنساني، ويمكن أن يجاب عما قاله القاضي: أن النهي في الحديث عن إضافة نسيت إلى الآية الكريمة لأنه يقبح للمؤمن أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام ا تعالى، ولا يلزم من هذا النهي الخاص النهي عن إضافته إلى كل شيء. فافهم. وذكر بعضهم أن العصمة ثابتة في الإخبار عن ا تعالى، وأما إخباره عن الأمور الوجودية فيجوز فيها النسيان قلت: تحقيق الكلام في هذا المقام أن قوله: لم ينس ولم تقصر الصلاة، مثل قوله: كل ذلك لم يكن، والمعنى: كل من القصر والنسيان لم يكن، فيكون في معنى: لا شيء منهما بكائن، على شمول النفي وعمومه لوجهين:
أحدهما: أن السؤال عن أحد الأمرين: بأم، ويكون لطلب التعيين بعد ثبوت أحدهما عند المتكلم، لا على التعيين، غير أنه إنما يكون بالتعيين أو بنفيهما جميعا تخطئه للمستفهم لا بنفي الجمع بينهما، حتى يكون نفي العموم لأنه عارف بأن الكائن أحدهما.
والثاني: لما قال: كل ذلك لم يكن، قال له ذو اليدين: قد كان بعض ذلك. ومعلوم أن الثبوت للبعض إنما ينافي النفي عن كل فرد لا النفي عن المجموع. وقوله: قد كان بعض ذلك، موجبة جزئية ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أن ذا اليدين فهم السلب الكلي لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي، وههنا قاعدة أخرى وهي: أن لفظة: كل إذا وقعت في حيز النفيي كان النفي موجبها خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد، كقولك: ما جاء كل القوم ولم آخذ كل الدراهم. وقوله.
* ما كل ما يتمنى المرء يدركه
*
وإن وقع النفي في حيزها اقتضى السلب عن كل فرد. كقوله: (كل ذلك لم يكن).
قوله: (أكما يقول ذو اليدين؟) أي: الأمر كما يقول. قوله: (فقالوا: نعم)، وفي رواية للبخاري: (فقال الناس: نعم)، وفي رواية أبي داود: (فأمأوا) أي: نعم، وفي أكثر الأحاديث قالوا: نعم، ويمكن أن يجمع بينهما بأن بعض أومأ، وبعضهم يكلم. وسنذكر وجه هذا عن قريب. قوله: (فربما سألوه) فربما سألوا ابن سيرين: هل في الحديث: ثم سلم، يعني: سألوا ابن سيرين أن رسول الله بعد هذا السجود سلم مرة أخرى، أو اكتفى بالسلام الأول؟ وكلمة: رب، أصلها للتقليل، وكثر استعمالها في التكثير، وتلحقها كلمة: ما، فتدخل على الجمل. قوله: (فيقول: نبئت)، بضم النون: أي أخبرت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم، وهذا يدل على أنه لم يسمع من عمران، وقد بين أبو داود في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا محمد بن عبد ا بن المثنى قال حدثني أشعث عن محمد بن سيرين عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن رسول ا، صلى بهم وسها، فسجد سجدتين ثم تشهد
ثم سلم). ورواه النسائي والترمزي وقال: حسن غريب، ورواه الطحاوي من حديث شعبة عن خالد الحذاء، قال: سمعت أبا قلابة يحدث عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن رسول الله صلى بهم الظهر ثلاث ركعات ثم سلم وانصرف، فقال له الخرباق: يا رسول ا إنك صليت ثلاثا قال: فجاء فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين للسهو ثم سلم). وأبو قلابة اسمه: عبد ا بن زيد الحرمي، وعمه أبو المهلب اسمه: عمرو بن معاوية، قاله النسائي. وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن
266

عمرو، وقيل: النضر بن عمرو، وفي رواية أبي داود: رواية الأكابر عن الأصاغر.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام وهو على وجوه: الأول: فيه دليلا على أن سجود السهو سجدتان.
الثاني: فيه حجة لأصحابنا الحنفية أن سجدتي السهو بعد السلام، وهو حجة على الشافعي ومن تبعه في أنها قبل السلام.
الثالث: أن الذي عليه السهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد وقضى ما عليه هل يصح؟ فظاهر الحديث يدل على أنه يصح، لأنه قال في رواية عمران بن حصين: (فجاء فصلى ركعة)، وفي رواية غيره من الجماعة: (فتقدم وصلى)، وهو رواية اليخاري ههنا، وفي رواية: (فرجع رسول الله إلى مقامه)، ولكن اختلف الفقهاء في هذه المسألة، فعند الشافعي فيها وجهان: أصحهما: أنه يصح لأنه ثبت في صحيح مسلم: (أنه، عليه السلام، مشى إلى الجذع وخرج السرعان). وفي رواية: (دخل منزله). وفي رواية: (دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس وبنى على صلاته). والوجه الثاني: وهو المشهور عندهم: أن الصلاة تبطل، بذلك قال النووي، وهذا مشكل، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها، ونقل عن مالك أنه ما لم ينتقض وضوؤه يجوز له ذلك وإن طال الزمان، وكذا روي عن ربيعة، مستدلين بحديث عمران. ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة: إذا سلم ساهيا على الركعتين وهو في مكانه لم يصرف وجهه عن القبلة ولم يتكلم عاد إلى القضاء لما عليه، ولو اقتدى به رجل يصح اقتداؤه به، أما إذا صرف وجهه عن القبلة فإن كان في المسجد ولم يتكلم فكذلك، لأن المسجد كله في حكم مكان واحد، لأنه مكان الصلاة، وإن كان خرج في المسجد ثم تذكر لا يعود، وتفسد صلاته. وأما إذا كان في الصحراء فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من خلفه أو من قبل اليمين أو اليسار عاد إلى قضاء ما عليه، وإلا فلا، وإن مشى أمامه لم يذكره في الكتاب.
وقيل: إن مشى قدر الصفوف التي خلفه تفسد وإلا فلا، وهو مروي عن أبي يوسف اعتبارا لأحد الجانبين. وقيل: إذا جاوز موضع سجوده لا يعود، وهو الأصح، وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة، فإن كان يعود ما لم يجاوزها، لأن داخل السترة في حكم المسجد. وا اعلم.
وأجابوا عن الحديث: إنه منسوخ، وذلك أن عمر بن الخطاب عمل بعد رسول الله بخلاف ما كان عمله يوم ذي اليدين، والحال أنه كان فيمن حضر يوم ذي اليدين، فلولا ثبت عنده انتساخ ذلك لما عمل بخلاف ما عمل به النبي، وأيضا فإن عمر فعل ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فصار ذلك منهم إجماعا. وروى الطحاوي ذلك عن ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عاصم عن عثمان بن الأسود. قال: (سمعت عطاء يقول: صلى عمر بن الخطاب بأصحابه فسلم في ركعتين ثم انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إني جهزت عيرا من العراق بأحمالها وأقتابها حتى وردت المدينة، قال: فصلى بهم أربع ركعات).
الرابع: استدل به قوم على أن الكلام في الصلاة من المأمومين لإمامهم إذا كان على وجه إصلاح الصلاة لا يقطع الصلاة، وأن الكلام من الإمام والمأمومين فيها على السهو لا يقطع الصلاة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو عمر بن عبد البر: وذهب الشافعي وأصحابه إلى الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يبطلها، كقول مالك وأصحابه سواء، وإنما الخلاف بينهم أن مالكا يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيما إذا كان في شأنها وإصلاحها، وهو قول ربيعة وابن القاسم، إلا ما روي عنه في المنفرد، وهو قول أحمد بن حنبل ذكره الأثرم عنه أنه قال: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها لم تفسد عليه صلاته، فإن تكلم لغير ذلك فسدت عليه، وذكر الخرقي عنه أن مذهبه فيمن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته إلا الإمام خاصة، فإنه إذا تكلم لمصلحة صلاته لم تبطل صلاته. وقال الشافعي وأصحابه ومن تابعهم من أصحاب مالك وغيرهم: إن من تعمد الكلام وهو يعلم أنه لم يتم الصلاة، وأنه فيها أفسد صلاته، فإن تكلم ناسيا أو تكلم وهو يظن أنه ليس في الصلاة، لا يبطلها. قال النووي: وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو قول ابن عباس، وعبد ا بن الزبير وأخيه عروة وعطاء والحسن والشعبي وقتادة والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وجميع المحدثين. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وفي أصح الروايتين عنه: تبطل صلاته بالكلام ناسيا أو جاهلا، انتهى. وأجمع المسلمون طرا أن الكلام عامدا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنه في الصلاة ولم يكن ذلك لإصلاح صلاته أنه يفسد الصلاة، إلا ما روي عن الأوزاعي أنه: من تكلم لإحياء نفس أو مثل ذلك من الأمور الجسام لم تفسد بذلك صلاته، وهو قول ضعيف في النظر. وقال القاضي عياض المشهور عن مالك وأصحابه الأخذ بحديث
267

ذي اليدين، وروى عنه ترك الأخذ به، وأنه كان يستحب أن يعيد ولا يبني. قال: وإنما تكلم النبي، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه لأنهم ظنوا أن الصلاة قصرت ولا يجوز ذلك لأحدنا اليوم. وقال الحارث بن مسكين: أصحاب مالك كلهم قالوا: كان هذا أول الإسلام، وأما الآن فمن تكلم فيها أعادها.
الخامس: فيه دليل على أن من قال ناسيا: لم أفعل كذا، وكان قد فعله، أنه غير كاذب.
السادس: فيه جواز التلقيب الذي سبيله التعريف دون التهجين.
السابع: فيه الإجزاء بسجدتين عن السهوات لأنه سها عن الركعتين وتكلم ناسيا واقتصر على السجدتين.
الثامن: فيه دليل على جواز تشبيك الأصابع في المسجد، على ما ترجم عليه الباب.
الأسئلة والأجوبة الأول: كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم في الصلاة بعد؟ وأجيب: بأنهم لم يكونوا على اليقين من البقاء في الصلاة، لأنهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة
من أربع إلى ركعتين. وقال النووي: إن هذا كان خطابا للنبي، عليه الصلاة والسلام، وجوابا، وذلك لا يبطل عندنا غيرنا، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح: (إن الجماعة أو مأوا)، أي: أشاروا نعم، فعلى هذه الرواية لم يتكلموا.
الثاني: قيل: فيه إشكال على مذهب الشافعي، لأن عندهم أنه لا يجوز للمصلي الرجوع في قدر صلاته إلى قول غيره إماما أو مأموما، ولا يعمل إلا على يقين نفسه؟ وأجاب: النووي عن ذلك: بأنه، سألهم ليتذكر، فلما ذكروه تذكر فعلم السهو فبنى عليه، لا أنه رجع إلى مجرد قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره لرجع ذو اليدين حين قال النبي، عليه الصلاة والسلام: (لم تقصر ولم أنس) قلت: هذا ليس بجواب مخلص لأنه لا يخلو من الرجوع، سواء كان رجوعه للتذكرة أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول لا لأجل يقين نفسه. وقال ابن القصار: اختلف الرواة في هذا عن مالك، فمرة قال: يرجع إلى قولهم، وهو قول أبي حنيفة، لأنه قال: يبني على غالب ظنه. وقال مرة أخرى: يعمل على يقينه ولا يرجع إلى قولهم، كقول الشافعي.
الثالث: قد روي في بعض روايات مسلم في قصة ذي اليدين أن أبا هريرة قال: (بينا أنا أصلي مع النبي، عليه الصلاة والسلام، صلاة الظهر)... الحديث، وهذا صريح أنه حضر تلك الصلاة؟ والجواب: عنه قد ذكرناه عن الطحاوي عن قريب، وقيل: يحتمل أن بعض الرواة فهم من قول أبي هريرة في إحدى رواياته: (صلى بنا)، أنه كان حاضرا، فروي الحديث بالمعنى على زعمه، وقال: بينا أنا أصلي.
الرابع: في حديث عمران بن حصين أنه دخل منزله، ولا يجوز لأحد اليوم أن ينصرف عن القبلة، ويمشي وقد بقي عليه شيء من الصلاة؟ أجيب: بأنه فعل ذلك وهو لا يرى أنه في الصلاة فإن قيل: فيلزم على هذا لو أكل أو شرب أو باع أو اشترى وهو لا يرى في الصلاة أنه لا يخرجه ذلك منها؟ قلت: هذا كله منسوخ فلا يعمل به اليوم، وا أعلم.
98
((باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي))
أي: هذا باب في بيان المساجد في الطرق التي بين المدينة النبوية ومكة المشرفة، وفي أكثر النسخ على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي.
384041 ح دثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال حدثنا فضيل بن سليمان قال حدثنا موسى ابن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق فيصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي يصلي في تلك الأمكنة حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي في تلك الأمكنة وسألت سالما فلا أعلمه إلا وافق نافعا في الأمكنة كلها إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء. (الحديث 384 أطرافه في: 5351، 6332، 5437).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم، على وزن اسم المفعول،
268

البصري، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. الثاني: فضيل، بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة وسكون الياء آخر الحروف: النميري بضم النون. الثالث: موسى بن عقبة بضم العين وسكون القاف وفتح الباء الموحدة، تقدم في باب إسباغ الوضوء. الرابع: سالم ابن عبد ا بن عمر بن الخطاب، تقدم في باب الحياء من الإيمان. الخامس: نافع، مولى ابن عمر، وقد تكرر ذكره. السادس: عبد ا بن عمر.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: الرواية بصيغة الماضي للتكلم. وفيه: صيغة التحديث بلفظ المضارع المفرد وبلفظ الماضي المفرد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر معناه وما يستفاد منه) قوله: (يتحرى) أي: يقصد ويختار ويجتهد. قوله: (أن أباه) أي: عبد ا بن عمر بن الخطاب. قوله: (وأنه) أي: وأن أباه رأى النبي، وهذا مرسل من سالم إذا ما اتصل سنده. قوله: (وحدثني نافع) القائل ذلك هو موسى بن عقبة، وهو عطف على: رأيت، أي: قال موسى: وحدثني. و: سألت، أيضا عطف عليه. قوله: (بشرف الروحاء)، وهو موضع ارتفع من مكان الروحاء، وهي بحاء مهملة ممدودة. قال أبو عبيد ا البكري: هي قرية جامعة لمزينة على ليلتين من المدينة بينهما أحد وأربعون ميلا. وقال كثير عزة: سميت الروحاء لكثرة أرواحها وبالروحاء بناء يزعمون أنه قبر مضر بن نزار. وقال أبو عبيد: والنسبة إليها: روحاني، على غير قياس. وقد قيل: روحاوي، على القياس. وفي (كتاب الجبال) للزمخشري: بين المدينة والروحاء أربعة برد إلا ثلاثة أميال. وفي (صحيح مسلم) في باب الأذان: (ستة وثلاثون ميلا). وفي كتاب ابن أبي شيبة: على ثلاثين ميلا. وقال ابن قرقول: وهي من عمل الفرع على نحو من أربعين ميلا من المدينة. وقال أبو عبيد: روى نافع عن مولاه أن بهذا الموضع المسجد الصغير دون الموضع الذي بالشرف، قال: وروى أصحاب الزهري عنه عن حنظلة بن علي عن أبي هريرة: (سمعت رسول الله يقول: والذي نفسي بيده ليلهن ابن مريم، عليهما السلام، بفج روحاء حاجا أو معتمرا أو بثنيتها) وفي رواية الأعرج عن أبي هريرة مثله، وروى غير واحد أن رسول الله قال، وقد وصل المسجد الذي ببطن الروحاء عند عرق الظبية: هذا واد من أودية الجنة، وصلى في هذا الوادي قبلي سبعون نبيا، عليهم السلام، وقد مر به موسى بن عمران حاجا ومعتمرا في سبعين ألفا من بني إسرائيل.
فإن قلت: قد جاء عن عمر بن الخطاب خلاف فعل ابنه، روى المعرور بن سويد: كان عمر في سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه، ويقولون: صلى فيه النبي، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم واتخذوها كنائس وبيعا، فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض قلت: إن عمر إنما خشي أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع حتى يشكل على من يأتي بعدهم فيرى ذلك واجبا، وعبد ا بن عمر كان مأمونا من ذلك، وكان يتبرك بتلك الأماكن، وتشدده في
الاتباع مشهور، وغيره ليس في هذا المقام.
484 ح دثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس بن عياض قال حدثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد الله أخبره أن رسول الله كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو في حج أو عمرة هبط من بطن واد فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية فعرس ثم حتى يصبح ليس عند المسجد الذي بحجارة ولا على الأكمة التي عليها المسجد كان ثم خليج يصلي عبد الله عنده في بطنه كثب كان رسول الله ثم يصلي فدحا السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبد الله يصلي فيه.
584 وأن عبد الله بن عمر حدثه أن النبي صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه
269

النبي يقول ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة بينه وبين المسجد رمية بحجر أو نحو ذلك.
684 وأن عمر كان يصلي إلى العرق عند منصرف الروحاء وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة وقد أبتني ثم مسجد فلم يكن عبد اا يصلي في ذلك المسجد كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلي أمامه إلى العرق نفسه وكان عبد اا يروح من الروحاء فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلي فيه الظهر وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح.
784 وأن عبد اا حدثه أن النبي كان ينزل تحت سرحة ضخمة دون الرويثة عن الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح سهل حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها وهي قائمة على ساق وفي ساقها كثب كثيرة.
884 وأن عبد اا بن عمر حدثه أن النبي صلى في طرف تلعة من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق بين أولئك فيصلي السلمات كان عبد اا يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة الظهر في ذلك المسجد.
984 وأن عبد اا بن عمر حدثه أن رسول اا نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى بينه وبين الطريق قريب من غلوة وكان عبد اا يصلي إلى سرحة هى أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن.
094 وأن عبد اا بن عمر حدثه أن النبي كان ينزل في المسيل الذي أدنى في الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفروات ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة ليس بين منزل رسول الله وبين الطريق إلا رمية بحجر.
ب 05 0 194 وأن عبد اا بن عمر حدثه أن النبي كان ينزل بذي طوى ويبيت حتى يصبح يصلي الصبح حين يقدم مكة ومصلى رسول الله ذلك على أكمة غليظة ليس في المسجد الذي بني ثم ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
ب 05 0 ب 05 0 294 وأن عبد اا حدثه أن النبي استقبل فرضتي الجبل الذي بينهم وبين الجبل الطويل نحو الكعبة فجعل المسجد الذي بني ثم يسار المسجد بطرف الأكمة ومصلى النبي أسفل منه على السوداء تدع من الأكمة عشرة أذرع أو نحوها ثم تصلي مستقبل الفرضتين من الجبل الذي بينك وبين الكعبة.
270

مطابقته للترجمة ظاهرة في الفصلين.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر، بكسر الذال المعجمة الحزامي نسبة إلى أجداده، ببيانه إبراهيم بن المنذر بن عبد ا بن المغيرة بن عبد ا بن خالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد الصمد ابن قصي المديني، توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. الثاني: أنس بن عياض المدني، مات سنة ثمانين ومائة. الثالث: موسى بن عقبة، تقدم في هذا الباب. الرابع: نافع، وقد تقدم. الخامس: عبد ا بن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف اسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في مواضع واحد. وفيه: وفيه: الإخبار بصيغة الماضي المفرد. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن رواته مدنيون.
ذكر معناه وإعرابه. قوله: (بذي الحليفة)، بضم الحاء المهملة وفتح اللام وهو: الميقات المشهور لأهل المدينة، وهو من المدينة على أربعة أميال. ومن مكة على مائتي ميل غير ميلين. وقال الكرماني في (مناسكه) بينها وبين المدينة ميل أو ميلان، والميل ثلث فرسخ وهو أربعة آلاف ذراع، ومنها إلى مكة عشر مراحل، وقال ابن التين: هي أبعد المواقيت من مكة تعظيما لإحرام النبي،. قوله: (حين يعتمر وفي حجته حين حج) إنما قال في العمرة بلفظ المضارع، وفي الحج بلفظ الماضي لأنه،، لم يحج إلا مرة وتكررت منه العمرة؛ وقال الكرماني: والفعل المضارع قد يفيد الاستمرار. قلت: الماضي أقوى في إفادة الاستمرار من المضارع، لأن الماضي قد مضى واستقر بخلاف المضارع. قوله: (تحت سمرة)، بضم الميم: وهو شجر الطلح، وهو العظيم من الأشجار التي لها شوك وهي في ألسن الناس تعرف بأم غيلان. قوله: (وكان في تلك الطريق)، أي: طريق ذي الحليفة. قوله: (وكان)، جملة حالية، ويروى: كان، بدون: الواو، وهي صفة للغزو، ويروى: من غزوة، بالتأنيث. فإن قلت: على هذا ما وجه التذكير في: كان؟ قلت: باعتبار السفر، ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى رسول الله وقال الكرماني: فإن قلت: لم ما أخر لفظ: كان، في تلك الطريق عن الحج والعمرة. قلت: لأنهما لم يكونا إلا من تلك.
قوله: (بالبطحاء). قال في (المحكم): بطحاء الوادي: تراب لين مما جرته السيول، والجمع: بطحاوات وبطاح، فإن اتسع وعرض فهو الأبطح، والجمع: الأباطح. وقال أبو حنيفة: الأبطح لا ينبت شيئا إنما هو بطن السيل. وفي (الجامع) للقزاز: الأبطح والبطحاء: الرمل المنبسط على وجه الأرض. وفي (الواعي): البطحاء: حصى ورمل ينقل من مسيل الماء، وقال نضر بن شميل: بطحاء الوادي وأبطحه: حصاؤه اللين، وقال أبو سليمان: وهي حجارة ورمل وقال الداودي:
البطحاء كل أرض منحدرة. وفي (الكفاية) الأبطح والبطحاء منعطف الوادي. وفي (المنتهى) الأبطح: مسيل واسع فيها دقاق الحصى، والجمع: الأباطح. وكذا البطحاء. وفي (الصحاح): البطاح على غير قياس، والبطيحة مثل الأبطح. قوله: (شفير الوادي) بفتح الشين الحرف أي: الطرف. وقال ابن سيده: شفير الوادي وشفره ناحيته من أعلاه. قوله: (الشرقية)، صفة البطحاء.
قوله: (فعرس)، بالتشديد، وقال الأصمعي: عرس المسافرون تعريسا: إذا نزلوا نزلة في وجه السحر وأناخوا إبلهم فروحوها ساعة حتى ترجع إليها أنفسها، وعن أبي زيد: عرس القوم تعريسا في المنزل: حيث نزلوا بأي حين كان من ليل ونهار. وفي (المحكم): المعرس الذي يسير نهاره ويعرس أي ينزل أول الليل. وفي (الصحاح): أعرسوا، لغة فيه قليلة، والموضع: معرس ومعرس، وفي (الغريبين) التعريس: نومة المسافر بعد إدلاج الليل، وفي (المغيث): عرس أي: نزل للنوم والاستراحة، والتعريس النزول لغير إقامة. قوله: (ثم)، بفتح الثاء المثلثة وتشديد الميم، أي: هناك. قوله: (حتى يصبح)، بضم الياء: أي يدخل في الصباح وهي تامة لا تحتاج إلى الخبر. قوله: (الأكمة) بفتح الهمزة والكاف، قال ابن سيده: هي التل من القف من حجارة واحدة. وقيل: هو دون الجبال. وقيل: هو الموضع الذي قد اشتد ارتفاعه مما حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرا، والجمع: أكم وأكم وأكمام وإكمام وأءكم كأفلس، الأخيرة عن ابن جني. وفي (الواعي) لأبي محمد: الأكام، دون الضراب. وفي (الصحيح): والجمع أكمات، وجمع الأكم: آكام، مثل: عنق وأعناق. قوله: (خليج). بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام. قال في (المنتهى): هو شرم من البحر اختلج منه، والخليج: النهر العظيم، والجمع: خلجان، وربما قيل للنهر الصغير يختلج من النهر الكبير: خليج. وفي (المحكم): الخليج ما انقطع من معظم الماء لأنه يختلج منه. وقد اختلج، وقيل: الخليج شعبة تتشعب من الوادي تغير بعض مائه إلى مكان آخر، والجمع خلج وخلجان، وفي كتاب ابن التين: الخليج واد عميق ينشق من آخر أعظم منه، وفي (كتاب الأماكن) للزمخشري: نحيل خليج أحد جبال مكة، شرفها ا.
قوله: (يصلى عبد ا)، أي: عبد
271

ا بن عمر. قوله: (كتب) بضم الكاف وضم الثاء المثلثة: جمع كثيب، قال أبو المعالي: وهو رمل اجتمع، وكل ما اجتمع من شيء وانهار فقد انكثب فيه، ومنه اشتق: الكثيب من الرمل، في معنى مكثوب لأنه انصب في مكان واجتمع فيه والجمع: كثبان، وهي تلال من رمل. وفي (المحكم): الكثيب من الرمل القطعة تبقى محدودبة. وقيل: هو ما اجتمع واحدودب، والجمع: أكثبة وكثب. وفي (الجامع) للقزاز: إنما سمي كثيبا لأن ترابه دقاق كأنه مكثوب أي منثور بعضه على بعض لرخاوته. قوله: (كان رسول ا)، هذا مرسل من نافع. قوله: (ثم)، بفتح الثاء وقد تكررت هذه اللفظة. قوله: (فدحا)، الفاء للعطف: ودحا، من الدحو، وبالحاء المهملة وهو: البسط، يقال: دحا يدحو ويدحي دحوا، قاله ابن سيده. وفي (الغريبين): كل شيء بسطته ووسعته فقد دحوته وفي الإسماعيلي: فدخل، بالخاء المعجمة واللام ويروى: قد جاء، بكلمة: قد، للتحقيق، وبكلمة: جاء من المجيء.
قوله: (وأن عبد ا بن عمر حدثه)، أي: بالإسناد المذكور فيه. قوله: (حيث المسجد الصغير) بالحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وبالثاء المثلثة، ويروى: (جنب)، بالجيم والنون والباء الموحدة، والمسجد، مرفوع على الرواية الأولى لأن حيث، لا تضاف إلا إلى الجملة على الأصح. فتقديره: حيث هو المسجد، ونحوه، وعلى الرواية الثانية: مجرور. قوله: (بشرف الروحاء) هي: قرية جامعة على ليلتين من المدينة وهي آخر السبالة للمتوجه إلى مكة، والمسجد الأوسط في الوادي المعروف الآن بوادي بني سالم. قوله: (وقد كان عبد ا يعلم)، بضم الياء من أعلم من العلامة وفي بعض النسخ، يعلم، بفتح الياء من العلم. قوله: (على حافة الطريق) بتخفيف: الفاء أي على جانب الطريق وحافتا الوادي: جانباه. قوله: (إلى العرق)، بكسر العين وسكون الراء المهملتين وبالقاف، أي: عرق الظيبة. قال الكرماني: جبل صغير، ويقال أيضا للأرض الملح التي لا تنبت، وقال أبو عبيدة هو واد معروف وقال ابن فارس تنبت الطرفاء. وقال أبو حنيفة، رحمه ا: تنبت الشجرة. وقال الخليل: العرق: الجبل الدقيق من الرمل المستطيل مع الأرض قال الداودي: هو المكان المرتفع. وفي (التهذيب) لأبي منصور: العرق هو الجبل الصغير.
قوله: (عند منصرف الروحاء)، بفتح الراء في: منصرف، أي: عند آخرها. قوله: (وقد ابتني)، بضم التاء المنثناة من فوق على صيغة المجهول من الماضي. قوله: (وورائه) بالجر عطف على: يساره، وبالنصب بتقدير: في، ظرفا. قوله: (وأمامة) أي: قدام المسجد. قوله: (من آخر السحر)، وهو عبارة عما بين الصبح: الكاذب والصادق، والفرق بين العبارتين أعني قوله: (آخر السحر)، هو أنه أراد بآخر السحر، أقل من ساعة. أو أراد الإبهام ليتناول قدر الساعة، وأقل وأكثر منه.
قوله: (سرحة)، بفتح السين المهملة وسكون الراء وفتح الحاء المهملة، وأراد بها: الشجرة الضخمة أي: العظيمة. وقال أبو حنيفة في (كتاب النبات) إن أبا زيد قال: السرح من العضاه، واحدته سرحة، والسرح طوال في السماء، وقد تكون السرحة دوحة محلا لا واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبنون تحتها البيوت، وقد تكون منه العشة القليلة الفروع والورق، وللسرح عنب يسمى: آآء، واحدته: آءة، يأكله الناس أبيض، ويربون منه الرب، وورقته صغيرة عريضة تأكله الماشية لو تقدر عليه، ولكن لا تقدر لطوله ولا صمغ له ولا منفعة فيه أكثر مما أخبرتك، إلا أن ظله صالح فمن أجل ذلك قال الشاعر، عنها بامرأة:
فيا سرحة الركبان ظلك بارد وماؤك عذب لا يحل لشارب وليس للسرح شوك. وقال أبو عمر: والسرح يشبه الزيتون، وروى الفراء عن أبي الهيثم: أن كل شجرة لا شوك فيها فهي سرحة، يقال: ذهب إلى السرح، وهو أسهل من كل شيء، وأخبرني أعرابي قال في السرحة غبرة، وهي دون الأثل في الطول، وورقها صغار. وهي بسيطة الأفنان قال: وهي مائلة النبتية أبدا وميلها من بين جميع الأشجار في شق اليمين، ولم أبل على هذا الأعرابي كذبا، وزعم بعض الرواة: أن السرح من نبات
القف. وقال غيره: من نبات السهل، وهو قول الأصمعي. وفي (المنتهى): السرح شجر عظام طوال. وفي (الجامع) كل شجرة طالت فهي سرحة. وفي (المطالع): قيل: هي الدفلى، وقال أبو علي: هو نبت. وقيل: لها هدب وليس لها ورق، وهو يشبه الصوف.
قوله: (دون الرويثة) أي: تحتها قريب منها: والرويثة بضم الراء وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة، على لفظ التصغير، قال البكري: وهي قرية جامعة بينها وبين المدينة سبعة عشر فرسخا، ومن الرويثة إلى السقيا عشر فراسخ، وعقبة العرج على أحد عشر ميلا من الرويثة، بينها وبين العرج ثلاثة أميال، وهي غير الرويثة ماء لبني عجل بين طريق الكوفة والبصرة، وذكره ياقوت قال الكرماني: وفي بعض النسخ الرقشة،
272

بفتح الراء وسكون القاف وإعجام الشين. قلت: لم يذكر البكري إلا الرقاش، وقال: هو بلد. قوله: (ووجاه)، بضم الواو وكسرها المقابل، وهو عطف على (اليمين)، ويجوز بالنصب على الظرفية. قوله: (بطح)، بفتح الباء الموحدة وكسر الطاء وسكونها: أي واسع. قوله: (حتى يفضي) بالفاء من الإفضاء بمعنى الخروج يقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء أو بمعنى الدفع كقوله تعالى: * (وفإذا أفضتم من عرفات) *. أو بمعنى الوصول. قلت: الضمير في: يفضي، يرجع إلى ماذا؟ قلت يرجع إلى الرسول،، ويجوز أن يرجع إلى المكان. وقال الكرماني: في بعض النسخ بلفظ الخطاب. قوله: (دوين)، مصغر الدون، وهو نقيض: الفوق، ويقال: هو دون ذاك. أي: قريب منه. والبريد هو المرتب واحد بعد واحد، والمراد به موضع البريد، والمعنى: بينه وبين المكان الذي ينزل فيه البريد بالرويثة ميلان، ويقال: المراد بالبريد سكة الطريق. قوله: (فانثنى)، بفتح الثاء المثلثة على صيغة المعلوم من الماضي، ومعناه: انعطف. قوله: (وهي قائمة على ساق) أي: كالبنيان ليست متسعة من أسفل وضيقة من فوق.
قوله: (في طرف تلعة)، بفتح التاء المثناة وسكون اللام وفتح العين المهملة: وهي أرض مرتفعة عريضة يتردد فيها السيل، والتعلة: مجرى الماء من أعلى الوادي، والتلعة ما انهبط من الأرض. وقيل: التلعة مثل الرحبة، والجمع في كل ذلك: تلع وتلاع، وعن صاحب (العين): التلعة: أرض مرتفعة غليظة، وربما كانت على غلظها عريضة. وفي (الجامع): التلعة من الوادي ما اتسع من فوهته. وقيل: هي مسيل من الأرض المرتفعة إلى بطن الوادي، فإن صغر عن ذلك فهي: شعبة، فإذا عظم فكان نصف الوادي فهي: الميثاء وعن الرماني: الأصل في التلعة الارتفاع. قوله: (العرج)، بفتح العين المهملة وسكون الراء ثم جيم: قرية جامعة على طريق مكة من المدينة بينها وبين الرويثة أربعة عشر ميلا. قال البكري: قال السكوني: المسجد النبوي على خمسة أميال متن العرج وأنت ذاهب إلى هضبة عندها قبران أو ثلاثة عليها رضم حجارة. قال كثير: إنما سمي العرج لتعريجه، وبين العرج إلى السقيا سبعة عشر ميلا. وقال ياقوت: العرج قرية جامعة من نواحي الطائف، والعرج: عقبة بين مكة والمدينة على جادة الطريق، تذكر مع السقيا، وسوق العرج: بلد بين المحالب والمهجم. وقال الزمخشري: العرج واد بالطائف، والعرج أيضا: منزل بين المدينة ومكة، وجاء فيه فتح الراء أيضا.
قوله: (إلى هضبة)، بفتح الهاء وسكون الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة: وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض. وقال أبو زيد: الهضبة من الجبال ما طال واتسع وانفرد، وهي الهضبات والهضاب، وعن سيبويه: وقد قالوا: هضبة وهضب. وقال صاحب (العين) الهضبة كل جبل خلق من صخرة واحدة، وكل صخرة ضخمة صلبة راسية تسمى هضبة. وفي (الجامع): هي القطعة المرتفعة من أعلى الجبل. وفي (المجمل): هي أكمة ملساء قليلة النبات. وفي (المطالع): هي فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل. قوله: (رضم حجارة)، الرضم هي الحجارة البيض، والرضمة: الصخرة العظيمة مثل الجزور وليست بثابتة، والجمع: رضم ورضام، ورضم الحجارة جعل بعضها على بعض، وكل بناء بني بصخر رضيم، ذكره ابن سيده. وفي (الجامع): ومرضوم، ووقع في رواية الأصيلي: رضم من حجارة بتحريك الضاد. قوله: (عند سلمات الطريق)، بفتح السين المهملة وكسر اللام في رواية أبي ذرة والأصيلي، وفي رواية الباقين، بفتح اللام. قيل: هي بالكسر: الصخرات، وبالفتح: الشجرات. وقال أبو زياد. من العضاة السلم، وهو سليب العيدان طولا يشبه القضبان ليس له خشب وإن عظم، وله شوك دقاق طوال حار، إذا أصاب رجل الإنسان وكل شيء من السلمة مر يدبغ به، قاله أبو حنيفة. وقال غيره من الرواة: السلمة أطيب الغضاه ريحا، وبرمتها أطيب البرم ريحا، وهي صفراء تؤكل، وقيل: ليس شجرة أردى من سلمة، ولم يوجد في ذرى سلمة صرد قط، ويجمع على: أسلام، وأرض مسلوم: إذا كانت كثيرة السلم. وفي (الجامع): يجمع أيضا على: سلامي. قوله: (بين أولئك السلمات)، وفي بعض النسخ من أولئك السلمات، وهي في النسخة الأولى ظاهر التعلق بما قبله، وفي الثانية بما بعده. قوله: (بالهاجرة) وهي: نصف النهار عند اشتداد الحر.
قوله: (في مسيل)، بفتح الميم: وهو المكان المنحدر. قوله: (دون هرشى)، بفتح الهاء وسكون الراء وفتح الشين المعجمة مقصور، على وزن: فعلى. قال أبو عبيد: هو جبل من بلاد تهامة، وهو على ملتقى طريق الشام والمدينة في أرض مستوية هضبة ململمة لا تنبت شيئا، وهي قرية بين المدينة والشام قريبة من الجحفة. يرى منها البحر ويقرب منها طفيل، بفتح الطاء وكسر الفاء وهو جبل أسود، على الطريق من
273

ثنية هرشى ثلاث أودية غزال وذو ذوران وكلية، وكلها لخزاعة، وبأعلى كلية ثلاثة أجبل صغار يقال لها: سنابك، وغدير خم واد يصب في البحر، وفي (الموعب) لابن التياني: هرشى ثنية قرية من الجحفة وفي (أسماء الجبال) للزمخشري: هرشى هضبة دون المدينة. وقال الشريف: على هرشى نقب في حرة بين الأخيمصمي وبين السقيا على طريق المدينة، ويليه جبال يقال لها: طوال هرشى. وفي (المغيث) للمديني: قيل سميت هرشى لمهارشة كانت بينهم، والتهريش الإفساد بين الناس. قوله: (من غلوة)، بفتح الغين المعجمة. قال الجوهري: الغلوة الغاية مقدار رمية. وفي (المغيث) لا تكون الغلوة إلا مع تصعيد السهم. وقال ابن سيده: غلا بالسهم غلوا وغلوا وغالا به غلاء ورفع به يده يريد أقصى الغاية، وهو من التجاوز. ورجل غلاء: بعيد الغلو بالسهم، وغلا السهم نفسه: ارتفع في ذهابه، وجاوز
المدى، وكذلك الحجر، وكل مرماة: غلوة. والجمع غلواة وغلاء، وقد تستعمل الغلوة في سباق الخيل. قالت الفقهاء: الغلوة أربعمائة ذراع.
قوله: (مر الظهران) زعم البكري أنه بفتح أوله وتشديد ثانيه، مضاف إلى: الظهران، بظاء معجمة مفتوحة: بين مر والبيت ستة عشر ميلا. قلت: هو الوادي الذي تسميه العامة بطن مر، وبسكون الراء بعدها واو، وقال كثير عزة سميت مرا لمرارة مائها. وقال أبو غسان: سميت بذلك لأن في بطن الوادي بئرا ونخلة كبابة بعرق من الأرض أبيض هجامر، إلا أن الميم موصولة بالراء، وببطن مر تخزعت خزاعة من أخواتها فبقيت بمكة شرفها ا تعالى، وسارت أخواتها إلى الشام أيام سيل العرم. وقال الزمخشري: مر الظهران بتهامة قريب من عرفة. وعن صاحب (العين): الظهران من قولك: مر ظهرهم، وقال الفراء: لم أسمع إلا بتثنيته لم يجمع ولم يوحد. قوله: (قبل المدينة)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي: مقابلها وجهتها. قوله: (من الصفراوات)، بفتح الصاد المهملة وسكون الفاء جمع صفراء، وهي الأودية أو الجبال بعد مر الظهران.
قوله: (تنزل) بلفظ الخطاب ليوافق أنت. قوله: (بذي طوى)، بضم الطاء في رواية الأكثرين وفي رواية الحموي والمستملي: بذي الطوى، بزيادة الألف واللام. وقيده الأصيلي بالكسر، وحكى عياض وغيره الفتح أيضا. وقال النووي: ذو طوى، بالفتح على الأفصح، ويجوز ضمها وكسرها، وبفتح الواو المخففة. وفيه لغتان: الصرف وعدمه، عند باب مكة بأسفلها. وقال الجوهري: ذو طوى، بالضم موضع بمكة وأما طوى، فهو اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم. قوله: (ولكن أسفل) بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب أي: في أسفل.
قوله: (فرضتي الجبل)، ويقال أيضا لمدخل النهر وفرضة البئر ثلمته التي تسقى منها وفي (المحكم) فرضة النهر مشرب الماء منه والجمع: فرض وفراض. قوله: (نحو الكعبة)، أي: ناحيتها، وهو متعلق بالطويل أو ظرف للجبل أو بدل من الفرضة. قوله: (فجعل) الظاهر أنه من كلام نافع، وفاعله: عبد ا، ويسار مفعول ثان. قوله: (بطرف الأكمة) صفة للمسجد الثاني.
ذكر باقي المتعلقات والكلام فيه على وجوه. الأول: في ذكر المساجد التي بالمدينة، وفي المواضع التي صلى فيها النبي. وأخرج أبو داود في (كتاب المراسيل) من حديث ابن لهيعة: عم بكير بن عبد ا الأشج قال: كان بالمدينة تسعة مساجد مع مسجد النبي يسمع أهله تأذين بلال، رضي ا تعالى عنه، فيصلون في مساجدهم أقربها مسجد بني عمرو بن مبذول، ومسجد بني ساعدة، ومسجد بني عبيد، ومسجد بني سلمة، ومسجد بني رايح بن عبد الأشهل، ومسجد بني زريق، ومسجد غفار، ومسجد أسلم، ومسجد جهينة، وشك في التاسع. وفي كتاب (أخبار المدينة) لأبي زيد عمرو بن شبة النميري النحوي الأخباري، بسند له في ذكر المساجد التي بالمدينة: عن رافع بن خديج: صلى النبي، في المسجد الصغير الذي بأحد في شعب الجرار على يمينك اللازق بالجبل: وعن أسيد بن أبي أسيد عن أشياخه أن النبي،، دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح. وصلى في المسجد الصغير الذي بأصل الجبل حين تصعد الجبل: وعن عمارة ابن أبي اليسر: صلى النبي في المسجد الأسفل. وعن جابر: دعا النبي عليه الصلاة والسلام. في المسجد المرتفع ورفع يديه مدا، وعن عمرو بن شرحبيل أن النبي صلى في مسجد بني خدارة، وعن عمرو بن قتادة أن النبي عليه الصلاة والسلام، صلى لهم في مسجد في بني أمية من الأنصار، وكان في موضع الخربتين اللتين عند مال نهيك. وعن الأعرج أن النبي عليه الصلاة والسلام، صلى على ذباب وهو: جبل بالمدينة، بضم الذال المعجمة وبالبائين الموحدتين،
274

وفي لفظ كان ضرب قبته يوم الخندق عليه، وعن جابر بن أسامة قال: خط النبي، عليه الصلاة والسلام، مسجد جهينة ليلا، وفي لفظ (وصلى فيه)، وعن سعد بن إسحاق: (إن النبي صلى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة، وفي مسجد بني بياضة وفي مسجد بني الحبلى ومسجد بني عصية). وعن العباس بن سهل أن النبي صلى في مسجد بني ساعدة، وعن يحيى بن سعد: (كان النبي يختلف إلى مسجد أبي فيصلي فيه غير مرة أو مرتين، وقال: لولا أن يميل الناس إليه لأكثرت الصلاة فيه). وعن يحيى بن النضرة: (أن النبي صلى في مسجد أبي بن كعب في بني جديلة ومسجد بني عمر بن مبذول ومسجد بني دينار ومسجد النابغة ومسجد ابن عدي، وجلس في كهف سلع: وعن هشام بن عروة: (أن النبي، صلى في مسجد بلحارث بن الخزرج ومسجد السخ ومسجد بني خطمة ومسجد الفضيح وفي صدقة الزبير وفي بني محمم وفي بيت صرمة في بني عدي).
وعن الحارث بن سعيد: (أن النبي صلى في مسجد بني حارثة وبني ظفر وبني عبد الأشهل). وعن إسماعيل بن حبيبة (إن النبي صلى في مسجد وأقم). وعن ابن عمر: (أن النبي صلى في مسجد بني معاوية). وعن كعب بن عجرة: (أن النبي صلى في مسجد عاتكة في بني سالم). وعن جابر: (أن النبي صلى في مسجد الخربة، ومسجد القبلتين ومسجد بني حزام الذي بالقاع). وعن محمد بن عتبة بن أبي مالك: (أن النبي، صلى في صدقته). وعن يحيى بن إبراهيم: (أن النبي، في مسجد رايح). وعن زيد بن سعد: (أن النبي صلى في حائط أبي الهيثم). وعن جابر: (أن النبي صلى الظهر يوم أحد على عينين). وعن علي بن رافع: (أن النبي، صلى في بيت امرأة من الخضر، فأدخل ذلك في البيت في مسجد بني قريظة). وعن سلمة الخطمي: (أن النبي، صلى في بيت المقعدة عند مسجد وائل في مسجد العجوزة). وعن أبي هريرة: (أن النبي، عرض المسلمين بالسقيا التي بالحرة متوجها إلى بدر وصلى بها).
وعن المطلب: (أن النبي صلى في بني ساعدة، وصلى في المسجد الذي عند السخين وبات فيه وهو الذي عند (البائع)). وعن هشام: (أن النبي صلى في مسجد الشجرة بالمعرس). وعن أبي هريرة: (أن النبي، صلى في مسجد الشجرة). وعن ربيعة بن عثمان: (أن النبي صلى في بيت إلى جنب مسجد بني خدرة). قال أبو غسان: قال لي غير واحد من أهل العلم: إن كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبني بالحجارة المنقوشة المطابقة فقد صلى فيه النبي، وذكر أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد النبي سأل، والناس يومئذ متوافرون، عن المساجد التي صلى فيها النبي في دار الشفا عن يمين من دخل الدار، وصلى في دار بسرة بنت
صفوان، وفي دار عمرو بن أمية الضمري. قلت: قد اندرس أكثر هذه المساجد وبقي من المشهور الآن مسجد قبا، ومسجد بني قريظة، ومشربة أم إبراهيم وهي شمالي مسجد قريظة، ومسجد بني ظفر، شرقي البقيع ويعرف: بمسجد البغلة، ومسجد بني معاوية ويعرف بمسجد الإجابة، ومسجد الفتح قريب من جبل سلع، ومسجد القبلتين في بني سلمة.
الوجه الثاني في بيان وجه تتبع عبد ا بن عمر المواضع التي صلى فيها رسول ا، وهو أنه يستحب التتبع لآثار النبي والتبرك بها، ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين. وقد روى شعبة عن سليمان التيمي عن المعرور بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب، رضي ا عنه، في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه ويقولون: صلى فيه النبي. فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب، إنهم كانوا اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوا كنائس وبيعا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض. قالوا: أما ما روي عن عمر، رضي ا تعالى عنه، أنه ذكر ذلك فلأنه خشي أن يلتزم الناس الصلاة في تلك المواضع، فيشكل ذلك على من يأتي بعدهم، ويرى ذلك واجبا. وكذا ينبغي للعالم إذا رأى الناس يلبتزمون النوافل التزاما شديدا أن يترخص فيها في بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله، ذلك أنها غير واجبة، كما فعل ابن عباس في ترك الأضحية.
الوجه الثالث: فيما نقل عن الفقهاء في ذلك، روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة في المواضع التي صلى فيها الشارع؟ فقال: ما يعجبني
275

ذلك إلا في مسجد قبا لأنه،، كان يأتيه راكبا وماشيا ولم يفعل ذلك في تلك الأمكنة. وقال البغوي: إن المساجد التي ثبت أن رسول الله صلى فيها لو انذر أحد الصلاة في شيء منها تعين كما تعين المساجد الثلاثة.
أبواب سترة المصلي 09
((باب سترة الإمام سترة من خلفه))
أي: هذا باب في بيان كون سترة الإمام الذي يصلي وليس بين يديه جدار ونحوه سترة لمن كان يصلي خلفه من المصلين. والسترة، بضم السين: ما يستر به، والمراد ههنا عكازة أو عصا أو عنزة، ونحو ذلك. وفي بعض النسخ قبل قوله باب سترة الإمام، أيواب سترة المصلي. أي: هذه أبواب في بيان أحكام سترة المصلي.
وجه المناسبة بين هذه الأبواب والأبواب التي قبلها من حيث أن الأبواب السابقة في أحكام المساجد بوجوهها، وهذه الأبواب في بيان أحكام المصلين في غيرها. وهي خمسة أبواب متناسقة.
142 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس أنه قال أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله
يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد)
مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة تستنبط من قوله إلى غير جدار لأن هذا اللفظ مشعر بأن ثمة سترة لأن لفظ غير يقع دائما صفة وتقديره إلى شيء غير جدار وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو نحو ذلك وقال بعضهم في الاستدلال بهذا الحديث نظر لأنه ليس فيه أنه
صلى إلى سترة وقد بوب عليه البيهقي باب من صلى إلى غير سترة (قلت) دليله لا يساعد نظره لأنه لم يقف على دقة الكلام والبيهقي أيضا لم يقف على هذه النكتة والبخاري دقق نظره فأورد هذا الحديث في هذا الباب للوجه الذي ذكرناه على أن ذلك معلوم من حال النبي
وهذا الحديث بعينه بهذا الإسناد قد تقدم في كتاب العلم في باب متى يصح سماع الصغير غير أن هناك شيخه إسماعيل عن مالك وههنا عبد الله بن يوسف عنه وهناك حدثني مالك وههنا أخبرنا مالك وهناك فلم ينكر ذلك على صيغة المجهول مع طي ذكر الفاعل وههنا على صيغة المعلوم والفاعل هو قوله أحد وقد ذكرنا مباحث هذا الحديث هناك مستوفاة
143 - (حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله
كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل في السفر فمن ثم اتخذها الأمراء)
مطابقته للترجمة ظاهرة (فإن قلت) كيف الظهور والترجمة في أن سترة الإمام سترة لمن خلفه وليس في الحديث ما يدل على ذلك (قلت) يدل على ذلك من وجوه ثلاثة. الأول أنه لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين ولو كان ذلك لنقل لتوفر الدواعي على نقل الأحكام الشرعية فدل ذلك على أن سترته
كانت سترة لمن خلفه. الثاني أن قوله ' فيصلي إليها والناس وراءه ' يدل على دخول الناس في السترة لأنهم تابعون للإمام في جميع ما يفعله. الثالث أن قوله وراءه يدل على أنهم كانوا وراء السترة أيضا إذ لو كانت لهم سترة لم يكونوا وراءه بل كانوا وراءها وقد نقل القاضي عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة يعني به سترة الإمام وقال ولكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام أو سترتهم الإمام نفسه وقال بعضهم فيه نظر لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصحابي أنه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة فمرت حمير بين يدي أصحابه فأعاد بهم الصلاة وفي رواية أنه قال لهم ' إنها
276

لم تقطع صلاتي ولكن قطعت صلاتكم ' (قلت) لا يرد هذا على ما نقله عياض من الاتفاق لاحتمال أنه لم يقف على قوله
سترة الإمام سترة لمن خلفه أخرجه الطبراني من حديث أنس رضي الله تعالى عنه وكذا روى عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق موقوفا عليه على أن الرواية عن الحكم مختلفة ومع هذا لا يقاوم ما روي عن ابن عمر ثم قال هذا القائل ويظهر أثر هذا الخلاف الذي نقله عياض فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول أن الإمام
نفسه سترة لمن خلفه تضر صلاته وصلاتهم وعلى قول من يقول أن سترة الإمام سترة من خلفه تضر صلاته ولا تضر صلاتهم (قلت) سترة الإمام سترة مطلقا بالحديث المذكور فإذا وجدت سترة لا تضر صلاة الإمام ولا صلاة المأموم.
(بيان رجاله) وهم خمسة. الأول اسحق قال أبو علي الجياني لم أجد اسحق هذا منسوبا من الرواة وقال الكرماني وفي بعض النسخ إسحاق بن منصور (قلت) كذا جزم به أبو نعيم وخلف. الثاني عبد الله بن نمير بضم النون وقد تكرر ذكره. الثالث عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان القرشي العدوي المدني توفي سنة تسع وأربعين ومائة. الرابع نافع مولى ابن عمر. الخامس عبد الله بن عمر بن الخطاب.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه أن رواته ما بين كوفيين ومدنيين وفيه أن شيخه الراوي عن ابن نمير غير منسوب
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن عبد الله بن نمير وعن محمد بن المثنى وأخرجه أبو داود فيه عن الحسن بن علي الخلال عن عبد الله بن نمير.
(ذكر معناه) قوله ' أمر بالحربة ' أي خادمه بأخذ الحربة وللبخاري في العيدين من طريق الأوزاعي عن نافع ' كان يغدو إلى المصلى والعنزة تحمل وتنصب بين يديه فيصلي إليها ' وزاد ابن ماجة وابن خزيمة والإسماعيلي ' وذلك أن المصلى كان فضاء ليس فيه شيء يستره ' قوله ' والناس ' بالرفع عطف على فاعل يصلي ووراءه منصوب على الظرفية قوله ' ذلك ' أي الأمر بالحربة والوضع بين يديه والصلاة إليها لم يكن مختصا بيوم العيد قوله ' فمن ثم ' بفتح الثاء المثلثة أي فمن أجل ذلك اتخذ الحربة الأمراء وهو الرمح العريض النصل يخرج بها بين أيديهم في العيد ونحوه وهذه الجملة أعني قوله فمن ثم اتخذها الأمراء من كلام نافع كما أخرجه ابن ماجة بدون هذه الجملة فقال حدثنا محمد بن الصباح أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال ' كان النبي
يخرج له حربة في السفر فينصبها فيصلي إليها '
(ذكر ما يستفاد منه) فيه الاحتياط وأخذ آلة دفع الأعداء سيما في السفر. وفيه جواز الاستخدام وأمر الخادم. وفيه أنه سترة الإمام سترة لمن خلفه وادعى بعضهم فيه الإجماع نقله ابن بطال قال السترة عند العلماء سنة مندوب إليها وقال الأبهري سترة المأموم سترة إمامه فلا يضر المرور بين يديه لأن المأموم تعلقت صلاته بصلاة إمامه قال ولا خلاف أنه السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه وفي الأمن قولان عند مالك وعند الشافعي مشروعة مطلقا لعموم الأحاديث ولأنها تصون البصر قال فإن كان في الفضاء فهل يصلي إلى غير سترة أجازه ابن القاسم لحديث ابن عباس المذكور وقال المطرف وابن الماجشون لا بد من سترة وذكر عن عروة وعطاء وسالم والقاسم والشعبي والحسن أنهم كانوا يصلون في الفضاء إلى غير سترة (قلت) قال محمد يستحب لمن يصلي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصا ونحوها فإن لم يجد يستتر بشجرة ونحوها (فإن قلت) الحربة المذكورة هل لها حد في الطول وما المعتبر في طول السترة (قلت) قال أصحابنا مقدارها ذراع فصاعدا وأخذوا ذلك بحديث طلحة بن عبيد الله قال قال رسول الله
' إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضرك من يمر بين يديك ' رواه مسلم وذكر شيخ الإسلام في مبسوطه من حديث أبي جحيفة الآتي ذكره أن مقدار العنزة طول ذراع في غلظ أصبع ويؤيد هذا قول ابن مسعود يجزئ من السترة السهم وفي الذخيرة طول السهم ذراع وعرضه قدر أصبع واختلف مشايخنا فيما إذا كانت السترة أقل من ذراع وقال شيخ الإسلام لو وضع قناة أو جعبة بين يديه وارتفع قدر ذراع كانت سترة بلا خلاف وإن كانت دونه ففيه خلاف وفي
277

غريب الرواية النهر الكبير ليس بسترة كالطريق وكذا الحوض الكبير وقالت المالكية تجوز القلنسوة العالية والوسادة بخلاف السوط وجوز في العتبية السترة بالحيوان الطاهر بخلاف الخيل والبغال والحمير وجوز بظهر الرجل ومنع بوجهه وتردد في جنبه ومنع بالمرأة واختلفوا في المحارم ولا يستتر بنائم ولا مجنون ومأبون في دبره ولا كافر انتهى. -
594441 ح دثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة قال سمعت أبي أن النبي صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة الظهر ركعتين والعصر ركعتين تمر بين يديه المرأة والحمار..
مطابقته للترجمة من الوجه الذي ذكرناه في الحديث السابق.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري. الثاني: شعبة بن حجاج. الثالث: عون بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالنون. الرابع: أبوه أبو حنيفة، بضم الجيم وفتح الحاء، مر في كتاب العلم واسمه: وهب بن عبد ا السوائي، بضم السين المهملة.
ذكر لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: التحديث بصيغة المضارع المفرد. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن آدم. وأخرجه مطولا ومختصرا في باب استعمال وضوء الناس، وفي ستر العورة، وفي الآذان، وفي صفة النبي في موضعين، وفي اللباس في موضعين، وأخرجه أيضا بعد بابين في باب الصلاة إلى العنزة، وفي باب السترة بمكة وغيرها. وأخرجه مسلم في الصلاة. وكذلك أبو داود والترمزي وابن ماجة، وقد ذكرناه في باب الصلاة في الثوب الأحمر.
ذكر معناه) قوله: قوله: (بالبطحاء) أي: بطحاء مكة، ويقال لها: الأبطح أيضا. قوله: (وبين يديه عنزة)، جملة وقعت حالا. قوله: (الظهر) منصوب لأنه
مفعول: صلى. قوله: (ركعتين) نصب إما على أنه حال، وإما على أنه بدل من الظهر، وكذلك الكلام في قوله: (والعصر ركعتين). قوله: (تمر بين المرأة والحمار)، جملة وقعت حالا، والجملة الفعلية إذا وقعت حالا وكان فعلها مضارعا يجوز فيها الواو وتركها.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جعل السترة بين يديه إذا كان في الصحراء. وفيه: أن مرور المرأة والحمار لا يقطع الصلاة، وهو قول عامة العلماء، وروي عن أنس ومكحول وأبي الأحوص والحسن وعكرمة: يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة. وعن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض. وعن عكرمة يقطع الصلاة الكلب والحمار والخنزير والمرأة واليهودي والنصراني والمجوسي. وعن عطاء: لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود والمرأة الحائض. وعن أحمد، في المشهور عنه: يقطع الصلاة مرور الكلب الأسود البهيم. وفي رواية: يقطعها أيضا الحمار والمرأة والكلب البهيم الذي لا يخالط لونه لون آخر. وفي (جامع شمس الأئمة): تفسد الصلاة بمرور المرأة بين يديه. وفي (الكافي): عند أهل العراق تفسد بمرور الكلب والمرأة والحمار والخنزير. والحديث المذكور حجة على من يقول بقطع الصلاة بمرور المرأة والحمار، والحجة على من يرى بقطع الصلاة بالأشياء المذكورة من هؤلاء المذكورين ما رواه أبو داود في سننه: عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول ا: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤا ما استطعتم فإنما هو شيطان). وفي الباب عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وجابر، فحديث ابن عمر عند الدارقطني في (سننه) وحديث أبي أمامة وأنس أيضا عنده، وحديث جابر عند الطبراني في (الأوسط). قلت: أما حديث الخدري ففيه مقال، وأما حديث ابن عمر وأبي أمانة وأنس، فقال ابن الجوزي: لا يصح منها شيء. وأما حديث جابر ففيه عيسى بن ميمون، قال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به، ومستند المذكورين ما رواه مسلم: عن عبد ا ابن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول ا: (تقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه كأخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود. قلت ما بال الأسود من الأحمر؟ قال: يا أبا أخي، سألت رسول الله كما سأاتني فقال: الكلب الأسود شيطان). وحجة العامة ما رواه البخاري ومسلم عن عروة عن عائشة قالت: (كان رسول الله يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة). وقد روي هذا بوجود مختلفة، منها ما فيه: وأنا حزاءه، وأنا حائض. وجه الاستدلال به أن اعتراض
278

المرأة خصوصا الحائض بين المصلي وبين القبلة لا يقطع الصلاة، فالمارة بطريق الأولى. وبوب عليه أبو داود في (سننه) باب من قال الحمار لا يقطع الصلاة. وبوب أيضا باب من قال الكلب لا يقطع الصلاة، ثم روى عن الفضل بن عباس قال: (أتانا رسول الله ونحن في بادية ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة وحمارة، لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالى ذلك). وأخرجه النسائي أيضا. وقال النووي: وتأول الجمهور القطع المذكور في الأحاديث المذكورة على قطع الخشوع، جمعا بين الأحاديث. فإن قلت: قلت: هذا جيد فيما إذا كانت الأحاديث التي رويت في هذا الباب مستوية الأقدام، وأما إذا قلنا: أحاديث الجمهور أقوى وأصح من أحاديث من خالفهم فالأخذ بالأقوى أولى وأقوى: فإن قلت: قال ابن القصار: من قال: إن الحمار يقطع الصلاة؟ قال: إن مرور حمار عبد ا كان خلف الإمام بين يدي بعض الصف، والإمام سترة لمن خلفه. قلت: رد هذا بما رواه البزار أن المرور كان بين يديه: فإن قلت: روى أبو داود من حديث سعيد بن غزوان عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج، فإذا برجل مقعد فسأله عن أمره فقال: سأحدثك بحديث فلا تحدث به ما سمعت، إني حي: أن رسول الله نزل بتبوك إلى نخلة فقال: هذه قبلتنا، ثم صلى إليها. فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها فقال: قطع صلاتنا قطع ا أثره، فما قمت عليها إلى يومي هذا. قلت: قوله: عليها، أي: على رجلي وليس بإضمار قبل الذكر لوجود القرينة. قلت: أبو داود سكت عنه. وقال غير حديث واه، ولئن سلمنا صحته فهو منسوخ بحديث ابن عباس، لأن ذلك كان بتبوك وحديثه كان في حجة الوداع بعدها. وا أعلم. وفيه: جواز قصر الصلاة الرباعية، بل هو أفضل من الإتمام، وهل هو رخصة أو عزيمة؟ فيه خلاف بيننا وبين الشافعي على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء ا تعالى.
19
((باب قدر كم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة))
أي: هذا باب في بيان قدركم ذراع ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟ وقد علم أن لفظة: كم، سواء كانت استفهامية أو خبرية لها صدر الكلام، وإنما قدم لفظ: قدر، عليها لأن المضاف والمضاف إليه في حكم كلمة واحدة. ومميز: كم، محذوف، لأن الفعل لا يقع مميزا، والتقدير: كم زراع ونحوه، كما ذكرنا: (والمصلي)، بكسر اللام: اسم فاعل. قيل: يحتمل أن يكون بفتح اللام، أي: المكان الذي يصلي فيه. قلت: هذا احتمال أخذه قائلة من كلام الكرماني حيث قال: فإن قلت: الحديث دل على القدر الذي بين المصلي بفتح اللام والسترة، والترجمة بكسر اللام؟ قلت: معناهما متلازمان. انتهى. قلت: لا يلزم من تلازمهما عقلا اعتبار المقدار، لأن اعتبار المقدار بين المصلي وبين السترة لا بينها وبين المكان الذي يصلي فيه.
145 - (حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل قال كان بين مصلى رسول الله
وبين الجدار ممر الشاة)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم أربعة * الأول عمرو بالواو بن زرارة بضم الزاي ثم بالراء قبل الألف وبعدها هاء أبو محمد النيسابوري مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين * الثاني عبد العزيز بن أبي حازم * الثالث أبوه حازم بالحاء المهملة وبالزاي اسمه سلمة بن دينار وقد تقدم في باب غسل المرأة أباها * الرابع سهل بن سعد الساعدي وقد تقدم فيه أيضا.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول وفيه عن أبيه وفي رواية أبي داود والإسماعيلي أخبرني أبي وفيه
سهل غير منسوب وفي رواية الأصيلي عن سهل بن سعد.
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الصلاة عن يعقوب الدورقي وأبو داود فيه عن النفيلي والقعنبي
(ذكر معناه) قوله ' بين مصلى ' بفتح اللام وهو المكان الذي يصلي فيه والمراد به مقامه
وكذا هو في رواية أبي داود قال حدثنا القعنبي والنفيلي قال حدثنا عبد العزيز هو ابن أبي حازم قال أخبرني أبي عن سهل قال ' كان بين مقام النبي
وبين القبلة ممر العنز ' وقال الكرماني المراد بالمصلى موضع القدم (قلت) يتناول ذلك موضع القدم وموضع السجود أيضا قوله ' ممر الشاة ' وهو موضع مرورها وهو منصوب لأنه خبر كان والاسم قدر المسافة أو الممر والسياق يدل عليه كذا قاله الكرماني ثم قال وفي بعضها بالرفع (قلت) وجه الرفع أن تكون كان تامة ويكون ممر الشاة
279

اسمها ولا يحتاج إلى خبر أو تكون ناقصة والخبر هو الظرف وفي رواية أبي داود ' ممر العنز ' كما ذكرناه والعنز هو الماعز
(ذكر ما يستفاد منه) قال القرطبي إن بعض المشايخ حمل حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائما وحديث بلال رضي الله تعالى عنه أن النبي
لما صلى في الكعبة جعل بينه وبين القبلة قريبا من ثلاث أذرع على ما إذا ركع أو سجد قال ولم يحد مالك في هذا حدا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من يمر بين يديه وقيده بعض الناس بشبر وآخرون بثلاثة أذرع وبه قال الشافعي وأحمد وهو قول عطاء وآخرون بستة أذرع وذكر السفاقسي قال أبو إسحاق رأيت عبد الله بن مغفل يصلي بينه وبين القبلة ستة أذرع وفي مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح نحوه وقد استقصينا الكلام في الباب السابق
146 - (حدثنا المكي قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزها)
مطابقته للترجمة ظاهرة من حيث أنه
كان يقوم بجنب المنبر لأنه لم يكن لمسجد محراب فتكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار فكأنه قال الذي ينبغي أن يكون بين المصلي وسترته قدر ما كان بين منبره والجدار القبلي وقيل غير ذلك تركناه لأنه لا طائل تحته.
(ذكر رجاله) وهم ثلاثة قد سبقوا بهذا الإسناد في باب اسم من كذب على النبي
وسلمة بفتح اللام هو ابن الأكوع الصحابي وهذا من ثلاثيات البخاري رضي الله عنه.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحدي بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه أن اسم شيخ البخاري على صورة النسبة إلى مكة * والحديث أخرجه مسلم أيضا وهو موقوف على سلمة ولكن في الأصل مرفوع يدل عليه ما رواه الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد بلفظ ' كان المنبر على عهد رسول الله
ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما يمر العنز '.
(ذكر معناه) قوله ' المسجد ' أي مسجد النبي
قوله ' عند المنبر ' من تتمة اسم كان أي الجدار الذي كان عند منبر رسول الله
وخبر كان الجملة أعني قوله ما كادت الشاة ' تجوزها ' ويجوز أن يكون الخبر هو قوله ' عند المنبر ' وقوله ' ما كادت الشاة ' استئنافا تقديره إذا كان الجدار عند المنبر فما مقدار المسافة بينهما فأجاب ما كادت الشاة تجوزها أي مقدار ما كادت الشاة تجوز المسافة وليس بإضمار قبل الذكر لأن سوق الكلام يدل عليه ثم اعلم أن كاد من أفعال المقاربة وخبره يكون فعلا مضارعا بغير أن كما في هذه الرواية ويروى أن تجوزها (فإن قلت) ما وجه دخول أن (قلت) قد تدخل أن على خبر كاد كما تحذف من خبر عسى إذ هما أخوان يتعارضان (فإن قلت) إذا دخل حرف النفي على كاد يكون النفي كما في سائر الأفعال فما حكمه ههنا (قلت) القواعد النحوية تقتضي النفي والموافق ههنا الإثبات للحديث الأول وهذا الحديث والذي قبله يدلان على أن القرب من السترة مطلوب وقال ابن القاسم عن مالك ليس من الصواب أن يصلي وبينه وبين السترة صفان وروى ابن المنذر عن مالك أنه تباعد عن سترته وأن شخصا قال له أيها المصلي ألا تدنو من سترتك فمشى الإمام إليها وهو يقول * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * -
29
((باب الصلاة إلى الحربة))
أي: باب في بيان الصلاة إلى جهة الحربة المركوزة بينه وبين القبلة، وقد بينا أن الحربة وهي: دون الرمح العريض النصل، وقال أهل السير، كانت للنبي حربة دون الرمح يقال لها العنزة، فكأنها بالغلبة صارت علما لها.
147 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله أخبرني نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي
كان يركز له الحربة فيصلي إليها)
280

مطابقته للترجمة ظاهرة ساق هذا الحديث في الباب السابق وذكره ههنا مختصرا. ويحيى هو القطان وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قوله ' يركز ' من الركز بالزاي في آخره وهو الغرز في الأرض * -
39
((باب الصلاة إلى العنزة))
أي: هذا باب في بيان الصلاة إلى جهة العنزة المركوزة بينه وبين القبلة، وقد مر تفسير العنزة.
994841 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا عون بن أبي جحيفة قال سمعت أبي قال خرج علينا رسول اا بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فصلى بنا الظهر والعصر وبين يديه عنزة والمرأة والحمار يمرون من ورائها..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد تقدم حديث أبي جحيفة وهب بن عبد ا السوائي في الباب الذي بينه وبين هذا بابان، وهناك رواه: عن أبي الوليد عن شعبة، وههنا عن آدم بن أبي إياس عن شعبة.
قوله: (بالهاجرة) وهي: اشتداد الحر عند الظهيرة. قوله: (فأتي) على صيغة المجهول. قوله: (بوضوء) بفتح الواو وهو: الماء الذي يتوضأ به. قوله: (وبين يديه عنزة)، جملة حالية، قيل: فيه تكرار، لأن العنزة هي الحربة، ورد بأن الحربة غير العنزة لأن الحربة هي الرمح العريض النصل، ذكرنا عن قريب، والعنزة مثل نصف الرمح. قوله: (يمرون) كان القياس في ذلك أن يقال: يمران، بلفظ التثنية، لأن المذكور تثنية، وهي: المرأة، والحمار، ووجهوا هذا بوجوه، فقال بعضهم: كأنه أراد الجنس، ويؤيده رواية: (الناس والدواب يمرون). قلت: هذا ليس بشيء لأنه الجنس يراد جنس المرأة وجنس الحمار فيكون تثنية، فلا يطابق الكلام. فقال هذا القائل أيضا: والظاهر أن الذي وقع هنا من تصرف الرواة، وهذا أيضا ليس بشيء لأن فيه نسبتهم إلى ذكر ما يخالف القواعد. وقال ابن مالك: أرادوا المرأة والحمار وراكبه فحذف الراكب لدلالة الحمار عليه، ثم غلب عليه تذكير الراكب المفهوم على تأنيث المرأة، وذو العقل على الحمار، فقال: يمرون. قلت: هذا فيه تعسف وبعد، وقال ابن التين: فيه إطلاق اسم الجمع على التثنية، وهذا أوجه من غيره لأن مثل هذا وقع في الكلام الفصيح. قوله: (من ورائها). أي: من وراء العنزة.
005 حدثنا محمد بن حامم بن بزيع قال حدثنا شاذان عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة قال سمعت أنس بن مالك قال كان النبي إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام ومعنا عكازة أو عصا أو عنزة ومعنا إداوة فإذا فرغ من حاجته ناو لناه الإداوة..
مطابقته للترجمة ظاهرة على ما وجد في أكثر النسخ: (وعنزة) بالعين المهملة والنون والزاي، وفي بعض النسخ: أو غيره، بالغين المعجمة والياء آخر الحروف أي: أو غير كل واحد من العصا والعكازة. فإن صح هذا فليس فيه ما يطابق الترجمة. فإن قلت: الضمير في: غيره، يرجع إلى ماذا؟ والمذكور شيئان، وهما العكازة والعصا؟. قلت: تقديره: أو غير كل واحد منهما، قال بعضهم: الظاهر أنه تصحيف. قلت: كيف يكون تصحيفا وهي رواية المستملي والحموي؟ فكأن هذا القائل ارتكب هذا لئلا يقال: إن هذا الحديث لا يطابق الترجمة، وهذا الحديث قد مر في كتاب الوضوء في باب حمل العنزة مع الماء في الاستنجاء، ولكن هناك أخرجه عن محمد بن بشار بن جعفر عن شعبة، وههنا عن محمد بن حاتم، بالحاء المهملة وبالتاء المثناة من فوق: ابن بزيع، بفتح الباء الموحدة وبكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وبالعين المهملة: أبو سعيد، مات وبغداد في سنة تسع وأربعين ومائتين، وشاذان، بالشين المعجمة: تقدم في باب حمل العنزة في الاستتجاء. قوله: (تبعته أنا)، وإنما أتى بضمير الفصل ليصح العطف، وهذا على مذهب البصريين. والإداوة، بكسر الهمزة.
وقال ابن بطال: فيه الاستنهجاء بالماء. هذا ليس بصريح، فإن قوله: (فإذا فرغ من حاجته) يشمل الاستجناء بالحجر
281

ونحوه، وتكون مناولة الماء لأجل الوضوء. قال. وفيه: خدمة السلطان والعالم. قلت: حصره للإثنين لا وجه له، والأحسن أن يقال: فيه خدمة الكبير.
49
((باب السترة بمكة وغيرها))
أي: هذا باب في بيان استحباب السترة لدرء المار، سواء كان بمكة أو غير مكة، وإنما قيد بمكة دفعا لتوهم من توهم أن السترة قبلة، ولا ينبغي أن يكون لمكة قبلة إلا الكعبة فلا يحتاج فيها إلى سترة، وكل من يصلي في مكان واسع فالمستحب له أن يصلي إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا أن يصلي بمسجد مكة بقرب الكعبة حيث لا يمكن لأحد المرور بينه وبينها، فلا يحتاج إلى سترة إذ قبلة مكة سترة له، فإن صلى في مؤخر المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه. أو في سائر بقاع مكة إلى غير جدار أو شجرة أو ما أشبههما، فينبغي أن يجعل أمامه ما يستر من المرور بين يديه، كما فعل الشارع حين صلى بالبطحاء إلى عنزة والبطحاء خارج مكة.
59
((باب الصلاة إلى الاسطوانة.))
أي: هذا باب في استحباب الصلاة إلى جهة الأسطوانة إذا كان في موضع فيه أسطوانة، والأسطوانة، بضم الهمزة معروفة، والنون أصلية وزنها: أفعوالة، مثل: أقحوانة، لأنه يقال: أساطين مسطنة. وقال الأخفش: وزنها: فعلوانة، وهذا يدل على زيادة الواو والألف والنون، وقال قوم: وزنها أففعلانة، وهذا ليس بشيء، لأنه لو كان كذلك لما جمع على أساطين، لأنه ليس في الكلام: أفاعين، وقال بعضهم: الغالب أن الأسطوانة تكون من بناء بخلاف العمود فإنه من حجر واحد. قلت: قيد الغالب لا طائل تحته، ولا نسلم أن العمود يكون من حجر واحد لأنه ربما يكون أكثر من واحد، ويكون من خشب أيضا.
وقال عمر: المصلون أحق بالسوارى من المتحدثين إليها
مطابقة هذا الأثر ظاهرة، لأن السواري هي الأساطين، واسواري جمع سارية؛. قال ابن الأثير: السارية الأسطوانة، وذكر الجوهري في باب سرا، ثم ذكر المادة الواوية والمادة اليائية، والظاهر أن السارية من ذوات الياء، وهذا الذي علقه البخاري وصله أبو بكر بن أبي شيبة من طريق همدان يريد عمر، رضي ا تعالى عنه، أي رسوله إلى أهل اليمن عن عمر به، وهمدان بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة. قوله: (المصلون أحق)، وجه الأحقية أن المصلين والمتحدثين مشتركان في الحاجة إلى السارية: المتحدثون إلى الاستناد، والمصلون لجعلها سترة، لكن المصلين في عبادة فكانوا أحق. قوله: (من المتحدثين) أي: المتكلمين.
ورأى عمر رجلا يصلي بين أسطوانتين فأدناه إلى سارية فقال صل إليها.
282

مطابقته للترجمة في قوله: (فأدناه إلى سارية)، وابن عمر هو عبد ا، ولذا وقع بإثبات ابن في رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما، وعند البعض، رأى عمر، بحذف: ابن قال بعضهم: هو أشبه بالصواب، فقد رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) من طريق معاوية ابن قرة بن إياس المزني عن أبيه، وله صحبة قال: (رآني عمر وأنا أصلي. فذكر مثله سواء، ولكن زاد: فأخذ بقفاي). انتهى. قلت: رواية الأكثرين أشبه بالصواب مع احتمال أن يكون قضيتان: إحداهما مع عمر، والأخرى مع ابنه، ولا مانع لذلك. وقال هذا القائل أيضا: وقد عرف بذلك الميم المذكور في التعلق. قلت: هذا إنما يكون إذا تحقق اتحاد القضية. قوله: (فأدناه) أي: قربة، من: الإدناء، وهو التقريب. وادعى ابن التين أن عمر إنما كره لانقطاع الصفوف. وقيل: أرادبذلك أن تكون صلاته إلى سترة.
205 حدثنا المكي بن إبراهيم قال حدثنا يز (يد بن أبي عبيد قال كنت آتي مع سلمة ابن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانلا قال فإني رأيت النبي يتحرى الصلاة عندها.
13
50 مطابقته للترجمة في قوله: (فيصلي عند الأسطوانة)، وقوله: (يتحرى الصلاة عندها).
ذكر رجاله وهم ثلاثة: الأول: مكي بن إبراهيم. الثاني: يزيد بن أبي عبيدة، مولى سلمة بن الأكوع. الثالث: سلمة بن الأكوع.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: القول. وفيه: أنه من ثلاثيات البخاري.
ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن أبي موسى عن مكي به، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعن محمد بن المثنى. وأخرجه ابن ماجة فيه عن يعقوب بن حميد.
ذكر معناه) قوله: (التي عند المصحف)، هذا يدل على أنه كان في مسجد رسول الله موضع خاص للمصحف الذي كان ثمة من عهد عثمان، ووقع عند مسلم بلفظ: يصلي وراء الصندوق)، وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه والأسطوانة المذكورة فيه معروفة بأسطوانة المهاجرين. قوله: (يابا مسلم) أصله: يا أبا مسلم، حذفت الهمزة للتخفيف، وهو كنيته سلمة بن الأكوع. قوله: (أراك) أي: أبصرك. قوله: (تتحرى)، أي تجتهد وتختار، وقال ابن بطال: لما كان رسول الله يستتر بالعنزة في الصحراء كانت الأسطوانة أولى بذلك، لأنها أشد سترة منها. قوله: (يتحرى الصلاة عندها)، أي: عند الأسطوانة أمامة ولا نكون إلى جنبه لئلا يتخلل الصفوف شيء ولا يكون له سترة.
305251 ح دثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر بن أنس قال لقد رأيت كبار أصحاب النبي يبتدرون السواري عند المغرب. وزاد شعبة عن عمرو عن أنس حتى يخرج النبي. (الحديث 305 طرفه في: 516).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: قبيصة بن عقبة الكوفي. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: عمرو، بالواو: وابن عامر الكوفي الأنصاري، وليس هو: عمرو بن عامر البصري، فإنه سلمى، ولا والد أسد فإنه بجلي. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف اسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته كوفيون ما خلا أنس.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري هنا عن قبيصة وعن بندار عن غندر عن شعبة. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي عامر عن سفيان عنه، وفي نسخة: عن شعبة، بدل: سفيان.
ذكر معناه قوله: (لقد أدركت)، هذا رواية المستملي والحموي، وفي رواية غيرهما: (لقد رأيت). قوله: (كبار أصحاب محمد)، الكبار: جمع كبير، والأصحاب: جمع صاحب. قوله: (يبتدرون السواري)، يتسارعون إليها. قوله: (عند المغرب) أي: عند آذان المغرب، وصرح بذلك الإسماعيلي من طريق ابن مهدي عن سفيان، ولمسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس
283

نحوه. قوله: (وزاد شعبة عن عمرو) إلى آخره تعليق، وقد وصله البخاري في كتاب الآذان من طريق غندر عن عمرو بن عامر الأنصاري، وزاد فيه أيضا. (يصلون الركعتين قبل المغرب). قوله: (حتى يخرج النبي) ويروى: (حين يخرج) وسيأتي الكلام في حكم الصلاة قبل المغرب بعد الغروب في موضعه إن شاء ا تعالى.
69
((باب الصلاة بين السواري في غير جماعة))
أي: هذا باب في بيان الصلاة بين السواري أي: الأساطين والأعمدة في غير جماعة، يعني إذا كان منفردا لا بأس في الصلاة بين الساريتين، إذا لم يكن في جماعة، وقيد بغير جماعة لأن لك يقطع الصفوف، وتسوية الصفوف في الجماعة مطلوبة.
505451 حدثنا عبد اا بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد اا بن عمر أن رسول اا دخل الكعبة وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقها عليه ومكث فيها فسألت بلالا حين خرج ما صنع النبي قال جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى. وقال لنا إسماعيل حدثني مالك وقال عمودين عن يمينه..
مطابقته للترجمة في قوله: (فجعل عمودا) إلى آخره. ورجاله قد تكرروا. قوله: (وأسامة) بالنصب عطفا على: رسول ا، ويجوز رفعه عطفا على فاعل دخل. قوله: (الحجبي) بفتح الحاء المهملة ثم بالجيم وبالباء الموحدة المكسورة. قوله: (فأغلقها)، أي: أغلق عثمان، الكعبة أي: فإن قلت: في رواية مالك إشكال لأنه عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وهذان اثنان، ثم قال: وثلاثة أعمدة وراءه، فتكون الجملة خمسة، ثم قال: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلت: أجاب الكرماني عنه بأن لفظ العمود جنس يحتمل الواحد الإثنتين فهو مجمل بينه مالك في رواية إسماعيل بن أبي أويس عنه، وهي قوله: وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك؟ فقال: عمودين عن يمينه، فحينئذ تكون الأعمدة ستة. وقال خلف: لم أجده من حديث إسماعيل. وقد اختلف عن مالك في لفظه فرواه مسلم: (عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه)، عكس رواية
284

إسماعيل، وفي رواية البخاري (عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره). قال البيهقي: وهو الصحيح، وفي رواية: (جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره)، عكس ما سبق. وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد ا بن يوسف في قوله: (عمودا عن يمينه)؛ ووافق إسماعيل في قوله: (عمودين عن يمينه)؛ ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة، وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهم، وأجاب قوم عنه باحتمال تعدد الواقعة، وروى عثمان بن عمر عن مالك: (جعل عمودين عن يمينه وعمودين عن يساره)، فعلى هذا تكون الأعمدة سبعة، ويردها قوله: (وكأن البيت يومئذ على ستة أعمدة)، بعد قوله: (وثلاثة أعمدة وراءه) وعن هذا قال الدارقطني: لم يتابع عثمان بن عمر على ذلك، وأجاب الكرماني بجوابين آخرين: الأول: هو أن الأعمدة الثلاثة المقدمة ما كانت على سمت واحد، بل عمودان مسامتان والثالث على غير سمتها؛ ولفظ المقدمين في الحديث السابق يشعر به، فتعرض للعمودين المسامتين وسكت عن ثالثها. والثاني: أن تكون الثلاثة على سمت واحد، وقام رسول الله عند الوسطاني.
قوله: (وقال لنا إسماعيل) وهو أبي أويس بن أخت مالك بن أنس، وهذا موصول بواسطة قوله لنا، وهي رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر والأصيلي: وقال إسماعيل، بدون لفظ: قال لنا، أحط درجة من: حدثنا. قوله: (حدثني مالك)، يعني: بهذا الحديث.
79
((باب))
أي: هذا باب، فإذا لم يقدر شيئا لا يكون معربا، لأن الإعراب يكون بالعقد والتركيب، كذا وقع لفظ: باب، بلا ترجمة في رواية الأكثرين، وليس لفظ باب في رواية الأصيلي، وعلى قول الأكثرين: هو كالفصل من الباب الذي قبله، وإنما فصله لأن فيه زيادة، وهي مقدار ما كان بينه وبين الجدار من المسافة.
605551 ح دثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أبو ضمرة قال حدثنا موسى بن عقبة عن نافع أن عبد اا كان إذا دخل الكعبة مشى قبل وجهه حين يدخل وجعل الباب قبل ظهره فمشى حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن النبي صلى فيه قال وليس على أحدنا بأس أن صلى في أي نواحي البيت شاء..
مطابقة هذا الحديث للترجمة بطريق الإستلزام، وهو أن الموضع المذكور من كونه مقابلا للباب قريبا من الجدار يستلزم كون صلاته بين الساريتين.
ذكر رجاله ومهم خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر أبو إسحاق الحزامي المديني. الثاني: أبو ضمرة، بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وبالراء: اسمه أنس بن عياض، مر في باب التبرز في البيوت. الثالث: موسى بن عقبة بن أبي عياش المديني، مات سنة إحدى وأربعين ومائة. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد ا بن عمر.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده.
ذكر بمعناه): قوله: (قبل وجهه)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة: أي مقابل وجهه، وكذلك الكلام في: (قبل وجهه) الذي بعده. قوله: (قريبا) كذا وقع بالنصب، ويروى بالرفع وهو الأصل لأنه اسم: يكون، ووجه النصب أن يكون اسمه محذوفا والتقدير: يكون القدر أو المكان قريبا من ثلاثة أذرع، ولفظه: (بثلاثة) بالتأنيث في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر من: ثلاث أذرع، بلا تاء. فإن قلت: الذراع مذكر فما وجهه ترك التأنيث. قلت: أجاب بعضهم أن الذراع يذكر ويؤنث، وليس كذلك على الإطلاق بل الذراع الذي يذرع به يذكر، وذراع اليد يذكر ويؤنث، وههنا شبه بذراع اليد. قوله: (صلى)، جملة استئنافية. قوله: (يتوخى) أي: يتحرى، يقال: توخيت مرضاتك. أي: تحريت
285

وقصدت. قوله: (قال) أي: ابن عمر. قوله: (إن صلى)، بكسر الهمزة، وصلى بلفظ الماضي، وفي رواية الكشمهني: (أن يصلي) بفتح الهمزة ولفظ المضارع، والتقدير: ولا بأس بأن يصلي، وحذف حرف سائغ.
ذكر ما يستفاد منه فيه جواز الصلاة في نفس البيت. وفيه: الدنو من السترة. وقد أمر الشارع بالدنو منها لئلا يتخلل الشيطان ذلك. وفيه: السترة بين المصلي والقبلة ثلاثة أذرع، وادعى ابن بطال أن الذي واظب عليه الشارع في مقدر ذلك ممر الشاة، كما جاء في الآثار. وفيه: أنه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلى فيه النبي، كما أشار إليه ابن عمر، ولكن الموافقة أولى وإن كان يحصل الغرض بغيره، وقد ذكرنا أن الحديث لا يدل صريحا على الصلاة بين الساريتين، وإنما دلالته على ذلك بطريق الاستلزام، وقد بيناه. وقد اختلف السلف في الصلاة بين السواري، فكرهه أنس بن مالك لورود النهي بذلك، رواه الحاكم وصححه، وقال ابن مسعود: لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف). وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين، وهو قول الكوفيين وقال مالك في (المدونة) لا بأس باصلاة بينهما لضيق المسجد. وقال ابن حبيب: ليس النهي عن تقطيع الصفوف إذ ضاق المسجد، وإنما نهى عنه إذا كان المسجد واسعا. قال القرطبي: وسبب الكراهة بين الأساطين أنه روي أنه مصلى الجن المؤمنين.
89
((باب الصلاة إلى الراحلة والبعير والشجر والرحل))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة بالتوجه إلى الراحلة إلى آخره، والراحلة: الناقة التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن النظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت، و: الهاء، فيه للمبالغة كما يقال: رجل داهية وراوية. وقيل: إنما سميت: راحلة، لأنها ترحل. قال ا تعالى. * (في عيشة راضية) * (الحاقة: 12، والقارعة: 7) أي: مرضية، والبعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس. ويقال للجمل: بعير وللناقة: بعير، وبنو تميم يقولون: بعير وشعير بكسر الباء والشين، والفتح هو الفصيح، وإنما يقال له: بعير إذا أجذع، والجمع: أبعرة في أدنى العدد، وأباعر في الكثير، وأباعير وبعران، وهذه عن الفراء. ومعنى: بأجذع، إذا دخل في السنة الخامسة. فإن قلت: إذا أطلق البعير على الناقة، والراحلة هي: الناقة، فما فائدة ذكر البعير؟ قلت: ذهب بعضهم إلى أن الراحلة لا تقع إلا على الأنثى، ولأجل ذلك أردفه بالبعير، فإنه يقع عليهما. قوله: (والشجر) هو المعروف، وفي حديث علي، رضي ا عنه، قال: (لقد رأيتنا يوم بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول ا،، فإنه كان يصلي إلى شجرة يدعو حتى أصبح). رواه النسائي بإسناد حسن. قوله: (والرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة: وهو للبعير أصغر من القتب، وهو الذي يركب عليه. وهو: الكور بضم الكاف. فإن قلت: حديث الباب لا يدل إلا على الصلاة إلى البعير والشجر؟ قلت: كأنه وضع الترجمة على أنه يأتي لكل جزء منها بحديث، فلم يجد على شرطه إلا حديث الباب، وهو يدل على الصلاة إلى الراحلة والرحل، واكتفى به عن بقية ذلك بالقياس على الراحلة، وقد روى غيره: في الصلاة إلى البعير والشجر، أما الصلاة إلى البعير فرواه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة ووهب بن بقية وعبد ا بن سعيد، قال عثمان: أخبرنا أبو خالد، قال: أخبرنا عبيد ا عن نافع عن ابن عمر: (أن النبي كان يصلي إلى بعيره). وأما الصلاة إلى الشجر فقد ذكرناه الآن عن النسائي.
705651 ح دثنا محمد بن أبي بكر المقدمي البصري قال حدثنا معتمر عن عبيد اا عن نافع عن ابن عمر عن النبي أنه كان يعرض راحلته فيصلي إليها قلت أفرأيت إذا هبت الركاب قال كان يأخذ هذا الرحل فيعدله فيصلي إلي آخرته أو قال مؤخره وكان ابن عمر رضي اا عنه يفعله. (انظر الحديث 034).
مطابقته للترجمة في. قوله: (يعرض راحلته فيصلي إليها). وفي قوله: (كان يأخذ الرحل): إلى آخره. وأما ذكر البعير
286

والشجر في الترجمة فقد ذكرنا وجهه آنفا.
ذكر رجاله وهم أربعة تكرر ذكرهم. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع.
وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن أحمد بن حنبل، ولفظه: (آخرة الرحل)، وأخرجه أيضا من حديث أبي ذر، وأبي هريرة وأخرج النسائي من حديث عائشة: (سئل رسول في غزوة تبوك عن سترة المصلي؟ فقال: مثل مؤخرة الرحل.
ذكر معناه): قوله: (يعرض)، بتشديد الراء من التعريض أي: يجعلها عرضا. قوله: (أفرأيت؟) الفاء عاطفة على مقدر بعد الهمزة أي: أرأيت في تلك الحالة، فرأيت في هذه الحالة الأخرى، والمعنى: أخبرني عن هذه وفي بعض النسخ: (أرأيت) بدون: الفاء. فإن قلت: من السائل هنا ومن المسؤول عنه؟ قلت: الذي يدل عليه الظاهر أنه كلام نافع، وهو السائل. والمسؤول عنه هو ابن عمر، ولكن وقع في رواية الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد: عن عبيد ا بن عمر أنه كلام عبيد ا، والمسؤول نافع، فعلى هذا يكون هو مرسلا، لأن فاعل: يأخذ، هو النبي ولم يدركه نافع. قوله: (إذا هبت الركاب)، هبت بمعنى: هاجت وتحركت، يقال: هب الفحل إذا هاج، وهب العير في السير إذا نشط. وقال ابن بطال: هبت أي زالت عن موضعها وتحركت. يقال: هب النائم من نومه إذا قام، وقيده الأصيلي بضم الهاء، والفتح أصوب، والركاب، بكسر الراء وتخفيف الكاف: الإبل التي يسار عليها والواحد الراحلة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع الركب مثل الكتب. قوله: (فيعدله)، من التعديل وهو تقويم الشيء. يقال: عدلته فاعتدل أي: قومته فاستقام، والمعنى يقيمه تلقاء وجهه، لأن الإبل إذا هاجت شوشت على المصلي لعدم استقرارها، فحينئذ كان النبي،، يعدل عنها إلى الراحل فيجعله سترة. وقد ضبط بعضهم: فيعدله، بفتح أوله وسكون العين وكسر الدال، ثم فسره بقوله: أي يقيمه تلقاء وجهه، والصواب ما ذكرناه لأنه من باب: فعل، بالتشديد، لكنه يأتي بمعنى: فعل بالتخفيف، كما يقال: زلتحه وزيلته، وكلاهما بمعنى: فرقته. قوله: (إلى آخرته)، بفتح الهمزة والخاء والراء بلا مد أي: فصلى إلى آخرة الرحل، ويجوز المد في الهمزة، ولكن بكسر الخاء، وهي الخشبة التي يستند إليها الراكب. قوله: (أو قال مؤخرته)، في ضبطه وجوه: الأول: بضم الميم وكسر الخاء وهمزة ساكنة، قاله النووي. والثاني: بفتح الهمزة وفتح الخاء المشددة. والثالث: إسكان الهمزة وتخفيف الهاء، وقال أبو عبيد: يجوز كسر الخاء وفتحها، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وقال ابن مكي: لا يقال مقدم ومؤخر بالكسر إلا في العير خاصة، وأما في
غيرها فلا يقال: إلا بالفتح فقط، وقال الجوهري: مؤخرة الرحل لغة قليلة في أخرته، وقال ابن التين: رويناه بفتح الهمزة وتشديد الخاء وفتحها. وقال القرطبي: مؤخرة الرحل العود الذي يكون في آخر الرحل بضم الميم وكسر الخاء. والرابع روى بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء. قوله: (وكان ابن عمر يفعله)، مقول: نافع، والضمير المنصوب في: يفعله، يرجع إلى كل واحد من التعريض والتعديل اللذين يدل عليهما، قوله: يعرض، وقوله: فيعدله، من قبيل قوله تعالى: * (أعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8) أي: العدل أقرب للتقوى، فافهم.
ذكر ما يستفاد منه قال الخطابي: فيه: دليل على جواز السترة بما يثبت من الحيوان. قال ابن بطال: وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شيء طاهر. وقال القرطبي: في هذا الحديث دليل على جواز التستر بالحيوان، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، وكراهة الصلاة حينئذ عندها إما لشدة نتنها، وإما لأنهم كانوا يتخلون بها مستترين بها. وقيل: علة النهي في ذلك كون الإبل خلقت من الشياطين، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب الصلاة في مواضع الإبل.
99
((باب الصلاة إلى السرير))
أي: باب في بيان حكم الصلاة إلى السرير، ومراده: على السرير، لأن لفظ الحديث: (فيتوسط السرير فيصلي)، فهذا يدل على أنه يصلي على السرير، على أن في بعض النسخ: باب الصلاة على السرير، نبه عليه الكرماني، وقال: حروف الجر يقام بعضها مقام البعض. فإن قلت: قوله: (فيتوسط السرير)، يشمل ما إذا كان فوقه أو أسفل منه. قلت: لا نسلم ذلك لأن معنى قوله: (فيتوسط السرير) يجعل نفسه في وسط السرير. فإن قلت: ذكر البخاري في الاستئذان حديث الأعمش عن مسلم عن مسروق عن
287

عائشة، رضي ا تعالى عنها: (كان يصلي والسرير بينه وبين القبلة). فهذا يبين أن المراد من حديث الباب أسفل السرير. قلت: لا نسلم ذلك لاختلاف العبارتين مع احتمال كونهما في الحالتين، فإذا علمت هذا علمت أن قول الإسماعيلي: بأنه دال على الصلاة على السرير لا إلى السرير، غير وارد، يظهر ذلك بالتأمل.
001
((باب يرد المصلي من مر بين يديه))
أي: هذا باب ترجمته: يرد المصلي من مر بين يديه، وسنبين هل الرد إذا مر بين يديه في موضع سجوده؟ أو يرده مطلقا؟ أو له حد معلوم؟ وأن الرد واجب أم سنة أم مستحب؟ وأنه مقيد بمكان مخصوص أو في جميع الأمكنة؟ على ما نذكره مفصلا إن شاء ا تعالى.
ورد ابن عمر المار بين يديه في التشهد وفي الكعبة وقال إن أبى إلا أن تقاتله ققاتله
288

الكلام فيه على أنواع: الأول في وجه مطابقته للترجمة وهي ظاهرة لأن ابن عمر رد المار من بين يديه وهو في الصلاة.
الثاني في معنى التركيب: فقوله: ورد ابن عمر، أي: رد عبد ا بن عمر بن الخطاب المار بين يديه حال كونه في التشهد، وكان هذا المار هو: عمرو بن دينار، نبه عليه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما. قوله: (في الكعبة) أي، ورد أيضا في الكعبة. قال الكرماني: هو عطف على مقدر، أي: رد المار بين يديه عند كونه في الصلاة وفي غير الكعبة وفي الكعبة أيضا، ويحتمل أن يراد به كون الرد في حالة واحدة جمعا بين كونه في التشهد وفي الكعبة، فلا حاجة إلى مقد. وقال أبو محمد الإشبيلي في كتابه (الجمع بين الصحيحين): كذا وقع، وفي الكعبة. وقال ابن قرقول: ورد ابن عمر في التشهد وفي الكعبة. وقال القابسي: وفي الركعة، بدلا من: الكعبة، أشبه. وكذا وقع في بعض الأصول: الركعة. وقال صاحب (التلويح): والظاهر أنه: وفي الكعبة، وهو الصواب كما في كتاب الصلاة لأبي نعيم: حدثنا عبد العزيز بن الماجشون عن صالح بن كيسان، قال: رأيت ابن عمر يصلي في الكعبة فلا يدع أحدا يمر بين يديه يبادره. قال بردة: حدثنا مطر بن خليفة حدثنا عمرو بن دينار قال: مررت بابن عمر بعده ما جلس في آخر صلاته حتى أنظر ما يصنع، فارتفع من مكانه، فدفع في صدري. وقال ابن أبي شيبة: أخبرنا ابن فضيل عن مطر عن عمرو بن دينار، قال: مررت بين يدي ابن عمر وهو في الصلاة فارتفع من قعوده ثم دفع في صدري، وفي كتاب (الصلاة) لأبي نعيم: فانتهزني بتسبيحة، وقال بعضهم: رواية الجمهور متجهة، وتخصيص الكعبة بالذكر لئلا يتخيل أنه يغتفر فيها المرور لكونها محل المزاحمة. قلت: الواقع في نفس الأمر ان ابن عمر في الرد في غير الكعبة، وفي الكعبة أيضا فلا يقال: فيه التخصيص، والتعليل فيه بكون محل المزاحمة غير موجه لأن في غير الكعبة أيضا توجد المزاحمة، سيما في أيام الجمع في الجوامع ونحو ذلك. قوله: (وقال) أي: ابن عمر: (إن أبى) أي: المار، أي: امتنع بكل وجه إلا بأن يقاتل المصلي المار قاتله. قوله: (إلا أن يقاتله) وقوله: قاتله، على وجهين: أحدهما: أن يكون لفظ: قاتله، بصيغة الفعل الماضي، وهذا عند كون لفظ (إلا أن يقاتله) بصيغة الفعل المضارع المعلوم، والضمير المرفوع فيه يرجع إلى المار الذي هو فاعل لفظة: أبي، والمنصوب يرجع إلى المصلي، والضمير المرفوع في: قاتله، يرجع إلى المصلي والمنصوب يرجع إلى: المار، والوجه الآخر: أن يكون لفظة (إلا أن تقاتله) بصيغة المخاطب: أي إلا أن تقاتل المار (فقاتله) بكسر التاء وسكون اللام على صيغة الأمر للحاضر، وهذه رواية الكشميهني، والأول رواية الأكثرين. فإن قلت: لفظة: قاتله، في الوجه الثاني جملة أمرية، والجملة الأمرية إذا وقعت جزاء للشرطية فلا بد فيها من الفاء. قلت: تقدير الكلام: فأنت قاتله، قال الكرماني: ويجوز حذف الفاء منها نحو:
من يفعل الحسنات ا يشكرها
قلت: حذف الفاء منها لضرورة الوزن فلا يقاس عليه، ويروى: فقاتله بالفاء على الأصل.
النوع الثالث في أن المروي عن ابن عمر ههنا على سبيل التعليق بثلاثة أشياء: الأول: رده المار في التشهد، وقد وصله أبو نعيم وابن أبي شيبة كما ذكرناه عن قريب. الثاني: رده في الكعبة، وقد وصله أبو نعيم أيضا كما ذكرناه، وفي حديث يزيد الفقير: صليت إلى جنب ابن عمر بمكة فلم أر رجلا أكره أن يمر بين يديه منه. الثالث: أمره بالمقاتلة عند عدم امتناع المار من المرور بين يدي المصلي، وقد وصله عبد الرزاق، ولفظه عن ابن عمر قال: لا تدع أحدا يمر بين يديك وأنت تصلي، فإن أبي إلا أن تقاتله فقاتله. وهذا موافق لرواية الكشميهني.
905 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي صالح أن أبا سعيد قال قال النبي (ح) وحدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا سليمان بن المغيرة قال حدثنا حميد بن هلال العدوى قال حدثنا أبو صالح السمان قال رأيت أبا سعيد الخدري في يوم جمعة يصلي إلى شيء يستره من الناس فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفع أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى فنال من أبي سعيد ثم دخل على مروان
289

فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان فقال ما لك ولابن أخيك يا أبا سعيد قال سمعت النبي يقول إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان. (الحديث 905 طرفة في: 4723).
11
50 مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ثمانية: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: واسمه عبد ا بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد البصري، مات بالبصرة سنة أربع وعشرين ومائتين، وقد تقدم في باب قول النبي: اللهم علمه الكتاب. الثاني: عبد الوارث بن سعيد، تقدم أيضا في هذا الباب. الثالث: يونس بن عبيد، بالتصغير: ابن دينار أبو عبد ا البصري، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. الرابع: حميد، بضم الحاء: تصغير الحمد بن هلال، بكسر الهاء وتخفيف اللام: العدوي، بفتح العين والدال المهملتين: التابعي الجليل. الخامس: أبو صالح ذكوان السمان، وقد تكرر، ذكره. السادس: آدم بن أبي إياس. السابع سليمان بن المغيرة القيسي البصري. الثامن: أبو سعيد الخدري، رضي ا تعالى عنه، واسمه: سعد بن مالك.
وذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع من الماضي في سبعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول والرؤية. وفيه: رواية التابعي عن الصحابي. وفيه: أن رواته كلهم بصريون إلا أبا صالح فإنه مدني، وآدم فإنه عسقلاني. وفيه: أن آدم من أفراد البخاري. وفيه: أن البخاري لم يخرج لسليمان بن المغيرة شيئا موصولا إلا هذا الحديث، ذكره أبو مسعود وغيره. وفيه: التحويل من إسناد إلى إسناد آخر قبل ذكر الحديث، وعلامته حرف: الحاء، المفردة. وفيه: في الإسناد الأول: حميد عن أبي صالح أن أبا سعيد، وفي الثاني: قال أبو صالح: رأيت أبا سعيد. والثاني أقوى. وفيه: أن في الثاني ذكر قصة ليست في الأول، وقد ساق البخاري هذا الحديث في كتاب بدء الخلق بالإسناد الذي ساقه هناك من رواية يونس بعينه، وههنا من لفظ سليمان بن المغيرة لا من لفظ يونس.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا عن أبي معمر في صفة إبليس. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن شيبان بن فروخ. وأخرجه أبو داود فيه عن موسى ابن إسماعيل.
ذكر معناه) قوله: (فأراد شاب من بني أبي معيط) ووقع في (كتاب الصلاة) لأبي نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا عبد ا بن عامر عن زيد بن أسلم، قال: (بينما أبو سعيد قائم يصلي في المسجد فأقبل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فأراد أن يمر بين يديه فرده، فأبى إلا أن يمر فدفعه ولكمه). فهذا يدل على أن هذا الشاب هو الوليد بن عقبة، وفي (المصنف) لابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن ابن سيرين، قال: (كان أبو سعيد قائما يصلي فجاء عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام يمر بين يديه فمنعه، فأبى إلا أن يجيء فدفعه أبو سعيد فطرحه. فقيل له: تصنع هذا بعبد الرحمن؟ فقال: وا لو أبى إلا أن آخذ بشعره لأخذت). وروى عبد الرزاق حديث الباب عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه فقال فيه: إذ جاء شاب، ولم يسمعه. وعن معمر عن زيد بن أسلم فقال فيه: فذهب ذو قرابة لمروان. ومن طريق أبي العالية عن أبي سعيد فقال فيه: فمر رجل بين يديه من بني مروان، والنسائي من وجه آخر فمر ابن لمروان، وسماه عبد الرزاق من طريق سليمان بن موسى داود بن مروان، ولفظه: أراد داود بن مروان أن يمر بين يدي أبي سعيد، ومروان يومئذ أمير بالمدينة، فذكر الحديث وبه جزم ابن الجوزي، وهذا كما رأيت الاختلاف في تسمية المبهم الذي في الصحيح، والأحسن أن يقال بتعدد الواقعة لأبي سعيد مع غير واحد، لأن في تعيين واحد من هؤلاء مع كون اتحاد الواقعة نظرا، لا يخفى.
قوله: (من بني أبي معيط)، بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره طاء مهملة. وأبو معيط في قريش واسمه: أبان بن أبي عمرو زكوان بن أمية الأكبر هو والد عقبة بن أبي معيط الذي قتله رسول الله صبرا. ومعيط تصغير: أمعط، وهو الذي لا شعرعليه، والأمعط والأمرط سواء. قوله: (أن يجتاز)، بالجيم من الجواز. قوله: (فلم يجد مساغا)، بفتح الميم وبالغين المعجمة أي: طريقا يمكنه المرور منها. يقال: ساغ الشراب في الحلق إذا نزل من غير الضرر، وساغ الشيء طاب. قوله: (من الأولى) أي: من المرة
290

الأولى أو الدفعة الأولى. قوله: (فنال من أبي سعيد) بالنون أي: أصاب من عرضة بالشتم، وهو من النيل، وهو الإصابة. قوله: (ثم دخل على مروان)، وهو
مروان بن الحكم، بفتح الكاف: ر الأموي أبو عبد الملك، يقال: إنه رأى النبي، قاله الواقدي ولم يحفظ عنه شيئا، توفي النبي، وهو ابن ثمان سنين، مات بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد تقدم ذكره في باب البزاق والمخاط. قوله: (فقال: مالك؟) أي فقال مروان، فكلمة: ما مبتدأ و: لك خبره. (و: لابن أخيك) عطف عليه بإعادة الخافض، وأطلق الأخوة باعتبار أن المؤمنين أخوة، وفيه تأييد لقول من قال إن المار بين يدي أبي سعيد الذي دفعه غير الوليد، لأن أباه عقبة قتل كافرا. فإن قلت: لم لم يقل: ولأخيك، بحذف الأبن. قلت: نظرا إلى أنه كان شابا أصغر منه.
قوله: (فليدفعه)، وفي رواية مسلم: (فليدفع في نحره). قال القرطبي: أي بالإشارة، ولطيف المنع. قوله: (فليقاتله)، بكسر اللام الجازمة وبسكونها. قوله: (فإنما هو شيطان)، هذا من باب التشبيه حذف منه أداة التشبيه للمبالغة أي: إنما هو كشيطان، أو يراد به شيطان الإنس، وإطلاق الشيطان على المارد من الإنس سائغ شائع، وقد جاء في القرآن قوله تعالى: * (شياطين الإنس والجن) * (الأنعام: 211) وقال الخطابي: معناه أن الشيطان يحمله على ذلك ويحركه إليه، وقد يكون أراد بالشيطان المار بين يديه نفسه، وذلك أن الشيطان هو المارد الخبيث من الجن والإنس. وقال القرطبي: ويحتمل أن يكون معناه: الحامل له على ذلك الشيطان، ويؤيده حديث ابن عمر عند مسلم: (لا يدع أحدا يمر بين يديه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين). وعند أبن ماجة: (قال: القرين)، وقال المنكدري: فإنه معه العزى وقيل: معناه: إنما هو فعل الشيطان لشغل قلب المصلي، كما يخطر الشيطان بين المرء ونفسه.
ذكر ما يستنبط منه من الأحكام وهو على وجوه. الأول: فيه اتخاذ السترة للمصلي، وزعم ابن العربي أن الناس اختلفوا في وجوب وضع السترة بين يدي المصلي على ثلاثة أقوال. الأول: أنه واجب، فإن لم يجد وضع خطا، وبه قال أحمد، كأنه اعتمد حديث ابن عمر الذي صححه الحاكم: (لا تصلي إلا إلى سترة ولا تدع أحدا يمر بين يديك). وعن أبي نعيم في (كتاب الصلاة): حدثنا سليمان، أظنه عن حميد بن هلال، قال عمر ابن الخطاب: لو يعلم المصلي ما ينقص من صلاته ما صلى إلا إلى شيء يستره من الناس، وعند ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود: (إنه ليقطع نصف صلاة المرء المرور بين يديه). الثاني: أنها مستحبة، ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي. الثالث: جواز تركها، وروي ذلك عن مالك. قلت: قال أصحابنا: الأصل في السترة أنها مستحبة. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون إذا صلوا في الفضاء أن يكون بين أيديهم ما يسترهم. وقال عطاء، لا بأس بترك السترة، وصلى القاسم وسالم في الصحراء إلى غير سترة، ذكر ذلك كله ابن أبي شيبة في (مصنفه).
واعلم أن الكلام في هذا على عشرة أنواع: الأول: أن السترة واجبة أو لا؟ وقد مر الآن. الثاني: مقدار موضع يكره المرور فيه، فقيل: موضع سجوده، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام قاضيخان، وقيل: مقدار صفين أو ثلاثة، وقيل: بثلاثة أذرع، وقيل: بخمسة أذرع. وقيل: بأربعين ذراعا، وقدر الشافعي وأحمد بثلاثة أذرع، ولم يحد مالك في ذلك حدا إلا أن ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من مر بين يديه. والثالث: أنه يستحب لمن صلى في الصحراء أن يتخذ أمامه سترة، وروى أبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن له عصا، فليخط خطا ولا يضره ما مر أمامه). وخرجه ابن حبان في (صحيحه) وذكر عبد الحق أن ابن المديني وأحمد بن حنبل صححاه، وقال عياض: هذا الحديث ضعيف وإن كان قد أخذ به أحمد. وقال سفيان بن عيينة: لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث. وكان إسماعيل بن أمية إذا حدث بهذا الحديث يقول: عندكم شيء تشدون به، وأشار الشافعي إلى ضعفه. وقال النووي: فيه ضعف وأضطراب. وقال البيهقي: ولا بأس به في مثل هذا الجكم.
الرابع: مقدار السترة، قد ورد: قدر ذراع، وقد ذكرنا الكلام فيه مستوفى فيما مضى عن قريب. والخامس: ينبغي أن يكون في غلظ الإصبع لأن ما دونه لا يبدو للناظر من بعيد. والسادس: يقرب من السترة، وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب سترة الإمام سترة لمن خلفه. والسابع: أن يجعل السترة على حاجبه الأيمن، أو على الأيسر، وأخرج أبو داود من حديث المقداد بن الأسود، قال: (ما رأيت سول الله يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمدا)، يعني لم يقصده قصدا بالمواجهة،
291

والصمد هو القصد في اللغة. والثامن: أن سترة الإمام سترة للقوم، وقد مر الكلام فيه. والتاسع: ذكر أصحابنا أن المعتمد الغرز دون الإلقاء، والخط، لأن المقصود هو الدرء فلا يحصل بالإلقاء ولا بالخط، وفي (مبسوط) شيخ الإسلام: إنما يغرز إذا كانت الأرض رخوة، فإذا كانت صلبة لا يمكنه فيضع وضعا. لأن الوضع قد وري كما روي الغرز، لكن يضع طولا لا عرضا. وروى أبو عصمة عن محمد: إذا لم يجد سترة؟ قال: لا يخط بين يديه، فإن الخط وتركه سواء، لأنه لا يبدو للناظر من بعيد. وقال الشافعي بالعراق: إن لم يجد ما يخط خطا طولا، وبه أخذ بعض المتأخرين. وفي (المحيط): الخط ليس بشيء. وفي (الذخيرة) للقرافي: الخط باطل، وهو قول الجمهور، وجوزه أشهب في (العتبية) وهو قول سعيد بن جبير والأوزاعي والشافعي بالعراق، ثم قال بمصر: لا يخط، والمانعون أجابوا عن حديث أبي هريرة المذكور أنه ضعيف. وقال عبد الحق: ضعفه جماعة ابن حزم في (المحلى): لم يصح في الخط شيء ولا يجوز القول به. والعاشر: أن السترة إذا كانت مغصوبة فهي معتبرة عندنا وعن أحمد تبطل صلاته، ومثله الصلاة في الثوب المغصوب عنده.
الثاني من الأحكام أن الدرء، وهو: دفع المار بين يدي المصلي هل هو واجب أو ندب؟ فقال النووي: هذا الأمر، أعني قوله: (فليدفعه)، أمر ندب متأكد ولا أعلم أحدا من الفقهاء أوجبه. قلت: قال أهل الظاهر بوجوبه لظاهر الأمر، فكأن النووي ما أطلع على هذا، أو اعتد بخلافهم. وقال ابن بطال: اتفقوا على دفع المار إذا صلى إلى سترة، فأما إذا صلى إلى غير السترة فليس له، لأن التصرف والمشي مباح لغيره في ذلك الموضع الذي يصلي فيه، فلم يستحق أن يمنعه إلا ما قام الدليل عليه، وهي السترة التي وردت السنة بمنعها.
الثالث: إنه يجوز له المشي إليه من موضعه ليرده، وإنما يدافعه ويرده من موضعه، لأن مفسدة المشي أعظم من مروره بين يديه، وإنما أبيح له قدر ما يناله من موقفه، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح، ولا يجمع بينهما. وقال إمام الحرمين: لا ينتهي دفع المار إلى منع محقق، بل يومىء ويشير برفق في صدره من يمر به، وفي الكافي للروياني يدفعه ويصر على ذلك، وإن أدى إلى قتله. وقيل: يدفعه دفعا شديدا أشد من الدرء، ولا ينتهي إلى ما يفسد صلاته، وهذا هو المشهور عند مالك وأحمد. وقال أشهب في (المجموعة) إن قرب منه درأه ولا ينازعه، فإن مشى له ونازعه لم تبطل صلاته، وإن تجاوزه لا يرده لأنه مرور ثان، وكذا رواه ابن القاسم من أصحاب مالك، وبه قال الشافعي وأحمد. وقال أبو مسعود وسالم: يرده من حيث جاء، وإذا مر بين يديه ما لا تؤثر فيه إلا الإشارة كالهرة. قالت المالكية: دفعه برجله أو ألصقه إلى الستر.
الرابع: هل يقاتله؟ فيه: فإن أبى فليقاتله. قال عياض: أجمعوا على أنه لا تلزمه مقاتلته بالسلاح، ولا بما يؤدي إلى هلاكه فإن دفعه بما يجوز فهلك من ذلك فلا قود عليه باتفاق العلماء، وهل تجب ديته أم تكون هدرا؟ فيه مذهبان للعلماء، وهما قولان في مذهب مالك. قال ابن شعبان: عليه الدية في ماله كاملة، وقيل: هي على عاقلته، وقيل: هدر، ذكره ابن التين. واختلفوا في معنى: فليقاتله، والجمهور على أن معناه: الدفع بالقهر لا جواز القتل، والمقصود: المبالغة في كراهة المرور. وأطلق جماعة من الشافعية أن له أن يقاتله حقيقة، ورد ابن الغربي ذلك، وقال: المراد بالمقاتلة المدافعة. وقال بعضهم: معنى فليقاتله، فليلعنه. قال ا تعالى. * (قتل الخراصون) * (الذاريات: 01) أي: لعنوا وأنكره بعضهم وقال ابن المنذر: يدفع في نحره أول مرة، ويقاتله في الثانية، وهي المدافعة. وقيل: يؤاخذه على ذلك بعد إتمام الصلاة ويؤنبه. وقيل: يدفعه دفعا أشد من الرد منكرا عليه. وفي (التمهيد): العمل القليل في الصلاة جائز، نحو قتل البرغوث، وحك الجسد، وقتل العقرب بما خف من الضرب ما لم تكن المتابعة والطول، والمشي إلى الفرج إذا كان ذلك قريبا، ودرء المصلي وهذا كله ما لم يكثر، فإن كثر فسد.
الخامس: فيه أن المار كالشيطان، في أنه يشغل قلبه عن مناجاة ربه.
السادس: فيه أنه يجوز أن يقال للرجل إذا فتن في الدين: إنه شيطان.
السابع: فيه أن الحكم للمعاني لا للأسماء، لأنه يستحيل أن يصير المار شيطانا بمروره بين يديه.
الثامن: فيه أن دفع الأسوأ إنما بالأسهل فالأسهل.
التاسع: فيه أن في المنازعات لا بد من الرفع إلى الحاكم ولا ينتقم الخصم بنفسه.
العاشر: فيه أن رواية العدل مقبولة وإن كان الراوي له منتفعا به.
101
((باب إثم المار بين يدي المصلي))
أي هذا باب في بيان إثم المار بين يدي المصلي، وأصل المار: مارر، فأسكنت الراء اللأولى وأدغمت الثانية، والإدغام في مثله واجب.
292

015951 حدثنا عبد اا بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد اا عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من رسول اا في المار بين يدي المصلي فقال أبو جهيم قال رسول اا لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه قال أبو النضر لا أدري أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة قد ذكروا. وأبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: اسمه سالم ابن أبي أمية، و: بسر، بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة: الحضرمي المدني الزاهد، مات سنة مائة، ولم يخلف كفنا. وزيد بن خالد الجهني الصحابي، وأبو جهيم، بضم الجيم وفتح الهاء: واسمه عبد ا بن جهيم.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: تابعي وصحابيان. وفيه: أبو جهيم، بالتصغير مر في باب التيمم في الحضر، وقال ابن عبد البر: راوي حديث المرور هو غير راوي حديث التيمم، وقال الكلاباذي: أبو جهيم، ويقال: أبو جهم بن الحارث، روى عنه البخاري في الصلاة والتيمم. وقال النووي: أبو جهيم راوي حديث المرور وحديث التيمم غير أبي الجهم مكبر المذكور في حديث الخميصة والأنبجانية، لأن اسمه: عبد ا، وهو أنصاري، واسم ذلك عامر، وهو عدوي وقال الذهبي: أبو الجهيم، يقال: أبو الجهم بن الحارث بن الصمة، كان أبوه من كبار الصحابة، ثم قال: أبو جهيم عبد ا بن جهيم جعله، وابن الصمة واحدا أبو نعيم وابن مندة، وكذا قاله مسلم في بعض كتبه، وجعلهما ابن عبد البر اثنين وهو أشبه، لكن متن الحديث واحد.
ذكر من أخرجه غيره أخرجه بقية الستة، قال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار حدثنا ابن عيينة عن أبي النضر عن بسر، قال: (أرسلوني إلى زيد بن خالد أسأله عن المرور بين يدي المصلي فأخبرني عن النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: لأن يقوم أربعين خير له من أن يمر بين يديه. قال سفيان. ولا أدري أربعين سنة أو شهرا أو صباحا أو ساعة). وفي (مسند البزار): أخبرنا أحمد بن عبدة حدثنا سفيان به، وفيه: (أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد. فقال: لأن يقوم أربعين خريفا خير له من أن يمر بين يديه). وقال أبو عمر في (التمهيد): رواه ابن عيينة مقلوبا، والقول عندنا قول مالك، ومن تابعه، وقال ابن القطان في حديث البزار خطىء فيه ابن عيينة وليس خطؤه بمتعين لاحتمال أن يكون أبو جهيم بعث بسرا إلى زيد، وزيد بعثه إلى أبي جهيم يستثبت كل واحد ما عند الآخر، فأخبر كل منهما بمحفوظه فشك
أحدهما وجزم الآخر. واجتمع ذلك كله عند أبي النضر. قلت: قول مالك في (الموطأ) لم يختلف عليه فيه أن المرسل هو زيد، وأن المرسل إليه هو أبو جهيم، وتابعه سفيان الثوري عن أبي النضر عند مسلم وابن ماجة وغيرهما، وخالفهما ابن عيينة عن أبي النضر فقال: عن بسر بن سعيد، قال: (أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله) فذكر هذا الحديث: قلت: هذا عكس متن (الصحيحين) لأن المسؤول فيهما هو أبو جهيم، وهو الراوي عن النبي، عليه الصلاة والسلام، وعند البزار المسؤول زيد بن خالد.
ذكر معناه. قوله: (ماذا عليه)، أي: من الإثم والخطيئة، وفي رواية الكشميهني: (ماذا عليه من الإثم)، وليست هذه الزيادة في شيء من الروايات غيره، وكذا في (الموطأ) ليست هذه الزيادة، وكذا في سائر المسندات. وفي المستخرجات، غير أنه وقع في (مصنف ابن أبي شيبة): ماذا عليه، يعني من الإثم، وعيب على المحب الطبري حيث عزا هذه الزيادة في الأحكام للبخاري. قوله: (بين يدي المصلي) أي: أمامه بالقرب منه، وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. قوله: (أن يقف أربعين)، وقد ذكرنا أن في رواية ابن ماجة: (أربعين سنة أو شهرا أو صباحا أو ساعة). وفي رواية البزار: (أربعين خريفا) وفي (صحيح ابن حبان): عن أبي هريرة، قال: قال رسول ا: لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدي أخيه معترضا في الصلاة كان لأن يقيم مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطأ). وفي (الأوسط) للطبراني: عن عبد ا بن عمرو مرفوعا: (إن
293

الذي يمر بين يدي المصلي عمدا يتمنى يوم القيامة أنه شجرة يابسة). وفي المصنف عن عبد الحميد، عامل عمر بن عبد العزيز، قال: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ما عليه لأحب أن ينكسر فخذه ولا يمر بين يديه). وقال ابن مسعود: (المار بين يدي المصلي أنقص من الممر عليه، وكان إذا مر أحد بين يديه التزمه حتى يرده). وقال ابن بطال: قال عمر، رضي ا عنه: (لكان يقوم حولا خير له من مروره). وقال كعب الأحبار: (لكان أن يخسف به خيرا له من أن يمر بين يديه). قوله: (قال أبو النضر) قال الكرماني: إما من كلام مالك فهو مسند، وإما تعليق من البخاري. قلت: هو كلام مالك وليس هو من تعليق البخاري لأنه ثابت في (الموطأ) من جميع الطرق، وكذا ثبت في رواية الثوري وابن عيينة. قوله: (أقال؟) الهمزة فيه للاستفهام، وفاعله: بسرا أو رسول الله كذا قاله الكرماني. قلت: الظاهر أنه بسر بن أمية.
ذكر إعرابه) قوله: (ماذا عليه؟) كلمة ما: استفهام ومحله الرفع على الابتداء، وكلمة: ذا، إشارة خبره، والأولى أن تكون: ذا موصولة بدليل افتقاره إلى شيء بعده لأن تقديره: ماذا عليه من الإثم، ثم إن: ماذا عليه، في محل النصب على أنه سد مسد المفعولين لقوله: (لو يعلم)، وقد علق عمله بالاستفهام. قوله: (لكان) جواب: لو، وكلمة: أن، مصدرية، والتقدير: لو يعلم المار ما الذي عليه من الإثم من مروره بين يدي المصلي لكان وقوفه أربعين خيرا له من أن يمر؟ أي: من مروره بين يديه. وقال الكرماني: جواب: لو، ليس هو المذكور، إذ التقدير: لو يعلم ماذا عليه لوقف أربعين، لو وقف أربعين لكان خيرا له. قلت: لا ضرورة إلى هذا التقدير وهو تصرف فيه تعسف، وحق التركيب ما ذكرناه. قوله: (خيرا) فيه روايتان: النصب والرفع. أما النصب فظاهر لأنه خبر: لكان، واسم، كان، هو قوله: أن يقف، لأنا قلنا: إن كلمة: أن، مصدرية، وأن التقدير: لكان وقوفه أربعين خيرا له. وأما وجه الرفع، فقد قال ابن العربي: هو اسم: ولم يذكر خبر ما هو، وخبر هو قوله: أن يقف، والتقدير: لو يعلم المار ماذا عليه لكان خير وقوفه أربعين، وتعسف بعضهم فقال: يحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها.
قوله: (أقال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة؟) لأنه ذكر العدد أعني أربعين، ولا بد من مميز، لأنه لا يخلو عن هذه الأشياء، وقد أبهم ذلك ههنا. فإن قلت: ما الحكمة فيه؟ قلت: قال الكرماني: وأبهم الأمر ليدل على الفخامة، وأنه مما لا يقدر قدره ولا يدخل تحت العبارة. انتهى. قلت: الإبهام ههنا من الراوي، وفي نفس الأمر العدد معين، ألا ترى كيف تعين فيما رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة (لكان أن يقف مائة عام؟) الحديث؟ كما ذكرنا، وكذا عين في مسند البزار من طريق سفيان بن عيينة: (لكان أن يقف أربعين خريفا). وقال الكرماني: فإن قلت: هل للتخصيص بالأربعين حكمة معلومة؟ قلت: أسرار أمثالها لا يعلمها إلا الشارع، ويحتمل أن يكون ذلك لأن الغالب في أطوار الإنسان أن كمال كل طور بأربعين، كاطوار النطفة، فإن كل طور منها بأربعين، وكمال عدل الإنسان في أربعين سنة، ثم الأربعة أصل جميع الأعداد، لأن أجزاءه وهي عشرة، ومن العشرات المآت، ومنها الألوف، فلما أريد التكثير ضوعف كل إلى عشرة أمثاله. انتهى. قلت: غفل الكرماني عن رواية المائة حيث قصر في بيان الحكمة على الأربعين، وقال بعضهم، في التنكيت على الكرماني: بأن هذه الرواية تشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. قلت: لا ينافي رواية المائة عن بيان وجه الحكمة في الأربعين، بل ينبغي أن يطلب وجه الحكمة في كل منهما، لأن لقائل أن يقول: لم أطلق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر. ولم لم يذكر الخمسين أو ستين أو نحو ذلك؟ والجواب الواضح الشافي في ذلك أن تعيين الأربعين للوجه الذي ذكره الكرماني، وأما وجه ذكر الطحاوي أنه قيد بالمائة بعد التقييد بالأربعين للزيادة في تعظيم الأمر على المار، لأن المقام مقام زجر وتخويف وتشديد. فإن قلت: من أين علم أن التقييد بالمائة بعد التقييد بالأربعين؟ قلت: وقوعهما معا مستعبد، لأن المائة أكثر من الأربعين، وكذا وقوع الأربعين بعد المائة لعدم الفائدة، وكلام الشارع كله حكمة وفائدة، والمناسبة أيضا تقتضي تأخير المائة عن الأربعين. فإن قلت: قد علم فيما مضى وجه الحكمة في الأربعين، فما وجه الحكمة في تعيين المائة؟ قلت: المائة وسط بالنسبة إلى العشرات والألوف، وخير الأمور أوسطها، وهذا مما تفردت به.
ذكر ما يستفاد منه من الأحكام) فيه: أن المرور بين يدي المصلي مذموم، وفاعله مرتكب الإثم. وقال النووي: فيه دليل على تحريم المرور، فإن في الحديث النهي الأكيد والوعيد الشديد، فيدل على ذلك. قلت: فعلى ما ذكره ينبغي أن
294

المرور بين يدي المصلي من الكبائر، ويعد من ذلك، واختلف في تحديد ذلك، فقيل: إذا مر بينه وبين مقدار سجوده وقيل: بينه وبين الساتر ثلاث أذرع. وقيل: بينهما قدر رمية بحجر، وقد مر الكلام فيه مستوفى. وفيه: قال ابن بطال: يفهم من قوله: (لو يعلم) أن الإثم يختصر بمن يعلم بالمنهي وارتكبه. قال بعضهم: فيه: بعد قلت: ليس فيه بعد لأن: لو، للشرط فلا يترتب الحكم المذكور إلا عند وجوده. وفيه: عموم النهي لكل مصل وتخصيص بعضهم بالإمام والمنفرد لا دليل عليه. وفيه: طلب العلم والإرسال لأجله. وفيه: جواز الاستنابة. وفيه: أخذ العلماء بعضهم من بعض. وفيه: الاقتصار على النزول مع القدرة على العلو لإرسال زيد بن خالد بسر بن سعيد إلى جهيم، ولو طلب العلو لسعى هو بنفسه إلى أبي جهيم. وفيه: قبول خبر الواحد.
201
((باب استقبال الرجل وهو يصلي))
أي: هذا باب في بيان استقبال الرجل الرجل، والحال أنه يصلي يعني: هل يكره أم لا؟ والرجل الأول مضاف إليه للاستقبال والرجل الثاني منصوب لأنه مفعول. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره، وفي بعضها استقبال الرجل وهو يصلي، وفي بعضها لفظ: الرجل مكرر، ولفظ: هو، يحتمل عوده إلى الرجل الثاني، فيكون الرجلان متواجهين، وإلى الأول فلا يلزم التواجه.
وكره عثمان أن يستقبل الرجل وهو يصلى.
مطابقته للترجمة ظاهرة وعثمان هو ابن عفان أحد الخلفاء الأربعة الراشدين. قوله: (يستقبل)، بضم الياء على صيغة المجهول، و: (الرجل) مرفوع لنيابته عن الفاعل، ويجوز فتح الياء على صيغة المعلوم، ولا مانع من ذلك، والكرماني اقتصر على الوجه الأول. قوله: (وهو يصلي) جملة اسمية وقعت حالا عن: الرجل، وقال بعضهم: ولم أر هذا الأثر عن عثمان إلى الآن، وإنما رأيته في (مصنف) عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما: من طريق هلال بن يساف عن عمر أنه زجر عن ذلك، وفيهما أيضا عن عثمان ما يدل على عدم كراهة ذلك، فليتأمل، لاحتمال أن يكون فيما وقع في الأصل تصحيف عن عمر إلى عثمان. قلت: لا يلزم من عدم رؤية هذا الأثر من عثمان أن لا يكون منقولا عنه، فليس بسديد زعم التصحيف بالاحتمال الناشئ عن غير دليل. فإن قلت: رواية عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن عثمان بخلاف ما ذكره البخاري عنه دليل الاحتمال. قلت: لا نسلم ذلك لاحتمال أن يكون المنقول عنه آخرا بخلاف ما نقل عنه أولا لقيام الدليل عنده بذلك.
وإنما هذا إذا اشتغل به فأما إذا لم يشتغل فقد قال زيد بن ثابت ما بالبيت إن الرجل لا يقطع صلاة الرجل.
قال صاحب (التوضيح): هذا من كلام البخاري يشير به إلى أن مذهبه ههنا بالتفصيل، وهو أن استقبال الرجل الرجل في الصلاة إنما يكره إذا اشتغل المستقبل المصلي، لأن علة الكراهة في كف المصلي عن الخشوع وحضور القلب، وأما إذا لم يشغله فلا بأس به، والدليل عليه قول زيد بن ثابت الأنصاري النجاري الفرضي، كاتب رسول ا: ما باليت، أي: بالاستقبال المذكور. يقال: لا أباليه أي: لا أكترث له. قوله: (إن الرجل) بكسر: إن لأنه استئناف ذكر لتعليل عدم المبالاة. وروى أبو نعيم في (كتاب الصلاة): حدثنا مسعر، قال: أراني أول من سمعه من القاسم قال: ضرب عمر رجلين: أحدهما مستقبل والآخر يصلي. وحدثنا سفيان حدثنا رجل عن سعيد بن جبير أنه: كره أن يصلي وبين يديه مخنث محدث، وحدثنا سفيان عن أشعث بن أبي الشعثاء عن ابن جبير. قال: إذا كانوا يذكرون ا تعالى فلا بأس، وقال ابن بطال: أجاز الكوفيون والثوري والأوزاعي الصلاة خلف المتحدثين، وكرهه ابن مسعود، وكان ابن عمر لا يستقبل من يتكلم إلا بعد الجمعة. وعن مالك: لا بأس أن يصلي إلى ظهر الرجل، وأما إلى جنبه فلا، وروى عنه التخفيف في ذلك. وقال: لا تصلوا إلى المتحلقين، لأن بعضهم يستقبله. قال: وأرجو أن يكون واسعا، وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرجل يستر إلى الرجل إذا صلى. وقال الحسن وقتادة يستره إذا كان جالسا. وعن الحسن: يستره ولم يشترط الجلوس ولا تولية الظهر، وأكثر العلماء على كراهة
295

استقباله بوجهه. وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلا إلى سارية المسجد قال لي: ظهرك، وهو قول مالك. وقال ابن سيرين: لا يكون الرجل سترة للمصلي.
115061 ح دثنا إسماعيل بن خليل قال حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن مسلم يعني ابن صبيح عن مسروق عن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة فقالوا يقطعها الكلب والحمار والمرأة قالت لقد جعلتمونا كلابا لقد رأيت النبي يصلي وإني لبينه وبين القبلة وأنا مضطجعة على السرير فتكون لي الحاجة فأكره أن أستقبله فأنسل انسلالا..
وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة على وجوه: الأول: ما قاله الكرماني: حكم الرجال والنساء واحد في الأحكام الشرعية إلا ما خصه الدليل. قلت: بيان ذلك أن عائشة كانت مضطجعة على السرير، وكانت بين يدي النبي وبين القبلة، فيكون استقبال الرجل المرأة في الصلاة ولم تكن تشغل النبي، فدل على عدم الكراهة. ولا يقال: الترجمة استقبال الرجل الرجل، وفيما ذكر استقبال الرجل المرأة، لأنا نقول: حكم الرجال والنساء واحد إلى آخر ما ذكرنا، وقد ذكرنا أن الترجمة رويت على ثلاثة أوجه، وهذا الذي ذكرناه في الوجه الواحد، وهو: باب استقبال الرجل الرجل، وهو يصلي. وأما في الوجهين الآخرين فالتطابق ظاهر فلا يحتاج إلى التكلف. الوجه الثاني: ذكره ابن المنير فقال: لأنه يدل على المقصود بطريق الأولى، وإن لم يكن تصريح بأنها كانت مستقبلة، فلعلها كانت منحرفة أو مستدبرة. الوجه الثالث: ذكره ابن رشد فقال: قصد البخاري: أن شغل المصلي بالمرأة إذا كانت في قبلته، على أي حالة كانت، أشد من شغله بالرجل، ومع ذلك فلم يضر صلاته، عليه الصلاة والسلام، لأنه غير مشتغل بها، فكذلك لا تضر صلاة من لم يشتغل بها، وبالرجل من باب أولى.
ذكر رجاله وهم ستة: كلهم قد ذكروا، وإسماعيل بن خليل أبو عبد ا الخراز الكوفي، تقدم في باب مباشرة الحائض، وكذلك علي بن مسهر، والأعمش: هو سليمان
الكوفي، ومسلم: هو البطين ظاهرا، قاله الكرماني. قلت: الظاهر أنه مسلم بن صبيح أبو الضحى، ومسروق بن الأجدع.
والكلام فيه قد مر في باب الصلاة إلى السرير، لأنه أخرجه هناك من أوجه أخر. قوله: (كلابا) أي: كالكلاب في حكم قطع الصلاة. قوله: (رأيت) أي: أبصرت. قوله: (وإني لبينه) أي: لبين النبي،، وهذه الجملة في محل النصب على الحال، وكذلك: وأنا مضطجعة. قوله: (وأكره) كذا هو بالواو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشمهيني: (فأكره) بالفاء. قوله: (فأنسل) أي فأخرج بالخفية.
وعن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة نحوه.
أي وروي عن سليمان الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد النخعي عن عائشة، ى ضي ا تعالى عنها، قال الكرماني: هذا يحتمل التعليق وكونه من كلام ابن مسهر أيضا. قلت: خرجه بعد البابين في باب من قال لا يقطع الصلاة شيء، والحاصل أن هذا معطوف على الإسناد الذي قبله، ونبه به على أن علي بن مسهر قد روى هذا الحديث عن الأعمش باسنادين إلى عائشة. أحدهما: عن مسلم عن مسروق عن عائشة باللفظ المذكور. والآخر: عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، رضي ا تعالى عنها، بالمعنى. وأشار إليه بقوله. (نحوه) وهو بالنصب. فإن قلت: كيف يقول: نحوه، ولفظ النحو يقتضي المماثلة بينهما من كل الوجوه وههنا ليس كذلك؟ قلت: لا نسلم أنه كذلك، بل يقتضي المشاركة في أصل المعنى المقصود فقط.
301
((باب الصلاة خلف النائم))
أي هذا باب في بيان الصلاة خلف النائم، يعني: يجوز ولا يكره على ما سنبينه إن شاء ا تعالى.
215162 ح دثنا مسدد قال حدثنا يحيى قال حدثنا هشام قال حدثني أبي عن عائشة
296

قالت كان النبي يصلي وأنا راقده معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت..
مطابقته للترجمة ظاهرة. فإن قلت: كيف الظهور والترجمة خلف النائم والحديث خلف النائمة. قلت: قد ذكرنا أن الرجال والنساء واحد في الأحكام الشرعية إلا ما خصه الدليل، أو أنه إذا جاز خلف النائمة فخلف النائم بالطريق الأولى، أو أراد بالنائم الشخص النائم ذكرا كان أو أنثى.
ذكر رجاله) وهم خمسة، كلهم قد ذكروا: ويحيى هو القطان، وهشام بن عروة. وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة عن عبد ا بن سعيد القطان به.
ذكر معناه) قوله: (كان النبي، يصلي) مثل هذا التركيب يفيد التكرار. قوله: (وأنا راقدة) جملة حالية. قوله: (معترضة)، صفة بعد صفة. قوله: (أن يوتر) أي: إذا راد أن يصلي الوتر. قوله: (أيقظني)، من الإيقاظ.
ذكر ما يستفاد منه من الأحكام قال ابن بطال: الصلاة خلف النائم جائزة، إلا أن طائفة كرهتها خوف ما يحدث من النائم فيشتغل المصلي به أو يضحكه فتفسد صلاته. وقال مالك: لا يصلى إلى نائم إلا أن يكون دونه سترة، وهو قول طاوس. وقال مجاهد: أن أصلي وراء قاعد أحب إلي من أن أصلي وراء نائم. فإن قلت: روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي،، قال: (لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث). وأخرجه ابن ماجة أيضا، وروى البزار عنه أن النبي، عليه الصلاة والسلام، قال: (نهيت أن أصلي إلى النائم والمتحدث). وروى ابن عدي عن ابن عمر نحوه، وروى الطبراني في (الأوسط) عن أبي هريرة نحوه.
قلت: قال أبو داود: طرق حديث ابن عباس كلها واهية وقال الخطابي. هذا الحديث يعني حديث ابن عباس لا يصح عن النبي،، لضعف سنده. قلت: وفي (مسند) أبي داود رجل مجهول، وفيه عبد ا بن يعقوب لم يسم من حدثه. قلت: وفي مسند ابن ماجة أبو المقدام هشام بن زياد البصري لا يحتج بحديثه، وحديث ابن عمر وأبي هريرة واهيان أيضا، وروى البزار أيضا من حديث أحمد بن يحيى الكوفي حدثنا إسماعيل بن صبيح حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى الثعلبي عن محمد بن الحنفية عن علي، رضي ا تعالى عنه: (أن رسول الله رأى رجلا يصلي إلى رجل فأمره أن يعيد الصلاة، قال: يا رسول ا إني صليت وأنت تنظر إلي)، قال: هذا حديث لا يحفظ إلا بهذا الإسناد، وكأن هذا المصلي كان مستقبل الرجل ولم يتنح عن حياله. وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن علية عن ليث عن مجاهد يرفعه قال: (لا يأتم بنائم ولا محدث). وقال وكيع: حدثنا سفيان عم عبد الكريم أبي أمية عن مجاهد: (أن النبي نهى أن يصلي خلف النوام والمتحدثين)، وعبد الكريم متروك الحديث.
وفيه: استحباب إيقاظ النائم للطاعة. وفيه: أن الوتر يكون بعد النوم.
401
((باب التطوع خلف المرأة))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة التطوع خلف المرأة يعني يجوز.
315261 ح دثنا عبد اا بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد اا عن سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي أنها قالت كنت أنام بين يدي رسول اا ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
هذا الحديث بعينه بهذا الإسناد مر في باب الصلاة على الفراش، غير أن هناك أخرجه عن إسماعيل عن مالك، وههنا عن عبد ا بن يوسف عن مالك، وأبو النضر سالم مولى عمر بدون الواو، وأبو سلمة عبد ا بن عبد الرحمن بن عوف، وقد تكلمنا هناك فيما يتعلق به مستوفى مستقصى، ومطابقته للترجمة ظاهرة. قال الكرماني: كيف دلالته على التطوع إذ الصلاة أعم منه؟ ثم أجاب بأنه: قد علم من عادته أن الفرائض كان يصليها في المسجد وبالجماعة. وقال أيضا: لفظ الحديث يقتضي
297

أن يكون ظهر المرأة إلى المصلي فما وجه دلالة الحديث عليه؟ ثم أجاب بقوله لا نسلم ذلك الاقتضاء، ولئن سلمنا فالسنة للنائم التوجه إلى القبلة، والغالب من حال عائشة أنها لا تتركها.
501
((باب من قال لا يقطع الصلاة شيء))
أي: هذا باب في بيان قول من قال لا يقطع الصلاة شيء ومعناه من فعل غير المصلي.
415 ح دثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة قال الأعمش وحدثني مسلم عن مسروق عن عائشة ذكر عندها ما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب واا لقد رأيت النبي يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأوذي النبي فأنسل من عند رجليه.
مطابقة هذا الحديث للترجمة من حيث إنه يدل على أن الصلاة لا يقطعها شيء، بيان ذلك أن عائشة أنكرت على من ذكر عندها أن الصلاة يقطعها الكلب والحمار والمرأة بكونها كانت على السرير بين النبي وبين القبلة وهي مضطجعة، ولم يجعل النبي ذلك قطعا لصلاته، فهذه الحالة أقوى من المرور، فإذا لم تقطع في هذه ففي المرور بالطريق الأولى، ثم المرور عام من أي حيوان كان، لأن الشارع جعل كل ما بين يدي المصلي شيطانا، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك. وأبو داود عن القعنبي عن مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: (إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدا يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان). وهو بعمومه يتناول بني آدم وغيرهم، ولم يجعل نفس المرور قاطعا، وإنما ذم المار حيث جعله شيطانا من باب التشبيه.
ذكر رجاله وهم ثمانية قد ذكروا كلهم، والأعمش هو سليمان، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد النخعي، ومسلم هو أبو الضحى، ومسروق هو ابن الأجدع.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: إسنادان: أحدهما: عن عمر بن حفص بن غياث عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، و الآخر: عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة، وأشار إليه بقوله، وقال الاعمش: حدثني مسلم، قال الكرماني: هذا إما تعليق وإما داخل تحت الإسناد الأول، وهذا تحويل سواء كان بكلمة (ح) كما في بعض النسخ، أو لم يكن. وقال بعضهم: قال الأعمش، وهو مقول حفص بن غياث وليس بتعليق. قلت: أراد به الرد على الكرماني وليس له وجه، لأنه ذكر التعليق بالنظر إلى ظاهر الصورة، وذكر أيضا أنه داخل تحت الإسناد الأول. وهذا الحديث قد تكرر ذكره مطولا ومختصرا بوجوه شتى وطرق مختلفة، ذكر في باب الصلاة على الفراش، وفي باب الصلاة على السرير، وفي باب استقبال الرجل الرجل في الصلاة، وفي باب الصلاة خلف النائم، وفي باب التطوع خلف المرأة، وفي هذا الباب في موضعين.
ذكر معناه وإعرابه) قوله: (ذكر عندها) أي: إنه ذكر عند عائشة. قوله: (ما يقطع)، كلمة: ما، موصولة، ويجوز فيه وجهان: الأول: أن تكون مبتدأ وخبره قوله: الكلب، والجملة في محل النصب لأنه مفعول ما لم يسم فاعله، وهو قوله: ذكر، على صيغة المجهول. الوجه الثاني: أن يكون: ما، مفعول ما لم يسم فاعله، ويكون قوله: الكلب، بدلا منه. قوله: (وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة)، ثلاثة أخبار مترادفة، قاله الكرماني، وقال أيضا: أو خبران وحال، أو: حالان وخبر، وفي بعضها مضطجعة بالنصب، فالأولان خبران، أو أحدهما حال والآخر خبر. قلت: التحقيق فيه أن قوله: وأنا على السرير، جملة اسمية وقعت حالا من عائشة، وكذا: بينه وبين القبلة، حال. وقوله: مضطجعة، بالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره: وأنا مضطجعة. وعلى التقديرين تكون هذه الجملة أيضا حالا، ويجوز أن يكون: مضطجعة، بالرفع خبرا لقوله: وأنا أي: والحال أنا مضطجعة
298

على السرير، فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير مبتدأ. وأما وجه النصب في: مضطجعة، فعلى أنه حال من: عائشة، أيضا، ثم يجوز أن يكون هذان الحالان مترادفين، ويجوز أن يكونا متداخلين. قوله: (شبهتمونا بالحمر والكلاب)، وفي رواية للبخاري: (لقد جعلتمونا كلابا)، وهي في استقبال الرجل وهو يصلي، وفي رواية مسلم: (قالت: عدلتمونا بالكلاب والحمر). وفي رواية أخرى له: (لقد شبهتمونا بالحمير والكلاب)، وفي رواية الطحاوي: (لقد عدلتمونا بالكلاب والحمير). وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من سبع طرق صحاح، وفي رواية سعيد بن منصور: (قالت عائشة: يا أهل العراق قد عدلتمونا). الحديث، وقد أخرج أهل العراق حديثا عن أبي ذر أخرجه مسلم، وقال: حدثنا ابن أبي شيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن علية وحدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن يونس عن حميد بن عبد ا بن الصامت عن أبي ذر، قال رسول ا: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود. قلت: يا أبا ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر ومن الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله كما سألتني، فقال: الكلب الأسود شيطان).
وأخرجه الأربعة أيضا مطولا ومختصرا، وقيد الكلب في روايته بالأسود، وروى ابن ماجة من حديث ابن عباس عن النبي، قال: (يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض). وقيد المرأة في روايته بالحائض. قوله: (فتبدو لي الحاجة) أي: تظهر، وفي (مسند) السراج: (فيكون لي حاجة). قوله: (فأكره أن أجلس) أي: مستقبل رسول ا، وذكر في باب الصلاة على السرير: (فأكره أن أسنحه). وفي باب استقبال الرجل: (فأكره أن أستقبله)، والمقصود من ذلك كله واحد، لكن
باختلاف المقامات اختلف العبارات. قوله: (فأوذي) بلفظ المتكلم من المضارع وفاعله الضمير فيه: (والنبي) بالنصب مفعوله، وفي النسائي: من طريق شعبة عن منصور عن الأسود عن عائشة في هذا الحديث: (فأكره أن أقوم فأمر بين يديه). قوله: (فأنسل) بالرفع عطفا على قوله: (فأكره)، وليس بالنصب عطفا على: (فأوذي). ومعنى: (فأنسل): أي: أمضي بتأن وتدريج. وقد ذكرنا مرة وفي رواية الطحاوي: (فأنسل انسلالا). وكذا في رواية للبخاري.
ذكر ما يستفاد منه: قال الطحاوي: دل حديث عائشة على أن مرور بني آدم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، وكذلك دل حديث أم سلمة وميمونة بنت الحارث، فأخرج الطحاوي حديث أم سلمة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة، قالت: (كان يفرش لي حيال مصلى رسول ا، كان يصلي وأنا حياله). وأخرجه أحمد في (مسنده) نحوه، غير أن في لفظه: (حيال مسجد رسول ا)، أي: تلقاء وجهه. وأخرج الطحاوي أيضا حديث ميمونة: عن عبد الله بن شداد، قال: حدثتني خالتي ميمونة بنت الحارث، قالت: (كان فراشي حيال مصلى رسول ا، فربما وقع ثوبه علي وهو يصلي). وأخرجه أبو داود، ولفظه: (كان رسول الله يصلي وأنا حذاءه، وأنا حائض، وربما أصابني ثوبه إذا سجد وكان يصلي على الخمرة). قوله: (مصلى رسول ا)، بفتح اللام، وهو الموضع الذي كان يصلي فيه في بيته، وهو مسجده الذي عينه للصلاة فيه، و: الخمرة، بضم الخاء المعجمة: حصير صغير يعمل من سعف النخل وينسج بالسيور والخيوط، وهي على قدرها ما يوضع عليها الوجه والأنف، فإذا كبرت عن ذلك تسمى حصيرا. وقال الطحاوي: فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله بما يدل على أن بني آدم لا يقطعون الصلاة، وقد جعل مل ما بين يدي المصلي في حديث ابن عمر وأبي سعيد شيطانا، وأخبر أبو ذر: أن الكلب الأسود إنما يقطع الصلاة لأنه شيطان، فكانت العلة التي جعلت لقطع الصلاة قد جعلت في بني آدم أيضا، وقد ثبت عن النبي أنهم لا يقطعون الصلاة، فدل على أن كل مار بين يدي المصلي، مما سوى بني آدم، كذلك أيضا لا يقطع الصلاة، والدليل على صحة ما ذكرنا أن ابن عمر، مع روايته ما ذكرنا عنه من قوله، قد وري عنه من بعده ما حدثنا يونس، قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم، قال: قيل لابن عمر: إن عبد ا بن عياش بن ربيعة، يقول: يقطع الصلاة الكلب والحمار، فقال ابن عمر: لا يقطع صلاة المسلم شيء وقد دل هذا على ثبوت نسخ ما كان سمعه من رسول الله حتى صار ما قال به من ذلك، وقال بعضهم، وتعقب على كلام الطحاوي بأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا علم التاريخ وتعذر الجمع والتاريخ هنا لم يتحقق والجمع لم يتعذر (قلت) لا نسلم -
299

ذلك، لأن مثل ابن عمر، بعدما روى أن المرور يقطع، قال: لا يقطع صلاة المسلم شيء، فلو لم يثبت عنده نسخ ذلك لم يقل بما قال من عدم القطع، ومن الدليل على ذلك أن ابن عباس، الذي هو أحد رواة القطع، وري أنه حمله على الكراهة.
وقال البيهقي: روى سماك عن عكرمة، قيل لابن عباس: أتقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار؟ فقال: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 01) فما يقطع هذا، ولكن يكره. وقال الطحاوي: وقد روى عن نفر من أصحاب رسول ا: أن مرور بني آدم وغيرهم بين يدي المصلي لا يقطع الصلاة، ثم أخرج عن سعيد بن المسيب بإسناد صحيح أن عليا وعثمان، رضي ا تعالى عنهما، قالا: (لا يقطع صلاة المسلم شيء وادرؤا ما استطعتم). وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن ابن المسيب عن علي وعثمان، قالا: (لا يقطع الصلاة شيء فادرؤوهم عنكم ما استطعتم). وأخرج الطحاوي: عن كعب بن عبد ا عن حذيفة بن اليمان يقول: (لا يقطع الصلاة شيء). وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا. وأخرج الطبراني من حديث علي، رضي ا عنه، مرفوعا: (لا يقطع الصلاة شيء إلا الحدث). وقال الكرماني: القائلون بقطع بمرورهم، من أين قالوا به؟ قلت: إما باجتهادهم، ولفظ: شبهتمونا، يدل عليه، إذ نسبت التشبيه إليهم، وإما بما ثبت عندهم من قول النبي.
قلت: هذا السؤال سؤال من لم يقف على الأحاديث التي فيها القطع، وأحد شقي الجواب غير موجه لأنه لا مجال للاجتهاد عند وجوب النصوص. ثم قال الكرماني: فإن الرسول به فلم لا يحكم بالقطع؟ قلت: إما لأنها رجحت خبرها على خبرهم من جهة أنها صاحبة الواقعة، ومن جهة أخرى، أو لأنها أولت القطع بقطع الخشوع ومواطأة القلب اللسان في التلاوة، لا قطع أصل الصلاة، أو جعلت حديثها وحديث ابن عباس مرور الحمار الأتان ناسخين له، وكذا حديث أبي سعيد الخدري حيث قال: (فليدفعه وفليقاتله)، من غير حكم بانقطاع الصلاة بذلك. فإن قلت: لم لم يعكس بأن يجعل الأحاديث الثلاثة منسوخة؟ قلت: للإحتراز عن كثرة النسخ، إذ نسخ حديث واحد أهون من نسخ ثلاثة، أو لأنها كانت عارفة بالتاريخ وتأخر عنه.
515461 ح دثنا إسحاق قال أخبرنا يعقوب بن براهيم قال حدثني ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء فقال لا يقطعها شيء أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي قالت لقد كان رسول الله يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله..
مطابقة الحديث للترجمة صريحة من قول الزهري.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه، هذه رواية أبي ذر، وفي رواية غيره وقع إسحاق غير منسوب، وزعم أبو نعيم أنه: إسحاق بن منصور الكوسج، وجزم ابن السكن بأنه: ابن راهويه، وقال: كل ما في البخاري عن إسحاق غير منسوب فهو ابن راهويه. وقال الكلاباذي: إسحاق ابن إبراهيم. وإسحاق بن منصور وكلاهما يرويان عن يعقوب. الثاني: يعقوب بن إبراهيم، وقد مر. الثالث: ابن أخي ابن شهاب هو محمد بن عبد ا بن مسلم، تقدم في باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة. الرابع: عمه، هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: عروة بن الزبير. السادس: أم المؤمنين عائشة، رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: السؤال والقول. وفيه:
رواية الرجل عن عمه، وفيه: رواية التابعي عن الصحابية. وفيه: أن رواته مدنيون ما خلا إسحاق فإنه مروزي.
ذكر معناه) قوله: (لا يقطعها)، أي: لا يقطع الصلاة شيء، وهذا عام مخصوص بالأمور الثلاثة التي وقع النزاع فيها، لأن القواطع في الصلاة كثيرة مثل القول الكثير وغيرهما، وما من عام إلا وقد خص إلا: * (وا بكل شيء عليم) * (البقرة: 132، 282 النساء: 671 المائدة: 79 الأنفال: 57 التوبة: 511 النور: 53، 46 العنكبوت: 26 الحجرات: 61 المجادلة: 07 التغابن: 11) ونحوه. قوله: (أخبرني)، من تتمة مقول ابن شهاب. قوله: (وإني لمعترضة)، جملة اسمية مؤكدة: بأن، وللأم في موضع النصب على الحال.
300

قوله: (على فراش أهله)، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: (على فراش)، وعلى الروايتين هو متعلق: بقوم، مع أن الرواية الأولى يحتمل تعلقها بلفظ: يصلي، أيضا.
ذكر ما يستفاد منه به استدلت عائشة والعلماء بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل. وفيه: جواز صلاة الرجل إليها، وكراهة البعض لغير النبي، عليه الصلاة والسلام، ولخوف الفتنة بها وبذكرها واشتغال القلب بها بالنظر إليها، والنبي،، منزه عن ذلك كله، مع أنه كان في الليل والبيوت يومئذ ليست فيها مصابيح. وفيه: استحباب صلاة الليل. وفيه: جواز الصلاة على الفراش.
601
((باب من حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة))
أي: هذا باب في بيان من حمل جارية صغيرة على عنقه، يعني: لا تفسد صلاته. وقال ابن بطال: أدخل البخاري هذا الحديث هنا ليدل أن حمل المصلي الجارية على العنق لا يضر صلاته، لأن حملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضر حملها كذلك لا يضر مرورها. قلت: فلذلك ترجم هذا الباب بهذه الترجمة، وبينه وبين الأبواب التي قبله مناسبة من هذا الوجه.
615 ح دثنا عبد اا بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عامر بن عبد اا بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول اا كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول اا ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها. (الحديث 615 طرفة في: 6995).
مطابقته للترجمة ظاهرة. فإن قلت: أين الظهور وقد خصص الحمل بكونه على العنق، ولفظ الحديث أعم من ذلك؟ قلت: كأنه أشار بذلك إلى الحديث له طرق أخرى منها لمسلم من طريق بكير بن الأشج عن عمرو بن سليم، وصرح فيه: (على عنقه)، وكذا في رواية أبي داود له: (فيصلي رسول الله وهي على عاتقه)، وفي رواية لأحمد من طريق ابن جريج: (على رقبته).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد ا بن يوسف التنيسي. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: عامر بن عبد ا بن الزبير بن العوام. الرابع: عمرو بن سليم، بضم السين: الزرقي، بضم الزاي وفتح الراء، وهو في الأنصار نسبة إلى زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن عصب بن جشم بن الخزرج. الخامس: أبو قتادة الأنصاري واسمه الحارث بن ربعي السلمي، وقال ابن الكلبي وابن إسحاق: اسمه النعمان. قال الهيثم بن عدي: إن عليا صلى عليه بالكوفة في سنة ثمان وثلاثين.
ذكر لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع، والعنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: في رواية عبد الرزاق: عن مالك سمعت أبا قتادة، وكذا في رواية أحمد من طريق ابن جريج: عن عامر عن عمرو بن سليم أنه سمع أبا قتادة. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه مسلم في الصلاة عن القعنبي ويحيى بن يحيى وقتيبة، ثلاثتهم عن مالك به، وعن قتيبة عن الليث به، وعن ابتن أبي عمرو وعن سفيان بن عيينة وعن محمد بن المثنى عن أبي بكر الحنفي وعن أبي الطاهر بن السرح وهارون بن سعيد، كلاهما عن ابن وهب به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به، وعن قتيبة عن الليث به، وعن محمد بن سلمة عن ابن وهب به، وعن يحيى بن خلف عن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن مالك به، وعن قتيبة عن الليث به، وعن قتيبة عن سفيان وعن محمد بن صدقة الحمصي عن محمد بن حرب.
رلا
ذكر معناه وإعرابه) قوله: (وهو حامل أمامة)، جملة اسمية في محل النصب على الحال، ولفظ: حامل، بالتنوين، وأمامة،
301

بالنصب، وهو المشهور يروى بالإضافة كما في قوله تعالى: * (إن ا بالغ أمره) * (الطلاق: 3) بالوحهين في القراءة وقال الكرماني. فإن قلت: قال النحاة: فإن اسم الفاعل للماضي وجبت الإضافة، فما وجه عمله؟ قلت: إذا أريد به حكاية الحال الماضية جاز إعماله كما في قوله تعالى * (وكلبهم باسط ذراعيه) * (الكهف: 81) و: أمامة، بضم الهمزة وتخفيف الميمين: بنت زينب، رضي ا تعالى عنها، كانت زينب أكبر بنات رسول ا، وكانت فاطمة أصغرهن وأحبهن إلى رسول ا، وكان أولاد رسول الله كلها من خديجة سوى إبراهيم فإنه من مارية القبطية، تزوجها النبي، عليه الصلاة والسلام، قبل البعثة. قال الزهري: وكان عمر يومئذ إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمسا وعشرين سنة زمان بنيت الكعبة، قاله الواقدي، وزاد: ولها من العمر خمس وأربعون سنة. وقيل: كان عمره،، ثلاثين سنة وعمرها أربعين سنة، فولدت له: القاسم وبه كان يكنى والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وتزوج بزينب: أبو العاص بن الربيع فولدت منه عليا وأمامة هذه المذكورة
في الحديث، تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة، فولدت منه محمدا، وكانت وفاة زينب في ثمان. قاله الواقدي. وقال قتادة: في أول سنة ثمان.
قوله: (ولأبي العاص) بن الربيع بن عبد شمس، وفي أحاديث (الموطأ) للدارقطني: قال ابن نافع وعبد ا بن يوسف والقعنبي في رواية إسحاق عنه، وابن وهب وابن بكير وابن القاسم وأيوب بن صالح عن مالك: ولأبي العاص بن ربيعة عبد شمس. وقال محمد بن الحسن: ولأبي العاص بن الربيع، مثل قول معن، وأبي مصعب. وفي (التمهيد) رواه يحيى: ولأبي العاص بن ربيعة، بهاء التأنيث، وتابعه الشافعي ومطرف وابن نافع، والصواب: ابن الربيع، وكذا أصلحه ابن وضاح في رواية يحيى. قال عياض: وقال الأصيلي: هو ابن ربيع ابن ربيعة، فنسبه مالك إلى جده قال عياض: وهذا غير معروف، ونسبه عند أهل الأخبار باتفاقهم أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف. وقال الكرماني: البخاري نسبه مخالفا للقوم من جهتين، قال: ربيعة، بحرف التأنيث، وعندهم: الربيع، بدونه. وقال: ربيعة بن عبد شمس، وهم قالوا: ربيع بن عبد العزى بن عبد شمس. قلت: لو اطلع الكرماني على كلام القوم لما قال: نسبة البخاري مخالفا للقوم من جهتين، على أن الذي عندنا في نسختنا: الربيع عبد شمس، بالنسبة إلى جده، واختلف في اسم أبي العاص، قيل: ياسر، وقيل: لقيط، وقيل: مهشم، وقال الزبير: عن محمد بن الضحاك عن أبيه اسمه القاسم، وهو أكثر في اسمه. وقال أبو عمر: والأكثر لقيط، ويعرف بجر البطحاء، وربيعة عمه، وأم أبي العاص: هدلة، وقيل: هند بنت خويلد أخت خديجة، رضي ا تعالى عنها، لأبيها وأمها، وأبو العاص أسلم قبل الفتح وهاجر ورد عليه السلام، عليه ابنته زينب وماتت معه. وقال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدومين مالا وأمانة وتجارة، وكانت خديجة هي التي سألت رسول الله أن يزوجه بابنتها زينب، وكان لا يخالفها، وكان ذلك قبل الوحي، والإسلام فرق بينهما. وقال ابن كثير: إنما حرم ا المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة، وكان أبو العاص في غزوة بدر مع المشركين، ووقع في الأسر. وقال ابن هشام: كان أسره خراش بن الصمة، أحد بني حرام، وقال ابن إسحاق، عن عائشة: لما بعث أهل مكة في فداء أسرتهم بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها، وكانت خديجة رضي ا تعالى عنها، أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها. قالت: فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. قالوا: نعم يا رسول ا، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها. وقال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب، يعني أن تهاجر إلى المدينة فوفى أبو العاص بذلك ولحقت بأبيها، وأقام أبو العاص بمكة على كفره، واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، ثم آخر الأمر أسلم وخرج حتى قدم على رسول الله وعن ابن عباس، رضي ا تعالى عنهما: رد عليه رسول الله ابنته زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا، وسنذكر حقيقة هذا الكلام في موضعه إن شاء ا تعالى. فإن قيل: ما اللام في: لأبي العاص؟ أجيب بأن الإضافة في بنت بمعنى: اللام، والتقدير في بنت لزينب، فأظهر هنا ما هو مقدر في المعطوف عليه.
قوله: (فإذا سجد وضعها)، وفي مسلم من طريق عثمان بن أبي سليمان ومحمد بن عجلان والنسائي من طريق الزبيدي، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبان من طريق أبي العميس، كلهم عن عامر بن عبد ا شيخ مالك فقالوا: (إذا ركع وضعها). وفي رواية أبي داود، من طريق المقبري عن عمرو
302

بن سليم: (حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده فقام أخذها فردها في مكانها).
ذكر ما يستفاد منه: تكلم الناس في حكم هذا الحديث، فقال النووي: هذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة النفل، ويجوز للإمام والمنفرد والمأموم قلت: أما مذهب أبي حنيفة في هذا ما ذكر صاحب (البدائع) وفي بيان العمل الكثير الذي يفسد الصلاة والقليل الذي لا يفسدها: فالكثير ما يحتاج فيه إلى استعمال اليدين، والقليل ما لا يحتاج فيه إلى ذلك، وذكر لهما صورا حتى قال: إذا أخذ قوسا ورمى فسدت صلاته، وكذا لو حملت امرأة صبيها فأرضعته، لوجود العمل الكثير الذي يفسد الصلاة، وأما حمل الصبي بدون الإرضاع فلا يوجب الفساد، ثم روى الحديث المذكور، ثم قال: وهذا الصنيع لم يكره منه لأنه كان محتاجا إلى ذلك لعدم من يحفظها، أو لبيان الشرع بالفعل، وهذا غير موجب فساد الصلاة. ومثل هذا أيضا في زماننا لا يكره لواحد منا لو فعل ذلك عند الحاجة، أما بدون الحاجة فمكروه. انتهى. وذكر أشهب عن مالك أن ذلك كان من رسول الله في صلاة النافلة، وأن مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة. وقال أبو عمر: حسبك بتفسير مالك، ومن الدليل على صحة ما قاله في ذلك أني لا أعلم خلافا أن مثل هذا العمل في الصلاة مكروه. وقال النووي: هذا التأويل فاسد، لأن قوله: (يؤم الناس) صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة، قلت: هو ما رواه سفيان بن عيينة بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري، قال: (رأيت النبي يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص، وهي بنت زينب ابنة رسول الله على عاتقه). ولأن الغالب في إمامة رسول الله كانت في الفرائض دون النوافل وفي رواية أبي داود عن أبي قتادة صاحب رسول ا، قال: (بينما نحن ننتظر رسول ا، للصلاة في الظهر أو العصر وقد دعا بلال للصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص، بنت ابنته، على عنقه، فقام رسول ا، في مصلاه وقمنا خلفه) الحديث.
وفي كتاب (النسب) للزبير بن بكار: عن عمرو بن سليم أن ذلك كان في صلاة الصبح. وقال النووي: وادعى بعض المالكية أنه منسوخ. وقال الشيخ تقي الدين: هو مروي عن مالك أيضا. وقال أبو عمر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال بالصلاة وقد رد هذا بأن قوله: (إن في الصلاة لشغلا)، كان قبل بدر عند قدوم عبد ا بن مسعود من الحبشة، وأن قدوم زينب وبنتها إلى المدينة كان ذلك، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاجتهاد، وروى أشهب وابن نافع عن مالك: أن هذا كان للضرورة، وادعى بعض المالكية أنه خاص بالنبي، ذكره القاضي عياض. وقال النووي: وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع، لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على أن هذه الأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي، هذا بيانا للجواز وتنبيها عليه
.
قلت: وقد قال بعض أهل العلم: إن فاعلا لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث، وإن كنت لا أحب لأحد فعله، وقد كان أحمد بن حنبل يجيز هذا. قال الأثرم: سئل أحمد: يأخذ الرجل ولده وهو يصلي؟ قال: نعم. واحتج بحديث أبي قتادة. قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا الصنيع من رسول الله لا عن قصد وتعمد له في الصلاة. ولعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من ملابسته في غير الصلاة كانت تتعلق به حتى تلابسه وهو في الصلاة فلا يدفعها عن نفسه ولا يبعدها، فإذا أراد أن يسجد وهي على عاتقه، وضعها بأن يحطها أو يرسلها إلى الأرض حتى يفرغ من سجوده، فإذا أراد القيام. وقد عادت الصبية إلى مثل الحالة الأولى، لم يدافعها ولم يمنعها، حتى إذا قام بقيت محمولة معه. هذا عندي وجه الحديث. ولا يكاد يتوهم عليه أنه كان يتعمد لحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة تارة بعد أخرى، لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية، فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمور؟ وفي ذلك بيان ما تأولناه. وقال النووي، بعد أن نقل ملخص كلام الخطابي: هذا الذي ذكره باطل ودعوى مجردة، ومما يرد عليه قوله في (صحيح مسلم): (فإذا قام حملها).
303

وقوله: (فإذا رفع من السجود أعادها. وقوله في غير رواية مسلم: (خرج علينا حاملا أمامة فصلى). وذكر الحديث، وأما قضية الخميصة فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن أشغله فيترتب عليه فوائد وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل بهذه الفوائد بخلاف الخميصة، فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد فهو جائز لنا، وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين. قلت: وجه آخر لرد كلام الخطابي، قوله: (فقام فأخذها فردها في مكانها)، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه لا من أمامة، وقال بعض أصحاب مالك: لأنه عليه السلام لو تركها لبكت وشغلت سره في صلاته أكثر من شغله بحملها، وفرق بعض أصحابه بين الفريضة والنافلة. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان صلاته. وقال الفاكهاني: كان السر في حمل أمامة في الصلاة دفعا لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، وخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز إدخال الصغار في المساجد. ومنها: جواز صحة صلاة من حمل آدميا، وكذا من حمل حيوانا طاهرا. ومنها: أن فيه تواضع النبي، عليه الصلاة والسلام، وشفقته على الصغار وإكرامه لهم ولوالديهم.
701
((باب إذا صلى إلى فراش فيه حائض))
أي: هذا باب فيه إذا صلى، وجواب: إذا محذوف تقديره صحت صلاته أو معناه: باب هذه المسألة، وهي ما يقوله الفقهاء إذا صلى إلى فراش فيه حائض كيف يكون حكمه يكره أم لا؟ وحديث الباب على عدم الكراهة.
715661 ح دثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا هشيم عن الشيباني عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال أخبرتني خالتي ميمونة بنت الحارث قالت كان فراشي حيال مصلى النبي فربما وقع ثوبه على فراشي..
مطابقته للترجمة ظاهرة عند التأمل، ولكن اعترض فيه بوجهين: الأول: كيف دل على الترجمة التي هي كون المصلي منتهيا إلى الفراش، لأنه قال: إذا صلى إلى فراش. وكلمة: إلى لانتهاء الغاية؟ والثاني: أن هذا الحديث يدل على اعتراض المرأة بين المصلي وقبلته، فهذا يدل على جواز القعود، لا على جواز المرور. وأجيب: عن الأول: بأنه لا يلزم أن يكون الانتهاء من جهة القبلة، وكما أنها منتهية إلى جنب رسول الله فرسول الله ينتهي إليها وإلى فراشها. وعن الثاني: بأن ترجمة الباب ليست معقودة للاعتراض، فإن المتعلق بالاعتراض قد تقدم، والذي قصده البخاري: بيان صحة الصلاة ولو كانت الحائض بجنب المصلي ولو أصابتها ثيابه، لا كون الحائض بين المصلي وبين القبلة.
ذكر رجاله وهم خمسة الأول: عمرو، بالواو: وابن زرارة، بضم الزاي ثم بالراء المكررة، وقد تقدم في باب قدركم ينبغي أن يكون بين المصلي والسترة؟ الثاني: هشيم، مصغرا: ابن بشير، بضم الباء الموحدة: الواسطي، مات ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة. الثالث: الشيباني أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي. الرابع: عبد ا بن شداد، بتشديد الدال: ابن الهاد، واسمه: أسامة الكوفي. الخامس: أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث إحدى زوجات النبي.
ذكر لطائف إسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضع واحد، والإخبار بصيغة الإفراد من الماضي في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين واسطي وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره قد ذكرنا هذا، ومعنى الحديث وما يتعلق به من الأحكام في باب إذا أصاب ثوب المصلي امرأته في السجود، فإنه أخرج هذا الحديث هناك: عن مسدد عن خالد عن الشيباني.
304

815761 ح دثنا أبو النعمان قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا الشيباني سليمان حدثنا عبد الله بن شداد قال سمعت ميمونة تقول كان النبي يصلي وأنا إلى جنبه نائمة فإذا سجد أصابني ثوبه وأنا حائض وزاد مسدد عن خالد قال حدثنا سليمان الشيباني وأنا حائض..
هذا طريق آخر بلفظ آخر عن أبي النعمان، بضم النون: محمد بن الفضيل، وهذا الإسناد بعينه قد مر في باب مباشرة الحائض في أوائل كتاب الحيض، ولفظ الحديث
هناك، قالت يعني ميمونة: (كان رسول الله إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض). قوله: (ثوبه) ويروى: (أصابتني ثيابه). قوله: (وأنا حائض) هذه الجملة وقعت حالا في رواية أبي ذر، وسقطت لغيره. قال الكرماني فإن قلت: قالوا: إذا أريد الحدوث يقال: حائضه، وإذا أريد الثبوت، وإن من شأنها الحيض، يقال: حائض، ولا شك أن المراد ههنا كونها في حالة الحيض. قلت: معناه أن الحائضة مختصة بما إذا كانت فيه، والحائض أعم منه. انتهى. قلت: لا فرق بين الحائض والحائضة، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة عن الفراء وأنشد:
* كحائضة يزني بها غير حائض
*
وفي اللغة: لم يفرق بينهما، غير أن الأصل فيه التأنيث، ولكن لخصوصية النساء به وعدم ترك التاء.
801
((باب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد))
أي: هذا باب فيه: هل يغمز الرجل؟ إلى آخره، يعني: نعم، إذا غمزها فلا شيء يترتب عليه من فساد الصلاة.
915861 ح دثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا عبيد الله قال حدثنا القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت بئسما عدلتمنا بالكلب والجمار لقد رأيتني ورسول الله يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وبين البخاري في هذا الباب صحة الصلاة ولو أصابها بعض جسده، وبين في الباب السابق صحتها ولو أصابها بعض ثيابه.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عمرو: بالواو، ابن علي الفلاس الباهلي. الثاني: يحيى القطان. الثالث: عبيد ا العمري. الرابع: القاسم بن محمد بن أبي بكر. الخامس: عائشة رضي ا تعالى عنها.
ذكر لطائف اسناده) فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومدني.
ذكر معناه وإعرابه). قوله: (بئسما)، كلمة بئس من أفعال الذم، كما أن كلمة: نعم، من أفعال المدح، وشرطهما أن يكون الفاعل المظهر فيهما معرفا باللام أو مضافا إلى المعرف بها، أو مضمرا مميزا بنكرة منصوبة، وههنا يجوز الوجهان. الأول: أن تكون: ما بمعنى الذي، ويكون فاعلا: لبئس. والجملة أعني قوله: (عدلتمونا)، صلة له بكون المخصوص بالذم محذوفا، والتقدير: بئس الذي عدلتمونا بالحمار ذلك الفعل. والوجه الثاني: أن يكون فاعل: بئس، مضمرا مميزا، وتكون الجملة بعده صفة والمخصوص بالذم أيضا محذوفا، والتقدير: بئس شيئا ما عدلتمونا بالحمار شيء. وفي الوجهين المخصوص بالذم مبتدأ أو خبره الجملة التي قبله، ومعنى: عدلتمونا: جعلتمونا مثله. وقد مر الكلام فيه مستوفى في باب الصلاة على الفراش.
قولها: (لقد رأيتني) بضم التاء، وكون الفاعل والمفعول ضميرين لشيء واحد من خصائص أفعال القلوب، والتقدير: لقد رأيت نفسي. وقال الكرماني: إن كانت الرؤية بمعناها الأصلي فلا يجوز حذف أحد مفعوليه، وإن كانت بمعنى الإبصار فلا يجوز اتحاد الضميرين، ثم أجاب بقول الزمخشري: فإنه قال في قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل ا أمواتا) * (آل عمران: 961) جاز حذف أحدهما لأنه مبتدأ في الأصل فيحذف كالمبتدأ، ثم قال الكرماني هذا مخالف لقوله في المفصل وفي سائر مواضع الكشاف لا يجوز الاقتصار على أحد مفعولي الحسبان، ثم أجاب عنه بأنه روي عنه أيضا: أنه إذا كان الفاعل والمفعول عبارة عن
305

شيء واحد جاز الحذف، وأمكن الجمع بينهما بأن القول بجواز الحذف فيما إذا اتحد الفاعل والمفعول معنى والقول بعدمه فيما إذا كان بينهما الاختلاف. والحديث هو من القسم الأول، إذ تقديره: رأيت نفسي معترضة أو أعطي للرؤية التي بمعنى: الإبصار، حكم الرؤية التي من أفعال القلوب. قولها: (ورسول الله يصلي)، جملة اسمية وقعت حالا على الأصل، أعني: بالواو، وكذلك قولها: (وأنا مضطجعة). قولها: (غمز رجلي) قال الجوهري: غمزت الشيء بيدي، وقال الشاعر:
وكنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما
وغمزته بعيني، قال تعالى: * (وإذا مروا بهم يتغامزون) * (المطففين: 03) والمراد هنا الغمز باليد، وفي رواية للبخاري: (فإذا سجد غمزني، فقبضت برجلي، وإذا قام بسطتهما). وفي رواية الطحاوي: (فإذا سجد غمزني فرفعتهما فقبضتهما، فإذا قام مددتهما). وفي رواية: (غمزها برجله، فقال: تنحي). وفي رواية لأبي داود: (فإذا أراد أن يسجد ضرب رجلي فقبضتهما فسجد). وفي رواية له: (فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فضممتهما إلي ثم سجد).
ثم ما يتعلق بالأحكام قد ذكرنا مستوفى في باب الصلاة على الفراش.
901
((باب المرأة تطرح عن المصلى شيئا من الأذى))
أي: هذا باب فيه المرأة تطرح إلى آخره، ولفظ: باب منون لأنه خبر مبتدأ محذوف. وقوله: المرأة، مبتدأ و: تطرح، خبره وكلمة: من، بيانية. قال ابن بطال: هذه الترجمة قريبة من التراجم التي قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت ما على ظهر المصلي فإنها تقصد إلى أخذه من أي جهة أمكنها تناوله، فإن لم يكن هذا المعنى أشد من مرورها بين يديه فليس بدونه، وقد ترجم على حديث هذا الباب في الطهارة قبل الغسل بقوله: باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته.
وقد ذكرنا هناك ما يتعلق بهذا الحديث مستوفى من كل وجه، فلنذكر ههنا ما يحتاج إليه من غير ما ذكرنا.
169 - (حدثنا أحمد بن إسحاق السورماري قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال بينما رسول الله
قائم يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه فانبعث أشقاهم فلما سجد رسول الله
وضعه بين كتفيه وثبت النبي
ساجدا فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام وهي جويرية فأقبلت تسعى وثبت النبي
ساجدا حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم فلما قضى رسول الله
الصلاة قال اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمارة بن الوليد قال عبد الله فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر ثم قال رسول الله
واتبع أصحاب القليب لعنة)
306

مطابقته للترجمة ظاهرة وأحمد بن إسحاق السرماري بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الراء الأولى نسبة إلى سرمار قرية من قرى بخارى وهو الذي يضرب بشجاعته المثل قتل ألفا من الترك مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين وهو من صغار شيوخ البخاري وقد شاركه في روايته عن شيخه عبيد الله بن موسى المذكور وعبيد الله ومن بعده كلهم كوفيون وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي وأبو إسحاق اسمه عمرو بن عبد الله وهذا الحديث لا يروى إلا بإسناده وعمرو بن ميمون مر في باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر وعبد الله هو ابن مسعود قوله ' بينما رسول الله
' وفي روايته هناك ' بينا ' وقد ذكرناه هناك والعامل فيه معنى المفاجأة التي في إذ قال ولا يجوز أن يعمل فيه يصلي لأنه حال من رسول الله
المضاف إليه بين فلا يعمل فيه قوله ' فيعمد ' بالرفع عطف على ' يقوم ' ويروى بالنصب لأنه وقع بعد الاستفهام قوله ' فانبعث أشقاهم ' أي انتهض أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط قوله ' جويرية ' أي صغيرة وهو تصغير جارية قوله ' اللهم عليك بقريش ' أي بهلاكهم قوله ' بعمرو بن هشام ' هو أبو جهل عليه اللعنة قوله ' وعمارة بن الوليد ' هو السابع ولم يذكره الراوي هناك وههنا ذكره لأنه هناك نسيه وهنا تذكره قوله ' اتبع ' بضم الهمزة إخبار من رسول الله
بأن الله أتبعهم اللعنة أي كما أنهم مقتولون في الدنيا مطرودون عن رحمة الله في الآخرة ويروى واتبع بفتح الهمزة ويروى بلفظ الأمر فهو عطف على ' عليك بقريش ' أي قال في حياتهم اللهم أهلكهم وقال في هلاكهم اللهم اتبعهم اللعنة *
307