الكتاب: فتح الباري
المؤلف: ابن حجر
الجزء: ١٠
الوفاة: ٨٥٢
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع:
المطبعة: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

فتح الباري
شرح
صحيح البخاري
للامام الحافظ
شهاب الدين ابن حجر العسقلاني
رحمه الله تعالى
الجزء العاشر
دار المعرفة
للطباعة والنشر
بيروت - لبنان
1

(بسم الله الرحمن الرحيم)
* (قوله كتاب الأضاحي) *
(باب سنة الأضحية) كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما سنة الأضاحي وهو جمع أضحية
بضم الهمزة ويجوز كسرها ويجوز حذف الهمزة فتفتح الضاد والجمع ضحايا وهي أضحاة والجمع
أضحى وبه سمي يوم الأضحى وهو يذكر ويؤنث وكأن تسميتها اشتقت من اسم الوقت الذي تشرع
فيه وكأنه ترجم بالسنة إشارة إلى مخالفة من قال بوجوبها قال ابن حزم لا يصح عن أحد من
الصحابة أنها واجبة وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ولا خلاف في كونها من شرائع الدين وهي
عند الشافعية والجمهور سنة مؤكدة على الكفاية وفي وجه الشافعية من فروض الكفاية
وعن أبي حنيفة تجب على المقيم الموسر وعن مالك مثله في رواية لكن لم يقيد بالمقيم ونقل
عن الأوزاعي وربيعة والليث مثله وخالف أبو يوسف من الحنفية وأشهب من المالكية فوافقا
الجمهور وقال أحمد يكره تركها مع القدرة وعنه واجبة وعن محمد بن الحسن هي سنة غير
مرخص في تركها قال الطحاوي وبه نأخذ وليس في الآثار ما يدل على وجوبها أه‍ وأقرب
ما يتمسك به للوجوب حديث أبي هريرة رفعه من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا أخرجه
ابن ماجة وأحمد ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب قاله
الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحا في الايجاب (قوله قال ابن عمر هي سنة ومعروف) وصله
حماد بن سلمة في مصنفه بسند جيد إلى ابن عمر وللترمذي محسنا من طريق جبلة بن سحيم إن رجلا
2

سأل ابن عمر عن الأضحية أهي واجبة فقال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده
قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة وكأنه فهم من كون ابن
عمر لم يقل في الجواب نعم أنه لا يقول بالوجوب فإن الفعل المجرد لا يدل على ذلك وكأنه أشار بقوله
والمسلمون إلى أنها ليست من الخصائص وكان ابن عمر حريصا على اتباع أفعال النبي صلى الله
عليه وسلم فلذلك لم يصرح بعدم الوجوب وقد احتج من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف
ابن سليم رفعه على أهل كل بيت أضحية أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي ولا حجة فيه لان الصيغة
ليست صريحة في الوجوب المطلق وقد ذكر معها العتيرة وليست بواجبة عند من قال بوجوب
الأضحية واستدل من قال بعدم الوجوب بحديث ابن عباس كتب علي النحر ولم يكتب عليكم
وهو حديث ضعيف أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني والدارقطني وصححه الحاكم فذهل وقد
استوعبت طرقه ورجاله في الخصائص من تخريج أحاديث الرافعي وسيأتي شئ من المباحث في
وجوب الأضحية في الكلام على حديث البراء في حديث أبي بردة بن نيار بعد أبواب ثم ذكر المصنف
حديث البراء وأنس في أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة وسيأتي شرحهما مستوفى بعد أبواب
وقوله في حديث البراء أن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر وقع في بعض
الروايات في يومنا هذا نصلي بحذف أن وعليها شرح الكرماني فقال هو مثل تسمع بالمعيدي خير
من أن تراه وهو على تنزيل الفعل منزلة المصدر والمراد بالسنة هنا في الحديثين معا الطريقة لا السنة
بالاصطلاح التي تقابل الوجوب والطريقة أعم من أن تكون للوجوب أو للندب فإذا لم يقم
دليل على الوجوب بقى الندب وهو وجه إيرادها في هذه الترجمة وقد استدل من قال بالوجوب
بوقوع الامر فيهما بالإعادة وأجيب بأن المقصود بيان شرط الأضحية المشروعة فهو كما لو قال لمن
صلى راتبة الضحى مثلا قبل طلوع الشمس إذا طلعت الشمس فأعد صلاتك وقوله في حديث
البراء وليس من النسك في شئ النسك يطلق ويراد به الذبيحة ويستعمل في نوع خاص من الدماء
المراقة ويستعمل بمعنى العبادة وهو أعم يقال فلان ناسك أي عابد وقد استعمل في حديث البراء
بالمعنى الثالث وبالمعنى الأول أيضا في قوله في الطريق الأخرى من نسك قبل الصلاة قال فلا نسك له أي
من ذبح قبل الصلاة فلا ذبح له أي لا يقع عن الأضحية وقوله فيه وقال مطرف يعني ابن طريف
بالطاء المهملة وزن عظيم وعامر هو الشعبي وقد تقدمت رواية مطرف موصولة في العيدين
وتأتي أيضا بعد ثمانية أبواب (قوله إسماعيل) هو ابن علية وأيوب هو السختياني ومحمد هو ابن
سيرين والاسناد كله بصريون (قوله باب قسمة الامام الأضاحي بين الناس)
أي بنفسه أو بأمره (قوله هشام) هو الدستوائي ويحيى هو ابن أبي كثير (قوله عن بعجة) في
رواية مسلم من طريق معاوية بن سلام عن يحيى أخبرني بعجة بن عبد الله وهو بفتح الموحدة
وسكون المهملة بعدها جيم واسم جده بدر وهو تابعي معروف ما له في البخاري إلا هذا الحديث
وقد أزالت رواية مسلم ما يخشى من تدليس يحيى بن أبي كثير (قوله عن عقبة) في رواية
مسلم المذكورة أن عقبة بن عامر أخبره (قوله قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا)
سيأتي بعد أربعة أبواب أن عقبة هو الذي باشر القسمة وتقدم في الشركة باب وكالة الشريك
للشريك في القسمة وأورده فيه أيضا وأشار إلى أن عقبة كان له في تلك الغنم نصيب باعتبار أنها
كانت من الغنائم وكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها نصيب ومع هذا فوكله في قسمتها
3

وقدمت له هناك توجيها آخر وهذا التوجيه أقوى منه قال ابن المنير يحتمل أن يكون المراد
أنه أطلق عليها ضحايا باعتبار ما يؤل إليه الامر ويحتمل أن يكون عينها للأضحية ثم قسمها بينهم
ليحوز كل واحد نصيبه فيؤخذ منه جواز قسمة لحم الأضحية بين الورثة ولا يكون ذلك بيعا
وهي مسئلة خلاف المالكية قال وما أرى البخاري مع دقة نظره قصد بالترجمة إلا هذا كذا قال
(قوله فصارت لعقبة) أي ابن عامر (جذعة) بفتح الجيم والذال المعجمة هو وصف لسن معين من
بهيمة الأنعام فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور وقيل دونها ثم اختلف في تقديره فقيل
ابن ستة أشهر وقيل ثمانية وقيل عشرة وحكى الترمذي عن وكيع أنه ابن ستة أشهر أو سبعة
أشهر وعن ابن الأعرابي أن ابن الشابين يجذع لستة أشهر إلى سبعة وابن الهرمين يجذع لثمانية
إلى عشرة قال والضأن أسرع إجذاعا من المعز وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة
الثانية ومن البقر ما أكمل الثالثة ومن الإبل ما دخل في الخامسة وسيأتي بيان المراد بها هنا
قريبا وأنها كانت من المعز بعد أربعة أبواب (قوله باب الأضحية للمسافر
والنساء) فيه إشارة إلى خلاف من قال إن المسافر لا أضحية عليه وقد تقدم نقله في أول الباب
وإشارة إلى خلاف من قال أن النساء لا أضحية عليهن ويحتمل أن يشير إلى خلاف من منع من
مباشرتهن التضحية فقد جاء عن مالك كراهة مباشرة المرأة الحائض للتضحية (قوله سفيان) هو
ابن عيينة ولم يسمع مسدد من سفيان الثوري (قوله عن عبد الرحمن بن القاسم) في رواية
علي بن عبد الله عن سفيان سمعت عبد الرحمن بن القاسم وتقدمت في كتاب الحيض (قوله
بسرف) بفتح المهملة وكسر الراء مكان معروف خارج مكة (قوله أنفست) قيده الأصيلي وغيره
بضم النون أي حضت ويجوز الفتح وقيل هو في الحيض بالفتح فقط وفي النفاس بالفتح والضم
(قوله قالت فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر) تقدم في الحج من وجه آخر عن عائشة أخصر من هذا
وتقدم شرحه مبينا هناك وقوله ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر ظاهر في أن
الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية وحاول ابن التين تأويله ليوافق مذهبه فقال المراد أنه
ذبحها وقت ذبح الأضحية وهو ضحى يوم النحر قال وأن حمل على ظاهره فيكون تطوعا لا على أنها
سنة الأضحية كذا قال ولا يخفى بعده واستدل به الجمهور على أن ضحية الرجل تجري عنه وعن
أهل بيته وخالف في ذلك الحنفية وأدعى الطحاوي أنه مخصوص أو منسوخ ولم يأت لذلك بدليل
قال القرطبي لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل واحدة من نسائه بأضحية مع تكرار سنى
الضحايا ومع تعددهن والعادة تقضي بنقل ذلك لو وقع كما نقل غير ذلك من الجزئيات ويؤيده
ما أخرجه مالك وابن ماجة والترمذي وصححه من طريق عطاء بن يسار سألت أبا أيوب كيف كانت
الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته
فيأكلون ويطعمون حتى تناهى الناس كما ترى (قوله باب ما يشتهى من اللحم يوم
النحر) أي أتباعا للعادة بالالتذاذ بأكل اللحم يوم العيد وقال الله تعالى ليذكروا اسم الله في أيام
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (قوله حدثنا صدقة) هو ابن الفضل وابن علية هو
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم (قوله فقام رجل) هو أبو بردة بن نيار كما في حديث البراء (قوله إن
هذا يوم يشتهي فيه اللحم) في رواية داود بن أبي هند عن الشعبي عند مسلم فقال يا رسول الله أن
هذا يوم اللحم فيه مكروه وفي لفظ له مقروم وهو بسكون القاف قال غياض رويناه في مسلم من
4

طريق الفارسي والسجزي مكروه ومن طريق العذري مقروم وقد صوب بعضهم هذه
الرواية الثانية وقال معناه يشتهي فيه اللحم يقال قرمت إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته فهو موافق
للرواية الأخرى إن هذا يوم يشتهى فيه اللحم قال عياض وقال بعض شيوخنا صواب الرواية
اللحم فيه مكروه بفتح الحاء وهو اشتهاء اللحم والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم
حتى يشتهوه مكروه قال وقال لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه ذبح مالا يجزي في الأضحية
مما هو لحم أه‍ وبالغ ابن العربي فقال الرواية بسكون الحاء هنا غلط وإنما هو اللحم بالتحريك
يقال لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم وأما القرطبي في المفهم فقال
تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك ولا معنى وهو قول الآخر معنى المكروه إنه
مخالف للسنة قال وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث فإن هذا التأويل لا يلائمه إذ لا يستقيم
أن يقول هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة وأني عجلت لأطعم أهلي قال وأقرب ما يتكلف لهذه
الرواية أن معناه اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت وقال النووي
ذكر الحافظ أبو موسى أن معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق قال وهو معنى حسن (قلت)
يعني طلبه من الناس كالصديق والجار فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم بما ذبحه عن
الطلب ووقع في رواية منصور عن الشعبي كما مضى في العيدين وعرفت أن اليوم يوم أكل
وشرب فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي ويظهر لي أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين
الروايتين المتقدمتين وأن وصفه اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروها لا تناقض فيه وإنما هو
باعتبارين فمن حيث أن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى ومن حيث
توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير مملولا فأطلقت عليه الكراهة لذلك فحيث وصفه بكونه مشتهى
أراد ابتداء حاله وحيث وصفه بكونه مكروها أراد انتهاءه ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل
الصفة الأولى عند أهله وجيرانه ووقع في رواية فراس عن الشعبي عند مسلم فقال خالي يا رسول
الله قد نسكت عن ابن لي وقد استشكل هذا وظهر لي أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي
ذكره في أهله وجيرانه فخص ولده بالذكر لأنه أخص بذلك عنده حتى يستغنى ولده بما عنده عن
التشوف إلى ما عند غيره (قوله وذكر جيرانه) في رواية عاصم عند مسلم وإني عجلت فيه نسيكتي
لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري (قوله فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا) قد وقع في
حديث البراء اختصاصه بذلك كما سيأتي بعد أبواب ويأتي البحث فيه وكأن أنسا لم يسمع ذلك وقد
روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس فكان إذا حدث حديث
البراء يقف عند قوله ولن تجزى عن أحد بعدك ويحدث بقول أنس لا أدري أبلغت الرخصة
غيره أم لا ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما سيأتي بيانه قريبا
(قوله ثم انكفأ) مهموز أي مال يقال كفأت الاناء إذا أملته والمراد أنه رجع عن مكان الخطبة
إلى مكان الذبح (قوله وقام الناس) كذا هنا وفي الرواية الآتية في باب من ذبح قبل
الصلاة أعاد فتمسك به ابن التين في أن من ذبح قبل الامام لا يجزئه وسيأتي البحث فيه (قوله إلى
غنيمة) بغين معجمة ونون مصغر (فتوزعوها أو قال فتجزعوها) شك من الراوي والأول بالزاي
من التوزيع وهو التفرقة أي تفرقوها والثاني بالجيم والزاي أيضا من الجزع وهو القطع أي
5

اقتسموها حصصا وليس المراد أنهم اقتسموها بعد الذبح فأخذ كل واحد قطعة من اللحم وإنما
المراد أخذ حصته من الغنم والقطعة تطلق على الحصة من كل شئ فبهذا التقرير يكون المعنى
واحدا وإن كان ظاهره في الأصل الاختلاف (قوله باب من قال الأضحى يوم
النحر) قال ابن المنير أخذه من إضافة اليوم إلى النحر حيث قال أليس يوم النحر واللام للجنس
فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم قال والجواب على مذهب الجماعة أن المراد النحر الكامل واللام
تستعمل كثيرا للكمال كقوله الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (قلت) واختصاص النحر
باليوم العاشر قول حميد بن عبد الرحمن ومحمد بن سيرين وداود الظاهري وعن سعيد بن جبير
وأبي الشعثاء مثله إلا في منى فيجوز ثلاثة أيام ويمكن أن يتمسك لذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن
العاص رفعه أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة الحديث صححه ابن حبان وقال
القرطبي التمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى ليذكروا اسم الله في أيام
معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ويحتمل أن يكون أراد أن أيام النحر الأربعة أو الثلاثة
لكل واحد منها اسم يخصه فالأضحى هو اليوم العاشر والذي يليه يوم القر والذي يليه يوم
النفر الأول والرابع يوم النفر الثاني وقال ابن التين مراده أنه يوم تنحر فيه الأضاحي في جميع
الأقطار وقيل مراده لا ذبح إلا فيه خاصة يعني كما تقدم نقله عمن قال به وزاد مالك ويذبح أيضا
في يومين بعده وزاد الشافعي اليوم الرابع قال وقيل يذبح عشرة أيام ولم يعزه لقائل وقيل إلى آخر
الشهر وهو عن عمر بن عبد العزيز وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وغيرهم وقال به
ابن حزم متمسكا بعدم ورود نص بالتقييد وأخرج ما رواه ابن أبي شيبة من طريق أبي سلمة بن
عبد الرحمن وسليمان بن يسار قالا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال وهذا سند صحيح إليهما
لكنه مرسل فيلزم من يحتج بالمرسل أن يقول به (قلت) وسيأتي عن أبي أمامة بن سهل في الباب
الذي يليه شئ من ذلك وبمثل قول مالك قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وبمثل قول الشافعي
قال الأوزاعي قال ابن بطال تبعا للطحاوي ولم ينقل عن الصحابة غير هذين القولين وعن قتادة
ستة أيام بعد العاشر وحجة الجمهور حديث جبير بن مطعم رفعه فجاج منى منحر وفي كل أيام
التشريق ذبح أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع ووصله الدارقطني ورجاله ثقات واتفقوا
على أنها تشرع ليلا كما تشرع نهارا إلا رواية عن مالك وعن أحمد أيضا ثم ذكر المصنف حديث
محمد وهو ابن سيرين عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن وقد تقدم شرحه في العلم وفي باب الخطبة
أيام منى من كتاب الحج شئ منه وكذا في تفسير براءة (قوله ثلاث متواليات إلى قوله ورجب
مضر) هذا هو الصواب وهو عدها من سنتين ومنهم من عدها سنة واحدة فبدأ بالمحرم لكن
الأول أليق ببيان المتوالية وشذ من أسقط رجبا وأبدله بشوال زاعما أن بذلك تتوالى الأشهر
الحرم وأن ذلك المراد بقوله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر حكاه ابن التين (قوله قال محمد
وأحسبه) هو ابن سيرين كأنه كان يشك في هذه اللفظة وقد ثبتت في رواية غيره وكذا قوله فكان
محمد إذا ذكره في رواية الكشميهني ذكر (قوله أن يكون أوعى له من بعض من سمعه) كذا للأكثر
بالواو أي أكثر وعيا له وتفهما فيه ووقع في رواية الأصيلي والمستملي أرعى بالراء من الرعاية
ورجحها بعض الشراح وقال صاحب المطالع هي وهم وقوله قال ألا هل بلغت القائل هو النبي
6

صلى الله عليه وسلم وهو بقية الحديث ولكن الراوي فصل بين قوله بعض من سمعه وبين قوله
ألا هل بلغت بكلام ابن سيرين المذكور (قوله باب الأضحى والنحر بالمصلى) قال
ابن بطال هو سنة للامام خاصة عند مالك قال مالك فيما رواه ابن وهب إنما يفعل ذلك لئلا يذبح
أحد قبله زاد المهلب وليذبحوا بعده على يقين وليتعلموا منه صفة الذبح وذكر فيه المؤلف حديث
ابن عمر من وجهين أحدهما موقوف والثاني مرفوع كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر
بالمصلى وهو اختلاف على نافع وقيل بل المرفوع يدل على الموقوف لان قوله في الموقوف كان
ينحر في منحر النبي صلى الله عليه وسلم يريد به المصلي بدلالة الحديث المرفوع المصرح بذلك
وقال ابن التين هو مذهب مالك أن الامام يبرز أضحيته للمصلى فيذبح هناك وبالغ بعض أصحابه
وهو أبو مصعب فقال من لم يفعل ذلك لم يؤتم به وقال ابن العربي قال أبو حنيفة ومالك لا يذبح
حتى يذبح الامام أن كان ممن يذبح قال ولم أر له دليلا (قوله باب ضحية النبي صلى الله
عليه وسلم بكبشين أقرنين) أي لكل منهما قرنان معتدلان والكبش فحل الضأن في أي سن كان
واختلف في ابتدائه فقيل إذا أثنى وقيل إذا أربع (قوله ويذكر سمينين) أي في صفة الكبشين
وهي في بعض طرق حديث أنس من رواية شعبة عن قتادة عنه أخرجه أبو عوانة في صحيحه
من طريق الحجاج بن محمد عن شعبة وقد ساقه المصنف في الباب من طريق شعبة عنه وليس
فيه سمينين وهو المحفوظ عن شعبة وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق في مصنفه عن
الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن أبي سلمة عن عائشة أو عن أبي هريرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوأين فذبح
أحدهما عن محمد وآل محمد والآخر عن أمته من شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ وقد أخرجه ابن
ماجة من طريق عبد الرزاق لكن وقع في النسخة ثمينين بمثلثة أوله بدل السين والأول أولى وابن
عقيل المذكور في سنده مختلف فيه وقد اختلف عليه في إسناده فقال زهير بن محمد وشريك
وعبيد الله بن عمرو كلهم عنه عن علي بن الحسين عن أبي رافع وخالفهم الثوري كما ترى ويحتمل
أن يكون له في هذا الحديث طريقان وليس في روايته في حديث أبي رافع لفظ سمينين وأخرج
أبو داود من وجه آخر عن جابر ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين أقرنين أملحين موجوأين
قال الخطابي الموجوء يعني بضم الجيم وبالهمز منزوع الأنثيين والوجاء الخصاء وفيه جواز
الخصي في الضحية وقد كرهه بعض أهل العلم لنقص العضو لكن ليس هذا عيبا لان الخصاء يفيد
اللحم طيبا وينفي عنه الزهومة وسوء الرائحة وقال ابن العربي حديث أبي سعيد يعني الذي
أخرجه الترمذي بلفظ ضحى بكبش فحل أي كامل الخلقة لم تقطع أنثياه يرد رواية موجوأين
وتعقب باحتمال أن يكون ذلك وقع في وقتين (قوله وقال يحيى بن سعيد سمعت أبا أمامة بن سهل
قال كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون) وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق
أحمد بن حنبل عن عباد بن العوام أخبرني يحيى بن سعيد وهو الأنصاري ولفظه كان المسلمون
يشتري أحدهم الأضحية فيسمنها ويذبحها في آخر ذي الحجة قال أحمد هذا الحديث عجيب قال
ابن التين كان بعض المالكية يكره تسمين الأضحية لئلا يتشبه باليهود وقول أبي أمامة أحق قاله
الداودي (قوله كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحى بكبشين وأنا أضحي بكبشين هكذا في هذه
7

الطريق وقائل ذلك هو أنس بينه النسائي في روايته وهذه الرواية مختصرة ورواية أبي قلابة
المذكورة عقبها مبينة لكن في هذه زيادة قول أنس أنه كان يضحى بكبشين للاتباع وفيها أيضا
إشعار بالمداومة على ذلك فتمسك به من قال الضأن في الأضحية أفضل (قوله في رواية أبي قلابة
إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده) الأملح بالمهملة هو الذي فيه سواد وبياض والبياض
أكثر ويقال هو الأغبر وهو قول الأصمعي وزاد الخطابي هو الأبيض الذي في خلل صوفه
طبقات سود ويقال الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي وبه تمسك الشافعية في تفضيل
الأبيض في الأضحية وقيل الذي يعلوه حمرة وقيل الذي ينظر في سواد ويمشي في سواد ويأكل في
سود ويبرك في سواد أي أن مواضع هذه منه سود وما عدا ذلك أبيض وحكى ذلك الماوردي
عن عائشة وهو غريب ولعله أراد الحديث الذي جاء عنها كذا لكن ليس فيه وصفه بالأملح
وسيأتي قريبا أن مسلما أخرجه فإن ثبت فلعله كان في مرة أخرى واختلف في اختيار هذه
الصفة فقيل لحسن منظره وقيل لشحمه وكثرة لحمه واستدل به على اختيار العدد في الأضحية ومن
ثم قال الشافعية أن الأضحية بسبع شياه أفضل من البعير لان الدم المراق فيها أكثر والثواب
يزيد بحسبه وأن من أراد أن يضحي بأكثر من واحد يعجله وحكى الروياني من الشافعية استحباب
التفريق على أيام النحر قال النووي هذا أرفق بالمساكين لكنه خلاف السنة كذا قال
والحديث دال على اختيار التثنية ولا يلزم منه أن من أراد أن يضحي بعدد فضحى أول يوم باثنين ثم
فرق البقية على أيام النحر أن يكون مخالفا للسنة وفيه أن الذكر في الأضحية أفضل من الأنثى
وهو قول أحمد وعنه رواية أن الأنثى أولى وحكى الرافعي فيه قولين عن الشافعي أحدهما عن
نصه في البويطي الذكر لان لحمه أطيب وهذا هو الأصح والثاني أن الأنثى أولى قال الرافعي وإنما
يذكر ذلك في جزاء الصيد عند التقويم والأنثى أكثر قيمة فلا تفدي بالذكر أو أراد الأنثى التي
لم تلد وقال ابن العربي الأصح أفضلية الذكور على الإناث في الضحايا وقيل هما سواء وفيه
استحباب التضحية بالأقرن وأنه أفضل من الأجم مع الاتفاق على جواز التضحية بالأجم وهو
الذي لا قرن له واختلفوا في مكسور القرن وفيه استحباب مباشرة المضحي الذبح بنفسه
واستدل به على مشروعية استحسان الأضحية صفة ولونا قال الماوردي إن اجتمع حسن المنظر
مع طيب المخبر في اللحم فهو أفضل وإن انفردا فطيب المخبر أولى من حسن المنظر وقال أكثر
الشافعية أفضلها البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء ثم البلقاء ثم السوداء وسيأتي بقية فوائد حديث
أنس بعد أبواب (قوله فذبحهما بيده) سيأتي البحث فيه قريبا (قوله وقال إسماعيل وحاتم
ابن وردان عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أنس) يعني أنهما خالفا عبد الوهاب الثقفي في شيخ
أيوب فقال هو أبو قلابة وقالا محمد بن سيرين فأما حديث إسماعيل وهو ابن علية فقد وصله
المصنف بعد أربعة أبواب في أثناء حديث وهو مصير منه إلى أن الطريقين صحيحان وهو كذلك
لاختلاف سياقهما وأما حديث حاتم بن وردان فوصله مسلم من طريقه (قوله تابعه وهيب
عن أيوب) كذا وقع في رواية أبي ذر وقدم الباقون متابعة وهيب على روايتي إسماعيل وحاتم
وهو الصواب لان وهيبا إنما رواه عن أيوب عن أبي قلابة متابعا لعبد الوهاب الثقفي وقد وصله
الإسماعيلي من طريقه كذلك قال ابن التين إنما قال أولا قال إسماعيل وثانيا تابعه وهيب
8

لان القول يستعمل على سبيل المذاكرة والمتابعة تستعمل عند النقل والتحمل (قلت)
لو كان هذا على إطلاقه لم يخرج البخاري طريق إسماعيل في الأصول ولم ينحصر التعليق الجازم في
المذاكرة بل الذي قال إن البخاري لا يستعمل ذلك إلا في المذاكرة لا مستند له (قوله الليث عن
يزيد) هو ابن أبي حبيب بينه المصنف في كتاب الشركة (قوله أعطاه غنما) هو أعم من الضأن
والمعز (قوله على صحابته) يحتمل أن يكون الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون
لعقبة فعلى كل يحتمل أن تكون الغنم ملكا للنبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقسمتها بينهم تبرعا
ويحتمل أن تكون من الفئ واليه جنح القرطبي حيث قال في الحديث إن الامام ينبغي له
أن يفرق الضحايا على من لم يقدر عليها من بيت مال المسلمين وقال ابن بطال إن كان قسمها بين
الأغنياء فهي من الفئ وأن كان خص بها الفقراء فهي من الزكاة وقد ترجم له البخاري في
الشركة باب قسمة الغنم والعدل فيها وكأنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لعقبة
ما يعطيه لكل واحد منهم وهو لا يوكل إلا بالعدل وإلا لو كان وكل ذلك لرأيه لعسر عليه لان الغنم
لا يتأتى فيها قسمة الاجزاء وأما قسمة التعديل فتحتاج إلى رد لان استواء قسمتها على التحرير بعيد
(قلت) ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بها عنهم ووقعت القسمة في اللحم
فتكون القسمة قسمة الاجزاء كما تقدم توجيهه عن ابن المنير قبل أبواب (قوله فبقي عتود)
بفتح المهملة وضم المثناة الخفيفة وهو من أولاد المعز ما قوي ورعى وأتى عليه حول والجمع أعتدة
وعتدان وتدغم التاء في الدال فيقال عدان وقال ابن بطال العتود الجذع من المعز ابن خمسة
أشهر وهذا يبين المراد بقوله في الرواية الأخرى عن عقبة كما مضى قريبا جذعة وأنها كانت من
المعز وزعم ابن حزم أن العتود لا يقال إلا للجذع من المعز وتعقبه بعض الشراح بما وقع في كلام
صاحب المحكم أن العتود الجدي الذي استكرش وقيل الذي بلغ السفاد وقيل هو الذي أجذع
(قوله فقال ضح به أنت) زاد البيهقي في روايته من طريق يحيى بن بكير عن الليث ولا رخصة فيها
لاحد بعدك وسأذكر البحث في هذه الزيادة في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى واستدل به على
أجزاء الأضحية بالشاة الواحدة وكأن المصنف أراد بإيراد حديث عقبة في هذه الترجمة وهي ضحية
النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين الاستدلال على أن ذلك ليس على الوجوب بل على الاختيار فمن
ذبح واحدة أجزأت عنه ومن زاد فهو خير والأفضل الاتباع في الأضحية بكبشين ومن نظر إلى
كثرة اللحم قال كالشافعي الأفضل الإبل ثم الضأن ثم البقر قال ابن العربي وافق الشافعي أشهب
من المالكية ولا يعدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم شئ لكن يمكن التمسك بقول ابن عمر يعني
الماضي قريبا كان يذبح وينحر بالمصلى أي فإنه يشمل الإبل وغيرها قال لكنه عموم والتمسك
بالصريح أولى وهو الكبش (قلت) قد أخرج البيهقي من حديث ابن عمر كان النبي صلى الله
عليه وسلم يضحى بالمدينة بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد جزروا فلو كان ثابتا لكان نصا في
موضع النزاع لكن في سنده عبد الله بن نافع وفيه مقال وسيأتي حديث عائشة أن النبي صلى الله
عليه وسلم ضحى عن نسائه بالبقر في باب من ذبح ضحية غيره وقد ثبت في حديث عروة عن عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سواد ويبرك في سواد فأضجعه ثم
ذبحه ثم قال بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحي أخرجه مسلم قال
9

الخطابي قولها يطأ في سواد الخ تريد أن أظلافه ومواضع البروك منه وما أحاط بملاحظ عينيه من
وجهه أسود وسائر بدنه أبيض (قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة
ضح بالجذع من المعز ولن تجزى عن أحد بعدك) أشار بذلك إلى أن الضمير في قول النبي صلى الله
عليه وسلم في الرواية التي ساقها اذبحها للجذعة التي تقدمت في قول الصحابي أن عندي داجنا
جذعة من المعز (قوله حدثنا مطرف) هو ابن طريف بمهملة وزن عقيل وعامر هو الشعبي
(قوله ضحى خال لي يقال له أبو بردة) في رواية زبيد عن الشعبي في أول الأضاحي أبو بردة بن نيار
وهو بكسر النون وتخفيف الياء المثناة من تحت وآخره راء واسمه هانئ واسم جده عمرو بن عبيد
وهو بلوي من حلفاء الأنصار وقد قيل أن اسمه الحرث بن عمرو وقيل مالك بن هبيرة والأول هو
الأصح وأخرج ابن منده من طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن البراء قال كان اسم خالي قليلا
فسماه النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا وقال يا كثير إنما نسكنا بعد صلاتنا ثم ذكر حديث الباب
بطوله وجابر ضعيف وأبو بردة ممن شهد العقبة وبدرا والمشاهد وعاش إلى سنة اثنين وقيل خمس
وأربعين وله في البخاري حديث سيأتي في الحدود (قوله شاتك شاة لحم) أي ليست أضحية بل هو
لحم ينتفع به كما وقع في رواية زبيد فإنما هو لحم يقدمه لأهله وسيأتي في باب الذبح بعد الصلاة وفي
رواية فراس عند مسلم قال ذاك شئ عجلته لأهلك وقد استشكلت الإضافة في قوله شاة لحم وذلك
أن الإضافة قسمان معنوية ولفظية فالمعنوية إما مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد
أو بفي كضرب اليوم معناه ضرب في اليوم وأما اللفظية فهي صفة مضافة إلى معمولها
كضارب زيد وحسن الوجه ولا يصح شئ من الأقسام الخمسة في شاة لحم قال الفاكهي والذي
يظهر لي أن أبا بردة لما اعتقد أن شاته شاة أضحية أوقع صلى الله عليه وسلم في الجواب قوله شاة
لحم موقع قوله شاة غير أضحية (قوله إن عندي داجنا) الداجن التي تألف البيوت وتستأنس
وليس لها سن معين ولما صار هذا الاسم علما على ما تألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى
فيه المذكر والمؤنث والجذعة تقدم بيانها وقد بين في هذه الرواية أنها من المعز ووقع في
الرواية الأخرى كما سيأتي بيانه فإن عندنا عناقا وفي رواية أخرى عناق لبن والعناق بفتح العين
وتخفيف النون الأنثى من ولد المعز عند أهل اللغة ولم يصب الداودي في زعمه أن العناق هي التي
استحقت أن تحمل وأنها تطلق على الذكر والأنثى وأنه بين بقوله لبن أنها أنثى قال ابن التين غلط في
نقل اللغة وفي تأويل الحديث فإن معنى عناق لبن أنها صغيرة سن ترضع أمها ووقع عند الطبراني
من طريق سهل بن أبي حثمة أن أبا بردة ذبح ذبيحته ابسحر فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
إنما الأضحية ما ذبح بعد الصلاة أذهب فضح فقال ما عندي الا جذعة من المعز الحديث (قلت)
وسيأتي بيان ذلك عند ذكر التعاليق التي ذكرها المصنف عقب هذه الرواية وزاد في رواية
أخرى هي أحب إلي من شاتين وفي رواية لمسلم من شاتي لحم والمعنى أنها أطيب لحما وأنفع
للآكلين لسمنها ونفاستها وقد استشكل هذا بما ذكر في عتق ان عتق نفسين أفضل من عتق
نفس واحدة ولو كانت أنفس منهما وأجيب بالفرق بين الأضحية والعتق أن الأضحية يطلب
فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزلتين والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله
بفك الرقبة فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة نعم إن عرض للواحد وصف يقتضى
10

رفعته على غيره كالعلم وأنواع الفضل المتعدي فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه
للمسلمين ووقع في الرواية الأخرى التي في أواخر الباب وهي خير من مسنة وحكى ابن التين عن
الداودي أن المسنة التي سقطت أسنانها للبدل وقال أهل اللغة المسن الثني الذي يلقى سنه
ويكون في ذات الخف في السنة السادسة وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة وقال
ابن فارس إذا دخل ولد الشاة في الثالثة فهو ثنى ومسن (قوله قال اذبحها ولا تصلح لغيرك) في
رواية فراس الآتية في باب من ذبح قبل الامام أأذبحها قال نعم ثم لا تجزى عن أحد بعدك
ولمسلم من هذا الوجه ولن تجزى الخ وكذا في رواية أبي جحيفة عن البراء كما في أواخر هذا الباب
ولن تجزى عن أحد بعدك وفي حديث سهل بن أبي حثمة وليس فيها رخصة لاحد بعدك وقوله
تجزى بفتح أوله غير مهموز أي تقضي يقال جزا عني فلان كذا أي قضى ومنه لا تجزى نفس عن
نفس شيا أي لا تقضي عنها قال ابن بري الفقهاء يقولون لا تجزئ بالضم والهمز في موضع
لا تقضى والصواب بالفتح وترك الهمز قال لكن يجوز الضم والهمز بمعنى الكفاية يقال
أجزأ عنك وقال صاحب الأساس بنو تميم يقولون البدنة تجزى عن سبعة بضم أوله وأهل الحجاز
تجزى بفتح أوله وبهما قرئ لا تجزى نفس عن نفس شيا وفي هذا تعقب على من نقل الاتفاق على
منع ضم أوله وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بأجزاء الجذع من المعز في الأضحية لكن وقع في
عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة ففي حديث عقبة بن عامر كما تقدم قريبا ولا رخصة
فيها لاحد بعدك قال البيهقي أن كانت هذه الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما
رخص لأبي بردة (قلت) وفي هذا الجمع نظر لان في كل منهما صيغة عموم فأيهما تقدم على الآخر
اقتضى انتفاء الوقوع للثاني وأقرب ما يقال فيه إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد أو تكون
خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني ولا مانع من ذلك لأنه لم يقع في السياق
استمرار المنع لغيره صريحا وقد انفصل ابن التين وتبعه القرطبي عن هذا الاشكال باحتمال أن
يكون العتود كان كبير السن بحيث يجزي لكنه قال ذلك بناء على أن الزيادة التي في آخره لم تقع
له ولا يتم مراده مع وجودها مع مصادمته لقول أهل اللغة في العتود وتمسك بعض المتأخرين
بكلام ابن التين فضعف الزيادة وليس بجيد فإنها خارجة من مخرج الصحيح فإنها عند البيهقي من
طريق عبد الله البوشنجي أحد الأئمة الكبار في الحفظ والفقه وسائر فنون العلم رواها عن يحيى
ابن بكير عن الليث بالسند الذي ساقه البخاري ولكنني رأيت الحديث في المتفق للجوزقي من
طريق عبيد بن عبد الواحد ومن طريق أحمد بن إبراهيم بن ملحان كلاهما عن يحيى بن بكير
وليست الزيادة فيه فهذا هو السر في قول البيهقي أن كانت محفوظة فكأنه لما رأى التفرد خشي
أن يكون دخل على راويها حديث في حديث وقد وقع في كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم
الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل الجمع وليس بمشكل فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس
فيها التصريح بالنفي إلا في قصة أبي بردة في الصحيحين وفي قصة عقبة بن عامر في البيهقي وأما ما عدا
ذلك فقد أخرج أبو داود وأحمد وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه
وسلم أعطاه عتودا جذعا فقال ضح به فقلت أنه جذع أفأضحي به قال نعم ضح به فضحيت به لفظ أحمد
وفي صحيح ابن حبان وابن ماجة من طريق عباد بن تميم عن عويمر بن أشقر أنه ذبح أضحيته قبل أن
11

يغدو يوم الأضحى فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد أضحية أخرى وفي الطبراني الأوسط
من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز
فأمره أن يضحي به وأخرجه الحاكم من حديث عائشة وفي سنده ضعف ولأبي يعلى والحاكم
من حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزول وهذا جذع من
المعز سمين وهو خيرهما أفأضحي به قال ضح به فإن لله الخير وفي سنده ضعف والحق أنه لا منافاة
بين هذه الأحاديث وبين حديثي أبي بردة وعقبة لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الامر ثم تقرر
الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك وإنما قلت ذلك لان
بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا عقبة وأبا بردة في ذلك والمشاركة إنما وقعت في مطلق الاجزاء
لا في خصوص منع الغير ومنهم من زاد فيهم عويمر بن أشقر وليس في حديثه إلا مطلق الإعادة
لكونه ذبح قبل الصلاة وأما ما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي زيد الأنصاري أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار اذبحها ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك فهذا يحمل
على أنه أبو بردة بن نيار فإنه من الأنصار وكذا ما أخرجه أبو يعلى والطبراني من حديث أبي جحيفة
أن رجلا ذبح قبل الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجزى عنك قال أن عندي
جذعة فقال تجزى عنك ولا تجزى بعد فلم يثبت الاجزاء لاحد ونفيه عن الغير الا لأبي بردة وعقبة
وأن تعذر الجمع الذي قدمته فحديث أبي بردة أصح مخرجا والله أعلم قال الفاكهي ينبغي النظر في
اختصاص أبي بردة بهذا الحكم وكشف السر فيه وأجيب بأن الماوردي قال أن فيه
وجهين أحدهما أن ذلك كان قبل استقرار الشرع فاستثنى والثاني أنه علم من طاعته
وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه (قلت) وفي الأول نظر لأنه لو كان سابقا لامتنع وقوع ذلك لغيره بعد
التصريح بعدم الاجزاء لغيره والفرض ثبوت الاجزاء لعدد غيره كما تقدم وفي الحديث أن
الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور وعن عطاء وصاحبه الأوزاعي يجوز مطلقا وهو وجه
لبعض الشافعية حكاه الرافعي وقال النووي وهو شاذ أو غلط وأغرب عياض فحكى الاجماع
على عدم الاجزاء قيل والاجزاء مصادر النص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره
ويكون معنى نفى الاجزاء عن غير من أدن له في ذلك محمولا على من وجد وأما الجذع من الضأن
فقال الترمذي أن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم لكن
حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزي مطلقا سواء كان من الضأن أم من غيره وممن
حكاه عن ابن عمر ابن المنذر في الاشراف وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف وأطنب في
الرد على من أجازه ويحتمل أن يكون ذلك أيضا مقيدا بمن لم يجد وقد صح فيه حديث جابر رفعه
لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن أخرجه مسلم وأبو داود
والنسائي وغيرهم لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل والتقدير يستحب
لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن قال وليس فيه تصريح بمنع
الجذعة من الضأن وأنها لا تجزى قال وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره لان
الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود
غيره وعدمه فتعين تأويله (قلت) ويدل للجمهور الأحاديث الماضية قريبا وكذا حديث أم
12

هلال بنت هلال عن أبيها رفعه يجوز الجذع من الضأن أضحية أخرجه ابن ماجة وحديث رجل
من بني سليم يقال له مجاشع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أن الجذع يوفي ما يوفى منه الثني
أخرجه أبو داود وابن ماجة وأخرجه النسائي من وجه آخر لكن لم يسم الصحابي بل وقع عنده
أنه رجل من مزينة وحديث معاذ بن عبد الله بن حبيب عن عقبة بن عامر ضحينا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بجذاع من الضأن أخرجه النسائي بسند قوي وحديث أبي هريرة رفعه
نعمت الأضحية الجذعة من الضأن أخرجه الترمذي وفي سنده ضعف واختلف القائلون بأجزاء
الجذع من الضأن وهم الجمهور في سنة على آراء أحدها أنه ما أكمل سنة ودخل في الثانية وهو
الأصح عند الشافعية وهو الأشهر عند أهل اللغة ثانيها نصف سنة وهو قول الحنفية والحنابلة
ثالثها سبعة أشهر وحكاه صاحب الهداية من الحنفية عن الزعفراني رابعها ستة أو سبعة
حكاه الترمذي عن وكيع خامسها التفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين
فيكون ابن ثمانية سادسها ابن عشر سابعها لا يجزي حتى يكون عظيما حكاه ابن العربي وقال إنه
مذهب باطل كذا قال وقد قال صاحب الهداية أنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت
بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت وقال العبادي من الشافعية لو أجذع قبل السنة
أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ أما بالسن وإما
بالاحتلام وهكذا قال البغوي الجذع ما استكمل السنة أو أجذع قبلها والله أعلم (قوله ثم
قال من ذبح قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فإنما يذبح لنفسه) أي وليس أضحية (ومن ذبح بعد
الصلاة فقد تم نسكه) أي عبادته (وأصاب سنة المسلمين) أي طريقتهم هكذا وقع في هذه الرواية
أن هذا الكلام وقع بعد قصة أبي بردة بن نيار والذي في معظم الروايات كما سيأتي قريبا من رواية
زبيد عن الشعبي أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الخطبة بعد الصلاة وأن
خطاب أبي بردة بما وقع له كان قبل ذلك وهو المعتمد ولفظه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب
فقال أن أول ما نبدأ به من يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا فقال
أبو بردة يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي وتقدم في العيدين من طريق منصور عن الشعبي عن
البراء قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا
ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فإنه لا نسك له فقال أبو بردة فذكر
الحديث وسيأتي بيان الحكم في هذا قريبا في باب من ذبح قبل الصلاة أعاد إن شاء الله تعالى
واستدل به على وجوب الأضحية على من التزم الأضحية فأفسد ما يضحى به ورده الطحاوي بأنه لو
كان كذلك لتعرض إلى قيمة الأولى ليلزم بمثلها فلما لم يعتبر ذلك دل على أن الامر بالإعادة كان على
جهة الندب وفيه بيان ما يجزي في الأضحية لا على وجوب الإعادة وفي الحديث من الفوائد
غير ما تقدم أن المرجع في الاحكام إنما هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قد يخص بعض
أمته بحكم ويمنع غيره منه ولو كان بغير عذر وأن خطابه للواحد يعم جميع المكلفين حتى يظهر
دليل الخصوصية لان السياق يشعر بأن قوله لأبي بردة ضح به أي بالجذع ولو كان يفهم منه
تخصيصه بذلك لما أحتاج إلى أن يقول له ولن تجزى عن أحد بعدك ويحتمل أن تكون فائدة ذلك
قطع إلحاق غيره به في الحكم المذكور لا أن ذلك مأخوذ من مجرد اللفظ وهو قوي واستدل بقوله
13

أذبح مكانها أخرى وفي لفظ أعد نسكا وفي لفظ ضح بها وغير ذلك من الألفاظ المصرحة بالامر
بالأضحية على وجوب الأضحية قال القرطبي في المفهم ولا حجة في شئ من ذلك وإنما المقصود بيان
كيفية مشروعية الأضحية لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ
أو جهلا فبين له وجه تدارك ما فرط منه وهذا معنى قوله لا تجزى عن أحد بعدك أي لا يحصل له
مقصود القربة ولا الثواب كما يقال في صلاة النفل لا تجزى الا بطهارة وستر عورة قال وقد استدل
بعضهم للوجوب بأن الأضحية من شريعة إبراهيم الخليل وقد أمرنا باتباعه ولا حجة فيه لأنا
نقول بموجبه ويلزمهم الدليل على أنها كانت في شريعة إبراهيم واجبة ولا سبيل إلى علم ذلك ولا
دلالة في قصة الذبيح للخصوصية التي فيها والله أعلم وفيه أن الامام يعلم الناس في خطبة العيد
أحكام النحر وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته وبه قال
الجمهور وقد تقدمت الإشارة إليه قبل وعن أبي حنيفة والثوري يكره وقال الخطابي لا يجوز
أن يضحى بشاة واحدة عن اثنين وادعى نسخ ما دل عليه حديث عائشة الآتي في باب من ذبح
ضحية غيره وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وفيه أن العمل
وأن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد من
غير لحم الأضحية لقوله إنما هو لحم قدمه لأهله وفيه كرم الرب سبحانه وتعالى لكونه شرع لعبيده
الأضحية مع ما لهم فيها من الشهوة بالاكل والادخار ومع ذلك فأثبت لهم الاجر في الذبح ثم من
تصدق أثيب وإلا لم يأثم (قوله تابعه عبيدة عن الشعبي وإبراهيم وتابعه وكيع عن حريث عن
الشعبي) قلت أما عبيدة فهو بصيغة التصغير وهو ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد
المثناة وكسرها بعدها موحدة الضبي وروايته عن الشعبي يعني عن البراء بهذه القصة وأما
قوله وإبراهيم فيعني النخعي وهو من طريق إبراهيم منقطع وليس لعبيدة في البخاري سوى
هذا الموضع الواحد وأما متابعة حريث وهو بصيغة التصغير وهو ابن أبي مطر واسمه عمرو
الأسدي الكوفي وما له أيضا في البخاري سوى هذا الموضع وقد وصله أبو الشيخ في كتاب
الأضاحي من طريق سهل بن عثمان العسكري عن وكيع عن حريث عن الشعبي عن البراء أن
خاله سأل فذكر الحديث وفيه عندي جذعة من المعز أو في منها وفي هذا تعقب على الدارقطني في
الافراد حيث زعم أن عبيد الله بن موسى تفرد بهذا عن حريث وساقه من طريقه بلفظ قال
فعندي جذعة معز سمينة (قوله وقال عاصم وداود عن الشعبي عندي عناق لبن) أما عاصم فهو
ابن سليمان الأحول وقد وصله مسلم من طريق عبد الواحد بن زياد عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم نحر فقال لا يضحين أحد حتى يصلي فقال رجل عندي
عناق لبن وقال في آخره ولا تجزى جذعة عن أحد بعدك وأما داود فهو ابن أبي هند فوصله مسلم
أيضا من طريق هشيم عنه عن الشعبي عن البراء بلفظ إن خاله أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح
النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري فقال أعد نسكا فقال
إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم قال هي خير نسيكتيك ولا تجزى جذعة عن أحد بعدك
(قوله وقال زبيد وفراس عن الشعبي عندي جذعة) أما رواية زبيد وهو بالزاي ثم الموحدة
مصغر فوصلها المؤلف في أول الأضاحي كذلك وأما رواية فراس وهو بكسر الفاء وتخفيف الراء
14

وآخره مهملة ابن يحيى فوصلها أيضا المؤلف في باب من ذبح قبل الصلاة أعاد (قوله وقال
أبو الأحوص حدثنا منصور عناق جذعة) هو بالتنوين فيهما ورواية منصور هذه وهو ابن
المعتمر وصلها المؤلف من الوجه المذكور عنه عن الشعبي عن البراء في العيدين (قوله وقال ابن
عون هو عبد الله (عناق جذع عناق لبن) يعني أن في روايته عن الشعبي عن البراء باللفظين
جميعا لفظ عاصم ومن تابعه ولفظ منصور ومن تابعه وقد وصل المؤلف رواية ابن عون في كتاب
الايمان والنذور من طريق معاذ بن معاذ عن ابن عون باللفظ المذكور (قوله عن سلمة) هو
ابن كهيل وصرح أحمد وبه في روايته عن محمد بن جعفر بهذا الاسناد وأبو جحيفة هو الصحابي
المشهور (قوله ذبح أبو بردة) هو ابن نيار الماضي ذكره (قوله أبدلها) بموحدة وفتح أوله وقد
تقدم بيانه في قوله أذبح مكانها أخرى (قوله قال شعبة وأحسبه قال هي خير من مسنة) في
رواية أبي عامر العقدي عن شعبة عند مسلم هي خير من مسنة ولم يشك (قوله اجعلها مكانها)
أي اذبحها وقد تمسك بهذا الامر من ادعى وجوب الأضحية ولا دلالة فيه لأنه ولو كان ظاهر الامر
الوجوب إلا أن قرينة إفساد الأولى تقتضي أن يكون الامر بالإعادة لتحصيل المقصود وهو أعم
من أن يكون في الأصل واجبا أو مندوبا وقال الشافعي يحتمل أن يكون الامر بالإعادة
للوجوب ويحتمل أن يكون الامر بالإعادة للإشارة إلى أن التضحية قبل الصلاة لا تقع أضحية
فأمره بالإعادة ليكون في عداد من ضحى فلما احتمل ذلك وجدنا الدلالة على عدم الوجوب في
حديث أم سلمة المرفوع إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي قال فلو كانت الأضحية واجبة لم
يكل ذلك إلى الإرادة وأجاب من قال بالوجوب بأن التعليق على الإرادة لا يمنع القول بالوجوب
فهو كما قيل من أراد الحج فليكثر من الزاد فان ذلك لا بدل على أن الحج لا يجب وتعقب بأنه
لا يلزم من كون ذلك لا يدل على عدم الوجوب ثبوت الوجوب بمجرد الامر بالإعادة لما تقدم من
احتمال إرادة الكمال وهو الظاهر والله أعلم (قوله وقال حاتم بن وردان الخ) تقدم ذكر من
وصله في الباب الذي قبله ولم يسق مسلم لفظه لكنه قال يمثل حديثهما يعني رواية إسماعيل بن
علية عن أيوب ورواية هشام عن محمد بن سيرين (قوله باب من ذبح الأضاحي
بيده) أي وهل يشترط ذلك أو هو الأولى وقد اتفقوا على جواز التوكيل فيها للقادر لكن عند
المالكية رواية بعدم الاجزاء مع القدرة وعند أكثرهم يكره لكن يستحب أن يشهدها ويكره
أن يستنيب حائضا أو صبيا أو كتابيا وأولهم أولى ثم ما يليه (قوله ضحى) كذا في رواية شعبة
بصيغة الفعل الماضي وكذا في رواية أبي عوانة الآتية قريبا عن قتادة وفي رواية همام الآتية
قريبا أيضا عن قتادة كان يضحي وهو أظهر في المداومة على ذلك (قوله بكبشين أملحين) زاد في
رواية أبي عوانة وفي رواية همام كلاهما عن قتادة أقرنين وسيأتيان قريبا وتقدم مثله في رواية
أبي قلابة قبل باب (قوله فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما) أي على صفاح كل منهما عند ذبحه
والصفاح بكسر الصاد المهملة وتخفيف الفاء وآخره حاء مهملة الجوانب والمراد الجانب
الواحد من وجه الأضحية وإنما ثنى إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما فهو من إضافة الجمع إلى
المثنى بإرادة التوزيع (قوله يسمى ويكبر) في رواية أبي عوانة وسمي وكبر والأول أظهر في وقوع
15

ذلك عند الذبح وفي الحديث غير ما تقدم مشروعية التسمية عند الذبح وقد تقدم في الذبائح
بيان من اشترطها في صفة الذبح وفيه استحباب التكبير مع التسمية واستحباب وضع الرجل
على صفحة عنق الأضحية الأيمن واتفقوا على أن إضجاعها يكون على الجانب الأيسر فيضع
رجله على الجانب الأيمن ليكون أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وامساك رأسها بيده
اليسار (قوله باب من ذبح ضحية غيره) أراد بهذه الترجمة بيان أن التي قبلها
ليست للاشتراط (قوله وأعان رجل ابن عمر في بدنته) أي عند ذبحها وهذا وصله عبد الرزاق عن
ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة ورجل يمسك
بحبل في رأسها وابن عمر يطعن قال ابن المنير هذا الأثر لا يطابق الترجمة إلا من جهة أن الاستعانة
إذا كانت مشروعة التحقت بها الاستنابة وجاء في نحو قصة ابن عمر حديث مرفوع أخرجه أحمد
من حديث رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم أضجع أضحيته فقال أعني على
أضحيتي فأعانه ورجاله ثقات (قوله وأمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهن) وصله الحاكم في
المستدرك ووقع لنا بعلو في خبرين كلاهما من طريق المسيب بن رافع أن أبا موسى كان يأمر
بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن وسنده صحيح قال ابن التين فيه جواز ذبيحة المرأة ونقل محمد
عن مالك كراهته (قلت) وقد سبق في الذبائح مبينا وهذا الأثر مباين للترجمة فيحتمل أن يكون
محله في الترجمة التي قبلها أو أراد أن الامر في ذلك على اختيار المضحي وعن الشافعية الأولى
للمرأة أن توكل في ذبح أضحيتها ولا تباشر الذبح بنفسها ثم ذكر المصنف حديث عائشة لما
حاضت بسرف وفيه هذا أمر كتبه الله على بنات آدم وفي آخره وضحى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن نسائه بالبقر ولمسلم من حديث جابر نحر النبي صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة في
حجة الوداع (قوله باب الذبح بعد الصلاة) ذكر فيه حديث البراء في قصة أبي بردة
وقد تقدم شرحه قريبا وسأذكر ما يتعلق بهذه الترجمة في التي بعدها وقوله فيه ولن تجزى أو توفي
شك من الراوي ومعنى توفي أي تكمل الثواب وعند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه
ولن تفي بغير واو ولا شك يقال وفى إذا انجز فهو بمعنى تجزى بفتح أوله (قوله باب
من ذبح قبل الصلاة أعاد) أي أعاد الذبح ذكر فيه ثلاثة أحاديث * الأول حديث أنس (قوله فيه
وذكر هنة) بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث أي حاجة من جيرانه إلى اللحم (قوله
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره) بتخفيف الذال المعجمة من العذر أي قبل عذره ولكن لم
يجعل ما فعله كافيا ولذلك أمره بالإعادة قال ابن دقيق العيد فيه دليل على أن المأمورات إذا
وقعت على خلاف مقتضى الامر لم يعذر فيها بالجهل والفرق بين المأمورات والمنهيات أن
المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بالفعل والمقصود من المنهيات الكف
عنها بسبب مفاسدها ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر (قوله وعندي جذعة)
16

هو معطوف على كلام الرجل الذي عني عنه الراوي بقوله وذكر هنة من جيرانه تقديره هذا
يوم يشتهي فيه اللحم ولجيرانه حاجة فذبحت قبل الصلاة وعندي جذعة وقد تقدمت
مباحثه قبل ثلاثة أبواب * الثاني حديث جندب بن سفيان أورده مختصرا وتقدم في الذبائح من
طريق أبي عوانة عن الأسود بن قيس أتم منه وأوله ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة
فإذا ناس ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة الحديث (قوله ومن لم يذبح فليذبح) في رواية أبي عوانة
ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله وفي رواية لمسلم فليذبح بسم الله أي فليذبح
قائلا بسم الله أو مسميا والمجرور متعلق بمحذوف وهو حال من الضمير في قوله فليذبح وهذا أولى
ما حمل عليه الحديث وصححه النووي ويؤيده ما تقدم في حديث أنس وسمي وكبر وقال عياض
يحتمل أن يكون معناه فليذبح لله والباء تجئ بمعنى اللام ويحتمل أن يكون معناه
بتسمية الله ويحتمل أن يكون معناه متبركا باسمه كما يقال سر على بركة الله ويحتمل أن يكون
معناه فليذبح بسنة الله قال وأما كراهة بعضهم أفعل كذا على اسم الله لأنه اسمه على كل شئ
فضعيف (قلت) ويحتمل وجها خامسا أن يكون معنى قوله بسم الله مطلق الاذن في الذبيحة
حينئذ لان السياق يقتضي المنع قبل ذلك والاذن بعد ذلك كما يقال للمستأذن بسم الله أي ادخل
وقد استدل بهذا الامر في قوله فليذبح مكانها أخرى من قال بوجوب الأضحية قال ابن دقيق
العيد صيغة من في قوله من ذبح صيغة عموم في حق كل من ذبح قبل أن يصلي وقد جاءت لتأسيس
قاعدة وتنزيل صيغة العموم إذا وردت لذلك على الصورة النادرة يستنكر فإذا بعد تخصيصه
بمن نذر أضحية معينة بقي التردد هل الأولى حمله على من سبقت له أضحية معينة أو حمله على ابتداء
أضحيه من غير سبق تعيين فعلى الأول يكون حجة لمن قال بالوجوب على من اشترى الأضحية
كالمالكية فإن الأضحية عندهم تجب بالتزام اللسان وبنية الشراء وبنية الذبح وعلى الثاني
يكون لا حجة لمن أوجب الضحية مطلقا لكن حصل الانفصال ممن لم يقل بالوجوب بالأدلة الدالة
على عدم الوجوب فيكون الامر الندب واستدل به من اشترط تقدم الذبح من الامام بعد
صلاته وخطبته لان قوله من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى إنما صدر منه بعد صلاته
وخطبته وذبحه فكأنه قال من ذبح قبل فعل هذه الأمور فليعد أي فلا يعتد بما ذبحه قال ابن
دقيق العيد وهذا استدلال غير مستقيم لمخالفته التقييد بلفظ الصلاة والتعقيب بالفاء * الحديث
الثالث حديث البراء أورده من طريق فراس بن يحيى عن الشعبي وقد تقدمت مباحثه قريبا
(قوله من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا) المراد من كان على دين الاسلام (قوله فلا يذبح) أي
الأضحية (حتى ينصرف) تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة
وإنما شرطوا فراغ الخطيب لان الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة فيعتبر مقدار
الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن
الأضحية سواء صلى العيد أم لا وسواء ذبح الامام أضحيته أم لا ويستوي في ذلك أهل المصر
والحاضر والبادي ونقل الطحاوي عن مالك والأوزاعي والشافعي لا تجوز أضحية قبل أن يذبح
الامام وهو معروف عن مالك والأوزاعي لا الشافعي قال القرطبي ظواهر الأحاديث تدل على
تعليق الذبح بالصلاة لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل
17

الصلاة على وقتها وقال أبو حنيفة والليث لا ذبح قبل الصلاة ويجوز بعدها ولو لم يذبح الامام
وهو خاص بأهل المصر فأما أهل القرى والبوادي فيدخل وقت الأضحية في حقهم إذا طلع الفجر
الثاني وقال مالك يذبحون إذا نحر أقرب أئمة القرى إليهم فإن نحروا قبل أجزأهم وقال عطاء
وربيعة يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس وقال أحمد وإسحق إذا فرغ الامام من الصلاة جازت
الأضحية وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل وأن ضعفه بعضهم ومثله قول الثوري يجوز
بعد صلاة الامام قبل خطبته وفي أثنائها ويحتمل أن يكون قوله حتى ينصرف أي من الصلاة
كما في الروايات الأخر وأصرح من ذلك ما وقع عند أحمد من طريق يزيد بن البراء عن أبيه رفعه
إنما الذبح بعد الصلاة ووقع في حديث جندب عند مسلم من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها
أخرى قال ابن دقيق العيد هذا اللفظ أظهر في اعتبار فعل الصلاة من حديث البراء أي حيث جاء
فيه من ذبح قبل الصلاة قال لكن أن أجريناه على ظاهره اقتضى أن لا تجزئ الأضحية في حق
من لم يصل العيد فإن ذهب إليه أحد فهو أسعد الناس بظاهر هذا الحديث وإلا وجب الخروج
عن هذا الظاهر في هذه الصورة ويبقى ما عداها في محل البحث وتعقب بأنه قد وقع في صحيح
مسلم في رواية أخرى قبل أن يصلي أو نصلي بالشك قال النووي الأولى بالياء والثانية بالنون وهو
شك من الراوي فعلى هذا إذا كان بلفظ يصلي ساوى لفظ حديث البراء في تعليق الحكم بفعل
الصلاة (قلت) وقد وقع عند البخاري في حديث جندب في الذبائح بمثل لفظ البراء وهو خلاف
ما يوهمه سياق صاحب العمدة فإنه ساقه على لفظ مسلم وهو ظاهر في اعتبار فعل الصلاة
فإن إطلاق لفظ الصلاة وإرادة وقتها خلاف الظاهر وأظهر من ذلك قوله قبل أن نصلي بالنون
وكذا قوله قبل أن ننصرف سواء قلنا من الصلاة أم من الخطبة وأرعى بعض الشافعية أن معنى
قوله صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى أي بعد أن يتوجه من مكان
هذا القول لأنه خاطب بذلك من حضره فكأنه قال من ذبح قبل فعل هذا من الصلاة والخطبة
فليذبح أخرى أي لا يعتد بما ذبحه ولا يخفي ما فيه وأورد الطحاوي ما أخرجه مسلم من حديث
ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة فتقدم
رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا قال ورواه حماد بن
سلمة عن أبي الزبير عن جابر بلفظ أن رجلا ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى
أن يذبح أحد قبل الصلاة وصححه ابن حبان ويشهد لذلك قوله في حديث البراء أن أول ما نصنع
أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر فإنه دال على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة ولا يشترط
التأخير إلى نحر الامام ويؤيده من طريق النظر أن الامام لو لم ينحر لم يكن ذلك مسقطا عن الناس
مشروعية النحر ولو أن الامام نحر قبل أن يصلي لم يجزئه نحره فدل على أنه هو والناس في وقت
الأضحية سواء وقال المهلب إنما كره الذبح قبل الامام لئلا يشتغل الناس بالذبح عن الصلاة
(قوله فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله فعلت) أي ذبحت قبل الصلاة ووقع عند مسلم من
هذا الوجه نسكت عن ابن لي وقد تقدم توجيهه (قوله هي خير من مسنتين) كذا وقع هنا بالتثنية
وهي مبالغة ووقع في رواية غيره من مسنة بالافراد وتقدم توجيهه أيضا (قوله قال عامر هي
خير نسيكتيه) كذا فيه بالتثنية وفيه ضم الحقيقة إلى المجاز بلفظ واحد فإن النسيكة هي التي
18

أجزأت عنه وهي الثانية والأولى لم تجز عنه لكن أطلق عليها نسيكة لأنه نحرها على أنها نسيكة
أو نحرها في وقت النسيكة وإنما كانت خيرهما لأنها أجزأت عن الأضحية بخلاف الأولى وفي
الأولى خير في الجملة باعتبار القصد الجميل ووقع عند مسلم من هذا الوجه قال ضح بها فإنها خير
نسيكة ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني ابن القصار أنه استدل بتسميتها نسيكة على أنه
لا يجوز بيعها ولو ذبحت قبل الصلاة ولا يخفي وجه الضعف عليه (قوله باب وضع
القدم على صفح الذبيحة) ذكر فيه حديث أنس ويضع رجله على صفحتهما وقد تقدمت مباحثه
قريبا (قوله باب التكبير عند الذبح) ذكر فيه حديث أنس أيضا وقد تقدم
أيضا (قوله باب إذا بعث بهديه ليذبح لم يحرم عليه شئ) ذكر فيه حديث عائشة
وقد تقدمت مباحثه في كتاب الحج وأحمد بن محمد شيخه هو المروزي وعبد الله هو ابن المبارك
وإسماعيل هو ابن أبي خالد وقوله فيه إن رجلا يبعث بالهدى هو زياد بن أبي سفيان وقد تقدم نقله
عن ابن عباس وغيره وقوله فسمعت تصفيقها من وراء الحجاب أي ضربت إحدى يديها على
الأخرى تعجبا أو تأسفا على وقوع ذلك واستدل الداودي بقولها هديه على أن الحديث الذي
روته ميمونة مرفوعا إذا دخل عشر ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره
يكون منسوخا بحديث عائشة أو ناسخا قال ابن التين ولا يحتاج إلى ذلك لان عائشة إنما
أنكرت أن يصير من يبعث هديه محرما بمجرد بعثه ولم تتعرض على ما يستحب في العشر خاصة من
اجتناب إزالة الشعر والظفر ثم قال لكن عموم الحديث يدل على ما قال الداودي وقد استدل به
الشافعي على إباحة ذلك في عشر ذي الحجة قال والحديث المذكور أخرجه مسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي (قلت) هو من حديث أم سلمة لا من حديث ميمونة فوهم الداودي في النقل
وفي الاحتجاج أيضا فإنه لا يلزم من دلالته على عدم اشتراط ما يجتنبه المحرم على المضحي أنه
لا يستحب فعل ما ورد به الخير المذكور لغير المحرم والله أعلم (قوله باب ما يؤكل من
لحوم الأضاحي) أي من غير تقييد بثلث ولا نصف (وما يتزود منها) أي للسفر وفي الحضر وبيان
ان التقييد بثلاثة أيام إما منسوخ وإما خاص بسبب فيه أحاديث * الأول حديث جابر (قوله
لحوم الأضاحي) تقدم البحث في قوله إلى المدينة في باب ما كان السلف يدخرون من كتاب
الأطعمة (قوله وقال غير مرة لحوم الهدى) فاعل قال هو سفيان بن عيينة وقائل ذلك الراوي
عنه علي بن عبد الله وهو ابن المديني بين أن سفيان كان تارة يقول لحوم الأضاحي ومرارا يقول
لحوم الهدى ووقع في رواية الكشميهني هنا وقال غيره وهو تصحيف وقد تقدم في الباب المذكور
من رواية أخرى عن سفيان لحوم الهدى * الثاني (قوله حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس
وسليمان هو ابن بلال ويحيى بن سعيد هو الأنصاري والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق
وابن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة اسمه عبد الله والاسناد كله مدنيون وفيه ثلاثة من
التابعين في نسق يحيى والقاسم وشيخه وفيه صحابيان أبو سعيد وقتادة بن النعمان (قوله فقدم)
أي من السفر (فقدم) بضم القاف وتشديد الدال المكسورة أي وضع بين يديه (قوله فقال
19

أخروه) فعل أمر من التأخير (لا أذوقه) أي لا آكل منه (قوله قال ثم قمت فخرجت) قد تقدم
في غزوة بدر من كتاب المغازي من رواية الليث عن يحيى بن سعيد بهذا الاسناد بلفظ أن أبا سعيد
قدم من سفر فقدم إليه أهله لحما من لحوم الأضاحي فقال ما أنا بآكله حتى أسأل (قوله فخرجت
حتى أتى أخي أبا قتادة وكان أخاه لأمه) كذا لأبي ذر ووافقه الأصيلي والقابسي في روايتهما
عن أبي زيد المروزي وأبي أحمد الجرجاني وهو وهم وقال الباقون حتى أتى أخي قتادة وهو
الصواب وقد تقدم في رواية الليث فانطلق إلى أخيه لامه قتادة بن النعمان وزعم بعض من لم
يمعن النظر في ذلك أنه وقع في كل النسخ أبا قتادة وليس كما زعم وقد نبه على اختلاف الرواة في ذلك
أبو علي الجياني في تقييده وتبعه عياض وآخرون وأم أبي سعيد وقتادة المذكورة أنيسة بنت
أبي خارجة عمرو بن قيس بن مالك من بني عدي بن النجار ذكر ذلك بن سعد (قوله حدث
بعدك أمر) زاد الليث نقض لما كانوا ينهون عنه من أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وقد
أخرجه أحمد من رواية محمد بن إسحاق قال حدثني أبي ومحمد بن علي بن حسين عن عبد الله بن
خباب مطولا ولفظه عن أبي سعيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل لحوم
نسكنا فوق ثلاث قال فخرجت في سفر ثم قدمت على أهلي وذلك بعد الأضحى بأيام فأتتني صاحبتي
بسلق قد جعلت فيه قديدا فقالت هذا من ضحايانا فقلت لها أو لم ينهنا فقالت إنه رخص للناس
بعد ذلك فلم أصدقها حتى بعثت إلى أخي قتادة بن النعمان فذكره وفيه قد أرخص رسول الله
صلى الله عليه وسلم للمسلمين في ذلك وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان من طريق زينب بنت
كعب عن أبي سعيد فقلب المتن جعل راوي الحديث أبا سعيد والممتنع من الاكل قتادة بن
النعمان وما في الصحيحين أصح وأخرجه أحمد من وجه آخر فجعل القصة لأبي قتادة وأنه سأل
قتادة بن النعمان عن ذلك أيضا وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في حجة الوداع فقال
إني كنت أمرتكم ألا تأكلوا الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم وإني أحله لكم فكلوا منه
ما شئتم الحديث فبين في هذا الحديث وقت الاحلال وأنه كان في حجة الوداع وكأن أبا سعيد
ما سمع ذلك وبين فيه أيضا السبب في التقييد وأنه لتحصيل التوسعة بلحوم الأضاحي لمن لم يضح
* الثالث حديث سلمة بن الأكوع وهو من ثلاثياته (قوله فلما كان العام المقبل قالوا
يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي) يستفاد منه أن النهي كان سنة تسع لما دل عليه
الذي قبله أن الاذن كان في سنة عشر قال ابن المنير وجه قولهم هل نفعل كما كنا نفعل مع أن
النهي يقتضي الاستمرار لانهم فهموا ان ذلك النهي ورد على سبب خاص فلما احتمل عندهم عموم
النهي أو خصوصه من أجل السبب سألوا فأرشدهم إلى أنه خاص بذلك العام من أجل السبب
المذكور وقوله كلوا وأطعموا تمسك به من قال بوجوب الاكل من الأضحية ولا حجة فيه لأنه
أمر بعد حظر فيكون للإباحة واستدل به على أن العام إذا ورد على سبب خاص ضعفت دلالة
العموم حتى لا يبقى على أصالته لكن لا يقتصر فيه على السبب (قوله وادخروا) بالمهملة وأصله
من ذخر بالمعجمة دخلت عليه تاء الافتعال ثم أدغمت ومنه قوله تعالى وادكر بعد أمة ويؤخذ من
الاذن في الادخار الجواز خلافا لمن كرهه وقد ورد في الادخار كان يدخر لأهله قوت سنة وفي رواية
كان لا يدخر لغد والأول في الصحيحين والثاني في مسلم والجمع بينهما أنه كان لا يدخر لنفسه
20

ويدخر لعياله أو أن ذلك كان باختلاف الحال فيتركه عند حاجة الناس إليه ويفعله عند عدم
الحاجة (قوله كان بالناس جهد) بالفتح أي مشقة من جهد قحط السنة (قوله فأردت أن تعينوا
فيها) كذا هنا من الإعانة وفي رواية مسلم عن محمد بن المثنى عن أبي عاصم شيخ البخاري فيه فأردت
أن تفشوا فيهم وللإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي خيثمة عن أبي عاصم فأردت أن تقسموا فيهم
كلوا وأطعموا وادخروا قال عياض الضمير في تعينوا فيها للمشقة المفهومة من الجهد أو من
الشدة أو من السنة لأنها سبب الجهد وفي تفشوا فيهم أي في الناس المحتاجين إليها قال في المشارق
ورواية البخاري أوجه وقال في شرح مسلم ورواية مسلم أشبه (قلت) قد عرفت أن مخرج
الحديث وأحد ومداره على أبي عاصم وأنه تارة قال هذا وتارة قال هذا والمعنى في كل صحيح فلا
وجه للترجيح * الحديث الرابع حديث عائشة (قوله إسماعيل بن عبد الله) هو ابن أبي أويس
الذي روى عنه حديث أبي سعيد وقوله حدثني أخي هو أبو بكر عبد الحميد وسليمان هو ابن
بلال ويحيى بن سعيد هو الأنصاري فإسماعيل في حديث أبي سعيد يروي عن سليمان بن بلال بغير
واسطة وفي حديث عائشة هذا يروي عنه بواسطة وقد تكرر له هذا في عدة أحاديث وذلك
يرشد إلى أنه كان لا يدلس (قوله الضحية) بفتح المعجمة وكسر الحاء المهملة (قوله نملح منه) أي من
لحم الأضحية في رواية الكشميهني منها أي من الأضحية (قوله فنقدم) بسكون القاف وفتح الدال
من القدوم وفي رواية بفتح القاف وتشديد الدال أي نضعه بين يديه وهو أوجه (قوله فقال
لا تأكلوا) أي منه هذا صريح في النهي عنه ووقع في رواية الترمذي من طريق عابس بن ربيعة
عن عائشة أنها سألت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الأضاحي فقالت لا
والجمع بينهما أنها نفت نهي التحريم لا مطلق النهي ويؤيده قوله في هذه الرواية وليست بعزيمة
(قوله وليست بعزيمة ولكن أراد أن نطعم منه) بضم النون وسكون الطاء أي نطعم غيرنا قال
الإسماعيلي بعد أن أخرج هذا الحديث عن علي بن العباس عن البخاري بسنده إلى قوله بالمدينة
كأن الزيادة من قوله بالمدينة الخ من كلام يحيى بن سعيد (قلت) بل هو من جملة الحديث فقد
أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن البخاري بتمامه وتقدم في الأطعمة من طريق عابس بن ربيعة
قلت لعائشة أنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤكل من لحوم الأضاحي فوق ثلاث قالت
ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغني الفقير والطحاوي من هذا الوجه أكان
يحرم لحوم الأضاحي فوق ثلاث قالت لا ولكنه لم يكن يضحي منهم إلا القليل ففعل ليطعم من
ضحى منهم من لم يضح وفي رواية مسلم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة إنما نهيتكم
من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا وأول الحديث عند مسلم دف ناس من
أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادخروا لثلاث وتصدقوا
بما بقى فلما كان بعد ذلك قيل يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم فقال إنما
نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا قال الخطابي الدف يعني بالمهملة
والفاء الثقيلة السير السريع والدافة من يطرأ من المحتاجين واستدل بإطلاق هذه الأحاديث
على أنه لا تقييد في القدر الذي يجزي من الاطعام ويستحب للمضحي أن يأكل من الأضحية شيئا
ويطعم الباقي صدقة وهدية وعن الشافعي يستحب قسمتها أثلاثا لقوله كلوا وتصدقوا وأطعموا
21

قال ابن عبد البر وكان غيره يقول يستحب أن يأكل النصف ويطعم النصف وقد أخرج أبو الشيخ
في كتاب الأضاحي من طريق عطاء بن يسار عن أبي هريرة رفعه من ضحى فليأكل من أضحيته
ورجاله ثقات لكن قال أبو حاتم الرازي الصواب عن عطاء مرسل قال النووي مذهب الجمهور
أنه لا يجب الاكل من الأضحية وإنما الامر فيه للاذن وذهب بعض السلف إلى الاخذ بظاهر
الامر وحكاه الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية وأما الصدقة منها فالصحيح أنه يجب
التصدق من الأضحية بما يقع عليه الاسم والأكمل أن يتصدق بمعظمها * الحديث الخامس
والسادس والسابع أحاديث أبي عبيد عن عمر ثم عن عثمان ثم عن علي (قوله عبد الله) هو ابن
المبارك ويونس هو ابن يزيد وأبو عبيد مولى بن أزهر أي عبد الرحمن بن أزهر بن عوف ابن أخي
عبد الرحمن بن عوف وأبو عبيد اسمه سعد بن عبيد (قوله قد نهاكم عن صيام هذين العيدين)
تقدمت مباحثه في أواخر كتاب الصيام واستدل به على أن النهي عن الشئ إذا اتحدت جهته
لم يجز فعله كصوم يوم العيد فإنه لا ينفك عن الصوم فلا يتحقق فيه جهتان فلا يصح بخلاف ما إذا
تعددت الجهة كالصلاة في الدار المغصوبة فإن الصلاة تتحقق في غير المغصوب فيصح في المغصوب
مع التحريم والله أعلم (قوله قال أبو عبيد) هو موصول بالسند المذكور (قوله ثم شهدت العيد)
لم يبين كونه أضحى أو فطرا والظاهر أنه الأضحى الذي قدمه في حديثه عن عمر فتكون اللام فيه
للعهد (قوله وكان ذلك يوم الجمعة) أي يوم العيد (قوله قد اجتمع لكم فيه عيدان) أي يوم
الأضحى ويوم الجمعة (قوله من أهل العوالي) جمع العالية وهي قرى معروفة بالمدينة (قوله
فلينتظر) أي يتأخر إلى أن يصلى الجمعة (قوله ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له) استدل به من
قال بسقوط الجمعة عمن صلى العيد إذا وافق العيد يوم الجمعة وهو محكى عن أحمد وأجيب بأن
قوله أذنت له ليس فيه تصريح بعدم العود وأيضا فظاهر الحديث في كونهم من أهل العوالي
أنهم لم يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة لبعد منازلهم عن المسجد وقد ورد في أصل المسئلة حديث
مرفوع (قوله ثم شهدته) أي العيد ودل السياق على أن المراد به الأضحى وهو يؤيد ما تقدم في
حديث عثمان وأصرح من ذلك ما وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي عبيد
أنه سمع عليا يقول يوم الأضحى وللنسائي من طريق غندر عن معمر بسنده شهدت عليا في يوم
عيد بدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة ثم قال سمعت فذكر المرفوع (قوله نهاكم أن
تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث) زاد عبد الرزاق في روايته فلا تأكلوها بعدها قال القرطبي
اختلف في أول الثلاث التي كان الادخار فيها جائزا فقيل أولها يوم النحر فمن ضحى فيه جاز له أن
يمسك يومين بعده ومن ضحى بعده أمسك ما بقي له من الثلاثة وقيل أولها يوم يضحى فلو ضحى في
آخر أيام النحر جاز له أن يمسك ثلاثا بعدها ويحتمل أن يؤخذ من قوله فوق ثلاث أن لا يحسب
اليوم الذي يقع فيه النحر من الثلاث وتعتبر الليلة التي تليه وما بعدها (قلت) ويؤيده ما في
حديث جابر كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى فإن ثلاث منى تتناول يوما بعد يوم النحر
لأهل النفر الثاني قال الشافعي لعل عليا لم يبلغه النسخ وقال غيره يحتمل أن يكون الوقت الذي
قال علي فيه ذلك كان بالناس حاجة كما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبذلك جزم ابن حزم
فقال إنما خطب علي بالمدينة في الوقت الذي كان عثمان حوصر فيه وكان أهل البوادي
22

قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة فأصابهم الجهد فلذلك قال علي ما قال (قلت) أما كون علي خطب
به وعثمان محصورا فأخرجه الطحاوي من طريق الليث عن عقيل عن الزهري في هذا الحديث
ولفظه صليت مع علي العيد وعثمان محصور وأما الحمل المذكور فلما أخرج أحمد والطحاوي
أيضا من طريق مخارق بن سليم عن علي رفعه أني كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث
فادخروا ما بدا لكم ثم جمع الطحاوي بنحو ما تقدم وكذلك يجاب عما أخرج أحمد من طريق أم
سليمان قالت دخلت على عائشة فسألتها عن لحوم الأضاحي فقالت كان النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عنها ثم رخص فيها فقدم علي من السفر فأتته فاطمة بلحم من ضحاياها فقال أو لم ننه عنه
قالت إنه قد رخص فيها فهذا علي قد اطلع على الرخصة ومع ذلك خطب بالمنع فطريق الجمع
ما ذكرته وقد جزم به الشافعي في الرسالة في آخر باب العلل في الحديث فقال ما نصه فإذا دفت
الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث وأن لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالاكل
والتزود والادخار والصدقة قال الشافعي ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الأضاحي
بعد ثلاث منسوخا في كل حال (قلت) وبهذا الثاني أخذ المتأخرون من الشافعية فقال الرافعي
الظاهر أنه لا يحرم اليوم بحال وتبعه النووي فقال في شرح المهذب الصواب المعروف أنه لا يحرم
الادخار اليوم بحال وحكى في شرح مسلم عن جمهور العلماء أنه من نسخ السنة بالسنة قال
والصحيح نسخ النهي مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح اليوم الادخار فوق ثلاث والاكل
إلى متى شاء اه‍ وإنما رجح ذلك لأنه يلزم من القول بالتحريم إذا دفت الدافة إيجاب الاطعام وقد
قامت الأدلة عند الشافعية أنه لا يجب في المال حق سوى الزكاة ونقل ابن عبد البر ما يوافق
ما نقله النووي فقال لا خلاف بين فقهاء المسلمين في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وأن
النهي عن ذلك منسوخ كذا أطلق وليس بجيد فقد قال القرطبي حديث سلمة وعائشة نص على
أن المنع كان لعلة فلما ارتفعت ارتفع لارتفاع موجبه فتعين الاخذ به وبعود الحكم تعود العلة
فلو قدم على أهل بلد ناس محتاجون في زمان الأضحى ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون
بها فاقتهم إلا الضحايا تعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث (قلت) والتقييد بالثلاث واقعة حال
وإلا فلو لم تستد الخلة إلا بتفرقة الجميع لزم على هذا التقرير عدم الامساك ولو ليلة واحدة وقد
حكى الرافعي عن بعض الشافعية أن التحريم كان لعلة فلما زالت زال الحكم لكن لا يلزم عود
الحكم عند عود العلة (قلت) واستبعدوه وليس ببعيد لان صاحبه قد نظر إلى أن الخلة لم تستد
يومئذ إلا بما ذكر فأما الآن فإن الخلة تستد بغير لحم الأضحية فلا يعود الحكم إلا لو فرض أن
الخلة لا تستد إلا بلحم الأضحية وهذا في غاية الندور وحكى البيهقي عن الشافعي أن النهي عن
أكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث كان في الأصل للتنزيه قال وهو كالأمر في قوله تعالى فكلوا
منها وأطعموا القانع وحكاه الرافعي عن أبي علي الطبري احتمالا وقال المهلب أنه الصحيح
لقول عائشة وليس بعزيمة والله أعلم واستدل بهذه الأحاديث على أن النهي عن الاكل فوق
ثلاث خاص بصاحب الأضحية فإما من أهدى له أو تصدق عليه فلا لمفهوم قوله من أضحيته وقد
جاء في حديث الزبير بن العوام عند أحمد وأبي يعلى ما يفيد ذلك ولفظه قلت يا نبي الله أرأيت قد
نهى المسلمون أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث فكيف نصنع بما أهدي لنا قال أما
23

ما أهدي إليكم فشأنكم به فهذا نص في الهدية وأما الصدقة فإن الفقير لا حجر عليه في التصرف
فيما يهدى له لان القصد أن تقع المواساة من الغني للفقير وقد حصلت (قوله و عن معمر عن
الزهري عن أبي عبيد نحوه) هذا ظاهره أنه معطوف على السند المذكور فيكون من رواية
حبان بن موسى عن ابن المبارك عن معمر وبهذا جزم أبو العباس الطرقي في الأطراف وهو
مقتضي صنيع المزي لكن أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحسن بن سفيان عن حبان
ابن موسى فساق رواية يونس بتمامها ثم أخرجه من رواية يزيد بن زريع عن معمر وقال أخرجه
البخاري عقب رواية ابن المبارك عن يونس (قلت) فاحتمل على هذا أن تكون رواية معمر معلقة
وقد بينت ما فيها من فائدة زائدة قبل ويؤيده أن الإسماعيلي أخرجه عن الحسن بن سفيان عن
حبان بسنده ومن طريق ابن وهب عن يونس ومالك كلاهما عن ابن شهاب به ثم قال قال
البخاري وعن معمر عن الزهري عن أبي عبيد نحوه ولم يذكر الخبر أي لم يوصل السند إلى معمر
* الحديث الثامن (قوله محمد بن عبد الرحيم) هو المعروف بصاعقة وابن أخي ابن شهاب اسمه
محمد بن عبد الله بن مسلم وسالم هو ابن عبد الله بن عمر (قوله كلوا من الأضاحي ثلاثا) أي فقط
ولمسلم من طريق معمر نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وله من طريق نافع عن ابن عمر
لا يأكل أحد من أضحيته فوق ثلاثة أيام (قوله وكان عبد الله) أي ابن عمر (يأكل بالزيت)
سيأتي بيانه (قوله حين ينفر من منى) هذا هو الصواب ووقع في رواية الكشميهني وحده حتى بدل
حين وهو تصحيف يفسد المعنى فإن المراد أن ابن عمر كان لا يأكل من لحم الأضحية بعد ثلاث فكان
إذا انقضت ثلاث منى ائتدم بالزيت ولا يأكل اللحم تمسكا بالامر المذكور ويدل عليه قوله في
آخر الحديث من أجل لحوم الهدي وكأنه أيضا لم يبلغه الاذن بعد المنع وعلى رواية الكشميهني
ينعكس الامر ويصير المعنى كان يأكل بالزيت إلى أن ينفر فإذا نفر أكل بغير الزيت فيدخل فيه
لحم الأضحية وأما تعبيره في الحديث بالهدى فيحتمل أن يكون ابن عمر كان يسوى بين لحم
الهدى ولحم الأضحية في الحكم ويحتمل أن يكون أطلق على لحم الأضحية لحم الهدى لمناسبة أنه
كان بمنى وفي هذه الأحاديث من الفوائد غير ما تقدم نسخ الأثقل بالأخف لان النهي عن ادخار
لحم الأضحية بعد ثلاث مما يثقل على المضحين والاذن في الادخار أخف منه وفيه رد على من يقول
إن النسخ لا يكون إلا بالأثقل للأخف وعكسه ابن العربي زعما أن الاذن في الادخار نسخ بالنهي
وتعقب بأن الادخار كان مباحا بالبراءة الأصلية فالنهي عنه ليس نسخا وعلى تقدير أن يكون نسخا
ففيه نسخ الكتاب بالسنة لان في الكتاب الاذن في أكلها من غير تقييد لقوله تعالى فكلوا منها
وأطعموا ويمكن أن يقال إنه تخصيص لا نسخ وهو الاظهر * (خاتمة) * اشتمل كتاب الأضاحي
من الأحاديث المرفوعة على أربعة وأربعين حديثا المعلق منها خمسة عشر والبقية موصولة
المكرر منها فيه وفيما مضى تسعة وثلاثون حديثا والخالص خمسة وافقه مسلم على تخريجها
سوى حديث قتادة بن النعمان في الباب الأخير وسوى زيادة معلقة في حديث أنس وهي قوله
بكبشين سمينين فإن أصل الحديث عند مسلم سوى قوله سمينين وفيه من الآثار عن الصحابة
فمن بعدهم سبعة آثار والله سبحانه وتعالى أعلم
* (قوله كتاب الأشربة) *
24

وقول الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس الآية) كذا لأبي ذر وساق الباقون
إلى المفلحون كذا ذكر الآية وأربعة أحاديث تتعلق بتحريم الخمر وذلك أن الأشربة منها ما يحل
وما يحرم فينظر في حكم كل منهما ثم في الآداب المتعلقة بالشرب فبدأ بتبين المحرم منها لقلته
بالنسبة إلى الحلال فإذا عرف ما يرحم كان ما عداه حلالا وقد بينت في تفسير المائدة الوقت الذي
نزلت فيه الآية المذكورة وأنه كان في عام الفتح قبل الفتح ثم رأيت الدمياطي في سيرته جزم بأن
تحريم الخمر كان سنة الحديبية والحديبية كانت سنة ست وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني
النضير وهي بعد وقعة أحد وذلك سنة أربع على الراجح وفيه نظر لان أنسا كما سيأتي في الباب
الذي بعده كان الساقي يوم حرمت وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها فلو كان ذلك سنة
أربع لكان أنس يصغر عن ذلك وكأن المصنف لمح بذكر الآية إلى بيان السبب في نزولها وقد
مضى بيانه في تفسير المائدة أيضا من حديث عمر وأبي هريرة وغيرهما وأخرج النسائي والبيهقي
بسند صحيح عن ابن عباس أنه لما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا فلما ثمل القوم
عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول صنع هذا أخي
فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت
في قلوبهم الضغائن فأنزل الله عز وجل هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر إلى منتهون
قال فقال ناس من المتكلفين هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد فأنزل الله تعالى
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إلى المحسنين ووقعت هذه الزيادة في
حديث أنس في البخاري كما مضى في المائدة ووقعت أيضا في حديث البراء عند الترمذي وصححه
ومن حديث ابن عباس عند أحمد لما حرمت الخمر قال ناس يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم
يشربونها وسنده صحيح وعند البزار من حديث جابر أن الذي سأل عن ذلك اليهود وفي حديث
أبي هريرة الذي ذكرته في تفسير المائدة نحو الأول وزاد في آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم
لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن يستفاد تحريم الخمر من هذه
الآية من تسميتها رجسا وقد سمي به ما أجمع على تحريمه وهو لحم الخنزير ومن قوله من عمل
الشيطان لان مهما كان من عمل الشيطان حرم تناوله ومن الامر بالاجتناب وهو
للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله ومن الفلاح المرتب على الاجتناب ومن كون
الشرب سببا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين وتعاطي ما يوقع ذلك حرام ومن كونها تصد عن
ذكر الله وعن الصلاة ومن ختام الآية بقوله تعالى فهل أنتم منهون فإنه استفهام معناه الردع
والزجر ولهذا قال عمر لما سمعها انتهينا انتهينا وسبقه إلى نحو ذلك الطبري وأخرجه الطبراني
وابن مردويه وصححه الحاكم من طريق طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما
نزل تحريم الخمر مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض فقالوا حرمت الخمر
وجعلت عدلا للشرك قيل يشير إلى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر الآية فإن الأنصاب
والأزلام من عمل المشركين بتزين الشيطان فنسب العمل إليه قال أبو الليث السمرقندي
المعنى أنه لما نزل فيها أنها رجس من عمل الشيطان وأمر باجتنابها عادلت قوله تعالى فاجتنبوا
الرجس من الأوثان وذكر أبو جعفر النحاس أن بعضهم استدل لتحريم الخمر بقوله تعالى قل إنما
25

حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وقد قال تعالى في الخمر والميسر
فيهما إثم كبير ومنافع للناس فلما أخبر أن في الخمر إثما كبيرا ثم صرح بتحريم الاثم ثبت تحريم
الخمر بذلك قال وقول من قال إن الخمر تسمى الاثم لم نجد له أصلا في الحديث ولا في اللغة ولا دلالة
أيضا في قول الشاعر
شربت الاثم حتى ضل عقلي * كذاك الاثم يذهب بالعقول
فإنه أطلق الاثم على الخمر مجازا بمعنى أنه ينشأ عنها الاثم واللغة الفصحى تأنيث الخمر وأثبت أبو حاتم
السجستاني وابن قتيبة وغيرهما جواز التذكير ويقال لها الخمرة أثبته فيها جماعة من أهل اللغة
منهم الجوهري وقال ابن مالك في المثلث الخمرة هي الخمر في اللغة وقيل سميت الخمر لأنها تغطي
العقل وتخامره أي تخالطه أو لأنها هي تخمر أي تغطي حتى تغلي أو لأنها تختمر أي تدرك كما يقال
للعجين اختمر أقوال سيأتي بسطها عند شرح قول عمر رضي الله عنه والخمر ما خامر العقل إن شاء
الله تعالى * الحديث الأول حديث ابن عمر من طريق مالك عن نافع عنه وهو من أصح الأسانيد
(قوله من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة) حرمها بضم المهملة وكسر الراء
الخفيفة من الحرمان زاد مسلم عن القعنبي عن مالك في آخره لم يسقها وله من طريق أيوب عن
نافع بلفظ فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة وزاد مسلم في أول الحديث مرفوعا كل مسكر
خمر وكل مسكر حرام وأورد هذه الزيادة مستقلة أيضا من رواية موسى بن عقبة وعبيد الله بن
عمر كلاهما عن نافع وسيأتي الكلام عليها في باب الخمر من العسل ويأتي كلام ابن بطال فيها في آخر
هذا الباب وقوله ثم لم يتب منها أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال
الخطابي والبغوي في شرح السنة معنى الحديث لا يدخل الجنة لان الخمر شراب أهل الجنة فإذا
حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة وقال ابن عبد البر هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول
الجنة لان الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار الخمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون
فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن في الجنة ولا هم فيها
ولا حزن وأن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم فلهذا قال
بعض من تقدم أنه لا يدخل الجنة أصلا قال وهو مذهب غير مرضي قال ويحمل الحديث عند
أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في
المشيئة فعلى هذا فمعنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا أن عفا
الله عنه قال وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وأن علم
بوجودها فيها ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة
وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو (قلت) أخرجه الطيالسي وصححه ابن حبان
وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو ورفعه من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه
شربها في الجنة أخرجه أحمد بسند حسن وقد لخص عياض كلام ابن عبد البر وزاد احتمالا
آخر وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته ومثله الحديث
الآخر لم يرح رائحة الجنة قال ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول ليس
عليه في ذلك حسرة ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص نعيم بالنسبة إلى من
26

هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم ولا يلحق من هو أنقص درجة حينئذ بمن هو أعلى درجة
منه استغناه بما أعطي واغتباطا له وقال ابن العربي ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة
ولا يلبس الحرير فيها وذلك لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به فحرمه عند ميقاته كالوارث فإنه
إذا قتل مورثه فإنه يحرم ميراثه لاستعجاله وبهذا قال نفر من الصحابة ومن العلماء وهو موضع
احتمال وموقف إشكال والله أعلم كيف يكون الحال وفصل بعض المتأخرين بين من يشربها
مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لأنه لا يدخل الجنة أصلا وعدم الدخول يستلزم حرمانها
وبين من يشربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه
إن عذب أو المعنى أن ذلك جزاؤه إن جوزي والله أعلم وفي الحديث أن التوبة تكفر المعاصي
الكبائر وهو في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي
أو ظني قال النووي الأقوى أنه ظني وقال القرطبي من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل
توبة الصادقين قطعا وللتوبة الصادقة شروط سيأتي البحث فيها في كتاب الرقاق ويمكن أن
يستدل بحديث الباب على صحة التوبة من بعض الذنوب دون بعض وسيأتي تحقيق ذلك
وفيه أن الوعيد يتناول من شرب الخمر وأن لم يحصل له السكر لأنه رتب الوعيد في الحديث على
مجرد الشرب من غير قيد وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب وكذا فيما يسكر من
غيرها وأما ما لا يسكر من غيرها فالامر فيه كذلك عند الجمهور كما سيأتي بيانه ويؤخذ من
قوله ثم لم يتب منها أن التوبة مشروعة في جميع العمر ما لم يصل إلى الغرغرة لما دل عليه ثم من
التراخي وليست المبادرة إلى التوبة شرطا في قبولها والله أعلم * الحديث الثاني حديث أبي هريرة
(قوله بإيلياء) بكسر الهمز وسكون التحتانية وكسر اللام وفتح التحتانية الخفيفة مع المد هي
مدينة بيت المقدس وهو ظاهر في أن عرض ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وقع وهو في بيت المقدس
لكن وقع في رواية الليث التي تأتي الإشارة إليها إلى أيلياء وليست صريحة في ذلك لجواز أن يريد
تعيين ليلة الايتاء لا محله وقد تقدم بيان ذلك مع بقية شرحه في أواخر الكلام على حديث الاسراء
قبل الهجرة إلى المدينة وقوله فيه ولو أخذت الخمر غوت أمتك هو محل الترجمة (3) قال ابن
عبد البر يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نفر من الخمر لأنه تفرس أنها ستحرم لأنها كانت
حينئذ مباحة ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرم
والآخر تستمر إباحته (قلت) ويحتمل أن يكون نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه
ما سيقع من تحريمها بعد حفظا من الله تعالى له ورعاية واختار اللبن لكونه مألوفا له سهلا طيبا
طاهرا سائغا للشاربين سليم العاقبة بخلاف الخمر في جميع ذلك والمراد بالفطرة هنا الاستقامة على
الدين الحق وفي الحديث مشروعية الحمد عند حصول ما يحمد ودفع ما يحذر وقوله غوت أمتك
يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفأل أو تقدم عنده علم بترتب كل من الامرين وهو أظهر
(قوله تابعه معمر وابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري) يعني بسنده ووقع في غير رواية أبي ذر
زيادة الزبيدي مع المذكورين بعد عثمان ابن عمر فأما متابعة معمر فوصلها المؤلف في قصة
موسى من أحاديث الأنبياء وأول الحديث ذكر موسى وعيسى وصفتهما وليس فيه ذكر
إيلياء وفيه أشرب أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته وأما رواية ابن الهاد وهو يزيد بن عبد الله
27

ابن أسامة بن الهاد الليثي ينسب لجد أبيه فوصلها النسائي وأبو عوانة والطبراني في الأوسط من
طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب وهو الزهري قال الطبراني تفرد به يزيد
ابن الهاد عن عبد الوهاب فعلى هذا فقد سقط ذكر عبد الوهاب من الأصل بين ابن الهاد وابن
شهاب على أن ابن الهاد قد روى عن الزهري أحاديث غير هذا بغير واسطة منها ما تقدم في
تفسير المائدة قال البخاري فيه وقال يزيد بن الهاد عن الزهري فذكره ووصله أحمد وغيره من
طريق ابن الهاد عن الزهري بغير واسطة وأما رواية الزبيدي فوصلها النسائي وابن حبان
والطبراني في مسند الشاميين من طريق محمد بن حرب عنه لكن ليس فيه ذكر إيلياء أيضا
وأما رواية عثمان بن عمر فوصلها تمام الرازي في فوائده من طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن
عثمان عن أبيه عن الزهري به وأما ما ذكره المزي في الأطراف عن الحاكم أنه قال أراد البخاري
بقوله تابعه ابن الهاد وعثمان بن عمر عن الزهري حديث ابن الهاد عن عبد الوهاب وحديث
عثمان بن عمر بن فارس عن يونس كلاهما عن الزهري (قلت) وليس كما زعم الحاكم وأقره
المزي في عثمان بن عمر فإنه ظن أنه عثمان بن عمر بن فارس الراوي عن يونس بن يزيد وليس به وإنما
هو عثمان بن عمر بن موسى بن عبد الله بن عمر التيمي وليس لعثمان بن عمر بن فارس ولد اسمه عمر
يروي عنه وإنما هو ولد التيمي كما ذكرته من فوائد تمام وهو مدني وقد ذكر عثمان الدارمي أنه سأل
يحيى بن معين عن عمر بن عثمان بن عمر المدني عن أبيه عن الزهري فقال لا أعرفه ولا أعرف أباه
(قلت) وقد عرفهما غيره وذكره الزبير بن بكار في النسب عن عثمان المذكور فقال أنه ولي قضاء
المدينة في زمن مروان بن محمد ثم ولي القضاء للمنصور ومات معه بالعراق وذكره ابن حبان في
الثقات وأكثر الدارقطني من ذكره في العلل عند ذكره للأحاديث التي تختلف رواتها عن الزهري
وكثيرا ما ترجح روايته عن الزهري والله أعلم * الحديث الثالث حديث أنس (قوله هشام) هو
الدستوائي (قوله لا يحدثكم به غيري) كأن أنسا حدث به في أواخر عمره فأطلق ذلك
أو كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان قد مات (قوله وتشرب الخمر)
في رواية الكشميهني وشرب الخمر بالإضافة ورواية الجماعة أولى للمشاكلة (قوله حتى يكون
لخمسين) في رواية الكشميهني حتى يكون خمسون امرأة قيمهن رجل واحد وسبق شرح الحديث
مستوفى في كتاب العلم والمراد أن من أشراط الساعة كثرة شرب الخمر كسائر ما ذكر في الحديث
* الحديث الرابع حديث أبي هريرة لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقع في أكثر الروايات
هنا لا يزني حين يزني بحذف الفاعل فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني وقد بينت
هذه الرواية تعيين الاحتمال الثالث (قوله ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال ابن
بطال هذا أشد ما ورد في شرب الخمر وبه تعلق الخوارج فكفروا مرتكب الكبيرة عامدا عالما
بالتحريم وحمل أهل السنة الايمان هنا على الكامل لان العاصي يصير أنقص حالا في الايمان
ممن لا يعصي ويحتمل أن يكون المراد أن فاعل ذلك يئول أمره إلى ذهاب الايمان كما
وقع في حديث عثمان الذي أوله اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث وفيه وإنها لا تجتمع هي والايمان
إلا وأوشك أحدهما أن يخرج صاحبه أخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا وصححه ابن حبان
مرفوعا قال ابن بطال وإنما أدخل البخاري هذه الأحاديث المشتملة على الوعيد الشديد في
28

هذا الباب ليكون عوضا عن حديث ابن عمر كل مسكر حرام وإنما لم يذكره في هذا الباب لكونه
روى موقوفا كذا قال وفيه نظر لان في الوعيد قدرا زائدا على مطلق التحريم وقد ذكر البخاري
ما يؤدي معنى حديث ابن عمر كما سيأتي قريبا (قوله قال ابن شهاب) هو موصول بالاسناد
المذكور (قوله إن أبا بكر أخبره) هو والد عبد الملك شيخ ابن شهاب فيه (قوله ثم يقول كان
أبو بكر) هو ابن عبد الرحمن المذكور والمعنى أنه كان يزيد ذلك في حديث أبي هريرة وقد مضى
بيان ذلك عند ذكر شرح الحديث في كتاب المظالم ويأتي مزيد لذلك في كتاب الحدود إن شاء الله
تعالى (قوله باب الخمر من العنب وغيره) كذا في شرح ابن بطال ولم أر لفظ وغيره في
شئ من نسخ الصحيح ولا المستخرجات ولا الشروح سواه قال ابن المنير غرض البخاري الرد على
الكوفيين إذ فرقوا بين ماء العنب وغيره فلم يرحموا من غيره إلا القدر المسكر خاصة وزعموا أن
الخمر ماء العنب خاصة قال لكن في استدلاله بقول ابن عمر يعني الذي أورده في الباب حرمت الخمر
وما بالمدينة منها شئ على أن الأنبذة التي كانت يومئذ تسمى خمرا نظر بل هو بأن يدل على أن الخمر
من العنب خاصة أجدر لأنه قال وما منها بالمدينة شئ يعني الخمر وقد كانت الأنبذة من غير العنب
موجودة حينئذ بالمدينة فدل على أن الأنبذة ليست خمرا إلا أن يقال أن كلام ابن عمر يتنزل على
جواب قول من قال لا خمر إلا من العنب فيقال قد حرمت الخمر وما بالمدينة من خمر العنب شئ بل
كان الموجود بها من الأشربة ما يصنع من البسر والتمر ونحو ذلك وفهم الصحابة من تحريم الخمر
تحريم ذلك كله ولولا ذلك ما بادروا إلى إراقتها (قلت) ويحتمل أن يكون مراد البخاري بهذه
الترجمة وما بعدها أن الخمر يطلق على ما يتخذ من عصير العنب ويطلق على نبيذ البسر والتمر
ويطلق على ما يتخذ من العسل فعقد لكل واحد منها بابا ولم يرد حصر التسمية في العنب بدليل
ما أورده بعده ويحتمل أن يريد بالترجمة الأولى الحقيقة وبما عداها المجاز والأول أظهر من
تصرفه وحاصله أنه أراد بيان الأشياء التي وردت فيها الاخبار على شرطه لما يتخذ منه الخمر فبدأ
بالعنب لكونه المتفق عليه ثم أردفه بالبسر والتمر والحديث الذي أورده فيه عن أنس ظاهر في
المراد جدا ثم ثلث بالعسل إشارة إلى أن ذلك لا يختص بالتمر والبسر ثم أتى بترجمة عامة لذلك
وغيره وهي الخمر ما خامر العقل والله أعلم وفيه إشارة إلى ضعف الحديث الذي جاء عن أبي
هريرة مرفوعا الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة أو أنه ليس المراد به الحصر فيهما والمجمع
على تحريمه عصير العنب إذا أشتد فإنه يحرم تناول قليله وكثيره بالاتفاق وحكى ابن قتيبة عن
قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة وهو قول مهجور لا يلتفت إلى قائله وحكى
أبو جعفر النحاس عن قوم أن الحرام ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ليس بحرام قال وهذا عظيم
من القول يلزم منه القول بحل كل شئ اختلف في تحريمه ولو كان مستند الخلاف واهيا ونقل
الطحاوي في اختلاف العلماء عن أبي حنيفة الخمر حرام قليلها وكثيرها والسكر من غيرها حرام
وليس كتحريم الخمر والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شئ كان وإنما يحرم منه القدر الذي
يسكر وعن أبي يوسف لا بأس بالنقيع من كل شئ وإن غلى إلا الزبيب والتمر قال وكذا
حكاه محمد عن أبي حنيفة وعن محمد ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرمه وقال
الثوري أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلي ونقيع العسل لا بأس به (قوله حدثني الحسن
29

ابن صباح) هو البزار آخره راء ومحمد بن سابق من شيوخ البخاري وقد يحدث عنه بواسطة
كهذا (قوله حدثنا مالك هو ابن مغول) كان شيخ البخاري حدث به فقال حدثنا مالك ولم
ينسبه فنسبه هو لئلا يلتبس بمالك بن أنس وقد أخرج الإسماعيلي الحديث المذكور من
طريق محمد بن إسحاق الصغاني عن محمد بن سابق فقال عن مالك بن مغول (قوله وما بالمدينة منها
شئ) يحتمل أن يكون ابن عمر نفى ذلك بمقتضى ما علم أو أراد المبالغة من أجل قلتها حينئذ بالمدينة
فأطلق النفي كما يقال فلان ليس بشئ مبالغة ويؤيده قول أنس المذكور في الباب وما نجد خمر
الأعناب إلا قليلا ويحتمل أن يكون مراد ابن عمر وما بالمدينة منها شئ أي يعصر وقد تقدم
في تفسير المائدة من وجه آخر عن ابن عمر قال نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة
ما فيها شراب العنب وحمل على ما كان يصنع بها لا على ما يجلب إليها وأما قول عمر في ثالث
أحاديث الباب نزل تحريم الخمر وهي من خمسة فمعناه أنها كانت حينئذ تصنع من الخمسة
المذكورة في البلاد لا في خصوص المدينة كما سيأتي في تقريره بعد بابين مع شرحه (قوله عن
يونس) هو ابن عبيد البصري (قوله وعامة خمرنا البسر والتمر) أي النبيذ الذي يصير خمرا كان
أكثر ما يتخذ من البسر والتمر قال الكرماني قوله البسر والتمر مجاز عن الشراب الذي يصنع
منهما وهو عكس إني أراني أعصر خمرا أو فيه حذف تقديره عامة أصل خمرنا أو مادته وسيأتي
في الباب الذي بعده من وجه آخر عن أنس قال إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر وتقرير
الحذف فيه ظاهر وأخرج النسائي وصححه الحاكم من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال الزبيب والتمر هو الخمر وسنده صحيح وظاهره الحصر لكن المراد المبالغة
(3) وهو بالنسبة إلى ما كان حينئذ بالمدينة موجودا كما تقرر في حديث أنس وقيل مراد أنس
الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب وقيل مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة
من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر وهذا أظهر والله أعلم (قوله يحيى) هو ابن
سعيد القطان وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي وعامر هو الشعبي (قوله قام عمر على
المنبر فقال أما بعد نزل تحريم الخمر) ساقه من هذا الوجه مختصرا وسيأتي بعد قليل مطولا قال
ابن مالك فيه جواز حذف الفاء في جواب أما بعد (قلت) لا حجة فيه لأن هذه رواية مسدد هنا
وسيأتي قريبا عن أحمد بن أبي رجاء عن يحيى القطان بلفظ خطب عمر على المنبر فقال أنه قد نزل
تحريم الخمر ليس فيه أما بعد وأخرجه الإسماعيلي هنا من طريق محمد بن أبي بكر المقدمي عن
يحيى بن سعيد القطان شيخ مسدد وفيه بلفظ أما بعد فإن الخمر فظهر أن حذف الفاء واثباتها من
تصرف الرواة (قوله باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر) أي تصنع
أو تتخذ وذكر فيه حديث أنس من رواية إسحق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه
المتقدمة في الباب قبله (قوله كنت أسقي أبا عبيدة) هو ابن الجراح وأبا طلحة هو زيد بن سهل
زوج أم سليم أم أنس وأبي بن كعب كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة فأما أبو طلحة
فلكون القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس كنت ساقي القوم في
منزل أبي طلحة وأما أبو عبيدة فلان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين أبي طلحة كما أخرجه
مسلم من وجه آخر عن أنس وأما أبي بن كعب فكان كبير الأنصار وعالمهم ووقع في رواية
30

عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة أني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا كذا وقع
بالابهام وسمي في رواية مسلم منهم أبا أيوب وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس
إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل بن بيضاء وأبو دجانة بضم الدال المهملة وتخفيف
الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات ولمسلم من طريق سعيد
عن قتادة نحوه وسمي فيهم معاذ بن جبل ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس كنت أسقي
أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة ووقع عند عبد الرزاق عن
معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا وقد حصل من الطرق
التي أوردتها تسمية سبعة منهم وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب
ولفظه كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل من قوله
الحي وأطلق عليهم عمومته لانهم كانوا أسن منه ولان أكثرهم من الأنصار ومن المستغربات
ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا فيهم وهو
منكر مع نظافة سنده وما أظنه إلا غلطا وقد أخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة شعبة من حديث
عائشة قالت حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام ويحتمل إن كان
محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم ثم وجدت عند البزار
من وجه آخر عن أنس قال كنت ساقي القوم وكان في القوم رجل يقال له أبو بكر فلما شرب قال
تحيي بالسلامة أم بكر الأبيات فدخل علينا رجل من المسلمين فقال قد نزل تحريم الخمر الحديث
وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق وليس كذلك لكن قرينة ذكر
عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق فحصلنا تسمية عشرة وقد قدمته في غزوة بدر من
المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور وفي كتاب مكة للفاكهي من طريق مرسل ما يشيد ذلك
(قوله من فضيخ زهو وتمر) أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ
وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو هو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب
وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب كما يطلق على خليط البسر والتمر وكما يطلق على البسر
وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس وما
خمرهم يومئذ الا البسر والتمر مخلوطين ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس أسقيهم من
مزادة فيها خليط بسر وتمر (قوله فجاءهم آت) لم أقف على اسمه ووقع في رواية حميد عن أنس
عند أحمد بعد قوله أسقيهم حتى كاد الشراب يأخذ فيهم ولابن مردويه حتى أسرعت فيهم ولابن
أبي عاصم حتى مالت رؤسهم فدخل داخل ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى ولمسلم من هذا الوجه فإذا مناد ينادي أن الخمر قد
حرمت وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد فقال أبو طلحة أخرج فأنظر ما هذا
الصوت ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ إذ جاء رجل فقال هل
بلغكم الخبر قالوا وما ذاك قال قد حرمت الخمر وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي
ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم وقد أخرج ابن مردويه من طريق
بكر بن عبد الله عن أنس قال لما حرمت الخمر وحلف على أناس من أصحابي وهي بين أيديهم
31

فضربتها برجلي وقلت نزل تحريم الخمر فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل لكن
أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها ومن وجه آخر أتانا فلان من
عند نبينا فقال قد حرمت الخمر قلنا ما تقول فقال سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم الساعة ومن
عنده أتيتكم (قوله فقال أبو طلحة قم يا أنس فهرقها) بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف
والأصل أرقها فأبدلت الهمزة هاء وكذا قوله فهرقتها وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء
معا وهو نادر وقد تقدم بسطه في الطهارة ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ فأرقها
ومن رواية عبد العزيز بن صهيب فقالوا أرق هذه القلال يا أنس وهو محمول على أن المخاطب
له بذلك أبو طلحة ورضي الباقون بذلك فنسب الامر بالإراقة إليهم جميعا ووقع في الرواية الثانية في
الباب أكفئها بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها وأصل الأكفاء الإمالة ووقع في باب إجازة خبر
الواحد من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث قم إلى هذه الجرار فاكسرها قال أنس فقمت
إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه
أراقها وكسر أوانيها أو أراق بعضا وكسر بعضا وقد ذكر ابن عبد البر إن إسحق بن أبي طلحة تفرد
عن أنس بذكر الكسر وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات
رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره فلم يذكروا إلا إراقتها
والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا
كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره أو كسر
بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا ووقع في رواية حميد عن أنس
عند أحمد فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير فوالله
ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل ووقع في المظالم فجرت في سكك المدينة أي طرقها وفيه
إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها قال
القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعد من قال أن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسه لأنه صلى الله
عليه وسلم نهى عن التخلي في الطرق فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري
والجواب ان القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف
المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق
المنحدرة بحيث تنصب إلى الأسربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها ويؤيده ما أخرجه ابن
مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال فانصبت حتى استنقعت في بطن
الوادي والتمسك بعموم الامر باجتنابها كاف في القول بنجاستها (قوله قلت لأنس) القائل هو
سليمان التيمي والد معتمر وقوله قال أبو بكر بن أنس وكانت خمرهم زاد مسلم من هذا الوجه يومئذ
وقوله فلم ينكر أنس زاد مسلم ذلك والمعنى أن أبا بكر بن أنس كان حاضرا عند أنس لما حدثهم
فكأن أنسا حينئذ لم يحدثهم بهذه الزيادة إما نسيانا وإما إختصار فذكره بها ابنه أبو بكر فأقره
عليها وقد ثبت تحديث أنس بها كما سأذكره (قوله وحدثني بعض أصحابي) القائل هو سليمان
التيمي أيضا وهو موصول بالسند المذكور وقد أفرد مسلم هذه الطريق عن محمد بن الاعلى عن
معتمر بن سليمان عن أبيه قال حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسا يقول كان خمرهم يومئذ
32

فيحتمل أن يكون أنس حدث بها حينئذ فلم يسمعه سليمان أو حدث بها في مجلس آخر فحفظها عنه
الرجل الذي حدث بها سليمان وهذا المبهم يحتمل ان يكون هو بكر بن عبد الله المزني فان
روايته في آخر الباب تومئ إلى ذلك ويحتمل ان يكون قتادة فسيأتي بعد أبواب من طريقه
عن أنس بلفظ وإنا نعدها يومئذ الخمر وهو من أقوى الحجج على أن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر
سواء كان من العنب أو من نقيع الزبيب أو التمر أو العسل أو غيرهما وأما دعوى بعضهم أن الخمر
حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره فإن سلم في اللغة لزم من قال به جواز استعمال اللفظ الواحد في
حقيقته ومجازه والكوفيون لا يقولون بذلك انتهى وأما من حيث الشرع فالخمر حقيقة في
الجميع لثبوت حديث كل مسكر خمر فمن زعم أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في هذا اللفظ لزم أن
يجيزه وهذا ما لا انفكاك لهم عنه (قوله حدثني يوسف) هو ابن يزيد وهو أبو مشعر البراء
بالتشديد وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه ويقال له أيضا القطان وشهرته بالبراء أكثر وكان
يبرى السهام وهو بصرى وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في الطب وكلاهما
في المتابعات وقد لينه ابن معين وأبو داود ووثقه المقدمي وسعيد بن عبيد الله بالتصغير اسم جده
جبير بالجيم والموحدة مصغرا ابن حية بالمهملة وتشديد التحتانية وثقه أحمد وابن معين وقال
الحاكم عن الدارقطني ليس بالقوي وما له أيضا في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في
الجزية (قوله إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر) هكذا رواه أبو معشر مختصرا وأخرجه
الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن سعيد بن عبيد الله بهذا السند مطولا ولفظه عن أنس
نزل تحريم الخمر فدخلت على أناس من أصحابي وهى بين أيديهم فضربتها برجلي فقلت انطلقوا
فقد نزل تحريم الخمر وشرابهم يومئذ البسر والتمر وهذا الفعل من أنس كأنه بعد أن خرج فسمع
النداء بتحريم الخمر فرجع فأخبرهم ووقع عند ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أنس فأراقوا
الشراب وتوضأ بعض واغتسل بعض وأصابوا من طيب أم سليم وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا هو يقرأ انما الخمر والميسر الآية واستدل بهذا الحديث على أن شرب الخمر كان مباحا لا إلى
نهاية ثم حرمت وقيل كان المباح الشرب لا السكر المزيل للعقل وحكاه أبو نصر بن القشيري
في تفسيره عن القفال ونازعه فيه وبالغ النووي في شرح مسلم فقال ما يقوله بعض من لا تحصيل
عنده أن السكر لم يزل محرما باطل لا أصل له وقد قال الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون فإن مقتضاه وجود السكر حتى يصل إلى الحد المذكور ونهوا عن الصلاة في تلك
الحالة لا في غيرها فدل على أن ذلك كان واقعا ويؤيده قصة حمزة والشارفين كما تقدم تقريره في
مكانه وعلى هذا فهل كانت مباحة بالأصل أو بالشرع ثم نسخت فيه قولان للعلماء والراجح
الأول واستدل به على أن المتخذ من غير العنب يسمى خمرا وسيأتي البحث في ذلك قريبا في باب
ما جاء أن الخمر ما خامر العقل وعلى أن السكر المتخذ من غير العنب يحرم شرب قليله كما يحرم شرب
القليل من المتخذ من العنب إذا أسكر كثيره لان الصحابة فهموا من الامر باجتناب الخمر تحريم
ما يتخذ للسكر من جميع الأنواع ولم يستفصلوا وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء من الصحابة
والتابعين وخالف في ذلك الحنفية ومن قال بقولهم من الكوفيين فقالوا يحرم المتخذ من العنب
قليلا كان أو كثيرا إلا إذا طبخ على تفصيل سيأتي بيانه في باب مفرد فإنه يحل وقد انعقد الاجماع
33

على أن القليل من الخمر المتخذ من العنب يحرم قليله وكثيره وعلى أن العلة في تحريم قليله كونه
يدعو إلى تناول كثيره فيلزم ذلك من فرق في الحكم بين المتخذ من العنب وبين المتخذ من غيرها
فقال في المتخذ من العنب يحرم القليل منه والكثير إلا إذا طبخ كما سيأتي بيانه وفي المتخذ من
غيرها لا يحرم منه إلا القدر الذي يسكر وما دونه لا يحرم ففرقوا بينهما بدعوى المغايرة في الاسم مع
اتحاد العلة فيهما فإن كان ما قدر في المتخذ من العنب يقدر في المتخذ من غيرها قال القرطبي وهذا
من أرفع أنواع القياس لمساواة الفرع فيه للأصل في جميع أوصافه مع موافقته فيه لظواهر
النصوص الصحيحة والله أعلم قال الشافعي قال لي بعض الناس الخمر حرام والسكر من كل شراب
حرام ولا يحرم المسكر منه حتى يسكر ولا يحد شاربها فقلت كيف خالفت ما جاء به عن النبي صلى
الله عليه وسلم ثم عن عمر ثم عن علي ولم يقل أحد من الصحابة خلافه قال وروينا عن عمر (قلت)
في سنده مجهول عنده فلا حجة فيه قال البيهقي أشار إلى رواية سعيد بن ذي لعوة أنه شرب من
سطيحة لعمر فسكر فجلده عمر قال إنما شربت من سطيحتك قال أضربك على السكر وسعيد قال
البخاري وغيره لا يعرف قال وقال بعضهم سعيد بن ذي حدان وهو غلط ثم ذكر البيهقي الأحاديث
التي جاءت في كسر النبيذ بالماء منها حديث همام بن الحرث عن عمر أنه كان في سفر فأتى بنبيذ
فشرب منه فقطب ثم قال أن نبيذ الطائف له عرام بضم المهملة وتخفيف الراء ثم دعا بماء فصبه
عليه ثم شرب وسنده قوي وهو أصح شئ ورد في ذلك وليس نصا في إنه بلغ حد الاسكار فلو كان بلغ
حد الاسكار لم يكن صب الماء عليه مزيلا لتحريمه وقد اعترف الطحاوي بذلك فقال لو كان بلغ
التحريم لكان لا يحل ولو ذهبت شدته بصب الماء فثبت أنه قبل أن يصب عليه الماء كان غير
حرام (قلت) وإذا لم يبلغ حد الاسكار فلا خلاف في إباحة شرب قليله وكثيره فدل على أن تقطيبه
لأمر غير الاسكار قال البيهقي حمل هذه الأشربة على أنهم خشوا أن تتغير فتشتد فجوزوا صب
الماء فيها ليمتنع الاشتداد أولى من حملها على أنها كانت بلغت حد الاسكار فكان صب الماء
عليها لذلك لان مزجها بالماء لا يمنع إسكارها إذا كانت قد بلغت حد الاسكار ويحتمل أن يكون
سبب صب الماء كون ذلك الشراب كان حمض ولهذا قطب عمر لما شربه فقد قال نافع والله
ما قطب عمر وجهه لأجل الاسكار حين ذاقه ولكنه كان تخلل وعن عتبة بن فرقد قال كان النبيذ
الذي شربه عمر قد تخلل (قلت) وهذا الثاني أخرجه النسائي بسند صحيح وروى الأثرم عن
الأوزاعي وعن العمري أن عمر إنما كسره بالماء لشدة حلاوته (قلت) ويمكن الحمل على حالتين
هذه لما لم يقطب حين ذاقه وأما عندما قطب فكان لحموضته واحتج الطحاوي لمذهبهم أيضا بما
أخرجه من طريق النخعي عن علقمة عن ابن مسعود في قوله كل مسكر حرام قال هي الشربة
التي تسكر وتعقب بأنه ضعيف لأنه تفرد به حجاج بن أرطاة عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي
وحجاج هو ضعيف ومدلس أيضا قال البيهقي ذكر هذا لعبد الله بن المبارك فقال هذا باطل وروى
بسند له صحيح عن النخعي قال إذا سكر من شراب لم يحل له أن يعود فيه أبدا (قلت) وهذا أيضا
عند النسائي بسند صحيح ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال ما وجدت الرخصة فيه من
وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله وأخرج النسائي والأثرم من طريق خالد بن سعد عن أبي
مسعود قال عطش النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف فأتى بنبيذ من السقاية فقطب فقيل
34

أحرام هو قال لا علي بذنوب من ماء زمزم فصب عليه وشرب قال الأثرم احتج به الكوفيون
لمذهبهم ولا حجة فيه لانهم متفقون على أن النبيذ إذا أشتد بغير طبخ لا يحل شربه فإن زعموا أن
الذي شربه النبي صلى الله عليه وسلم كان من هذا القبيل فقد نسبوا إليه أنه شرب المسكر ومعاذ الله
من ذلك وأن زعموا أنه قطب من حموضته لم يكن لهم فيه حجة لان النقيع ما لم يشتد فكثيره وقليله
حلال بالاتفاق (قلت) وقد ضعف حديث أبي مسعود المذكور النسائي وأحمد وعبد الرحمن
ابن مهدي وغيرهم لتفرد يحيى بن يمان برفعه وهو ضعيف ثم روى النسائي عن ابن المبارك قال
ما وجدت الرخصة فيه من وجه صحيح إلا عن النخعي من قوله (قوله باب الخمر من
العسل وهو البتع) بكسر الموحدة وسكون المثناة وقد تفتح وهي لغة يمانية (قوله وقال معن)
ابن عيسى (سألت مالك بن أنس عن الفقاع) بضم الفاء وتشديد القاف معروف قد يصنع من
العسل وأكثر ما يصنع من الزبيب وحكمه حكم سائر الأنبذة ما دام طريا يجوز شربه مالم يشتد
(قوله فقال إذا لم يسكر فلا بأس به) أي وإذا أسكر حرم كثيره وقليله (قوله وقال ابن الدراوردي)
هو عبد العزيز بن محمد وهذا من رواية معن بن عيسى عنه أيضا (قوله فقالوا لا يسكر لا بأس به) لم
أعرف الذين سألهم الدراوردي عن ذلك لكن الظاهر أنهم فقهاء أهل المدينة في زمانه وهو قد
شارك مالكا في لقاء أكثر مشايخه المدنيين والحكم في الفقاع ما أجابوه به لأنه لا يسمى فقاعا
إلا إذا لم يشتد وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في الموطأ رواية عن مالك وقد وقع لنا
بالإجازة وغفل بعض الشراح فقال أن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم
الاتصال كذا قال والبخاري لم يلق معن بن عيسى لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى
وعمره حينئذ أربع سنين وكان البخاري أراد بذكر هذا الأثر في الترجمة أن المراد بتحريم قليل
ما أسكر كثيره أن يكون الكثير في تلك الحالة مسكرا فلو كان الكثير في تلك الحالة لا يسكر لم يحرم
قليله ولا كثيره كما لو عصر العنب وشربه في الحال وسيأتي مزيد في بيان ذلك في باب الباذق إن شاء
الله تعالى (قوله سئل عن البتع) زاد شعيب عن الزهري وهو ثاني أحاديث الباب وهو نبيذ
العسل وكان أهل اليمن يشربونه ومثله لأبي داود من طريق الزبيدي عن الزهري وظاهره أن
التفسير من كلام عائشة ويحتمل أن يكون من كلام من دونها ووقع في رواية معمر عن الزهري
عند أحمد مثل رواية مالك لكن قال في آخره والبتع نبيذ العسل وهو أظهر في احتمال الادراج
لأنه أكثر ما يقع في آخر الحديث وقد أخرجه مسلم من طريق معمر لكن لم يسق لفظه ولم أقف
على اسم السائل في حديث عائشة صريحا لكنني أظنه أبا موسى الأشعري فقد تقدم في المغازي
من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن
فسأله عن أشربة تصنع بها فقال ما هي قال البتع والمزر فقال كل مسكر حرام قلت لأبي بردة
ما البتع قال نبيذ العسل وهو عند مسلم من وجه آخر عن سعيد بن أبي بردة بلفظ فقلت يا رسول
الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع من العسل ينبذ حتى يشتد والمزر من الشعير والذرة
ينبذ حتى يشتد قال وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى جوامع الكلم وخواتمه فقال أنهى
عن كل مسكر وفي رواية أبي داود التصريح بأن تفسير البتع مرفوع ولفظه سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل فقال ذاك البتع قلت ومن الشعير والذرة قال ذاك
35

المزر ثم قال أخبر قومك أن كل مسكر حرام وقد سأل أبو وهب الجساني عن شئ ما سأله أبو موسى
فعند الشافعي وأبي داود من حديثه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المزر فأجاب بقوله كل
مسكر حرام وهذه الرواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب (1) كل شراب أسكر وأنه لم يرد
تخصيص التحريم بحالة الاسكار بل المراد أنه إذا كانت فيه صلاحية الاسكار حرم تناوله ولو لم
يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه ويؤخذ من لفظ السؤال أنه وقع عن حكم جنس البتع
لا عن القدر المسكر منه لأنه لو أراد السائل ذلك لقال أخبرني عما يحل منه وما يحرم وهذا هو
المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا هل هذا نافع أو ضار مثلا وإذا سألوا عن القدر
قالوا كم يؤخذ منه وفي الحديث أن المفتي يجيب السائل بزيادة عما سأل عنه إذا كان ذلك مما
يحتاج إليه السائل وفيه تحريم كل مسكر سواء كان متخذا من عصير العنب أو من غيره
قال المازري أجمعوا على أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال وعلى أنه إذا أشتد وغلى وقذف
بالزبد حرم قليله وكثيره ثم لو حصل له تخلل بنفسه حل بالاجماع أيضا فوقع النظر في تبدل هذه
الأحكام عند هذه المتخذات فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض ودل على أن علة التحريم الاسكار
فاقتضى ذلك أن كل شراب وجد فيه الاسكار حرم تناول قليله وكثيره انتهى وما ذكره استنباطا
ثبت التصريح به في بعض طرق الخمر فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسكر كثيره فقليله حرام وللنسائي من حديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده مثله وسنده إلى عمرو صحيح ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا كل
مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر
ابن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيرة
وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث لكن قال اختلفوا في تأويل الحديث فقال بعضهم
أراد به جنس ما يسكر وقال بعضهم أراد به ما يقع السكر عنده ويؤيده أن القاتل لا يسمى
قاتلا حتى يقتل قال ويدل له حديث ابن عباس رفعه حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل
شراب (قلت) وهو حديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه
وفي رفعه ووقفه وعلى تقدير صحته فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه بلفظ والمسكر بضم
الميم وسكون السين لا السكر بضم ثم سكون أبو بفتحتين وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد
ولفظه محتمل فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها وجاء أيضا عن علي عند
الدارقطني وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم
والطبراني وعن زيد بن ثابت عند الطبراني وفي أسانيدها مقال لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها
قوة وشهرة قال أبو المظفر بن السمعاني وكان حنفيا فتحول شافعيا ثبتت الاخبار عن النبي صلى الله
عليه وسلم في تحريم المسكر ثم ساق كثيرا منها ثم قال والاخبار في ذلك كثيرة ولا مساغ لأحمد في
العدول عنها والقول بخلافها فإنها حجج قواطع قال وقد زل الكوفيون في هذا الباب ورووا
أخبارا معلولة لا تعارض هذه الأخبار بحال ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب
مسكرا فقد دخل في أمر عظيم وباء بإثم كبير وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا وقد
روى ثمامة بن حزن القشيري أنه سأل عائشة عن النبيذ فدعت جارية حبشية فقالت سل هذه
36

فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الحبشية كنت أنبذ له في سقاء من
الليل وأوكؤه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه أخرجه مسلم وروى الحسن البصري عن أمه عن
عائشة نحوه ثم قال فقياس النبيذ على الخمر بعلة الاسكار والاضطراب من أجل الأقيسة
وأوضحها والمفاسد التي توجد في الخمر توجد في النبيذ ومن ذلك أن علة الاسكار في الخمر لكون قليله
يدعو إلى كثيرة موجودة في النبيذ لان السكر مطلوب على العموم والنبيذ عندهم عند عدم
الخمر يقوم مقام الخمر لان حصول الفرح والطرب موجود في كل منهما وأن كان في النبيذ غلظ
وكدرة وفي الخمر رقة وصفاء لكن الطبع يحتمل ذلك في النبيذ لحصول السكر كما تحتمل المرارة في
الخمر لطلب السكر قال وعلى الجملة فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر قل أو كثر مغنية عن
القياس والله أعلم وقد قال عبد الله بن المبارك لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن
الصحابة شئ ولا عن التابعين إلا عن إبراهيم النخعي قال وقد ثبت حديث عائشة كل شراب أسكر
فهو حرام وأما ما أخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي وائل كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا
نبيذا شديدا ومن طريق علقمة أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين فشربوا منه
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها لو حمل على ظاهره لم يكن معارضا للأحاديث الثابتة في
تحريم كل مسكر ثانيها أنه ثبت عن ابن مسعود تحريم المسكر قليله وكثيره فإذا اختلف النقل عنه
كان قوله الموافق لقول إخوانه من الصحابة مع موافقة الحديث المرفوع أولى ثالثها يحتمل أن
يكون المراد بالشدة شدة الحلاوة أو شدة الحموضة فلا يكون فيه حجة أصلا وأسند أبو جعفر
النحاس عن يحيى بن معين أن حديث عائشة كل شراب أسكر فهو حرام أصح شئ في الباب وفي
هذا تعقب على من نقل عن ابن معين أنه قال لا أصل له وقد ذكر الزيلعي في تخريج أحاديث
الهداية وهو من أكثرهم اطلاعا أنه لم يثبت في شئ من كتب الحديث نقل هذا عن ابن معين اه‍
وكيف يتأتى القول بتضعيفه مع وجود مخارجه الصحيحة ثم مع كثرة طرقه حتى قال الإمام أحمد
أنها جاءت عن عشرين صحابيا فأورد كثيرا منها في كتاب الأشربة المفرد فمنها ما تقدم منها حديث
ابن عمر المتقدم ذكره أول الباب وحديث عمر بلفظ كل مسكر حرام عند أبي يعلى وفيه الإفريقي
وحديث علي بلفظ اجتنبوا ما أسكر عند أحمد وهو حسن وحديث ابن مسعود عند ابن ماجة من
طريق لين بلفظ عمر وأخرجه أحمد من وجه آخر لين أيضا بلفظ علي وحديث أنس أخرجه أحمد
بسند صحيح بلفظ ما أسكر فهو حرام وحديث أبي سعيد أخرجه البزار بسند صحيح بلفظ عمر
وحديث الأشج العصري أخرجه أبو يعلى كذلك بسند جيد وصححه ابن حبان وحديث ديلم
الحميري أخرجه أبو داود بسند حسن في حديث فيه قال هل يسكر قال نعم قال فاجتنبوه
وحديث ميمونة أخرجه أحمد بسند حسن بلفظ وكل شراب أسكر فهو حرام وحديث ابن عباس
أخرجه أبو داود من طريق جيد بلفظ عمر والبزار من طريق لين بلفظ واجتنبوا كل مسكر
وحديث قبس بن سعد أخرجه الطبراني بلفظ حديث ابن عمر وأخرجه أحمد من وجه آخر بلفظ
حديث عمر وحديث النعمان بن بشير أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ وإني أنهاكم عن كل
مسكر وحديث معاوية أخرجه ابن ماجة بسند حسن بلفظ عمر وحديث وائل بن حجر أخرجه
ابن أبي عاصم وحديث قرة بن إياس المزني أخرجه البزار بلفظ عمر بسند لين وحديث عبد الله بن
37

مغفل أخرجه أحمد بلفظ اجتنبوا المسكر وحديث أم سلمة أخرجه أبو داود بسند حسن بلفظ نهى
عن كل مسكر ومفتر وحديث بريدة أخرجه مسلم في أثناء حديث ولفظه مثل لفظ عمر وحديث أبي
هريرة أخرجه النسائي بسند حسن كذلك ذكر أحاديث هؤلاء الترمذي في الباب وفيه أيضا
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي بلفظ عمر وعن زيد بن الخطاب أخرجه الطبراني
بلفظ علي اجتنبوا كل مسكر وعن الرسيم أخرجه أحمد بلفظ اشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا
وعن أبي بردة بن نيار أخرجه ابن أبي شيبة بنحو هذا اللفظ وعن طلق بن علي رواه ابن أبي شيبة بلفظ
يا أيها السائل عن المسكر لا تشربه ولا تسقه أحدا من المسلمين وعن صحار العبدي أخرجه الطبراني
بنحو هذا وعن أم حبيبة عند أحمد في كتاب الأشربة وعن الضحاك بن النعمان عند ابن أبي عاصم
في الأشربة وكذا عنده عن خوات بن جبير فإذا انضمت هذه الأحاديث إلى حديث ابن عمر وأبي
موسى وعائشة زادت عن ثلاثين صحابيا وأكثر الأحاديث عنهم جياد ومضمونها أن المسكر لا يحل
تناوله بل يجب اجتنابه والله أعلم وقد رد أنس الاحتمال الذي جنح إليه الطحاوي فقال أحمد
حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت المختار بن فلفل يقول سألت أنسا فقال نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن المزفت وقال كل مسكر حرام قال فقلت له صدقت المسكر حرام فالشربة
والشربتان على الطعام فقال ما أسكر كثيره فقليله حرام وهذا سند صحيح على شرط مسلم والصحابي
أعرف بالمراد ممن تأخر بعده ولهذا قال عبد الله بن المبارك ما قال واستدل بمطلق قوله كل مسكر
حرام على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها وقد جزم النووي
وغيره بأنها مسكرة وجزم آخرون بأنها مخدرة وهو مكابرة لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من
الطرب والنشأة والمداومة عليها والانهماك فيها وعلى تقدير تسليم أنها ليست بمسكرة فقد ثبت
في أبي داود النهي عن كل مسكر ومفتر وهو بالفاء والله أعلم (قوله وعن الزهري) هو من رواية
شعيب أيضا عن الزهري وهو موصول بالاسناد المذكور وقد أخرجه الطبراني في مسند
الشاميين وأفرده عن أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري به وأخرجه أبو نعيم في
المستخرج عن الطبراني (قوله وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير) القائل هذا هو الزهري
وقع ذلك عند شعيب عنه مرسلا وأخرجه مسلم والنسائي من طريق ابن عيينة عن الزهري عن
أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت ثم يقول أبو هريرة واجتنبوا الحناتم
ورفعه كله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ نهى عن المزفت والحنتم
والنقير ومثله لابن سعد من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وزاد فيه
والدباء وقد تقدم ضبط هذه الأشياء في شرح حديث وفد عبد القيس في أوائل الصحيح من كتاب
الايمان وأخرج مسلم من طريق زاذان قال سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت أخبرناه بلغتكم
وفسره لنا بلغتنا فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحنتمة وهي الجرة وعن الدباء وهي
القرعة وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر نقرا وعن المزفت وهو المقير وأخرج أبو داود الطيالسي
وابن أبي عاصم والطبراني من حديث أبي بكرة قال نهينا عن الدباء والنقير والحنتم والمزفت فأما
الدباء فإنا معشر ثقيف بالطائف كنا نأخذ الدباء فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها ثم نتركها حتى
تهدر ثم تموت وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة فيشدخون فيه الرطب
38

والبسر ثم يدعونه حتى يهدر ثم يموت وأما الحنتم فجرار جاءت تحمل إلينا فيها الخمر وأما المزفت
فهي هذه الأوعية التي فيها هذا الزفت وسيأتي بيان نسخ النهي عن الأوعية بعد ثلاثة أبواب إن
شاء الله تعالى * (تنبيه) * قال المهلب وجه إدخال حديث أنس في النهي عن الانتباذ في الأوعية
المذكورة في ترجمة الخمر من العسل أن العسل لا يكون مسكرا إلا بعد الانتباذ والعسل قبل
الانتباذ مباح فأشار إلى اجتناب بعض ما ينتبذ فيه لكونه يسرع إليه الاسكار (قوله
باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب) كذا قيده بالشراب وهو متفق عليه
ولا يرد عليه أن غير الشراب ما يسكر لان الكلام إنما هو في أنه هل يسمى خمرا أم لا (قوله حدثني
أحمد بن أبي رجاء) هو أبو الوليد الهروي واسم أبيه عبد الله بن أيوب ويحيى هو أبن سعيد
القطان وأبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي (قوله عن الشعبي) في رواية ابن علية عن أبي حيان
حدثنا الشعبي أخرجه النسائي (قوله خطب عمر) في رواية ابن إدريس عن أبي حيان بسنده
سمعت عمر يخطب وقد تقدمت في التفسير وزاد فيه أيها الناس (قوله فقال أنه قد نزل) زاد
مسدد فيه عن القطان فيه أما بعد وقد تقدمت في أول الأشربة وعند البيهقي من وجه آخر
عن مسدد فحمد الله وأثنى عليه (قوله نزل تحريم الخمر وهي من خمسة) الجملة حالية أي نزل
تحريم الخمر في حال كونها تصنع من خمسة ويجوز أن تكون استئنافية أو معطوفة على ما قبلها
والمراد أن الخمر تصنع من هذه الأشياء لا أن ذلك يختص بوقت نزولها والأول أظهر لأنه وقع في
رواية مسلم بلفظ ألا وإن الخمر نزل تحريمها يوم نزل وهي من خمسة أشياء نعم وقع في آخر الباب من
وجه آخر وإن الخمر تصنع من خمسة (قوله من العنب الخ) (2) هذا الحديث أورده أصحاب
المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لان له عندهم حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل
أخبر عن سبب نزولها وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد
منهم إنكاره وأراد عمر بنزول تحريم الخمر الآية المذكورة في أول كتاب الأشربة وهي آية المائدة
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر إلى آخرها فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية
ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها ويوافقه حديث أنس الماضي فإنه يدل
على أن الصحابة فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر سواء كان من العنب أم من غيرها وقد جاء
هذا الذي قاله عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحا فأخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه
ابن حبان من وجهين عن الشعبي أن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم من يقول إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة وإني أنهاكم عن كل
مسكر لفظ أبي داود وكذا ابن حبان زاد فيه أن النعمان خطب الناس بالكوفة ولأبي داود
من وجه آخر عن الشعبي عن النعمان بلفظ أن من العنب خمرا وأن من التمر خمرا وأن من العسل
خمرا وأن من البر خمرا وأن من الشعير خمرا ومن هذا الوجه أخرجها أصحاب السنن والتي قبلها
فيها الزبيب دون العسل ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال الخمر من العنب والتمر
والعسل ولأحمد من حديث أنس بسند صحيح عنه قال الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة
والشعير والذرة أخرجه أبو يعلى من هذا الوجه بلفظ حرمت الخمر يوم حرمت وهي فذكرها وزاد
الذرة وأخرج الخلعي في فوائده من طريق خلاد بن السائب عن أبيه رفعه مثل الرواية الثانية
39

لكن ذكر الزبيب بدل الشعير وسنده لا بأس به ويوافق ذلك ما تقدم في التفسير من حديث ابن
عمر نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب (قوله الذرة) (3) بضم
المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة وقد تقدم ذكرها في حديث أبي موسى في الباب قبله
(قوله والخمر ما خامر العقل) أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو من مجاز التشبيه والعقل
هو آلة التمييز فلذلك حرم ما غطاه أو غيره لان بذلك يزول الادراك الذي طلبه الله من عباده
ليقوموا بحقوقه قال الكرماني هذا تعريف بحسب اللغة وأما بحسب العرف فهو ما يخامر
العقل من عصير العنب خاصة كذا قال وفيه نظر لان عمر ليس في مقام تعريف اللغة بل هو في
مقام تعريف الحكم الشرعي فكأنه قال الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر
العقل على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك كما قدمته ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من
العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية وقد تواردت الأحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير
العنب يسمى خمرا والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة قال البيهقي
ليس المراد الحصر فيها لأنه ثبت أن الخمر تتخذ من غيرهما في حديث عمر وغيره وإنما فيه الإشارة
إلى أن الخمر شرعا لا تختص بالمتخذ من العنب (قلت) وجعل الطحاوي هذه الأحاديث متعارضة
وهي حديث أبي هريرة في أن الخمر من شيئين مع حديث عمر ومن وافقه أن الخمر تتخذ من غيرهما
وكذا حديث ابن عمر لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شئ وحديث أنس يعني المتقدم ذكره وبيان
اختلاف ألفاظه منها أن الخمر حرمت وشرابهم الفضيخ وفي لفظ له وأنا نعدها يومئذ خمرا وفي لفظ
له أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر قال فلما اختلف الصحابة في ذلك ووجدنا اتفاق الأمة على أن
عصير العنب إذا أشتد وغلى وقذف بالزبد فهو خمر وأن مستحله كافر دل على أنهم لم يعلموا بحديث
أبي هريرة إذ لو عملوا به لكفروا مستحل نبيذ التمر فثبت أنه لم يدخل في الخمر غير المتخذ من عصير
العنب اه‍ ولا يلزم من كونهم لم يكفروا مستحل نبيذ التمر أن يمنعوا تسميته خمرا فقد يشترك
الشيئان في التسمية ويفترقان في بعض الأوصاف مع أنه هو يوافق على أن حكم المسكر من نبيذ
التمر حكم قليل العنب في التحريم فلم تبق المشاححة إلا في التسمية والجمع بين حديث أبي هريرة
وغيره بحمل حديث أبي هريرة على الغالب أي أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر ويحمل
حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر وأما قول ابن
عمر فعلى إرادة تثبيت أن الخمر يطلق على ما لا يتخذ من العنب لان نزول تحريم الخمر لم يصادف عند
من خوطب بالتحريم حينئذ إلا ما يتخذ من غير العنب أو على إرادة المبالغة فأطلق نفي وجودها
بالمدينة وأن كانت موجودة فيها بقلة فإن تلك القلة بالنسبة لكثرة المتخذ مما عداها كالعدم
وقد قال الراغب في مفردات القرآن سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له وهو عند بعض
الناس اسم لكل مسكر وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة وعند بعضهم للمتخذ من العنب
والتمر وعند بعضهم لغير المطبوخ فرجح أن كل شئ يستر العقل يسمى خمرا حقيقة وكذا قال
أبو نصر بن القشيري في تفسيره سميت الخمر خمرا لسترها العقل أو لاختمارها وكذا قال غير واحد
من أهل اللغة منهم أبو حنيفة الدينوري وأبو نصر الجوهري ونقل عن ابن الأعرابي قال سميت
40

الخمر لأنها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها وقيل سميت بذلك لمخامرتها العقل نعم جزم
ابن سيده في المحكم بأن الخمر حقيقة
نما هي للعنب وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا وقال
صاحب الفائق في حديث إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم هي نبيذ الحبشة متخذة من الذرة سميت
الغبيراء لما فيها من الغبرة وقوله خمر العالم أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها (قلت) وليس
تأويله هذا بأولى من تأويل من قال أراد أنها معظم خمر العالم وقال صاحب الهداية من
الحنفية الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب إذا أشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم قال
وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وقوله الخمر من هاتين الشجرتين
ولأنه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر قال ولنا إطباق أهل اللغة على تخصيص الخمر
بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه ولان تحريم الخمر قطعي وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني
قال وإنما سمي الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل قال ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا فيه كما في
النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا اه‍ والجواب عن الحجة الأولى ثبوت النقل
عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا وقال الخطابي زعم قوم أن العرب
لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم أن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب
فصحاء فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه وقال ابن عبد البر قال الكوفيون أن الخمر من
العنب لقوله تعالى أعصر خمرا قال فدل على أن الخمر هو ما يعتصر لا ما ينتبذ قال ولا دليل فيه على
الحصر وقال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم كل مسكر خمر وحكمه حكم
ما أتخذ من العنب ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم الصحابة وهم أهل اللسان
أن كل شئ يسمى خمرا يدخل في النهي فأراقوا المتخذ من التمر والرطب ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من
العنب وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي
مقدمة على الحقيقة اللغوية وعن الثانية ما تقدم من أن اختلاف مشتركين في الحكم في الغلظ
لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنا مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ
امرأة جاره والثاني أغلظ من الأول وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ واسم الزنا مع ذلك شامل
الثلاثة وأيضا فالاحكام الفرعية لا يشترط فيها الأدلة القطعية فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ
من العنب وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه إذا ثبت
بطريق ظني تحريمه وكذا تسميته خمرا والله أعلم وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان
العرب بما نفاه هو وكيف يستجيز أن يقول لا لمخامرة العقل مع قول عمر بمحضر الصحابة الخمر
ما خامر العقل وكأن مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة فيحمل قول عمر على المجاز لكن
اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرا فقال أبو بكر بن الأنباري سميت الخمر خمرا لأنها
تخامر العقل أي تخالطه قال ومنه قولهم خامره الداء أي خالطه وقيل لأنها تخمر العقل أي
تستره ومنه الحديث الآتي قريبا خمروا آنيتكم ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها وهذا
أخص من التفسير الأول لأنه لا يلزم من المخالطة التغطية وقيل سميت خمرا لأنها تخمر حتى
تدرك كما يقال خمرت العجين فتخمر أي تركته حتى أدرك ومنه خمرت الرأي أي تركته حتى ظهر
وتحرر وقيل سميت خمرا لأنها تغطي حتى تغلي ومنه حديث المختار بن فلفل قلت لأنس الخمر من
41

العنب أو من غيرها قال ما خمرت من ذلك فهو الخمر أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح ولا مانع من
صحة هذه الأقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان قال ابن عبد البر الأوجه كلها
موجودة في الخمرة لأنها تركت حتى أدركت وسكنت فإذا شربت خالطت العقل حتى تغلب عليه
وتغطيه وقال القرطبي الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب
الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله
اسم الخمر وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة لانهم لما نزل تحريم الخمر فهموا
من الامر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره
بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولا استفصلوا ولم يشكل عليهم شئ من
ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن فلو
كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما
كان تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال فلما لم يفعلوا ذلك وبادروا إلى الاتلاف علمنا أنهم
فهموا التحريم نصا فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما
يوافق ذلك وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم
إنكار ذلك وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرا لزم تحريم قليله وكثيره وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة
في ذلك ثم ذكرها قال وأما الأحاديث عن الصحابة التي تمسك بها المخالف فلا يصح منها شئ على
ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم وعلى تقدير ثبوت شئ منها فهو محمول على نقيع الزبيب
أو التمر من قبل أن يدخل حد الاسكار جمعا بين الأحاديث (قلت) ويؤيده ثبوت مثل ذلك عن
النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في بابا نقيع التمر ولا فرق في الحل بينه وبين عصير العنب
أول ما يعصر وإنما الخلاف فيما أشتد منهما هل يفترق الحكم فيه أو لا وقد ذهب بعض الشافعية
إلى موافقة الكوفيين في دعواهم أن اسم الخمر خاص بما يتخذ من العنب مع مخالفتهم له في
تفرقتهم في الحكم وقولهم بتحريم قليل ما أسكر كثيره من كل شراب فقال الرافعي ذهب أكثر
الشافعية إلى أن الخمر حقيقة فيما يتخذ من العنب مجاز في غيره وخالفه ابن الرفعة فنقل عن المزني
وابن أبي هريرة وأكثر الأصحاب أن الجميع يسمى خمرا حقيقة قال وممن نقله عن أكثر الأصحاب
القاضيان أبو الطيب والروياني وأشار ابن الرفعة إلى أن النقل الذي عزاه الرافعي للأكثر لم يجد
نقله عن الأكثر إلا في كلام الرافعي ولم يتعقبه النووي في الروضة لكن كلامه في شرح مسلم
يوافقه وفي تهذيب الأسماء يخالفه وقد نقل ابن المنذر عن الشافعي ما يوافق ما نقلوا عن المزني
فقال قال أن الخمر من العنب ومن غير العنب عمر وعلي وسعيد وابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وابن
عباس وعائشة ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون وهو
قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق وعامة أهل الحديث
ويمكن الجمع بأن من أطلق على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية ومن
نفى أراد الحقيقة اللغوية وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال أن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي
دون اللغوي والله أعلم وقد قدمت في باب نزول تحريم الخمر وهو من البسر إلزام من قال بقول
أهل الكوفة إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أنه يلزمهم أن يجوزوا إطلاق اللفظ الواحد
42

على حقيقته ومجازه لان الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كل ما كان يطلق عليه لفظ الخمر
حقيقة ومجازا وإذا لم يجوزوا ذلك صح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك وعلى تقدير
ارخاء العنان والتسليم أن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية فأما
من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث كل مسكر خمر فكل ما أشتد كان خمرا وكل
خمر يحرم قليله وكثيره وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق (قوله وثلاث) هي صفة موصوف أي
أمور أو أحكام (قوله وددت) أي تمنيت وإنما تمنى ذلك لأنه أبعد من محذور الاجتهاد وهو الخطأ
فيه فثبت على تقدير وقوعه ولو كان مأجورا عليه فإنه يفوته بذلك الاجر الثاني والعمل بالنص
إصابة محضة (قوله لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهدا) في رواية مسلم عهدا ينتهي إليه وهذا
يدل على أنه لم يكن عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص فيها ويشعر بأنه كان عنده عن النبي
صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عن الخمر ما لم يحتج معه إلى شئ غيره حتى خطب بذلك جازما به
(قوله الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا) أما الجد فالمراد قدر ما يرث لان الصحابة اختلفوا
في ذلك اختلافا كثيرا فسيأتي في كتاب الفرائض عن عمر أنه قضى فيه بقضايا مختلفة وأما
الكلالة بفتح الكاف وتخفيف اللام فسيأتي بيانها أيضا في كتاب الفرائض وأما أبواب الربا
فلعله يشير إلى ربا الفضل لان ربا النسيئة متفق عليه بين الصحابة وسياق عمر يدل على أنه كان
عنده نص في بعض من أبواب الربا دون بعض فلهذا تمنى معرفة البقية (قوله قلت يا أبا عمرو)
القائل هو أبو حيان التيمي وأبو عمرو هي كنية الشعبي (قوله فشئ يصنع بالسند من الأزر)
زاد الإسماعيلي في روايته يقال له السادية يدعى الجاهل فيشرب منها شربة فتصرعه (قلت)
وهذا الاسم لم يذكره صاحب النهاية لا في السين المهملة ولا في الشين المعجمة ولا رأيته في صحاح
الجوهري وما عرفت ضبطه إلى الآن ولعله فارسي فإن كان عربيا فلعله الشاذبة بشين وذال
معجمتين ثم موحدة قال في الصحاح الشاذب المتنحى عن وطنه فلعل الشاذبة تأنيثه وسميت الخمر
بذلك لكونها إذا خالطت العقل تنحت به عن وطنه (قوله ذاك لم يكن على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم) أي اتخاذ الخمر من الأرز لم يكن على العهد النبوي وفي رواية الإسماعيلي
لم يكن هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان لنهى عنه ألا ترى أنه قد عم الأشربة كلها
فقال الخمر ما خامر العقل قال الإسماعيلي هذا الكلام الأخير فيه دلالة على أن قوله الخمر ما خامر
العقل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال الخطابي إنما عد عمر الخمسة المذكورة لاشتهار
أسمائها في زمانه ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام فإن الحنطة كانت بها عزيزة وكذا
العسل بل كان أعز فعد عمر ما عرف فيها وجعل ما في معناها مما يتخذ من الأزر وغيره خمرا إن
كان مما يخامر العقل وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق
الاشتقاق كذا قال ورد ذلك ابن العربي في جواب من زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم كل
مسكر خمر معناه مثل الخمر لان حذف مثل ذلك مسموع شائع قال بل الأصل عدم التقدير
ولا يصار إلى التقدير إلا إلى الحاجة فإن قيل احتجنا إليه لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث
لبيان الأسماء قلنا بل بيان الأسماء من جملة الاحكام لمن لا يعلمها ولا سيما ليقطع تعلق القصد بها
قال وأيضا لو لم يكن الفضيخ خمرا ونادى المنادي حرمت الخمر لم يبادروا إلى إراقتها ولم يفهموا أنها
43

داخلة في مسمى الخمر وهم الفصح اللسن فإن قيل هذا إثبات اسم بقياس قلنا إنما هو إثبات
اللغة عن أهلها فإن الصحابة عرب فصحاء فهموا من الشرع ما فهموه من اللغة ومن اللغة
ما فهموه من الشرع وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمر
بسند جيد قال أما الخمر فحرام لا سبيل إليها وأما ما عداها من الأشربة فكل مسكر حرام قال
وجوابه أنه ثبت عن ابن عمر أنه قال كل مسكر خمر فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا
انحصار اسم الخمر فيه وكذا احتجوا بحديث ابن عمر أيضا حرمت الخمر وما بالمدينة منها شئ مراده
المتخذ من العنب ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرا بدليل حديث الآخر نزل تحريم الخمر وأن بالمدينة
خمسة أشربة كلها تدعي الخمر ما فيها خمر العنب وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم ذكر الاحكام
على المنبر لتشتهر بين السامعين وذكر أما بعد فيها والتنبيه بالنداء والتنبيه على شرف العقل وفضله
وتمنى الخير وتمنى البيان للأحكام وعدم الاستثناء (قوله وقال حجاج) هو ابن منهال وحماد هو ابن
سلمة (قوله عن أبي حيان مكان العنب الزبيب) يعني أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن أبي
حيان بهذا السند والمتن فذكر الزبيب بدل العنب وهذا التعليق وصله علي بن عبد العزيز البغوي
في مسنده عن حجاج بن منهال كذلك وليس فيه سؤال أبي حيان الأخير وجواب الشعبي وكذلك
أخرجه ابن أبي خيثمة عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة ووقع عند مسلم أيضا من رواية علي بن
مسهر ومن رواية عيسى بن يونس كلاهما عن أبي حيان الزبيب بدل العنب كما قال حماد بن سلمة قال
البيهقي وكذلك قال الثوري عن أبي حيان (قلت) وكذلك أخرجه النسائي من طريق محمد بن
قيس عن الشعبي والله أعلم (قوله باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه)
قال الكرماني ذكره باعتبار الشراب وإلا فالخمر مؤنث سماعي (قلت) بل فيه لغة بالتذكير قال
الكرماني وفي بعض الروايات تسميتها بغير اسمها وذكر ابن التين عن الداودي قال كأنه يريد بالأمة
من يتسمى بهم ويستحل ما لا يحل لهم فهو كافر إن أظهر ذلك ومنافق إن أسره أو من يرتكب
المحارم مجاهرة واستخفافا فهو يقارب الكفر وأن تسمى بالاسلام لان الله لا يخسف بمن تعود عليه
رحمته في المعاد كذا قال وفيه نظر يأتي توجيهه وقال ابن المنير الترجمة مطابقة للحديث إلا في قوله
ويسميه بغير اسمه فكأنه قنع بالاستدلال له بقوله في الحديث من أمتي لان من كان من الأمة
المحمدية يبعد بأن يستحل الخمر بغير تأويل إذ لو كان عنادا ومكابرة لكان خارجا عن الأمة لان تحريم
الخمر قد علم بالضرورة قال وقد ورد في غير هذا الطريق التصريح بمقتضى الترجمة لكن لم يوافق
شرطه فاقتنع بما في الرواية التي ساقها من الإشارة (قلت) الرواية التي أشار إليها أخرجها أبو داود
من طريق مالك بن أبي مريم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم ليشربن ناس
الخمر يسمونها بغير اسمها وصححه ابن حبان وله شواهد كثيرة منها لابن ماجة من حديث ابن محيريز
عن ثابت بن السمط عن عبادة بن الصامت رفعه يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها
ورواه أحمد بلفظ ليستحلن طائفة من أمتي الخمر وسنده جيد ولكن أخرجه النسائي من وجه آخر
عن ابن محيريز فقال عن رجل من الصحابة ولابن ماجة أيضا من حديث خالد بن معدان عن أبي
أمامة رفعه لا تذهب الأيام والليالي حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها وللدارمي
بسند لين من طريق القاسم عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول ما يكفأ
44

الاسلام كما يكفأ الاناء كفؤ الخمر قيل وكيف ذاك يا رسول الله قال يسمونها بغير اسمها فيستحلونها
وأخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن عائشة ولابن وهب من طريق سعيد بن أبي هلال عن محمد
ابن عبد الله أن أبا مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة فجعلت تسأله عن الشام وعن بردها فقال
يا أم المؤمنين إنهم يشربون شرابا لهم يقال له الطلاء فقالت صدق رسول الله وبلغ حتى سمعته
يقول إن ناسا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها وأخرجه البيهقي قال أبو عبيد جاءت في
الخمر آثار كثيرة بأسماء مختلفة فذكر منها السكر بفتحتين قال وهو نقيع التمر إذا غلى بغير طبخ
والجعة بكسر الجيم وتخفيف العين نبيذ الشعير والسكركة خمر الحبشة من الذرة إلى أن قال وهذه
الأشربة المسماة كلها عندي كناية عن الخمر وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم يشربون الخمر
يسمونها بغير اسمها ويؤيد ذلك قول عمر الخمر ما خامر العقل (قوله وقال هشام بن عمار حدثنا
صدقة بن خالد) هكذا في جميع النسخ من الصحيح من جميع الروايات مع تنوعها عن الفربري
وكذا من رواية النسقي وحماد بن شاكر وذهل الزركشي في توضيحه فقال معظم الرواة يذكرون
هذا الحديث في البخاري معلقا وقد أسنده أبو ذر عن شيوخه فقال قال البخاري حدثنا الحسين
ابن إدريس حدثنا هشام بن عمار قال فعلى هذا يكون الحديث صحيحا على شرط البخاري وبذلك
يرد علي ابن حزم دعواه الانقطاع اه‍ وهذا الذي قاله خطأ نشأ عن عدم تأمل وذلك أن القائل
حدثنا الحسين بن إدريس هو العباس بن الفضل شيخ أبي ذر لا البخاري ثم هو الحسين بضم أوله
وزيادة التحتانية الساكنة وهو الهروي لقبه خرم بضم المعجمة وتشديد الراء وهو من المكثرين
وإنما الذي وقع في رواية أبي ذر من الفائدة أنه أستخرج هذا الحديث من رواية نفسه من غير
طريق البخاري إلى هشام على عادة الحفاظ إذا وقع لهم الحديث عاليا عن الطريق التي في الكتاب
المروي لهم يرودونها عالية عقب الرواية النازلة وكذلك إذا وقع في بعض أسانيد الكتاب المروي
خلل ما من انقطاع أو غيره وكان عندهم من وجه آخر سالما أوردوه فجرى أبو ذر على هذه
الطريقة فروى الحديث عن شيوخه الثلاثة عن الفربري عن البخاري قال وقال هشام بن عمار
ولما فرغ من سياقه قال أبو ذر حدثنا أبو منصور الفضل بن العباس النضروي حدثنا الحسين
ابن إدريس حدثنا هشام بن عمار به وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها فقد سبقه إليها ابن الصلاح
في علوم الحديث فقال التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها وصورته صورة
الانقطاع وليس حكمه حكمه ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف ولا
التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي
مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر
والمعازف الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فزعم
ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف
وأخطأ في ذلك من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري قد يفعل
مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير
ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع اه‍ ولفظ ابن حزم في المحلى ولم يتصل ما بين
البخاري وصدقة بن خالد وحكى ابن الصلاح في موضع آخر أن الذي يقول البخاري فيه قال فلان
45

ويسمى شيخا من شيوخه يكون من قبيل الاسناد المعنعن وحكى عن بعض الحفاظ أنه يفعل
ذلك فيما يتحمله عن شيخه مذاكرة وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة وقد تعقب شيخنا الحافظ
أبو الفضل كلام ابن الصلاح بأنه وجد في الصحيح عدة أحاديث يرويها البخاري عن بعض شيوخه
قائلا قال فلان ويوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ (قلت) الذي يورده
البخاري من ذلك على أنحاء منها ما يصرح فيه بالسماع عن ذلك الشيخ بعينه إما في نفس
الصحيح وإما خارجة والسبب في الأول إما أن يكون أعاده في عدة أبواب وضاق عليه مخرجه
فتصرف فيه حتى لا يعيده على صورة واحدة في مكانين وفي الثاني أن لا يكون على شرطه إما
لقصور في بعض رواته وإما لكونه موقوفا ومنها ما يورده بواسطة عن ذلك الشيخ والسبب فيه
كالأول لكنه في غالب هذا لا يكون مكثرا عن ذلك الشيخ ومنها ما لا يورده في مكان آخر من
الصحيح مثل حديث الباب فهذا مما كان أشكل أمره علي والذي يظهر لي الآن أنه لقصور
في سياقه وهو هنا تردد هشام في اسم الصحابي وسيأتي من كلامه ما يشير إلى ذلك حيث يقول
أن المحفوظ أنه عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك وساقه في التاريخ من رواية مالك بن أبي مريم
عن عبد الرحمن بن غنم كذلك وقد أشار المهلب إلى شئ من ذلك وأما كونه سمعه من هشام بلا
واسطة وبواسطة فلا أثر له لأنه لا يجزم إلا بما يصلح للقبول ولا سيما حيث يسوقه مساق الاحتجاج
وأما قول ابن الصلاح أن الذي يورده بصيغة قال حكمه حكم الاسناد المعنعن والعنعنة من
غير المدلس محمولة على الاتصال وليس البخاري مدلسا فيكون متصلا فهو بحث وافقه عليه ابن
منده والتزمه فقال أخرج البخاري قال وهو تدليس وتعقبه شيخنا بأن أحدا لم يصف البخاري
بالتدليس والذي يظهر لي أن مراد ابن منده أن صورته صورة التدليس لأنه يورده بالصيغة المحتملة
ويوجد بينه وبينه واسطة وهذا هو التدليس بعينه لكن الشأن في تسليم أن هذه الصيغة من
غير المدلس لها حكم العنعنة فقد قال الخطيب وهو المرجوع إليه في الفن أن قال لا تحمل على
السماع إلا ممن عرف من عادته أنه يأتي بها في موضع السماع مثل حجاج بن محمد الأعور فعلى
هذا ففارقت العنعنة فلا تعطى حكمها ولا يترتب عليه أثرها من التدليس ولا سيما ممن عرف
من عادته أن يوردها لغرض غير التدليس وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من
التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحا إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه لكن إذا
وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولا إلى من علقه بشرط الصحة أزال الاشكال
ولهذا عنيت في ابتداء الامر بهذا النوع وصنفت كتاب تعليق التعليق وقد ذكر شيخنا في شرح
الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولا في مستخرج
الإسماعيلي قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار وأخرجه الطبراني في مسند
الشاميين فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار قال وأخرجه أبو داود في
سننه فقال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر
بسنده انتهى وننبه فيه على موضعين أحدهما أن الطبراني أخرج الحديث في معجمه الكبير عن
موسى بن سهل الجويني وعن جعفر بن محمد الفريابي كلاهما عن هشام والمعجم الكبير أشهر من
مسند الشاميين فعزوه إليه أولى وأيضا فقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه على البخاري من
46

رواية عبدان بن محمد المروزي ومن رواية أبي بكر الباغندي كلاهما عن هشام وأخرجه ابن
حبان في صحيحه عن الحسين بن عبد الله القطان عن هشام ثانيهما قوله إن أبا داود أخرجه
يوهم أنه عند أبي داود باللفظ الذي وقع فيه النزاع وهو المعازف وليس كذلك بل لم يذكر فيه الخمر
الذي وقعت ترجمة البخاري لأجله فإن لفظه عند أبي داود بالسند المذكور إلى عبد الرحمن بن
يزيد حدثنا عطية بن قيس سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري يقول حدثني أبو عامر أو أبو مالك
الأشعري والله ما كذبني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليكونن من أمتي أقوام
يستحلون الحر والحرير والخمر وذكر كلاما قال يمسخ منهم قردة وخنازير إلى يوم القيامة نعم ساق
الإسماعيلي الحديث من هذا الوجه من رواية دحيم عن بشر بن بكر بهذا الاسناد فقال
يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف الحديث (قوله حدثنا صدقة بن خالد) هو الدمشقي
من موالي آل أبي سفيان وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في مناقب أبي بكر وهو
من رواية هشام بن عمار عنه أيضا عن زيد بن واقد وصدقة هذا ثقة عند الجميع قال عبد الله بن
أحمد عن أبيه ثقة ابن ثقة ليس به بأس أثبت من الوليد بن مسلم وذهل شيخنا ابن الملقن تبعا لغيره
فقال ليته يعني ابن حزم أعل الحديث بصدقة فإن ابن الجنيد روى عن يحيى بن معين ليس بشئ
وروى المروزي عن أحمد ذلك ليس بمستقيم ولم يرضه وهذا الذي قاله الشيخ خطأ وإنما قال يحيى
وأحمد ذلك في صدقة بن عبد الله السمين وهو أقدم من صدقة بن خالد وقد شاركه في كونه دمشقيا
وفي الرواية عن بعض شيوخه كزيد بن واقد وأما صدقة بن خالد فقد قدمت قول أحمد فيه وأما
ابن معين فالمنقول عنه أنه قال كان صدقة بن خالد أحب إلى أبي مسهر من الوليد بن مسلم قال
وهو أحب إلي من يحيى بن حمزة ونقل معاوية بن صالح عن ابن معين أن صدقة بن خالد ثقة ثم أن
صدقة لم ينفرد به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بل تابعه على أصله بشر بن بكر كما تقدم (قوله
حدثنا عطية بن قيس) هو شامي تابعي قواه أبو حاتم وغيره ومات سنة عشر ومائة وقيل بعد ذلك
ليس له في البخاري ولا لشيخه إلا هذا الحديث والاسناد كله شاميون (قوله عبد الرحمن بن غنم)
بفتح المعجمة وسكون النون ابن كريب بن هانئ مختلف في صحبته قال ابن سعد كان أبوه ممن قدم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة أبي موسى وذكر ابن يونس أن عبد الرحمن كان مع أبيه
حين وفد وأما أبو زرعة الدمشقي وغيره من حفاظ الشام فقالوا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم
ولم يلقه وقدمه دحيم على الصنابحي وقال ابن سعد أيضا بعثه عمر يفقه أهل الشام ووثقه العجلي
وآخرون ومات سنة ثمان وسبعين ووقع عند الإسماعيلي من الزيادة عن عطية بن قيس قال
قام ربيعة الجرشي في الناس فذكر حديثا فيه طول فإذا عبد الرحمن بن غنم فقال يمينا حلفت
عليها حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله يمينا أخرى حدثني أنه سمع وفي رواية مالك بن
أبي مريم كنا عند عبد الرحمن بن غنم معنا ربيعة الجرشي فذكروا الشراب فذكر الحديث (قوله
حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري) هكذا رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عمار بالشك وكذا
وقع عند الإسماعيلي من رواية بشر بن بكر لكن وقع عند أبي داود من رواية بشر بن بكر
حدثني أبو مالك بغير شك ووقع عند ابن حبان عن الحسين بن عبد الله عن هشام بهذا السند إلى
عبد الرحمن بن غنم أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين يقولان فذكر الحديث كذا قال وعلى
47

تقدير أن يكون المحفوظ هو الشك فالشك في اسم الصحابي لا يضر وقد أعله بذلك ابن حزم وهو
مردود وأعجب منه أن ابن بطال حكى عن المهلب أن سبب كون البخاري لم يقل فيه حدثنا هشام
ابن عمار وجود الشك في اسم الصحابي وهو شئ لم يوافق عليه والمحفوظ رواية الجماعة وقد
أخرجه البخاري في التاريخ من طريق إبراهيم بن عبد الحميد عمن أخبره عن أبي مالك أو أبي عامر
على الشك أيضا وقال إنما يعرف هذا عن أبي مالك الأشعري انتهى وقد أخرجه أحمد وابن أبي
شيبة والبخاري في التاريخ من طريق مالك بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك
الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها
تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف الحديث فظهر بهذا أن الشك فيه من عطية بن
قيس لان مالك بن أبي مريم وهو رفيقه فيه عن شيخهما لم يشك في أبي مالك على أن التردد في اسم
الصحابي لا يضر كما تقرر في علوم الحديث فلا التفات إلى من أعل الحديث بسبب التردد وقد ترجح
أنه عن أبي مالك الأشعري وهو صحابي مشهور (قوله والله ما كدبني) هذا يؤيد رواية
الجماعة أنه عن غير واحد لا عن اثنين (قوله يستحلون الحر) ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة
المكسورة والراء الخفيفة وهو الفرج وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري ولم يذكر
عياض ومن تبعه غيره وأغرب ابن التين فقال إنه عند البخاري بالمعجمتين وقال ابن العربي هو
بالمعجمتين تصحيف وإنما رويناه بالمهملتين وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا قال ابن التين يريد
ارتكاب الفرج بغير حله وإن كان أهل اللغة لم يذكروا هذه اللفظة بهذا المعنى ولكن العامة
تستعمله بكسر المهملة كما في هذه الرواية وحكى عياض فيه تشديد الراء والتخفيف هو
الصواب وقيل أصله بالياء بعد الراء فحذفت وذكره أبو موسى في ذيل الغريب في ح ر وقال
هو بتخفيف الراء وأصله حرح بكسر أوله وتخفيف الراء بعدها مهملة أيضا وجمعه أحراح قال
ومنهم من يشدد الراء وليس بجيد وترجم أبو داود للحديث في كتاب اللباس باب ما جاء في الحر
ووقع في روايته بمعجمتين والتشديد والراجح بالمهملتين ويؤيده ما وقع في الزهد لابن المبارك من
حديث علي بلفظ يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير ووقع عند الداودي بالمعجمتين
ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ لان كثيرا من الصحابة لبسوه وقال ابن الأثير المشهور في رواية هذا
الحديث بالاعجام وهو ضرب من الإبر يسم كذا قال وقد عرف أن المشهور في رواية البخاري
بالمهملتين قال ابن العربي الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه والأقوى حله وليس فيه وعيد
ولا عقوبة بإجماع * (تنبيه) * لم تقع هذه اللفظة عند الإسماعيلي ولا أبي نعيم من طريق هشام
بل في روايتهما يستحلون الحرير والخمر والمعازف وقوله يستحلون قال ابن العربي يحتمل أن
يكون المعنى يعتقدون ذلك حلالا ويحتمل أن يكون ذلك مجازا على الاسترسال أي يسترسلون
في شربها كالإسترسال في الحلال وقد سمعنا ورأينا من يفعل ذلك (قوله والمعازف)
بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة بفتح الزاي وهي آلات الملاهي ونقل القرطبي عن
الجوهري أن المعازف الغناء والذي في صحاحه أنها آلات اللهو وقيل أصوات الملاهي وفي
حواشي الدمياطي المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به ويطلق على الغناء عزف وعلى كل
لعب عزف ووقع في رواية مالك بن أبي مريم تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف (قوله
48

ولينزلن أقوام إلى جنب علم) بفتحتين والجمع أعلام وهو الجبل العالي وقيل رأس الجبل (قوله
يروح عليهم) كذا فيه بحذف الفاعل وهو الراعي بقرينة المقام إذ السارحة لا بد لها من حافظ
(قوله بسارحة) بمهملتين الماشية التي تسرح بالغداة إلى رعيها وتروح أي ترجع بالعشي إلى
مألفها ووقع في رواية الإسماعيلي سارحة بغير موحدة في أوله ولا حذف فيها (قوله يأتيهم
لحاجة) كذا فيه بحذف الفاعل أيضا قال الكرماني التقدير الآتي أو الراعي أو المحتاج
أو الرجل (قلت) وقع عند الإسماعيلي يأتيهم طالب حاجة فتعين بعض المقدرات (قوله فيبيتهم
الله) أي يهلكهم ليلا والبيات هجوم العدو ليلا (قوله ويضع العلم) أي يوقعه عليهم وقال ابن
بطال إن كان العلم جبلا فيدكدكه وأن كان بناء فيهدمه ونحو ذلك وأغرب ابن العربي فشرحه
على أنه بكسر العين وسكون اللام فقال وضع العلم إما بذهاب أهله كما سيأتي في حديث عبد الله بن
عمرو وإما بإهانة أهله بتسليط الفجرة عليهم (قوله ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)
يريد ممن لم يهلك في البيات المذكور أو من قوم آخرين غير هؤلاء الذين بيتوا ويؤيد الأول أن في
رواية الإسماعيلي ويمسخ منهم آخرين قال ابن العربي يحتمل الحقيقة كما وقع للأمم السالفة
ويحتمل أن يكون كناية عن تبدل أخلاقهم (قلت) والأول أليق بالسياق وفي هذا الحديث وعيد
شديد على من يتحيل في تحليل ما يحرم بتغيير اسمه وأن الحكم يدور مع العلة والعلة في تحريم الخمر
الاسكار فمهما وجد الاسكار وجد التحريم ولو لم يستمر الاسم قال ابن العربي هو أصل في أن
الاحكام إنما تتعلق بمعاني الأسماء لا بألقابها ردا على من حمله على اللفظ (قوله باب
الانتباذ في الأوعية والتور) هو من عطف الخاص على العام لان التور من جملة الأوعية وهو
بفتح المثناة إناء من حجارة أو من نحاس أو من خشب ويقال لا يقال له تور إلا إذا كان صغيرا
وقيل هو قدح كبير كالقدر وقيل مثل الطست وقيل كالإجانة وهي بكسر الهمزة وتشديد الجيم
وبعد الألف نون وعاء (قوله أتى أبو أسيد الساعدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه)
تقدم في الوليمة من هذا الوجه بلفظ دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعرسه ومن وجه آخر عن أبي
حازم دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه (قوله قال أتدرون) القائل هو سهل (وما سقت) بفتح
القاف وسكون المثناة وفي رواية الكشميهني قالت وسقيت بسكون التحتانية بعد القاف وفي
آخره مثناة وكذا الخلاف في أنقعت ونقعت وأنقع بالهمزة لغة وفيه لغة أخرى نقعت بغير
ألف وتقدم في الوليمة بلفظ بلت تمرات (قوله في تور) زاد في الوليمة من حجارة وإنما قيده لأنه قد
يكون من غيرها كما تقدم وفي رواية أشعث عن أبي الزبير عن جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم
ينبذ له في سقاء فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور قال أشعث والتور من لحاء الشجر أخرجه ابن أبي
شيبة وعبر المصنف في الترجمة بالانتباذ إشارة إلى أن النقيع يسمى نبيذا فيحمل ما ورد في
الاخبار بلفظ النبيذ على النقيع وقد ترجم له بعد قليل باب نقيع التمر ما لم يسكر قال المهلب
النقيع حلال ما لم يشتد فإذا أشتد وغلى حرم وشرط الحنفية أن يقذف بالزبد قال وإذا نقع من
الليل وشرب النهار أو بالعكس لم يشتد وفيه حديث عائشة يشير إلى ما أخرجه مسلم عن عائشة
كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء توكي أعلاه فيشرب به عشاء وتنبذه عشاء فيشربه
غدوة وعند أبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها كانت تنبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوة
49

فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه فإن فضل شئ صببته ثم تنبذ له بالليل فإذا أصبح
وتغدى شرب على غدائه قالت نغسل السقاء غدوة وعشية وفي حديث عبد الله بن الديلمي عن
أبيه قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم ما نصنع بالزبيب قال انبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم
أخرجه أبو داود والنسائي فهذه الأحاديث فيها التقييد باليوم والليلة وأما ما أخرج مسلم من
حديث ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له الزبيب من الليل في السقاء فإذا
أصبح شربه يومه وليلته ومن الغد فإذا كان مساء شربه أو سقاه الخدم فإن فضل شئ أراقه
وقال ابن المنذر الشراب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا وأما الصفة التي ذكرها ابن
عباس فقد ينتهي إلى الشدة والغليان لكن يحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنه لم يبلغ
ذلك ولكن قرب منه لأنه لو بلغ ذلك لأسكر ولو أسكر لحرم تناوله مطلقا انتهى وقد تمسك بهذا
الحديث من قال بجواز شرب قليل ما أسكر كثيره ولا حجة فيه لأنه ثبت أنه بدأ فيه بعض تغير في
طعمه من حمض أو نحوه فسقاه الخدم وإلى هذا أشار أبو داود فقال بعد أن أخرجه قوله سقاه
الخدم يريد أنه تبادر به الفساد انتهى ويحتمل أن يكون أو في الخبر للتنويع لأنه قال سقاه
الخدم يريد انه تبادر به الفساد انتهى ويحتمل ان يكون اوفى الخبر للتنويع لأنه قال سقاه
الخدم أو أمر به فأهريق أي إن كان بدا في طعمه بعض التغير ولم يشتد سقاه الخدم وأن كان أشتد
أمر بإهراقه وبهذا جزم النووي فقال هو اختلاف على حالين إن ظهر فيه شدة صبه وأن لم تظهر
شدة سقاه الخدم لئلا تكون فيه إضاعة مال وإنما يتركه هو تنزها وجمع بين حديث ابن عباس
وعائشة بأن شرب النقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم ويحتمل أن يكون
باختلاف حال أو زمان يحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا وذاك على ما إذا كان
كثيرا فيفضل منه ما يشربه فيما بعد وإما بأن يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد وذاك
في شدة برد فلا يتسارع إليه (قوله باب ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في
الأوعية والظروف بعد النهي) ذكر فيه خمسة أحاديث * أولها حديث جابر وهو عام في الرخصة
* ثانيها حديث عبد الله بن عمرو وفيه استثناء المزفت * ثالثها حديث علي في النهي عن الدباء
والمزفت * رابعها حديث عائشة مثله * خامسها حديث عبد الله بن أبي أوفى في النهي عن الجر
الأخضر وظاهر صنيعه أنه يرى أن عموم الرخصة مخصوص بما ذكر في الأحاديث الأخرى
وهي مسئلة خلاف فذهب مالك إلى ما دل عليه صنيع البخاري وقال الشافعي والثوري
وابن حبيب من المالكية يكره ذلك ولا يحرم وقال سائر الكوفيين يباح وعن أحمد
روايتان وقد أسند الطبري عن عمر ما يؤيد قول مالك وهو قوله لان أشرب من قمقم محمى فيحرق
ما أحرق ويبقى ما أبقى أحب إلي من أن أشرب نبيذ الجر وعن ابن عباس لا يشرب نبيذ الجر ولو
كان أحلى من العسل وأسند النهي عن جماعة من الصحابة وقال ابن بطال النهي عن
الأوعية إنما كان قطعا للذريعة فلما قالوا لا نجد بدا من الانتباذ في الأوعية قال انتبذوا وكل
مسكر حرام وهكذا الحكم في كل شئ نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة كالنهي
عن الجلوس في الطرقات فلما قالوا لا بد لنا منها قال فأعطوا الطريق حقها وقال الخطابي ذهب
الجمهور إلا أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه
الأوعية باق منهم ابن عمر وابن عباس وبه قال مالك وأحمد وإسحق كذا أطلق قال والأول أصح
50

والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبا فلما اشتهر التحريم أبيح لهم الانتباذ في كل وعاء
بشرط ترك شرب المسكر وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ وقال الحازمي لمن
نصر قول مالك أن يقول ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الأدم والجرار غير
المزفتة واستمر ما عداها على المنع ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم
ولفظه نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا
قال وطريق الجمع أن يقال لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم ثم
شكوا إليه أن كلهم لا يجد ذلك فرخص لهم في الظروف كلها * الحديث الأول (قوله سفيان)
هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر (قوله عن سالم) وقع مفسرا في الطريق التي بعدها أنه ابن
أبي الجعد والظروف بظاء مشالة معجمة جمع ظرف بفتح أوله وهو الوعاء (قوله نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الظروف) في رواية مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر نهى عن الدباء
والمزفت وكأن هذه الطريق لما لم تكن على شرط البخاري أورد عقب حديث جابر أحاديث
عبد الله بن عمرو وعلي وعائشة الدالة على ذلك (قوله لا بد لنا منها) في رواية الحفري عن الثوري
عند الإسماعيلي ليس لنا وعاء وفي رواية لأحمد في قصة وفد عبد القيس فقال رجل من القوم
يا رسول الله إن الناس لا ظروف لهم فقال اشربوه إذا طاب فإذا خبث فذروه وأخرج أبو يعلى
وصححه ابن حبان من حديث الأشج العصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم مالي أرى
وجوهكم قد تغيرت قالوا نحن بأرض وخمة وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا
فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الظروف
لا تحل ولا تحرم ولكن كل مسكر حرام (قوله فلا إذا) جواب وجزاء أي إذا كان كذلك لابد لكم
منها فلا تدعوها وحاصله أن النهي كان ورد على تقدير عدم الاحتياج أو وقع وحي في الحال
بسرعة أو كان الحكم في تلك المسئلة مفوضا لرأيه صلى الله عليه وسلم وهذه الاحتمالات ترد على
من جزم بأن الحديث حجة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالاجتهاد (قوله وقال لي خليفة) هو
ابن خياط بمعجمة ثم تحتانية ثقيلة وهو من شيوخ البخاري ويحيى بن سعيد هو القطان * الحديث
الثاني (قوله علي) هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة (قوله عن سليمان) في رواية الحميدي
عن سفيان حدثنا سليمان الأحول وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من رواية الحميدي كذلك
(قوله عن أبي عياض العنسي) بالنون وعياض بكسر المهملة وتخفيف التحتانية وبعد الألف
ضاد معجمه واسمه عمرو بن الأسود وقيل قيس بن ثعلبة وبذلك جزم أبو نصر الكلاباذي في رجال
البخاري وكأنه تبع ما نقله البخاري عن علي بن المديني وقال النسائي في الكنى أبو عياض عمرو
ابن الأسود العنسي ثم ساق من طريق شرحبيل بن عمرو بن مسلم عن عمرو بن الأسود الحمصي أبي عياض
ثم روى عن معاوية بن صالح عن يحيى بن معين قال عمرو بن الأسود العنسي يكنى أبا عياض ومن
طريق البخاري قال لي علي يعني ابن المديني أن لم يكن اسم أبي عياض قيس بن ثعلبة فلا أدري
قال البخاري وقال غيره عمرو بن الأسود قال النسائي ويقال كنية عمرو بن الأسود أبو عبد الرحمن
(قلت) أورد الحاكم أبو أحمد في الكنى محصل ما أورده النسائي إلا قول يحيى بن معين وذكر أنه
سمع عمر ومعاوية وأنه روى عنه مجاهد وخالد بن معدان وأرطاة بن المنذر وغيرهم وذكر في رواية
51

شرحبيل بن مسلم عن عمرو بن الأسود أنه مر على مجلس فسلم فقالوا لو جلست إلينا يا أبا عياض
ومن طريق موسى بن كثير عن مجاهد حدثنا أبو عياض في خلافة معاوية وروى أحمد في
الزهد أن عمر أثنى على أبي عياض وذكره أبو موسى في ذيل الصحابة وعزاه لابن أبي عاصم وأظنه
ذكره لادراكه ولكن لم تثبت له صحبة وقال ابن سعد كان ثقة قليل الحديث وقال ابن عبد البر
أجمعوا على أنه كان من العلماء الثقات وإذا تقرر ذلك فالراجح في أبي عياض الذي يروي عنه
مجاهد أنه عمرو بن الأسود أنه شامي وأما قيس بن ثعلبة فهو أبو عياض آخر وهو كوفي ذكره ابن
حبان في ثقات التابعين وقال إنه يروي عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم روى عنه أهل
الكوفة وإنما بسطت ترجمته لان المزي لم يستوعبها وخلط ترجمة بترجمة وأنه صغر اسمه فقال
عمير بن الأسود الشامي العنسي صاحب عبادة بن الصامت والذي يظهر لي أنه غيره فإن كان
كذلك فما له في البخاري سوى هذا الحديث وإن كان كما قال المزي فإن له عند البخاري
حديثا تقدم ذكره في الجهاد من رواية خالد بن معدان عن عمير بن الأسود عن أم حرام بنت
ملحان وكأن عمدته في ذلك أن خالد بن معدان روى عن عمرو بن الأسود أيضا وقد فرق ابن حبان
في الثقات بين عمير بن الأسود الذي يكنى أبا عياض وبين عمير بن الأسود الذي يروي عن عبادة بن
الصامت وقال كل منهما عمير بالتصغير فإن كان ضبطه فلعل أبا عياض كان يقال له عمرو وعمير
ولكنه آخر غير صاحب عبادة والله أعلم (قوله عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص كذا
في جميع نسخ البخاري ووقع في بعض نسخ مسلم عبد الله بن عمر بضم العين وهو تصحيف نبه عليه
أبو علي الجياني (قوله لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأسقية) كذا وقع في هذه الرواية
وقد تفطن البخاري لما فيها فقال بعد سياق الحديث حدثني عبد الله بن محمد حدثنا سفيان
بهذا وقال عن الأوعية وهذا هو الراجح وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه كأحمد
والحميدي في مسنديهما وأبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر عند مسلم وأحمد بن عبدة عند
الإسماعيلي وغيرهم وقال عياض ذكر الأسقية وهم من الراوي وإنما هو عن الأوعية لأنه صلى
الله عليه وسلم لم ينه قط عن الأسقية وإنما نهى عن الظروف وأباح الانتباذ في الأسقية فقيل
له ليس كل الناس يجد سقاء فاستثنى ما يسكر وكذا قال لوفد عبد القيس لما نهاهم عن
الانتباذ في الدباء وغيرها قالوا ففيم نشرب قال في أسقية الأدم قال ويحتمل أن تكون الرواية
في الأصل كانت لما نهى عن النبيذ إلا في الأسقية فسقط من الرواية شئ انتهى وسبقه إلى
هذا الحميدي فقال في الجمع لعله نقص من لفظ المتن وكان في الأصل لما نهى عن النبيذ إلا في
الأسقية وقال ابن التين معناه لما نهى عن الظروف إلا الأسقية وهو عجيب والذي قاله
الحميدي أقرب وإلا فحذف أداة الاستثناء مع المستثنى منه وإثبات المستثنى غير جائز إلا إن
ادعى ما قال الحميدي أنه سقط على الراوي وقال الكرماني يحتمل أن يكون معناه لما نهى في
مسئلة الأنبذة عن الجرار بسبب الأسقية قال ومجئ عن سببية شائع مثل يسمنون عن الاكل
أي بسبب الاكل ومنه فأزالهما الشيطان عنها أي بسببها (قلت) ولا يخفى ما فيه ويظهر لي أن لا
غلط ولا سقط وإطلاق السقاء على كل ما يسقى منه جائز فقوله نهى عن الأسقية بمعنى
الأوعية لان المراد بالأوعية الأوعية التي يستقى منها واختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من
52

الأدم إنما هو بالعرف وقال ابن السكيت السقاء يكون للبن والماء والوطب بالواو للبن خاصة
والنحى بكسر النون وسكون المهملة للسمن والقربة للماء وإلا فمن يجيز القياس في اللغة لا يمنع
ما صنع سفيان فكأنه كان يرى استواء اللفظين فحدث به مرة هكذا ومرارا هكذا ومن ثم لم
يعدها البخاري وهما (قوله فرخص لهم في الجر غير المزفت) في رواية ابن أبي عمر فأرخص وهي
لغة يقال أرخص ورخص وفي رواية ابن أبي شيبة فأذن لهم في شئ منه وفي هذا دلالة على أن
الرخصة لم تقع دفعة واحدة بل وقع النهي عن الانتباذ إلا في سقاء فلما شكوا رخص لهم في بعض
الأوعية دون بعض ثم وقعت الرخصة بعد ذلك عامة لكن يفتقر من قال إن الرخصة وقعت بعد
ذلك إلى أن يثبت أن حديث بريدة الدال على ذلك كان متأخرا عن حديث عبد الله بن عمرو هذا
(قوله حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي وليس هو أبا بكر بن أبي شيبة وإن كان هو أيضا
عبد الله بن محمد لان قول البخاري بهذا يشعر بأن سياقه مثل سياق علي بن المديني إلا في اللفظة
التي اختلفا فيها وسياق ابن أبي شيبة لا يشبه سياق علي (قوله بهذا) أي بهذا الاسناد إلى علي
والمتن وقد أخرجه الإسماعيلي عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الأعمش
فقال بإسناده مثله * الحديث الرابع (قوله عن الأوعية) فيه حذف تقديره نهى عن الانتباذ
في الأوعية وقد بين ذلك في رواية زياد بن فياض عن أبي عياض أخرجه أبو داود بلفظ لا تنبذوا
في الدباء والغنم والنقير والفرق بين الأسقية من الأدم وبين غيرها أن الأسقية يتخللها الهواء من
مسامها فلا يسرع إليها الفساد مثل ما يسرع إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ
فيه وأيضا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت مفسدة الاسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار
مسكرا شق الجلد فلما لم يشقه فهو غير مسكر بخلاف الأوعية لأنها قد تصير النبيذ فيها مسكرا
ولا يعلم به وأما الرخصة في بعض الأوعية دون بعض فمن جهة المحافظة على صيانة المال لثبوت
النهي عن إضاعته لان التي نهى عنها يسرع التغير إلى ما ينبذ فيها بخلاف ما أذن فيه فإنه لا يسرع
إليه التغير ولكن حديث بريدة ظاهر في تعميم الاذن في الجميع يفيد أن لا تشربوا المسكر
فكأن الامن حصل بالإشارة إلى ترك الشرب من الوعاء ابتداء حتى يختبر حاله هل تغير أو لا فإنه
لا يتعين الاختبار بالشرب بل يقع بغير الشرب مثل أن يصير شديد الغليان أو يقذف بالزبد
ونحو ذلك (قوله فقالوا لا بد لنا) (1) في رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي * الحديث
الثالث (قوله حدثني سليمان) هو الأعمش وإبراهيم التيمي هو ابن يزيد بن شريك (قوله عن الدباء
والمزفت) زاد في رواية مالك بن عمير عن علي عند أبي داود والختم والنقير (قوله حدثني عثمان)
هو ابن أبي شيبة وجرير هو ابن عبد الحميد (قوله عن إبراهيم) هو النخعي (قلت للأسود) هو ابن
يزيد النخعي وهو خال إبراهيم الراوي عنه (قوله عم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذ فيه)
أي أخبرني عما نهى وعما أصلها عن ما فأدغمت ولا تشبع الميم غالبا ووقع في رواية الإسماعيلي
ما نهى بحذف عن (قوله أهل البيت) بالفتح على الاختصاص أو على البدل من الضمير (قوله
أما ذكرت) القائل هو إبراهيم وقوله قال أي الأسود وقوله أفنحدث كذا للأكثر بالنون
وللكشميهني أفأحدث بالافراد وهو استفهام إنكار وفي رواية الإسماعيلي أفأحدثك ما لم أسمع
وإنما استفهم إبراهيم عن الجر والحنتم لاشتهار الحديث بالنهي عن الانتباذ في الأربعة ولعل هذا
53

هو السر في التقييد بأهل البيت فإن الدباء والمزفت كان عندهم متيسرا فلذلك خص نهيهم عنهما
* الحديث الخامس (قوله حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد والشيباني هو أبو إسحق سليمان بن
فيروز ووقع في رواية الإسماعيلي حدثني سليمان الشيباني (قوله عن الجر الأخضر) في رواية
الإسماعيلي عن نبيذ الجر الأخضر (قوله قلت) القائل هو الشيباني (قوله قال لا) يعني أن
حكمه حكم الأخضر فدل على أن الوصف بالخضرة لا مفهوم له وكأن الجرار الخضر حينئذ
كانت شائعة بينهم فكان ذكر الأخضر لبيان الواقع لا للاحتراز وقال ابن عبد البر هذا عندي
كلام خرج على جواب سؤال كأنه قيل الجر الأخضر فقال لا تنبذوا فيه فسمعه الراوي
فقال نهى عن الجر الأخضر وقد روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نبيذ
الجر قال والجر كل ما يصنع من مدر (قلت) وقد أخرج الشافعي عن سفيان عن أبي إسحق عن
ابن أبي أوفى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر فإن كان
محفوظا ففي الأول اختصار والحديث الذي ذكره ابن عبد البر أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما
قال الخطابي لم يعلق الحكم في ذلك بالخضرة والبياض وإنما علق بالاسكار وذلك أن الجرار
تسرع التغير لما ينبذ فيها فقد يتغير من قبل أن يشعر به فنهوا عنها ثم لما وقعت الرخصة أذن لهم
في الانتباذ في الأوعية بشرط أن لا يشربوا مسكرا وقد أخرج ابن أبي شيبة من وجه آخر عن
ابن أبي أوفى أنه كان يشرب نبيذ الجر الأخضر وأخرج أيضا بسند صحيح عن ابن مسعود أنه كان
ينبذ له في الجر الأخضر ومن طريق معقل بن يسار وجماعة من الصحابة نحوه وقد خص جماعة
النهي عن الجر بالجرار الخضر كما رواه مسلم عن أبي هريرة قال النووي وبه قال الأكثر أو الكثير
من أهل اللغة والغريب والمحدثين والفقهاء وهو أصح الأقوال وأقواها وقيل إنها جرار مقيرة
الأجواف يؤتى بها من مصر أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس وقيل مثله عن عائشة بزيادة أعناقها
في جنوبها وعن ابن أبي ليلى جرار أفواهها في جنوبها يجلب فيه الخمر من الطائف وكانوا
ينبذون فيها يضاهون بها الخمر وعن عطاء جرار تعمل من طين ودم وشعر ووقع عند مسلم عن
ابن عباس أنه فسر الجر بكل شئ يصنع من مدر وكذا فسر ابن عمر الجر بالجرة وأطلق ومثله عن
سعيد بن جبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن (قوله باب نقيع التمر ما لم يسكر) أورد
فيه حديث سهل بن سعد في قصة امرأة أبي أسيد وفيه أنقعت له تمرات وقد تقدم التنبيه عليه
قريبا وتقدم بسنده ومتنه في أبواب الوليمة وأشار بالترجمة إلى أن الذي أخرجه ابن أبي شيبة عن
عبد الرحمن بن معقل وغيره من كراهة نقيع الزبيب محمول على ما تغير وكاد يبلغ حد الاسكار أو
أراد قائله حسم المادة كما سيأتي عن عبيدة السلماني أنه قال أحدث الناس أشربة لا أدري ما فيها
فما لي شراب الا الماء واللبن الحديث وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه
للسكر لا إثباتا ولا نفيا أما من جهة أن المدة التي ذكرها سهل وهو من أول الليل إلى أثناء نهاره
لا يحصل فيها التغير جملة وإما خصه بما لا يسكر من جهة المقام والله أعلم (قوله
باب الباذق) ضبطه ابن التين بفتح المعجمة ونقل عن الشيخ أبي الحسن يعني القابسي أنه
حدث به بكسر الذال وسئل عن فتحها فقال ما وقفنا عليه قال وذكر أبو عبد الملك أنه الخمر إذا
طبخ وقال ابن التين هو فارسي معرب وقال الجواليقي أصله باذه (7) وهو الطلاء وهو أن يطبخ
54

العصير حتى يصير مثل طلاء الإبل وقال ابن قرقول الباذق المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر
أو إذا طبخ بعد أن أشتد وذكر بن سيده في المحكم أنه من أسماء الخمر وأغرب الداودي فقال إنه
يشبه الفقاع إلا أنه ربما أشتد وأسكر وكلام من هو أعرف منه بذلك يخالفه ويقال للباذق
أيضا المثلث إشارة إلى أنه ذهب منه بالطبخ ثلثاه وكذلك المنصف وهو ما ذهب نصفه وتسميه
العجم ميجنتج بفتح الميم وسكون التحتانية وضم الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة وآخره جيم
ومنهم من يضم المثناة وروايته في مصنف ابن أبي شيبة بدال بدل المثناة وبحذف الميم والياء من
أوله (قوله ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة) كأنه أخذه من قول عمر فإن كان يسكر
جلدته مع نقله عنه تجويز شرب الطلاء على الثلث فكأنه يؤخذ من الخبرين أن الذي أباحه
ما لم يسكر أصلا وأما قوله من الأشربة فلأن الآثار التي أوردها مرفوعها وموقوفها تتعلق
بما يشرب وقد سبق جمع طرق حديث كل مسكر حرام في باب الخمر من العسل (قوله ورأى عمر
وأبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث) أي رأوا جواز شرب الطلاء إذا طبخ فصار على الثلث
ونقص منه الثلثان وذلك بين من سياق ألفاظ هذه الآثار فأما أثر عمر فأخرجه مالك في الموطأ
من طريق محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء
الأرض وثقلها وقالوا لا يصلحنا إلا هذا الشراب فقال عمر اشربوا العسل قالوا ما يصلحنا العسل
فقال رجال من أهل الأرض هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئا لا يسكر فقال نعم فطبخوه
حتى ذهب منه ثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه إصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط فقال
هذا الطلاء مثل طلاء الإبل فأمرهم عمر أن يشربوه وقال عمر اللهم أني لا أحل لهم شيئا حرمته
عليهم وأخرج سعيد بن منصور من طريق أبي مجاز عن عامر بن عبد الله قال كتب عمر إلى عمار
أما بعد فإنه جاءني عير تحمل شرابا أسود كأنه طلاء الإبل فذكروا أنهم يطبخونه حتى يذهب ثلثاه
الأخبثان ثلث بريحه وثلث ببغيه فمر من قبلك أن يشربوه ومن طريق سعيد بن المسيب أن عمر
أحل من الشراب ما طبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه وأخرج النسائي من طريق عبد الله بن يزيد (1)
الخطمي قال كتب عمر اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان منه فإن للشيطان اثنين
ولكم واحد وهذه أسانيد صحيحة وقد أفصح بعضها بأن المحذور منه السكر فمتى أسكر لم يحل
وكأنه أشار بنصيب الشيطان إلى ما أخرجه النسائي من طريق ابن سيرين في قصة نوح عليه
السلام قال لما ركب السفينة فقد الحبلة (2) فقال له الملك أن الشيطان أخذها ثم أحضرت له
ومعها الشيطان فقال له الملك أنه شريكك فيها فأحسن الشركة قال له النصف قال أحسن قال
له الثلثان ولي الثلث قال أحسنت وأنت محسان أن تأكله عنبا وتشربه عصيرا وما طبخ على
الثلث فهو لك ولذريتك وما جاز عن الثلث فهو من نصيب الشيطان وأخرج أيضا من وجه
آخر عن ابن سيرين عن أنس بن مالك فذكره ومثله لا يقال بالرأي فيكون له حكم المرفوع
وأغرب ابن حزم فقال أنس بن مالك لم يدرك نوحا فيكون منقطعا وأما أثر أبي عبيدة وهو ابن
الجراح ومعاذ وهو ابن جبل فأخرجه أبو مسلم الكجي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة من طريق
قتادة عن أنس أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة كانوا يشربون من الطلاء ما طبخ على الثلث
وذهب ثلثاه والطلاء بكسر المهملة والمد هو الدبس شبه بطلاء الإبل وهو القطران الذي يدهن
55

به فإذا طبخ عصير العنب حتى تمدد أشبه طلاء الإبل وهو في تلك الحالة غالبا لا يسكر وقد وافق عمر
ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء أخرجه النسائي عنهما وعلي وأبو أمامة
وخالد بن الوليد وغيرهم أخرجها ابن أبي شيبة وغيره ومن التابعين ابن المسيب والحسن وعكرمة
ومن الفقهاء الثوري والليث ومالك وأحمد والجمهور وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر وكرهه
طائفة تورعا (قوله وشرب البراء وأبو جحيفة على النصف) أما أثر البراء فأخرجه ابن أبي شيبة من
رواية عدي بن ثابت عنه أنه كان يشرب الطلاء على النصف أي إذا طبخ فصار على النصف وأما
أثر أبي جحيفة فأخرجه ابن أبي شيبة أيضا من طريق حصين بن عبد الرحمن قال رأيت أبا جحيفة
فذكر مثله ووافق البراء وأبا جحيفة جرير وأنس ومن التابعين ابن الحنفية وشريح وأطبق
الجميع على أنه إن كان يسكر حرم وقال أبو عبيدة في الأشربة بلغني أن المنصف يسكر فإن كان
كذلك فهو حرام والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف أعناب البلاد فقد قال ابن حزم إنه
شاهد من العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكرا أصلا ومنه ما إذا طبخ إلى النصف
كذلك ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك بل قال إنه شاهد منه ما يصير ربا خاثرا لا يسكر ومنه
ما لو طبخ لا يبقى غير ربعه لا يخثر ولا ينفك السكر عنه قال فوجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة
من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ وقد ثبت عن ابن عباس بسند صحيح أن النار لا تحل
شيئا ولا تحرمه أخرجه النسائي من طريق عطاء عنه وقال إنه يريد بذلك ما نقل عنه في الطلاء
وأخرج أيضا من طريق طاوس قال هو الذي يصير مثل العسل ويؤكل ويصب عليه الماء
فيشرب (قوله وقال ابن عباس أشرب العصير ما دام طريا) وصله النسائي من طريق أبي ثابت
الثعلبي قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل يسأله عن العصير فقال اشربه ما كان طريا قال
إني طبخت شرابا وفي نفسي منه شئ قال أكنت شاربه قبل أن تطبخه قال لا قال فإن النار
لا تحل شيئا قد حرم وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير
الطري قبل أن يتخمر أما لو صار خمرا فطبخ فإن الطبخ لا يطهره ولا يحله إلا على رأي من يجيز تخليل
الخمر والجمهور على خلافه وحجتهم الحديث الصحيح عن أنس وأبي طلحة أخرجه مسلم وأخرج ابن
أبي شيبة والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي أشرب العصير ما لم يغل وعن
الحسن البصري ما لم يتغير وهذا قول كثير من السلف أنه إذا بدأ فيه التغير يمتنع وعلامة ذلك أن
يأخذ في الغليان وبهذا قال أبو يوسف وقيل إذا انتهى غليانه وابتدأ في الهدو بعد الغليان وقيل
إذا سكن غليانه وقال أبو حنيفة لا يحرم عصير العنب النئ حتى يغلى ويقذف بالزبد فإذا غلى
وقذف بالزبد حرم وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا يمتنع مطلقا ولو غلى وقذف
بالزبد بعد الطبخ وقال مالك والشافعي والجمهور يمتنع إذا صار مسكرا شرب قليله وكثيره سواء غلى
أم لم يغل لأنه يجوز أن يبلغ حد الاسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك وهو مراد من قال حد
منع شربه أن يتغير والله أعلم (قوله وقال عمر) هو ابن الخطاب (وجدت من عبيد الله) بالتصغير
وهو ابن عمر (قوله ريح شراب وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته) وصله مالك عن الزهري
عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال أني وجدت من فلان ريح
شراب فزعم أنه شراب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر الحد تاما
56

وسنده صحيح وفي السياق حذف تقديره فسأل عنه فوجده يسكر فجلده وأخرجه سعيد بن
منصور عن ابن عيينة عن الزهري سمع السائب بن يزيد يقول قام عمر على المنبر فقال ذكر لي أن
عبيد الله بن عمر وأصحابه شربوا شرابا وأنا سائل عنه فإن كان يسكر حددتهم قال ابن عيينة
فأخبرني معمر عن الزهري عنا لسائب قال فرأيت عمر يجلدهم وهذا الأثر يؤيد ما قدمته أن
المراد بما أحله عمر من المطبوخ الذي يسمى الطلاء ما لم يكن بلغ حد الاسكار فإن بلغه لم يحل عنده
ولذلك جلدهم ولم يستفصل هل شربوا منه قليلا أو كثيرا وفي هذا رد على من احتج بعمر في جواز
شرب المطبوخ إذا ذهب منه الثلثان ولو أسكر فإن عمر إذن في شربه ولم يفصل وتعقب بأن الجمع
بين الاثرين عنه يقتضى التفصيل وقد ثبت عنده أن كل مسكر حرام فاستغنى عن التفصيل
ويحتمل أن يكون سأل ابنه فاعترف بأنه شرب كذا فسأل غيره عنه فأخبره أنه يسكر أو سأل ابنه
فاعترف أن الذي شرب يسكر وقد بين ذلك عبد الرزاق في روايته عن معمر فقال عن الزهري
عن السائب شهدت عمر صلى على جنازة ثم أقبل علينا فقال أني وجدت من عبيد الله بن عمر ريح
شراب وإني سألته عنه فزعم أنه الطلاء وإني سائل عن الشراب الذي شرب فإن كان مسكرا
جلدته قال فشهدته بعد ذلك يجلده (قلت) وهذا السياق يوضح أن رواية ابن جريج التي أخرجها
عبد الرزاق أيضا عنه عن الزهري مختصرة من هذه القصة ولفظه عن السائب أنه حضر عمر يجلد
رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاما فإن ظاهره أنه جلده بمجرد وجود الريح منه وليس
كذلك لما تبين من رواية معمر وكذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري
عن السائب أن عمر كان يضرب في الريح فإنها أشد اختصارا وأعظم لبسا وقد تبين برواية
معمر أن لا حجة فيه لمن يجوز إقامة الحد بوجود الريح واستدل به النسائي على أن الذي نقل عنه
من أنه كسر النبيذ بالماء لما شرب منه فقطب أن ذلك كان لحموضته لا لاشتداده ووجه الدلالة
أنه عمم وجوب الحد بشرب المسكر ولم يستفصل منه هل شرب منه قليلا أو كثيرا فدل على أن
ذلك النبيذ الذي قطب منه لم يكن بلغ حد الاسكار أصلا واستدل به على جواز إقامة الحد
بالرائحة وقد مضى في فضائل القرآن النقل عن ابن مسعود أنه عمل به ونقل ابن المنذر عن عمر بن
عبد العزيز ومالك مثله قال مالك إذا شهد عدلان ممن كان يشرب ثم تابا أنه ريح خمر وجب الحد
وخالف ذلك الجمهور فقالوا لا يجب الحد إلا بالاقرار أو البينة على مشاهدة الشرب لان الروائح
قد تتفق والحد لا يقام مع الشبهة وليس في قصة عمر التصريح أنه جلد بالرائحة بل ظاهر سياقه
يقتضى أنه اعتمد في ذلك على الاقرار أو البينة لأنه لم يجلدهم حتى سأل وفي قول عمر اللهم لا أحل
لهم شيئا حرمته عليهم رد على من استدل بإجازته شرب المطبوخ أنه يجوز عنده الشرب منه ولو
أسكر شاربه لكونه لم يفصل بين ما إذا أسكر أو لم يسكر فإن بقية أثر عمر الذي ذكرته يدل على أنه
فصل بخلاف ما قال الطحاوي وغيره (قوله سفيان) هو الثوري (قوله عن أبي الجويرية)
بالجيم مصغرا اسمه حطان وقد تقدم شرح حاله في سورة المائدة ووقع في رواية عبد الرزاق عن
الثوري حدثني أبو الجورية (قوله سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق ما أسكر فهو حرام)
قال المهلب أي سبق محمد بتحريم الخمر وتسميتهم لها الباذق قال ابن بطال يعني بقوله كل
مسكر حرام والباذق شراب العسل ويحتمل أن يكون المعنى سبق حكم محمد بتحريم الخمر تسميتهم
57

لها بغير اسمها وليس تغييرهم للاسم بمحلل له إذا كان يسكر قال وكأن ابن عباس فهم من السائل
أنه يرى أن الباذق حلال فحسم مادته وقطع رجاءه وباعد منه أصله وأخبره أن المسكر حرام ولا
عبرة بالتسمية وقال ابن التين يعني أن الباذق لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قلت)
وسياق قصة عمر الأولى يؤيد ذلك وقال أبو الليث السمرقندي شارب المطبوخ إذا كان يسكر
أعظم ذنبا من شارب الخمر لان شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها وشارب المطبوخ
يشرب المسكر ويراه حلالا وقد قام الاجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام وثبت قوله صلى الله
عليه وسلم كل مسكر حرام ومن أستحل ما هو حرام بالاجماع كفر (قلت) وقد سبق إلى نحو هذا
بعض قدماء الشعراء في أول المائة الثالثة فقال يعرض ببعض من كان يفتي بإباحة المطبوخ
وأشربها وأزعمها حراما * وأرجو عفو رب ذي امتنان
ويشربها ويزعمها حلالا * وتلك على المسئ خطيئتان
(قوله قال الشراب الحلال الطيب قال ليس بعد الحلال الطيب الا الحرام الخبيث) هكذا في
جميع نسخ الصحيح ولم يعين القائل هل هو ابن عباس أو من بعده والظاهر أنه من قول ابن عباس
وبذلك جزم القاضي إسماعيل في أحكامه في رواية عبد الرزاق وأخرج البيهقي الحديث من طريق
محمد بن أيوب عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه بلفظ قال الشراب الحلال الطيب لا الحرام
الخبيث وأخرجه أيضا من طريق ابن أبي خيثمة وهو زهير بن معاوية عن أبي الجويرية قال
قلت لابن عباس أفتني عن البادق فذكر الحديث وفي آخره فقال رجل من القوم إنا نعمد إلى
العنب فنعصره ثم نطبخه حتى يكون حلالا طيبا فقال سبحان الله سبحان الله أشرب الحلال
الطيب فإنه ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث وأخرجه سعيد بن منصور من طريق
أبي عوانة عن أبي الجويرية قال سألت ابن عباس قلت نأخذ العنب فنعصره فنشرب منه حلوا
حلالا قال أشرب الحلو والباقي مثله ومعنى هذا أن المشبهات نقع في حين الحرام وهو الخبيث
وما لا شبهة فيه حلال طيب قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن هذا الأثر عن ابن عباس
يضعف الأثر المروي عنه حرمت الخمر بعينها الحديث وقد سبق بيانه في باب الخمر من العسل ثم
أسند عن ابن عباس قال ما أسكر كثيره فقليله حرام وأخرج البيهقي من طريق إسحق بن راهويه
بسند صحيح إلى يحيى بن عبيد أحد الثقات عن ابن عباس قال أن النار لا تحل شيئا ولا تحرمه وزاد
في رواية أخرى عن يحيى بن عبيد عن ابن عباس أنه قال لهم أيسكر قالوا إذا أكثر منه أسكر
قال فكل مسكر حرام ثم ذكر المصنف حديث عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء
والعسل وقد تقدم في الأطعمة والحلواء تعقد من السكر وعطف العسل عليها من عطف العام
على الخاص وقد تعقد الحلواء من السكر فيتقاربان ووجه إيراده في هذا الباب أن الذي يحل
من المطبوخ هو ما كان في معنى الحلواء والذي يجوز شربه من عصير العنب بغير طبخ هو ما كان في
معنى العسل فإنهم كانوا يمزجونه بالماء ويشربونه من ساعته والله أعلم (قوله باب
من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كان مسكرا) قال ابن بطال قوله إذا كان مسكرا خطأ لان
النهي عن الخليطين عام وأن لم يسكر كثيرهما لسرعة سريان الاسكار إليهما من حيث لا يشعر
صاحبه به فليس النهي عن الخليطين لأنهما يسكران حالا بل لأنهما يسكران مآلا فإنهما
58

إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف في النهي عنهما قال الكرماني فعلى هذا فليس هو خطأ بل
يكون أطلق ذلك على سبيل المجاز وهو استعمال مشهور وأجاب ابن المنير بأن ذلك لا يرد على
البخاري إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الاسكار وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول
وهو حديث أنس فإنه لا شك أن الذي كان يسقيه القوم حينئذ كان مسكرا ولهذا دخل عندهم
في عموم النهي عن الخمر حتى قال أنس وانا لنعدها يومئذ الخمر فدل على أنه كان مسكرا قال وأما
قول وأن لا يجعل إدامين في إدام فيطابق حديث جابر وأبي قتادة ويكون النهي معللا بعلل
مستقلة إما تحقيق إسكار الكثير وإما توقع الاسكار بالخلط سريعا وإما الاسراف والشره
والتعليل بالاسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر (قلت) والذي يظهر لي أن مراد
البخاري بهذه الترجمة الرد على من أول النهي عن الخليطين بأحد تأويلين أحدهما حمل الخليط
على المخلوط وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلا قد أشتد ونبيذ زبيب وحده مثلا قد أشتد
فيخلطان ليصيرا خلا فيكون النهي من أجل تعمد التخليل وهذا مطابق للترجمة من غير تكلف
ثانيهما أن يكون علة النهي عن الخلط الاسراف فيكون كالنهي عن الجمع بين إدامين ويؤيد
الثاني قوله في الترجمة وأن لا يجعل إدامين في إدام وقد حكى أبو بكر الأثرم عن قوم أنهم حملوا النهي
عن الخليطين على الثاني وجعلوه نظير النهي عن القرآن بين التمر كما تقدم في الأطعمة قالوا فإذا
ورد النهي عن القرآن بين التمرتين وهما من نوع واحد فكيف إذا وقع القرآن بين نوعين ولهذا
عبر المصنف بقوله من رأى ولم يجزم بالحكم وقد نصر الطحاوي من حمل النهي عن الخليطين على
منع السرف فقال كان ذلك لما كانوا فيه من ضيق العيش وساق حديث ابن عمر في النهي عن
القرآن بين التمرتين وتعقب بأن ابن عمر أحد من روى النهي عن الخليطين وكان ينبذ البسر فإذا
نظر إلى بسرة في بعضها ترطيب قطعه كراهة أن يقع في النهي وهذا على قاعدتهم يعتمد عليه لأنه
لو فهم أن النهي عن الخليطين كالنهي عن القرآن لما خالفه فدل على أنه عنده على غيره ثم أورد
المصنف حديث أنس الذي تقدم شرحه في أول الباب وفيه أنه سقاه خليط بسر وتمر فدل على أن
المراد بالنهي عن الخليطين ما كانوا يصنعونه قبل ذلك من خلط البسر بالتمر ونحو ذلك لان ذلك
عادة يقتضى إسراع الاسكار بخلاف المنفردين ولا يمكن حمل حديث أنس هذا في الخليطين على
ما ادعاه صاحب التأويل الأول وحمل علة النهي لخوف الاسراع أظهر من حملها على الاسراف
لأنه لا فرق بين نصف رطل من تمر ونصف رطل من بسر إذا خلطا مثلا وبين رطل من زبيب صرف
بل هو أولى لقلة الزبيب عندهم إذ ذاك بالنسبة إلى التمر والرطب وقد وقع الاذن بأن ينبذ كل
واحد على حدة ولم يفرق بين قليل وكثير فلو كانت العلة الاسراف لما أطلق ذلك وحكى
الطحاوي في اختلاف العلماء عن الليث قال لا أرى بأسا أن يخلط نبيذ التمر ونبيذ الزبيب ثم
يشربان جميعا وإنما جاء النهي أن ينبذا جميعا ثم يشربا لان أحدهما يشتد به صاحبه (قوله وقال
عمرو بن الحرث حدثنا قتادة سمع أنسا) أراد بهذا التعليق بيان سماع قتادة لأنه وقع في الرواية
التي ساقها قبل معنعنا وقد أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحرث ولفظه نهى
أن يخلط التمر والزهو ثم يشرب وأن ذلك كان عامة خمرهم يومئذ وهذا السياق أظهر في المراد
الذي حملت عليه لفظ الترجمة والله أعلم وقوله في الاسناد الأول حدثنا مسلم وقع في رواية
59

النسفي حدثنا مسلم بن إبراهيم وهشام هو الدستوائي الحديث الثاني حديث جابر وأورده بلفظ
نهى عن الزبيب والتمر والبسر والرطب وليس صريحا في النهي عن الخليط وقد بينه مسلم في
روايته من طريق عبد الرزاق ويحيى القطان جميعا عن ابن جريج بلفظ لا تجمعوا بين الرطب
والبسر وبين الزبيب والتمر نبيذا وأخرج أيضا من طريق الليث عن عطاء نهى أن ينبذ التمر
والزبيب جميعا والرطب والبسر جميعا الحديث الثالث حديث أبي قتادة (قوله حدثنا مسلم)
هو ابن إبراهيم أيضا وهشام هو الدستوائي أيضا (قوله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه) هو
الأنصاري المشهور (قوله نهى) في رواية مسلم من طريق إسماعيل بن علية عن هشام بهذا الاسناد
لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا الحديث (قوله ولينبذ كل واحد منهما) أي من كل اثنين
منهما فيكون الجمع بين أكثر بطريق الأولى (قوله على حدة) بكسر المهملة وفتح الدال بعدها هاء
تأنيث أي وحده ووقع في رواية الكشميهني على حدته وهذا مما يؤيد رد التأويل المذكور أولا
كما بينته ولمسلم من حديث أبي سعيد من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا أو
بسرا فردا وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي سبب النهي من طريق الحراني عن ابن عمر قال
أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فضربه ثم سأله عن شرابه فقال شربت نبيذ تمر وزبيب فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لا تخلطوهما فان كل واحد منهما يكفي وحده قال النووي وذهب
أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الاسكار يسرع إليه بسبب الخلط
قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الاسكار ويكون قد بلغه قال ومذهب الجمهور أن
النهي في ذلك للتنزيه وإنما يمتنع إذا صار مسكرا ولا تخفى علامته وقال بعض المالكية هو
للتحريم واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل
يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ فقال الجمهور لا فرق وقال الليث لا بأس بذلك
عند الشرب ونقل ابن التين عن الداودي أن سبب النهي أن النبيذ يكون حلوا فإذا أضيف
إليه الآخر أسرعت إليه الشدة وهذه صورة أخرى كأنه يخص النهي بما إذا نبذ أحدهما ثم
أضيف إليه الآخر لا ما إذا نبذا معا واختلف في الخليطين من الأشربة غير النبيذ فحكى ابن التين
عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض شرابين ورده بأنهما لا يسرع إليهما الاسكار اجتماعا
وانفرادا وتعقب باحتمال أن يكون قائل ذلك يرى أن العلة الاسراف كما تقدم لكن يقيد
كلام هذا في مسئلة المريض بما إذا كان المفرد كافيا في دواء ذلك المرض وإلا فلا مانع حينئذ من
التركيب وقال ابن العربي ثبت تحريم الخمر لما يحدث عنها من السكر وجواز النبيذ الحلو الذي
لا يحدث عنه سكر وثبت النهي عن الانتباذ في الأوعية ثم نسخ وعن الخليطين فاختلف العلماء
فقال أحمد وإسحق وأكثر الشافعية بالتحريم ولو لم يسكر وقال الكوفيون بالحل قال واتفق
علماؤنا على الكراهة لكن اختلفوا هل هو للتحريم أو للتنزيه واختلف في علة المنع فقيل لان
أحدهما يشد الآخر وقيل لان الاسكار يسرع إليهما قال ولا خلاف أن العسل باللبن ليس
بخليطين لان اللبن لا ينبذ لكن قال ابن عبد الحكم لا يجوز خلط شرابي سكر كالورد والجلاب
وهو ضعيف قال واختلفوا في الخليطين لأجل التخليل ثم قال ويتحصل لنا أربع صور أن يكون
الخليطان منصوصين فهو حرام أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر
60

فهو حرام قياسا على المنصوص أو مسكوت عنهما وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز قال
وهنا مرتبة رابعة وهي ما لو خلط شيئين وأضاف إليهما دواء يمنع الاسكار فيجوز في المسكوت
عنه ويكره في المنصوص وما نقله عن أكثر الشافعية وجد نص الشافعي بما يوافقه فقال ثبت
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخليطين فلا يجوز بحال وعن مالك قال أدركت على ذلك أهل
العلم ببلدنا وقال الخطابي ذهب إلى تحريم الخليطين وأن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا
بظاهر الحديث وهو قول مالك وأحمد وإسحق وظاهر مذهب الشافعي وقالوا من شرب الخليطين
أثم من جهة واحدة فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين وخص الليث النهي بما إذا نبذا معا اه‍
وجرى ابن حزم على عادته في الجمود فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء
وهي التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها أو في غيرها فأما لو خلط واحد من غيرها في
واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق
المختار بن فلفل عن أنس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي
أحدهما على صاحبه وقال القرطبي النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم وهو قول جمهور فقهاء
الأمصار وعن مالك يكره فقط وشذ من قال لا بأس به لان كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا
قال وهذه مخالفة للنص وقياس مع وجود الفارق فهو فاسد من وجهين ثم هو منتقض بجواز
كل واحدة من الأختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين قال وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم
إن النهي إنما هو من باب السرف قال وهذا تبديل لا تأويل ويشهد ببطلانه الأحاديث الصحيحة
قال وتسمية الشراب إداما قول من ذهل عن الشرع واللغة والعرف قال والذي يفهم من
الأحاديث التعليل بخوف إسراع الشدة بالخلط وعلى هذا يقتصر في النهي عن الخلط على
ما يؤثر فيه الاسراع قال وأفرط بعض أصحابنا فمنع الخلط وأن لم توجد العلة المذكورة ويلزمه أن
يمنع من خلط العسل واللبن والخل والعسل قلت حكاه ابن العربي عن محمد بن عبد الله بن
عبد الحكم وقال أنه حمل النهي عن الخليطين من الأشربة على عمومه واستغربه (قوله
باب شرب اللبن) قال ابن المنير أطال التفنن في هذه الترجمة ليرد قول من زعم أن اللبن
يسكر كثيره فرد ذلك بالنصوص وهو قول غير مستقيم لان اللبن لا يسكر بمجرده وإنما يتفق فيه
ذلك نادرا بصفة تحدث وقال غيره قد زعم بعضهم أن اللبن إذا طال العهد به وتغير صار يسكر وهذا
ربما يقع نادرا إن ثبت وقوعه ولا يلزم منه تأثيم شاربه إلا إن علم إن عقله يذهب به فشربه لذلك
نعم قد يقع السكر باللبن إذا جعل فيه ما يصير باختلاطه معه مسكرا فيحرم (قلت) أخرج سعيد
ابن منصور بسند صحيح عن ابن سيرين أنه سمع ابن عمر يسئل عن الأشربة فقال إن أهل كذا
يتخذون من كذا وكذا خمرا حتى عد خمسة أشربة لم أحفظ منها الا العسل والشعير واللبن قال
فكنت أهاب أن أحدث باللبن حتى أنبئت أنه بأرمينية يصنع شراب من اللبن لا يلبث صاحبه أن
يصرع واستدل بالآية المذكورة أول الباب على أن الماء إذا تغير ثم طال مكثه حتى زال التغير
بنفسه ورجع إلى ما كان عليه أنه يطهر بذلك وهذا في الكثير وبغير النجاسة من القليل متفق
عليه وأما القليل المتغير بالنجاسة ففيما إذا زال تغيره بنفسه خلاف هل يطهر والمشهور عند
المالكية يطهر وظاهر الاستدلال يقوي القول بالتطهير لكن في الاستدلال به لذلك نظر
61

وقريب منه في البعد استدلال من استدل به على طهارة المني وتقريره أن اللبن خالط الفرث والدم
ثم استحال فخرج خالصا طاهرا وكذلك المني ينقصر من الدم فيكون على غير صفة الدم فلا يكون
نجسا (قوله وقول الله عز وجل يخرج من بين فرث ودم) زاد غير أبي ذر لبنا خالصا وزاد غيره
وغير النسفي بقية الآية ووقع يخرج في أوله في معظم النسخ والذي في القرآن نسقيكم مما
في بطونه من بين فرث ودم وأما لفظ يخرج فهو في الآية الأخرى من السورة يخرج من بطونها
شراب مختلف ألوانه ووقع في بعض النسخ وعليه جرى الإسماعيلي وابن بطال وغيرهما بحذف
يخرج من أوله وأول الباب عندهم وقول الله من بين فرث ودم فكأن زيادة لفظ يخرج ممن دون
البخاري وهذه الآية صريحة في إحلال شرب لبن الانعام بجميع أنواعه لوقوع الامتنان
به فيعم جميع ألبان الانعام في حال حياتها والفرث بفتح الفاء وسكون الراء بعدها مثلثة هو ما يجتمع
في الكرش وقال القزاز هو ما ألقي من الكرش تقول فرثت الشئ إذا أخرجته من وعائه
فشربته فأما بعد خروجه فإنما يقال له سرجين وزبل وأخرج القزاز عن ابن عباس أن الدابة
إذا أكلت العلف واستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما والكبد
مسلطة عليه فتقسم الدم وتجريه في العروق وتجري اللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش
وحده وقوله تعالى لبنا خالصا أي من حمرة الدم وقذارة الفرث وقوله سائغا أي لذيذا هنيئا لا يغص
به شاربه وذكر المصنف في الباب سبعة أحاديث * الأول حديث أبي هريرة (قوله بقدح لبن
وقدح خمر) تقدم البحث فيه قريبا والحكمة في التخيير بين الخمر مع كونه حراما واللبن مع كونه
حلالا إما لان الخمر حينئذ لم تكن حرمت أو لأنها من الجنة وخمر الجنة ليست حراما وقوله في
الحديث ليلة أسرى به حكى فيه تنوين ليلة والذي أعرفه في الرواية الإضافة * الحديث الثاني
حديث أم الفضل في شرب اللبن بعرفة وقد تقدم شرحه في الصيام وقوله في آخره وكان سفيان
ربما قال شك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه أم الفضل فإذا وقف
عليه قال هو عن أم الفضل يعني أن سفيان كان ربما أرسل الحديث فلم يقل في الاسناد عن أم
الفضل فإذا سئل عنه هل هو موصول أو مرسل قال هو عن أم الفضل وهو في قرة قوله هو
موصول وهذا معني قوله وقف عليه وهو بضم أوله وكسر القاف ووقع في رواية أبي ذر ووقف
بزيادة واو ساكنة بعد الواو المضمومة والقائل وكان سفيان هو الراوي عنه وهو الحميدي وقد
تقدم في الحج عن علي بن عبد الله عن سفيان بدون هذه الزيادة وأغرب الداودي فقال
لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن تقول أم الفضل عن نفسها فأرسلت أم الفضل أي على سبيل
التجريد كذا قال * الحديث الثالث (قوله عن أبي صالح وأبي سفيان) كذا رواه أكثر أصحاب
الأعمش عنه عن جابر ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده أخرجه مسلم وقد
أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر
وعن أبي صالح عن أبي هريرة وهو شاذ والمحفوظ عن جابر (قوله من النقيع) بالنون قيل هو
الموضع الذي حمى لرعي النعم وقيل غيره وقد تقدم في كتاب الجمعة ذكر نقيع الخضمات فدل على
التعدد وكان واديا يجتمع فيه الماء والماء الناقع هو المجتمع وقيل كانت تعمل فيه الآنية وقيل هو
الباع حكاه الخطابي وعن الخليل الوادي الذي يكون فيه الشجر وقال ابن التين رواه أبو الحسن
62

يعني القابسي بالموحدة وكذا نقله عياض عن أبي بحر بن العاص وهو تصحيف فإن البقيع مقبرة
بالمدينة وقال القرطبي الأكثر على النون وهو من ناحية العقيق على عشرين فرسخا من المدينة
(قوله ألا) بفتح الهمزة والتشديد بمعنى هلا وقوله خمرته بخاء معجمة وتشديد الميم أي غطيته ومنه
خمار المرأة لأنه يسترها (قوله تعرض) بفتح أوله وضم الراء قاله الأصمعي وهو رواية الجمهور وأجاز
أبو عبيد كسر الراء وهو مأخوذ من العرض أي تجعل العود عليه بالعرض والمعنى أنه إن لم يغطه
فلا أقل من أن يعرض عليه شيئا وأظن السر في الاكتفاء بعرض العود أن تعاطي التغطية
أو العرض يقترن بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية فتمتنع الشياطين من الدنو منه
وسيأتي شئ من الكلام على هذا الحكم في باب في تغطية الاناء بعد أبواب * (تنبيه) * وقع لمسلم
من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح وحده عن جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاستسقى فقال رجل يا رسول الله ألا نسقيك نبيذا قال بلى فخرج الرجل يسعى فجاء بقدح
فيه نبيذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا خمرته الحديث ولمسلم أيضا من طريق ابن
جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول أخبرني أبو حميد الساعدي قال أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم بقدح لبن من النقيع ليس مخمرا الحديث والذي يظهر أن قصة اللبن كانت لأبي حميد
وأن جابرا أحضرها وأن قصة النبيذ حملها جابر عن أبي حميد وأبهم أبو حميد صاحبها ويحتمل أن
يكون هو أبا حميد راويها أيهم نفسه ويحتمل أن يكون غيره وهو الذي يظهر لي والله أعلم
* الحديث الرابع حديث البراء قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وأبو بكر معه كذا أورده
مختصرا (3) فقال البراء أن هذا القدر هو الذي رواه شعبة عن أبي إسحق قال ورواه إسرائيل
وغيره عن أبي إسحق مطولا (قلت) وقد تقدم في الهجرة وأوله أن عازبا باع رحلا لأبي بكر وسأله
عن قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وقوله فحلبت وتقدم هناك فأمرت الراعي فحلب
فيكون نسبة الحلب لنفسه هنا مجازية وقوله كثبة بضم أوله وسكون المثلثة بعدها موحدة
قال الخليل كل قليل جمعته فهو كثبة وقال ابن فارس هي القطعة من اللبن أو التمر وقال أبو زيد
هي من اللبن ملء القدح وقيل قدر حلبة ناقة ومحمود شيخ البخاري فيه هو ابن غيلان والنضر هو
ابن شميل وأحسن الأجوبة في شرب النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن مع كون الراعي أخبرهم
أن الغنم لغيره أنه كان في عرفهم التسامح بذلك أو كان صاحبها أذن للراعي أن يسقي من يمر به إذا
التمس ذلك منه وقيل فيه احتمالات أخرى تقدمت * الحديث الخامس حديث أبي هريرة نعم
الصدقة اللقحة بكسر اللام ويجوز فتحها وسكون القاف بعدها مهملة وهي التي قرب عهدها
بالولادة والصفي بمهملة وفاء وزن فعيل هي الكثيرة اللبن وهي بمعنى مفعول أي مصطفاة مختارة
وفي قوله تغدو وتروح إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها وقد تقدم بيان ذلك مستوفى في كتاب
العارية * الحديث السادس حديث ابن عباس في المضمضة من اللبن أي بسبب شرب اللبن تقدم
شرحه في الطهارة وقد أخرجه أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بصيغة الامر
تمضمضوا من اللبن * الحديث السابع حديث أنس في الاقداح (قوله وقال إبراهيم بن طهمان
الخ) وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في الصغير من طريقه ووقع لنا بعلو في غرائب شعبة
63

لابن منده قال الطبراني لم يروه عن شعبة إلا إبراهيم بن طهمان تفرد به حفص بن عبد الله
النيسابوري عنه (قوله رفعت إلي سدرة المنتهى) كذا للأكثر بضم الراء وكسر الفاء وفتح
المهملة وسكون المثناة على البناء للمجهول والسدرة مرفوعة وللمستملي دفعت بدال بدل الراء
وسكون العين وضم المثناة بنسبة الفعل إلى المتكلم وإلى بالسكون حرف جر (قوله وقال هشام)
يعني الدستوائي وهمام يعني ابن يحيى وسعيد يعني ابن أبي عروبة يعني أنهم اجتمعوا على رواية
الحديث عن قتادة فزادوهم في الاسناد بعد أنس بن مالك مالك بن صعصعة ولم يذكره شعبة
وقوله في الأنهار نحوه يريد أنهم توافقوا من المتن على ذكر الأنهار وزادوا هم قصة الاسراء بطولها
وليست في رواية شعبة هذه ووقع في روايتهم هنا بعد قوله سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال
هجر وورقها كأنها آذان الفيلة في أصلها أربعة أنهار واقتصر شعبة على فإذا أربعة أنهار
(قوله ولم يذكروا ثلاثة أقداح) في رواية الكشميهني ولم يذكر بالافراد وظاهر هذا النفي أنه لم يقع
ذكر الاقداح في رواية الثلاثة وهو معترض بما تقدم في بدء الخلق عن هدبة عن همام بلفظ ثم
أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فيحتمل أن يكون المراد بالنفي نفي ذكر الاقداح
بخصوصها ويحتمل أن تكون رواية الكشمهيني التي بالافراد هي المحفوظة والفاعل هشام
الدستوائي فإنه تقدم في بدء الخلق طريق يزيد بن زريع عن سعيد وهشام جميعا عن قتادة
بطوله وليس فيه ذكر الآنية أصلا لكن أخرجه مسلم من رواية عبد الاعلى عن هشام وفيه ثم
أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن فعرضا علي ثم أخرجه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه
نحوه ولم يسق لفظه وقد ساقه النسائي من رواية يحيى القطان عن هشام وليس فيه ذكر الآنية
أصلا فوضح من هذا أن رواية همام فيها ذكر ثلاثة وإن كان لم يصرح بذكر العدد ولا وصف
الظرف ورواية سعيد فيها ذكر إناءين فقط ورواية هشام ليس فيها ذكر شئ من ذلك أصلا وقد
رجح الإسماعيلي رواية إناءين فقال عقب حديث شعبة هنا هذا حديث شعبة وحديث الزهري
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة المذكور أول الباب أصح إسنادا من هذا وأولى من هذا كذا
قال مع أنه أخرج حديث همام عن جماعة عن هدبة عنه كما أخرجه البخاري سواء والزيادة من
الحافظ مقبولة وقد توبع وذكر إناءين لا ينفي الثالث مع أنني قدمت في الكلام على حديث
الاسراء أن عرض الآنية على النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين قبل المعراج وهو في بيت
المقدس وبعده وهو عند سدرة المنتهى وبهذا يرتفع الاشكال جملة قال ابن المنير لم يذكر السر في
عدوله عن العسل إلى اللبن كما ذكر السر في عدوله عن الخمر ولعل السر في ذلك كون اللبن أنفع
وبه يشتد العظم وينبت اللحم وهو بمجرده قوت ولا يدخل في السرف بوجهه وهو أقرب إلى الزهد
ولا منافاة وبين الورع بوجه والعسل وإن كان حلالا لكنه من المستلذات التي قد يخشى
على صاحبها أن يندرج في قوله تعالى أذهبتم طيباتكم (قلت) ويحتمل أن يكون السر فيه
ما وقع في بعض طرق الاسراء أنه صلى الله عليه وسلم عطش كما تقدم في بعض طرقه مبينا هناك
فأتى بالاقداح فأثر اللبن دون غيره لما فيه من حصول حاجته دون الخمر والعسل فهذا هو السبب
الأصلي في إيثار اللبن وصادف مع ذلك رجحانه عليهما من عدة جهات وقد تقدم شئ من هذا
في شرح حديث الاسراء قال ابن المنير ولا يعكر على ما ذكرته ما سيأتي قريبا أنه كان يحب الحلوى
64

والعسل لأنه إنما كان يحبه مقتصدا في تناوله لا في جعله ديدنا ولا تنطعا ويؤخذ من قول
جبريل في الخمر غوت أمتك أن الخمر ينشأ عنها الغي ولا يختص ذلك بقدر معين ويؤخذ من عرض
الآنية عليه صلى الله عليه وسلم إرادة إظهار التيسير عليه وإشارة إلى تفويض الأمور إليه
(قوله باب استعذاب الماء) بالذال المعجمة أي طلب الماء العذب والمراد به
الحلو ذكر فيه حديث أنس في صدقة أبي طلحة لقوله فيه ويشرب من ماء فيها طيب وقد ورد
في خصوص هذا اللفظ وهو استعذاب الماء حديث عائشة رضي الله عنها كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بيوت السقيا والسقيا بضم المهملة وبالقاف بعدها
تحتانية قال قتيبة هي عين بينها وبين المدينة يومان هكذا أخرجه أبو داود عنه بعد سياق الحديث
بسند جيد وصححه الحاكم وفي قصة أبي الهيثم ابن التيهان أن امرأته قالت للنبي صلى الله عليه
وسلم لما جاءهم يسأل عن أبي الهيثم ذهب يستعذب لنا من الماء وهو عند مسلم كما سأبينه
بعد وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله
عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء
يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس
مرة ومن بيوت السقيا مرة قال ابن بطال استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه
المذموم بخلاف تطيب الماء بالمسك ونحوه فقد كرهه مالك لما فيه من السرف وأما شرب الماء
الحلو وطلبه فمباح فقد فعله الصالحون وليس في شرب الماء الملح فضيلة قال وفيه دلالة على أن
استطابة الأطعمة جائزة وأن ذلك من فعل أهل الخير وقد ثبت أن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم نزل في الذين أرادوا الامتناع من لذائذ المطاعم قال ولو كانت
مما لا يريد الله تناوله ما أمتن بها على عباده بل نهيه عن تحريمها يدل على أنه أراد منهم تناولها
ليقابلوا نعمته بها عليهم بالشكر لها وأن كانت نعمه لا يكافئها شكرهم وقال ابن المنير أما أن
استعذاب الماء لا ينافي الزهد والورع فواضح وأما الاستدلال بذلك على لذيذ الأطعمة فبعيد
وقال ابن التين هذا الحديث أصل في جواز شرب الماء من البستان بغير ثمن (قلت) المأذون له في
الدخول فيه لا شك فيه وأما غيره فلما اقتضاه العرف من المسامحة بذلك وثبوت ذلك بالفعل
المذكور فيه نظر وقوله ذلك مال رايح أو رابح الأول بتحتانية والثاني بموحدة والحاء مهملة
فيهما فالأول معناه أن أجره يروح إلى صاحبه أي يصل إليه ولا ينقطع عنه والثاني معناه كثير
الربح وأطلق عليه صفة صاحبه المتصدق به وقوله شك عبد الله بن مسلمة هو القعنبي وقوله
قال إسماعيل هو ابن أبي أويس ويحيى هو ابن يحيى ورايح في روايتهما بالتحتانية وقد تقدمت
رواية إسماعيل مصرحا فيها بالتحديث في تفسير آل عمران ورواية يحيى بن يحيى كذلك في الوكالة
وتقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الوكالة (قوله باب شرب اللبن بالماء) أي
ممزوجا وإنما قيده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش ووقع في رواية الكشميهني
بالواو بدل الراء والشوب الخلط قال ابن المنير مقصوده أن ذلك لا يدخل في النهي عن الخليطين وهو
يؤيد ما تقدم من فائدة تقييده الخليطين بالمسكر أي إنما ينهى عن الخليطين إذا كان كل واحد
منهما من جنس ما يسكر وإنما كانوا يمزجون اللبن بالماء لان اللبن عند الحلب يكون حارا وتلك
65

البلاد في الغالب حارة فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد ذكر فيه حديثين الأول (قوله
حدثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان وعبد الله هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد (قوله أنه رأى
رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا وأتى داره) أي دار أنس وهي جملة حالية أي رآه حين أتى
داره وقد تقدم في الهبة من طريق أبي طوالة عن أنس بلفظ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في دارنا هذه فاستسقى فحلبنا شاة لنا (قوله فحلبت) عين في هذه الرواية أنه هو الذي باشر الحلب
وقوله فشبت كذا للأكثر من الشوب بلفظ المتكلم ووقع في رواية الأصيلي بكسر المعجمة بعدها
تحتانية على البناء للمجهول (قوله وأبو بكر عن يساره) زاد في رواية أبي طوالة وعمر تجاهه وقد
تقدم ضبطها في الهبة وتقدم في الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث فقال عمر
وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر وفي رواية أبي طوالة فقال عمر هذا أبو بكر قال الخطابي
وغيره كانت العادة جارية لملوك الجاهلية ورؤسائهم بتقديم الأيمن في الشرب حتى قال عمرو بن
كلثوم في قصيدة له * وكان الكأس مجراها اليمينا * فخشي عمر لذلك أن يقدم الأعرابي على أبي بكر
في الشرب فنبه عليه لأنه احتمل عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر تقديم أبي بكر على تلك
العادة فتصير السنة تقديم الأفضل في الشرب على الأيمن فبين النبي صلى الله عليه وسلم بفعله
وقوله أن تلك العادة لم تغيرها السنة وأنها مستمرة وأن الأيمن يقدم على الأفضل في ذلك ولا يلزم
من ذلك حط رتبة الأفضل وكان ذلك لفضل اليمن على اليسار (قوله فأعطى الأعرابي فضله) أي
اللبن الذي فضل منه بعد شربه وقد تقدم في الهبة ذكر من زعم أن اسم هذا الأعرابي خالد بن الوليد
وأنه وهم ووقع عند الطبراني من حديث عبد الله بن أبي حبيبة قال أتانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مسجد قباء فجئت فجلست عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره ثم دعا بشراب فشرب
وناولني عن يمينه وأخرجه أحمد لكن لم يسم الصحابي ولا يمكن تفسير المبهم في حديث أنس به
أيضا لأن هذه القصة كانت بقباء وتلك في دار أنس أيضا فهو أنصاري ولا يقال له أعرابي كما
استبعد ذلك في حق خالد بن الوليد (قوله ثم قال الأيمن فالأيمن) في رواية الكشميهني وقال بالواو
بدل ثم وفي رواية أبي طوالة الأيمنون فالأيمنون وفيه حذف تقديره الأيمنون مقدمون أو أحق
أو يقدم الأيمنون وأما رواية الباب فيجوز الرفع على ما سبق والنصب على تقدير قدموا أو أعطوا
ووقع في الهبة بلفظ ألا فيمنوا والكلام عليها واستنبط بعضهم من تكرار الأيمن أن السنة
إعطاء من على اليمين ثم الذي يليه وهلم جرا ويلزم منه أن يكون عمر في الصورة التي وردت في هذا
الحديث شرب بعد الأعرابي ثم شرب أبو بكر بعده لكن الظاهر عن عمر إيثاره أبا بكر بتقديمه
عليه والله أعلم وفي الحديث من الفوائد غير ما ذكر أن من سبق إلى مجلس علم أو مجلس رئيس
لا ينحى منه لمجئ من هو أولى منه بالجلوس في الموضع المذكور بل يجلس الآتي حيث انتهى به
المجلس لكن إن آثره السابق جاز وأن من استحق شيئا لم يدفع عنه إلا بإذنه كبيرا كان أو صغيرا إذا
كان ممن يجوز إذنه وفيه أن الجلساء شركاء فيما يقرب إليهم على سبيل الفضل لا اللزوم للاجماع على
أن المطالبة بذلك لا تجب قاله ابن عبد البر ومحله ما إذا لم يكن فيهم الامام أو من يقوم مقامه فإن
كان فالتصرف في ذلك له وفيه دخول الكبير بيت خادمه وصاحبه ولو كان صغير السن وتناوله
مما عندهم من طعام وشراب من غير بحث وسيأتي بقية فوائده بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله
66

تعالى * الحديث الثاني (قوله حدثنا عبد الله بن محمد) هو الجعفي وأبو عامر هو العقدي وسعيد
ابن الحرث هو الأنصاري (قوله دخل على رجل من الأنصار) كنت ذكرت في المقدمة أنه
أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ثم وقفت عن ذلك لما أخرجه أحمد عن إسحاق بن عيسى عن فليح في
أول حديثي الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قوما من الأنصار يعود مريضا لهم وقصة أبي
الهيثم في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة واستوعب ابن مردويه في تفسير التكاثر طرقه فزاد
عن ابن عباس وأبي عسيب وأبي سعيد ولم يذكر في شئ من طرقه عبادة فالذي يظهر أنها قصة
أخرى ثم وقفت على المستند في ذلك وهو ما ذكره الواقدي من حديث الهيثم بن نصر الأسلمي قال
خدمت النبي صلى الله عليه وسلم ولزمت بابه فكنت آتيه بالماء من بئر جاشم وهي بئر أبي الهيثم
ابن التيهان وكان ماؤها طيبا ولقد دخل يوما صائفا ومعه أبو بكر على أبي الهيثم فقال هل من
ماء بارد فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج فصبه على لبن عنز له وسقاه ثم قال له إن لنا عريشا باردا فقل
فيه يا رسول الله عندنا فدخله وأبو بكر وأتى أبو الهيثم بألوان من الرطب * الحديث والشجب
بفتح المعجمة وسكون الجيم ثم موحدة يتخذ من شنة تقطع ويخرز رأسها (قوله ومعه صاحبه)
هو أبو بكر الصديق كما ترى (قوله فقال له) زاد في رواية الإسماعيلي من قبل هذا وإلى جانبه ماء
في ركي وهو بفتح الراء وكسر الكاف وبعدها شدة البئر المطوية وزاد في رواية ستأتي بعد خمسة
أبواب فسلم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فرد الرجل أي عليهما السلام (قوله إن كان
عندك ماء بات هذه الليلة في شنة) بفتح المعجمة وتشديد النون وهي القربة الخلقة وقال الداودي
هي التي زال شعرها من البلاء قال المهلب الحكمة في طلب الماء البائت أنه يكون أبرد وأصفى
وأما مزج اللبن بالماء فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الراعي (قلت) لكن
القصتان مختلفتان فصنيع أبي بكر ذلك باللبن لشدة الحر وصنيع الأنصاري لأنه أراد أن لا يسقى
النبي صلى الله عليه وسلم ماء صرفا فأراد أن يضيف إليه اللبن فأحضر له ما طلب منه وزاد عليه من
جنس جرت عادته بالرغبة فيه ويؤيد هذا ما في رواية الهيثم بن نصر قبل أن الماء كان مثل الثلج
(قوله وإلا كرعنا) فيه حذف تقديره فاسقنا وإن لم يكن عندك كرعنا ووقع في رواية ابن ماجة
التصريح بطلب السقي والكرع بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف وقال ابن التين
حكى أبو عبد الملك أنه الشرب باليدين معا قال وأهل اللغة على خلافة (قلت) ويرده ما أخرجه
ابن ماجة عن ابن عمر قال مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها الحديث ولكن في سنده ضعف فإن كان محفوظا
فالنهي فيه للتنزيه والفعل لبيان الجواز أو قصة جابر قبل النهي أو النهي في غير حال الضرورة
وهذا الفعل كان لضرورة شرب الماء الذي ليس ببارد فيشرب بالكرع لضرورة العطش لئلا
تكرهه نفسه إذا تكررت الجرع فقد لا يبلغ الغرض من الري أشار إلى هذا الأخير ابن بطال
وإنما قيل للشرب بالفم كرع لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها والغالب أنها تدخل أكارعها
حينئذ في الماء ووقع عند ابن ماجة من وجه آخر عن ابن عمر فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع وسنده أيضا ضعيف فهذا إن ثبت احتمل أن يكون
النهي خاصا بهذه الصورة وهي أن يكون الشارب منبطحا على بطنه ويحمل حديث جابر على
67

الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح ووقع في رواية أحمد وإلا ترجعنا بمثناة وجيم
وتشديد الراء أي شربنا جرعة جرعة وهذا قد يعكر على الاحتمال المذكور والله أعلم (قوله
والرجل يحول الماء في حائطه) أي ينقل الماء من مكان إلى مكان آخر من البستان ليعم أشجاره
بالسقي وسيأتي بعد خمسة أبواب من وجه آخر بلفظ وهو يحول في حائط له يعني الماء وفي لفظ له
يحول الماء في الحائط فيحتمل أن يكون وقع منه تحويل الماء من البئر مثلا إلى أعلاها ثم حوله
من مكان إلى مكان (قوله إلى العريش) هو خيمة من خشب وثمام بضم المثلثة مخففا وهو نبات
ضعيف له خوص وقد يجعل من الجريد كالقبة أو من العيدان ويظلل عليها (قوله فسكب في
قدح) في رواية أحمد فسكب ماء في قدح (قوله ثم حلب عليه من داجن له) في رواية أحمد وابن
ماجة فحلب له شاة ثم صب عليه ماء بات في شن والداجن بجيم ونون الشاة التي تألف البيوت (قوله
ثم شرب الرجل) في رواية أحمد وشرب النبي صلى الله عليه وسلم وسقى صاحبه وظاهره أن الرجل
شرب فضلة النبي صلى الله عليه وسلم لكن في رواية لأحمد أيضا وابن ماجة ثم سقاه ثم صنع
لصاحبه مثل ذلك أي حلب له أيضا وسكب عليه الماء البائت هذا هو الظاهر ويحتمل أن تكون
المثلية في مطلق الشرب قال المهلب في الحديث أنه لا بأس بشرب الماء البارد في اليوم الحار
وهو من جملة النعم التي أمتن الله بها على عباده وقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رفعه
أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ألم أصح جسمك وأرويك من الماء البارد (قوله
باب شراب الحلواء والعسل) في رواية المستملي الحلواء بالمد ولغيره بالقصر وهما لغتان
قال الخطابي هي ما يعقد من العسل ونحوه وقال ابن التين عن الداودي هي النقيع الحلو وعليه
يدل تبويب البخاري شراب الحلواء كذا قال وإنما هو نوع منها والذي قاله الخطابي هو مقتضى
العرف وقال ابن بطال الحلوى كل شئ حلو وهو كما قال لكن استقر العرف على تسمية ما لا يشرب
من أنواع الحلو حلوى ولأنواع ما يشرب مشروب ونقيع أو نحو ذلك ولا يلزم مما قال اختصاص
الحلوى بالمشروب (قوله وقال الزهري لا يحل شرب بول الناس لشدة تنزل لأنه رجس قال الله
تعالى أحل لكم الطيبات) وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ووجهه ابن التين أن النبي
صلى الله عليه وسلم سمي البول رجسا وقال الله تعالى ويحرم عليهم الخبائث والرجس من جملة
الخبائث ويرد على استدلال الزهري جواز أكل الميتة عند الشدة وهي رجس أيضا ولهذا قال
ابن بطال الفقهاء على خلاف قول الزهري وأشد حال البول أن يكون في النجاسة والتحريم مثل
الميتة والدم ولحم الخنزير ولم يختلفوا في جواز تناولها عند الضرورة وأجاب بعض العلماء عن
الزهري باحتمال أنه كان يرى أن القياس لا يدخل الرخص والرخصة وردت في الميتة لا في البول
(قلت) وليس هذا بعيدا من مذهب الزهري فقد أخرج البيهقي في الشعب من رواية ابن
أخي الزهري قال كان الزهري يصوم يوم عاشوراء في السفر فقيل له أنت تفطر في رمضان إذا كنت
مسافرا فقال إن الله تعالى قال في رمضان فعدة من أيام أخر وليس ذلك لعاشوراء قال ابن التين
وقد يقال إن الميتة لسد الرمق والبول لا يدفع العطش فإن صح هذا صح ما قال الزهري إذ لا فائدة
فيه (قلت) وسيأتي نظيره في الأثر الذي بعده (قوله وقال ابن مسعود في السكر إن الله لم يجعل
شفاءكم فيما حرم عليكم) قال ابن التين اختلف في السكر بفتحتين فقيل هو الخمر وقيل ما يجوز
68

شربه كنقيع التمر قبل أن يشتد وكالخل وقيل هو نبيذ التمر إذا أشتد (قلت) وتقدم في تفسير النحل
عن أكثر أهل العلم أن السكر في قوله تعالى تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا هو ما حرم منها والرزق
الحسن ما أحل وأخرج الطبري من طريق أبي رزين أحد كبار التابعين قال نزلت هذه الآية قبل
تحريم الخمر ومن طريق النخعي نحوه ومن طريق الحسن البصري بمعناه ثم أخرج من طريق
الشعبي قال السكر نقيع الزبيب يعني قبل أن يشتد والخل واختار الطبري هذا القول
وانتصر له لأنه لا يلزم منه دعوى نسخ ويستمر الامتنان بما تضمنته الآية على ظاهره بخلاف
القول الأول فإنه يستلزم النسخ والأصل عدمه (قلت) وهذا في الآية محتمل لكنه في هذا الأثر
محمول على المسكر وقد أخرج النسائي بأسانيد صحيحة عن النخعي والشعبي وسعيد بن جبير أنهم
قالوا السكر خمر ويمكن الجمع بأن السكر بلغة العجم الخمر وبلغة العرب النقيع قبل أن يشتد
ويؤيده ما أخرجه الطبراني من طريق قتادة قال السكر خمور الأعاجم وعلى هذا ينطبق قول
ابن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ونقل ابن التين عن الشيخ أبي الحسن يعني
ابن القصار إن كان أراد مسكر الأشربة فلعله سقط من الكلام ذكر السؤال وإن كان أراد
السكر بالضم وسكون الكاف قال فأحسبه هذا أراد لأنني أظن أن عند بعض المفسرين سئل
ابن مسعود عن التداوي بشئ من المحرمات فأجاب بذلك والله أعلم بمراد البخاري (قلت) قد
رويت الأثر المذكور في فوائد علي بن حرب الطائي عن سفيان بن عيينة عن منصور عن أبي وائل
قال اشتكى رجل منا يقال له خثيم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر فأرسل إلى
ابن مسعود يسأله فذكره وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن منصور وسنده صحيح على شرط
الشيخين وأخرجه أحمد في كتاب الأشربة والطبراني في الكبير من طريق أبي وائل نحوه
وروينا في نسخة داود بن نصير الطائي بسند صحيح عن مسروق قال قال عبد الله هو ابن مسعود
لا تسقوا أولادكم الخمر فإنهم ولدوا على الفطرة وإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وأخرجه
ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن مسعود كذلك وهذا يؤيد ما قلناه أولا في تفسير السكر وأخرج
إبراهيم الحربي في غريب الحديث من هذا الوجه قال أتينا عبد الله في مجدرين أو محصبين نعت
لهم السكر فذكر مثله ولجواب ابن مسعود شاهد آخر أخرجه أبو يعلى وصححه ابن حبان من
حديث أم سلمة قالت اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو
يغلي فقال ما هذا فأخبرته فقال أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ثم حكى ابن التين عن
الداودي قال قول ابن مسعود حق لان الله حرم الخمر لم يذكر فيها ضرورة وأباح الميتة وأخواتها في
الضرورة قال ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم على استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك
وإنما تكلم على التداوي بها فمنعه لان الانسان يجد مندوحة عن التداوي بها ولا يقطع بنفعه
بخلاف الميتة في سد الرمق وكذا قال النووي في الفرق بين جواز إساغة اللقمة لمن شرق بها
بالجرعة من الخمر فيجوز وبين التداوي بها فلا يجوز لان الإساغة تتحقق بها بخلاف الشفاء فإنه
لا يتحقق ونقل الطحاوي عن الشافعي أنه قال لا يجوز سد الرمق من الجوع ولا من العطش بالخمر
لأنها لا تزيده إلا جوعا وعطشا ولأنها تذهب بالعقل وتعقبه بأنه إن كانت لا تسد من الجوع ولا
تروي من العطش لم يرد السؤال أصلا وأما اذهابها العقل فليس البحث فيه بل هو فيما يسد به
69

الرمق وقد لا يبلغ إلى حد إذهاب العقل (قلت) والذي يظهر أن الشافعي أراد أن يردد الامر بأن
التناول منها إن كان يسيرا فهو لا يغني من الجوع ولا يروي من العطش وإن كان كثيرا فهو
يذهب العقل ولا يمكن القول بجواز التداوي بما يذهب العقل لأنه يستلزم أن يتداوى من شئ
فيقع في أشد منه وقد اختلف في جواز شرب الخمر للتداوي وللعطش قال مالك لا يشربها لأنها
لا تزيده إلا عطشا وهذا هو الأصح عند الشافعية لكن التعليل يقتضي قصر المنع على المتخذ من
شئ يكون بطبعه حارا كالعنب والزبيب أما المتخذ من شئ بارد كالشعير فلا وأما التداوي فإن
بعضهم قال إن المنافع التي كانت فيها قبل التحريم سلبت بعد التحريم بدليل الحديث المتقدم
ذكره وأيضا فتحريمها مجزوم به وكونها دواء مشكوك بل يترجح أنها ليست بدواء بإطلاق
الحديث ثم الخلاف إنما هو فيما لا يسكر منها أما ما يسكر منها فإنه لا يجوز تعاطيه في التداوي
إلا في صورة واحدة وهو من اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله فقد أطلق
الرافعي تخريجه على الخلاف في التداوي وصحح النووي هنا الجواز وينبغي أن يكون محله
فيما إذا تعين ذاك طريقا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدا غيرها وقد صرح من أجاز
التداوي بالثاني وأجازه الحنفية مطلقا لان الضرورة تبيح الميتة وهي لا يمكن أن تنقلب إلى حالة
تحل فيها فالخمر التي من شأنها أن تنقلب خلا فتصير حلالا أولى وعن بعض المالكية إن دعته
إليها ضرورة يغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز كما لو غص بلقمة والأصح عند الشافعية في
الغص الجواز وهذا ليس من التداوي المحض وسيأتي في أواخر الطب ما يدل على النهي عن
التداوي بالخمر وهو يؤيد المذهب الصحيح ثم ساق البخاري حديث عائشة كان النبي صلى الله عليه
وسلم يعجبه الحلواء والعسل قال ابن المنير ترجم على شئ وأعقبه بضده وبضدها تتبين الأشياء
ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصا ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة بقوله تعالى أحل
لكم الطيبات إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهو حلال وبقول ابن مسعود الإشارة إلى
قوله تعالى فيه شفاء للناس فدل الامتنان به على حله فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم قال ابن المنير
ونبه بقوله شراب الحلواء على أنها ليست الحلوى المعهودة التي يتعاطاها المترفون اليوم وإنما
هي حلو يشرب إما عسل بماء أو غير ذلك مما يشاكله انتهى ويحتمل أن تكون الحلوى كانت
تطلق لما هو أعم مما يعقد أو يؤكل أو يشرب كما أن العسل قد يؤكل إذا كان جامدا وقد
يشرب إذا كان مائعا وقد يخلط فيه الماء ويذاب ثم يشرب وقد تقدم في كتاب الطلاق من طريق
علي بن مسهر عن هشام بن عروة في حديث الباب زيادة وأن امرأة من قوم حفصة أهدت لها
عكة عسل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة الحديث في ذكر المغافير فقوله سقته شربة
من عسل محتمل لان يكون صرفا حيث يكون مائعا ومحتمل أن يكون ممزوجا وقال النووي
المراد بالحلوى في هذا الحديث كل شئ حلو وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته وهو من
الخاص بعد العام وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق وأن ذلك لا ينافي الزهد
والمراقبة لا سيما إن حصل اتفاقا وروى البيهقي في الشعب عن أبي سليمان الداراني قال قول
عائشة كان يعجبه الحلوى ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة
في اتخاذها كفعل أهل الترفه والشره وإنما كان إذا قدمت إليه ينال منها نيلا جيدا فيعلم بذلك
70

أنه يعجبه طعمها وفيه دليل على اتخاذ الحلاوات والأطعمة من أخلاط شتى (قوله
باب الشرب قائما) قال ابن بطال أشار بهذه الترجمة إلى أنه لم يصح عنده الأحاديث
الواردة في كراهة الشرب قائما كذا قال وليس بجيد بل الذي يشبه صنيعه أنه إذا تعارضت عنده
الأحاديث لا يثبت الحكم وذكر في الباب حديثين * الأول (قوله عن النزال) بفتح النون
وتشديد الزاي وآخره لام في الرواية الثانية سمعت النزال بن سبرة وهو بفتح المهملة وسكون
الموحدة تقدمت له رواية عن ابن مسعود في فضائل القرآن وغيره وليس له في البخاري سوى هذين
الحديثين وقد روى مسعر هذا الحديث عن عبد الله بن ميسرة مختصرا ورواه عنه شعبة مطولا
وساقه المصنف في هذا الباب ووافق الأعمش شعبة على سياقه مطولا ومسعر وشيخه وشيخ
شيخه هلاليون كوفيون وأبو نعيم أيضا كوفي وعلي نزل الكوفة ومات بها فالاسناد الأول كله
كوفيون (قوله أتى على وقوله في الرواية التي تليها عن علي) وقع عند النسائي رأيت عليا أخرجه
من طريق بهز بن أسد عن شعبة (قوله على باب الرحبة) زاد في رواية شعبة أنه صلى الظهر ثم قعد
في حوائج الناس في رحبة الكوفة والرحبة بفتح الراء المهملة والموحدة المكان المتسع والرحب
بسكون المهملة المتسع أيضا قال الجوهري ومنه أرض رحبة بالسكون أي متسعة ورحبة
المسجد بالتحريك وهي ساحته قال ابن التين فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون ويحتمل أنها
صارت رحبة للكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك وهذا هو الصحيح قال وقوله حوائج هو
جمع حاجة على غير القياس وذكر الأصمعي أنه مولد والجمع حاجات وحاج وقال ابن ولاد الحوجاء
الحاجة وجمعها حواجي بالتشديد ويجوز التخفيف قال فلعل حوائج مقلوبة من حواجي مثل
سوائع من سواعي وقال أبو عبيد الهروي قيل الأصل حائجة فيصح الجمع على حوائج (قوله ثم
أتى بماء) في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عند الإسماعيلي فدعا بوضوء وللترمذي من طريق
الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة ثم أتى علي بكوز من ماء ومثله من رواية بهز بن أسد عن شعبة
عند النسائي وكذا لأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة (قوله فشرب وغسل وجهه ويديه
وذكر رأسه ورجليه) كذا هنا وفي رواية بهز فأخذ منه كفا فمسح وجهه وذراعيه ورأسه ورجليه
وكذلك عند الطيالسي فغسل وجهه ويديه ومسح على رأسه ورجليه ومثله في رواية عمرو بن
مرزوق عند الإسماعيلي ويؤخذ منه أنه في الأصل ومسح على رأسه ورجليه وأن آدم توقف
في سياقه فعبر بقوله وذكر رأسه ورجليه ووقع في رواية الأعمش فغسل يديه ومضمض
واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ورأسه وفي رواية علي بن الجعد عن شعبة عند الإسماعيلي
فمسح بوجهه ورأسه ورجليه ومن رواية أبي الوليد عن شعبة ذكر الغسل والتثليث في الجميع
وهي شاذة مخالفة لرواية أكثر أصحاب شعبة والظاهر أن الوهم فيها من الراوي عنه أحمد
ابن إبراهيم الواسطي شيخ الإسماعيلي فيها فقد ضعفه الدارقطني والصفة التي ذكرها هي
صفة إسباغ الوضوء الكامل وقد ثبت في آخر الحديث قول علي هذا وضوء من لم يحدث كما
سيأتي بيانه (قوله ثم قام فشرب فضله) هذا هو المحفوظ في الروايات كلها والذي وقع هنا من
ذكر الشرب مرة قبل الوضوء ومرة بعد الفراغ منه لم أره في غير رواية آدم والمراد بقوله فضله
بقية الماء الذي توضأ منه (قوله ثم قال إن ناسا يكرهون الشرب قائما) كذا للأكثر وكأن المعنى
71

أن ناسا يكرهون أن يشرب كل منهم قائما ووقع في رواية الكشميهني قياما وهي واضحة
وللطيالسي أن يشربوا قياما (قوله صنع كما صنعت) أي من الشرب قائما وصرح به
الإسماعيلي في روايته فقال شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت ولأحمد ورأيته من طريقين
آخرين عن علي أنه شرب قائما فرأى الناس كأنهم أنكروه فقال ما تنظرون أن أشرب قائما
فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وإن شربت قاعدا فقد رأيته يشرب قاعدا
ووقع في رواية النسائي والإسماعيلي زيادة في آخر الحديث من طرق عن شعبة وهذا وضوء من
لم يحدث وهي على شرط الصحيح وكذا ثبت في رواية الأعمش عند الترمذي واستدل بهذا
الحديث على جواز الشرب للقائم وقد عارض ذلك أحاديث صريحة في النهي عنه منها عند مسلم
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما ومثله عنده عن أبي سعيد بلفظ
نهى ومثله الترمذي وحسنه من حديث الجارود ولمسلم من طريق أبي غطفان عن أبي هريرة
بلفظ لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقئ وأخرجه أحمد من وجه آخر وصححه ابن حبان من
طريق أبي صالح عنه بلفظ لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء ولأحمد من وجه آخر عن أبي
هريرة أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال قه قال لمه قال أيسرك أن يشرب
معك الهر قال لا قال قد شرب معك من هو شر منه الشيطان وهو من رواية شعبة عن أبي زياد
الطحان مولى الحسن بن علي عنه وأبو زياد لا يعرف اسمه وقد وثقه يحيى بن معين وأخرج مسلم
من طريق قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائما قال قتادة
فقلنا لأنس فالاكل قال ذاك أشر وأخبث قيل وإنما جعل الاكل أشر لطول زمنه بالنسبة لزمن
الشرب فهذا ما ورد في المنع من ذلك قال المازري اختلف الناس في هذا فذهب الجمهور إلى
الجواز وكرهه قوم فقال بعض شيوخنا لعل النهي ينصرف لمن أتى أصحابه بما فبادر لشربه
قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا قال وأيضا فإن الامر في
حديث أبي هريرة بالاستقاء لا خلاف بين أهل العلم في أنه ليس على أحد أن يستقئ قال وقال
بعض الشيوخ الاظهر أنه موقوف على أبي هريرة قال وتضمن حديث أنس الاكل أيضا ولا
خلاف في جواز الأكل قائما قال والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما تدل على الجواز وأحاديث
النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل أو لان في الشرب قائما ضررا ما
فكره من أجله وفعله هو لأمنه منه قال وعلى هذا الثاني يحمل قوله فمن نسي فليستقئ على أن
ذلك يحرك خلطا يكون القئ دواءه ويؤيده قول النخعي إنما نهى عن ذلك لداء البطن انتهى
ملخصا وقال عياض لم يخرج مالك ولا البخاري أحاديث النهي وأخرجها مسلم من رواية قتادة
عن أنس ومن روايته عن أبي عيسى عن أبي سعيد وهو معنعن وكان شعبة يتقي من حديث
قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث وأبو عيسى غير مشهور واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة
الأحاديث الأخرى والأئمة له وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يحتمل منه
مثل هذا لمخالفة غيره له والصحيح أنه موقوف انتهى ملخصا ووقع للنووي ما ملخصه هذه
الأحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة وزاد حتى تجاسر ورام
أن يضعف بعضها ولا وجه لإشاعة الغلطات بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط
72

وليس في الأحاديث إشكال ولا فيها ضعيف بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه وشربه
قائما لبيان الجواز وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع
لو ثبت التاريخ وفعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا فإنه
كان يفعل الشئ للبيان مرة أو مرات ويواظب على الأفضل والامر بالاستقاءة محمول على
الاستحباب فيستحب لمن شرب قائما أن يستقئ لهذا الحديث الصحيح الصريح فإن الامر إذا
تعذر حمله على الوجوب حمل على الاستحباب وأما قول عياض لا خلاف بين أهل العلم في أن من
شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ وأشار به إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته وكون أهل
العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع من استحبابه فمن ادعى منع الاستحباب بالاجماع فهو مجازف
وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوي والترهات اه‍ وليس في كلام عياض التعرض
للاستحباب أصلا بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو كلام المازري كما مضى وأما تضعيف عياض
للأحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه وطريق الانصاف أن لا تدفع حجة العالم بالصدر
فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا وقد عنعنه فيجاب عنه بأنه صرح في
نفس السند بما يقتضي سماعه له من أنس فإن فيه قلنا لأنس فالاكل وأما تضعيفه حديث أبي
سعيد بأن أبا عيسى غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لأنه لم يرو عنه إلا قتادة لكن وثقه
الطبري وابن حبان ومثل هذا يخرج في الشواهد ودعواه اضطرابه مردودة لان لقتادة فيه
اسنادين وهو حافظ وأما تضعيفه لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه ومثله
يخرج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند
أحمد وابن حبان فالحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم قال النووي وتبعه شيخنا في شرح
الترمذي إن قوله فمن نسي لا مفهوم له بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الأولى وإنما خص
الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا الا نسيانا (قلت) وقد يطلق
النسيان ويراد به الترك فيشمل السهو والعمد فكأنه قيل من ترك امتثال الامر وشرب قائما
فليستقئ وقال القرطبي في المفهم لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم وإن كان جاريا على أصول
الظاهرية والقول به وتعقب بان ابن حزم منهم جزم بالتحريم وتمسك من لم يقل بالتحريم بحديث
علي المذكور في الباب وصحح الترمذي من حديث ابن عمر كنا نأكل على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص أخرجه
الترمذي أيضا وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني وعن أنس أخرجه البزار والأثرم
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار
وأبو علي الطوسي في الاحكام وعن أم سليم نحوه أخرجه ابن شاهين وعن عبد الله بن السائب
عن خباب عن أبيه عن جده أخرجه ابن أبي حاتم وعن كبشة قالت دخلت على النبي صلى الله
عليه وسلم فشرب من قربة معلقة أخرجه الترمذي وصححه وعن كلثم نحوه أخرجه أبو موسى
بسند حسن وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري وفي الموطأ أن عمر وعثمان وعليا كانوا
يشربون قياما وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين
وسلك العلماء في ذلك مسالك * أحدها الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي
73

وهذه طريقة أبي بكر الأثرم فقال حديث أنس يعني في النهي جيد الاسناد ولكن قد جاء عنه
خلافه يعني في الجواز قال ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في
الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى لان الثبت قد يروي من هو دونه الشئ فيرجح عليه فقد
رجح نافع على سالم في بعض الأحاديث عن ابن عمر وسالم مقدم على نافع في الثبت وقدم شريك على
الثوري في حديثين وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث ثم أسند عن أبي هريرة قال لا بأس
بالشرب قائما قال الأثرم فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست ثابتة وإلا لما قال لا بأس به
قال ويدل على وهاء أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب قائما أن
يستقئ * المسلك الثاني دعوى النسخ واليها جنح الأثرم وابن شاهين فقررا على أن أحاديث النهي
على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة
والتابعين بالجواز وقد عكس ذلك ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا
بأن الجواز على وفق الأصل وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع فمن ادعى الجواز بعد النهي
فعليه البيان فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع
منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما سيأتي ذكره في هذا الباب من حديث ابن عباس وإذا
كان ذلك الأخير من فعله صلى الله عليه وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين
بعده * المسلك الثالث الجمع بين الخبرين بضرب من التأويل فقال أبو الفرج الثقفي في نصره
الصحاح والمراد بالقيام هنا المشي يقال قام في الامر إذا مشى فيه وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها
وقضيتها ومنه قوله تعالى إلا ما دمت عليه قائما أي مواظبا بالمشي عليه وجنح الطحاوي إلى
تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه وهذا أن سلم له في بعض ألفاظ الأحاديث لم
يسلم له في بقيتها وسلك آخرون في الجمع حمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز
على بيانه وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها
من الاعتراض وقد أشار الأثرم إلى ذلك أخيرا فقال أن ثبتت الكراهة حملت على الارشاد
والتأديب لا على التحريم وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم
جوزه لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا واضحا فلما تعارضت الاخبار بذلك جمعنا بينها بهذا
وقيل إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به فإن الشرب قاعدا أمكن
وأبعد من الشرق وحصول الوجع في الكبد أو الحلق وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما
وفي حديث على من الفوائد أن على العالم إذا رأى الناس اجتنبوا شيا وهو يعلم جوازه أن يوضح
لهم وجه الصواب فيه خشية أن يطول الامر فيظن تحريمه وأنه متى خشي ذلك فعليه أن يبادر
للاعلام بالحكم ولو لم يسأل فإن سئل تأكد الامر به وأنه إذا كره من أحد شيا لا يشهره باسمه
لغير غرض بل يكنى عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل ذلك * الحديث الثاني (قوله
حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن عاصم الأحول) قال الكرماني ذكر الكلاباذي أن أبا نعيم سمع
من سفيان الثوري ومن سفيان بن عيينة وأن كلا منهما روى عن عاصم الأحول فيحتمل أن
يكون أحدهما (قلت) ليس الاحتمالان فيهما هنا على السواء فإن أبا نعيم مشهور بالرواية عن
الثوري معروف بملازمته وروايته عن ابن عيينة قليلة وإذا أطلق اسم شيخه حمل على من هو
74

أشهر بصحبته وروايته عنه أكثر ولهذا جزم المزي في الأطراف أن سفيان هذا هو الثوري وهذه
قاعدة مطردة عند المحدثين في مثل هذا وللخطيب فيه تصنيف سماه المكمل لبيان المهمل
وقد روى هذا الحديث بعينه سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول أخرجه أحمد عنه وكذا هو عند
مسلم من رواية ابن عيينة وأخرجه أحمد أيضا من وجه آخر عن سفيان الثوري عن عاصم
الأحول لكن خصوص رواية أبي نعيم فيه إنما هي عن الثوري كما تقدم (قوله شرب النبي صلى
الله عليه وسلم قائما من زمزم) في رواية ابن ماجة من وجه آخر عن عاصم في هذا الحديث قال
أي عاصم فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا وقد تقدم بيان ذلك في كتاب
الحج وعند أبي داود من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف
على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلى ركعتين فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره
ويخرج إلى الصفا بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه لان عمدة عكرمة في إنكار كونه شرب قائما
إنما هو ما ثبت عنده أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى
كذلك لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك وقد ثبت أنه صلاهما على الأرض فما المانع
من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس (قوله
باب من شرب وهو واقف على بعيره) قال ابن العربي لا حجة في هذا على الشرب قائما
لان الراكب على البعير قاعد غير قائم كذا قال والذي يظهر لي أن البخاري أراد حكم هذه الحالة
وهل تدخل تحت النهي أو لا وإيراده الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز فلا
يدخل في الصورة المنهي عنها وكأنه لمح بما قال عكرمة أن مراد ابن عباس بقوله في الرواية التي
جاءت عن الشعبي في الذي قبله أنه شرب قائما إنما أراد وهو راكب والراكب يشبه القائم من
حيث كونه سائرا ويشبه القاعد من حيث كونه مستقرا على الدابة (قوله حدثنا مالك بن
إسماعيل) هو أبو غسان النهدي الكوفي من كبار شيوخ البخاري وقوله بعد ذلك زاد مالك الخ هو
ابن أنس والمراد أن مالكا تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته هذا الحديث عن أبي النضر
وقال في روايته شرب وهو واقف على بعيره وقد تقدمت هذه الرواية تامة في كتاب الصيام مع
بقية شرح الحديث (قوله باب الأيمن فالأيمن في الشرب) ذكر فيه حديث أنس
الماضي قريبا في باب شرب اللبن وتقدمت مباحثه هناك وإسماعيل هو ابن أبي أويس وكذا في
حديث الباب الذي بعده وقوله الأيمن فالأيمن أي يقدم من على يمين الشارب في الشرب ثم الذي
عن يمين الثاني وهلم جرا وهذا مستحب عند الجمهور وقال ابن حزم يجب وقوله في الترجمة في
الشرب يعم الماء وغيره من المشروبات ونقل عن مالك وحده أنه خصه بالماء قال ابن عبد البر
لا يصح عن مالك وقال عياض يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصا في الماء خاصة وتقديم
الأيمن في غير شرب الماء يكون بالقياس وقال ابن العربي كأن اختصاص الماء بذلك لكونه قد
قيل أنه لا يملك بخلاف سائر المشروبات ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه وهل يقطع في
سرقته وظاهر قوله في الشرب أن ذلك لا يجري في الاكل لكن وقع في حديث أنس خلافه كما
سيأتي (قوله باب هل يستأذن الرجل من عن يمينه في الشرب ليعطي الأكبر)
كأنه لم يجزم بالحكم لكونها واقعة عين فيتطرق إليها احتمال الاختصاص فلا يطرد الحكم
75

فيها لكل جليسين وذكر فيه لكل جليسين وذكر فيه حديث سهل بن سعد في ذلك وقد تقدم في أوائل الشرب وفيه تسمية
الغلام وبعض الأشياخ وقوله أتأذن لي لم يقع في حديث أنس أنه استأذن الأعرابي الذي عن
يمينه فأجاب النووي وغيره بأن السبب فيه أن الغلام كان ابن عمه فكان له عليه إدلال وكان
من على اليسار أقارب الغلام أيضا وطيب نفسه مع ذلك بالاستئذان لبيان الحكم وأن السنة
تقديم الأيمن ولو كان مفضولا بالنسبة إلى من على اليسار وقد وقع في حديث ابن عباس في
هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف به حيث قال له الشربة لك وأن شئت آثرت بها
خالدا كذا في السنن وفي لفظ لأحمد وإن شئت آثرت به عمك وإنما أطلق عليه عمه لكونه أسن
منه ولعل سنه كان قريبا من سن العباس وأن كان من جهة أخرى من أقرانه لكونه ابن خالته
وكان خالد مع رياسته في الجاهلية وشرفه في قومه قد تأخر إسلامه فلذلك استأذن له بخلاف
أبي بكر فإن رسوخ قدمه في الاسلام وسبقه يقتضي طمأنينته بجميع ما يقع من النبي صلى الله
عليه وسلم ولا يتأثر لشئ من ذلك ولهذا لم يستأذن الأعرابي له ولعله خشي من استئذانه أن يتوهم
إرادة صرفه إلى بقية الحاضرين بعد أبي بكر دونه فربما سبق إلى قلبه من أجل قرب عهده
بالاسلام شئ فجرى صلى الله عليه وسلم على عادته في تأليف من هذا سبيله وليس ببعيد أنه كان من
كبراء قومه ولهذا جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك وفي الحديث أن سنة
الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن وأن تقديم الذي على اليمن ليس لمعنى فيه بل لمعنى في
جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو
ترجيح لجهته وقد تقدم كلام الخطابي في ذلك قبل ثلاثة أبواب وقد يعارض حديث سهل هذا
وحديث أنس الذي في الباب قبله وحديث سهل بن أبي خيثمة الآتي في القسامة كبر كبر
وتقدم في الطهارة حديث ابن عمر في الامر بمناولة السواك الأكبر وأخص من ذلك حديث ابن
عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال
ابدؤا بالكبير ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن
يساره كلهم أو خلفه أو حيث لا يكون فيهم فتخص هذه الصورة من عموم تقديم الأيمن أو يخص
من عموم هذا الامر بالبداءة بالكبير ما إذا جلس بعض عن يمين الرئيس وبعض عن يساره
ففي هذه الصورة يقدم الصغير على الكبير والمفضول على الفاضل ويظهر من هذا أن الأيمن
ما امتاز بمجرد الجلوس في الجهة اليمنى بل بخصوص كونها يمين الرئيس فالفضل إنما فاض عليه
من الأفضل وقال ابن المنير تفضيل اليمين شرعي وتفضيل اليسار طبعي وإن كان ورد به الشرع
لكن الأول أدخل في التعبد ويؤخذ من الحديث أنه إذا تعارضت فضيلة الفاعل وفضيلة
الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة كما لو قدمت جنازتان لرجل وامرأة وولي المرأة أفضل من ولي
الرجل قدم ولي الرجل ولو كان مفضولا لان الجنازة هي الوظيفة فتعتبر أفضليتها لا أفضلية
المصلى عليها قال ولعل السر فيه أن الرجولية والميمنة أمر يقطع به كل أحد بخلاف أفضلية
الفاعل فإن الأصل فيه الظن ولو كان مقطوعا به في نفس الامر لكنه مما يخفي مثله عن بعض
كأبي بكر بالنسبة إلى علم الأعرابي والله أعلم (قوله أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) ظاهر في أنه لو
أذن له لأعطاهم ويؤخذ منه جواز الايثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار
76

بالقرب وعبارة إمام الحرمين في هذا لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها وقد يقال إن
القرب أعم من العبادة وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي
معه ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليا خلف الصف وحده لثبوت الزجر عن ذلك ففي مساعدة
المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له وهي تحصيل فضيلة الصف الأول ليحصل فضيلة تحصل
للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته ويمكن الجواب بأنه لا إيثار إذ حقيقة
الايثار إعطاء ما استحقه لغيره وهذا لم يعط الجاذب شيئا وإنما رجح مصلحته على مصلحته لان
مساعدة الجاذب على تحصيل مقصود ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه
والله أعلم وقوله في هذه الرواية فتله بفتح المثناة وتشديد اللام أي وضعه وقال الخطابي وضعه
بعنف وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي المرتفع ثم استعمل في كل شئ يرمي به وفي كل
إلقاء وقيل هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنق ومنه
وتله للجبين أي صرعه فألقى عنقه وجعل جنبه إلى الأرض والتفسير الأول أليق بمعنى حديث
الباب وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنق (قوله باب الكرع في
الحوض) ذكر فيه حديث جابر وقد تقدم شرحه قبل خمسة أبواب مستوفي وإنما قيد في الترجمة
بالحوض لما بينته هناك أن جابرا أعاد قوله وهو يحول الماء في أثناء مخاطبة النبي صلى الله عليه
وسلم الرجل مرتين وأن الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاه فكأنه كان هناك حوض
يجمعه فيه ثم يحوله من جانب إلى جانب (قوله باب خدمة الصغار الكبار) ذكر
فيه حديث أنس كنت قائما على الحي أسقيهم وأنا أصغرهم وهو ظاهر فيما ترجم به وقد تقدم
شرح الحديث مستوفي في أوائل الأشربة (قوله باب تغطية الاناء) ذكر فيه
حديث جابر في الامر بغلق الأبواب وغير ذلك من الآداب وفيه وخمروا آنيتكم وفي الرواية
الثانية وخمروا الطعام والشراب ومعنى التخمير التغطية وقد تقدم شئ من شرح الحديث في
بدء الخلق ويأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان وتقدم في باب شرب اللبن شرح قوله
ولو أن تعرض عليه عودا (قوله باب اختناث الأسقية) افتعال من الخنث
بالخاء المعجمة والنون والمثلثة وهو الانطواء والتكسر والانثناء والأسقية جمع السقاء والمراد
به المتخذ من الأدم صغيرا كان أو كبيرا وقيل القربة قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة والسقاء
لا يكون إلا صغيرا (قوله عن عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله) بالتكبير (ابن عتبة) بضم
المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة أي ابن مسعود وصرح في الرواية التي تليها بتحديث
77

عبيد الله للزهري (قوله عن أبي سعيد) صرح بالسماع في التي تليها أيضا (قوله نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم) في التي بعدها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى (قوله يعني أن
تكسر أفواهها) فيشرب منها المراد بكسرها ثنيها لا كسرها حقيقة ولا إبانتها والقائل يعني لم
يصرح به في هذه الطريق ووقع عند أحمد عن أبي النضر عن ابن أبي ذئب بحذف لفظ يعني
فصار التفسير مدرجا في الخبر ووقع في الرواية الثانية قال عبد الله هو ابن المبارك قال معمر هو
ابن راشد أو غيره هو الشرب من أفواهها وعبد الله بن المبارك روى المرفوع عن يونس عن
الزهري وروى التفسير عن معمر مع التردد وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن وهب عن
يونس وابن أبي ذئب معا مدرجا ولفظه ينهي عن اختناث الأسقية أو الشرب أن يشرب من
أفواهها كذا فيه بحرف التردد وهو عند مسلم من طريق ابن وهب عن يونس وحده بلفظ عن
اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها وهذا أشبه وهو أنه تفسير الاختناث لا أنه شك من
الراوي في أي اللفظين وقع في الحديث لكن ظاهره أن التفسير في نفس الخبر وأخرجه مسلم أيضا
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ولم يسق لفظه لكن قال مثله قال غير أنه قال
واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب وهو مدرج أيضا وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث
من كلام الزهري ويحمل التفسير المطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب
رأسها ووقع في مسند أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب في أول هذا
الحديث شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه جنان فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكره وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة فرقهما عن يزيد به
(قوله أفواهها) جمع فم وهو على سبيل الرد إلى الأصل في الفم أنه فوه نقصت منه الهاء لاستثقال
هاءين عند الضمير لو قال فوهه فلما لم يحتمل حذف الواو بعد حذف الهاء الاعراب لسكونها
عوضت ميما فقيل فم وهذا إذا أفرد ويجوز أن يقتصر على الفاء إذا أضيف لكن تزاد حركة
مشبعة يختلف إعرابها بالحروف فإن أضيف إلى مضمر كفت الحركات ولا يضاف مع الميم إلا في
ضرورة شعر كقول الشاعر * يصبح عطشان وفي البحر فمه * فإذا أرادوا الجمع أو التصغير ردوه إلى
الأصل فقالوا فويه وأفواه ولم يقولوا فميم ولا أفمام (قوله باب الشرب من فم
السقاء) الفم بتخفيف الميم ويجوز تشديدها ووقع في رواية من في السقاء وقد تقدم توجيهها
قال ابن المنير لم يقنع بالترجمة التي قبلها لئلا يظن أن النهي خاص بصورة الاختناث فبين أن النهي
يعم ما يمكن اختناثه وما لا يمكن كالفخار مثلا (قوله حدثنا أيوب قال قال لنا عكرمة) في رواية
الحميدي عن سفيان حدثنا أيوب السختباني أخبرنا عكرمة وأخرجه أبو نعيم من طريقه
(قوله ألا أخبركم بأشياء قصار حدثنا بها أبو هريرة) في الكلام حذف تقديره مثلا فقلنا نعم أو فقلنا
حدثنا أو نحو ذلك فقال حدثنا أبو هريرة ووقع في رواية ابن أبي عمر عن سفيان بهذا الاسناد
سمعت أبا هريرة أخرجه الإسماعيلي من طريقه (قوله من فم القربة أو السقاء) هو شك من
الراوي وكأنه من سفيان فقد وقع في رواية عبد الجبار بن العلاء عن سفيان عند الإسماعيلي من
في السقاء وفي رواية ابن أبي عمر عنده من فم القربة (قوله وأن يمنع جاره الخ) تقدم شرحه في
أوائل كتاب المظالم قال الكرماني قال ألا أخبركم بأشياء ولم يذكر إلا شيئين فلعله أخبر بأكثر
78

فاختصره بعض الرواة أو أقل الجمع عنده اثنان (قلت) واختصاره يجوز أن يكون عمدا ويجوز
أن يكون نسيانا وقد أخرج أحمد الحديث المذكور من رواية حماد بن زيد عن أيوب فذكر
بهذا الاسناد الشيئين المذكورين وزاد النهي عن الشرب قائما وفي مسند الحميدي أيضا ما يدل
على أنه ذكر ثلاثة أشياء فإنه ذكر النهي عن الشرب من في السقاء أو القربة وقال هذا آخرها
والله أعلم (قوله حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل) هو المعروف بابن علية (قوله إن يشرب من في
السقاء) زاد أحمد عن إسماعيل بهذا الاسناد والمتن قال أيوب فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء
فخرجت حية وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية عباد بن موسى عن إسماعيل ووهم الحاكم
فأخرج الحديث في المستدرك بزيادته والزيادة المذكورة ليست على شرط الصحيح لان راويها لم
يسم وليست موصولة لكن أخرجها ابن ماجة من رواية سلمة بن وهرام عن عكرمة بنحو المرفوع
وفي آخره وأن رجلا قام من الليل بعد النهي إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية وهذا
صريح في أن ذلك وقع بعد النهي بخلاف ما تقدم من رواية ابن أبي ذئب في أن ذلك كان سبب
النهي ويمكن الجمع بأن يكون ذلك وقع قبل النهي فكان من أسباب النهي ثم وقع أيضا بعد النهي
تأكيدا وقال النووي اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم كذا قال وفي نقل الاتفاق
نظر لما سأذكره فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال لم
يبلغني فيه نهي وبالغ ابن بطال في رد هذا القول واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل
النهي فيه على التحريم كذا قال مع النقل عن مالك أنه لم يبلغه فيه نهي فالاعتذار عنه بهذا القول
أولى والحجة قائمة على من بلغه النهي قال النووي ويؤيد كون هذا النهي للتنزيه أحاديث الرخصة
في ذلك (قلت) لم أر في شئ من الأحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعله صلى الله عليه وسلم
وأحاديث النهي كلها من قوله فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك فإن جميع ما ذكره العلماء
في ذلك يقتضي أنه مأمون منه صلى الله عليه وسلم أما أولا فلعصمته ولطيب نكهته وأما ثانيا
فلرفقه في صب الماء وبيان ذلك بسياق ما ورد في علة النهي فمنها ما تقدم من أنه لا يؤمن دخول
شئ من الهوام مع الماء في جوف السقاء فيدخل فم الشارب وهو لا يشعر وهذا يقتضي أنه لو ملأ
السقاء وهو يشاهد الماء يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم لما أراد أن يشرب حله فشربه منه
لا يتناوله النهي ومنها ما أخرجه الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ نهى أن يشرب من
في السقاء لان ذلك ينتنه وهذا يقتضي أن يكون النهي خاصا بمن يشرب فيتنفس داخل الاناء
أو باشر بفمه باطن السقاء أما من صب من القربة داخل فمه من غير مماسة فلا ومنها أن الذي
يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا يأمن أن يشرق به أو تبتل
ثيابه قال ابن العربي وواحدة من الثلاثة تكفي في ثبوت الكراهة وبمجموعها تقوى الكراهة
جدا وقال الشيخ محمد بن أبي جمرة ما ملخصه اختلف في علة النهي فقيل يخشى أن يكون في الوعاء
حيوان أو ينصب بقوة فيشرق به أو يقطع العروق الضعيفة التي بإزاء القلب فربما كان سبب
الهلاك أو بما يتعلق بفم السقاء من بخار النفس أبو بما يخالط الماء من ريق الشارب فيتقذره
غيره أو لان الوعاء يفسد بذلك في العادة فيكون من إضاعة المال قال والذي يقتضيه الفقه أنه
لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وفيها ما يقتضي التحريم
79

والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل
أحاديث الرخصة على أصل الإباحة وأطلق أبو بكر الأثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي
ناسخة للإباحة لانهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم
السقاء فنسخ الجواز (قلت) ومن الأحاديث الواردة في الجواز ما أخرجه الترمذي وصححه من
حديث عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت دخلت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فشرب من في قربة معلقة وفي الباب عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي وعن
أم سلمة في الشمائل وفي مسند أحمد والطبراني والمعاني للطحاوي قال شيخنا في شرح الترمذي
لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء متيسرا ولم
يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ وعلى ذلك تحمل الأحاديث المذكورة وبين ما يكون
لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي (قلت) ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة
كانت معلقة والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة ولا دلالة في
أخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها وحملها على حال الضرورة
جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم وقد سبق ابن العربي إلى نحو ما أشار إليه
شيخنا فقال يحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وسلم في حال ضرورة إما عند الحرب وإما عند
عدم الاناء أو مع وجوده لكن لم يتمكن لشغله من التفريغ من السقاء في الاناء ثم قال ويحتمل
أن يكون شرب من إداوة والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لأنها مظنة وجود الهوام
كذا قال والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شئ من الهوام فيها والضرر يحصل به ولو كان حقيرا
والله أعلم (قوله باب النهي عن التنفس في الاناء) ذكر فيه حديث أبي قتادة وقد
تقدم شرحه في كتاب الطهارة (قوله فلا يتنفس في الاناء) زاد ابن أبي شيبة من وجه آخر عن
عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه النهي عن النفخ في الاناء وله شاهد من حديث ابن عباس عند
أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الاناء وأن ينفخ فيه وجاء في
النهي عن النفخ في الاناء عدة أحاديث وكذا النهي عن التنفس في الاناء لأنه ربما حصل له تغير
من النفس إما لكون المتنفس كان متغير الفم بمأكول مثلا أو لبعد عهده بالسواك والمضمضة
أو لان النفس يصعد ببخار المعدة والنفخ في هذه الأحوال كلها أشد من التنفس (قوله
باب الشرب بنفسين أو ثلاثة) كذا ترجم مع أن لفظ الحديث الذي أورده في الباب كان
يتنفس فكأنه أراد أن يجمع بين حديث الباب والذي قبله لان ظاهرهما التعارض إذ الأول
صريح في النهي عن التنفس في الاناء والثاني يثبت التنفس فحملهما على حالتين فحالة النهي
على التنفس داخل الاناء وحالة الفعل على من تنفس خارجه فالأول على ظاهره من النهي والثاني
تقديره كان يتنفس في حالة الشرب من الاناء قال ابن المنير أورد ابن بطال سؤال التعارض بين
الحديثين وأجاب بالجمع بينهما فأطنب ولقد أغنى البخاري عن ذلك بمجرد لفظ الترجمة فجعل الاناء
في الأول ظرفا للتنفس والنهي عنه لاستقذاره وقال في الثاني الشرب بنفسين فجعل النفس
الشرب أي لا يقتصر على نفس واحد بل يفصل بين الشربين بنفسين أو ثلاثة خارج الاناء
فعرف بذلك انتفاء التعارض وقال الإسماعيلي المعنى أنه كان يتنفس أي على الشراب لا فيه
80

داخل الاناء قال وإن لم يحمل على هذا صار الحديثان مختلفين وكان أحدهما منسوخا لا محالة
والأصل عدم النسخ والجمع مهما أمكن أولى ثم أشار إلى حديث أبي سعيد وهو ما أخرجه
الترمذي وصححه والحاكم من طريقه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال
رجل القذاة أراها في الاناء قال أهرقها قال فإني لا أروى من نفس واحد قال فأين القدح إذا عن
فيك ولابن ماجة من حديث أبي هريرة رفعه إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الاناء فإذا أراد أن
يعود فلينح الاناء ثم ليعد إن كان يريد قال الأثرم اختلاف الرواية في هذا دال على الجواز وعلى
اختيار الثلاث والمراد بالنهي عن التنفس في الاناء أن لا يجعل نفسه داخل الاناء وليس المراد أن
يتنفس خارجه طلب الراحة واستدل به لمالك على جواز الشرب بنفس واحد وأخرج ابن أبي
لاشيبة الجواز عن سعيد بن المسيب وطائفة وقال عمر بن عبد العزيز إنما نهى عن التنفس داخل
الاناء فأما من لم يتنفس فإن شاء فليشرب بنفس واحد (قلت) وهو تفصيل حسن وقد ورد الامر
بالشرب بنفس واحد من حديث أبي قتادة مرفوعا أخرجه الحاكم وهو محمول على التفصيل
المذكور (قوله حدثنا عزرة) بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت هو تابعي صغير
أنصاري أصله من المدينة نزل البصرة وقد سمع من جده لامه عبد الله بن يزيد الخطمي وعبد الله
ابن أبي أوفى وغيرهما فهذا الاسناد له حكم الثلاثيات وإن كان شيخ تابعيه فيه تابعيا آخر (قوله
كان يتنفس في الاناء مرتين أو ثلاثا) يحتمل أن تكون أو للتنويع وأنه كان صلى الله عليه وسلم
لا يقتصر على المرة بل إن روى من نفسين أكتفي بهما وإلا فثلاث ويحتمل أن تكون أو للشك
فقد أخرج إسحق بن راهويه الحديث المذكور عن عبد الرحمن بن مهدي عن عزرة بلفظ كان
يتنفس ثلاثا ولم يقل أو وأخرج الترمذي بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه لا تشربوا واحدة
كما يشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث فإن كان محفوظا فهو يقوي ما تقدم من التنويع
وأخرج أيضا بسند ضعيف عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب
تنفس مرتين وهذا ليس نصا في الاقتصار على المرتين بل يحتمل أن يراد به التنفس في أثناء الشرب
فيكون قد شرب ثلاث مرات وسكت عن التنفس الأخير لكونه من ضرورة الواقع وأخرج
مسلم وأصحاب السنن من طريق أبي عاصم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس
في الاناء ثلاثا ويقول هو أروى وأمرأ وأبرأ لفظ مسلم وفي رواية أبي داود أهنأ بدل قوله أروى
وقوله أروى هو من الري بكسر الراء غير مهموز أي أكثر ريا ويجوز أن يقرأ مهموزا للمشاكلة
وأمرأ بالهمز من المراءة يقال مرأ الطعام بفتح الراء يمرأ بفتحها ويجوز كسرها صار مريا وأبرأ
بالهمز من البراءة أو من البرء أي يبرئ من الأذى والعطش وأهنأ بالهمز من الهنء والمعنى أنه
يصير هنيئا مريا بريا أي سالما أو مبريا من مرض أو عطش أو أذى ويؤخذ من ذلك أنه أقمع
للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرا في ضعف الأعضاء وبرد المعدة واستعمال أفعل التفضيل في
هذا يدل على أن للمرتين في ذلك مدخلا في الفضل المذكور ويؤخذ منه أن النهي عن الشرب
في نفس واحد للتنزيه قال المهلب النهي عن التنفس في الشرب كالنهي عن النفخ في الطعام
والشراب من أجل أنه قد يقع فيه شئ من الريق فيعافه الشارب ويتقذره إذ كان التقذر في مثل
ذلك عادة غالبة على طباع أكثر الناس ومحل هذا إذا أكل وشرب مع غيره وأما لو أكل وحده
81

أو مع أهله أو من يعلم أنه لا يتقذر شيا مما يتناوله فلا بأس (قلت) والأولى تعميم المنع لأنه لا يؤمن
مع ذلك أن تفضل فضلة أو يحصل التقذر من الاناء أو نحو ذلك وقال ابن العربي قال علماؤنا
هو من مكارم الأخلاق ولكن يحرم على الرجل أن يناول أخاه ما يتقذره فإن فعله في خاصة نفسه
ثم جاء غيره فناوله إياه فليعلمه فإن لم يعلمه فهو غش والغش حرام وقال القرطبي معنى النهي عن
التنفس في الاناء لئلا يتقذر به من بزاق أو رائحة كريهة تتعلق بالماء وعلى هذا إذا لم يتنفس يجوز
الشرب بنفس واحد وقيل يمنع مطلقا لأنه شرب الشيطان قال وقول أنس كان يتنفس في
الشرب ثلاثا قد جعله بعضهم معارضا للنهي وحمل على بيان الجواز ومنهم من أومأ إلى أنه من
خصائصه لأنه كان لا يتقذر منه شئ * (تكملة) * أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس إذا أدنى الاناء إلى فيه يسمى
الله فإذا أخره حمد الله يفعل ذلك ثلاثا وأصله في ابن ماجة وله شاهد من حديث ابن مسعود عند
البزار والطبراني وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس المشار إليه قبل وسموا إذا أنتم شربتم
واحمدوا إذا أنتم رفعتم وهذا يحتمل أن يكون شاهدا لحديث أبي هريرة المذكور ويحتمل
أن يكون المراد به في الابتداء والانتهاء فقط والله أعلم (قوله باب الشرب في آنية
الذهب) كذا أطلق الترجمة وكأنه استغنى عن ذكر الحكم بما صرح به بعد في كتاب الأحكام أن
نهى النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم حتى يقوم دليل الإباحة وقد وقع التصريح في
حديث الباب بالنهي والإشارة إلى الوعيد على ذلك ونقل ابن المنذر الاجماع على تحريم الشرب
في آنية الذهب والفضة إلا عن معاوية بن قرة أحد التابعين فكأنه لم يبلغه النهي وعن الشافعي في
القديم ونقل عن نصه في حرملة أن النهي فيه للتنزيه لان علته ما فيه من التشبه بالأعاجم ونص
في الجديد على التحريم ومن أصحابه من قطع به عنه وهذا اللائق به لثبوت الوعيد عليه بالنار كما
سيأتي في الذي يليه وإذا ثبت ما نقل عنه فلعله كان قبل أن يبلغه الحديث المذكور ويؤيدوهم
النقل أيضا عن نصه في حرملة أن صاحب التقريب نقل في كتاب الزكاة عن نصه في حرملة
تحريم اتخاذ الاناء من الذهب أو الفضة وإذا حرم الاتخاذ فتحريم الاستعمال أولى والعلة المشار
إليها ليست متفقا عليها بل ذكروا للنهي عدة علل منها ما فيه من كسر قلوب الفقراء أو من الخيلاء
والسرف ومن تضييق النقدين (قوله عن ابن أبي ليلى) هو عبد الرحمن وفي رواية غندر عن
شعبة عن الحكم سمعت ابن أبي ليلى أخرجه مسلم والترمذي (قوله كان حذيفة بالمدائن) عند
أحمد من طريق يزيد عن ابن أبي ليلى كنت مع حذيفة بالمدائن والمدائن اسم بلفظ جمع مدينة وهو
بلد عظيم على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ كانت مسكن ملوك الفرس وبها إيوان كسرى
المشهور وكان فتحها على يد سعد بن أبي وقاص في خلافة عمر سنة ست عشرة وقيل قبل ذلك
وكان حذيفة عاملا عليها في خلافة عمر ثم عثمان إلى أن مات بعد قتل عثمان (قوله فاستسقى فأتاه
دهقان) بكسر الدال المهملة ويجوز ضمها بعدها هاء ساكنة ثم قاف هو كبير القرية بالفارسية
ووقع في رواية أحمد عن وكيع عن شعبة استسقى حذيفة من دهقان أو علج وتقدم في الأطعمة
من طريق سيف عن مجاهد عن ابن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة فاستسقى فسقاه مجوسي ولم
أقف على اسمه بعد البحث (قوله بقدح فضة) في رواية أبي داود عن حفص شيخ البخاري فيه
82

بإناء من فضة ولمسلم من طريق عبد الله بن عكيم كنا عند حذيفة فجاءه دهقان بشراب في إناء من
فضة ويأتي في اللباس عن سليمان بن حرب عن شعبة بلفظ بماء في إناء (قوله فرماه به) في رواية
وكيع فحذفه به ويأتي في الذي يليه بلفظ فرمى به في وجهه ولأحمد من رواية يزيد عن ابن أبي ليلى
ما يألوا أن يصيب به وجهه زاد في رواية الإسماعيلي وأصله عند مسلم فرماه به فكسره (قوله فقال
أني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته) في رواية الإسماعيلي المذكورة لم أكسره إلا أتى نهيته فلم
يقبل وفي رواية وكيع ثم أقبل على القوم فاعتذر وفي رواية يزيد لولا أني تقدمت إليه مرة
أو مرتين لم أفعل به هذا وفي رواية عبد الله بن عكيم أني أمرته أن لا يسقيني فيه ويأتي في الذي
بعده مزيد فيه (قوله وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج) سيأتي في
اللباس التصريح ببيان النهي عن لبسهما وفيه بيان الديباج ما هو (قوله والشرب في آنية
الذهب والفضة) وقع في الذي يليه بلفظ لا تشربوا ولا تلبسوا وكذا عند أحمد من وجه آخر
عن الحكم كذا وقع في معظم الروايات عن حذيفة الاقتصار على الشرب ووقع عند أحمد من
طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى بلفظ نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة وأن يؤكل فيها
ويأتي نحوه في حديث أم سلمة في الباب الذي يليه (قوله وقال هن لهم في الدنيا وهن لكم في
الآخرة) كذا فيه بلفظ هن بضم الهاء وتشديد النون في الموضعين وفي رواية أبي داود عن
حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ هي بكسر الهاء ثم التحتانية وكذا في رواية غندر عن
شعبة ووقع عند الإسماعيلي وأصله في مسلم هو أي جميع ما ذكر قال الإسماعيلي ليس المراد
بقوله في الدنيا إباحة استعمالهم إياه وإنما المعنى بقوله لهم أي هم الذين يستعملونه مخالفة لزي
المسلمين وكذا قوله ولكم في الآخرة أي تستعملونه مكافأة لكم على تركه في الدنيا ويمنعه أولئك
جزاء لهم على معصيتهم باستعماله (قلت) ويحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الذي يتعاطى ذلك
في الدنيا لا يتعاطاه في الآخرة كما تقدم في شرب الخمر ويأتي مثله في لباس الحرير بل وقع في هذا
بخصوصه ما سأبينه في الذي قبله (قوله باب آنية الفضة) ذكر فيه ثلاثة أحاديث
* الأول حديث حذيفة (قوله خرجنا مع حذيفة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم) كذا
ذكره مختصرا وقد أخرجه أحمد عن ابن أبي عدي الذي أخرجه البخاري من طريقه وأخرجه
الإسماعيلي وأصله في مسلم من طريق معاذ بن معاذ وكلاهما عن عبد الله بن عون بلفظ خرجت
مع حذيفة إلى بعض هذا السواد فاستسقى فأتاه الدهقان بإناء من فضة فرمى به في وجهه قال فقلنا
اسكتوا فأنا إن سألناه لم يحدثنا قال فسكتنا فلما كان بعد ذلك قال أتدرون لم رميت بهذا في وجهه
قلنا لا قال ذلك أني كنت نهيته قال فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشربوا في آنية الذهب
والفضة قال أحمد وفي رواية معاذ ولا في الفضة * الحديث الثاني (قوله إسماعيل) هو ابن أبي
أويس (قوله عن زيد بن عبد الله بن عمر) هو تابعي ثقة تقدمت روايته عن أبيه في إسلام عمر وليس
له في البخاري سوى هذين الحديثين وهذا الاسناد كله مدنيون وقد تابع مالكا عن نافع عليه
موسى بن عقبة وأيوب وغيرهما وذلك عند مسلم وخالفهم إسماعيل بن أمية عن نافع فلم يذكر زيدا
في إسناده جعله عن نافع عن عبد الله بن عبد الرحمن أخرجه النسائي والحكم لمن زاد من الثقات
ولا سيما وهم حفاظ وقد اجتمعوا وانفرد إسماعيل وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن صفية بنت أبي
83

عبيد عن أم سلمة ووافقه سعد بن إبراهيم عن نافع في صفية لكن خالفه فقال عن عائشة بدل أم
سلمة وقول محمد بن إسحاق أقرب فإن كان محفوظا فلعل لنافع فيه إسنادين وشذ عبد العزيز بن أبي
رواد فقال عن نافع عن أبي هريرة وسلك برد بن سنان وهشام بن الغاز الجادة فقالا عن نافع عن
ابن عمر أخرج الجميع النسائي وقال الصواب من ذلك كله رواية أيوب ومن تابعه (قوله عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) هو ابن أخت أم سلمة التي روى عنها هذا الحديث
أمه قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية وهو ثقة ما له في البخاري غير هذا الحديث (قوله الذي
يشرب في آنية الفضة) في رواية مسلم من طريق عثمان بن مرة عن عبد الله بن عبد الرحمن من
شرب من إناء ذهب أو فضة وله من رواية علي بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أن
الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مسهر بهذه اللفظة أعني
الاكل (قوله انما يجرجر) بضم التحتانية وفتح الجيم وسكون الراء ثم جيم مكسورة ثم راء من
الجرجرة وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج نحو صوت اللجام في فك الفرس قال النووي
اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر وتعقب بأن الموفق بن حمزة في كلامه على المذهب
حكى فتحها وحكى ابن الفركاح عن والده أنه قال روى يجرجر على البناء للفاعل والمفعول وكذا
جوزه ابن مالك في شواهد التوضيح نعم رد ذلك ابن أبي الفتح تلميذه فقال في جزء جمعه في الكلام
على هذا المتن لقد كثر بحثي على أن أرى أحدا رواه مبنيا للمفعول فلم أجده عند أحد من حفاظ
الحديث وإنما سمعناه من الفقهاء الذين ليست لهم عناية بالرواية وسألت أبا الحسين اليونيني
فقال ما قرأته على والدي ولا على شيخنا المنذري إلا مبنيا للفاعل قال ويبعد اتفاق الحفاظ قديما
وحديثا على ترك رواية ثابتة قال وأيضا فإسناده إلى الفاعل هو الأصل وإسناده إلى المفعول
فرع فلا يصار إليه بغير حاجة وأيضا فإن علماء العربية قالوا يحذف الفاعل إما للعلم به أو للجهل به
أو إذا تخوف منه أو عليه أو لشرفه أو لحقارته أو لإقامة وزن وليس هنا شئ من ذلك (قوله في
بطنه نار جهنم) وقع للأكثر بنصب نار على أن الجرجرة بمعني الصب أو التجرع فيكون نار
نصب على المفعولية والفاعل الشارب أي يصب أو يتجرع وجاء الرفع على أن الجرجرة هي التي
تصوت في البطن قال النووي النصب أشهر ويؤيده رواية عثمان بن مرة عند مسلم بلفظ فإنما
يجرجر في بطنه نارا من جهنم وأجاز الأزهري النصب على أن الفعل عدى إليه وابن السيد الرفع
على أنه خبر إن وما موصولة قال ومن نصب جعل ما زائدة كافة لان عن العمل وهو نحو إنما
صنعوا كيد ساحر فقرئ بنصب كيد ورفعه ويدفعه أنه لم يقع في شئ من النسخ بفصل ما من أن
وقوله إن النار تصوت في بطنه كما يصوت البعير بالجرجرة مجاز تشبيه لان النار لا صوت لها كذا
قيل وفي النفي نظر لا يخفي * الحديث الثالث حديث البراء أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسبع (قوله وعن الشرب في الفضة أو قال في آنية الفضة) شك من الراوي زاد مسلم من
طريق أخرى عن البراء فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة ومثله في حديث
أبي هريرة رفعه من شرب في آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيهما في الآخرة وآنية أهل
الجنة الذهب والفضة أخرجه النسائي بسند قوي وسيأتي شرح حديث البراء مستوفي في كتاب
الأدب ويأتي ما يتعلق باللباس منه في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى وفي هذه الأحاديث تحريم
84

الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة على كل مكلف رجلا كان أو امرأة ولا يلتحق ذلك بالحلي
للنساء لأنه ليس من التزين الذي أبيح لها في شئ قال القرطبي وغيره في الحديث تحريم استعمال
أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر
وجوه الاستعمالات وبهذا قال الجمهور وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقا ومنهم من
قصر التحريم على الأكل والشرب ومنهم من قصره على الشرب لأنه لم يقف على الزيادة
في الاكل قال واختلف في علة المنع فقيل إن ذلك يرجع إلى عينهما ويؤيده قوله هي لهم وإنها
لهم وقيل لكونهما الأثمان وقيم المتلفات فلو أبيح استعمالهما لجاز اتخاذ الآلات منهما فيفضي
إلى قلتهما بأيدي الناس فيجحف بهم ومثله الغزالي بالحكام الذين وظيفتهم التصرف لاظهار
العدل بين الناس فلو منعوا التصرف لأخل ذلك بالعدل فكذا في اتخاذ الأواني من النقدين
حبس لهما عن التصرف الذي ينتفع به الناس ويرد على هذا جواز الحلي للنساء من النقدين
ويمكن الانفصال عنه وهذه العلة هي الراجحة عند الشافعية وبه صرح أبو علي السنجي وأبو محمد
الجويني وقيل علة التحريم السرف والخيلاء أو كسر قلوب الفقراء ويرد عليه جواز استعمال
الأواني من الجواهر النفيسة وغالبها أنفس وأكثر قيمة من الذهب والفضة ولم يمنعها إلا من شذ
وقد نقل ابن الصباغ في الشامل الاجماع على الجواز وتبعه الرافعي ومن بعده لكن في زوائد
العمراني عن صاحب الفروع نقل وجهين وقيل العلة في المنع تشبه بالأعاجم وفي ذلك نظر
لثبوت الوعيد لفاعله ومجرد التشبه لا يصل إلى ذلك واختلف في اتخاذ الأواني دون استعمالها
كما تقدم والأشهر المنع وهو قول الجمهور ورخصت فيه طائفة وهو مبني على العلة في منع
الاستعمال ويتفرع على ذلك غرامة أرش ما أفسد منها وجواز الاستئجار عليها (قوله
باب الشرب في الاقداح) أي هل يباح أو يمنع لكونه من شعار الفسقة ولعله أشار إلى
أن الشرب فيها وأن كان من شعار الفسقة لكن ذلك بالنظر إلى المشروب وإلى الهيئة الخاصة
بهم فيكره التشبه بهم ولا يلزم من ذلك كراهة الشرب في القدح إذا سلم من ذلك (قوله حدثنا
عمرو بن عباس) بمهملتين وموحدة وشيخه عبد الرحمن هو ابن مهدي وقد تقدم التنبيه على
حديث أم الفضل المذكور قريبا وتقدم أنه مر مشروحا في كتاب الصيام (قوله باب
الشرب من قدح النبي صلى الله عليه وسلم) أي تبركا به قال ابن المنير كأنه أراد بهذه الترجمة دفع
توهم من يقع في خياله أن الشرب في قدح النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته تصرف في ملك
الغير بغير إذن فبين أن السلف كانوا يفعلون ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث وما تركه
فهو صدقة ولا يقال إن الأغنياء كانوا يفعلون ذلك والصدقة لا تحل للغني لان الجواب أن
الممتنع على الأغنياء من الصدقة هو المفروض منها وهذا ليس من الصدقة المفروضة (قلت)
وهذا الجواب غير مقنع والذي يظهر أن الصدقة المذكورة من جنس الأوقاف المطلقة ينتفع
بها من يحتاج إليها وتقر تحت يد من يؤتمن عليها ولهذا كان عند سهل قدح وعند عبد الله بن سلام
آخر والجبة عند أسماء بنت أبي بكر وغير ذلك (قوله وقال أبو بردة) هو ابن أبي موسى الأشعري
(قوله قال لي عبد الله بن سلام) هو الصحابي المشهور ولام سلام مخففة (قوله ألا) بتخفيف
اللام للعرض وهذا طرف من حديث سيأتي موصولا في كتاب الاعتصام من طريق بريد بن
85

عبد الله بن أبي بردة عن جده عن عبد الله بن سلام وتقدم في مناقب عبد الله بن سلام من وجه
آخر عن أبي بردة ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة الجونية بفتح الجيم وسكون الواو ثم نون في
قصة استعاذتها لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها وقد تقدم شرح قصتها في أول كتاب
الطلاق وقوله في هذه الطريق فنزلت في أجم بضم الهمزة والجيم هو بناء يشبه القصر وهو
من حصون المدينة والجمع آجام مثل أطم وآطام قال الخطابي الأطم والأجم بمعنى وأغرب
الداودي فقال الآجام الأشجار والحوائط ومثله قول الكرماني الأجم بفتحتين جمع أجمة وهي
الغيضة (قوله قالت أنا كنت أشقى من ذلك) ليس أفعل التفضيل فيه على ظاهره بل مرادها
اثبات الشقاء لها لما فاتها من التزوج برسول الله صلى الله عليه وسلم (قوله فأقبل النبي صلى الله
عليه وسلم حتى جلس في سقيفة بني ساعدة) هو المكان الذي وقعت فيه البيعة لأبي بكر الصديق
بالخلافة (قوله ثم قال اسقنا يا سهل) في رواية مسلم من هذا الوجه اسقنا لسهل أي قال لسهل
اسقنا ووقع عند أبي نعيم فقال اسقنا يا أبا سعد والذي أعرفه في كنية سهل بن سعد أبو العباس
فلعل له كنيتين أو كان الأصل يا بن سعد فتحرفت (قوله فأخرجت لهم هذا القدح) في رواية
المستملي فخرجت لهم بهذا القدح (قوله فأخرج لنا سهل) قائل ذلك هو أبو حازم الراوي عنه
وصرح بذلك مسلم في روايته (قوله ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له) كان عمر
ابن عبد العزيز حينئذ قد ولي إمرة المدينة وليست الهبة هنا حقيقية بل من جهة الاختصاص
وفي الحديث التبسط على الصاحب واستدعاء ما عنده من مأكول ومشروب وتعظيمه
بدعائه بكنيته والتبرك بآثار الصالحين واستيهاب الصديق ما لا يشق عليه هبته ولعل سهلا سمح
بذلك لبدل كان عنده من ذلك الجنس أو لأنه كان محتاجا فعوضه المستوهب ما يسد به
حاجته والله أعلم ومناسبته للترجمة ظاهرة من جهة رغبة الذين سألوا سهلا أن يخرج لهم القدح
المذكور ليشربوا فيه تبركا به * الحديث الثالث (قوله حدثنا الحسن بن مدرك حدثنا يحيى
ابن حماد) كذا أخرج هنا وفي غير موضع عن يحيى بن حماد بواسطة وأخرج عنه في هجرة الحبشة
بغير واسطة والحسن بن مدرك كان صهر يحيى بن حماد فكان عنده عنه ما ليس عند غيره ولهذا
لم يخرجه الإسماعيلي من طريق أبي عوانة ولا وجد له أبو نعيم إسنادا غير إسناد البخاري فأخرجه
في المستخرج من طريق الفربري عن البخاري ثم قال رواه البخاري عن الحسن بن مدرك
ويقال إنه حديثه يعني أنه تفرد به (قوله رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك)
تقدم في فرض الخمس من طريق أبي حمزة السكري عن عاصم قال رأيت القدح وشربت منه
وأخرجه أبو نعيم من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة ثم قال قال علي بن الحسن وأنا
رأيت القدح وشربت منه وذكر القرطبي في مختصر البخاري أنه رأى في بعض النسخ القديمة
من صحيح البخاري قال أبو عبد الله البخاري رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت منه وكان اشترى
من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف (قوله وكان قد انصدع) أي انشق (قوله فسلسله
بفضة) أي وصل بعضه ببعض وظاهره أن الذي وصله هو أنس ويحتمل أن يكون النبي صلى الله
عليه وسلم وهو ظاهر رواية أبي حمزة المذكورة بلفظ أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر
فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة لكن رواية البيهقي من هذا الوجه بلفظ انصدع فجلعت
86

مكان الشعب سلسلة من فضة قال يعني أنسا هو الذي فعل ذلك قال البيهقي كذا في سياق الحديث
فما أدري من قاله من رواته هل هو موسى بن هارون أو غيره (قلت) لم يتعين من هذه الرواية من
قال هذا وهو جعلت بضم التاء على أنه ضمير القائل وهو أنس بل يجوز أن يكون جعلت بضم أوله
على البناء للمجهول فتساوى الرواية التي في الصحيح ووقع لأحمد من طريق شريك عن عاصم
رأيت عند أنس قدح النبي صلى الله عليه وسلم فيه ضبة من فضة وهذا أيضا يحتمل والشعب بفتح
المعجمة وسكون العين المهملة هو الصدع وكأنه سد الشقوق بخيوط من فضة فصارت مثل
السلسلة (قوله وهو قدح جيد عريض من نضار) القائل هو عاصم رواية والعريض الذي ليس
بمتطاول بل يكون طوله أقصر من عمقه والنضار بضم النون وتخفيف الضاد المعجمة الخالص من
العود ومن كل شئ ويقال أصله من شجر النبع وقيل من الأثل ولونه يميل إلى الصفرة وقال
أبو حنيفة الدينوري هو أجود الخشب للآنية وقال في المحكم النضار التبر والخشب (قوله
قال) أي عاصم (قال أنس لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا
وكذا) وقع عند مسلم من طريق ثابت عن أنس لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي
هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن وقد تقدمت صفة النبيذ الذي كان يشربه وأنه
نقيع التمر أو الزبيب (قوله قال) أي عاصم (وقال ابن سيرين) هو محمد وقد فصل أبو عوانة في
روايته هذه ما حمله عاصم عن أنس مما حمله عن ابن سيرين ولم يقع ذلك في رواية أبي حمزة الماضية
(قوله إنه كان فيه حلقة من حديد فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة) هو شك
من الراوي ويحتمل أن يكون التردد من أنس عند إرادة ذلك أو استشارته أبا طلحة فيه (قوله فقال
له أبو طلحة) هو الأنصاري زوج أم سليم والدة أنس (قوله لا تغيرن) كذا للأكثر بالتأكيد
والكشميهني لا تغير بصيغة النهي بغير تأكيد وكلام أبي طلحة هذا إن كان ابن سيرين سمعه من
أنس وإلا فيكون أرسله عن أبي طلحة لأنه لم يلقه وفي الحديث جواز اتخاذ ضبة الفضة وكذلك
السلسلة والحلقة وهو أيضا مما اختلف فيه قال الخطابي منعه مطلقا جماعة من الصحابة والتابعين
وهو قول مالك والليث وعن مالك يجوز من الفضة إن كان يسيرا وكرهه الشافعي قال لئلا يكون
شاربا على فضة فأخذ بعضهم منه أن الكراهة تختص بما إذا كانت الفضة في موضع الشرب
وبذلك صرح الحنفية وقال به أحمد وإسحق وأبو ثور وقال ابن المنذر تبعا لأبي عبيد المفضض
ليس هو إناء فضة والذي تقرر عند الشفاعية أن الضبة إن كانت من الفضة وهي كبيرة للزينة
تحرم أو للحاجة فتجوز مطلقا وتحرم ضبة الذهب مطلقا ومنهم من سوى بين ضبتي الفضة والذهب
وأما الحديث الذي أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن
مطيع عن أبيه عن ابن عمر بنحو حديث أم سلمة وزاد فيه أو في إناء فيه شئ من ذلك فإنه معلول
بجهالة حال إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وولده قال البيهقي الصواب ما رواه عبيد الله العمري
عن نافع عن ابن عمر موقوفا أنه كان لا يشرب في قدح فيه ضبة فضة وقد أخرج الطبراني
في الأوسط من حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب وتفضيض
الاقداح ثم رخص في تفضيض الاقداح وهذا لو ثبت لكان حجة في الجواز لكن في سنده من
لا يعرف واستدل بقوله أو إناء فيه شئ من ذلك على تحريم الاناء من النحاس أو الحديد المطلي
87

بالذهب أو الفضة والصحيح عند الشفاعية إن كان يحصل منه بالعرض على النار حرم وإلا فوجهان
أصحهما لا وفي العكس وجهان كذلك ولو غلف إناء الذهب أو الفضة بالنحاس مثلا ظاهرا وباطنا
فكذلك وجزم إمام الحرمين أنه لا يحرم كحشو الجبة التي من القطن مثلا بالحرير واستدل
بجواز اتخاذ السلسلة والحلقة أنه يجوز أن يتخذ للإناء رأس منفصل عنه وهذا ما نقله المتولي
والبغوي والخوارزمي وقال الرافعي فيه نظر وقال النووي في شرح المهذب ينبغي أن يجعل
كالتضبيب ويجري فيه الخلاف والتفصيل واختلفوا في ضابط الصغر في ذلك فقيل العرف وهو
الأصح وقيل ما يلمع على بعد كبير وما لا فصغير وقيل ما استوعب جزأ من الاناء كأسفله أو عروته
أو شفته كبير وما لا فلا ومتى شك فالأصل الإباحة والله أعلم (قوله باب شرب البركة
والماء المبارك) قال المهلب سمي الماء بركة لان الشئ إذا كان مباركا فيه يسمى بركة (قوله عن
جابر بن عبد الله) في رواية حصين عن سالم بن أبي الجعد سمعت جابرا وقد تقدمت في المغازي
(قوله قد رأيتني) بضم التاء وفيه نوع تجريد (قوله وحضرت العصر) أي وقت صلاتها
والجملة حالية (قوله ثم قال حي على أهل الوضوء) كذا وقع للأكثر وفي رواية النسفي حي على
الوضوء بإسقاط لفظ أهل وهي أصوب وقد وجهت على تقدير ثبوتها بأن يكون أهل بالنصب على
النداء بحذف حرف النداء كأنه قال حي على الوضوء المبارك يا أهل الوضوء كذا قال عياض
وتعقب بأن المجرور بعلى غير مذكور وقال غيره الصواب حي هلا على الوضوء المبارك فتحرف لفظ
هلا فصارت أهل وحولت عن مكانها وحي اسم فعل للامر بالاسراع وتفتح لسكون ما قبلها
مثل ليت وهلا بتخفيف اللام والتنوين كلمة استعجال (قوله فجعلت لا آلو) بالمد وتخفيف
اللام المضمومة أي لا أقصر والمراد أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل البركة قال ابن
بطال يؤخذ منه أنه لا سرف ولا شره في الطعام أو الشراب الذي تظهر فيه البركة بالمعجزة بل
يستحب الاستكثار منه وقال ابن المنير في ترجمة البخاري إشارة إلى أنه يغتفر في الشرب منه
الاكثار دون المعتاد الذي ورد باستحباب جعل الثلث له ولئلا يظن أن الشرب من غير عطش
ممنوع فإن فعل جابر ما ذكر دال على أن الحاجة إلى البركة أكثر من الحاجة إلى الري والظاهر
اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولو كان ممنوعا لنهاه (قوله فقلت لجابر) القائل هو سالم بن
أبي الجعد رواية عنه (قوله كم كنتم يومئذ قال ألف وأربعمائة) كذا لهم بالرفع والتقدير
نحن يومئذ ألف وأربعمائة ويجوز النصب على خبر كان وقد تقدم بيان الاختلاف على جابر
في عددهم يوم الحديبية في باب غزوة الحديبية من المغازي وبينت هناك أن هذه القصة كانت
هناك وتقدم شئ من شرح المتن في علامات النبوة (قوله تابعه عمرو بن دينار عن جابر) وصله
المؤلف في تفسير سورة الفتح مختصرا كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة وهذا القدر هو مقصوده
بالمتابعة المذكورة لا جميع سياق الحديث (قوله وقال حصين وعمرو بن مرة عن سالم) هو ابن
أبي الجعد (خمس عشرة مائة) أما رواية حصين فوصلها المؤلف في المغازي وأما رواية عمرو بن
مرة فوصلها مسلم وأحمد بلفظ ألف وخمسمائة والجمع بين هذا الاختلاف عن جابر أنهم كانوا
زيادة على ألف وأربعمائة فمن اقتصر عليها ألغى الكسر ومن قال ألف وخمسمائة جبره وقد
تقدم بسط ذلك في كتاب المغازي وبيان توجيه من قال ألف وثلاثمائة ولله الحمد * (خاتمة) *
88

اشتمل كتاب الأشربة من الأحاديث المرفوعة على أحد وتسعين حديثا المعلق منها تسعة عشر
طريقا والباقي موصول المكرر منها فيه وفيما مضى سبعون طريقا والباقي خالص وافقه
مسلم على تخريجها سوى حديث أبي مالك وأبي عامر في المعازف وحديث ابن أبي أوفى في الجر
الأخضر وحديث أنس في الاقداح ليلة الاسراء وهو معلق وحديث جابر في الكرع وحديث
علي في الشرب قائما وحديث أبي هريرة في النهي عن الشرب من فم السقاء وحديث أبي طلحة في
قدح النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم أربعة عشر أثرا والله أعلم
(قوله بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المرضى) *
(باب ما جاء في كفارة المرض) كذا لهم إلا أن البسملة سقطت لأبي ذر وخالفهم النسفي
فلم يفرد كتاب المرضى من كتاب الطب بل صدر بكتاب الطب ثم بسمل ثم ذكر باب ما جاء واستمر على
ذلك إلى آخر كتاب الطب ولكل وجه وفي بعض النسخ كتاب والمرضى جمع مريض والمراد
بالمرض هنا مرض البدن وقد يطلق المرض على مرض القلب إما للشبهة كقوله تعالى في قلوبهم
مرض وإما للشهوة كقوله تعالى فيطمع الذي في قلبه مرض ووقع ذكر مرض البدن في القرآن
في الوضوء والصوم والحج وسيأتي ذكر مناسبة ذلك في أول الطب والكفارة صيغة مبالغة
من التكفير وأصله التغطية والستر والمعنى هنا أن ذنوب المؤمن تتغطى بما يقع له من ألم المرض
قال الكرماني والإضافة بيانية لان المرض ليست له كفارة بل هو الكفارة نفسها فهو كقولهم
شجر الأراك أو الإضافة بمعنى في أو هو من إضافة الصفة إلى الموصوف وقال غيره هو من
الإضافة إلى الفاعل وأسند التكفير للمرض لكونه سببه (قوله وقول الله عز وجل من يعمل
سوأ يجز به) قال الكرماني مناسبة الآية للباب أن الآية أعم إذا المعنى أن كل من يعمل سيئة فإنه
يجازى بها وقال ابن المنير الحاصل أن المرض كما جاز أن يكون مكفرا للخطايا فكذلك يكون
جزاء لها وقال ابن بطال ذهب أكثر أهل التأويل إلى أن معنى الآية أن المسلم يجازى على
خطاياه في الدنيا بالمصايب التي تقع له فيها فتكون كفارة لها وعن الحسن وعبد الرحمن بن زيد
أن الآية المذكورة نزلت في الكفارة خاصة والأحاديث في هذا الباب تشهد للأول انتهى وما
نقله عنهما أورده الطبري وتعقبه ونقل ابن التين عن ابن عباس نحوه والأول المعتمد والأحاديث
الواردة في سبب نزول الآية لما لم تكن على شرط البخاري ذكرها ثم أورد من الأحاديث على
شرطه ما يوافق ما ذهب إليه الأكثر من تأويلها ومنه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من
طريق عبيد بن عمير عن عائشة أن رجلا تلا هذه الآية من يعمل سوأ يجز به فقال إنا لنجزى بكل
ما عملناه هلكنا إذا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في
جسده مما يؤذيه وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان أيضا من حديث أبي بكر الصديق أنه قال
يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل
سوأ يجز به فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن قال قلت بلى قال هو ما تجزون به
ولمسلم من طريق محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة لما نزلت من يعمل سوأ يجز به بلغت من
المسلمين مبلغا شديدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم
89

كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث * الحديث
الأول حديث عائشة (قوله ما من مصيبة) أصل المصيبة الرمية بالسهم ثم استعملت في كل نازلة
وقال الراغب أصاب يستعمل في الخير والشر قال الله تعالى ان تصبك حسنة تسؤهم وأن
تصبك مصيبة الآية قال وقيل الإصابة في الخير مأخوذة من الصوب وهو المطر الذي ينزل
بقدر الحاجة من غير ضرر وفي الشر مأخوذة من إصابة السهم وقال الكرماني المصيبة في اللغة
ما ينزل بالانسان مطلقا وفي العرف ما نزل به من مكروه خاصة وهو المراد هنا (قوله تصيب
المسلم) في رواية مسلم من طريق مالك ويونس جميعا عن الزهري ما من مصيبة يصاب بها المسلم
ولأحمد من طريق عبد الرزاق عن معمر بهذا السند ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن
ولابن حبان من طريق ابن أبي السري عن عبد الرزاق ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها
ونحوه لمسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه (قوله حتى الشوكة) جوزوا فيه الحركات
الثلاث فالجر بمعنى الغاية أي حتى ينتهي إلى الشوكة أو عطفا على لفظ مصيبة والنصب
بتقدير عامل أي حتى وجدانه الشوكة والرفع عطفا على الضمير في تصيب وقال القرطبي قيده
المحققون بالرفع والنصب فالرفع على الابتداء ولا يجوز على المحل كذا قال ووجهه غيره بأنه
يسوغ على تقدير أن من زائدة (قوله يشاكها) بضم أوله أي يشوكه غيره بها وفيه وصل الفعل
لان الأصل يشاك بها وقال ابن التين حقيقة هذا اللفظ يعني قوله يشاكها أن يدخلها غيره
(قلت) ولا يلزم من كونه الحقيقة أن لا يراد ما هو أعم من ذلك حتى يدخل ما إذا دخلت هي بغير
إدخال أحد وقد وقع في رواية هشام بن عروة عند مسلم لا يصيب المؤمن شوكة فإضافة الفعل
إليها هو الحقيقة ويحتمل إرادة المعنى الأعم وهي أن تدخل بغير فعل أحد أو بفعل أحد فمن لا يمنع
الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد يجوز مثل هذا ويشاكها ضبط بضم أوله ووقع في
نسخة الصغاني بفتحه ونسبها بعض شراح المصابيح لصحاح الجوهري لكن الجوهري إنما
ضبطها لمعنى آخر فقدم لفظ يشاك بضم أوله ثم قال والشوكة حدة الناس وحدة السلاح وقد شاك
الرجل يشاك شوكا إذا ظهرت فيه شوكته وقويت (قوله إلا كفر الله بها عنه) في رواية أحمد
إلا كان كفارة لذنبه أي يكون ذلك عقوبة بسبب ما كان صدر منه من المعصية ويكون ذلك سببا
لمغفرة ذنبه ووقع في رواية ابن حبان المذكورة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة
ومثله لمسلم من طريق الأسود عن عائشة وهذا يقتضي حصول الامرين معا حصول الثواب
ورفع العقاب وشاهده ما أخرجه الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب
على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد وأما
ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عمرة عنها إلا كتب الله له بها حسنة أو حط عنه بها خطيئة كذا
وقع فيه بلفظ أو فيحتمل أن يكون شكا من الراوي ويحتمل التنويع وهذا أوجه ويكون
المعنى إلا كتب الله له بها حسنة إن لم يكن عليه خطايا أو حط عنه خطايا إن كان له خطايا وعلى
هذا فمقتضى الأول أن من ليست عليه خطيئة يزاد في رفع درجته بقدر ذلك والفضل واسع
* (تنبيه) * وقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه أبو عوانة والحاكم من طريق
عبد الرحمن بن شيبة العبدري أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع
90

فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي فقالت له عائشة لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه فقال
إن الصالحين يشدد عليهم وأنه لا يصيب المؤمن نكبة شوكة الحديث وفي هذا الحديث تعقب
على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور وهو خطأ
صريح فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب والمصايب ليست منها بل الاجر على الصبر
والرضا ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الاجر بمجرد حصول المصيبة
وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة قال القرافي المصايب
كفارات جزما سواء اقترن بها الرضا أم لا لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل
كذا قال والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها وبالرضا يؤجر على ذلك فإن لم يكن للمصاب
ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه وزعم القرافي أنه لا يجوز لاحد أن يقول للمصاب
جعل الله هذه المصيبة كفارة لذنبك لان الشارع قد جعلها كفارة فسؤال التكفير طلب
لتحصيل الحاصل وهو إساءة أدب على الشارع كذا قال وتعقب بما ورد من جواز الدعاء بما
هو واقع كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له وأجيب عنه بأن الكلام فيما
لم يرد فيه شئ وأما ما ورد فهو مشروع ليثاب من امتثل الامر فيه على ذلك * الحديث الثاني
والثالث حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا (قوله عبد الملك بن عمرو) هو أبو عامر العقدي
مشهور بكنيته أكثر من اسمه وزهير بن محمد هو أبو المنذر التميمي وقد تكلموا في حفظه
لكن قال البخاري في التاريخ الصغير ما روى عنه أهل الشام فإنه مناكير وما روى عنه أهل
البصرة فإنه صحيح (قلت) وقال أحمد بن حنبل كان زهير بن محمد الذي يروي عنه الشاميون
آخر لكثرة المناكير انتهى ومع ذلك فما أخرج له البخاري إلا هذا الحديث وحديثا آخر في كتاب
الاستئذان من رواية أبي عامر العقدي أيضا عنه وأبو عامر بصري وقد تابعه على هذا الحديث
الوليد بن كثير في حديث الباب عن شيخه فيه محمد بن عمرو بن حلحلة عند مسلم وحلحلة بمهملتين
مفتوحتين بينهما لام ساكنة وبعد الثانية لام مفتوحة ثم هاء (قوله عن النبي صلى الله عليه
وسلم) في رواية الوليد بن كثير أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم (قوله من نصب) بفتح
النون والمهملة ثم موحدة هو التعب وزنه ومعناه (قوله ولا وصب) بفتح الواو والمهملة ثم
الموحدة أي مرض وزنه ومعناه وقيل هو المرض اللازم (قوله ولا هم ولا حزن) هما من
أمراض الباطن ولذلك ساغ عطفهما على الوصب (قوله ولا أذى) هو أعم مما تقدم وقيل هو
خاص بما يلحق الشخص من تعدي غيره عليه (قوله ولا غم) بالغين المعجمة هو أيضا من أمراض
الباطن وهو ما يضيق على القلب وقيل في هذه الأشياء الثلاثة وهي الهم والغم والحزن أن
الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به والغم كرب يحدث للقلب بسبب ما حصل
والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرء فقده وقيل الهم والغم بمعنى واحد وقال الكرماني
الغم يشمل جميع أنواع المكروهات لأنه إما بسبب ما يعرض للبدن أو النفس والأول إما بحيث
يخرج عن المجرى الطبيعي أو لا والثاني إما أن يلاحظ فيه الغير أو لا وإما أن يظهر فيه الانقباض
أو لا وإما بالنظر إلى الماضي أو لا * الحديث الرابع حديث كعب (قوله حدثنا يحيى) هو
القطان وسفيان هو الثوري وسعد هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وعبد الله بن
91

كعب أي ابن مالك الأنصاري (قوله كالخامة) بالخاء المعجمة وتخفيف الميم هي الطاقة الطرية
اللينة أو الغضة أو القضبة قال الخليل الخامة الزرع أول ما ينبت على ساق واحد والألف منها
منقلبة عن واو ونقل ابن التين عن القزاز أنه ذكرها بالمهملة والفاء وفسرها بالطاقة من الزرع
ووقع عند أحمد في حديث جابر مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر أخرى وله في حديث
لأبي بن كعب مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى (قوله تفيئها) بفاء وتحتانية
مهموز أي تميلها وزنه ومعناه قال الزركشي هنا لم يذكر الفاعل وهو الريح وبه يتم الكلام وقد
ذكره في باب كفارة المرض وهذا من أعجب ما وقع له فان هذا الباب الذي ذكر فيه ذلك هو باب
كفارة المرض ولفظ الريح ثابت فيه عند معظم الرواة ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن
معنى تفيئها ترقدها وتعقبه بأنه ليس في اللغة فاء إذا رقد (قلت) لعله تفسير معنى لان الرقود
رجوع عن القيام وفاء يجئ بمعنى رجع (قوله وتعدلها) بفتح أوله وسكون المهملة وكسر الدال
وبضم أوله أيضا وفتح ثانيه والتشديد ووقع عند مسلم تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها
أخرى وكأن ذلك باختلاف حال الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يمينا وشمالا حتى
تقارب السقوط وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقرب أقامتها ووقع في رواية زكريا عند مسلم
حتى تهيج أي تستوي ويكمل نضجها ولأحمد من حديث جابر مثله (قوله ومثل المنافق) في
حديث أبي هريرة المذكور بعده الفاجر وفي رواية زكريا عند مسلم الكافر (قوله كالأرزة) بفتح
الهمزة وقيل بكسرها وسكون الراء بعدها زاي كذا للأكثر وقال أبو عبيدة هو بوزن فاعلة
وهي الثابتة في الأرض ورده أبو عبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المد وإنما اختلفوا في سكون
الراء وتحريكها والأكثر على السكون وقال أبو حنيفة الدينوري الراء ساكنة وليس هو من
نبات أرض العرب ولا ينبت في السباخ بل يطول طولا شديدا ويغلظ قال وأخبرني الخبير أنه
ذكر الصنوبر وأنه لا يحمل شيئا وإنما يستخرج من أعجازه وعروقه الزفت وقال ابن سيده الأرز
العرعر وقيل شجر بالشام يقال لثمره الصنوبر وقال الخطابي الأرزة مفتوحة الراء واحدة
الأرز وهو شجر الصنوبر فيما يقال وقال القزاز قاله قوم بالتحريك وقالوا هو شجر معتدل صلب
لا يحركه هبوب الريح ويقال له الأرزن (قوله انجعافها) بجيم ومهملة ثم فاء أي انقلاعها تقول
جعفته فانجعف مثل قلعته فانقلع ونقل ابن التين عن الداودي أن معناه انكسارها من
وسطها أو أسفلها قال المهلب معنى الحديث أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له فإن وقع له خير
فرح به وشكر وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والاجر فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرا والكافر
لا يتفقده الله باختياره بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد الله
إهلاكه قصمه فيكون موته أشد عذابا عليه وأكثر ألما في خروج نفسه وقال غيره المعنى أن
المؤمن يتلقى الاعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا فهو كأوائل الزرع شديد الميلان
لضعف ساقه والكافر بخلاف ذلك وهذا في الغالب من حال الاثنين (قوله وقال زكريا) هو ابن
أبي زائدة وهذا التعليق عنه وصله مسلم من طريق عبد الله بن نمير ومحمد بن بشر كلاهما عنه (قوله
حدثني سعد) هو ابن إبراهيم المذكور من قبل (قوله حدثني ابن كعب) يريد أنه مغاير لرواية
سفيان عن سعد في شيئين أحدهما إبهامه اسم ابن كعب والثاني تصريحه بالتحديث فيستفاد
92

من رواية سفيان تسميته ومن رواية زكريا التصريح باتصاله وقد وقع في رواية لمسلم عند سفيان
تسميته عبد الرحمن بن كعب ولعل هذا هو السر في إبهامه في رواية زكريا ويستفاد من صنيع
مسلم في تخريج الروايتين عن سفيان أن الاختلاف إذا دار على ثقة لا يضر * الحديث الخامس
حديث أبي هريرة (قوله حدثني أبي) هو فليح بن سليمان (قوله عن هلال بن علي من بني عامر بن
لؤي) كذا فيه وليس هو من أنفسهم وإنما هو من مواليهم واسم جده أسامة وقد ينسب إلى
جده ويقال له أيضا هلال بن أبي ميمونة وهلال بن أبي هلال وهو مدني تابعي صغير موثق وفي
الرواة هلال بن أبي هلال سلمة الفهري تابعي مدني أيضا يروي عن ابن عمر روى عنه أسامة بن زيد
الليثي وحده ووهم من خلطه بهلال بن علي وفيهم أيضا هلال بن أبي هلال مذحجي تابعي أيضا
يروي عن أبي هريرة وهلال بن أبي هلال أبو ظلال بصري تابعي أيضا يأتي ذكره قريبا في باب
فضل من ذهب بصره وهلال بن أبي هلال شيخ يروي عن أنس أفرده الخطيب في المتفق عن أبي
ظلال وقال أنه مجهول ولست أستبعد أن يكون واحدا (قوله من حيث أتتها الريح كفأتها)
بفتح الكاف والفاء والهمز أي أمالتها ونقل ابن التين أن منهم من رواه بغير همز ثم قال كأنه
سهل الهمز وهو كما ظن والمعنى أمالتها (قوله فإذا اعتدلت تكفأ بالبلاء) قال عياض كذا فيه
وصوابه فإذا انقلبت ثم يكون قوله تكفأ رجوعا إلى وصف المسلم وكذا ذكره في التوحيد وقال
الكرماني كان المناسب أن يقول فإذا اعتدلت تكفأ بالريح كما يتكفأ المؤمن بالبلاء لكن
الريح أيضا بلاء بالنسبة إلى الخامة أو لأنه لما شبه المؤمن بالخامة أثبت للمشبه به ما هو من
خواص المشبه (قلت) ويحتمل أن يكون جواب إذا محذوفا والتقدير استقامت أي فإذا
اعتدلت الريح استقامت الخامة ويكون قوله بعد ذلك تكفأ بالبلاء رجوعا إلى وصف
المسلم كما قال عياض وسياق المصنف في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد يؤيد ما قلت
فإنه أخرجه فيه عن محمد بن سنان عن فليح عاليا بإسناده الذي هنا وقال فيه فإذا سكنت اعتدلت
وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء * (تنبيه) * ذكر المزي في الأطراف في ترجمة هلال بن علي عن عطاء
ابن يسار عن أبي هريرة حديث مثل المؤمن مثل خامة الزرع خ في الطب عن محمد بن سنان
عن فليح وعن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه عنه به قال أبو القاسم يعني ابن عساكر
لم أجد حديث محمد بن سنان ولا ذكره أبو مسعود فأشار إلى أن خلفا تفرد بذكره (قلت) ورواية
إبراهيم بن المنذر في كتاب المرضى كما ترى لا في الطب لكن الامر فيه سهل وأما رواية محمد بن
سنان فقد بينت أين ذكرها البخاري أيضا فيتعجب من خفاء ذلك على هذين الحافظين
الكبيرين ابن عساكر والمزي ولله الحمد على ما أنعم (قوله والفاجر) في رواية محمد بن سنان
والكافر وبهذا يظهر أن المراد بالمنافق في حديث كعب بن مالك نفاق الكفر (قوله صماء)
أي صلبة شديدة بلا تجويف (قوله يقصمها) بفتح أوله وبالقاف أي يكسرها وكأنه مستند
الداودي فيما فسر به الالمجعاف لكن لا يلزم من التعبير بما يدل على الكسر أن يكون هو
الانقلاع لان الغرض القدر المشترك بينهما وهو الإزالة والمراد خروج الروح من الجسد
* الحديث السادس حديث أبي هريرة أيضا (قوله عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي
صعصعة) هكذا جرد مالك نسبه ومنهم من ينسبه إلى جده ومنهم من ينسب عبد الله إلى
93

جده ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق ابن القاسم عن مالك حدثني محمد بن عبد الله فذكره
(قوله أبا الحباب) بضم المهملة وموحدتين مخففا (قوله من يرد الله به خيرا يصب منه) كذا
للأكثر بكسر الصاد والفاعل الله قال أبو عبيد الهروي معناه يبتليه بالمصايب ليثيبه عليها
وقال غيره معناه يوجه إليه البلاء فيصيبه وقال ابن الجوزي أكثر المحدثين يرويه بكسر
الصاد وسمعت ابن الخشاب يفتح الصاد وهو أحسن وأليق كذا قال ولو عكس لكان أولى
والله أعلم ووجه الطيبي الفتح بأنه أليق بالأدب لقوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين (قلت)
ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن
صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع ورواته ثقات إلا أن محمود بن لبيد اختلف في سماعه من
النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي
وحسنه وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن لان الآدمي لا ينفك غالبا من ألم
بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية
تكفر ذنوب من تقع له وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود ما من مسلم يصيبه
أذى إلا حات الله عنه خطاياه وظاهره تعميم جميع الذنوب لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر
للحديث الذي تقدم التنبيه عليه في أوائل الصلاة الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان
إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا
المقيد ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة
لتكفير الذنوب فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض
وخفته ثم المراد بتكفير الذنب ستره أو محو أثره المرتب عليه من استحقاق العقوبة وقد استدل به
على أن مجرد حصول المرض أو غيره مما ذكر يترتب عليه التكفير المذكور سواء انضم إلى ذلك
صبر المصاب أم لا وأبى ذلك قوم كالقرطبي في المفهم فقال محل ذلك إذا صبر المصاب واحتسب
وقال ما أمر الله به في قوله تعالى الذين إذا أصابتهم مصيبة الآية فحينئذ يصل إلى ما وعد الله
ورسوله به من ذلك وتعقب بأنه لم يأت على دعواه بدليل وأن في تعبيره بقوله بما أمر الله نظرا إذ لم
يقع هنا صيغة أمر وأجيب عن هذا بأنه وإن لم يقع التصريح بالامر فسياقه يقتضي الحث عليه
والطلب له ففيه معنى الامر وعن الأول بأنه حمل الأحاديث الواردة بالتقييد بالصبر على المطلقة
وهو حمل صحيح لكن كان يتم له ذلك لو ثبت شئ منها بل هي إما ضعيفة لا يحتج بها وإما قوية لكنها
مقيدة بثواب مخصوص فاعتبار الصبر فيها إنما هو لحصول ذلك الثواب المخصوص مثل
ما سيأتي فيمن وقع الطاعون ببلد هو فيها فصبر واحتسب فله أجر شهيد ومثل حديث محمد بن خالد
عن أبيه عن جده وكانت له صحبة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن العبد إذا سبقت
له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله في جسده أو ولده أو ماله ثم صبر على ذلك حتى يبلغ تلك
المنزلة رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات إلا أن خالدا لم يرو عنه غير ابنه محمد وأبوه اختلف في اسمه
لكن إبهام الصحابي لا يضر وحديث سخبرة بمهملة ثم معجمة ثم موحدة وزن مسلمة رفعه من أعطى
فشكر وابتلى فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر أولئك لهم الامن وهم مهتدون أخرجه
الطبراني بسند حسن والحديث الآتي قريبا من ذهب بصره يدخل في هذا أيضا هكذا زعم
94

بعض من لقيناه أنه استقرأ الأحاديث الواردة في الصبر فوجدها لا تعدو أحد الامرين وليس كما
قال بل صح التقييد بالصبر مع إطلاق ما يترتب عليه من الثواب وذلك فيما أخرجه مسلم من
حديث صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن وليس ذلك الا للمؤمن
إن أصابته سراء فشكر الله فله أجر وإن أصابته ضراء فصبر فله أجر فكل قضاء الله للمسلم خير
وله شاهد من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ عجبت من قضاء الله للمؤمن إن أصابه خير حمد
وشكر وإن أصابته مصيبة حمد وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره الحديث أخرجه أحمد
والنسائي وممن جاء عنه التصريح بأن الاجر لا يحصل بمجرد حصول المصيبة بل إنما يحصل بها
التكفير فقط من السلف الأول أبو عبيدة بن الحراج فروى أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصله
في النسائي بسند جيد وصححه الحاكم من طريق عياض بن غطيف قال دخلنا على أبي عبيدة
نعوده من شكوى أصابته فقلنا كيف بات أبو عبيدة فقالت امرأته نحيفة لقد بات بأجر فقال
أبو عبيدة ما بت بأجر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ابتلاه الله ببلاء في جسده
فهو له حطة وكأن أبا عبيدة لم يسمع الحديث الذي صرح فيه بالاجر لمن أصابته المصيبة أو سمعه
وحمله على التقييد بالصبر والذي نفاه مطلق حصول الاجر العاري عن الصبر وذكر ابن بطال
أن بعضهم استدل على حصول الاجر بالمرض بحديث أبي موسى الماضي في الجهاد بلفظ إذا
مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحا مقيما قال فقد زاد على التكفير وأجاب
بما حاصله أن الزيادة لهذا إنما هي باعتبار نيته أنه لو كان صحيحا لدام على ذلك العمل الصالح
فتعضل الله عليه بهذه النية بأن يكتب له ثواب ذلك العمل ولا يلزم من ذلك أن يساويه من لم يكن
يعمل في صحته شيا وممن جاء عنه أن المريض يكتب له الاجر بمرضه أبو هريرة فعند البخاري في
الأدب المفرد بسند صحيح عنه أنه قال ما من مرض يصيبني أحب إلي من الحمى لأنها تدخل في كل
عضو مني وإن الله يعطي كل عضو قسطه من الاجر ومثل هذا لا يقوله أبو هريرة برأيه وأخرج
الطبراني من طريق محمد بن معاذ عن أبيه عن جده أبي بن كعب أنه قال يا رسول الله ما جزاء الحمى
قال تجري الحسنات على صاحبها ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق الحديث والأولى حمل
الاثبات والنفي على حالين فمن كانت له ذنوب مثلا أفاد المرض تمحيصها ومن لم تكن له ذنوب
كتب له بمقدار ذلك ولما كان الأغلب من بني آدم وجود الخطايا فيهم أطلق من أطلق أن المرض
كفارة فقط وعلى ذلك تحمل الأحاديث المطلقة ومن أثبت الاجر به فهو محمول على تحصيل
ثواب يعادل الخطيئة فإذا لم تكن خطيئة توفر لصاحب المرض الثواب والله أعلم بالصواب
وقد استبعد ابن عبد السلام في القواعد حصول الاجر على نفس المصيبة وحصر حصول الاجر
بسببها في الصبر وتعقب بما رواه أحمد بسند جيد عن جابر قال استأذنت الحمى على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأمر بها إلى أهل قباء فشكوا إليه ذلك فقال ما شئتم إن شئتم دعوت الله لكم
فكشفها عنكم وإن شئتم أن تكون لكم طهورا قالوا فدعها ووجه الدلالة منه أنه لم
يؤاخذهم بشكواهم ووعدهم بأنها طهور لهم (قلت) والذي يظهر أن المصيبة إذا قارنها الصبر
حصل التكفير ورفع الدرجات على ما تقدم تفصيله وإن لم يحصل الصبر نظر إن لم يحصل من الجزع
ما يذم من قول أو فعل فالفضل واسع ولكن المنزلة منحطة عن منزلة الصابر السابقة وإن حصل
95

فيكون ذلك سببا لنقص الاجر الموعود به أو التكفير فقد يستويان وقد يزيد أحدهما على
الآخر فبقدر ذلك يقضى لأحدهما على الآخر ويشير إلى التفصيل المذكور حديث محمود بن
لبيد الذي ذكرته قريبا والله أعلم (قوله باب شدة المرض) أي وبيان ما فيها من
الفضل (قوله وحدثني بشر بن محمد أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك (قوله عن الأعمش) كذا
أعاد الأعمش بعد التحويل ولو وقف في السند الأول عند سفيان وحول ثم قال كلاهما عن
الأعمش لكان سائغا لكن أظنه فعل ذلك لكونه ساقه على لفظ الرواية الثانية وهي رواية
شعبة وقد أخرجها الإسماعيلي من طريق حبان بن موسى عن ابن المبارك بلفظ ما رأيت
الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وساقه من رواية أبي بكر بن أبي شيبة
عن قبيصة شيخ البخاري فيه بلفظ ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع والباقي سواء والمراد
بالوجع المرض والعرب تسمي كل وجع مرضا ثم ذكر المصنف حديث ابن مسعود الآتي في
الباب الذي يليه وقوله في آخره إلا حات الله بحاء مهملة ومد وتشديد المثناة أصله حاتت بمثناتين
فأدغمت إحداهما في الأخرى والمعنى فتت وهي كناية عن إذهاب الخطايا (قوله حدثنا محمد بن
يوسف) هو الفريابي وسفيان هو الثوري (قوله باب أشد الناس بلاء الأنبياء
ثم الأمثل فالأمثل) كذا للأكثر وللنسفي الأول فالأول وجمعهما المستملي والمراد بالأول الأولية في
الفضل والأمثل أفعل من المثالة والجمع أماثل وهم الفضلاء وصدر هذه الترجمة لفظ حديث
أخرجه الدارمي والنسائي في الكبرى وابن ماجة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم كلهم
من طريق عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي
الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه الحديث وفيه
حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة أخرجه الحاكم من رواية العلاء بن المسيب عن مصعب
أيضا وأخرجه له شاهدا من حديث أبي سعيد ولفظه قال الأنبياء قال ثم من قال العلماء قال ثم من
قال الصالحون الحديث وليس فيه ما في آخر حديث سعد ولعل الإشارة بلفظ الأول فالأول
إلى ما أخرجه النسائي وصححه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده فإذا بسقاء يقطر عليه من شدة الحمى فقال إن من أشد
الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (قوله عن أبي حمزة) هو السكري بضم المهملة
وتشديد الكاف (قوله عن إبراهيم التيمي) هو ابن يزيد بن شريك والحرث بن سويد هو تيمي
أيضا وفي الاسناد ثلاثة من التابعين في نسق كوفيون وليس للحرث بن سويد في البخاري
سوى هذا الحديث وآخر يأتي في الدعوات لكنهما عنده من طرق عديدة وله عنده ثالث مضى في
الأشربة من روايته عن علي بن أبي طالب (قوله دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك)
في رواية سفيان التي قبلها أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه والوعك بفتح الواو وسكون
العين المهملة الحمى وقد تفتح وقيل ألم الحمى وقيل تعبها وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه
وعن الأصمعي الوعك الحر فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحراراتها (قوله ذلك) إشارة
إلى مضاعفة الاجر بشدة الحمى وعرف بهذا أن في الرواية السابقة في الباب قبله حذفا يعرف
من هذه الرواية وهو قوله أني أوعك كما يوعك رجلان منكم (قوله أجل) أي نعم وزنا ومعنى
96

(قوله أذى شوكة) التنوين فيه للتقليل لا للجنس ليصح ترتب فوقها ودونها في العظم والحقارة
عليه بالفاء وهو يحتمل فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكسه والله أعلم (قوله كما تحط) بفتح
أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه منتثرا والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا أشتد
ضاعف الاجر ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها أو المعنى قال
نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضا حتى لا يبقى منها شئ ويشير إلى ذلك حديث
سعد الذي ذكرته قبل حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ومثله حديث أبي هريرة عند
أحمد وابن أبي شيبة بلفظ لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة قال أبو هريرة
ما من وجع يصيبني أحب إلي من الحمى أنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم وأن الله يعطي كل
مفصل قسطه من الاجر ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة من جهة قياس الأنبياء على نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وإلحاق الأولياء بهم لقربهم منهم وإن كانت درجتهم منحطة عنهم والسر
فيه أن البلاء في مقابلة النعمة فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد ومن ثم ضوعف
حد الحر على العبد وقيل لأمهات المؤمنين من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب
ضعفين قال ابن الجوزي في الحديث دلالة على أن القوي يحمل ما حمل والضعيف يرفق به إلا أنه
كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان عليه البلاء ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء
وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكة فيسلم ولا يعترض وأرفع منه من
شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه عن اختياره نشأ والله أعلم
(قوله باب وجوب عيادة المريض) كذا جزم بالوجوب على ظاهر الامر بالعيادة
وتقدم حديث أبي هريرة في الجنائز حق المسلم على المسلم خمس فذكر منها عيادة المريض ووقع
في رواية مسلم خمس تجب للمسلم على المسلم فذكرها منها قال ابن بطال يحتمل أن يكون الامر على
الوجوب بمعنى الكفاية كاطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون للندب للحث على
التواصل والألفة وجزم الداودي بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض وقال
الجمهور هي في الأصل ندب وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض وعن الطبري تتأكد
في حق من ترجى بركته وتسن فيمن يراعي حاله وتباح فيما عدا ذلك وفي الكافر خلاف كما سيأتي
ذكره في باب مفرد ونقل النووي الاجماع على عدم الوجوب يعني على الأعيان وقد تقدم حديث
أبي موسى المذكور هنا في الجهاد وفي الوليمة وذكر بعده حديث البراء مختصرا مقتصرا
على بعض الخصال السبع ويأتي شرحه مستوفي في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى واستدل
بعموم قوله عودوا المريض على مشروعية العيادة في كل مريض لكن استثنى بعضهم الأرمد
لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو وهذا الامر خارجي قد يأتي مثله في بقية الأمراض كالمغمي
عليه وقد عقبه المصنف به وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال عادني
رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وهو عند
البخاري في الأدب المفرد وسياقه أتم وأما ما أخرجه البيهقي والطبراني مرفوعا ثلاثة ليس لهم
عيادة العين والدمل والضرس فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير ويؤخذ من
إطلاقه أيضا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور وجزم الغزالي في
97

الاحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجة عن أنس كان النبي صلى الله
عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث وهذا حديث ضعيف جدا تفرد به مسلمة بن علي وهو
متروك وقد سئل عنه أبو حاتم فقال هو حديث باطل ووجدت له شاهدا من حديث أبي هريرة عند
الطبراني في الأوسط وفيه راو متروك أيضا ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله
والتلطف به وربما كان ذلك في العادة سببا لوجود نشاطه وانتعاش قوته وفي إطلاق
الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت لكن جرت العادة بها في طرفي النهار وترجمة
البخاري في الأدب المفرد العيادة في الليل وساق عن خالد بن الربيع قال لما ثقل حذيفة أتوه في
جوف الليل أو عند الصبح فقال أي ساعة هذه فأخبروه فقال أعوذ بالله من صباح إلى النار
الحديث ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف تعود فلانا قال ليس هذا
وقت عيادة ونقل ابن الصلاح عن الفراوي أن العيادة تستحب في الشتاء ليلا وفي الصيف نهارا
وهو غريب ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله فإن اقتضت
ذلك ضرورة فلا بأس كما في حديث جابر الذي بعده وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد
منها عند مسلم والترمذي من حديث ثوبان أن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة
وخرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء ثم هاء هي الثمرة إذا نضجت شبه ما يحوزه عائد المريض
من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر وقيل المراد بها هنا الطريق والمعنى أن العائد يمشي في
طريق تؤديه إلى الجنة والتفسير الأول أولى فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد من هذا
الوجه وفيه قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة قال جناها وهو عند مسلم من جملة المرفوع وأخرج
البخاري أيضا من طريق عمر بن الحكم عن جابر رفعه من عاد مريضا خاض في الرحمة حتى إذا
قعد استقر فيها وأخرجه أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم من هذا الوجه وألفاظهم فيه
مختلفة ولأحمد نحوه من حديث كعب بن مالك بسند حسن (قوله باب عيادة
المغمى عليه) أي الذي يصيبه غشي تتعطل معه قوته الحساسة قال ابن المنير فائدة الترجمة أن
لا يعتقد أن عيادة المغمى عليه ساقطة الفائدة لكونه لا يعلم بعائده ولكن ليس في حديث جابر
التصريح بأنهما علما أنه مغمى عليه قبل عيادته فلعله وافق حضورهما (قلت) بل الظاهر من
السياق وقوع ذلك حال مجيئهما وقبل دخولهما عليه ومجرد علم المريض بعائده لا تتوقف
مشروعية العيادة عليه لان وراء ذلك جبر خاطر أهله وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده
على المريض والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ إلى غير ذلك وقد تقدم شرح
حديث جابر المذكور في كتاب الطهارة وفي تفسير سورة النساء (قوله باب فضل
من يصرع من الريح) انحباس الريح قد يكون سببا للصرع وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن
انفعالها منعا غير تام وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ أو بخار ردئ يرتفع إليه من
بعض الأعضاء وقد يتبعه تشنج في الأعضاء فلا يبقى الشخص معه منتصبا بل يسقط ويقذف
بالزبد لغلظ الرطوبة وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلى من النفوس الخبيثة منهم إما
لاستحسان بعض الصور الانسية وإما لايقاع الأذية به والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء
ويذكرون علاجه والثاني يجحده كثير منهم وبعضهم يثبته ولا يعرف له علاجا إلا بمقاومة
98

الأرواح الخيرة العلوية ليندفع آثار الأرواح الشريرة السفلية وتبطل أفعالها وممن نص منهم
على ذلك إبقراط فقال لما ذكر علاج المصروع هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط وأما الذي
يكون من الأرواح فلا (قوله يحيى) هو ابن سعيد القطان (قوله عن عمران أبي بكر) هو المعروف
بالقصير واسم أبيه مسلم وهو بصري تابعي صغير (قوله ألا أريك) ألا بتخفيف اللام قبلها همزة
مفتوحة (قوله هذه المرأة السوداء) في رواية جعفر المستغفري في كتاب الصحابة وأخرجه أبو
موسى في الذيل من طريقه ثم من رواية عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح في هذا الحديث
فأراني حبشية صفراء عظيمة فقال هذه سعيرة الأسدية (قوله فقالت إن بي هذه المؤتة) (3) وهو
بضم الميم بعدها همزة ساكنة الجنون وأخرجه ابن مردويه في التفسير من هذا الوجه فقال في
روايته إن بي هذه المؤتة يعني الجنون وزاد في روايته وكذا ابن منده أنها كانت تجمع الصوف
والشعر والليف فإذا اجتمعت لها كبة عظيمة نقضتها فنزل فيها ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها
الآية وقد تقدم في تفسير النحل أنها امرأة أخرى (قوله وإني أتكشف) بمثناة وتشديد المعجمة من
التكشف وبالنون الساكنة مخففا من الانكشاف والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي
لا تشعر (قوله في الطريق الأخرى حدثنا محمد) هو ابن سلام وصرح به في الأدب المفرد ومخلد
هو ابن يزيد (قوله أنه رأى أم زفر) بضم الزاي وفتح الفاء (قوله تلك المرأة) في رواية الكشميهني
تلك امرأة (قوله على ستر الكعبة) بكسر المهملة أي جالسة عليها معتمدة ويجوز أن يتعلق بقوله
رأي ثم وجدت الحديث في الأدب المفرد للبخاري وقد أخرجه بهذا السند المذكور هنا بعينه
وقال على سلم الكعبة فالله أعلم وعند البزار من وجه آخر عن ابن عباس في نحو هذه القصة أنها
قالت أني أخاف الخبيث أن يجردني فدعا لها فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة
فتتعلق بها وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج هذا الحديث مطولا وأخرجه ابن عبد البر في
الاستيعاب من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول كان
النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ فأتى بمجنونة يقال لها أم زفر
فضرب صدرها فلم تبرأ قال ابن جريج وأخبرني عطاء فذكر كالذي هنا وأخرجه ابن منده في
المعرفة من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن طاوس فزاد وكان يثني عليها خيرا وزاد في آخره
فقال أن يتبعها في الدنيا فلها في الآخرة خير وعرف مما أوردته أن اسمها سعيرة وهي بمهملتين
مصغر ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين وفي أخرى للمستغفري بالكاف وذكر ابن سعد
وعبد الغني في المبهمات من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد
النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة كما سيأتي ذكرها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى وقد يؤخذ من
الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط وقد أخرج
البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيها بقصتها ولفظه جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت أدع الله فقال إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت صبرت ولا حساب
عليك قالت بل أصبر ولا حساب علي وفي الحديث فضل من يصرع وأن الصبر على بلايا الدنيا
يورث الجنة وأن الاخذ بالشدة أفضل من الاخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف
عن التزام الشدة وفيه دليل على جواز ترك التداوي وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء
99

والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير وأن تأثير ذلك وانفعال البدن عنه أعظم
من تأثير الأدوية البدنية ولكن إنما ينجع بأمرين أحدهما من جهة العليل وهو صدق
القصد والآخر من جهة المداوي وهو قوة توجهه وقوة قلبه بالتقوى والتوكل والله أعلم (قوله
باب فضل من ذهب بصره) سقطت هذه الترجمة وحديثها من رواية النسفي وقد
جاء بلفظ الترجمة حديث أخرجه البزار عن زيد بن أرقم بلفظ ما ابتلى عبد بعد ذهاب دينه
بأشد من ذهاب بصره ومن ابتلى ببصره فصبر حتى يلقى الله تعالى ولا حساب عليه وأصله
عند أحمد بغير لفظه بسند جيد وللطبراني من حديث ابن عمر بلفظ من أذهب الله بصره
فذكر نحوه (قوله حدثني ابن الهاد) في رواية المصنف في الأدب المفرد عن عبد الله بن صالح
عن الليث حدثني يزيد بن الهاد وهو يزيد بن عبد الله بن أسامة (قوله عن عمرو) أي ابن أبي
عمرو ميسرة (مولى المطلب) أي ابن عبد الله بن حنطب (قوله إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه)
بالتثنية وقد فسرهما آخر الحديث بقوله يريد عينيه ولم يصرح بالذي فسرهما والمراد بالحبيبتين
المحبوبتان لأنهما أحب أعضاء الانسان إليه لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية
ما يريد رؤيته من خير فيسر به أو شر فيجتنبه (قوله فصبر) زاد الترمذي في روايته عن أنس
واحتسب وكذا لابن حبان والترمذي من حديث أبي هريرة ولابن حبان من حديث ابن
عباس أيضا والمراد أنه يصبر مستحضرا ما وعد الله به الصابر من الثواب لا أن يصبر مجردا عن
ذلك لان الأعمال بالنيات وابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه بل إما لدفع مكروه
أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة فإذا تلقى ذلك بالرضا تم له المراد وإلا يصبر كما جاء في حديث سلمان إن
مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتبا وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه
فلا يدري لم عقل ولم أرسل أخرجه البخاري في الأدب المفرد موقوفا (قوله عوضته منهما
الجنة) وهذا أعظم العوض لان الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا والالتذاذ بالجنة باق ببقائها
وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور ووقع في حديث أبي أمامة فيه قيد آخر
أخرجه البخاري في الأدب المفرد بلفظ إذا أخذت كريمتيك فصبرت عند الصدمة واحتسبت
فأشار إلى أن الصبر النافع هو ما يكون في أول وقوع البلاء فيفوض ويسلم وإلا فمتى تضجر
وتقلق في أول وهلة ثم يئس فيصبر لا يكون حصل المقصود وقد مضى حديث أنس في الجنائز
إنما الصبر عند الصدمة الأولى وقد وقع في حديث العرباض فيما صححه ابن حبان فيه بشرط
آخر ولفظه إذا سلبت من عبدي كريمتيه وهو بهما ضنين لم أرض له ثوابا دون الجنة إذا هو حمدني
عليهما ولم أر هذه الزيادة في غير هذه الطريق وإذا كان ثواب من وقع له ذلك الجنة فالذي
له أعمال صالحة أخرى يزاد في رفع الدرجات (قوله تابعه أشعث بن جابر وأبو ظلال بن هلال عن
أنس) أما متابعة أشعث بن جابر وهو ابن عبد الله بن جابر نسب إلى جده وهو أبو عبد الله الأعمى
البصري الحداني بضم الحاء وتشديد الدال المهملتين وحدان بطن من الأزد ولهذا يقال له
الأزدي وهو الحملي بضم المهملة وسكون الميم وهو مختلف فيه وقال الدارقطني يعتد به وليس له في
البخاري إلا هذا الموضع فأخرجها أحمد بلفظ قال ربكم من أذهبت كريمتيه ثم صبر واحتسب كان
ثوابه الجنة وأما متابعة أبي ظلال فأخرجها عبد بن حميد عن يزيد بن هارون عنه قال دخلت
100

على أنس فقال لي أدنه متى ذهب بصرك قلت وأنا صغير قال ألا أبشرك قلت بلى فذكر الحديث
بلفظ ما لمن أخذت كريمتيه عندي جزاء إلا الجنة وأخرج الترمذي من وجه آخر عن أبي ظلال
بلفظ إذا أخذت كريمتي عبدي في الدنيا لم يكن له جزاء عندي إلا الجنة * (تنبيه) * أبو ظلال
بكسر الظاء المشالة المعجمة والتخفيف اسمه هلال والذي وقع في الأصل أبو ظلال بن هلال صوابه
إما أبو ظلال هلال بحذف ابن وإما أبو ظلال بن أبي هلال بزيادة أبي واختلف في اسم أبيه فقيل
ميمون وقيل سويد وقيل يزيد وقيل زيد وهو ضعيف عند الجميع إلا أن البخاري قال إنه مقارب
الحديث وليس له في صحيحه غير هذه المتابعة وذكر المزي في ترجمته أن ابن حبان ذكره في الثقات
وليس بجيد لان ابن حبان ذكره في الضعفاء فقال لا يجوز الاحتجاج به وإنما ذكر في الثقات
هلال بن أبي هلال آخر روى عنه يحيى بن المتوكل وقد فرق البخاري بينهما ولهم شيخ ثالث يقال
له هلال بن أبي هلال تابعي أيضا روى عنه ابنه محمد وهو أصلح حالا في الحديث منهما والله أعلم
(قوله باب عيادة النساء الرجال) أي ولو كانوا أجانب بالشرط المعتبر (قوله
وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار) قال الكرماني لأبي الدرداء زوجتان كل
منهما أم الدرداء فالكبرى اسمها خيرة بالخاء المعجمة المفتوحة بعدها تحتانية ساكنة صحابية
والصغرى اسمها هجيمة بالجيم والتصغير وهي تابعية والظاهر أن المراد هنا الكبرى والمسجد
مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة (قلت) وما أدعى أنه الظاهر ليس كذلك بل هي
الصغرى لان الأثر المذكور أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق الحرث بن عبيد وهو شامي
تابعي صغير لم يلحق أم الدرداء الكبرى فإنها ماتت في خلافة عثمان قبل موت أبي الدرداء قال
رأيت أم الدرداء على رحاله أعواد ليس لها غشاء تعود رجلا من الأنصار في المسجد وقد تقدم
في الصلاة أن أم الدرداء كانت تجلس في الصلاة جلسة الرجل وكانت فقيهة وبينت هناك أنها
الصغرى والصغرى عاشت إلى أواخر خلافة عبد الملك بن مروان وماتت في سنة إحدى وثمانين
بعد الكبرى بنحو خمسين سنة ثم ذكر المصنف حديث عائشة قالت لما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال قالت فدخلت عليهما الحديث وقد اعترض عليه بأن ذلك
قبل الحجاب قطعا وقد تقدم أن في بعض طرقه وذلك قبل الحجاب وأجيب بأن ذلك لا يضره فيما
ترجم له من عيادة المرأة الرجل فإنه يجوز بشرط التستر والذي يجمع بين الامرين ما قبل الحجاب
وما بعده الامن من الفتنة وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أبواب الهجرة من أوائل
المغازي وقوله في البيت الذي أوله ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد كذا هو بالتنكير والابهام
والمراد به وادي مكة وذكر الجوهري في الصحاح ما يقتضي أن الشعر المذكور ليس لبلال فإنه قال
كان بلال يتمثل به وأورده بلفظ هل أبيتن ليلة بمكة حولي وقوله شامة وطفيل هما جبلان عند
الجمهور وصوب الخطابي أنهما عينان وقوله كيف تجدك أي تجد نفسك والمراد به الاحساس
أي كيف تعلم حال نفسك (قوله باب عيادة الصبيان) ذكر فيه حديث أسامة
101

ابن زيد في قصة ولد بنت النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم شرحه مستوفي في أوائل كتاب الجنائز
وقوله في هذه الطريق أن ابنة في رواية الكشميهني أن بنتا وقوله فأشهدنا كذا للأكثر وعند
الكشميهني فأشهدها والمراد به الحضور وقوله هذه الرحمة في رواية الكشميهني أيضا هذه رحمة
بالتنكير (قوله باب عيادة الاعراب) بفتح الهمزة هم سكان البوادي (قوله خالد)
هو الحذاء (قوله عن عكرمة عن ابن عباس) قال الإسماعيلي رواه وهيب بن خالد عن خالد الحذاء
عن عكرمة فأرسله (قلت) قد وصله أيضا عبد العزيز بن مختار كما تقدم قريبا هنا وتقدم أيضا في
علامات النبوة ووصله أيضا الثقفي كما سيأتي في التوحيد فإذا وصله ثلاثة من الثقات لم يضره
إرسال واحد (قوله دخل على أعرابي) تقدم في علامات النبوة بيان اسمه (قوله لا بأس)
أي أن المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير
وقوله طهور هو خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة ويستفاد منه أن
لفظ الطهور ليس بمعنى الطاهر فقط وقوله إن شاء الله يدل على أن قوله طهور دعاء لا خبر (قوله
قلت) بفتح التاء على المخاطبة وهو استفهام إنكار (قوله بل هي) أي الحمى وفي رواية الكشميهني
بل هو أي المرض (قوله تفور أو تثور) شك من الراوي هل قالها بالفاء أو بالمثلثة وهما بمعنى
(قوله تزيره) بضم أوله من أزاره إذا حمله على الزيارة بغير اختياره (قوله فنعم إذا) الفاء فيه معقبة
لمحذوف تقديره إذا أبيت فنعم أي كان كما ظننت قال ابن التين يحتمل أن يكون ذلك دعاء عليه
ويحتمل أن يكون خبرا عما يؤل إليه أمره وقال غيره يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم
أنه سيموت من ذلك المرض فدعا له بأن تكون الحمى له طهرة لذنوبه ويحتمل أن يكون أعلم بذلك
لما أجابه الأعرابي بما أجابه وقد تقدم في علامات النبوة أن عند الطبراني من حديث شرحبيل
والد عبد الرحمن أن الأعرابي المذكور أصبح ميتا وأخرجه الدولابي في الكنى وابن السكن في
الصحابة ولفظه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قضى الله فهو كائن فأصبح الأعرابي ميتا وأخرج
عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم مرسلا نحوه قال المهلب فائدة هذا الحديث أنه لا نقص
على الامام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابيا جافيا ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه
ويذكره بما ينفعه ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه ويسليه عن ألمه بل يغبطه
بسقمه إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى الموعظة بالقبول
ويحسن جواب من يذكره بذلك (قوله باب عيادة المشرك) قال ابن بطال إنما تشرع
عيادته إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الاسلام فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا انتهى والذي يظهر
أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى قال الماوردي عيادة الذمي
جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة ثم ذكر المصنف حديث أنس
في قصة الغلام اليهودي وتقدم شرحها مستوفي في كتاب الجنائز وذكر قول من زعم أن اسمه
عبد القدوس (قوله وقال سعيد بن المسيب عن أبيه) تقدم موصولا في تفسير سورة القصص
وفي الجنائز أيضا وتقدم شرحه مستوفى في الجنائز (قوله باب إذا عاد مريضا
فحضرت الصلاة فصلى) أي المريض (بهم) أي بمن عاده (قوله يحيى) هو القطان وهشام هو ابن
102

عروة (قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس يعودونه) تقدم شرحه في أبواب
الإمامة من كتاب الصلاة وكذا قول الحميدي المذكور في آخره (قوله باب وضع اليد
على المريض) قال ابن بطال في وضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له
بالعافية على حسب ما يبدو له منه وربما رقاه بيده ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان
العائد صالحا (قلت) وقد يكون العائد عارفا بالعلاج فيعرف العلة فيصف له ما يناسبه ثم ذكر
المصنف في الباب حديثين تقدما * أحدهما حديث سعد بن أبي وقاص وقد تقدم شرحه في
الوصايا وأورده هنا عاليا من طريق الجعيد وهو ابن عبد الرحمن وقوله فيه تشكيت بمكة شكوى
شديدة في رواية المستملي شديدا بالتذكير على إرادة المرض والشكوى بالقصر المرض وقوله
وأترك لها الثلثين قال الداودي إن كانت هذه الزيادة محفوظة فلعل ذلك كان قبل نزول
الفرائض وقال غيره قد يكون من جهة الرد وفيه نظر لان سعدا كان له حينئذ عصبات وزوجات
فيتعين تأويله ويكون فيه حذف تقديره وأترك لها الثلثين أي ولغيرها من الورثة وخصها بالذكر
لتقدمها عنده وأما قوله ولا يرثني إلا ابنة لي فتقدم أن معناه من الأولاد ولم يرد ظاهر الحصر
وقوله ثم وضع يده على جبهته في رواية الكشميهني على جبهتي وبها يتبين أو في الأول تجريدا
وقوله فما زلت أجد برده أي برد يده وذكر باعتبار العضو أو الكف أو المسح وقوله فيما يخال
إلي قال ابن التين صوابه فيما يخيل إلي بالتشديد لأنه من التخيل قال الله تعالى يخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى (قلت) وأقره الزركشي وهو عجيب فإن الكلمة صواب وهو بمعنى يخيل قال
في المحكم خال الشئ يخاله يظنه وتخيله ظنه وساق الكلام على المادة * الحديث الثاني حديث ابن
مسعود وقد تقدم شرحه في أوائل كفارة المرضى وقوله فمسسته بيدي بكسر السين الأولى وهو
موضع الترجمة وجاء عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا يضع يده
على المكان الذي يألم ثم يقول بسم الله أخرجه أبو يعلى بسند حسن وأخرج الترمذي من حديث
أبي أمامة بسند لين رفعه تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته فيسأله كيف هو
وأخرجه ابن السني ولفظه فيقول كيف أصبحت أو كيف أمسيت (قوله باب
ما يقال للمريض وما يجيب) ذكر فيه حديث ابن مسعود المذكور في الباب قبله وحديث
103

ابن عباس في قصة الأعرابي الذي قال حمى تفور وقد تقدم أيضا قريبا وفيه بيان ما ينبغي أن يقال
عند المريض وفائدة ذلك وأخرج ابن ماجة والترمذي من حديث أبي سعيد رفعه إذا دخلتم
على المريض فنفسوا له في الاجل فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض وفي سنده لين
وقوله نفسوا أي أطعموه في الحياة ففي ذلك تنفيس لما هو فيه من الكرب وطمأنينة لقلبه قال
النووي وهو معنى قوله في حديث ابن عباس للاعرابي لا بأس وأخرج ابن ماجة أيضا بسند
حسن لكن فيه انقطاع عن عمر رفعه إذا دخلت على مريض فمره يدعو لك فإن دعاءه كدعاء
الملائكة وقد ترجم المصنف في الأدب المفرد ما يجيب به المريض وأورد قول ابن عمر للحجاج
لما قال له من أصابك قال أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله وقد تقدم هذا
في العيدين (قوله باب عيادة المريض راكبا وماشيا وردفا على الحمار) ذكر فيه
حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار وفيه أنه أردفه يعود سعد
ابن عبادة وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أواخر تفسير آل عمران وقوله على حمار على
إكاف على قطيفة على الثالثة بدل من الثانية وهي بدل من الأولى والحاصل أن الإكاف يلي
الحمار والقطيفة فوق الإكاف والراكب فوق القطيفة والإكاف بكسر الهمزة وتخفيف
الكاف ما يوضع على الدابة كالبرذعة والقطيفة كساء وقوله فدكية بفتح الفاء والدال وكسر
الكاف نسبة إلى فدك القرية المشهورة كأنها صنعت فيها وحكى بعضهم أن في رواية فركبه
بفتح الراء والموحدة الخفيفة من الركوب والضمير للحمار وهو تصحيف بين وقوله في حديث
جابر جاءني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون هذا القدر أفرده المزي
في الأطراف وجعله الحميدي من جملة الحديث الذي أوله مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان وأظن الذي صنعه هو الصواب (قوله باب
ما رخص للمريض أن يقول أني وجع أو وا رأساه أو أشتد بي الوجع وقول أيوب عليه السلام
مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) أما قوله أني وجع فترجم به في كتاب الأدب المفرد وأورده فيه
من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال دخلت أنا وعبد الله بن الزبير على أسماء يعني بنت أبي
بكر وهي أمهما وأسماء وجعة فقال لها عبد الله كيف تجدينك قالت وجعت الحديث
وأصرح منه ما روى صالح بن كيسان عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال دخلت
على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فسلمت عليه وسألته كيف أصبحت فاستوى
جالسا فقلت أصبحت بحمد الله بارئا قال أما أني على ما ترى وجع فذكر القصة أخرجه الطبراني
وأما قوله وا رأساه فصريح في حديث عائشة المذكور في الباب وأما قوله أشتد بي الوجع
فهو في حديث سعد الذي في آخر الباب وأما قول أيوب عليه إسلام فاعترض ابن التين ذكره
104

في الترجمة فقال هذا لا يناسب التبويب لان أيوب أنما قاله داعيا ولم يذكره للمخلوقين (قلت)
لعل البخاري أشار إلى أن مطلق الشكوى لا يمنع ردا على من زعم من الصوفية أن الدعاء بكشف
البلاء يقدح في الرضا والتسليم فنبه على أن الطلب من الله ليس ممنوعا بل فيه زيادة عبادة لما
ثبت مثل ذلك عن المعصوم وأثنى الله عليه بذلك وأثبت له اسم الصبر مع ذلك وقد روينا في قصة
أيوب في فوائد ميمونة وصححه ابن حبان والحاكم من طريق الزهري عن أنس رفعه أن أيوب لما
طال بلاؤه رفضه القريب والبعيد غير رجلين من إخوانه فقال أحدهما لصاحبه لقد أذنب
أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين فبلغ ذلك أيوب يعنى فجزع من قوله ودعا ربه فكشف ما به
وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عبيد بن نمير موقوفا عليه نحوه وقال فيه فجزع من
قولهما جزعا شديدا ثم قال بعزتك لا أرفع رأسي حتى تكشف عني وسجد فما رفع رأسه حتى
كشف عنه فكأن مراد البخاري أن الذي يجوز من شكوى المريض ما كان على طريق
الطلب من الله أو على غير طريق التسخط للقدر والتضجر والله أعلم قال القرطبي اختلف الناس
في هذا الباب والتحقيق أن الألم لا يقدر أحد على رفعه والنفوس مجبولة على وجدان ذلك فلا
يستطاع تغييرها عما جبلت عليه وإنما كلف العبد أن لا يقع منه في حال المصيبة ما له سبيل إلى تركه
كالمبالغة في التأوي والجزع الزائد كأن من فعل ذلك خرج عن معاني أهل الصبر وأما مجرد
التشكي فليس مذموما حتى يحصل التسخط للمقدور وقد اتفقوا على كراهة شكوى العبد
ربه وشكواه إنما هو ذكره للناس على سبيل التضجر والله أعلم وروى أحمد في الزهد عن طاوس
أنه قال أنين المريض شكوى وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن أنين
المريض وتأوهه مكروه وتعقبه النووي فقال هذا ضعيف أو باطل فإن المكروه ما ثبت فيه
نهي مقصود وهذا لم يثبت فيه ذلك ثم احتج بحديث عائشة في الباب ثم قال فلعلهم أرادوا
بالكراهة خلاف الأولى فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى اه‍ ولعلهم أخذوه بالمعنى من
كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء وتورث شماتة الأعداء
وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا ثم ذكر في الباب أربعة أحاديث
* الأول حديث كعب بن عجرة في حلق المحرم رأسه إذا آذاه القمل وقد تقدم شرحه مستوفى في
كتاب الحج وقوله أيؤذيك هوام رأسك هو موضع الترجمة لنسبة الأذى للهوام وهي بتشديد الميم
اسم للحشرات لأنها تهم أن تدب وإذا أضيفت إلى الرأس اختصت بالقمل * الثاني حديث
عائشة (قوله حدثنا يحيى بن يحيى أبو زكريا) هو النيسابوري الامام المشهور و ليس له في
البخاري سوى مواضع يسيرة في الزكاة والوكالة والتفسير والأحلام وأكثر عنه مسلم ويقال
إنه تفرد بهذا الاسناد وإن أحمد كان يتمنى لو أمكنه الخروج إلى نيسابور ليسمع منه هذا الحديث
ولكن أخرجه أبو نعيم في المستخرج من وجهين آخرين عن سليمان بن بلال (قوله وا رأساه) هو
تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم الصداع وعند أحمد والنسائي وابن ماجة من طريق
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة من
البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول وا رأساه (قوله ذاك لو كان وأنا حي) ذاك
بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم المرض من الموت أي لو مت وأنا حي ويرشد إليه جواب عائشة
105

وقد وقع مصرحا به في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه ثم قال ما ضرك لو مت قبلي
فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك وقولها وا ثكلياه بضم المثلثة وسكون الكاف وفتح اللام
وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة وأصل الثكل فقد الولد أو من يعز
على الفاقد وليست حقيقته هنا مرادة بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة
أو توقعها وقولها والله أني لأظنك تحب موتى كأنها أخذت ذلك من قوله لها لو مت قبلي
وقولها ولو كان ذلك في رواية الكشميهني ذاك بغير لام أي موتها لظللت آخر يومك معرسا بفتح
العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف يقال أعرس وعرس إذا بني
على زوجته ثم استعمل في كل جماع والأول أشهر فإن التعريس النزول بليل ووقع في رواية
عبيد الله لكأني بك والله لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك قالت
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها بل أنا وا رأساه هي كلمة إضراب والمعنى دعي ذكر
ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي وزاد في رواية عبيد الله ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه
صلى الله عليه وسلم (قوله لقد هممت أو أردت) شك من الراوي ووقع في رواية أبي نعيم أو وددت
بدل أردت (قوله أن أرسل إلى أبي بكر وابنه) كذا للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة
والنون ووقع في رواية مسلم أو ابنه بلفظ أو التي للشك وأو للتخيير وفي أخرى أو آتيه بهمزة
ممدودة بعدها مثناة مكسورة ثم تحتانية ساكنة من الاتيان بمعنى المجئ والصواب الأول ونقل
عياض عن بعض المحدثين تصويبها وخطأه وقال ويوضح الصواب قولها في الحديث الآخر
عند مسلم ادعى لي أباك وأخاك وأيضا فإن مجيئه إلى أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور
الصلاة مع قرب مكانها من بيته (قلت) في هذا التعليل نظر فان سياق الحديث يشعر بأن ذلك
كان في ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور على نسائه حتى
عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة ويحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لقد هممت إلى آخره
وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة وإن كان ظاهر الحديث بخلافه ويؤيد أيضا
ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب عائشة فكأنه يقول كما أن الامر يفوض لأبيك
فإن ذلك يقع بحضور أخيك هذا أن كان المراد بالعهد العهد بالخلافة وهو ظاهر السياق كما
سيأتي تقريره في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى وإن كان لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض
محارمها حتى لو أحتاج إلى قضاء حاجة أو الارسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك (قوله فأعهد)
أي أوصي قوله أن يقول القائلون) أي لئلا يقول أو كراهة أن يقول (قوله أو يتمنى المتمنون)
بضم النون جمع متمني بكسرها وأصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت
فاجتمعت كسرة النون بعدها الواو فضمت النون وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة
وفيه مداعبة الرجل أهله والافضاء إليهم بما يستره عن غيرهم وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية
فكم من ساكت وهو ساخط وكم من شاك وهو راض فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق
اللسان والله أعلم * الحديث الثالث حديث ابن مسعود وقد تقدم شرحه قريبا وقوله في هذه
الرواية فمسسته وقع في رواية المستملي فسمعته وهو تحريف ووجهت بأن هناك حذفا والتقدير
فسمعت أنينه * الحديث الرابع حديث عامر بن سعد عن أبيه وهو سعد بن أبي وقاص
106

(قوله من وجع أشتد بي) تقدم شرحه مستوفي في كتاب الوصايا وقوله زمن حجة الوداع
موافق لرواية مالك عن الزهري وتقدم أن ابن عيينة قال في روايته إن ذلك في زمن الفتح والأول
أرجح والله أعلم (قوله باب قول المريض قوموا عني) أي إذا وقع من الحاضرين
عنده ما يقتضي ذلك (قوله هشام) هو ابن يوسف الصنعاني وقوله حدثنا عبد الله بن محمد هو
المسندي وساقه المصنف هنا على لفظ هشام وسبق لفظ عبد الرزاق في أواخر المغازي وتقدم
شرحه هناك ووقع هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا وقد تقدم الحديث في كتاب
العلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري بلفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا عني
وهو المطابق للترجمة ولم أستحضره عند الكلام عليه في المغازي فنسبت هذه الزيادة لابن سعد
وعزوها للبخاري أولى ويؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة أن لا يطيل العائد عند
المريض حتى يضجره وأن لا يتكلم عنده بما يزعجه وجملة آداب العيادة عشرة أشياء ومنها
ما لا يختص بالعيادة أن لا يقابل الباب عند الاستئذان وأن يدق الباب برفق وأن لا يبهم نفسه
كأن يقول أنا وأن لا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة كوقت شرب المريض الدواء وأن
يخفف الجلوس وأن يغض البصر ويقلل السؤال وأن يظهر الرقة وأن يخلص الدعاء وأن يوسع
للمريض في الأمل ويشير عليه بالصبر لما فيه من جزيل الاجر ويحذره من الجزع لما فيه من
الوزر (قوله وكان ابن عباس يقول إن الرزية) سبق الكلام عليه في الوفاة النبوية (قوله
باب من ذهب بالصبي المريض ليدعي له) في رواية الكشميهني ليدعوا له ذكر فيه
حديث الجعيد وهو ابن عبد الرحمن والسائب هو ابن يزيد وقد تقدم الحديث مشروحا في
الترجمة النبوية عند ذكر خاتم النبوة وأن خالة السائب لا يعرف اسمها وستأتي الإشارة إلى
خصوص المسح على رأس المريض والدعاء بالبركة في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى (قوله
باب تمني المريض الموت) أي هل يمنع مطلقا أو يجوز في حالة ووقع في رواية الكشميهني
نهي تمني المريض الموت وكأن المراد منع تمني المريض وذكر في الباب خمسة أحاديث * الحديث
الأول عن أنس (قوله لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه) الخطاب للصحابة والمراد هم ومن
بعدهم من المسلمين عموما وقوله من ضر أصابه حمله جماعة من السلف على الضر الدنيوي فإن
وجد الضر الأخروي بأن خشي فتنة في دينه لم يدخل في النهي ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية
ابن حبان لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به في الدنيا على أن في في هذا الحديث سببية أي بسبب
أمر من الدنيا وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة ففي الموطأ عن عمر أنه قال اللهم كبرت سني
107

وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط وأخرجه عبد الرزاق من
وجه آخر عن عمر وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس ويقال عابس الغفاري أنه قال يا طاعون
خذني فقال له عليم الكندي لم تقول هذا ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم
الموت فقال أني سمعته يقول بادروا بالموت ستا إمرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم
الحديث وأخرج أحمد أيضا من حديث عوف بن مالك نحوه وأنه قيل له ألم يقل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما عمر المسلم كان خيرا له الحديث وفيه الجواب نحوه وأصرح منه في ذلك
حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم في القول في دبر كل صلاة وفيه وإذا أردت
بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون (قوله فإن كان لا بد فاعلا) في رواية عبد العزيز بن صهيب عن
أنس كما سيأتي في الدعوات فإن كان ولا بد متمنيا للموت (قوله فليقل الخ) وهذا يدل على أن النهي
عن تمني الموت مقيد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة لان في التمني المطلق نوع واعتراض ومراغمة
للقدر المحتوم وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض وتسليم للقضاء وقوله فإن كان الخ فيه
ما يصرف الامر عن حقيقته من الوجوب أو الاستحباب ويدل على أنه لمطلق الاذن لان الامر
بعد الحظر لا يبقى على حقيقته وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب السنن من حديث
المقدام بن معد يكرب حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان ولا بد فثلث للطعام الحديث
أي إذا كان لا بد من الزيادة على اللقيمات فليقتصر على الثلث فهو إذن بالاقتصار على الثلث
لا أمر يقتضي الوجوب ولا الاستحباب (قوله ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت) عبر في
الحياة بقوله ما كانت لأنها حاصلة فحسن أن يأتي بالصيغة المقتضية للاتصاف بالحياة ولما كانت
الوفاة لم تقع بعد حسن أن يأتي بصيغة الشرط والظاهر أن هذا التفصيل يشمل ما إذا كان
الضر دينيا أو دنيويا وسيأتي في التمني من رواية النضر بن أنس عن أبيه لولا أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال لا تمنوا الموت لتمنيته فلعله رأى أن التفصيل المذكور ليس من التمني المنهي عنه
* الحديث الثاني حديث خباب (قوله عن إسماعيل بن أبي خالد) لشعبة فيه إسناد آخر أخرجه
الترمذي من رواية غندر عنه عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب قال دخلت على خباب فذكر
الحديث نحوه (قوله وقد اكتوى سبع كيات) في رواية حارثة وقد اكتوى في بطنه فقال ما أعلم
أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيت أي من الوجع الذي أصابه
وحكى شيخنا في شرح الترمذي احتمال أن يكون أراد بالبلاء ما فتح عليه من المال بعد أن كان
لا يجد درهما كما وقع صريحا في رواية حارثة المذكورة عنه قال لقد كنت وما أجد درهما على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ناحية بيتي أربعون ألفا يعني الآن وتعقبه بأن غيره من
الصحابة كان أكثر مالا منه كعبد الرحمن بن عوف واحتمال أن يكون أراد ما لقي من التعذيب في
أول الاسلام من المشركين وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب وكان
يحب أن لو بقي له أجره موفرا في الآخرة قال ويحتمل أن يكون أراد ما فعل من الكي مع ورود
النهي عنه كما قال عمران بن حصين نهينا عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا أخرجه
قال وهذا بعيد (قلت) وكذلك الذي قبله وسيأتي الكلام على حكم الكي قريبا في
كتاب الطب إن شاء الله تعالى (قوله إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا) زاد في
108

الرقاق من طريق يحيى القطان عن إسماعيل بن أبي خالد شيا أي لم تنقص أجورهم بمعنى أنهم
لم يتعجلوها في الدنيا بل بقيت موفرة لهم في الآخرة وكأنه عني بأصحابه بعض الصحابة ممن مات في
حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأما من عاش بعده فإنهم اتسعت لهم الفتوح ويؤيد حديثه
الآخر هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى لم يأكل من
أجره شيئا منهم مصعب بن عمير وقد مضى في الجنائز وفي المغازي أيضا ويحتمل أن يكون عني جميع
من مات قبله وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثر فيه إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البر وكان
من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرا فكانت تقع لهم الموقع ثم لما اتسع الحال جدا وشمل العدل في
زمن الخلفاء الراشدين استغنى الناس بحيث صار الغني لا يجد محتاجا يضع بره فيه ولهذا قال
خباب وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب أي الانفاق في البنيان وأغرب الداودي فقال
أراد خباب بهذا القول الموت أي لا نجد للمال الذي أصابه إلا وضعه في القبر حكاه ابن التين ورده
فأصاب وقال بل هو عبارة عما أصابوا من المال (قلت) وقد وقع لأحمد عن يزيد بن هارون عن
إسماعيل بن أبي خالد في هذا الحديث بعد قوله الا التراب وكان يبني حائطا له ويأتي في
الرقاق نحوه باختصار وأخرجه أحمد أيضا عن وكيع عن إسماعيل وأوله دخلنا على خباب نعوده
وهو يبني حائطا له وقد اكتوى سبعا الحديث (قوله ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به) الدعاء بالموت أخص من تمنى الموت وكل دعاء تمنى من غير عكس
فلذلك أدخله في هذه الترجمة (قوله ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطا له) هكذا وقع في رواية
شعبة تكرار المجئ وهو أحفظ الجميع فزيادته مقبولة والذي يظهر أن قصة بناء الحائط كانت
سبب قوله أيضا وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعا إلا التراب (قوله إن المسلم ليؤجر في كل
شئ ينفقه إلا في شئ يجعله في هذا التراب) أي الذي يوضع في البنيان وهو محمول على ما زاد على
الحاجة وسيأتي تقرير ذلك في آخر كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى * (تنبيه) * هكذا وقع من
هذا الوجه موقوفا وقد أخرجه الطبراني من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد حدثنا أبي عن بيان
ابن بشر وإسماعيل بن أبي خالد جميعا عن قيس عن أبي حازم قال دخلنا على خباب نعوده فذكر
الحديث وفيه وهو يعالج حائطا له فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن المسلم يؤجر في
نفقته كلها إلا ما يجعله في التراب وعمر كذبه يحيى بن معين * الحديث الثالث والرابع حديث
أبي هريرة (قوله أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف) هو أبو عبيد مولى ابن أزهر
واسمه سعيد بن عبيد وابن أزهر الذي نسب إليه هو عبد الرحمن بن أزهر بن عوف وهو ابن أخي
عبد الرحمن بن عوف الزهري هكذا اتفق هؤلاء عن الزهري في روايته عن أبي عبيد وخالفهم
إبراهيم بن سعد عن الزهري فقال عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة أخرجه النسائي وقال
رواية الزبيدي أولى بالصواب وإبراهيم بن سعد ثقة يعني ولكنه أخطأ في هذا (قوله لن يدخل
أحدا عمله الجنة) الحديث يأتي الكلام عليه في كتاب الرقاق فإنه أورده مفردا من وجه آخر عن
أبي هريرة وغيره وإنما أخرجه هنا استطرادا لا قصدا والمقصود منه الحديث الذي بعده وهو
قوله ولا يتمنى الخ وقد أفرده في كتاب التمني من طريق معمر عن الزهري وكذا أخرجه
النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري (قوله ولا يتمنى) كذا للأكثر بإثبات التحتانية
109

وهو لفظ نفي بمعنى النهي ووقع في رواية الكشميهني لا يتمن على لفظ النهي ووقع في رواية
معمر الآتية في التمني بلفظ لا يتمنى للأكثر وبلفظ لا يتمنين للكشميهني وكذا هو في رواية همام
عن أبي هريرة بزيادة نون التأكيد وزاد بعد قوله أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه وهو
قيد في الصورتين ومفهومه أنه إذا حل به لا يمنع من تمنيه رضا بلقاء الله ولا من طلبه من الله لذلك
وهو كذلك ولهذه النكتة عقب البخاري حديث أبي هريرة بحديث عائشة اللهم اغفر لي
وارحمني وألحقني بالرفيق الاعلى إشارة إلى أن النهي مختص بالحالة التي قبل نزول الموت فلله دره
ما كان أكثر استحضاره وإيثاره للأخفى على الاجلى شحذا للأذهان وقد خفي صنيعه هذا على
من جعل حديث عائشة في الباب معارضا لأحاديث الباب أو ناسخا لها وقوى ذلك بقول يوسف
عليه السلام توفني مسلما وألحقني بالصالحين قال ابن التين قيل أن النهي منسوخ بقول يوسف
فذكره وبقول سليمان وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين وبحديث عائشة في الباب وبدعاء
عمر بالموت وغيره قال وليس الامر كذلك لان هؤلاء إنما سألوا ما قارب الموت (قلت) وقد
اختلف في مراد يوسف عليه السلام فقال قتادة لم يتمن الموت أحد إلا يوسف حين تكاملت
عليه النعم وجمع له الشمل أشتاق إلى لقاء الله أخرجه الطبراني بسند صحيح عنه وقال غيره بل
مراده توفني مسلما عند حضور أجلي كذا أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك بن مزاحم وكذلك
مراد سليمان عليه السلام وعلى تقدير الحمل على ما قال قتادة فهو ليس من شرعنا وإنما يؤخذ
بشرع من قبلنا ما لم يرد في شرعنا النهي عنه بالاتفاق وقد استشكل الاذن في ذلك عند نزول
الموت لان نزول الموت لا يتحقق فكم من انتهى إلى غاية جرت العادة بموت من يصل إليها ثم عاش
والجواب أنه يحتمل أن يكون المراد أن العبد يكون حاله في ذلك الوقت حال من يتمنى نزوله به
ويرضاه أن لو وقع به والمعنى أن يطمئن قلبه إلى ما يرد عليه من ربه ويرضى به ولا يقلق ولو لم يتفق
أنه يموت في ذلك المرض (قوله إما محسنا فلعله أن يزداد خيرا وإما مسيئا فلعله أن يستعتب) أي
يرجع عن موجب العتب عليه ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد وأنه لا يزيد المؤمن
عمره إلا خيرا وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت
فإن الحياة يتسبب منها العمل والعمل يحصل زيادة الثواب ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو
أفضل الأعمال ولا يرد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد والعياذ بالله تعالى عن الايمان لان ذلك
نادر والايمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد وعلى تقدير وقوع ذلك وقد وقع
لكن نادرا فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوعها طال عمره أو قصر فتعجيله بطلب
الموت لا خير له فيه ويؤيده حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد يا سعد إن
كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك أو حسن من عملك فهو خير لك أخرجه بسند لين ووقع
في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا واستشكل بأنه
قد يعمل السيئات فيزيده عمره شرا وأجيب بأجوبة أحدها حمل المؤمن على الكامل وفيه
بعد والثاني أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يكفر ذنوبه إما من اجتناب الكبائر وإما من فعل
حسنات أخر قد تقاوم بتضعيفها سيئاته وما دام الايمان باق فالحسنات بصدد التضعيف
والسيئات بصدد التكفير والثالث يقيد ما أطلق في هذه الرواية بما وقع في رواية الباب من
110

الترجي حيث جاء بقوله لعله والترجي مشعر بالوقوع غالبا لا جزما فخرج الخبر مخرج تحسين
الظن بالله وأن المحسن يرجو من الله الزيادة بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح وأن المسئ لا ينبغي
له القنوط من رحمة الله ولا قطع رجائه أشار إلى ذلك شيخنا في شرح الترمذي ويدل على أن قصر
العمر قد يكون خيرا للمؤمن حديث أنس الذي في أول الباب وتوفني إذا كان الوفاة خيرا لي
وهو لا ينافي حديث أبي هريرة إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا إذا حمل حديث أبي هريرة على
الأغلب ومقابله على النادر وسيأتي الالمام بشئ من هذا في كتاب التمني إن شاء الله تعالى
* الحديث الخامس حديث عائشة وألحقني بالرفيق الاعلى تقدم شرحه في أواخر المغازي في
الوفاة النبوية وتقدم في الذي قبله أن ذلك لا يعارض النهي عن تمني الموت والدعاء به وأن هذه
الحالة من خصائص الأنبياء أنه لا يقبض نبي حتى يخير بين البقاء في الدنيا وبين الموت وقد تقدم
بسطه واضحا هناك ولله الحمد (قوله باب دعاء العائد للمريض) أي بالشفاء ونحوه
(قوله وقالت عائشة بنت سعد) أي ابن أبي وقاص وهذا طرف من حديثه الطويل في الوصية
بالثلث وقد تقدم موصولا في باب وضع اليد على المريض قريبا (قوله عن منصور) هو ابن المعتمر
وإبراهيم هو النخعي (قوله إذا أتى مريضا أو أتى به) شك من الراوي وقد حكى المصنف
الاختلاف فيه في الروايات المعلقة بعد (قوله لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك وفائدة التقييد
بذلك أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر يتولد منه فكان يدعو له بالشفاء
المطلق لا بمطلق الشفاء (قوله وقال عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان عن منصور عن إبراهيم
وأبي الضحى إذا أتى المريض) وقع في رواية الكشميهني إذا أتى بالمريض وهو أصوب فأما عمرو بن
أبي قيس فهو الرازي وأصله من الكوفة ولا يعرف اسم أبيه وهو صدوق ولم يخرج له البخاري إلا
تعليقا وقد وقع لنا حديثه هذا موصولا في فوائد أبي العباس محمد بن نجيح من رواية محمد بن سعيد
ابن سابق القزويني عنه بلفظ إذا أتى بالمريض وأما إبراهيم بن طهمان فوصل طريقه
الإسماعيلي من رواية محمد بن سابق التميمي الكوفي نزيل بغداد عنه بلفظ إذا أتى بمريض
(قوله وقال جرير عن منصور عن أبي الضحى وحده وقال إذا أتى مريضا) وهذا وصله ابن ماجة
عن أبي بكر بن أبي شيبة عن جرير بلفظ إذا أتى إلى المريض فدعا له وهي عند مسلم أيضا وقد دلت
رواية كل من جرير وأبي عوانة على أن عمرو بن أبي قيس وإبراهيم بن طهمان حفظا عن
منصور أن الحديث عنده عن شيخين وأنه كان يحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وقد أخرجه
مسلم من طريق إسرائيل عن منصور عنهما كذلك ورجح عند البخاري رواية منصور عن
إبراهيم وحده لان الثوري رواها عن منصور كذلك كما سيأتي في أثناء كتاب الطب ووافقه ورقاء
عن منصور عند النسائي وسفيان أحفظ الجميع لكن رواية جرير غير مرفوعة والله أعلم وقد
استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تضافرت
الأحاديث بذلك والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول
مرض وبالصبر عليه والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصوده أو يعوض عنه بجلب نفع
أو دفع ضر وكل من فضل الله تعالى (قوله باب وضوء العائد للمريض) ذكر فيه
حديث جابر وقد تقدم التنبيه عليه قريبا في باب المغمى عليه ولا يخفى أن محله إذا كان العائد
111

بحيث يتبرك المريض به (قوله باب (2) الدعاء برفع الوباء والحمى) الوباء يهمز ولا
يهمز وجمع المقصور بلا همز أو بينة وجمع المهموز أوباء يقال أوبأت الأرض فهي مؤبئة
ووبئت فهي وبئة ووبئت بضم الواو فهو موبوأة قال عياض الوباء عموم الأمراض وقد أطلق
بعضهم على الطاعون أنه وباء لأنه من أفراده لكن ليس كل وباء طاعونا وعلى ذلك يحمل قول
الداودي لما ذكر الطاعون الصحيح أنه الوباء وكذا جاء عن الخليل بن أحمد أن الطاعون هو
الوباء وقال ابن الأثير في النهاية الطاعون المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به
الأمزجة والابدان وقال ابن سيناء الوباء ينشأ عن فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح
ومدده (قلت) ويفارق الطاعون الوباء بخصوص سببه الذي ليس هو في شئ من الأوباء وهو
كونه من طعن الجن كما سأذكره مبينا في باب ما يذكر من الطاعون من كتاب الطب إن شاء الله
تعالى وساق المصنف في الباب حديث عائشة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعك
أبو بكر وبلال ووقع فيه ذكر الحمى ولم يقع في سياقه لفظ الوباء لكنه ترجم بذلك إشارة إلى ما وقع
في بعض طرقه وهو ما سبق في أواخر الحج من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة في حديث
الباب قالت عائشة فقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله وهذا مما يؤيد أن الوباء أعم من الطاعون
فإن وباء المدينة ما كان إلا بالحمى كما هو مبين في حديث الباب فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن
ينقل حماها إلى الجحفة وقد سبق شرح الحديث في باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في
أوائل كتاب المغازي ويأتي شئ مما يتعلق به في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى وقد استشكل
بعض الناس الدعاء برفع الوباء لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت والموت حتم مقضي فيكون ذلك عبثا
وأجيب بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر أو رفع
المرض وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسئ الأسقام ومنكرات
الأخلاق والأهواء والأدواء فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم
يقل بذلك الا شذوذ والأحاديث الصحيحة ترد عليهم وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في
التداوي بغيره لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة
اتكالا على ما قدر فيلزم ترك العمل جملة ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس وليس من
شرط الايمان بالقدر أن لا يتترس من رمى السهم والله أعلم * (خاتمة) * اشتمل كتاب المرضى من
الأحاديث المرفوعة على ثمانية وأربعين حديثا المعلق منها سبعة والبقية موصولة المكرر
منها فيه وفيما مضى أربعة وثلاثون طريقا والبقية خالصة وافقه مسلم على تخريجها سوى
حديث أبي هريرة من يرد الله به خيرا يصب منه وحديث عطاء أنه رأى أم زفر وحديث أنس في
الحبيبتين وحديث عائشة أنها قالت وا رأساه إلى قوله بل أنا وا رأساه فقط وفيه من الآثار عن
الصحابة فمن بعدهم ثلاثة آثار والله أعلم
* (قوله بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطب) *
كذا لهم الا النسفي فترجم كتاب الطب أول كفارة المرض ولم يفرد كتاب الطب وزاد في نسخة
الصغاني والأدوية والطب بكسر المهملة وحكى ابن السيد تثليثها والطبيب هو الحاذق
112

بالطب ويقال له أيضا طب بالفتح والكسر ومستطب وامرأة طب بالفتح يقال استطب تعاني
الطب واستطب استوصفه ونقل أهل اللغة أن الطب بالكسر يقال بالاشتراك للمداوي
وللتداوي وللداء أيضا فهو من الأضداد ويقال أيضا للرفق والسحر ويقال للشهوة ولطرائق
ترى في شعاع الشمس وللحذق بالشئ والطبيب الحاذق في كل شئ وخص به المعالج عرفا والجمع في
القلة أطبة وفي الكثرة أطباء والطب نوعان طب جسد وهو المراد هنا وطب قلب ومعالجته
خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه وتعالى وأما طب الجسد فمنه ما جاء
في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم ومنه ما جاء عن غيره وغالبه راجع إلى التجربة ثم هو نوعان نوع
لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات مثل ما يدفع الجوع والعطش ونوع
يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال وهو إما إلى حرارة
أو برودة وكل منهما إما إلى رطوبة أو يبوسة أو إلى ما يتركب منهما وغالب ما يقاوم الواحد
منهما بضده والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما والطريق
إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن
جمعه أو عكسه وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه ومدار ذلك على ثلاثة أشياء حفظ
الصحة والاحتماء عن المؤذي واستفراغ المادة الفاسدة وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن فالأول
من قوله تعالى فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وذلك أن السفر مظنة النصب
وهو من مغيرات الصحة فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد وكذا القول في
المرض الثاني وهو الحمية من قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم فإنه استنبط منه جواز التيمم عند
خوف استعمال الماء البارد والثالث من قوله تعالى أو به أذى من رأسه ففدية فإنه أشير بذلك
إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس
وأخرج مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلين أيكما أطب
قالا يا رسول الله وفي الطب خير قال أنزل الداء الذي أنزل الدواء (قوله باب
ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) كذا للإسماعيلي وابن بطال ومن تبعه ولم أر لفظ باب من نسخ
الصحيح إلا للنسفي (قوله أبو أحمد الزبيري) هو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي نسب لجده وهو
أسد من بني أسد بن خزيمة فقد يلتبس بمن ينسب إلى الزبير بن العوام لكونهم من بني أسد
ابن عبد العزي وهذا من فنون علم الحديث وصنفوا فيه الأنساب المتفقة في اللفظ المفترقة
في الشخص وقد وقع عند أبي نعيم في الطب من طريق أبي بكر وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا محمد
ابن عبد الله الأسدي أبو أحمد الزبيري وعند الإسماعيلي من طريق هارون بن عبد الله الحمال حدثنا
محمد بن عبد الله الزبيري (قوله عن أبي هريرة) كذا قال عمرو بن سعيد عن عطاء وخالفه شبيب
ابن بشر فقال عن عطاء عن أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم وأبو نعيم في الطب ورواه طلحة بن
عمرو عن عطاء عن ابن عباس هذه رواية عبد بن حميد عن محمد بن عبيد عنه وقال معتمر بن سليمان
عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن أبي هريرة أخرجه ابن أبي عاصم في الطب وأبو نعيم وهذا مما يترجح
به رواية عمرو بن سعيد (قوله ما أنزل الله داء) وقع في رواية الإسماعيلي من داء ومن زائدة ويحتمل
أن يكون مفعول أنزل محذوفا فلا تكون من زائدة بل لبيان المحذوف ولا يخفي تكلفه (قوله
113

إلا أنزل له شفاء) في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث يا أيها الناس تداووا ووقع في
رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا وأخرجه
النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس ولأحمد عن
أنس أن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا وفي حديث أسامة بن شريك تداووا يا عباد الله
فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا الهرم أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد
والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم وفي لفظ إلا السام بمهملة مخففة يعني الموت
ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب وزاد في آخره علمه من
علمه وجهله من جهله أخرجه النسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم ولمسلم عن جابر رفعه
لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه إن
الله جعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد
بالانزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا أو عبر
بالانزال عن التقدير وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام وفي حديث جابر منها
الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة
الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع بل ربما أحدث داء آخر وفي حديث ابن مسعود الإشارة
إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد وفيها كلها إثبات الأسباب وأن ذلك لا ينافي التوكل على
الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها وأن الدواء
قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر بإذن الله فمدار ذلك كله على
تقدير الله وارادته والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالاكل والشرب
وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك وسيأتي مزيد لهذا البحث
في باب الرقية إن شاء الله تعالى ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء
بأن لا دواء له وأقروا بالعجز عن مداواته ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله وجهله من
جهله إلى ذلك فتكون باقية على عمومها ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره لم ينزل داء
يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء والأول أولى ومما يدخل في قوله جهله من جهله ما يقع لبعض المرضى
أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع
والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا
لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا وقد يكون متحدا لكن يريد الله
أن لا ينجع فلا ينجع ومن هنا تخضع رقاب الأطباء وقد أخرج ابن ماجة من طريق أبي خزامة
وهو بمعجمة وزاي خفيفة عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها ودواء نتداوى به هل
يرد من قدر الله شيا قال هي من قدر الله تعالى والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع
الجوع بالاكل والعطش بالشرب وهو ينجع في ذلك في الغالب وقد يتخلف لمانع والله أعلم ثم
الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد وحكى كسر دال الدواء واستثناء الموت في حديث أسامة
ابن شريك واضح ولعل التقدير إلا داء الموت أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت واستثناء
الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة أو لقربه من
114

الموت وإفضائه إليه ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير لكن الهرم لا دواء له والله أعلم
(قوله باب هل يداوي الرجل المرأة والمرأة الرجل) ذكر فيه حديث الربيع بالتشديد
كنا نغزو ونسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وليس في هذا السياق تعرض
للمداواة إلا أن كان يدخل في عموم قولها نخدمهم نعم ورد الحديث المذكور بلفظ ونداوي
الجرحى ونرد القتلى وقد تقدم كذلك في باب مداواة النساء الجرحى في الغزو من كتاب الجهاد
فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث ويؤخذ حكم مداواة
الرجل المرأة منه بالقياس وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب أو كانت
المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجا لها أو محرما وأما حكم المسئلة فتجوز مداواة الأجانب عند
الضرورة وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك وقد تقدم البحث في شئ من
ذلك في كتاب الجهاد (قوله باب الشفاء في ثلاث) سقطت الترجمة للنسفي
ولفظ باب للسرخسي (قوله حدثني الحسين) كذا لهم غير منسوب وجزم جماعة بأنه ابن محمد بن
زياد النيسابوري المعروف بالقباني قال الكلاباذي كان يلازم البخاري لما كان بنيسابور وكان
عنده مسند أحمد بن منيع سمعه منه يعني شيخه في هذا الحديث وقد ذكر الحاكم في تاريخه
من طريق الحسين المذكور أنه روى حديثا فقال كتب عني محمد بن إسماعيل هذا الحديث
ورأيت في كتاب بعض الطلبة قد سمعه منه عني اه‍ وقد عاش الحسين القباني بعد البخاري
ثلاثا وثلاثين سنة وكان من أقران مسلم فرواية البخاري عنه من رواية الأكابر عن الأصاغر
وأحمد بن منيع شيخ الحسين فيه من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري فلو رواه عنه بلا
واسطة لم يكن عاليا له وكانت وفاة أحمد بن منيع وكنيته أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائتين وله
أربع وثمانون سنة واسم جده عبد الرحمن وهو جد أبي القاسم البغوي لامه ولذلك يقال له
المنيعي وابن بنت منيع وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وجزم الحاكم بأن الحسين
المذكور هو بن يحيى بن جعفر البيكندي وقد أكثر البخاري الرواية عن أبيه يحيى بن جعفر وهو
من صغار شيوخه والحسين أصغر من البخاري بكثير وليس في البخاري عن الحسين سواء كان
القباني أو البيكندي سوى هذا الحديث وقول البخاري بعد ذلك حدثنا محمد بن عبد الرحيم هو
المعروف بصاعقة يكنى أبا يحيى وكان من كبار الحفاظ وهو من أصاغر شيوخ البخاري ومات قبل
البخاري بسنة واحدة وسريج بن يونس شيخه بمهملة ثم جيم من طبقة أحمد بن منيع ومات قبله
بعشر سنين وشيخهما مروان بن شجاع هو الحراني أبو عمرو وأبو عبد الله مولى محمد بن مروان
ابن الحكم نزل بغداد وقواه أحمد بن حنبل وغيره وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه وليس
بالقوي وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الشهادات ولم يتفق وقوع هذا
الحديث للبخاري عاليا فإنه قد سمع من أصحاب مروان بن شجاع هذا ولم يقع له هذا الحديث عنه
إلا بواسطتين وشيخه سالم الأفطس هو بن عجلان وما له في البخاري سوى الحديثين المذكورين
من رواية مروان بن شجاع عنه (قوله حدثني سالم الأفطس) وفي الرواية الثانية عن سالم وقع
عند الإسماعيلي عن المنيعي حدثنا جدي هو أحمد بن منيع حدثنا مروان بن شجاع قال
ما أحفظه إلا عن سالم الأفطس حدثني فذكره قال الإسماعيلي صار الحديث عن مروان بن شجاع
115

بالشك منه فيمن حدثه به (قلت) وكذا أخرجه أحمد بن حنبل عن مروان بن شجاع سواء
وأخرجه ابن ماجة عن أحمد بن منيع مثل رواية البخاري الأولى بغير شك وكذا أخرجه
الإسماعيلي أيضا عن القاسم بن زكريا عن أحمد بن منيع وكذا رويناه في فوائد أبي طاهر المخلص
حدثنا محمد بن يحيى بن صاعد حدثنا أحمد بن منيع (قوله عن سعيد بن جبير) وقع في مسند دعلج
من طريق محمد بن الصباح حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس أظنه عن سعيد بن جبير كذا
بالشك أيضا وكان ينبغي للإسماعيلي أن يعترض بهذا أيضا والحق أنه لا أثر للشك المذكور
والحديث متصل بلا ريب (قوله عن ابن عباس قال الشفاء في ثلاث) كذا أورده موقوفا لكن
آخره يشعر بأنه مرفوع لقوله وأنهى أمتي عن الكي ولقوله رفع الحديث وقد صرح برفعه في رواية
سريج بن يونس حيث قال فيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولعل هذا هو السر في
إيراد هذه الطريق أيضا مع نزولها وإنما لم يكتف بها عن الأولى للتصريح في الأولى بقول مروان
حدثني سالم ووقعت في الثانية بالعنعنة (قوله رواه القمي) بضم القاف وتشديد الميم هو
يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك بن هانئ بن عامر بن أبي عامر الأشعري لجده أبي عامر صحبة
وكنية يعقوب أبو الحسن وهو من أهل قم ونزل الري قواه النسائي وقال الدارقطني ليس
بالقوي وما له في البخاري سوى هذا الموضع وليث شيخه هو ابن أبي سليم الكوفي سئ الحفظ
وقد وقع لنا هذا الحديث من رواية القمي موصولا في مسند البزار وفي الغيلانيات في جزء
ابن بخيت كلهم من رواية عبد العزيز بن الخطاب عنه بهذا السند وقصر بعض الشراح فنسبه إلى
تخريج أبي نعيم في الطب والذي عند أبي نعيم بهذا السند حديث آخر في الحجامة لفظه احتجموا
لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم (قوله في العسل والحجم) في رواية الكشميهني والحجامة ووقع في
رواية عبد العزيز بن الخطاب المذكورة إن كان في شئ من أدويتكم شفاء ففي مصة من الحجام
أو مصة من العسل وإلى هذا أشار البخاري بقوله في العسل والحجم وأشار بذلك إلى أن الكي لم يقع
في هذه الرواية وأغرب الحميدي في الجمع فقال في أفراد البخاري الحديث الخامس عشر عن
طاوس عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه قال وبعض الرواة يقول فيه عن مجاهد عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في العسل والحجم الشفاء وهذا الذي عزاه للبخاري لم أره فيه
أصلا بل ولا في غيره والحديث الذي اختلف الرواة فيه هل هو عن مجاهد عن طاوس عن ابن
عباس أو عن مجاهد عن ابن عباس بلا واسطة إنما هو في القبرين اللذين كانا يعذبان وقد تقدم
التنبيه عليه في كتاب الطهارة وأما حديث الباب فلم أره من رواية طاوس أصلا وأما مجاهد فلم
يذكره البخاري عنه إلا تعليقا كما بينته وقد ذكرت من وصله وسياق لفظه قال الخطابي انتظم هذا
الحديث على جملة ما يتداوى به الناس وذلك أن الحجم يستفرغ الدم وهو أعظم الاخلاط والحجم
أنجحها شفاء عند هيجان الدم وأما العسل فهو مسهل للأخلاط البلغمية ويدخل في المعجونات
ليحفظ على تلك الأدوية قواها ويخرجها من البدن وأما الكي فإنما يستعمل في الخلط الباغي
الذي لا تنحسم مادته إلا به ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنه وإنما كرهه لما فيه من
الألم الشديد والخطر العظيم ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها آخر الدواء الكي وقد كوى النبي
صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وغيره واكتوى غير واحد من الصحابة (قلت) ولم يرد النبي صلى
116

الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها وإنما نبه بها على أصول العلاج
وذلك أن الأمراض الامتلائية تكون دموية وصفراوية وبلغمية وسوداوية وشفاء الدموية
بإخراج الدم وإنما خص الحجم بالذكر لكثرة استعمال العرب والفهم له بخلاف الفصد فإنه وإن
كان في معنى الحجم لكنه لم يكن معهودا لها غالبا على أن في التعبير بقوله شرطة محجم ما قد يتناول
الفصد وأيضا فالحجم في البلاد الحارة أنجح من الفصد والفصد في البلاد التي ليست بحارة أنجح من
الحجم وأما الامتلاء الصفراوي وما ذكر معه فدواؤه بالمسهل وقد نبه عليه بذكر العسل وسيأتي
توجيه ذلك في الباب الذي بعده وأما الكي فإنه يقع أخر الاخراج ما يتعسر إخراجه من
الفضلات وإنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم المادة بطبعه
فكرهه لذلك ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء فيتعجل الذي
يكتوي التعذيب بالنار لأمر مظنون وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض الذي يقطعه الكي
ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى الله عليه وسلم للكي وبين استعماله له أنه لا يترك مطلقا ولا
يستعمل مطلقا بل يستعمل عند تعينه طريقا إلى الشفاء مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله
تعالى وعلى هذا التفسير يحمل حديث المغيرة رفعه من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل
أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة علم من
مجموع كلامه في الكي أن فيه نفعا وأن فيه مضرة فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب
وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع ثم حرمها لان المضار التي فيها أعظم من المنافع
انتهى ملخصا وسيأتي الكلام على كل من هذه الأمور الثلاثة في أبواب مفردة لها وقد قيل إن
المراد بالشفاء في هذا الحديث الشفاء من أحد قسمي المرض لان الأمراض كلها إما مادية
أو غيرها والمادية كما تقدم حارة وباردة وكل منهما وأن انقسم إلى رطبة ويابسة ومركبة فالأصل
الحرارة والبرودة وما عداهما ينفعل من إحداهما فنبه بالخبر على أصل المعالجة بضرب من
المثال فالحارة تعالج بإخراج الدم لما فيه من استفراغ المادة وتبريد المزاج والباردة بتناول العسل
لما فيه من التسخين والانضاج والتقطيع والتلطيف والجلاء والتليين فيحصل بذلك استفراغ
المادة برفق وأما الكي فخاص بالمرض المزمن لأنه يكون عن مادة باردة فقد تفسد مزاج العضو
فإذا كوي خرجت منه وأما الأمراض التي ليست بمادية فقد أشير إلى علاجها بحديث الحمى
من فيح جهنم فأبردوها بالماء وسيأتي الكلام عليه عند شرحه إن شاء الله تعالى وأما قوله وما
أحب أن أكتوي فهو من جنس تركه أكل الضب مع تقريره أكله على مائدته واعتذاره بأنه
يعافه (قوله باب الدواء بالعسل وقول الله تعالى فيه شفاء للناس) كأنه أشار بذكر
الآية إلى أن الضمير فيها للعسل وهو قول الجمهور وزعم بعض أهل التفسير أنه للقرآن وذكر ابن
بطال أن بعضهم قال إن قوله تعالى فيه شفاء للناس أي لبعضهم وحمله على ذلك أن تناول العسل
قد يضر ببعض الناس كمن يكون حار المزاج لكن لا يحتاج إلى ذلك لأنه ليس في حمله على العموم
ما يمنع أنه قد يضر ببعض الأبدان بطريق العرض والعسل يذكر ويؤنث وأسماؤه تزيد على
المائة وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا يجلو الأوساخ التي في العروق
والأمعاء ويدفع الفضلات ويغسل خمل المعدة ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح أفواه العروق
117

ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة والمنافذ وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية وفيه
حفظ المعجونات وإذهاب لكيفية الأدوية المستكرهة وتنقية الكبد والصدر وإدرار البول
والطمث ونفع للسعال الكائن من البلغم ونفع لأصحاب البلغم والأمزجة الباردة وإذا أضيف
إليه الخل نفع أصحاب الصفراء ثم هو غذاء من الأغذية ودواء من الأدوية وشراب من الأشربة
وحلوى من الحلاوات وطلاء من الأطلية ومفرح من المفرحات ومن منافعه أنه إذا شرب
حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب الكلب وإذا
جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر وكذلك الخيار والقرع والباذنجان والليمون
ونحو ذلك من الفواكه وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان وطول الشعر وحسنه
ونعمه وأن اكتحل به جلا ظلمة البصر وأن استن به صقل الأسنان وحفظ صحتها وهو عجيب في حفظ
جثث الموتى فلا يسرع إليها البلى وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة ولم يكن يعول
قدماء الأطباء في الأدوية المركبة إلا عليه ولا ذكر للسكر في أكثر كتبهم أصلا وقد أخرج أبو نعيم
في الطب النبوي بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجة بسند ضعيف من حديث
جابر رفعه من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم بلاء والله أعلم ثم ذكر
المصنف في الباب ثلاثة أحاديث الأول حديث عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه
الحلواء والعسل قال الكرماني الاعجاب أعم من أن يكون على سبيل الدواء أو الغذاء فتؤخذ
المناسبة بهذه الطريق وقد تقدم باقي الكلام عليه في كتاب الأطعمة * الحديث الثاني (قوله
عبد الرحمن بن الغسيل) اسم الغسيل حنظلة بن أبي عامر الأوسي الأنصاري استشهد بأحد
وهو جنب فغسلته الملائكة فقيل له الغسيل وهو فعيل بمعنى مفعول وهو جد جد عبد الرحمن
فهو ابن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة وعبد الرحمن معدود في صغار التابعين لأنه
رأى أنسا وسهل بن سعد وجل روايته عن التابعين وهو ثقة عند الأكثر واختلف فيه قول
النسائي وقال ابن حبان كان يخطئ كثيرا اه‍ وكان قد عمر فجاز المائة فلعله تغير حفظه في
الآخر وقد احتج به الشيخان وشيخه عاصم بن عمر بن قتادة أي ابن النعمان الأنصاري الأوسي
يكنى أبا عمر ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في باب من بنى مسجدا في أوائل
الصلاة وهو تابعي ثقة عندهم وأغرب عبد الحق فقال في الاحكام وثقه ابن معين وأبو زرعة
وضعفه غيرهما ورد ذلك أبو الحسن بن القطان على عبد الحق فقال لا أعرف أحدا ضعفه
ولا ذكره الضعفاء اه‍ وهو كما قال (قوله إن كان في شئ من أدويتكم أو يكون في شئ من
أدويتكم) كذا وقع بالشك وكذا لأحمد عن أبي أحمد الزبيري عن ابن الغسيل وسيأتي بعد أبواب
باللفظ الأول بغير شك وكذا لمسلم وذكرت فيه في باب الحجامة من الداء قصة وقوله أو يكون قال
ابن التين صوابه أو يكن لأنه معطوف على مجزوم فيكون مجزوما (قلت) وقد وقع في رواية أحمد
إن كان أو إن يكن فلعل الرواي أشبع الضمة فظن السامع أن فيها واوا فأثبتها ويحتمل أن يكون
التقدير إن كان في شئ أو إن كان يكون في شئ فيكون التردد لاثبات لفظ يكون وعدمها وقرأها
بعضهم بتشديد الواو وسكون النون وليس ذلك بمحفوظ (قوله ففي شرطة محجم) بكسر الميم
وسكون المهملة وفتح الجيم (قوله أو لذعة بنار) بذال معجمة ساكنة وعين مهملة اللذع هو
118

الخفيف من حرق النار وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم
(قوله توافق الداء) فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع منه ما يتعين طريقا إلى إزالة ذلك الداء وأنه
لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة موافقة
القدر (قوله وما أحب أن أكتوي) سيأتي بيانه بعد أبواب الحديث الثالث حديث أبي سعيد
في الذي اشتكى بطنه فأمر بشرب العسل وسيأتي شرحه في باب دواء المبطون وشيخه عباس فيه
هو بالموحدة (1) ثم مهملة النرسي بنون ومهملة وعبد الاعلى شيخه هو ابن عبد الاعلى وسعيد هو
ابن أبي عروبة والاسناد كله بصريون (قوله باب الدواء بألبان الإبل) أي في المرض
الملائم له (قوله سلام بن مسكين) هو الأزدي وهو بالتشديد وما له في البخاري سوى هذا الحديث
وآخر سيأتي في كتاب الأدب ووقع في اللباس عن موسى بن إسماعيل حدثنا سلام عن عثمان بن
عبد الله فزعم الكلاباذي أنه سلام بن مسكين وليس كذلك بل هو سلام بن أبي مطيع وسأذكر
الحجة لذلك هناك إن شاء الله تعالى (قوله حدثنا ثابت) هو البناني ووقع للإسماعيلي من رواية
بهز بن أسد عن سلام بن مسكين قال حدث ثابت الحسن وأصحابه وأنا شاهد معهم فيؤخذ من
ذلك أنه لا يتشرط في قول الراوي حدثنا فلان أن يكون فلان قد قصد إليه بالتحديث بل إن سمع
منه اتفاقا جاز أن يقول حدثنا فلان ورجال هذا الاسناد أيضا كلهم بصريون (قوله إن ناسا)
زاد بهز في روايته من أهل الحجاز وقد تقدم في الطهارة أنهم من عكل أو عرينة بالشك وثبت أنهم
كانوا ثمانية وأن أربعة منهم كانوا من عكل وثلاثة من عرينة والرابع كان تبعا لهم (قوله كان بهم
سقم فقالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا فلما صحوا) في السياق حذف تقديره فآواهم وأطعمهم فلما
صحوا قالوا إن المدينة وخمة وكان السقم الذي بهم أولا من الجوع أو من التعب فلما زال ذلك عنهم
خشوا من وخم المدينة إما لكونهم أهل ريف فلم يعتادوا بالحضر وإما بسبب ما كان بالمدينة من
الحمى وهذا هو المراد بقوله في الرواية التي بعدها اجتووا المدينة وتقدم تفسير الجوي في كتاب
الطهارة ووقع في رواية بهز بن أسد بهم ضر وجهد وهو يشير إلى ما قلناه (قوله في ذود له) ذكر ابن
سعد أن عدد الذود كان خمس عشرة وفي رواية بهز بن أسد أن اللذود كان مع الراعي بجانب الحرة
(قوله فقال اشربوا ألبانها) كذا هنا وتقدم من رواية أبي قلابة وغيره عن أنس من ألبانها
وأبوالها (قوله فلما صحوا) في السياق حذف تقديره فخرجوا فشربوا فلما صحوا (قوله وسمر
أعينهم) كذا للأكثر والكشميهني باللام بدل الراء وقد تقدم شرحها (قوله فرأيت الرجل منهم
يكدم الأرض بلسانه حتى يموت) زاد بهز في روايته مما يجد من الغم والوجع وفي صحيح أبي عوانة
هنا يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة (قوله قال سلام) هو موصول بالسند
المذكور وقوله فبلغني أن الحجاج هو ابن يوسف الأمير المشهور وفي رواية أنس فذكر ذلك قوم
للحجاج فبعث إلى أنس فقال هذا خاتمي فليكن بيدك أي تصير خازنا له فقال أنس أني أعجز عن ذلك
قال فحدثني بأشد عقوبة الحديث (قوله بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم) كذا
بالتذكير على إرادة العقاب وفي رواية بهز عاقبها على ظاهر اللفظ (قوله فبلغ الحسن) هو ابن أبي
الحسن البصري (فقال وددت أنه لم يحدثه) زاد الكشميهني بهذا وفي رواية بهز فوالله ما انتهى
الحجاج حتى قام بها على المنبر فقال حدثنا أنس فذكره وقال قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي
119

والأرجل وسمل الأعين في معصية الله أفلا نفعل نحن ذلك في معصية الله وساق الإسماعيلي من
وجه آخر عن ثابت حدثني أنس قال ما ندمت على شئ ما ندمت على حديث حدثت به الحجاج
فذكره وإنما ندم أنس على ذلك لان الحجاج كان مسرفا في العقوبة وكان يتعلق بأدنى شبهة ولا حجة
له في قصة العرنيين لأنه وقع التصريح في بعض طرقه أنهم ارتدوا وكان ذلك أيضا قبل أن تنزل
الحدود كما في الذي بعده وقبل النهي عن المثلثة كما تقدم في المغازي وقد حضر أبو هريرة الامر
بالتعذيب بالنار ثم حضر نسخه والنهي عن التعذيب بالنار كما مر في كتاب الجهاد وكان إسلام أبي
هريرة متأخرا عن قصة العرنيين وقد تقدم بسط القول في ذلك في باب أبوال الإبل والدواب في
كتاب الطهارة وإنما أشرت إلى اليسير منه لبعد العهد به (قوله باب الدواء بأبوال
الإبل) ذكر فيه حديث العرنيين ووقع في خصوص التداوي بأبوال الإبل حديث أخرجه ابن
المنذر عن ابن عباس رفعه عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذرية بطونهم والذرية بفتح المعجمة وكسر
الراء جمع ذرب والذرب بفتحتين فساد المعدة (قوله إن ناسا اجتووا في المدينة) كذا هنا بإثبات
في وهي ظرفية أي حصل لهم الجوي وهم في المدينة ووقع في رواية أبي قلابة عن أنس اجتووا
المدينة (قوله أن يلحقوا براعيه يعني الإبل) كذا في الأصل وفي رواية مسلم من هذا الوجه أن
يلحقوا براعي الإبل (قوله حتى صلحت) في رواية الكشميهني صحت (قوله قال قتادة) هو موصول
بالاسناد المذكور وقوله فحدثني محمد بن سيرين الخ يعكر عليه ما أخرجه مسلم من طريق
سليمان التيمي عن أنس قال إنما سملهم النبي صلى الله عليه وسلم لانهم سملوا أعين الرعاة وسيأتي
بيان ذلك واضحا في كتاب الديات إن شاء الله تعالى (قوله باب الحبة السوداء) سيأتي
بيان المراد بها في آخر الباب (قوله حدثني عبد الله بن أبي شيبة) كذا سماه ونسبه لجده وهو أبو
بكر مشهور بكنيته أكثر من اسمه وأبو شيبة جده وهو ابن محمد بن إبراهيم وكان إبراهيم أبو شيبة
قاضي واسط (قوله حدثنا عبيد الله) بالتصغير كذا للجميع غير منسوب وكذا أخرجه ابن ماجة
عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبيد الله غير منسوب وجزم أبو نعيم في المستخرج بأنه عبيد الله بن
موسى وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر الأعين والخطيب في كتاب رواية الآباء عن
الأبناء من طريق أبي مسعود الرازي وهو عندنا بعلو من طريقه وأخرجه أيضا أحمد بن حازم
عن أبي غرزة بفتح المعجمة والراء والزاي في مسنده ومن طريقه الخطيب أيضا كلهم عن عبيد الله
ابن موسى وهو الكوفي المشهور ورجال الاسناد كلهم كوفيون وعبيد الله بن موسى من كبار
شيوخ البخاري وربما حدث عنه بواسطة كالذي هنا (قوله عن منصور) هو ابن المعتمر (قوله
عن خالد بن سعد) هو مولى أبي مسعود البدري الأنصاري وما له في البخاري سوى هذا الحديث
وقد أخرجه المنجنيقي في كتاب رواية الأكابر عن الأصاغر عن عبيد الله بن موسى بهذا الاسناد
فأدخل بين منصور وخالد بن سعد مجاهدا وتعقبه الخطيب بعد أن أخرجه من طريق المنجنيقي
بأن ذكر مجاهد فيه وهم ووقع في رواية المنجنيقي أيضا خالد بن سعيد بزيادة ياء في اسم أبيه وهو
وهم نبه عليه الخطيب أيضا (قوله ومعنا غالب بن أبجر) بموحدة وجيم وزن أحمد يقال إنه الصحابي
الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وحديثه عند أبي داود (قوله فعاده ابن أبي
عتيق) في رواية أبي بكر الأعين فعاده أبو بكر بن أبي عتيق وكذا قال سائر أصحاب عبد الله بن
120

موسى إلا المنجنيقي فقال في روايته عن خالد بن سعد عن غالب بن أبجر عن أبي بكر الصديق عن
عائشة واختصر القصة وبسياقها يتبين الصواب قال الخطيب وقوله في السند عن غالب بن
أبجر وهم فليس لغالب فيه رواية وإنما سمعه خالد مع غالب من أبي بكر بن أبي عتيق قال وأبو بكر
ابن أبي عتيق هذا هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأبو عتيق كنية أبيه
محمد بن عبد الرحمن وهو معدود في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه
وجده وجد أبيه صحابة مشهورون (قوله عليكم بهذه الحبيبة السويداء) كذا هنا بالتصغير
فيهما إلا الكشميهني فقال السوداء وهي رواية الأكثر ممن قدمت ذكره أنه أخرج الحديث
(قوله فإن عائشة حدثتني أن هذه الحبة السوداء شفاء) والكشميهني أن في هذه الحبة شفاء
كذا للأكثر وفي رواية الأعين هذه الحبة السوداء التي تكون في الملح وكان هذا قد أشكل علي
ثم ظهر لي أنه يريد الكمون وكانت عادتهم جرت أن يخلط بالملح (قوله إلا من السام) بالمهملة بغير
همز ولابن ماجة إلا أن يكون الموت وفي هذا أن الموت داء من جملة الأدواء قال الشاعر
* وداء الموت ليس له دواء * وقد تقدم توجيه إطلاق الداء على الموت في الباب الأول (قوله قلت
وما السام قال الموت) لم أعرف اسم السائل ولا القائل وأظن السائل خالد بن سعد والمجيب ابن
أبي عتيق وهذا الذي أشار إليه ابن أبي عتيق ذكره الأطباء في علاج الزكام العارض معه عطاس
كثير وقالوا تقلى الحبة السوداء ثم تدق ناعما ثم تنقع في زيت ثم يقطر منه في الانف ثلاث
قطرات فلعل غالب بن أبجر كان مزكوما فلذلك وصف له ابن أبي عتيق الصفة المذكورة وظاهر
سياقه أنها موقوفة عليه ويحتمل أن تكون عنده مرفوعة أيضا فقد وقع في رواية الأعين عند
الإسماعيلي بعد قوله من كل داء وأقطروا عليها شيئا من الزيت وفي رواية له أخرى وربما قال
وأقطروا الخ وادعى الإسماعيلي أن هذه الزيادة مدرجة في الخبر وقد أوضحت ذلك رواية ابن أبي
شيبة ثم وجدتها مرفوعة من حديث بريدة فأخرج المستغفري في كتاب الطب من طريق حسام
ابن مصك عن عبيد الله بن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن هذه الحبة السوداء فيها شفاء
الحديث قال وفي لفظ قيل وما الحبة السوداء قال الشونيز قال وكيف أصنع بها قال تأخذ
إحدى وعشرين حبة فتصرها في خرقة ثم تضعها في ماء ليلة فإذا أصبحت قطرت في المنخر الأيمن
واحدة وفي الأيسر اثنتين فإذا كان من الغد قطرت في المنخر الأيمن اثنتين وفي الأيسر واحدة فإذا
كان في اليوم الثالث قطرت في الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتين ويؤخذ من ذلك أن معنى كون
الحبة شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفا بل ربما استعملت مفردة وربما استعملت
مركبة وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة وربما استعملت أكلا وشربا وسعوطا
وضمادا وغير ذلك وقيل إن قوله كل داء تقديره يقبل العلاج بها فإنها تنفع من الأمراض
الباردة وأما الحارة فلا نعم قد تدخل في بعض الأمراض الحارة اليابسة بالعرض فتوصل قوي
الأدوية الرطبة الباردة إليها بسرعة تنفيذها واستعمال الحار في بعض الأمراض الحارة
لخاصية فيه لا يستنكر كالعنزروت فإنه حار ويستعمل في أدوية الرمد المركبة مع أن الرمد ورم
حار باتفاق الأطباء وقد قال أهل العلم بالطب إن طبع الحبة السوداء حار يابس وهي مذهبة للنفخ
نافعة من حمى الربع والبلغم مفتحة للسدد والريح مجففة لبلة المعدة وإذا دقت وعجنت بالعسل
121

وشربت بالماء الحار أذابت الحصاة وأدرت البول والطمث وفيها جلاء وتقطيع وإذا دقت
وربطت بخرقة من كتان وأديم شمها نفع من الزكام البارد وإذا نقع منها سبع حبات في لبن امرأة
وسعط به صاحب اليرقان أفاده وإذا شرب منها وزن مثقال بماء أفاد من ضيق النفس والضماد
بها ينفع من الصداع البارد وإذا طبخت بخل وتمضمض بها نفعت من وجع الأسنان الكائن عن
برد وقد ذكر ابن البيطار وغيره ممن صنف في المفردات في منافسها هذا الذي ذكرته وأكثر منه
وقال الخطابي قوله من كل داء هو من العام الذي يراد به الخاص لأنه ليس في طبع شئ من النبات
ما يجمع جميع الأمور التي تقابل الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها وإنما المراد أنها شفاء من
كل داء يحدث من الرطوبة وقال أبو بكر بن العربي العسل عند الأطباء أقرب إلى أن يكون
دواء من كل داء من الحبة السوداء ومع ذلك فإن من الأمراض ما لو شرب صاحبه العسل لتأذى
به فإن كان المراد بقوله في العسل فيه شفاء للناس الأكثر الأغلب فحمل الحبة السوداء على ذلك
أولى وقال غيره كان صلى الله عليه وسلم يصف الدواء بحسب ما يشاهده من حال المريض فلعل
قوله في الحبة السوداء وافق مرض من مزاجه بارد فيكون معنى قوله شفاء من كل داء أي من
هذا الجنس الذي وقع القول فيه والتخصيص بالحيثية كثير شائع والله أعلم وقال الشيخ أبو محمد
ابن أبي جمرة تكلم الناس في هذا الحديث وخصوا عمومه وردوه إلى قول أهل الطب والتجربة
ولاخفاء بغلط قائل ذلك لأنا إذا صدقنا أهل الطب ومدار عليهم غالبا إنما هو على التجربة التي
بناؤها على ظن غالب فتصديق من لا ينطق عن الهوى أولى بالقبول من كلامهم انتهى وقد
تقدم توجيه حمله على عمومه بأن يكون المراد بذلك ما هو أعم من الافراد والتركيب ولا محذور
في ذلك ولا خروج عن ظاهر الحديث والله أعلم (قوله أخبرني أبو سلمة) هو ابن عبد الرحمن بن
عوف (قوله وسعيد هو ابن المسيب) كذا في رواية عقيل وأخرجه مسلم من وجهين اقتصر في
كل منهما على واحد منها وأخرجه مسلم أيضا من رواية العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن
أبي هريرة بلفظ ما من داء إلا وفي الحبة السوداء منه شفاء إلا السام (قوله والحبة السوداء
الشونيز) كذا عطفه على تفسير ابن شهاب للسام فاقتضى ذلك أن تفسير الحبة السوداء أيضا له
والشونيز بضم المعجمة وسكون الواو وكسر النون وسكون التحتانية بعدها زاي وقال القرطبي
قيد بعض مشايخنا الشين بالفتح وحكي عياض عن ابن الأعرابي أنه كسرها فأبدل الواو ياء فقال
الشينيز وتفسير الحبة السوداء بالشونيز لشهرة الشونيز عندهم إذ ذاك وأما الآن فالامر
بالعكس والحبة السوداء أشهر عند أهل هذا العصر من الشونيز بكثير وتفسيرها بالشونيز هو
الأكثر الأشهر وهي الكمون الأسود ويقال له أيضا الكمون الهندي ونقل إبراهيم الحربي في
غريب الحديث عن الحسن البصري أنها الخردل وحكى أبو عبيد الهروي في الغريبين أنها
ثمرة البطم بضم الموحدة وسكون المهملة واسم شجرتها الضرو بكسر المعجمة وسكون الراء وقال
الجوهري هو صمغ شجرة تدعى الكمكام تجلب من اليمن ورائحتها طيبة وتستعمل في البخور
(قلت) وليست المراد هنا جزما وقال القرطبي تفسيرها بالشونيز أولى من وجهين أحدهما أنه
قول الأكثر والثاني كثرة منافعها بخلاف الخردل والبطم (قوله باب التلبينة للمريض) هي
بفتح المثناة وسكون اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ثم نون ثم هاء وقد يقال بلا هاء قال
122

الأصمعي هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل قال غيره أو لبن سميت تلبينة تشبيها
لها باللبن في بياضها ورقتها وقال ابن قتيبة وعلى قول من قال يخلط فيها لبن سميت بذلك لمخالطة
اللبن لها وقال أبو نعيم في الطب هي دقيق بحت وقال قوم فيه شحم وقال الداودي يؤخذ العجين
غير خمير فيخرج ماؤه فيجعل حسوا فيكون لا يخالطه شئ فلذلك كثر نفعه وقال الموفق
البغدادي التلبينة الحساء ويكون في قوام اللبن وهو الدقيق النضيج لا الغليظ النئ (قوله
عبد الله) هو ابن المبارك (قوله حدثنا يونس بن يزيد عن عقيل) هو من رواية الاقران وذكر
النسائي فيما رواه أبو علي الأسيوطي عنه أن عقيلا تفرد به عن الزهري ووقع في الترمذي عقب
حديث محمد بن السائب بن بركة عن أمه عن عائشة في التلبينة وقد رواه الزهري عن عروة عن
عائشة حدثنا بذلك الحسين بن محمد حدثنا أبو إسحق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن يونس
عن الزهري قال المزي كذا في النسخ ليس فيه عقيل (قلت) وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية
نعيم بن حماد ومن رواية عبد الله بن سنان كلاهما عن ابن المبارك ليس فيه عقيل وأخرجه أيضا
من رواية علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك بإثباته وهذا هو المحفوظ وكأن من لم يذكر فيه
عقيلا جرى على الجادة لان يونس مكثر عن الزهري وقد رواه عن عقيل أيضا الليث بن سعد
وتقدم حديثه في كتاب الأطعمة (قوله أنها كانت تأمر بالتلبين) في رواية الإسماعيلي
بالتلبينة بزيادة الهاء (قوله للمريض وللمحزون) أي يصنعه لكل منهما وتقدم في رواية الليث
عن عقيل إن عائشة كانت إذا مات الميت من أهلها ثم اجتمع لذلك النساء ثم تفرقن أمرت ببرمة
تلبينة فطبخت ثم قالت كلوا منها (قوله عليكم بالتلبينة) أي كلوها (قوله فإنها تجم) بفتح المثناة
وضم الجيم وبضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى ووقع في رواية الليث فإنها مجمة بفتح الميم والجيم
وتشديد الميم الثانية هذا هو المشهور وروى بضم أوله وكسر ثانيه وهما بمعنى يقال جم وأجم
والمعنى أنها تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه والجام بالتشديد المستريح والمصدر الجمام
والاجمام ويقال جم الفرس وأجم إذا أريح فلم يركب فيكون أدعى لنشاطه وحكى ابن بطال
أنه روى تخم بخاء معجمة قال والمخمة المكنسة (قوله في الطريق الثانية حدثنا فروة) بفتح الفاء
(ابن أبي الفراء) بفتح الميم وسكون المعجمة وبالمد هو الكندي الكوفي واسم أبي المغراء معد يكرب
وكنية فروة أبو القاسم من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري ولم يكثر عنه (قوله إنها كانت
تأمرنا بالتلبينة وتقول هو البغيض النافع) كذا فيه موقوفا وقد حذف الإسماعيلي هذه
الطريق وضاقت على أبي نعيم فأخرجها من طريق البخاري هذه عن فروة ووقع عند أحمد
وابن ماجة من طريق كلثم عن عائشة مرفوعا عليكم بالبغيض النافع التلبينة يعني الحساء
وأخرجه النسائي من وجه آخر عن عائشة وزاد والذي نفس محمد بيده أنها لتغسل بطن أحدكم
كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء وله وهو عند أحمد والترمذي من طريق محمد بن
السائب بن بركة عن أمه عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك
أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه ثم قال إنه يرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم
كما تسروا إحداكن الوسخ عن وجهها بالماء ويرتو بفتح أوله وسكون الراء وضم المثناة ويسرو
وزنه بسين مهملة ثم راء ومعنى يرتو يقوى ومعنى يسرو يكشف والبغيض بوزن عظيم من
123

البغض أي يبغضه المريض مع كونه ينفعه كسائر الأدوية وحكى عياض أنه وقع في رواية أبي
زيد المروزي بالنون بدل الموحدة قال ولا معنى له هنا قال الموفق البغدادي إذا شئت معرفة منافع
التلبينة فاعرف منافع ماء الشعير ولا سيما إذا كان نخالة فإنه يجلو وينفذ بسرعة ويغذى غذاء
لطيفا وإذا شرب حارا كان أجلى وأقوى نفوذا وأنمى للحرارة الغريزية قال والمراد بالفؤاد في
الحديث رأس المعدة فإن فؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه وعلى معدته خاصة
لتقليل الغذاء والحساء يرطبها ويغذيها ويقويها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض لكن المريض
كثيرا ما يجتمع في معدته خلط مراري أو بلغمي أو صديدي وهذا الحساء يجلو ذلك عن المعدة
قال وسماه البغيض النافع لان المريض يعافه وهو نافع له قال ولا شئ أنفع من الحساء لمن يغلب
عليه في غذائه الشعير وأما من يغلب على غذائه الحنطة فالأولى به في مرضه حساء الشعير وقال
صاحب الهدي التلبينة أنفع من الحساء لأنها تطبخ مطحونة فتخرج خاصة الشعير بالطحن وهي
أكثر تغذية وأقوى فعلا وأكثر جلاء وإنما أختار الأطباء النضيج لأنه أرق وألطف فلا يثقل
على طبيعة المريض وينبغي أن يختلف الانتفاع بذلك بحسب اختلاف العادة في البلاد ولعل
اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحا وبالحزين إذا طبخ مطحونا لما تقدمت الإشارة من
الفرق بينهما في الخاصية والله أعلم (قوله باب السعوط) بمهملتين ما يجعل في الانف
مما يتداوى به (قوله واستعط) أي استعمل السعوط وهو أن يستلقي على ظهره ويجعل بين
كتفيه ما يرفعهما لينحدر رأسه ويقطر في أنفه ماء أو دهن فيه دواء مفرد أو مركب ليتمكن بذلك
من الوصول إلى دماغه لاستخراج ما فيه من الداء بالعطاس وسيأتي ذكر ما يستعط به في الباب
الذي يليه وأخرج الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس رفعه أن خير ما تداويتم به السعوط
(قوله باب السعوط بالقسط الهندي والبحري) قال أبو بكر بن العربي القسط نوعان
هندي وهو أسود وبحري وهو أبيض والهندي أشدهما حرارة (قوله وهو الكست) يعني أنه
يقال بالقاف وبالكاف ويقال بالطاء وبالمثناة وذلك لقرب كل من المخرجين بالآخر وعلى هذا
يجوز أيضا مع القاف بالمثناة ومع الكاف بالطاء وقد تقدم في حديث أم عطية عند الطهر من
الحيض نبذة من الكست وفي رواية عنها من قسط ومضى للمصنف في ذلك كلام في باب القسط
للحادة (قوله مثل الكافور والقافور) تقدم هذا في باب القسط للحادة (قوله ومثل كشطت
وقشطت وقرأ عبد الله قشطت) زاد النسقي أي نزعت يريد أن عبد الله بن مسعود قرأ وإذا السماء
قشطت بالقاف ولم تشتهر هذه القراءة وقد وجدت سلف البخاري في هذا فقرأت في كتاب معاني
القرآن للفراء في قوله تعالى وإذا السماء كشطت قال يعني نزعت وفي قراءة عبد الله قشطت
بالقاف والمعنى واحد والعرب تقول الكافور والقافور والقشط والكشط وإذا تقارب
الحرفان في المخرج تعاقبا في المخرج هكذا رأيته في نسخة جيدة منه الكشط بالكاف والطاء والله
أعلم (قوله عن عبيد الله) سيأتي بلفظ أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة (قوله عن أم قيس
بنت محصن) وقع عند مسلم التصريح بسماعه له منها وسيأتي أيضا قريبا (قوله عليكم بهذا العود
الهندي) كذا وقع هنا مختصرا ويأتي بعد أبواب في أوله قصة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي
وقد أعلقت عليه من العذرة فقال عليكن بهذا العود الهندي وأخرج أحمد وأصحاب السنن من
124

حديث جابر مرفوعا أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فتحكه
بماء ثم تسعطه إياه وفي حديث أنس الآتي بعد بابين أن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط
البحري وهو محمول على أنه وصف لكل ما يلائمه فحيث وصف الهندي كان الاحتياج في المعالجة
إلى دواء شديد الحرارة وحيث وصف البحري كان دون ذلك في الحرارة لان الهندي كما تقدم أشد
حرارة من البحري وقال ابن سينا القسط حار في الثالثة يابس في الثانية (قوله فإن فيه سبعة
أشفية) جمع شفاء كدواء وأدوية (قوله يسعط به من العذرة ويلد به من ذات الجنب) كذا
وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين فإما أن يكون ذكر السبعة فاختصره الراوي
أو اقتصر على الاثنين لوجودهما حينئذ دون غيرهما وسيأتي ما يقوي الاحتمال الثاني وقد ذكر
الأطباء من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول ويقتل ديدان الأمعاء ويدفع السم وحمى
الربع والورد ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع ويذهب الكلف طلاء فذكروا أكثر من
سبعة وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي وما زاد عليها بالتجربة فاقتصر على ما هو
بالوحي لتحققه وقيل ذكر ما يحتاج إليه دون غيره لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك (قلت) ويحتمل
أن تكون السبعة أصول صفة التداوي بها لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير
أو سعوط أو لدود فالطلاء يدخل في المراهم ويحل بالزيت يلطخ وكذا التكميد والشرب
يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما وكذا التنطيل والسعوط يسحق في زيت ويقطر في
الانف وكذا الدهن والتبخير واضح وتحت كل واحدة من السبعة منافع لا دواء مختلفة ولا
يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم وأما العذرة فهي بضم المهملة وسكون المعجمة وجع في
الحلق يعتري الصبيان غالبا وقيل هي قرحة تخرج بين الاذن والحلق أو في الخرم الذي بين الانف
والحلق قيل سميت بذلك لأنها تخرج غالبا عند طلوع العذرة وهي خمسة كواكب تحت الشعري
العبور ويقال لها أيضا العذاري وطلوعها يقع وسط الحر وقد استشكل معالجتها بالقسط مع
كونه حارا والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة ولا سيما قطر الحجاز حار
وأجيب بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم وفي القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه في هذا
الدواء بالخاصية وأيضا فالأدوية الحارة قد تنفع في الأمراض الحارة بالعرض كثيرا بل وبالذات
أيضا وقد ذكر ابن سينا في معالجة سعوط اللهاة القسط مع الشب اليماني وغيره على أننا لو لم نجد شيئا
من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجا عن القواعد الطبية وسيأتي بيان ذات الجنب في باب
اللدود وفيه شرح بقية حديث أم قيس هذا وقولها ودخلت على النبي صلى الله عليه وسلم بابن لي
تقدم مطولا في الطهارة وهو حديث آخر لام قيس وقد ذكره هنا استطرادا والله أعلم
(قوله باب أية ساعة يحتجم) في رواية الكشميهني أي ساعة بلا هاء والمراد بالساعة
في الترجمة مطلق الزمان لا خصوص الساعة المتعارفة (قوله واحتجم أبو موسى ليلا) تقدم
موصولا في كتاب الصيام وفيه أن امتناعه من الحجامة نهارا كان بسبب الصيام لئلا يدخله
خلل وإلى ذلك ذهب مالك فكره الحجامة للصائم لئلا يغرر بصومه لا لكون الحجامة تفطر الصائم
وقد تقدم للبحث في حديث أفطر الحاجم والمحجوم هناك وورد في الأوقات اللائقة بالحجامة
أحاديث ليس فيها شئ على شرطه فكأنه أشار إلى أنها تصنع عند الاحتياج ولا تقيد بوقت
125

دون وقت لأنه ذكر الاحتجام ليلا وذكر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم
وهو صائم وهو يقتضي كون ذلك وقع منه نهارا وعند الأطباء أن أنفع الحجامة ما يقع في الساعة
الثانية أو الثالثة وأن لا يقع عقب استفراغ عن جماع أو حمام أو غيرهما ولا عقب شبع ولا جوع
وقد ورد في تعيين الأيام للحجامة حديث لابن عمر عند ابن ماجة رفعه في أثناء حديث وفيه
فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء
والجمعة والسبت والاحد أخرجه من طريقين ضعيفين وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند
الدارقطني في الافراد وأخرجه بسند جيد عن ابن عمر موقوفا ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة
في الأيام المذكورة وإن كان الحديث لم يثبت وحكى أن رجلا احتجم يوم الأربعاء فأصابه برص
لكونه تهاون بالحديث وأخرج أبو داود من حديث أبي بكرة أنه كان يكره الحجامة يوم
الثلاثاء وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ فيها
وورد في عدد من الشهر أحاديث منها ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رفعه من احتجم
لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء وهو من رواية سعيد بن
عبد الرحمن الجمحي عن سهيل بن أبي صالح وسعيد وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه وله
شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي ورجاله ثقات لكنه معلول وشاهد آخر من
حديث أنس عند ابن ماجة وسنده ضعيف وهو عند الترمذي من وجه آخر عن أنس لكن من
فعله صلى الله عليه وسلم ولكون هذه الأحاديث لم يصح منها شئ قال حنبل بن إسحاق كان أحمد
يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت وقد أنفق الأطباء على أن الحجامة في النصف الثاني
من الشهر ثم في الربع الثالث من أرباعه أنفع من الحجامة في أوله وآخره قال الموفق البغدادي
وذلك أن الاخلاط في أول الشهر تهيج في آخره تسكن فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه والله
أعلم (قوله باب الحجم في السفر والاحرام قاله ابن بحينة عن النبي صلى الله عليه
وسلم) كأنه يشير إلى ما أورده في الباب الذي يليه موصولا عن عبد الله بن بحينة أن النبي صلى الله
عليه وسلم احتجم في طريق مكة وقد تبين في حديث ابن عباس أنه كان حينئذ محرما فانتزعت
الترجمة من الحديثين معا على أن حديث ابن عباس وحده كاف في ذلك لان من لازم كونه صلى
الله عليه وسلم كان محرما أن يكون مسافرا لأنه لم يحرم قط وهو مقيم وقد تقدم الكلام على
ما يتعلق بحجامة المحرم في كتاب الحج وأما الحجامة للمسافر فعلى ما تقدم أنها تفعل عند الاحتياج
إليها من هيجان الدم ونحو ذلك فلا يختص ذلك بحالة دون حالة والله أعلم (قوله باب
الحجامة من الداء) أي بسبب الداء قال الموفق البغدادي الحجامة تنقى سطح البدن أكثر من
الفصد والفصد لأعماق البدن والحجامة للصبيان وفي البلاد الحارة أولى من الفصد وآمن غائلة
وقد تغنى عن كثير من الأدوية ولهذا وردت الأحاديث بذكرها دون الفصد ولان العرب غالبا
ما كانت تعرف إلا الحجامة وقال صاحب الهدى التحقيق في أمر الفصد والحجامة أنهما يختلفان
باختلاف الزمان والمكان والمزاج فالحجامة في الأزمان الحارة والأمكنة الحارة والابدان الحارة
التي دم أصحابها في غاية النضج أنفع والفصد بالعكس ولهذا كانت الحجامة أنفع للصبيان ولمن
لا يقوى على الفصد (قوله عبد الله) هو ابن المبارك (قوله عن أنس) في رواية شعبة عن حميد
126

سمعت أنسا وقد تقدمت الإشارة إليه في الإجارة (قوله عن أجر الحجام) في رواية أحمد عن يحيى
القطان عن حميد كسب الحجام (قوله حجمه أبو طيبة) بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها
موحدة تقدم في الإجارة ذكر تسميته وتعيين مواليه وكذا جنس ما أعطى من الأجرة وأنه تمر
وحكم كسبه فأغنى عن إعادته (قوله وقال إن أمثل ما تداويتم به الحجامة) هو موصول بالاسناد
المذكور وقد أخرجه النسائي مفردا من طريق زياد بن سعد وغيره عن حميد عن أنس بلفظ خير
ما تداويتم به الحجامة ومن طريق معتمر عن حميد بلفظ أفضل قال أهل المعرفة الخطاب بذلك لأهل
الحجاز ومن كان في معناهم من أهل البلاد الحارة لان دماءهم رقيقة وتميل إلى ظاهر الأبدان
لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح البدن ويؤخذ من هذا أن الخطاب أيضا لغير الشيوخ لقلة
الحرارة في أبدانهم وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال إذا بلغ الرجل أربعين سنة
لم يحتجم قال الطبري وذلك أنه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوى جسده فلا
ينبغي أن يزيده وهيا بأخراج الدم اه‍ وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه وعلى من لم يعتد به
وقد قال ابن سينا في أرجوزته
ومن يكن تعود الفصادة * فلا يكن يقطع تلك العادة
ثم أشار إلى أنه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين (قوله وقال لا تعذبوا
صبيانكم بالغمز من العذرة وعليكم بالقسط) هو موصول أيضا بالاسناد المذكور إلى حميد عن
أنس مرفوعا وقد أورده النسائي من طريق يزيد بن زريع عن حميد به مضموما إلى حديث خير
ما تداويتم به الحجامة وقد اشتمل هذا الحديث على مشروعية الحجامة والترغيب في المداواة بها ولا
سيما لمن أحتاج إليها وعلى حكم كسب الحجام وقد تقدم في الإجارة وعلى التداوي بالقسط وقد
تقدم قريبا وسيأتي الكلام على الاعلاق في العذرة والغمزة في باب اللدود (قوله حدثنا سعيد بن
تليد) بمثناة ولام وزن سعيد وهو سعيد بن عيسى بن تليد نسب لجده وهو مصري وثقه أبو يونس
وقال كان فقيها ثبتا في الحديث وكان يكتب للقضاة (قوله أخبرني عمرو وغيره) أما عمرو فهو ابن
الحرث وأما غيره فما عرفته ويغلب على ظني أنه ابن لهيعة وقد أخرج الحديث أحمد ومسلم
والنسائي وأبو عوانة والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان من طرق عن ابن وهب عن عمرو بن
الحرث وحده لم يقل أحد في الاسناد وغيره والله أعلم (قوله أن بكيرا حدثه) هكذا أفرد الضمير
لواحد بعد أن قدم ذكر اثنين وبكير هو ابن عبد الله بن الأشج وربما نسب لجده مدني سكن مصر
والاسناد إليه مصريون (قوله عاد المقنع) بقاف ونون ثقيلة مفتوحة هو ابن سنان تابعي
لا أعرفه إلا في هذا الحديث (قوله إن فيه شفاء) كذا ذكره بكير بن الأشج مختصرا ومضى في باب
الدواء بالعسل من طريق عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر مطولا وسيأتي أيضا عن قرب
(قوله باب الحجامة على الرأس) ورد في فضل الحجامة في الرأس حديث ضعيف
أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه
الحجامة في الرأس تنفع من سبع من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع
الضرس والعين وعمر متروك رماه الفلاس وغيره بالكذب ولكن قال الأطباء أن الحجامة في وسط
الرأس نافعة جدا وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها كما في أول حديثي الباب وآخرهما وأن
127

كان مطلقا فهو مقيد بأولهما وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضا في الأخدعين والكاهل
أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم قال أهل العلم بالطب فصد
الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الأمراض
الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الورك وفصد الأكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع
البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان فسد وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا
كثر الدم أو فسد وفصد الودجين لوجع الطحال والربو ووجع الجنبين والحجامة على الكاهل
تنفع من وجع المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق والحجامة على الأخدعين تنفع من
أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف والحلق وتنوب عن فصد القيفال
والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الأسنان والوجه والحلقوم وتنقى الرأس والحجامة على ظهر
القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق عند الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين
وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الأنثيين والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل
الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الظهر ومحل ذلك كله إذا كان
عن دم هائج وصادف وقت الاحتياج إليه والحجامة على المقعدة تنفع الأمعاء وفساد الحيض
(قوله حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس وسليمان هو ابن بلال وعلقمة هو ابن أبي علقمة
والسند كله مدنيون وقد تقدم بيان حاله في أبواب المحصر في الحج (قوله احتجم بلحي جمل) كذا
وقع بالتثنية وتقدم بلفظ الافراد واللام مفتوحة ويجوز كسرها وجمل بفتح الجيم والميم قال ابن
وضاح هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا وزعم بعضهم أنه الآلة
التي احتجم بها أي احتجم بعظم جمل والأول المعتمد وسأذكر في حديث ابن عباس التصريح
بقصة ذلك (قوله في وسط رأسه) بفتح السين المهملة ويجوز تسكينها وتقدم بيانه في كتاب الحج
وقول من فرق بينهما (قوله وقال الأنصاري) وصله الإسماعيلي قال حدثنا الحسن بن سفيان
حدثنا عبيد الله بن فضالة حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري فذكره بلفظ احتجم احتجامه في
رأسه ووصله البيهقي من طريق أبي حاتم الرازي حدثنا الأنصاري بلفظ احتجم وهو محرم من
صداع كان به أو داء وأحتجم فيما يقال له لحي جمل وهكذا أخرجه أحمد عن الأنصاري وسيأتي في
الباب الذي بعده في حديث ابن عباس بلفظ بما يقال له لحي جمل (قوله باب
الحجامة من الشقيقة والصداع) أي بسببهما وقد سقطت هذه الترجمة من رواية النسفي وأورد
ما فيها في الذي قبله وهو متجه والشقيقة بشين معجمة وقافين وزن عظيمة وجع يأخذ في أحد جانبي
الرأس أو في مقدمه وذكر أهل الطب أنه من الأمراض المزمنة وسببه أبخرة مرتفعة أو
أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ فإن لم تجد منفذا أحدث الصداع فإن مال إلى أحد شقي
الرأس أحدث الشقيقة وأن ملك قمة الرأس أحدث داء البيضة وذكر الصداع بعده من العام
بعد الخاص وأسباب الصداع كثيرة جدا منها ما تقدم ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في
عروقها أو ريح غليظة فيها أو لامتلائها ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقئ
والاستفراغ أو السهر أو كثرة الكلام ومنها ما يحدث عن الاعراض النفسانية كالهم والغم
والحزن والجوع والحمى ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه أو ورم في صفاق
128

الدماغ أو حمل شئ ثقيل يضغط الرأس أو تسخينه بلبس شئ خارج عن الاعتدال أو تبريده
بملاقاة الهواء أو الماء في البرد وأما الشقيقة بخصوصها فهي في شرايين الرأس وحدها وتختص
بالموضع الأضعف من الرأس وعلاجها بشد العصابة وقد أخرج أحمد من حديث بريدة أنه
صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج الحديث
وتقدم في الوفاة النبوية حديث ابن عباس خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه
(قوله في الطريق الأولى عن هشام) هو ابن حسان وقوله من وجع كان قد بينه في الرواية التي
بعده (قوله وقال محمد بن سواء) بمهملة ومد هو السدوسي واسم جده عنبر بمهملة ونون
وموحدة بصري يكنى أبا الخطاب ما له في البخاري سوى حديث موصول مضى في المناقب وآخر
يأتي في الأدب وهذا المعلق وقد وصله الإسماعيلي قال حدثنا أبو يعلى حدثنا محمد بن عبد الله
الأزدي حدثنا محمد بن سواء فذكره سواء وقد اتفقت هذه الطرق عن ابن عباس أنه احتجم صلى
الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه ووافقها حديث ابن بحينة وخالف ذلك حديث أنس فأخرج
أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق معمر عن قتادة
عنه قال احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به ورجاله
رجال الصحيح إلا أن أبا داود حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة فأرسله وسعيد
أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة والجمع بين حديثي ابن عباس وأنس واضح بالحمل على
التعدد أشار إلى ذلك الطبري وفي الحديث أيضا جواز الحجامة للمحرم وأن إخراجه الدم لا يقدح
في إحرامه وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الحج وحاصله أن المحرم أن احتجم وسط رأسه لعذر جاز
مطلقا فإن قطع الشعر وجبت عليه الفدية فإن احتجم لغير عذر وقطع حرم والله أعلم (قوله
حدثنا إسماعيل بن أبان) هو الوراق الأزدي الكوفي أبو إسحق أو أبو إبراهيم من كبار شيوخ
البخاري وهو صدوق تكلم فيه الجوزجاني لأجل التشيع قال ابن عدي وهو مع ذلك صدوق
وفي عصره إسماعيل بن أبان آخر يقال له الغنوي قال ابن معين الغنوي كذاب والوراق ثقة وقال
ابن المديني الوراق لا بأس به والغنوي كتبت عنه وتركته وضعفه جدا وكذا فرق بينهما أحمد
وعثمان بن أبي شيبة وجماعة وغفل من خلطهما وكانت وفاة الغنوي قبل الوراق بست سنين
والله أعلم (قوله حدثنا ابن الغسيل) هو عبد الرحمن بن سليمان تقدم شرح حاله قريبا (قوله
باب الحلق من الأذى) أي حلق شعر الرأس وغيره ذكر فيه حديث كعب بن عجرة في
حلق رأسه وهو محرم بسبب كثرة القمل وقد مضى شرحه مستوفى في كتاب الحج وكأنه أورده
عقب حديث الحجامة وسط الرأس للإشارة إلى أن جواز حلق الشعر للمحرم لأجل الحجامة عند
الحاجة إليها يستنبط من جواز حلق جميع الرأس للمحرم عند الحاجة (قوله باب
من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو) كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة وأن الأولى تركه
إذا لم يتعين وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره وعموم
الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب وفضل تركه من قوله وما أحب أن
أكتوي وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر قال رمى سعد بن معاذ على أكحله فحسمه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن طريق أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
129

إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه وروى الطحاوي وصححه الحاكم عن أنس قال
كواني أبو طلحة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصله في البخاري وأنه كوى من ذات الجنب
وسيأتي قريبا وعند الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من
الشوكة ولمسلم عن عمران بن حصين كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد وله
عنه من وجه آخر أن الذي كان انقطع عني رجع إلي يعني تسليم الملائكة كذا في الأصل وفي لفظ
أنه كان يسلم على فلما اكتويت أمسك عني فلما تركته عاد إلى وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي
عن عمران نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا وفي لفظ فلم
يفلحن ولم ينجحن وسنده قوي والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى لما يقتضيه
مجموع الأحاديث وقيل أنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور وكان موضعه خطرا فنهاه عن
كيه فلما أشتد عليه كواه فلم ينجح وقال ابن قتيبة الكي نوعان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي
قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع والثاني كي الجرح إذا نغل
أي فسد والعضو إذا قطع فهو الذي يشرع التداوي به فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف
الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق وحاصل الجمع أن الفعل يدل على الجواز
وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله وكذا الثناء على تاركه وأما النهي
عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه وإما عما لا يتعين طريقا إلى الشفاء والله أعلم وقد تقدم
شئ من هذا في باب الشفاء في ثلاث ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى إلا أن
القرطبي نسب إلى كتاب أدب النفوس للطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى وذكره الحليمي
بلفظ روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد (قلت) والثابت في الصحيح كما تقدم في غزوة أحد
أن فاطمة أحرقت حصيرا فحشت به جرحه وليس هذا الكي المعهود وجزم ابن التين بأنه اكتوى
وعكسه ابن القيم في الهدى (قوله حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) هو الطيالسي (قوله
سمعت جابرا) في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن خلاد عن أبي الوليد بسنده أتانا جابر في بيتنا
فحدثنا (قوله ففي شرطة محجم أو لذعة بنار) كذا اقتصر في هذه الطريق على شيئين وحذف
الثالث وهو العسل وثبت ذكره في رواية أبي نعيم من طريق أبي مسعود عن أبي الوليد وكذا عند
الإسماعيلي لكن لم يسق لفظه بل أحال به على رواية أبي نعيم عن ابن الغسيل وقد تقدم عن
أبي نعيم تاما في باب الدواء بالعسل واختصر من هذه الطريق أيضا قوله توافق الداء وقد تقدم
بيانها هناك (قوله عمران بن ميسرة) بفتح الميم وسكون التحتانية بعدها مهملة (قوله حصين
بالتصغير) هو ابن عبد الرحمن الواسطي وعامر هو الشعبي (قوله عن عمران بن حصين قال لا رقية
إلا من عين أو حمة) كذا رواه محمد بن فضيل عن حصين موقوفا ووافقه هشيم وشعبة عن حصين
على وقفه ورواية هشيم عند أحمد ومسلم ورواية شعبة عند الترمذي تعليقا ووصلها ابن أبي شيبة
ولكن قالا عن بريدة بدل عمران بن حصين وخالف الجميع مالك بن مغول عن حصين فرواه
مرفوعا وقال عن عمران بن حصين أخرجه أحمد وأبو داود وكذا قال ابن عيينة عن حصين
أخرجه الترمذي وكذا قال إسحاق بن سليمان عن حصين أخرجه بن ماجة واختلف فيه
على الشعبي اختلافا آخر فأخرجه أبو داود من طريق العباس بن ذريح بمعجمة وراء وآخره مهملة
130

بوزن عظيم فقال عن الشعبي عن أنس ورفعه وشذ العباس بذلك والمحفوظ رواية حصين مع
الاختلاف عليه في رفعه ووقفه وهل هو عن عمران أبو بريدة والتحقيق أنه عنده عن عمران وعن
بريدة جميعا ووقع لبعض الرواة عن البخاري قال حديث الشعبي مرسل والمسند حديث ابن
عباس فأشار بذلك إلى أنه أورد حديث الشعبي استطرادا ولم يقصد إلى تصحيحه ولعل هذا هو السر
في حذف الحميدي له من الجمع بين الصحيحين فإنه لم يذكره أصلا ثم وجدت في نسخة الصغاني قال
أبو عبد الله هو المصنف إنما أردنا من هذا حديث ابن عباس والشعبي عن عمران مرسل وهذا
يؤيد ما ذكرته (قوله لا رقية إلا من عين أو حمة) بضم المهملة وتخفيف الميم قال ثعلب وغيره هي
سم العقرب وقال القزاز قيل هي شوكة العقرب وكذا قال ابن سيده أنها الإبرة التي تضرب بها
العقرب والزنبور وقال الخطابي الحمة كل هامة ذات سم من حية أو عقرب وقد أخرج أبو داود
من حديث سهل بن حنيف مرفوعا لا رقية إلا من نفس أو حمة أو لدغة فغاير بينهما فيحتمل أن
يخرج على أن الحمة خاصة بالعقرب فيكون ذكر اللدغة بعدها من العام بعد الخاص وسيأتي بيان
حكم الرقية في باب رقية الحية والعقرب بعد أبواب وكذلك ذكر حكم العين في باب مفرد (قوله
فذكرته لسعيد بن جبير) القائل ذلك حصين بن عبد الرحمن وقد بين ذلك هشيم عن حصين بن
عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال حدثني ابن عباس وسيأتي ذلك في كتاب الرقاق
وأخرجه أحمد عن هشيم ومسلم من وجه آخر عنه بزيادة قصة قال كنت عند سعيد بن جبير فقال
أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة قلت أنا ثم قلت أما أني لم أكن في صلاة ولكن لدغت
قال وكيف فعلت قلت استرقيت قال وما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه الشعبي عن بريدة
أنه قال لا رقية إلا من عين أو حمة فقال سعيد قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ثم قال حدثنا ابن
عباس فذكر الحديث (قوله وعرضت على الأمم) سيأتي شرحه في كتاب الرقاق وقوله في هذه
الرواية حتى وقع في سواد كذا للأكثر بواو وقاف وبلفظ في والكشميهني حتى رفع براء وفاء
وبلفظ لي وهو المحفوظ في جميع طرق هذا الحديث (قوله فقال هم الذين لا يسترقون ولا
يتطيرون) سيأتي الكلام على الرقية بعد قليل وكذلك يأتي القول في الطيرة بعد ذلك إن شاء الله
تعالى (قوله باب الأثمد والكحل من الرمد) أي بسبب الرمد والرمد بفتح الراء والميم
ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين وهو بياضها الظاهر وسببه انصباب أحد الاخلاط
أو أبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام أو إلى العين أحدث
الرمد أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون أو إلى الصدر أحدث النزلة
أو إلى القلب أحدث الشوصة وإن لم ينحدر وطلب نفاذا فلم يجد أحدث الصداع كما تقدم (قوله
فيه عن أم عطية) يشير إلى حديث أم عطية مرفوعا لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد
فوق ثلاث إلا على زوج فإنها لا تكتحل وقد تقدم في أبواب العدة لكن لم أر في شئ من طرقه ذكر
الأثمد فكأنه ذكره لكون العرب غالبا إنما تكتحل به وقد ورد التنصيص عليه في حديث ابن
عباس رفعه اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر أخرجه الترمذي وحسنه واللفظ له
وابن ماجة وصححه ابن حبان وأخرجه الترمذي من وجه آخر عن ابن عباس في الشمائل وفي
الباب عن جابر عند الترمذي في الشمائل وابن ماجة وابن عدي من ثلاث طرق عن ابن المنكدر
131

عنه بلفظ عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر وعن علي عند ابن أبي عاصم والطبراني
ولفظه عليكم بالإثمد فإنه منبتة للشعر مذهبة للقذي مصفاة للبصر وسنده حسن وعن ابن عمر
بنحوه عند الترمذي في الشمائل وعن أنس في غريب مالك للدارقطني بلفظ كان يأمرنا بالإثمد
وعن سعيد بن هوذة عند أحمد بلفظ اكتحلوا بالإثمد فإنه الحديث وهو عند أبي داود من حديثه
بلفظ أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم وعن أبي هريرة بلفظ خير أكحالكم الأثمد فإنه الحديث
أخرجه البزار وفي سنده مقال وعن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد
أخرجه البيهقي وفي سنده مقال وعن عائشة كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثمد يكتحل به عند
منامه في كل عين ثلاثا أخرجه أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم بسند ضعيف
والإثمد بكسر الهمزة والميم بينهما ثاء مثلثة ساكنة وحكى فيه ضم الهمزة حجر معروف أسود
يضرب إلى الحمرة يكون في بلاد الحجاز وأجوده يؤتى به من أصبهان واختلف هل هو اسم الحجر
الذي يتخذ منه الكحل أو هو نفس الكحل ذكره ابن سيده وأشار إليه الجوهري وفي هذه
الأحاديث استحباب الاكتحال بالإثمد ووقع الامر بالاكتحال وترا من حديث أبي هريرة في
سنن أبي داود ووقع في بعض الأحاديث التي أشرت إليها كيفية الاكتحال وحاصله ثلاثا في كل
عين فيكون الوتر في كل واحدة على حدة أو اثنين في كل عين وواحدة بينهما أو في اليمين ثلاثا وفي
اليسرى ثنتين فيكون الوتر بالنسبة لهما جميعا وأرجحها الأول والله أعلم ثم ذكر المصنف
حديث أم سلمة من رواية زينب وهي بنتها عنها إن امرأة توفي زوجها فاشتكت عينها فذكروها
للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها الحديث وقد مرت مباحثه في
أبواب الاحداد وأما قوله في آخره فلا أربعة أشهر وعشرا كذا للأكثر وعند الكشميهني فهلا
أربعة أشهر وعشرا وهي واضحة وأما الاقتصار على حرف النهي فالمنفي مقدر كأنه قال فلا
تكتحل ثم قال تمكث أربعة أشهر وعشرا (قوله باب الجذام) بضم الجيم وتخفيف
المعجمة هو علة رديئة تحدث من انتشار المرة السوداء في البدن كله فتفسد مزاج الأعضاء وربما
أفسد في آخره اتصالها حتى يتأكل قال ابن سيده سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها (قوله
وقال عفان) هو ابن مسلم الصفار وهو من شيوخ البخاري لكن أكثر ما يخرج عنه بواسطة
وهو من المعلقات التي لم يصلها في موضع آخر وقد جزم أبو نعيم أنه أخرجه عنه بلا رواية وعلى
طريقة ابن الصلاح يكون موصولا وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داود الطيالسي وأبي قتيبة
مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيان شيخ عفان فيه وأخرجه أيضا من طريق عمرو بن
مرزوق عن سليم لكن موقوفا ولم يستخرجه الإسماعيلي وقد وصله ابن خزيمة أيضا وسليم بفتح
أوله وكسر ثانيه وحيان بمهملة ثم تحتانية ثقيلة (قوله لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) كذا
جمع الأربعة في هذه الرواية ويأتي مثله سواء بعد عدة أبواب في باب لا هامة من طريق أبي صالح
عن أبي هريرة ويأتي بعد خمسة أبواب من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة مثله لكن بدون قوله ولا
طيرة وأعاده بعد أبواب كثيرة بزيادة قصة وبعد عدة أبواب في باب لا طيرة من طريق عبيد الله بن
عتبة عن أبي هريرة لا طيرة حسب وفي باب لا عدوى من طريق سنان بن أبي سنان عن أبي هريرة
بلفظ لا عدوى حسب ولمسلم من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ لا عدوى ولا هامة ولا
132

طيرة وأخرج مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي سلمة
وزاد ولا نوء ويأتي في باب لا عدوى من حديث ابن عمر ومن حديث أنس لا عدوى ولا طيرة ولمسلم
وابن حبان من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا بلفظ لا عدوي ولا صفر ولا غول
وأخرج ابن حبان من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثل رواية سعيد بن ميناء وأبي
صالح عن أبي هريرة وزاد فيه القصة التي في رواية أبي سلمة عن أبي هريرة وهو في ابن ماجة باختصار
فالحاصل من ذلك ستة أشياء العدوي والطيرة والهامة والصفر والغول والنوء والأربعة الأول
قد أفرد البخاري لكل واحد منها ترجمة فنذكر شرحها فيه وأما الغول فقال الجمهور كانت
العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات وهي جنس من الشياطين تترا آي للناس وتتغول لهم تغولا
أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم وقد كثر في كلامهم غالته الغول أي أهلكته
أو أضلته فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك وقيل ليس المراد إبطال وجود الغيلان وإنما معناه إبطال
ما كانت العرب تزعمه من تلون الغول بالصور المختلفة قالوا والمعنى لا يستطيع الغول أن يضل
أحدا ويؤيده حديث إذا تغولت الغيلان فنادوا بالاذان أي ادفعوا شرها بذكر الله وفي
حديث أبي أيوب عند قوله كانت لي سهوة فيها تمر فكانت الغول تجئ فتأكل منه الحديث
وأما النوء فقد تقدم القول فيه في كتاب الاستسقاء وكانوا يقولون مطرنا بنوء كذا فأبطل صلى
الله عليه وسلم ذلك بأن المطر إنما يقع بإذن الله لا بفعل الكواكب وإن كانت العادة جرت
بوقوع المطر في ذلك الوقت لكن بإرادة الله تعالى وتقديره لا صنع للكواكب في ذلك والله أعلم
(قوله وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) لم أقف عليه من حديث أبي هريرة إلا من هذا الوجه
ومن وجه آخر عند أبي نعيم في الطب لكنه معلول وأخرج ابن خزيمة في كتاب التوكل له شاهدا
من حديث عائشة ولفظه لا عدوي وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد وأخرج مسلم
من حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع قال عياض اختلف الآثار في المجذوم فجاء ما تقدم
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع مجذوم وقال ثقة بالله وتوكلا عليه قال فذهب
عمر وجماعة من السلف إلى الاكل معه ورأوا أن الامر باجتنابه منسوخ وممن قال بذلك عيسى
ابن دينار من المالكية قال والصحيح الذي عليه الأكثر ويتعين المصير إليه أن لا نسخ بل يجب الجمع
بين الحديثين وحمل الامر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط والاكل معه على
بيان الجواز اه‍ هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين وحكى غيره قوله
ثالثا وهو الترجيح وقد سلكه فريقان أحدهما سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفي العدوي
وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك مثل حديث الباب فأعلوه بالشذوذ وبأن عائشة أنكرت
ذلك فأخرج الطبري عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت ما قال ذلك ولكنه قال لا عدوى
وقال فمن أعدى الأول قالت وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي
وينام على فراشي وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه فيؤخذ الحكم من رواية غيره
وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفي العدى كثيرة شهيرة بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك
ومثل حديث لا تديموا النظر إلى المجذومين وقد أخرجه ابن ماجة وسنده ضعيف ومثل حديث
133

عبد الله بن أبي أوفى رفعه كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين أخرجه أبو نعيم في الطب
بسند واه ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري أن عمر قال لمعيقيب أجلس مني
قيد رمح ومن طريق خارجة بن زيد كان عمر يقول نحوه وهما أثران منقطعان وأما حديث
الشريد الذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام والجواب عن ذلك أن طريق
الترجيح لا يصار إليها إلا مع تعذر الجمع وهو ممكن فهو أولى الفريق الثاني سلكوا في الترجيح
عكس هذا المسلك فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه إما لشكه فيه وإما لثبوت عكسه
عنده كما سيأتي إيضاحه في باب لا عدوى قالوا والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج
وأكثر طرقا فالمصير إليها أولى قالوا وأما حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم
فوضعها في القصعة وقال كل ثقة بالله وتوكلا عليه ففيه نظر وقد أخرجه الترمذي وبين
الاختلاف فيه على راويه ورجح وقفه على عمر وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم
أكل معه وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة قاله الكلاباذي في معاني الأخبار والجواب أن طريق
الجمع أولى كما تقدم وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبي هريرة فصح عن عائشة وابن
عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر وغيرهم فلا معنى لدعوى كونه معلولا والله أعلم وفي طريق الجمع
مسالك أخرى أحدها نفى العدوي جملة وحمل الامر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم
لأنه إذا رأى الصحيح البدن السليم من الآفة تعظم مصيبته وتزداد حسرته ونحوه حديث
لا تديموا النظر إلى المجذومين فإنه محمول على هذا المعنى ثانيها حمل الخطاب بالنفي والاثبات على
حالتين مختلفتين فحيث جاء لا عدوى كان المخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث
يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوي كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل
أحد لكن القوي اليقين لا يتأثر به وهذا مثل ما تدفع قوة الطبيعة العلة فتبطلها وعلى هذا يحمل
حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة وسائر ما ورد من جنسه وحيث جاء فر من المجذوم كان
المخاطب بذلك من ضعف يقينه ولم يتمكن من تمام التوكل فلا يكون له قوة على دفع اعتقاد
العدوي فأريد بذلك سد باب اعتقاد العدوي عنه بأن لا يباشر ما يكون سببا لاثباتها وقريب من
هذا كراهيته صلى الله عليه وسلم الكي مع إذنه فيه كما تقدم تقريره وقد فعل هو صلى الله عليه وسلم
كلا من الامرين ليتأسى به كل من الطائفتين ثالث المسالك قال القاضي أبو بكر الباقلاني إثبات
العدوي في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوي قال فيكون معنى قوله لا عدوى أي
الا من الجذام والبرص والجرب مثلا قال فكأنه قال لا يعدي شئ شيئا إلا ما تقدم تبييني له أن فيه
العدوي وقد حكى ذلك ابن بطال أيضا رابعها أن الامر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوي
في شئ بل هو لأمر طبيعي وهو انتقال الداء من جسد لجسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم
الرائحة ولذلك يقع في كثير من الأمراض في العادة انتقال الداء من المريض إلى الصحيح بكثرة
المخالطة وهذه طريقة ابن قتيبة فقال المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته
ومحادثته ومضاجعته وكذا يقع كثيرا بالمرأة من الرجل وعكسه وينزع الولد إليه ولهذا يأمر
الأطباء بترك مخالطة المجذوم لا على طريق العدوي بل على طريق التأثر بالرائحة لأنها تسقم من
واظب اشتمامها قال ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا يورد ممرض على مصح لان الجرب الرطب
134

قد يكون بالبعير فإذا خالط الإبل أو حككها وأوى إلى مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه
وكذا بالنظر نحو ما به قال وأما قوله لا عدوى فله معنى آخر وهو أن يقع المرض بمكان كالطاعون
فيفر منه مخافة أن يصيبه لان فيه نوعا من الفرار من قدر الله المسلك الخامس أن المراد بنفي
العدوي أن شيئا لا يعدى بطبعه نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدى بطبعها
من غير إضافة إلى الله فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك وأكل مع المجذوم ليبين
لهم أن الله هو الذي يمرض ويشفي ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي
أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها ففي نهيه إثبات الأسباب وفي فعله إشارة إلى أنها
لا تستقل بل الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا وإن شاء أبقاها فأثرت ويحتمل أيضا
أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدى مثله في العادة
إذ ليس الجذمي كلهم سواء ولا تحصل العدوي من جميعهم بل (1) لا يحصل منه في العادة عدوى
أصلا كالذي أصابه شئ من ذلك ووقف فلم يعد بقية جسمه فلا يعدي وعلى الاحتمال الأول جرى
أكثر الشافعية قال البيهقي بعد أن أورد قول الشافعي ما نصه الجذام والبرص يزعم أهل
العلم بالطب والتجارب أنه يعدي الزوج كثيرا وهو داء مانع للجماع لا تكاد نفس أحد تطيب
بمجامعة من هو به ولا نفس امرأة أن يجامعها من هو به وأما الولد فبين أنه إذا كان من ولده أجذم
أو أبرص أنه قلما يسلم وان سلم أدرك نسله قال البيهقي وأما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال لا عدوى فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله
تعالى وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شئ من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم فر من المجذوم فرارك من الأسد وقال لا يورد ممرض على مصح وقال في
الطاعون من سمع به بأرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى وتبعه على ذلك ابن الصلاح
في الجمع بين الحديثين ومن بعده وطائفة ممن قبله المسلك السادس العمل بنفي العدوي أصلا
ورأسا وحمل الامر بالمجانبة على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شئ من ذلك فيظن
أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوي التي نفاها الشارع وإلى هذا القول ذهب أبو عبيد وتبعه
جماعة فقال أبو عبيد ليس في قوله لا يورد ممرض على مصح إثبات العدوي بل لان الصحاح لو
مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوي فيفتتن ويتشكك
في ذلك فأمر باجتنابه قال وكان بعض الناس يذهب إلى أن الامر بالاجتناب إنما هو للمخافة
على الصحيح من ذوات العاهة قال وهذا شر ما حمل عليه الحديث لان فيه إثبات العدوي التي
نفاها الشارع ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته وأطنب ابن خزيمة في هذا كتاب
التوكل فإنه أورد حديث لا عدوى عن عدة من الصحابة وحديث لا يورد ممرض على مصح من
حديث أبي هريرة وترجم للأول التوكل على الله في نفي العدوي وللثاني ذكر خبر غلط في معناه
بعض العلماء وأثبت العدوي التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ترجم الدليل على أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يرد اثبات العدوي بهذا القول فساق حديث أبي هريرة لا عدوى فقال أعرابي
فما بال الإبل يخالطها الأجرب فتجرب قال فمن أعدى الأول ثم ذكر طرقه عن أبي هريرة ثم أخرجه
من حديث ابن مسعود ثم ترجم ذكر خبر روى في الامر بالفرار من المجذوم قد يخطر لبعض
135

الناس أن فيه اثبات العدوي وليس كذلك وساق حديث فر من المجذوم فرارك من الأسد من
حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة وحديث عمرو بن الشريد عن أبيه في أمر المجذوم بالرجوع
وحديث ابن عباس لا تديموا النظر إلى المجذومين ثم قال إنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالفرار من
المجذوم كما نهاهم أن يوردوا الممرض على المصح شفقة عليهم وخشية أن يصيب بعض من يخالطه
المجذوم الجذام والصحيح من الماشية الجرب فيسبق إلى بعض المسلمين أن ذلك من العدوي فيثبت
العدوي التي نفاها صلى الله عليه وسلم فأمرهم بتجنب ذلك شفقة منه ورحمة ليسلموا من التصديق
بإثبات العدى وبين لهم أنه لا يعدي شئ شيئا قال ويؤيد هذا أكله صلى الله عليه وسلم مع المجذوم
ثقة بالله وتوكلا عليه وساق حديث جابر في ذلك ثم قال وأما نهيه عن إدامة النظر إلى المجذوم
فيحتمل أن يكون لان المجذوم يغتم ويكره إدمان الصحيح نظره إليه لأنه قل من يكون به داء إلا وهو
يكره أن يطلع عليه اه‍ وهذا الذي ذكره احتمالا سبقه إليه مالك فإنه سئل عن هذا الحديث فقال
ما سمعت فيه بكراهية وما أدري ما جاء من ذلك إلا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شئ وقال الطبري
الصواب عندنا القول بما صح به الخبر وأن لا عدوى وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها وأما دنو
عليل من صحيح فغير موجب انتقال العلة للصحيح إلا أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب العاهة
التي يكرهها الناس لا لتحريم ذلك بل لخشية أن يظن الصحيح أنه لو نزل به ذلك الداء أنه من جهة
دنوه من العليل فيقع فيما أبطله النبي صلى الله عليه وسلم من العدوي قال وليس في أمره بالفرار
من المجذوم معارضة لاكله معه لأنه كان يأمر بالامر على سبيل الارشاد أحيانا وعلى سبيل
الإباحة أخرى وإن كان أكثر الأوامر على الالزام وإنما كان يفعل ما نهى عنه أحيانا لبيان
أن ذلك ليس حراما وقد سلك الطحاوي في معاني الآثار مسلك ابن خزيمة فيما ذكره فأورد
حديث لا يورد ممرض على مصح ثم قال معناه أن المصح قد يصيبه ذلك المرض فيقول الذي أورده
لو أني ما أوردته عليه لم يصبه من هذا المرض شئ والواقع أنه لو لم يورده لأصابه لكون الله تعالى قدره
فنهى عن إيراده لهذه العلة التي لا يؤمن غالبا من وقوعها في قلب المرء ثم ساق الأحاديث في ذلك
فأطنب وجمع بينها بنحو ما جمع به ابن خزيمة ولذلك قال القرطبي في المفهم إنما نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصح مخافة الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من
اعتقاد العدوي أو مخافة تشويش النفوس وتأثير الأوهام وهو نحو قوله فر من المجذوم فرارك
من الأسد وان كنا نعتقد أن الجذام لا يعدي لكنا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته حتى
لو أكره إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته لتأذت نفسه بذلك فحينئذ فالأولى للمؤمن
أن لا يتعرض إلى ما يحتاج فيه إلى مجاهدة فيجتنب طرق الأوهام ويباعد أسباب الآلام مع أنه
يعتقد أن لا ينجي حذر من قدر والله أعلم قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة الامر بالفرار من الأسد
ليس للوجوب بل للشفقة لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أمته عن كل ما فيه ضرر بأي وجه
كان ويدلهم على كل ما فيه خير وقد ذكر بعض أهل الطب أن الروائح تحدث في الأبدان خللا
فكان هذا وجه الامر بالمجانبة وقد أكل هو مع المجذوم فلو كان الامر بمجانبته على الوجوب لما
فعله قال ويمكن الجمع بين فعله وقوله بأن القول هو المشروع من أجل ضعف المخاطبين وفعله
حقيقة الايمان فمن فعل الأول أصاب السنة وهي أثر الحكمة ومن فعل الثاني كان أقوى يقينا
136

لان الأشياء كلها لا تأثير لها إلا بمقتضى إرادة الله تعالى وتقديره كما قال تعالى وما هم بضارين به من
أحد إلا بإذن الله فمن كان قوي اليقين فله أن يتابعه صلى الله عليه وسلم في فعله ولا يضره شئ ومن
وجد في نفسه ضعفا فليتبع أمره في الفرار لئلا يدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة فالحاصل
أن الأمور التي يتوقع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذر منها فلا ينبغي للضعفاء أن
يقربوها وأما أصحاب الصدق واليقين فهم في ذلك بالخيار قال وفي الحديث أن الحكم للأكثر
لان الغالب من الناس هو الضعف فجاء الامر بالفرار بحسب ذلك واستدل بالامر بالفرار من
المجذوم لاثبات الخيار للزوجين في فسخ النكاح إذا وجده أحدهما بالآخر وهو قول جمهور
العلماء وأجاب فيه من لم يقل بالفسخ بأنه لو أخذ بعمومه لثبت الفسخ إذا حدث الجذام ولا قائل
به ورد بأن الخلاف ثابت بل هو الراجح عند الشافعية وقد تقدم في النكاح الالمام بشئ من
هذا واختلف في أمة الأجذم هل يجوز لها أن تمنع نفسها من استمتاعه إذا أرادها واختلف العلماء
في المجذومين إذا كثروا هل يمنعون من المساجد والمجامع وهل يتخذ لهم مكان منفرد عن الأصحاء
ولم يختلفوا في النادر أنه لا يمنع ولا في شهود الجمعة (قوله باب المن شفاء للعين) كذا
للأكثر وفي رواية الأصيلي شفاء من العين وعليها شرح ابن بطال ويأتي توجيهها وفي هذه
الترجمة إشارة إلى ترجيح القول الصائر إلى أن المراد بالمن في حديث الباب الصنف المخصوص
من المأكول لا المصدر الذي بمعنى الامتنان وإنما أطلق على المن شفاء لان الخبر ورد أن الكمأة منه
وفيها شفاء فإذا ثبت الوصف للفرع كان ثبوته للأصل أولى (قوله عن عبد الملك) هو ابن عمير
وصرح به أحمد في روايته عن محمد بن جعفر غندر وعمرو بن حريث هو المخزومي له صحبة (قوله
سمعت سعيد بن زيد) أي ابن عمرو بن نفيل العدوي أحد العشرة وعمر بن الخطاب بن نفيل ابن عم
أبيه كذا قال عبد الملك بن عمير ومن تابعه وخالفهم عطاء بن السائب من رواية عبد الوارث عنه
فقال عن عمرو بن حريث عن أبيه أخرجه مسدد في مسنده وابن السكن في الصحابة والدارقطني
في الافراد وقال في العلل الصواب رواية عبد الملك وقال ابن السكن أظن عبد الوارث أخطأ فيه
وقيل كان سعيد بن زيد تزوج أم عمرو بن حريث فكأنه قال حدثني أبي وأراد زوج أمه مجازا فظنه
الراوي أباه حقيقة (قوله الكمأة) بفتح الكاف وسكون الميم بعدها همزة مفتوحة قال الخطابي
وفي العامة من لا يهمزه واحدة الكمء بفتح ثم سكون ثم همزة مثل تمرة وتمر وعكس ابن الأعرابي
فقال الكمأة الجمع والكمء الواحد على غير قياس قال ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى خبأة
وخبء وقيل الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع وقد جمعوها على أكمؤ قال الشاعر
* ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا * والعساقل بمهملتين وقاف ولام الشراب وكأنه أشار إلى
أن الأكمؤ محل وجدانها الفلوات والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق توجد في الأرض من غير أن
تزرع قيل سميت بذلك لاستتارها يقال كمأ الشهادة إذا كتمها ومادة الكمأة من جوهر أرضي
بخارى يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسدا ولذلك
كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيها لها بالجدري مادة وصورة لان مادته رطوبة
دموية تندفع غالبا عند الترعرع وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة
ظاهر وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
137

قالوا الكمأة جدري الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن الحديث وللطبري
من طريق ابن المنكدر عن جابر قال كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فامتنع قوم من أكلها وقالوا هي جدري الأرض فبلغه ذلك فقال أن الكمأة ليست من جدري
الأرض ألا أن الكمأة من المن والعرب تسمي الكمأة أيضا نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته ثم تنفطر
عنها الأرض وهي كثيرة بأرض العرب وتوجد بالشام ومصر فأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة
الماء ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة وهي باردة رطبة في الثانية رديئة للمعدة بطيئة
الهضم وإدمان أكلها يورث القولنج والسكتة والفالج وعسر البول والرطب منها أقل ضررا
من اليابس وإذا دفنت في الطين الرطب ثم سلقت بالماء والملح والسعتر وأكلت بالزيت والتوابل
الحارة قل ضررها ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها فلذلك كان ماؤها شفاء للعين
(قوله من المن) قيل في المراد بالمن ثلاثة أقوال أحدها أن المراد أنها من المن الذي أنزل على بني
إسرائيل وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوا ومنه الترنجبين فكأنه شبة به
الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوا بغير علاج (قلت) وقد تقدم بيان ذلك واضحا في
تفسير سورة البقرة وذكرت من زاد في متن هذا الحديث الكمأة من المن الذي أنزل على بني
إسرائيل والثاني أن المعنى أنها من المن الذي أمتن الله به على عباده عفوا بغير علاج قال أبو عبيد
وجماعة وقال الخطابي ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل على بني إسرائيل فإن الذي أنزل
على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر وإنما المعنى أن الكمأة شئ ينبت من
غير تكلف ببذر ولا سقي فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل فيقع على الشجر
فيتناولونه ثم أشار إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل كان أنواعا منها ما يسقط على
الشجر ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه وهذا هو القول الثالث وبه جزم الموفق
عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه فقالوا أن المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط
على الشجر فقط بل كان أنواعا من الله عليهم بها من النبات الذي يوجد عفوا ومن الطير التي
تسقط عليهم بغير اصطياد ومن الطل الذي يسقط على الشجر والمن مصدر بمعنى المفعول
أي ممنون به فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب كان منا محضا وإن كانت جميع نعم الله تعالى على
عبيده منا منه عليهم لكن خص هذا باسم المن لكونه لا صنع فيه لاحد فجعل سبحانه وتعالى
قوتهم في التيه الكمأة وهي تقوم مقام الخبز وأدمهم السلوى وهي تقوم مقام اللحم وحلواهم
الطل الذي ينزل على الشجر فكمل بذلك عيشهم ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من المن
فأشار إلى أنها فرد من أفراده فالترنجبين كذلك فرد من أفراد المن وأن غلب استعمال المن عليه
عرفا اه‍ ولا يعكر على هذا قولهم لن نصبر على طعام واحد لان المراد بالوحدة دوام الأشياء
المذكورة من غير تبدل وذلك يصدق على ما إذا كان المطعوم أصنافا لكنها لا تتبدل أعيانها
(قوله وماؤها شفاء للعين) كذا للأكثر وكذا عند مسلم وفي رواية المستملي من العين أي شفاء
من داء العين قال الخطابي إنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض الذي
ليس في اكتسابه شبهة ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر والعكس بالعكس
قال ابن الجوزي في المراد بكونها شفاء للعين قولان أحدهما أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب
138

هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين لكن اختلفوا كيف يصنع به على
رأيين أحدهما أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها حكاه أبو عبيد قال ويصدق هذا الذي حكاه
أبو عبيد أن بعض الأطباء قالوا أكل الكمأة يجلو البصر ثانيهما أن تؤخذ فتشق وتوضع على
الجمر حتى يغلي ماؤها ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر فيكتحل بمائها لان النار تلطفه
وتذهب فضلاته الرديئة ويبقى النافع منه ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع وقد
حكى إبراهيم الحربي عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكت أعينهما فأخذا كمأة
وعصراها واكتحلا بمائها فهاجت أعينهما ورمدا قال ابن الجوزي وحكى شيخنا أبو بكر بن
عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة فاكتحل به فذهبت عينه والقول الثاني أن المراد ماؤها
الذي تنبت به فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربي به الاكحال حكاه ابن الجوزي عن أبي بكر بن
عبد الباقي أيضا فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء قال ابن القيم وهذا أضعف الوجوه
(قلت) وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفا نظر فقد حكى عياض
عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلا وهو إن كان لتبريد ما يكون بالعين من
الحرارة فتستعمل مفردة وإن كان لغير ذلك فتستعمل مركبة وبهذا جزم ابن العربي فقال
الصحيح أنه ينفع بصورته في حال وبإضافته في أخرى وقد جرب ذلك فوجد صحيحا نعم جزم
الخطابي بما قال ابن الجوزي فقال تربى بها التوتياء وغيرها من الاكحال قال ولا تستعمل صرفا
فإن ذلك يؤذي العين وقال الغافقي في المفردات ماء الكمأة أصلح الأدوية للعين إذا عجن به الأثمد
واكتحل به فإنه يقوي الجفن ويزيد الروح الباصر حدة وقوة ويدفع عنها النوازل وقال
النووي الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه قال وقد رأيت أنا
وغيري في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة مجردا فشفي وعاد إليه
بصره وهو الشيخ العدل الأمين الكمال بن عبد الدمشقي صاحب صلاح ورواية في الحديث وكان
استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به فنفعه الله به (قلت) الكمال المذكور هو كمال الدين
ابن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر يعرف بابن عبد بغير إضافة الحارثي الدمشقي من أصحاب
أبي طاهر الخشوعي سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا عاش ثلاثا وثمانين سنة ومات سنة اثنتين
وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين وينبغي تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في
صحة الحديث والعمل به كما يشير إليه آخر كلامه وهو ينافي قوله أولا مطلقا وقد أخرج الترمذي في
جامعه بسند صحيح إلى قتادة قال حدثت أن أبا هريرة قال أخذت ثلاثة أكمؤ أو خمسا أو سبعا
فعصرتهن فجعلت ماءهن في قارورة فكحلت به جارية لي فبرئت وقال ابن القيم اعترف فضلاء
الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين منهم المسيحي وابن سينا وغيرهما والذي يزيل الاشكال عن
هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها من المخلوقات خلقت في الأصل سليمة من المضار ثم عرضت لها
الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى فالكمأة
في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة واستعمال
كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله ويدفع الله عنه الضرر بنيته والعكس
بالعكس والله أعلم (قوله وقال شعبة) كذا لأبي ذر بواو في أوله وصورته صورة التعليق وسقطت
139

الواو لغيره وهو أولى فإنه موصول بالاسناد المذكور وقد أخرجه مسلم عن محمد بن المثنى
شيخ البخاري فيه فأعاد الاسناد من أوله للطريق الثانية وكذا أورده أحمد عن محمد بن جعفر
بالاسنادين معا (قوله وأخبرني الحكم) هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر والحسن العرني
بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون هو ابن عبد الله البجلي كوفي وثقة أبو زرعة والعجلي وابن سعد
وقال ابن معين صدوق (قلت) وما له في البخاري إلا هذا الموضع (قوله قال شعبة لما حدثني به
الحكم لم أنكره من حديث عبد الملك) كأنه أراد أن عبد الملك كبر وتغير حفظه فلما حدث به
شعبة توقف فيه فلما تابعه الحكم بروايته ثبت عند شعبة فلم ينكره وانتفى عنه التوقف فيه وقد
تكلف الكرماني لتوجيه كلام شعبة أشياء فيها نظر أحدها أن الحكم مدلس وقد عنعن
وعبد الملك صرح بقوله سمعته فلما تقوى برواية عبد الملك لم يبق به محل للانكار (قلت) شعبة
ما كان يأخذ عن شيوخه الذين ذكر عنهم التدليس إلا ما يتحقق سماعهم فيه وقد جزم بذلك
الإسماعيلي وغيره بعد هذا الاحتمال وعلى تقدير تسليمه كان يلزم الامر بالعكس بأن يقول لما
حدثني عبد الملك لم أنكره من حديث الحكم ثانيها لم يكن الحديث منكورا لي لأني كنت
أحفظه ثالثها يحتمل العكس بأن يراد لم ينكر شيئا من حديث عبد الملك وقد ساق مسلم هذه الطريق
من أوجه أخرى عن الحكم ووقع عنده في المتن من المن الذي أنزل على بني إسرائيل وفي لفظ على
موسى وقد أشرت إلى ما في هذه الزيادة من الفائدة في الكلام على هذا الحديث في تفسير سورة
البقرة (قوله باب اللدود) بفتح اللام وبمهملتين هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي
فم المريض واللدود بالضم الفعل ولددت المريض فعلت ذلك به وتقدم شرح الحديث الأول
مستوفى في باب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وبيان ما لدوه صلى الله عليه وسلم به وبيان من عرف
اسمه مما كان في البيت ولد لامره صلى الله عليه وسلم بذلك فأغنى عن إعادته وأما الحديث الثاني
فسيأتي شرحه في باب العذرة قريبا (قوله باب) كذا لهم بغير ترجمة وذكر فيه
حديث عائشة لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي
الحديث وقد تقدم شرحه في الوفاة النبوية ومن قبل ذلك في كتاب الطهارة والغرض منه هنا
قوله هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن وقد تقدم بيان الحكمة فيه في الطهارة وقد
استشكل ابن بطال مناسبة حديث هذا الباب لترجمة الذي قبله بعد أن تقرر أن الباب إذا كان بلا
140

ترجمة يكون كالفصل من الذي قبله وأجاب باحتمال أن يكون أشار إلى أن الذي يفعل بالمريض
بأمره لا يلزم فاعل ذلك لوم ولا قصاص لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بصب الماء على كل من
حضره بخلاف ما نهى عنه أن لا يفعل به لان فعله جناية عليه فيكون فيه القصاص (قلت) ولا
يخفى بعده ويمكن أن يقرب بأن يقال أولا إنه أشار إلى أن الحديث عن عائشة في مرض النبي صلى
الله عليه وسلم وما اتفق له فيه واحد ذكره بعض الرواة تاما واقتصر بعضهم على بعضه وقصة
اللدود كانت عندما أغمي عليه وكذلك قصة السبع قرب لكن اللدود كان نهى عنه ولذلك عاتب
عليه بخلاف الصب فإنه كان أمر فلم ينكر عليهم فيؤخذ منه أن المريض إذا كان عارفا لا يكره
على تناول شئ ينهى عنه ولا يمنع من شئ يأمر به (قوله باب العذرة) بضم المهملة
وسكون الذال المعجمة هو وجع الحلق وهو الذي يسمى سقوط اللهاة وقيل هو اسم اللهاة والمراد
وجمعها سمي باسمها وقيل هو موضع قريب من اللهاة واللهاه بفتح اللام اللحمة التي في أقصى
الحلق (قوله وكانت من المهاجرات الخ) يشبه أن يكون الوصف من كلام الزهري فيكون
مدرجا ويحتمل أن يكون من كلام شيخه فيكون موصولا وهو الظاهر (قوله بابن لها) تقدم في
باب السعوط أنه الابن الذي بال في حجر النبي صلى الله عليه وسلم (قوله قد أعلقت عليه) تقدم
قبل بباب من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري بلفظ أعلقت عنه وفيه قلت لسفيان فإن
معمرا يقول أعلقت عليه قال لم يحفظ إنما قال أعلقت عنه حفظته من في الزهري ووقع هنا
معلقا من رواية يونس وهو ابن يزيد وإسحق ابن راشد عن الزهري علقت عليه بتشديد اللام
والصواب أعلقت والاسم العلاق بفتح المهملة وكذا وقع في رواية سفيان الماضية بهذا
العلاق كذا للكشميهني ولغيره الاعلاق ورواية يونس المعلقة هنا وصلها أحمد ومسلم ورواية
إسحق بن راشد وصلها المؤلف في باب ذات الجنب وسيأتي قريبا ورواية معمر التي سأل عنها علي
ابن عبد الله سفيان أخرجها أحمد عن عبد الرزاق عنه لكن بلفظ جئت بابن لي قد أعلقت عنه
قال عياض وقع في البخاري أعلقت وعلقت والعلاق والأعلاق ولم يقع في مسلم إلا أعلقت وذكر
العلاق في رواية والأعلاق في رواية والكل بمعنى جاءت به الروايات لكن أهل اللغة إنما يذكرون
أعلقت والأعلاق رباعي وتفسيره غمز العذرة وهي اللهاة بالإصبع ووقع في رواية يونس عند
مسلم قال أعلقت غمزت وقوله في الحديث علام أي لأي شئ (قوله تدغرن) خطاب للنسوة
وهو بالغين المعجمة والدال المهملة والدغر غمز الحلق (قوله عليكم) في رواية الكشميهني عليكن
(قوله بهذا العود الهندي يريد الكست) في رواية إسحق بن راشد يعني القسط قال
وهي لغة (قلت) وقد تقدم ما فيها في باب السعوط بالقسط الهندي ووقع في رواية سفيان
الماضية قريبا قال فسمعت الزهري يقول بين لنا اثنتين ولم يبين لنا خمسة يعني من السبعة في
قوله فإن فيه سبعة أشفية فذكر منها ذات الجنب ويسعط من العذرة (قلت) وقد قدمت في باب
السعوط من كلام الأطباء ما لعله يؤخذ منه الخمسة المشار إليها (قوله باب دواء
المبطون) المراد بالمبطون من اشتكى بطنه لافراط الاسهال وأسباب ذلك متعددة (قوله
قتادة عن أبي المتوكل) كذا لشعبة وسعيد بن أبي عروبة وخالفهما شيبان فقال عن قتادة
عن أبي بكر الصديق عن أبي سعيد أخرجه النسائي ولم يرجح والذي يظهر ترجيح طريق أبي
141

المتوكل لاتفاق الشيخين عليها شعبة وسعيد أولا ثم البخاري ومسلم ثانيا ووقع في رواية أحمد عن
حجاج عن شعبة عن قتادة سمعت أبا المتوكل (قوله جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
إن أخي) لم أقف على اسم واحد منهما (قوله استطلق بطنه) بضم المثناة وسكون الطاء المهملة
وكسر اللام بعدها قاف أي كثر خروج ما فيه يريد الاسهال ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة في
رابع باب من كتاب الطب هذا ابن أخي يشتكي بطنه ولمسلم من طريقه قد عرب بطنه وهي بالعين
المهملة والراء المكسورة ثم الموحدة أي فسد هضمه لاعتلال المعدة ومثله ذرب بالذال المعجمة بدل
العين وزنا ومعنى (قوله فقال اسقه عسلا) وعند الإسماعيلي من طريق خالد بن الحرث عن
شعبة اسقه العسل واللام عهدية والمراد عسل النحل وهو مشهور عندهم وظاهره الامر بسقيه
صرفا ويحتمل أن يكون ممزوجا (قوله فسقاه فقال أني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا) كذا فيه وفي
السياق حذف تقديره فسقاه فلم يبرأ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني سقيته ووقع في رواية
مسلم فسقاه ثم جاء فقال أني سقيته فلم يزدد إلا استطلاقا أخرجه عن محمد بن بشار الذي أخرجه
البخاري عنه لكن قرنه بمحمد بن المثنى وقال أن اللفظ لمحمد بن المثنى نعم أخرجه الترمذي عن محمد
ابن بشار وحده بلفظ ثم جاء فقال يا رسول الله اني قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا (قوله فقال
صدق الله) كذا اختصره وفي رواية الترمذي فقال اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فذكر مثله فقال
صدق الله وفي رواية مسلم فقال له ثلاث مرات ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا فقال سقيته فلم
يزده إلا استطلاقا فقال صدق الله وعند أحمد عن يزيد بن هارون عن شعبة فذهب ثم جاء فقال
قد سقيته فلم يزده الا استطلاقا فقال اسقه عسلا فساقه كذلك ثلاثا وفيه فقال في الرابعة اسقه
عسلا وعند الإسماعيلي من رواية خالد بن الحرث ثلاث مرات يقول فيهن ما قال في الأولى وتقدم
في رواية سعيد بن أبي عروبة بلفظ ثم أتاه الثانية فقال اسقه عسلا ثم أتاه الثالثة (قوله فقال
صدق الله وكذب بطن أخيك) زاد مسلم في روايته فسقاه فبرأ وكذا للترمذي وفي رواية أحمد عن
يزيد بن هارون فقال في الرابعة اسقه عسلا قال فأظنه قال فسقاه فبرأ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك كذا وقع ليزيد بالشك وفي رواية خالد بن الحرث
فقال في الرابعة صدق الله وكذب بطن أخيك والذي اتفق عليه محمد بن جعفر ومن تابعه أرجح
وهو أن هذا القول وقع منه صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة وأمره أن يسقيه عسلا فسقاه في
الرابعة فبرأ وقد وقع في رواية سعيد بن أبي عروبة ثم أتاه الثالثة فقال اسقه عسلا ثم أتاه فقال قد
فعلت فسقاه فبرأ (قوله تابعه النضر) يعني ابن شميل بالمعجمة مصغر (عن شعبة) وصله إسحاق بن
راهويه في مسنده عن النضر قال الإسماعيلي وتابعه أيضا يحيى بن سعيد وخالد بن الحرث ويزيد
ابن هارون (قلت) رواية يحيى عند النسائي في الكبرى ورواية خالد عند الإسماعيلي عن أبي يعلى
ورواية يزيد عند أحمد وتابعهم أيضا حجاج بن محمد وروح بن عبادة وروايتهما عند أحمد أيضا قال
الخطابي وغيره أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ يقال كذب سمعك أي زل فلم يدرك
حقيقة ما قيل له فمعنى كذب بطنه أي لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه وقد اعترض بعض
الملاحدة فقال العسل مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الاسهال والجواب أن ذلك جهل من
قائله بل هو كقوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعمله فقد أتفق الأطباء على أن المرض الواحد
142

يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة وعلى أن
الاسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة
وفعلها فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة فكأن هذا الرجل كان استطلاق
بطنه عن تخمة أصابته فوصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي
المعدة والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع
استقرار الغذاء فيها وللمعدة خمل كخمل المنشفة فإذا علقت بها الاخلاط اللزجة أفسدتها
وأفسدت الغذاء الواصل إليها فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الاخلاط ولا شئ في ذلك مثل
العسل لا سيما أن مزج بالماء الحار وإنما لم يفده في أول مرة لان الدواء يجب أن يكون له مقدار
وكمية بحسب الداء إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أو هي القوة وأحدث ضررا آخر فكأنه
شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء فأمره بمعاودة سقيه فلما تكررت الشربات بحسب مادة
الداء برأ بإذن الله تعالى وفي قوله صلى الله عليه وسلم وكذب بطن أخيك إشارة إلى أن هذا الدواء
نافع وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ولكن لكثرة المادة الفاسدة فمن ثم أمره بمعاودة
شرب العسل لاستفراغها فكان كذلك وبرأ بإذن الله قال الخطابي والطب نوعان طب
اليونان وهو قياسي وطب العرب والهند وهو تجاربي وكان أكثر ما يصفه النبي صلى الله عليه
وسلم لمن يكون عليلا على طريقة طب العرب ومنه ما يكون مما اطلع عليه بالوحي وقد قال
صاحب كتاب المائة في الطب إن العسل تارة يجري سريعا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء
ويدر البول فيكون قابضا وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن
فيكون مسهلا فانكار وصفه للمسهل مطلقا قصور من المنكر وقال غيره طب النبي صلى الله
عليه وسلم متيقن البرء لصدوره عن الوحي وطب غيره أكثره حدس أو تجربة وقد يتخلف
الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة وذلك لمانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به
وتلقيه بالقبول وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن الذي هو شفاء لما في الصدور ومع ذلك فقد لا يحصل
لبعض الناس شفاء صدره لقصوره في الاعتقاد والتلقي بالقبول بل لا يزيد المنافق ألا رجسا إلى
رجسه ومرضا إلى مرضه فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة كما أن شفاء القرآن
لا يناسب إلا القلوب الطيبة والله أعلم وقال ابن الجوزي في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل
لهذا المنسهل أربعة أقوال أحدها أنه حمل الآية على عمومها في الشفاء وإلى ذلك أشار بقوله
صدق الله أي في قوله فيه شفاء للناس فلما نبهه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفي بإذن الله
الثاني أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها
الثالث أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره الرابع يحتمل أن يكون أمره بطبخ
العسل قبل شربه فإنه يعقد البلغم فلعله شربه أولا بغير طبخ انتهى والثاني والرابع ضعيفان وفي
كلام الخطابي احتمال آخر وهو أن يكون الشفاء يحصل للمذكور ببركة النبي صلى الله عليه
وسلم وبركة وصفه ودعائه فيكون خاصا بذلك الرجل دون غيره وهو ضعيف أيضا ويؤيد الأول
حديث ابن مسعود عليكم بالشفاءين العسل والقرآن أخرجه ابن ماجة والحاكم مرفوعا
وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم موقوفا ورجاله رجال الصحيح وأثر علي إذا اشتكى أحدكم
143

. فليستوهب من امرأته من صداقها فليشتر به عسلا ثم يأخذ ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا شفاء
مباركا أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن قال ابن بطال يؤخذ من قوله صدق الله
وكذب بطن أخيك أن الألفاظ لا تحمل على ظاهرها إذ لو كان كذلك لبرئ العليل من أول شربة
فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار دل على أن الألفاظ تقتصر على معانيها (قلت) ولا يخفى تلكف هذا
الانتزاع وقال أيضا فيه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها
الداء وقال غيره في قوله في رواية سعيد بن أبي عروبة فسقاه فبرأ بفتح الراء والهمز بوزن قرأ وهي
لغة أهل الحجاز وغيرهم يقولها بكسر الراء بوزن علم وقد وقع في رواية أبي الصديق الناجي في آخره
فسقاه فعافاه الله والله أعلم (قوله باب لا صفر وهو داء يأخذ البطن) كذا جزم
بتفسير الصفر وهو بفتحتين وقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن يونس
ابن عبيد الجرمي أنه سأل رؤبة بن العجاج فقال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس
وهي أعدى من الجرب عند العرب فعلى هذا فالمراد بنفي الصفر ما كانوا يعتقدونه فيه من
العدوي ورجح عند البخاري هذا القول لكونه قرن في الحديث بالعدوى وكذا رجح الطبري هذا
القول واستشهد له بقول الأعشى * ولا يعض على شرسوفه الصفر * والشرسوف بضم المعجمة
وسكون الراء ثم مهملة ثم فاء الضلع والصفر دود يكون في الجوف فربما عض الضلع أو الكبد
فقتل صاحبه وقيل المراد بالصفر الحية لكن المراد بالنفي نفي ما كانوا يعتقدون أن من أصابه قتله
فرد ذلك الشارع بأن الموت لا يكون إلا إذا فرغ الاجل وقد جاء هذا التفسير عن جابر وهو أحد
رواة حديث لا صفر قاله الطبري وقيل في الصفر قول آخر وهو أن المراد به شهر صفر وذلك أن
العرب كانت تحرم صفر وتستحل المحرم كما تقدم في كتاب الحج فجاء الاسلام برد ما كانوا يفعلونه
من ذلك فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لا صفر قال ابن بطال وهذا القول مروي عن مالك
والصفر أيضا وجع في البطن يأخذ من الجوع ومن اجتماع الماء الذي يكون منه الاستسقاء
ومن الأول حديث صفرة في سبيل الله خير من حمر النعم أي جوعة ويقولون صفر الاناء إذا خلا
عن الطعام ومن الثاني ما سبق في الأشربة في حديث ابن مسعود أن رجلا أصابه الصفر فنعت
له السكر أي حصل له الاستسقاء فوصف له النبيذ وحمل الحديث على هذا لا يتجه بخلاف ما سبق
وسيأتي شرح الهامة والعدوي كل منهما في باب مفرد (قوله عن صالح) هو ابن كيسان وقوله
أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وغيره وقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن صالح
ابن كيسان عند مسلم في هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة وقوله في آخر الباب رواه الزهري عن أبي
سلمة وسنان بن أبي سنان يعني كلاهما عن أبي هريرة وسيأتي ذلك في باب لا عدوى من رواية شعيب
عن الزهري عنهما وفيه تفصيل لفظ أبي سلمة من لفظ سنان ويأتي البحث فيه هناك إن شاء الله
تعالى (قوله باب ذات الجنب) هو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للاضلاع
وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في
الصدر والأضلاع فتحدث وجعا فالأول هو ذات الجنب الحقيقي الذي تكلم عليه الأطباء قالوا
ويحدث بسببه خمسة أعراض الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري ويقال
لذات الجنب أيضا وجع الخاصرة وهي من الأمراض المخوفة لأنها تحدث بين القلب والكبد
144

وهي من سئ الأسقام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ما كان الله ليسلطها علي والمراد بذات
الجنب في حديثي الباب الثاني لان القسط وهو العود الهندي كما تقدم بيانه قريبا هو الذي يداوى
به الريح الغليظة قال المسبحي العود حار يابس قابض يحبس البطن ويقوي الأعضاء الباطنة
ويطرد الريح ويفتح السدد ويذهب فضل الرطوبة قال ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب
الحقيقي أيضا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية ولا سيما في وقت انحطاط العلة ثم ذكر المؤلف
في الباب حديثين * أحدهما حديث أم قيس بنت محصن في قصة ولدها والأعلاق عليه من العذرة
وقد تقدم شرح ذلك وبيانه قبل ببابين وقوله في أوله حدثنا محمد هو الذهلي وقوله عتاب بن بشير
بمهملة ومثناة ثقيلة وآخره موحدة وأبوه بموحدة ومعجمة وزن عظيم وشيخه إسحق هو ابن راشد
الجزري وقوله في آخره يريد الكست يعني القسط قال وهي لغة هو تفسير العود الهندي بأنه القسط
والقائل قال هي لغة هو الزهري * ثانيهما حديث أنس (قوله حدثنا عارم) هو محمد بن الفضل
أبو النعمان السدوسي وحماد هو ابن زيد (قوله قرئ على أيوب) هو السختياني (قوله من كتب
أبي قلابة منه ما حدث به ومنه ما قرئ عليه فكان هذا في الكتاب) أي كتاب أبي قلابة كذا للأكثر
ووقع في رواية الكشميهني بدل قوله في الكتاب قرأ الكتاب وهو تصحيف ووقع عند الإسماعيلي
بعد قوله في الكتاب غير مسموع ولم أر هذه اللفظة في شئ من نسخ البخاري (قوله عن أنس) هو
ابن مالك (قوله أن أبا طلحة) هو زيد بن سهل زوج والدة أنس أم سليم وأنس بن النضر هو عم
أنس بن مالك (قوله كوياه وكواه أبو طلحة بيده) نسب الكي إليهما معا لرضاهما به ثم نسب الكي
لأبي طلحة وحده لمباشرته له وعند الإسماعيلي من وجه آخر عن أيوب وشهدني أبو طلحة وأنس
ابن النضر وزيد بن ثابت (قوله وقال عباد بن منصور) هو الناجي بالنون والجيم وأراد بهذا
التعليق فائدة من جهة الاسناد وأخرى من جهة المتن أما الاسناد فبين أن حماد بن زيد بين
في روايته صورة أخذ أيوب هذا الحديث عن أبي قلابة وأنه كان قرأه عليه من كتابه وأطلق عباد
ابن منصور روايته بالعنعنة وأما المتن فلما فيه من الزيادة وهي أن الكي المذكور كان بسبب ذات
الجنب وأن ذلك كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن زيد بن ثابت كان فيمن حضر ذلك
وفي رواية عباد بن منصور زيادة أخرى في أوله أفردها بعضهم وهي حديث أذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والاذن وليس لعباد بن منصور وكنيته
أبو سلمة في البخاري سوى هذا الموضع المعلق وهو من كبار أتباع التابعين تكلموا فيه من عدة
جهات إحداها أنه رمى بالقدر لكنه لم يكن داعية ثانيها أنه كان يدلس ثالثها أنه قد تغير حفظه
وقال يحيى القطان لما رأيناه كان لا يحفظ ومنهم من أطلق ضعفه وقد قال ابن عدي هو من جملة
من يكتب حديثه ووصل الحديث المذكور أبو يعلى عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن ريحان
ابن سعيد عن عباد بطوله وأخرجه عند الإسماعيلي كذلك وفرقه البزار حديثين وقال في كل
منهما تفرد به عباد بن منصور والحمة بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وقد تشدد وأنكره الأزهري
هي السم وقد تقدم شرحها في باب من اكتوى وسيأتي الكلام على حكمها في باب رقية الحية
والعقرب بعد أبواب وأما رقية الاذن فقال ابن بطال المراد وجع الاذن أي رخص في رقية الاذن
إذا كان بها وجع وهذا يرد على الحصر الماضي في الحديث المذكور في باب من اكتوى حيث قال
145

لا رقية إلا من عين أو حمة فيجوز أن يكون رخص فيه بعد أن منع منه ويحتمل أن يكون المعنى
لا رقية أنفع من رقية العين والحمة ولم يرد نفي الرقي عن غيرهما وحكى الكرماني عن ابن بطال أنه
ضبطه الأدر بضم الهمزة وسكون المهملة بعدها راء وأنه جمع أدرة وهي نفخة الخصية قال وهو
غريب شاذ انتهى ولم أر ذلك في كتاب ابن بطال فليحرر ووقع عند الإسماعيلي في سياق رواية
عباد بن منصور بلفظ أن يرقوا من الحمة وأذن برقية العين والنفس فعلى هذا فقوله والاذن
في الرواية المعلقة تصحيف من قوله أذن فعل ماضي من الاذن لكن زاد الإسماعيلي في رواية من
هذا الوجه وكان زيد بن ثابت يرقى من الاذن والنفس فالله أعلم وسيأتي بعد أبواب باب رقية العين
وغير ذلك وقوله رخص لأهل بيت من الأنصار هم آل عمرو بن حزم وقع ذلك عند مسلم من حديث
جابر والمخاطب بذلك منهم عمارة بن حزم كما بينته في ترجمته في كتاب الصحابة (قوله
باب حرق الحصير) كذا لهم وأنكره ابن التين فقال والصواب إحراق الحصير لأنه من
أحرق أو تحريق من حرق قال فأما الحرق فهو حرق الشئ يؤذيه (قلت) لكن له توجيه وقوله
ليسد به الدم هو بالسين المهملة أي مجاري الدم أو ضمن سد معنى قطع وهو الوجه وكأنه أشار إلى
أن هذا ليس من إضاعة المال لأنه إنما يفعل للضرورة المبيحة وقد كان أبو الحسن القابسي
يقول وددنا لو علمنا ذلك الحصير مما كان لنتخذه دواء لقطع الدم قال ابن بطال قد زعم أهل الطب
أن الحصير كلها إذا أحرقت تبطل زيادة الدم بل الرماد كله كذلك لان الرماد من شأنه القبض
ولهذا ترجم الترمذي لهذا الحديث التداوي بالرماد وقال المهلب فيه أن قطع الدم بالرماد كان
معلوما عندهم لا سيما إن كان الحصير من ديس السعد فهي معلومة بالقبض وطيب الرائحة
فالقبض يسد أفواه الجرح وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم وأما غسل الدم أولا فينبغي أن يكون
إذا كان الجرح غير غائر أما لو كان غائرا فلا يؤمن معه ضرر الماء إذا صب فيه وقال الموفق عبد
اللطيف الرماد فيه تجفيف وقلة لذع والمجفف إذا كان فيه قوة لذع ربما هيج الدم وجلب الورم
ووقع عند ابن ماجة من وجه آخر عن سهل بن سعد أحرقت له حين لم يرقأ قطعة حصير خلق
فوضعت رماده عليه وقد تقدم شرح حديث الباب وهو حديث سهل بن سعد في غسل فاطمة
وجه النبي صلى الله عليه وسلم من الدم لما جرح يوم أحد في كتاب الجهاد وقوله في آخر الحديث
فرقأ بقاف وهمزة أي بطل خروجه وفي رواية فاستمسك الدم (قوله باب الحمى
من فيح جهنم) بفتح الفاء وسكون التحتانية بعدها مهملة وسيأتي في حديث رافع آخر الباب من
فوح بالواو وتقدم من حديثه في صفة النار بلفظ فور بالراء بدل الحاء وكلها بمعنى والمراد سطوع
حرها ووجهه والحمى أنواع كما سأذكره واختلف في نسبتها إلى جهنم فقيل حقيقة واللهب الحاصل
في جسم المحموم قطعة من جهنم وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك كما أن أنواع
الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة وقد جاء في حديث أخرجه البزار من
حديث عائشة بسند حسن وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد وعن أبي ريحانة عند الطبراني
وعن ابن مسعود في مسند الشهاب الحمى حظ المؤمن من النار وهذا كما تقدم في حديث الامر
بالايراد أن شدة الحر من فيح جهنم وأن الله أذن لها بنفسين وقيل بل الخبر ورد مورد التشبيه
والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم تنبيها للنفوس على شدة حر النار وأن هذه الحرارة الشديدة
146

شبيهة بفيحها وهو ما يصيب من قرب منها من حرها كما قيل بذلك في حديث الايراد والأول أولى
والله أعلم ويؤيده قول ابن عمر في آخر الباب وذكر المصنف فيه أربعة أحاديث * الحديث الأول
حديث ابن عمر أخرجه من طريق عبد الله بن وهب عن مالك وكذا مسلم وأخرجه النسائي من
طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك قال الدارقطني في الموطآت لم يروه من أصحاب مالك
في الموطأ الا ابن وهب وابن القاسم وتابعهما الشافعي وسعيد بن عفير وسعيد بن داود قال ولم يأت به
معن ولا القعنبي ولا أبو مصعب ولا ابن بكير انتهى وكذا قال ابن عبد البر في التقصي وقد أخرجه
شيخنا في تقريبه من رواية أبي مصعب عن مالك وهو ذهول منه لأنه اعتمد فيه على الملخص
للقابسي والقابسي إنما أخرج الملخص من طريق ابن القاسم عن مالك وهذا ثاني حديث عثرت
عليه في تقريب الأسانيد لشيخنا عفا الله تعالى عنه من هذا الجنس وقد نبهت عليه نصيحة لله
تعالى والله أعلم وقد أخرجه الدارقطني والإسماعيلي من رواية حرملة عن الشافعي وأخرجه
الدارقطني من طريق سعيد بن عفير ومن طريق سعيد بن داود ولم يخرجه ابن عبد البر في التمهيد
لأنه ليس في رواية يحيى بن يحيى الليثي والله أعلم (قوله فأطفؤا) بهمزة قطع ثم طاء مهملة
وفاء مكسورة ثم همزة أمر بالاطفاء وتقدم في رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في صفة النار من بدء
الخلق بلفظ فأبردوها والمشهور في ضبطها بهمزة وصل والراء مضمومة وحكى كسرها يقال
بردت الحمى أبردها بردا بوزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها قال شاعر الحماسة
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي * أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره * فمن لنار على الأحشاء تتقد
وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من أبرد الشئ إذا عالجه فصيره باردا مثل
أسخنة إذا صيره سخنا وقد أشار إليها الخطابي وقال الجوهري أنها لغة رديئة (قوله بالماء)
في حديث أبي هريرة عند ابن ماجة بالماء البارد ومثله في حديث سمرة عند أحمد ووقع في حديث
ابن عباس بماء زمزم كما مضى في صفة النار من رواية أبي جمرة بالجيم قال كنت أجالس ابن عباس
بمكة فأخذتني الحمى وفي رواية أحمد كنت أدفع الناس عن ابن عباس فاحتبست أياما فقال
ما حبسك قلت الحمى قال أبردها بماء زمزم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحمى من فيح
جهنم فأبردوها بالماء أو بماء زمزم شك همام كذا في رواية البخاري من طريق أبي عامر العقدي
عن همام وقد تعلق به من قال بأن ذكر ماء زمزم ليس قيدا لشك رواية فيه وممن ذهب إلى ذلك
ابن القيم وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام فأبردوها بماء زمزم ولم يشك وكذا
أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم من رواية عفان وأن كان الحاكم وهم في استدراكه وترجم له
ابن حبان بعد إيراده حديث ابن عمر فقال ذكر الخبر المفسر للماء المجمل في الحديث الذي قبله وهو أن
شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه وساق حديث ابن عباس وقد تعقب على تقدير أن
لا شك في ذكر ماء زمزم فيه بأن الخطاب لأهل مكة خاصة لتيسر ماء زمزم عندهم كما خص الخطاب
بأصل الامر بأهل البلاد الحارة وخفي ذلك على بعض الناس قال الخطابي ومن تبعه اعترض
بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث بأن قال اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك لأنه
يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون ذلك سببا للتلف قال
147

الخطابي غلط بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاحتقنت الحرارة في باطن
بدنه فأصابته علة صعبة كادت تهلكه فلما خرج من علته قال قولا سيأ لا يحسن ذكره وإنما أوقعه
في ذلك جهله بمعنى الحديث والجواب أن هذا الاشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر
فيقال له أولا من أين حملت الامر على الاغتسال وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلا
عن اختصاصها بالغسل وإنما في الحديث الارشاد إلى تبريد الحمى بالماء فإن أظهر الوجود أو اقتضت
صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد وإنما
قصد صلى الله عليه وسلم استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به
وهو كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق
الاغتسال وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى
ما صنعته أسماء بنت الصديق فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه فيكون
ذلك من باب النشرة المأذون فيها والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي هي ممن كان يلازم بيت النبي صلى
الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها ولعل هذا هو السر في إيراد البخاري لحديثها عقب حديث
ابن عمر المذكور وهذا من بديع ترتيبه وقال المازري ولا شك أن علم الطب من أكثر العلوم
احتياجا إلى التفضيل حتى أن المريض يكون الشئ دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي
تليها لعارض يعرض له من غضب يحمى مزاجه مثلا فيتغير علاجه ومثل ذلك كثير فإذا فرض
وجود الشفاء لشخص بشئ في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال
والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء
المتقدم والتأثير المألوف وقوة الطباع ثم ذكر نحو ما تقدم قالوا وعلى تقدير أن يرد التصريح
بالاغتسال في جميع الجسد فيجاب بأنه يحتمل أن يكون أراد أنه يقع بعد إقلاع الحمى وهو بعيد
ويحتمل أن يكون في وقت مخصوص بعدد مخصوص فيكون من الخواص التي اطلع صلى الله
عليه وسلم عليها بالوحي ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب وقد أخرج الترمذي من
حديث ثوبان مرفوعا إذا أصاب أحدكم الحمى وهي قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء يستنقع
في نهر جار ويستقبل جريته وليقل بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك بعد صلاة الصبح
قبل طلوع الشمس ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام فإن لم يبرأ فخمس وإلا فسبع وإلا فتسع
فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله قال الترمذي غريب قلت وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف
فيه قال ويحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض الأماكن دون بعض لبعض
الاشخاص دون بعض وهذا أوجه فإن خطابه صلى الله عليه وسلم قد يكون عاما وهو الأكثر
وقد يكون خاصا كما قال لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا فقوله شرقوا
أو غربوا ليس عاما لجميع أهل الأرض بل هو خاص لمن كان بالمدينة النبوية وعلى سمتها كما تقدم
تقريره في كتاب الطهارة فكذلك هذا يحتمل أن يكون مخصوصا بأهل الحجاز وما والاهم إذ كان
أكثر الحميات التي تعرض لهم من العرضية الحادثة عن شدة الحرارة وهذه ينفعها الماء البارد
شربا واغتسالا لان الحمى حرارة غربية تشتعل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم
في العروق إلى جميع البدن وهي قسمان عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة
148

الشمس أو القيظ الشديد ونحو ذلك ومرضية وهي ثلاثة أنواع وتكون عن مادة ثم منها ما يسخن
جميع البدن فإن كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم لأنها تقع غالبا في يوم ونهايتها إلى ثلاث
وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية فهي حمى دق وهي أخطرها وأن كان تعلقها بالأخلاط سميت
عفنية وهي بعدد الاخلاط الأربعة وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الافراد
والتركيب وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول فإنها تسكن بالانغماس في الماء
البارد وشرب الماء المبرد بالثلج وبغيره ولا يحتاج صاحبها إلى علاج آخر وقد قال جالينوس في كتاب
حيلة البرء لو أن شابا حسن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه
وقت القيظ عند منتهى الحمى لا ينتفع بذلك وقال أبو بكر الرازي إذا كانت القوي قوية والحمى
حادة والنضج بين ولا ورم في الجوف ولا فتق فإن الماء البارد ينفع شربه فإن كان العليل خصب
البدن والزمان حارا وكان معتادا باستعمال الماء البارد اغتسالا فليؤذن له فيه وقد نزل ابن القيم
حديث ثوبان على هذه القيود فقال هذه الصفة تنفع في فصل الصيف في البلاد الحارة في الحمى
العرضية أو الغب الخالصة التي لا ورم معها ولا شئ من الاعراض الردئية والمراد الفاسدة فيطفئها
بإذن الله فإن الماء في ذلك الوقت أبرد ما يكون لبعده عن ملاقاة الشمس ووفور القوى في ذلك
الوقت لكونه عقب النوم والسكون وبرد الهواء قال والأيام التي أشار إليها هي التي يقع فيها بحرارة
الأمراض الحادة غالبا ولا سيما في البلاد الحارة والله أعلم قالوا وقد تكرر في الحديث استعماله
صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته كما قال صبوا علي من سبع قرب لم تحلل أو كيتهن وقد
تقدم شرحه وقال سمرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها
على قرنه فاغتسل أخرجه البزار وصححه الحاكم ولكن في سنده راو ضعيف وقال أنس إذا حم
أحدكم فليشن عليه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال أخرجه الطحاوي وأبو نعيم في الطب
والطبراني في الأوسط وصححه الحاكم وسنده قوي وله شاهد من حديث أم خالد بنت سعيد أخرجه
الحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الطب من طريقه وقال عبد الرحمن بن المرقع رفعه الحمى
رائد الموت وهي سجن الله في الأرض فبردوا لها الماء في الشنان وصبوه عليكم فيما بين الاذنين
المغرب والعشاء قال ففعلوا فذهب عنهم أخرجه الطبراني وهذه الأحاديث كلها ترد التأويل
الذي نقله الخطابي عن ابن الأنباري أنه قال المراد بقوله فأبردوها الصدقة به قال ابن القيم
أظن الذي حمل قائل هذا أنه أشكل عليه استعمال الماء في الحمى فعدل إلى هذا وله وجه حسن
لان الجزاء من جنس العمل فكأنه لما أخمد لهيب العطشان بالماء أخمد الله لهيب الحمى عنه
ولكن هذا يؤخذ من فقه الحديث وإشارته وأما المراد به بالأصل فهو استعماله في البدن حقيقة
كما تقدم والله أعلم (قوله قال نافع وكان عبد الله) أي ابن عمر (يقول اكشف عنا الرجز) أي
العذاب وهذا موصول بالسند الذي قبله وكأن ابن عمر فهم من كون أصل الحمى من جهنم أن
من أصابته عذب بها وهذا التعذيب يختلف باختلاف محله فيكون للمؤمن تكفيرا لذنوبه
وزيادة في أجوره كما سبق وللكافر عقوبة وانتقاما وإنما طلب ابن عمر كشفه مع ما فيه من الثواب
لمشروعية طلب العافية من الله سبحانه إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه من
غير أن يصيبه شئ يشق عليه والله أعلم * الحديث الثاني (قوله عن هشام) هو ابن عروة بن الزبير
149

وفاطمة بنت المنذر أي ابن الزبير هي بنت عمه وزوجته وأسماء بنت أبي بكر جدتهما لأبويهما معا
(قوله بينها وبين جيبها) بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة هو ما يكون مفرجا من
الثوب كالكم والطوق وفي رواية عبدة عن هشام عند مسلم فتصبه في جيبها (قوله إن نبردها)
بفتح أوله وضم الراء الخفيفة وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد الراء من التبريد
وهو بمعنى رواية أبرد بهمزة مقطوعة زاد عبدة في روايته وقال أنها من فيح جهنم * الحديث
الثالث حديث عائشة (قوله يحيى) هو القطان وهشام هو ابن عروة أيضا وأشار بإيراد روايته
هذه عقب الأولى إلى أنه ليس اختلافا على هشام بل له في هذا المتن إسنادان بقرينة مغايرة
السياقين * الحديث الرابع حديث رافع بن خديج (قوله من فيح جهنم) في رواية السرخسي
من فوح بالواو وتقدم في صفة النار من بدء الخلق من هذا الوجه بلفظ من فور وكلها بمعنى وتقدم
هناك بلفظ فأبردوها عنكم بزيادة عنكم وكذا زادها مسلم في روايته عن هناد بن السري عن
أبي الأحوص بالسند المذكور هنا (قوله باب من خرج من أرض لا تلايمه)
بتحتانية مكسورة وأصله بالهمز ثم كثر استعماله فسهل وهو من الملائمة بالمد أي الموافقة وزنا
ومعنى وذكر فيه قصة العرنيين وقد تقدمت الإشارة إليها قريبا وكأنه أشار إلى أن الحديث الذي
أورده بعده في النهي عن الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ليس على عمومه وإنما
هو مخصوص بمن خرج فرارا منه كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى (قوله باب
ما يذكر في الطاعون) أي مما يصح على شرطه والطاعون بوزن فاعول من الطعن عدلوا به عن
أصله ووضعوه دالا على الموت العام كالوباء ويقال طعن فهو مطعون وطعين إذا أصابه الطاعون
وإذا أصابه الطعن بالرمح فهو مطعون هذا كلام الجوهري وقال الخليل الطاعون الوباء
وقال صاحب النهاية الطاعون المرض العام الذي يفسد له الهواء وتفسد به الأمزجة والابدان
وقال أبو بكر بن العربي الطاعون الوجع الغالب الذي يطفئ الروح كالذبحة سمي بذلك لعموم
مصابه وسرعة قتله وقال أبو الوليد الباجي هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات
بخلاف المعتاد من أمراض الناس ويكون مرضهم واحدا بخلاف بقية الأوقات فتكون
الأمراض مختلفة وقال الداودي الطاعون حبة تخرج من الارقاع وفي كل طي من الجسد
والصحيح أنه الوباء وقال عياض أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد والوباء عموم
الأمراض فسميت طاعونا لشبهها بها في الهلاك وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا
قال ويدل على ذلك أن وباء الشام الذي وقع في عمواس إنما كان طاعونا وما ورد في الحديث
أن الطاعون وخز الجن وقال ابن عبد البر الطاعون غدة تخرج في المراق والآباط وقد تخرج
في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله وقال النووي في الروضة قيل الطاعون انصباب الدم
إلى عضو وقال آخرون هو هيجان الدم وانتفاخه قال المتولي وهو قريب من الجذام من أصابه
تأكلت أعضاؤه وتساقط لحمه وقال الغزالي هو انتفاخ جميع البدن من الدم مع الحمى أو انصباب
الدم إلى بعض الأطراف فينتفخ ويحمر وقد يذهب ذلك العضو وقال النووي أيضا في تهذيبه هو
بئر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية
كدرة ويحصل معه خفقان وقئ ويخرج غالبا في المراق والآباط وقد يخرج في الأيدي والأصابع
150

وسائر الجسد وقال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سينا الطاعون مادة سمية تحدث ورما
قتالا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الاذن
أو عند الأرنبة قال وسببه دم ردئ مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد
العضو وغير ما يليه ويؤدي إلى القلب كيفية ردئية فيحدث القئ والغثيان والغشي والخفقان
وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسية
والأسود منه قل من يسلم منه وأسلمه الأحمر ثم الأصفر والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة
ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس وأما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح
ومدده (قلت) فهذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة والفقه وأهل الفقه والأطباء في تعريفه والحاصل أن
حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده وأن غير ذلك من الأمراض
العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونا بطريق المجاز لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة
الموت والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء ما سيأتي في رابع أحاديث الباب أن الطاعون
لا يدخل المدينة وقد سبق في حديث عائشة قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله وفيه قول بلال
أخرجونا إلى أرض الوباء وما سبق في الجنائز من حديث أبي الأسود قدمت المدينة في خلافة عمر
وهم يموتون موتا ذريعا وما سبق في حديث العرنيين في الطهارة أنهم استوخموا المدينة وفي لفظ
أنهم قالوا أنها أرض وبئة فكل ذلك يدل على أن الوباء كان موجودا بالمدينة وقد صرح الحديث
الأول بأن الطاعون لا يدخلها فدل على أن الوباء غير الطاعون وأن من أطلق على كل وباء طاعونا
فبطريق المجاز قال أهل اللغة الوباء هو المرض العام يقال أوبأت الأرض فهي موبئة ووبئت
بالفتح فهي وبئة وبالضم فهي موبوأة والذي يفترق به الطاعون من الوباء أصل الطاعون الذي
لم يتعرض له الأطباء ولا أكثر من تكلم في تعريف الطاعون وهو كونه من طعن الجن ولا يخالف
ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لأنه يجوز أن يكون ذلك
يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب وإنما لم يتعرض
الأطباء لكونه من طعن الجن لأنه أمر لا يدرك بالعقل وإنما يعرف من الشارع فتكلموا في ذلك
على ما اقتضته قواعدهم وقال الكلاباذي في معاني الأخبار يحتمل أن يكون الطاعون على
قسمين قسم يحصل من غلبة بعض الاخلاط من دم أو صفراء محترقة أو غير ذلك من غير سبب يكون
من الجن وقسم يكون من وخز الجن كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة
بعض الاخلاط وإن لم يكن هناك طعن وتقع الجراحات أيضا من طعن الانس انتهى ومما يؤيد
أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء
وأطيبها ماء ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لان الهواء يفسد تارة ويصح أخرى
وهذا يذهب أحيانا ويجئ أحيانا على غير قياس ولا تجربة فربما جاء سنة على سنة وربما أبطأ
سنين وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير ولا يصب
من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم ولو كان كذلك لعم جميع البدن وهذا يختص بموضع من
الجسد ولا يتجاوزه ولان فساد الهواء يقتضي تغير الاخلاط وكثرة الأسقام وهذا في الغالب
يقتل بلا مرض فدل على أنه من طعن الجن كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك منها حديث
151

أبي موسى رفعه فناء أمتي بالطعن والطاعون قيل يا رسول الله هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون
قال وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة أخرجه أحمد من رواية زياد بن علاقة عن رجل عن
أبي موسى وفي رواية له عن زياد حدثني رجل من قومي قال كنا على باب عثمان ننتظر الاذن فسمعت
أبا موسى قال زياد فلم أرض بقوله فسألت سيد الحي فقال صدق وأخرجه البزار والطبراني من
وجهين آخرين عن زياد فسميا المبهم يزيد بن الحرث وسماه أحمد في رواية أخرى أسامة بن شريك
فأخرجه من طريق أبي بكر النهشلي عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال خرجنا في بضع
عشرة نفسا من بني ثعلبة فإذا نحن بأبي موسى ولا معارضة بينه وبين من سماه يزيد بن الحرث لأنه
يحمل على أن أسامة هو سيد الحي الذي أشار إليه في الرواية الأخرى واستثبته فيما حدثه به الأول
وهو يزيد بن الحرث ورجاله رجال الصحيحين إلا المبهم وأسامة بن شريك صحابي مشهور والذي سماه
وهو أبو بكر النهشلي من رجال مسلم فالحديث صحيح بهذا الاعتبار وقد صححه ابن خزيمة والحاكم
وأخرجاه وأحمد والطبراني من وجه آخر عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال سألت عنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة ورجاله رجال الصحيح
إلا أبا بلج بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها جيم واسمه يحيى وثقه ابن معين والنسائي وجماعة
وضعفه جماعة بسبب التشيع وذلك لا يقدح في قبول روايته عند الجمهور وللحديث طريق ثالثة
أخرجها الطبراني من رواية عبد الله بن المختار عن كريب بن الحرث بن أبي موسى عن أبيه عن جده
ورجاله رجال الصحيح إلا كريبا وأباه وكريب وثقه ابن حبان وله حديث آخر في الطاعون أخرجه
أحمد وصححه الحاكم من رواية عاصم الأحول عن كريب بن الحرث عن أبي بردة بن قيس أخي أبي
موسى الأشعري رفعه اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون قال العلماء أراد
صلى الله عليه وسلم أن يحصل لامته أرفع أنواع الشهادة وهو القتل في سبيل الله بأيدي أعدائهم
إما من الانس وإما من الجن ولحديث أبي موسى شاهد من حديث عائشة أخرجه أبو يعلى من
رواية ليث بن أبي سليم عن رجل عن عطاء عنها وهذا سند ضعيف وآخر من حديث ابن عمر سنده
أضعف منه والعمدة في هذا الباب على حديث أبي موسى فإنه يحكم له بالصحة لتعدد طرقه إليه
وقوله وخز بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي قال أهل اللغة هو الطعن إذا كان غير نافذ
ووصف طعن الجن بأنه وخز لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولا ثم يؤثر في الظاهر
وقد لا ينفذ وهذا بخلاف طعن الانس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولا
ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ * (تنبيه) * يقع في الألسنة وهو في النهاية لابن الأثير تبعا لغريبي
الهروي بلفظ وخز إخوانكم ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شئ من طرق
الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الاجزاء المنثورة وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد
أو الطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم ثم ذكر
المصنف في الباب خمسة أحاديث * الأول حديث أسامة بن زيد (قوله حبيب بن أبي ثابت سمعت
إبراهيم بن سعد) أي ابن أبي وقاص وقع في سياق أحمد فيه قصة عن حبيب قال كنت بالمدينة
فبلغني أن الطاعون بالكوفة فلقيت إبراهيم بن سعد فسألته وأخرجه مسلم أيضا من هذا الوجه
وزاد فقال لي عطاء بن يسار وغيره فذكر الحديث المرفوع فقلت عمن قالوا عن عامر بن سعد
152

فأتيته فقالوا غائب فلقيت أخاه إبراهيم بن سعد فسألته (قوله سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدا)
أي والد إبراهيم المذكور ووقع في رواية الأعمش عن حبيب عن إبراهيم بن سعد عن أسامة بن
زيد وسعد أخرجه مسلم ومثله في رواية النووي عن حبيب وزاد وخزيمة بن ثابت أخرجه أحمد
ومسلم أيضا وهذا الاختلاف لا يضر لاحتمال أن يكون سعد تذكر لما حدثه به أسامة أو نسبت
الرواية إلى سعد لتصديقه أسامة وأما خزيمة فيحتمل أن يكون إبراهيم بن سعد سمعه منه بعد
ذلك فضمه إليها تارة وسكت عنه أخرى (قوله إذا سمعتم بالطاعون) وقع في رواية عامر بن سعد
ابن أبي وقاص عن أسامة في هذا الحديث زيادة على رواية أخيه إبراهيم أخرجها المصنف في ترك
الحيل من طريق شعيب عن الزهري أخبرني عامر بن سعد أنه سمع أسامة بن زيد يحدث سعدا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الوجع فقال رجز أو عذاب عذب به بعض الأمم ثم بقي منه
بقية فيذهب المرة ويأتي الأخرى الحديث وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري
وقال فيه إن هذا الوجع أو السقم وأخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل ومسلم أيضا والنسائي
من طريق مالك ومسلم أيضا من طريق الثوري ومغيرة بن عبد الرحمن كلهم عن محمد بن المنكدر
زاد مالك وسالم أبي النضر كلاهما عن عامر بن سعد أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد ماذا سمعت
من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون فقال أسامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الطاعون رجس أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم الحديث كذا وقع
بالشك ووقع بالجزم عند ابن خزيمة من طريق عمرو بن دينار عن عامر بن سعد بلفظ فإنه رجز سلط
على طائفة من بني إسرائيل وأصله عند مسلم ووقع عند ابن خزيمة بالجزم أيضا من رواية عكرمة
ابن خالد عن ابن سعد عن سعد لكن قال رجز أصيب به من كان قبلكم * (تنبيه) * وقع الرجس
بالسين المهملة موضع الرجز بالزاي والذي بالزاي هو المعروف وهو العذاب والمشهور في الذي
بالسين أنه الخبيث أو النجس أو القذر وجزم الفارابي والجوهري بأنه يطلق على العذاب أيضا
ومنه قوله تعالى ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون وحكاه الراغب أيضا والتنصيص على بني
إسرائيل أخص فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام فأخرج الطبري
من طريق سليمان التيمي أحد صغار التابعين عن سيار أن رجلا كان يقال له بلعام كان مجاب
الدعوة وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه فقالوا أدع الله
عليهم فقال حتى أؤامر ربي فمنع فأتوه بهدية فقبلها وسألوه ثانيا فقال حتى أؤامر ربي فلم يرجع
إليه بشئ فقالوا لو كره لنهاك فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل
فينقلب على قومه فلاموه على ذلك فقال سأدلكم على ما فيه هلاكهم أرسلوا النساء في عسكرهم
ومروهن أن لا يمتنعن من أحد فعسى أن يزنوا فيهلكوا فكان فيمن خرج بنت الملك فأرادها
رأس بعض الأسباط وأخبرها بمكانه فمكنته من نفسها فوقع في بني إسرائيل الطاعون فمات
منهم سبعون ألفا في يوم وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح فطعنهما وأيده الله فانتظمهما
جميعا وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق وقد ذكر الطبري هذه القصة من طريق محمد بن إسحاق
عن سالم أبي النضر فذكر نحوه وسمي المرأة كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة بعدها مثناة
والرجل زمري بكسر الزي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون وسمي الذي طعنهما
153

فنحاص بكسر الفاء وسكون النون بعدها مهملة ثم مهملة ابن هارون وقال في آخره فحسب من
هلك من الطاعون سبعون ألفا والمقلل يقول عشرون ألفا وهذه الطريق تعضد الأولى وقد
أشار إليها عياض فقال قوله أرسل على بني إسرائيل قيل مات منهم في ساعة واحدة عشرون ألفا
وقيل سبعون ألفا وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن الله أوحى إلى داود أن بني إسرائيل كثر عصيانهم
فخيرهم بين ثلاث إما أن أبتليهم بالقحط أو العدو شهرين أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم فقالوا
اختر لنا فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفا وقيل مائة ألف فتضرع
داود إلى الله تعالى فرفعه وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد
بقوله من كان قبلكم فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال أمر
موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب به على بابه
ففعلوا فسألهم القبط عن ذلك فقالوا إن الله سيبعث عليكم عذابا وإنما ننجو منه بهذه العلامة
فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفا فقال فرعون عند ذلك لموسى ادع لنا ربك بما
عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز الآية فدعا فكشفه عنهم وهذا مرسل جيد الاسناد وأخرج
عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم
وهم ألوف حذر الموت قال فروا من الطاعون فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ليكملوا بقية
آجالهم وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قصتهم مطولة فأقدم من وقفنا عليه
في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر
بعد ذلك لغيرهم والله أعلم وسيأتي شرح قوله إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها الخ
في شرح الحديث الذي بعده * الحديث الثاني حديث عبد الرحمن بن عوف وفيه قصة عمر وأبي
عبيدة ذكره من وجهين مطولا ومختصرا (قوله عن عبد الحميد) هو بتقديم الحاء المهملة على
الميم وروايته عن شيخه فيه من رواية الاقران وفي السند ثلاثة من التابعين في نسق وصحابيان
في ينسق وكلهم مدنيون (قوله عن عبد الله بن عبد الله بن الحرث) أي ابن نوفل بن الحرث بن
عبد المطلب لجد أبيه نوفل ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم صحبة وكذا لولده الحرث وولد عبد الله
ابن الحرث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فعد لذلك في الصحابة فهم ثلاثة من الصحابة في نسق
وكان عبد الله بن الحرث يلقب ببه بموحدتين مفتوحتين الثانية مثقلة ومعناه الممتلئ البدن من
النعمة ويكنى أبا محمد ومات سنة أربع وثمانين وأما ولده راوي هذا الحديث فهو ممن وافق اسمه
اسم أبيه وكان يكنى أبا يحيى ومات سنة تسع وتسعين وما له في البخاري سوى هذا الحديث وقد
وافق مالكا على روايته عن ابن شهاب هكذا معمر وغيره وخالفهم يونس فقال عن ابن شهاب عن
عبد الله بن الحرث أخرجه مسلم ولم يسق لفظه وساقه ابن خزيمة وقال قول مالك ومن تابعه أصح
وقال الدارقطني تابع يونس صالح بن نصر عن مالك وقد رواه ابن وهب عن مالك ويونس جميعا
عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحرث والصواب الأول وأظن ابن وهب حمل رواية مالك على
رواية يونس قال وقد رواه إبراهيم بن عمر بن أبي الوزير عن مالك كالجماعة لكن قال عن عبد الله
ابن عبد الله بن الحرث عن أبيه عن ابن عباس زاد في السند عن أبيه وهو خطأ (قلت) وقد خالف
هشام بن سعد جميع أصحاب ابن شهاب فقال عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه وعمر
154

أخرجه ابن خزيمة وهشام صدوق سئ الحفظ وقد اضطرب فيه فرواه تارة هكذا ومرة أخرى عن
ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه وعمر أخرجه ابن خزيمة أيضا ولابن شهاب
فيه شيخ آخر قد ذكره البخاري أثر هذا السند (قوله أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام) ذكر
سيف بن عمر في الفتوح أن ذلك كان في ربيع الآخر سنة ثماني عشرة وأن الطاعون كان وقع أولا
في المحرم وفي صفر ثم ارتفع فكتبوا إلى عمر فخرج حتى إذا كان قريبا من الشام بلغه أنه أشد ما كان
فذكر القصة وذكر خليفة بن خياط أن خروج عمر إلى سرغ كان في سنة سبع عشرة فالله أعلم وهذا
الطاعون الذي وقع بالشام حينئذ هو الذي يسمى طاعون عمواس بفتح المهملة والميم وحكى
تسكينها وآخره مهملة قيل سمي بذلك لأنه عم وواسى (قوله حتى إذا كان بسرغ) بفتح المهملة
وسكون الراء بعدها معجمة وحكى عن ابن وضاح تحريك الراء وخطأه بعضهم مدينة افتتحها
أبو عبيدة وهي واليرموك والجابية متصلات وبينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة وقال
ابن عبد البر قيل إنه واد بتبوك وقيل بقرب تبوك وقال الحازمي هي أول الحجاز وهي من منازل
حاج الشام وقيل بينها وبين المدينة ثلاث عشرة مرحلة (قوله لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن
الجراح وأصحابه) هم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص
وكان أبو بكر قد قسم البلاد بينهم وجعل أمر القتال إلى خالد ثم رده عمر إلى أبي عبيدة وكان عمر
رضي الله تعالى عنه قسم الشام أجنادا الأردن جند وحمص جند ودمشق جند وفلسطين جند
وقنسرين جند وجعل على كل جند أميرا ومنهم من قال أن قنسرين كانت مع حمص فكانت
أربعة ثم أفردت قنسرين في أيام يزيد بن معاوية (قوله فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام)
في رواية يونس الوجع بدل الوباء وفي رواية هشام بن سعد أن عمر لما خرج إلى الشام سمع بالطاعون
ولا مخالفة بينها فإن كل طاعون وباء ووجع من غير عكس (قوله فقال عمر أدع لي المهاجرين
الأولين) في رواية يونس أجمع لي (قوله ارتفعوا عني) في رواية يونس فأمرهم فخرجوا عنه
(قوله من مشيخة قريش) ضبط مشيخة بفتح الميم والتحتانية بينهما معجمة ساكنة وبفتح الميم
وكسر المعجمة وسكون التحتانية جمع شيخ ويجمع أيضا على شيوخ بالضم وبالكسر وأشياخ
وشيخه بكسر ثم فتح وشيخان بكسر ثم سكون ومشايخ ومشيخاء بفتح سكون ثم ضم ومد
وقد تشبع الضمة حتى تصير واوا فتتم عشرا (قوله من مهاجرة الفتح) أي الذين هاجروا إلى
المدينة عام الفتح أو المراد مسلمة الفتح أو أطلق على من تحول إلى المدينة بعد فتح مكة مهاجرا صورة
وأن كانت الهجرة بعد الفتح حكما قد ارتفعت وأطلق عليهم ذلك احتراز عن غيرهم من مشيخة
قريش ممن أقام بمكة ولم يهاجر أصلا وهذا يشعر بأن لمن هاجر فضلا في الجملة على من لم يهاجر وأن
كانت الهجرة الفاضلة في الأصل إنما هي لمن هاجر قبل الفتح لقوله صلى الله عليه وسلم لا هجرة
بعد الفتح وإنما كان كذلك لان مكة بعد الفتح صارت دار إسلام فالذي يهاجر منها للمدينة إنما
يهاجر لطلب العلم أو الجهاد لا للفرار بدينه بخلاف ما قبل الفتح وقد تقدم بيان ذلك (قوله بقية
الناس) أي الصحابة أطلق عليهم ذلك تعظيما لهم أي ليس الناس إلا هم ولهذا عطفهم على
الصحابة عطف تفسير ويحتمل أن يكون المراد ببقية الناس أي الذين أدركوا النبي صلى الله عليه
وسلم عموما والمراد بالصحابة الذين لازموه وقاتلوا معه (قوله فنادى عمر في الناس أني مصبح على
155

ظهر فأصبحوا عليه) زاد يونس في روايته فإني ماض لما أرى فانظروا ما آمركم به فامضوا له قال
فأصبح على ظهر (قوله فقال أبو عبيدة) وهو إذ ذاك أمير الشام (أفرارا من قدر الله) أي أترجع
فرارا من قدر الله وفي رواية هشام بن سعد وقالت طائفة منهم أبو عبيدة أمن الموت نفر إنما نحن
بقدر لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا (قوله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة) أي لعاقبته أو لكان
أولى منك بذلك أو لم أتعجب منه ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا ويحتمل أن
يكون المحذوف لأدبته أو هي التمني فلا يحتاج إلى جواب والمعنى أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال
ذلك يعذر (1) وقد بين سبب ذلك بقوله وكان عمر يكره خلافه أي مخالفته (قوله نعم نفر من
قدر الله إلى قدر الله) في رواية هشام بن سعد إن تقدمنا فبقدر الله وإن تأخرنا فبقدر الله وأطلق
عليه فرارا لشبهه به في الصورة وإن كان ليس فرارا شرعيا والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه
منهي عنه ولو فعل لكان من قدر الله وتجنبه ما يؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه
فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله فهما مقامان مقام التوكل ومقام التمسك بالأسباب كما سيأتي
تقريره ومحصل قول عمر نفر من قدر الله إلى قدر الله أنه أراد أنه لم يفر من قدر الله حقيقة وذلك أن
الذي فر منه أمر خاف على نفسه منه فلم يهجم عليه والذي فر إليه أمر لا يخاف على نفسه منه
إلا الامر الذي لا بد من وقوعه سواء كان ظاعنا أو مقيما (قوله له عدوتان) بضم العين المهملة
وبكسرها أيضا وسكون الدال المهملة تثنية عدوة وهو المكان المرتفع من الوادي وهو شاطئه
(قوله إحداهما خصيبة) بوزن عظيمة وحكى ابن التين سكون الصاد بغير ياء زاد مسلم في رواية
معمر وقال له أيضا أرأيت لو أنه رعى الجدبة وترك الخصبة أكنت معجزه وهو بتشديد الجيم
قال نعم قال فسر إذا فسار حتى أتى المدينة (قوله فجاء عبد الرحمن بن عوف) هو موصول
عن ابن عباس بالسند المذكور (قوله وكان متغيبا في بعض حاجته) أي لم يحضر معهم
المشاورة المذكورة لغيبته (قوله إن عندي في هذا علما) في رواية مسلم لعلما بزيادة لام التأكيد
(قوله إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه الخ) هو موافق للمتن الذي قبله عن أسامة بن زيد
وسعد وغيرهما فلعلهم لم يكونوا مع عمر في تلك السفرة (قوله فلا تخرجوا فرارا منه) في رواية
عبد الله بن عامر التي بعد هذه وفي حديث أسامة عند النسائي فلا تفروا منه وفي رواية لأحمد من
طريق ابن سعد عن أبيه مثله ووقع في ذكر بني إسرائيل إلا فرارا منه وتقدم الكلام
على إعرابه هناك (قوله عن عبد الله بن عامر) هو ابن ربيعة وثبت كذلك في رواية القعنبي كما
سيأتي في ترك الحيل وعبد الله بن عامر هذا معدود في الصحابة لأنه ولد في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم وسمع منه ابن شهاب هذا الحديث عاليا عن عبد الرحمن بن عوف وعمر لكنه اختصر القصة
واقتصر على حديث عبد الرحمن بن عوف وفي رواية القعنبي عقب هذه الطريق وعن ابن شهاب
عن سالم بن عبد الله أن عمر إنما انصرف من حديث عبد الرحمن وهو لمسلم عن يحيى بن يحيى عن
مالك وقال إنما رجع بالناس من سرغ عن حديث عبد الرحمن بن عوف وكذا هو في الموطأ وقد
رواه جويرية بن أسماء عن مالك خارج الموطأ مطولا أخرجه الدارقطني في الغرائب فزاد بعد
قوله عن حديث عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقدم عليه
إذا سمع به وأن يخرج عنه إذا وقع بأرض هو بها وأخرجه أيضا من رواية بشر بن عمر عن مالك
156

بمعناه ورواية سالم هذه منقطعة لأنه لم يدرك القصة ولا جده عمر ولا عبد الرحمن بن عوف وقد رواه
ابن أبي ذئب عن بن شهاب عن سالم فقال عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عبد الرحمن أخبر عمر
وهو في طريق الشام لما بلغه أن بها الطاعون فذكر الحديث أخرجه الطبراني فإن كان محفوظا
فيكون ابن شهاب سمع أصل الحديث من عبد الله بن عامر وبعضه من سالم عنه واختصر مالك
الواسطة بين سالم وعبد الرحمن والله أعلم وليس مراد سالم بهذا الحصر نفى سبب رجوع عمر أنه
كان عن رأيه الذي وافق عليه مشيخة قريش من رجوعه بالناس وإنما مراده أنه لما سمع الخبر
رجح عنده ما كان عزم عليه من الرجوع وذلك أنه قال أني مصبح على ظهر فبات على ذلك ولم
يشرع في الرجوع حتى جاء عبد الرحمن بن عوف فحدث بالحديث المرفوع فوافق رأي عمر الذي
رآه فحضر سالم سبب رجوعه في الحديث لأنه السبب الأقوى ولم يرد نفي السبب الأول وهو اجتهاد
عمر فكأنه يقول لولا وجود النص لأمكن إذا أصبح أن يتردد في ذلك أو يرجع عن رأيه فلما سمع
الخبر استمر على عزمه الأول ولولا الخبر لما استمر فالحاصل أن عمر أراد بالرجوع ترك الالقاء إلى
التهلكة فهو كمن أراد الدخول إلى دار فرأى بها مثلا حريقا تعذر طفؤه فعدل عن دخولها لئلا
يصيبه فعدل عمر لذلك فلما بلغه الخبر جاء موافقا لرأيه فأعجبه فلأجل ذلك قال من قال إنما رجع
لأجل الحديث لا لما اقتضاه نظره فقط وقد أخرجه الطحاوي بسند صحيح عن أنس أن عمر أتى الشام
فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة فقالا يا أمير المؤمنين إن معك وجوه الصحابة وخيارهم وإنا تركنا من
بعدنا مثل حريق النار فارجع العام فرجع وهذا في الظاهر يعارض حديث الباب فإن فيه الجزم
بأن أبا عبيدة أنكر الرجوع ويمكن الجمع بأن أبا عبيدة أشار أولا بالرجوع ثم غلب عليه مقام
التوكل لما رأى أكثر المهاجرين والأنصار جنحوا إليه فرجع عن رأي الرجوع وناظر عمر في ذلك
فاستظهر عليه عمر بالحجة فتبعه ثم جاء عبد الرحمن بن عوف بالنص فارتفع الاشكال وفي هذا
الحديث جواز رجوع من أراد دخول بلدة فعلم أن بها الطاعون وأن ذلك ليس من الطيرة وإنما هي
من منع الالقاء إلى التهلكة أو سد الذريعة لئلا يعتقد من يدخل إلى الأرض التي وقع بها أن لو
دخلها وطعن العدوي المنهي عنها كما سأذكره وقد زعم قوم أن النهي عن ذلك إنما هو للتنزيه وأنه
يجوز الاقدام عليه لمن قوي توكله وصح يقينه وتمسكوا بما جاء عن عمر أنه ندم على رجوعه من سرغ
كما أخرجه ابن أبي شيبة بسند جيد من رواية بن رويم عن القاسم بن محمد عن ابن عمر قال
جئت عمر حين قدم فوجدته قائلا في خبائه فانتظرته في ظل الخباء فسمعته يقول حين تضور اللهم
اغفر لي رجوعي من سرغ وأخرجه إسحق بن راهويه في مسنده أيضا وأجاب القرطبي في المفهم
بأنه لا يصح عن عمر قال وكيف يندم على فعل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع عنه
ويستغفر منه وأجيب بأن سنده قوي والاخبار القوية لا ترد بمثل هذا مع إمكان الجمع فيحتمل
أن يكون كما حكاه البغوي في شرح السنة عن قوم أنهم حملوا النهي على التنزيه وأن القدوم عليه
جائز لمن غلب عليه التوكل والانصراف عنه رخصة ويحتمل وهو أقوى أن يكون سبب ندمه أنه
خرج لأمر مهم من أمور المسلمين فلما وصل إلى قرب البلد المقصود رجع مع أنه كان يمكنه أن
يقيم بالقرب من البلد المقصود إلى أن يرتفع الطاعون فيدخل إليها ويقضي حاجة المسلمين ويؤيد
ذلك أن الطاعون ارتفع عنها عن قرب فلعله كان بلغه ذلك فندم على رجوعه إلى المدينة لا على
157

مطلق رجوعه فرأى أنه لو أنتظر لكان أولى لما في رجوعه على العسكر الذي كان صحبته من المشقة
والخبر لم يرد بالامر بالرجوع وإنما ورد بالنهي عن القدوم والله أعلم وأخرج الطحاوي بسند صحيح
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر اللهم إن الناس قد نحلوني ثلاثا أنا أبرأ إليك منهن زعموا
أني فررت من الطاعون وأنا أبرأ إليك من ذلك وذكر الطلاء والمكس وقد ورد عن غير عمر
التصريح بالعمل في ذلك بمحض التوكل فأخرج ابن خزيمة بسند صحيح عن هشام بن عروة عن
أبيه أن الزبير بن العوام خرج غازيا نحو مصر فكتب إليه أمراء مصر أن الطاعون قد وقع فقال
إنما خرجنا للطعن والطاعون فدخلها فلقي طعنا في جبهته ثم سلم وفي الحديث أيضا منع من وقع
الطاعون ببلد هو فيها من الخروج منها وقد اختلف الصحابة في ذلك كما تقدم وكذا أخرج أحمد
بسند صحيح إلى أبي منيب أن عمرو بن العاص قال في الطاعون أن هذا رجز مثل السيل من
تنكبه أخطأه ومثل النار من أقام أحرقته فقال شرحبيل بن حسنة إن هذا رحمة ربكم ودعوة
نبيكم وقبض الصالحين قبلكم وأبو منيب بضم الميم وكسر النون بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة
وهو دمشقي نزل البصرة يعرف بالأحدب وثقه العجلي وابن حبان وهو غير أبي منيب الجرشي فيما
ترجح عندي لان الأحدب أقدم من الجرشي وقد أثبت البخاري سماع الأحدب من معاذ بن
جبل والجرشي يروي عن سعيد بن المسيب ونحوه وللحديث طريق أخرى أخرجها أحمد أيضا من
رواية شرحبيل بن شفعة بضم المعجمة وسكون الفاء عن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة
بمعناه وأخرجه ابن خزيمة والطحاوي وسنده صحيح وأخرجه أحمد وابن خزيمة أيضا من طريق
شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن شرحبيل بمعناه وأخرج أحمد من طريق أخرى
أن المراجعة في ذلك أيضا وقعت عن عمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وفي طريق أخرى بينه وبين
واثلة الهذلي وفي معظم الطرق أن عمرو بن العاص صدق شرحبيل وغيره على ذلك ونقل
عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة منهم أبو
موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق ومنهم من قال
النهي فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم وخالفهم جماعة فقالوا يحرم الخروج منها لظاهر النهي الثابت
في الأحاديث الماضية وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك
فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعا في أثناء حديث بسند حسن قلت يا رسول الله
فما الطاعون قال غدة كغدة الإبل المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف وله شاهد
من حديث جابر رفعه الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف
أخرجه أحمد أيضا وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات وقال الطحاوي استدل من أجاز الخروج
بالنهي الوارد عن الدخول إلى الأرض التي يقع بها قالوا وإنما نهى عن ذلك خشية أن يعدي من
دخل عليه قال وهو مردود لأنه لو كان النهي لهذا لجاز لأهل الموضع الذي وفع فيه الخروج
وقد ثبت النهي أيضا عن ذلك فعرف أن المعنى الذي لأجله منعوا من القدوم عليه غير معنى
العدوي والذي يظهر والله أعلم أن حكمة النهي عن القدوم عليه لئلا يصيب من قدم عليه بتقدير
الله فيقول لولا أني قدمت هذه الأرض لما أصابني ولعله لو أقام في الموضع الذي كان فيه لأصابه
فأمر أن لا يقدم عليه حسما للمادة ونهى من وقع وهو بها أن يخرج من الأرض التي نزل بها لئلا
158

يسلم فيقول مثلا لو أقمت في تلك الأرض لأصابني ما أصاب أهلها ولعله لو كان أقام بها ما أصابه
من ذلك شئ اه‍ ويؤيده ما أخرجه الهيثم بن كليب والطحاوي والبيهقي بسند حسن عن أبي
موسى أنه قال إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول
قائل خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان أو لو كنت
جلست أصبت كما أصيب فلان لكن أبو موسى حمل النهي على من قصد الفرار محضا ولا شك أن
الصور ثلاث من خرج لقصد الفرار محضا فهذا يتناوله النهي لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة
لا لقصد الفرار أصلا ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلا ولم يكن
الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلا فلا يدخل في النهي والثالث
من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع
بها الطاعون فهذا محل النزاع ومن جملة هذه الصورة الأخيرة أن تكون الأرض التي وقع بها وخمة
والأرض التي يريد التوجه إليها صحيحة فيتوجه بهذا القصد فهذا جاء النقل فيه عن السلف
مختلفا فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة ومن أجاز نظر إلى أنه مستثنى من عموم الخروج فرارا
لأنه لم يتحمض للفرار وإنما هو لقصد التداوي وعلى ذلك يحمل ما وقع في أثر أبي موسى المذكور أن
عمر كتب إلى أبي عبيدة إن لي إليك حاجة فلا تضع كتابي من يدك حتى تقبل إلي فكتب إليه أني قد
عرفت حاجتك وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم فكتب إليه أما بعد فإنك نزلت
بالمسلمين أرضا غميقة فارفعهم إلى أرض نزهة فدعا أبو عبيدة أبا موسى فقال أخرج فارتد للمسلمين
منزلا حتى انتقل بهم فذكر القصة في اشتغال أبي موسى بأهله ووقوع الطاعون بأبي عبيدة لما
وضع رجله في الركاب متوجها وأنه نزل بالناس في مكان آخر فارتفع الطاعون وقوله غميقة بغين
معجمة وقاف وزن عظيمة أي قريبة من المياه والنزور وذلك مما يفسد غالبا به الهواء لفساد المياه
والنزهة الفسيحة البعيدة عن الوخم فهذا يدل على أن عمر رأى أن النهي عن الخروج إنما هو لمن
قصد الفرار متمحضا ولعله كانت له حاجة بأبي عبيدة في نفس الامر فلذلك استدعاه وظن
أبو عبيدة أنه إنما طلبه ليسلم من وقوع الطاعون به فاعتذر عن إجابته لذلك وقد كان أمر عمر لأبي
عبيدة بذلك بعد سماعها للحديث المذكور من عبد الرحمن بن عوف فتأول عمر فيه ما تأول
واستمر أبو عبيدة على الاخذ بظاهره وأيد الطحاوي صنيع عمر بقصة العرنيين فإن خروجهم من
المدينة كان للعلاج لا للفرار وهو واضح من قصتهم لانهم شكوا وخم المدينة وأنها لم توافق
أجسامهم وكان خروجهم من ضرورة الواقع لان الإبل التي أمروا أن يتداووا بألبانها وأبوالها
واستنشاق روائحا ما كانت تتهيأ إقامتها بالبلد وإنما كانت في مراعيها فلذلك خرجوا وقد لحظ
البخاري ذلك فترجم قبل ترجمة الطاعون من خرج من الأرض التي لا تلائمه وساق قصة العرنيين
ويدخل فيه ما أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بمهملة وكاف مصغر قال قلت يا رسول
الله إن عندنا أرضا يقال لها أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وهي وبئة فقال دعها عنك فإن من
القرف التلف قال ابن قتيبة القرف القرب من الوباء وقال الخطابي ليس في هذا إثبات العدوي
وإنما هو من باب التداوي فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء في تصحيح البدن وبالعكس
واحتجوا أيضا بالقياس على الفرار من المجذوم وقد ورد الامر به كما تقدم والجواب أن الخروج
159

من البلد التي وقع بها الطاعون قد ثبت النهي عنه والمجذوم قد ورد الامر بالفرار منه فكيف
يصح القياس وقد تقدم في باب الجذام من بيان الحكمة في ذلك ما يغني عن إعادته وقد ذكر العلماء
في النهي عن الخروج حكما منها أن الطاعون في الغالب يكون عاما في البلد الذي يقع به فإذا وقع
فالظاهر مداخلة سببه لمن بها فلا يفيده الفرار لان المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك
عنها كان الفرار عبثا فلا يليق بالعاقل ومنها أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه
بالمرض المذكور أو بغيره ضائع المصلحة لفقد من يتعهده حيا وميتا وأيضا فلو شرع الخروج
فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء وقد قالوا إن حكمة الوعيد في الفرار من
الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخذلانه وقد جمع الغزالي بين
الامرين فقال الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق
فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن فالخارج
من البلد الذي يقع به لا يخلص غالبا مما استحكم به وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء
في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم ومنها ما ذكره بعض الأطباء
أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة وتألفها وتصير لهم كالأهوية
الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم يوافقهم بل ربما إذا استنشقوا هواءها
استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الرديئة التي حصل تكيف بدنه بها فأفسدته فمنع من الخروج
لهذه النكتة ومنها ما تقدم أن الخارج يقول لو أقمت لأصبت والمقيم يقول لو خرجت لسلمت
فيقع في اللو المنهي عنه والله أعلم وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في قوله فلا تقدموا عليه فيه منع
معارضة متضمن الحكمة بالقدر وهو من مادة قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وفي
قوله فلا تخرجوا فرارا منه إشارة إلى الوقوف مع المقدور والرضا به قال وأيضا فالبلاء إذا نزل إنما
يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به ولا محالة فأينما توجه
يدركه فأرشده الشارع إلى عدم النصب من غير أن يدفع ذلك المحذور وقال الشيخ تقي الدين
ابن دقيق العيد الذي يترجح عندي في الجمع بينهما أن في الاقدام عليه تعريض النفس للبلاء
ولعلها لا تصبر عليه وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكل فمنع ذلك حذرا من
اغترار النفس ودعواها ما لا تثبت عليه عند الاختبار وأما الفرار فقد يكون داخلا في التوغل
في الأسباب بصورة من يحاول النجاة بما قدر عليه فأمرنا الشارع بترك التكلف في الحالتين ومن
هذه المادة قوله صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا فأمر بترك التمني
لما فيه من التعرض للبلاء وخوف اغترار النفس إذ لا يؤمن غدرها عند الوقوع ثم أمرهم بالصبر
عند الوقوع تسليما لأمر الله تعالى وفي قصة عمر من الفوائد مشروعية المناظرة والاستشارة
في النوازل وفي الاحكام وأن الاختلاف لا يوجب حكما وأن الاتفاق هو الذي يوجبه وأن
الرجوع عند الاختلاف إلى النص وأن النص يسمى علما وأن الأمور كلها تجري بقدر الله
وعلمه وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه وفيه وجوب العمل بخبر
الواحد وهو من أقوى الأدلة على ذلك لان ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه
من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا وفيه الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع
160

عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار فإن مجموع ذلك
أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك
من المهاجرين والأنصار من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب فلما
تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ووافق اجتهاده النص فلذلك حمد الله تعالى على توفيقه لذلك
وفيه تفقد الامام أحوال رعيته لما فيه من إزالة ظلم المظلوم وكشف كربة المكروب وردع أهل
الفساد وإظهار الشرائع والشعائر وتنزيل الناس منازلهم * الحديث الثالث حديث أبي هريرة
لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون كذا أورده مختصرا وقد أورده في الحج عن إسماعيل بن أبي
أويس عن مالك أتم من هذا بلفظ على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال
وقدمت هناك ما يتعلق بالدجال وأخرجه في الفتن عن القعنبي عن مالك كذلك ومن حديث أنس
رفعه المدينة يأتيها الدجال فيجد الملائكة فلا يدخلها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى وقد
استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كون الطاعون شهادة وكيف قرن بالدجال ومدحت
المدينة بعدم دخولهما والجواب أن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته وإنما
المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه لكونه سببه فإذا استحضر ما تقدم من أنه طعن الجن حسن
مدح المدينة بعدم دخوله إياها فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول
المدينة ومن اتفق دخوله إليها لا يتمكن من طعن أحد منهم فإن قيل طعن الجن لا يختص
بكفارهم بل قد يقع من مؤمنيهم قلنا دخول كفار الانس المدينة ممنوع فإذا لم يسكن المدينة إلا
من يظهر الاسلام جرت عليه أحكام المسلمين ولو لم يكن خالص الاسلام فحصل الامن من وصول
الجن إلى طعنهم بذلك فلذلك لم يدخلها الطاعون أصلا وقد أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك
فقال المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها كطاعون عمواس والجارف وهذا
الذي قاله يقتضي تسليم أنه دخلها في الجملة وليس كذلك فقد جزم ابن قتيبة في المعارف وتبعه جمع
جم من آخرهم الشيخ محي الدين النووي في الاذكار بان الطاعون لم يدخل المدينة أصلا ولا مكة
أيضا لكن نقل جماعة أنه دخل مكة في الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة
بخلاف المدينة فلم يذكر أحد قط أنه وقع بها الطاعون أصلا ولعل القرطبي بني على أن الطاعون
أعم من الوباء أو أنه هو وأنه الذي ينشأ عن فساد الهواء فيقع به الموت الكثير وقد مضى
في الجنائز من صحيح البخاري قول أبي الأسود قدمت المدينة وهم يموتون بها موتا ذريعا فهذا وقع
بالمدينة وهو وباء بلا شك ولكن الشأن في تسميته طاعونا والحق أن المراد بالطاعون في هذا
الحديث المنفي دخوله المدينة الذي ينشأ عن طعن الجن فيهيج بذلك الطعن الدم في البدن فيقتل
فهذا لم يدخل المدينة قط فلم يتضح جواب القرطبي وأجاب غيره بأن سبب الترجمة لم ينحصر
في الطاعون وقد قال صلى الله عليه وسلم ولكن عافتيك أوسع لي فكان منع دخول الطاعون
المدينة من خصائص المدينة ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة وقال آخر هذا من
المعجزات المحمدية لان الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد بل عن
قرية وقد أمتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة (قلت) وهو كلام صحيح ولكن ليس
هو جوابا عن الاشكال ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم عوضهم عن الطاعون بالحمى لان
161

الطاعون يأتي مرة بعد مرة والحمى تتكرر في كل حين فيتعادلان في الاجر ويتم المراد من عدم
دخول الطاعون لبعض ما تقدم من الأسباب ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار الحديث
الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب بمهملتين آخره موحدة وزن عظيم رفعه أتاني جبريل
بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام وهو أن الحكمة في ذلك
أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا وكانت المدينة وبئة كما
سبق من حديث عائشة ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين يحصل بكل منهما الاجر الجزيل
فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون ثم لما أحتاج إلى جهاد الكفار وأذن
له في القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة أن تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية
لأجل الجهاد فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت
بخلاف ذلك ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله
ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التي هي حظ المؤمن من النار ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها
لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره هذه المدة المتطاولة والله أعلم
* (تنبيه) * سيأتي في ذكر الدجال في أواخر كتاب الفتن حديث أنس وفيه فيجد الملائكة يحرسونها
فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى وأنه اختلف في هذا الاستثناء فقيل هو للتبرك
فيشملهما وقيل هو للتعليق وأنه يختص بالطاعون وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة
ووقع في بعض طرق حديث أبي هريرة المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب منها ملك
لا يدخلهما الدجال ولا الطاعون أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة عن شريح عن فليح عن العلاء
ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ورجاله رجال الصحيح وعلى
هذا فالذي نقل أنه وجد في سنة تسع وأربعين وسبعمائة منه ليس كما ظن من نقل ذلك أو يجاب
إن تحقق ذلك بجواب القرطبي المتقدم * الحديث الرابع (قوله عبد الواحد) هو ابن زياد
وعاصم هو ابن سليمان الأحول والاسناد كله بصريون (قوله قالت قال لي أنس) ليس لحفصة
بنت سيرين عن أنس في البخاري إلا هذا الحديث (قوله يحيى بم مات) أي بأي شئ مات ووقع
في رواية بما مات باشباع الميم وهو للأصيلي وهي ما الاستفهامية لكن اشتهر حذف الألف منها إذا
دخل عليها حرف جر ويحيى المذكور هو ابن سيرين أخو حفصة ووقع في رواية مسلم يحيى
ابن أبي عمرة وهو ابن سيرين لأنها كنية سيرين وكانت وفاة يحيى في حدود التسعين من الهجرة على
ما يورد من هذا الحديث لكن أخرج البخاري في التاريخ الأوسط من طريق حماد عن يحيى بن
عتيق سمعت يحيى بن سيرين ومحمد بن سيرين يتذاكران الساعة التي في الجمعة نقله بعد موت أنس
ابن مالك أرادا أن يحيى بن سيرين مات بعد أنس بن مالك فيكون حديث حفصة خطأ انتهى
وتخريجه لحديث حفصة في الصحيح يقتضي أنه ظهر له أن حديث يحيى بن عتيق خطأ وقد قال في
التاريخ الصغير حديث يحيى بن عتيق عن حفصة خطأ فإذا جوز عليه الخطأ في حديثه عن حفصة
جاز تجويزه عليه في قوله يحيى بن سيرين فلعله كان أنس بن سيرين والله أعلم (قوله الطاعون
شهادة لكل مسلم) أي يقع به هكذا جاء مطلقا في حديث أنس وسيأتي مقيدا بثلاثة قيود في
حديث عائشة الذي في الباب بعده وكأن هذا هو السر في إيرداه عقبة * الحديث الخامس حديث
162

أبي هريرة رفعه المبطون شهيد والمطعون شهيد هكذا أورده مختصرا مقتصرا على هاتين الخصلتين
وقد أورده في الجهاد من رواية عبد الله بن يوسف عن مالك مطولا بلفظ الشهداء خمسة المطعون
والمبطون والغرق وصاحب الهدم والمقتول في سبيل الله وأشرت هناك إلى الأخبار الواردة
في الزيادة على الخمسة والمراد بالمطعون من طعنه الجن كما تقدم تقريره في أول الباب (قوله
باب أجر الصابر على الطاعون) أي سواء وقع به أو وقع في بلد هو مقيم بها (قوله الله تعالى عنهما قوله حدثنا إسحاق
) هو ابن راهويه وحبان بفتح المهملة وتشديد الموحدة هو ابن هلال ويحيى بن يعمر بفتح
التحتانية والميم بينهما عين مهملة ساكنة وآخره راء (قوله أنها سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الطاعون) في رواية أحمد من هذا الوجه عن عائشة قالت سألت (قوله أنه كان عذابا
يبعثه الله على من يشاء) في رواية الكشميهني على من شاء أي من كافر أو عاص كما تقدم في قصة
آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام (قوله فجعله الله رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة
وفي حديث أبي عسيب عند أحمد فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر
وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب
عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة
أو يختص بالمؤمن الكامل فيه نظر والمراد بالعصي من يكون مرتكب الكبيرة ويهجم عليه
ذلك وهو مصر فإنه يحتمل أن يقال لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبسا به لقوله تعالى
أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات وأيضا فقد وقع
في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة أخرجه ابن ماجة والبيهقي
بلفظ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن
مضت في أسلافهم الحديث وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك وكان من فقهاء الشام لكنه
ضعيف عند أحمد وابن معين وغيرهما ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبو زرعة الدمشقي وقال
ابن حبان كان يخطئ كثيرا وله شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر
فيهم الموت الحديث وفيه انقطاع وأخرجه الحاكم من وجه آخر موصولا بلفظ إذا ظهر الزنا
والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله وللطبراني موصولا من وجه آخر عن ابن عباس
نحو سياق مالك وفي سنده مقال وله من حديث عمرو بن العاص بلفظ ما من قوم يظهر فيهم الزنا
إلا أخذوا بالفناء الحديث وسنده ضعيف وفي حديث بريدة عند الحاكم بسند جيد بلفظ ولا
ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الموت ولأحمد من حديث عائشة مرفوعا لا تزال
أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب وسنده
حسن ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية فكيف يكون شهادة
ويحتمل أن يقال بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة ولا سيما في الحديث الذي قبله
عن أنس الطاعون شهادة لكل مسلم ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات
مساواة المؤمن الكامل في المنزلة لان درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل
مجاهدا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلا غير مدبر ومن رحمه الله بهذه الأمة المحمدية
أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة ولا سيما
163

وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة وإنما عمهم والله أعلم لتقاعدهم عن إنكار المنكر وقد أخرج أحمد
وصححه ابن حبان من حديث عتبة بن عبيد رفعه القتل ثلاثة رجل جاهد بنفسه وما له في سبيل
الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذاك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله
النبيون إلا بدرجة النبوة ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وما له
في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فانمحيت خطاياه أن السيف محاء للخطايا ورجل
منافق جاهد بنفسه وما له حتى يقتل فهو في النار أن السيف لا يمحو النفاق وأما الحديث الآخر
الصحيح أن الشهيد يغفر له كل شئ الا الدين فإنه يستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات
وحصول التبعات لا يمنع حصول درجة الشهادة وليس للشهادة معنى إلى أن الله يثيب من
حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة وقد بين الحديث أن الله يتجاوز عنه ما عدا التبعات
فلو فرض أن للشهيد أعمالا صالحة وقد كفرت الشهادة أعماله السيئة غير التبعات فإن أعماله
الصالحة تنفعه في موازنة ما عليه من التبعات وتبقى له درجة الشهادة خالصة فإن لم يكن له أعمال
صالحة فهو في المشيئة والله أعلم (قوله فليس من عبد) أي مسلم (يقع الطاعون) أي في مكان
هو فيه (فيمكث في بلده) في رواية أحمد في بيته ويأتي في القدر بلفظ يكون فيه ويمكث فيه ولا
يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون (قوله صابرا) أي غير منزعج ولا قلق بل مسلما لأمر
الله راضيا بقضائه وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون وهو أن يمكث بالمكان
الذي يقع به فلا يخرج فرارا منه كما تقدم النهي عنه في الباب قبله صريحا وقوله يعلم أنه لن يصيبه
الا ما كتب الله له قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم
الخروج ظانا أنه لو خرج لما وقع به أصلا ورأسا وأنه بإقامته يقع به فهذا لا يحصل له أجر الشهيد
ولو مات بالطاعون هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف
بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون ويدخل تحته ثلاث صور من
اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به أو وقع به ولم يمت به أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلا
أو آجلا (قوله مثل أجر الشهيد) لعل السر في التعبير بالمثلية مع ثبوت التصريح بأن من مات
بالطاعون كان شهيدا أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وأن لم يحصل له
درجة الشهادة بعينها وذلك أن من اتصف بكونه شهيدا أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر
الشهيد ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب غير
القتل وأما ما اقتضاه مفهوم حديث الباب أن من اتصف بالصفات المذكورة ووقع به الطاعون
ثم لم يمت منه أنه يحصل له ثواب الشهيد فيشهد له حديث ابن مسعود الذي أخرجه أحمد من
طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين
الله أعلم بنيته والضمير في قوله أنه لابن مسعود فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ورجال
سنده موثوقون واستنبط من الحديث أن من اتصف بالصفات المذكورة ثم وقع به الطاعون
فمات به أن يكون له أجر شهيدين ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب كمن يموت غريبا
بالطاعون أو نفساء مع الصبر والاحتساب والتحقيق فيما اقتضاه حديث الباب أنه يكون شهيدا
164

بوقوع الطاعون به ويضاف له مثل أجر الشهيد لصبره وثباته فإن درجة الشهادة شئ وأجر
الشهادة شئ وقد أشار إلى ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وقال هذا هو السر في قوله والمطعون
شهيد وفي قوله في هذا فله مثل أجر شهيد ويمكن أن يقال بل درجات الشهداء متفاوتة فأرفعها
من اتصف بالصفات المذكورة ومات بالطاعون ودونه في المرتبة من اتصف بها وطعن ولم يمت به
ودونه من اتصف ولم يطعن ولم يمت به ويستفاد من الحديث أيضا أن من لم يتصف بالصفات
المذكورة لا يكون شهيدا ولو وقع الطاعون ومات به فضلا عن أن يموت بغيره وذلك ينشأ عن
شؤم الاعتراض الذي ينشأ عنه التضجر والتسخط لقدر الله وكراهة لقاء الله وما أشبه ذلك من
الأمور التي تفوت معها الخصال المشروطة والله أعلم وقد جاء في بعض الأحاديث استواء شهيد
الطاعون وشهيد المعركة فأخرج أحمد بسند حسن عن عتبة بن عبد السلمي رفعه يأتي الشهداء
والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون نحن شهداء فيقال انظروا فإن كان جراحهم
كجراح الشهداء تسيل دما وريحها كريح المسك فيهم شهداء فيجدونهم كذلك وله شاهد
من حديث العرباض بن سارية أخرجه أحمد أيضا والنسائي بسند حسن أيضا بلفظ يختصم
الشهداء والمتوفون على فرشهم إلى ربنا عز وجل في الذين ماتوا بالطاعون فيقول الشهداء
إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول الذين ماتوا على فرشهم إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا فيقول الله
عز وجل انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت
جراحهم زاد الكلاباذي في معاني الأخبار من هذا الوجه في آخره فيلحقون بهم (قوله تابعه
النضر عن داود) النضر هو ابن شميل وداود هو ابن أبي الفرات وقد أخرج طريق النضر في كتاب
القدر عن إسحاق بن إبراهيم عنه وتقدم موصولا أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل
وأخرجه أحمد عن عفان وعبد الصمد بن عبد الوارث وأبي عبد الرحمن المقري والنسائي من
طريق يونس بن محمد المؤدب كلهم عن داود بن أبي الفرات وإنما ذكرت ذلك لئلا يتوهم أن
البخاري أراد بقوله تابعه النضر إزالة توهم من يتوهم تفرد حبان بن هلال به فيظن أنه لم يروه
غيرهما ولم يرد البخاري ذلك وإنما أراد إزالة توهم التفرد به فقط ولم يرد الحصر فيهما والله أعلم
(قوله باب الرقي) بضم الراء وبالقاف مقصور جمع رقية بسكون القاف يقال رقي
بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في المستقبل ورقيت فلانا بكسر القاف أرقيه واسترقى طلب
الرقية والجمع بغير همز وهو بمعنى التعويذ بالذال المعجمة (قوله بالقرآن والمعوذات) هو من عطف
الخاص على العام لان المراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والاخلاص كما تقدم في أواخر
التفسير فيكون من باب التغليب أو المراد الفلق والناس وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله
تعالى وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وغير ذلك
والأول أولى فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من رواية عبد الرحمن
ابن حرملة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال فذكر فيها الرقي
إلا بالمعوذات وعبد الرحمن بن حرملة قال البخاري لا يصح حديثه وقال الطبري لا يحتج بهذا الخبر
لجهالة راوية وعلى تقدير صحته فهو منسوخ بالاذن في الرقية بفاتحة الكتاب وأشار المهلب إلى
الجواب عن ذلك بأن في الفاتحة معنى الاستعاذة وهو الاستعانة فعلى هذا يختص الجواز بما
165

يشتمل على هذا المعنى وقد أخرج الترمذي وحسنه والنسائي من حديث أبي سعيد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الانسان حتى نزلت المعوذات فأخذ بها وترك
ما سواها وهذا لا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين بل يدل على الأولوية ولا سيما مع
ثبوت التعوذ بغيرهما وإنما اجتزأ بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه
جملة وتفصيلا وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله
تعالى أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية
لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى واختلفوا في كونها شرطا والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط
المذكورة ففي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك قال كنا نرقى في الجاهلية فقلنا يا رسول الله
كيف ترى في ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك وله من حديث
جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا يا رسول الله إنه كانت
عندنا رقية نرقى بها من العقرب قال فعرضوا عليه فقال ما أرى بأسا من استطاع أن ينفع أخاه
فلينفعه وقد تمسك قوم بهذا العموم فأجزؤوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها لكن
دل حديث عوف أنها مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك يمنع وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن
يؤدي إلى الشرك فيمتنع احتياطا والشرط الآخر لا بد منه وقال قوم لا تجوز الرقية إلا من العين
واللدغة كما تقدم في باب من اكتوى من حديث عمران بن حصين لا رقية الا من عين أو حمة
وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية فيلتحق بالعين جواز رقية من به
خبل أو مس ونحو ذلك لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوال شيطانية من إنسي أو جني
ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية وقد وقع عند أبي داود
في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد أو دم وفي مسلم من طريق يوسف بن عبد الله بن الحرث
عن أنس قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقي من العين والحمة والنملة وفي حديث آخر
والاذن ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ألا تعلمين
هذه يعني حفصة رقية النملة والنملة قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد وقيل المراد بالحصر
معنى الأفضل أي لا رقية أنفع كما قيل لا سيف إلا ذو الفقار وقال قوم المنهي عنه من الرقي ما يكون
قبل وقوع البلاء والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما وفيه نظر
وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى فأخرج أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم
من طريق ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود رفعه أن الرقي والتمائم والتولة
شرك وفي الحديث قصة والتمائم جمع تميمة وهي خرز أو قلادة تعلق في الرأس كانوا في الجاهلية
يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات والتولة بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا شئ كانت المرأة
تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لانهم أرادوا دفع المضار
وجلب المنافع من عند غير الله ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه فقد ثبت في الأحاديث
استعمال ذلك قبل وقوعه كما سيأتي قريبا في باب المرأة ترقى الرجل من حديث عائشة أنه صلى الله
عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه ينفث المعوذات ويمسح بهما وجهه الحديث ومضى في أحاديث
الأنبياء حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين بكلمات الله التامة
166

من كل شيطان وهامة الحديث وصحح الترمذي من حديث خولة بنت حكيم مرفوعا من نزل منزلا
فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شئ حتى يتحول وعند أبي داود والنسائي
بسند صحيح عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن رجل من أسلم جاء رجل فقال لدغت الليلة فلم أنم
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق
لم يضرك والأحاديث في هذا المعنى موجودة لكن يحتمل أن يقال إن الرقي أخص من التعوذ وإلا
فالخلاف في الرقي مشهور ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما وقع
وما يتوقع وقال ابن التين الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله هو الطب الروحاني إذا كان على
لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب
الجسماني وتلك الرقي المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور
مشتبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذكر الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة
بهم والتعوذ بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها للانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء
بني آدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رقي بتلك
الأسماء سالت سمومها من بدن الانسان فلذلك كره من الرقي ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة
وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من الشرك وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء
الأمة وقال القرطبي الرقي ثلاثة أقسام أحدها ما كان يرقى به في الجاهلية مما لا يعقل معناه فيجب
اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك الثاني ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز فإن
كان مأثورا فيستحب الثالث ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات
كالعرش قال فهذا فليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله
والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله
تعالى (قلت) ويأتي بسط ذلك في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى وقال الربيع سألت الشافعي عن
الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله قلت أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال
نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله اه‍ وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت
ترقى عائشة أرقيها بكتاب الله وروى ابن وهب عن مالك كراهة الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط
والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم وقال المازري اختلف
في إسترقاء أهل الكتاب فأجازها قوم وكرهها مالك لئلا يكون مما بدلوه وأجاب من أجاز بأن مثل
هذا يبعد أن يقولوه وهو كالطب سواء كان غير الحاذق لا يحسن أن يقول والحاذق يأنف أن يبدل
حرصا على استمرار وصفه بالحذق لترويج صناعته والحق أنه يختلف باختلاف الاشخاص
والأحوال وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها ما لا يعرف لئلا يكون فيها كفر
وسيأتي الكلام على من منع الرقي أصلا في باب من لم يرق بعد خمسة أبواب إن شاء الله تعالى (قوله
هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (قوله كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات)
دلالته على المعطوف في الترجمة ظاهرة وفي دلالته على المعطوف عليه نظر لأنه لا يلزم من
مشروعية الرقي بالمعوذات أن يشرع بغيرها من القرآن لاحتمال أن يكون في المعوذات سر ليس
في غيرها وقد ذكرنا من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم ترك ما عدا المعوذات لكن
167

ثبتت الرقية بفاتحة الكتاب فدل على أن لا اختصاص للمعوذات ولعل هذا هو السر في تعقيب
المصنف هذه الترجمة بباب الرقي بفاتحة الكتاب وفي الفاتحة من معنى الاستعاذة بالله الاستعانة
به فمهما كان فيه استعاذة أو استعانة بالله وحده أو ما يعطي معنى ذلك فالاسترقاء به مشروع
ويجاب عن حديث أبي سعيد بأن المراد أنه ترك ما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن ويحتمل
أن يكون المراد بقوله في الترجمة الرقي بالقرآن بعضه فإنه اسم جنس يصدق على بعضه والمراد
ما كان فيه التجاء إلى الله سبحانه ومن ذلك المعوذات وقد ثبتت الاستعاذة بكلمات الله في عدة
أحاديث كما مضى قال ابن بطال في المعوذات جوامع من الدعاء نعم أكثر المكروهات من السحر
والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بها (قلت)
وسيأتي في باب السحر شئ من هذا وقوله في المرض الذي مات فيه ليس قيدا في ذلك وإنما أشارت
عائشة إلى أن ذلك وقع في آخر حياته وأن ذلك لم ينسخ (قوله أنفث عنه) في رواية الكشميهني
عليه وسيأتي باب مفرد في النفث في الرقية (قوله وأمسح بيده نفسه) بالنصب على المفعولية أي
أمسح جسده بيده وبالكسر على البدل وفي رواية الكشميهني بيد نفسه وهو يؤيد الاحتمال
الثاني قال عياض فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسالة
ما يكتب من الذكر وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك
عن الراقي انتهى وليس بين قوله في هذه الرواية كان ينفث على نفسه وبين الرواية الأخرى
كان يأمرني أن أفعل ذلك معارضة لأنه محمول على أنه في ابتداء المرض كان يفعله بنفسه وفي
اشتداده كان يأمرها به وتفعله هي من قبل نفسها (قوله فسألت الزهري) القائل معمر وهو
موصول بالاسناد المذكور وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه وخصوصا اليد
اليمني (قوله باب الرقي بفاتحة الكتاب ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله
عليه وسلم) هكذا ذكره بصيغة التمريض وهو يعكر على ما تقرر بين أهل الحديث أن الذي يورده
البخاري بصيغة التمريض لا يكون على شرطه مع أنه أخرج حديث ابن عباس في الرقية بفاتحة
الكتاب عقب هذا الباب وأجاب شيخنا في كلامه على علوم الحديث بأنه قد يصنع ذلك إذا ذكر
الخبر بالمعنى ولا شك أن خبر ابن عباس ليس فيه التصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية
بفاتحة الكتاب وإنما فيه تقريره على ذلك فنسبة ذلك إليه صريحا تكون نسبة معنوية وقد علق
البخاري بعض هذا الحديث بلفظه فأتى به مجزوما كما تقدم في الإجارة في باب ما يعطي في الرقية
بفاتحة الكتاب وقال ابن عباس إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله ثم قال شيخنا لعل لابن
عباس حديثا آخر صريحا في الرقية بفاتحة الكتاب ليس على شرطه فلذلك أتى به بصيغة التمريض
(قلت) ولم يقع لي ذلك بعد التتبع ثم ذكر فيه حديث أبي سعيد في قصة الذين أتوا على الحي فلم
يقروهم فلدغ سيد الحي فرقاه أبو سعيد بفاتحة الكتاب وقد تقدم شرحه في كتاب
الإجارة مستوفى وقال ابن القيم إذا ثبت أن لبعض الكلام خواص ومنافع فما الظن بكلام
رب العالمين ثم بالفاتحة التي لم ينزل في القرآن ولا غيره من الكتب مثلها لتضمنها جميع معاني
الكتاب فقد اشتملت على ذكر أصول أسماء الله ومجامعها وإثبات المعاد وذكر التوحيد والافتقار
إلى الرب في طلب الإعانة به والهداية منه وذكر أفضل الدعاء وهو طلب الهداية إلى الصراط
168

المستقيم المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه
والاستقامة عليه ولتضمنها ذكر أصناف الخلائق وقسمتهم إلى منعم عليه لمعرفته بالحق والعمل به
ومغضوب عليه لعدوله عن الحق بعد معرفته وضال لعدم معرفته له مع ما تضمنته من اثبات القدر
والشرع والأسماء والمعاد والتوبة وتزكية النفس وإصلاح القلب والرد على جميع أهل البدع
وحقيق بسورة هذا بعض شأنها أن يستشفى بها من كل داء والله أعلم (قوله باب
الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب) تقدم التنبيه على هذه الترجمة في كتاب الإجارة (قوله حدثنا
سيدان) بكسر المهملة وسكون التحتانية (ابن مضارب) بضاد معجمة وموحدة آخره (أبو محمد
الباهلي) هو بصري قواه أبو حاتم وغيره وشيخه البراء بفتح الموحدة وتشديد الراء نسب إلى بري
العود كان عطارا وقد ضعفه ابن معين ووثقه المقدمي وقال أبو حاتم يكتب حديثه واتفق
الشيخان على التخريج له ووقع في نسخة الصغاني أبو معشر البصري وهو صدوق وشيخه عبيد الله
بالتصغير بن الأخنس بخاء معجمة ساكنة ونون مفتوحة هو نخعي كوفي يكنى أبا مالك ويقال أنه من
موالي الأزد وثقه الأئمة وشد ابن حبان فقال في الثقات يخطئ كثيرا وما للثلاثة في البخاري
سوى هذا الحديث ولكن لعبيد الله بن الأخنس عنده حديث آخر في كتاب الحج ولأبي معشر آخر
في الأشربة (قوله مروا بماء) أي بقوم نزول على ماء (قوله فيهم لديغ) بالغين المعجمة (أو سليم) شك
من الراوي والسليم هو اللديغ سمي بذلك تفاؤلا من السلامة لكون غالب من يلدغ يعطب وقيل
سليم فعيل بمعنى مفعول لأنه أسلم للعطب واستعمال اللدغ في ضرب العقرب مجاز والأصل أنه
الذي يضرب بفيه والذي يضرب بمؤخره يقال لسع وبإسنانه نهيس بالمهملة والمعجمة وبأنفه نكز
بنون وكاف وزاي وبنابه نشط هذا هو الأصل وقد يستعمل بعضها مكان بعض تجوزا (قوله
فعرض لهم رجل من أهل الماء) لم أقف على اسمه (قوله فانطلق رجل منهم) لم أقف على اسمه وقد
تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الإجارة وبينت فيه أن حديث ابن عباس وحديث أبي
سعيد في قصة واحدة وأنها وقعت لهم مع الذي لدغ وأنه وقعت للصحابة قصة أخرى مع رجل مصاب
بعقله فاغنى ذلك عن إعادته هنا (قوله باب رقية العين) أي رقية الذي يصاب بالعين
تقول عنت الرجل أصبته بعينك فهو معين ومعيون ورجل عائن ومعيان وعيون والعين نظر
باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر وقد وقع عند أحمد من وجه
آخر عن أبي هريرة رفعه العين حق ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم وقد أشكل ذلك على بعض
الناس فقال كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون والجواب أن طبائع الناس
تختلف فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون وقد نقل عن بعض
من كان معيانا أنه قال إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني ويقرب ذلك بالمرأة
الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد وكذا تدخل البستان
فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها يدها ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء
فيرمد ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو أشار إلى ذلك ابن بطال وقال الخطابي في الحديث أن
للعين تأثيرا في النفوس وإبطال قول الطبائعيين أنه لا شئ إلا ما تدرك الحواس الخمس وما عدا ذلك
لا حقيقة له وقال المازري زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين
169

فيهلك أو يفسد وهو كإصابة السم من نظر الأفاعي وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه وأن
الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن
يحدث الضرر عند مقابلة شخص لآخر وهل ثم جواهر خفية أو لا هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته
ولا نفيه ومن قال ممن ينتمي إلى الاسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن جواهر لطيفة غير
مرئية تنبعث من العائن فتتصل بالمعيون وتتخلل مسام جسمه فيخلق البارئ الهلاك عندها
كما يخلق الهلاك عند شرب السموم فقد أخطأ بدعوى القطع لكن جائز أن يكون عادة ليست
ضرورة ولا طبيعة اه‍ وهو كلام سديد وقد بالغ ابن العربي في إنكاره فقال ذهبت الفلاسفة إلى
أن الإصابة بالعين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه فأول ما تؤثر في نفسها ثم تؤثر في غيرها وقيل
إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به ثم رد
الأول بأنه لو كان كذلك لما تخلفت الإصابة في كل حال والواقع خلافه والثاني بأن سم الأفعى جزء
منها وكلها قاتل والعائن ليس يقتل منه شئ في قولهم إلا نظره وهو معنى خارج عن ذلك قال والحق
أن الله يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة وقد يصرفه قبل وقوعه
إما بالاستعاذة أو بغيرها وقد يصرفه بعد وقوعه بالرقية أو بالاغتسال أو بغير ذلك اه‍ كلامه وفيه
بعض ما يتعقب فإن الذي مثل بالأفعى لم يرد أنها تلامس المصاب حتى يتصل به من سمها وإنما أراد
أن جنسا من الأفاعي اشتهر أنها إذا وقع بصرها على الانسان هلك فكذلك العائن وقد أشار صلى
الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث أبي لبابة الماضي في بدء الخلق عند ذكر الأبتر وذي الطفيتين قال
فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل وليس مراد الخطابي بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه
الفلاسفة بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون وقد أخرج البزار بسند حسن
عن جابر رفعه أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس قال الراوي يعني بالعين وقد أجرى
الله العادة بوجود كثير من القوي والخواص في الأجسام والأرواح كما يحدث لمن ينظر إليه
من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك وكذا الاصفرار عند رؤية من
يخافه وكثير من الناس يسقم بمجرد النظر إليه ويضعف قواه وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى
في الأرواح من التأثيرات ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين وليست هي المؤثرة وإنما
التأثير للروح والأرواح مختلفة في طبائعها وقواها وكيفياتها وخواصها فمنها ما يؤثر في البدن
بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة والحاصل أن التأثير
بإرادة الله تعالى وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني بل يكون تارة به وتارة بالمقابلة
وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح كالذي يحدث من الأدعية والرقي والالتجاء إلى الله
وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن
لا وقاية له أثر فيه وإلا لم ينفذ السهم بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسى سواء (قوله سفيان)
هو الثوري (قوله حدثني معبد بن خالد) هو الجدلي الكوفي تابعي وشيخه عبد الله بن شداد هو
المعروف بابن الهاد له رؤية وأبوه صحابي (قوله عن عائشة) كذا للأكثر وكذا لمسلم من طريق مسعر
عن معبد بن خالد ووقع عند الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي مثله لكن شك فيه فقال
أو قال عن عبد الله بن شداد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة (قوله قالت أمرني النبي صلى
170

الله عليه وسلم أو أمر أن يسترقي من العين) أي يطلب الرقية ممن يعرف الرقي بسبب العين كذا
وقع بالشك هل قالت أمر بغير إضافة أو أمرني وقد أخرجه أبو نعيم في مستخرجه عن الطبراني
عن معاذ بن المثنى عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه فقال أمرني جزما وكذا أخرجه النسائي
والإسماعيلي من طريق أبي نعيم عن سفيان الثوري ولمسلم من طريق عبد الله بن نمير عن سفيان
كان يأمرني أن أسترقي وعنده من طريق مسعر عن معبد بن خالد كان يأمرها ولابن ماجة من
طريق وكيع عن سفيان أمرها أن تسترقي وهو الإسماعيلي في رواية عبد الرحمن بن مهدي
وفي هذا الحديث مشروعية الرقية لمن أصابه العين وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي من
طريق عبيد بن رفاعة عن أسماء بنت عميس أنها قالت يا رسول الله إن ولد جعفر تسرع إليهم العين
أفأسترقي لهم قال نعم الحديث وله شاهد من حديث جابر أخرجه مسلم قال رخص رسول الله صلى
الله عليه وسلم لآل حزم في الرقية وقال لأسماء مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة أتصيبهم الحاجة
قالت لا ولكن العين تسرع إليهم قال أرقيهم فعرضت عليه فقال أرقيهم وقوله ضارعة بمعجمة أوله
أي نحيفة وورد في مداواة المعيون أيضا ما أخرجه أبو داود من رواية الأسود عن عائشة أيضا
قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين وسأذكر كيفية
اغتساله في شرح حديث الباب الذي بعد هذا (قوله حدثنا محمد بن خالد) قال الحاكم والجوزقي
والكلاباذي وأبو مسعود ومن تبعهم هو الذهلي نسب إلى جد أبيه فإنه محمد بن يحيى بن عبد الله
ابن خالد بن فارس وقد كان أبو داود يروي عن محمد بن يحيى فينسب أباه إلى جد أبيه أيضا فيقول
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قالوا وقد حدث أبو محمد بن الجارود بحديث الباب عن محمد بن يحيى
الذهلي وهي قرينة في أنه المراد وقد وقع في رواية الأصيلي هنا حدثنا محمد بن خالد الذهلي فانتفى أن
يظن أنه محمد بن خالد بن جبلة الرافعي الذي ذكره ابن عدي في شيوخ البخاري وقد أخرج
الإسماعيلي وأبو نعيم أيضا حديث الباب من طريق محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن
عطية المذكور وكذا هو في كتاب الزهريات جمع الذهلي وهذا الاسناد مما نزل فيه البخاري في
حديث عروة بن الزبير ثلاث درجات فإنه أخرج في صحيحه حديثا عن عبد الله بن موسى عن هشام
ابن عروة عن أبيه وهو في العتق فكان بينه وبين عروة رجلان وهنا بينه وبينه فيه خمسة أنفس
ومحمد بن وهب بن عطية سلمى قد أدركه البخاري وما أدري لقيه أم لا وهو من أقران الطبقة
الوسطى من شيوخه وما له عنده إلا هذا الحديث وقد أخرجه مسلم عاليا بالنسبة لرواية البخاري
هذه قال حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن حرب فذكره ومحمد بن حرب شيخه خولاني حمصي كان
كاتبا للزبيدي شيخه في هذا الحديث وهو ثقة عند الجميع * (تنبيه) * اجتمع في هذا السند من
البخاري إلى الزهري ستة أنفس في نسق كل منهم اسمه محمد وإذا روينا الصحيح من طريق الفراوي
عن الحفص عن الكشميهني عن الفربري كانوا عشرة (قوله رأى في بيتها جارية) لم أقف على اسمها
ووقع في مسلم قال لجارية في بيت أم سلمة (قوله في وجهها سفعة) بفتح المهملة ويجوز ضمها
وسكون الفاء بعدها عين مهملة وحكى عياض ضم أوله قال إبراهيم الحربي هو سواد في الوجه
ومنه سفعة الفرس سواد ناصيته وعن الأصمعي حمرة يعلوها سواد وقيل صفرة وقيل سواد مع لون
آخر وقال ابن قتيبة لون يخالف لون الوجه وكلها متقاربة وحاصلها أن بوجهها موضعا على غير
171

لونه الأصلي وكأن الاختلاف بحسب اللون الأصلي فإن كان أحمر فالسفعة سواد صرف وأن كان
أبيض فالسفعة صفرة وإن كان أسمر فالسفعة حمرة يعلوها سواد وذكر صاحب البارع في اللغة أن
السفع سواد الخدين من المرأة الشاحبة والشحوب بمعجمة ثم مهملة تغير اللون بهزال أو غيره ومنه
سفعاء الخدين وتطلق السفعة على العلامة ومنه بوجهها سفعة غضب وهو راجع إلى تغير اللون
وأصل السفع الاخذ بقهر ومنه قوله تعالى لنسفعا بالناصية ويقال أن أصل السفع الاخذ
بالناصية ثم استعمل في غيرها وقيل في تفسيرها لنعلمنه بعلامة أهل النار من سواد الوجه ونحوه
وقيل معناه لنذلنه ويمكن رد الجميع إلى معنى واحد فإنه إذا أخذ بناصيته بطريق القهر أذله
وأحدث له تغير لونه فظهرت فيه تلك العلامة ومنه قوله في حديث الشفاعة قوم أصابهم سفع من
النار (قوله استرقوا لها) بسكون الراء (قوله فإن بها النظرة) بسكون الظاء المعجمة وفي رواية مسلم
فقال أن بها نظرة فاسترقوا لها يعني بوجهها صفرة وهذا التفسير ما عرفت قائله إلا أنه يغلب على
ظني أنه الزهري وقد أنكره عياض من حيث اللغة وتوجيهه ما قدمته واختلف في المراد بالنظرة
فقيل عين من نظر الجن وقيل من الانس وبه جزم أبو عبيد الهروي والأولى أنه أعم من ذلك
وأنها أصيبت بالعين فلذلك أذن صلى الله عليه وسلم في الإسترقاء لها وهو دال على مشروعية
الرقية من العين على وفق الترجمة (قوله تابعه عبد الله بن سالم) يعني الحمصي وكنيته أبو يوسف
(عن الزبيدي) أي على وصل الحديث وقال عقيل عن الزهري أخبرني عروة عن النبي صلى الله
عليه وسلم يعني لم يذكر في إسناده زينب ولا أم سلمة فأما رواية عبد الله بن سالم فوصلها الذهلي
في الزهريات وللطبراني في مسند الشاميين من طريق إسحق بن إبراهيم بن العلاء الحمصي عن عمرو
ابن الحرث الحمصي عن عبد الله بن سالم به سندا ومتنا وأما رواية عقيل فرواها ابن وهب عن ابن
لهيعة عن عقيل ولفظه إن جارية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة فقال
كأن بها سفعة أو خطرت بنار هكذا وقع لنا مسموعا في جزء من فوائد أبي الفضل بن طاهر بسنده
إلى ابن وهب ورواه الليث عن عقيل أيضا ووجدته في مستدرك الحاكم من حديثه لكن زاد فيه
عائشة بعد عروة وهو وهم فيما أحسب ووجدته في جامع ابن وهب عن يونس عن الزهري قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجارية فذكر الحديث واعتمد الشيخان في هذا الحديث على
رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه وقد روى الترمذي من
طريق الوليد بن مسلم أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري يعني في الضبط
وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من
أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم
الوصل عمل مطرد بل هو دائر مع القرينة فمهما ترجح بها اعتمداه وإلا فكم حديث أعرضا
عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله وقد جاء حديث عروة هذا من غير رواية الزهري
أخرجه البزار من رواية أبي معاوية عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة عن
أم سلمة فسقط من روايته ذكر زينب بنت أم سلمة وقال الدارقطني رواه مالك وابن عيينة
وسمي جماعة كلهم عن يحيى بن سعيد فلم يجاوزا به عروة وتفرد أبو معاوية بذكر أم سلمة
فيه ولا يصح وإنما قال ذلك بالنسبة لهذه الطريق لانفراد الواحد عن العدد الجم وإذا انضمت هذه
172

الطريق إلى رواية الزبيدي قويت جدا والله أعلم (قوله باب العين حق) أي الإصابة
بالعين شئ ثابت موجود أو هو من جملة ما تحقق كونه قال المازري أخذ الجمهور بظاهر الحديث
وأنكره طوائف المبتدعة لغير معنى لان كل شئ ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا
إفساد دليل فهو من متجاوزات العقول فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لانكاره معنى وهل من
فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة (قوله العين حق ونهى عن الوشم)
لم تظهر المناسبة بين هاتين الجملتين فكأنهما حديثان مستقلان ولهذا حذف مسلم وأبو داود
الجملة الثانية من روايتهما مع أنهما أخرجاه من رواية عبد الرزاق الذي أخرجه البخاري من
جهته ويحتمل أن يقال المناسبة بينهما اشتراكهما في أن كلا منهما يحدث في العضو لونا غير لونه
الأصلي والوشم بفتح الواو وسكون المعجمة أن يغرز إبرة أو نحوها في موضع من البدن حتى يسيل
الدم ثم يحشى ذلك الموضع بالكحل أو نحوه فيخضر وسيأتي بيان حكمة في باب المستوشمة من
أواخر كتاب اللباس إن شاء الله تعالى وقد ظهرت لي مناسبة بين هاتين الجملتين لم أر من سبق إليها
وهي أن من جملة الباعث على عمل الوشم تغير صفة الموشوم لئلا تصيبه العين فنهى عن الوشم مع
إثبات العين وأن التحيل بالوشم وغيره مما لا يستند إلى تعليم الشارع لا يفيد شيئا وأن الذي قدره
الله سيقع وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه العين حق ولو كان شئ سابق القدر لسبقته
العين وإذا استغسلتم فاغسلوا فأما الزيادة الأولى ففيها تأكيد وتنبيه على سرعة نفوذها وتأثيره
في الذات وفيها إشارة إلى الرد على من زعم من المتصوفة أن قوله العين حق يريد به القدر أي العين
التي تجري منها الاحكام فإن عين الشئ حقيقته والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند
نظر الناظر إنما هو بقدر الله السابق لا بشئ يحدثه الناظر في المنظور ووجه الرد أن الحديث
ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور لكن ظاهره اثبات
العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه فيها وإما باجراء العادة بحدوث
الضرر عند تحديد النظر وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في اثبات العين لا أنه يمكن أن يرد
القدر شئ إذ القدر عبارة عن سابق علم الله وهو لا راد لامره أشار إلى ذلك القرطبي وحاصله
لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها وقد أخرج
البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أكثر من يموت من أمتي بعد
قضاء الله وقدره بالأنفس قال الراوي يعني بالعين وقال النووي في الحديث إثبات القدر وصحة
أمر العين وأنها قوية الضرر وأما الزيادة الثانية وهي أمر العاين بالاغتسال عند طلب المعيون
منه ذلك ففيها إشارة إلى أن الاغتسال لذلك كان معلوما بينهم فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد
منهم وأدنى ما في ذلك رفع الوهم الحاصل في ذلك وظاهر الامر الوجوب وحكى المازري فيه
خلافا وصحح الوجوب وقال متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به
فإنه يتعين وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى ولم يبين في حديث ابن عباس صفة
الاغتسال وقد وقعت في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان من طريق
الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا
معه نحو ماء حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن
173

الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط أي صرع وزنا
ومعنى سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل تتهمون به من أحد قالوا عامر بن ربيعة
فدعا عامرا فتغيظ عليه فقال علام يقتل أحدكم أخاه هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت ثم قال اغتسل
له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب ذلك
الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره ثم يكفأ القدح ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس
ليس به بأس لفظ أحمد من رواية أبي أويس عن الزهري ولفظ النسائي من رواية ابن أبي ذئب
عن الزهري بهذا السند أنه يصب صبه على وجهه بيده اليمنى وكذلك سائر أعضائه صبة صبة
في القدح وقال في آخره ثم يكفأ القدح وراءه على الأرض ووقع في رواية ابن ماجة من طريق ابن
عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر
الحديث وفيه فليدع بالبركة ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين
وركبتيه وداخلة إزاره وأمره أن يصب عليه قال سفيان قال معمر عن الزهري وأمر أن يكفأ
الاناء من خلفه قال المازري المراد بداخلة الازار الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن قال
فظن بعضهم أنه كناية عن الفرج انتهى وزاد عياض أن المراد ما يلي جسده من الازار وقيل أراد
موضع الازار من الجسد وقيل أراد وركه لأنه معقد الازار والحديث في الموطأ وفيه عن مالك
حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل أنه سمع أباه يقول اغتسل سهل فذكر نحوه وفيه فنزع جبة كانت
عليه وعامر بن ربيعة ينظر فقال ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء فوعك سهل مكانه واشتد وعكه
وفيه ألا بركت أن العين حق توضأ له فتوضأ له عامر فراح سهل ليس به بأس * (تنبيهات) * الأول
اقتصر النووي في الاذكار على قوله الإستغسال أن يقال للعائن اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد
فإذا فعل صبه على المنظور إليه وهذا يوهم الاقتصار على ذلك وهو عجيب ولا سيما وقد نقل
في شرح مسلم كلام عياض بطوله * الثاني قال المازري هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه
من جهل العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه وقال ابن العربي أن توقف فيه متشرع قلنا له قل
الله ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة أو متفلسف فالرد عليه أظهر لان عنده
أن الأدوية تفعل بقواها وقد تفعل بمعنى لا يدرك ويسمون ما هذا سبيله الخواص وقال ابن
القيم هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير
معتقد وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس
وإنما تفعل بالخاصية فما الذي تنكر جهلتهم من الخواص الشرعية هذا مع أن في المعالجة
بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج
النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن فكأن أثر تلك العين كشعلة نار وقعت
على جسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع
الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شئ أرق من المغابن فكان في غسلها إبطال لعملها ولا
سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصا وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب
من أرق المواضع وأسرعها نفاذا فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء * الثالث هذا
الغسل ينفع بعد استحكام النظرة فإما عند الإصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى
174

ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة كما مضى ألا بركت عليه وفي رواية ابن ماجة
فليدع بالبركة ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة وأخرج البزار وابن السني من
حديث أنس رفعه من رأى شيا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره وفي الحديث من
الفوائد أيضا أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال وأن الاغتسال من النشرة النافعة وأن
العين تكون مع الاعجاب ولو بغير حسد ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح وأن الذي يعجبه
الشئ ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة ويكون ذلك رقية منه وأن الماء المستعمل
طاهر وفيه جواز الاغتسال بالفضاء وأن الإصابة بالعين قد تقتل وقد اختلف في جريان
القصاص بذلك فقال القرطبي لو أتلف العائن شيئا ضمنه ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر
ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا انتهى ولم يتعرض
الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه وقالوا أنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا وقال النووي
في الروضة ولا دية فيه ولا كفارة لان الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض
الناس في بعض الأحوال مما لا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلا وإنما غايته حسد وتمن لزوال
نعمة وأيضا فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ولا يتعين ذلك المكروه
في زوال الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين اه‍ ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل
الساحر فإنه في معناه والفرق بينهما فيه عسر ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم فإنه يبغي للامام
منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به فإن
ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس كما تقدم واضحا
في بابه وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة قال النووي وهذا
القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه (قوله باب رقية الحية
والعقرب) أي مشروعية ذلك وأشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق حديث الباب على
ما سأذكره (قوله عبد الواحد) هو ابن زياد وبذلك جزم أبو نعيم حيث أخرج الحديث من طريق
محمد بن عبيد بن حسان عنه (قوله سليمان الشيباني) هو أبو إسحق مشهور بكنيته أكثر
من اسمه (قوله رخص) فيه إشارة إلى أن النهي عن الرقي كان متقدما وقد بينت ذلك في الباب
الأول (قوله من كل ذي حمة) بضم المهملة وتخفيف الميم تقدم بيانها في باب ذات الجنب وأن
المراد بها ذوات السموم ووقع في رواية أبي الأحوص عن الشيباني بسنده رخص في الرقية من
الحية والعقرب (قوله باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم) أي التي كان يرقى بها
ذكر فيه ثلاثة أحاديث * الأول حديث أنس (قوله عبد الوارث) هو ابن سعيد وعبد العزيز هو
ابن صهيب والاسناد بصريون (قوله فقال ثابت) هو البناني (يا أبا حمزة) هي كنية أنس (قوله
اشتكيت) بضم التاء أي مرضت ووقع في رواية الإسماعيلي أني اشتكيت (قوله ألا) بتخفيف
اللام للعرض وأرقيك بفتح الهمزة (قوله مذهب الباس) بغير همز للمؤاخاة فإن أصله الهمزة
(قوله أنت الشافي) يؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين أحدهما أن
لا يكون في ذلك ما يوهم نقصا والثاني أن يكون له أصل في القرآن وهذا من ذاك فإن في القرآن
وإذا مرضت فهو يشفين (قوله لا شافي إلا أنت) إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي
175

إن لم يصادف تقدير الله تعالى وإلا فلا ينجع (قوله شفاء) مصدر منصوب بقوله اشف ويجوز الرفع
على أنه خبر مبتدأ أي هو (قوله لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك وقد تقدم بيانه والحكمة
فيه في أواخر كتاب المرضى وقوله سقما بضم ثم سكون وبفتحتين أيضا ويؤخذ من هذا الحديث
أن الإضافة في الترجمة للفاعل وقد ورد ما يدل على أنها للمفعول وذلك فيما أخرجه مسلم من
حديث أبي سعيد إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد اشتكيت قال نعم قال بسم
الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد والله يشفيك وله شاهد عنده بمعناه
من حديث عائشة * الحديث الثاني (قوله يحيى) هو القطان وسفيان هو الثوري وسليمان
هو الأعمش ومسلم هو أبو الضحى مشهور بكنيته أكثر من اسمه وجوز الكرماني أن يكون مسلم
ابن عمران لكونه يروي عن مسروق ويروي الأعمش عنه وهو تجويز عقلي محض يمجه سمع المحدث
على أنني لم أر لمسلم بن عمران البطين رواية عن مسروق وإن كانت ممكنة وهذا الحديث إنما هو
من رواية الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق وقد أخرجه مسلم من رواية جرير عن الأعمش
عن أبي الضحى عن مسروق به ثم أخرجه من رواية هشيم ومن رواية شعبة ومن رواية يحيى
القطان عن الثوري كلهم عن الأعمش قال بإسناد جرير فوضح أن مسلما المذكور في رواية
البخاري هو أبو الضحى فإنه أخرجه من رواية يحيى القطان وغايته أن بعض الرواة عن يحيى
سماه وبعضهم كناه والله أعلم (قوله كان يعوذ بعض أهله) لم أقف على تعيينه (قوله يمسح بيده
اليمنى) أي على الوجع قال الطبري هو على طريق التفاؤل لزوال ذلك الوجع (قوله واشفه
وأنت الشافي) في رواية الكشميهني بحذف الواو والضمير في اشفه للعليل أو هي هاء السكت
(قوله لا شفاء) بالمد مبني على الفتح والخبر محذوف والتقدير لنا أو له (قوله إلا شفاؤك) بالرفع
على أنه بدل من موضع لا شفاء (قوله قال سفيان) هو موصول بالاسناد المذكور (قوله
حدثت به منصورا) هو ابن المعتمر وصار بذلك في هذا الحديث إلى مسروق طريقان وإذا ضم
الطريق الذي بعده إليه صار إلى عائشة طريقان وإذا ضم إلى حديث أنس صار إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فيه طريقان (قوله نحوه) تقدم سياقه في أواخر كتاب المرضى مع بيان الاختلاف
على الأعمش ومنصور في الواسطة بينهما وبين مسروق ومن أفرد ومن جمع وتحرير ذلك واضحا
(قوله في الطريق الأخرى النضر) هو ابن شميل (قوله كان يرقى) بكسر القاف وهو بمعنى قوله في
الرواية التي قبلها كان يعوذ ولعل هذا هو السر أيضا في إيراد طريق عروة وأن كان سياق مسروق
أتم لكن عروة صرح بكون ذلك رقية فيوافق حديث أنس في أنها رقية النبي صلى الله عليه وسلم
(قوله امسح) هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى أذهب والمراد الإزالة (قوله بيدك الشفاء
لا كاشف له) أي للمرض (إلا أنت) وهو بمعنى قوله اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت * الحديث
الثالث (قوله سفيان) هو ابن عيينة كما صرح به في الطريق الثانية وقدم الأولى لتصريح
سفيان بالحديث وصدقه شيخه في الثانية هو ابن الفضل المرزوي (قوله عبد ربه بن سعيد) هو
الأنصاري أخو يحيى بن سعيد هو ثقة ويحيى أشهر منه وأكثر حديثا (قوله كان يقول للمريض
بسم الله) في رواية صدقة كان يقول في الرقية وفي رواية مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان زيادة
في أوله ولفظه كان إذا اشتكى الانسان أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم
بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها بسم الله (قوله تربة أرضنا) خبر مبتدأ
176

محذوف أي هذه تربة وقوله بريقة بعضنا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية قال النووي معنى
الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شئ منه ثم مسح
به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح قال القرطبي فيه دلالة على
جواز الرقي من كل الآلام وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم قال ووضع النبي صلى الله
عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية ثم قال وزعم بعض
علمائنا أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب
المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها قال وقال في الريق أنه يختص بالتحليل
والانضاج وابراء الجرح والورم لا سيما من الصائم الجائع وتعقبه القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا
وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته وإلا
فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر وإنما هذا من باب التبرك
بأسماء الله تعالى وآثار رسوله وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك أو لحكمة
إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة وقال البيضاوي قد شهدت المباحث الطبية على
أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر فقد
ذكروا أن ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها حتى إذا ورد المياه
المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك ثم أن الرقي والعزائم لها آثار عجيبة تتعاقد
العقول عن الوصول إلى كنهها وقال التوربشتي كأن المراد بالتربة الإشارة إلى فطرة آدم والريقة
الإشارة إلى النطفة كأنه تضرع بلسان الحال إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته
منه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته وقال النووي قيل المراد بأرضنا
أرض المدينة خاصة لبركتها وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه فيكون ذلك
مخصوصا وفيه نظر (قوله يشفي سقيمنا) ضبط بالوجهين بضم أوله على البناء للمجهول وسقيمنا
بالرفع وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر وسقيمنا بالنصب على المفعولية * (تنبيه) * أخرج أبو داود
والنسائي ما يفسر به الشخص المرقي وذلك في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على
ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض فقال اكشف البأس رب الناس ثم أخذ ترابا من بطحان
فجعله في قدح ثم نفث عليه ثم صبه عليه (قوله باب النفث) بفتح النون وسكون الفاء
بعدها مثلثة (في الرقية) في هذه الترجمة إشارة إلى الرد على من كره النفث مطلقا كالأسود بن يزيد
أحد التابعين تمسكا بقوله تعالى ومن شر النفاثات في العقد وعلى من كره النفث عند قراءة القرآن
خاصة كإبراهيم النخعي أخرج ذلك ابن أبي شيبة وغيره فأما الأسود فلا حجة له في ذلك لان
المذموم ما كان من نفث السحرة وأهل الباطل ولا يلزم منه ذم النفث مطلقا ولا سيما بعد ثبوته
في الأحاديث الصحيحة وأما النخعي فالحجة عليه ما ثبت في حديث أبي سعيد الخدري ثالث أحاديث
الباب فقد قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة وفيها أنه قرأ بفاتحة الكتاب وتفل ولم ينكر
ذلك صلى الله عليه وسلم فكان ذلك حجة وكذا الحديث الثاني فهو واضح من قوله صلى الله عليه
وسلم وقد تقدم بيان النفث مرارا أو من قال إنه لا ريق فيه وتصويب أن فيه ريقا خفيفا وذكر
فيه ثلاثة أحاديث (قوله سليمان) هو ابن بلال ويحيى بن سعيد هو الأنصاري والاسناد كله
177

مدنيون (قوله الرؤيا من الله) يأتي شرحه مستوفى في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى وقوله
فلينفث هو المراد من الحديث المذكور في هذه الترجمة لأنه دل على جدواها (قوله وقال أبو سلمة)
هو موصول بالاسناد المذكور وقوله فإن كنت في رواية الكشميهني بدون الفاء وقوله أثقل
على من الجبل أي لما كان يتوقع من شرها * الحديث الثاني (قوله سليمان) هو ابن بلال أيضا
ويونس هو ابن يزيد (قوله إذا أوى إلى فراشه نفث في كفه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين) أي
يقرؤها وينفث حالة القراءة وقد تقدم بيان ذلك في الوفاة النبوية (قوله ثم يمسح بهما وجهه
وما بلغت يداه من جسده) في رواية المفضل بن فضالة عن عقيل ثم يمسح بهما ما استطاع من
جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات (قوله فلما
اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به) وهذا مما تفرد به سليمان بن بلال عن يونس وقد تقدم في الوفاة
النبوية من رواية عبد الله بن المبارك عن يونس بلفظ فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه طفقت
أنفث عليه وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس فلم يذكرها (قوله قال يونس كنت أرى
ابن شهاب يصنع ذلك إذا أوى إلى فراشه) وقع نحو ذلك في رواية عقيل عن ابن شهاب عند عبد
ابن حميد وفيه إشارة إلى الرد على من زعم أن هذه الرواية شاذة وأن المحفوظ أنه صلى الله عليه
وسلم كان يفعل ذلك إذا اشتكى كما في رواية مالك وغيره فدلت هذه الزيادة على أنه كان يفعل ذلك
إذا أوى إلى فراشه وكان يفعله إذا اشتكى شيئا من جسده فلا منافاة بين الروايتين وقد تقدم في
فضائل القرآن قول من قال إنهما حديثان عن الزهري بسند واحد * الحديث الثالث حديث
أبي سعيد في قصة اللديغ الذي رقاه بفاتحة الكتاب وتقدم شرحه مستوفى في كتاب الإجارة
وتقدمت الإشارة إليه قريبا ووقع في هذه الرواية فجعل يتفل ويقرأ وقد قدمت أن النفث دون
التفل وإذا جاز التفل جاز النفث بطريق الأولى وفيها ما به قلبة بفتح اللام بعدها موحدة أي ما به ألم
يقلب لآجله على الفراش وقيل أصله من القلاب بضم القاف وهو داء يأخذ البعير فيمسك على
قلبه فيموت من يومه (قوله باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى) ذكر فيه حديث
عائشة في ذلك وقد تقدم شرحه قريبا والقائل فذكرته لمنصور هو سفيان الثوري كما تقدم
التصريح به في باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم (قوله باب المرأة ترقي الرجل)
178

ذكر فيه حديث عائشة وفيه قولها كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما
ثقل كنت أنا أنفث عليه وقد تقدم قبل بباب من رواية يونس عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم
أمرها بذلك وزاد في رواية معمر هنا كيفية ذلك فقال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه (قوله
باب من لم يرق) هو بفتح أوله وكسر القاف مبنيا للفاعل وبضم أوله وفتح القاف
مبنيا للمفعول (قوله حصين بن نمير) بنون مصغر هو الواسطي ماله في البخاري سوى هذا الحديث
وقد تقدم بهذا الاسناد الاسناد في أحاديث الأنبياء لكن باختصار وتقدم الحديث بعينه من وجه آخر
عن حصين بن عبد الرحمن في باب من اكتوى وذكرت من زاد في أوله قصة وأن شرحه سيأتي في
كتاب الرقاق والغرض منه هنا قوله هم الذين لا يطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون فأما الطيرة
فسيأتي ذكرها بعد هذا وأما الكي فتقدم ذكر ما فيه هناك وأما الرقية فتمسك بهذا الحديث
من كره الرقي والكي من بين سائر الأدوية وزعم أنهما قادحان في التوكل دون غيرهما وأجاب
العلماء عن ذلك بأجوبة أحدها قاله الطبري والمأزري وطائفة أنه محمول على من جانب اعتقاد
الطبائعيين في أن الأدوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون وقال غيره الرقي التي
يحمد تركها ما كان من كلام الجاهلية ومن الذي لا يعقل معناه لاحتمال أن يكون كفرا بخلاف
الرقي بالذكر ونحوه وتعقبه عياض وغيره بأن الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم
وفضيلة انفردوا بها عمن شاركهم في أصل الفضل والديانة ومن كان يعتقد أن الأدوية تؤثر
بطبعها أو يستعمل رقي الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب ثانيها قال الداودي
وطائفة إن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء وأما من يستعمل
الدواء بعد وقوع الداء به فلا وقد قمت قدمت هذا عن ابن قتيبة وغيره في باب من اكتوى وهذا اختيار
ابن عبد البر غير أنه معترض بمقدمته من ثبوت الاستعاذة قبل وقوع الداء ثالثها قال الحليمي
يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من
الأسباب المعدة لدفع العوارض فهم لا يعرفون الإكتواء ولا الإسترقاء وليس لهم ملجأ فيما
يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه فهم غافلون عن طب الأطباء ورقي الرقاة
ولا يحسنون من ذلك شيئا والله أعلم رابعها أن المراد بترك الرقي والكي الاعتماد على الله في دفع
الداء والرضا بقدره لا القدح في جواز ذلك لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف
الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه قال
ابن الأثير هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائعها وهؤلاء هم خواص
الأولياء ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فعلا وأمرا لأنه كان في أعلى
مقامات العرفان ودرجات التوكل فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز ومع ذلك فلا ينقص
ذلك من توكله لأنه كان كامل التوكل يقينا فلا يؤثر فيه تعاطي الأسباب شيئا بخلاف غيره ولو كان
كثير التوكل لكن من ترك الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما قال الطبري قيل
لا يستحق التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شئ البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي
ولا من لم يسع في طلب رزق ولا في مداواة ألم والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض
لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب أتباعا لسنته وسنة رسوله فقد ظاهر صلى الله عليه وسلم
179

في الحرب بين درعين ولبس على رأسه المغفر وأقعد الرماة على فم الشعب وخندق حول المدينة
وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر
لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو على كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك وقال للذي
سأله أعقل ناقتي أو أدعها قال اعقلها وتوكل فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل والله أعلم
(قوله باب الطيرة) بكسر المهملة وفتح التحتانية وقد تسكن هي التشاؤم بالشين
وهو مصدر تطير مثل تحير حيرة قال بعض أهل اللغة لم يجئ من المصادر هكذا غير هاتين وتعقب
بأنه سمع طيبة وأورد بعضهم التولة وفيه نظر وأصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على
الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر وأن رآه طار يسرة تشاءم به
ورجع وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها فجاء الشرع بالنهي عن ذلك وكانوا
يسمونه السانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة والبارح بموحدة وآخره مهملة فالسانح ما ولاك
ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك والبارح بالعكس وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون
بالبارح لأنه لا يمكن رميه إلى بأن ينحرف إليه وليس في شئ من سنوح الطير وبروحها ما يقتضي
ما اعتقدوه وإنما هو تكلف بتعاطي ما لا أصل له إذ لا نطق للطير ولا تمييز فيستدل بفعله على
مضمون معنى فيه وطلب العلم من غير مظانه جهل من فاعله وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر
التطير ويتمدح بتركه قال شاعر منهم
ولقد غدوت وكنت لا * أغدو على واق وحاتم
فإذا الأشائم كالأيامن * والأيامن كالأشائم
وقال آخر
الزجر والطير والكهان كلهم * مضللون ودون الغيب أقفال
وقال آخر
وما عاجلات الطير تدنى من الفتى * نجاحا ولا عن رئيهن قصور
وقال آخر
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى * ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وقال آخر
تخير طيرة فيها زياد * لتخبره وما فيها خبير
تعلم أنه لا طير إلا * على متطير وهو الثبور
بلى شئ يوافق بعض شئ * أحايينا وباطله كثير
وكان أكثرهم يتطيرون ويعتمدون على ذلك ويصح معهم غالبا لتزيين الشيطان ذلك وبقيت من
ذلك بقايا في كثير من المسلمين وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أنس رفعه لا طيرة
والطيرة على من تطير وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية عن النبي صلى الله عليه
وسلم ثلاثة لا يسلم منهن أحد الطيرة والظن والحسد فإذا تطيرت فلا ترجع وإذا حسدت فلا تبغ
وإذا ظننت فلا تحقق وهذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي
في الشعب وأخرج ابن عدي بسند لين عن أبي هريرة رفعه إذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا
180

وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء رفعه لن ينال الدرجات العلاء من تكهن أو استسقم أو رجع
من سفر تطيرا ورجاله ثقات إلا أنني أظن أن فيه انقطاعا وله شاهد عن عمران بن حصين وأخرجه
البزار في أثناء حديث بسند جيد وأخرج أبو داود والترمذي وصححه هو وابن حبان عن ابن
مسعود رفعه الطيرة شرك وما منا الا تطير ولكن الله يذهبه بالتوكل وقوله وما منا إلا من كلام ابن
مسعود أدرج في الخبر وقد بينه سليمان بن حرب شيخ البخاري فيما حكاه الترمذي عن البخاري عنه
وإنما جعل ذلك شركا لاعتقادهم أن ذلك يجلب نفعا أو يدفع ضرا فكأنهم أشركوه مع الله تعالى
وقوله ولكن الله يذهبه بالتوكل إشارة إلى أن من وقع له ذلك فسلم لله ولم يعبأ بالطيرة أنه لا يؤاخذ
بما عرض له من ذلك وأخرج البيهقي في الشعب من حديث عبد الله بن عمرو موقوفا من عرض له
من هذه الطيرة شئ فليقل اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك (قوله لا عدوى
ولا طيرة والشؤم في ثلاث) قد تقدم شرح هذا الحديث وبيان اختلاف الرواة في سياقه في كتاب
الجهاد والتطير والتشاؤم بمعنى واحد فنفى أولا بطريق العموم كما نفى العدوي ثم أثبت الشؤم
في الثلاثة المذكورة وقد ذكرت ما قيل في ذلك هناك وقد وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند
أبي داود بلفظ وإن كانت الطيرة في شئ الحديث (قوله في الحديث الثاني لا طيرة وخيرها الفأل)
يأتي شرحه في الباب الذي بعده وكأنه أشار بذلك إلى أن النفي في الطيرة على ظاهره لكن في الشر
ويستثنى من ذلك ما يقع فيه من الخير كما سأذكره (قوله باب الفأل) بفاء ثم همزة
وقد تسهل والجمع فئول بالهمزة جزما (قوله عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود
وقد صرح في رواية شعيب التي قبل هذه فيه بالاخبار (قوله قال وما الفأل) كذا للأكثر
بالافراد وللكشميهني قالوا كرواية شعيب (قوله الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) وقال
في حديث أنس ثاني حديثي الباب ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة وفي حديث عروة بن
عامر الذي أخرجه أبو داود قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خيرها الفأل
ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي الحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات
إلا أنت ولا حول ولا قوة إلى بالله وقوله وخيرها الفأل قال الكرماني تبعا لغير هذه الإضافة تشعر
بأن الفأل من جملة الطيرة وليس كذلك بل هي إضافة توضيح ثم قال وأيضا فإن من جملة الطيرة كما
تقدم تقريره التيامن فبين بهذا الحديث أنه ليس كل التيامن مردودا كالتشاؤم بل بعض
التيامن مقبول (قلت) وفي الجواب الأول دفع في صدر السؤال وفي الثاني تسليم السؤال
ودعوى التخصيص وهو أقرب وقد أخرج ابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة رفعه كان يعجبه
الفأل ويكره الطيرة وأخرج الترمذي من حديث حابس التميمي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقول العين حق وأصدق الطيرة الفأل ففي هذا التصريح أن الفأل من جملة الطيرة لكنه مستثنى
وقال الطيبي الضمير المؤنث في قوله وخيرها راجع إلى الطيرة وقد علم أن الطيرة كلها لا خير فيها فهو
كقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وهو مبني على زعمهم وهو من إرخاء العنان في
المخادعة بأن يجري الكلام على زعم الخصم حتى لا يشمئز عن التفكر فيه فإذا تفكر فانصف من
نفسه قبل الحق فقوله خيرها الفأل إطماع للسامع في الاستماع والقبول لا أن في الطيرة خيرا
حقيقة أو هو من نحو قولهم الصيف أحر من الشتاء أي الفأل في بابه أبلغ من الطيرة في بابها
181

والحاصل أن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين الشيئين والقدر المشترك بين
الطيرة والفأل تأثير كل منهما فيما هو فيه والفأل في ذلك أبلغ قال الخطابي وإنما كان ذلك لان
مصدر الفأل عن نطق وبيان فكأنه خبر جاء عن غيب بخلاف غيره فإنه مستند إلى حركة الطائر
أو نطقه وليس فيه بيان أصلا وإنما هو تكلف ممن يتعاطاه وقد أخرج الطبري عن عكرمة قال
كنت عند ابن عباس فمر طائر فصاح فقال رجل خير خير فقال ابن عباس ما عند هذا لاخير
ولا شر وقال أيضا الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل من طريق حسن الظن بالله والطيرة لا تكون
إلا في السوء فلذلك كرهت وقال النووي الفال يستعمل فيما يسوء وفيما يسر وأكثره في
السرور والطيرة لا تكون إلا في الشؤم وقد تستعمل مجازا في السرور اه‍ وكأن ذلك بحسب
الواقع وأما الشرع فخص الطيرة بما يسوء والفأل بما يسر ومن شرطه أن لا يقصد إليه فيصير من
الطيرة قال ابن بطال جعل الله في فطر الناس محبة الكلمة الطيبة والانس بها كما جعل فيهم
الارتياح بالمنظر الأنيق والماء الصافي وأن كان لا يملكه ولا يشربه وأخرج الترمذي وصححه من
حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع يا نجيح يا راشد
وأخرج أبو داود بسند حسن عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شئ وكان إذا
بعث عاملا يسأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به وأن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه وذكر البيهقي
في الشعب عن الحليمي ما ملخصه كان التطير في الجاهلية في العرب ازعاج الطير عند إرادة الخروج
للحاجة فذكر نحو ما تقدم ثم قال وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء فسموا الكل
تطيرا لان أصله الأول قال وكان التشاؤم في العجم إذا رأى الصبي ذاهبا إلى المعلم تشاءم أو راجعا
تيمن وكذا إذا رأى الجمل موقرا حملا تشاءم فإن رآه واضعا حمله تيمن ونحو ذلك فجاء الشرع برفع
ذلك كله وقال من تكهن أورده عن سفر تطير فليس منا ونحو ذلك من الأحاديث وذلك إذا
اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجبا ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى فأما إن علم أن
الله هو المدبر ولكنه أشفق من الشر لان التجارب قضت بأن صوتا من أصواتها معلوما أو حالا من
أحوالها معلومة يردفها مكروه فإن وطن نفسه على ذلك أساء وأن سأل الله الخير واستعاذ به من
الشر ومضى متوكلا لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك وإلا فيؤاخذ به وربما وقع به ذلك المكروه
بعينه الذي اعتقده عقوبة له كما كان يقع كثيرا لأهل الجاهلية والله أعلم قال الحليمي وإنما كان
صلى الله عليه وسلم يعجبه الفال لان التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق والتفاؤل حسن
ظن به والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال وقال الطيبي معنى الترخص في الفأل
والمنع من الطيرة هو أن الشخص لو رأى شيئا فظنه حسنا محرضا على طلب حاجته فليفعل ذلك
وأن رآه بضد ذلك فلا يقبله بل يمضي لسبيله فلو قبل وانتهى عن المضي فهو الطيرة التي اختصت
بأن تستعمل في الشؤم والله أعلم (قوله باب لا هامة) كذا للجميع وذكر فيه
حديث أبي هريرة لا عدوي ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ثم ترجم بعد سبعة أبواب باب لا هامة
وذكر فيه الحديث المذكور مطولا وليس فيه ولا طيرة وهذا من نوادر ما اتفق له أن يترجم للحديث
في موضعين بلفظ واحد وسأذكر شرح الهامة في الموضع الثاني إن شاء الله تعالى ثم ظهر لي أنه أشار
بتكرار هذه الترجمة إلى الخلاف في تفسير الهامة كما سيأتي بيانه (قوله باب الكهانة)
182

وقع في ابن بطال هنا والسحر وليس هو في نسخ الصحيح فيما وقفت عليه بل ترجمة السحر في باب
مفرد عقب هذه والكهانة بفتح الكاف ويجوز كسرها ادعاء علم الغيب كالاخبار بما سيقع
في الأرض مع الاستناد إلى سبب والأصل فيه استراق الجنى السمع من كلام الملائكة فيلقيه في
أذن الكاهن والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب بالحصى والمنجم ويطلق على من
يقوم بأمر آخر ويسعى في قضاء حوائجه وقال في المحكم الكاهن القاضي بالغيب وقال في
الجامع العرب تسمي كل من أذن بشئ قبل وقوعه كاهنا وقال الخطابي الكهنة قوم لهم أذهان
حادة ونفوس شريرة وطباع نارية فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور
ومساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه وكانت الكهانة في الجاهلية فاشية خصوصا في العرب
لانقطاع النبوة فيهم وهي على أصناف منها ما يتلقونه من الجن فإن الجن كانوا يصعدون إلى
جهة السماء فيركب بعضهم بعضا إلى أن يدنو الاعلى بحيث يسمع الكلام فيلقيه إلى الذي يليه إلى
أن يتلقاه من يلقيه في أذن الكاهن فيزيد فيه فلما جاء الاسلام ونزل القرآن حرست السماء من
الشياطين وأرسلت عليهم الشهب فبقي من استراقهم ما يتخطفه الاعلى فيلقيه إلى الأسفل قبل أن
يصيبه الشهاب وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى إلا من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب وكانت
إصابة الكهان قبل الاسلام كثيرة جدا كما جاء في أخبار شق وسطيح ونحوهما وأما في الاسلام
فقد ندر ذلك جدا حتى كاد يضمحل ولله الحمد ثانيها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره مما
لا يطلع عليه الانسان غالبا أو يطلع عليه من قرب منه لا من بعد ثالثها ما يستند إلى ظن وتخمين
وحدس وهذا قد يجعل الله فيه لبعض الناس قوة مع كثرة الكذب فيه رابعها ما يستند إلى
التجربة والعادة فيستدل على الحادث بما وقع قبل ذلك ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر
وقد يعتضد بعضهم من ذلك بالزجر والطرق والنجوم وكل ذلك مذموم شرعا وورد في ذم الكهانة
ما أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة رفعه من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه
بما يقول فقد كفر بما انزل على محمد وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار
بسندين جيدين ولفظهما من أتى كاهنا وأخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم ومن الرواة من سماها حفصة بلفظ ممن أتى عرافا وأخرجه أبو يعلى من حديث
ابن مسعود بسند جيد لكن لم يصرح برفعه ومثله لا يقال بالرأي ولفظه من أتى عرافا أو ساحرا
أو كاهنا واتفقت ألفاظهم على الوعيد بلفظ حديث أبي هريرة إلا حديث مسلم فقال فيه لم يقبل
لهما صلاة أربعين يوما ووقع عند الطبراني من حديث أنس بسند لين مرفوعا بلفظ من أتى كاهنا
فصدقه بما يقول فقد برئ مما أنزل على محمد ومن أتاه غير مصدق له لم تقبل صلاته أربعين يوما
والأحاديث الأول مع صحتها وكثرتها أولى من هذا والوعيد جاء تارة بعدم قبول الصلاة وتارة
بالتكفير فيحمل على حالين من الآتي أشار إلى ذلك القرطبي والعراف بفتح المهملة وتشديد
الراء من يستخرج الوقوف على المغيبات بضرب من فعل أو قول ثم ذكر المصنف ثلاثة أحاديث
* أحدها حديث أبي هريرة (قوله عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة) وساقه بطوله كذا
قال عبد الرحمن بن خالد بن مسافر من رواية الليث عنه عن ابن شهاب وفصل مالك عن ابن شهاب
قصة ولي المرأة فجعله من رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب مرسلا كما بينه المصنف في الطريق
183

التي تلي طريق ابن مسافر هذه وقد روى الليث عن ابن شهاب أصل الحديث بدون الزيادة عن
سعيد بن المسيب عن أبي هريرة موصولا كما سيأتي في الديات وكذا أخرج هناك طريق يونس عن
ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد معا عن أبي هريرة بأصل الحديث دون الزيادة ويأتي شرح
ما يتعلق بالجنين والغرة هناك إن شاء الله تعالى (قوله فقال ولي المرأة) هو حمل بفتح المهملة
والميم الخفيفة ابن مالك بن النابغة الهذلي بينه مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن
المسيب وأبي سلمة معا عن أبي هريرة وكنية حمل المذكور أبو نضلة وهو صحابي نزل البصرة وفي
رواية مالك فقال الذي قضى عليه أي قضى على من هي منه بسبيل وفي رواية الليث عن ابن
شهاب المذكورة أن المرأة من بني لحيان وبنو لحيان حي من هذيل وجاء تسمية الضرتين فيما أخرج
أحمد من طريق عمرو بن تميم بن عويم عن أبيه عن جده قال كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال
لها أم عفيف بنت مسروح تحت حمل بن مالك بن النابغة فضربت أم عفيف مليكة بمسطح
الحديث لكن قال فيه فقال العلاء بن مسروح يا رسول الله أنغرم من لا شرب ولا أكل الحديث
وفي آخره أسجع كسجع الجاهلية ويجمع بينهما بأن كلا من زوج المرأة وهو حمل وأخيها وهو
العلاء قال ذلك تواردا معا عليه لما تقرر عندهما أن الذي يودي هو الذي يخرج حيا وأما السقط
فلا يودي فأبطل الشرع ذلك وجعل فيه غرة وسيأتي بيانه في كتاب الديات إن شاء الله تعالى
ووقع في رواية للطبراني أيضا أن الذي قال ذلك عمران بن عويم فلعلها قصة أخرى وأم عفيف
بمهملة وفاءين وزن عظيم ووقع في المبهمات للخطيب وأصله عند أبي داود والنسائي من طريق
سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنها أم غطيف بغين ثم طاء مهملة مصغر فالله أعلم (قوله كيف
أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل) في رواية مالك من لا أكل ولا شرب والأول أولى لمناسبة
السجع ووقع في رواية الكشميهني في رواية مالك ما لا بدل من لا وهذا هو الذي في الموطأ وقال
أبو عثمان بن جنى معنى قوله لا أكل أي لم يأكل أقام الفعل الماضي مقام المضارع (قوله فمثل
ذلك بطل) للأكثر بضم المثناة التحتانية وفتح الطاء المهملة وتشديد اللام أي يهدر يقال دم فلان
هدر إذا ترك الطلب بثأره وطل الدم بضم الطاء وبفتحها أيضا وحكى أطل ولم يعرفه الأصمعي ووقع
للكشميهني في رواية ابن مسافر بطل بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة
معتمدة من رواية أبي ذر وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة قال وبالوجهين في الموطأ
وقد رجح الخطابي أنه من البطلان وأنكره ابن بطال فقال كذا يقوله أهل الحديث وإنما هو من
طل الدم إذا هدر (قلت) وليس لانكاره معنى بعد ثبوت الرواية وهو موجه راجع إلى معنى
الرواية الأخرى (قوله إنما هذا من إخوان الكهان) أي لمشابهة كلامه كلامهم زاد مسلم
والإسماعيلي من رواية يونس من أجل سجعه الذي سجع قال القرطبي هو من تفسير الراوي
وقد ورد مستند ذلك فيما أخرجه مسلم في حديث المغيرة بن شعبة فقال رجل من عصبة القاتلة
يغرم فذكر نحوه وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسجع كسجع الاعراب والسجع هو
تناسب آخر الكلمات لفظا وأصله الاستواء وفي الاصطلاح الكلاح المقفي والجمع أسجاع
وأساجيع قال ابن بطال فيه ذم الكفار وذم من تشبه بهم في ألفاظهم وإنما لم يعاقبه لأنه صلى
الله عليه وسلم كان مأمورا بالصفح عن الجاهلين وقد تمسك به من كره السجع في الكلام وليس
184

على إطلاقه بل المكروه منه ما يقع مع التكلف في معرض مدافعة الحق وأما ما يقع عفوا بلا
تكلف في الأمور المباحة فجائز وعلى ذلك يحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم وسيأتي مزيد لذلك
في كتاب الدعوات والحاصل أنه إن جمع الامرين من التكلف وإبطال الحق كان مذموما وان
اقتصر على أحدهما كان أخف في الذم ويخرج من ذلك تقسيمه إلى أربعة أنواع فالمحمود ما جاء
عفوا في حق ودونه ما يقع متكلفا في حق أيضا والمذموم عكسهما وفي الحديث من الفوائد
أيضا رفع الجناية للحاكم ووجوب الدية في الجنين ولو خرج ميتا كما سيأتي تقريره في كتاب الديات
مع استيفاء فوائده * الحديث الثاني حديث أبي مسعود وهو عقبة بن عمرو في النهي عن ثمن
الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب البيع * الحديث الثالث
(قوله عن يحيى بن عروة بن الزبير عن عروة) كأن هذا مما فات الزهري سماعه من عروة فحمله
عن ولده عنه مع كثرة ما عند الزهري عن عروة وقد وصفه الزهري بسعة العلم ووقع في رواية معقل
ابن عبيد الله عند مسلم عن الزهري أخبرني يحيى بن عروة أنه سمع عروة وكذا للمصنف في التوحيد
من طريق يونس وفي الأدب من طريق ابن جريج كلاهما عن ابن شهاب ولم أقف ليحيى بن عروة
في البخاري إلا على هذا الحديث وقد روى بعض هذا الحديث محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود
عن عروة وتقدم موصولا في بدء الخلق وكذا هشام بن عروة عن أبيه به (قوله سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم) في رواية الكشميهني سأل ناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا هو في
رواية يونس وعند مسلم من رواية معقل مثله ومن رواية معقل مثل الذي قبله وقد سمي ممن سأل
عن ذلك معاوية بن الحكم السلمي كما أخرجه مسلم من حديثه قال قلت يا رسول الله أمورا كنا
نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان فقال لا تأتوا الكهان الحديث وقال الخطابي هؤلاء
الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية فهم يفزعون
إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات ثم تعرض إلى مناسبة ذكر
الشعراء بعد ذكرهم في قوله تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (قوله فقال ليس بشئ) في
رواية مسلم ليسوا بشئ وكذا في رواية يونس في التوحيد وفي نسخة فقال لهم ليسوا بشئ أي ليس
قولهم بشئ يعتمد عليه والعرب تقول لمن عمل شيئا ولم يحكمه ما عمل شيئا قال القرطبي كانوا في
الجاهلية يترافعون إلى الكهان في الوقائع والاحكام ويرجعون إلى أقوالهم وقد انقطعت
الكهانة بالبعثة المحمدية لكن بقي في الوجود من يتشبه بهم وثبت النهي عن اتيانهم فلا يحل اتيانهم
ولا تصديقهم (قوله إنهم يحدثوننا أحيانا بشئ فيكون حقا) في رواية يونس فإنهم يتحدثون
هذا أورده السائل إشكالا على عموم قوله ليسوا بشئ لأنه فهم منه أنهم لا يصدقون أصلا فأجابه
صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك الصدق وأنه إذا اتفق أن يصدق لم يتركه خالصا بل يشوبه بالكذب
(قوله تلك الكلمة من الحق) كذا في البخاري بمهملة وقاف أي الكلمة المسموعة التي تقع حقا
ووقع في مسلم تلك الكلمة من الجن قال النووي كذا في نسخ بلادنا بالجيم والنون أي الكلمة
المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن (قلت) التقدير الثاني يوافق رواية البخاري قال
النووي وقد حكى عياض أنه وقع يعني في مسلم بالحاء والقاف (قوله يخطفها الجني) كذا للأكثر
وفي رواية السرخسي يخطفها من الجني أي الكاهن يخطفها من الجني أو الجني الذي يلقى الكاهن
185

يخطفها من جني آخر فوقه ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه
الاخذ بسرعة وفي رواية الكشميهني يحفظها بتقديم الفاء بعدها ظاء معجمة والأول هو المعروف
والله أعلم (قوله فيقرها) بفتح أوله وثانيه وتشديد الراء أي يصبها تقول قررت على رأسه دلوا
إذا صببته فكأنه صب في إذنه ذلك الكلام قال القرطبي ويصح أن يقال المعنى ألقاها في أذنه
بصوت يقال قر الطائر إذا صوت انتهى ووقع في رواية يونس المذكورة فيقرقرها أي يرددها
يقال قرقرت الدجاجة تقرقر قرقرة إذا رددت صوتها قال الخطابي ويقال أيضا قرت الدجاجة
تقر قرا وقريرا وإذا رجعت في صوتها قيل قرقرت قرقرة وقرقريرة قال والمعنى أن الجني إذا ألقى
الكلمة لوليه تسامع بها الشياطين فتناقلوها كما إذا صوتت الدجاجة فسمعها الدجاج فجاوبتها
وتعقبه القرطبي بأن الأشبه بمساق الحديث أن الجني يلقي الكلمة إلى وليه بصوت خفي متراجع له
زمزمة ويرجعه له فلذلك يقع كلام الكهان غالبا على هذا النمط وقد تقدم شئ من ذلك في
أواخر الجنائز في قصة ابن صياد وبيان اختلاف الرواة في قوله في قطيفة له فيها زمزمة وأطلق
على الكاهن ولي الجنى لكونه يواليه أو عدل عن قوله الكاهن إلى قوله وليه للتعميم في الكاهن
وغيره ممن يوالي الجن قال الخطابي بين صلى الله عليه وسلم أن إصابة الكاهن أحيانا إنما هي لان
الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع
فربما أصاب نادرا وخطؤه الغالب وقوله في رواية يونس كقرقرة الدجاجة يعني الطائر المعروف
ودالها مثلثة والأشهر فيها الفتح وقع في رواية المستملي الزجاجة بالزاي المضمومة وأنكرها
الدارقطني وعدها في التصحيف لكن وقع في حديث الباب من وجه آخر تقدم في باب ذكر
الملائكة في كتاب بدء الخلق فيقرها في أذنه كما تقر القارورة وشرحوه على أن معناه كما يسمع صوت
الزجاجة إذا حلت على شئ أو ألقى فيها شئ وقال القابسي المعنى أنه يكون لما يلقيه الجني إلى
الكاهن حس كحس القارورة إذا حركت باليد أو على الصفا وقال الخطابي المعنى أنه يطبق به كما
يطبق رأس القارورة براس الوعاء الذي يفرغ فيه منها ما فيها وأغرب شارح المصابيح التوربشتي
فقال الرواية بالزاي أحوط لما ثبت في الرواية الأخرى كما تقر القارورة واستعمال قر في ذلك شائع
بخلاف ما فسروا عليه الحديث فإنه غير مشهور لم نجد له شاهدا في كلامهم فدل على أن الرواية
بالدال تصحيف أو غلط من السامع وتعقبه الطيبي فقال لا ريب أن قوله قر الدجاجة مفعول
مطلق وفيه معنى التشبيه فكما يصح أن يشبه إيراد ما اختطفه من الكلام في إذن الكاهن
بصب الماء في القارورة يصح أن يشبه ترديد الكلام في أذنه بترديد الدجاجة صوتها في أذن
صواحباتها وهذا مشاهد ترى الديك إذا رأى شيئا ينكره يقرقر فتسمعه الدجاج فتجتمع وتقرقر
معه وباب التشبيه واسع لا يفتقر إلى العلاقة غير أن الاختطاف مستعار للكلام من فعل
الطير كما قال الله تعالى فتخطفه الطير فيكون ذكر الدجاجة هنا أنسب من ذكر الزجاجة لحصول
الترشيح في الاستعارة (قلت) ويؤيده دعوى الدارقطني وهو إمام الفن أن الذي بالزاي تصحيف
وأن كنا ما قبلنا ذلك فلا أقل أن يكون أرجح (قوله فيخلطون معها مائة كذبة) في رواية ابن
جريج أكثر من مائة كذبة وهو دال على أن ذكر المائة للمبالغة لا لتعيين العدد وقوله كذبة هنا
بالفتح وحكى الكسر وأنكره بعضهم لأنه بمعنى الهيئة والحالة وليس هذا موضعه وقد أخرج مسلم
186

في حديث آخر أصل توصل الجني إلى الاختطاف فأخرج من حديث ابن عباس حدثني رجال من
الأنصار أنهم بينا هم جلوس ليلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمى بنجم فاستنار فقال
ما كنتم تقولون إذا رمى مثل هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم أو مات رجل
عظيم فقال أنها لا يرمي بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح
الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح إلى أهل هذه السماء الدنيا فيقولون ماذا قال ربكم فيخبرونهم حتى
يصل إلى السماء الدنيا فيسترق منه الجني فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون فيه
وينقصون وقد تقدم في تفسير سبأ وغيرها بيان كيفيتهم عند استراقهم وأما ما تقدم في بدء
الخلق من وجه آخر عن عروة عن عائشة أن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الامر
قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فيحتمل أن يريد بالسحاب السماء كما أطلق السماء على
السحاب ويحتمل أن يكون على حقيقته وأن بعض الملائكة إذا نزل بالوحي إلى الأرض تسمع منهم
الشياطين أو المراد الملائكة الموكلة بانزال المطر (قوله قال علي قال عبد الرزاق مرسل
الكلمة من الحق ثم بلغني أنه أسنده بعد) على هذا هو ابن المديني شيخ البخاري فيه ومراده أن
عبد الرزاق كان يرسل هذا القدر من الحديث ثم أنه بعد ذلك وصله بذكر عائشة فيه وقد أخرجه
مسلم عن عبد بن حميد والإسماعيلي من طريق فياض بن زهير وأبو نعيم من طريق عباس
العنبري ثلاثتهم عن عبد الرزاق موصولا كرواية هشام بن يوسف عن معمر وفي الحديث بقاء
استراق الشياطين السمع لكنه قل وندر حتى كاد يضمحل بالنسبة لما كانوا فيه من الجاهلية وفيه
النهي عن إتيان الكهان قال القرطبي يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من
يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجئ إليهم ولا يغتر
بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجئ إليهم ممن ينسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم بل
من الجهال بما في إتيانهم من المحذور * (تنبيه) * إيراد باب الكهانة في كتاب الطب لمناسبته لباب
السحر لما يجمع بينهما من مرجع كل منهما للشياطين وايراد باب السحر في كتاب الطب لمناسبته
ذكر الرقي وغيرها من الأدوية المعنوية فناسب ذكر الأدواء التي تحتاج إلى ذلك واشتمل كتاب
الطب على الإشارة للأدوية الحسية كالحبة السوداء والعسل ثم على الأدوية المعنوية كالرقي
بالدعاء والقرآن ثم ذكرت الأدواء التي تنفع الأدوية المعنوية في دفعها كالسحر كما ذكرت الأدواء
التي تنفع الأدوية الحسية في دفعها كالجذام والله أعلم (قوله باب السحر) قال
الراغب وغيره السحر يطلق على معان * أحدها ما لطف ودق منه سحرت الصبي خادعته واستملته
وكل من استمال شيئا فقد سحره ومنه إطلاق الشعراء سحر العيون لاستمالتها النفوس ومنه قول
الأطباء الطبيعة ساحرة ومنه قوله تعالى بل نحن قوم مسحورون أي مصرفون عن المعرفة
ومنه حديث أن من البيان لسحرا وسيأتي قريبا في باب مفرد * الثاني ما يقع بخداع وتخييلات
لا حقيقة لها نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الابصار عما يتعاطاه بخفة يده وإلى ذلك الإشارة بقوله
تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقوله تعالى سحروا أعين الناس ومن هناك سموا موسى
ساحرا وقد يستعين في ذلك بما يكون فيه خاصية كالحجر الذي يجذب الحديد المسمى المغنطيس
* الثالث ما يحصل بمعاونة الشياطين بضرب من التقرب إليهم وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى ولكن
187

الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الرابع ما يحصل بمخاطبة الكواكب واستنزال
روحانياتها بزعمهم قال ابن حزم ومنه ما يوجد من الطلسمات كالطابع المنقوش فيه صورة عقرب
في وقت كون القمر في العقرب فينفع إمساكه من لدغة العقرب وكالمشاهد ببعض بلاد الغرب
وهي سرقسطة فإنها لا يدخلها ثعبان قط إلا إن كان بغير إرادته وقد يجمع بعضهم بين الامرين
الأخيرين كالاستعانة بالشياطين ومخاطبة الكواكب فيكون ذلك أقوى بزعمهم قال
أبو بكر الرازي في الاحكام له كان أهل بابل قوما صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها
آلهة ويعتقدون أنها الفعالة لكل ما في العالم وعملوا أوثانا على أسمائها ولكل واحد هيكل فيه
صنمه يتقرب إليه بما يوافقه بزعمهم من أدعية وبخور وهم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام
وكانت علومهم أحكام النجوم ومع ذلك فكان السحرة منهم يستعملون سائر وجوه السحر
وينسبونها إلى فعل الكواكب لئلا يبحث عنها وينكشف تمويههم انتهى ثم السحر يطلق ويراد
به الآلة التي يسحر بها ويطلق ويراد به فعل الساحر والآلة تارة تكون معنى من المعاني فقط
كالرقي والنفث في العقد وتارة تكون بالمحسوسات كتصوير الصورة على صورة المسحور
وتارة بجمع الامرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ واختلف في السحر فقيل هو تخييل فقط ولا
حقيقة له وهذا اختيار أبي جعفر الاسترآباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وابن
حزم الظاهري وطائفة قال النووي والصحيح أن له حقيقة وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء
ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة انتهى لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب
عين أو لا فمن قال أنه تخييل فقط منع ذلك ومن قال أن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث
يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجاد حيوانا مثلا
وعكسه فالذي عليه الجمهور هو الأول وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني فإن كان بالنظر إلى القدرة
الإلهية فمسلم وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف فأن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع
إقامة البرهان عليه ونقل الخطابي أن قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنه عني القائلين بأنه
تخييل فقط وإلا فهي مكابرة وقال المازري جمهور العلماء على إثبات السحر وأن له حقيقة ونفى
بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر
ولان العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو
مزج بين قوى على ترتيب مخصوص ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير
ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعا وقيل لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر
الله تعالى في قوله يفرقون به بين المرء وزوجه لكون المقام مقام تهويل فلو جاز أن يقع به أكثر من
ذلك لذكره قال المازري والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك قال والآية
ليست نصا في منع الزيادة ولو قلنا أنها ظاهرة في ذلك ثم قال والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة
أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد والكرامة لا تحتاج إلى ذلك بل
إنما تقع غالبا اتفاقا وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي ونقل إمام الحرمين الاجماع على
أن السحر لا يظهر إلا من فاسق وأن الكرامة لا تظهر على فاسق ونقل النووي في زيادات الروضة
عن المتولي نحو ذلك وينبغي أن يعتبر بحال من يقع الخارق منه فإن كان متمسكا بالشريعة متجنبا
188

للموبقات فالذي يظهر على يده من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر لأنه ينشأ عن أحد أنواعه
كإعانة الشياطين وقال القرطبي السحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب غير أنها لدقتها
لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجوه تركيبها
وأوقاته وأكثرها تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت فيعظم عند من لا يعرف ذلك كما
قال الله تعالى عن سحرة فرعون وجاءوا بسحر عظيم مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها
حبالا وعصيا ثم قال والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرا في القلوب كالحب والبغض
وإلقاء الخير والشر وفي الأبدان بالألم والسقم وإنما المنكور أن الجماد ينقلب حيوانا أو عكسه
بسحر الساحر ونحو ذلك (قوله وقول الله تعالى ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر
الآية) كذا للأكثر وساق في رواية كريمة إلى قوله من خلاق وفي هذه الآية بيان أصل السحر
الذي يعمل به اليهود ثم هو مما وضعته الشياطين على سليمان بن داود عليه السلام ومما أنزل
على هاروت وماروت بأرض بابل والثاني متقدم العهد على الأول لان قصة هاروت وماروت
كانت من قبل زمن نوح عليه السلام على ما ذكر ابن إسحاق وغيره وكان السحر موجودا في
زمن نوح إذ أخبر الله عن قوم نوح أنهم زعموا أنه ساحر وكان السحر أيضا فاشيا في قوم فرعون
وكل ذلك قبل سليمان واختلف في المراد بالآية فقيل أن سليمان كان جمع كتب السحر
والكهانة فدفنها تحت كرسيه فلم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي فلما
مات سليمان وذهبت العلماء الذين يعرفون الامر جاءهم شيطان في صورة إنسان فقال لليهود
هل أدلكم على كنز لا نظير له قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي فحفروا وهو متنح عنهم فوجدوا
تلك الكتب فقال لهم أن سليمان كان يضبط الإنس والجن بهذا ففشا فيهم أن سليمان كان
ساحرا فلما نزل القرآن بذكر سليمان في الأنبياء أنكرت اليهود ذلك وقالوا إنما كان ساحرا فنزلت
هذه الآية أخرجه الطبري وغيره عن السدي ومن طريق سعيد بن جبير بسند صحيح نحوه
ومن طريق عمران بن الحرث عن ابن عباس موصولا بمعناه وأخرج من طريق الربيع بن أنس
نحوه ولكن قال أن الشياطين هي التي كتبت كتب السحر ودفنتها تحت كرسيه ثم لما مات
سليمان استخرجته وقالوا هذا العلم الذي كان سليمان يكتمه الناس وأخرجه من طريق محمد بن إسحاق
وزاد أنهم نقشوا خاتما على نقش خاتم سليمان وختموا به الكتاب وكتبوا عنوانه هذا
ما كتب آصف بن برخياء الصديق الملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ثم دفنوه فذكر نحو
ما تقدم وأخرج من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ما تقدم عن السدي ولكن قال إنهم لما
وجدوا الكتب قالوا هذا مما أنزل الله على سليمان فأخفاه منا وأخرج بسند صحيح عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس قال انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلي فيها سليمان فكتبت كتبا فيها
سحر وكفر ثم دفنتها تحت كرسيه ثم أخرجوها بعده فقرؤها على الناس وملخص ما ذكر في تفسير
هذه الآية أن المحكي عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين هم أهل الكتاب إذ تقدم قبل ذلك في
الآيات إيضاح ذلك والجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة من قوله تعالى ولما جاءهم رسول
إلى آخر الآية وما في قوله ما تتلو الشياطين موصولة على الصواب وغلط من قال أنها نافية لان نظم
الكلام يأباه وتتلو لفظه مضارع لكن هو واقع موقع الماضي وهو استعمال شائع ومعنى تتلو
189

تتقول ولذلك عداه بعلى وقيل معناه تتبع أو تقرأ ويحتاج إلى تقدير قيل هو تقرأ على زمان ملك
سليمان وقوله وما كفر سليمان ما نافية جزما وقوله ولكن الشياطين كفروا هذه الواو عاطفة
لجملة الاستدراك على ما قبلها وقوله يعلمون الناس السحر الناس مفعول أول والسحر مفعول
ثان والجملة حال من فاعل كفروا أي كفروا معلمين وقيل هي بدل من كفروا و قيل استئنافية
وهذا على إعادة ضمير يعلمون على الشياطين ويحتمل عوده على الذين اتبعوا فيكون حالا من
فاعل اتبعوا أو استئنافا وقوله وما أنزل ما موصولة ومحلها النصب عطفا على السحر والتقدير
يعلمون الناس السحر والمنزل على الملكين وقيل الجر عطفا على ملك سليمان أي تقولا على ملك
سليمان وعلى ما أنزل وقيل بل هي نافية عطفا على وما كفر سليمان والمعنى ولم ينزل على الملكين
إباحة السحر وهذان الأعرابان ينبنيان على ما جاء في تفسير الآية عن البعض والجمهور على
خلافه وأنها موصولة ورد الزجاج على الأخفش دعواه أنها نافية وقال الذي جاء في الحديث
والتفسير أولى وقوله ببابل متعلق بما أنزل أي في بابل والجمهور على فتح لام الملكين وقرئ
بكسرها وهاروت وماروت بدل من الملكين وجرا بالفتحة أو عطف بيان وقيل بل هما بدل من
الناس وهو بعيد وقيل من الشياطين على أن هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن وهو
ضعيف وقوله وما يعلمان من أحد بالتشديد من التعليم وقرئ في الشاذ بسكون العين من الاعلام
بناء على أن التضعيف يتعاقب مع الهمزة وذلك أن الملكين لا يعلمان الناس السحر بل يعلمانهم به
وينهيانهم عنه والأول أشهر وقد قال على الملكان يعلمان تعليم انذار لا تعليم طلب وقد استدل
بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها وهو التعبد
للشياطين أو للكواكب وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلمه أصلا
قال النووي عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالاجماع وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من
السبع الموبقات ومنه ما يكون كفرا ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة فإن كان فيه قول
أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا وأما تعلمه وتعليمه فحرام فإن كان فيه ما يقتضي الكفر
كفر واستتيب منه ولا يقتل فإن تاب قبلت توبته وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر وعن
مالك الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب بل يتحتم قتله كالزنديق قال عياض وبقول مالك
قال أحمد وجماعة من الصحابة والتابعين اه‍ وفي المسئلة اختلاف كثير وتفاصيل ليس هذا
موضع بسطها وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لاحد أمرين إما لتمييز ما فيه كفر من غيره وإما
لإزالته عمن وقع فيه فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة
الشئ بمجرده لا تسلتزم منعا كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان لان كيفية ما يعلمه
الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل بخلاف تعاطيه والعمل به وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم
بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا وإلا جاز للمعنى المذكور وسيأتي
مزيد لذلك في باب هل يستخرج السحر قريبا والله أعلم وهذا فصل الخطاب في هذه المسئلة وفي
إيراد المصنف هذه الآية إشارة إلى اختيار الحكم بكفر الساحر لقوله فيها وما كفر سليمان ولكن
الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فإن ظاهرها أنهم كفروا بذلك ولا يكفر بتعليم الشئ
إلا وذلك الشئ كفر وكذا قوله في الآية على لسان الملكين إنما نحن فتنة فلا تكفر فإن فيه إشارة
190

إلى أن تعلم السحر كفر فيكون العمل به كفرا وهذا كله واضح على ما قررته من العمل ببعض
أنواعه وقد زعم بعضهم أن السحر لا يصح إلا بذلك وعلى هذا فتسمية ما عدا ذلك سحرا مجاز
كإطلاق السحر على القول البليغ وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن
عمر في مسند أحمد وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يقضي بمجموعها على أن للقصة أصلا
خلافا لمن زعم بطلانها كعياض ومن تبعه ومحصلها أن الله ركب الشهوة في ملكين من
الملائكة اختبارا لهما وأمرهما أن يحكما في الأرض فنزلا على صورة البشر وحكما بالعدل مدة ثم
افتتنا بامرأة جميلة فعوقبا بسبب ذلك بأن حبسا في بئر ببابل منكسين وابتليا بالنطق بعلم السحر
فصار يقصدهما من طلب ذلك ليتعلم منهما ذلك وهما قد عرفا ذلك فلا ينطقان بحضرة أحد حتى
يحذراه وينهياه فإذا أصر تكلما بذلك فيتعلم منهما ما قص الله عنهما والله أعلم (قوله وقوله تعالى
ولا يفلح الساحر حيث أتى) في الآية نفى الفلاح عن الساحر وليست فيه دلالة على كفر الساحر
مطلقا وأن كثر في القرآن إثبات الفلاح للمؤمن ونفيه عن الكافر لكن ليس فيه ما ينفي نفي
الفلاح عن الفاسق وكذا العاصي (قوله وقوله أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) هذا يخاطب
به كفار قريش يستبعدون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من الله لكونه بشرا من البشر
فقال قائلهم منكرا على من اتبعه أفتأتون السحر أي أفتتبعونه حتى تصيروا كمن أتبع السحر
وهو يعلم أنه سحر (قوله وقوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) هذه الآية عمدة من زعم أن
السحر إنما هو تخييل ولا حجة له بها لأن هذه وردت في قصة سحرة فرعون وكان سحرهم كذلك
ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل قال أبو بكر الرازي في الاحكام أخبر الله تعالى أن الذي
ظنه موسى من أنها تسعى لم يكن سعيا وإنما كان تخييلا وذلك أن عصيهم كانت مجوفة قد ملئت
زئبقا وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا وقد حفروا قبل ذلك أسرابا وجعلوا لها آزاجا
وملؤها نارا فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركها لان من شأن الزئبق إذا أصابته
النار أن يطير فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته فظن من رآها أنها تسعى
ولم تكن تسعى حقيقة (قوله ومن شر النفاثات في العقد والنفاثات السواحر) هو تفسير الحسن
البصري أخرجه الطبري بسند صحيح وذكره أبو عبيدة أيضا في المجاز قال النفاثات السواحر
ينفثن وأخرج الطبري أيضا عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنه النفث في الرقية وقد تقدم البحث
في ذلك في باب الرقية وقد وقع في حديث ابن عباس فيما أخرجه البيهقي في الدلائل بسند ضعيف
في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترا فيه إحدى عشرة عقدة
وأنزلت سورة الفلق والناس وجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة وأخرجه ابن سعد بسند آخر
منقطع عن ابن عباس أن عليا وعمارا لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا
طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه (قوله تسحرون تعمون) بضم أوله وفتح المهملة
وتشديد الميم المفتوحة وضبط أيضا بسكون العين قال أبو عبيدة في كتاب المجاز في قوله تعالى
سيقولون الله قل فأنى تسحرون أي كيف تعمون عن هذا وتصدون عنه قال ونراه من قوله
سحرت أعيننا عنه فلم نبصره وأخرج في قوله فأنى تسحرون أي تخدعون أو تصرفون عن
التوحيد والطاعة (قلت) وفي هذه الآية إشارة إلى الصنف الأول من السحر الذي قدمته وقال
191

ابن عطية السحر هنا مستعار لما وقع منهم من التخليط ووضع الشئ في غير موضعه كما يقع
من المسحور والله أعلم (قوله حدثنا إبراهيم بن موسى) هو الرازي وفي رواية أبي ذر حدثني
بالافراد وهشام هو ابن عروة بن الزبير (قوله عن أبيه) وقع في رواية يحيى القطان عن هشام
حدثني أبي وقد تقدمت في الجزية وسيأتي في رواية ابن عيينة عن ابن جريج حدثني آل عروة
ووقع في رواية الحميدي عن سفيان عن ابن جريج حدثني بعض آل عروة عن عروة وظاهره أن
غير هشام أيضا حدث به عن عروة وقد رواه غير عروة عن عائشة كما سأبينه وجاء أيضا من حديث
ابن عباس وزيد بن أرقم وغيرهما (قوله سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق) بزاي
قبل الراء مصغر (قوله يقال له لبيد) بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة
(ابن الأعصم) بوزن أحمر بمهملتين ووقع في رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عند مسلم سحر
النبي صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق ووقع في رواية ابن عيينة الآتية قريبا رجل
من بني زريق حليف اليهود وكان منافقا ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى
ما في نفس الامر ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره وقال ابن الجوزي هذا يدل على أنه
كان أسلم نفاقا وهو واضح وقد حكى عياض في الشفاء أنه كان أسلم ويحتمل أن يكون قيل له
يهودي لكونه كان من حلفائهم لا أنه كان على دينهم وبنو زريق بطن من الأنصار مشهور من
الخزرج وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الاسلام حلف وإخاء وود فلما جاء
الاسلام ودخل الأنصار فيه تبرؤا منهم وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر أخرجه
عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم وكان
حليفا في بني زريق وكان ساحرا فقالوا له يا أبا الأعصم أنت أسحرنا وقد سحرنا محمدا فلم نصنع
شيئا ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه فجعلوا له ثلاثة دنانير ووقع في رواية
أبي ضمرة عند الإسماعيلي فأقام أربعين ليلة وفي رواية وهيب عن هشام عند أحمد ستة أشهر
ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه وقال
السهيلي لم أقف في شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث النبي صلى الله عليه وسلم
فيها في السحر حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري أنه لبث ستة أشهر كذا قال وقد وجدناه
موصولا بإسناد الصحيح فهو المعتمد (قوله حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه
كان يفعل الشئ وما فعله) قال المازري أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط
منصب النبوة ويشكك فيها قالوا وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل وزعموا أن تجويز هذا
يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو
ثم وأنه يوحى إليه بشئ ولم يوح إليه بشئ قال المازري وهذا كله مردود لان الدليل قد قام
على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات
شاهدات بتصديقه فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي
لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض
فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين
192

قال وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه وطئ
زوجاته ولم يكن وطأهن وهذا كثيرا ما يقع تخيله للانسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه
في اليقظة (قلت) وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه حتى
كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وفي رواية الحميدي أنه يأتي أهله ولا يأتيهم قال الداودي يرى
بضم أوله أي يظن وقال ابن التين ضبطت يرى بفتح أوله (قلت) وهو من الرأي لا من الرؤية
فيرجع إلى معنى الظن وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق سحر النبي صلى الله عليه وسلم
عن عائشة حتى أنكر بصره وعنده في مرسل سعيد بن المسيب حتى كاد ينكر بصره قال
عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده
(قلت) ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد فقالت أخت لبيد بن الأعصم أن يكن
نبيا فسيخبر وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله (قلت) فوقع الشق الأول كما في هذا
الحديث الصحيح وقد قال بعض العلماء لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشئ ولم يكن فعله أن
يجزم بفعله ذلك وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت فلا يبقى على هذا للملحد حجة
وقال عياض يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق
عادته من الاقتدار على الوطء فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك كما هو شأن المعقود ويكون
قوله في الرواية الأخرى حتى كاد ينكر بصره أي صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشئ
يخيل أنه على غير صفته فإذا تأمله عرف حقيقته ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من
الاخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به وقال المهلب صون النبي صلى الله عليه وسلم من
الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد مضى في الصحيح أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه
الله منه فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ بل هو من جنس
ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث
تخيل لا يستمر بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه
كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث أما أنا فقد شفاني الله وفي الاستدلال بذلك
نظر لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل فكان يدور ولا يدري
ما وجعه وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد مرض النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عن
النساء والطعام والشراب فهبط عليه ملكان الحديث (قوله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات
ليلة) شك من الراوي وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق فقال حتى
كان ذات يوم ولم يشك ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس وأن إسحق بن راهويه أخرجه
في مسنده عنه على الشك ومن طريقه أخرجه أبو نعيم فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن
موسى شيخ البخاري حدثه به تارة بالجزم وتارة بالشك ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه
وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تاما بإسناد واحد بلفظين ووقع في رواية
أبي أسامة الآتية قريبا ذات يوم بغير شك وذات بالنصب ويجوز الرفع ثم قيل أنها مقحمة وقيل
بل هي من إضافة الشئ لنفسه على رأي من يجيزه (قوله وهو عندي لكنه دعا ودعا) كذا وقع
وفي الرواية الماضية في بدء الخلق حتى كان ذات يوم دعا ودعا وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس
193

في الدعوات ومثله في رواية الليث قال الكرماني يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها
عندي أي لم يكن مشتغلا بي بل اشتغل بالدعاء ويحتمل أن يكون من التخيل أي كان السحر
أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم
ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم فدعا ثم دعا ثم دعا وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثا
وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد فرأيته يدعو قال النووي فيه استحباب الدعاء عند
حصول الأمور المكروهات وتكريره والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك (قلت) سلك النبي صلى
الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ففي أول الأمر فوض وسلم
لأمر ربه فأحتسب الاجر في صبره على بلائه ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن
فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء وكل من المقامين غاية في الكمال (قوله أشعرت) أي
علمت وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده (قوله أفتاني فيما استفتيته) في رواية الحميدي
أفتاني في أمر استفتيته فيه أي أجابني فيما دعوته فأطلق على الدعاء استفتاء لان الداعي طالب
والمجيب مستفت أو المعنى أجابني بما سألته عنه لان دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو
فيه لما اشتبه عليه من الامر ووقع في رواية عمرة عن عائشة أن الله أنبأني بمرضي أي أخبرني
(قوله أتاني رجلان) وقع في رواية أبي أسامة قلت وما ذاك قال أتاني رجلان ووقع في رواية
معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام أتاني ملكان وسماهما ابن سعد
في رواية منقطعة جبريل وميكائيل وكنت ذكرت في المقدمة ذلك احتمالا (قوله فقعد أحدهما
عند رأسي والآخر عند رجلي) لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه لكنني أظنه جبريل لخصوصيته به
عليهما السلام ثم وجدت في السيرة للدمياطي الجزم بأنه جبريل قال لأنه أفضل ثم وجدت
في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد سحر النبي صلى الله
عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما فأتاه جبريل فقال أن رجلا من اليهود سحرك عقد
لك عقدا في بئر كذا فدل مجموع الطرق على أن المسؤول هو جبريل والسائل ميكائيل (قوله
فقال أحدهما لصاحبه) في رواية ابن عيينة الآتية بعد باب فقال الذي عند رأسي للآخر
وفي رواية الحميدي فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي وكأنها أصوب وكذا هو في حديث
ابن عباس عند البيهقي ووقع بالشك في رواية ابن نمير عند مسلم (قوله ما وجع الرجل) كذا للأكثر
وفي رواية ابن عيينة ما بال الرجل وفي حديث ابن عباس عند البيهقي ما ترى وفيه إشارة إلى أن
ذلك وقع في المنام إذ لو جاء إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم
وهو يقظان فتخاطبا وهو يسمع وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائما وكذا في رواية ابن
عيينة عند الإسماعيلي فانتبه من نومه ذات يوم وهو محمول على ما ذكرت وعلى تقدير حملها على
الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي ووقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد بسند ضعيف جدا فهبط
عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان (قوله فقال مطبوب) أي مسحور يقال طب الرجل
بالضم إذا سحر يقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم وقال ابن الأنباري
الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء طب والسحر من الداء ويقال له طب وأخرج أبو عبيد من
مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه بقرن حين طب
194

قال أبو عبيد يعني سحر قال ابن القيم بنى النبي صلى الله عليه وسلم الامر أولا على أنه مرض
وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه فرأى استعمال
الحجامة لذلك مناسبا فلما أوحى إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه قال
ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر فإن السحر
قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر واستعمال
الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الاخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة
نافعا في ذلك وقال القرطبي إنما قيل للسحر طب لان أصل الطب الحذق بالشئ والتفطن له فلما
كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم
(قوله في مشط ومشاطة) أما المشط فهو بضم الميم ويجوز كسرها أثبته أبو عبيد وأنكره
أبو زيد وبالسكون فيهما وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط وهو الآلة المعروفة التي يسرح بها
شعر الرأس واللحية وهذا هو المشهور ويطلق المشط بالاشتراك على أشياء أخرى منها العظم
العريض في الكتف وسلاميات ظهر القدم ونبت صغير يقال له مشط الذنب قال القرطبي
يحتمل أن يكون الذي سحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأربع (قلت) وفاته آلة لها
أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الأناء قال ابن سيده في المحكم أنها تسمى المشط
والمشط أيضا سمة من سمات البعير تكون في العين والفخذ ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول
فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مراطة رأسه
وفي حديث ابن عباس من شعر رأسه ومن أسنان مشطه وفي مرسل عمر بن الحكم فعمد إلى مشط
وما مشط من الرأس من شعر فعقد بذلك عقدا (قوله ومشاطة) سيأتي بيان الاختلاف هل هي
بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بينه المصنف (قوله وجف طلع نخلة ذكر)
قال عياض وقع للجرجاني يعني في البخاري والعذري يعني في مسلم بالفاء ولغيرهما بالموحدة
(قلت) أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة وأما روايته في بدء
الخلق فالجميع بالفاء وكذا في رواية ابن عيينة للجميع وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة
وللكشميهني بالفاء وللجميع في رواية أبي ضمرة في الدعوات بالفاء قال القرطبي روايتنا يعني في
مسلم بالفاء وقال النووي في أكثر نسخ بلادنا بالياء يعني في مسلم وفي بعضها بالفاء وهما بمعنى واحد
وهو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده بالذكر في قوله طلعة ذكر
وهو بالإضافة انتهى ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ ذكر صفة لجف وذكر القرطبي
أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع وهو الغشاء الذي يكون عليه وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها
الكفري قاله شمر قال ويقال أيضا لداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها جف وقيل هو من القطع
يعني ما قطع من قشورها وقال أبو عمرو الشيباني الجف بالفاء شئ ينقر من جذوع
النخل (قوله قال وأين هو قال هو في بئر ذروان) زاد ابن عيينة وغيره تحت راعوفة وسيأتي
شرحها بعد باب وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء وحكى ابن التين فتحها وأنه قرأه كذلك قال
ولكنه بالسكون أشبه وفي رواية ابن نمير عند مسلم في بئر ذي أروان ويأتي في رواية أبي ضمرة
في الدعوات مثله وفي نسخة الصغاني لكن بغير لفظ بئر ولغيره في ذروان وذروان بئر في بني زريق
195

فعلى هذا فقوله بئر ذروان من إضافة الشئ لنفسه ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل
بئر ذي أروان ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت ذروان ويؤيده أن أبا عبيد البكري
صوب أن اسم البئر أروان بالهمز وأن من قال ذروان أخطأ وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته
ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير بئر أروان كما قال البكري فكأن
رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء ووقع عند الأصيلي فيما حكاه عياض في بئر ذي
أو ان بغير راء قال عياض وهو وهم فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة وهو الذي بني فيه
مسجد الضرار (قوله فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه) وقع في حديث
ابن عباس عند ابن سعد فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر وعنده في مرسل عمر بن
الحكم فدعا جبير بن إياس الزرقي وهو ممن شهد بدرا فدله على موضعه في بئر ذروان فاستخرجه
قال ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره
بنفسه فنسب إليه وعند ابن سعد أيضا أن الحرث بن قيس قال يا رسول الله ألا يهور البئر فيمكن
تفسير من أبهم بهؤلاء أو بعضهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولا ثم توجه فشاهدها
بنفسه (قوله فجاء فقال يا عائشة) في رواية وهيب فلما رجع قال يا عائشة ونحوه في رواية
أبي أسامة ولفظه فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال
وفي رواية عمرة عن عائشة فنزل رجل فاستخرجه وفيه من الزيادة أنه وجد في الطلعة تمثالا من شمع
تمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا فيه أبر مغروزة وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة فنزل
جبريل بالمعوذتين فكلما قرا آية انحلت عقدة وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ثم يجد بعدها راحة
وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه وفي حديث زيد بن أرقم الذي أشرت إليه
عند عبد بن حميد وغيره فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وفيه فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية
فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلا
فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(قوله كأن ماءها) في رواية ابن نمير والله لكأن ماءها أي البئر (نقاعة الحناء) بضم النون
وتخفيف القاف والحناء معروف وهو بالمد أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء قال
ابن التين يعني أحمر وقال الداودي المراد الماء الذي يكون من غسالة الاناء الذي يعجن فيه الحناء
(قلت) ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم فوجد الماء وقد اخضر وهذا
يقوي قول الداودي قال القرطبي كأن ماء البئر قد تغير إما لردائه بطول إقامته وإما لما خالطه من
الأشياء التي ألقيت في البئر (قلت) ويرد الأول أن عند ابن سعد في مرسل عبد الرحمن بن كعب
أن الحرث بن قيس هور البئر المذكورة وكان يستعذب منها وحفر بئرا أخرى فأعانه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حفرها (قوله وكأن رؤس نخلها رؤس الشياطين) كذا هنا وفي الرواية
التي في بدء الخلق نخلها كأنه رؤس الشياطين وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام
كأن نخلها بغير ذكر رؤس أولا والتشبيه إنما وقع على رؤس النخل فلذلك أفصح به
في رواية الباب وهو مقدر في غيرها ووقع في رواية عمرة عن عائشة فإذا نخلها الذي يشرب من
مائها قد التوى سعفه كأنه رؤس الشياطين وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برؤس
196

الشياطين قال الفراء وغيره يحتمل أن يكون شبه طلعها في قبحه برؤس الشياطين لأنها موصوفة
بالقبح وقد تقرر في اللسان أن من قال فلان شيطان أراد أنه خبيث أو قبيح وإذا قبحوا مذكرا
قالوا شيطان أو مؤنثا قالوا غول ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيات والعرب تسمي بعض
الحيات شيطانا وهو ثعبان قبيح الوجه ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن
(قوله قلت يا رسول الله أفلا استخرجته) في رواية أبي أسامة فقال لا ووقع في رواية ابن عيينة
أنه استخرجه وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا وسيأتي بسط القول فيه بعد باب
(قوله فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا) في رواية الكشميهني سوأ ووقع في رواية أبي أسامة أن
أثور بفتح المثلثة وتشديد الواو وهما بمعنى والمراد بالناس التعميم في الموجودين قال النووي
خشي من إخراجه وإشاعته ضررا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك وهو من باب
ترك المصلحة خوف المفسدة ووقع في رواية ابن نمير على أمتي وهو قابل أيضا للتعميم لان الأمة
تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة وعلى ما هو أعم وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد
ابن الأعصم لأنه كان منافقا فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يثير عليه شرا لأنه كان يؤثر الاغضاء
عمن يظهر الاسلام ولو صدر منه ما صدر وقد وقع أيضا في رواية ابن عيينة وكرهت أن أثير على
أحد من الناس شرا نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة فقيل يا رسول الله لو قتلته قال ما وراءه
من عذاب الله أشد وفي رواية عمرة فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه وفي حديث
زيد بن أرقم فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك اليهودي شيئا مما صنع به ولا رآه
في وجهه وفي مرسل عمر بن الحكم فقال له ما حملك على هذا قال حب الدنانير وقد تقدم في كتاب
الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة
أيضا أنه لم يقتله ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله ومن ثم حكى عياض
في الشفاء قولين هل قتل أم لم يقتل وقال القرطبي لا حجة على مالك من هذه القصة لان ترك قتل
لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الاسلام
وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال لا يتحدث الناس
أن محمدا يقتل أصحابه (قوله فأمر بها) أي بالبئر (فدفنت) وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره
عن هشام وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال لم يقل أبو أسامة
في روايته فأمر بها فدفنت (قلت) وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه وإلا فقد أوردها البخاري
عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة كما في الباب بعده وقال في آخره فأمر بها فدفنت وقد تقدم أن
في مرسل عبد الرحمن بن كعب أن الحرث بن قيس هورها (قوله تابعه أبو أسامة) هو حماد
ابن أسامة وتأتي روايته موصولة بعد بابين (قوله وأبو ضمرة) هو أنس بن عياض وستأتي روايته
موصولة في كتاب الدعوات (قوله وابن أبي الزناد) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان ولم أعرف
من وصلها بعد (قوله وقال الليث وابن عيينة عن هشام في مشط ومشاطة) كذا لأبي ذر ولغيره
ومشاقة وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق ورواية ابن
عيينة تأتي موصولة بعد باب وذكر المزي في الأطراف تبعا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن
الحميدي وعن عبد الله بن محمد كلاهما عن ابن عيينة وطريق الحميدي ما هي في الطب في شئ من
197

النسخ التي وقفت عليها وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق الحميدي وقال بعده أخرجه
البخاري عن عبد الله بن محمد لم يزد على ذلك وكذا لم يذكر أبو مسعود في أطرافه الحميدي والله أعلم
(قوله ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط) هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة قال ابن
قتيبة المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط وكذا من اللحية (قوله
والمشاطة من مشاطة الكتان) كذا لأبي ذر كان المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط
وبين الكتان إذا سرح ووقع في رواية غير أبي ذر والمشاقة وهو أشبه وقيل المشاقة هي المشاطة
بعينها والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج والله أعلم (قوله باب الشرك والسحر
من الموبقات) أي المهلكات (قوله اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر) هكذا أورد
الحديث مختصرا وحذف لفظ العدد وقد تقدم في كتاب الوصايا بلفظ اجتنبوا السبع الموبقات
وساق الحديث بتمامه ويجوز نصب الشرك بدلا من السبع ويجوز الرفع على الاستئناف
فيكون خبر مبتدأ محذوف والنكتة في اقتصاره على اثنتين من السبع هنا الرمز إلى تأكيد أمر
السحر فظن بعض الناس أن هذا القدر هو جملة الحديث فقال ذكر الموبقات وهي صيغة جمع
وفسرها باثنتين فقط وهو من قبيل قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا
فاقتصر على اثنتين فقط وهذا على أحد الأقوال في الآية ولكن ليس الحديث كذلك فإنه
في الأصل سبعة حذف البخاري منها خمسة وليس شأن الآية كذلك وقال ابن مالك تضمن
هذا الحديث حذف المعطوف للعلم به فإن التقدير اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر
وأخواتهما وجاز الحذف لان الموبقات سبع وقد ثبتت في حديث آخر واقتصر في هذا الحديث
على ثنتين منها تنبيها على أنهما أحق بالاجتناب ويجوز رفع الشرك والسحر على تقدير منهن
(قلت) وظاهر كلامه يقتضي أن الحديث ورد هكذا تارة وتارة ورد بتمامه وليس كذلك وإنما الذي
اختصره البخاري نفسه كعادته في جواز الاقتصار على بعض الحديث وقد أخرجه المصنف
في كتاب الوصايا في باب قول الله عز وجل أن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما عن عبد العزيز
ابن عبد الله شيخه في هذا الحديث بهذا الاسناد وساقها سبعا فذكر بعد السحر وقتل النفس الخ
وأعاده في أواخر كتاب المحاربين بهذا الاسناد بعينه بتمامه وأغفل المزي في الأطراف ذكر هذا
الموضع في ترجمة سالم أبي الغيث عن أبي هريرة (قوله باب هل يستخرج السحر)
كذا أورد الترجمة بالاستفهام إشارة إلى الاختلاف وصدر بما نقله عن سعيد بن المسيب من
الجواز إشارة إلى ترجيحه (قوله وقال قتادة قلت لسعيد بن المسيب) الخ وصله أبو بكر الأثرم
في كتاب السنن من طريق أبان العطار عن قتادة ومثله من طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ
يلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وأخرجه الطبري في التهذيب من
طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر
أن يمشي إلى من يطلق عنه فقال هو صلاح قال قتادة وكان الحسن يكره ذلك يقول لا يعلم ذلك
إلا ساحر قال فقال سعيد بن المسيب إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقد أخرج أبو داود
في المراسيل عن الحسن رفعه النشرة من عمل الشيطان ووصله أحمد وأبو داود بسند حسن عن
جابر قال ابن الجوزي النشرة حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر
198

وقد سئل أحمد عمن يطلق السحر عن المسحور فقال لا بأس به وهذا هو المعتمد ويجاب عن
الحديث والأثر بأن قوله النشرة من عمل الشيطان إشارة إلى أصلها ويختلف الحكم بالقصد فمن
قصد بها خيرا كان خيرا وإلا فهو شر ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل
بالرقى والأدعية والتعويذ ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين (قوله به طب) بكسر الطاء
أي سحر وقد تقدم توجيهه (قوله أو يؤخذ) بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة وبعدها
معجمة أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها والآخذة بضم الهمزة هي الكلام الذي يقوله
الساحر وقيل خرزة يرقى عليها أو هي الرقية نفسها (قوله أو) يحل عنه بضم أوله وفتح المهملة
(قوله أو ينشر) بتشديد المعجمة من النشرة بالضم وهي ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به
سحرا أو مسا من الجن قيل لها ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء ويوافق قول سعيد
ابن المسيب ما تقدم في باب الرقية في حديث جابر عند مسلم مرفوعا من استطاع أن ينفع أخاه
فليفعل ويؤيد مشروعية النشرة ما تقدم في حديث العين حق في قصة اغتسال العائن وقد أخرج
عبد الرزاق من طريق الشعبي قال لا بأس بالنشرة العربية التي إذا وطئت لا تضره وهي أن يخرج
الانسان في موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وعن شماله من كل ثم يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به وذكر
ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم
يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقوافل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب
عند كل ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله وممن صرح بجواز النشرة المزني صاحب الشافعي
وأبو جعفر الطبري وغيرهما ثم وقفت على صفة النشرة في كتاب الطب النبوي لجعفر المستغفري
قال وجدت في خط نصوح بن واصل على ظهر جزء من تفسير قتيبة بن أحمد البخاري قال قال
قتادة لسعيد بن المسيب رجل به طب أخذ عن امرأته أيحل له أن ينشر قال لا بأس إنما يريد به
الاصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه قال نصوح فسألني حماد بن شاكر ما الحل وما النشرة فلم أعرفهما
فقال هو الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها فإن المبتلي بذلك يأخذ حزمة قضبان
وفأسا ذا قطارين ويضعه في وسط تلك الحزمة ثم يؤجج نارا في تلك الحزمة حتى إذا ما حمى الفأس
استخرجه من النار وبال على حره فإنه يبرأ بإذن الله تعالى وأما النشرة فإنه يجمع أيام الربيع ما قدر
عليه من ورد المفاره وورد البساتين ثم يلقيها في إناء نظيف ويجعل فيهما ماء عذبا ثم يغلي ذلك الورد
في الماء غليا يسيرا ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال حاشد تعلمت هاتين
الفائدتين بالشام (قلت) وحاشد هذا من رواة الصحيح عن البخاري وقد أغفل المستغفري أن أثر
قتادة هذا علقه البخاري في صحيحه وأنه وصله الطبري في تفسيره ولو أطلع على ذلك ما اكتفى بعروه
إلى تفسير قتيبة بن أحمد بغير إسناد وأغفل أيضا أثر الشعبي في صفته وهو أعلى ما اتصل بنا من ذلك
ثم ذكر حديث عائشة في قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق شرحه مستوفي قريبا وقوله
فيه قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر سفيان هو ابن عيينة وهو موصول بالسند المذكور
ولم أقف على كلام سفيان هذا في مسند الحميدي ولا ابن أبي عمر ولا غيرهما والله أعلم (قوله
في جف طلعة ذكر تحت رعوفة) في رواية الكشميهني راعوفة بزيادة ألف بعد الراء وهو كذلك
لأكثر الرواة وعكس ابن التين وزعم أن راعوفة للأصيلي فقط وهو المشهور في اللغة وفي لغة أخرى
199

أرعوفة ووقع كذلك في مرسل عمر بن الحكم ووقع في رواية معمر عن هشام بن عروة عند أحمد
تحت رعوثة بمثلثة بدل الفاء وهي لغة أخرى معروفة ووقع في النهاية لابن الأثير أن في رواية أخرى
زعوبة بزاي وموحدة وقال هي بمعنى راعوفة اه‍ والراعوفة حجر يوضع على رأس البئر لا يستطاع
قلعه يقوم عليه المستقي وقد يكون في أسفل البئر قال أبو عبيد هي صخرة تنزل في أسفل البئر إذا
حفرت يجلس عليها الذي ينظف البئر وهو حجر يوجد صلبا لا يستطاع نزعه فيترك واختلف
في اشتقاقها فقيل لتقدمها وبروزها يقال جاء فلان يرعف الخيل أي يتقدمها وذكر الأزهري
في تهذيبه عن شمر قال راعوفة البئر النظافة وهي مثل عين على قدر حجر العقرب في أعلى الركية
فيجاوز في الحفر خمس قيم وأكثر فربما وجدوا ماء كثيرا قال شمر فمن ذهب بالراعوفة إلى النظافة
فكأنه أخذه من رعاف الانف ومن ذهب بالراعوفة إلى الحجر الذي يتقدم طي البئر فهو من رعف
الرجل إذا سبق (قلت) وتنزيل الراعوفة على الأخير واضح بخلاف الأول والله أعلم (قوله فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه إلى أن قال فاستخرج) كذا وقع في رواية ابن عيينة
وفي رواية عيسى بن يونس قلت يا رسول الله أفلا استخرجته وفي رواية وهيب قلت يا رسول الله
فأخرجه للناس وفي رواية ابن نمير أفلا أخرجته قال لا وكذا في رواية أبي أسامة التي بعد هذا الباب
قال ابن بطال ذكر المهلب أن الرواة اختلفوا على هشام في إخراج السحر المذكور فأثبته سفيان
وجعل سؤال عائشة عن النشرة ونفاه عيسى بن يونس وجعل سؤالها عن الاستخراج ولم يذكر
الجواب وصرح به أبو أسامة قال والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان لتقدمه في الضبط ويؤيده
أن النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة والزيادة من سفيان مقبولة لأنه أثبتهم ولا سيما أنه كرر استخراج
السحر في روايته مرتين فيبعد من الوهم وزاد ذكر النشرة وجعل جوابه صلى الله عليه وسلم عنها
بلا بدلا عن الاستخراج قال ويحتمل وجها آخر فذكر ما محصله أن الاستخراج المنفي في رواية أبي
أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان فالمثبت هو استخراج الجف والمنفي استخراج ما حواه
قال وكأن السر في ذلك أن لا يراه الناس فيتعلمه من أراد استعمال السحر (قلت) وقع في رواية عمرة
فاستخرج جف طلعة من تحت راعوفة وفي حديث زيد بن أرقم فأخرجوه فرموا به وفي مرسل عمر
ابن الحكم أن الذي أستخرج السحر قيس بن محصن وكل هذا لا يخالف الحمل المذكور لكن في آخر
رواية عمرة وفي حديث ابن عباس أنهم وجدوا وترا فيه عقد وأنها انحلت عند قراءة المعوذتين
ففيه إشعار باستكشاف ما كان داخل الجف فلو كان ثابتا لقدح في الجمع المذكور لكن لا يخلو
إسناد كل منهما من ضعف * (تنبيه) * وقع في رواية أبي أسامة مخالفة في لفظة آخرى فرواية
البخاري عن عبيد بن إسماعيل عنه أفلا أخرجته وهكذا أخرجه أحمد عن أبي أسامة ووقع عند
مسلم عن أبي كريب عن أبي أسامة أفلا أحرقته بحاء مهملة وقاف وقال النووي كلا الروايتين
صحيح كأنها طلبت أنه يخرجه ثم يحرقه (قلت) لكن لم يقعا معا في رواية واحدة وإنما وقعت
اللفظة مكان اللفظة وانفرد أبو كريب بالرواية التي بالمهملة والقاف فالجاري على القواعد أن
روايته شاذة وأغرب القرطبي فجعل الضمير في أحرقته للبيد بن أعصم قال واستفهمته عائشة
عن ذلك عقوبة له على ما صنع من السحر فأجابها بالامتناع ونبه على سببه وهو خوف وقوع شر
بينهم وبين اليهود لأجل العهد فلو قتله لثارت فتنة كذا قال ولا أدري ما وجه تعين قتله بالاحراق
200

وإن لو سلم أن الرواية ثابتة وأن الضمير له (قوله قالت فقلت أفلا أي تنشرت) وقع في رواية
الحميدي فقلت يا رسول الله فهلا قال سفيان بمعنى تنشرت فبين الذي فسر المراد بقولها أفلا
كأنه لم يستحضر اللفظة فذكره بالمعنى وظاهر هذا اللفظة أنه من النشرة وكذا وقع في رواية معمر
عن هشام عند أحمد فقالت عائشة لو أنك تعني تنشر وهو مقتضى صنيع المصنف حيث ذكر
النشرة في الترجمة ويحتمل أن يكون من النشر بمعنى الاخراج فيوافق رواية من رواه بلفظ فهلا
أخرجته ويكون لفظ هذه الرواية هلا استخرجت وحذف المفعول للعلم به ويكون المراد
بالمخرج ما حواه الجف لا الجف نفسه فيتأيد الجمع المقدم ذكره * (تكميل) * قال ابن القيم من
أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة
بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والقراءة فالقلب إذا كان ممتلئا من الله معمورا بذكره وله ورد
من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له قال
وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة ولهذا غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال
لان الأرواح الخبيثة إنما تنشط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا ويعكر عليه
حديث الباب وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه
وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب وأنما وقع به صلى
الله عليه وسلم لبيان تجويز ذلك والله أعلم (قوله باب السحر) كذا وقع هنا للكثير
وسقط لبعضهم وعليه جرى ابن بطال والإسماعيلي وغيرهما وهو الصواب لان الترجمة قد تقدمت
بعينها قبل ببابين ولا يعهد ذلك للبخاري إلا نادرا عند بعض دون بعض وذكر حديث عائشة من
رواية أبي أسامة فاقتصر الكثير منه على بعضه من أوله إلى قوله يفعل الشئ وما فعله وفي رواية
الكشميهني أنه فعل الشئ وما فعله ووقع سياق الحديث بكماله في رواية الكشميهني والمستملي وكذا
صنع النسفي وزاد في آخره طريق يحيى القطان عن هشام إلى قوله صنع شيئا ولم يصنعه وقد تقدم
سندا ومتنا لغيره في كتاب الجزية وأغفل المزي في الأطراف ذكرها هنا وذكر هنا رواية الحميدي
عن سفيان ولم أرها ولا ذكرها أبو مسعود في أطرافه واستدل بهذا الحديث على أن الساحر
لا يقتل حدا إذا كان له عهد وأما ما أخرجه الترمذي من حديث جندب رفعه قال حد الساحر
ضربه بالسيف ففي سنده ضعف فلو ثبت لخص منه من له عهد وتقدم في الجزية من رواية بجالة
أن عمر كتب إليهم أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وزاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار
في روايته عن بجالة فقتلنا ثلاث سواحر أخرج البخاري أصل الحديث دون قصة قتل السواحر
قال ابن بطال لا يقتل ساحر أهل الكتاب عند مالك والزهري إلا أن يقتل بسحره فيقتل وهو
قول أبي حنيفة والشافعي وعن مالك إن أدخل بسحره ضررا على مسلم لم يعاهد عليه نقض العهد
بذلك فيحل قتله وإنما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم لأنه كان لا ينتقم لنفسه
ولأنه خشي إذا قتله أن تثور بذلك فتنة بين المسلمين وبين حلفائه من الأنصار وهو من نمط ما راعاه
من ترك قتل المنافقين سواء كان لبيد يهوديا أو منافقا على ما مضى من الاختلاف فيه قال وعند
مالك أن حكم الساحر حكم الزنديق فلا تقبل توبته ويقتل حدا إذا ثبت عليه ذلك وبه قال أحمد
وقال الشافعي لا يقتل إلا إن اعترف أنه قتل بسحره فيقتل به فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد
201

لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله لا على عاقلته ولا يتصور
القتل بالسحر بالبينة وادعى أبو بكر الرازي في الاحكام أن الشافعي تفرد بقوله إن الساحر يقتل
قصاصا إذا اعترف أنه قتله بسحره والله أعلم قال النووي إن كان في السحر قول أو فعل يقتضي
الكفر كفر الساحر وتقبل توبته إذا تاب عندنا وإذا لم يكن في سحره ما يقتضي الكفر عزر
واستتيب (قوله باب أن من البيان سحرا) في رواية الكشميهني والأصيلي السحر
(قوله قدم رجلان) لم أقف على تسميتهما صريحا وقد زعم جماعة أنها الزبرقان بكسر
الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف واسمه الحصين ولقب الزبرقان لحسنه والزبرقان
من أسماء القمر وهو ابن بدر بن امرئ القيس بن خلف وعمرو بن الأهيم واسم الأهيم سنان بن سمي
يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم فهما تميميان قدما في وفد بني تميم على النبي صلى
الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة واستندوا في تعيينهما إلى ما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره
من طريق مقسم عن ابن عباس قال جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو
ابن الأهيم وقيس بن عاصم ففخر الزبرقان فقال يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب
أمنعهم من الظلم وآخذ منهم بحقوقهم وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهيم فقال عمرو أنه لشديد
العارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه فقال الزبرقان والله يا رسول الله لقد علم من غير ما قال
وما منعه أن يتكلم إلا الحسد فقال عمرو أنا أحسدك والله يا رسول الله أنه لئيم الخال حديث
المال أحمق الوالد مضيع في العشيرة والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الآخرة
ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت فقال النبي صلى الله
عليه وسلم أن من البيان سحرا وأخرجه الطبراني من حديث أبي بكرة قال كنا عند النبي صلى الله
عليه وسلم فقدم عليه وفد بني تميم عليهم قيس بن عاصم والزبرقان وعمرو بن الأهيم فقال النبي صلى
الله عليه وسلم لعمرو ما تقول في الزبرقان فذكر نحوه وهذا لا يلزم منه أن يكون الزبرقان وعمرو
هما المراد بحديث ابن عمر فإن المتكلم إنما هو عمرو بن الأهيم وحده وكان كلامه في مراجعته
الزبرقان فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلا على طريق التجوز (قوله من المشرق) أي من جهة
المشرق وكانت سكنى بني تميم من جهة العراق وهي في شرقي المدينة (قوله فخطبا فعجب الناس
لبيانهما) قال الخطابي البيان اثنان أحدهما ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان والآخر
ما دخلته الصنعة بحيث يروق للسامعين ويستميل قلوبهم وهو الذي يشبه بالسحر إذا خلب القلب
وغلب على النفس حتى يحول الشئ عن حقيقته ويصرفه عن جهته فيلوح للناظر في معرض
غيره وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح وإذا صرف إلى الباطل يذم قال فعلى هذا فالذي يشبه بالسحر
منه هو المذموم وتعقب بأنه لا مانع من تسمية الآخر سحرا لان السحر يطلق على الاستمالة كما
تقدم تقريره في أول باب السحر وقد حمل بعضهم الحديث على المدح والحث على تحسين الكلام
وتحبير الألفاظ وهذا واضح إن صح أن الحديث ورد في قصة عمرو بن الأهيم وحمله بعضهم على الذم
لم تصنع في الكلام وتكلف لتحسينه وصرف الشئ عن ظاهره فشبه بالسحر الذي هو تخييل
لغير حقيقة وإلى هذا أشار مالك حيث أدخل هذا الحديث في الموطأ في باب ما يكره من الكلام
بغير ذكر الله وتقدم في باب الخطبة من كتاب النكاح في الكلام على حديث الباب من قول
202

صعصعة بن صوحان في تفسير هذا الحديث ما يؤيد ذلك وهو أن المراد به الرجل يكون عليه الحق
وهو ألحن بالحجة من صاحب الحق فيسحر الناس ببيانه فيذهب بالحق وحمل الحديث على هذا
صحيح لكن لا يمنع حمله على المعنى الآخر إذا كان في تزيين الحق وبهذا جزم ابن العربي وغيره من
فضلاء المالكية وقال ابن بطال أحسن ما يقال في هذا أن هذا الحديث ليس ذما للبيان كله
ولا مدحا لقوله من البيان فأتى بلفظة من التي للتبعيض قال وكيف يذم البيان وقد أمتن الله به
على عباده حيث قال خلق الانسان علمه البيان انتهى والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية
المعنى الأول الذي نبه عليه الخطابي لا خصوص ما نحن فيه وقد اتفق العلماء على مدح الايجاز
والاتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة وعلى مدح الاطناب في مقام الخطابة بحسب المقام
وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني نعم الافراط في كل شئ مذموم وخير الأمور أوسطها والله
أعلم (قوله باب الدواء بالعجوة للسحر) العجوة ضرب من أجود تمر المدينة وألينه
وقال الداودي هو من وسط التمر وقال ابن الأثير العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني
يضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بالمدينة وذكر هذا الأخير القزاز
(قوله حدثنا علي) لم أره منسوبا في شئ من الروايات ولا ذكره أبو علي الغساني لكن جزم أبو نعيم
في المستخرج بأنه علي بن عبد الله يعني ابن المديني وبذلك جزم المزي في الأطراف وجزم الكرماني
بأنه علي بن سلمة اللبقي وما عرفت سلفه فيه (قوله حدثنا مروان) هو ابن معاوية الفزاري
جزم به أبو نعيم وأخرجه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر عن مروان الفزاري (قوله هاشم)
هو ابن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعامر بن سعد هو ابن عم أبيه ووقع في رواية أبي أسامة
في الطريق الثانية في الباب سمعت عامرا سمعت سعدا ويأتي بعد قليل من وجه آخر سمعت عامر
ابن سعد سمعت أبي وهو سعد بن أبي وقاص (قوله من اصطبح) في رواية أبي أسامة من تصبح
وكذا في رواية جمعة عن مروان الماضية في الأطعمة وكذا لمسلم عن ابن عمرو كلاهما بمعنى
التناول صباحا وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحا ثم استعمل في الاكل ومقابله
الغبوق والاغتباق بالغين المعجمة وقد يستعمل في مطلق الغذاء أعم من الشرب والاكل وقد
يستعمل في أعم من ذلك كما قال الشاعر صبحنا الخزرجية مرهفات وتصبح مطاوع صبحته
بكذا إذا أتيته به صباحا فكأن الذي يتناول العجوة صباحا قد أتى بها وهو مثل تغدى وتعشى إذا
وقع ذلك في وقت الغداء أو العشاء (قوله كل يوم تمرات عجوة) كذا أطلق في هذه الرواية
ووقع مقيدا في غيرها ففي رواية جمعة وابن أبي عمر سبع تمرات وكذا أخرجه الإسماعيلي
من رواية دحيم عن مروان وكذا هو في رواية أبي أسامة في الباب ووقع مقيدا بالعجوة في رواية
أبي ضمرة أنس بن عياض عن هاشم بن هاشم عند الإسماعيلي وكذا في رواية أبي أسامة وزاد
أبو ضمرة في روايته التقييد بالمكان أيضا ولفظه من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية والعالية
القرى التي في الجهة العالية من المدينة وهي جهة نجد وقد تقدم لها ذكر في المواقيت من كتاب
الصلاة وفيه بيان مقدار ما بينها وبين المدينة وللزيادة شاهد عند مسلم من طريق ابن أبي مليكة
عن عائشة بلفظ في عجوة العالية شفاء في أول البكرة ووقع لمسلم أيضا من طريق أبي طوالة
عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن عامر بن سعد بلفظ من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها
203

حين يصبح وأراد لابتي المدينة وأن لم يجر لها ذكر للعلم بها (قوله لم يضره سم ولاسحر ذلك اليوم
إلى الليل) السم معروف وهو مثلث السين والسحر تقدم تحرير القول فيه قريبا وقوله ذلك
اليوم ظرف وهو معمول ليضره أو صفة لسحر وقوله إلى الليل فيه تقييد الشفاء المطلق في رواية
ابن أبي مليكة حيث قال شفاء أول البكرة في أو ترياق وتردده في ترياق شك من الراوي
والبكرة بضم الموحدة وسكون الكاف يوافق ذكر الصباح في حديث سعد والشفاء أشمل من
الترياق يناسب ذكر السم والذي وقع في حديث سعد شيئان السحر والسم فمعه زيادة
علم وقد أخرج النسائي من حديث جابر رفعه العجوة من الجنة وهي شفاء من السم وهذا يوافق
رواية ابن أبي مليكة والترياق بكسر المثناة وقد تضم وقد تبدل المثناة دالا أو طاء بالاهمال فيهما
وهو دواء مركب معروف يعالج به المسموم فأطلق على العجوة اسم الترياق تشبيها لها به وأما الغاية
في قوله إلى الليل فمفهومه أن السر الذي في العجوة من دفع ضرر السحر والسم يرتفع إذا دخل
الليل في حق من تناوله من أول النهار ويستفاد منه إطلاق اليوم على ما بين طلوع الفجر
أو الشمس إلى غروب الشمس ولا يستلزم دخول الليل ولم أقف في شئ من الطرق على حكم من
تناول ذلك في أول الليل هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى
الصباح والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول النهار لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله
يقع على الريق فيحتمل أن يلحق به من تناول الليل على الريق كالصائم وظاهر الاطلاق أيضا
المواظبة على ذلك وقد وقع مقيدا فيما أخرجه الطبري من رواية عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة أنها كانت تأمر بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات وأخرجه ابن عدي من
طريق محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام مرفوعا وذكر ابن عدي أنه تفرد به ولعله أراد
تفرده برفعه وهو من رجال البخاري لكن في المتابعات (قوله وقال غيره سبع تمرات) وقع
في نسخة الصغاني يعني غير حديث علي انتهى والغير كأنه أراد به جمعة وقد تقدم في الأطعمة عنه
أو غيره ممن نبهت عليه ممن رواه كذلك (قوله في رواية أبي أسامة سبع تمرات عجوة) في رواية
الكشميهني بسبع تمرات بزيادة الموحدة في أوله ويجوز في تمرات عجوة الإضافة فتخفض كما تقول
ثياب خز ويجوز التنوين على أنه عطف بيان أو صفه لسبع أو تمرات ويجوز النصب منونا على
تقدير فعل أو على التمييز قال الخطابي كون العجوة تنفع من السم والسحر إنما هو ببركة دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر وقال ابن التين يحتمل أن يكون المراد نخلا خاصا
بالمدينة لا يعرف الآن وقال بعض شراح المصابيح نحوه وأن ذلك لخاصية فيه قال ويحتمل أن
يكون ذلك خاصا بزمانه صلى الله عليه وسلم وهذا يبعده وصف عائشة لذلك بعده صلى الله عليه وسلم
وقال بعض شراح المشارق أما تخصيص تمر المدينة بذلك فواضح من ألفاظ المتن وأما تخصيص
زمانه بذلك فبعيد وأما خصوصية السبع فالظاهر أنه لسر فيها وإلا فيستحب أن يكون ذلك وترا
وقال المازري هذا مما لا يعقل معناه في طريقة علم الطب ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه
من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار على هذا العدد الذي هو السبع ولا على الاقتصار
على هذا الجنس الذي هو العجوة ولعل ذلك كان لأهل زمانه صلى الله عليه وسلم خاصة أولا كثرهم
إذا لم يثبت استمرار وقوع الشفاء في زماننا غالبا وأن وجد في الأكثر حمل على أنه أراد وصف غالب
204

الحال وقال عياض تخصيصه ذلك بعجوة العالية وبما بين لابتي المدينة يرفع هذا الاشكال
ويكون خصوصا لها كما وجد الشفاء لبعض الأدواء في الأدوية التي تكون في بعض تلك البلاد
دون ذلك الجنس في غيره لتأثير يكون في ذلك من الأرض أو الهواء قال وأما تخصيص هذا
العدد فلجمعه بين الافراد والاشفاع لأنه زاد على نصف العشرة وفيه اشفاع ثلاثة وأوقار أربعة
وهي من نمط غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا وقوله تعالى سبع سنابل وكما أن السبعين مبالغة
في كثرة العشرات والسبعمائة مبالغة في كثرة المئين وقال النووي في الحديث تخصيص
عجوة المدينة بما ذكر وأما خصوص كون ذلك سبعا فلا يعقل معناه كما في أعداد الصلوات ونصب
الزكوات قال وقد تكلم في ذلك المازري وعياض بكلام باطل فلا يغتر به انتهى ولم يظهر لي
من كلامهما ما يقتضي الحكم عليه بالبطلان بل كلام المازري يشير إلى محصل ما اقتصر عليه
النووي وفي كلام عياض إشارة إلى المناسبة فقط والمناسبات لا يقصد فيها التحقيق البالغ
بل يكتفي منها بطرق الإشارة وقال القرطبي ظاهر الأحاديث خصوصية عجوة المدينة بدفع السم
وإبطال السحر والمطلق منها محمول على المقيد وهو من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني
ومن أئمتنا من تكلف لذلك فقال أن السموم إنما تقتل لافراط برودتها فإذا داوم على التصبح
بالعجوة تحكمت فيه الحرارة وأعانتها الحرارة الغريزية فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم قال
وهذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة بل خصوصية العجوة مطلقا بل خصوصية التمر فإن
من الأدوية الحارة ما هو أولى بذلك من التمر والأولى أن ذلك خاص بعجوة المدينة ثم هل هو خاص
بزمان نطقه أو في كل زمان هذا محتمل ويرفع هذا الاحتمال التجربة المتكررة فمن جرب ذلك
فصح معه عرف أنه مستمر وإلا فهو مخصوص بذلك الزمان قال وأما خصوصية هذا العدد
فقد جاء في مواطن كثيرة من الطب كحديث صبوا علي من سبع قرب وقوله للمفؤد الذي وجهه
للحرث بن كلدة أن يلده بسبع تمرات وجاء تعويذه سبع مرات إلى غير ذلك وأما في غير الطب
فكثير فما جاء من هذا العدد في معرض التداوي فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله أو من أطلعه على
ذلك وما جاء منه في غير معرض التداوي فإن العرب تضع هذا العدد موضع الكثرة وإن لم ترد
عددا بعينه وقال ابن القيم عجوة المدينة من أنفع تمر الحجاز وهو صنف كريم ملززمتين الجسم
والقوة وهو من ألين التمر وألذه قال والتمر في الأصل من أكثر الثمار تغذية لما فيه من الجوهر
الحار الرطب وأكله على الريق يقتل الديدان لما فيه من القوة الترياقية فإذا أديم أكله على
الريق جفف مادة الدود وأضعفه أو قتله انتهى وفي كلامه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من
السم وهو ما ينشأ عن الديدان التي في البطن لا كل السموم لكن سياق الخبر يقتضي التعميم لأنه
نكرة في سياق النفي وعلى تقديم التسليم في السم فماذا يصنع في السحر (قوله باب
لا هامة) قال أبو زيد هي بالتشديد وخالفه الجميع فخففوها وهو المحفوظ في الرواية وكأن من
شددها ذهب إلى واحدة الهوام وهي ذوات السموم وقيل دواب الأرض التي تهم بأذى الناس
وهذا لا يصح نفيه إلا إن أريد أنها لا تضر لذواتها وإنما تضر إذا أراد الله إيقاع الضرر بمن أصابته
وقد ذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن العرب كانت في الجاهلية تقول إذا قتل الرجل ولم يؤخذ
بثأره خرجت من رأسه هامة وهي دودة فتدور حول قبره فتقول أسقوني أسقوني فإن أدرك
205

بثأره ذهبت وإلا بقيت وفي ذلك يقول شاعرهم
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة أسقوني
قال وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب وذكر ابن فارس وغيره من
اللغويين نحو الأول إلا أنهم لم يعينوا كونها دودة بل قال القزاز الهامة طائر من طير الليل كأنه
يعني البومة وقال ابن الأعرابي كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إلى
نفسي أو أحدا من أهل داري وقال أبو عبيد كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير
ويسمون ذلك الطائر الصدى فعلى هذا فالمعنى في الحديث لا حياة لهامة الميت وعلى الأول
لا شؤم بالبومة ونحوها ولعل المؤلف ترجم لا هامة مرتين بالنظر لهذين التفسيرين والله أعلم
(قوله عن أبي سلمة) في رواية شعيب عن الزهري حدثني أبو سلمة وهي في الباب الذي بعده (قوله
لا عدوى) تقدم شرحه مستوفى في باب الجذام وكيفية الجمع بين قوله لا عدوى وبين قوله لا يورد
ممرض على مصح وكذا تقدم شرح قوله ولا صفر ولا هامة (قوله فقال أعرابي) لم أقف على اسمه
(قوله تكون في الرمل كأنها الظباء) في رواية شعيب عن الزهري في الباب الذي يليه أمثال
الظباء بكسر المعجمة بعدها موحدة وبالمد جمع ظبى شبهها بها في النشاط والقوة والسلامة من
الداء (قوله فيجربها) في رواية مسلم فيدخل فيها ويجربها بضم أوله وهو بناء على ما كانوا
يعتقدون من العدوي أي يكون سببا لوقوع الجرب بها وهذا من أوهام الجهال كانوا يعتقدون
أن المريض إذا دخل في الأصحاء أمرضهم فنفى الشارع ذلك وأبطله فلما أورد الأعرابي الشبهة رد
عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فمن أعدى الأول وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة
وحاصله من أين جاء الجرب الذي أعدى بزعمهم فإن أجيب من بعير آخر لزم التسلسل أو سبب
آخر فليفصح به فإن أجيب بأن الذي فعله في الأول هو الذي فعله في الثاني ثبت المدعى وهو أن
الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كل شئ وهو الله سبحانه وتعالى (قوله وعن أبي
سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوردن ممرض على مصح) كذا
فيه بتأكيد النهي عن الايراد ولمسلم من رواية يونس عن الزهري لا يورد بلفظ النفي وكذا تقدم
من رواية صالح وغيره وهو خبر بمعنى النهي بدليل رواية الباب والممرض بضم أوله وسكون ثانيه
وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى والمصح بضم الميم وكسر الصاد المهملة بعدها
مهملة من له إبل صحاح نهى صاحب الإبل المريضة أن يوردها على الإبل الصحيحة قال أهل
اللغة الممرض اسم فاعل من أمرض الرجل إذا أصاب ماشيته مرض والمصح اسم فاعل من أصح
إذا أصاب ماشيته عاهة ثم هب عنها وصحت (قوله وأنكر أبو هريرة الحديث الأول) وقع
في رواية المستملي والسرخسي حديث الأول وهو كقولهم مسجد الجامع وفي رواية يونس عن
الزهري عن أبي سلمة كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صمت
أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى (قوله وقلنا ألم تحدث أنه لا عدوى) في رواية يونس فقال
الحرث بن أبي ذباب بضم المعجمة وموحدتين وهو ابن عم أبي هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة
تحدثنا مع هذا الحديث حديث لا عدوى فأبى أن يعرف ذلك ووقع عند الإسماعيلي من رواية
شعيب فقال الحرث إنك حدثتنا فذكره قال فأنكر أبو هريرة وغضب وقال لم أحدثك ما تقول
206

(قوله فرطن بالحبشية) في رواية يونس فما رآه الحرث في ذلك حتى غضب أبو هريرة حتى رطن
بالحبشية فقال للحرث أتدري ماذا قلت قال لا قال أني قلت أبيت (قوله فما رأيته) في رواية
الكشميهني فما رأيناه (نسي حديثا غيره) في رواية يونس قال أبو سلمة ولعمري لقد كان يحدثنا به
فما أدري أنسي أبو هريرة أم نسخ أحد القولين للآخر وهذا الذي قاله أبو سلمة ظاهر في أنه كان
يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض وقد تقدم وجه الجمع بينهما في باب الجذام وحاصله أن قوله
لا عدوى نهى عن اعتقادها وقوله لا يورد سبب النهي عن الايراد خشية الوقوع في اعتقاد
العدوي أو خشية تأثير الأوهام كما تقدم نظيره في حديث فر من المجذوم لان الذي لا يعتقد أن
الجذام يعدي يجد في نفسه نفرة حتى لو أكرهها على القرب منه لتألمت بذلك فالأولى بالعاقل أن
لا يتعرض لمثل ذلك بل يباعد أسباب الآلام ويجانب طرق الأوهام والله أعلم قال ابن التين لعل
أبا هريرة كان يسمع هذا الحديث قبل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم حديث من بسط رداءه
ثم ضمه إليه لم ينس شيئا سمعه من مقالتي وقد قيل في الحديث المذكور إن المزاد أنه لا ينسى تلك
المقالة التي قالها ذلك اليوم لا أنه ينتفي عنه النسيان أصلا وقيل كان الحديث الثاني ناسخا للأول
فسكت عن المنسوخ وقيل معنى قوله لا عدوى النهي عن الاعتداء ولعل بعض من أجلب
عليه إبلا جرباء أراد تضمينه فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر عليها وما لم تكن
تنجو منه لان العجماء جبار ويحتمل أن يكون قال هذا على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك انتهى
فأما دعوى نسيان أبي هريرة للحديث فهو بحسب ما ظن أبو سلمة وقد بينت ذلك رواية يونس التي
أشرت إليها وأما دعوى النسخ فمردودة لان النسخ لا يصار إليه بالاحتمال ولا سيما مع إمكان الجمع
وأما الاحتمال الثالث فبعيد من مساق الحديث والذي بعده أبعد منه ويحتمل أيضا أنهما لما
كانا خبرين متغايرين عن حكمين مختلفين لا ملازمة بينهما جاز عنده أن يحدث بأحدهما
ويسكت عن الآخر حسبما تدعو إليه الحاجة قاله القرطبي في المفهم قال ويحتمل أن يكون خاف
اعتقاد جاهل يظنهما متناقضين فسكت عن أحدهما وكان إذا أمن ذلك حدث بهما جميعا قال
القرطبي وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للاعرابي جواز مشافهة من وقعت له شبهة
في اعتقاده بذكر البرهان العقلي إذا كان السائل أهلا لفهمه وأما من كان قاصرا فيخاطب
بما يحتمله عقله من الاقناعيات قال وهذه الشبهة التي وقعت للاعرابي هي التي وقعت للطبائعيين
أولا وللمعتزلة ثانيا فقال الطبائعيون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إياها وسموا المؤثر
طبيعة وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولدات وأن قدرهم مؤثرة فيها بالايجاد وأنهم
خالقون لأفعالهم مستقلون باختراعها واستند الطائفتان إلى المشاهدة الحسية ونسبوا من
أنكر ذلك إلى إنكار البديهة وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا لالتباس إدراك الحس بادراك
العقل فإن المشاهد إنما هو تأثير شئ عند شئ آخر وهذا حظ الحس فإما تأثيره فهو فيه حظ العقل
فالحس أدرك وجود شئ عند وجود شئ وارتفاعه عند ارتفاعه أما إيجاده به فليس للحس فيه
مدخل فالعقل هو الذي يفرق فيحكم بتلازمهما عقلا أو عادة مع جواز التبدل عقلا والله أعلم
وفيه وقوع تشبيه الشئ بالشئ إذا جمعهم وصف خاص ولو تباينا في الصورة وفيه شدة ورع
أبي هريرة لأنه مع كون الحرث أغضبه حتى تكلم بغير العربية خشي أن يظن الحرث أنه قال فيه
207

شيئا يكرهه ففسر له في الحال ما قال والله أعلم (قوله باب لا عدوى) تقدم
تفسيرها وذكر في الباب ثلاثة أحاديث * الأول (قوله أخبرني سالم بن عبد الله) أي ابن عمر (قوله
وحمزة) هو أخو سالم (قوله أن عبد الله بن عمر) قال في رواية مسلم عن أبي الطاهر وحرملة
كلاهما عن ابن وهب بهذا السند عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في أوائل
النكاح من طريق مالك عن الزهري عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر وفي
تصريح الزهري بالاخبار فيه في هذه الرواية دفع لتوهم انقطاعه بسبب ما رواه ابن أبي ذئب عن
الزهري فأدخل بين الزهري وسالم رجلا وهو محمد بن زيد بن قنفذ ويحمل أن كان محفوظا على أن
الزهري حمله عن محمد بن زيد عن سالم ثم سمعه من سالم (قوله لا عدوى ولا طيرة إنما الشؤم في ثلاث
الحديث) تقدم الكلام على حديث الشؤم في ثلاث في النكاح وجمع ابن عمر بين الحديثين يدل
على أنه قوى عنده أحد الاحتمالات في المراد بالشؤم وذكر مسلم أنه لم يقل أحد من أصحاب
الزهري عنه في أول هذا الحديث لا عدوى ولا طيرة إلا يونس بن يزيد (قلت) وقد أخرجه
النسائي من رواية القاسم بن مبرور عن يونس بدونها فكان المنفرد بالزيادة عبد الله بن وهب
* الحديث الثاني (قوله أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا عدوى)
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا توردوا الممرض
على المصح وعن الزهري قال أخبرني سنان بن أبي سنان أن أبا هريرة قال أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال لا عدوى فقام أعرابي) فذكر القصة الماضية في الباب قبله هكذا أورده من رواية
شعيب عن الزهري وقد أخرجه مسلم من روايته عن الزهري عن أبي سلمة بالحديثين لكن لم يسق
لفظه أحال به على رواية صالح بن كيسان ولفظه لا عدوى ويحدث مع ذلك لا يورد الممرض
على المصح قاله بمثل حديث يونس وقد بينت ما في رواية يونس من فائدة زائدة في الباب الذي قبله
وأورد أيضا رواية شعيب عن الزهري عن سنان بن أبي سنان بالقصة وأحال بسياقه على رواية
يونس فظهر بذلك أنها كلها موصولة وسنان بن أبي سنان مدني ثقة واسم أبيه يزيد بن أمية
وليس له في البخاري عن أبي هريرة سوى هذا الحديث الواحد وله آخر عن جابر قرنه في كل منهما
بأبي سلمة بن عبد الرحمن والله أعلم * الحديث الثالث حديث أنس بلفظ لا عدوى ولا طيرة
ويعجبني الفأل وفيه تفسيره وقد تقدم شرحه مستوفى في باب مفرد (قوله باب
ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم) الإضافة فيه إلى المفعول (قوله رواه عروة عن عائشة)
كأنه يشير إلى ما علقه في الوفاة النبوية آخر المغازي فقال قال يونس عن ابن شهاب قال عروة
قالت عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما أزال أجد ألم
الطعام الذي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم وقد ذكرت هناك من وصله
وهو البزار وغيره وتقدم شرحه مستوفى وقوله أجد ألم الطعام أي الألم المناشئ عن ذلك الاكل
لا أن الطعام نفسه بقي إلى تلك الغاية وأخرج الحاكم من حديث أم مبشر نحو حديث عائشة ثم
ذكر حديث أبي هريرة في قصة الشاة المسمومة التي أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد
تقدم ذكره في غزوة خيبر وأنه أخرجه مختصرا وفي أواخر الجزية مطولا (قوله أهديت) بضم
208

أوله على البناء للمجهول تقدم في الهبة من رواية هشام بن زيد عن أنس أن يهودية أتت النبي
صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها الحديث فعرف أن التي أهدت الشاة
المذكورة امرأة وقدمت في المغازي أنها زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم أخرجه
ابن إسحاق بغير إسناد وأورده ابن سعد من طرق عن ابن عباس بسند ضعيف ووقع في مرسل
الزهري أنها أكثرت السم في الكتف والذراع لأنه بلغها أن ذلك كان أحب أعضاء الشاة إليه
وفيه فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف فنهش منها وفيه فلما ازدرد لقمته قال إن
الشاة تخبرني يعني أنها مسمومة وبينت هناك الاختلاف هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم
أو تركها ووقع في حديث أنس المشار إليه فقيل ألا تقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها
في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم كيفية الجمع بين الاختلاف المذكور ومن
المستغرب قول محمد بن سحنون أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها (قوله
اجمعوا لي) لم أقف على تعيين المأمور بذلك (قوله أني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقوني عنه)
كذا وقع في هذا الحديث في ثلاثة مواضع قال ابن التين ووقع في بعض النسخ صادقي بتشديد الياء
بغير نون وهو الصواب في العربية لان أصله صادقوني فحذفت النون للإضافة فاجتمع حرفا علة
سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ومثله وما أنتم بمصرخي وفي حديث بدء الوحي
أو مخرجي هم انتهى وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد فقد وجهها غيره قال
ابن مالك مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة
المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها خفاء الاعراب فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك فنبهوا عليه في
بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر
وليس الموافيني ليرتد خائبا * فإن له أضعاف ما كان أملا
ومنه في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم والأصل فيه أخوف مخوفاتي عليكم فحذف المضاف
إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل
التعجب وحاصل كلامه أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت كما تدل عليه الرواية
الأخرى بلفظ صادقي ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النحاة
أجاز في الجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو ويحتمل أن تكون الياء في محل
نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محل نصب وتكون
النون على هذا أيضا نون الجمع (قوله من أبوكم قالوا أبونا فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذبتم بل أبوكم فلان فقالوا صدقت وبررت) بكسر الراء الأولى وحكى فتحها وهو من البر (قوله
نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها) بضم اللام مخففا أي تدخلون فتقيمون في المكان الذي كنا فيه
وضبطه الكرماني بتشديد اللام وقد أخرج الطبري من طريق عكرمة قال خاصمت اليهود
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة وسيخلفنا إليها قوم
آخرون يعنون محمدا وأصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم بل أنتم خالدون
مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله تعالى وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة الآية ومن
طريق ابن إسحاق عن سيف بن سليم عن مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون هذه الدنيا
209

سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار وإنما هي سبعة أيام فنزلت وهذا سند حسن
وأخرج الطبري أيضا من وجه آخر عن عكرمة قال اجتمعت يهود تخاصم النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا لن تصيبنا النار فذكر نحوه وزاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذبتم بل أنتم خالدون
مخلدون لا نخلفكم فيها أبدا إن شاء الله تعالى فنزل القرآن تصديقا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن
طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثني أبي زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليهود
أنشدكم الله من أهل النار الذين ذكرهم الله في التوراة قالوا إن الله غضب علينا غضبة فنمكث
في النار أربعين يوما ثم نخرج فتخلفوننا فيها فقال كذبتهم والله لا نخلفكم فيها أبدا فنزل القرآن
تصديقا له وهذان خبران مرسلان يقوي أحدهما الآخر ويستفاد منهما تعيين مقدار الأيام
المعدودة المذكورة في الآية وكذا في حديث أبي هريرة حيث قال فيه أياما يسيرة وأخرج
الطبري أيضا من رواية قتادة وغيره أن حكمة العدد المذكور وهو الأربعون أنها المدة التي
عبدوا فيها العجل (قوله اخسئوا فيها) هو زجر لهم بالطرد والابعاد أو دعاء عليهم بذلك (قوله
والله لا نخلفكم فيها أبدا) أي لا تخرجون منها ولا نقيم بعدكم فيها لان من يدخل النار من عصاة
المسلمين يخرج منها فلا يتصور أنه يخلف غيره أصلا (قوله أردنا إن كنت كاذبا) في رواية المستملي
والسرخسي إن كنت كذابا (قوله وإن كنت نبيا لم يضرك) يعني على الوجه المعهود من السم
المذكور وفي حديث أنس المشار إليه فقالت أردت لأقتلك فقال ما كان الله ليسلطك على
ذلك وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في نحو هذه
القصة فقالت أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك
أخرجه البيهقي وأخرج نحوه موصولا عن جابر وأخرجه ابن سعد بسند صحيح عن ابن عباس
ووقع عند ابن سعد عن الواقدي بأسانيده المتعددة أنها قالت قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي
ونلت من قومي ما نلت فقلت إن كان نبيا فسيخبره الذراع وإن كان ملكا استرحنا منه وفي
الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيب وتكليم الجماد له ومعاندة اليهود لاعترافهم بصدقه
فيما أخبر به عن اسم أبيهم وبما وقع منهم من دسيسة السم ومع ذلك فعاندوا واستمروا على تكذيبه
وفيه قتل من قتل بالسم قصاصا وعن الحنفية إنما تجب فيه الدية ومحل ذلك إذا استكرهه عليه
اتفاقا وأما إذا دسه عليه فأكله ففيه اختلاف للعلماء فإن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قتل
اليهودية ببشر بن البراء ففيه حجة لمن يقول بالقصاص في ذلك والله أعلم وفيه أن الأشياء كالسموم
وغيرها لا تؤثر بذواتها بل بإذن الله لان السم أثر في بشر فقيل إنه مات في الحال وقيل إنه بعد حول
ووقع في مرسل الزهري في مغازي موسى بن عقبة أن لونه صار في الحال كالطيلسان يعني أصفر
شديد الصفرة وأما قول أنس فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم فاللهوات
جمع لهاة ويجمع أيضا على لهى بضم أوله والقصر منون ولهيان وزن إنسان وقد تقدم بيانها
فيما مضى في الطب في الكلام على العذرة وهي اللحمة المعلقة في أصل الحنك وقيل هي ما بين
منقطع اللسان إلى منقطع أصل الفم وهذا هو الذي يوافق الجمع المذكور ومراد أنس أنه صلى
الله عليه وسلم كان يعتريه المرض من تلك الأكلة أحيانا وهو موافق لقوله في حديث عائشة ما أزال
أجد ألم الطعام ووقع في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري مرسلا ما زلت أجد من الأكلة
210

التي أكلت بخيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ومثله في الرواية المذكورة عند ابن
سعد والعداد بكسر المهملة والتخفيف ما يعتاد والأبهر عرق في الظهر تقدم بيانه في الوفاة النبوية
ويحتمل أن يكون أنس أراد أنه يعرف ذلك في اللهوات بتغير لونها أو بنتوء فيها أو تحفير قاله
القرطبي (قوله باب شرب السم والدواء به وما يخاف منه) هو بضم أوله وقال
الكرماني يجوز فتحه وهو عطف على السم (قوله والخبيث) أي الدواء الخبيث وكأنه يشير
بالدواء بالسم إلى ما ورد من النهي عن التداوي بالحرام وقد تقدم بيانه في كتاب الأشربة في باب
الباذق في شرح حديث أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وزعم بعضهم أن المراد بقوله به منه
والمراد ما يدفع ضرر السم وأشار بذلك إلى ما تقدم قبل من حديث من تصبح بسبع تمرات الحديث
وفيه لم يضره سم فيستفاد منه استعمال ما يدفع ضرر السم قبل وصوله ولا يخفي بعد ما قال لكن
يستفاد منه مناسبة ذكر حديث العجوة في هذا الباب وأما قوله وما يخاف منه فهو معطوف
على الضمير المجرور العائد على السم وقوله منه أي من الموت به أو استمرار المرض فيكون فاعل
ذلك قد أعان على نفسه وأما مجرد شرب السم فليس بحرام على الاطلاق لأنه يجوز استعمال
اليسير منه إذا ركب معه ما يدفع ضرره إذا كان فيه نفع أشار إلى ذلك ابن بطال وقد أخرج ابن
أبي شيبة وغيره أن خالد بن الوليد لما نزل الحيرة قيل له احذر السم لا تسقيكه الأعاجم فقال ائتوني
به فأتوه به فأخذه بيده ثم قال بسم الله واقتحمه فلم يضره فكأن المصنف رمز إلى أن السلامة من
ذلك وقعت كرامة لخالد بن الوليد فلا يتأسى به في ذلك لئلا يفضي إلى قتل المرء نفسه ويؤيد ذلك
حديث أبي هريرة في الباب ولعله كان عند خالد في ذلك عهد عمل به وأما قوله والخبيث فيجوز جره
والتقدير والتداوي بالخبيث ويجوز الرفع على أن الخبر محذوف والتقدير ما حكمه أو هل يجوز
التداوي به وقد ورد النهي عن تناوله صريحا أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه
ابن حبان من طريق مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا قال الخطابي خبث الدواء يقع بوجهين
أحدهما من جهة نجاسته كالخمر ولحم الحيوان الذي لا يؤكل وقد يكون من جهة استقذاره
فتكون كراهته لادخال المشقة على النفس وإن كان كثير من الأدوية تكره النفس تناوله لكن
بعضها في ذلك أيسر من بعض (قلت) وحمل الحديث على ما ورد في بعض طرقه أولى وقد ورد
في آخر الحديث متصلا به يعني السم ولعل البخاري أشار في الترجمة إلى ذلك (قوله عن سليمان)
هو الأعمش (قوله سمعت ذكوان) هو أبو صالح السمان وقد أخرجه مسلم من رواية وكيع عن
الأعمش عن أبي صالح ثم أردفه برواية شعبة عن سليمان قال سمعت ذكوان مثله وأخرجه
الترمذي من رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة فقال عن الأعمش سمعت أبا صالح به وقدم في
رواية وكيع من قتل نفسه بحديدة وثلث بقصة من تردى عكس رواية شعبة هنا ووقع في رواية
أبي داود الطيالسي المذكورة كرواية وكيع وكذا عند الترمذي من طريق عبيدة بن حميد عن
الأعمش ولم يذكر قصة (قوله من تردى من جبل) أي أسقط نفسه منه لما يدل عليه قوله فقتل
نفسه على أنه تعمد ذلك وإلا فمجرد قوله تردى لا يدل على التعمد (قوله ومن تحسى) بمهملتين
بوزن تغدى أي تجرع (قوله يجأ) بفتح أوله وتخفيف الجيم وبالهمز أي يطعن بها وقد تسهل
الهمزة والأصل في يجأ يوجأ قال ابن التين في رواية الشيخ أبي الحسن يجأ بضم أوله ولا وجه
211

له وإنما يبني للمجهول بإثبات الواو ويوجأ بوزن يوجد انتهى ووقع في رواية مسلم يتوجأ بمثناة
واو مفتوحتين وتشديد الجيم بوزن يتكبر وهو بمعنى الطعن ووقع في رواية أبي الزناد عن
الأعرج عن أبي هريرة في أواخر الجنائز بلفظ الذي يطعن نفسه يطعنها في النار وقد تقدم
شرحه هناك وبيان تأويل الخلود والتأييد المذكورين وحكى ابن التين عن غيره أن هذا
الحديث ورد في حق رجل بعينه وأولى ما حمل عليه هذا الحديث ونحوه من أحاديث
الوعيد أن المعنى المذكور جزاء فاعل ذلك إلا أن يتجاوز الله تعالى عنه (قوله أحمد بن بشير أبو بكر)
هو الكوفي المخزومي مولاهم ليس له عند البخاري سوى هذا الموضع قال ابن معين لا بأس به
هكذا روى عباس الدوري عنه وقال عثمان الدارمي عن ابن معين متروك وتعقب ذلك الخطيب
بأنه التبس على عثمان بآخر يقال له أحمد بن بشير لكن كنيته أبو جعفر وهو بغدادي من
طبقة صاحب الترجمة وكأن هذا هو السر في تكنية المصنف له ليمتاز عن قرينه الضعيف وقد
تقدم شرح حديث سعد قريبا وقوله في أول السند حدثنا محمد كذا للأكثر ووقع لأبي ذر عن
المستملي محمد بن سلام (قوله باب ألبان الأتن) بضم الهمزة والمثناة الفوقانية بعدها
نون جمع أتان (قوله حدثني عبد الله بن محمد) هو الجعفي وسفيان هو ابن عيينة (قوله من
السباع) كذا للأكثر وللمستملي والسرخسي من السبع بلفظ الافراد والمراد الجنس (قوله قال
الزهري ولم أسمعه حتى أتيت الشام) تقدم الكلام على ذلك في الطب (قوله وزاد الليث حدثني
يونس عن ابن شهاب) هو الزهري وهذه الزيادة وصلها الذهلي في الزهريات أوردها أبو نعيم في
المستخرج مطولة من طريق أبي ضمرة أنس بن عياض عن يونس بن يزيد (قوله عن ابن شهاب قال
وسألته هل نتوضأ) هذه الجملة حالية ووقع في رواية أبي ضمرة سئل الزهري وأعرض الزهري في
جوابه عن الوضوء فلم يجب عنه لشذوذ القول به وقد تقدمت في الطهارة الإشارة إلى من أجاز
الوضوء باللبن والخل (قوله قد كان المسلمون) في رواية أبي ضمرة أما أبوال الإبل فقد كان المسلمون
(قوله ولم يبلغنا عن ألبانها أمر ولا نهي) في رواية أبي ضمرة ولا أرى ألبانها إلا تخرج من لحومها
(قوله وأما مرارة السبع قال ابن شهاب حدثني أبو إدريس) في رواية أبي ضمرة وأما مرارة السبع
فإنه أخبرني أبو إدريس والباقي مثله وزاد أبو ضمرة في آخره ولم أسمعه من علمائنا فإن كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فلا خير في مراراتها ويؤخذ من هذه الزيادة أن الزهري كان
يتوقف في صحة هذا الحديث لكونه لم يعرف له أصلا بالحجاز كما هي طريقة كثير من علماء الحجاز وقال
ابن بطال استدل الزهري على منع مرارة السبع بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ويلزمه مثل
ذلك في ألبان الأتن وغفل رحمه الله عن الزيادة التي أفادتها رواية أبي ضمرة وقد اختلف في ألبان
الأتن فالجمهور على التحريم وعند المالكية قول في حلها من القول بحل أكل لحمها وقد تقدم
بسطه في الأطعمة (قوله باب إذا وقع الذباب في الاناء) الذباب بضم المعجمة
وموحدتين وتخفيف قال أبو هلال العسكري الذباب واحد والجمع ذبان كغربان والعامة تقول
ذباب للجمع وللواحد ذبابة بوزن قرادة وهو خطأ وكذا قال أبو حاتم السجستاني إنه خطأ وقال
الجوهري الذباب واحده ذبابة ولا تقل ذبانة ونقل في المحكم عن أبي عبيدة عن خلف الأحمر تجويز
ما زعم العسكري أنه خطأ وحكى سيبويه في الجمع ذب وقرأته بخط البحتري مضبوطا بضم أوله
212

والتشديد (قوله عن عتبة بن مسلم مولى بني تميم) هو مدني وأبوه يكنى أبا عتبة وما لعتبة في
البخاري سوى هذا الموضع (قوله عن عبيد بن حنين) مضى في بدء الخلق من طريق سليمان
ابن بلال عن عتبة بن مسلم أخبرني عبيد بن حنين وهو بالمهملة والنونين مصغر وكنيته
أبو عبد الله (قوله مولى بني زريق) بزاي ثم راء ثم قاف مصغر وحكى الكلاباذي أنه مولى زيد
ابن الخطاب وعن ابن عيينة أنه مولى العباس وهو خطأ كأنه ظن أنه أخو عبد الله بن حنين
وليس كذلك وما لعبيد أيضا في البخاري سوى هذا الحديث أورده في موضعين (قوله إذا وقع
الذباب) قيل سمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه وقد أخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا عمر
الذباب أربعون ليلة والذباب كله في النار الا النحل وسنده لا بأس به وأخرجه ابن عدي دون أوله
من وجه آخر ضعيف قال الجاحظ كونه في النار ليس تعذيبا له بل ليعذب أهل النار به قال
الجوهري يقال إنه ليس شئ من الطيور يلغ إلا الذباب وقال أفلاطون الذباب أحرص الأشياء
حتى أنه يلقى نفسه في كل شئ ولو كان فيه هلاكه ويتولد من العفونة ولا جفن للذبابة لصغر حدقتها
والجفن يصقل الحدقة فالذبابة تصقل بيديها فلا تزال تمسح عينيها ومن عجيب أمره أن رجعية يقع
على الثوب الأسود أبيض وبالعكس وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة ومبدأ خلقه منها ثم من
التوالد وهو من أكثر الطيور سفادا ربما بقي عامة اليوم على الأنثى ويحكى أن بعض الخلفاء سأل
الشافعي لأي علة خلق الذباب فقال مذلة للملوك وكانت ألحت عليه ذبابة فقال الشافعي سألني ولم
يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة وقال أبو محمد المالقي ذباب الناس يتولد من
الزبل وأن أخذ الذباب الكبير فقطعت رأسها وحك بجسدها الشعرة التي في الجفن حكا شديدا
أبرأته وكذا داء الثعلب وإن مسح لسعة الزنبور بالذباب سكن الوجع (قوله في إناء أحدكم)
تقدم في بدء الخلق بلفظ شراب ووقع في حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجة وصححه ابن
حبان إذا وقع في الطعام والتعبير بالاناء أشمل وكذا وقع في حديث أنس عند البزار (قوله
فليغمسه كله) أمر إرشاد لمقابلة الداء بالدواء وفي قوله كله رفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس
بعضه (قوله ثم ليطرحه) في رواية سليمان بن بلال ثم لينزعه وقد وقع في رواية عبد الله بن المثنى
عن عمه ثمامة أنه حدثه قال كنا عند أنس فوقع ذباب في إناء فقال أنس بأصبعه فغمسه في ذلك الاناء
ثلاثا ثم قال بسم الله وقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يفعلوا ذلك أخرجه البزار
ورجاله ثقات ورواه حماد بن سلمة عن ثمامة فقال عن أبي هريرة ورجحها أبو حاتم وأما
الدارقطني فقال الطريقان محتملان (قوله فان في إحدى جناحيه) في رواية أبي داود فإن في
أحد والجناح يذكر ويؤنث وقيل أنث باعتبار اليد وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث وصوب رواية
أحد وحقيقته للطائر ويقال لغيره على سبيل المجاز كما في قوله واخفض لهما جناح الذل ووقع
في رواية أبي داود وصححه ابن حبان من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة وأنه يتقي بجناحه الذي
فيه الداء ولم يقع لي في شئ من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره لكن ذكر بعض العلماء
أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء والمناسبة في ذلك ظاهرة
وفي حديث أبي سعيد المذكور أنه يقدم السم ويؤخر الشفاء ويستفاد من هذه الرواية تفسير الداء
الواقع في حديث الباب وأن المراد به السم فيستغني عن التخريج الذي تكلفه بعض الشراح
213

فقال أن في اللفظ مجازا وهو كون الداء في أحد الجناحين فهو إما من مجاز الحذف والتقدير فإن
في أحد جناحيه سبب داء وإما مبالغة بأن يجعل كل الداء في أحد جناحيه لما كان سببا له وقال
آخر يحتمل أن يكون الداء ما يعرض في نفس المرء من التكبر عن أكله حتى ربما كان سببا لترك
ذلك الطعام وإتلافه والدواء ما يحصل من قمع النفس وحملها على التواضع (قوله وفي الآخر
شفاء) في رواية أبي ذر وفي الأخرى وفي نسخة والاخرى بحذف حرف الجر وكذا وقع في رواية
سليمان بن بلال في إحدى جناحيه داء والآخر شفاء واستدل به لمن يجيز العطف على معمولي
عاملين كالأخفش وعلى هذا فيقرأ بخفض الآخر وبنصب شفاء فعطف الآخر على الاحد
وعطف شفاء على داء والعامل في إحدى حرف في والعامل في داء إن وهما عاملان في الآخر
وشفاء وسيبويه لا يجيز ذلك ويقول إن حرف الجر حذف وبقي العمل وقد وقع صريحا في الرواية
الأخرى وفي الأخرى شفاء ويجوز رفع شفاء على الاستئناف واستدل بهذا الحديث على أن
الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال كما رواه البيهقي عن الشافعي
أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس ألما إذا مات فيه لان ذلك إفساد وقال بعض من
خالف في ذلك لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت والحي لا ينجس ما يقع فيه
كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث وقال أبو الطيب الطبري لم يقصد النبي النبي صلى الله
عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب وكذا
لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والاذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة وإنما أشار
إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم (قلت) وهو كلام صحيح إلا أنه لا يمنع أن يستنبط
منه حكم آخر فإن الامر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمسه محترزا عن موته كما هو المدعى هنا
وأن لا يحترز بل يغمسه سواء مات أو لم يمت ويتناول ما لو كان الطعام حارا فإن الغالب أنه في هذه
الصورة يموت بخلاف الطعام البارد فلما لم يقع التقييد حمل على العموم لكن فيه نظر لأنه مطلق
يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير
الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخرى فقال ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس
له سائلة وفيه نظر لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى به وهذه مستنبطة
أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وهذه منصوصة وهذان المعنيان لا يوجدان
في غيره فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة انتهى وقد
رجح جماعة من المتأخرين أن ما يعم وقوعه في الماء كالذباب والبعوض لا ينجس الماء وما لا يعم
كالعقارب ينجس هو قوي وقال الخطابي تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له فقال كيف
يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الشفاء وما ألجأه
إلى ذلك قال وهذا سؤال جاهل أو متجاهل فإن كثيرا من الحيوان قد جمع الصفات المتضادة وقد
ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع وجعل منها قوي الحيوان وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ
البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه وألهم النملة أن تدخر قوتها أو أن حاجتها وأن تكسر الحبة
نصفين لئلا تستنبت لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحا وتؤخر آخر وقال ابن الجوزي ما نقل
عن هذا القائل ليس بعجيب فإن النحلة تعسل من أعلاها وتلقى السم من أسفلها والحية القاتل
214

سمها تدخل لحومها في الترياق الذي يعالج به السم والذبابة تسحق مع الأثمد لجلاء البصر وذكر بعض
حذاق الأطباء أن في الذباب قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعه وهي بمنزلة
السلاح له فإذا سقط الذباب فيما يؤذيه تلقاه بسلاحه فأمر الشارع أن يقابل تلك السمية بما
أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء فتتقابل المادتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى
واستدل بقوله ثم لينزعه على أنها تنجس بالموت كما هو أصح القولين للشافعي والقول الآخر كقول
أبي حنيفة أنها لا تنجس والله أعلم * (خاتمة) * اشتمل كتاب الطب من الأحاديث المرفوعة على
مائة حديث وثمانية عشر حديثا المعلق منها ثمانية عشر طريقا والبقية موصولة المكرر منها فيه
وفيما مضى خمسة وثمانون طريقا والخالص ثلاثة وثلاثون وافقه مسلم على تخريجها سوى
حديث أبي هريرة في نزول الداء والشفاء وحديث ابن عباس الشفاء في ثلاث وحديث عائشة في
الحبة السوداء وحديث أبي هريرة فر من المجذوم وحديث أنس رخص لأهل بيت في الرقية
وحديثه أن أبا طلحة كواه وحديث عائشة في الصبر على الطاعون وحديث أنس اشف وأنت
الشافي وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم ستة عشرا أثرا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
* (قوله بسم الله الرحمن الرحيم) *
* (كتاب اللباس) *
وقول الله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) كذا للأكثر وزاد ابن نعيم والطيبات من
الرزق وللنسفي قال الله تعالى قل من حرم زينة الله الآية وكأنه أشار إلى سبب نزول الآية وقد
أخرجه الطبري من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت قريش
تطوف بالبيت عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله تعالى قل من حرم زينة الله الآية وسنده
صحيح وأخرج الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد جياد عن أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء وغيرهما
نحوه وكذا عن إبراهيم النخعي والسدي والزهري وقتادة وغيرهم أنها نزلت في طواف المشركين
بالبيت وهم عراة وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كثير عن طاوس في هذه الآية قال لم
يأمرهم بالحرير والديباج ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه يعني
فنزلت وأخرج مسلم وأبو داود من حديث المسور بن مخرمة سقط عني ثوبي فقال النبي صلى الله
عليه وسلم خذ عليك ثوبك ولا تمشوا عراة (قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا
والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة) ثبت هذا التعليق للمستملي والسرخسي فقط وسقط
للباقين وهذا الحديث من الأحاديث التي لا توجد في البخاري إلا معلقة ولم يصله في مكان آخر وقد
وصله أبو داود الطيالسي والحرث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق همام بن يحيى عن قتادة
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي وذكره الحرث ولم يقع
في روايته وتصدقوا وزاد في آخره فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده ووقع لنا موصولا
أيضا في كتاب الشكر لابن أبي الدنيا بتمامه وأخرج الترمذي في الفصل الأخير منه وهي الزيادة
المشار إليها من طريق قتادة بهذا الاسناد وهذا مصير من البخاري إلى تقوية شيخه عمرو بن شعيب
ولم أر في الصحيح إشارة إليها إلا في هذا الموضع وقد قلب هذا الاسناد بعض الرواة فصحف والد عمرو
ابن شعيب وقوله عن أبيه ذكر ابن أبي حاتم في العلل أنه سأل أباه عن حديث رواه أبو عبيدة الحداد
215

عن همام عن قتادة عن عمرو بن سعيد عن أنس فذكر هذا الحديث فقال هذا خطأ والصواب عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده ومناسبة ذكر هذا الحديث والأثر الذي بعده للآية ظاهرة لان في
التي قبلها كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين والاسراف مجاوزة الحد في كل فعل أو
قول وهو في الانفاق أشهر وقد قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم وقال تعالى
فلا يسرف في القتل والمخيلة بوزن عظيمة وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر وقال ابن التين هي
بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر قال والخيلاء بضم أوله وقد يكسر ممدودا التكبر وقال الراغب
الخيلاء التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الانسان من نفسه والتخيل تصوير خيال الشئ في النفس
ووجه الحصر في الاسراف والمخيلة أن الممنوع من تناوله أكلا ولبسا وغيرهما إما لمعنى فيه وهو
مجاوزة الحد وهو الاسراف وإما للتعبد كالحرير إن لم تثبت علة النهي عنه وهو الراجح ومجاوزة الحد
تتناول مخالفة ما ورد به الشرع فيدخل الحرام وقد يستلزم الاسراف الكبر وهو المخيلة قال
الموفق عبد اللطيف البغدادي هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الانسان نفسه وفيه تدبير
مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة فإن السرف في كل شئ يضر بالجسد ويضر بالمعيشة
فيؤدي إلى الاتلاف ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال والمخيلة تضر
بالنفس حيث تكسبها العجب وتضر بالآخرة حيث تكسب الاثم وبالدنيا حيث تكسب المقت
من الناس (قوله وقال ابن عباس كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة)
وصله ابن أبي شيبة في مصنفه والدينوري في المجالسة من رواية ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة
عن طاوس عن ابن عباس أما ابن أبي شيبة فذكره بلفظه وأما الدينوري فلم يذكر السرف وأخرجه
عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه بلفظ أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرف
أو مخيلة وكذا أخرجه الطبري من رواية محمد بن ثور عن معمر به وقوله ما أخطأتك كذا للجميع
بإثبات الهمزة بعد الطاء وأورده ابن التين بحذفها قال والصواب إثباتها قال صاحب الصحاح
أخطأت ولا تقل أخطيت وبعضهم يقوله ومعنى قوله ما أخطأتك أي تناول ما شئت من
المباحات ما دامت كل خصلة من هاتين تجاوزك قال الكرماني ويحتمل أن تكون ما نافية أي لم
يوقعك في الخطأ اثنتان (قلت) وفيه بعد ورواية معمر ترده حيث قال ما لم تكن سرف أو مخيلة
وقوله أو قال الكرماني أتى بأو موضع الواو كقوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا على تقدير
النفي أي أن انتفاء الامرين لازم فيه وحاصله أن اشتراط منع كل واحد منهما يستلزم اشتراط
منعهما مجتمعين بطريق الأولى قال ابن مالك هو جائز عند أمن اللبس كما قال الشاعر
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما * صدور رماح أشرعت أو سلاسل
(قوله إسماعيل) هو ابن أبي أويس (قوله عن نافع وعبد الله بن دينار وزيد بن أسلم) في الموطأ
عن نافع وعن عبد الله بن دينار وعن زيد بن أسلم بتكرير عن وعند الترمذي من رواية معن عن
مالك سمع كلهم يحدث هكذا جمع مالك رواية الثلاثة وقد روى داود بن قيس رواية زيد بن أسلم
عنه بزيادة قصة قال أرسلني أبي إلى ابن عمر قلت أدخل فعرف صوتي فقال أي بني إذا جئت إلى
قوم فقل السلام عليكم فإن ردوا عليك فقل أدخل قال ثم رأى ابنه وقد انجر إزاره فقال أرفع
إزارك فقد سمعت فذكر الحديث وأخرجه أحمد والحميدي جميعا عن سفيان بن عيينة عن زيد
216

نحوه ساقه الحميدي واختصره أحمد وسميا الابن عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر وأخرجه أحمد
أيضا من طريق معمر عن زيد بن أسلم سمعت ابن عمر فذكره بدون هذه القصة وزاد قصة أبي بكر
المذكورة في الباب الذي بعده وقصة أخرى لابن عمر تأتي الإشارة إليها بعد بابين وحديث نافع
أخرجه مسلم من رواية أيوب والليث وأسامة بن زيد كلهم عن نافع قال مثل حديث مالك وزادوا
فيه يوم القيامة (قلت) وهذه الزيادة ثابتة عند رواة الموطأ عن مالك أيضا وأخرجها أبو نعيم في
المستخرج من طريق القعنبي وأخرج الترمذي والنسائي الحديث من طريق أيوب عن نافع
وفيه زيادة تتعلق بذيول النساء وحديث عبد الله بن دينار أخرجه أحمد من طريق عبد العزيز بن
مسلم عنه وفيه يوم القيامة وكذا في رواية سالم وغير واحد عن ابن عمر كما سيأتي في الباب الذي بعده
(قوله باب من جر إزاره من غير خيلاء) أي فهو مستثنى من الوعيد المذكور لكن
إن كان لعذر فلا حرج عليه وإن كان لغير عذر فيأتي البحث فيه وقد سقطت هذه الترجمة لابن
بطال (قوله زهير بن معاوية) هو أبو خيثمة الجعفي (قوله من جر ثوبه) سيأتي شرحه بعد ثلاثة
أبواب (قوله فقال أبو بكر) هو الصديق (أن أحد شقى إزاري) كذا بالتثنية للنسفي والكشميهني
ولغيرهما شق بالافراد والشق بكسر المعجمة الجانب ويطلق أيضا على النصف (قوله يسترخي)
بالخاء المعجمة وكان سبب استرخائه نحافة جسم أبي بكر (قوله الا أن أتعاهد ذلك منه) أي
يسترخي إذا غفلت عنه ووقع في رواية معمر عن زيد بن أسلم عند أحمد أن إزاري يسترخي أحيانا
فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي أو غيره بغير اختياره فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي لأنه
كلما كاد يسترخي شده وأخرج ابن سعد من طريق طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن بكر عن
عائشة قالت كان أبو بكر أحني لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه ومن طريق قيس بن أبي
حازم قال دخلت على أبي بكر وكان رجلا نحيفا (قوله لست ممن يصنعه خيلاء) في رواية زيد
ابن أسلم لست منهم وفيه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا وأما ما أخرجه ابن أبي
شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الازار على كل حال فقال ابن بطال هو من تشديداته والا فقد
روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم (قلت) بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك
سواء كان عن مخيلة أم لا وهو المطابق لروايته المذكورة ولا يظن بابن عمر أنه يؤاخذ من لم يقصد
شيئا وإنما يريد بالكراهة من أنجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا متفق
عليه وأن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه وفي الحديث اعتبار أحوال الاشخاص
في الاحكام باختلافها وهو أصل مطرد غالبا (قوله حدثني محمد) لم أره منسوبا لاحد من الرواة
وأغفلت التنبيه على هذا الموضع بخصوصه في المقدمة وقد صرح ابن السكن في موضعين
غير هذا بأن محمدا الراوي عن عبد الاعلى هو ابن سلام فيحمل هذا أيضا على ذلك وقد أخرجه
الإسماعيلي من رواية محمد بن المثنى عن عبد الاعلى فيحتمل أن يكون هو المراد هنا والله أعلم
وعبد الاعلى هو ابن عبد الاعلى السامي بالمهملة البصري بالموحدة ويونس هو ابن عبيد والحسن
هو البصري وقد تقدم الحديث في صلاة الكسوف مع شرحه والغرض منه هنا قوله فقام يجر
ثوبه مستعجلا فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الاسراع لا يدخل في النهي فيشعر بأن النهي
217

يختص بما كان للخيلاء لكن لا حجة فيه لمن قصر النهي على ما كان للخيلاء حتى أجاز لبس
القميص الذي ينجر على الأرض لطوله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وقوله وثاب الناس بمثلثة
ثم موحدة أي رجعوا إلى المسجد بعد أن كانوا خرجوا منه (قوله باب التشمر في
الثياب) هو بالشين المعجمة وتشديد الميم رفع أسفل الثوب (قوله حدثني إسحق) هو ابن راهويه
جزم بذلك أبو نعيم في المستخرج وابن شميل هو النضر وعمر بن أبي زائدة هو الهمداني بسكون
الميم الكوفي أخو زكريا واسم أبي زائدة خالد ويقال هبيرة ولعمر في البخاري أحاديث يسيرة
(قوله قال فرأيت) كذا للأكثر هو معطوف على جمل من الحديث فإن أوله رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم الحديث وفيه ثم رأيت بلالا إلى هكذا أخرجه
المصنف في أوائل الصلاة عن محمد بن عرعرة عن عمر بن أبي زائدة فلما اختصره أشار إلى أن
المذكور ليس أول الحديث ووقع للكشميهني في أوله رأيت وكذا في رواية النسفي وكذا أخرجه
أبو نعيم من مسند إسحق بن راهويه عن النضر وأخرجه من وجه آخر عن إسحاق قال أنا أبو عامر
العقدي حدثنا عمر بن أبي زائدة وذكر أن رواية إسحاق عن النضر لم يقع فيها قوله مشمرا ووقع في
روايته عن أبي عامر وقد وقعت في الباب عن إسحاق عن النضر فيحتمل أن يكون إسحق هو ابن
منصور ولم يقع لفظ مشمرا للإسماعيلي فإنه أخرجه من طريق يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عمه
عمر بلفظ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى وبيص ساقيه ثم قال ورواه الثوري عن
عون بن أبي جحيفة فقال في حديثه كأني أنظر إلى بريق ساقيه قال الإسماعيلي وهذا هو التشمير
ويؤخذ منه أنه النهي عن كف الثياب في الصلاة محله في غير ذيل الازار ويحتمل أن تكون هذه
الصورة وقعت اتفاقا فإنها كانت في حالة السفر وهو محل التشمير (قوله باب) بالتنوين
(ما أسفل من الكعبين فهو في النار) كذا أطلق في الترجمة لم يقيده بالإزار كما في الخبر إشارة إلى
التعميم في الازار والقميص وغيرهما وكأنه أشار إلى لفظ حديث أبي سعيد وقد أخرجه مالك
وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه أبو عوانة وابن حبان كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن
ابن يعقوب عن أبيه عن أبي سعيد ورجاله رجال مسلم وكأنه أعرض عنه لاختلاف فيه وقع على
العلاء وعلى أبيه فرواه أكثر أصحاب العلاء عنه هكذا وخالفهم زيد بن أبي أنيسة فقال عن العلاء
عن نعيم المجمر عن أبي عمر أخرجه الطبراني ورواه محمد بن عمرو ومحمد بن إبراهيم التيمي جميعا عن
عبد الرحمن بن يعقوب عن أبي هريرة أخرجه النسائي وصحح الطريقين النسائي ورجح الدارقطني
الأول وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث أبي جرى بالجيم والراء مصغر واسمه
جابر بن سليم رفعه قال في أثناء حديث مرفوع وارفع إزارك إلى نصف الساق فان أبيت فإلى
الكعبين وإياك وإسبال الازار فإنه من المخيلة وأن الله لا يحب المخيلة وأخرج النسائي وصحح
الحاكم أيضا من حديث حذيفة بلفظ الازار إلى أنصاف الساقين فإن أبيت فأسفل فإن أبيت فمن
وراء الساقين ولا حق للكعبين في الازار (قوله عن أبي هريرة) في رواية الإسماعيلي من طريق
عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة سمعت سعيدا المقبري سمعت أبا هريرة (قوله ما أسفل من الكعبين
من الازار في النار) ما موصولة وبعض الصلة محذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب
ويجوز الرفع أي ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل ويحتمل أن يكون فعلا ماضيا ويجوز أن تكون
218

ما نكرة موصوفة بأسفل قال الخطابي يريد أن الموضع الذي يناله الازار من أسفل الكعبين في النار
فكنى بالثوب عن بدن لابسه ومعناه أن الذي دون الكعبين من القدم يعذب عقوبة وحاصله
أنه من تسمية الشئ باسم ما جاوره أو حل فيه وتكون من بيانية ويحتمل أن تكون سببية ويكون
المراد الشخص نفسه أو المعنى ما أسفل من الكعبين من الذي يسامت الازار في النار أو التقدير
لابس ما أسفل من الكعبين الخ أو التقدير أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل النار أو فيه
تقديم وتأخير أي ما أسفل من الازار من الكعبين في النار وكل هذا استبعاد ممن قاله لوقوع الازار
حقيقة في النار وأصله ما أخرج عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد أن نافعا سئل عن ذلك
فقال وما ذنب الثياب بل هو من القدمين اه‍ لكن أخرج الطبراني من طريق عبد الله بن محمد
ابن عقيل عن ابن عمر قال رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسبلت إزاري فقال يا ابن عمر كل شئ يمس
الأرض من الثياب في النار وأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود أنه رأى أعرابيا يصلي
قد أسبل فقال المسبل في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام ومثل هذا لا يقال بالرأي فعلى هذا
لا مانع من حمل الحديث على ظاهره ويكون من وادي أنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم أو يكون في الوعيد لما وقعت به المعصية إشارة إلى أن الذي يتعاطى المعصية أحق بذلك
(قوله في النار) في رواية النسائي من طريق أبي يعقوب وهو عبد الرحمن بن يعقوب سمعت أبا
هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تحت الكعبين من الازار ففي النار بزيادة فاء
وكأنها دخلت لتضمين ما معنى الشرط أي ما دون الكعبين من قدم صاحب الازار المسبل فهو في
النار عقوبة له على فعله وللطبراني من حديث ابن عباس رفعه كل شئ جاوز الكعبين من الازار
في النار وله من حديث عبد الله بن مغفل رفعه أزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين وليس عليه حرج
فيما بينه وبين الكعبين وما أسفل من ذلك ففي النار وهذا الاطلاق محمول على ما ورد من قيد
الخيلاء فهو الذي ورد فيه الوعيد بالانفاق وأما مجرد الاسبال فسيأتي البحث فيه في الباب الذي
يليه ويستثنى من إسبال الازار مطلقا ما أسبله لضرورة كمن يكون بكعبيه جرح مثلا يؤذيه
الذباب مثلا أن لم يستره بإزاره حيث لا يجد غيره نبه على ذلك شيخنا في شرح الترمذي واستدل
على ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة
والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهى عنه من أجل الضرورة كما يجوز كشف العورة للتداوي
ويستثنى أيضا من الوعيد في ذلك النساء كما سيأتي البحث فيه في الباب الذي يليه إن شاء الله
تعالى (قوله باب من جر ثوبه من الخيلاء) أي بسبب الخيلاء أورد فيه ثلاثة
أحاديث * الأول حديث أبي هريرة بلفظ لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا ومثله لأبي داود والنسائي
في حديث أبي سعيد المذكور قريبا والبطر بموحدة ومهملة مفتوحتين قال عياض جاء
في الرواية بطرا بفتح الطاء على المصدر وبكسرها على الحال من فاعل جر أي جره تكبرا وطغيانا
وأصل البطر الطغيان عند النعمة واستعمل بمعنى التكبر وقال الراغب أصل البطر دهش يعتري
المرء عند هجوم النعمة عن القيام بحقها (قوله لا ينظر الله) أي لا يرحمه فالنظر إذا أضيف إلى الله
كان مجازا وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة
219

وقال شيخنا في شرح الترمذي عبر عن المعنى الكائن عند النظر بالنظر لان من نظر إلى متواضع
رحمه ومن نظر إلى متكبر مقته فالرحمة والمقت متسببان عن النظر وقال الكرماني نسبة النظر
لمن يجوز عليه النظر كناية لان من أعتد بالشخص التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاحسان
وأن لم يكن هناك نظر ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة والله منزه عن ذلك
فهو بمعنى الاحسان مجاز عما وقع في حق غيره كناية وقوله يوم القيامة إشارة إلى أنه محل الرحمة
المستمرة بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما يتجدد من الحوادث ويؤيد ما ذكر من حمل النظر
على الرحمة أو المقت ما أخرجه الطبراني وأصله في أبي داود من حديث أبي جرى أن رجلا ممن
كان قبلكم لبس بردة فتبختر فيها فنظر الله إليه فمقته فأمر الأرض فأخذته الحديث (قوله من)
يتناول الرجال والنساء في الوعيد المذكور على هذا الفعل المخصوص وقد فهمت ذلك أم سلمة
رضي الله عنها فأخرج النسائي والترمذي وصححه من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر متصلا
بحديثه المذكور في الباب الأول فقالت أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن فقال يرخين شبرا
فقالت إذا تنكشف أقدامهن قال فيرخينه ذراعا لا يزدن عليه لفظ الترمذي وقد عزا بعضهم
هذه الزيادة لمسلم فوهم فإنها ليست عنده وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها
على نافع فقد أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما من طريق عبيد الله بن عمر عن سليمان بن يسار
عن أم سلمة وأخرجه أبو داود من طريق أبي بكر بن نافع والنسائي من طريق أيوب بن موسى ومحمد
ابن إسحاق ثلاثتهم عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن أم سلمة وأخرجه النسائي من رواية يحيى
ابن أبي كثير عن نافع عن أم سلمة نفسها وفيه اختلافات أخرى ومع ذلك فله شاهد من حديث ابن
عمر أخرجه أبو داود من رواية أبي الصديق عن ابن عمر قال رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأمهات المؤمنين شبرا ثم استزدنه فزادهن شبرا فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعا وأفادت هذه
الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة ويستفاد من هذا الفهم التعقب
على من قال أن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الاسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة
بمن فعله خيلاء قال النووي ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص
بالخيلاء ووجه التعقب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في
جر ذيولهن معنى بل فهمت الزجر عن الاسبال مطلقا سواء كان عن مخيلة أم لا فسألت عن حكم
النساء في ذلك لاحتياجهن إلا الاسبال من أجل ستر العورة لان جميع قدمها عورة فبين لها أن
حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط وقد نقل عياض الاجماع على أن
المنع في حق الرجال دون النساء ومراده منع الاسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم أم سلمة على
فهمها إلا أنه بين لها أنه عام مخصوص لتفرقته في الجواب بين الرجال والنساء في الاسبال وتبيينه
القدر الذي يمنع ما بعده في حقهن كما بين ذلك في حق الرجال والحاصل أن للرجال حالين حال
استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق وحال جواز وهو إلى الكعبين وكذلك للنساء
حالان حال استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر وحال جواز بقدر ذراع
ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق معتمر عن حميد
220

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة من عقبها شبرا وقال هذا ذيل المرأة وأخرجه
أبو يعلى بلفظ شبر من ذيلها شبرا أو شبرين وقال لا تزدن على هذا ولم يسم فاطمة قال الطبراني
تفرد به معتمر عن حميد (قلت) وأو شك من الراوي والذي جزم بالشبر هو المعتمد ويؤيده ما أخرجه
الترمذي من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبرا ويستنبط من سياق
الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب وأن البطر والتبختر مدموم ولو لمن شمر ثوبه والذي يجتمع
من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه مستحضرا لها شاكرا عليها غير
محتقر لمن ليس له مثله لا يضره ما لبس من المباحات ولو كان في غاية النفاسة ففي صحيح مسلم عن ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر
فقال رجل أن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة فقال أن الله جميل يحب الجمال
الكبر بطر الحق وغمط الناس وقوله وغمط بفتح المعجمة وسكون الميم ثم مهملة الاحتقار وأما
ما أخرجه الطبري من حديث علي إن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك صاحبه
فيدخل في قوله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض الآية فقد جمع
الطبري بينه وبين حديث ابن مسعود بأن حديث علي محمول على من أحب ذلك ليتعظم به على
صاحبه لا من أحب ذلك ابتهاجا بنعمة الله عليه فقد أخرج الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده رفعه إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده وله شاهد عند أبي يعلى
من حديث أبي سعيد وأخرج النسائي وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي
الأحوص عوف بن مالك الجشمي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ورآه رث الثياب
إذا آتاك الله ما لا فلير أثره عليك أي بأن يلبس ثيابا تليق بحاله من النفاسة والنظافة ليعرفه
المحتاجون للطلب منه مع مراعاة القصد وترك الاسراف جمعا بين الأدلة * (تكملة) * الرجل الذي
أبهم في حديث ابن مسعود هو سواد بن عمرو الأنصاري وأخرجه الطبري من طريقه ووقع ذلك
لجماعة غيره * الحديث الثاني (قوله قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو القاسم صلى الله عليه
وسلم) شك من آدم شيخ البخاري وقد أخرجه مسلم من رواية غندر وغيره عن شعبة فقالوا عن
النبي صلى الله عليه وسلم وكذا أخرجه من رواية الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد (قوله بينما
رجل) زاد مسلم من طريق أبي رافع عن أبي هريرة ممن كان قبلكم ومن ثم أخرجه البخاري في ذكر
بني إسرائيل كما مضى وخفي هذا على بعض الشراح وقد أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد
وأبو يعلى من حديث أنس وفي روايتهما أيضا ممن كان قبلكم وبذلك جزم النووي وأما
ما أخرجه أبو يعلى من طريق كريب قال كنت أقود ابن عباس فقال حدثني العباس قال بينا أنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل يتبختر بين ثوبين الحديث فهو ظاهر في أنه وقع في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم فسنده ضعيف والأول صحيح ويحتمل التعدد أو الجمع بأن المراد من كان
قبل المخاطبين بذلك كأبي هريرة فقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأبو يعلى وأصله عند أحمد ومسلم
أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة يتبختر فيها فقال يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث فهل
سمعته يقول في حلتي هذه شيئا فقال والله إنكم لتؤذوننا ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه
للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشئ سمعت فذكر الحديث وقال في آخره فوالله ما أدري لعله كان
221

من قومك وذكر السهيلي في مبهمات القرآن في سورة والصافات عن الطبري أن اسم الرجل
المذكور الهيزن وأنه من أعراب فارس (قلت) وهذا أخرجه الطبري في التاريخ من طريق ابن
جريج عن شعيب الجياني وجزم الكلاباذي في معاني الأخبار بأنه قارون وكذا ذكر الجوهري
في الصحاح وكأن المستند في ذلك ما أخرجه الحرث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة وابن عباس
بسند ضعيف جدا قالا خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث الطويل وفيه ومن
لبس ثوبا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فيتجلجل فيها لان قارون لبس حلة فاختال فيها
فخسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وروى الطبري في التاريخ من طريق سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا أنه يخسف بقارون كل يوم قامة وأنه يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها إلى
يوم القيامة (قوله يمشي في حلة) الحلة ثوبان أحدهما فوق الآخر وقيل إزار ورداء وهو الأشهر
ووقع في رواية الأعرج وهمام جميعا عن أبي هريرة عند مسلم بينما رجل يتبختر في برديه (قوله تعجبه
نفسه) في رواية الربيع بن مسلم فأعجبته جمته وبرداه ومثله لأحمد في رواية أبي رافع وفي حديث
ابن عمر بينا رجل يجر إزاره هكذا هنا وتقدم في أواخر ذكر بني إسرائيل بزيادة من الخيلاء
والاقتصار على الازار لا يدفع وجود الرداء وإنما خص الازار بالذكر لأنه هو الذي يظهر به الخيلاء
غالبا ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد وأنس عند أبي يعلى خرج في بردين يختال فيهما قال
القرطبي اعجاب المرء بنفسه هو ملاحظته لها بعين الكمال مع نسيان نعمة الله فإن احتقر غيره مع
ذلك فهو الكبر المذموم (قوله مرجل) بتشديد الجيم (جمته) بضم الجيم وتشديد الميم هي مجتمع
الشعر إذا تدلى من الرأس إلى المنكبين وإلى أكثر من ذلك وأما الذي لا يتجاوز الاذنين فهو الوفرة
وترجيل الشعر تسريحه ودهنه (قوله إذ خسف الله به) في رواية الأعرج فخسف الله به الأرض
والأول أظهر في سرعة وقوع ذلك به (قوله فهو يتجلجل إلى يوم القيامة) في حديث ابن عمر فهو
يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة وفي رواية الربيع بن مسلم عند مسلم فهو يتجلجل في الأرض
حتى تقوم الساعة ومثله في رواية أبي رافع ووقع في رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد حتى يوم
القيامة والتجلجل بجيمين التحرك وقيل الجلجلة الحركة مع صوت وقال ابن دريد كل شئ خلطت
بعضه ببعض فقد جلجلته وقال ابن فارس التجلجل أن يسوخ في الأرض مع اضطراب شديد
ويندفع من شق إلى شق فالمعنى يتجلجل في الأرض أي ينزل فيها مضطربا متدافعا وحكى عياض
أنه روى يتجلل بجيم واحدة ولام ثقيلة وهو بمعنى يتغطى أي تغطيه الأرض وحكى عن بعض
الروايات أيضا يتخلخل بخائين معجمتين واستبعدها إلا أن يكون من قولهم خلخلت العظم إذا أخذت
ما عليه من اللحم وجاء في غير الصحيحين يتحلحل بحاءين مهملتين (قلت) والكل تصحيف إلا الأول
ومقتضى هذا الحديث أن الأرض لا تأكل جسد هذا الرجل فيمكن أن يلغز به فيقال كافر لا يبلى
جسده بعد الموت (قوله تابعه يونس) يعني ابن يزيد (عن الزهري) وروايته تقدمت موصولة في
أواخر ذكر بني إسرائيل (قوله ولم يرفعه شعيب عن الزهري) وصله الإسماعيلي من طريق أبي
اليمان عنه بتمامه ولفظه جر إزاره مسبلا من الخيلاء * الحديث الثالث (قوله وهب بن جرير
حدثنا أبي) هو جرير بن أبي حازم بن زيد الأزدي (قوله عن عمه جرير بن زيد) هو أبو سلمة البصري
قاله أبو حاتم الرازي وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث وقد خالف فيه الزهري فقال
222

عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول عن سالم عن أبيه لكن قوي عند البخاري أنه عن سالم عن
أبيه وعن أبي هريرة معا لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم ولقول جرير بن زيد في
روايته كنت مع سالم على باب داره فقال سمعت أبا هريرة فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك عنه ووقع
عند أبي نعيم في المستخرج من طريق علي بن سعيد عن وهب بن جرير فمر به شاب من قريش يجر
إزاره فقال حدثنا أبو هريرة وهذا أيضا مما يقوي أن جرير بن زيد ضبطه لان مثل هذه القصة لأبي
هريرة قد رواها أبو رافع عنه كما قدمت أن مسلما أخرجها كذلك وقد أخرجه النسائي في الزينة
من السنن من رواية علي بن المديني عن وهب بن جرير بهذا السند فقال في روايته عن سالم بن
عبد الله بن عمر عن أبي هريرة وأورده ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن عمر عن أبي هريرة وهو وهم
نبه عليه المزي وكأنه وقع في نسخته تصحيف بن عبد الله فصارت عن عبد الله بن عمر (قوله سمع
النبي صلى الله عليه وسلم نحوه) في رواية أبي نعيم المذكورة سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول بينما رجل يتبختر في حلة تعجبه نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم
القيامة * ذكر طرق أخرى للحديث الثاني (قوله محارب) بالمهملة والموحدة وزن مقاتل ودثار
بكسر المهملة وتخفيف المثلثة (قوله مكانه الذي يقضى فيه) كان محارب قد ولى قضاء الكوفة
قال عبد الله بن إدريس الأودي عن أبيه رأيت الحكم وحمادا في مجلس قضائه وقال سماك بن حرب
كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه الحلم والعقل والسخاء والشجاعة
والبيان والتواضع ولا يكملن في الاسلام إلا بالعفاف وقد اجتمعن في هذا الرجل يعني محارب بن
دثار وقال الداودي لعل ركوبه الفرس كان ليغيظ به الكفار ويرهب به العدو وتعقبه ابن التين
بأن ركوب الخيل جائز فلا معنى للاعتذار عنه (قلت) لكن المشي أقرب إلى التواضع ويحتمل أن
منزله كان بعيدا عن منزل حكمه (قوله فقلت لمحارب أذكر إزاره قال ما خص إزارا ولا قميصا)
كان سبب سؤال شعبة عن الازار أن أكثر الطرق جاءت بلفظ الازار وجواب محارب حاصله أن
التعبير بالثوب يشمل الازار وغيره وقد جاء التصريح بما اقتضاه ذلك فأخرج أصحاب السنن
إلا الترمذي واستغربه ابن أبي شيبة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن سالم بن عبد الله بن عمر
عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الاسبال في الازار والقميص والعمامة من جر منها شيئا
خيلاء الحديث كحديث الباب وعبد العزيز فيه مقال وقد أخرج أبو داود من رواية يزيد بن أبي
سمية عن ابن عمر قال ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الازار فهو في القميص وقال الطبري
إنما ورد الخبر بلفظ الازار لان أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الازار والأردية فلما لبس الناس
القميص والدراريع كان حكمها حكم الازار في النهي قال ابن بطال هذا قياس صحيح لو لم يأت
النص بالثوب فإنه يشمل جميع ذلك وفي تصوير جر العمامة نظر إلا أن يكون المراد ما جرت به
عادة العرب من إرخاء العذبات فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الاسبال وقد أخرج النسائي
من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفها بين كتفيه وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب
تطويل أكمام القميص ونحوه محل نظر والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما
يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك قال شيخنا في شرح الترمذي ما مس الأرض منها خيلاء
223

لا شك في تحريمه قال ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيدا ولكن حدث للناس اصطلاح
بتطويلها وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء
فلا شك في تحريمه وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع ونقل
عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة (قلت)
وسأذكر البحث فيه قريبا (قوله تابعه جبلة) بفتح الجيم والموحدة (ابن سحيم) بمهملتين مصغر
وقد وصل روايته النسائي من طريق شعبة عنه عن ابن عمر بلفظ من جر ثوبا من ثيابه من مخيلة
فإن الله لا ينظر إليه وأخرجه مسلم من طريق شعبة عن محارب بن دثار وجبلة بن سحيم جميعا عن
ابن عمر ولم يسق لفظه (قوله وزيد بن أسلم) تقدم الكلام عليه في أول اللباس (قوله وزيد بن
عبد الله) أي ابن عمر يعني تابعوا محارب بن دثار في روايته عن ابن عمر بلفظ الثوب لا بلفظ الازار
جزم بذلك الإسماعيلي ولم تقع لي رواية زيد موصولة بعد وقد أخرج أبو عوانة هذا الحديث من
رواية ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله عن أبيه بلفظ أن الذي يجر ثيابه من الخيلاء
لا ينظر الله إليه يوم القيامة وسيأتي لمسلم مقرونا بسالم ونافع وأخرج البخاري من رواية ابن وهب
عن عمر بن محمد بن زيد عن جده حديثا آخر فلعل مراده بقوله هنا عن أبيه جده والله أعلم (قوله
وقال الليث عن نافع يعني عن ابن عمر مثله) وصله مسلم عن قتيبة عنه ولم يسق لفظه بل قال مثل
حديث مالك وأخرجه النسائي عن قتيبة فذكره بلفظ الثوب وكذا أخرجه من رواية عبيد الله
ابن عمر عن نافع (قوله وتابعه موسى بن عقبة وعمر بن محمد وقدامة بن موسى عن سالم عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم من جر ثوبه خيلاء) أما رواية موسى بن عقبة فتقدمت في أول الباب
الثاني من كتاب اللباس وأما رواية عمر بن محمد وهو ابن زيد بن عبد الله بن عمر فوصلها مسلم من
طريق ابن وهب أخبرني عمر بن محمد عن أبيه وسالم ونافع عن ابن عمر بلفظ الذي يجر ثيابه من
المخيلة الحديث وأما رواية قدامة بن موسى وهو ابن عمر بن قدامة بن مظعون الجمعي وهو مدني
تابعي صغير وكان إمام المسجد النبوي وليس له في البخاري سوى هذا الموضع فوصلها أبو عوانة
في صحيحه ووقعت لنا بعلو في الثقفيات بلفظ حديث مالك المذكور أول كتاب اللباس (قلت)
وكذا أخرجه مسلم من رواية حنظلة بن أبي سفيان عن سالم وقد رواه جماعة عن ابن عمر بلفظ من جر
إزاره منهم مسلم بن يناق بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف ومحمد بن عباد بن جعفر كلاهما
عند مسلم وعطية العوفي عند ابن ماجة ورواه آخرون بلفظ الازار والرواية بلفظ الثوب أشمل
والله أعلم وفي هذه الأحاديث أن إسبال الازار للخيلاء كبيرة وأما الاسبال لغير الخيلاء فظاهر
الأحاديث تحريمه أيضا ولكن استدل بالتقيد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الاطلاق في الزجر
الوارد في ذم الاسبال محمول على المقيد هنا فلا يحرم الجر والاسبال إذا سلم من الخيلاء قال ابن
عبد البر مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم
على كل حال وقال النووي الاسبال تحت الكعبين الخيلاء فإن كان لغيرها فهو مكروه وهكذا
نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء قال والمستحب أن يكون الازار إلى نصف
الساق والجائز بلا كراهية ما تحته إلى الكعبين وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان
للخيلاء وإلا فمنع تنزيه لان الأحاديث الواردة في الزجر عن الاسبال مطلقة فيجب تقيدها بالاسبال
224

للخيلاء انتهى والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي قال لا يجوز
السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر اه‍
وقوله خفيف ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء فأما لغير
الخيلاء فيختلف الحال فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم
ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا
قد يتجه المنع فيه من جهة الاسراف فينتهي إلى التحريم وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه
بالنساء وهو أمكن فيه من الأول وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لعن الرجل يلبس لبسه المرأة وقد يتجه المنع فيه من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق
النجاسة به وإلى ذلك يشير الحديث الذي أخرجه الترمذي في الشمائل والنسائي من طريق أشعث
ابن أبي الشعثاء واسم أبيه سليم المحاربي عن عمته واسمها رهم بضم الراء وسكون الهاء وهي بنت
الأسود بن حنظلة عن عمها واسمه عبيد بن خالد قال كنت أمشي وعلي برد أجره فقال لي رجل
أرفع ثوبك فإنه أنقى وأرقى فنظرت فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إنما هي بردة ملحاء فقال
أما لك في أسوة قال فنظرت فإذا إزاره إلى أنصاف ساقيه وسنده قبلها جيد وقوله ملحاء بفتح الميم
وبمهملة قبلها سكون ممدودة أي فيها خطوط سود وبيض وفي قصة قتل عمر أنه قال للشاب
الذي دخل عليه أرفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك وقد تقدم في المناقب ويتجه المنع أيضا
في الاسبال من جهة أخرى وهي كونه مظنة الخيلاء قال ابن العربي لا يجوز للرجل أن يجاوز
بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء لان النهي قد تناوله لفظا ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكما أن
يقول لا أمتثله لان تلك العلة ليست في فإنها دعوى غير مسلمة بل إطالته ذيله دالة على تكبره اه‍
ملخصا وحاصله أن الاسبال يستلزم جر الثوب وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد اللابس
الخيلاء ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه وإياك
وجر الازار فإن جر الازار من المخيلة وأخرج الطبراني من حديث أبي أمامة بينما نحن مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء قد أسبل فجعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله ويقول عبدك وابن عبدك وأمتك حتى
سمعها عمرو فقال يا رسول الله إني حمش الساقين فقال يا عمرو إن الله قد أحسن كل شئ خلقه
يا عمرو إن الله لا يحب المسبل الحديث وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه لكن قال في روايته
عن عمرو بن فلان وأخرجه الطبراني أيضا فقال عن عمرو بن زرارة وفيه وضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو فقال يا عمرو هذا موضع الازار ثم ضرب
بأربع أصابع تحت الأربع فقال يا عمرو هذا موضع الازار الحديث ورجاله ثقات وظاهره
أن عمرا المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء وقد منعه من ذلك لكونه مظنة وأخرج الطبراني
من حديث الشريد الثقفي قال أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد أسبل إزاره فقال ارفع
إزارك فقال أني أحنف تصطك ركبتاي فقال ارفع إزارك فكل خلق الله حسن أخرجه مسدد
وأبو بكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم وفي آخره ذاك أقبح مما بساقك وأما
ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال
225

أني حمش الساقين فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب وهو أن يكون إلى نصف الساق
ولا يظن به أنه جاوز به الكعبين والتعليل يرشد إليه ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة والله
أعلم وأخرج النسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهيل وهو يقول يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب
المسبلين (قوله باب الازار المهدب) بدال مهملة ثقيلة مفتوحة أي الذي له هدب
وهي أطراف من سدى بغير لحمة ربما قصد بها التجمل وقد تفتل صيانة لها من الفساد وقال
الداودي هي ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية (قوله ويذكر عن الزهري وأبي بكر بن محمد
وحمزة بن أبي أسيد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر أنهم لبسوا ثيابا مهدبة) قال ابن التين قيل يريد
أنها غير مكفوفة الأسفل وهذه الآثر لم يقع لي أكثرها موصولا أما الزهري فهو ابن شهاب
الامام المعروف وأما أبو بكر بن محمد فهو ابن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة وأما حمزة بن
أبي أسيد وهو بالتصغير الأنصاري الساعدي فوصله ابن سعد قال أخبرنا معن بن عيسى حدثنا
سلمة بن ميمون مولى أبي أسيد قال رأيت حمزة بن أبي أسيد الساعدي عليه ثوب مفتول الهدب
وسلمة هذا لم يزد البخاري في ترجمته على ما في هذا السند وذكره ابن حبان في الثقات وأما معاوية بن
عبد الله بن جعفر أي بن أبي طالب فهو مدني تابعي ما له في البخاري سوى هذا الموضع ثم ذكر
حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة والغرض منه قولها ما معه الأمثل الهدبة وقد تقدم شرحه
مستوفي في كتاب الطلاق والمراد بالهدبة الخصلة من الهدب ووقع في هذا الباب حديث مرفوع
أخرجه أبو داود من حديث أبي جرى جابر بن سليم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب
بشملة وقد وقع هدبها على قدميه وقوله في آخر هذه الطريق فصار سنة بعده في رواية الكشميهني
بعد بغير ضمير وهو من قول الزهري فما فيما أحسب (قوله باب الأردية) جمع رداء بالمد
وهو ما يوضع على العاتق أو بين الكتفين من الثياب على أي صفة كان (قوله وقال أنس جبذ
أعرابي رداء النبي صلى الله عليه وسلم) بجيم وموحدة ومعجمة وهذا طرف من حديث وصله المؤلف
بعد أبواب في باب البرود والحبرة ثم ذكر طرفا من حديث علي قال فدعا النبي صلى الله عليه وسلم
بردائه فارتدى وهو طرف من حديثه في قصة حمزة والشارفين وقد تقدم بتمامه في فرض الخمس
وقوله فدعا عطف على ما ذكر في أول الحديث وهو قول علي كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم
بدر الحديث بطوله وقوله هنا فاستأذن فأذنوا له كذا للأكثر بصيغة الجمع والمراد حمزة ومن معه
وفي رواية المستملي فأذن بالافراد والمراد حمزة لكونه كان كبير القوم (قوله باب لبس
القميص وقال الله تعالى حكاية عن يوسف اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي) كأنه يشير
إلى أن لبس القميص ليس حادثا وإن كان الشائع في العرب لبس الازار والرداء ثم ذكر في الباب
226

ثلاثة أحاديث أحدها حديث ابن عمر فيما يلبس المحرم من الثياب وقد مضى شرحه في الحج
مستوفي وفيه لا يلبس المحرم القميص وفيه دلالة على وجود القصمان حينئذ والثاني حديث
جابر في قصة موت عبد الله بن أبي (قوله حدثنا عبد الله بن عثمان) هو المروزي الملقب عبدان
زاد القابسي عبد الله بن عثمان بن محمد وهو تحريف وليس في شيوخ البخاري من اسمه عبد الله
ابن عثمان الا عبدان وجده هو جبلة بن أبي رواد ووقع في رواية أبي زيد المروزي عبد الله بن محمد
فإن كان ضبطه فلعله اختلاف على البخاري وفي شيوخه عبد الله بن محمد الجعفي وهو أشهرهم
وابن أبي شيبة وأكثر ما يجئ أبوه عنده غير مسمى وابن أبي الأسود كذلك وعبد الله بن محمد بن
أسماء وليست له رواية عنده عن ابن عيينة وعبد الله بن محمد النفيلي كذلك وقد مضى شرحه
في تفسير سورة براءة أورده هنا مختصرا إلى قوله وألبسه قميصه فالله أعلم وهذه الكلمة الأخيرة
من جملة الحديث قالها جابر وقد وقعت في كلام عمر أيضا في هذه القصة كما تقدم في تفسير براءة
* الثالث حديث ابن عمر في قصة عبد الله بن أبي أيضا وقد تقدم شرحه أيضا * (تكملة) * قال ابن
العربي لم أر للقميص ذكرا صحيحا إلا في الآية المذكورة وقصة ابن أبي ولم أر لهما ثالثا فيما
يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في كتابه سراج المريدين وكأنه صنفه قبل شرح الترمذي
فلم يستحضر حديث أم سلمة ولا حديث أبي هريرة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصا بدأ
بميامنه ولا حديث أسماء بنت يزيد كانت يد كم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ ولا حديث
معاوية بن قرة بن إياس المزني حدثني أبي قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة
فبايعناه وإن قميصه لمطلق فبايعته ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم ولا حديث
أبي سعيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا سماه باسمه قميصا أو عمامة أو رداء ثم
يقول اللهم لك الحمد الحديث وكلها في السنن وأكثرها في الترمذي وفي الصحيحين حديث عائشة
كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة أثواب ليس فيها قميصا ولا عمامة وحديث أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في قميص الحرير لحكة كانت به وحديث
ابن عمر رفعه لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم الحديث وغير ذلك (قوله باب
جيب القميص من عند الصدر وغيره) الجيب بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها موحدة هو
ما يقطع من الثوب ليخرج منه الرأس أو اليد أو غير ذلك واعترضه الإسماعيلي فقال الجيب
الذي يحيط بالعنق جيب الثوب أي جعل فيه ثقب وأورده البخاري على أنه ما يجعل في الصدر
ليوضع فيه الشئ وبذلك فسره أبو عبيد لكن ليس هو المراد هنا وإنما الجيب الذي أشار إليه
في الحديث هو الأول كذا قال وكأنه يعني ما وقع في الحديث من قوله ويقول بأصبعه هكذا
في جيبه فإن الظاهر أنه كان لابس قميص وكان في طوقه فتحة إلى صدره ولا مانع من حمله على المعنى
الآخر بل استدل به ابن بطال على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر قال وهو الذي
تصنعه النساء بالأندلس وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد إخراج يده أمسكت في الموضع
الذي ضاق عليها وهو الثدي والتراقي وذلك في الصدر قال فبأن أن جيبه كان في صدره لأنه لو كان
في يده لم تضطر يداه إلى ثدييه وتراقيه (قلت) وفي حديث قرة بن إياس الذي أخرجه أبو داود
والترمذي وصححه هو وابن حبان لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال فأدخلت يدي في جيب
227

قميصه فمسست الخاتم ما يقتضي أن جيب قميصه كان في صدره لان في أول الحديث أنه رآه مطلق
القميص أي غير مزرور وذكر المصنف في الباب حديث مثل البخيل والمتصدق وقد مضى شرحه
مستوفى في كتاب الزكاة وقوله في هذه الرواية (1) مادت بتخفيف الدال أي مالت ولبعض الرواة
مارت بالراء بدل الدال أي سالت وقوله ثديهما بضم المثلثة على الجمع وبفتحها على التثنية وقوله
يغشى بضم أوله والتشديد ويجوز فتح أوله وسكون ثانيه بمعنى وعبد الله بن محمد هو الجعفي
وأبو عامر هو العقدي والحسن هو ابن مسلم بن يناق وقد تقدم ضبط اسم جده قريبا (قوله
وتراقيهما) جمع ترقوة بفتح المثناة وضم القاف هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وقال ثابت
ابن قاسم في الدلائل الترقوتان العظمان المشرفان في أعلى الصدر إلى طرف ثغرة النحر (قوله فلو
رأيته) جوابه محذوف وتقديره لتعجبت منه أو هو للتمني والأول أوضح (قوله يقول بأصبعه
هكذا في جيبه) كذا للأكثر بفتح الجيم وهو الموافق للترجمة وكذا في رواية مسلم وعليه اقتصر
الحميدي وللكشميهني وحده بضم الجيم وتشديد الموحدة بعدها مثناة ثم ضمير والأول أولى لدلالته
على الموضع بخصوصه بخلاف الثاني والله أعلم (قوله تابعه بن طاوس) يعني عبد الله (عن أبيه)
يعني عن أبي هريرة وقد تقدم موصولا في الزكاة ولم يسقه بتمامه فيه بل ساقه في الجهاد (قوله
وأبو الزناد عن الأعرج) يعني عن أبي هريرة (قوله في الجبتين) يعني بالموحدة وقد بينت اختلاف
الرواة في ذلك هل هو بالموحدة أو النون في كتاب الزكاة ورواية أبي الزناد وصلها المؤلف في الزكاة
(قوله وقال حنظلة) هو ابن أبي سفيان وقد سبق القول فيه أيضا في الزكاة (قوله وقال
جعفر بن ربيعة) كذا للأكثر وهو الصواب ووقع في رواية أبي ذر وقال جعفر بن حيان وكذا
وقع عند ابن بطال وهو خطأ وقد ذكرها في الزكاة أيضا تعليقا بزيادة فقال وقال الليث حدثني
جعفر وبينت هناك أن لليث فيه إسنادا آخر من رواية عيسى بن حماد عنه عن محمد بن عجلان عن
أبي الزناد (قوله باب من لبيس جبة ضيقة الكمين في السفر) ترجم له في الصلاة
في الجبة الشامية وفي الجهاد الجبة في السفر والحرب وكأنه يشير إلى أن لبس النبي صلى الله عليه
وسلم الجبة الضيقة إنما كان لحال السفر لاحتياج المسافر إلى ذلك وأن السفر يغتفر فيه لبس غير
المعتاد في الحضر وقد تواردت الأحاديث عمن وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وليس في شئ
منها أن كميه ضاقا عن إخراج يديه منهما أشار إلى ذلك ابن بطال وأورد فيه حديث المغيرة في مسح
الخفين وقد تقدم شرحه في الطهارة وفيه القصة المذكورة وفيه وعليه جبة شامية وهي بتشديد
الياء ويجوز تخفيفها وعبد الواحد المذكور في سنده هو ابن زياد وقوله فيه فأخرج يديه من
تحت بدنه بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون أي جبته ووقع كذلك في رواية أبي علي بن السكن
والبدن درع ضيقة الكمين (قوله باب لبس جبة الصوف) ذكر فيه حديث
المغيرة المشار إليه من وجه آخر عنه وساقه عنه أتم وزكريا المذكور فيه هو ابن أبي زائدة وعامر
هو الشعبي قال ابن بطال كره مالك لبس الصوف لمن يجد غيره لما فيه من الشهرة بالزهد
لان إخفاء العمل أولى قال ولم ينحصر التواضع في لبسه بل في القطن وغيره ما هو بدون ثمنه
228

(قوله باب القباء) بفتح القاف وبالموحدة ممدود فارسي معرب وقيل عربي واشتقاقه
من القبو وهو الضم (قوله وفروج حرير) بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وآخره جيم (قوله
وهو القباء) قلت ووقع كذلك مفسرا في بعض طرق الحديث كما سأبينه (قوله ويقال هو الذي له
شق من خلفه) أي فهو قباء مخصوص وبهذا جزم أبو عبيد ومن تبعه من أصحاب الغريب نظرا
لاشتقاقه وقال ابن فارس هو قميص الصبي الصغير وقال القرطبي القباء والفروج كلاهما ثوب
ضيق الكمين والوسط مشقوق من خلف يلبس في السفر والحرب لأنه أعون على الحركة وذكر
فيه حديثين أحدهما (قوله عن ابن أبي مليكة) في رواية أحمد عن أبي النضر هاشم عن الليث
حدثني عبد الله بن عبيد بن أبي مليكة وسيأتي كذلك في باب المزرور بالذهب معلقا (قوله
عن المسور بن مخرمة) هكذا أسنده الليث وتابعه حاتم بن وردان عن أيوب عن ابن أبي مليكة
على وصله كما تقدم في الشهادات وأرسله حماد بن زيد كما تقدم في الخمس وإسماعيل بن علية كما سيأتي
في الأدب كلاهما عن أيوب وقد تقدم الكلام على ذلك في باب قسمة الامام ما يقدم عليه من
كتاب الخمس (قوله قسم النبي صلى الله عليه وسلم أقبية) في رواية حاتم قدمت على النبي صلى
الله عليه وسلم أقبية وفي رواية حماد أهديت النبي صلى الله عليه وسلم أقبية من ديباج مزرورة
بالذهب فقسمها في ناس من أصحابه (قوله ولم يعط مخرمة شيئا أي في حال تلك القسمة وإلا فقد
وقع في رواية حماد بن زيد متصلا بقوله من أصحابه وعزل منها واحدا لمخرمة ومخرمة هو والد المسور
وهو ابن نوفل الزهري كان من رؤساء قريش ومن العارفين بالنسب وأنصاب الحرم وتأخر إسلامه
إلى الفتح وشهد حنينا وأعطى من تلك الغنيمة مع المؤلفة ومات سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة
وخمس عشرة سنة ذكره ابن سعد (قوله انطلق بنا) في رواية حاتم عسى أن يعطينا منها شيئا (قوله
أدخل فادعوه لي) في رواية حاتم فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته
قال ابن التين لعل خروج النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع صوت مخرمة صادف دخول المسور
إليه (قوله فخرج إليه وعليه قباء منها) ظاهره استعمال الحرير قيل ويجوز أن يكون قبل النهي
ويحتمل أن يكون المراد أنه نشره على أكتافه ليراه مخرمة كله ولم يقصد لبسه (قلت) ولا يتعين
كونه على أكتافه بل يكفي أن يكون منشورا على يديه فيكون قوله عليه من إطلاق الكل
على البعض وقد وقع في رواية حاتم فخرج ومعه قباء وهو يريه محاسنه وفي رواية حماد فتلقاه به
واستقبله بإزراره (قوله خبأت هذا لك) في رواية حاتم تكرار ذلك زاد في رواية حماد يا أبا المسور
هكذا دعاه أبا المسور وكأنه على سبيل التأنيس له ذكر ولده الذي جاء صحبته وإلا فكنيته في
الأصل أبو صفوان وهو أكبر أولاده ذكر ذلك ابن سعد (قوله فنظر إليه فقال رضي مخرمة) زاد
في رواية هاشم فأعطاه إياه وجزم الداودي أن قوله رضي مخرمة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وقد رجحت في الهبة أنه من كلام مخرمة زاد حماد في آخر الحديث وكان في خلقه شدة قال ابن
بطال يستفاد منه استئلاف أهل اللسن ومن في معناهم بالعطية والكلام الطيب وفيه الاكتفاء
في الهبة بالقبض وقد تقدم البحث فيه هناك وتقدم في كتاب الشهادات الاستدلال به على جواز
شهادة الأعمى لان النبي صلى الله عليه وسلم عرف صوت مخرمة فاعتمد على معرفته به وخرج إليه
ومعه القباء الذي خبأه له واستنبط بعض المالكية منه جواز الشهادة على الخط وتعقب بأن
229

الخطوط تشتبه أكثر مما تشتبه الأصوات وقد تقدم بقية ما يتعلق بذلك في الشهادات وفيه رد
على من زعم أن المسور لا صحبة له * الحديث الثاني (قوله عن يزيد بن أبي حبيب) في رواية أحمد
عن حجاج هو ابن محمد وهاشم هو ابن القاسم عن الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب (قوله عن
أبي الخير) هو مرثد بن عبد الله اليزني وثبت كذلك في رواية أحمد المذكورة (قوله عن عقبة
ابن عامر) هو الجهني وصرح به في رواية عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن إسحاق كلاهما عن يزيد بن
أبي حبيب عند أحمد (قوله فروج حرير) في رواية ابن إسحاق عند أحمد فروج من حرير (قوله ثم
صلى فيه) زاد في رواية ابن إسحاق وعبد الحميد عند أحمد ثم صلى فيه المغرب (قوله ثم انصرف) في
رواية ابن إسحاق فلما قضى صلاته وفي رواية عبد الحميد فلما سلم من صلاته وهو المراد بالانصراف
في رواية الليث (قوله فنزعه نزعا شديدا) زاد أحمد في روايته عن حجاج وهاشم عنيفا أي بقوة
ومبادرة لذلك على خلاف عادته في الرفق والتأني وهو مما يؤكد أن التحريم وقع حينئذ (قوله
كالكاره له) زاد أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر ثم ألقاه فقلنا يا رسول الله قد لبسته وصليت فيه
(قوله ثم قال لا ينبغي هذا) يحتمل أن تكون الإشارة للبس ويحتمل أن تكون للحرير فيتناول
غير اللبس من الاستعمال كالافتراش (قوله للمتقين) قال ابن بطال يمكن أن يكون نزعه
لكونه كان حريرا صرفا ويمكن أن يكون نزعه لأنه من جنس لباس الأعاجم وقد ورد حديث ابن
عمر رفعه من تشبه بقوم فهو منهم (قلت) أخرجه أبو داود بسند حسن وهذا التردد مبني على
تفسير المراد بالمتقين فإن كان المراد به مطلق المؤمن حمل على الأول وإن كان المراد به قدرا زائدا على
ذلك حمل على الثاني والله أعلم قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة اسم التقوى يعم جميع المؤمنين لكن
الناس فيه على درجات قال الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا
إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات الآية فكل من دخل في الاسلام فقد اتقى أي وقى نفسه
من الخلود في النار وهذا مقام العموم وأما مقام الخصوص فهو مقام الاحسان كما قال صلى
الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه انتهى وقد رجع عياض أن المنع فيه لكونه حريرا واستدل
لذلك بحديث جابر الذي أخرجه مسلم في الباب من حديث عقبة وقد قدمت ذكره في كتاب الصلاة
وبينت هناك أن هذه القصة كانت مبتدأ تحريم لبس الحرير وقال القرطبي في المفهم المراد
بالمتقين المؤمنون لانهم الذين خافوا الله تعالى واتقوه بإيمانهم وطاعتهم له وقال غيره لعل هذا من
باب التهييج للمكلف على الاخذ بذلك لان من سمع أن من فعل ذلك كان غير متق فهم منه أنه لا يفعله
إلا المستخف فيأنف من فعل ذلك لئلا يوصف بأنه غير متق واستدل به على تحريم الحرير على
الرجال دون النساء لان اللفظ لا يتناولهن على الراجح ودخولهن بطريق التغليب مجاز يمنع منه
ورود الأدلة الصريحة على إباحته لهن وسيأتي في باب مفرد بعد قريب من عشرين بابا وعلى ان
الصبيان لا يحرم عليهم لبسه لانهم لا يوصفون بالتقوى وقد قال الجمهور بجواز إلباسهم ذلك
في نحو العيد وأما في غيره فكذلك في الأصح عند الشافعية وعكسه عند الحنابلة وفي وجه
ثالث يمنع بعد التمييز وفي الحديث أن لا كراهة في لبس الثياب الضيقة والمفرجة لمن اعتادها
أو احتاج إليها وقد أشرت إلى ذلك قريبا في باب لبس الجبة الضيقة (قوله تابعه عبد الله بن يوسف
عن الليث وقال غيره) يعني بسنده (فروج حرير) أما رواية عبد الله بن يوسف فوصلها المؤلف
230

رحمه الله في أوائل الصلاة وأما رواية غيره فوصلها أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم وهو أبو النضر
ومسلم والنسائي عند قتيبة والحارث عن يونس بن محمد المؤدب كلهم عن الليث وقد اختلف
في المغايرة بين الروايتين على خمسة أوجه أحدها التنوين والإضافة كما يقال ثوب خز بالإضافة
وثوب خز بتنوين ثوب قاله ابن التين احتمالا ثانيها ضم أوله وفتحه حكاه ابن التين رواية قال
والفتح أوجه لان فعولا لم يرد إلا في سبوح وقدوس وفروخ يعني الفرخ من الدجاج انتهى وقد
قدمت في كتاب الصلاة حكاية جواز الضم عي أبي العلاء المعري وقال القرطبي في المفهم حكى
الضم والفتح والضم هو المعروف ثالثها تشديد الراء وتخفيفها حكاه عياض ومن تبعه رابعها
هل هو بجيم آخره أو خاء معجمة حكاه عياض أيضا خامسها حكاه الكرماني قال الأول فروج
من حرير بزيادة من والثاني بحذفها (قلت) وزيادة من ليست في الصحيحين وقد ذكرناها عن
رواية لأحمد (قوله باب البرانس) جمع برنس بضم الموحدة والنون بينهما راء
ساكنة وآخره مهملة تقدم تفسيره في كتاب الحج وكذا شرح حديث ابن عمر المذكور فيه (قوله
وقال لي مسدد حدثنا معتمر) يعني ابن سليمان التيمي وقوله من خز بفتح المعجمة وتشديد الزاي
هو ما غلظ من الديباج وأصله من وبر الأرنب ويقال لذكر الأرنب خزز بوزن عمر وسيأتي شرحه
وحكمه في باب لبس القسي بعد أربعة عشر بابا وهذا الأثر موصول لتصريح المصنف بقوله قال
لي لكن لم يقع في رواية النسفي لفظ لي فهو تعليق وقد رويناه موصولا في مسند مسدد رواية معاذ
ابن المثنى عن مسدد وكذا وصله ابن أبي شيبة عن ابن علية عن يحيى بن أبي إسحق قال رأيت على
أنس فذكر مثله وقد كره بعض السلف لبس البرنس لأنه كان من لباس الرهبان وقد سئل مالك
عنه فقال لا بأس به قيل فإنه من لبوس النصارى قال كان يلبس ههنا وقال عبد الله بن أبي بكر
ما كان أحد من القراء إلا له برنس وأخرج الطبراني من حديث أبي قرصافة قال كساني رسول
الله صلى الله عليه وسلم برنسا فقال إلبسه وفي سنده من لا يعرف ولعل من كرهه أخذ بعموم
حديث على رفعه إياكم ولبوس الرهبان فإنه من تزيا بهم أو تشبه فليس مني أخرجه الطبراني
في الأوسط بسند لا بأس به (قوله باب السراويل) ذكر فيه حديث ابن عباس
رفعه من لم يجد إزارا فليلبس سراويل وحديث ابن عمر فيما لا يلبس المحرم من الثياب وقد تقدما
وشرحهما في كتاب الحج ولم يرد فيه حديث على شرطه وقد أخرج حديث الدعاء للمتسرولات
البزار من حديث علي بسند ضعيف وصح أنه صلى الله عليه وسلم اشترى رجل سراويل من سويد
ابن قيس أخرجه الأربعة وأحمد وصححه ابن حبان من حديثه وأخرجه أحمد أيضا من حديث
مالك بن عميرة الأسدي قال قدمت قبل مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى مني سراويل
فأرجح لي وما كان ليشتريه عبثا وإن كان غالب لبسه الازار وأخرج أبو يعلى والطبراني في الأوسط
من حديث أبي هريرة دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى البزاز
فاشترى سراويل بأربعة دراهم الحديث وفيه قلت يا رسول الله وأنك لتلبس السراويل قال
أجل في السفر والحضر والليل والنهار فإني أمرت بالتستر وفيه يونس بن زياد البصري وهو
ضعيف قال ابن القيم في الهدي اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل والظاهر أنه إنما اشتراه
ليلبسه ثم قال وروى في حديث أنه لبس السراويل وكانوا يلبسونه في زمانه وباذنه (قلت) ويؤخذ
231

أدلة ذلك كله مما ذكرته ووقع في الاحياء للغزالي أن الثمن ثلاثة دراهم والذي تقدم أنه أربعة
دراهم أولى (قوله باب العمائم) ذكر فيه حديث ابن عمر المذكور قبله من وجه
آخر وقد سبق في الحج وكأنه لم يثبت عنده على شرطه في العمامة شئ وقد ورد فيها الحديث
الماضي في آخر باب من جر ثوبه من الخيلاء من حديث عمرو بن حريث أنه قال كأني أنظر إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه أخرجه مسلم وعن
أبي المليح بن أسامة عن أبيه رفعه اعتموا تزدادوا حلما أخرجه الطبراني والترمذي في العلل المفرد
وضعفه البخاري وقد صححه الحاكم فلم يصب وله شاهد عند البزار عن ابن عباس ضعيف أيضا
وعن ركانة رفعه فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم أخرجه أبو داود والترمذي وعن ابن عمر كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه أخرجه الترمذي وفيه أن ابن عمر
كان يفعله والقاسم وسالم وأما مالك فقال أنه لم ير أحدا يفعله إلا عامر بن عبد الله بن الزبير والله
أعلم (قوله باب التقنع) بقاف ونون ثقيلة وهو تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء
أو غيره (قوله وقال ابن عباس خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عصابة دسماء) هذا طرف من
حديث مسند عنده في مواضع منها في مناقب الأنصار في باب أقبلوا من محسنهم ومن طريق عكرمة
سمعت ابن عباس يقول خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفا بها على منكبيه وعليه
عصابة دسماء الحديث والدسماء بمهملتين والمد ضد النظيفة وقد يكون ذلك لونها في الأصل
ويؤيده أنه وقع في رواية أخرى عصابة سوداء (قوله وقال أنس عصب النبي صلى الله عليه وسلم
على رأسه حاشية برد) هو أيضا طرف من حديث أخرجه في الباب المذكور من طريق هشام بن
زيد بن أنس سمعت أنس بن مالك يقول فذكر الحديث وفيه فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد
عصب على رأسه حاشية برد ثم ذكر حديث عائشة في شأن الهجرة بطوله وقد تقدم في السيرة النبوية
أتم منه وتقدم شرحه مستوفى والغرض منه قوله قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها وقوله فيه فدا لك في رواية الكشميهني فدا له وقوله
إن جاء به في هذه الساعة لأمر بفتح اللام وبالتنوين مرفوعا واللام للتأكيد لان إن الساكنة
مخففة من الثقيلة وللكشميهني إلا لأمر وأن على هذا نافية وقوله أحث بمهملة ثم مثلثة ثقيلة
في رواية الكشميهني أحب بموحدة وأظنه تصحيفا وقوله ويرعى عليهما عامر بن فهيرة منحة من غنم
فيريحه أي يريح الذي يرعاه وللكشميهني فيريحها وقوله في رسلهما بالتثنية في رواية الكشميهني
232

في رسلها وكذا القول في قوله حتى ينعق بهما عنده بها قال الإسماعيلي ما ذكره من العصابة
لا يدخل في التقنع فالتقنع تغطية الرأس والعصابة شد الخرقة على ما أحاط بالعمامة (قلت)
الجامع بينهما وضع شئ زائد على الرأس فوق العمامة والله أعلم ونازع ابن القيم في كتاب الهدى
من استدل بحديث التقنع على مشروعية لبس الطيلسان بأن التقنع غير التطيلس وجزم بأنه صلى
الله عليه وسلم لم يلبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه ثم على تقدير أن يؤخذ من التقنع بأنه صلى
الله عليه وسلم لم يتقنع إلا لحاجة ويرد عليه حديث أنس كان صلى الله عليه وسلم يكثر القناع وقد
ثبت أنه قال من تشبه بقوم فهو منهم كما تقدم معلقا في كتاب الجهاد من حديث ابن عمر
ووصله أبو داود وعند الترمذي من حديث أنس ليس منا من تشبه بغيرنا وقد ثبت عند مسلم
من حديث النواس بن سمعان في قصة الدجال يتبعه اليهود وعليهم الطيالسة وفي حديث أنس
أنه رأى قوما عليهم الطيالسة فقال كأنهم يهود خيبر وعورض بما أخرجه ابن سعد بسند مرسل
وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطيلسان فقال هذا ثوب لا يؤدي شكره أخرجه كذا
وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم
وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة فصار داخلا في عموم المباح وقد ذكره ابن عبد السلام في أمثلة
البدعة المباحة وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الاخلال بالمروءة كما نبه عليه الفقهاء
أن الشئ قد يكون لقوم وتركه بالعكس ومثل ابن الرفعة ذلك بالسوقي والفقيه
في الطيلسان (قوله باب المغفر) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء بعدها راء تقدم
شرحه والكلام على حديث أنس الذي في الباب في كتاب المغازي مستوفى وذكر ابن بطال هنا أن
بعض المتعسفين أنكر على مالك قوله في هذا الحديث وعلى رأسه المغفر وأنه تفرد به قال والمحفوظ
أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء ثم أجاب عن دعوى التفرد أنه وجد في كتاب حديث الزهري
تصنيف النسائي هذا الحديث من رواية الأوزاعي عن الزهري مثل ما رواه مالك وعن الحديث
الآخر بأنه دخل وعلى رأسه المغفر وكانت العمامة السوداء فوق المغفر (قلت) وقد ذكرت
في شرح الحديث أن بضعة عشر نفسا رووه عن الزهري غير مالك وبينت مخارجها وعللها بما أغنى
عن أعادته والحمد لله (قوله باب البرود) جمع بردة بضم الموحدة وسكون الراء بعدها
مهملة قال الجوهري كساء أسود مربع فيه صور تلبسه الاعراب (قوله والحبر) بكسر المهملة
وفتح الموحدة بعدها راء جمع حبرة يأتي شرحها في خامس أحاديث الباب (قوله والشملة) بفتح
المعجمة وسكون الميم ما يشتمل به من الأكسية أي يلتحف وذكر فيه ستة أحاديث * الحديث الأول
(قوله وقال خباب) بخاء معجمة وموحدتين الأولى ثقيلة (قوله وهو متوسد بردته) في رواية
الكشميهني بردة له وهذا طرف من حديث تقدم موصولا في المبعث النبوي في باب ما لقي النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بمكة وتقدم شرحه هناك * الثاني حديث أنس في قصة الأعرابي والغرض
منه قوله حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد وسيأتي
شرحه في كتاب الأدب * الثالث حديث سهل بن سعد جاءت امرأة ببردة قال سهل تدرون ما البردة
قال نعم هي الشملة الحديث وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الجنائز في باب من استعد الكفن
* الرابع حديث أبي هريرة في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب وسيأتي شرحه في كتاب
233

الرقاق والغرض منه هنا قوله فيه يرفع نمرة عليه والنمرة بفتح النون وكسر الميم هي الشملة التي فيها
خطوط ملونة كأنها أخذت من جلد النمر لاشتراكهما في التلون * الخامس حديث أنس كان
أحب الثياب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها الحبرة وفي رواية أخرى أن أنسا قاله
جواب سؤال قتادة له عن ذلك فتضمن السلامة من تدليس قتادة قال الجوهري الحبرة بوزن
عنبة برد يمان وقال الهروي موشية مخططة وقال الداودي لونها أخضر لأنها لباس أهل
الجنة كذا قال وقال ابن بطال هي من برود اليمن تصنع من قطن وكانت أشرف الثياب
عندهم وقال القرطبي سميت حبرة لأنها تحبر أي تزين والتحبير التزيين والتحسين * الحديث
السادس حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجى ببرد حبرة (قوله سجى)
بضم أوله وكسر الجيم الثقيلة أي غطى وزنا ومعنى يقال سجيت الميت إذا مددت عليه
الثوب وكأن المصنف رمز إلى ما جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك فأخرج أحمد من
طريق الحسن البصري أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهي عن حلل الحبرة لأنها تصبغ بالبول فقال له
أبي ليس ذلك لك فقد لبسهن النبي صلى الله عليه وسلم ولبسناهن في عهده والحسن لم يسمع
من عمر (قوله باب الأكسية والخمائص) جمع خميصة بالخاء المعجمة والصاد
المهملة وهي كساء من صوف أسود أو خز مربعة لها أعلام ولا يسمى الكساء خميصة إلا أن
كان لها علم ذكر فيه أربعة أحاديث * الأول والثاني عن عائشة وابن عباس قالا لما
نزل بضم أوله على البناء للمجهول والمراد نزول الموت وقوله طفق يطرح خميصة له على وجهه
أي يجعلها على وجهه من الحمى فإذا اغتم كشفها وذكر الحديث في التحذير من اتخاذ القبور
مساجد وقد تقدم شرحه في كتاب الجنائز * (تنبيه) * ذكر أبو علي الجياني أنه وقع في رواية
أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني في هذا الاسناد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة عن أبيه عن عائشة وابن عباس قال وقوله عن أبيه وهم وهي زيادة لا حاجة إليها
234

* الثالث حديث أبي بردة وهو ابن أبي موسى الأشعري قال أخرجت إلينا عائشة كساء وإزارا
غليظا فقالت قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين تقدم هذا الحديث في أوائل
الخمس وذكر له طريقا أخرى تعليقا زاد فيها وصف الازار والكساء إزارا غليظا مما يصنع باليمن
وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة والملبدة اسم مفعول من التلبيد وقال ثعلب يقال للرقعة
التي يرقع بها القميص لبدة وقال غيره هي التي ضرب بعضها في بعض حتى تتراكب وتجتمع
وقال الداودي هو الثوب الضيق ولم يوافق * الرابع حديث عائشة في خميصة لها أعلام وفي آخره
وائتوني بانبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم من بني عدي بن كعب انتهى آخر الحديث عند قوله
بانبجانية أبي جهم وبقية نسبه مدرج في الخبر من كلام ابن شهاب وقد تقدم شرحه مستوفى
في أوائل كتاب الصلاة (قوله باب اشتمال الصماء) تقدم ضبطه وتفسيره وشرح
حديث أبي سعيد في هذا الباب فيما يتعلق بالاشتمال والاحتباء في باب ما يستر من العورة من كتاب
الصلاة وقيل في اشتمال الصماء أن يرمي بطرفي الثوب على شقه الأيسر فيصير جانبه الأيسر
مكشوفا ليس عليه من الغطاء شئ فتنكشف عورته إذا لم يكن عليه ثوب آخر فإذا خالف بين طرفي
الثوب الذي اشتمل به لم يكن صماء وتقدم الكلام أيضا على اختلاف الرواة عن الزهري في شيخه
فيه وعلى الليث أيضا وأما شرح البيعتين فتقدم أيضا في البيوع وأما النهي عن الصلاة بعد
العصر والصبح فتقدم في أواخر أبواب المواقيت من كتاب الصلاة (قوله عبد الوهاب) هو ابن
عبد المجيد الثقفي جزم به المزي في الأطراف وقال في التهذيب وقع في بعض النسخ عبد الوهاب بن
عطاء وفيه نظر لان ابن عطاء لا تعرف له رواية عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري ولم يذكر أحد
في رجال البخاري عبد الوهاب بن عطاء وقد أخرج أبو نعيم في المستخرج هذا الحديث من رواية
ابن خزيمة حدثنا بندار وهو محمد بن بشار شيخ البخاري فيه حدثنا عبد الوهاب به ولم ينسبه أيضا
وأخرجه مسلم عن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب به ولم ينسبه أيضا وهو الثقفي بلا ريب وسيأتي
بعد قليل نظير هذا وجزم الإسماعيلي بأنه الثقفي وقوله فيه أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدوا
أحد شقيه أي يظهر (قوله باب الاحتباء في ثوب واحد) ذكر فيه حديثين تقدم
شرحهما أيضا في الباب المشار إليه من كتاب الصلاة وقوله في أول الاسناد الثاني حدثنا محمد غير
منسوب هو ابن سلام وشيخه مخلد بسكون المعجمة هو ابن يزيد (قوله باب الخميصة
السوداء) تقدم تفسير الخميصة في أوائل كتاب الصلاة قال الأصمعي الخمائص ثياب خز أو صوف
معلمة وهي سود كانت من لباس الناس وقال أبو عبيد هو كساء مربع له علمان وقيل هي كساء
235

رقيق من أي لون كان وقيل لا تسمى خميصة حتى تكون سوداء معلمة وذكر فيه حديثين * الحديث
الأول (قوله عن أبيه سعيد بن فلان بن سعيد بن العاص) كذا قال البخاري عن أبي نعيم عن إسحاق
بن سعيد عن أبيه فأبهم والد سعيد وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي خيثمة زهير
ابن حرب عن الفضل بن دكين وهو أبو نعيم حدثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن
أبيه وسيأتي بعد أبواب في باب ما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا عن أبي الوليد عن إسحاق وفيه سياق
نسب إسحق إلى العاص مثل هذا وفيه التصريح بالتحديث من أبيه وبتحديث أم خالد أيضا
وكذا أخرجه ابن سعد عن أبي نعيم وأبي الوليد جميعا عن إسحاق (قوله عن أم خالد بنت خالد) هي
أمة بفتح الهمزة والميم مخففا كنيت بولدها خالد بن الزبير بن العوام وكان الزبير تزوجها فكان
لها منه خالد وعمرو ابنا الزبير وذكر ابن سعد أنها ولدت بأرض الحبشة وقدمت مع أبيها
بعد خيبر وهي تعقل وأخرج من طريق أبي الأسود المدني عنها قالت كنت ممن اقرأ النبي صلى
الله عليه وسلم من النجاشي السلام وأبوها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية أسلم قديما ثالث ثلاثة
أو رابع أربعة واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر أو عمر (قوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم
بثياب) لم أقف على اسم تعيين الجهة التي حضرت منها الثياب المذكورة (قوله فقال من ترون
أن نكسو هذه فسكت القوم) لم أقف على تعيين أسمائهم (قوله فأتى بها تحمل) كذا فيه
وفيه التفات أو تجريد ووقع في رواية أبى الوليد فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى
صغر سنها إذ ذاك ولكن لا يمنع ذلك أن تكون حينئذ مميزة ووقع في أول رواية سفيان بن عيينة
الماضية في هجرة الحبشة قدمت من أرض الحبشة وأنا جويرية ووقع في رواية خالد بن سعيد
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر ولا معارضة بينهما لأنه يجوز أن
يكون حين طلبها أتته مع أبيها (قوله فألبسها) في رواية أبي الوليد فألبسنيها على منوال ما تقدم
(قوله قال أبلى وأخلقي) في رواية أبي الوليد وقال بزيادة واو قبل قال وقوله أبلى بفتح الهزة
وسكون الموحدة وكسر اللام أمر بالابلاء وكذا قوله أخلقي بالمعجمة والقاف أمر بالأخلاق وهما
بمعنى والعرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك أي أنها تطول حياتها حتى
يبلى الثوب ويخلق قال الخليل أبل وأخلق معناه عش وخرق ثيابك وأرقعها وأخلقت
الثوب أخرجت باليه ولفقته ووقع في رواية أبي زيد المروزي عن الفربري وأخلفي بالفاء وهي
أوجه من التي بالقاف لان الأولى تستلزم التأكيد إذ الابلاء والأخلاق بمعنى لكن جاز العطف
لتغاير اللفظين والثانية تفيد معنى زائدا وهو أنها إذا أبلته أخلفت غيره وعلى ما قال الخليل
لا تكون التي بالقاف للتأكيد لكن التي بالفاء أيضا أولى ويؤيدها ما أخرجه أبو داود بسند
صحيح عن أبي نضرة قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس أحدهم ثوبا جديدا قيل
له تبلى ويخلف الله ووقع في رواية أبي الوليد أبلي وأخلقي مرتين (قوله وكان فيها علم أخضر
أو أصفر) وقع في رواية أبي النضر عن إسحاق بن سعيد عند أبي داود أحمر بدل أخضر وكذا عند
ابن سعد (قوله فقال يا أم خالد هذا سناه وسناه بالحبشية) كذا هنا أي وسناه لفظة بالحبشية ولم
يذكر معناها بالعربية وفي رواية أبي الوليد فجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إلي ويقول
يا أم خالد هذا سنا ويا أم خالد هذا سنا والسنا بلسان الحبشة الحسن ووقع في رواية خالد بن سعيد
الماضية في الجهاد فقال سنه سنه وهي بالحبشة حسن وقد تقدم ضبطها وشرحها هناك ووقع
236

في رواية ابن عيينة المذكورة ويقول سناه سناه قال الحميدي يعني حسن حسن وتقدم في الجهاد
أن ابن المبارك فسره بذلك ووقع في رواية ابن سعد التصريح بأنه من تفسير أم خالد ووقع في رواية
خالد بن سعيد في الجهاد من الزيادة وذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي وسيأتي بيان ذلك
وبقية شرح ما اشتمل عليه في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى * الحديث الثاني حديث أنس (قوله
عن ابن عون) هو عبد الله ومحمد هو ابن سيرين والاسناد كله بصريون وقد سبقت الإشارة إلى هذا
الاسناد في آخر باب تسمية المولود من كتاب العقيقة وتقدم حديث أنس في تسمية الصبي المذكور
وتحنيكه في كتاب الزكاة من طريق إسحق بن أبي طلحة وتقدمت له طريق أخرى عن إسحاق أتم منها
في كتاب الجنائز (قوله وعليه خميصة حريثية) بمهملة وراء ومثلثة مصغر وأخره هاء تأنيث قال
عياض كذا لرواة البخاري وهي منسوبة إلى حريث رجل من قضاعة ووقع في رواية أبي
السكن خيبرية بالخاء المعجمة والموحدة نسبة إلى خيبر البلد المعروف قال واختلف رواة مسلم
فقيل كالأول ولبعضهم مثله لكن بواو بدل الراء ولا معنى لها ولبعضهم جونية بفتح الجيم وسكون
الواو بعدها نون نسبة إلى بني الجون أو إلى لونها من السواد أو الحمرة أو البياض فإن العرب تسمي
كل لون من هذه جونا ولبعضهم بالتصغير ولبعضهم بضم الحاء المهملة والباقي مثله ولا معنى له
ولبعضهم كذلك لكن بمثناة نسبة إلى الحويت فقيل هي قبيلة وقيل شبهت بحسب الخطوط
الممتدة التي في الحوت (قلت) والذي يطابق الترجمة من جميع هذه الروايات الجونية بالجيم والنون
فإن الأشهر فيه أنه الأسود ولا يمنع ذلك وروده في حديث الباب بلفظ الحريثية لان طرق الحديث
يفسر بعضها بعضا فيكون لونها أسود وهي منسوبة إلى صانعها وقد أخرج أبو داود والنسائي
والحاكم من حديث عائشة أنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من صوف سوداء
فلبسها قال في النهاية المحفوظ المشهور جونية بالجيم والنون أي سوداء وأما حريثية فلا
أعرفها وطالما بحثت عنها فلم أقف لها على معنى وفي رواية حوتكية ولعلها منسوبة إلى القصر
فإن الحوتكي الرجل القصير الخطو أو هي منسوبة إلى رجل يسمى حوتكا وقال النووي وقع
لجميع رواة البخاري حونبية بفتح المهملة وسكون الواو وفتح النون بعدها موحدة ثم تحتانية ثقيلة
وفي بعضها بضم المعجمة وفتح الواو وسكون التحتانية بعدها مثلثة وساق بعض ما تقدم ونقل
عن صاحب التحرير شارح مسلم حوتية نسبة إلى الحوت وهي قبيلة أو موضع ثم قال القاضي
عياض في المشارق هذه الروايات كلها تصحيف إلا الجونية بالجيم والنون فهي منسوبة إلى بني
الجون قبيلة من الأزد أو إلى لونها من السواد وإلا الحريثية بالراء والمثلثة ووقع في نسخة الصغاني
في الحاشية مقابل حريثية هذا تصحيف والصواب حوتكية وكذا وقع في رواية الإسماعيلي أي
قصيرة وهي في معنى الشلمة ومنه حديث العرباض بن سارية كان يخرج علينا في الصفة وعليه
حوتكية (قوله باب الثياب الخضر) كذا للكشميهني وللمستملي والسرخسي ثياب
الخضر كقولهم مسجد الجامع قال ابن بطال الثياب الخضر من لباس الجنة وكفى بذلك شرفا
لها (قلت) وأخرج أبو داود من حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة أنه رأى
على النبي صلى الله عليه وسلم بردين أخضرين (قوله حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب)
هو الثقفي وصرح به الإسماعيلي (قوله عن عكرمة) في رواية أبي يعلى حدثنا سويد بن سعيد
حدثنا عبد الوهاب الثقفي بسنده وزاد فيه عن ابن عباس (قوله إن رفاعة طلق امرأته فتزوجها
237

عبد الرحمن بن الزبير القرظي قالت عائشة وعليها خمار أخضر فشكت إليها) أي إلى عائشة وفيه
التفات وتجريد وفي قوله قالت عائشة ما يبين وهم رواية سويد وأن الحديث من رواية عكرمة عن
عائشة (قوله والنساء ينصر بعضهن بعضا) جملة معترضة وهي من كلام عكرمة وقد صرح وهيب
ابن خالد في روايته عن أيوب بذلك فقال بعد قوله لجلدها أشد خضرة من خمارها قال عكرمة والنساء
ينصر بعضهن بعضا رويناه في فوائد أبي عمرو بن السماك من طريق عفان عن وهيب قال
الكرماني خضرة جلدها يحتمل أن تكون لهزالها أو من ضرب زوجها لها (قلت) وسياق القصة
رجح الثاني (قوله قال وسمع أنها قد أتت) في رواية وهيب قال فسمع بذلك زوجها (قوله ومعه
ابنان) لم أقف على تسميتهما ووقع في رواية وهيب بنون له (قوله لم تحلى أو لم تصلحي له) كذا
بالشك وهو من الراوي وفي رواية الكشميهني لا تحلين له ولا تصلحين له وذكر الكرماني أنه وقع
في بعض الروايات لم تحلين ثم أخذ في توجيهه وعرف بهذا الجواب وجه الجمع بين قولها ما معه
إلا مثل الهدبة وبين قوله صلى الله عليه وسلم حتى تذوقي عسيلته وحاصله أنه رد عليها دعواها أما
أولا فعلى طريق صدق زوجها فيما زعم أنه ينفضها نفض الأديم وأما ثانيا فللإستدلال على صدقه
بولديه اللذين كانا معه (قوله وأبصر معه ابنين له فقال بنوك هؤلاء) فيه جواز إطلاق اللفظ الدال
على الجمع على الاثنين لكن وقع في رواية وهيب بصيغة الجمع فقال بنون له (قوله تزعمين ما تزعمين)
في رواية وهيب هذا الذي تزعمين أنه كذا وكذا وهو كناية عما ادعت عليه من العنة وقد تقدمت
مباحث قصة رفاعة وامرأته في كتاب الطلاق وقوله لأنفضها نفض الأديم كناية بليغة في الغاية
من ذلك لأنها أوقع في النفس من التصريح لان الذي ينفض الأديم يحتاج إلى قوة ساعد
وملازمة طويلة قال الداودي يحتمل تشبيهها بالهدبة انكساره وأنه لا يتحرك وأن شدته لا تشتد
ويحتمل أنها كنت بذلك عن نحافته أو وصفته بذلك بالنسبة للأول قال ولهذا يستحب نكاح
البكر لأنها تظن الرجال سواء بخلاف الثيب (قوله باب الثياب البيض) كأنه
لم يثبت عنده على شرطه فيها شئ صريح فاكتفى بما وقع في الحديثين اللذين ذكرهما وقد أخرج
أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث سمرة رفعه عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها
أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الترمذي
وابن حبان من حديث ابن عباس بمعناه وفيه فإنها من خير ثيابكم * والحديث الأول من حديثي
الباب حديث سعد وهو ابن أبي وقاص تقدم في غزوة أحد وفيه تسمية الرجلين وأنهما جبريل
وميكائيل ولم يصب من زعم أن أحدهما إسرافيل * والحديث الثاني عنه (قوله عن الحسين)
هو ابن ذكوان المعلم البصري (قوله عن عبد الله بن بريدة) أي ابن الحصيب الأسلمي وهو تابعي
وشيخه تابعي أيضا إلا أنه أكبر منه وأبو الأسود أيضا تابعي كبير كان في حياة النبي صلى الله عليه
وسلم رجلا (قوله أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض) في هذا القدر الغرض
المطلوب من هذا الحديث وبقيته تتعلق بكتاب الرقاق وقد أورده فيه من وجه آخر مطولا ويأتي
شرحه هناك إن شاء الله تعالى وفائدة وصفه الثوب وقوله أتيته وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ
238

الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها وقوله وأن رغم أنف أبي ذر يجوز
في الغين المعجمة الفتح والكسر أي ذل كأنه لصق بالرغام وهو التراب وقوله قال أبو عبد الله هو
البخاري (قوله هذا عند الموت أو قبله إذا تاب) أي من الكفر (وندم) يريد شرح قوله ما من عبد
قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة وحاصل ما أشار إليه أن الحديث محمول على من
وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث فإنه موعود بهذا الحديث
بدخول الجنة ابتداء وهذا في حقوق الله باتفاق أهل السنة وأما حقوق العباد فيشترط ردها عند
الأكثر وقيل بل هو كالأول ويثيب الله صاحب الحق بما شاء وأما من تلبس بالذنوب المذكورة
ومات من غير توبة فظاهر الحديث أنه أيضا داخل في ذلك لكن مذهب أهل السنة أنه في مشيئة
الله تعالى ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت الماضي في كتاب الايمان فإن فيه ومن أتى شيئا
من ذلك فلم يعاقب به فأمره إلى الله تعالى أن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه وهذا المفسر مقدم على
المبهم وكل منهما يرد على المبتدعة من الخوارج ومن المعتزلة الذين يدعون وجوب خلود من مات
من مرتكبي الكبائر من غير توبة في النار أعاذنا الله من ذلك بمنه وكرمه ونقل ابن التين عن
الداودي أن كلام البخاري خلاف ظاهر الحديث فإنه لو كانت التوبة مشترطة لم يقل وأن زنى
وأن سرق قال وإنما المراد أنه يدخل الجنة إما ابتداء وإما بعد ذلك والله أعلم (قوله باب
لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه) أي في بعض الثياب ووقع في شرح ابن بطال ومستخرج
أبي نعيم زيادة افتراشه في الترجمة والأولى ما عند الجمهور وقد ترجم للافتراش مستقلا كما سيأتي
بعد أبواب والحرير معروف وهو عربي سمي بذلك لخلوصه يقال لكل خالص محرر وحررت الشئ
خلصته من الاختلاط بغيره وقيل هو فارسي معرب والتقييد بالرجال يخرج النساء وسيأتي في ترجمة
مستقلة قال ابن بطال اختلف في الحرير فقال قوم يحرم لبسه في كل الأحوال حتى على النساء نقل
ذلك عن علي وابن عمر وحذيفة وأبي موسى وابن الزبير ومن التابعين عن الحسن وابن سيرين
وقال قوم يجوز لبسه مطلقا وحملوا الأحاديث الواردة في النهي عن لبسه على من لبسه خيلاء
أو على التنزيه (قلت) وهذا الثاني ساقط لثبوت الوعيد على لبسه وأما قول عياض حمل بعضهم
النهي العام في ذلك على الكراهة لا على التحريم فقد تعقبه ابن دقيق العيد فقال قد قال القاضي
عياض أن الاجماع انعقد بعد ابن الزبير ومن وافقه على تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء
ذكر ذلك في الكلام على قول بن الزبير في الطريق التي أخرجها مسلم ألا لا تلبسوا نساءكم الحرير
فإني سمعت عمر فذكر الحديث الآتي في الباب قال فإثبات قول بالكراهة دون التحريم إما أن
ينقض ما نقله عن الاجماع وإما أن يثبت أن الحكم العام قبل التحريم على الرجال كان هو الكراهة
ثم انعقد الاجماع على التحريم على الرجال والإباحة للنساء ومقتضاه نسخ الكراهة السابقة وهو
بعيد جدا وأما ما أخرج عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال لقي عمر عبد الرحمن بن
عوف فنهاه عن لبس الحرير فقال لو أطعتنا للبسته معنا وهو يضحك فهو محمول على أن عبد الرحمن
فهم من إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في لبس الحرير نسخ التحريم ولم ير تقييد الإباحة
بالحاجة كما سيأتي واختلف في علة تحريم الحرير على رأيين مشهورين أحدهما الفخر والخيلاء
والثاني لكونه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون شهامة الرجال ويحتمل علة ثالثة وهي
239

التشبه بالمشركين قال ابن دقيق العيد وهذا قد يرجع إلى الأول لأنه من سمة المشركين وقد يكون
المعنيان معتبرين إلا أن المعنى الثاني لا يقتضي التحريم لان الشافعي قال في الام ولا أكره لباس
اللؤلؤ إلا للأدب فإنه زي النساء واستشكل بثبوت اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء فإنه يقتضي
منع ما كان مخصوصا بالنساء في جنسه وهيئته وذكر بعضهم علة أخرى وهي السرف والله أعلم
والمذكور في هذا الباب خمسة أحاديث * الحديث الأول حديث عمر ذكره من طرق * الأولى
(قوله سمعت أبا عثمان النهدي قال أتانا كتاب عمر) كذا قال أكثر أصحاب قتادة وشذ عمر بن عامر
فقال عن قتادة عن أبي عثمان عن عثمان فذكر المرفوع وأخرجه البزار وأشار إلى تفرده به فلو كان
ضابطا لقلنا سمعه أبو عثمان من كتاب عمر ثم سمعه من عثمان بن عفان لكن طرق الحديث تدل على
أنه عن عمر لا عن عثمان وقد ذكره أصحاب الأطراف في ترجمة أبي عثمان عن عمر وفيه نظر لان
المقصود بالكتابة إليه هو عتبة بن فرقد وأبو عثمان سمع الكتاب يقرأ فأما أن تكون روايته له عن عمر
بطريق الوجادة وإما أن يكون بواسطة المكتوب إليه وهو عتبة بن فرقد ولم يذكروه في رواية أبي
عثمان عن عتبة وقد نبه الدارقطني على أن هذا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين
قال ذلك بعد أن استدركه عليهما وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليه والله أعلم (قوله ونحن
مع عتبة بن فرقد) صحابي مشهور سمي أبوه باسم النجم واسم جده يربوع بن حبيب بن مالك السلمي
ويقال إن يربوع هو فرقد وأنه لقب له وكان عتبة أميرا لعمر في فتوح بلاد الجزيرة (قوله
بآذربيجان) تقدم ضبطها في أوائل كتاب فضائل القرآن وذكر المعافى في تاريخ الموصل أن عتبة هو
الذي افتتحها سنة ثماني عشرة وروى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عن أم عاصم امرأة
عتبة أن عتبة غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين وأما قول المعافى إنه شهد خيبر وقسم
له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فلم يوافق على ذلك وإنما أول مشاهده حنين وروينا في المعجم
الصغير للطبراني من طريق أم عاصم امرأة عتبة عن عتبة قال أخذني الشرى على عهد رسول الله
فأمرني فتجردت فوضع يده على بطني وظهري فعبق بي الطيب من يومئذ قالت أم عاصم كنا عنده
أربع نسوة فكنا تجتهد في الطيب وما كان هو يمسه وأنه كان لأطيبنا ريحا (قوله أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم) زاد الإسماعيلي فيه من طريق علي بن الجعد عن شعبة بعد قوله مع عتبة بن فرقد
أما بعد فاتزروا وارتدوا وانتعلوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل
وإياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا
واقطعوا الركب وانزوا نزو وارموا الأغراض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث (قوله
نهى عن الحرير) أي عن لبس الحرير كما في الرواية التي تلي هذه (قوله إلا هكذا) زاد الإسماعيلي
في روايته من هذا الوجه وهكذا (قوله وأشار بأصبعيه اللتين تليان الابهام) المشير بذلك يأتي
في رواية عاصم ما يقتضي أنه النبي صلى الله عليه وسلم كما سأبينه (قوله اللتين تليان الابهام) يعني
السبابة والوسطى وصرح بذلك في رواية عاصم (قوله فيما علمنا أنه يعني الاعلام) بفتح الهمزة جمع
علم بالتحريك أي الذي حصل في علمنا أن المراد بالمستثنى الاعلام وهو ما يكون في الثياب من
تطريف وتطريز ونحوهما ووقع في رواية مسلم والإسماعيلي فما بفتح الفاء بعدها حرف نفي عتمنا
بمثناة بدل اللام أي ما أبطأنا في معرفة ذلك لما سمعناه قال أبو عبيد العاتم البطئ يقال عتم الرجل
240

القرى إذا أخره * الطريق الثانية (قوله حدثنا أحمد بن يونس) هو ابن عبد الله بن يونس نسب لجده
وهو بذلك أشهر وشيخه زهير ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي وعاصم هو ابن سليمان الأحول وقد
أخرجه مسلم عن أحمد بن يونس هذا فبين جميع ذلك في سياقه (قوله كتب إلينا عمر) كذا للأكثر
وكذا لمسلم وللكشميهني كتب إليه أي إلى عتبة بن فرقد وكلتا الروايتين صواب فإنه كتب إلى الأمير
لأنه هو الذي يخاطبه وكتب إليهم كلهم بالحكم (قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم) زاد فيه مسلم قبل
هذا يا عتبة بن فرقد أنه ليس من كدك ولا كد أبيك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك
وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى فذكر
الحديث وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك فعنده في أوله أن عتبة بن فرقد
بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود فلما رآه عمر قال أيشبع المسلمون في
رحالهم من هذا قال لا فقال عمر لا أريده وكتب إلى عتبة أنه ليس من كدك الحديث (قوله ورفع
زهير الوسطى والسبابة) زاد مسلم في روايته وضمهما * الطريق الثالثة (قوله يحيى) هو ابن سعيد
القطان (قوله عن التيمي) هو سليمان بن طرخان (قوله عن أبي عثمان قال كنا مع عتبة فكتب إليه
عمر) في رواية مسلم من طريق جرير عن سليمان التيمي فجاءنا كتاب عمر وكذا عند الإسماعيلي من
طريق معتمر بن سليمان (قوله لا يلبس الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شئ في الآخرة) كذا للمستملي
والسرخسي يلبس بضم أوله في الموضعين وكذا للنسفي وقال في الآخرة منه وللكشميهني لا يلبس
الحرير في الدنيا إلا لم يلبس منه شيئا في الآخرة بفتح أوله على البناء الفاعل والمراد به الرجل المكلف
وأورده الكرماني بلفظ إلا من لم يلبسه قال وفي أخرى إلا من ليس يلبس منه اه‍ وفي رواية مسلم
المذكورة لا يلبس الحرير إلا من ليس له منه شئ في الآخرة (قوله وأشار أبو عثمان بأصبعيه المسبحة
والوسطى) وقع هذا في رواية المستملي وحده وهو لا يخالف ما في رواية عاصم فيجمع بأن النبي صلى
الله عليه وسلم أشار أولا ثم نقله عنه عمر فبين بعد ذلك بعض رواته صفة الإشارة (قوله حدثنا
الحسن بن عمر) أي ابن شقيق الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء أبو علي البلخي كذا جزم به الكلاباذي
وآخرون وشد ابن عدي فقال هو ابن عمر بن إبراهيم العبدي (قلت) ولم أقف لهذا العبدي على
ترجمة إلا أن ابن حبان قال في الطبقة الرابعة من الثقات الحسن بن عمر بن إبراهيم روى عن
شعبة فلعله هذا وقد جزم صاحب المزهر أنه يكنى أبا بصير وأنه من شيوخ البخاري وأنه أخرج له
حديثين وأنه أخرج للحسن بن عمر بن شبة وأكثر من ذلك (قلت) ولم أر في جميع البخاري بهذه
الصورة إلا أربعة أحاديث أحدها في باب الطواف بعد العصر من كتاب الحج قال فيه حدثنا
الحسن بن عمر البصري حدثنا يزيد بن زريع وهذا وآخر مثل هذا في الاستئذان والرابع في كتاب
الأحكام فساقه كما في سياق الحج سواء فتعين أنه هو وأما هذا والذي في الاستئذان فعلى الاحتمال
والأقرب أنه كما قال الأكثر (قوله معتمر) هو ابن سليمان التيمي (قوله وأشار أبو عثمان بأصبعيه
المسبحة والوسطى) يريد أن معتمر بن سليمان رواه عن أبيه عن أبي عثمان عن كتاب عمر وزاد هذه
الزيادة وهذا مما يؤيد أن رواية الأكثر في الطريق التي قبلها التي خلت عن هذه الزيادة أولى من
رواية المستملي التي أوردها فيه فإن هذا القدر زاده معتمر بن سليمان في روايته عن أبيه ثم ظهر
لي أن الذي زاده معتمر تفسير الإصبعين فإن الإسماعيلي أخرجه من روايته ومن رواية يحيى
241

القطان جميعا عن سليمان التيمي وقال في سياقه كنا مع عتبة بن فرقد فكتب إليه عمر يحدثه
بأشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وفيما كتبه إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ألا لا يلبس الحرير في الدنيا من له في الآخرة منه شئ إلا وأشار بأصبعيه فعرف أن زيادة معتمر
تسمية الإصبعين وقد أخرجه مسلم والإسماعيلي أيضا من طريق جرير عن سليمان وقال فيه
بأصبعيه اللتين تليان الابهام فرأيناها أزرار الطيالسة حين رأينا الطيالسة قال القرطبي
الأزرار جمع زر بتقديم الزاي ما يزرر به الثوب بعضه على بعض والمراد به هنا أطراف الطيالسة
والطيالسة جمع طيلسان وهو الثوب الذي له علم وقد يكون كساء وكان للطيالسة التي رآها أعلام
حرير في أطرافها (قلت) وقد أغفل صاحب المشارق والنهاية في مادة ط ل س ذكر الطيالسة
وكأنهما تركا ذلك لشهرته لكن المعهود الآن ليس على الصفة المذكورة هنا وقد قال عياض
في شرح مسلم المراد بأزرار الطيالسة أطرافها ووقع في حديث أسماء بنت أبي بكر عند مسلم
أنها أخرجت جبة طيالسة كسروانية فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل
على أن المراد بالطيالسة في هذا الحديث ما يلبس فيشمل الجسد لا المعهود الآن ولم يقع في رواية
أبي عثمان في الصحيحين في استثناء ما يجوز من لبس الحرير إلا ذكر الإصبعين لكن وقع عند أبي
داود من طريق حماد بن سلمة عن عاصم الأحول في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن الحرير إلا ما كان هكذا وهكذا إصبعين وثلاثة وأربعة ولمسلم من طريق سويد بن غفلة بفتح
المعجمة والفاء واللام الخفيفتين أن عمر خطب فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس
الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع وأو هنا للتنويع والتخيير وقد أخرجه ابن أبي شيبة من
هذا الوجه بلفظ أن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا وهكذا وهكذا يعني إصبعين وثلاثا وأربعا وجنح
الحليمي إلى أن المراد بما وقع في رواية مسلم أن يكون في كل كم قدر إصبعين وهو تأويل بعيد من
سياق الحديث وقد وقع عند النسائي في رواية سويد لم يرخص في الديباج الا في موضع أربعة
أصابع * الحديث الثاني (قوله الحكم) هو ابن عتيبة بمثناة ثم موحدة مصغر وابن أبي ليلى هو
عبد الرحمن ووقع في رواية القابسي عن أبي ليلى وهو غلط لكن كتب في الهامش الصواب ابن
أبي ليلى (قوله كان حذيفة) هو ابن اليمان وقد مضى شرح حديثه هذا في كتاب الأشربة (قوله
الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) تمسك به من منع استعمال
النساء للحرير والديباج لان حذيفة استدل به على تحريم الشرب في إناء الفضة وهو حرام على
النساء والرجال جميعا فيكون الحرير كذلك والجواب أن الخطاب بلفظ لكم للمذكر ودخول
المؤنث فيه قد اختلف فيه والراجح عند الأصوليين عدم دخولهن وأيضا فقد ثبت إباحة الحرير
والذهب للنساء كما سيأتي التنبيه عليه في باب الحرير للنساء قريبا وأيضا فإن هذا اللفظ مختصر
وقد تقدم بلفظ لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة والخطاب في ذلك
للذكور وحكم النساء في الافتراش سيأتي في باب افتراش الحرير قريبا وقوله هي لهم في الدنيا تمسك
به من قال أن الكافر ليس مخاطبا بالفروع وأجيب بأن المراد هي شعارهم وزيهم في الدنيا ولا يدل
ذلك على الاذن لهم في ذلك شرعا * الحديث الثالث (قوله قال شعبة فقلت أعن النبي صلى الله
عليه وسلم فقال شديدا عن النبي صلى الله عليه وسلم) وقع في رواية علي بن الجعد عن شعبة سألت
242

عبد العزيز بن صهيب عن الحرير فقال سمعت أنسا فقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال
شديدا وهذا الجواب يحتمل أن يكون تقريرا لكونه مرفوعا إنما حفظه حفظا شديدا ويحتمل أن
يكون إنكارا أي جزمي برفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقع شديدا على وأبعد من قال المراد
أنه رفع صوته رفعا شديدا وقال الكرماني لفظة شديدا صفة لفعل محذوف وهو الغضب أي
غضب عبد العزيز من سؤال شعبة غضبا شديدا كذا قال ووجهه غير وجيه والاحتمال الأول
عندي أوجه ولكنه يؤيد الثاني أن أحمد أخرجه عن محمد بن جعفر عن شعبة فقال فيه سمعت
أنسا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أيضا عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز عن
أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم أيضا من طريق إسماعيل هذا * الحديث
الرابع (قوله عن ثابت) هو البناني (قوله سمعت ابن الزبير يخطب) زاد النسائي وهو على المنبر
أخرجه عن قتيبة عن حماد بن زيد به وأخرجه أحمد عن عفان عن حماد بلفظ يخطبنا (قوله قال
محمد صلى الله عليه وسلم) هذا من مرسل ابن الزبير ومراسيل الصحابة محتج بها عند جمهور من
لا يحتج بالمراسيل لانهم إما أن يكون عند الواحد منهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي
آخر واحتمال كونها عن تابعي لوجود رواية بعض الصحابة عن بعض التابعين نادر لكن تبين من
الروايتين اللتين بعد هذه أن ابن الزبير إنما حمله عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عمر ومع ذلك فلم
أقف في شئ من الطرق المتفقة عن عمر أنه رواه بلفظ لن بل الحديث عنه في جميع الطرق بلفظ لم
والله أعلم وابن الزبير قد حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث منها حديثه رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم افتتح الصلاة فرفع يديه أخرجه أحمد ومنها حديثه رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يدعو هكذا وعقد ابن الزبير أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ومنها حديثه أنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن نبيذ الجر أخرجه أحمد أيضا (قوله لن يلبسه في الآخرة) كذا
في جميع الطرق عن ثابت وهو أوضح في النفي * الحديث الخامس (قوله عن أبي ذبيان) بكسر
المعجمة ويجوز ضمها بعدها موحدة ساكنة ثم تحتانية هو التميمي البصري ماله في البخاري سوى
هذا الموضع وقد وثقه النسائي ووقع في رواية أبي علي بن السكن عن الفربري عن أبي ظبيان بظاء
مشالة بدل الذال وهو خطأ وأشد خطأ منه ما وقع في رواية أبي زيد المروزي عن الفربري عن أبي
دينار بمهملة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ونون ثم راء نبه على ذلك أبو محمد الأصيلي (قوله
سمعت ابن الزبير يقول سمعت عمر يقول) وقع في رواية النضر بن شميل عن شعبة حدثنا خليفة بن
كعب سمعت عبد الله بن الزبير يقول لا تلبسوا نساءكم الحرير فإني سمعت عمر أخرجه النسائي وقد
أخرجه النسائي أيضا من طريق جعفر بن ميمون عن خليفة بن كعب فلم يذكر عمر في إسناده وشعبة
أحفظ من جعفر بن ميمون (قوله من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) في رواية الكشميهني
لن يلبسه والمحفوظ من هذا الوجه لم وكذا أخرجه مسلم والنسائي وزاد النسائي في رواية جعفر بن
ميمون في آخره ومن لم يلبسه في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى ولباسهم فيها حرير وهذه
الزيادة مدرجة في الخبر وهي موقوفة علي ابن الزبير بين ذلك النسائي أيضا من طريق شعبة فذكر
مثل سند حديث الباب وفي آخره قال ابن الزبير فذكر الزيادة وكذا أخرجه الإسماعيلي من
طريق علي بن الجعد عن شعبة ولفظه فقال ابن الزبير من رأيه ومن لم يلبس الحرير في الآخرة لم
243

يدخل الجنة وذلك لقوله تعالى ولباسهم فيها حرير وقد جاء مثل ذلك عن ابن عمر أيضا أخرجه
النسائي من طريق حفصة بنت سيرين عن خليفة بن كعب قال خطبنا ابن الزبير فذكر الحديث
المرفوع وزاد فقال قال ابن عمر إذا والله لا يدخل الجنة قال الله ولباسهم فيها حرير وأخرج أحمد
والنسائي وصححه الحاكم من طريق داود السراج عن أبي سعيد فذكر الحديث المرفوع مثل
حديث عمر هذا في الباب وزاد وأن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو وهذا يحتمل أن
يكون أيضا مدرجا وعلى تقدير أن يكون الرفع محفوظا فهو من العام المخصوص بالمكلفين من
الرجال للأدلة الأخرى بجوازه للنساء وستأتي الإشارة إلى معنى الوعيد فيه قريبا من طريق أخرى
لرواية بن الزبير عن عمر (قوله وقال أبو معمر) هو عبد الله بن معمر بن عمرو بن الحجاج وقد أكثر
عنه البخاري ولم يصرح في هذا الموضع عنه بالتحديث وقد أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم في
مستخرجيهما من طريق يعقوب بن سفيان زاد الإسماعيلي ويحيى بن معلى الرازي قالا حدثنا أبو
معمر (قوله حدثنا عبد الوارث) هو ابن سعيد ويزيد هو الضبعي المعروف بالرشك بكسر الراء
وسكون المعجمة ومعاذة هي العدوية والاسناد من مبتدئه إلى معاذة بصريون (قوله أخبرتني أم
عمرو بنت عبد الله) جزم أبو نصر الكلاباذي ومن تبعه بأنها بنت عبد الله بن الزبير ولم أرها منسوبة
فيما وقفت عليه من طرق هذا الحديث (قوله سمعت عبد الله بن الزبير سمع عمر) في رواية
الإسماعيلي سمعت من عبد الله بن الزبير يقول في خطبته أنه سمع من عمر بن الخطاب (قوله نحوه)
ساقه الإسماعيلي بلفظ فإنه لا يكساه في الآخرة وله من طريق شيبان بن فروخ عن عبد الوارث فلا
كساه الله في الآخرة * طريق أخرى لحديث عمر (قوله حدثنا محمد بن بشار) هو بندار وعثمان
هو ابن عمر بن فارس والسند كله إلى عمران بن حطان بصريون وعمران هو السدوسي كان أحد
الخوارج من العقدية بل هو رئيسهم وشاعرهم وهو الذي مدح ابن ملجم قاتل علي بالأبيات
المشهورة وأبوه حطان بكسر المهملة بعدها طاء مهملة ثقيلة وإنما أخرج له البخاري على قاعدته
في تخريج أحاديث المبتدع إذا كان صادق اللهجة متدينا وقد قيل إن عمران تاب من بدعته
وهو بعيد وقيل إن يحيى بن أبي كثير حمله عنه قبل أن يبتدع فإنه كان تزوج امرأة من أقاربه
تعتقد رأي الخوارج لينقلها عن معتقدها فنقلته هي إلى معتقدها وليس له في البخاري سوى
هذا الموضع وهو متابعة وآخر في باب نقض الصور (قوله سألت عائشة عن الحرير فقالت ائت
ابن عباس فسله قال فسألته فقال سل ابن عمر) كذا في هذه الطريق وفي رواية حرب بن شداد التي
تذكر عقب هذه بالعكس أنه سأل ابن عباس فقال سل عائشة فسألها فقالت سل ابن عمر (قوله
أخبرني أبو حفص يعني عمر بن الخطاب) كذا في الأصل (قوله فقلت صدق وما كذب أبو حفص)
هو قول عمران بن حطان (قوله وقال عبد الله بن رجاء) هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف المهملة
وهو من شيوخ البخاري أيضا لكن لم يصرح في هذا بتحديثه (قوله حدثنا حرب) هو ابن شداد
وزعم الكرماني أنه ابن ميمون ونسبه لصاحب الكاشف وهو عجيب فإن صاحب الكاشف لم يرقم
لحرب بن ميمون علامة البخاري وإنما قال في ترجمة عبد الله بن رجاء روى عن حرب بن ميمون
ولا يلزم من كون عبد الله بن رجاء روى عنه أن لا يروي عن حرب بن شداد بل روايته عن حرب بن
شداد موجودة في غير هذا ويحيى هو ابن أبي كثير وأراد البخاري بهذه الرواية تصريح يحيى
244

بتحديث عمران له بهذا الحديث (قوله وقص الحديث) ساقه النسائي موصولا عن عمرو بن
منصور عن عبد الله بن رجاء عن حرب بن شداد بلفظ من لبس الحرير في الدنيا فلا خلاق له في
الآخرة وقد ذكر الدارقطني أن هذا اللفظ في حديث عمر خطأ ولعل البخاري لم يسق اللفظ لهذا
المعنى وفي هذه الأحاديث بيان واضح لمن قال يحرم على الرجال لبس الحرير للوعيد المذكور وقد
تقدم شرح معناه في كتاب الأشربة في شرح أول حديث منه فإن الحكم فيها واحد وهو نفي
اللبس ونفي الشرب في الآخرة وفي الجنة وحاصل أعدل الأقوال أن الفعل المذكور مقتض
للعقوبة المذكورة وقد يتخلف ذلك لمانع كالتوبة والحسنات التي توازن والمصائب التي تكفر
وكدعاء الولد بشرائط وكذا شفاعة من يؤذن له في الشفاعة وأعم من ذلك كله عفو أرحم الراحمين
وفيه حجة لمن أجاز لبس العلم من الحرير إذا كان في الثوب وخصه بالقدر المذكور وهو أربع
أصابع وهذا هو الأصح عند الشافعية وفيه حجة على من أجاز العلم في الثوب مطلقا ولو زاد على
أربعة أصابع وهو منقول عن بعض المالكية وفيه حجة على من منع العلم في الثوب مطلقا وهو
ثابت عن الحسن وابن سيرين وغيرهما لكن يحتمل أن يكونوا منعوه ورعا وإلا فالحديث حجة
عليهم فلعلهم لم يبلغهم قال النووي وقد نقل مثل ذلك عن مالك وهو مذهب مردود وكذا مذهب
من أجاز بغير تقدير والله أعلم واستدل به على جواز لبس الثوب المطرز بالحرير وهو ما جعل
عليه طراز حرير مركب وكذلك المطرف وهو ما سجفت أطرافه بسجف من حرير بالتقدير
المذكور وقد يكون التطريز في نفس الثوب بعد النسج وفيه احتمال ستأتي الإشارة إليه واستدل
به أيضا على جواز لبس الثوب الذي يخالطه من الحرير مقدار العلم سواء كان ذلك القدر مجموعا أو
مفرقا وهو قوي وسيأتي البحث في ذلك في باب القسي بعد بابين (قوله باب من مس
الحرير من غير لبس ويروي فيه عن الزبيدي عن الزهري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم)
ذكر المزي في الأطراف أنه أراد بهذا التعليق ما أخرجه أبو داود والنسائي من رواية بقية عن
الزبيدي بهذا الاسناد إلى أنس أنه رأى على أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بردا سيراء كذا
قال وليس هذا مراد البخاري والرؤية لا يقال لها مس وأيضا فلو كان هذا الحديث مراده لجزم به
لأنه صحيح عنده على شرطه وقد أخرجه في باب الحرير للنساء من رواية شعيب عن الزهري كما سيأتي
قريبا وإنما أراد البخاري ما رويناه في المعجم الكبير للطبراني وفي فوائد تمام من طريق عبد الله بن
سالم الحمصي عن الزبيدي عن الزهري عن أنس قال أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلة من
استبرق فجعل ناس يلمسونها بأيديهم ويتعجبون منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعجبكم هذه
فوالله لمناديل سعد في الجنة أحسن منها قال الدارقطني في الافراد لم يروه عن الزبيدي الا عبد الله
ابن سالم ومما يؤكد ما قلته أن البخاري لما أخرج في المناقب حديث البراء بن عازب في قصة سعد بن
معاذ في هذا المعنى موصولا قال بعده رواه الزهري عن أنس ولما صدر بحديث الزهري عن أنس
المعلق هنا عقبة بحديث البراء الموصول بعينه والله أعلم وقوله في حديث البراء فجعلنا نلمسه جزم
في المحكم بأنه بضم الميم في المضارع وقوله مناديل سعد قيل خص المناديل بالذكر لكونها تمتهن
فيكون ما فوقها أعلى منها بطريق الأولى قال ابن بطال النهي عن لبس الحرير ليس من أجل
نجاسة عينه بل من أجل أنه ليس من لباس المتقين وعينه مع ذلك طاهرة فيجوز مسه وبيعه
245

والانتفاع بثمنه وقد تقدم شئ مما يتعلق بالحديث المذكور في كتاب الهبة (قوله باب
افتراش الحرير) أي حكمة في الحل والحرمة (قوله وقال عبيدة) هو ابن عمرو السلماني بسكون
اللام وهو بفتح العين المهملة (قوله هو كلبسه) وصله الحرث بن أبي أسامة من طريق محمد بن
سيرين قال قلت لعبيدة افتراش الحرير كلبسه قال نعم (قوله حدثنا على) هو ابن المديني (قوله
حدثنا وهب بن جرير) أي ابن أبي حازم (قوله أن نشرب في آنية الذهب والفضة وأن نأكل فيها)
تقدم البحث فيه في الأطعمة (قوله وعن لبس الحرير والديباج وأن نجلس عليه) وقد أخرج
البخاري ومسلم حديث حذيفة من عدة أوجه ليس فيها هذه الزيادة وهي قوله وأن نجلس عليه
وهي حجة قوية لمن قال بمنع الجلوس على الحرير وهو قول الجمهور خلافا لابن الماجشون
والكوفيين وبعض الشافعية وأجاب بعض الحنفية بأن لفظ نهى ليس صريحا في التحريم
وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده وهذا يرد
على ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير فإنه ليس بنص بل هو ظاهر
وقد أخرج ابن وهب في جامعه من حديث سعد بن أبي وقاص قال لان أقعد على جمر الغضا أحب
ألي من أن أقعد على مجلس من حرير وأدار بعض الحنفية الجواز والمنع على اللبس لصحة الاخبار
فيه قالوا والجلوس ليس بلبس واحتج الجمهور بحديث أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من
طول ما لبس ولان لبس كل شئ بحسبه واستدل به على منع النساء من افتراش الحرير وهو ضعيف لان
خطاب الذكور لا يتناول المؤنث على الراجح ولعل الذي قال بالمنع تمسك فيه بالقياس على منع
استعمالهن آنية الذهب مع جواز لبسهن الحلي منه فكذلك يجوز لبسهن الحرير ويمنعن من
استعماله وهذا الوجه صححه الرافعي وصحح النووي الجواز واستدل به على منع افتراش الرجل
الحرير مع امرأته في فراشها ووجهه المجيز لذلك من المالكية بأن المرأة فراش الرجل فكما جاز له
أن يفترشها وعليها الحلي من الذهب والحرير فكذلك يجوز له أن يجلس وينام معها على فراشها
المباح لها * (تنبيه) * الذي يمنع من الجلوس عليه هو ما منع من لبسه وهو ما صنع من حرير صرف
أو كان الحرير فيه أزيد من غيره كما سبق تقريره (قوله باب لبس القسي) بفتح القاف
وتشديد المهملة بعدها ياء نسبة وذكر أبو عبيد في غريب الحديث أن أهل الحديث يقولونه
بكسر القاف وأهل مصر يفتحونها وهي نسبة إلى بلد يقال لها القس رأيتها ولم يعرفها الأصمعي
وكذا قال الأكثر هي نسبة للقس قرية بمصر منهم الطبري وابن سيده وقال الحازمي هي من
بلاد الساحل وقال المهلب هي على ساحل مصر وهي حصن بالقرب من الفرما من جهة الشام
وكذا وقع في حديث ابن وهب أنها تلي الفرما والفرما بالفاء وراء مفتوحة وقال النووي هي
بقرب تنيس وهو متقارب وحكى أبو عبيد الهروي عن شمر اللغوي أنها بالزاي لا بالسين نسبة
إلى القز وهو الحرير فأبدلت الزاي سينا وحكى ابن الأثير في النهاية أن القس الذي نسب إليه هو
الصقيع سمي بذلك لبياضه وهو والذي قبله كلام من لم يعرف القس القرية (قوله وقال
عاصم عن أبي بردة قال قلنا لعلي ما القسية إلى آخره) هذا طرف من حديث وصله مسلم من طريق
عبد الله بن إدريس سمعت عاصم بن كليب عن أبي بردة وهو ابن أبي موسى الأشعري عن علي قال
نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القسي وعن المياثر قال فأما القسي فثياب مضلعة
246

الحديث وأخرج مسلم من وجهين أخرين عن علي النهي عن لباس القسي لكن ليس فيه
تفسيره (قوله ثياب أتتنا من الشام أو من مصر) في رواية مسلم من مصر والشام (قوله مضلعة فيها
حرير) أي فيها خطوط عريضة كالأضلاع وحكى المنذري أن المراد بالمضلع ما نسج بعضه وترك
بعضه قوله فيها حرير يشعر بأنها ليست حريرا صرفا وحكى النووي عن العلماء أنها ثياب مخلوطة
بالحرير وقيل من الخز وهو ردئ الحرير (قوله وفيها أمثال الأترج) أي أن الأضلاع التي فيها
غليظة معوجة ووقع في رواية مسلم فيها شبه كذا على الابهام وقد فسرته رواية البخاري المعلقة
ووقع لنا موصولا في أمالي المحاملي باللفظ الذي علقه البخاري (قوله والميثرة) هي بكسر الميم
وسكون التحتانية وفتح المثلثة بعدها راء ثم هاء ولا همز فيها وأصلها من الوثارة أو الوثرة بكسر
الواو وسكون المثلثة والوثير هو الفراش الوطئ وامرأة وثيرة كثيرة اللحم (قوله كانت النساء
تصنعه لبعولتهن مثل القطائف يصفونها) أي يجعلونها كالصفة وحكى عياض في رواية
يصفرنها بكسر الفاء ثم راء وأظنه تصحيفا وإنما قال يصفونها بلفظ المذكر للإشارة إلى أن النساء
يصنعن ذلك والرجال هم الذين يستعملونها في ذلك وقال الزبيدي اللغوي والميثرة مرفقة كصفة
السرج وقال الطبري هو وطاء بوضع على سرج الفرس أو رحل البعير كانت النساء تصنعه
لأزواجهن من الأرجوان الأحمر ومن الديباج وكانت مراكب العجم وقيل هي أغشية للسروج
من الحرير وقيل هي سروج من الديباج فحصلنا على أربعة أقوال في تفسير المثيرة هل هي وطاء
للدابة أو لراكبها أو هي السرج نفسه أو غشاوة وقال أبو عبيد المياثر الحمر كانت من مراكب
العجم من حرير أو ديباج (قوله وقال جرير عن يزيد في حديثه القسية إلى آخره) هو طرف
أيضا من حديث وصله إبراهيم الحربي في غريب الحديث له عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير بن
عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد عن الحسن بن سهيل قال القسية ثياب مضلعة الحديث ووهم
الدمياطي فضبط يزيد في حاشية نسخته بالموحدة والراء مصغر فكأنه لما رأى التعليق الأول من
رواية أبي بردة بن أبي موسى ظن أن التعليق الثاني من رواية حفيده بريد بن عبد الله بن أبي بردة
وزعم الكرماني وتبعه بعض من لقيناه أن يزيد هذا هو ابن رومان قال وجرير هو ابن حازم وليس
كما قال والفيصل في ذلك رواية إبراهيم الحربي وقد أخرج ابن ماجة أصل هذا الحديث من
طريق علي بن مسهر عن يزيد بن أبي زياد عن الحسن بن سهيل عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن المقدم قال يزيد قلت للحسن بن سهيل ما المقدم قال المسبغ بالعصفر هذا القدر
الذي ذكر ابن ماجة منه وبقيته هو هذا الموقوف على الحسن بن سهيل وهو المراد بقول البخاري
قال جرير عن يزيد في حديثه يريد أنه ليس من قول يزيد بل من روايته عن غيره والله أعلم (قوله
والميثرة جلود السباع) قال النووي هو تفسير باطل مخالف لما أطبق عليه أهل الحديث (قلت)
وليس هو بباطل بل يمكن توجيهه وهو ما إذا كانت الميثرة وطاء صنعت من جلد ثم حشيت والنهي
حينئذ عنها إما لأنها من زي الكفار وإما لأنها لا تعمل فيها الذكاة أو لأنها لا تذكى غالبا فيكون
فيه حجة لمن منع لبس ذلك ولو دبغ لكن الجمهور على خلافه وأن الجلد يطهر بالدباغ وقد اختلف
أيضا في الشعر هل يطهر بالدباغ لكن الغالب على المياثر أن لا يكون فيها شعر وقد ثبت النهي عن
الركوب على جلود النمور أخرجه النسائي من حديث المقدام بن معد يكرب وهو مما يؤيد
247

التفسير المذكور ولأبي داود لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر (قوله قال أبو عبد الله عاصم
أكثر وأصح في الميثرة) يعني رواية عاصم في تفسير الميثرة أكثر طرقا وأصح من رواية يزيد وهذا
الكلام لم يقع في رواية أبي ذر ولا النسفي وأطلق في حديث على المياثر وقيدها في حديث البراء
بالحمر وسيأتي الكلام على ذلك في باب الثوب الأحمر إن شاء الله تعالى وقوله في الحديث الثاني
أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك وسفيان هو الثوري وقوله نهانا في رواية الكشميهني نهى وقوله
عن المياثر الحمر وعن القسي هو طرف من حديث أوله أمرنا بسبع ونهانا عن سبع وسيأتي بتمامه
في باب المياثر الحمر بعد أبواب واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من
الثياب لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير ويؤيده عطف الحرير على القسي في
حديث البراء ووقع كذلك في حديث على عند أبي داود والنسائي وأحمد بسند صحيح على شرط
الشيخين من طريق عبيدة بن عمرو عن علي قال نهاني النبي صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير
ويحتمل أن تكون المغايرة باعتبار النوع فيكون الكل من الحرير كما وقع عطف الديباج على
الحرير في حديث حذيفة الماضي قريبا ولكن الذي يظهر من سياق طرق الحديث في تفسير
القسي أنه الذي يخالط الحرير لا أنه الحرير الصرف فعلى هذا يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير
وهو قول بعض الصحابة كابن عمر والتابعين كابن سيرين وذهب الجمهور إلى جواز لبس ما خالطه
الحرير إذا كان غير الحرير الأغلب وعمدتهم في ذلك ما تقدم في تفسير الحلة السيراء وما انضاف إلى
ذلك من الرخصة في العلم في الثوب إذا كان من حرير كما تقدم تقريره في حديث عمر قال ابن دقيق
العيد وهو قياس في معنى الأصل لكن لا يلزم من جواز ذلك جواز كل مختلط وإنما يجوز منه
ما كان مجموع الحرير فيه قدر أربع أصابع لو كانت منفردة بالنسبة لجميع الثوب فيكون المنع
من لبس الحرير شاملا للخالص والمختلط وبعد الاستثناء يقتصر على القدر المستثنى وهو أربع
أصابع إذا كانت منفردة ويلتحق بها في المعنى ما إذا كانت مختلطة قال وقد توسع الشافعية
في ذلك ولهم طريقان أحدهما وهو الراجح اعتبار الوزن فإن كان الحرير أقل وزنا لم يحرم
أو أكثر حرم وأن استويا فوجهان اختلف الترجيح فيهما عندهم والطريق الثاني أن الاعتبار
بالقلة والكثرة بالظهور وهذا اختيار القفال ومن تبعه وعند المالكية في المختلط أقوال ثالثها
الكراهة ومنهم من فرق بين الخز وبين المختلط بقطن ونحوه فأجاز الخز ومنع الآخر وهذا مبني
على تفسير الخز وقد تقدم في بعض تفاسير القسي أنه الخز فمن قال أنه ردئ الحرير فهو الذي يتنزل
عليه القول المذكور ومن قال أنه ما كان من وبر فخلط بحرير لم يتجه التفصيل المذكور واحتج
أيضا من أجاز لبس المختلط بحديث ابن عباس إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب
المصمت من الحرير فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به أخرجه الطبراني بسند حسن
هكذا وأصله عند أبي داود وأخرجه الحاكم بسند صحيح بلفظ إنما نهى عن المصمت إذا كان حريرا
وللطبراني من طريق ثالث نهى عن مصمت الحرير فأما ما كان سدا من قطن أو كتان فلا بأس به
واستدل ابن العربي للجواز أيضا بأن النهي عن الحرير حقيقة في الخالص والاذن في القطن ونحوه
صريح فإذا خلط بحيث لا يسمى حريرا بحيث لا يتناوله الاسم ولا تشمله علة التحريم خرج عن
الممنوع فجاز وقد ثبت لبس الخز عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال أبو داود لبسه عشرون نفسا
248

من الصحابة وأكثر وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جياد
وأعلى ما ورد في ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن سعد الدشتكي عن أبيه
قال رأيت رجلا على بغلة وعليه عمامة خز سوداء وهو يقول كسانيها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمار بن أبي عمار قال أتت مروان بن الحكم مطارف خز
فكساها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصح في تفسير الخز أنه ثياب سداها من حرير
ولحمتها من غيره وقيل تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه وقيل أصله اسم دابة يقال لها الخز
سمي الثوب المتخذ من وبره خزا لنعومته ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير وعلى هذا فلا
يصح الاستدلال بلبسه على جواز لبس ما يخالطه الحرير ما لم يتحقق أن الخز الذي لبسه السلف كان
من المخلوط بالحرير والله أعلم وأجاز الحنفية والحنابلة لبس الخز ما لم يكن فيه شهرة وعن مالك
الكراهة وهذا كله في الخز وأما القز بالقاف بدل الخاء المعجمة فقال الرافعي عد الأئمة القز من الحرير
وحرموه على الرجال ولو كان كمد اللون ونقل الامام الاتفاق عليه لكن حكى المتولي في التتمة
وجها أنه لا يحرم لأنه ليس من ثياب الزينة قال ابن دقيق العيد أن كان مراده بالقز ما نطلقه نحن
الآن عليه فليس يخرج عن اسم الحرير فيحرم ولا اعتبار بكمودة اللون ولا بكونه ليس من ثياب
الزينة فإن كلا منهما تعليل ضعيف لا أثر له بعد انطلاق الاسم عليه أه‍ كلامه ولم يتعرض لمقابل
التقسيم وهو وأن كان المراد به شيئا آخر فيتجه كلامه والذي يظهر أن مراده به ردئ الحرير وهو
نحو ما تقدم في الخز ولأجل ذلك وصفه بكمودة اللون والله أعلم (قوله باب ما يرخص
للرجال من الحرير للحكة) بكسر المهملة وتشديد الكاف نوع من الجرب أعاذنا الله تعالى منه
وذكر الحكة مثالا لا قيدا وقد ترجم له في الجهاد الحرير للجرب وتقدم أن الراجح أنه بالمهملة
وسكون الراء (قوله حدثني محمد) كذا للأكثر غير منسوب ووقع في رواية أبي علي بن السكن
حدثنا محمد بن سلام وبه جزم المزي في الأطراف (قوله عن أنس) وقع في رواية يحيى القطان عن
شعبة عن قتادة سمعت أنسا وقد تقدمت في الجهاد (قوله للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير
لحكة بهما) أي لأجل الحكة وفي رواية سعيد عن قتادة من حكة كانت بهما وفي رواية همام عن
قتادة أنهما شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل وقد تقدمتا في الجهاد وكأن الحكة نشأت من
أثر القمل وتقدمت مباحثه في كتاب الجهاد قال الطبري فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير
لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير انتهى ويلتحق بذلك ما يقي من الحر أو البرد
حيث لا يوجد غيره وقد تقدم في الجهاد أن بعض الشافعية خص الجواز بالسفر دون الحضر
واختاره ابن الصلاح وخصه النووي في الروضة مع ذلك بالحكة ونقله الرافعي في القمل أيضا
* (تنبيه) * وقع في الوسيط للغزالي أن الذي رخص له في لبس الحرير حمزة بن عبد المطلب وغلطوه
وفي وجه للشافعية أن الرخصة خاصة بالزبير وعبد الرحمن وقد تقدم في الجهاد عن عمر ما يوافقه
(قوله باب الحرير للنساء) كأنه لم يثبت عنده الحديثان المشهوران في تخصيص
النهي بالرجال صريحا فاكتفى بما يدل على ذلك وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن
حبان والحاكم من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال هذان
حرامان على ذكور أمتي حل لاناثهم وأخرج أبو داود والنسائي وصححه الترمذي والحاكم من
249

حديث أبي موسى وأعله ابن حبان وغيره بالانقطاع وأن رواية سعيد بن أبي هند لم تسمع من أبي
موسى وأخرج أحمد والطحاوي وصححه من حديث مسلمة بن مخلد أنه قال لعقبة بن عامر قم
فحدث بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعته يقول الذهب والحرير حرام على
ذكور أمتي حل لاناثهم قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إن قلنا إن تخصيص النهي للرجال لحكمة
فالذي يظهر أنه سبحانه وتعالى علم قلة صبرهن عن التزين فلطف بهن في إباحته ولان تزيينهن غالبا
إنما هو للأزواج وقد ورد أن حسن التبعل من الايمان قال ويستنبط من هذا أن الفحل لا يصلح له
أن يبالغ في استعمال الملذوذات لكون ذلك من صفات الإناث وذكر المصنف فيه ثلاثة
أحاديث * الحديث الأول (قوله عن عبد الملك بن ميسرة) بفتح الميم وتحتانية ساكنة ثم
مهملة هو الهلالي أبو زيد الزراد بزاي ثم راء ثقيلة وقد تقدم في النفقات من وجه آخر عن شعبة
أخبرني عبد الملك ولشعبة فيه إسناد آخر أخرجه مسلم من رواية معاذ عنه عن أبي عون الثقفي عن
أبي صالح الحنفي عن علي (قوله عن زيد بن وهب) كذا للأكثر وتقدم كذلك في الهبة والنفقات
وكذا عند مسلم ووقع في رواية علي بن السكن هنا وحده عن النزال بن سبرة بدل زيد بن وهب
وهو وهم كأنه انتقل من حديث إلي حديث لان رواية عبد الملك عن النزال عن علي إنما هي
في الشرب قائما كما تقدم في الأشربة وقد وافق الجماعة في الموضعين الآخرين وزيد بن وهب هو
الجهني الثقة المشهور من كبار التابعين وما له في البخاري عن علي سوى هذا الحديث وتقدم
في الهبة بلفظ سمعت زيد بن وهب (قوله أهدى) (1) بفتح أوله (قوله إلى) بتشديد الياء ووقع
في رواية أبي صالح المذكورة أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة فبعث بها إلى ولمسلم أيضا
من وجه آخر عن أبي صالح عن علي أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير
فأعطاه عليا وفي رواية للطحاوي أهدى أمير أذربيجان إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة
بحرير وسنده ضعيف (قوله حلة سيراء) قال أبو عبيد الحلل برود اليمن والحلة إزار ورداء ونقله
ابن الأثير وزاد إذا كان من جنس واحد وقال ابن سيده في المحكم الحلة برد أو غيره وحكى عياض
أن أصل تسمية الثوبين حلة أنهما يكونان جديدين كما حل طيهما وقيل لا يكون الثوبان
حلة حتى يلبس أحدهما فوق الآخر فإذا كان فوقه فقد حل عليه والأول أشهر والسيراء بكسر
المهملة وفتح التحتانية والراء مع المد قال الخليل ليس في الكلام فعلاء بكسر أوله مع المد سوى
سيراء وحولاء وهو الماء الذي يخرج على رأس الولد وعنباء لغة في العنب قال مالك هو الوشي من
الحرير كذا قال والوشي بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها تحتانية وقال الأصمعي ثياب فيها خطوط
من حرير أو قز وإنما قيل لها سيراء لتسيير الخطوط فيها وقال الخليل ثوب مضلع بالحرير وقيل مختلف
الألوان فيه خطوط ممتدة كأنها السيور ووقع عند أبي داود في حديث أنس أنه رأى على
أم كلثوم حلة سيراء والسيراء المضلع بالقز وقد جزم ابن بطال كما سيأتي في ثالث أحاديث الباب أنه
من تفسير الزهري وقال ابن سيده هو ضرب من البرود وقيل ثوب مسير فيه خطوط يعمل من
القز وقيل ثياب من اليمن وقال الجوهري برد فيه خطوط صفر ونقل عياض عن سيبويه قال
لم يأت فعلاء صفة لكن اسما وهو الحرير الصافي واختلف في قوله حلة سيراء هل هو بالإضافة أو لا
فوقع عند الأكثر بتنوين حلة على أن سيراء عطف بيان أو نعت وجزم القرطبي بأنه الرواية وقال
250

الخطابي قالوا حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء ونقل عياض عن أبي مروان بن السراج أنه
بالإضافة قال عياض وكذا ضبطناه عن متقني شيوخنا وقال النووي أنه قول المحققين ومتقني
العربية وأنه من إضافة الشئ لصفته كما قالوا ثوب خز (قوله فخرجت فيها) في رواية أبي صالح عن
علي فلبستها (قوله فرأيت الغضب في وجهه) زاد مسلم في رواية أبي صالح فقال أني لم أبعث بها
إليك لتلبسها إنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء وله في أخرى شققها خمرا بين الفواطم
(قوله فشققتها بين نسائي) أي قطعتها ففرقتها عليهن خمرا والخمر بضم المعجمة والميم جمع خمار بكسر
أوله والتخفيف ما تغطي به المرأة رأسها والمراد بقوله نسائي ما فسره في رواية أبي صالح حيث قال
بين الفواطم ووقع في رواية النسائي حيث قال فرجعت إلى فاطمة فشققتها فقالت ماذا جئت به
قلت نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبسها فالبسيها وأكسي نساءك وفي هذه الرواية أن
عليا إنما شققها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد بن قتيبة المراد بالفواطم فاطمة بنت
النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد بن هاشم والدة علي ولا أعرف الثالثة وذكر أبو منصور
الأزهري أنها فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب وقد أخرج الطحاوي وابن أبي الدنيا في كتاب
الهدايا وعبد الغني بن سعيد في المبهمات وابن عبد البر كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن أبي
فاختة عن هبيرة بن يريم بتحتانية أوله ثم راء وزن عظيم عن علي في نحو هذه القصة قال فشققت
منها أربعة أخمرة فذكر الثلاث المذكورات قال ونسي يزيد الرابعة وفي رواية الطحاوي خمارا
لفاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي وخمارا لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وخمارا لفاطمة
بنت حمزة بن عبد المطلب وخمارا لفاطمة أخرى قد نسيتها فقال عياض لعلها فاطمة امرأة عقيل
ابن أبي طالب وهي بنت شيبة بن ربيعة وقيل بنت عتبة بن ربيعة وقيل بنت الوليد بن عتبة وامرأة
عقيل هذه هي التي لما تخاصمت مع عقيل بعث عثمان معاوية وابن عباس حكمين بينهما ذكره
مالك في المدونة وغيره واستدل بهذا الحديث على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لان
النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الحلة إلى علي فبنى علي على ظاهر الارسال فانتفع بها في أشهر
ما صنعت له وهو اللبس فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبح له لبسها وإنما بعث بها إليه
ليكسوها غيره ممن تباح له وهذا كله أن كانت القصة وقعت بعد النهي عن لبس الرجال الحرير
وسيأتي مزيد لهذا في الحديث الذي بعده * الحديث الثاني (قوله جويرية) بالجيم والراء مصغر
وبعد الراء تحتانية مفتوحة (قوله عن عبد الله) هو ابن عمر (قوله أن عمر رأى حلة سيراء) هكذا
رواه أكثر أصحاب نافع وأخرجه النسائي من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن
عمر عن عمر أنه رأى حلة فجعله في مسند عمر قال الدارقطني المحفوظ أنه من مسند ابن عمر وسيراء
تقدم ضبطها وتفسيرها في الحديث الذي قبله ووقع في رواية مالك عن نافع كما تقدم في كتاب
الجمعة أن ذلك كان على باب المسجد وفي رواية ابن إسحاق عن نافع عند النسائي أن عمر كان مع
النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فرأى الحلة ولا تخالف بين الروايتين لان طرف السوق كان
يصل إلى قرب باب المسجد (قوله تباع) في رواية جرير بن حازم عن نافع عند مسلم رأى عمر
عطاردا التميمي يقيم حلة بالسوق وكان رجلا يغشى الملوك ويصيب منهم وأخرج الطبراني
من طريق أبي مجلز عن حفصة بنت عمر أن عطارد بن حاجب جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى
251

فقال عمر ألا أشتريه لك يا رسول الله ومن طريق عبد الرحمن بن عمرو بن معاذ عن عطارد نفسه أنه
أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى والجمع بينهما أن عطاردا لما أقامه
في السوق ليباع لم يتفق له بيعه فأهداه للنبي صلى الله عليه وسلم وعطارد هذا هو ابن حاجب بن
زرارة بن عدس بمهملات الدارمي يكنى أبا عكرشة بشين معجمة كان من جملة وفد بني تميم أصحاب
الحجرات وقد أسلم وحسن إسلامه واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه وكان
أبوه من رؤساء بني تميم في الجاهلية وقصته مع كسرى في رهنه قوسه عوضا عن جمع كثير من العرب
عند كسرى مشهورة حتى ضرب المثل بقوس حاجب (قوله لو ابتعتها فلبستها) في رواية سالم
عن ابن عمر كما تقدم في العيدين ابتع هذه فتجمل بها وكان عمر أشار بشرائها وتمناه (قوله للوفد
إذا أتوك) في رواية جرير بن حازم لوفود العرب وكأنه خصه بالعرب لانهم كانوا إذ ذاك الوفود
في الغالب لان مكة لما فتحت بادر العرب بإسلامهم فكان كل قبيلة ترسل كبراءها ليسلموا ويتعلموا
ويرجعوا إلى قومهم فيدعوهم إلى الاسلام ويعلموهم (قوله والجمعة) في رواية سالم العيد
بدل الجمعة وجمع ابن إسحاق عن نافع ما تضمنته الروايتان أخرجه النسائي بلفظ فتجمل بها لوفود
العرب إذا أتوك وإذا خطبت الناس في يوم عيد وغيره (قوله إنما يلبس هذه) في رواية جرير بن
حازم إنما يلبس الحرير (قوله من لا خلاق له) زاد مالك في روايته في الآخرة والخلاق النصيب
وقيل الحظ وهو المراد هنا ويطلق أيضا على الحرمة وعلى الدين ويحتمل أن يراد من لا نصيب له
في الآخرة أي من لبس الحرير قاله الطيبي وقد تقدم في حديث أبي عثمان عن عمر في أول حديث
من باب لبس الحرير ما يؤيده ولفظه لا يلبس الحرير إلا من لبس له في الآخرة منه شئ (قوله وأن
النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى عمر حلة سيراء) زاد الإسماعيلي من هذا الوجه بحلة
سيراء من حرير ومن بيانية وهو يقتضي أن السيراء قد تكون من غير حرير (قوله كساها إياه
كذا أطلق وهي باعتبار ما فهم عمر من ذلك وإلا فقد ظهر من بقية الحديث أنه لم يبعث إليه بها
ليلبسها أو المراد بقوله كساه أعطاه ما يصلح أن يكون كسوة في رواية مالك الماضية في الجمعة ثم
جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر حلة وفي رواية جرير بن حازم فلما كان
بعد ذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وبعث إلى أسامة بن
زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وعرف بهذا جهة الحلة المذكورة في حديث علي
المذكور أولا (قوله فقال عمر كسوتنيها وقد سمعتك تقول فيها ما قلت) في رواية جرير بن حازم فجاء
عمر بحلته يحملها فقال بعثت إلى بهذه وقد قلت بالأمس في حلة عطارد ما قلت والمراد بالأمس هنا
يحتمل الليلة الماضية أو ما قبلها بحسب ما اتفق من وصول الحلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد
قصة حلة عطارد وفي رواية محمد بن إسحاق فخرجت فزعا فقلت يا رسول الله ترسل بها إلي وقد قلت
فيها ما قلت (قوله انما بعثت بها إليك لتبيعها أو تكسوها) في رواية جرير لتصيب بها
وفي رواية الزهري عن سالم كما مضى في العيدين تبيعها وتصيب بها حاجتك وفي رواية يحيى بن إسحاق
عن سالم كما سيأتي في الأدب لتصيب بها ما لا وزاد مالك في آخر الحديث فكساها عمر أخا له
بمكة مشركا زاد في رواية عبيد الله بن عمر العمري عند النسائي أخا له من أمه وتقدم في البيوع من
طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمر فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم قال النووي
252

هذا يشعر بأنه أسلم بعد ذلك (قلت) ولم أقف على تسمية هذا الأخ إلا فيما ذكره ابن بشكوال
في المبهمات نقلا عن ابن الحذاء في رجال الموطأ فقال اسمه عثمان بن حكيم قال الدمياطي هو
السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص قال وهو أخو زيد بن الخطاب لامه فمن
أطلق عليه أنه أخو عمر لامه لم يصب (قلت) بل له وجه بطريق المجاز ويحتمل أن يكون عمر ارتضع
من أم أخيه زيد فيكون عثمان أخا عمر لامه من الرضاع وأخا زيد لامه من النسب وأفاد ابن سعد
أن والدة سعيد بن المسيب هي أم سعيد بن عثمان بن الحكم ولم أقف على ذكره في الصحابة فإن كان أسلم
فقد فاتهم فليستدرك وإن كان مات كافرا وكان قوله قبل أن يسلم لا مفهوم له بل المراد أن البعث
إليه كان في حال كفره مع قطع النظر عما وراء ذلك فلتعد بنته في الصحابة وفي حديث جابر الذي أوله
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في قباء حرير ثم نزعه فقال نهاني عنه جبريل كما تقدم التنبيه عليه
في أوائل كتاب الصلاة زيادة عند النسائي وهي فأعطاه لعمر فقال لم أعطكه لتلبسه بل لتبيعه فباعه
عمر وسنده قوي وأصله في مسلم فإن كان محفوظا أمكن أن يكون عمر باعه بإذن أخيه بعد أن
أهداه له والله أعلم * (تنبيه) * وجه إدخال هذا الحديث في باب الحرير للنساء يؤخذ من قوله
لعمر لتبيعها أو تكسوها لان الحرير إذا كان لبسه محرما على الرجال فلا فرق بين عمر وغيره من
الرجال في ذلك فينحصر الاذن من النساء وأما كون عمر كساها أخاه فلا يشكل على ذلك عند من
يرى أن الكافر مخاطب بالفروع ويكون أهدى عمر الحلة لأخيه ليبيعها أو يكسوها امرأة
ويمكن من يرى أن الكافر غير مخاطب أن ينفصل عن هذا الاشكال بالتمسك بدخول النساء
في عموم قوله أو يكسوها أي إما للمرأة أو للكافر بقرينة قوله إنما يلبس هذا من لا خلاق له أي
من الرجال ثم ظهر لي وجه آخر وهو أنه أشار إلى ما ورد في بعض طرق الحديث المذكورة فقد
أخرج الحديث المذكور الطحاوي من رواية أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر قال أبصر
رسول الله صلى الله عليه وسلم على عطارد حلة فكرهها له ثم أنه كساها عمر مثله الحديث وفيه أني
لم أكسكها لتلبسها إنما أعطيتكها لتلبسها النساء واستدل به على جواز لبس المرأة الحرير
الصرف بناء على أن الحلة السيراء هي التي تكون من حرير صرف قال ابن عبد البر هذا قول
أهل العلم وأما أهل اللغة فيقولون هي التي يخالطها الحرير قال والأول هو المعتمد ثم ساق من
طريق محمد بن سيرين عن ابن عمر نحو حديث الباب وفيه حلة من حرير وقال ابن بطال دلت
طرق الحديث على أن الحلة المذكورة كانت من حرير محض ثم ذكر من طريق أيوب عن نافع عن
ابن عمر أن عمر قال يا رسول الله أني مررت بعطارد يعرض حلة حرير للبيع الحديث أخرجه
أبو عوانة والطبري بهذا اللفظ (قلت) وتقدم في البيوع من طريق أبي بكر بن حفص عن سالم بن
عبد الله بن عمر عن أبيه حلة حرير أو سيراء وفي العيدين من طريق الزهري عن سالم حلة من
استبرق وقد فسر الاستبرق في طريق أخرى بأنه ما غلظ من الديباج أخرجه المصنف في الأدب من
طريق يحيى بن إسحاق قال سألني سالم عن الاستبرق فقلت ما غلظ من الديباج فقال سمعت عبد الله
ابن عمر فذكر الحديث ووقع عند مسلم من حديث أنس في نحو هذه القصة حلة من سندس قال
النووي هذه الألفاظ تبين أن الحلة كانت حريرا محضا (قلت) الذي يتبين أن السيراء قد تكون حريرا
صرفا وقد تكون غير محض فالتي في قصة عمر جاء التصريح بأنها كانت من حرير محض ولهذا وقع
253

في حديثه إنما يلبس هذه من لا خلاق له والتي في قصة علي لم تكن حريرا صرفا لما روى ابن أبي
شيبة من طريق أبي فاختة عن هبيرة بن يريم عن علي قال أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
حلة مسيرة بحرير إما سداها أو لحمتها فأرسل بها إلي فقلت ما أصنع بها ألبسها قال لا أرضى لك
إلا ما أرضى لنفسي ولكن اجعلها خمرا بين الفواطم وقد أخرجه أحمد وابن ماجة من طريق ابن إسحاق
عن هبيرة فقال فيه حلة من حرير وهو محمول على رواية أبي فاختة وهو بفاء ومعجمة ثم مثناة
اسمه سعيد بن علاقة بكسر المهملة وتخفيف اللام ثم قاف ثقة ولم يقع في قصة علي وعيد على لبسها
كما وقع في قصة عمر بل فيه لا أرضى لك إلا ما أرضى لنفسي ولا ريب أن ترك لبس ما خالطه الحرير
أولى من لبسه عند من يقول بجوازه والله أعلم * الحديث الثالث حديث أنس أنه رأى على
أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم برد حرير سيراء هكذا وقع في رواية شعيب عن الزهري
ووافقه الزبيدي كما تقدمت الإشارة إليه في باب مس الحرير من غير لبس وأخرجه النسائي من رواية
ابن جريج عن الزهري كالأول ومن طريق معمر عن الزهري نحوه لكن قال زينب بدل أم كلثوم
والمحفوظ ما قال الأكثر وقد غفل الطحاوي فقال أن كان أنس رأى ذلك في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم فيعارض حديث عقبة يعني الذي أخرجه النسائي وصححه ابن حبان أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يمنع أهله الحرير والحلة وإن كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على نسخ حديث
عقبة كذا قال وخفي عليه أن أم كلثوم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك زينب فبطل
التردد وأما دعوى المعارضة فمردودة وكذا النسخ والجمع بينهما واضح يحمل النهي في حديث
عقبة على التنزيه وإقرار أم كلثوم على ذلك أما لبيان الجواز وإما لكونها كانت إذ ذاك صغيرة
وعلى هذا التقدير فلا إشكال في رواية أنس لها وعلى تقدير أن تكون كانت كبيرة فيحمل على
أن ذلك كان قبل الحجاب أو بعده لكن لا يلزم من رؤية الثوب على اللابس رؤية اللابس فلعله رأى
ذيل القميص مثلا ويحتمل أيضا أن السيراء التي كانت على أم كلثوم كانت من غير الحرير الصرف
كما تقدم في حلة علي والله أعلم واستدل بأحاديث الباب على جواز لبس الحرير للنساء سواء كان
الثوب حريرا كله أو بعضه وفي الأول عرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج
إليه من مصالحه ممن يظن أنه لم يطلع عليه وفيه إباحة الطعن لمن يستحقه وفيه جواز البيع
والشراء على باب المسجد وفيه مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء وقال ابن بطال فيه
ترك النبي صلى الله عليه وسلم لباس الحرير وهذا في الدنيا وإرادة تأخير الطيبات إلى الآخرة التي
لا انقضاء لها إذ تعجيل الطيبات في الدنيا ليس من الحزم فزهد في الدنيا للآخرة وأمر بذلك ونهى
عن كل سرف وحرمه وتعقبه ابن المنير بان تركه صلى الله عليه وسلم لبس الحرير إنما هو لاجتناب
المعصية وأما الزهد فإنما هو في خالص الحلال ومالا عقوبة فيه فالتقلل منه وتركه مع الامكان هو
الذي تتفاضل فيه درجات الزهاد (قلت) ولعل مراد ابن بطال بيان سبب التحريم فيستقيم
ما قاله وفيه جواز بيع الرجال الثياب الحرير وتصرفهم فيها بالهبة والهدية لا اللبس وفيه جواز
صلة القريب الكافر والاحسان إليه بالهدية وقال ابن عبد البر فيه جواز الهدية للكافر
ولو كان حربيا وتعقب بأن عطاردا إنما وفد سنة تسع ولم يبق بمكة بعد الفتح مشرك وأجيب بأنه
لا يلزم من كون وفادة عطارد سنة تسع أن تكون قصة الحلة كانت حينئذ بل جاز أن تكون قبل
254

ذلك وما زال المشركون يقدمون المدينة ويعاملون المسلمين بالبيع وغيره وعلى تقدير أن يكون
ذلك سنة الوفود فيحتمل أن يكون في المدة التي كانت بين الفتح وحج أبي بكر فإن منع المشركين من
مكة إنما كان من حجة أبي بكر سنة تسع ففيها وقع النهي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف
بالبيت عريان واستدل به على أن الكافر ليس مخاطبا بالفروع لان عمر لما منع من لبس الحلة
أهداها لأخيه المشرك ولم ينكر عليه وتعقب بأنه لم يأمر أخاه بلبسها فيحتمل أن يكون وقع الحكم
في حقه كما وقع في حق عمر فينتفع بها بالبيع أو كسوة النساء ولا يلبس هو وأجيب بأن المسلم عنده
من الوازع الشرعي ما يحمله بعد العلم بالنهي عن الكف بخلاف الكافر فإن كفره يحمله على عدم
الكف عن تعاطي المحرم فلولا أنه مباح له لبسه لما أهدي له لما في تمكينه منه من الإعانة على
المعصية ومن ثم يحرم بيع العصير ممن جرت عادته أن يتخذه خمرا وأن احتمل أنه قد يشربه عصيرا
وكذا بيع الغلام الجميل ممن يشتهر بالمعصية لكن يحتمل أن يكون ذلك كان على أصل الإباحة
وتكون مشروعية خطاب الكافر بالفروع تراخت عن هذه الواقعة والله أعلم (قوله
باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط) معنى قوله يتجوز يتوسع
فلا يضيق بالاقتصار على صنف بعينه أولا يضيق بطلب النفيس والغالي بل يستعمل ما تيسر ووقع
في رواية الكشميهني يتجزى بجيم وزاي أيضا لكنها ثقيلة مفتوحة بعدها ألف وهي أوضح والبسط
بفتح الموحدة ما يبسط ويجلس عليه وذكر فيه حديثين * أحدهما حديث ابن عباس في قصة
المرأتين اللتين تظاهرتا وقد تقدم شرحه في الطلاق مستوفى والغرض منه نومه صلى الله عليه
وسلم على حصير وتحت رأسه مرفقة حشوها ليف وقوله في هذه الرواية مرفقة بكسر أوله وسكون
الراء وفتح الفاء بعدها قاف ما يرتفق به وقد تقدم في الرواية الأخرى بلفظ وسادة وقوله فما شعرت
بالأنصاري وهو يقول قد حدث أمر في رواية الكشميهني فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول
وفي نسخة عنه فما شعرت بالأنصاري إلا وهو يقول قال الكرماني سقط حرف الاستثناء من
جل النسخ بل من كلها وهو مقدر والقرينة تدل عليه أو ما زائدة والتقدير شعرت بالأنصاري وهو
يقول أو ما مصدرية وتكون هي المبتدأ وبالأنصاري الخبر أي شعوري متلبس بالأنصاري قائلا
(قلت) ويحتمل أن تكون ما نافية على حالها بغير احتياج لحرف الاستثناء والمراد المبالغة في نفي
شعوره بكلام الأنصاري من شدة ما دهمه من الخبر الذي أخبر به ويكون قد استثبته فيه مرة
أخرى ولذلك نقله عنه لكن رواية الكشميهني ترجح الاحتمال الأول وتوضح أن قول الكرماني بل
255

كلها ليس كذلك وقوله وعلى باب المشربة وصيف بمهملة وفاء وزن عظيم هو الغلام دون البلوغ
وقد يطلق على من بلغ الخدمة يقال وصف الغلام بالضم وصافة وقول عمر فتقدمت إليها في أذاه
أي أنذرتها من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقع من العقوبة بسبب أذاه * الحديث
الثاني (قوله كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) قال ابن بطال قرن النبي صلى الله عليه
وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنها تسبب عنها وإلى أن القصد في الامر خير من الاكثار
وأسلم من الفتنة ومطابقة حديث أم سلمة هذا للترجمة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حذر من
لباس الرقيق من الثياب الواصفة لأجسامهن لئلا يعرين في الآخرة وفيما حكاه الزهري عن هند
ما يؤيد ذلك قال وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا
حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره أه‍ وهو مبنى على أحد الأقوال
في تفسير المراد بقوله كاسية عارية كما سيأتي بيانه في كتاب الفتن ويحتمل أن يكون الحديثان دالين
على الترجمة بالتوزيع فحديث عمر مطابق للبسط وحديث أم سلمة مطابق للباس والمراد بقوله يتجزى
أي فيما يتعلق بنفسه وبأهله (قوله قال الزهري وكانت هند لها أزرار في كميها بين أصابعها) هو
موصول بالاسناد المذكور إلى الزهري وقوله أزرار وقع للأكثر وفي رواية أبي أحمد الجرجاني
أزار براء واحدة وهو غلط والمعنى أنها كانت تخشي أن يبدو من جسدها شئ بسبب سعة كميها
فكانت تزرر ذلك لئلا يبدو منه شئ فتدخل في قوله كاسية عارية (قوله باب
ما يدعي لمن لبس ثوبا جديدا) كأنه لم يثبت عنده حديث ابن عمر قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم
على عمر ثوبا فقال ألبس جديدا وعش حميدا ومت شهيدا أخرجه النسائي وابن ماجة وصححه ابن
حبان وأعله النسائي وجاء أيضا فيما يدعو به من لبس الثوب الجديد أحاديث منها ما أخرجه
أبو داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي سعيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء ثم يقول اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره
وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له وأخرج الترمذي وابن ماجة وصححه الحاكم
من حديث عمر رفعه من لبس ثوبا جديدا فقال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به
في حياتي ثم عمد إلى الثوب الذي أخلق فتصدق به كان في حفظ الله وفي كنف الله حيا وميتا
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث معاذ بن أنس رفعه من لبس ثوبا فقال الحمد لله الذي
كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وحديث أم خالد بنت
سعيد المذكور في هذا الباب تقدم شرحه في باب الخميصة السوداء قريبا وتقدم بيان الاختلاف
في قوله صلى الله عليه وسلم لها أبلى واخلقي هل بالقاف أو الفاء وقوله فيه خميصة سوداء لا ينافي
ما وقع في كتاب الجهاد أنه كان عليها قميص أصفر لان القميص كان عليها لما جئ بها والخميصة هي
التي كسيتها وقوله في آخره قال إسحق هو ابن سعيد راوي الحديث عن أبيه وهو موصول بالسند
المذكور وقوله حدثتني امرأة من أهلي لم أقف على اسمها وقوله أنها رأته على أم خالد أي الثوب
ويستفاد من ذلك أنه بقي زمانا طويلا وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحا في باب الخميصة (قوله
باب النهي عن التزعفر للرجال) أي في الجسد لأنه ترجم بعده باب الثوب المزعفر وقيده
بالرجل ليخرج المرأة (قوله عن عبد العزيز) هو ابن صهيب (قوله أن يتزعفر الرجل) كذا
256

رواه عبد الوارث وهو ابن سعيد مقيدا ووافقه إسماعيل بن علية وحماد بن زيد عند مسلم وأصحاب
السنن ووقع في رواية حماد بن زيد نهى عن التزعفر للرجال ورواه شعبة عن ابن علية عند النسائي
مطلقا فقال نهى عن التزعفر وكأنه اختصره وإلا فقد رواه عن إسماعيل فوق العشرة من الحفاظ
مقيدا بالرجل ويحتمل أن يكون إسماعيل اختصره لما حدث به شعبة والمطلق محمول على المقيد
ورواية شعبة عن إسماعيل من رواية الأكابر عن الأصاغر واختلف في النهي عن التزعفر هل هو
لرائحته لكونه من طيب النساء ولهذا جاء الزجر عن الخلوق أو للونه فيلتحق به كل صفرة وقد نقل
البيهقي عن الشافعي أنه قال أنهى الرجل الحلال بكل حال أن يتزعفر وآمره إذا تزعفر أن يغسله
قال وأرخص في المعصفر لأنني لم أجد أحدا يحكي عنه إلا ما قال علي نهاني ولا أقول أنهاكم قال
البيهقي قد ورد ذلك عن غير علي وساق حديث عبد الله بن عمر وقال رأى علي النبي صلى الله
عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما أخرجه مسلم وفي لفظ له
فقلت أغسلهما قال لا بل أحرقهما قال البيهقي فلو بلغ ذلك الشافعي لقال به اتباعا للسنة كعادته
وقد كره المعصفر جماعة من السلف ورخص فيه جماعة وممن قال بكراهته من أصحابنا الحليمي
واتباع السنة هو الأولى أه‍ وقال النووي في شرح مسلم أتقن البيهقي المسئلة والله أعلم ورخص
مالك في المعصفر والمزعفر في البيوت وكرهه في المحافل وسيأتي قريبا حديث ابن عمر في الصفرة
وتقدم في النكاح حديث أنس في قصة عبد الرحمن بن عوف حين تزوج وجاء إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وعليه أثر صفرة وتقدم الجواب عن ذلك بأن الخلوق كان في ثوبه علق به من المرأة ولم
يكن في جسده والكراهة لمن تزعفر في بدنه أشد من الكراهة لمن تزعفر في ثوبه وقد أخرج
أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى من طريق سلم العلوي عن أنس دخل رجل
على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة فكره ذلك وقلما كان يواجه أحدا بشئ يكرهه فلما
قام قال لو أمرتم هذا أن يترك هذه الصفرة وسلم بفتح المهملة وسكون اللام فيه لين ولأبي داود من
حديث عمار رفعه لا تحضر الملائكة جنازة كافر ولا مضمخ بالزعفران وأخرج أيضا من حديث
عمار قال قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي فخلقوني بزعفران فسلمت على النبي صلى الله
عليه وسلم فلم يرحب بي وقال أذهب فاغسل عنك هذا (قوله باب الثوب المزعفر)
ذكر فيه حديث ابن عمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس
أو زعفران كذا أورده مختصرا وقد تقدم مطولا مشروحا في كتاب الحج وقد أخذ من التقييد
بالمحرم جواز لبس الثوب المزعفر للحلال قال ابن بطال أجاز مالك وجماعة لباس الثوب المزعفر
للحلال وقالوا إنما وقع النهي عنه للمحرم خاصة وحمله الشافعي والكوفيون على المحرم وغير المحرم
وحديث ابن عمر الآتي في باب النعال السبتية يدل على الجواز فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصبغ بالصفرة وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن جعفر قال رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران وفي سنده عبد الله بن مصعب الزبيري وفيه ضعف
وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صبغ إزاره ورداؤه بز عفران
وفيه روى مجهول ومن المستغرب قول ابن العربي لم يرد في الثوب الأصفر حديث وقد ورد فيه عدة
أحاديث كما ترى قال المهلب الصفرة أبهج الألوان إلى النفس وقد أشار إلى ذلك ابن عباس في قوله
257

تعالى صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (قوله باب الثوب الأحمر) ذكر فيه حديث البراء
كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعا ورأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه وقد تقدم
في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أتم سياقا من هذا (قوله عن أبي إسحق) هو السبيعي (سمع البراء)
هو ابن عازب كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحق وخالفهم أشعث فقال عن أبي إسحق عن جابر بن
سمرة أخرجه النسائي وأعله الترمذي وحسنه ونقل عن البخاري أنه قال حديث أبي إسحق عن
البراء وعن جابر بن سمرة صحيحان وصححه الحاكم وقد تقدم حديث أبي جحيفة قريبا ويأتي وفيه
حلة حمراء أيضا ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
يخطب بمنى على بعير وعليه برد أحمر وإسناده حسن وللطبراني بسند حسن عن طارق المحاربي
نحوه لكن قال بسوق ذي المجاز وتقدم في باب التزعفر ما يتعلق بالمعصفر فإن غالب ما يصبغ
بالعصفر يكون أحمر وقد تلخص لنا من أقوال السلف في لبس الثوب الأحمر سبعة أقوال * الأول
الجواز مطلقا جاء عن علي وطلحة وعبد الله بن جعفر والبراء وغير واحد من الصحابة وعن سعيد
ابن المسيب والنخعي والشعبي وأبي قلابة وأبي وائل وطائفة من التابعين * القول الثاني المنع
مطلقا لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو وما نقله البيهقي وأخرج ابن ماجة من حديث
ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقدم وهو بالفاء وتشديد الدال وهو المشبع
بالعصفر فسره في الحديث وعن عمر أنه كان إذا رأى على الرجل ثوبا معصفرا جذبه وقال دعوا
هذا للنساء أخرجه الطبري وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل الحسن الحمرة من زينة الشيطان
والشيطان يحب الحمرة وصله أبو علي بن السكن وأبو محمد بن عدي ومن طريق البيهقي في الشعب
من رواية أبي بكر الهذلي وهو ضعيف عن الحسن عن رافع بن يزيد الثقفي رفعه أن الشيطان
يحب الحمرة وإياكم والحمرة وكل ثوب ذي شهرة وأخرجه ابن منده وأدخل في رواية له بين الحسن
ورافع رجلا فالحديث ضعيف وبالغ الجوزقاني فقال أنه باطل وقد وقفت على كتاب الجوزقاني
المذكور وترجمه بالأباطيل وهو بخط ابن الجوزي وقد تبعه على ما ذكر في أكثر كتابه في
الموضوعات لكنه لم يوافقه على هذا الحديث فإنه ما ذكره في الموضوعات فأصاب وعن عبد الله
ابن عمرو قال مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل وعليه ثوبان أحمران فسلم عليه فلم يرد عليه النبي
صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وقال لا نعلمه إلا بهذا الاسناد وفيه
أبو يحيى القتات مختلف فيه وعن رافع بن خديج قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سفر فرأى على رواحلنا أكسية فيها خطوط عهن حمر فقال ألا أرى هذه الحمرة قد غلبتكم
قال فقمنا سراعا فنزعناها حتى نفر بعض إبلنا أخرجه أبو داود وفي سنده روى لم يسم وعن
امرأة من بني أسد قالت كنت عند زينب أم المؤمنين ونحن نصبغ ثيابا لها بمغرة إذ طلع النبي صلى
الله عليه وسلم فلما رأى المغرة رجع فلما رأت ذلك زينب غسلت ثيابها ووارت كل حمرة فجاء فدخل
أخرجه أبو داود وفي سنده ضعف * القول الثالث يكره لبس الثوب المشبع بالحمرة دون ما كان
صبغه خفيفا جاء ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد وكأن الحجة فيه حديث ابن عمر المذكور قريبا
في المقدم * القول الرابع يكره لبس الأحمر مطلقا لقصد الزينة والشهوة ويجوز في البيوت
والمهنة جاء ذلك عن ابن عباس وقد تقدم قول مالك في باب التزعفر * القول الخامس يجوز
258

لبس ما كان صبغ غزله ثم نسج ويمنع ما صبغ بعد النسج جنح إلى ذلك الخطابي واحتج بأن الحلة
الواردة في الأخبار الواردة في لبسه صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء إحدى حلل اليمن وكذلك البرد
الأحمر وبرود اليمن يصبغ غزلها ثم ينسج * القول السادس اختصاص النهي بما يصبغ بالمعصفر
لورود النهي عنه ولا يمنع ما صبغ بغيره من الاصباغ ويعكر عليه حديث المغيرة المتقدم * القول
السابع تخصيص المنع بالثوب الذي يصبغ كله وأما ما فيه لون آخر غير الأحمر من بياض وسواد
وغيرهما فلا وعلى ذلك تحمل الأحاديث الواردة في الحلة الحمراء فإن الحلل اليمانية غالبا تكون
ذات خطوط حمر وغيرها قال ابن القيم كان بعض العلماء يلبس ثوبا مشبعا بالحمرة يزعم أنه يتبع
السنة وهو غلط فإن الحلة الحمراء من برود اليمن والبرد لا يصبغ أحمر صرفا كذا قال وقال الطبري
بعد أن ذكر غالب هذه الأقوال الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون إلا أني لا أحب لبس
ما كان مشبعا بالحمرة ولا لبس الأحمر مطلقا ظاهرا فوق الثياب لكونه ليس من لباس أهل المرؤة
في زماننا فإن مراعاة زي الزمان من المرؤة ما لم يكن إثما وفي مخالفة الزي ضرب من الشهرة
وهذا يمكن أن يلخص منه قول ثامن والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من
أجل أنه لبس الكفار فالقول فيه كالقول في الميثرة الحمراء كما سيأتي وإن كان من أجل أنه زي النساء
فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء فيكون النهي عنه لا لذاته وإن كان من أجل الشهرة
أو خرم المرؤة فيمنع حيث يقع ذلك وإلا فيقوى ما ذهب إليه مالك من التفرقة بين المحافل والبيوت
(قوله باب الميثرة الحمراء) ذكر فيه حديث سفيان وهو الثوري عن أشعث
وهو ابن أبي الشعثاء عن معاوية بن سويد عن البراء قال أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع
الحديث وفي آخره وعن لبس الحرير والديباج والاستبرق والمياثر الحمر فالحرير قد سبق القول فيه
والديباج والاستبرق صنفان نفيسان منه وأما المياثر فهي جمع ميثرة تقدم ضبطها في باب لبس
القسي وقد أخرج أحمد والنسائي وأصله عند أبي داود بسند صحيح عن علي قال نهى عن المياثر
الأرجوان هكذا عندهم بلفظ نهى على البناء للمجهول وهو محمول على الرفع وقد أخرج أحمد
وأصحاب السنن وصححه ابن حبان من طريق هبيرة بن يريم بتحتانية أوله وزن عظيم عن علي قال
نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب وعن لبس القسي والميثرة الحمراء قال
أبو عبيد المياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير وقال
الطبري هي وعاء يوضع على سرج الفرس أو رحل البعير من الأرجوان وحكى في المشارق قولا
أنها سروج من ديباج وقولا أنها أغشية للسروج من حرير وقول أنها تشبه المخدة تحشى بقطن
أو ريش يجعلها الراكب تحته وهذا يوافق تفسير الطبري والأقوال الثلاثة يحتمل أن لا تكون
متخالفة بل الميثرة تطلق على كل منها وتفسير أبي عبيد يحتمل الثاني والثالث وعلى كل تقدير
فالمثيرة وإن كانت من حرير فالنهي فيها كالنهي عن الجلوس على الحرير وقد تقدم القول فيه
ولكن تقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير فيمتنع إن كانت حريرا ويتأكد المنع إن كانت
مع ذلك حمراء وإن كانت من غير حرير فالنهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم قال ابن بطال كلام
الطبري يقتضي التسوية في المنع من الركوب عليه سواء كانت من حرير أم من غيره فكان النهي
عنها إذا لم يكن من حرير للتشبه أو للسرف أو التزين وبحسب ذلك تفصيل الكراهة بين التحريم
259

والتنزيه وأما تقييدها بالحمرة فمن يحمل المطلق على المقيد وهم الأكثر يخص المنع بما كان أحمر
والأرجوان المذكور في الرواية التي أشرت إليها بضم الهمزة والجيم بينهما راء ساكنة ثم واو
خفيفة وحكى عياض ثم القرطبي فتح الهمزة وأنكره النووي وصوب أن الضم هو المعروف
في كتب الحديث واللغة والغريب واختلفوا في المراد به فقيل هو صبغ أحمر شديد الحمرة وهو
نور شجر من أحسن الألوان وقيل الصوف الأحمر وقيل كل شئ أحمر فهو أرجوان ويقال
ثوب أرجوان وقطيفة أرجوان وحكى السيرافي أحمر أرجوان فكأنه وصف للمبالغة في الحمرة
كما يقال أبيض يقق وأصفر فاقع واختلفوا هل الكلمة عربية أو معربة فإن قلنا باختصاص
النهي بالأحمر من المياثر فالمعنى في النهي عنها ما في غيرها كما تقدم في الباب قبله وأن قلنا لا يختص
بالأحمر فالمعنى بالنهي عنها ما فيه من الترفه وقد يعتادها الشخص فتعوزه فيشق عليه تركها
فيكون النهي نهي إرشاد لمصلحة دنيوية وأن قلنا النهي عنها من أجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة
دينية لكن كان ذلك شعارهم حينئذ وهم كفار ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك
المعنى فتزول الكراهة والله أعلم (قوله باب النعال) جمع نعل وهي مؤنثة قال
ابن الأثير هي التي تسمى الآن تاسومة وقال ابن العربي النعل لباس الأنبياء وإنما أتخذ الناس
غيرها لما في أرضهم من الطين وقد يطلق النعل على كل ما يقي القدم قال صاحب المحكم النعل
والنعلة ما وقيت به القدم (قوله السبتية) بكسر المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة منسوبة
إلى السبت قال أبو عبيد هي المدبوغة ونقله عن الأصمعي وعن أبي عمرو الشيباني زاد الشيباني
بالقرظ قال وزعم بعض الناس أنها التي حلق عنها الشعر (قلت) أشار بذلك إلى مالك نقله ابن وهب
عنه ووافقه وكأنه مأخوذ من لفظ السبت لان معناه القطع فالحلق بمعناه وأيد ذلك جواب ابن عمر
المذكور في الباب وقد وافق الأصمعي الخليل وقالوا قيل لها سبتية لأنها تسبتت بالدباغ أي لانت
قال أبو عبيد كانوا في الجاهلية لا يلبس النعال المدبوغة إلا أهل السعة واستشهد لذلك بشعر
وذكر في الباب أربعة أحاديث * الأول حديث أنس في الصلاة في النعلين وقد تقدم شرحه في
الصلاة * الثاني حديث ابن عمر من رواية سعيد المقبري عن عبيد بن جريج وهما تابعيان مدنيان
(قوله رأيتك تصنع أربعا) فذكرها فأما الاقتصار على مس الركنين اليمانيين فتقدم شرحه
في كتاب الحج وكذلك الاهلال يوم التروية وأما الصبغ بالصفرة فتقدم في باب التزعفر ووقع
في رواية ابن إسحاق عن عبيد بن جريج تصفر بالورس وأما لبس النعال السبتية فهو المقصود
بالذكر هنا وقول ابن عمر يلبس النعال التي لبس فيها شعر يؤيد تفسير مالك المذكور وقال
الخطابي السبتية التي دبغت بالقرظ وهي التي سبت ما عليها من شعر أي حلق قال وقد يتمسك
بهذا من يدعي أن الشعر ينجس بالموت وأنه لا يؤثر فيه الدباغ ولا دلالة فيه لذلك واستدل بحديث
ابن عمر في لباس النبي صلى الله عليه وسلم النعال السبتية ومحبته لذلك على جواز لبسها على كل
حال وقال أحمد يكره لبسها في المقابر لحديث بشير بن الخصاصية قال بينما أنا أمشي في المقابر
علي نعلان إذا رجل ينادي من خلفي يا صاحب السبتيتين إذا كنت في هذا الموضع فاخلع نعليك
260

أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم واحتج به على ما ذكر وتعقبه الطحاوي بأنه يجوز أن يكون
الامر بخلعهما لاذى فيهما وقد ثبت في الحديث أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين
وهو دال على جواز لبس النعال في المقابر قال وثبت حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى في نعليه قال فإذا جاز دخول المسجد بالنعل فالمقبرة أولى (قلت) ويحتمل أن يكون النهي
لاكرام الميت كما ورد النهي عن الجلوس على القبر وليس ذكر السبتيتين للتخصيص بل اتفق ذلك
والنهي إنما هو للمشي على القبور بالنعال * الحديث الثالث والرابع حديث ابن عمر وابن عباس
فيما لا يلبس المحرم وفيه ذكر النعلين وقد تقدم شرحهما في كتاب الحج وفي هذه الأحاديث
استحباب لبس النعل وقد أخرج مسلم من حديث جابر رفعه استكثروا من النعال فإن الرجل
لا يزال راكبا ما انتعل أي أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة وقلة التعب وسلامة الرجل من أذى
الطريق قاله النووي وقال القرطبي هذا كلام بليغ ولفظ فصيح بحيث لا ينسج على منواله
ولا يؤتى بمثاله وهو إرشاد إلى المصلحة وتنبيه على ما يخفف المشقة فإن الحافي المديم للمشي يلقى
من الآلام والمشقة بالعثار وغيره ما يقطعه عن المشي ويمنعه من الوصول إلى مقصوده كالراكب
فلذلك شبة به (قوله باب يبدأ بالنعل اليمنى) ذكر فيه حديث عائشة كان يحب
التيمن في طهوره وتنعله وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة وهو ظاهر فيما ترجم له والله أعلم
(قوله باب لا يمشي في نعل واحدة) ذكر فيه حديث أبي هريرة من رواية الأعرج
عنه قال الخطابي الحكمة في النهي أن النعل شرعت لوقاية الرجل عما يكون في الأرض من
شوك أو نحوه فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أن يتوقى لاحدى رجليه ما لا يتوقى
للأخرى فيخرج بذلك عن سجية مشيه ولا يأمن مع ذلك من العثار وقيل لأنه لم يعدل بين جوارحه
وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرأي أو ضعفه وقال ابن العربي قيل العلة فيها أنها مشية
الشيطان وقيل لأنها خارجة عن الاعتدال وقال البيهقي الكراهة فيه للشهرة فتمتد الابصار
لمن ترى ذلك منه وقد ورد النهي عن الشهرة في اللباس فكل شئ صير صاحبه شهرة فحقه أن
يجتنب وأما ما أخرج مسلم من طريق أبي رزين عن أبي هريرة بلفظ إذا انقطع شسع أحدكم فلا
يمشي في نعل واحدة حتى يصلحها وله من حديث جابر حتى يصلح نعله وله ولأحمد من طريق همام
عن أبي هريرة إذا انقطع شسع أحدكم أو شراكه فلا يمشي في إحداهما بنعل والاخرى حافية
ليحفها جميعا أو لينعلهما جميعا فهذا لا مفهوم له حتى يدل على الاذن في غير هذه الصورة وإنما
هو تصوير خرج مخرج الغالب ويمكن أن يكون مفهوم الموافقة وهو التنبيه بالأدنى على
الاعلى لأنه إذا منع مع الاحتياج فمع عدم الاحتياج أولى وفي هذا التقرير استدراك على من أجاز
ذلك حين الضرورة وليس كذلك وإنما المراد أن هذه الصورة قد يظن أنها أخف لكونها للضرورة
المذكورة لكن لعلة موجودة فيها أيضا وهو دال على ضعف ما أخرجه الترمذي عن عائشة
قالت ربما انقطع شسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى في النعل الواحدة حتى يصلحها
وقد رجح البخاري وغير واحد وقفه على عائشة وأخرج الترمذي بسند صحيح عن عائشة أنها
كانت تقول لأخيفن أبا هريرة فيمشي في نعل واحدة وكذا أخرجه ابن أبي شيبة موقوفا
وكأنها لم يبلغها النهي وقولها لأخيفن معناه لأفعلن فعلا يخالفه وقد اختلف في ضبطه فروى
261

لأخالفن وهو أوضح في المراد وروى لأحنثن من الحنث بالمهملة والنون والمثلثة واستبعد لكن
يمكن أن يكون بلغها أن أبا هريرة حلف على كراهية ذلك فأرادت المبالغة في مخالفته وروى
لأخيفن بكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم فاء وهو تصحيف وقد وجهت بأن مرادها أنه إذا
بلغه أنها خالفته أمسك عن ذلك خوفا منها وهذا في غاية البعد وقد كان أبو هريرة يعلم أن من الناس
من ينكر عليه هذا الحكم ففي رواية مسلم المذكورة من طريق أبي رزين خرج إلينا أبو هريرة
فضرب بيده على جبهته فقال أما إنكم تحدثون أني أكذب أتهتدوا وأضل أشهد لسمعت فذكر
الحديث وقد وافق أبا هريرة جابر على رفع الحديث فأخرج مسلم من طريق ابن جريج أخبرني
أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يمش في نعل واحدة الحديث
ومن طريق مالك عن أبي الزبير عن جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله
أو يمشي في نعل واحدة ومن طريق أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر رفعه إذا انقطع شسع
أحدكم فلا يمشي في نعل واحدة حتى يصلح شسعه ولا يمشي في خف واحد قال ابن عبد البر لم يأخذ
أهل العلم برأي عائشة في ذلك وقد ورد عن علي وابن عمر أيضا أنهما فعلا ذلك وهو إما أن يكون
بلغهما النهي فحملاه على التنزيه أو كان زمن فعلهما يسيرا بحيث يؤمن معه المحذور أو لم يبلغهما
النهي أشار إلى ذلك ابن عبد البر والشسع بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها عين مهملة السير
الذي يجعل فيه إصبع الرجل من النعل والشراك بكسر المعجمة وتخفيف الراء وآخره كاف
أحد سيور النعل التي تكون في وجهها وكلاهما يختل المشي بفقده وقال عياض روى عن
بعض السلف في المشي في نعل واحدة أو خف واحد أثر لم يصح أوله تأويل في المشي اليسير بقدر
ما يصلح الأخرى والتقييد بقوله لا يمش قد يتمسك به من أجاز الوقوف بنعل واحدة إذا عرض
للنعل ما يحتاج إلى اصلاحها وقد اختلف في ذلك فنقل عياض عن مالك أنه قال يخلع الأخرى
ويقف إذا كان في أرض حارة أو نحوها مما يضر فيه المشي فيه حتى يصلحها أو يمشي حافيا أن لم
يكن ذلك قال ابن عبد البر هذا هو الصحيح في الفتوى وفي الأثر وعليه العلماء ولم يتعرض لصورة
الجلوس والذي يظهر جوازها بناء على أن العلة في النهي ما تقدم ذكره إلا ما تقدم ذكره إلا ما ذكر من إرادة العدل
بين الجوارح فإنه يتناول هذه الصورة أيضا (قوله لينعلها جميعا) قال ابن عبد البر أراد القدمين
وأن لم يجر لهما ذكر وهذا مشهور في لغة العرب وورد في القرآن أن يؤتى بضمير لم يتقدم له ذكر
لدلالة السياق عليه وينعلهما ضبطه النووي بضم أوله من أنعل وتعقبه شيخنا في شرح
الترمذي بأن أهل اللغة قالوا نعل بفتح العين وحكى كسرها وانتعل أي لبس النعل لكن قد قال
أهل اللغة أيضا أنعل رجله ألبسها نعلا ونعل دابته جعل لها نعلا وقال صاحب المحكم أنعل
الدابة والبعير ونعلهما بالتشديد وكذا ضبطه عياض في حديث عمر المتقدم أن غسان تنعل الخيل
بالضم أي تجعل لها نعالا والحاصل أن الضمير إن كان للقدمين جاز الضم والفتح وإن كان للنعلين
تعين الفتح (قوله أو ليحفهما جميعا) كذا للأكثر ووقع في رواية أبي مصعب في الموطأ
أو ليخلعهما وكذا في رواية لمسلم والذي في جميع روايات الموطأ كالذي في البخاري وقال النووي
وكلا الروايتين صحيح وعلى ما وقع في رواية أبي مصعب فالضمير في قوله أو ليخلعهما يعود على
النعلين لان ذكر النعل قد تقدم والله أعلم * (تكملة) * قد يدخل في هذا كل لباس شفع كالخفين
262

واخراج اليد الواحدة من الكم دون الأخرى وللتردي على أحد المنكبين دون الآخر قاله
الخطابي (قلت) وقد أخرج ابن ماجة حديث الباب من رواية محمد بن عجلان عن سعيد المقبري
عن أبي هريرة بلفظ لا يمش أحدكم في نعل واحدة ولا خف واحد وهو عند مسلم أيضا من حديث
جابر وعند أحمد من حديث أبي سعيد وعند الطبراني من حديث ابن عباس وإلحاق إخراج
اليد الواحدة من الكم وترك الأخرى بلبس النعل الواحدة والخف الواحد بعيد إلا إن أخذ من
الامر بالعدل بين الجوارح وترك الشهرة وكذا وضع طرف الرداء على أحد المنكبين والله أعلم
(قوله باب ينزع نعله اليسرى) وقد ذكر هذه الترجمة قبل التي قبلها عند الجميع
إلا أبا ذر ولكل منهما وجه (قوله إذا انتعل) أي لبس النعل (قوله باليمين) في رواية الكشميهني
باليمنى (قوله وإذا انتزع) في رواية مسلم وإذا خلع (قوله لتسكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما
تنزع) زعم ابن وضاح فيما حكاه ابن التين أن هذا القدر مدرج وأن المرفوع انتهى عند قوله
بالشمال وضبط قوله أولهما وآخرهما بالنصب على أنه خبر كان أو على الحال والخبر تنعل وتنزع
وضبطا بمثناتين فوقانيتين وتحتانيتين مذكرين باعتبار النعل والخلع قال ابن العربي البداءة
باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصالحة لفضل اليمن حسا في القوة وشرعا في الندب إلى تقديمها
وقال النووي يستحب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم أو الزينة والبداءة
باليسار في ضد ذلك كالدخول إلى الخلاء ونزع النعل والخف والخروج من المسجد والاستنجاء
وغيره من جميع المستقذرات وقد مر كثير من هذا في كتاب الطهارة في شرح حديث عائشة كان
يعجبه التيمن وقال الحليمي وجه الابتداء بالشمال عند الخلع أن اللبس كرامة لأنه وقاية للبدن فلما
كانت اليمنى أكرم من اليسرى بدئ بها في اللبس وأخرت في الخلع لتكون الكرامة لها أدوم
وحظها منها أكثر قال ابن عبد البر من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة ولكن
لا يحرم عليه لبس نعله وقال غيره ينبغي له أن ينزع النعل من اليسرى ثم يبدأ باليمنى ويمكن أن
يكون مراد ابن عبد البر ما إذا لبسهما معا فبدأ باليسرى فإنه لا يشرع له أن ينزعهما ثم يلبسهما
على الترتيب المأمور به إذ قد فات محله ونقل عياض وغيره الاجماع على أن الامر فيه للاستحباب
والله أعلم (قوله باب قبالان في نعل) أي في كل فردة (ومن رأى قبالا واحدا واسعا)
أي جائز القبال بكسر القاف وتخفيف الموحدة وآخره لام هو الزمام وهو السير الذي يعقد فيه
الشسع الذي يكون بين إصبعي الرجل (قوله همام) وقع في رواية ابن السكن على الفربري هشام
بدل همام والذي عند الجماعة أولى (قوله أن نعلي النبي صلى الله عليه وسلم) وقع في رواية عند
الكشميهني بالافراد وكذا في قوله لهما (قوله قبالان) زاد ابن سعد عن عفان عن همام من سبت
ليس عليهما شعر وقد أخرجه أحمد عن عفان بدون هذه الزيادة وقوله سبت بكسر المهملة
وسكون الموحدة بعدها مثناة وقد فسره في الحديث (قوله حدثنا محمد) هو ابن مقاتل وعبد الله
هو ابن المبارك (قوله عيسى بن طهمان قال أخرج إلينا أنس بن مالك نعلين لهما قبالان فقال
ثابت البناني هذه نعل النبي صلى الله عليه وسلم) هذا مرسل قاله الإسماعيلي (قلت) صورته
الارسال لان ثابتا لم يصرح بان أنسا أخبره بذلك فإن كان ثابت قاله بحضرة أنس وأقره أنس على
ذلك فيكون أخذ عيسى بن طهمان له عن أنس عرضا لكن قد تقدم هذا الحديث في الخمس من
263

طريق ابن أحمد الزبيري عن عيسى بن طهمان بما ينفي هذا الاحتمال ولفظه أخرج إلينا أنس
نعلين جرداوتين لهما قبالان فحدثني ثابت البناني بعد أنس أنهما نعلا النبي صلى الله عليه
وسلم فظهر بهذا أن رواية عيسى عن أنس إخراجه النعلين فقط وأن إضافتهما للنبي صلى الله عليه
وسلم من رواية عيسى عن ثابت عن أنس وقد أشار الإسماعيلي إلى أن إخراج طريق أبي أحمد
أولى وكأنه لم يستحضر أنها تقدمت هناك والبخاري على عادته إذا صحت الطريق موصولة
لا يمتنع من إيراد ما ظاهره الارسال اعتمادا على الموصول وقد أخرج الترمذي في الشمائل وابن
ماجة بسند قوي من حديث ابن عباس كانت لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنى
شراكهما قال الكرماني دلالة الحديث على الترجمة من جهة أن النعل صادقة على مجموع
ما يلبس في الرجلين وأما الركن الثاني من الترجمة فمن جهة أن مقابلة الشئ بالشئ يفيد التوزيع
فلكل واحد من نعل كل رجل قبال واحد (قلت) بل أشار البخاري إلى ما ورد عن بعض السلف
فقد أخرج البزار والطبراني في الصغير من حديث أبي هريرة مثل حديث أنس هذا وزاد وكذا
لأبي بكر ولعمر وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان لفظ الطبراني وسياق البزار مختصر
ورجال سنده ثقات وله شاهد أخرجه النسائي من رواية محمد بن سيرين عن عمرو بن أوس مثله
دون ذكر عثمان (قوله باب القبة الحمراء من أدم) بفتح الهمزة والمهملة هو الجلد
المدبوغ وكأنه صبغ بحمرة قبل أن يجعل قبة ذكر فيه طرفا من حديث أبي جحيفة وقد تقدم في
أوائل الصلاة بتمامه مشروحا وساقه فيه بهذا الاسناد بعينه والغرض منه هنا قوله وهو في قبة
حمراء من أدم فهو مطابق لما ترجم له وتقدم شرح الحلة الحمراء قريبا في باب الثوب الأحمر ولعله
أراد الإشارة إلى تضعيف حديث رافع المقدم ذكره هناك ثم ذكر حديث أنس قال أرسل النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم وهو أيضا طرف من حديث أورده بتمامه
في كتاب الخمس عن أبي اليمان بهذا الاسناد بعينه قال الكرماني هذا لا يدل على أن القبة حمراء
لكن يكفي أنه يدل على بعض الترجمة وكثيرا ما يفعل البخاري ذلك (قلت) ويمكن أن يقال لعله
حمل المطلق على المقيد وذلك لقرب العهد فإن القصة التي ذكرها أنس كانت في غزوة حنين والتي
ذكرها أبو جحيفة كانت في حجة الوداع وبينهما نحو سنتين فالظاهر أنها هي تلك القبة لأنه صلى الله
عليه وسلم ما كان يتأنق في مثل ذلك حتى يستبدل وإذا وصفها أبو جحيفة بأنها حمراء في الوقت
الثاني فلان تكون حمرتها موجودة في الوقت الأول أولى (قوله وقال الليث حدثني يونس
عن ابن شهاب) هو الزهري المذكور في السند الذي قبله وقد اقتطع هذه الجملة من الحديث
فساقها على لفظ الليث وأول حديث شعيب عنده في فرض الخمس أن ناسا من الأنصار قالوا
حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فذكر القصة قال فحدث رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم الحديث بطوله وقد تقدم شرحه في
غزوة حنين وقد وصل الإسماعيلي رواية الليث من طريق الرمادي حدثنا أبو صالح حدثنا الليث
حدثني يونس ومن طريق حرملة عن ابن وهب أخبرني يونس وساقه بلفظ فحدث رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم هكذا اقتطعه وقد أخرجه مسلم عن
حرملة وأوله عنده أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله فذكر الحديث بطوله
264

(قوله باب الجلوس على الحصير ونحوه) أما الحصير فمعروف يتخذ من السعف
وما أشبهه وأما قوله ونحوه فيريد من الأشياء التي تبسط وليس لها قدر رفيع ذكر فيه حديث
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجر حصيرا بالليل ويصلي عليه ومعتمر في إسناده هو ابن
سليمان التيمي وعبيد الله هو ابن عمر العمري وسعيد هو المقبري وفي السند ثلاثة من التابعين
في نسق أولهم أبو سلمة وهم مدنيون وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق
شريح بن هانئ أنه سأل عائشة أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير والله يقول وجعلنا
جهنم للكافرين حصيرا فقالت لم يكن على الحصير ويمكن الجمع بحمل النفي على المداومة
لكن يخدش فيه ما ذكره شريح من الآية وقد تقدم شرح حديث عائشة في كتاب الصلاة وترجم
المصنف في أوائل الصلاة باب الصلاة على الحصير وأورد فيه حديث أنس فقمت إلى حصير لنا قد
اسود من طول ما لبس الحديث وسبق ما يتعلق به وقوله في حديث عائشة يحتجر بحاء مهملة
ثم جيم ثم راء مهملة للأكثر أي يتخذ حجرة لنفسه يقال حجرت الأرض واحتجرتها إذا جعلت
عليها علامة تمنعها من غيرك ووقع في رواية الكشميهني بزاي في آخره (قوله يثوبون) بمثلثة
ثم موحدة أي يرجعون وقوله فيه فإن الله لا يمل حتى تملوا تقدم شرحه أيضا في كتاب الايمان وأن
الملال كناية عن القبول أو الترك أو أطلق على سبيل المشاكلة وقوله وإن أحب الأعمال إلى الله
ما دام أي ما استمر في حياة العامل وليس المراد حقيقة الدوام التي هي شمول جميع الأزمنة ووقع
في رواية الكشميهني ما دوام أي ما داوم عليه العامل (قوله باب المزرر بالذهب)
أي من الثياب (قوله وقال الليث) وصله أحمد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن الليث
بلفظه وللإسماعيلي من رواية كامل بن طلحة حدثنا الليث وقد تقدم موصولا قريبا وفي الهبة
عن قتيبة عن الليث لكن بغير هذا اللفظ (قوله إن أباه مخرمة قال يا بني) في رواية الكشميهني
قال له وقد تقدم شرح الحديث قريبا في باب القباء وفروج من حرير وقوله فخرج وعليه قباء
من ديباج مزرر بالذهب هذا يحتمل أن يكون وقع قبل التحريم فلما وقع تحريم الحرير والذهب
على الرجال لم يبق في هذا حجة لمن يبيح شيئا من ذلك ويحتمل أن يكون بعد التحريم فيكون أعطاه له
لينتفع به بأن يكسوه النساء أو ليبيعه كما وقع لغيره ويكون معنى قوله فخرج وعليه قباء أي على يده
فيكون من إطلاق الكل على البعض وقد تقدم أنه أراد تطيب قلب مخرمة وأنه كان في خلقه شئ
وفي قوله لولده في هذه الرواية لما قال له أدعو لك النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الانكار لقوله
أدعه لي فأجابه بقوله يا بني إنه ليس بجبار ما يدل على صحة إيمان مخرمة وإن كان قد وصف بأنه سئ
الخلق وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تلطفه بأصحابه (قوله باب
خواتيم الذهب) جمع خاتم ويجمع أيضا على خواتم بلا ياء وعلى خياتيم بياء بدل الواو وبلا ياء
أيضا وفي الخاتم ثمان لغات فتح التاء وكسرها وهما واضحتان وبتقديمها على الألف مع كسر
الخاء ختام وبفتحها وسكون التحتانية وضم المثناة بعدها واو خيتوم وبحذف الياء والواو مع
سكون المثناة ختم وبألف بعد الخاء وأخرى بعد التاء خاتام وبزيادة تحتانية بعد المثناة المكسورة
خاتيام وبحذف الألف الأولى وتقديم التحتانية خيتام وقد جمعتها في بيت وهو
خاتام خاتم ختم خاتم وختام * خاتيام وخيتوم وخيتام
265

وقبله
خذ نظم عد لغات الخاتم انتظمت * ثمانيا ما حواها قبل نظام
ثم زدت ثالثا
وهمز مفتوح تاء تاسع وإذا * ساغ القياس أتم العشر خاتام
أما الأول فذكر أبو البقاء في إعراب الشواذ في الكلام على من قرأ العألمين بالهمز قال ومثله الخأتم
بالهمز وأما الثاني فهو على الاحتمال واقتصر كثيرون منهم النووي على أربعة والحق أن الختم
والختام مختص بما يختم به فتكمل الثمان فيه وأما ما يتزين به فليس فيه إلا ستة وأنشدوا
في الخاتيام وهو أغربها
أخذت من سعداك خاتياما * لموعد تكتسب الآثاما
ذكر فيه ثلاثة أحاديث الأول حديث البراء قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع
نهانا عن خاتم الذهب أو قال حلقة الذهب كذا في هذه الطريق من رواية آدم عن شعبة عن
أشعث بن سليم وهو ابن أبي الشعثاء سمعت معاوية بن سويد بن مقرن قال سمعت البراء فذكره
بتقديم النواهي على الأوامر وتقدم في أوائل الجنائز عن أبي الوليد عن شعبة بتقديم الأوامر
على النواهي لكن سقط من النواهي ذكر المياثر وقال فيه خاتم الذهب ولم يشك وأورده
في المظالم عن سعيد بن الربيع عن شعبة لكن لم يسق فيه المنهيات جملة وأورده في الطب عن
حفص بن عمر عن شعبة لكن سقط من النواهي آنية الفضة وذكر من الأوامر ثلاثة فقط اتباع
الجنائز وعيادة المريض وإفشاء السلام واختصر الباقي وقال فيه أيضا خاتم الذهب وأورده
في أواخر الأدب عن سليمان بن حرب عن شعبة كذلك لكن لم يذكر القسي ولا آنية الفضة وقال
بدل الاستبرق السندس وأخرجه في الايمان والنذور من طريق غند عن شعبة مقتصرا على
إبرار القسم حسب فهذا ما عنده من تغاير السياق في رواية شعبة فقط وأما من رواية غيره عن
أشعث عنده أيضا فإنه أخرجه في الأشربة فقط من رواية أبي عوانة عن الأشعث فقدم الأوامر
على النواهي وساقه تاما وقال فيه ونهانا عن خواتيم الذهب وهكذا أخرجه في الوليمة من طريق
أبي الأحوص عن أشعث مثله سواء وهو المطابق للترجمة هنا وأخرجه في أوائل الاستئذان
من طريق جرير عن أشعث كذلك لكن قال ونهى عن تختم الذهب وقد تقدم قريبا في اللباس
من رواية سفيان الثوري في آخر باب القسي مختصرا جدا نهانا عن المياثر الحمر وعن القسي
وفي باب الميثرة الحمراء من روايته أمرنا بسبع فذكر منها العيادة واتباع الجنائز وتشميت
العاطس ونهانا عن سبع فلم يذكر منها خاتم الذهب ولا آنية الفضة فهذه جميع طرق هذا
الحديث عنده فأما المنهيات فقد شرحت في أماكنها ومعظمها هذا الكتاب كتاب اللباس
وتقدم الكلام على آنية الفضة في كتاب الأشربة وأما الأوامر فنذكر كل واحدة منها في بابها
ويأتي بسطها في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى الحديث الثاني حديث أبي هريرة (قوله عن
بشير بن نهيك) بفتح الموحدة وكسر المعجمة ونهيك بالنون وزنه سواء (قوله عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه نهى عن خاتم الذهب) في الكلام حذف تقديره نهى عن لبس خاتم الذهب
(قوله وقال عمرو) هو ابن مرزوق أنبأنا شعبة ساق هذا الاسناد لما فيه من بيان سماع قتادة
266

من النضر وهو ابن أنس بن مالك المذكور في السند الذي قبله وسماع النظر من بشير بن نهيك
وقد وصله أبو عوانة في صحيحه عن أبي قلابة الرقاشي وقاسم بن أصبغ في مصنفه عن محمد بن غالب
ابن حرب كلاهما عن عمرو بن مرزوق به ووقع التصريح بسماع قتادة من النضر بهذا الحديث
أيضا في رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه الإسماعيلي كذلك قال ابن دقيق العيد
أخبار الصحابي عن الأمر والنهي على ثلاث مراتب الأولى أن يأتي بالصيغة كقوله افعلوا أولا
تفعلوا الثانية قوله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ونهانا عن كذا وهو كالمرتبة الأولى
في العمل به أمرا أو نهيا وإنما نزل عنها لاحتمال أن يكون ظن ما ليس بأمر أمرا إلا أن هذا الاحتمال
مرجوح للعلم بعدالته ومعرفته بمدلولات الألفاظ لغة المرتبة الثالثة أمرنا ونهينا على البناء
للمجهول وهي كالثانية وإنما نزلت عنها لاحتمال أن يكون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم وإذا
تقرر هذا فالنهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء فقد نقل الاجماع على
إباحته للنساء (قلت) وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عائشة أن النجاشي أهدى للنبي صلى
الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب فأخذه وأنه لمعرض عنه ثم دعا أمامة بنت ابنته فقال تحلى
به قال ابن دقيق العيد وظاهر النهي التحريم وهو قول الأئمة واستقر الامر عليه قال عياض
وما نقل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم من تختمه بالذهب فشذوذ والأشبه أنه لم تبلغه السنة
فيه فالناس بعده مجمعون على خلافه وكذا ما روى فيه عن خباب وقد قال له ابن مسعود أما
آن لهذا الخاتم أن يلقى فقال إنك لن تراه علي بعد اليوم فكأنه ما كان بلغه النهي فلما بلغه رجع
قال وقد ذهب بعضهم إلى أن لبسه للرجال مكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما قال مثل ذلك في الحرير
قال ابن دقيق العيد هذا يقتضي اثبات الخلاف في التحريم وهو يناقض القول بالاجماع على
التحريم ولا بد من اعتبار وصف كونه خاتما (قلت) التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يكون
القائل بكراهة التنزيه انقرض واستقر الاجماع بعده على التحريم وقد جاء عن جماعة من الصحابة
لبس خاتم الذهب من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على
سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة وأخرج ابن أبي شيبة أيضا
عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه ومن طريق حمزة بن أبي أسيد
نزعنا من يدي أبي أسيد خاتما من ذهب وأغرب ما ورد من ذلك ما جاء عن البراء الذي روى النهي
فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال رأيت على البراء خاتما من ذهب وعن شعبة
عن أبي إسحق نحوه أخرجه البغوي في الجعديات وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال
رأيت على البراء خاتما من ذهب فقال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما فألبسنيه فقال ألبس
ما كساك الله ورسوله قال الحازمي إسناده ليس بذاك ولو صح فهو منسوخ (قلت) لو ثبت النسخ
عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى حديث النهي المتفق على صحته عنه
فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون حمله على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله ألبس ما كساك
الله ورسوله وهذا أولى من قول الحازمي لعل البراء لم يبلغه النهي ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع
في رواية أحمد كان الناس يقولون للبراء لم تتختم بالذهب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيذكر لهم هذا الحديث ثم يقول كيف تأمرونني أن أضع ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
267

ألبس ما كساك الله ورسوله ومن أدلة النهي أيضا ما رواه يونس عن الزهري عن أبي إدريس عن
رجل له صحبة قال جلس رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم من ذهب فقرع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بقضيب فقال ألق هذا وعموم الأحاديث المقدم ذكرها في باب
لبس الحرير حيث قال في الذهب والحرير هذان حرامان على رجال أمتي حل لإناثها وحديث
عبد الله بن عمرو رفعه من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة الحديث
أخرجه أحمد والطبراني وفي حديث ابن عمر ثالث أحاديث الباب ما يستدل به على نسخ جواز لبس
الخاتم إذا كان من ذهب واستدل به على تحريم الذهب على الرجال قليله وكثيره للنهي عن
التختم وهو قليل وتعقبه ابن دقيق العيد بأن التحريم يتناول ما هو في قدر الخاتم وما فوقه كالدملج
والمعضد وغيرهما فأما ما هو دونه فلا دلالة من الحديث عليه وتناول النهي جميع الأحوال
فلا يجوز لبس خاتم الذهب لمن فاجأه الحرب لأنه لا تعلق له بالحرب بخلاف ما تقدم في الحرير
من الرخصة في لبسه بسبب الحرب وبخلاف ما على السيف أو الترس أو المنطقة من حلية الذهب
فإنه لو فجأه الحرب جاز له الضرب بذلك السيف فإذا انقضت الحرب فلينتقض لأنه كله من
متعلقات الحرب بخلاف الخاتم * الحديث الثالث حديث ابن عمر سيأتي شرحه في الباب
الذي يليه وقوله فيه فاتخذه الناس أي اتخذوا مثله كما بينه بعد وقوله من ورق أو فضة شك من
الراوي وجزم في الذي يليه بقوله من فضة وفي الذي يليه بأنه من ورق والورق بفتح الواو وكسر
الراء ويجوز اسكانها وحكى الصغاني وحكى كسر أوله مع السكون فتلك أربع لغات
وفيها لغة خامسة الرقة والراء بدل الواو كالوعد والعدة وقيل الورق يختص بالمصكوك والرقة أعم
(قوله باب خاتم الفضة) أي جواز لبسه وذكر فيه حديثين الأول (قوله
عبيد الله) هو ابن عمر العمري (قوله اتخذ خاتما من ذهب) معنى اتخذه أمر بصياغته فصيغ
فلبسه أو وجده مصوغا فاتخذه وقوله مما يلي باطن كفه في رواية الكشميهني بطن كفه زاد في رواية
جويرية عن نافع كما سيأتي قريبا إذا لبسه وقوله ونقش فيه محمد رسول الله كذا فيه بالرفع على
الحكاية ونقش أي أمر بنقشه (قوله فاتخذ الناس مثله) يحتمل أن يكون المراد بالمثلية كونه
من فضة وكونه على صورة النقش المذكورة ويحتمل أن يكون لمطلق الاتخاذ وقوله فرمى به وقال
لا ألبسه أبدا وقع في رواية جويرية عن نافع فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال أني كنت
اصطنعته وإني لا ألبسه وفي رواية المغيرة بن زياد فرمى به فلا ندري ما فعل وهذا يحتمل أن يكون
كرهه من أجل المشاركة أو لما رأى من زهوهم بلبسه ويحتمل أن يكون لكونه من ذهب وصادف
وقت تحريم لبس الذهب على الرجال ويؤيد هذا رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر المختصرة في هذا
الباب بلفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتما من ذهب فنبذه فقال لا ألبسه أبدا وقوله
واتخذ خاتما من فضة في وراية المغيرة بن زياد ثم أمر بخاتم من فضة فأمر أن ينقش فيه محمد رسول
الله (قوله فاتخذ الناس خواتيم الفضة) لم يذكر في حديث ابن عمر في اتخاذ الناس خواتيم الفضة
منعا ولا كراهية وسيأتي ذلك في حديث أنس (قوله قال ابن عمر فلبس الخاتم بعد النبي صلى الله
عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى وقع من عثمان في بئر أويس) بفتح الهمزة وكسر الراء وبالسين
المهملة وزن عظيم وهي في حديقة بالقرب من مسجد قباء وسيأتي في باب نقش الخاتم قريبا من
268

رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله العمري بلفظ ثم كان بعد في يد أبي بكر وذكر عمر وعثمان بمثل
هذا الترتيب ويأتي بعد في باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر من حديث أنس نحوه وقال فيه
فلما كان عثمان جلس على بئر أويس زاد ابن سعد عن الأنصاري بسند المصنف ثم كان في يد عثمان
ست سنين ثم اتفقا ووقع في حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي من طريق المغيرة بن زياد عن
نافع من الزيادة في آخره عن ابن عمر فاتخذ عثمان خاتما ونقش فيه محمد رسول الله فكان يختم به أو
يتختم به وله شاهد من مرسل علي بن الحسين عند ابن سعد في الطبقات وفي رواية أيوب بن موسى
عن نافع عند مسلم نحو حديث عبيد الله بن عمر عن نافع إلى قوله فجعل فصه مما يلي كفه قال وهو
الذي سقط من معيقيب في بئر أريس وهذا يدل على أن نسبة سقوطه إلى عثمان نسبة مجازية
أو بالعكس وأن عثمان طلبه من معيقيب فختم به شيئا واستمر في يده وهو مفكر في شئ يعبث به فسقط
في البئر أو رده إليه فسقط منه والأول هو الموافق لحديث أنس وقد أخرج النسائي من طريق
المغيرة بن زياد عن نافع هذا الحديث وقال في آخره وفي يد عثمان ست سنين من عمله فلما كثرت عليه
دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يختم به فخرج الأنصاري إلى قليب لعثمان فسقط فالتمس فلم
يوجد الطريق الثانية لحديث ابن عمر (قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتما من
ذهب فنبذه) كذا رواه مالك عن عبد الله بن دينار ورواه سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار
أتم منه وساقه نحو رواية نافع التي قبلها وسيأتي في الاعتصام وكذا أخرجه أحمد والنسائي من
رواية إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار * الحديث الثاني (قوله يونس) هو بن يزيد الأيلي
(قوله أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا وإن الناس اصطنعوا
الخواتيم من ورق فلبسوها فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتيمهم)
هكذا روى الحديث الزهري عن أنس واتفق الشيخان على تخريجه من طريقه ونسب فيه إلى
الغلط لان المعروف أن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اتخاذ الناس مثله إنما
هو خاتم الذهب كما صرح به في حديث ابن عمر قال النووي تبعا لعياض قال جميع أهل الحديث
هذا وهم من ابن شهاب لان المطروح ما كان الا خاتم الذهب ومنهم من تأوله كما سيأتي (قلت)
وحاصل الأجوبة ثلاثة أحدها قاله الإسماعيلي فإنه قال بعد أن ساقه أن كان هذا الخبر محفوظا
فينبغي أن يكون تأويله أنه أتخذ خاتما من ورق على لون من الألوان وكره أن يتخذ غيره مثله فلما
اتخذوه رمى به حتى رموا به ثم اتخذ بعد ذلك ما اتخذه ونقش عليه ما نقش ليختم به ثانيها أشار إليه
الإسماعيلي أيضا أنه اتخذه زينة فلما تبعه الناس فيه رمى به فلما أحتاج إلى الختم اتخذه ليختم به
وبهذا جزم المحب الطبري بعد أن حكى قول المهلب وذكر أنه متكلف قال والظاهر من حالهم أنهم
اتخذوها للزينة فطرح خاتمه ليطرحوا ثم لبسه بعد ذلك للحاجة إلى الختم به واستمر ذلك وسيأتي
جواب البيهقي عن ذلك في باب اتخاذ الخاتم ثالثها قال ابن بطال خالف ابن شهاب رواية قتادة
وثابت وعبد العزيز بن صهيب في كون الخاتم الفضة استقر في يد النبي صلى الله عليه وسلم يختم به
وختم به الخلفاء بعده فوجب الحكم للجماعة وأن وهم الزهري فيه لكن قال المهلب قد يمكن أن
يتأول لابن شهاب ما ينفي عنه الوهم وإن كان الوهم أظهر وذلك أنه يحتمل أن يكون لما عزم على
اطراح خاتم الذهب اصطنع خاتم الفضة بدليل أنه كان لا يستغنى عن الختم على الكتب إلى الملوك
269

وغيرهم من أمراء السرايا والعمال فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس أن يصطنعوا مثله فطرح عند
ذلك خاتم الذهب فطرح الناس خواتيم الذهب (قلت) ولا يخفى وهي هذا الجواب والذي قاله
الإسماعيلي أقرب مع أنه يخدش فيه أنه يستلزم اتخاذ خاتم الورق مرتين وقد نقل عياض نحوا من
قول ابن بطال قائلا قال بعضهم يمكن الجمع بأنه لما عزم على تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة فلما
لبسه أراه الناس في ذلك اليوم ليعلموا إباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه فطرح الناس
خواتيمهم من الذهب فيكون قوله فطرح خاتمه وطرحوا خواتيمهم أي التي من الذهب وحاصله
أنه جعل الموصوف في قوله فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم خاتم الذهب وأن لم يجر له ذكر قال
عياض وهذا يسوغ أن لو جاءت الرواية بجملة ثم أشار إلى أن رواية ابن شهاب لا تحتمل هذا التأويل
فأما النووي فارتضى هذا التأويل وقال هذا هو التأويل الصحيح وليس في الحديث ما يمنعه قال
وأما قوله فصنع الناس الخواتيم من الورق فلبسوها ثم قال فطرح خاتمه فطرحوا خواتيمهم
فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يصطنع لنفسه خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم
خواتيم الفضة وبقيت معهم خواتيم الذهب كما بقي معه خاتمه إلى أن استبدل خاتم الفضة وطرح
خاتم الذهب فاستبدلوا وطرحوا أه‍ وأيده الكرماني بأنه ليس في الحديث أن الخاتم المطروح كان
من ورق بل هو مطلق فيحمل على خاتم الذهب أو على ما نقش عليه نقش خاتمه قال ومهما أمكن
الجمع لا يجوز توهيم الراوي (قلت) ويحتمل وجها رابعها ليس فيه تغير ولا زيادة اتخاذ وهو أنه
أتخذ خاتم الذهب للزينة فلما تتابع الناس فيه وافق وقوع تحريمه فطرحه ولذلك قال لا ألبسه أبدا
وطرح الناس خواتيمهم تبعا له وصرح بالنهي عن لبس خاتم الذهب كما تقدم في الباب قبله
ثم أحتاج إلى الخاتم لأجل الختم به فاتخذه من فضة ونقش فيه اسمه الكريم فتبعه الناس أيضا
في ذلك فرمى به حتى رمى الناس تلك الخواتيم المنقوشة على اسمه لئلا تفوت مصلحة نقش اسمه
بوقوع الاشتراك فلما عدمت خواتيمهم برميها رجع إلى خاتمه الخاص به فصار يختم به ويشير إلى
ذلك قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس كما سيأتي قريبا في باب الخاتم في الخنصر إنا
اتخذنا خاتما ونقشنا فيه نقشا عليه أحد فلعل بعض من لم يبلغه النهي أو بعض من بلغه
ممن لم يرسخ في قلبه الايمان من منافق ونحوه اتخذوا ونقشوا فوقع ما وقع ويكون طرحه له غضبا
ممن تشبه به في ذلك النقش وقد أشار إلى ذلك الكرماني مختصرا جدا والله أعلم وقول الزهري
في روايته إنه رآه في يده يوما لا ينافي ذلك ولا يعارضه قوله في الباب الذي بعده في رواية حميد سئل
أنس هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما قال أخر ليلة صلاة العشاء إلى أن قال فكأني أنظر
إلى وبيص خاتمه فإنه يحمل على أنه رآه كذلك في تلك الليلة واستمر في يده بقية يومها ثم طرحه في آخر
ذلك اليوم والله أعلم وأما ما أخرجه النسائي من طريق المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر أتخذ
النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب فلبسه ثلاثة أيام فيجمع بينه وبين حديث أنس بأحد
أمرين إن قلنا أن قول الزهري في حديث أنس خاتم من ورق سهو وأن الصواب خاتم من ذهب
فقوله يوما واحدا ظرف لرؤية أنس لا لمدة اللبس وقول ابن عمر ثلاثة أيام ظرف لمدة اللبس وان
قلنا أن لا وهم فيها وجمعنا بما تقدم فمدة لبس خاتم الذهب ثلاثة أيام كما في حديث ابن عمر هذا ومدة
لبس خاتم الورق الأول كانت يوما واحدا كما في حديث أنس ثم لما رمى الناس الخواتيم التي
270

نقشوها على نقشه ثم عاد فلبس خاتم الفضة واستمر إلى أن مات (قوله تابعه إبراهيم بن سعد وزياد
وشعيب عن الزهري) أما متابعة إبراهيم بن سعد وهو الزهري المدني فوصلها مسلم وأحمد
وأبو داود من طريقه بمثل رواية يونس بن يزيد لا مخالفة إلا في بعض لفظ وأما متابعة زياد وهو
ابن سعد بن عبد الرحمن الخراساني نزيل مكة ثم اليمن فوصلها مسلم أيضا وأشار إليها أبو داود أيضا
ولفظه عنه كذلك لكن قال اضطربوا واصطنعوا وأما متابعة شعيب فوصلها الإسماعيلي
كذلك وأشار إليها أبو داود أيضا (قوله وقال ابن مسافر عن الزهري أرى خاتما من ورق)
هذا التعليق لم أره في أصلي من رواية أبي ذر وهو ثابت للباقين إلا النسفي وقد أشار إليه أبو داود
أيضا وصله الإسماعيلي من طريق سعيد بن عفير عن الليث عن ابن مسافر وهو عبد الرحمن
ابن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أنس كذلك وليس فيه لفظ أرى فكأنها من البخاري قال
الإسماعيلي رواه أيضا عن ابن شهاب كذلك موسى بن عقبة وابن أبي عتيق ثم ساقه من طريق
سليمان بن بلال عنهما قال مثل حديث إبراهيم بن سعد وفي حديثي الباب مبادرة الصحابة إلى
الافتداء بأفعاله صلى الله عليه وسلم فمهما أقر عليه استمروا عليه ومهما أنكره امتنعوا منه
وفي حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث وإلا لدفع خاتمه للورثة كذا قال النووي وفيه
نظر لجواز أن يكون الخاتم اتخذ من مال المصالح فانتقل للامام لينتفع به فيما صنع له وفيه حفظ
الخاتم الذي يختم به تحت يد أمين إذا نزعه الكبير من إصبعه وفيه أن يسير المال إذا ضاع لا يهمل
طلبه ولا سيما إذا كان من أثر أهل الخير وفيه بحث سيأتي وفيه أن العبث اليسير بالشئ حال التفكر
لا عيب فيه (قوله باب فص الخاتم) قال الجوهري الفص بفتح الفاء والعامة
تكسرها وأثبتها غيره لغة وزاد بعضهم الضم وعليه جرى ابن مالك في المثلث ثم ذكر حديث حميد
سئل أنس هل اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما قال أخر ليلة صلاة العشاء الحديث وقد تقدم
شرحه في المواقيت من كتاب الصلاة وقوله وبيص بموحدة وآخره مهملة هو البريق وزنا ومعنى
وسيأتي من رواية عبد العزيز بن صهيب بلفظ بريقه ومن رواية قتادة عن أنس بلفظ بياضه ووقع
في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس في آخره ورفع أنس يده اليسرى أخرجه مسلم والنسائي
وله في أخرى وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى (قوله في الطريق الثانية خاتمه من فضة)
في رواية أبي داود من طريق زهير بن معاوية عن حميد من فضة كله فهذا نص في أنه كله من فضة
وأما ما أخرجه أبو داود والنسائي من طريق إياس بن الحرث بن معيقيب عن جده قال كان خاتم
النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملويا عليه فضة فربما كان في يدي قال وكان معيقيب على
خاتم النبي صلى الله عليه وسلم يعني كان أمينا عليه فيحمل على التعدد وقد أخرج له ابن سعد
شاهدا مرسلا عن مكحول أن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من حديد ملويا عليه
فضة غير أن فصه باد وآخر مرسلا عن إبراهيم النخعي مثله دون ما في آخره وثالثا من رواية
سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص أن خالد بن سعيد يعني ابن العاص أتى وفي يده خاتم فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا اطرحه فطرحه فإذا خاتم من حديد ملوي عليه فضة قال
فما نقشه قال محمد رسول الله قال فأخذه فلبسه ومن وجه آخر عن سعيد بن عمرو المذكور أن
ذلك جرى لعمرو بن سعيد أخي خالد بن سعيد وسأذكر لفظه في باب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة
271

أسطر (قوله وكان فصه منه) لا يعارضه ما أخرجه مسلم وأصحاب السنن من طريق ابن وهب
عن يونس عن ابن شهاب عن أنس كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فصه حبشيا
لأنه إما أن يحمل على التعدد وحينئذ فمعنى قوله حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة أو على لون
الحبشة أو كان جزعا أو عقيقا لان ذلك قد يؤتى به من بلاد الحبشة ويحتمل أن يكون هو الذي
فصه منه ونسب إلى الحبشة لصفة فيه إما الصياغة وإما النقش (قوله وقال يحيى بن أيوب الخ)
أراد بهذا التعليق بيان سماع حميد له من أنس وقد تقدم في المواقيت معلقا أيضا وذكرت من
وصله ولله الحمد وقد اعترضه الإسماعيلي فقال ليس هذا الحديث من الباب الذي ترجمه في شئ
وأجيب بأنه أشار إلى أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص فإن كان بلا فص فهو حلقة (قلت)
لكن في الطريق الثانية في الباب أن فص الخاتم كان منه فلعله أراد الرد على من زعم أنه لا يقال له
خاتم إلا إذا كان له فص من غيره ويؤيده أن في رواية خالد بن قيس عن قتادة عن أنس عند مسلم
فصاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة من فضة والذي يظهر لي أنه أشار إلى أن الاجمال
في الرواية الأولى محمول على التبيين في الرواية الثانية (قوله باب خاتم الحديد)
قد ذكرت ما ورد فيه في الباب الذي قبله وكأنه لم يثبت عنده شئ من ذلك على شرطه وفيه دلالة
على جواز لبس ما كان على صفته وأما ما أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان من رواية
عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه فقال ما لي
أجد منك ريح الأصنام فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد فقال مالي أرى عليك حلية أهل
النار فطرحه فقال يا رسول الله من أي شئ اتخذه قال اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا وفي سنده
أبو طيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة اسمه عبد الله بن مسلم المروزي قال أبو حاتم
الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وقال ابن حبان في الثقات يخطئ ويخالف فإن كان محفوظا
حمل المنع على ما كان حديدا صرفا وقد قال التيفاشي في كتاب الاحجار خاتم الفولاذ مطردة
للشيطان إذا لوي عليه فضة فهذا يؤيد المغايرة في الحكم ثم ذكر حديث سهل بن سعد في قصة
الواهبة وقوله فيه أذهب فالتمس ولو خاتما من حديد استدل به على جواز لبس خاتم الحديد ولا
حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته
وقوله ولو خاتما محذوف الجواب لدلالة السياق عليه فإنه لما أمره بالتماس مهما وجد كأنه
خشي أن يتوهم خروج خاتم الحديد لحقارته فأكد دخوله بالجملة المشعرة بدخول ما بعدها فيما
قبلها وقوله في الجواب فقال لا والله ولا خاتما من حديد انتصب على تقدير لم أجد وقد صرح به
في الطريق الأخرى (قوله باب نقش الخاتم) ذكر فيه حديثين أحدهما
عن أنس (قوله حدثنا عبد الاعلى) هو ابن حماد وسعيد هو ابن أبي عروبة (قوله أراد أن
يكتب إلى رهط أو أناس) هو شك من الراوي (قوله من الأعاجم) في رواية شعبة عن قتادة
كما يأتي بعد باب إلى الروم (قوله فقيل له) في مرسل طاوس عند ابن سعد أن قريشا هم الذين
قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم (قوله نقشه محمد رسول الله) زاد ابن سعد من مرسل
ابن سيرين بسم الله محمد رسول الله ولم يتابع على هذه الزيادة وقد أورده من مرسل طاوس والحسن
البصري وإبراهيم النخعي وسالم بن أبي الجعد وغيرهم ليس فيه الزيادة وكذا وقع في الباب من
272

حديث ابن عمر وأما ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج لهم
خاتما فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبسه فيه تمثال أسد قال معمر فغسله بعض
أصحابنا فشربه ففيه مع إرساله ضعف لان ابن عقيل مختلف في الاحتجاج به إذا انفرد فكيف إذا
خالف وعلى تقدير ثبوته فلعله لبسه مرة قبل النهي (قوله في إصبع النبي صلى الله عليه وسلم
أو في كفه) شك من الراوي ووقع في رواية شعبة في يده وسيأتي من وجه آخر عن أنس في الباب
الذي بعده في خنصره * الحديث الثاني حديث ابن عمر وقد تقدم شرحه في باب خاتم الفضة
(قوله باب الخاتم في الخنصر) أي دون غيرها من الأصابع وكأنه أشار إلى
ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي من طريق أبي بردة بن أبي موسى عن علي قال نهاني رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن ألبس خاتمي في هذه وفي هذه يعني السبابة والوسطى وسيأتي بيان أي
الخنصرين اليمني أو اليسرى كان يلبس الخاتم فيه بعد باب (قوله فلا ينقش عليه أحد) في رواية
الكشميهني وحده ينقشن بالنون المؤكدة وإنما نهى أن ينقش أحد على نقشه لان فيه اسمه
وصفته وإنما صنع فيه ذلك ليختم به فيكون علامة تختص به وتتميز عن غيره فلو جاز أن ينقش أحد
نظير نقشه لفات المقصود (قوله باب اتخاذ الخاتم) سقط لفظ باب من رواية
أبي ذر قال الخطابي لم يكن لباس الخاتم من عادة العرب فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب
إلى الملوك أتخذ الخاتم واتخذه من ذهب ثم رجع عنه لما فيه من الزينة ولما يخشى من الفتنة
وجعل فصه مما يلي باطن كفه ليكون أبعد من التزين قال شيخنا في شرح الترمذي دعواه أن
العرب لا تعرف الخاتم عجيبة فإنه عربي وكانت العرب تستعمله انتهى ويحتاج إلى ثبوت لبسه
عن العرب وإلا فكونه عربيا واستعمالهم له في ختم الكتب لا يرد على عبارة الخطابي وقد قال
الطحاوي بعد أن أخرج الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي ريحانة قال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الخاتم إلا لذي سلطان ذهب قوم إلى كراهة لبس الخاتم
إلا لذي سلطان وخالفهم آخرون فأباحوه ومن حجتهم حديث أنس المتقدم أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما ألقى خاتمه ألقى الناس خواتيمهم فأنه يدل على أنه كان يلبس الخاتم في العهد النبوي من ليس
ذا سلطان فإن قيل هو منسوخ قلنا الذي نسخ منه لبس خاتم الذهب قلت أو لبس خاتم المنقوش
عليه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره ثم أورد عن جماعة من الصحابة والتابعين
أنهم كانوا يلبسون الخواتم ممن ليس له سلطان انتهى ولم يجب عن حديث أبي ريحانة والذي يظهر
أن لبسه لغير ذي سلطان خلاف الأولى لأنه ضرب من التزين واللائق بالرجال خلافه وتكون
الأدلة الدالة على الجواز هي الصارفة للنهي عن التحريم ويؤيده أن في بعض طرقه نهي عن الزينة
والخاتم الحديث ويمكن أن يكون المراد بالسلطان من له سلطنة على شئ ما يحتاج إلى الختم عليه
لا السلطان الأكبر خاصة والمراد بالخاتم ما يختم به فيكون لبسه عبثا وأما من لبس الخاتم
الذي لا يختم به وكان من الفضة للزينة فلا يدخل في النهي وعلى ذلك يحمل حال من لبسه ويؤيده
ما ورد من صفة نقش خواتم بعض من كان يلبس الخواتم مما يدل على أنها لم تكن بصفة ما يختم به
وقد سئل مالك عن حديث أبي ريحانة فضعفه وقال سأل صدقة بن يسار سعيد بن المسيب فقال
ألبس الخاتم وأخبر الناس أني قد أفتيتك والله أعلم * (تكملة) * جزم أبو الفتح اليعمري أن
273

اتخاذ الخاتم كان في السنة السابعة وجزم غيره بأنه كان في السادسة ويجمع بأنه كان في أواخر
السادسة وأوائل السابعة لأنه إنما اتخذه عند ارادته مكاتبة الملوك كما تقدم وكان إرساله إلى
الملوك في مدة الهدنة وكان في ذي القعدة سنة ست ورجع إلى المدينة في ذي الحجة ووجه الرسل
في المحرم من السابعة وكان اتخاذه الخاتم قبل إرساله الرسل إلى الملوك والله أعلم (قوله
باب من جعل فص الخاتم في بطن كفه) سقط لفظ باب من رواية أبي ذر قال ابن بطال
قيل لمالك يجعل الفص في باطن الكف قال لا قال ابن بطال ليس في كون فص الخاتم في بطن
الكف ولا ظهرها أمر ولا نهي وقال غيره السر في ذلك أن جعله في بطن الكف أبعد من أن يظن
أنه فعله للتزيين به وقد أخرج أبو داود من حديث ابن عباس جعله في ظاهر الكف كما سأذكره
قريبا (قوله حدثنا جويرية) هو ابن أسماء وعبد الله هو ابن عمر (قوله اصطنع خاتما من ذهب
وجعل) كذا للأكثر وللمستملي والسرخسي ويجعل وقد تقدم شرح الحديث في باب خاتم
الفضة (قوله قال جويرية ولا أحسبه إلا قال في يده اليمنى) هو موصول بالاسناد المذكور قال
أبو ذر في روايته لم يقع في البخاري موضع الخاتم من أي اليدين إلا في هذا وقال الداودي لم يجزم به
جويرية وتواطأت الروايات على خلافه يدل على أنه لم يحفظه وعمل الناس على لبس الخاتم في اليسار
يدل على أنه المحفوظ (قلت) وكلامه متعقب فإن الظن فيه من موسى شيخ البخاري وقد أخرجه
ابن سعد عن مسلم بن إبراهيم وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن عبد الله بن محمد بن
أسماء كلاهما عن جويرية وجزما بأنه لبسه في يده اليمني وهكذا أخرج مسلم من طريق عقبة بن
خالد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في قصة اتخاذ الخاتم من ذهب وفيه وجعله في يده اليمني
وأخرجه الترمذي وابن سعد من طريق موسى بن عقبة عن نافع بلفظ صنع النبي صلى الله عليه وسلم
خاتما من ذهب فتختم به في يمينه ثم جلس على المنبر فقال أني كنت اتخذت هذا الخاتم في يميني ثم
نبذه الحديث وهذا صريح من لفظه صلى الله عليه وسلم رافع للبس وموسى بن عقبة أحد الثقات
الاثبات وأما ما أخرجه ابن عدي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو داود من طريق
عبد العزيز بن أبي رواد كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يساره
فقد قال أبو داود بعده ورواه ابن إسحاق وأسامة بن زيد عن نافع في يمينه انتهى ورواية ابن إسحاق
قد أخرجها أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من طريقه وكذا رواية أسامة
وأخرجها محمد بن سعد أيضا فظهر أن رواية اليسار في حديث نافع شاذة ومن رواها أيضا أقل
عددا وألين حفظا ممن روى اليمن وقد أخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن عن عبد الله بن
دينار عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه وأخرج أبو الشيخ في كتاب أخلاق
النبي صلى الله عليه وسلم من رواية خالد بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر نحوه فرجحت رواية اليمين
في حديث ابن عمر أيضا وقد ورد التختم في اليمين أيضا في أحاديث أخرى منها عند مسلم من حديث
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتما من فضة في يمينه فصه حبشي وأخرج أبو داود أيضا من
طريق ابن إسحاق قال رأيت على الصلت بن عبد الله خاتما في خنصره اليمن فسألته فقال رأيت ابن
عباس يلبس خاتمه هكذا وجعل فصه على ظهرها ولا إخال ابن عباس إلا ذكره عن النبي صلى الله
عليه وسلم وأورده الترمذي من هذا الوجه مختصرا رأيت ابن عباس يتختم في يمينه ولا أخاله
274

إلا قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه وللطبراني من وجه آخر عن ابن عباس
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه وفي سنده لين وأخرج الترمذي أيضا من طريق حماد
ابن سلمة رأيت ابن أبي رافع يتختم في يمينه وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم نقل
عن البخاري أنه أصح شئ روي في هذا الباب وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي في الشمائل
وصححه ابن حبان من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبيه عن علي أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يتختم في يمينه وفي الباب عن جابر في الشمائل بسند لين وعائشة عند البزار بسند لين
وعند أبي الشيخ بسند حسن وعن أبي أمامة عند الطبراني بسند ضعيف وعن أبي هريرة عند
الدارقطني في غرائب مالك بسند ساقط وورد التختم في اليسار من حديث ابن عمر كما تقدم ومن
حديث أنس أيضا أخرجه ملسم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال كان خاتم النبي صلى
الله عليه وسلم في هذه وأشار إلى الخنصر اليسرى وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي في الشعب من
طريق قتادة عن أنس ولأبي الشيخ من حديث أبي سعيد بلفظ كان يلبس خاتمه في يساره وفي سنده
لين وأخرجه ابن سعد أيضا وأخرج البيهقي في الأدب من طريق أبي جعفر الباقر قال كان النبي
صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعلي والحسن والحسين يتختمون في اليسار وأخرجه الترمذي
موقوفا على الحسن والحسين حسب وأما دعوى الداودي أن العمل على التختم في اليسار فكأنه
توهمه من استحباب مالك للتختم وهو يرجح عمل أهل المدينة فظن أنه عمل أهل المدينة وفيه نظر فإنه
جاء عن أبي بكر وعمر وجمع جم من الصحابة والتابعين بعدهم من أهل المدينة وغيرهم التختم في اليمني
وقال البيهقي في الأدب يجمع بين هذه الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب كما صرح
به في حديث ابن عمر والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة وأما رواية الزهري عن أنس التي فيها
التصريح بأنه كان فضة ولبسه في يمينه فكأنها خطأ فقد تقدم أن الزهري وقع له وهم في الخاتم
الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه وقع في روايته أنه الذي كان من فضة وأن الذي في رواية
غيره أنه الذي كان من ذهب فعلى هذا فالذي كان لبسه في يمينه هو الذهب أه‍ ملخصا وجمع غيره
بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه ثم حوله إلى يساره واستدل له بما أخرجه أبو الشيخ وابن عدي من
رواية عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تختم في يمينه ثم أنه حوله
في يساره فلو صح هذا لكان قاطعا للنزاع ولكن سنده ضعيف وأخرج ابن سعد من طريق جعفر
ابن محمد عن أبيه قال طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه الذهب ثم تختم خاتما من ورق فجعله
في يساره وهذا مرسل أو معضل وقد جمع البغوي في شرح السنة بذلك وأنه تختم أولا في يمينه ثم
تختم في يساره وكان ذلك آخر الامرين وقال ابن أبي حاتم سألت أبا زرعة عن اختلاف
الأحاديث في ذلك فقال لا يثبت هذا ولا هذا ولكن في يمينه أكثر وقد تقدم قول البخاري أن
حديث عبد الله بن جعفر أصح شئ ورد فيه وصرح فيه بالتختم في اليمن وفي المسئلة عند الشافعية
اختلاف والأصح اليمن (قلت) ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف القصد فإن كان اللبس للتزين
به فاليمين أفضل وإن كان للتختم به فاليسار أولى لأنه كالمودع فيها ويحصل تناوله منها باليمين وكذا
وضعه فيها ويترجح التختم في اليمين مطلقا لان اليسار آلة الاستنجاء فيصان الخاتم إذا كان في اليمين
عن أن تصيبه النجاسة وترجح التختم في اليسار بما أشرت إليه من التناول وجنحت طائفة إلى
275

استواء الامرين وجمعوا بذلك بين مختلف الأحاديث وإلى ذلك أشار أبو داود حيث ترجم باب
التختم في اليمين واليسار ثم أورد الأحاديث مع اختلافها في ذلك بغير ترجيح ونقل النووي
وغيره الاجماع على الجواز ثم قال ولا كراهة فيه يعني عند الشافعية وإنما الاختلاف في الأفضل
وقال البغوي كان آخر الامرين التختم في اليسار وتعقبه الطبري بأن ظاهره النسخ وليس
ذلك مراده بل الاخبار بالواقع اتفاقا والذي يظهر أن الحكمة فيه ما تقدم والله أعلم (قوله
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقش) بضم أوله (على نقش خاتمه) ذكر فيه
حديث أنس من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه في اتخاذ الخاتم من فضة وفيه فلا ينقش أحد
على نقشه وقوله فيه أنا اتخذنا بصيغة الجمع وهي للتعظيم هنا والمراد أني اتخذت وأخرج
الترمذي من طريق معمر عن ثابت عن أنس نحوه وقال فيه ثم قال لا تنقشوا عليه وأخرج
الدارقطني في الافراد من طريق سلمة بن وهرام عن عكرمة عن يعلى بن أمية قال أنا صنعت للنبي
صلى الله عليه وسلم خاتما لم يشركني فيه أحد نقش فيه محمد رسول الله فيستفاد منه اسم الذي صاغ
خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ونقشه وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن ينقش أحد على نقشه
أي مثل نقشه فقد تقدمت الإشارة إلى الحكمة فيه في باب خاتم الفضة وقد أخرج ابن أبي شيبة
في المصنف عن ابن عمر أنه نقش على خاتمه عبد الله بن عمر وكذا أخرج عن سالم عن عبد الله بن عمر
أنه نقش اسمه على خاتمه وكذا القاسم بن محمد قال ابن بطال وكان مالك يقول من شأن الخلفاء
والقضاة نقش أسمائهم في خواتمهم وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة وأبي عبيدة أنه كان نقش
خاتم كل واحد منهما الحمد لله وعن علي الله الملك وعن إبراهيم النخعي بالله وعن مسروق بسم الله
وعن أبي جعفر الباقر العزة لله وعن الحسن والحسين لا بأس بنقش ذكر الله على الخاتم قال
النووي وهو قول الجمهور ونقل عن ابن سيرين وبعض أهل العلم كراهته انتهى وقد أخرج
ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن سيرين أنه لم يكن يرى بأسا أن يكتب الرجل في خاتمه حسبي الله
ونحوها فهذا يدل على أن الكراهة عنه لم تثبت ويمكن الجمع بأن الكراهة حيث يخاف عليه حمله
للجنب والحائض والاستنجاء بالكف التي هو فيها والجواز حيث حصل الامن من ذلك فلا تكون
الكراهة لذلك بل من جهة ما يعرض لذلك والله أعلم (قوله باب هل يجعل نقش
الخاتم ثلاثة أسطر) قال ابن بطال ليس كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر أو سطرين أفضل من كونه
سطرا واحدا كذا قال (قلت) قد يظهر أثر الخلاف من أنه إذا كان سطرا واحدا يكون الفص
مستطيلا لضرورة كثرة الأحرف فإذا تعددت الأسطر أمكن كونه مربعا أو مستديرا وكل
منهما أولى من المستطيل (قوله حدثني أبي) هو عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس (قوله
عن ثمامة) هو ابن عبد الله بن أنس عم عبد الله بن المثنى الراوي والسند كله بصريون من
آل أنس (قوله عن أنس) في رواية الإسماعيلي من طريق علي بن المديني عن محمد بن عبد الله
الأنصاري حدثني أبي حدثنا ثمامة حدثني أنس (قوله أن أبا بكر رضي الله عنه لما استخلف
كتب له) لم يذكر المكتوب وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الزكاة وأنه كتب له مقادير الزكاة
(قوله وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر) هذا ظاهره أنه لم يكن فيه
زيادة على ذلك لكن أخرج أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عرعرة بن البرند
بكسر الموحدة والراء بعدها نون ساكنة ثم دال عن عزرة بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن
276

ثابت عن ثمامة عن أنس قال كان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم حبشيا مكتوبا عليه لا إله
إلا الله محمد رسول الله وعرعرة ضعفه ابن المديني وزيادته هذه شاذة وظاهره أيضا أنه كان على هذا
الترتيب لكن لم تكن كتابته على السياق العادي فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن
تكون الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا وأما قول بعض الشيوخ أن كتابته كانت
من أسفل إلى فوق يعني أن الجلالة في أعلى الأسطر الثلاثة ومحمد في أسفلها فلم أر التصريح بذلك
في شئ من الأحاديث بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك فإنه قال فيها محمد سطر والسطر
الثاني رسول والسطر الثالث الله ولك أن تقرأ محمد بالتنوين ورسول بالتنوين وعدمه والله بالرفع
وبالجر (قوله وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إلى آخره) هذه الزيادة موصولة وأحمد المذكور
جزم المزي في الأطراف أنه أحمد بن حنبل لكن لم أر هذا الحديث في مسند أحمد من هذا الوجه
أصلا (قوله وفي يد عمر بعد أبي بكر فلما كان عثمان جلس على بئر أريس) وقع في رواية ابن سعد عن
الأنصاري ثم كان في يد عثمان ست سنين فلما كان في الست الباقية كنا معه على بئر أريس (قوله
فجعل يعبث به) في رواية ابن سعد فجعل يحوله في يده (قوله فسقط) في رواية ابن سعد فوقع في البئر
(قوله فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنزح البئر فلم نجده) أي في الذهاب والرجوع والنزول
إلى البئر والطلوع منها ووقع في رواية ابن سعد فطلبناه مع عثمان ثلاثة أيام فلم نقدر عليه قال
بعض العلماء كان في خاتمه صلى الله عليه وسلم من السر شئ مما كان في خاتم سليمان عليه السلام
لان سليمان لما فقد خاتمه ذهب ملكه وعثمان لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلم انتقض عليه
الامر وخرج عليه الخارجون وكان ذلك مبدأ الفتنة التي أفضت إلى قتله واتصلت إلى آخر
الزمان قال ابن بطال يؤخذ من الحديث أن يسير المال إذا ضاع يجب البحث في طلبه والاجتهاد
في تفتيشه وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لما ضاع عقد عائشة وحبس الجيش على طلبه حتى
وجد كذا قال وفيه نظر فاما عقد عائشة فقد ظهر أثر ذلك بالفائدة العظيمة التي نشأت عنه وهي
رخصة التيمم فكيف يقاس عليه غيره وأما فعل عثمان فلا ينهض الاحتجاج به أصلا لما ذكر لان
الذي يظهر أنه إنما بالغ في التفتيش عليه لكونه أثر النبي صلى الله عليه وسلم قد لبسه واستعمله
وختم به ومثل ذلك يساوي في العادة قدرا عظيما من المال وإلا لو كان غير خاتم النبي صلى الله
عليه وسلم لاكتفى بطلبه بدون ذلك وبالضرورة يعلم أن قدر المؤنة التي حصلت في الأيام الثلاثة تزيد
على قيمة الخاتم لكن اقتضت صفته عظيم قدره فلا يقاس عليه كل ما ضاع من يسير المال قال وفيه
أن من فعل الصالحين العبث بخواتيمهم وما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم (قلت) وإنما
كان كذلك لان ذلك من مثلهم إنما ينشأ عن فكر وفكرتهم إنما هي في الخير قال الكرماني معنى
قوله يعبث به يحركه أو يخرجه من إصبعه ثم يدخله فيها وذلك صورة العبث وإنما يفعل الشخص
ذلك عند تفكره في الأمور قال ابن بطال وفيه أن من طلب شيئا ولم ينجح فيه بعد ثلاثة أيام أن له
أن يتركه ولا يكون بعد الثلاث مضيعا وأن الثلاث حد يقع بها العذر في تعذر المطلوبات وفيه
استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها (قوله باب
الخاتم للنساء) قال ابن بطال الخاتم للنساء من جملة الحلي الذي أبيح لهن (قوله وكان على عائشة
خواتيم الذهب) وصله ابن سعد من طريق عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب قال سألت القاسم
277

ابن محمد فقال لقد رأيت والله عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب (قوله طاوس عن
ابن عباس شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلى قبل الخطبة) سقط لفظ فصلى من رواية
المستملي والسرخسي وهي مرادة ثابتة في أصل الحديث فإنه طرف من حديث تقدم في صلاة
العيد من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج بسنده هنا (قوله وزاد ابن وهب عن ابن جريج)
يعني بهذا السند إلى ابن عباس وقد تقدم بالزيادة موصولا في تفسير سورة الممتحنة من رواية
هارون بن معروف عن ابن وهب (قوله فأتى النساء فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم) الفتخ بفتح الفاء
ومثناة فوق بعدها خاء معجمة جمع فتخة وهي الخواتيم التي تلبسها النساء في أصابع الرجلين قاله
ابن السكيت وغيره وقيل الخواتيم التي لا فصوص لها وقيل الخواتم الكبار كما تقدم ذلك من
تفسير عبد الرزاق في كتاب العيدين مع بسط ذلك (قوله باب القلائد والسخاب
للنساء) السخاب بكسر المهملة وتخفيف الخاء المعجمة وبعد الألف موحدة (قوله يعني قلادة
من طيب وسك) بضم المهملة وتشديد الكاف وفي رواية الكشميهني ومسك بكسر الميم وسكون
المهملة وكاف خفيفة والسخاب جمع سخب بضمتين وقد تقدم بيان ما فسره به غيره في باب ما ذكر
في الأسواق من كتاب البيوع ثم أورد فيه حديث ابن عباس من رواية سعيد بن جبير عنه قال
خرج النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فجعلت المرأة تلقي سخابها وخرصها بضم الخاء المعجمة وسكون
الراء ثم صاد مهملة هي الحلقة الصغيرة من ذهب أو فضة وقد تقدم تفسيره في باب الخطبة بعد
العيد من كتاب العيدين (قوله باب استعارة القلائد) ذكر فيه حديث عائشة في قصة
قلادة أسماء وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الطهارة وفيه بيان القلادة المذكور مم كانت
وقوله زاد ابن نمير عن هشام يعني بسنده المذكور أنها استعارت من أسماء أي بنت أبي بكر القلادة
المذكورة وقد وصله المؤلف رحمه الله في كتاب الطهارة من طريقه (قوله باب
القرط للنساء) بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة ما يحلى به الاذن ذهبا كان أو فضة
صرفا أو مع لؤلؤ وغيره ويعلق غالبا على شحمتها (قوله وقال ابن عباس أمرهن النبي صلى الله
عليه وسلم بالصدقة فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن) هذا طرف من حديث وصله المؤلف
رحمه الله في العيدين وفي الاعتصام وغيرهما من طريق عبد الرحمن بن عابس عن ابن عباس فإما
في الاعتصام فقال في رواية فجعل النساء يشرن إلى آذانهم وحلوقهن وقال في العيدين فرأيتهن
يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال أخرجه قبيل كتاب الجمعة من هذا الوجه بلفظ فجعلت المرأة
تهوى بيدها إلى حلقها تلقى في ثوب بلال ومعنى الأهواء الايماء باليد إلى الشئ ليؤخذ وقد ظهر
أنه في الآذان إشارة إلى الحلق وأما في الحلوق فالذي يظهر أن المراد القلائد فإنها توضع في العنق
وأن كان محلها إذا تدلت الصدر واستدل به على جواز ثقب أذن المرأة لتجعل فيها القرط وغيره مما
يجوز لهن التزين به وفيه نظر لأنه لم يتعين وضع القرط في ثقبة الاذن بل يجوز أن يشبك في الرأس
بسلسلة لطيفة حتى تحاذى الاذن وتنزل عنها سلمنا لكن إنما يؤخذ من ترك إنكاره عليهن ويجوز
أن تكون آذانهن ثقبت قبل مجئ الشرع فيغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ونحوه قول
أم زرع أناس من حلي أذني ولا حجة فيه لما ذكرنا وقال ابن القيم كره الجمهور ثقب أذن الصبي
ورخص بعضهم في الأنثى (قلت) وجاء الجواز في الأنثى عن أحمد للزينة والكراهة للصبي قال
278

الغزالي في الاحياء يحرم ثقب أذن المرأة ويحرم الاستئجار عليه إلا أن ثبت فيه شئ من جهة
الشرع (قلت) جاء عن ابن عباس فيما أخرجه الطبراني في الأوسط سبعة في الصبي من السنة فذكر
السابع منها وثقب اذنه وهو يستدرك على قول بعض الشارحين لا مستند لأصحابنا في قولهم
إنه سنة (قوله أخبرني عدي) هو ابن ثابت وقد تقدم قبل بابين من طريق شعبة أيضا بهذا
الاسناد بلفظ خرصها بدل قرطها (قوله باب السخاب للصبيان) تقدم بيان
السخاب وحديث أبي هريرة المذكور في الباب تقدم شرحه في باب ما ذكر في الأسواق من كتاب
البيوع مستوفى وقوله فيه أين لكع في رواية المستملي والسرخسي أي لكع بصيغة النداء (قوله
باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال) أي ذم الفريقين ويدل على ذلك اللعن
المذكور في الخبر (قوله حدثنا محمد بن جعفر) كذا لأبي ذر ولغيره حدثنا غندر وهو هو (قوله
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين) قال الطبري المعنى لا يجوز للرجال التشبه بالنساء
في اللباس والزينة التي تختص بالنساء ولا العكس (قلت) وكذا في الكلام والمشي فأما هيئة
اللباس فتختلف باختلاف عادة كل بلد فرب قوم لا يفترق زي نسائهم من رجالهم في اللبس لكن
يمتاز النساء بالاحتجاب والاستتار وأما ذم التشبه بالكلام والمشي فمختص بمن تعمد ذلك وأما
من كان ذلك من أصل خلقته فإنما يؤمر بتكلف تركه والادمان على ذلك بالتدريج فإن لم يفعل
وتمادى دخله الذم ولا سيما أن بدا منه ما يدل على الرضا به وأخذ هذا واضح من لفظ المتشبهين
وإما إطلاق من أطلق كالنووي أن المخنث الخلقي لا يتجه عليه اللوم فمحمول على ما إذا لم يقدر على
ترك التثني والتكسر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك وإلا متى كان ترك ذلك ممكنا
ولو بالتدريج فتركه بغير عذر لحقه اللوم واستدل لذلك الطبري بكونه صلى الله عليه وسلم لم يمنع
المخنث من الدخول على النساء حتى سمع منه التدقيق في وصف المرأة كما في ثالث أحاديث الباب
الذي يليه فمنعه حينئذ فدل على أن لا ذم على ما كان من أصل الخلقة وقال ابن التين المراد باللعن
في هذا الحديث من تشبه من الرجال بالنساء في الزي ومن تشبه من النساء بالرجال كذلك فأما
من انتهى في التشبه بالنساء من الرجال إلى أن يؤتى في دبره وبالرجال من النساء إلى أن تتعاطى
السحق بغيرها من النساء فإن لهذين الصنفين من الذم والعقوبة أشد ممن لم يصل إلى ذلك قال
وإنما أمر بإخراج من تعاطى ذلك من البيوت كما في الباب الذي يليه لئلا يفضى الامر بالتشبه إلى
تعاطي ذلك الامر المنكر وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به ما ملخصه ظاهر اللفظ الزجر
عن التشبه في كل شئ لكن عرف من الأدلة الأخرى أن المراد التشبه في الزي وبعض الصفات
والحركات ونحوها لا التشبه في أمور الخير وقال أيضا اللعن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم
على ضربين أحدهما يراد به الزجر عن الشئ الذي وقع اللعن بسببه وهو مخوف فإن اللعن من
علامات الكبائر والآخر يقع في حال الحرج وذلك غير مخوف بل هو رحمة في حق من لعنه بشرط
أن لا يكون الذي لعنه مستحقا لذلك كما ثبت من حديث ابن عباس عند مسلم قال والحكمة في لعن
من تشبه إخراجه الشئ عن الصفة التي وضعها عليه أحكم الحكماء وقد أشار إلى ذلك في لعن
الواصلات بقوله المغيرات خلق الله (قوله تابعه عمرو قال أخبرنا شعبة) يعني بالسند المذكور
وقد وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق يوسف القاضي قال حدثنا عمرو بن مرزوق به واستدل
279

به على أنه يحرم على الرجل لبس الثوب المكلل باللؤلؤ وهو واضح لورود علامات التحريم وهو لعن
من فعل ذلك وأما قول الشافعي ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ إلا لأنه من زي النساء فليس مخالفا
لذلك لان مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شئ (قوله باب إخراج المتشبهين
بالنساء من البيوت) كذا للأكثر وللنسفي باب إخراجهم وكذا عند الإسماعيلي وأبي نعيم (قوله
حدثنا هشام) هو الدستوائي (عن يحيى) هو ابن أبي كثير وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده
عن شعبة وهشام جميعا عن قتادة عن عكرمة وكان أبا داود حمل رواية هشام على رواية شعبة فإن
رواية شعبة عن قتادة هي باللفظ المذكور في الباب الذي قبله ورواية هشام عن يحيى هي بهذا
اللفظ الذي في هذا الباب وقد أخرجه المصنف وأبو داود في السنن كلاهما عن مسلم بن إبراهيم
وأخرجه أحمد عن إسماعيل بن علية ويحيى القطان ويزيد بن هارون كلهم عن هشام عن يحيى بن
أبي كثير (قوله المخنثين من الرجال) تأتي الإشارة إلى ضبطه عقب هذا (قوله والمترجلات من
النساء) زاد أبو داود من طريق يزيد بن أبي زياد عن عكرمة فقلت له ما المترجلات من النساء قال
المتشبهات بالرجال (قوله فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلانا وأخرج عمر فلانة) كذا في رواية
أبي ذر فلانة بالتأنيث وكذا وقع في شرح ابن بطال وللباقين فلانا بالتذكير وكذا عند أحمد وقد
أخرج الطبراني وتمام الرازي في فوائده من حديث وائلة مثل حديث ابن عباس هذا بتمامه
وقال فيه وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم أنجشة وأخرج عمر فلانا وأنجشة هو العبد الأسود
الذي كان يحدو بالنساء وسيأتي خبره في ذلك في كتاب الأدب وقد تقدم ذكر أسامي من كان
في العهد النبوي من المخنثين ولم أقف في شئ من الروايات على تسمية الذي أخرجه عمر إلى أن
ظفرت بكتاب لأبي الحسن المدايني سماه كتاب المغربين بمعجمة وراء مفتوحة ثقيلة فوجدت فيه عدة
قصص لمن غربهم عمر عن المدينة وسأذكر ذلك في كتاب أواخر الحدود إن شاء الله تعالى (قوله
حدثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي (قوله وفي البيت مخنث) تقدم ضبطه وتسميته في أواخر
كتاب النكاح وشرح الحديث مستوفى وبيان ما وقع هنا من كلام البخاري من شرح قوله تقبل
بأربع وتدبر بثمان وقوله في آخر الحديث لا يدخلن بضم أوله وتشديد النون هؤلاء عليكن كذا
للأكثر وهو الوجه وفي رواية المستملي والسرخسي عليكم بصيغة جمع المذكر ويوجه بأنه جمع مع
النساء المخاطبات بذلك من يلوذ بهن من صبي ووصيف فجاء التغليب وقد تفتح التحتانية أوله مخففا
ومثقلا وفي هذه الأحاديث مشروعية إخراج كل من يحصل به التأذي للناس عن مكانه إلى أن
يرجع عن ذلك أو يتوب (قوله باب قص الشارب) هذه الترجمة وما بعدها إلى آخر
كتاب اللباس لها تعلق باللباس من جهة الاشتراك في الزينة فذكر أولا التراجم المتعلقة بالشعور
وما شاكلها وثانيا المتعلقة بالتطيب وثالثا المتعلقة بتحسين الصورة ورابعا المتعلقة بالتصاوير
لأنها قد تكون في الثياب وختم بما يتعلق بالارتداف وتعلقه به خفي وتعلقه بكتاب الأدب الذي يليه
ظاهر والله أعلم وأصل القص تتبع الأثر وقيده ابن سيده في المحكم بالليل والقص أيضا إيراد
الخبر تاما على من لم يحضره ويطلق أيضا على قطع شئ من شئ بآلة مخصوصة والمراد به هنا قطع
الشعر النابت على الشفعة العليا من غير استئصال وكذا قص الظفر أخذ أعلاه من غير استئصال
(قوله وكان ابن عمر) كذا لأبي ذر والنسفي وهو المعتمد ووقع للباقين وكان عمر (قلت) وهو خطأ
280

فإن المعروف عن عمر أنه كان يوفر شاربه (قوله يحفي شاربه) بالحاء المهملة والفاء ثلاثيا ورباعيا من
الاحفاء أو الحفو والمراد الإزالة (قوله حتى يرى بياض الجلد 2) وصله أبو بكر الأثرم من طريق
عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال رأيت ابن عمر يحفي شاربه حتى لا يترك منه شيئا وأخرج الطبري من
طريق عبد الله بن أبي عثمان رأيت ابن عمر يأخذ من شاربه أعلاه وأسفله وهذا يرد تأويل من تأول
في أثر ابن عمر أن المراد به إزالة ما على طرف الشفة فقط (قوله ويأخذ هذين يعني بين الشارب
واللحية) كذا وقع في التفسير في الأصل وقد ذكره رزين في جامعه من طريق نافع عن ابن عمر جازما
بالتفسير المذكور وأخرج البيهقي نحوه وقوله بين كذا للجميع إلا أن عياضا ذكر أن محمد بن أبي
صفرة رواه بلفظ من التي للتبعيض والأول هو المعتمد (قوله حدثنا المكي بن إبراهيم عن حنظلة
عن نافع قال أصحابنا عن المكي عن ابن عمر) كذا للجميع والمعنى أن شيخه مكي بن إبراهيم حدثه به
عن حنظلة وهو ابن أبي سفيان الجمحي عن نافع عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا لم يذكر ابن عمر
في السند وحدث به غير البخاري عن مكي موصولا يذكر ابن عمر فيه وهو المراد بقول البخاري قال
أصحابنا هذا هو المعتمد وبهذا جزم شيخنا ابن الملقن رحمه الله لكن قال ظهر لي أنه موقوف على نافع
في هذه الطريق وتلقى ذلك من الحميدي فإنه جزم بذلك في الجمع وهو محتمل وأما الكرماني فزعم أن
الرواية الثانية منقطعة لم يذكر فيها بين مكي وابن عمر أحدا فقال المعنى أن البخاري قال روى أصحابنا
الحديث منقطعا فقالوا حدثنا مكي عن ابن عمر فطرحوا ذكر الراوي الذي بينهما كذا قال
وهو وأن كان ظاهر ما أورد البخاري لكن تبين من كلام الأئمة أنه موصول بين مكي وابن عمر وقال
الزركشي هذا الموضع مما يجب أن يعتني به الناظر وهو ماذا الذي أراد بقوله قال أصحابنا عن المكي
عن ابن عمر فيحتمل أنه رواه مرة عن شيخه مكي عن نافع مرسلا ومرة عن أصحابه عن مكي مرفوعا
عن ابن عمر ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي عن ابن عمر إلى أنه المكي اه‍ وهذا الثاني هو الذي جزم
به الكرماني وهو مردود ثم قال الزركشي ويشهد للأول أن البخاري ربما روى عن المكي بالواسطة
كما تقدم في البيوع ووقع له في كتابه نظائر لذلك منها ما سيأتي قريبا في باب الجعد حيث قال حدثنا
مالك بن إسماعيل فذكر حديثا ثم قال في آخره قال بعض أصحابي عن مالك بن إسماعيل فذكر زيادة
في المتن ونظيره في الاستئذان في باب قوله قوموا إلى سيدكم (قلت) وهو قوله حدثنا أبو الوليد
حدثنا شعبة فذكر حديثا وقال في آخره أفهمني بعض أصحابي عن أبي الوليد فذكر كلمة في المتن
وقريب منه ما سبق في المناقب في ذكر أسامة بن زيد حيث قال حدثنا سليمان بن عبد الرحمن فذكر
حديثا وقال في آخره حدثني بعض أصحابنا عن سليمان فذكر زيادة في المتن أيضا (قلت) والفرق بين
هذه المواضع وبين حديث الباب أن الاختلاف في الباب وقع في الوصل والارسال والاختلاف
في غيره وقع بالزيادة في المتن لكن اشترك الجميع في مطلق الاختلاف والله أعلم وقد أورد البخاري
الحديث المذكور في الباب الذي يليه من طريق إسحق بن سليمان عن حنظلة موصولا مرفوعا
لكنه نزل فيه درجة وطريق مكي وقعت لنا في مسند ابن عمر لأبي أمية الطرسوسي قال حدثنا مكي
ابن إبراهيم فذكره موصولا مرفوعا وزاد فيه بعد قوله قص الشارب والظفر وحلق العانة وكذا
أخرجه البيهقي في الشعب من وجه آخر عن مكي (قلت) وهذا الحديث أغفله المزي في الأطراف
فلم يذكره في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر لا من طريق مكي ولا من طريق إسحق بن سليمان ثم
281

بعد أن كتب هذا ذكر لي محدث حلب الشيخ برهان الدين الحلبي أن شيخنا البلقيني قال له القائل
قال أصحابنا هو البخاري والمراد بالمكي حنظلة بن أبي سفيان الجمحي فإنه مكي قال والسندان
متصلان وموضع الاختلاف بيان أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري سمى حنظلة وأما
أصحاب البخاري فلما رووه له عن حنظلة لم يسموه بل قالوا عن المكي قال فالسند الأول مكي عن
حنظلة عن نافع عن ابن عمر والثاني أصحابنا عن المكي عن نافع عن ابن عمر ثم قال وفي فهم ذلك
صعوبة وكأنه كان يتبجح بذلك ولقد صدق فيما ذكر من الصعوبة ومقتضاه أن يكون عند
البخاري جماعة لقوا حنظلة وليس كذلك فإن الذي سمع من حنظلة هذا الحديث لا يحدث
البخاري عنه إلا بواسطة وهو إسحق بن سليمان الرازي وكانت وفاته قبل طلب البخاري الحديث
قال ابن سعد مات سنة تسع وتسعين ومائة وقال ابن نافع وابن حبان مات سنة مائتين وقد أفصح
أبو مسعود في الأطراف بالمراد فقال في ترجمة حنظلة عن نافع عن ابن عمر حديث من الفطرة حلق
العانة وتقليم الأظافر وقص الشارب خ في اللباس عن أحمد بن أبي رجاء عن إسحاق بن سليمان
عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر وعن مكي بن إبراهيم عن حنظلة عن نافع قال وقال أصحابنا عن
مكي عن حنظلة عن نافع عن ابن عمر فصرح بأن مراد البخاري بقوله عن المكي المكي بن إبراهيم
وأن مراده بقوله عن ابن عمر بالسند المذكور وهو عن حنظلة عن نافع عنه والحاصل أنه كما
قدمته أن مكي بن إبراهيم لما حدث به البخاري أرسله ولما حدث به غير البخاري وصله فحكى
البخاري ذلك ثم ساقه موصولا من طريق إسحق بن سليمان (قوله حدثنا علي) هو ابن المديني
وبذلك جزم المزي (قوله الزهري حدثنا) هو من تقديم الراوي على الصيغة وهو سائغ وقد رواه
الحميدي عن سفيان قال سمعت الزهري أخرجه أبو عوانة وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريقه
ورواه أحمد عن سفيان عن الزهري بالعنعنة وكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغير
واحد وأبو داود عن مسدد كلهم عن سفيان (قوله عن أبي هريرة رواية) هي كناية عن قول
الراوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نحوها وقد وقع في رواية مسدد يبلغ به النبي صلى
الله عليه وسلم وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحمد في روايته
أن سفيان كان تارة يكنى وتارة يصرح وقد تقرر في علوم الحديث أن قول الراوي رواية أو يرويه
أو يبلغ به ونحو ذلك محمول على الرفع وسيأتي في الباب الذي يليه من طريق إبراهيم بن سعد عن
الزهري بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري
زيادة أبي سلمة مع سعيد بن المسيب في السند أخرجه أبو الشيخ (قوله الفطرة خمس أو خمس من
الفطرة) كذا وقع هنا ولمسلم وأبي داود بالشك وهو من سفيان ووقع في رواية أحمد خمس من
الفطرة ولم يشك وكذا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي ووقع في رواية إبراهيم
ابن سعد بالعكس كما في الباب الذي يليه بلفظ الفطرة خمس وكذا في رواية يونس بن يزيد عن
الزهري عند مسلم والنسائي وهي محمولة على الأولى قال ابن دقيق العيد دلالة من على التبعيض
فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك فدل على
أن الحصر فيها غير مراد واختلف في النكتة في الاتيان بهذه الصيغة فقيل يرفع الدلالة وأن
مفهوم العدد ليس بحجة وقيل بل كان أعلم أولا بالخمس ثم أعلم بالزيادة وقيل بل الاختلاف في ذلك
282

بحسب المقام فذكر في كل موضع اللائق بالمخاطبين وقيل أريد بالحصر المبالغة لتأكيد أمر الخمس
المذكورة كما حمل عليه قوله الدين النصيحة والحج عرفة ونحو ذلك ويدل على التأكيد ما أخرجه
الترمذي والنسائي من حديث زيد بن أرقم مرفوعا من لم يؤخذ شاربه فليس منا وسنده قوي
وأخرج أحمد من طريق يزيد بن عمرو المعافري نحوه زاد فيه حلق العانة تقليم الأظافر وسيأتي
في الكلام على الختان دليل من قال بوجوبه وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين
خصلة فإذا أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة فليس كذلك وإن أراد أعم من ذلك فلا ينحصر
في الثلاثين بل تزيد كثيرا وأقل ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر المذكور قيل فإنه لم يذكر
فيه إلا ثلاثا وسيأتي في الباب الذي يليه أنه ورد بلفظ الفطرة وبلفظ من الفطرة وأخرج
الإسماعيلي في رواية له بلفظ ثلاث من الفطرة وأخرجه في رواية أخرى بلفظ من الفطرة فذكر
الثلاث وزاد الختان ولمسلم من حديث عائشة عشر من الفطرة فذكر الخمسة التي في حديث أبي
هريرة إلا الختان وزاد إعفاء اللحية والسواك والمضمضة والاستنشاق وغسل البراجم والاستنجاء
أخرجه من رواية مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عنها لكن قال في آخره
إن الراوي نسي العاشرة إلا أن تكون المضمضة وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه بلفظ عشرة
من السنة وذكر الاستنثار بدل الاستنشاق وأخرج النسائي من طريق سليمان التيمي قال سمعت
طلق بن حبيب يذكر عشرة من الفطرة فذكر مثله إلا أنه قال وشككت في المضمضة وأخرجه
أيضا من طريق أبي بشر عن طلق قال من السنة عشر فذكر مثله إلا أنه ذكر الختان بدل غسل
البراجم ورجح النسائي الرواية المقطوعة على الموصولة المرفوعة والذي يظهر لي أنها ليست بعلة
فادحة فإن راويها مصعب بن شيبة وثقة ابن معين والعجلي وغيرهما ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما
فحديثه حسن وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ وقول
سليمان التيمي سمعت طلق بن حبيب يذكر عشرا من الفطرة يحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها من
قبل نفسه على ظاهر ما فهمه النسائي ويحتمل أن يريد أنه سمعه يذكرها وسندها فحذف سليمان
السند وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث عمار بن ياسر مرفوعا نحو حديث
عائشة قال من الفطرة المضمضة والاستنشاق والسواك وغسل البراجم والانتضاح وذكر
الخمس التي في حديث أبي هريرة ساقه ابن ماجة وأما أبو داود فأحال به على حديث عائشة ثم قال
وروى نحوه عن ابن عباس وقال خمس في الرأس وذكر منها الفرق ولم يذكر إعفاء اللحية (قلت)
كأنه يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح عن طاوس عن
ابن عباس في قوله تعالى وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال ابتلاه الله بالطهارة خمس
في الرأس وخمس في الجسد (قلت) فذكر مثل حديث عائشة كما في الرواية التي قدمتها عن أبي عوانة
سواء ولم يشك في المضمضة وذكر أيضا الفرق بدل إعفاء اللحية وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر
عن ابن عباس فذكر غسل الجمعة بدل الاستنجاء فصار مجموع الخصال التي وردت في هذه الأحاديث
خمس عشرة خصلة اقتصر أبو شامة في كتاب السواك وما أشبه ذلك منها على اثني عشر وزاد
النووي واحدة في شرح مسلم وقد رأيت قبل الخوض في شرح الخمس الواردة في الحديث المتفق
عليه أن أشير إلى شرح العشر الزائدة عليها فأما الوضوء والاستنشاق والاستنثار والاستنجاء
283

والسواك وغسل الجمعة فتقدم شرحها في كتاب الطهارة وأما إعفاء اللحية فيأتي في الباب الذي
يليه وأما الفرق فيأتي بعد أبواب وأما غسل البراجم فهو بالموحدة والجيم جمع برجمة بضمتين
وهي عقد الأصابع التي في ظهر الكف قال الخطابي هي المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ
ولا سيما ممن لا يكون طري البدن وقال الغزالي كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع
في تلك الغضون وسخ فأمر بغسلها قال النووي وهي سنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء يعني
أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في
معاطف الاذن وقعر الصماخ فإن في بقائه إضرارا بالسمع وقد أخرج ابن عدي من حديث أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء لان الوسخ إليها سريع وللترمذي
الحكيم من حديث عبد الله بن بشر رفعه قصوا أظفاركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم
وفي سنده راو مجهول ولأحمد من حديث ابن عباس أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنون أي لا تستاكون ولا تقصون شواربكم ولا تنقون رواجبكم
والرواجب جمع راجبة بجيم موحدة قال أبو عبيد البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها
وقال ابن سيده البرجمة المفصل الباطن عند بعضهم والرواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع
وقيل قصب الأصابع وقيل هي ظهور السلاميات وقيل ما بين البراجم من السلامات وقال ابن
الأعرابي الراجبة البقعة الملساء التي بين البراجم والبراجم المسبحات من مفاصل الأصابع وفي
كل إصبع ثلاث برجمات إلا الابهام فلها برجمتان وقال الجوهري الرواجب مفاصل
الأصابع اللاتي تلي الأنامل ثم البراجم ثم الأشاجع اللاتي على الكف وقال أيضا الرواجب رؤس
السلاميات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت والأشاجع أصول الأصابع
التي تتصل بعصب ظاهر الكف واحدها أشجع وقيل هي عروق ظاهر الكف وأما الانتضاح فقال
أبو عبيد الهروي هو أن يأخذ قليلا من الماء فينضح به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس
وقال الخطابي انتضاح الماء الاستنجاء به وأصله من النضح وهو الماء القليل فعلى هذا هو والاستنجاء
خصلة واحدة وعلى الأول فهو غيره ويشهد له ما أخرجه أصحاب السنن من رواية الحكم بن
سفيان الثقفي أو سفيان بن الحكم عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم أخذ
حفنة من ماء فانتضح بها وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير أن رجلا أتى ابن عباس فقال
إني أحد بللا إذا قمت أصلي فقال له ابن عباس انضح بماء فإذا وجدت من ذلك شيئا فقل هو منه
وأما الخصال الواردة في المعنى لكن لم يرد التصريح فيها بلفظ الفطرة فكثيرة منها ما أخرجه الترمذي
من حديث أبي أيوب رفعه أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطير والسواك والنكاح واختلف
في ضبط الحياء فقيل بفتح المهملة والتحتانية الخفيفة وقد ثبت في الصحيحين أن الحياء من الايمان
وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون فعلى الأول خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخلق وعلى
الثاني هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن وأخرج البزار والبغوي في معجم الصحابة والحكيم
الترمذي في نوادر الأصول من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه خمس من
سنن المرسلين فذكر الأربعة المذكورة الا النكاح وزاد الحلم والحجامة والحلم بكسر المهملة
وسكون اللام وهو مما يقوي الضبط الأول في حديث أبي أيوب وإذا تتبع ذلك من الأحاديث كثر
284

العدد كما أشرت إليه والله أعلم ويتعلق بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية تدرك بالتتبع منها
تحسين الهيئة وتنظيف البدن جملة وتفصيلا والاحتياط للطهارتين والاحسان إلى المخالط
والمقارن بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة ومخالفة شعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى
وعباد الأوثان وامتثال أمر الشارع والمحافظة على ما أشار إليه قوله تعالى وصوركم فأحسن
صوركم لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك وكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا
تشوهوها بما يقبحها أو حافظوا على ما يستمر به حسنها وفي المحافظة عليها محافظة على المرؤة وعلى
التآلف المطلوب لان الانسان إذا بدا في الهيئة الجميلة كان أدعى لانبساط النفس إليه فيقبل
قوله ويحمد رأيه والعكس بالعكس وأما شرح الفطرة فقال الخطابي ذهب أكثر العلماء إلى أن
المراد بالفطرة هنا السنة وكذا قاله غيره قالوا والمعنى أنها من سنن الأنبياء وقالت طائفة المعنى
بالفطرة الدين وبه جزم أبو نعيم في المستخرج وقال النووي في شرح المهذب جزم الماوردي
والشيخ أبو إسحق بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث الدين واستشكل ابن الصلاح ما ذكره
الخطابي وقال معنى الفطرة بعيد من معنى السنة لكن لعل المراد أنه على حذف مضاف أي سنة
الفطرة وتعقبه النووي بأن الذي نقله الخطابي هو الصواب فإن في صحيح البخاري عن ابن عمر
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار قال
وأصح ما فسر الحديث بما جاء في رواية أخرى لا سيما في البخاري اه‍ وقد تبعه شيخنا ابن الملقن
على هذا ولم أر الذي قاله في شئ من نسخ البخاري بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ الفطرة
وكذا من حديث أبي هريرة نعم وقع التعبير بالسنة موضع الفطرة في حديث عائشة عند أبي عوانة
في رواية وفي أخرى بلفظ الفطرة كما في رواية مسلم والنسائي وغيرهما وقال الراغب أصل الفطر
بفتح الفاء الشق طولا ويطلق على الوهي وعلى الاختراع وعلى الايجاد والفطرة الايجاد على غير
مثال وقال أبو شامة أصل الفطرة الخلقة المبتدأة ومنه فاطر السماوات والأرض أي المبتدئ
خلقهن وقوله صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة أي على ما ابتدأ الله خلقه عليه
وفيه إشارة إلى قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت
ولادته وما يؤديه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد ويؤيده قوله تعالى قبلها فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرة الله واليه يشير في بقية الحديث حيث عقبة بقوله فأبواه يهودانه
وينصرانه والمراد بالفطرة في حديث الباب أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة
التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها
صورة اه‍ وقد رد القاضي البيضاوي الفطرة في حديث الباب إلى مجموع ما ورد في معناها وهو
الاختراع والجبلة والدين والسنة فقال هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت
عليها الشرائع وكأنها أمر جبلي فطروا عليها انتهى وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله خمس من
الفطرة أن قوله خمس صفة موصوف محذوف والتقدير خصال خمس ثم فسرها أو على الإضافة
أي خمس خصال ويجوز أن تكون الجملة خبر مبتدأ محذوف والتقدير الذي شرع لكم خمس
من الفطرة والتعبير في بعض روايات الحديث بالسنة بدل الفطرة يراد بها الطريقة لا التي تقابل
الواجب وقد جزم بذلك الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما وقالوا هو كالحديث الآخر
285

عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وأغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال عندي أن
الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة
الآدميين فكيف من جملة المسلمين كذا قال في شرح الموطأ وتعقبه أبو شامة بأن الأشياء
التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها
اكتفاء بدواعي الأنفس فمجرد الندب إليها كاف ونقل ابن دقيق العيد عن بعض العلماء أنه قال دل
الخبر على أن الفطرة بمعنى الدين والأصل فيما أضيف إلى الشئ أنه منه أن يكون من أركانه لا من
زوائده حتى يقوم دليل على خلافه وقد ورد الامر باتباع إبراهيم عليه السلام وثبت أن هذه
الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام وكل شئ أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به
وتعقب بأن وجوب الاتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه بل يتم الاتباع بالامتثال فإن كان
واجبا على المتبوع كان واجبا على التابع أو ندبا فندب فيتوقف ثبوت وجوب هذه الخصال على
الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام (قوله الختان) بكسر المعجمة
وتخفيف المثناة مصدر ختن أي قطع وللختن بفتح ثم سكون قطع بعض مخصوص من عضو
مخصوص ووقع في رواية يونس عند مسلم الاختتان والختان اسم لفعل الخاتن ولموضع الختان
أيضا كما في حديث عائشة إذا التقي الختانان والأول المراد هنا قال الماوردي ختان الذكر قطع
الجلدة التي تغطي الحشفة والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أول الحشفة وأقل ما يجزئ
أن لا يبقى منها ما يتغشى به شئ من الحشفة وقال إمام الحرمين المستحق في الرجال قطع القلفة
وهي الجلدة التي تغطي الحشفة حتى لا يبقى من الجلدة شئ متدل وقال ابن الصباغ حتى
تنكشف جميع الحشفة وقال ابن كج فيما نقله الرافعي يتأدى الواجب بقطع شئ مما فوق الحشفة
وأن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها قال النووي وهو شاذ والأول هو المعتمد قال
الامام والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم قال الماوردي ختانها قطع جلدة تكون في
أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون
استئصاله وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي
صلى الله عليه وسلم لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وقال أنه ليس بالقوي (قلت) وله شاهدان من
حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس
عند البيهقي قال النووي ويسمى ختان الرجل اعذارا بذال معجمة وختان المرأة خفضا بخاء وضاد
معجمتين وقال أبو شامة كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل اعذارا والخفض يختص بالأنثى قال
أبو عبيدة عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما وأختنتهما وزنا ومعنى قال الجوهري
والأكثر خفضت الجارية قال وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته أي اتسعت
فصار كالمختون وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على موضع الختان
من غير قطع قال أبو شامة وغالب من يولد كذلك لا يكون ختانه تاما بل يظهر طرف الحشفة فإن
كان كذلك وجب تكميله وأفاد الشيخ أبو عبد الله بن الحاج في المدخل أنه اختلف في النساء هل
يخفضن عموما أو يفرق بين نساء المشرق فيخفضن ونساء المغرب فلا يخفضن لعدم الفضلة
المشروع قطعها منهن بخلاف نساء المشرق قال فمن قال أن من ولد مختونا استحب امرار الموسى
286

على الموضع امتثالا للامر قال في حق المرأة كذلك ومن لا فلا وقد ذهب إلى وجوب الختان دون
باقي الخصال الخمس المذكورة في الباب الشافعي وجمهور أصحابه وقال به من القدماء عطاء حتى
قال لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن وعن أحمد وبعض المالكية يجب وعن أبي حنيفة واجب
وليس بفرض وعنه سنة يأثم بتركه وفي وجه للشافعية لا يجب في حق النساء وهو الذي أورده
صاحب المغني عن أحمد وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب ومن حجتهم
حديث شداد بن أوس رفعه الختان سنة للرجال مكرمة للنساء وهذا لا حجة فيه لما تقرر أن لفظ
السنة إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء
في ذلك دل على أن المراد افتراق الحكم وتعقب بأنه لم ينحصر في الوجوب فقد يكون في حق الذكور
آكد منه في حق النساء أو يكون في حق الرجال للندب وفي حق النساء للإباحة على أن الحديث لا
يثبت لأنه من رواية حجاج بن أرطاة ولا يحتج به أخرجه أحمد والبيهقي لكن له شاهد أخرجه الطبراني
في مسند الشاميين من طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس وسعيد
مختلف فيه وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس وأخرجه البيهقي أيضا من
حديث أبي أيوب واحتجوا أيضا بأن الخصال المنتظمة مع الختان ليست واجبة إلا عند بعض من
شذ فلا يكون الختان واجبا وأجيب بأنه لا مانع أن يراد بالفطرة وبالسنة في الحديث القدر
المشترك الذي يجمع الوجوب والندب وهو الطلب المؤكد فلا يدل ذلك على عدم الوجوب ولا ثبوته
فيطلب الدليل من غيره وأيضا فلا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى
كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده فإيتاء الحق واجب والاكل مباح هكذا تمسك به جماعة
وتعقبه الفاكهاني في شرح العمدة فقال الفرق بين الآية والحديث أن الحديث تضمن لفظة
واحدة استعملت في الجميع فتعين أن يحمل على أحد الامرين الوجوب أو الندب بخلاف الآية
فإن صيغة الامر تكررت فيها والظاهر الوجوب فصرف في أحد الامرين بدليل وبقي الآخر على
الأصل وهذا التعقب إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين وأما من يجيزه
كالشافعية فلا يرد عليهم واستدل من أوجب الاختتان بأدلة * الأول أن القلفة تحبس النجاسة
فتمنع صحة الصلاة كمن أمسك نجاسة بفمه وتعقب بأن الفم في حكم الظاهر بدليل أن وضع المأكول
فيه لا يفطر به الصائم بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن وقد صرح أبو الطيب الطبري بأن
هذا القدر عندنا مغتفر * الثاني ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال له ألق عنك شعر الكفر واختتن مع ما تقرر أن خطابه للواحد يشمل غيره حتى
يقوم دليل الخصوصية وتعقب بأن سند الحديث ضعيف وقد قال ابن المنذر لا يثبت فيه شئ
* الثالث جواز كشف العورة من المختون وسيأتي أنه إنما يشرع لمن بلغ أو شارف البلوغ وجواز
نظر الخاتن إليها وكلاهما حرام فلو لم يجب لما أبيح ذلك وأقدم من نقل عنه الاحتجاج بهذا
أبو العباس بن سريج نقله عنه الخطابي وغيره وذكر النووي أنه رآه في كتاب الودائع المنسوب لابن
سريج قال ولا أظنه يثبت عنه قال أبو شامة وقد عبر عنه جماعة من المصنفين بعده بعبارات مختلفة
كالشيخ أبي حامد والقاضي الحسين وأبي الفرج السرخسي والشيخ في المهذب وتعقبه عياض
بأن كشف العورة مباح لمصلحة الجسم والنظر إليها يباح للمداواة وليس ذلك واجبا إجماعا وإذا جاز
287

في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى وقد استشعر القاضي حسين هذا فقال فإن قيل
قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الانصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية وكترك القيام
في الصلاة لسجود التلاوة وكشف العورة للمداواة مثلا وأجاب عن الأولين ولم يجب عن الثالث
وأجاب النووي بأن كشف العورة لا يجوز لكل مداواة فلا يتم المراد وقوى أبو شامة الايراد بأنهم
جوزوا الغاسل الميت أن يحلق عانة الميت ولا يتأتى ذلك للغاسل الا بالنظر واللمس وهما حرامان
وقد أجيز لأمر مستحب * الرابع احتج أبو حامد وأتباعه كالماوردي بأنه قطع عضو لا يستخلف من
الجسد تعبدا فيكون واجبا كقطع اليد في السرقة وتعقب بأن قطع اليد إنما أبيح في مقابلة جرم
عظيم فلم يتم القياس * الخامس قال الماوردي في الختان إدخال ألم عظيم على النفس وهو لا يشرع
إلا في إحدى ثلاث خصال لمصلحة أو عقوبة أو وجوب وقد انتفى الأولان فثبت الثالث وتعقبه
أبو شامة بأن في الختان عدة مصالح كمزيد الطهارة والنظافة فإن القلفة من المستقذرات عند
الحرب وقد كثر ذم الأقلف في أشعارهم وكان للختان عندهم قدر وله وليمة خاصة به وأقر الاسلام
ذلك * السادس قال الخطابي محتجا بأن الختان واجب بأنه من شعار الدين وبه يعرف المسلم من
الكافر حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين وتعقبه
أبو شامة بأن شعار الدين ليست كلها واجبة وما ادعاه في المقتول مردود لان اليهود وكثيرا من
النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة (قلت) قد بطل دليله * السابع قال البيهقي أحسن الحجج
أن يحتج بحديث أبي هريرة الذي في الصحيحين مرفوعا اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم
وقد قال الله تعالى ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة إبراهيم وصح عن ابن عباس أن الكلمات التي
ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة ومنهن الختان والابتلاء غالبا إنما يقع بما يكون واجبا
وتعقب بأنه لا يلزم ما ذكر إلا إن كان إبراهيم عليه السلام فعله على سبيل الوجوب فإنه من الجائز
أن يكون فعله على سبيل الندب فيحصل امتثال الامر باتباعه على وفق ما فعل وقد قال الله تعالى
في حق نبيه محمد واتبعوه لعلكم تهتدون وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على
الوجوب وأيضا فباقي الكلمات العشر ليست واجبة وقال الماوردي إن إبراهيم عليه السلام
لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله اه‍ وما قاله بحثا قد جاء منقولا فأخرج أبو الشيخ
في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو
حينئذ ابن ثمانين سنة فجعل واختتن بالقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى الله إليه إنك عجلت
قبل أن نأمرك بآلته قال يا رب كرهت أن أؤخر أمرك قال الماوردي القدوم جاء مخففا ومشددا
وهو الفأس الذي اختتن به وذهب غيره إلى أن المراد به مكان يسمى القدوم وقال أبو عبيد الهروي
في الغريبين يقال هو كان مقيله وقيل اسم قرية بالشام وقال أبو شامة هو موضع بالقرب من القرية
التي فيها قبره وقيل يقرب حلب وجزم غير واحد أن الآلة بالتخفيف وصرح ابن السكيت بأنه
لا يشدد وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما وقد تقدم بعض هذا في شرح الحديث المذكور
في ذكر إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء ووقع عند أبي الشيخ من طريق أخرى أن إبراهيم
لما اختتن كان ابن مائة وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك إلى أن أكمل مائتي سنة والأول أشهر وهو
أنه اختتن وهو ابن ثمانين وعاش بعدها أربعين والغرض أن الاستدلال بذلك متوقف كما تقدم على
288

أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق
واختلف في الوقت الذي يشرع فيه الختان قال الماوردي له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب
فوقت الوجوب البلوغ ووقت الاستحباب قبله والاختيار في اليوم السابع من بعد الولادة وقيل
من يوم الولادة فإن أخر ففي الأربعين يوما فإن أخر ففي السنة السابعة فإن بلغ وكان نضوا نحيفا يعلم
من حاله أنه إذا اختتن تلف سقط الوجوب ويستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب إلا لعذر وذكر
القاضي حسين أنه لا يجوز أن يختتن الصبي حتى يصير ابن عشر سنين لأنه حينئذ يوم ضربه على ترك
الصلاة وألم الختان فوق ألم الضرب فيكون أولى بالتأخير وزيفه النووي في شرح المهذب وقال
إمام الحرمين لا يجب قبل البلوغ لان الصبي ليس من أهل العبادة المتعلقة بالبدن فكيف مع الألم
قال ولا يرد وجوب العدة على الصبية لأنه لا يتعلق به تعب بل هو مضى زمان محض وقال أبو الفرج
السرخسي في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم
جوز الأئمة الختان قبل ذلك ونقل ابن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه
فعل اليهود وقال مالك يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه وذلك يكون في السبع سنين
وما حولها وعن الليث يستحب ما بين سبع سنين إلى عشر سنين وعن أحمد لم أسمع فيه شيئا
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال سبع من السنة في الصبي يسمى في السابع ويختن
الحديث وقد قدمت ذكره في كتاب العقيقة وأنه ضعيف وأخرج أبو الشيخ من طريق الوليد بن
مسلم عن زهير بن محمد عن ابن المنكدر أو غيره عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا
وحسينا لسبعة أيام قال الوليد فسألت مالكا عنه فقال لا أدري ولكن الختان طهرة فكلما
قدمها كان أحب إلي وأخرج البيهقي حديث جابر وأخرج أيضا من طريق موسى بن علي عن
أبيه أن إبراهيم عليه السلام ختن إسحق وهو ابن سبعة أيام وقد ذكرت في أبواب الوليمة من كتاب
النكاح مشروعية الدعوة في الختان وما أخرجه أحمد من طريق الحسن عن عثمان بن أبي
العاص أنه دعي إلى ختان فقال ما كنا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى
له وأخرجه أبو الشيخ من رواية فبين أنه كان ختان جارية وقد نقل الشيخ أبو عبد الله بن الحاج
في المدخل أن السنة إظهار ختان الذكر وإخفاء ختان الأنثى والله أعلم (قوله والاستحداد)
بالحاء المهملة استفعال من الحديد والمراد به استعمال الموسى في حلق الشعر من مكان مخصوص
من الجسد قيل وفي التعبير بهذه اللفظة مشروعية الكناية عما يستحى منه إذا حصل الافهام بها
وأغنى عن التصريح والذي يظهر أن ذلك من تصرف الرواة وقد وقع في رواية النسائي في حديث
أبي هريرة هذا التعبير بحلق العانة وكذا في حديث عائشة وأنس المشار إليهما من قبل عند مسلم
قال النووي المراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه وكذا الشعر الذي حوالي فرج
المرأة ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر فتحصل من مجموع
هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما قال وذكر الحلق لكونه هو الأغلب وإلا
فيجوز الإزالة بالنورة والنتف وغيرهما وقال أبو شامة العانة الشعر النابت على الركب بفتح الراء
والكاف وهو ما انحدر من البطن فكان تحت الثنية وفوق الفرج وقيل لكل فخذ ركب وقيل ظاهر
الفرج وقيل الفرج بنفسه سواء كان من رجل وامرأة قال ويستحب إماطة الشعر عن القبل
289

والدبر بل هو من الدبر أولى خوفا من أن يعلق شئ من الغائط فلا يزيله المستنجي إلا بالماء ولا يتمكن
من إزالته بالاستجمار قال ويقوم التنور مكان الحلق وكذلك النتف والقص وقد سئل أحمد
عن أخذ العانة بالمقراض فقال أرجو أن يجزئ قيل فالنتف قال وهل يقوى على هذا أحد وقال
ابن دقيق العيد قال أهل اللغة العانة الشعر النابت على الفرج وقيل هو منبت الشعر قال وهو المراد
في الخبر وقال أبو بكر بن العربي شعر العانة أولى الشعور بالإزالة لأنه يكشف ويتلبد فيه الوسخ
بخلاف شعر الإبط قال وأما حلق ما حول الدبر فلا يشرع وكذا قال الفاكهي في شرح العمدة
أنه لا يجوز كذا قال ولم يذكر للمنع مستندا والذي استند إليه أبو شامة قوي بل ربما تصور الوجوب
في حق من تعين ذلك في حقه كمن لم يجد من الماء إلا القليل وأمكنه أن لو حلق الشعر أن لا يعلق به
شئ من الغائط يحتاج معه إلى غسله وليس معه ماء زائد على قدر الاستنجاء وقال ابن دقيق العيد
كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس قال والأولى في إزالة الشعر
هنا الحلق اتباعا ويجوز النتف بخلاف الإبط فإنه بالعكس لأنه تحتبس تحته الأبخرة بخلاف
العانة والشعر من الإبط بالنتف يضعف وبالحلق يقوى فجاء الحكم في كل من الموضعين بالمناسب
وقال النووي وغيره السنة في إزالة شعر العانة الحلق بالموسى في حق الرجل والمرأة معا وقد ثبت
الحديث الصحيح عن جابر في النهي عن طروق النساء ليلا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة وقد
تقدم شرحه في النكاح لكن يتأدى أصل السنة بالإزالة بكل مزيل وقال النووي أيضا والأولى
في حق الرجل الحلق وفي حق المرأة النتف واستشكل بأن فيه ضررا على المرأة بالألم وعلى الزوج
باسترخاء المحل فإن النتف يرخي المحل باتفاق الأطباء ومن ثم قال ابن دقيق العيد أن بعضهم مال إلى
ترجيح الحلق في حق المرأة لان النتف يرخي المحل لكن قال ابن العربي أن كانت شابة فالنتف في
حقها أولى لأنه يربو مكان النتف وأن كانت كهلة فالأولى في حقها الحلق لان النتف يرخي المحل
ولو قيل الأولى في حقها التنور مطلقا لما كان بعيدا وحكى النووي في وجوب الإزالة عليها إذا
طلب ذلك منها وجهين أصحهما الوجوب ويفترق الحكم في نتف الإبط وحلق العانة أيضا بأن نتف
الإبط وحلقه يجوز أن يتعاطاه الأجنبي بخلاف حلق العانة فيحرم إلا في حق من يباح له المس
والنظر كالزوج والزوجة وأما التنور فسئل عنه أحمد فأجازه وذكر أنه يفعله وفيه حديث عن
أم سلمة أخرجه ابن ماجة والبيهقي ورجاله ثقات ولكنه أعله بالارسال وأنكر أحمد صحته ولفظه أن
النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلى ولى عانته بيده ومقابله حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان لا يتنور وكان إذا كثر شعره حلقة ولكن سنده ضعيف جدا (قوله ونتف الإبط) في رواية
الكشميهني الآباط بصيغة الجمع والإبط بكسر الهمزة والموحدة وسكونها وهو المشهور وصوبه
الجواليقي وهو يذكر ويؤنث وتأبط الشئ وضعه تحت إبطه والمستحب البداءة فيه باليمنى ويتأدى
أصل السنة بالحلق ولا سيما من يؤلمه النتف وقد أخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن
يونس بن عبد الاعلى قال دخلت على الشافعي ورجل يحلق إبطه فقال أني علمت أن السنة النتف
ولكن لا أقوى على الوجع قال الغزالي هو في الابتداء موجع ولكن يسهل على من اعتاده قال
والحلق كاف لان المقصود النظافة وتعقب بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة وإنما ينشأ
ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة
290

به بخلاف الحلق فإنه يقوي الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك وقال ابن دقيق العيد من نظر إلى
اللفظ وقف مع النتف ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل لكن بين أن النتف مقصود من جهة
المعنى فذكر نحو ما تقدم قال وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسبا يحتمل
أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور لكنه يرق الجلد فقد
يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا وتستحب البداءة في إزالته باليد اليمني ويزيل ما في
اليمني بأصابع اليسرى وكذا اليسرى إن أمكن وإلا فباليمنى (قوله وتقليم الأظفار) وهو تفعيل
من القلم وهو القطع ووقع في حديث ابن عمر قص الأظفار كما في حديث الباب ووقع في حديثه
في الباب الذي يليه بلفظ تقليم وفي حديث عائشة وأنس قص الأظفار والتقليم أعم والأظفار جمع
ظفر بضم الظاء والفاء وبسكونها وحكى أبو زيد كسر أوله وأنكره ابن سيده وقد قيل إنها قراءة
الحسن وعن أبي السماك أنه قرئ بكسر أوله وثانيه والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع
من الظفر لان الوسخ يجتمع فيه فيستقذر وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب
غسله في الطهارة وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصح
وقطع الغزالي في الاحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك واحتج بأن غالب الاعراب لا يتعاهدون ذلك ومع
ذلك لم يرد في شئ من الآثار أمرهم بإعادة الصلاة وهو ظاهر لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النجو لمن
استنجى بالماء ولم يمعن غسله فيكون إذا صلى حاملا للنجاسة وقد أخرج البيهقي في الشعب من طريق
قيس بن أبي حازم قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة فأوهم فيها فسئل فقال مالي لا أوهم
ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته رجاله ثقات مع إرساله وقد وصله الطبراني من وجه آخر والرفغ بضم
الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة يجمع على أرفاغ وهي مغابن الجسد كالإبط وما بين
الأنثيين والفخذين وكل موضع يجتمع فيه الوسخ فهو من تسمية الشئ باسم ما جاوره والتقدير وسخ
رفغ أحدكم والمعنى أنكم لا تقلمون أظفاركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الارفاغ من
الأوساخ المجتمعة قال أبو عبيد أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها (قلت) وفيه إشارة إلى الندب
إلى تنظيف المغابن كلها ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الإصبع
واستحب أحمد للمسافر أن يبقى شيئا لحاجته إلى الاستعانة لذلك غالبا ولم يثبت في ترتيب الأصابع
عند القص شئ من الأحاديث لكن جزم النووي في شرح مسلم بأنه يستحب البداءة بمسبحة اليمني
ثم بالوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الابهام وفي اليسرى بالبداءة بخنصرها ثم بالبنصر إلى الابهام
ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الابهام وفي اليسرى بإبهامها إلى الخنصر ولم يذكر للاستحباب
مستندا وقال في شرح المهذب بعد أن نقل عن الغزالي وأن المازري أشتد إنكاره عليه فيه
لا بأس بما قاله الغزالي إلا في تأخير إبهام اليد اليمنى فالأولى أن تقدم اليمنى بكمالها على اليسرى قال
وأما الحديث الذي ذكره الغزالي فلا أصل له اه‍ وقال ابن دقيق العيد يحتاج من ادعى استحباب
تقديم اليد في القص على الرجل إلى دليل فإن الاطلاق يأبى ذلك (قلت) يمكن أن يؤخذ بالقياس
على الوضوء والجامع التنظيف وتوجيه البداءة باليمنى لحديث عائشة الذي مر في الطهارة كان
يعجبه التيمن في طهوره وترجله وفي شأنه كله والبداءة بالمسبحة منها لكونها أشرف الأصابع لأنها
آلة التشهد وأما اتباعها بالوسطى فلان غالب من يقلم أظفاره يقلمها من قبل ظهر الكف فتكون
291

الوسطى جهة يمينه فيستمر إلى أن يختم بالخنصر ثم يكمل اليد بقص الابهام وأما في اليسرى فإذا
بدأ بالخنصر لزم أن يستمر على جهة اليمن إلى الابهام قال شيخنا في شرح الترمذي وكان ينبغي أن
لو أخر إبهام اليمنى ليختم بها ويكون قد استمر على الانتقال إلى جهة اليمنى ولعل الأول لحظ فصل كل
يد عن الأخرى وهذا توجيه في اليدين يعكر على ما نقله في الرجلين إلى أن يقال غالب من يقلم
أظفار رجليه يقلمها من جهة باطن القدمين فيستمر التوجيه وقد قال صاحب الإقليد قضية
الاخذ في ذلك بالتيامن أن يبدأ بخنصر اليمنى إلى أن ينتهي إلى خنصر اليسرى في اليدين والرجلين
معا وكأنه لحظ أن القص يقع من باطن الكفين أيضا وذكر الدمياطي أنه تلقى عن بعض المشايخ ان
من قص أظفاره مخالفا لم يصبه رمد وأنه جرب ذلك مدة طويلة وقد نص أحمد على استحباب قصها
مخالفا وبين ذلك أبو عبد الله بن بطة من أصحابهم فقال يبدأ بخنصره اليمنى ثم الوسطى ثم الابهام ثم
البنصر ثم السبابة ويبدأ بإبهام اليسرى على العكس من اليمنى وقد أنكر ابن دقيق العيد الهيئة
التي ذكرها الغزالي ومن تبعه وقال كل ذلك لا أصل له وإحداث استحباب لا دليل عليه وهو قبيح
عندي بالعالم ولو تخيل متخيل أن البداءة بمسبحة اليمنى من أجل شرفها فبقية الهيئة لا يتخيل فيه
ذلك نعم البداءة بيمنى اليدين ويمنى الرجلين له أصل وهو كان يعجبه التيامن اه‍ ولم يثبت أيضا في
استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث وقد أخرجه جعفر المستغفري بسند مجهول ورويناه
في مسلسلات التيمي من طريقه وأقرب ما وقفت عليه في ذلك ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي
جعفر الباقر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة
وله شاهد موصول عن أبي هريرة لكن سنده ضعيف أخرجه البيهقي أيضا في الشعب وسئل أحمد
عنه فقال يسن في يوم الجمعة قبل الزوال وعنه يوم الخميس وعنه يتخير وهذا هو المعتمد أنه يستحب
كيف ما أحتاج إليه وأما ما أخرج مسلم من حديث أنس وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار
ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين يوما كذا وقت فيه على البناء للمجهول
وأخرجه أصحاب السنن بلفظ وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار العقيلي إلى أن جعفر
ابن سليمان الضبعي تفرد به وفي حفظه شئ وصرح ابن عبد البر بذلك فقال لم يروه غيره وليس بحجة
وتعقب بأن أبا داود والترمذي أخرجاه من رواية صدقة بن موسى عن ثابت وصدقة بن موسى
وأن كان فيه مقال لكن تبين أن جعفرا لم ينفرد به وقد أخرج ابن ماجة نحوه من طريق علي بن زيد
ابن جدعان عن أنس وفي علي أيضا ضعف وأخرجه ابن عدي من وجه ثالث من جهة عبد الله بن
عمر أن شيخ مصري عن ثابت عن أنس لكن أتى فيه بألفاظ مستغربة قال أن يحلق الرجل عانته كل
أربعين يوما وأن ينتف أبطه كلما طلع ولا يدع شاربيه يطولان وأن يقلم أظفاره من الجمعة إلى الجمعة
وعبد الله والراوي عنه مجهولان قال القرطبي في المفهم ذكر الأربعين تحديد لأكثر المدة ولا يمنع
تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة والضابط في ذلك الاحتياج وكذا قال النووي المختار أن ذلك كله
يضبط بالحاجة وقال في شرح المهذب ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف الأحوال والاشخاص
والضابط الحاجة في هذا وفي جميع الخصال المذكورة (قلت) لكن لا يمنع من التفقد يوم الجمعة
فإن المبالغة في التنظف فيه مشروع والله أعلم وفي سؤالات مهنا عن أحمد قلت له يأخذ من
شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه قال يدفنه قلت بلغك فيه شئ قال كان ابن عمر يدفنه وروى أن
292

النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار وقال لا يتلعب به سحرة بني آدم (قلت) وهذا
الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر نحوه وقد استحب أصحابنا دفنها لكونها أجزاء
من الآدمي والله أعلم (فرع) لو استحق قص أظفاره فقص بعضا وترك بعضا أبدى فيه ابن دقيق
العيد احتمالا من منع لبس إحدى النعلين وترك الأخرى كما تقدم في بابه قريبا (قوله وقص
الشارب) تقدم القول في القص أول الباب وأما الشارب فهو الشعر النابت على الشفة العليا
واختلف في جانبيه وهما السبالان فقيل هما من الشارب ويشرع قصهما معه وقيل هما من
جملة شعر اللحية وأما القص فهو الذي في أكثر الأحاديث كما هنا وفي حديث عائشة وحديث أنس
كذلك كلاهما عند مسلم وكذا حديث حنظلة عن ابن عمر في أول الباب وورد الخبر بلفظ الحلق
وهي رواية النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بن عيينة بسند هذا الباب ورواه جمهور
أصحاب ابن عيينة بلفظ القص وكذا سائر الروايات عن شيخه الزهري ووقع عند النسائي من
طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ تقصير الشارب نعم وقع الامر بما يشعر بأن رواية
الحلق محفوظة كحديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ جزوا
الشوارب وحديث ابن عمر المذكور في الباب الذي يليه بلفظ أحفوا الشوارب وفي الباب الذي
يليه بلفظ انهكوا الشوارب فكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة لان الجز
وهو بالجيم والزاي الثقيلة قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد والإحفاء بالمهملة والفاء
الاستقصاء ومنه حتى أحفوه بالمسئلة قال أبو عبيد الهروي معناه ألزقوا الجز بالبشرة وقال
الخطابي هو بمعنى الاستقصاء والنهك بالنون والكاف المبالغة في الإزالة ومنه ما تقدم في الكلام
على الختان قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة اشمي ولا تنهكي أي لا تبالغي في ختان المرأة وجرى
على ذلك أهل اللغة وقال ابن بطال النهك التأثير في الشئ وهو غير الاستئصال قال النووي المختار
في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله وأما رواية احفوا فمعناها
أزيلوا ما طال على الشفتين قال ابن دقيق العيد ما أدري هل نقله عن المذهب أو قاله اختيارا منه
لمذهب مالك (قلت) صرح في شرح المهذب بان هذا مذهبنا وقال الطحاوي لم أر عن الشافعي
في ذلك شيئا منصوصا وأصحابه الذين رأيناهم كالمزني والربيع كانوا يحفون وما أظنهم أخذوا ذلك
إلا عنه وكأنه أبو حنيفة وأصحابه يقولون الاحفاء أفضل من التقصير وقال ابن القاسمي عن مالك
إحفاء الشارب عندي مثلة والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو حرف الشفتين
وقال أشهب سألت مالكا عمن يحفي شاربه فقال أرى أن يوجع ضربا وقال لمن يحلق شاربه هذه
بدعة ظهرت في الناس اه‍ وأغرب ابن العربي فنقل عن الشافعي أنه يستحب حلق الشارب وليس
ذلك معروفا عند أصحابه قال الطحاوي الحلق هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد اه‍ وقال
الأثرم كان أحمد يحفي شاربه إحفاء شديدا ونص على أنه أولى من القص وقال القرطبي وقص
الشارب أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي الآكل ولا يجتمع فيه الوسخ قال والجز
والإحفاء هو القص المذكور وليس بالاستئصال عند مالك قال وذهب الكوفيون إلى أنه
الاستئصال وبعض العلماء إلى التخيير في ذلك (قلت) هو الطبري فإنه حكى قول مالك وقول
الكوفيين ونقل عن أهل اللغة أن الاحفاء الاستئصال ثم قال دلت السنة على الامرين ولا
293

تعارض فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء يدل على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما
شاء وقال ابن عبد البر الاحفاء محتمل لاخذ الكل والقص مفسر للمراد والمفسر مقدم على المجمل
اه‍ ويرجح قول الطبري ثبوت الامرين معا في الأحاديث المرفوعة فأما الاقتصار على القص ففي
حديث المغيرة بن شعبة ضفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاربي وفي فقصه على سواك أخرجه
أبو داود واختلف في المراد بقوله على سواك فالراجح أنه وضع سواكا عند الشفة تحت الشعر وأخذ
الشعر بالمقص وقيل المعنى قصه على أثر سواك أي بعد ما تسوك ويؤيد الأول ما أخرجه البيهقي
في هذا الحديث قال فيه فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه وأخرج البزار من حديث
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا وشاربه طويل فقال ائتوني بمقص وسواك فجعل
السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس وحسنه كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقص شاربه وأخرج البيهقي والطبراني من طريق شرحبيل بن مسلم
الخولاني قال رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم أبو أمامة
الباهلي والمقدام بن معدي كرب الكندي وعتبة بن عوف السلمي والحجاج بن عامر الثمالي
وعبد الله بن بسر وأما الاحفاء ففي رواية ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال ذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم المجوس فقال إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم قال فكان ابن
عمر يستقرض سبلته فيجزها كما يجز الشاة أو البعير أخرجه الطبري والبيهقي وأخرجا من طريق
عبد الله بن أبي رافع قال رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا
أسيد الأنصاري وسلمة بن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم كالحلق لفظ الطبري وفي رواية
البيهقي يقصون شواربهم مع طرف الشفة وأخرج الطبري من طرق عن عروة وسالم والقاسم
وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم وقد تقدم في أول الباب أثر ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى
ينظر إلى بياض الجلد لكن كل ذلك محتمل لان يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا
ومحتمل لان يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها نظرا إلى المعنى في
مشروعية ذلك وهو مخالفة المجوس والامن من التشويش على الآكل وبقاء زهومة المأكول
فيه وكل ذلك يحصل بما ذكرنا وهو الذي يجمع مفترق الأخبار الواردة في ذلك وبذلك جزم الداودي
في شرح أثر ابن عمر المذكور وهو مقتضى تصرف البخاري لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه
وحديث أبي هريرة في قص الشارب فكأنه أشار إلى أن ذلك هو المراد من الحديث وعن الشعبي
أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العلياء وما قاربه من أعلاه ويأخذ ما يزيد (1) مما فوق
ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار
وقد أبدى ابن العربي لتخفيف شعر الشارب معنى لطيفا فقال إن الماء النازل من الانف يتلبد به
الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله وهو بإزاء حاسة شريفة وهي الشم فشرع
تخفيفه ليتم الجمال والمنفعة به (قلت) وذلك يحصل بتخفيفه ولا يستلزم احفافه وأن كان
أبلغ وقد رجح الطحاوي الحلق على القص بتفضيله صلى الله عليه وسلم الحلق على التقصير في النسك
ووهى ابن التين الحلق بقوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من حلق وكلاهما احتجاج بالخبر في غير
ما ورد فيه ولا سيما الثاني ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعية تنظيف داخل الانف وأخذ
294

شعره إذا طال والله أعلم وقد روى مالك عن زيد بن أسلم أن عمر كان إذا غضب فتل شاربه فدل على
أنه كان يوفره وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية أنه قال لا بأس بابقاء الشوارب في الحرب
إرهابا للعدو وزيفه (فصل) في فوائد تتعلق بهذا الحديث الأولى قال النووي يستحب أن يبدأ في
قص الشارب باليمين الثانية يتخير بين أن يقص ذلك بنفسه أو يولي ذلك غيره لحصول المقصود من
غير هتك مرواة بخلاف الإبط ولا ارتكاب حرمة بخلاف العانة (قلت) محل ذلك حيث لا ضرورة
وأما من لا يحسن الحلق فقد يباح له إن لم تكن له زوجة تحسن الحلق أن يستعين بغيره بقدر
الحاجة لكن محل هذا إذا لم يجد ما يتنور به فإنه يغني عن الحلق ويحصل به المقصود وكذا من
لا يقوى على النتف ولا يتمكن من الحلق إذا استعان بغيره في الحلق لم تهتك المروأة من أجل
الضرورة كما تقدم عن الشافعي وهذا لمن لم يقو على التنور من أجل أن النورة تؤذي الجلد الرقيق
كجلد الإبط وقد يقال مثل ذلك في حلق العانة من جهة المغابن التي بين الفخذ والأنثيين وأما
الاخذ من الشارب فينبغي فيه التفصيل بين من يحسن أخذه بنفسه بحيث لا يتشوه وبين من
لا يحسن فيستعين بغيره ويلتحق به من لا يجد مرآة ينظر وجهه فيها عند أخذه الثالثة قال
النووي يتأدى أصل السنة بأخذ الشارب بالمقص وبغيره وتوقف ابن دقيق العيد في قرضه بالسن
ثم قال من نظر إلى اللفظ منع ومن نظر إلى المعنى أجاز الرابعة قال ابن دقيق العيد لا أعلم أحدا
قال بوجوب قص الشارب من حيث هو هو واحترز بذلك من وجوبه بعارض حيث يتعين كما
تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي وكأنه لم يقف على كلام ابن حزم في ذلك فإنه قد صرح
بالوجوب في ذلك وفي إعفاء اللحية (قوله باب تقليم الأظفار) تقدم بيان ذلك
في الذي قبله وقد ذكر فيه ثلاثة أحاديث الثالث منها لا تعلق له بالظفر وإنما هو مختص بالشارب
واللحية فيمكن أن يكون مراده في هذه الترجمة والتي قبلها تقليم الأظفار وما ذكر معها وقص
الشارب وما ذكر معه ويحتمل أن يكون أشار إلى أن حديث ابن عمر في الأول وحديثه في الثالث
واحد منهم من طوله ومنهم من اختصره * الحديث الأول (قوله حدثنا أحمد بن أبي رجاء) هو
أحمد بن عبد الله بن أيوب الهروي وإسحق بن سليمان هو الرازي وحنظلة هو ابن سفيان الجمحي
(قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) كذا للجميع وزعم أبو مسعود في الأطراف أن
البخاري ذكره من هذا الوجه موقوفا ثم تعقبه بأن أبا سعيد الأشج رواه عن إسحاق بن سليمان
مرفوعا وتعقب الحميدي كلام أبي مسعود فأجاد (قوله من الفطرة) كذا للجميع وقد تقدم
نقل النووي أنه وقع فيه بلفظ من السنة (قوله وقص الشارب) في رواية الإسماعيلي وأخذ
الشارب وفي أخرى له وقص الشوارب قال وقال مرة الشارب قال الجياني وقع في كلامهم أنه
لعظم الشوارب وهو من الواحد الذي فرق وسمي كل جزء منه باسمه فقالوا لكل جانب منه شاربا ثم
جمع شوارب وحكى ابن سيده عن بعضهم من قال الشاربان أخطأ وإنما الشاربان ما طال من
ناحية السبلة قال وبعضهم يسمي السبلة كلها شاربا ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك أنه كان
إذا غضب فتل شاربه والذي يمكن فتله من شعر الشارب السبال وقد سماه شاربا * الحديث الثاني
حديث أبي هريرة وقد تقدم شرحه مستوفى * الحديث الثالث (قوله عمر بن محمد بن زيد) أي
ابن عبد الله بن عمر (قوله خالفوا المشركين) في حديث أبي هريرة عند مسلم خالفوا المجوس وهو
295

المراد في حديث ابن عمر فإنهم كانوا يقصون لحاهم ومنهم من كان يحلقها (قوله أحفوا الشوارب)
بهمزة قطع من الاحفاء للأكثر وحكى ابن دريد حفى شاربه حفوا إذا استأصل أخذ شعره فعلى
هذا فهي همزة وصل (قوله ووفروا اللحى) أما قوله وفروا فهو بتشديد الفاء من التوفير وهو
الابقاء أي اتركوها وافرة وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع في الباب الذي يليه اعفوا وسيأتي
تحريره وفي حديث أبي هريرة عند مسلم أرجأوا وضبطت بالجيم والهمزة أي أخروها وبالخاء المعجمة
بلا همز أي أطيلوها وله في رواية أخرى أوفوا أي اتركوها وافية قال النووي وكل هذه الروايات
بمعنى واحد واللحى بكسر اللام وحكى ضمها وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط وهي اسم لما
نبت على الخدين والذقن (قوله وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) هو
موصول بالسند المذكور إلى نافع وقد أخرجه مالك في الموطأ عن نافع بلفظ كان ابن عمر إذا حلق
رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه وفي حديث الباب مقدار المأخوذ وقوله فضل بفتح
الفاء والضاد المعجمة ويجوز كسر الضاد كعلم والأشهر الفتح قاله ابن التين وقال الكرماني لعل ابن
عمر أراد الجمع بين الحلق والتقصير في النسك فحلق رأسه كله وقصر من لحيته ليدخل في عموم قوله
تعالى محلقين رؤسكم ومقصرين وخص ذلك من عموم قوله وفروا اللحى فحمله على حالة غير حالة
النسك (قلت) الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك بل كان يحمل الامر
بالاعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بافراط طول شعر اللحية أو عرضه فقد قال الطبري
ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شئ من اللحية من طولها ومن عرضها وقال قوم إذا
زاد على القبضة يؤخذ الزائد ثم ساق بسنده إلى بن عمر أنه فعل ذلك وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل
ومن طريق أبي هريرة أنه فعله وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال كنا نعفي السبال
إلا في حج أو عمرة وقوله نعفي بضم أوله وتشديد الفاء أي نتركه وافرا وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر فإن
السبال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبلة بفتحتين وهي ما طال من شعر اللحية فأشار
جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك ثم حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية هل له حد
أم لا فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف وعن الحسن البصري أنه
يؤخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش وعن عطاء نحوه قال وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت
الأعاجم تفعله من قصها وتخفيفها قال وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة وأسنده عن
جماعة واختار قول عطاء وقال إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها وعرضها
لعرض نفسه لمن يسخر به واستدل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها وهذا أخرجه الترمذي ونقل عن البخاري
أنه قال في رواية عمر بن هارون لا أعلم له حديثا منكرا الا هذا اه‍ وقد ضعف عمر بن هارون مطلقا
جماعة وقال عياض يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها وأما الاخذ من طولها وعرضها إذا
عظمت فحسن بل تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره في تقصيرها كذا قال وتعقبه النووي بأنه
خلاف ظاهر الخبر في الامر بتوفيرها قال والمختار تركها على حالها وأن لا يتعرض لها بتقصير ولا
غيره وكأن مراده بذلك في غير النسك لان الشافعي نص على استحبابه فيه وذكر النووي عن
الغزالي وهو في ذلك تابع لأبي طالب المكي في القوت قال يكره في اللحية عشر خصال خضبها
296

بالسواد لغير الجهاد وبغير السواد ايهاما للصلاح لا لقصد الاتباع وتبيضها استعجالا للشيخوخة
لقصد التعاظم على الاقران ونتفها إبقاء للمرودة وكذا تحذيفها ونتف الشيب ورجح النووي
تحريمه لثبوت الزجر عنه كما سيأتي قريبا وتصفيفها طاقة طاقة تصنعا ومخيلة وكذا ترجيلها
والتعرض لها طولا وعرضا على ما فيه من اختلاف وتركها شعثة إيهاما للزهد والنظر إليها إعجابا
وزاد النووي وعقدها لحديث رويفع رفعه من عقد لحيته فإن محمدا منه برئ الحديث أخرجه
أبو داود قال الخطابي قيل المراد عقدها في الحرب وهو من زي الأعاجم وقيل المراد معالجة الشعر
لينعقد وذلك من فعل أهل التأنيث * (تنبيه) * أنكر ابن التين ظاهر ما نقل عن ابن عمر فقال
ليس المراد أنه كان يقتصر على قدر القبضة من لحيته بل كان يمسك عليها فيزيل ما شذ منها فيمسك
من أسفل ذقنه بأصابعه الأربعة ملتصقة فيأخذ ما سفل عن ذلك ليتساوى طول لحيته قال
أبو شامة وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها وقال
النووي يستثنى من الامر باعفاء اللحى ما لو نبتت للمرأة لحية فإنه يستحب لها حلقها وكذا لو نبت
لها شارب أو عنفقة وسيأتي البحث فيه في باب المتنمصات (قوله باب اعفاء اللحى)
كذا استعمله من الرباعي وهو بمعنى الترك ثم قال عفوا كثروا وكثرت أموالهم وأراد تفسير قوله
تعالى في الأعراف حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فقد تقدم هناك بيان من فسر
قوله عفوا يكثروا فأما أن يكون أشار بذلك إلى أصل المادة أو إلى أن لفظ الحديث وهو اعفوا
اللحى جاء بالمعنيين فعلى الأول يكون بهمزة قطع وعلى الثاني بهمزة وصل وقد حكى ذلك جماعة
من الشراح منهم ابن التين قال وبهمزة قطع أكثر وقال ابن دقيق العيد تفسير الاعفاء بالتكثير
من إقامة السبب مقام المسبب لان حقيقة الاعفاء الترك وترك التعرض للحية يستلزم تكثيرها
وأغرب ابن السيد فقال حمل بعضهم قوله أعفوا اللحى على الاخذ منها بإصلاح ما شذ منها طولا
وعرضا واستشهد بقول زهير * على آثار من ذهب العفاء * وذهب الأكثر إلى أنه بمعنى
وفروا أو كثروا وهو الصواب قال ابن دقيق العيد لا أعلم أحدا فهم من الامر في قوله أعفوا اللحى
تجويز معالجتها بما يغزرها كما يفعله بعض الناس قال وكأن الصارف عن ذلك قرينة السياق
في قوله في بقية الخبر وأحفوا الشوارب انتهى ويمكن أن يؤخذ من بقية طرق ألفاظ الحديث
الدالة على مجرد الترك والله أعلم * (تنبيه) * في قوله أعفوا وأحفوا ثلاثة أنواع من البديع
الجناس والمطابقة والموازنة (قوله باب ما يذكر في الشيب) أي هل يخضب أو يترك
(قوله عن بن سيرين) هو محمد بينه مسلم في روايته عن حجاج بن الشاعر عن معلى شيخ البخاري فيه
(قوله سألت أنسا أخضب النبي صلى الله عليه وسلم) يعرف منه أنه المبهم في الرواية التي بعدها
حيث قال ثابت سئل أنس وكذا قوله في هذه الرواية لم يبلغ من الشيب إلا قليلا يفسره قوله
في الثانية لم يبلغ ما يخضب وذلك أن العادة أن القليل من الشعر الأبيض إذا بدا في اللحية لم يبادر
إلى خضبه حتى يكثر ومرجع القلة والكثرة في ذلك إلى العرف وزاد أحمد من طريق هشام بن
حسان عن محمد بن سيرين في هذا الحديث ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم قال وجاء
أبو بكر بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم
ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا وستأتي الإشارة إليه في باب الخضاب ولمسلم من طريق حماد بن سلمة
297

عن ثابت عن أنس نحو حديث ابن سيرين وزاد ولم يخضب ولكن خضب أبو بكر وعمر (قوله
في الثانية لو شئت أن أعد شمطاته في لحيته) المراد بالشمطات الشعرات اللاتي ظهر فيهن البياض
فكأن الشعرة البيضاء مع ما يجاورها من شعرة سوداء ثوب أشمط والأشمط الذي يخالطه بياض
وسواد وجواب لو في قوله لو شئت محذوف والتقدير لعددتها وذلك مما يدل على قلتها وقد تقدم في
باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم من المناقب بيان الجمع بين مختلف الأحاديث في ذلك (قوله
حدثنا مالك ابن إسماعيل) هو بن غسان النهدي وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحق وعثمان بن
عبد الله بن موهب هو التيمي مولى آل طلحة وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سبق في
الحج وغيره (قوله أرسلني أهلي إلى أم سلمة) يعني زوج النبي صلى الله عليه وسلم ولم أقف على تسمية
أهله ولكنهم من آل طلحة لانهم مواليه ويحتمل أن يريد بأهله امرأته (قوله بقدح من ماء وقبض
إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيها) وفي رواية الكشميهني فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه
وسلم اختلف في ضبطه قصة هو بقاف مضمومة ثم صاد مهملة أو بفاء مكسورة ثم ضاد معجمة
فأما قوله وقبض إسرائيل ثلاث أصابع فإن فيه إشارة إلى صغر القدح وزعم الكرماني أنه عبارة
عن عدد إرسال عثمان إلى أم سلمة وهو بعيد وأما قوله فيها فضمير لمعنى القدح لان القدح إذا كان
فيه مائع يسمى كأسا والكأس مؤنثة أو الضمير للقصة كما سيأتي توجيهه وأما رواية الكشميهني
بالتذكير فواضحة وقوله من فضة إن كان بالفاء والمعجمة فهو بيان لجنس القدح قال الكرماني
ويحمل على أنه كان مموها بفضة لا أنه كان كله فضة (قلت) وهذا ينبني على أن أم سلمة كانت لا تجيز
استعمال آنية الفضة في غير الأكل والشرب ومن أين له ذلك وقد أجاز جماعة من العلماء استعمال
الاناء الصغير من الفضة في غير الأكل والشرب وإن كان بالقاف والمهملة فهو من صفة الشعر على
ما في التركيب من قلق العبارة ولهذا قال الكرماني عليك بتوجيهه ويظهر أن من سببية أي
أرسلوني بقدح من ماء بسبب قصة فيها شعر وهذا كله بناء على أن هذه اللفظة محفوظة بالقاف
والصاد المهملة وقد ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين بلفظ دال على أنه بالفاء والمعجمة
ولفظه أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر الخ ولم يذكر قول
إسرائيل فكأنه سقط على رواة البخاري قوله فجاءت بجلجل وبه ينتظم الكلام ويعرف منه
أن قوله من فضة بالفاء والمعجمة وأنه صفة الجلجل لا صفة القدح الذي أحضره عثمان بن موهب
قال ابن دحية وقع لأكثر الرواة بالقاف والمهملة والصحيح عند المحققين بالفاء والمعجمة وقد
بينه وكيع في مصنفه بعد ما رواه عن إسرائيل فقال كان جلجلا من فضة صيغ صوانا لشعرات
كانت عند أم سلمة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم (قوله وكان) الناس (إذا أصاب
الانسان) أي منهم (عين) أي أصيب بعين (أو شئ) أي من أي مرض كان وهو موصول
من قول عثمان المذكور (قوله بعث إليها مخضبة) بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الضاد
المعجمة بعدها موحدة هو من جملة الآنية وقد تقدم بيانه في كتاب الطهارة والمراد أنه كان من
اشتكى أرسل إناء إلى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب
الاناء أو يغتسل به استشفاء بها فتحصل له بركتها (قوله فاطلعت في الجلجل) كذا للأكثر
بجيمين مضمومتين بينهما لام وآخره أخرى هو شبه الجرس وقد تنزع منه الحصاة التي تتحرك
298

فيوضع فيه ما يحتاج إلى صيانته والقائل فاطلعت هو عثمان وقيل أن في بعض الروايات الجحل
بفتح الجيم وسكون المهملة وفسر بالسقاء الضخم وما أظنه الا تصحيفا لأنه إذا كان صوانا
للشعرات كما جزم به وكيع أحد رواة الخبر كان المناسب لهن الظرف الصغير لا الاناء الضخم ولم
يفسر صاحب المشارق ولا النهاية الجلجل كأنهما تركاه لشهوته لكن حكى عياض أن في رواية
ابن السكن المخضب بدل الجلجل فالله أعلم (قوله فرأيت شعرات حمرا) في الرواية التي تليها
مخضوبا ويأتي البحث فيه (قوله سلام) هو بالتشديد اتفاقا وجزم أبو نصر الكلاباذي بأنه ابن
مسكين وخالفه الجمهور فقالوا هو ابن أبي مطيع وبذلك جزم أبو علي بن السكن وأبو علي الجياني
ووقع التصريح به في هذا الحديث عند ابن ماجة من رواية يونس بن محمد عن سلام بن أبي مطيع
وقد أخرجه ابن أبي خيثمة عن موسى شيخ البخاري فيه فقال حدثنا سلام بن أبي مطيع (قوله
مخضوبا) زاد يونس بالحناء والكتم وكذا لابن أبي خيثمة وكذا لأحمد عن عفان وعبد الرحمن بن
مهدي كلاهما عن سلام وله من طريق أبي معاوية وهو شيبان بن عبد الرحمن شعرا أحمد مخضوبا
بالحناء والكتم وللإسماعيلي من طريق أبي إسحق عن عثمان المذكور كان مع أم سلمة من شعر
لحية النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر الحناء والكتم والحناء معروف والكتم بفتح الكاف والمثناة
سيأتي تفسيره بعد هذا قال الإسماعيلي ليس فيه بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي
خضب بل يحتمل أن يكون أحمر بعده لما خالطه من طيب فيه صفرة فغلبت به الصفرة قال فإن كان
كذلك وإلا فحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب أصح كذا قال والذي أبداه احتمالا
قد تقدم معناه موصولا إلى أنس في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه جزم بأنه إنما أحمر من
الطيب (قلت) وكثير من الشعور التي تفصل عن الجسد إذا طال العهد يئول سوادها
إلى الحمرة وما جنح إليه من الترجيح خلاف ما جمع به الطبري وحاصله أن من جزم أنه خضب كما
في ظاهر حديث أم سلمة وكما في حديث ابن عمر الماضي قريبا أنه صلى الله عليه وسلم خضب بالصفرة
حكى ما شاهده وكان ذلك في بعض الأحيان ومن نفى ذلك كأنس فهو محمول على الأكثر الأغلب
من حاله وقد أخرج مسلم وأحمد والترمذي والنسائي من حديث جابر بن سمرة قال ما كان في رأس
النبي صلى الله عليه وسلم ولحيته من الشيب إلا شعرات كان إذا دهن واراهن الدهن فيحتمل أن
يكون الذين أثبتوا الخضاب شاهدوا الشعر الأبيض ثم لما واراه الدهن ظنوا أنه خضبه والله أعلم
(قوله وقال أبو نعيم) كذا لأبي ذر وصرح غيره بوصله فقال قال لنا أبو نعيم (قوله نصير) بنون
مصغر ابن أبي الأشعث اسمه وليس لنصير في البخاري سوى هذا الموضع (قوله باب
الخضاب) أي تغيير لون شيب الرأس واللحية (قوله عن أبي سلمة وسليمان بن يسار) كذا جمع
بينهما وتابعه الأوزاعي عن الزهري أخرجه النسائي ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن
الزهري عن أبي سلمة وحده وقد مضت رواية صالح في أحاديث الأنبياء ورواية الآخرين عند
النسائي عن أبي هريرة في رواية إسحق بن راهويه عن سفيان بسنده أنهما سمعا أبا هريرة أخرجه
النسائي (قوله إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) هكذا أطلق ولأحمد بسند حسن
عن أبي أمامة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال
يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب وأخرج الطبراني في الأوسط نحوه من
299

حديث أنس وفي الكبير من حديث عتبة بن عبد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتغيير
الشعر مخالفة للأعاجم وقد تمسك به من أجاز الخضاب بالسواد وقد تقدمت في باب ذكر بني
إسرائيل من أحاديث الأنبياء مسئلة استثناء الخضب بالسواد لحديثي جابر وابن عباس وأن من
العلماء من رخص فيه في الجهاد ومنهم من رخص فيه مطلقا وأن الأولى كراهته وجنح النووي إلى
أنه كراهة تحريم وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر
والحسن والحسين وجرير وغير واحد واختاره ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له وأجاب عن
حديث ابن عباس رفعه يكون قوم يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة بأنه لا دلالة فيه على
كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الاخبار عن قوم هذه صفتهم وعن حديث جابر جنبوه السواد
بأنه في حق من صار شيب رأسه مستبشعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد انتهى وما قاله خلاف
ما يتبادر من سياق الحديثين نعم يشهد له ما أخرجه هو عن ابن شهاب قال كنا نخضب بالسواد إذ
كان الوجه جديدا فلما نغض الوجه والأسنان تركناه وقد أخرج الطبراني وابن أبي عاصم من
حديث أبي الدرداء رفعه من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة وسنده لين ومنهم من فرق
في ذلك بين الرجل والمرأة فأجازه لها دون الرجل واختاره الحليمي وأما خضب اليدين والرجلين
فلا يجوز للرجال إلا في التداوي وقوله فخالفوهم في رواية مسلم فخالفوا عليهم وأصبغوا وللنسائي
من حديث ابن عمر رفعه غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ورجاله ثقات لكن اختلف على هشام بن
عروة فيه كما بينه النسائي وقال إنه غير محفوظ وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة وزاد
والنصارى ولأصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث أبي ذر رفعه إن أحسن ما غيرتم به الشيب
الحناء والكتم وهذا يحتمل أن يكون على التعاقب ويحتمل الجمع وقد أخرج مسلم من حديث أنس
قال اختضب أبو بكر بالحناء والكتم واختضب عمر بالحناء بحتا وقوله بحتا بموحدة مفتوحة
ومهملة ساكنة بعدها مثناة أي صرفا وهذا يشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائما والكتم نبات
باليمن يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة وصبغ الحناء أحمر فالصبغ بهما معا يخرج بين السواد
والحمرة واستنبط ابن أبي عاصم من قوله صلى الله عليه وسلم جنبوه السواد أن الخضاب بالسواد
كان من عادتهم وذكر ابن الكلبي أن أول من اختضب بالسواد من العرب عبد المطلب وأما مطلقا
ففرعون وقد اختلف في الخضب وتركه فخضب أبو بكر وعمر وغيرهما كما تقدم وترك الخضاب علي
وأبي بن كعب وسلمة بن الأكوع وأنس وجماعة وجمع الطبري بأن من صبغ منهم كان اللائق به كمن
يستشنع شيبه ومن ترك كان اللائق به كمن لا يستشنع شيبه وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم
في حديث جابر الذي أخرجه مسلم في قصة أبي قحافة حيث قال صلى الله عليه وسلم لما رأى رأسه
كأنها الثغامة بياضا غيروا هذا وجنبوه السواد ومثله حديث أنس الذي تقدمت الإشارة إليه
أول باب ما يذكر في الشيب وزاد الطبري وابن أبي عاصم من وجه آخر عن جابر فذهبوا به فحمروه
والثغامة بضم المثلثة وتخفيف المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره قال فمن كان في مثل حال أبي
قحافة استحب له الخضاب لأنه لا يحصل به الغرور لاحد ومن كان بخلافه فلا يستحب في حقه ولكن
الخضاب مطلقا أولى لأنه فيه امتثال الامر في مخالفة أهل الكتاب وفيه صيانة للشعر عن تعلق
الغبار وغيره به إلا إن كان من عادة أهل البلد ترك الصبغ وأن الذي ينفرد بدونهم بذلك يصير
300

في مقام الشهرة فالترك في حقه أولى ونقل الطبري بعد أن أورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده رفعه بلفظ من شاب شيبة فهي له نور إلى أن ينتفها أو يخضبها وحديث ابن مسعود إن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره خصالا فذكر منها تغيير الشيب إذ بعضهم ذهب إلى أن هذه
الكراهة تستحب بحديث الباب ثم ذكر الجمع وقال دعوى النسخ لا دليل عليها (قلت) وجنح إلى
النسخ الطحاوي وتمسك بالحديث الآتي قريبا أنه كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل
الكتاب فيما لم ينزل عليه ثم صار يخالفهم ويحث على مخالفتهم كما سيأتي تقريره في باب الفرق
إن شاء الله تعالى وحديث عمرو بن شعيب المشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه ولم أر في شئ من
طرقه الاستثناء المذكور فالله أعلم قال ابن العربي وإنما نهى عن النتف دون الخضب لان فيه
تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه والله أعلم وقد نقل
عن أحمد أنه يجب وعنه يجب ولو مرة وعنه لا أحب لاحد ترك الخضب ويتشبه بأهل الكتاب
وفي السواد عنه كالشافعية روايتان المشهورة يكره وقيل يحرم ويتأكد المنع لمن دلس به (قوله
باب الجعد) هو صفة الشعر يقال شعر جعد بفتح الجيم وسكون المهملة وبكسرها ذكر
فيه سبعة أحاديث * الحديث الأول حديث أنس في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم
شرحه في المناقب والمقصود منه هنا قوله وليس بالجعد القطط ولا بالسبط أي أن شعره كان بين
الجعودة والسبوطة وقد تقدم بيان ذلك في المناقب وأن الشعر الجعد هو الذي يتجعد كشعور
السودان وأن السبط هو الذي يسترسل فلا يتكسر منه شئ كشعور الهنود والقطط بفتح الطاء
البالغ في الجعودة بحيث يتفلفل وقوله وليس في لحيته عشرون شعرة بيضاء تقدم في المناقب بيان
الاختلاف في تعيين العدد المذكور ومما لم يتقدم هناك أن في حديث الهيثم بن دهر عند الطبراني
ثلاثون شعرة عددا وسنده ضعيف والمعتمد ما تقدم أنهن دون العشرين * الحديث الثاني
حديث البراء (قوله حدثنا مالك بن إسماعيل) هو أبو غسان النهدي (قوله قال بعض أصحابي
عن مالك) هو ابن إسماعيل المذكور (قوله إن جمته) بضم الجيم وتشديد الميم أي شعر رأسه إذا
نزل إلى قرب المنكبين قال الجوهري في حرف الواو والوفرة الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة
إذا ألمت بالمنكبين وقد خالف هذا في حرف الجيم فقال إذا بلغت المنكبين فهي جمة واللمة إذا
جاوزت شحم الاذن وتقدم نظيره في ترجمة عيسى من أحاديث الأنبياء في شرح حديث ابن عمر قال
شيخنا في شرح الترمذي كلام الجوهري الثاني هو الموافق لكلام أهل اللغة وجمع ابن بطال بين
اللفظين المختلفين في الحديث بأن ذلك إخبار عن وقتين فكان إذا غفل عن تقصيره بلغ قريب
المنكبين وإذا قصه لم يجاوز الاذنين وجمع غيره بأن الثاني كان إذا اعتمر يقصر والأول في غير تلك
الحالة وفيه بعد ثم هذا الجمع إنما يصلح لو اختلفت الأحاديث وأما هنا فاللفظان وردا في حديث
واحد متحدا المخرج وهما من رواية أبي إسحق عن البراء فالأولى في الجمع بينهما الحمل على المقاربة
وقد وقع في حديث أنس الآتي قريبا كما وقع في حديث البراء (قوله لنضرب قريبا من منكبيه)
في رواية شعبة المعلقة عقب هذا شعره يبلغ شحمة أذنيه وقد تقدم في المناقب أن في رواية يوسف
ابن إسحاق بن أبي إسحق ما يجمع بين الروايتين ولفظه له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه وحاصله
أن الطويل منه يصل إلى المنكبين وغيره إلى شحمة الأذن والمراد ببعض أصحابه الذي أبهمه
301

يعقوب بن سفيان فإنه كذلك أخرجه عن مالك بن إسماعيل بهذا السند وفيه الزيادة (قوله قال شعبة
شعره يبلغ شحمة أذنيه) كذا لأبي ذر والنسفي ولغيرهما تابعه شعبة شعره الخ وقد وصله المؤلف
رحمه الله في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق شعبة عن أبي إسحق عن البراء وشرحه
الكرماني على رواية الأكثر وأشار إلى أن البخاري لم يذكر شيخ شعبة قال فيحتمل أنه أبو إسحق لأنه
شيخه * الحديث الثالث حديث ابن عمر في صفة عيسى بن مريم وفيه له لمة كأحسن ما أنت راء
من اللمم وفي صفة الدجال وأنه جعد قطط وقد تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء وغلط من استدل
بهذا الحديث على أن الدجال يدخل المدينة أو مكة إذ لا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم رآه
في المنام بمكة أنه دخلها حقيقة ولو سلم أنه رأى في زمانه صلى الله عليه وسلم بمكة فلا يلزم أن يدخلها
بعد ذلك إذا خرج في آخر الزمان وقد استدل علي ابن صياد أنه ما هو الدجال بكونه سكن المدينة ومع
ذلك فكان عمر وجابر يحلفان على أنه هو الدجال كما سيأتي في آخر الفتن * الحديث الرابع حديث
أنس أورده من عدة طرق عن قتادة عنه ووقع في الرواية الأولى يضرب شعره منكبيه وفي الثانية
كان شعره بين أذنيه وعاتقه والجواب عنه كالجواب في حديث البراء سواء وقد أخرج مسلم وأبو
داود من رواية إسماعيل بن علية عن حميد عن أنس كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف
أذنيه ووقع عند أبي داود وابن ماجة وصححه الترمذي من طريق أبي الزناد عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة لفظ أبي داود ولفظ
ابن ماجة بنحوه ولفظ الترمذي عكسه فوق الجمة ودون الوفرة وجمع بينهما شيخنا في شرح
الترمذي بأن المراد بقوله فوق ودون بالنسبة إلى المحل وتارة بالنسبة إلى الكثرة والقلة فقوله فوق
الجمة أي أرفع في المحل وقوله دون الجمة أي في القدر وكذا بالعكس وهو جمع جيد لولا أن مخرج
الحديث متحد وإسحق في السند الأول هو ابن راهويه وحبان بفتح المهملة وتشديد المهملة وتشديد الموحدة هو
ابن هلال (قوله في رواية جرير بن حازم كان شعر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا) بفتح الراء
وكسر الجيم وقد تضم وتفتح أي فيه تكسر يسير يقال رجل شعره إذا مشطه فكان بين السبوطة
والجعودة وقد فسره الراوي كذلك في بقية الحديث ثم أورده من طريق أخرى عن جرير وهو ابن
حازم أيضا زاد فيها كان ضخم اليدين وفي ثالثة كان ضخم الرأس والقدمين ولم يذكر ما في الروايتين
الأوليين من صفة الشعر وزاد لم أر قبله ولا بعده مثله قال وكان سبط الكفين ثم أورده من طريق
معاذ بن هانئ عن همام بسند نحوه لكن قال عن قتادة عن أنس أر عن رجل عن أبي هريرة وهذه
الزيادة لا تأثير لها في صحة الحديث لان الذين جزموا بكون الحديث عن قتادة عن أنس أضبط
وأتقن من معاذ بن هانئ وهم حبان بن هلال وموسى بن إسماعيل كما هنا وكذا جرير بن حازم كما
مضى ومعمر كما سيأتي حيث جزما به عن قتادة عن أنس ويحتمل أن يكون عند قتادة من الوجهين
والرجل المبهم يحتمل أن يكون هو سعيد ابن المسيب فقد أخرج ابن سعد من روايته عن أبي هريرة
302

نحوه وقتادة معروف بالرواية عن سعيد بن المسيب وجوز الكرماني أن يكون الحديث من
مسند أبي هريرة وإنما وقع التردد في الراوي هل هو أنس أو رجل مبهم ثم رجح كون التردد
في كونه من مسند أنس أو من مسند أبي هريرة بأن أنسا خادم النبي صلى الله عليه وسلم وهو
أعرف بوصفه من غيره فيبعد أن يروي صفته عن رجل عن صحابي آخر هو أقل ملازمة له منه اه‍
وكلامه الأخير لا يحتمله السياق أصلا وإنما الاحتمال البعيد ما ذكره أولا والحق أن التردد فيه من
معاذ بن هانئ هل حدثه به همام عن قتادة عن أنس أو عن قتادة عن رجل عن أبي هريرة وبهذا
جزم أبو مسعود والحميدي والمزي وغيرهم من الحفاظ (قوله وقال هشام) هو ابن يوسف
(عن معمر عن قتادة عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم شئن الكفين والقدمين) هذا
التعليق وصله الإسماعيلي من طريق علي بن بحر عن هشام بن يوسف به سواء وكذا أخرجه
يعقوب بن سفيان عن مهدي بن أبي مهدي عن هاشم بن يوسف وقوله شئن بفتح المعجمة وسكون
المثلثة وبكسرها بعدها نون أي غليظ الأصابع والراحة قال ابن بطال كانت كفه صلى
الله عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنها مع ضخامتها كانت لينة كما تقدم في حديث أنس يعني الذي
مضى في المناقب ما مسست حريرا ألين من كفه صلى الله عليه وسلم قال وأما قول الأصمعي
الشئن غلظ الكف مع خشونتها فلم يوافق على تفسيره بالخشونة والذي فسره به الخليل وأبو عبيد
أولى ويؤيده قوله في الرواية الأخرى ضخم الكفين والقدمين قال ابن بطال وعلى تقدير تسليم
ما فسر الأصمعي به الشئن يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كف النبي صلى الله عليه وسلم فكان
إذا عمل بكفه في الجهاد أو في مهنة أهله صار كفه خشنا للعارض المذكور وإذا ترك ذلك رجع
كفه إلى أصل جبلته من النعومة والله أعلم وقال عياض فسر أبو عبيد الشئن بالغلظ مع
القصر وتعقب بأنه ثبت في وصفه صلى الله عليه وسلم أنه كان سابل الأطراف (قلت) ويؤيده
قوله في رواية أبي النعمان في الباب كان بسط الكفين ووقع هنا في رواية الكشميهني سبط الكفين
بتقديم المهملة على الموحدة وهو موافق لوصفها باللين قال عياض وفي رواية المروزي سبط
أو بسط بالشك والتحقيق في الشئن أنه الغلظ من غير قيد قصر ولا خشونة وقد نقل ابن خالويه
أن الأصمعي لما فسر الشئن بما مضى قيل له إنه ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم فآلى على
نفسه أنه لا يفسر شيئا في الحديث اه‍ ومجئ شئن الكفين بدل سبط الكفين أو بسط الكفين
قال دال على أن المراد وصف الخلقة وأما من فسره ببسط العطاء فإنه وإن كان الواقع كذلك لكن
ليس مرادا هنا (قوله وقال أبو هلال أنبأنا قتادة عن أنس أو جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم
ضخم الكفين والقدمين لم أر بعده شبيها له) هذا التعليق وصله البيهقي في الدلائل ووقع لنا بعلو
في فوائد العيسوي كلاهما من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي حدثنا أبو هلال به
وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بكسر المهملة والموحدة بصري صدوق وقد ضعفه من قبل
حفظه فلا تأثير لشكه أيضا وقد بينت إحدى روايات جرير بن حازم صحة الحديث بتصريح قتادة
بسماعه له من أنس وكأن المصنف أراد بسياق هذه الطرق بيان الاختلاف فيه على قتادة
وأنه لا تأثير له ولا يقدح في صحة الحديث وخفي مراده على بعض الناس فقال هذه الروايات
الواردة في صفة الكفين والقدمين لا تعلق لها بالترجمة وجوابه أنها كلها حديث واحد اختلفت
رواته بالزيادة فيه والنقص والمراد منه بالأصالة صفة الشعر وما عدا ذلك فهو تبع والله أعلم
303

وما دل عليه الحديث من كون شعره صلى الله عليه وسلم كان إلى قرب منكبيه كان غالب
أحواله وكان ربما طال حتى يصير ذؤابة ويتخذ منه عقائص وضفائر كما أخرج أبو داود
والترمذي بسند حسن من حديث أم هانئ قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربع
غدائر وفي لفظ أربع ضفائر وفي رواية ابن ماجة أربع غدائر يعني ضفائر والغدائر بالغين المعجمة
جمع غديرة بوزن عظيمة والضفائر بوزنه فالغدائر هي الذوائب والضفائر هي العقائص فحاصل
الخبر أن شعره طال حتى صار ذوائب فضفره أربع عقائص وهذا محمول على الحال التي يبعد عهده
بتعهده شعره فيها وهي حالة الشغل بالسفر ونحو والله أعلم وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن
ماجة وصححه من رواية عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم ولي شعر طويل فقال ذناب ذباب فرجعت فجزرته ثم أتيت من الغد فقال إني لم أعنك وهذا
أحسن * الحديث الخامس والحديث السادس عن أبي هريرة وعن جابر ذكرا تبعا لحديث
أنس كما تقدم * الحديث السابع حديث ابن عباس في ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام وقد
تقدم شرحه في أحاديث الأنبياء والغرض منه قوله فيه وأما موسى فرجل آدم بالمد جعد الحديث
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم صاحبكم نفسه صلى الله عليه وسلم (قوله باب
التلبيد) هو جمع الشعر في الرأس بما يلزق بعضه ببعض كالخطمي والصمغ لئلا يتشعث ويقمل
في الاحرام وقد تقدم بسطه في الحج (قوله سمعت عمر يقول من ضفر) بفتح المعجمة والفاء مخففا
ومثقلا (قوله فليحلق ولا تشبهوا بالتلبيد) يعني في الحج (وكان ابن عمر يقول لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ملبدا) كذا في هذه الرواية وتقدم في أوائل الحج بلفظ سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يهل ملبدا كما في الرواية التي تلي هذه في الباب وأما قول عمر فحمله ابن بطال على أن
المراد ان أراد الاحرام فضفر شعره ليمنعه من الشعث لم يجز له أن يقصر لأنه فعل ما يشبه
التلبيد الذي أوجب الشارع فيه الحلق وكان عمر يرى أن من لبد رأسه في الاحرام تعين عليه
الحلق والنسك ولا يجزئه فشبه من ضفر رأسه بمن لبده فلذلك أمر من ضفر أن يحلق
ويحتمل أن يكون عمر أراد الامر بالحلق عند الاحرام حتى لا يحتاج إلى التلبيد ولا إلى الضفر أي
من أراد أن يضفر أو يلبد فليحلق فهو أولى من أن يضفر أو يلبد ثم إذا أراد بعد ذلك التقصير لم
يصل إلى الاخذ من سائر النواحي كما هي السنة وأما قوله تشبهوا فحكى ابن بطال أنه بفتح أوله
والأصل لا تتشبهوا فحذفت إحدى التاءين قال ويجوز ضم أوله وكسر الموحدة والأول أظهر
وأما قول ابن عمر فظاهره أنه فهم عن أبيه أنه كان يرى أن ترك التلبيد أولى فأخبر هو أنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم يفعله وتقدم شرح التلبيد وحكمه في كتاب الحج وكذا حديث ابن عمر
في التلبيد وحديث حفصة إني لبدت رأسي وقلدت هديي الحديث (قوله باب
الفرق) بفتح الفاء وسكون الراء بعدها قاف أي فرق شعر الرأس وهو قسمته في المفرق وهو وسط
الرأس يقال فرق شعره فرقا بالسكون وأصله من الفرق بين الشيئين والمفرق مكان انقسام الشعر
من الجبين إلى دارة وسط الرأس وهو بفتح الميم وبكسرها وكذلك الراء تكسر وتفتح ذكر فيه
حديثين * الأول (قوله عن ابن عباس) كذا وصله إبراهيم بن سعد ويونس وقد تقدم في الهجرة
وغيرها واختلف على معمر في وصله وإرساله قال عبد الرزاق في مصنفه أنبأنا معمر عن الزهري
304

عن عبيد الله لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فذكره مرسلا وكذا أرسله مالك حيث
أخرجه في الموطأ عن زياد بن سعد عن الزهري ولم يذكر من فوقه (قوله كان يحب موافقة أهل
الكتاب فيما لم يؤمر) فيه في رواية معمر وكان إذا شك في أمر لم يؤمر فيه بشئ صنع ما يصنع أهل
الكتاب (قوله وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم) بسكون السين وكسر الدال المهملتين
أي يرسلونها (قوله وكان المشركون يفرقون) هو بسكون الفاء وضم الراء وقد شددها بعضهم
حكاه عياض قال والتخفيف أشهر وكذا في قوله ثم فرق الأشهر فيه التخفيف وكأن السر في ذلك
أن أهل الأوثان أبعد عن الايمان من أهل الكتاب ولان أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة
فكان يحب موافقتهم ليتألفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان فلما أسلم أهل الأوثان
الذين معه والذين حوله واستمر أهل الكتاب على كفرهم تمحضت المخالفة لأهل الكتاب (قوله ثم فرق
بعد) في رواية معمر ثم أمر بالفرق ففرق وكان الفرق آخر الامرين ومما يشبه الفرق والسدل صبغ
الشعر وتركه كما تقدم ومنها صوم عاشوراء ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده ومنها
استقبال القبلة ومخالفتهم في مخالطة الحائض حتى قال اصنعوا كل شئ الا الجماع فقالوا ما يدع
من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه وقد تقدم بيانه في كتاب الحيض وهذا الذي استقر عليه الامر ومنها
ما يظهر لي النهي عن صوم يوم السبت وقد جاء ذلك من طرق متعددة في النسائي وغيره وصرح
أبو داود بأنه منسوخ وناسخه حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والاحد
يتحرى ذلك ويقول أنهما يوما عيد الكفار وأنا أحب أن أخالفهم وفي لفظ ما مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صيامه السبت والاحد أخرجه أحمد والنسائي وأشار بقوله يوما
عيد إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود والاحد عيد عند النصارى وأيام العيد لا تصام فخالفهم
بصيامه ويستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية من كراهة إفراد السبت وكذا الاحد ليس
جيدا بل الأولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة كما ورد الحديث الصحيح فيه وأما السبت والاحد
فالأولى أن يصاما معا وفرادى امتثالا لعموم الامر بمخالفة أهل الكتاب قال عياض سدل الشعر
إرساله يقال سدل شعره وأسدله إذا أرسله ولم يضم جوانبه وكذا الثوب والفرق تفريق الشعر
بعضه من بعض وكشفه عن الجبين قال والفرق سنة لأنه الذي استقر عليه الحال والذي يظهر أن
ذلك وقع بوحي لقول الراوي في أول الحديث إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر
فيه بشئ فالظاهر أنه فرق بأمر من الله حتى ادعى بعضهم فيه النسخ ومنع السدل واتخاذ
الناصية وحكى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وتعقبه القرطبي بأن الظاهر أن الذي كان صلى الله
عليه وسلم يفعله إنما هو لأجل استئلافهم فلما لم ينجع فيهم أحب مخالفتهم فكانت مستحبة
لا واجبة عليه وقول الراوي فيما لم يؤمر فيه بشئ أي لم يطلب منه والطلب يشمل الوجوب
والندب وأما توهم النسخ في هذا فليس بشئ لامكان الجمع بل يحتمل أن لا يكون الموافقة والمخالفة
حكما شرعيا إلا من جهة المصلحة قال ولو كان السدل منسوخا لصار إليه الصحابة أو أكثرهم
والمنقول عنهم أن منهم من كان يفرق ومنهم من كان يسدل ولم يعب بعضهم على بعض وقد صح أنه
كانت له صلى الله عليه وسلم لمة فإن انفرقت فرقها وإلا تركها فالصحيح أن الفرق مستحب لا واجب
وهو قول مالك والجمهور (قلت) وقد جزم الحازمي بأن السدل نسخ بالفرق واستدل برواية معمر
305

التي أشرت إليها قبل وهو ظاهر وقال النووي الصحيح جواز السدل والفرق قال واختلفوا
في معنى قوله يحب موافقة أهل الكتاب فقيل للاستئلاف كما تقدم وقيل المراد أنه كان مأمورا
باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه بشئ وما علم أنهم لم يبدلوه واستدل به بعضهم على أن شرع من
قبلنا شرع لنا حتى يرد في شرعنا ما يخالفه وعكس بعضهم فاستدل به على أنه ليس بشرع لنا لأنه
لو كان كذلك لم يقل يحب بل كان يتحتم الاتباع والحق أن لا دليل في هذا على المسئلة لان القائل به
يقصره على ما ورد في شرعنا أنه شرع لهم لا ما يؤخذ عنهم هم إذ لا وثوق بنقلهم والذي جزم به
القرطبي أنه كان يوافقهم لمصلحة التأليف محتمل ويحتمل أيضا وهو أقرب أن الحالة التي تدور بين
الامرين لا ثالث لهما إذا لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم شئ كان يعمل فيه بموافقة أهل
الكتاب لانهم أصحاب شرع بخلاف عبدة الأوثان فإنهم ليسوا على شريعة فلما أسلم المشركون
انحصرت المخالفة في أهل الكتاب فأمر بمخالفتهم وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها
بمخالفة أهل الكتاب فزادت على الثلاثين حكما وقد أودعتها كتابي الذي سميته القول الثبت
في الصوم يوم السبت ويؤخذ من قول ابن عباس في الحديث كان يحب موافقة أهل الكتاب
وقوله ثم فرق بعد نسخ حكم تلك الموافقة كما قررته ولله الحمد ويؤخذ منه أن شرع من قبلنا شرع
لنا ما لم يرد ناسخ * الحديث الثالث حديث عائشة قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وقد تقدم شرحه في الحج وقوله عبد الله هو ابن رجاء
الذي أخرج الحديث عنه مقرونا بأبي الوليد وهو الطيالسي وأراد أن أبا الوليد رواه بلفظ الجمع
فقال مفارق وعبد الله بن رجاء رواه بلفظ الافراد فقال مفرق وقد وافق عبد الله بن رجاء آدم عند
المصنف في الطهارة ومحمد بن كثير عند الإسماعيلي وكذا عند مسلم من رواية الحسن بن عبيد الله
وعند أحمد من رواية منصور وحماد وعطاء بن السائب كلهم عن إبراهيم عنه ووافق أبا الوليد محمد
ابن جعفر غندر عند مسلم والأعمش عند أحمد والنسائي وعبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عند مسلم
وكأن الجمع وقع باعتبار تعدد انقسام الشعر والله أعلم (قوله باب الذوائب) جمع
ذؤابة والأصل ذآئب فأبدلت الهمزة واوا والذؤابة ما يتدلى من شعر الرأس ذكر فيه حديث ابن
عباس في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقد مضى شرحه في الصلاة والغرض منه
هنا قوله فأخذ بذؤابتي فإن فيه تقريره صلى الله عليه وسلم على اتخاذ الذؤابة وفيه دفع لرواية من
فسر القزع بالذؤابة كما سأذكره في الباب الذي يليه وأورد الحديث من رواية الفضل بن عنبسة
عن هشيم ثم أردفها بروايته عاليا عن قتيبة عن هشيم وإنما أورده نازلا من أجل تصريح هشيم فيها
بالاخبار ثم أردفه بروايته عاليا أيضا عن عمرو بن محمد الناقد عن هشيم مصرحا أيضا وكأنه
استظهر بذلك لان في الفضل بن عنبسة مقالا لكنه غير قادح وليس له في البخاري إلا هذا الموضع
(قوله باب القزع) بفتح القاف والزاي ثم المهملة جمع قزعة وهي القطعة من
السحاب وسمي شعر الرأس إذا حلق بعضه وترك بعضه قزعا تشبيها بالسحاب المتفرق (قوله حدثنا
محمد) هو ابن سلام ومخلد بسكون المعجمة هو ابن يزيد (قوله أخبرني عبيد الله بن حفص) هو عبيد
الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو العمري المشهور نسبه ابن جريج في هذه
الرواية إلى جده وقد أخرجه أبو قرة في السنن عن ابن جريج وأبو عوانة من طريقه فقال عن
306

عبيد الله بن عمر بن حفص وعبيد الله بن عمر وشيخه هنا عمر بن نافع والراوي عنه هو ابن جريج
أقران متقاربون في السن واللقاء والوفاة واشترك الثلاثة في الرواية عن نافع فقد نزل ابن جريج
في هذا الاسناد درجتين وفيه دلالة على قلة تدليسه وقد وافق مخلد بن يزيد على هذه الرواية أبو قرة
موسى بن طارق في السنن عن ابن جريج وأخرجه أبو عوانة وابن حبان في صحيحهما من طريقه
وأخرجه أبو عوانة أيضا من طريق هشام بن سليمان عن ابن جريج وكذلك قال حجاج بن محمد عن
ابن جريج وأخرجه النسائي والإسماعيلي وأبو عوانة وأبو نعيم في المستخرج من طريقه لكن
سقط ذكر عمر بن نافع من رواية النسائي ومن رواية لأبي عوانة أيضا وقد صرح الدارقطني
في العلل بأن حجاج بن محمد وافق مخلد بن يزيد على ذكر عمر بن نافع وأخرجه النسائي من رواية
سفيان الثوري على الاختلاف عليه في إسقاط عمر بن نافع واثباته وقال إثباته أولى بالصواب
وأخرجه الترمذي من رواية حماد بن زيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع لم يذكر عمر بن نافع وهو
مقلوب وإنما هو عند حماد بن زيد عن عبد الرحمن السراج عن نافع أخرجه مسلم وقد أخرجه
مسلم والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من طرق متعددة عن عبيد الله بن عمر بإثبات عمر بن
نافع ورواه سفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ومحمد بن عبيد عن عبيد الله بن عمر بإسقاطه وكأنهم
سلكوا الجادة لان عبيد الله بن عمر معروف بالرواية عن نافع مكثر عنه والعمدة على من زاد عمر بن
نافع بينهما لانهم حفاظ ولا سيما فيهم من سمع عن نافع نفسه كابن جريج والله أعلم (قوله سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن القزع) في رواية مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن القزع (قوله قال عبيد الله قلت وما القزع) هو موصول بالاسناد المذكور وظاهره أن
المسؤول هو عمر بن نافع لكن بين مسلم أن عبيد الله إنما سأل نافعا وذلك أنه أخرجه من طريق يحيى
القطان عن عبيد الله بن عمر أخبرني عمر بن نافع عن أبيه فذكر الحديث قال قلت لنافع وما القزع
فذكر الجواب وأشار لنا عبيد الله قال إذا حلق الصبي وترك ههنا شعرة وههنا وههنا فأشار لنا عبيد
الله إلى ناصيته وجانبي رأسه المجيب بقوله قال إذا حلق هو نافع وهو ظاهر سياق مسلم من طريق
يحيى القطان المذكورة ولفظه قال يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضا (قوله قيل لعبيد الله)
لم أقف على تسمية القائل ويحتمل أن يكون هو ابن جريج أبهم نفسه (قوله فالجارية والغلام)
كأن السائل فهم التخصيص بالصبي الصغير فسأل عن الجارية الأنثى وعن الغلام والمراد به غالبا
المراهق (قوله قال عبيد الله وعاودته) هو موصول بالسند المذكور كأن عبيد الله لما أجاب
السائل بقوله لا أدري أعاد سؤال شيخه عنه وهذا يشعر بأنه حدث عنه به في حال حياته وقد
أخرج مسلم الحديث من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر قال وجعل التفسير من قول
عبيد الله بن عمر ثم أخرجه من طريق عثمان الغطفاني وروح بن القاسم كلاهما عن عمر بن نافع
قال وألحقا التفسير في الحديث يعني أدرجاه ولم يسق مسلم لفظه وقد أخرجه أحمد عن عثمان
الغطفاني ولفظه نهى عن القزع والقزع أن يحلق فذكر التفسير مدرجا وأخرجه أبو داود عن
أحمد وأما رواية روح بن القاسم فأخرجها مسلم وأبو نعيم في المستخرج وقد أخرجه مسلم من
طريق عبد الرحمن السراج عن نافع ولم يسق لفظه وأخرجه أبو نعيم في المستخرج من هذا الوجه
فحذف التفسير وأخرجه مسلم أيضا من طريق معمر عن أيوب عن نافع ولم يسق لفظه وهو عند
307

عبد الرزاق في مصنفه عن معمر وأخرجه أبو داود والنسائي وفي سياقه ما يدل على مستند من
رفع تفسير القزع ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه
فنهاهم عن ذلك فقال احلقوا كله أو ذروا كله قال النووي الأصح أن القزع ما فسره به نافع
وهو حلق بعض رأس الصبي مطلقا ومنهم من قال هو حلق مواضع متفرقة منه والصحيح الأول
لأنه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به (قلت) ألا أن تخصيصه بالصبي ليس
قيدا قالوا النووي أجمعوا على كراهيته إذا كان في مواضع متفرقة الا للمداواة أو نحوها وهي
كراهة تنزيه ولا فرق بين الرجل والمرأة وكرهه مالك في الجارية والغلام وقيل في رواية لهم لا بأس
به في القصة والقفا للغلام والجارية قال ومذهبنا كراهته مطلقا (قلت) حجته ظاهرة لأنه
تفسير الراوي واختلف في علة النهي فقيل لكونه يشوه الخلقة وقيل لأنه زي الشيطان وقيل
لأنه زي اليهود وقد جاء هذا في رواية لأبي داود (قوله أما القصة والقفا للغلام فلا بأس بهما)
القصة بضم القاف ثم المهملة والمراد بها هنا شعر الصدغين والمراد بالقفا شعر القفا والحاصل
منه أن القزع مخصوص بشعر الرأس وليس شعر الصدغين والقفا من الرأس وأخرج ابن أبي
شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال لا بأس بالقصة وسنده صحيح وقد تطلق القصة على الشعر
المجتمع الذي يوضع على الاذن من غير أن يوصل شعر الرأس وليس هو المراد هنا وسيأتي الكلام عليه
في باب الموصولة وأما ما أخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر
قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع وهو أن يحلق رأس الصبي ويتخذ له ذؤابة فما أعرف
الذي فسر القزع بذلك فقد أخرج أبو داود عقب هذا من حديث أنس كانت لي ذؤابة فقالت
أمي لا أجزها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدها ويأخذ بها وأخرج النسائي بسند
صحيح عن زياد بن حصين عن أبيه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده على ذؤابته وسمت عليه
ودعا له ومن حديث ابن مسعود وأصله في الصحيحين قال قرأت من في رسول الله صلى الله عليه
وسلم سبعين سورة وأن زيد بن ثابت لمع الغلمان له ذؤابتان ويمكن الجمع بأن الذؤابة الجائز اتخاذها
ما يفرد من الشعر فيرسل ويجمع ما عداها بالضفر وغيره والتي تمنع أن يحلق الرأس كله ويترك
ما في وسطه فيتخذ ذؤابة وقد صرح الخطابي بأن هذا مما يدخل في معنى القزع والله أعلم (قوله
باب تطييب المرأة زوجها بيديها) كأن فقه هذه الترجمة من جهة الإشارة إلى الحديث
الوارد في الفرق بين طيب الرجل والمرأة وأن طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه والمرأة بالعكس
فلو كان ذلك ثابتا لا امتنعت المرأة من تطييب زوجها بطيبه لما يعلق بيدها وبدنها منه حالة
تطييبها له وكان يكفيه أن يطيب نفسه فاستدل المصنف بحديث عائشة المطابق للترجمة وقد
تقدم مشروحا في الحج وهو ظاهر فيما ترجم له والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وصححه
الحاكم من حديث عمران بن حصين وله شاهد عن أبي موسى الأشعري عند الطبراني في الأوسط
ووجه التفرقة أن المرأة مأمورة بالاستتار حالة بروزها من منزلها والطيب الذي له رائحة لو شرع
لها لكانت فيه زيادة في الفتنة بها وإذا كان الخبر ثابتا فالجمع بينه وبين حديث الباب أن لها
مندوحة أن تغسل أثره إذا أرادت الخروج لان منعها خاص بحالة الخروج والله أعلم وألحق
بعض العلماء بذلك لبسها النعل الصرارة وغير ذلك مما يلفت النظر إليها وأحمد بن محمد شيخ البخاري
308

فيه هو المروزي وعبد الله هو ابن المبارك ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري (قوله طيبته بيدي لحرمه
وطيبته بيدي بمنى قبل أن يفيض) سيأتي بعد أبواب من وجه آخر عنها أنها طيبته بذريرة (قوله
باب الطيب في الرأس واللحية) إن كان باب بالتنوين فيكون ظاهر الترجمة الحصر
في ذلك وإن كان بالإضافة فالتقدير باب حكم الطيب أو مشروعية الطيب (قوله حدثني إسحق
ابن نصر) هو ابن إبراهيم بن نصر نسبه إلى جده وإسرائيل هو ابن يونس وأبو إسحق هو السبيعي
(قوله بأطيب ما أجد) يؤيد ما ذكرته في الباب الذي قبله ولعله أشار بالترجمة إلى الحديث المذكور
في التفرقة بين طيب الرجال والنساء وقال ابن بطال يؤخذ منه أن طيب الرجال لا يجعل في الوجه
بخلاف طيب النساء لأنهن يطيبن وجوههن ويتزين بذلك بخلاف الرجال فإن تطيب الرجل
في وجهه لا يشرع لمنعه من التشبه بالنساء (قوله باب الامتشاط) هو افتعال من
المشط بفتح الميم وهو تسريح الشعر بالمشط وقد أخرج النسائي بسند صحيح عن حميد بن عبد
الرحمن لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة أربع سنين قال نهانا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يمشط أحدنا كل يوم ولأصحاب السنن وصححه ابن حبان من حديث
عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الترجل إلا غبا وفي الموطأ عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا ثائر الرأس واللحية فأشار إليه
بإصلاح رأسه ولحيته وهو مرسل صحيح السند وله شاهد من حديث جابر أخرجه أبو داود
والنسائي بسند حسن وسأذكر طرق الجمع بين مختلفي هذه الأخبار في باب الترجل (قوله عن
سهل بن سعد) في رواية الليث عن ابن شهاب أن سهل بن سعد أخبره وسيأتي في الديات (قوله أن
رجلا) قيل هو الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان وقيل سعد غير منسوب وسأوضح ذلك
في كتاب الديات إن شاء الله تعالى وقوله اطلع بتشديد الطاء والجحر بضم الجيم وسكون المهملة
والمدري بكسر الميم وسكون المهملة عود تدخله المرأة في رأسها لتضم بعض شعرها إلى بعض وهو
يشبه المسلة يقال مدرت المرأة سرحت شعرها وقيل مشط له أسنان يسيرة وقال الأصمعي وأبو
عبيد هو المشط وقال الجوهري أصل المدري القرن وكذلك المدراة وقيل هو عود أو حديدة
كالخلال لها رأس محدد وقيل خشبة على شكل شئ من أسنان المشط ولها ساعد جرت عادة الكبير
أن يحك بها ما لا تصل إليه يده من جسده ويسرح بها الشعر الملبد من لا يحضره المشط وقد ورد
في حديث لعائشة ما يدل على أن المدري غير المشط أخرجه الخطيب في الكفاية عنها قالت خمس
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهن في سفر ولا حضر المرآة والمكحلة والمشط والمدري
والسواك وفي إسناده أبو أمية بن يعلى وهو ضعيف وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف
أيضا وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين من وجه آخر عن عائشة أقوى من هذا لكن فيه
قارورة دهن بدل المدري وأخرج الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة كان لا يفارق
رسول الله صلى الله عليه وسلم سواكه ومشطه وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته وفيه سليمان بن
أرقم وهو ضعيف وله شاهد من مرسل خالد بن معدان أخرجه ابن سعد وقرأت بخط الحافظ
اليعمري عن علماء الحجاز المدري تطلق على نوعين أحدهما صغير يتخذ من آبنوس أو عاج أو حديد
يكون طول المسلة يتخذ لفرق الشعر فقط وهو مستدير الرأس على هيئة نصل السيف بقبضة
309

وهذه صفته ثانيهما كبير وهو عود مخروط من أبنوس أو غيره وفي رأسه
قطعة منحوتة في قدر الكف ولها مثل الأصابع أولاهن معوجة مثل حلقة الابهام المستعمل
للتسريح ويحك الرأس والجسد وهذه صفته اه‍ ملخصا (قوله تنتظر)
كذا لهم وللكشميهني تنظر وهي أولى والاخرى بمعناها وللإسماعيلي لو علمت أنك تطلع على وقوله
من قبل بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة والابصار بفتح أوله جمع بصر وبكسره مصدر
أبصر وفي رواية الإسماعيلي من أجل البصر بفتحتين أي الرؤية (قوله باب ترجيل
الحائض زوجها) أي تسريحها شعره ذكر فيه حديث مالك عن ابن شهاب وهشام بن عروة
فرقهما كلاهما عن عروة عن عائشة وقد تقدم في الطهارة عن عبد الله بن يوسف الذي أخرجه
عنه هنا عن مالك عن الزهري فقط والحديث في الموطأ هكذا مفرقا عند أكثر الرواة ورواه خالد بن
مخلد وابن وهب ومعن بن عيسى وعبد الله بن نافع وأبو حذافة عن مالك عن ابن شهاب وهشام
ابن عروة جميعا عن عروة أخرجها الدارقطني في الموطآت (قوله كنت أرجل رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا حائض) كذا عند جميع الرواة عن مالك ورواه أبو حذافة عنه عن هشام
بلفظ أنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجاور في المسجد وهي حائض
يخرجه إليها أخرجه الدارقطني أيضا (قوله باب الترجيل والتيمن فيه)
ذكر فيه حديث عائشة كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وقد تقدم شرحه في الطهارة والتيمن
في الترجل أن يبدأ بالجانب الأيمن وأن يفعله باليمنى قال ابن بطال الترجيل تسريح شعر الرأس
واللحية ودهنه وهو من النظافة وقد ندب الشرع إليها وقال الله تعالى خذوا زينتكم عند كل
مسجد وأما حديث النهي عن الترجل إلا غبا يعني الحديث الذي أشرت إليه قريبا فالمراد به
ترك المبالغة في الترفه وقد روى أبو أمامة بن ثعلبة رفعه البذاذة من الايمان اه‍ وهو حديث
صحيح أخرجه أبو داود والبذاذة بموحدة ومعجمتين رثائة الهيئة والمراد بها هنا ترك الترفه والتنطع
في اللباس والتواضع فيه مع القدرة لا بسبب جحد نعمة الله تعالى وأخرج النسائي من طريق
عبد الله بن بريدة أن رجلا من الصحابة يقال له عبيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهى عن كثير من الإرفاه قال ابن بريدة الإرفاه الترجل (قلت) الإرفاه بكسر الهمزة وبفاء
وآخره هاء التنعم والراحة ومنه الرفه بفتحتين وقيده في الحديث بالكثير إشارة إلى أن الوسط المعتدل
منه لا يذم وبذلك يجمع بين الاخبار وقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي هريرة رفعه من
كان له شعر فليكرمه وله شاهد من حديث عائشة في الغيلانيات وسنده حسن أيضا (قوله
باب ما يذكر في المسك) قد تقدم التعريف به في كتاب الذبائح حيث ترجم له باب المسك
وأورد هنا حديث أبي هريرة رفعه كل عمل ابن آدم له إلا الصوم الحديث من أجل قوله
أطيب عند الله من ريح المسك وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصيام وقوله هنا فإنه لي
وأنا أجزي به ظاهر سياقه أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك وإنما هو من كلام
الله عز وجل وهو من رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل كذلك أخرجه المصنف
في التوحيد من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يرويه عن ربكم
عز وجل قال لكل عمل كفارة فالصوم لي وأنا أجزي به الحديث وأخرجه الشيخان من رواية
310

الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل عمل ابن آدم يضاعف
الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ولمسلم
من طريق ضرار بن مرة عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعد قالا قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم إن الله عز وجل يقول إن الصوم لي وأنا أجزي به وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى
في كتاب الصيام مع الإشارة إلى ما بينت هنا وذكرت أقوال العلماء في معنى اضافته سبحانه وتعالى
الصيام إليه بقوله فإنه لي ونقلت عن أبي الخير الطالقاني أنه أجاب عنه بأجوبة كثيرة نحو الخمسين
وانني لم أقف عليه وقد يسر الله تعالى الوقوف على كلامه وتتبعت ما ذكره متأملا فلم أجد فيه
زيادة على الأجوبة العشرة التي حررتها هناك إلا إشارات صوفية وأشياء تكررت معنى وان
تغايرت لفظا وغالبها يمكن ردها إلى ما ذكرته فمن ذلك قوله لأنه عبادة خالية عن السعي وإنما هي
ترك محض وقوله يقول هو لي فلا يشغلك ما هو لك عما هو لي وقوله من شغله مالي عني
أعرضت عنه وإلا كنت له عوضا عن الكل وقوله لا يقطعك ما لي عني وقوله لا يشغلك الملك
عن المالك وقوله فلا تطلب غيري وقوله فلا يفسد ما لي عليك بك وقوله فاشكرني على أن
جعلتك محلا للقيام بما هو لي وقوله فلا تجعل لنفسك فيه حكما وقوله فمن ضيع حرمة ما لي
ضيعت حرمة ما له لان فيه جبر الفرائض والحدود وقوله فمن أداه بما لي وهو نفسه صح البيع
وقوله فكن بحيث تصلح أن تؤدي ما لي وقوله أضافه إلى نفسه لان به يتذكر العبد نعمة الله
عليه في الشبع وقوله لان فيه تقديم رضا الله على هوى النفس وقوله لان فيه التمييز بين
الصائم المطيع وبين الآكل العاصي وقوله لأنه كان محل نزول القرآن وقوله لان ابتداءه
على المشاهدة وانتهاءه على المشاهدة لحديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وقوله لان فيه
رياضة النفس بترك المألوفات وقوله لان فيه حفظ الجوارح عن المخالفات وقوله لان فيه
قطع الشهوات وقوله لان فيه مخالفة النفس بترك محبوبها وفي مخالفة النفس موافقة الحق
وقوله لان فيه فرحة اللقاء وقوله لان فيه مشاهدة الآمر به وقوله لان فيه مجمع العبادات لان
مدارها على الصبر والشكر وهما حاصلان فيه وقوله معناه الصائم لي لأن الصوم صفة الصائم
وقوله معنى الإضافة الإشارة إلى الحماية لئلا يطمع الشيطان في إفساده وقوله لان عبادة استوى
فيها الحر والعبد والذكر والأنثى وهذا عنوان ما ذكره مع إسهاب في العبارة ولم أستوعب ذلك لأنه
ليس على شرطي في هذا الكتاب وإنما كنت أجد النفس متشوقة إلى الوقوف على تلك الأجوبة
وغالب من نقل عنه من شيوخنا لا يسوقها وإنما يقتصر على أن الطالقاني أجاب عنه بنحو من
خمسين أو ستين جوابا ولا يذكر منه شيئا فلا أدري اتركوه إعراضا أو مللا أو اكتفى الذي وقف
عليه أولا بالإشارة ولم يقف عليه من جاء من بعده والله أعلم (قوله باب ما يستحب
من الطيب) كأنه يشير إلى أنه يندب استعمال أطيب ما يوجد من الطيب ولا يعدل إلى
الأدنى مع وجود الاعلى ويحتمل أن يشير إلى التفرقة بين الرجال والنساء في التطيب كما تقدمت
الإشارة إليه قريبا (قوله حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل ووهيب هو ابن خالد وهشام هو ابن
عروة (قوله عن عثمان بن عروة) هكذا أدخل هشام بينه وبين أبيه عروة في هذا الحديث
أخاه عثمان وذكر الحميدي عن سفيان بن عيينة أن عثمان قال له ما يروي هشام هذا الحديث
311

الا عنى اه‍ وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه أن الليث وداود العطار وأبا أسامة وافقوا وهيب بن خالد
عن هشام في ذكر عثمان وأن أيوب وابن المبارك وابن نمير وغيرهم رووه عن هشام عن أبيه بدون
ذكر عثمان (قلت) ورواية الليث عند النسائي والدارمي ورواية داود العطار عند أبي عوانة
ورواية أبي أسامة وصلها مسلم ورواية أيوب عند النسائي وذكر الدارقطني أن إبراهيم بن طهمان
وابن إسحق وحماد بن سلمة في آخرين رووه أيضا عن هشام بدون ذكر عثمان قال ورواه ابن
عيينة عن هشام عن عثمان قال ثم لقيت عثمان فحدثني به وقال لي لم يروه هشام إلا عني قال
الدارقطني لم يسمعه هشام عن أبيه وإنما سمعه من أخيه عن أبيه وأخرج الإسماعيلي عن سفيان
قال لا أعلم عند عثمان إلا هذا الحديث اه‍ وقد أورد له أحمد في مسنده حديثا آخر في فضل
الصف الأول وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (قوله عند إحرامه بأطيب ما أجد)
في رواية أبي أسامة بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم وفي رواية أحمد عن ابن عيينة حدثنا
عثمان أنه سمع أباه يقول سألت عائشة بأي شئ طيبت النبي صلى الله عليه وسلم قالت بأطيب
الطيب وكذا أخرجه مسلم وله من طريق عمرة عن عائشة لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض
بأطيب ما وجدت ومن طريق الأسود عن عائشة كان إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد وله
من وجه آخر عن الأسود عنها كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو محرم ومن طريق القاسم عن عائشة كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن
يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بطيب فيه مسك وقد تقدم بسط هذا الموضع والبحث في أحكامه
في كتاب الحج والغرض منه هنا أن المراد بأطيب الطيب المسك وقد ورد ذلك صريحا أخرجه
مالك من حديث أبي سعيد رفعه قال المسك أطيب الطيب وهو عند مسلم أيضا (قوله
باب من لم يرد الطيب) كأنه أشار إلى أن النهي عن رده ليس على التحريم وقد ورد ذلك
في بعض طرق حديث الباب وغيره (قوله عزرة) بفتح المهملة وسكون الزاي بعدها راء ابن ثابت
أي ابن أبي زيد عمرو بن أخطب لجده صحبة (قوله وزعم) هو من إطلاق الزعم على القول
(قوله كان لا يرد الطيب) أخرجه البزار من وجه آخر عن أنس بلفظ ما عرض على النبي صلى الله
عليه وسلم طيب قط فرده وسنده حسن وللإسماعيلي من طريق وكيع عن عزرة بسند حديث
الباب نحوه وزاد وقال إذا عرض على أحدكم الطيب فلا يرده وهذه الزيادة لم يصرح برفعها وقد
أخرج أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان من رواية الأعرج عن أبي هريرة رفعه من عرض عليه
طيب فلا يدره فإنه طيب الريح خفيف المحمل وأخرجه مسلم من هذا الوجه لكن وقع عنده ريحان
بدل طيب والرحيان كل بقلة لها رائحة طيبة قال المنذري ويحتمل أن يراد بالريحان جميع أنواع
الطيب يعني مشتقا من الرائحة (قلت) مخرج الحديث واحد والذين رووه بلفظ الطيب أكثر
عددا وأحفظ فروايتهم أولى وكأن من رواه بلفظ ريحان أراد التعميم حتى لا يخص بالطيب
المصنوع لكن اللفظ غير واف بالمقصود وللحديث شاهد عن ابن عباس أخرجه الطبراني بلفظ
من عرض عليه الطيب فليصب منه نعم أخرج الترمذي من مرسل أبي عثمان النهدي إذا
أعطى أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة قال ابن العربي إنما كان لا يرد الطيب لمحبته
فيه ولحاجته إليه أكثر من غيره لأنه يناجي من لا تناجي وأما نهيه عن رد الطيب فهو محمول
312

على ما يجوز أخذه لا على ما لا يجوز أخذه لأنه مردود بأصل الشرع (قوله باب
الذريرة) بمعجمة وراءين بوزن عظيمة وهي نوع من الطيب مركب قال الداودي تجمع مفرداته
ثم تسحق وتنخل ثم تذر في الشعر والطوق فلذلك سميت ذريرة كذا قال وعلى هذا فكل طيب
مركب ذريرة لكن الذريرة نوع من الطيب مخصوص يعرفه أهل الحجاز وغيرهم وجزم غير
واحد منهم النووي بأنه فتات قصب طيب يجاء به من الهند (قوله حدثنا عثمان بن الهيثم أو محمد
عنه) أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي وأما عثمان فهو من شيوخ البخاري وقد أخرج عنه عدة
أحاديث بلا واسطة منها في أواخر الحج وفي النكاح وأخرج عنه في الايمان والنذور كما سيأتي
حديثا آخر بمثل هذا التردد (قوله أخبرني عمر بن عبد الله بن عروة) أي ابن الزبير وهو مدني
ثقة قليل الحديث ما له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد وقد ذكره ابن حبان في أتباع التابعين
من الثقات (قوله سمع عروة) هو جده والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر (قوله بذريرة) كأن
الذريرة كان فيها مسك بدليل الرواية الماضية (قوله للحل والاحرام) كذا وقع مختصرا هنا وكذا
لمسلم وأخرجه الإسماعيلي من رواية روح بن عبادة عن ابن جريج بلفظ حين أحرم وحين رمى
الجمرة يوم النحر قبل أن يطوف بالبيت (قوله باب المتفلجات للحسن) أي لأجل
الحسن والمتفلجات جمع متفلجة وهي التي تطلب الفلج أو تصنعه والفلج بالفاء واللام والجيم انفراج
ما بين الثنيتين والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه وهو مختص عادة بالثنايا والرباعيات
ويستحسن من المرأة فربما صنعته المرأة التي تكون أسنانها متلاصقة لتصير متفلجة وقد تفعله
الكبيرة توهم أنها صغيرة لان الصغيرة غالبا تكون مفلجة جديدة السن ويذهب ذلك في الكبر
وتحديد الأسنان يسمى الوشر بالراء وقد ثبت النهي عنه أيضا في بعض طرق حديث ابن مسعود
ومن حديث غيره في السنن وغيرها وستأتي الإشارة إليه في آخر باب الموصولة فورد النهي عن ذلك
لما فيه من تغيير الخلقة الأصلية (قوله حدثنا عثمان) هو ابن أبي شيبة وجرير هو ابن عبد
الحميد ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وعلقمة هو ابن قيس والاسناد كله كوفيون
وقال الدارقطني تابع منصور الأعمش ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند
وقال إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي عن أم يعقوب عن ابن مسعود والمحفوظ قول منصور
(قوله لعن الله الواشمات) جمع واشمة بالشين المعجمة وهي التي تشم (والمستوشمات) جمع
مستوشمة وهي التي تطلب الوشم ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال الواشمة التي يفعل بها
الوشم والمستوشمة التي تفعله ورد عليه ذلك وسيأتي بعد بابين من وجه آخر عن منصور بلفظ
المستوشمات وهو بكسر الشين التي تفعل ذلك وبفتحها التي تطلب ذلك ولمسلم من طريق مفضل
ابن مهلهل عن منصور والموشومات وهي من يفعل بها الوشم قال أهل اللغة الوشم بفتح ثم سكون
أن يغرز في العضو إبرة أو نحوها حتى يسيل الدم ثم يحشى بنورة أو غيرها فيخضر وقال أبو داود
في السنن الواشمة التي تجعل الخيلان في وجهها بكحل أو مداد والمستوشمة المعمول بها انتهى
وذكر الوجه للغالب وأكثر ما يكون في الشفة وسيأتي عن نافع في آخر الباب الذي يليه أنه يكون
في اللثة فذكر الوجه ليس قيدا وقد يكون في اليد وغيرها من الجسد وقد يفعل ذلك نقشا وقد
يجعل دوائر وقد يكتب اسم المحبوب وتعاطيه حرام بدلالة اللعن كما في حديث الباب ويصير
313

الموضع الموشوم نجسا لان الدم انحبس فيه فتجب إزالته إن أمكنت ولو بالجرح إلا إن خاف منه
تلفا أو شينا أو فوات منفعة عضو فيجوز إبقاؤه وتكفي التوبة في سقوط الاثم ويستوي في ذلك
الرجل والمرأة (قوله والمتنمصات) يأتي شرحه في باب مفرد يلي الباب الذي يليه ووقع عند أبي
داود عن محمد بن عيسى عن جرير الواصلات بدل المتنمصات هنا (قوله والمتفلجات للحسن)
يفهم منه أن المذمومة من فعلت ذلك لأجل الحسن فلو احتاجت إلى ذلك لمداواة مثلا جاز
(قوله المغيرات خلق الله) هي صفة لازمة لمن يصنع الوشم والنمص والفلج وكذا الوصل على إحدى
الروايات (قوله ما لي لا ألعن) كذا هنا باختصار ويأتي بعد باب عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير
بزيادة ولفظه فقالت أم يعقوب ما هذا وأخرجه مسلم عن عثمان بن أبي شيبة وإسحق بن إبراهيم
شيخي البخاري فيه أتم سياقا منه فقال بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت
تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك إنك لعنت الواشمات إلى آخره فقال عبد الله
وما لي لا ألعن وذكر مسلم أن السياق لإسحاق وقد أخرجه أبو داود عن عثمان وسياقه موافق
لسياق إسحق إلا في أحرف يسيرة لا تغير المعنى وسبق في تفسير سورة الحشر للمصنف من طريق
الثوري عن منصور بتمامه لكن لم يقل فيه وكانت تقرأ القرآن وما في قول ابن مسعود ما لي
لا ألعن استفهامية وجوز الكرماني أن تكون نافية وهو بعيد (قوله وهو في كتاب الله وما آتاكم
الرسول) كذا أورده مختصرا زاد في رواية إسحق فقالت والله لقد قرأت ما بين اللوحين
فما وجدته وفي رواية مسلم عن عثمان ما بين لوحي المصحف والمراد به ما يجعل المصحف فيه وكانوا
يكتبون المصحف في الرق ويجعلون له دفتين من خشب وقد يطلق على الكرسي الذي يوضع
عليه المصحف اسم لوحين قوله فقالت والله لقد قرأت في رواية مسلم لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه
كذا فيه بإثبات الياء في الموضعين وهي لغة والأفصح حذفها في خطاب المؤنث في الماضي
(قوله وما آتاكم الرسول إلى فانتهوا) في رواية مسلم قال الله عز وجل وما آتاكم الخ وزاد فقالت
المرأة إني أرى شيئا من هذا على امرأتك وقد تقدم ذلك في تفسير الحشر وقد أخرجه الطبراني
من طريق مسروق عن عبد الله وزاد في آخره فقال عبد الله ما حفظت وصية شعيب إذا يعني
قوله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وفي إطلاق
ابن مسعود نسبة لعن من فعل ذلك إلى كتاب الله وفهم أم يعقوب منه أنه أراد بكتاب الله القرآن
وتقريره لها على هذا الفهم ومعارضتها له بأنه ليس في القرآن وجوابه بما أجاب دلالة على جواز
نسبة ما يدل عليه الاستنباط إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نسبة
قولية فكما جاز نسبة لعن الواشمة إلى كونه في القرآن لعموم قوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه
مع ثبوت لعنه صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك يجوز نسبة من فعل أمرا يندرج في عموم خبر
نبوي ما يدل على منعه إلى القرآن فيقول القائل مثلا لعن الله من غير منار الأرض في القرآن
ويستند في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك * (تنبيه) * أم يعقوب المذكورة
في هذا الحديث لا يعرف اسمها وهي من بني أسد بن خزيمة ولم أقف لها على ترجمة ومراجعتها لابن
مسعود تدل على أن لها إدراكا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (قوله باب
وصل الشعر) أي الزيادة فيه من غيره ذكر فيه خمسة أحاديث * الأول حديث معاوية
314

(قوله حدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس (قوله عن حميد بن عبد الرحمن) في رواية معمر
عن الزهري حدثني حميد بن عبد الرحمن أخرجه أحمد وفي رواية يونس عن الزهري أنبأنا حميد
أخرجه الترمذي وقد أخرج مسلم روايتي معمر ويونس لكن أحال بهما على رواية مالك
وأخرجه الطبراني من طريق النعمان بن راشد عن الزهري فقال عن السائب بن يزيد بدل حميد
ابن عبد الرحمن وحميد هو المحفوظ (قوله عام حج) تقدم في ذكر بني إسرائيل من طريق سعيد
ابن المسيب عن معاوية تعيين العام المذكور (قوله وتناول قصة من شعر كان بيد حرسي)
القصة بضم القاف وتشديد المهملة الخصلة من الشعر وفي رواية سعيد بن المسيب كبة ولمسلم
من وجه آخر عن سعيد بن المسيب أن معاوية قال إنكم أخذتم زي سوء وجاء رجل بعصا على
رأسها خرقة والحرسي بفتح الحاء والراء وبالسين المهملات نسبة إلى الحرس وهم خدم الأمير
الذين يحرسونه ويقال للواحد حرسي لأنه اسم جنس وعند الطبراني من طريق عروة عن معاوية
من الزيادة قال وجدت هذه عند أهلي وزعموا أن النساء يزدنه في شعورهن وهذا يدل على أنه
لم يكن يعرف ذلك في النساء قبل ذلك وفي رواية سعيد بن المسيب ما كنت أرى يفعل ذلك إلا
اليهود (قوله أين علماؤكم) تقدم في ذكر بني إسرائيل أن فيه إشارة إلى قلة العلماء يومئذ
بالمدينة ويحتمل أنه أراد بذلك احضارهم ليستعين بهم على ما أراد من إنكار ذلك أو لينكر عليهم
سكوتهم عن إنكارهم هذا الفعل قبل ذلك (قوله إنما هلكت بنو إسرائيل) في رواية معمر
عند مسلم إنما عذب بنو إسرائيل ووقع في رواية سعيد بن المسيب المذكورة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور وفي رواية قتادة عن سعيد عند مسلم نهى عن الزور
وفي آخره ألا وهذا الزور قال قتادة يعني ما تكثر به النساء أشعارهن من الخرق وهذا الحديث
حجة للجمهور في منع وصل الشعر بشئ آخر سواء كان شعرا أم لا ويؤيده حديث جابر زجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن تصل المرأة بشعرها شيئا أخرجه مسلم وذهب الليث ونقله أبو عبيدة
عن كثير من الفقهاء أن الممتنع من ذلك وصل الشعر بالشعر وأما إذا وصلت شعرها بغير الشعر
من خرقة وغيرها فلا يدخل في النهي وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال
لا بأس بالقرامل وبه قال أحمد والقرامل جمع قرمل بفتح القاف وسكون الراء نبات طويل
الفروع لين والمراد به هنا خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها وفصل
بعضهم بين ما إذا كان ما وصل به الشعر من غير الشعر مستورا بعد عقده مع الشعر بحيث يظن
أنه من الشعر وبين ما إذا كان ظاهرا فمنع الأول قوم فقط لما فيه من التدليس وهو قوي ومنهم
من أجاز الوصل مطلقا سواء كان بشعر آخر أو بغير شعر إذا كان بعلم الزوج وباذنه وأحاديث الباب
حجة عليه ويستفاد من الزيادة في رواية قتادة منع تكثير شعر الرأس بالخرق كما لو كانت المرأة
مثلا قد تمزق شعرها فتضع عوضه خرقا توهم أنها شعر وقد أخرج مسلم عقب حديث معاوية
هذا حديث أبي هريرة وفيه ونساء كاسيات عاريات رؤسهن كأسنمة البخت قال النووي يعني
يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها قال وفي الحديث ذم ذلك وقال القرطبي
البخت بضم الموحدة وسكون المعجمة ثم مثناة جمع بختية وهي ضرب من الإبل عظام الأسنمة
والأسمنة بالنون جمع سنام وهو أعلى ما في ظهر الجمل شبه رؤسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن
315

على أوساط رؤسهن تزيينا وتصنعا وقد يفعلن ذلك بما يكثرن به شعورهن * (تنبيه) * كما يحرم
على المرأة الزيادة في شعر رأسها يحرم عليها حلق شعر رأسها بغير ضرورة وقد أخرج الطبري
من طريق أم عثمان بنت سفيان عن ابن عباس قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تحلق
المرأة رأسها وهو عند أبي داود من هذا الوجه بلفظ ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير
والله أعلم * الحديث الثاني حديث أبي هريرة (قوله وقال ابن أبي شيبة) هو أبو بكر كذا
أخرجه في مسنده ومصنفه بهذا الاسناد ووصله أبو نعيم في المستخرج من طريقه وأخرجه
الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن يونس بن محمد كذلك فيحتمل أن يكون هو المراد
لان أبا بكر وعثمان كلاهما من شيوخ البخاري ويونس هو المؤدب وفليح هو ابن سليمان
(قوله لعن الله الواصلة) أي التي تصل الشعر سواء كان لنفسها أم لغيرها (والمستوصلة) أي التي
تطلب فعل ذلك ويفعل بها وكذا القول في الواشمة والمستوشمة وتقدم تفسيره وهذا صريح
في حكاية ذلك عن الله تعالى إن كان خبرا فيستغني عن استنباط ابن مسعود ويحتمل أن يكون
دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم على من فعلت ذلك * الحديث الثالث حديث عائشة
(قوله الحسن بن مسلم بن يناق) بفتح التحتانية وتشديد النون وآخره قاف كأنه اسم عجمي
ويحتمل أن يكون اسم فعال من الأنيق وهو الشئ الحسن المعجب فسهلت همزته ياء والحسن
المذكور تابعي صغير من أهل مكة ثقة عندهم وكان كثير الرواية عن طاوس ومات قبله (قوله
أن جارية من الأنصار تزوجت) تقدم ما يتعلق بتسميتها وتسمية الزوج في كتاب النكاح (قوله
فتمعط) بالعين والطاء المهملتين أي خرج من أصله وأصل المعط المد كأنه مد إلى أن تقطع
ويطلق أيضا على من سقط شعره (قوله فأرادوا أن يصلوها) أي يصلوا شعرها وقوله فسألوا
تقدم هناك أن السائل أمها وهو في حديث أسماء بنت أبي بكر الذي يلي هذا (قوله تابعه
ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن) هو ابن مسلم وهذه المتابعة رويناها موصولة في أمالي
المحاملي من رواية الأصبهانيين عنه ثم من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق حدثني أبان
ابن صالح فذكره وصرح بالتحديث في جميع السند وأول الحديث عنده أن امرأة سألت عائشة
وهي عندها عن وصل المرأة رأسها بالشعر فذكر الحديث وقال فيه فتمرق بالراء والقاف وقال
فيه أفأضع على رأسها شيئا والباقي مثله وفائدة هذه المتابعة أن يعلم أن الحديث عند صفية بنت
شيبة عن عائشة وعن أسماء بنت أبي بكر جميعا ولابان بن صالح في هذا المعنى حديث آخر أخرجه
أبو داود من رواية أسامة بن زيد عنه عن مجاهد عن ابن عباس فذكر الحديث المرفوع دون
القصة وزاد فيه النامصة والمتنمصة وقال في آخره والمستوشمة من غير داء وسنده حسن ويستفاد
منه أن من صنعت الوشم عن غير قصد له بل تداوت مثلا فنشأ عنه الوشم أن لا تدخل في الزجر
* الحديث الرابع حديث أسماء بنت أبي بكر ذكره من طريقين * الأولى (قوله منصور بن
عبد الرحمن) هو الحجي وأمه هي صفية بنت شيبة وفضيل بن سليمان رواية عن منصور وإن كان
في حفظه شئ لكن قد تابعه وهيب بن خالد عن منصور عند مسلم وأبو معشر البراء عند الطبراني
(قوله فتمزق) بالزاي أي تقطع كذا للكشميهني والحموي وهي رواية مسلم وبالراء للباقين أي
مرق من أصله وهو أبلغ ويحتمل أن يكون من المرق وهو نتف الصوف وللطبراني من طريق
316

محمد بن إسحاق عن فاطمة بنت المنذر فأصابتها الحصبة أو الجدري فسقط شعرها وقد صحت
وزوجها يستحثنا وليس على رأسها شعر أفنجعل على رأسها شيئا نجملها به الحديث وقوله أفأصل
رأسها في رواية الكشميهني شعرها وهو المراد بالرواية الأخرى (قوله فسب) بالمهملة والموحدة أي
لعن كما صرح به في الرواية الأخرى * الطريق الثانية (قوله عن امرأته فاطمة) هي بنت المنذر
ابن الزبير بن العوام وهي بنت عم هشام بن عروة الراوي عنها وأسماء بنت أبي بكر هي جدتهما
معا لأنها أم المنذر وأم عروة وهذه الطريق تؤكد رواية منصور بن عبد الرحمن عن أمه وأن
للحديث عن أسماء بنت أبي بكر أصلا ولو كان مختصرا (قوله الواصلة والمستوصلة) هذا
القدر الذي وجدته من حديث أسماء فكأنها ما سمعت الزيادة التي في حديث أبي هريرة
وفي حديث ابن عمر في الواشمة والمستوشمة فأخرج الطبري بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال
دخلت مع أبي على أبي بكر الصديق فرأيت يد أسماء موشومة قال الطبري كأنها كانت صنعته
قبل النهي فاستمر في يدها قال ولا يظن بها أنها فعلته بعد النهي لثبوت النهي عن ذلك (قلت)
فيحتمل أنها لم تسمعه أو كانت بيدها جراحة فداوتها فبقي الأثر مثل الوشم في يدها * الحديث
الخامس (قوله عبد الله) هو ابن المبارك وعبيد الله بالتصغير هو ابن عمر العمري (قوله
قال نافع الوشم في اللثة) بكسر اللام وتخفيف المثلثة وهي ما على الأسنان من اللحم وقال
الداودي هو أن يعمل على الأسنان صفرة أو غيرها كذا قال ولم يرد نافع الحصر في كون الوشم
في اللثة بل مراده أنه قد يقع فيها وفي هذه الأحاديث حجة لمن قال يحرم الوصل في الشعر والوشم
والنمص على الفاعل والمفعول به وهي حجة على من حمل النهي فيه على التنزيه لان دلالة اللعن
على التحريم من أقوى الدلالات بل عند بعضهم أنه من علامات الكبيرة وفي حديث عائشة دلالة
على بطلان ما روي عنها أنها رخصت في وصل الشعر بالشعر وقالت إن المراد بالواصل المرأة تفجر
في شبابها ثم تصل ذلك بالقيادة وقد رد ذلك الطبري وأبطله بما جاء عن عائشة في قصة المرأة
المذكورة في الباب وفي حديث معاوية طهارة شعر الآدمي لعدم الاستفصال وايقاع المنع
على فعل الوصل لا على كون الشعر نجسا وفيه نظر وفيه جواز إبقاء الشعر وعدم وجوب دفنه
وفيه قيام الامام بالنهي على المنبر ولا سيما إذا رآه فاشيا فيفشي إنكاره تأكيدا ليحذر منه
وفيه انذار من عمل المعصية بوقوع الهلاك بمن فعلها قبله كما قال تعالى وما هي من الظالمين ببعيد
وفيه جواز تناول الشئ في الخطبة ليراه من لم يكن رآه للمصلحة الدينية وفيه إباحة الحديث عن
بني إسرائيل وكذا غيرهم من الأمم للتحذير مما عصوا فيه (قوله باب المتنمصات)
جمع متنمصة وحكى ابن الجوزي منتمصة بتقديم الميم على النون وهو مقلوب والمتنمصة التي تطلب
النماص والنامصة التي تفعله والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش ويسمى المنقاش منماصا لذلك
ويقال إن النماص يختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما قال أبو داود في السنن
النامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه ذكر فيه حديث ابن مسعود الماضي في باب المتفلجات
قال الطبري لا يجوز للمرأة تغيير شئ من خلقتها التي خلقها الله عليها بزيادة أو نقص التماس
الحسن لا للزوج ولا لغيره كمن تكون مقرونة الحاجبين فتزيل ما بينهما توهم البلج أو عكسه ومن
تكون لها سن زائدة فتقلعها أو طويلة فتقطع منها أو لحية أو شارب أو عنفقة فتزيلها بالنتف
317

ومن يكون شعرها قصيرا أو حقيرا فتطوله أو تغزره بشعر غيرها فكل ذلك داخل في النهي وهو من
تغيير خلق الله تعالى قال ويستثنى من ذلك ما يحصل به الضرر والأذية كمن يكون لها سن زائدة
أو طويلة تعيقها في الاكل أو إصبع زائدة تؤذيها أو تؤلمها فيجوز ذلك والرجل في هذا الأخير
كالمرأة وقال النووي يستثنى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فلا يحرم
عليها إزالتها بل يستحب (قلت) وإطلاقه مقيد بإذن الزوج وعلمه وإلا فمني خلا عن ذلك منع
للتدليس وقال بعض الحنابلة إن كان النمص أشهر شعارا للفواجر امتنع وإلا فيكون تنزيها
وفي رواية يجوز بإذن الزوج إلا إن وقع به تدليس فيحرم قالوا ويجوز الحف والتحمير والنقش
والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة وقد أخرج الطبري من طريق أبي إسحق
عن امرأته أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت المرأة تحف جبينها لزوجها
فقالت أميطي عنك الأذى ما استطعت وقال النووي يجوز التزين بما ذكر الا الحف فإنه من
جملة النماص (قوله باب الموصولة) تقدمت مباحثه قبل بباب وذكر فيه
ثلاثة أحاديث * الأول حديث ابن عمر (قوله عبدة) هو ابن سليمان وعبيد الله هو ابن
عمر العمري (قوله المستوصلة) هي التي تطلب وصل شعرها * الثاني حديث أسماء
بنت أبي بكر (قوله أصابتها) في رواية الكشميهني أصابها بالتذكير على إرادة الحب والحصبة
بفتح الحاء المهملة وسكون الصاد المهملة ويجوز فتحها وكسرها بعدها موحدة بثرات حمر تخرج
في الجلد متفرقة وهي نوع من الجدري (قوله أمرق) بتشديد الميم بعدها راء وأصله أنمرق
بنون فذهبت في الادغام ووقع في رواية الحموي والكشميهني بالزاي بدل الراء كما تقدم (قوله
حدثني يوسف بن موسى حدثنا الفضل بن دكين) كذا للأكثر وهو كذلك في رواية النسفي وفي
رواية المستملي الفضل بن زهير ولبعض رواة الفربري أيضا الفضل بن زهير أو الفضل بن دكين وجزم
مرة أخرى بالفضل بن زهير قال أبو علي الغساني هو الفضل بن دكين بن حماد بن زهير فنسب مرة
إلى جد أبيه وهو أبو نعيم شيخ البخاري وقد حدث عنه بالكثير بغير واسطة وحدث هنا في مواضع
أخرى قليلة بواسطة (قوله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم)
شك من الراوي وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ قال
النبي صلى الله عليه وسلم (قوله لعن الله ثم قال في آخره يعني لعن النبي صلى الله عليه وسلم) لم يتجه لي
هذا التفسير إلا إن كان المراد لعن الله على لسان نبيه أو لعن النبي صلى الله عليه وسلم للعن الله
وقد سقط الكلام الأخير من بعض الروايات وسقط من بعضها لفظ لعن الله من أوله وقد أخرجه
الإسماعيلي من وجه آخر عن صخر بن جويرية بلفظ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا
في أول الباب ويأتي كذلك بعد باب وقد تقدم في آخر باب وصل الشعر بلفظ لعن الله وكلها من
رواية عبيد الله بن عمر عن نافع (قوله والمستوصلة) في رواية النسائي من طريق محمد بن
بشر عن عبيد الله بن عمر الموتصلة وهي بمعناها وكذا في حديث أسماء الموصولة * الحديث
الثالث حديث ابن مسعود (قوله عبد الله) هو ابن المبارك وسفيان هو الثوري ولم يقع
في هذه الرواية للواصلة ولا للموصولة ذكر وإنما أشار به إلى ما ورد في بعض طرقه وقد تقدم بيانه
في باب المتفلجات وأنه صرح بذكر الواصلة فيه في التفسير وعند أحمد والنسائي من طريق
318

الحسن العوفي عن يحيى بن الخراز عن مسروق أن المرأة جاءت إلى ابن مسعود فقالت أنبئت أنك
تنهي عن الواصلة قال نعم القصة بطولها وفي آخره سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عن
النامصة والواشرة والواصلة والواشمة إلا من أذى (قوله باب الواشمة) تقدم
شرحه قريبا وذكر فيه أيضا ثلاثة أحاديث * الأول حديث أبي هريرة العين حق ونهى عن
الوشم وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب الطب ويأتي في الباب الذي يليه عن أبي هريرة بلفظ آخر
في الوشم * الثاني حديث ابن مسعود أورده مختصرا من وجهين وقد تقدم بيانه في باب المتفلجات
* الثالث حديث أبي جحيفة (قوله رأيت أبي فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى) كذا أورده
مختصرا وساقه في البيوع تاما ولفظه رأيت أبي اشترى حجاما فكسر محاجمه فسألته عن ذلك فذكر
الحديث كالذي هنا وزاد وعن كسب الأمة وسيأتي بأتم من سياقه في باب من لعن المصور (قوله
باب المستوشمة) ذكر فيه ثلاثة أحاديث * الأول حديث أبي هريرة (قوله عن عمارة)
هو ابن القعقاع بن شبرمة وأبو زرعة هو ابن عمرو بن جرير (قوله أتى عمر بامرأة تشم) قلت
لم تسم هذه المرأة (قوله أنشدكم بالله) يحتمل أن يكون عمر سمع الزجر عن ذلك فأراد أن يستثبت
فيه أو كان نسيه فأراد أن يتذكره أو بلغه ممن لم يصرح بسماعه فأراد أن يسمعه ممن سمعه من النبي
صلى الله عليه وسلم (قوله فقال أبو هريرة) هو موصول بالسند المذكور (قوله لا تشمن) بفتح
أوله وكسر المعجمة وسكون الميم ثم نون خطاب جمع المؤنث بالنهي وكذا ولا تستوشمن أي لا تطلبن
ذلك وهذا يفسر قوله في الباب الذي قبله نهى عن الوشم وفائدة ذكر أبي هريرة قصة عمر إظهار
ضبطه وأن عمر كان يستثبته في الأحاديث مع تشدد عمر ولو أنكر عليه عمر ذلك لنقل * الحديث
الثاني والحديث الثالث عن ابن عمر وعن ابن مسعود وقد تقدما قال الخطابي إنما ورد
الوعيد الشديد في هذه الأشياء لما فيها من الغش والخداع ولو رخص في شئ منها لكان وسيلة إلى
استجازة غيرها من أنواع الغش ولما فيها من تغيير الخلقة وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن مسعود
بقوله المغيرات خلق الله والله أعلم (قوله باب التصاوير) جمع تصوير بمعنى
الصورة والمراد بيان حكمها من جهة مباشرة صنعتها ثم من جهة استعمالها واتخاذها (قوله عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) أي ابن مسعود (قوله عن أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري زوج
أم سليم والدة أنس (قوله وقال الليث حدثني يونس الخ) وصله أبو نعيم في المستخرج من طريق
أبي صالح كاتب الليث حدثنا الليث وفائدة هذا التعليق تصريح الزهري بن شهاب وتصريح
شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وكذا من فوقهما بالتحديث في جميع الاسناد وقد أخرجه
الإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب عن يونس وفيه التصريح أيضا ووقع في رواية
الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله عن أبي طلحة لم يذكر ابن عباس بينهما ورجح الدارقطني رواية
من أثبته وقد أخرجه مالك في الموطأ عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه دخل
319

على أبي طلحة يعوده فذكر قصة وفيها المتن المذكور وزاد فيه استثناء الرقم في الثوب كما سيأتي
البحث فيه فلعل عبيد الله سمعه من ابن عباس عن أبي طلحة ثم لقي أبا طلحة لما دخل يعوده فسمعه
منه ويؤيد ذلك زيادة القصة في رواية أبي النضر لكن قال ابن عبد البر الحديث لعبيد الله عن ابن
عباس عن أبي طلحة فإن عبيد الله لم يدرك أبا طلحة ولا سهل بن حنيف كذا قال وكأن مستنده
في ذلك أن سهل بن حنيف مات في خلافة علي وعبيد الله لم يدرك عليا بل قال علي بن المديني إنه
لم يدرك زيد بن ثابت ولا رآه وزيد مات بعد سهل بن حنيف بمدة ولكن روى الحديث المذكور
محمد بن إسحاق عن أبي النضر فذكر القصة لعثمان بن حنيف لا لسهل أخرجه الطبراني وعثمان
تأخر بعد سهل بمدة وكذلك أبو طلحة فلا يبعد أن يكون عبيد الله أدركهما (قوله لا تدخل
الملائكة) ظاهره العموم وقيل يستثنى من ذلك الحفظة فإنهم لا يفارقون الشخص في كل
حالة وبذلك جزم ابن وضاح والخطابي وآخرون لكن قال القرطبي كذا قال بعض علمائنا والظاهر
العموم والمخصص يعني الدال على كون الحفظة لا يمتنعون من الدخول ليس نصا (قلت)
ويؤيده أنه ليس من الجائز أن يطلعهم الله تعالى على عمل العبد ويسمعهم قوله وهم بباب الدار
التي هو فيها مثلا ويقابل القول بالتعميم القول بتخصيص الملائكة بملائكة الوحي وهو قول
من ادعى أن ذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم كما سأذكره وهو شاذ (قوله بيتا فيه
كلب) المراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أم غير ذلك والظاهر
العموم في كل كلب لأنه نكرة في سياق النفي وذهب الخطابي وطائفة إلى استثناء الكلاب التي
أذن في اتخاذها وهي كلاب الصيد والماشية والزرع وجنح القرطبي إلى ترجيح العموم وكذا قال
النووي واستدل لذلك بقصة الجرو التي تأتي الإشارة إليها في حديث ابن عمر بعد ستة أبواب قال
فامتنع جبريل من دخول البيت الذي كان فيه مع ظهور العذر فيه قال فلو كان العذر لا يمنعهم
من الدخول لم يمتنع جبريل من الدخول اه‍ ويحتمل أن يقال لا يلزم من التسوية بين ما علم به
أو لم يعلم فيما لم يؤمر باتخاذه أن يكون الحكم كذلك فيما أذن في اتخاذه قال القرطبي واختلف في
المعنى الذي في الكلب حتى منع الملائكة من دخول البيت الذي هو فيه فقيل لكونها نجسة العين
ويتأيد ذلك بما ورد في بعض طرق الحديث عن عائشة عند مسلم فأمر بنضح موضع الكلب وقيل
لكونها من الشياطين وقيل لأجل النجاسة التي تتعلق بها فإنها تكثر أكل النجاسة وتتلطخ بها
فينجس ما تعلقت به وعلى هذا يحمل من لا يقول أن الكلب نجس العين نضح موضعه احتياطا
لان النضح مشروع لتطهير المشكوك فيه واختلف في المراد بالملائكة فقيل هو على العموم وأيده
النووي بقصة جبريل الآتي ذكرها فقيل يستثنى الحفظة وأجاب الأول بجواز أن لا يدخلوا
مع استمرار الكتابة بأن يكونوا على باب البيت وقيل المراد من نزل منهم بالرحمة وقيل من نزل بالوحي
خاصة كجبريل وهذا نقل عن ابن وضاح والداودي وغيرهما ويلزم منه اختصاص النهي بعهد
النبي صلى الله عليه وسلم لان الوحي انقطع بعده وبانقطاعه انقطع نزولهم وقيل التخصيص
في الصفة أي لا يدخل الملائكة دخولهم بيت من لا كلب فيه (قوله ولا تصاوير) في رواية
معمر الماضية في بدء الخلق عن الزهري ولا صورة بالافراد وكذا في معظم الروايات وفائدة إعادة
حرف النفي الاحتراز من توهم القصر في عدم الدخول على اجتماع الصنفين فلا يمتنع الدخول
320

مع وجود أحدهما فلما أعيد حرف النفي صار التقدير ولا تدخل بيتا فيه صورة قال الخطابي
والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه وهو ما يكون من الصور التي
فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن على ما سيأتي تقريره في باب ما وطئ من التصاوير بعد بابين
وتأتي الإشارة إلى تقوية ما ذهب إليه الخطابي في باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة وأغرب
ابن حبان فادعى أن هذا الحكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم قال وهو نظير الحديث الآخر
لا تصحب الملائكة رفقة فيها جرس قال فإنه محمول على رفقة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذ محال أن يخرج الحاج والمعتمر لقصد بيت الله عز وجل على رواحل لا تصحبها الملائكة وهم
وفد الله انتهى وهو تأويل بعيد جدا لم أره لغيره ويزيل شبهته أن كونهم وفد الله لا يمنع أن
يؤاخذوا بما يرتكبونه من خطيئة فيجوز أن يحرموا بركة الملائكة بعد مخالطتهم لهم إذا ارتكبوا
النهي واستصحبوا الجرس وكذا القول فيمن يقتني الصورة والكلب والله أعلم وقد استشكل
كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير مع قوله سبحانه وتعالى عند ذكر سليمان عليه
السلام يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وقد قال مجاهد كانت صورا من نحاس أخرجه
الطبري وقال قتادة كانت من خشب ومن زجاج أخرجه عبد الرزاق والجواب أن ذلك كان
جائزا في تلك الشريعة وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم على هيئتهم في العبادة
ليتعبدوا كعبادتهم وقد قال أبو العالية لم يكن ذلك في شريعتهم حراما ثم جاء شرعنا بالنهي عنه
ويحتمل أن يقال أن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح وإذا كان اللفظ محتملا
لم يتعين الحمل على المعنى المشكل وقد ثبت في الصحيحين حديث عائشة في قصة الكنيسة التي
كانت بأرض الحبشة وما فيها من التصاوير وأنه صلى الله عليه وسلم قال كانوا إذا مات فيهم الرجل
الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله فإن ذلك
يشعر بأنه لو كان ذلك جائزا في ذلك الشرع ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر
الخلق فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث أحدثه عباد الصور والله أعلم (قوله
باب عذاب المصورين يوم القيامة) أي الذين يصنعون الصور ذكر فيه حديثين
* الأول (قوله عن مسلم) هو ابن صبيح أبو الضحى وهو بكنيته أشهر وجوز الكرماني أن يكون
مسلم بن عمران البطين ثم قال أنه الظاهر وهو مردود فقد وقع في رواية مسلم في هذا الحديث من
طريق وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى (قوله كنا مع مسروق) هو ابن الأجدع (قوله في
دار يسار بن نمير) هو بتحتانية ومهملة خفيفة وأبوه بنون مصغر وسيار مدني سكن الكوفة
وكان مولى عمر وخازنه وله رواية عن عمر وعن غيره وروى عنه أبو وائل وهو من أقرانه وأبو بردة بن
أبي موسى وأبو إسحق السبيعي وهو موثق ولم أر له في البخاري إلا هذا الموضع (قوله فرأى
في صفته) بضم المهملة وتشديد الفاء في رواية منصور عن أبي الضحى عند مسلم كنت مع
مسروق في بيت فيه تماثيل فقال لي مسروق هذه تماثيل كسرى فقلت لا هذه تماثيل مريم كأن
مسروقا ظن أن التصوير كان من مجوسي وكانوا يصورون صورة ملوكهم حتى في الأواني فظهر
أن التصوير كان من نصراني لانهم يصورون صورة مريم والمسيح وغيرهما ويعبدونها (قوله
سمعت عبد الله) هو ابن مسعود وفي رواية منصور فقال أما أني سمعت عبد الله بن مسعود (قوله
321

إن أشد الناس عذابا عند الله المصورون) وقع في رواية الحميدي في مسنده عن سفيان يوم
القيامة بدل قوله عند الله وكذا هو في مسند ابن أبي عمر عن سفيان وأخرجه الإسماعيلي من
طريقه فلعل الحميدي حدث به على الوجهين بدليل ما وقع في الترجمة أو لما حدث به البخاري
حدث به بلفظ عند الله والترجمة مطابقة للفظ الذي في حديث ابن عمر ثاني حديثي الباب والمراد
بقوله عند الله حكم الله ووقع عند مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش أن من أشد
الناس واختلفت نسخه ففي بعضها المصورين وهي للأكثر وفي بعضها المصورون وهي لأحمد
عن أبي معاوية أيضا ووجهت بأن من زائدة واسم أن أشد ووجهها ابن مالك على حذف ضمير
الشأن والتقدير أنه من أشد الناس إلى آخره وقد استشكل كون المصور أشد الناس عذابا مع
قوله تعالى ادخلوا آل فرعون أشد العذاب فإنه يقتضي أن يكون المصور أشد عذابا من آل
فرعون وأجاب الطبري بأن المراد هنا من يصور ما يعبد من دون الله وهو عارف بذلك قاصدا له
فإنه يكفر بذلك فلا يبعد أن يدخل مدخل آل فرعون وأما من لا يقصد ذلك فإنه يكون عاصيا
بتصويره فقط وأجاب غيره بأن الرواية بإثبات من ثابتة وبحذفها محمولة عليها وإذا كان من يفعل
التصوير من أشد الناس عذابا كان مشتركا مع غيره وليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل
فرعون بأشد العذاب بل هم في العذاب الأشد فكذلك غيرهم يجوز أن يكون في العذاب الأشد
وقوي الطحاوي ذلك بما أخرجه من وجه آخر عن ابن مسعود رفعه إن أشد الناس عذابا يوم
القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي وإمام ضلالة وممثل من الممثلين وكذا أخرجه أحمد وقد وقع بعض
هذه الزيادة في رواية ابن أبي عمر التي أشرت إليها فاقتصر على المصور وعلى من قتله نبي وأخرج
الطحاوي أيضا من حديث عائشة مرفوعا أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل هجا رجلا فهجا
القبيلة بأسرها قال الطحاوي فكل واحد من هؤلاء يشترك مع الآخر في شدة العذاب وقال أبو
الوليد بن رشد في مختصر مشكل الطحاوي ما حاصله إن الوعيد بهذه الصيغة إن ورد في حق كافر
فلا إشكال فيه لأنه يكون مشتركا في ذلك مع آل فرعون ويكون فيه دلالة على عظم كفر المذكور
وإن ورد في حق عاص فيكون أشد عذابا من غيره من العصاة ويكون ذلك دالا على عظم المعصية
المذكورة وأجاب القرطبي في المفهم بأن الناس الذين أضيف إليهم أشد لا يراد بهم كل الناس بل
بعضهم وهم من يشارك في المعنى المتوعد عليه بالعذاب ففرعون أشد الناس الذين ادعوا الإلهية
عذابا ومن يقتدي به في ضلالة كفره أشد عذابا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه ومن صور صورة ذات
روح للعبادة أشد عذابا ممن يصورها لا للعبادة واستشكل ظاهر الحديث أيضا بإبليس وبابن آدم
الذي سن القتل وأجيب بأنه في إبليس واضح ويجاب بأن المراد بالناس من ينسب إلى آدم
وأما في ابن آدم فأجيب بأن الثابت في حقه أن عليه مثل أوزار من يقتل ظلما ولا يمتنع أن يشاركه
في مثل تعذيبه من ابتدأ الزنا مثلا فإن عليه مثل أوزار من يزني بعده لأنه أول من سن ذلك ولعل
عدد الزناة أكثر من القاتلين قال النووي قال العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم
وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام
بكل حال وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها فإما تصوير
ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام (قلت) ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه
322

أحمد من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا
لا كسره ولا صورة إلا لطخها أي طمسها الحديث وفيه من عاد إلى صنعة شئ من هذا فقد كفر بما
أنزل على محمد وقال الخطابي إنما عظمت عقوبة المصور لان الصور كانت تعبد من دون الله ولان
النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل قال والمراد بالصور هنا التماثيل التي لها روح وقيل يفرق
بين العذاب والعقاب فالعذاب يطلق على ما يؤلم من قول أو فعل كالعتب والانكار والعقاب
يختص بالفعل فلا يلزم من كون المصور أشد الناس عذابا أن يكون أشد الناس عقوبة هكذا ذكره
الشريف المرتضى في الغرر وتعقب بالآية المشار إليها وعليها انبنى الاشكال ولم يكن هو عرج
عليها فلهذا ارتضى التفرقة والله أعلم واستدل به أبو علي الفارسي في التذكرة على تكفير المشبهة
فحمل الحديث عليهم وأنهم المراد بقوله المصورون أي الذين يعتقدون أن لله صورة وتعقب
بالحديث الذي بعده في الباب بلفظ أن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون وبحديث عائشة الآتي
بعد بابين بلفظ إن أصحاب هذه الصور يعذبون وغير ذلك ولو سلم له استدلاله لم يرد عليه الاشكال
المقدم ذكره وخص بعضهم الوعيد الشديد بمن صور قاصدا أن يضاهي فإنه يصير بذلك القصد كافرا
وسيأتي في باب ما وطئ من التصاوير بلفظ أشد الناس عذابا الذين يضاهون بخلق الله تعالى وأما
من عداه فيحرم عليه ويأثم لكن إثمه دون إثم المضاهي (قلت) وأشد منه من يصور ما يعبد من دون
الله كما تقدم وذكر القرطبي أن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شئ حتى أن بعضهم
عمل صنعه من عجوة ثم جاع فأكله * الحديث الثاني (قوله عن عبيد الله) هو ابن عمر العمري
(قوله إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم) هو أمر
تعجيز ويستفاد منه صفة تعذيب المصور وهو أن يكلف نفخ الروح في الصورة التي صورها وهو
لا يقدر على ذلك فيستمر تعذيبه كما سيأتي تقريره في باب من صور صورة بعد أبواب (قوله
باب نقض الصور) بفتح النون وسكون القاف بعدها معجمة والصور بضم المهملة
وفتح الواو جمع صورة وحكى سكون الواو في الجمع أيضا ذكر فيه حديثين * الأول (قوله هشام)
هو ابن أبي عبد الله الدستوائي (قوله عن يحيى) هو ابن أبي كثير وعمران بن حطان تقدم ذكره
في أوائل كتاب اللباس وفي قوله أن عائشة حدثته رد علي ابن عبد البر في قوله إن عمران لم يسمع من
عائشة وقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية صالح بن سرح عن عمران سمعت عائشة
فذكر حديثا آخر وفي الطبري الصغير بسند قوي من وجه آخر عن عمران قالت لي عائشة وتقدم
في أوائل اللباس له حديث آخر فيه التصريح بسؤاله عائشة (قوله لم يكن يترك في بيته شيئا فيه
تصاليب) جمع صليب كأنهم سموا ما كانت فيه صورة الصليب تصليبا تسمية بالمصدر ووقع في
رواية الإسماعيلي شيئا فيه تصليب وفي رواية الكشميهني تصاوير بدل تصاليب ورواية الجماعة
أثبت فقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن هشام فقال تصاليب وكذا أخرجه أبو داود من رواية
أبان العطار عن يحيى بن أبي كثير وعلى هذا فيحتاج إلى مطابقة الحديث للترجمة والذي يظهر أنه
استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى وهو عبادتهما من
دون الله فيكون المراد بالصور في الترجمة خصوص ما يكون من ذوات الأرواح بل أخص من ذلك
(قوله إلا نقضه) كذا للأكثر ووقع في رواية أبان إلا قضبه بتقديم القاف ثم المعجمة ثم الموحدة
323

وكذا وقع في رواية عند ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن هشام ورجحها بعض شراح المصابيح
وعكسه الطيبي فقال رواية البخاري أضبط والاعتماد عليهم أولى (قلت) ويترجح من حيث
المعنى أن النقض يزيل الصورة مع بقاء الثوب على حاله والقضب وهو القطع يزيل صورة الثوب
قال ابن بطال في هذا الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقض الصورة سواء كانت
مما له ظل أم لا وسواء كانت مما توطأ أم لا سواء في الثياب وفي الحيطان وفي الفرش والأوراق
وغيرها (قلت) وهذا مبني على ثبوت الرواية بلفظ تصاوير وأما بلفظ تصاليب فلا لان
في التصاليب معنى زائدا على مطلق الصور لان الصليب مما عبد من دون الله بخلاف الصور
فليس جميعها مما عبد فلا يكون فيه حجة على من فرق في الصور بين ما له روح فمنعه وما لا روح
فيه فلم يمنعه كما سيأتي تفصيله فإذا كان المراد بالنقض الإزالة دخل طمسها فيما لو كانت نقشا
في الحائط أو حكها أو لطخها بما يغيب هيئتها * الحديث الثاني (قوله عبد الواحد) هو
ابن زياد وعمارة هو ابن القعقاع (قوله حدثنا أبو زرعة) هو ابن عمرو بن جرير (قوله دخلت
مع أبي هريرة) جاء عن أبي زرعة المذكور حديث آخر بسند آخر أخرجه أبو داود والنسائي
وصححه ابن حبان والحاكم من طريق علي بن مدرك عن عبد الله بن نجي بنون وجيم مصغر عن أبيه
عن علي رفعه لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (قوله دارا بالمدينة) هي لمروان بن
الحكم وقع ذلك في رواية محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عند مسلم من هذا الوجه وعند مسلم
أيضا والإسماعيلي من طريق جرير عن عمارة دارا تبنى لسعيد أو لمروان بالشك وسعيد هو ابن
العاص بن سعيد الأموي وكان هو ومروان بن الحكم يتعاقبان أمرة المدينة لمعاوية والرواية
الجازمة أولى (قوله مصورا يصور) لم أقف على اسمه وقوله يصور بصيغة المضارعة للجميع
وضبطه الكرماني بوجهين أحدهما هذا والآخر بكسر الموحدة وضم الصاد المهملة وفتح
الواو ثم راء منونة وهو بعيد (قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ومن أظلم ممن
ذهب يخلق كخلقي) هكذا في البخاري وقد وقع نحو ذلك في حديث آخر لأبي هريرة تقدم قريبا
في باب ما يذكر في المسك وفيه حذف بينه ما وقع في رواية جرير المذكورة قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال الله تعالى ومن أظلم إلى آخره ونحوه في رواية ابن فضيل وقوله ذهب أي قصد وقوله
كخلقي التشبيه في فعل الصورة وحدها لا من كل الوجوه قال ابن بطال فهم أبو هريرة أن
التصوير يتناول ما له ظل وما ليس له ظل فلهذا أنكر ما ينقش في الحيطان (قلت) هو ظاهر من
عموم اللفظ ويحتمل أن يقصر على ما له ظل من جهة قوله كخلقي فإن خلقه الذي اخترعه ليس
صورة في حائط بل هو خلق تام لكن بقية الحديث تقتضي تعميم الزجر عن تصوير كل شئ وهي قوله
فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة وهي بفتح المعجمة وتشديد الراء ويجاب عن ذلك بأن المراد ايجاد حبة
على الحقيقة لا تصويرها ووقع لابن فضيل من الزيادة وليخلقوا شعرة والمراد بالحبة حبة القمح
بقرينة ذكر الشعير أو الحبة أعم والمراد بالذرة النملة والغرض تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق
حيوان وهو أشد وأخرى بتكليفهم خلق جماد وهو أهون ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك (قوله
ثم دعا بتور) أي طلب تورا وهو بمثناة إناء كالطست تقدم بيانه في كتاب الطهارة (قوله من
ماء) أي فيه ماء (قوله فغسل يديه حتى بلغ إبطه) في هذه الرواية اختصار وبيانه في رواية جرير
324

بلفظ فتوضأ أبو هريرة فغسل يده حتى بلغ إبطه وغسل رجليه حتى بلغ ركبتيه أخرجها
الإسماعيلي وقدم قصة الوضوء على قصة المصور ولم يذكر مسلم قصة الوضوء هنا (قوله منتهى
الحلية) في رواية جرير أنه منتهى الحلية كأنه يشير إلى الحديث المتقدم في الطهارة في فضل
الغرة والتحجيل في الوضوء ويؤيده حديثه الآخر تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء وقد
تقدم شرحه والبحث في ذلك مستوفى هناك وليس بين ما دل عليه الخبر من الزجر عن التصوير وبين
ما ذكر من وضوء أبي هريرة مناسبة وإنما أخبر أبو زرعة بما شاهد وسمع من ذلك (قوله
باب من وطئ من التصاوير) أي هل يرخص فيه ووطئ بضم الواو مبني للمجهول أي
صار يداس عليه ويمتهن (قوله القاسم) هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق (قوله من سفر)
في رواية البيهقي أنها غزوة تبوك وفي أخرى لأبي داود والنسائي غزوة تبوك أو خيبر على الشك
(قوله بقرام) بكسر القاف وتخفيف الراء هو ستر فيه رقم ونقش وقيل ثوب من صوف ملون
يفرش في الهودج أو يغطى به (قوله على سهوة) بفتح المهملة وسكون الهاء هي صفة من
جانب البيت وقيل الكوة وقيل الرف وقيل أربعة أعواد أو ثلاثة يعارض بعضها ببعض يوضع
عليها شئ من الأمتعة وقيل أن يبني من حائط البيت حائط صغير ويجعل السقف على الجميع فما
كان وسط البيت فهو السهوة وما كان داخله فهو المخدع وقيل دخلة في ناحية البيت وقيل بيت
صغير يشبه المخدع وقيل بيت صغير منحدر في الأرض وسمكه مرتفع من الأرض كالخزانة الصغيرة
يكون فيها المتاع ورجح هذا الأخير أبو عبيد ولا مخالفة بينه وبين الذي قبله (قلت) وقد وقع في
حديث عائشة أيضا في ثاني حديثي الباب أنها علقته على بابها وكذا في رواية زيد بن خالد الجهني
عن عائشة عند مسلم فتعين أن السهوة بيت صغير علقت الستر على بابه (قوله فيه تماثيل) بمثناة
ثم مثلثة جمع تمثال وهو الشئ المصور أعم من أن يكون شاخصا أو يكون نقشا أو دهانا أو نسجا
في ثوب وفي رواية بكير بن الأشج عن عبد الرحمن بن القاسم عند مسلم أنها نصبت سترا فيه تصاوير
(قوله هتكه) أي نزعه وقد وقع في الرواية التي بعدها فأمرني أن أنزعه فنزعته (قوله أشد
الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله) أي يشبهون ما يصنعونه بما يصنعه الله ووقع
في رواية الزهري عن القاسم عند مسلم الذين يشبهون بخلق الله وقد تقدم الكلام على قوله أشد
قبل بباب (قوله فجعلناه وسادة أو وسادتين) تقدم هذا الحديث في المظالم من طريق عبيد الله
العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بهذا السند قالت فاتخذت منه نمرقتين فكانتا في البيت يجلس
عليهما وهو عند مسلم من وجه آخر عن عبيد الله بلفظ فأخذته فجعلته مرفقتين فكان يرتفق بهما
في البيت والنمرقة يأتي ضبطها في الباب الذي يليه ولمسلم من طريق بكير بن الأشج فقطعته
وسادتين فقال رجل في المجلس يقال له ربيعة بن عطاء أفما سمعت أبا محمد يريد القاسم بن محمد يذكر
أن عائشة قالت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق عليهما قال ابن القاسم يعني
عبد الرحمن لا قال لكني قد سمعته (قوله عبد الله بن داود) هو الخربي بمعجمة وراء وموحدة
مصغر وهشام هو ابن عروة (قوله درنوكا) زاد مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام على بابي
والدرنوك بضم الدال المهملة وسكون الراء بعدها نون مضمومة ثم كاف ويقال فيه درموك بالميم
بدل النون قال الخطابي هو ثوب غليظ له خمل إذا فرش فهو بساط وإذا علق فهو ستر (قوله
325

فيه تماثيل) زاد في رواية أبي أسامة عند مسلم فيه الخيل ذوات الأجنحة واستدل بهذا الحديث
على جواز اتخاذ الصور إذا كانت لا ظل لها وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال
كالمخاد والوسائد قال النووي وهو قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وهو قول الثوري
ومالك وأبي حنفية والشافعي ولا فرق في ذلك بين ما له ظل وما لا ظل له فإن كان معلقا على حائط
أو ملبوسا أو عمامة أو نحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام (قلت) وفيما نقله مؤاخذات منها أن
ابن العربي من المالكية نقل أن الصورة إذا كان لها ظل حرم بالاجماع سواء كانت مما يمتهن
أم لا وهذا الاجماع محله في غير لعب البنات كما سأذكره في باب من صور صورة وحكى القرطبي
في المفهم في الصور التي لا تتخذ للابقاء كالفخار قولين أظهرهما المنع (قلت) وهل يلتحق ما
يصنع من الحلوى بالفخار أو بلعب البنات محل تأمل وصحح ابن العربي أن الصورة التي لا ظل لها
إذا بقيت على هيئتها حرمت سواء كانت مما يمتهن أم لا وإن قطع رأسها أو فرقت هيئتها جاز وهذا
المذهب منقول عن الزهري وقواه النووي وقد يشهد له حديث النمرقة يعني المذكورة في الباب
الذي بعده وسيأتي ما فيه ومنها أن إمام الحرمين نقل وجها أن الذي يرخص فيه مما لا ظل له
ما كان على ستر أو وسادة وأما ما على الجدار والسقف فيمنع والمعنى فيه أنه بذلك يصير مرتفعا
فيخرج عن هيئة الامتهان بخلاف الثوب فإنه بصدد أن يمتهن وتساعده عبارة مختصر المزني صورة
ذات روح إن كانت منصوبة ونقل الرافعي عن الجمهور أن الصورة إذا قطع رأسها ارتفع المانع
وقال المتولي في التتمة لا فرق ومنها أن مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب ولو كان معلقا على
ما في خبر أبي طلحة لكن إن ستر به الجدار منع عندهم قال النووي وذهب بعض السلف إلى أن
الممنوع ما كان له ظل وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه مطلقا وهو مذهب باطل فإن الستر الذي
أنكره النبي صلى الله عليه وسلم كانت الصورة فيه بلا ظل بغير شك ومع ذلك فأمر بنزعه (قلت)
المذهب المذكور نقله ابن أبي شيبة عن القاسم بن محمد بسند صحيح ولفظه عن ابن عون قال
دخلت على القاسم وهو بأعلى مكة في بيته فرأيت في بيته حجلة فيها تصاوير القندس والعنقاء ففي
إطلاق كونه مذهبا باطلا نظر إذ يحتمل أنه تمسك في ذلك بعموم قوله الا رقما في ثوب فإنه أعم من أن
يكون معلقا أو مفروشا وكأنه جعل إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة تعليق الستر
المذكور مركبا من كونه مصورا ومن كونه ساترا للجدار ويؤيده ما ورد في بعض طرقه عند مسلم
فأخرج من طريق سعيد بن يسار عن زيد بن خالد الجهني قال دخلت على عائشة فذكر نحو حديث
الباب لكن قال فجذبه حتى هتكه وقال أن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قال فقطعنا
منه وسادتين الحديث فهذا يدل على أنه كره ستر الجدار بالثوب المصور فلا يساويه الثوب الممتهن
ولو كانت فيه صورة وكذلك الثوب الذي لا يستر به الجدار والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة
وكان من أفضل أهل زمانه وهو الذي روى حديث النمرقة فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحجلة
ما استجاز استعمالها لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدل على أنه مذهب مرجوح وأن
الذي رخص فيه من ذلك ما يمتهن لا ما كان منصوبا وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق أيوب
عن عكرمة قال كانوا يقولون في التصاوير في البسط والوسائد التي توطأ ذل لها ومن طريق عاصم
عن عكرمة قال كانوا يكرهون ما نصب من التماثيل نصبا ولا يرون بأسا بما وطئته الاقدام ومن
326

طريق ابن سيرين وسالم بن عبد الله وعكرمة بن خالد وسعيد بن جبير فرقهم أنهم قالوا لا بأس
بالصورة إذا كانت توطأ ومن طريق عروة أنه كان يتكئ على المرافق فيها التماثيل الطير والرجال
(قوله في آخر الحديث وكنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد) كذا أورده
عقب حديث التصوير وهو حديث آخر مستقل قد أفرده في كتاب الطهارة من وجه آخر عن
الزهري عن عروة وأخرجه عقب حديث عائشة في صفة الغسل من طريق عبد الله بن المبارك
عن هشام بن عروة به وتقدم شرحه هناك وكأن البخاري سمع الحديث على هذه الصورة فأورده كما
هو واغتفر ذلك لكون المتن قصيرا مع أن كثرة عادته التصرف في المتن بالاختصار والاقتصار وقال
الكرماني يحتمل أن الدرموك كان في باب المغتسل أو اقتضى الحال ذكر الاغتسال إما بحسب
سؤال وإما بغيره (قوله باب من كره القعود على الصور) أي ولو كانت مما
توطأ ذكر فيه حديثين * الأول حديث عائشة (قوله جويرية) بالجيم والراء مصغر (قوله
عن عائشة) في رواية مالك عن نافع عن القاسم عن عائشة أنها أخبرته وسيأتي بعد بابين (قوله
نمرقة) بفتح النون وسكون الميم وضم الراء بعدها قاف كذا ضبطها القزاز وغيره وضبطها ابن
السكيت بضم النون أيضا وبكسرها وكسر الراء وقيل في النون الحركات الثلاث والراء
مضمومة جزما والجمع نمارق وهي الوسائد التي تصف بعضها إلى بعض وقيل النمرقة الوسادة التي
يجلس عليها (قوله فلم يدخل) زاد مالك في روايته فعرفت الكراهية في وجهه (قوله 2 أتوب إلى
الله وإلى رسوله ماذا أذنبت) يستفاد منه جواز التوبة من الذنوب كلها إجمالا وأن لم يستحضر
التائب خصوص الذنب الذي حصلت به مؤاخذته (قوله ما هذه النمرقة) في رواية مالك ما بال
هذه (قوله قلت لتجلس عليها) في رواية مالك اشتريتها لتقعد عليها (قوله وتوسدها) بفتح
أوله وبتشديد السين المهملة أصله تتوسدها (قوله إن أصحاب هذه الصور الخ) وفيه أن
الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور والجملة الثانية هي المطابقة لامتناعه من الدخول وإنما قدم
الجملة الأولى عليها اهتماما بالزجر عن اتخاذ الصور لان الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل
لمستعملها لأنها لا تصنع الا لتستعمل فالصانع متسبب والمستعمل مباشر فيكون أولى بالوعيد
ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا ولا بين أن تكون
مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة خلافا لمن استثنى النسج وادعى أنه ليس بتصوير
وظاهر حديثي عائشة هذا والذي قبله التعارض لان الذي قبله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم
استعمل الستر الذي فيه الصورة بعد أن قطع وعملت منه الوسادة وهذا يدل على أنه لم يستعمله
أصلا وقد أشار المصنف إلى الجمع بينهما بأنه لا يلزم من جواز اتخاذ ما يوطأ من الصور جواز القعود
على الصورة فيجوز أن يكون استعمل من الوسادة ما لا صورة فيه ويجوز أن يكون رأى التفرقة بين
القعود والاتكاء وهو بعيد ويحتمل أيضا أن يجمع بين الحديثين بأنها لما قطعت الستر وقع القطع
في وسط الصورة مثلا فخرجت عن هيئتها فلهذا صار يرتفق بها ويؤيد هذا الجمع الحديث الذي
في الباب قبله في نقض الصور وما سيأتي في حديث أبي هريرة المخرج في السنن وسأذكره في الباب
بعده وسلك الداودي في الجمع مسلكا آخر فادعى أن حديث الباب ناسخ لجميع الأحاديث الدالة
على الرخصة واحتج بأنه خبر والخبر لا يدخله النسخ فيكون هو الناسخ (قلت) والنسخ لا يثبت
327

بالاحتمال وقد أمكن الجمع فلا يلتفت لدعوى النسخ وأما ما أحتج به فرده ابن التين بأن الخبر إذا
قارنه الامر جاز دخول النسخ فيه (قوله عن بكير) بالموحدة مصغر في رواية النسائي عن عيسى
ابن حماد عن الليث حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج وكذا عند أحمد عن حجاج بن محمد وهاشم بن
القسم عن الليث (قوله عن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة في رواية عمرو بن الحرث عن
بكير أن بسر بن سعيد حدثه وقد مضت في بدء الخلق (قوله عن زيد بن خالد) هو الجهني الصحابي
في رواية عمرو أيضا أن زيد بن خالد الجهني حدثه ومع بسر بن سعيد عبيد الله الخولاني الذي كان
في حجر ميمونة (قوله أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور وفي الاسناد تابعيان
في نسق وصحابيان في نسق وعلى رواية بسر عن عبيد الله الخولاني للزيادة الآتي ذكرها يكون فيه
ثلاثة من التابعين في نسق وكلهم مدنيون ووقع في رواية عمرو بن الحرث أن أبا طلحة حدثه (قوله
فيه صورة) كذا لكريمة وغيرها وفي رواية أبي ذر عن مشايخه الا المستملي صور بصيغة الجمع وكذا
في قوله فإذا على بابه ستر فيه صورة ووقع في رواية عمرو بن الحرث فإذا نحن في بيته بستر فيه تصاوير
وهي تقوي رواية أبي ذر (قوله فقلت لعبيد الله الخولاني) أي الذي كان معه كما بينته رواية
عمرو بن الحرث وعبيد الله هو ابن الأسود ويقال ابن أسد ويقال له ربيب ميمونة لأنها كانت ربته
وكان من مواليها ولم يكن ابن زوجها وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في الصلاة
من روايته عن عثمان (قوله يوم الأول) في رواية الكشميهني يوم أول (قوله فقال عبيد الله
ألم تسمعه حين قال إلا رقما في ثوب) في رواية عمرو بن الحرث فقال أنه قال إلا رقما في ثوب ألا سمعته
قلت لا قال بلى قد ذكره (قوله وقال ابن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحرث) تقدم أنه وصله في بدء
الخلق وقد بينت ما في روايته من فائدة زائدة ووقع عند النسائي من وجه آخر عن بسر بن سعيد
عن عبيدة بن سفيان قال دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على زيد بن خالد نعوده فوجدنا عنده
نمرقتين فيهما تصاوير وقال أبو سلمة أليس حدثتنا فذكر الحديث فقال زيد سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول إلا رقما في ثوب قال النووي يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم
في الثوب ما كانت الصورة فيه من غير ذوات الأرواح كصورة الشجر ونحوها اه‍ ويحتمل أن
يكون ذلك قبل النهي كما يدل عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن وسأذكره
في الباب الذي يليه وقال ابن العربي حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم
بالاجماع وإن كانت رقما فأربعة أقوال الأول يجوز مطلقا على ظاهر قوله في حديث الباب إلا رقما
في ثوب الثاني المنع مطلقا حتى الرقم الثالث إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم
وإن قطعت الرأس أو تفرقت الاجزاء جاز قال وهذا هو الأصح الرابع إن كان مما يمتهن جاز وإن
كان معلقا لم يجز (قوله باب كراهية الصلاة في التصاوير) أي في الثياب
المصورة (قوله عبد الوارث) هو ابن سعيد والاسناد كله بصريون (قوله كان قرام لعائشة
سترت به جانب بيتها) تقدم ضبط القرام قريبا (قوله أميطي) أي أزيلي وزنه ومعناه
(قوله تعرض) بفتح أوله وكسر الراء أي أنظر إليها فتشغلني ووقع في حديث عائشة عند مسلم
أنها كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليه فقال
أخريه عني ووجه انتزاع الترجمة من الحديث أن الصور إذا كانت تلهي المصلي وهي مقابلة
328

فكذا تلهيه وهو لابسها بل حالة اللبس أشد ويحتمل أن تكون في بمعنى إلى فتحصل المطابقة
وهو اللائق بمراده فإن في المسئلة خلافا فنقل عن الحنفية أنه لا تكره الصلاة إلى جهة فيها صورة
إذا كانت صغيرة أو مقطوعة الرأس وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة
أيضا في النمرقة لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلا
حتى نزعه وهذا يدل على أنه أقره وصلى وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤيته
الصورة حالة الصلاة ولم يتعرض لخصوص كونها صورة ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره
من ذوات الأرواح وهذا كانت تصاويره من غير الحيوان كما تقدم تقريره في حديث زيد بن خالد
(قوله باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة) تقدم البحث في المراد بالصورة في
باب التصاوير وقال القرطبي في المفهم إنما لم تدخل الملائكة البيت الذي فيه الصورة لان
متخذها قد تشبه بالكفار لانهم يتخذون الصور في بيوتهم ويعظمونها فكرهت الملائكة ذلك
فلم تدخل بيته هجرا له لذلك (قوله عمر بن محمد) أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر وسالم شيخه هو عم
أبيه وهو ابن عبد الله بن عمر (قوله وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم) زادت عائشة في ساعة
يأتيه فيها أخرجه مسلم (قوله فراث عليه) بالمثلثة أي أبطأ وفي حديث عائشة فجاءت تلك
الساعة ولم يأته (قوله حتى أشتد على النبي صلى الله عليه وسلم) في حديث عائشة وفي يده عصا
فألقاها من يده وقال ما يخلف الله وعده ولا رسله وفي حديث ميمونة عند مسلم نحو حديث
عائشة وفيه أنه أصبح واجما بالجيم أي منقبضا (قوله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه
فشكا إليه ما وجد) أي من إبطائه (فقال له إنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب) في هذا الحديث
اختصار وحديث عائشة أتم ففيه ثم ألتفت فإذا جرو كلب تحت سريره فقالت يا عائشة متى دخل
هذا الكلب فقالت وأيم الله ما دريت ثم أمر به فأخرج فجاء جبريل فقال واعدتني فجلست لك فلم
تأت فقال منعني الكلب الذي كان في بيتك وفي حديث ميمونة فظل يومه على ذلك ثم وقع في نفسه
جرو كلب فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه فلما أمسى لقيه جبريل وزاد فيه الامر
بقتل الكلاب وحديث أبي هريرة في السنن وصححه الترمذي وابن حبان أتم سياقا منه ولفظه
أتاني جبريل فقال أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل
وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على باب البيت
يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن ومر
بالكلب فليخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية النسائي إما أن تقطع رؤسها
أو تجعل بسطا توطأ وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة
من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة فأما لو كانت ممتهنة أو غير
ممتهنة لكنها غيرت عن هيئتها إما بقطعها من نصفها أو بقطع رأسها فلا امتناع وقال القرطبي
ظاهر حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة الماضي قيل إن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت
الذي فيه صورة إن كانت رقما في الثوب وظاهر حديث عائشة المنع ويجمع بينهما بان يحمل
حديث عائشة على الكراهة وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز وهو لا ينافي الكراهة (قلت)
وهو جمع حسن لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه والله تعالى أعلم (قوله
329

باب من لم يدخل بيتا فيه صورة) ذكر فيه حديث عائشة في النمرقة وقد تقدم بيانه في
باب من كره القعود على التصاوير قال الرافعي وفي دخول البيت الذي فيه الصورة وجهان قال
الأكثر يكره وقال أبو محمد يحرم فلو كانت الصورة في ممر الدار لا داخل الدار كما في ظاهر الحمام أو
دهليزها لا يمتنع الدخول قال وكان السبب فيه أن الصورة في الممر ممتهنة وفي المجلس مكرمة (قلت)
وقصة إطلاق نص المختصر وكلام الماوردي وابن الصباغ وغيرهما لا فرق (قوله باب
من لعن المصور) ذكر فيه حديث أبي جحيفة وقد تقدم بيانه في باب الواشمة (قوله باب
من صور صورة الخ) كذا ترجم بلفظ الحديث ووقع عند النسفي باب بغير ترجمة وثبتت الترجمة
عند الأكثر وسقط الباب والترجمة من رواية الإسماعيلي وعلى ذلك جرى ابن بطال ونقل عن
المهلب توجيه إدخال حديث الباب في الباب الذي قبله فقال اللعن في اللغة الابعاد من رحمة الله
تعالى ومن كلف أن ينفخ الروح وليس بنافخ فقد أبعد من الرحمة (قوله حدثنا عياش) هو
بالتحتانية وبالشين المعجمة وعبد الاعلى هو ابن عبد الاعلى وسعيد هو ابن أبي عروبة والسند كله
بصريون (قوله سمعت النضر بن أنس بن مالك يحدث قتادة) كان سعيد بن أبي عروبة كثير الملازمة
لقتادة فاتفق أن قتادة والنضر بن أنس اجتمعا فحدث النضر قتادة فسمعه سعيد وهو معه ووقع في
رواية المستملي وغيره يحدثه قتادة والضمير للحديث وقتادة بالنصب على المفعولية والفاعل النضر
وضبطه بعضهم بالرفع على أن الضمير النضر وفاعل يحدث قتادة وهو خطأ لأنه لا يلائم قوله سمعت
النضر ولان قتادة لم يسمع من ابن عباس ولا حضر عنده وقد تقدم تصريح البخاري بأن سعيدا
سمع من النضر هذا الحديث الواحد ووقع في رواية خالد بن الحرث عن سعيد عن قتادة عن
النضر بن أنس أخرجها الإسماعيلي وقوله عن قتادة من المزيد في متصل الأسانيد فإن كان خالد
حفظه احتمل أن يكون سعيد كان سمعه من قتادة عن النضر ثم لقي النضر فسمعه منه فكان يحدثه
به على الوجهين وقد حدث به قتادة عن النضر من غير طريق سعيد أخرجها الإسماعيلي من
رواية هشام الدستوائي عن قتادة (قوله وهم يسألونه ولا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم) أي
يجيبهم عما يسألونه بالفتوى من غير أن يذكر الدليل من السنة وقد وقع بيان ذلك عند الإسماعيلي
من رواية ابن أبي عدي عن سعيد ولفظه فجعلوا يستفتونه ويفتيهم ولم يذكر فيما يفتيهم النبي
صلى الله عليه وسلم (قوله حتى سئل فقال سمعت) كذا أبهم المسئلة وبينها ابن أبي عدي عن سعد
ففي روايته حتى أتاه رجل من أهل العراق أراه نجارا فقال إني أصور هذه التصاوير فما تأمرني فقال
إذا سمعت وتقدم في البيوع من رواية سعيد بن أبي الحسن قال كنت عند ابن عباس إذ أتاه
رجل فقال يا أبا عباس أني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي (قوله من صور صورة في الدنيا)
كذا أطلق وظاهره التعميم فيتناول صورة ما لا روح فيه لكن الذي فهم ابن عباس من بقية
الحديث التخصيص بصورة ذوات الأرواح من قوله كلف أن ينفخ فيها الروح فاستثنى ما لا روح
فيه كالشجر (قوله كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ) في رواية سعيد بن أبي
الحسن فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا واستعمال حتى هنا نظير
استعمالها في قوله تعالى حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذا قولهم لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب
قال الكرماني ظاهره أنه من تكليف ما لا يطاق وليس كذلك وإنما القصد طول تعذيبه وإظهار
330

عجزه عما كان تعاطاه ومبالغة في توبيخه وبيان قبح فعله وقوله ليس بنافخ أي لا يمكنه ذلك فيكون
معذبا دائما وقد تقدم في باب عذاب المصورين من حديث ابن عمر أنه يقال للمصورين أحيوا
ما خلقتم وأنه أمر تعجيز وقد استشكل هذا الوعيد في حق المسلم فإن وعيد القاتل عمدا ينقطع
عند أهل السنة مع ورود تخليده بحمل التخليد على مدة مديدة وهذا الوعيد أشد منه لأنه مغيا
بما لا يمكن وهو نفخ الروح فلا يصح أن يحمل على أن المراد أنه يعذب زمانا طويلا ثم يتخلص
والجواب أنه يتعين تأويل الحديث على أن المراد به الزجر الشديد بالوعيد بعقاب الكافر ليكون
أبلغ في الارتداع وظاهره غير مراد وهذا في حق العاصي بذلك وأما من فعله مستحلا فلا إشكال
فيه واستدل به على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى للحوق الوعيد بمن تشبه بالخالق فدل على
أن غير الله ليس بخالق حقيقة وقد أجاب بعضهم بأن الوعيد وقع على خلق الجواهر ورد بأن
الوعيد لاحق باعتبار الشكل والهيئة وليس بذلك بجوهر وأما استثناء غير ذي الروح فورد
مورد الرخصة كما قررته وفي قوله كلف يوم القيامة رد على من زعم أن الآخرة ليست بدار
تكليف وأجيب بأن المراد بالنفي أنها ليست بدار تكليف بعمل يترتب عليه ثواب أو عقاب وأما
مثل هذا التكليف فليس بممتنع لأنه نفسه عذاب وهو نظير الحديث الآخر من قتل نفسه
بحديدة فحديدته في يده يجأ بها نفسه يوم القيامة وسيأتي في موضعه وأيضا فالتكليف بالعمل في
الدنيا حسن على مصطلح أهل علم الكلام بخلاف هذا التكليف الذي هو عذاب واستدل به على
جواز التكليف بما لا يطاق والجواب ما تقدم وأيضا فنفخ الروح في الجماد قد ورد معجزة للنبي
صلى الله عليه وسلم فهو يمكن وإن كان في وقوعه خرق عادة والحق أنه خطاب تعجيز لا تكليف
كما تقدم والله أعلم وقد تقدم في باب بيع التصاوير في أواخر البيوع زيادة سعيد بن أبي الحسن
في روايته أن ابن عباس قال للرجل ويحك إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر الحديث مع
ضبط لفظه وإعرابه واستدل به على جواز تصوير ما لا روح له من شجر أو شمس أو قمر ونقل الشيخ
أبو محمد الجويني وجها بالمنع لان من الكفار من عبدها (قلت) ولا يلزم من تعذيب من يصور
ما فيه روح بما ذكر تجويز تصوير ما لا روح فيه فإن عموم قوله الذين يضاهون بخلق الله وقوله
ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي يتناول ما فيه روح وما لا روح فيه فإن خص ما فيه روح بالمعنى
من جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بصنعته وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلا أمتنع ذلك في مثل
تصوير الشمس والقمر ويتأكد المنع بما عبد من دون الله فإنه يضاهي صورة الأصنام التي هي
الأصل في منع التصوير وقد قيد مجاهد صاحب ابن عباس جواز تصوير الشجر بما لا يثمر وأما ما يثمر
فألحقه بما له روح قال عياض لم يقله أحد غير مجاهد ورده الطحاوي بأن الصورة لما أبيحت بعد
قطع رأسها التي لو قطعت من ذي الروح لما عاش دل ذلك على إباحة ما لا روح له أصلا (قلت)
وقضيته أن تجويز تصوير ما له روح بجميع أعضائه إلا الرأس فيه نظر لا يخفى وأظن مجاهدا سمع
حديث أبي هريرة الماضي ففيه فليخلقوا ذرة وليخلقوا شعيرة فإن في ذكر الذرة إشارة إلى ماله
روح وفي ذكر الشعيرة إشارة إلى ما ينبت مما يؤكل وأما ما لا روح فيه ولا يثمر فلا تقع الإشارة
إليه ويقابل هذا التشديد ما حكاه أبو محمد الجويني أن نسج الصورة في الثوب لا يمتنع لأنه قد
يلبس وطرده المتولي في التصوير على الأرض ونحوها وصحح النووي تحريم جميع ذلك قال
331

النووي ويستثنى من جواز تصوير ما له ظل ومن اتخاذه لعب البنات لما ورد من الرخصة في ذلك
(قلت) وسأذكر ذلك في كتاب الأدب واضحا إن شاء الله تعالى (قوله باب الارتداف
على الدابة) أي إركاب راكب الدابة خلفه غيره وقد كنت استشكلت إدخال هذه التراجم في
كتاب اللباس ثم ظهر لي أن وجهه أن الذي يرتدف لا يأمن من السقوط فينكشف فأشار أن
احتمال السقوط لا يمنع من الارتداف إذا الأصل عدمه فيتحفظ المرتدف إذا ارتدف من
السقوط وإذا سقط فليبادر إلى الستر وتلقيت فهم ذلك من حديث أنس في قصة صفية الآتي في
باب أرداف المرأة خلف الرجل وقال الكرماني الغرض الجلوس على لباس الدابة وأن تعدد
أشخاص الراكبين عليها والتصريح بلفظ القطيفة في الحديث الثامن مشعر بذلك (قوله
أبو صفوان) هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان الأموي (قوله ركب على حمار) هو
طرف من حديث طويل تقدم أصله في العلم ويأتي بهذا السند في الاستئذان ثم في الرقاق وهو
ظاهر في مشروعية الارتداف (قوله باب الثلاثة على الدابة) كأنه يشير إلى
الزيادة التي في حديث الباب الذي بعده والأصل في ذلك ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ثلاثة على دابة وسنده ضعيف وأخرج الطبري عن
أبي سعيد رفعه لا يركب الدابة فوق اثنين وفي سنده لين وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل زاذان
أنه رأى ثلاثة على بغل فقال لينزل أحدكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث ومن
طريق أبي بردة عن أبيه نحوه ولم يصرح برفعه ومن طريق الشعبي قوله مثله ومن حديث
المهاجر بن قنفذ أنه لعن فاعل ذلك وقال إنا قد نهينا أن يركب الثلاثة على الدابة وسنده ضعيف
وأخرج الطبري عن علي قال إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم وعكسه
ما أخرجه الطبري أيضا بسند جيد عن ابن مسعود قال كان يوم بدر ثلاثة على بعير وأخرج
الطبراني وابن أبي شيبة أيضا من طريق الشعبي عن ابن عمر قال ما أبالي أن أكون عاشر عشرة
على دابة إذا أطاقت حمل ذلك وبهذا يجمع بين مختلف الحديث في ذلك فيحمل ما ورد في الزجر
عن ذلك على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة كالحمار مثلا وعكسه على عكسه كالناقة والبغلة
قال النووي مذهبنا ومذاهب العلماء كافة جواز ركوب ثلاثة على الدابة إذا كانت مطيقة
وحكى القاضي عياض منعه عن بعضهم مطلقا وهو فاسد (قلت) لم يصرح أحد بالجواز مع
العجز ولا بالمنع مع الطاقة بل المنقول من المطلق في المنع والجواز محمول على المقيد (قوله خالد)
هو ابن مهران الحذاء (قوله لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة) يعني في الفتح (قوله
استقبله) في رواية الكشميهني استقبلته وأغيلمة تصغير غلمة وهو جمع غلام على غير قياس
والقياس غليمة وقال ابن التين كأنهم صغروا أغلمة على القياس وإن كانوا لم ينطقوا بأغلمة قال
ونظيره أصيبية وإضافتهم إلى عبد المطلب لكونهم من ذريته (قوله فحمل واحدا بين يديه وآخر
خلفه) قد فسرهما في الرواية التي بعد هذه ووقع عند الطبراني في رواية ابن أبي مليكة عن ابن
عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان حينئذ راكبا على ناقته ووقع له ذلك في قصة أخرى أخرجها مسلم
وأبو داود والنسائي من طريق مورق العجلي حدثني عبد الله بن جعفر قال كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى بنا فيلقى بي وبالحسن أو بالحسين فحمل أحدنا بين يديه والآخر
332

خلفه حتى دخلنا المدينة وتقدم حديث آخر لعبد الله بن جعفر في المعنى في أواخر الجهاد ووقع في
قصة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راكبا على بغلته الشهباء عند قدومه المدينة أخرجه
مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع قال لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن
والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامة وهذا خلفه ووقع
في حديث بريدة الذي سأذكره في الباب بعده أنه ركب على حمار وأردف واحدا خلفه وهو يقوي
الجمع الذي أشرت إليه في الباب (قوله باب حمل صاحب الدابة غيره بين يديه
وقال بعضهم صاحب الدابة أحق بصدر الدابة إلا أن يأذن له) ثبت هذا التعليق عند النسفي وهو
لأبي ذر عن المستملي وحده والبعض المبهم هو الشعبي أخرجه ابن أبي شيبة عنه وقد جاء ذلك
مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وصححه ابن حبان والحاكم من طريق حسين بن واقد
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ جاءه رجل ومعه
حمار فقال يا رسول الله اركب وتأخر الرجل فقال لانت أحق بصدر دابتك إلا أن تجعله لي قال قد
جعلته لك فركب وهذا الرجل هو معاذ بن جبل بينه حبيب بن الشهيد في روايته عن عبد الله بن
بريدة لكنه أرسله أخرجه ابن أبي شيبة من طريقه قال ابن بطال كأن البخاري لم يرتض إسناده
يعني حديث بريدة فأدخل حديث ابن عباس ليدل على معناه (قلت) ليس هو على شرطه فلذلك
اقتصر على الإشارة إليه وقد وجدت له شاهدا من حديث النعمان بن بشير أخرجه الطبراني وفيه
زيادة الاستثناء وأخرج أحمد من حديث قيس بن سعد بدون هذه الزيادة وفي الباب عدة
أحاديث مرفوعة وموقوفة بمعنى ذلك قال ابن العربي إنما كان الرجل أحق بصدر دابته لأنه
شرف والشرف حق المالك ولأنه يصرفها في المشي حيث شاء وعلى أي وجه أراد من إسراع أو
بطء ومن طول أو قصر بخلاف غير المالك وقوله في حديث بريدة إلا أن تجعله لي يريد الركوب
على مقدم الدابة وفيه نظر لان الرجل قد تأخر وقال له يا رسول الله اركب أي في المقدم فدل على أنه
جعله له ويمكن أن يجاب بان المراد أنه طلب منه أن يجعله له صريحا أو الضمير للتصرف في الدابة
بعد الركوب كيف أراد كما أشار إليه ابن العربي في حق صاحب الدابة فكأنه قال اجعل حقك
لي كله من الركوب على مقدم الدابة وما يترتب على ذلك (قوله ذكر شر الثلاثة عند عكرمة)
كذا للمستملي وفي رواية الكشميهني أشر بزيادة ألف أوله وفي رواية الحموي الأشر فأما أشر
بزيادة ألف فهي لغة تقدم تقريرها في شرح حديث عبد الله بن سلام ففيه قالوا أخيرنا وابن
أخيرنا وجاء في المثل صغراها أشرها وقالوا أيضا نعوذ بالله من نفس حرى وعين شرى أي ملأى
من الشر وهو مثل أصغر وصغرى وأما الرواية بزيادة اللام فهو مثل قولهم الحسن الوجه
والواهب المائة والمراد بلفظ الشر لان أفعل التفضيل لا يستعمل على هذه الصور إلا نادرا
(قوله أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة من أتى ورسول الله بالرفع أي جاء
وقد حمل قئم بين يديه والفضل خلفه وهما ولدا العباس بن عبد المطلب وأخوا عبد الله بن عباس
راوي الحديث (قوله أو قثم خلفه) شك من الراوي وقثم بقاف ومثلثة وزن عمر ليس له في
البخاري رواية وهو صحابي وذكره الحافظ عبد الغني مع غير الصحابة فوهم (قوله فأيهم شر
أو أيهم خير) هذا كلام عكرمة يرد به على من ذكر له شر الثلاثة وقال الداودي إن ثبت الخبر في
333

ذلك قدم على هذا ويكون ناسخا له لان الفعل يدخله النسخ والخبر لا يدخله النسخ كذا قال
ودعوى النسخ هنا في غاية البعد والجمع الذي أشار إليه الطبري أولا أولى (قوله باب
أرداف الرجل خلف الرجل) ذكر فيه حديث معاذ بن جبل وقد تقدم في الجهاد وأحيل
بشرحه على هذا المكان واللائق به كتاب الرقاق فقد ذكره فيه بهذا السند والمتن تاما فليشرح
هناك والمقصود منه هنا من الارداف واضح ووقع في شرح ابن بطال باب بلا ترجمة وقال كان
ينبغي له أن يورده مع حديث أسامة في باب الارتداف وقد عرف جوابه وقوله كنت ردف النبي
صلى الله عليه وسلم الردف والرديف الراكب خلف الراكب بإذنه وردف كل شئ مؤخره وأصله
من الركوب على الردف وهو العجز ولهذا قيل للراكب الأصلي ركب صدر الدابة وردفت الرجل
إذا ركبت وراءه وأردفته إذا أركبته وراءك وقد أفرد ابن منده أسماء من أردفه النبي صلى الله
عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين نفسا (قوله باب أرداف المرأة خلف الرجل ذا
محرم) كذا للأكثر والنصب على الحال ولبعضهم ذي محرم على الصفة واقتصر النسفي على خلف
الرجل فلم يذكر ما بعده (قوله أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وإني لرديف أبي
طلحة وهو يسير وبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم رديف رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذ عثرت الناقة فقلت المرأة فنزلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أمكم فشددت
الرحل) كذا في هذه الرواية وظاهره أن الذي قال ذلك وفعله هو أنس وقد تقدم في أواخر الجهاد
من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحق وفيه أن الذي فعل ذلك أبو طلحة وأن الذي قال المرأة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولفظه أنه أقبل هو وأبو طلحة ومع النبي صلى الله عليه وسلم صفية يردفها
على راحلته فلما كان ببعض الطريق عثرت الدابة فصرع النبي صلى الله عليه وسلم والمرأة وأن
أبا طلحة أحسبه قال اقتحم عن بعيره فقال يا نبي الله هل أصابك من شئ قال لا ولكن عليك المرأة
فألقى أبو طلحة ثوبه على وجهه فقصد قصدها فألقى ثوبه عليها فقامت المرأة فشد لهما على
راحلتهما فركبا الحديث وفي أخرى عن يحيى بن أبي إسحق أيضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
على راحلته وقد أردف صفية بنت حي فعثرت ناقته فساقه نحوه فيستفاد من هاتين الطريقتين
تسمية المرأة وأن الذي تولى شد الرحل وغير ذلك مما ذكر هو أبو طلحة لا أنس والاختلاف فيه
على يحيى بن أبي إسحق رواية عن أنس فقال شعبة عنه ما في هذا الباب وقال عبد الوارث وبشر
ابن المفضل كلاهما عنه ما أشرت إليه في الجهاد وهو المعتمد فإن القصة واحدة ومخرج الحديث
واحد واتفاق اثنين أولى من انفراد واحد ولا سيما أن أنسا كان إذ ذاك يصغر عن تعاطي ذلك
الامر وأن كان لا يمتنع أن يساعد عمه أبا طلحة على شئ من ذلك والله أعلم فقد يرتفع الاشكال
بهذا وفي الحديث أنه لا بأس للرجل أن يتدارك المرأة الأجنبية إذا سقطت أو كادت تسقط فيعينها
على التخلص مما يخشى عليها (قوله باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى)
334

وجه دخول هذه الترجمة في كتاب اللباس من جهة أن الذي يفعل ذلك لا يأمن من الانكشاف
لا سيما الاستلقاء يستدعى النوم والنائم لا يتحفظ فكأنه أشار إلى أن من فعل ذلك ينبغي أن
يتحفظ لئلا ينكشف وذكر فيه حديث عباد بن تميم عن عمه وهو عبد الله بن زيد وفيه ثبوت
ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وزاد عند الإسماعيلي في روايته في آخر الحديث
وأن أبا بكر كان يفعل ذلك وعمر وعثمان وكأنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك وهو فيما أخرجه مسلم
من حديث جابر رفعه لا يستلقين أحدكم ثم يضع إحدى رجليه على الأخرى أو ثبت لكنه رآه
منسوخا وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى * (خاتمة) * اشتمل
كتاب اللباس من الأحاديث المرفوعة على مائتي حديث واثنين وعشرين حديثا المعلق منها
وما أشبه ستة وأربعون حديثا والبقية موصولة المكرر منها فيه وفيما مضى مائة واثنان
وثمانون حديثا والخالص أربعون وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة ما أسفل
من الكعبين من الازار في النار وحديث الزبير في لبس الحرير وحديث أم سلمة في شعر النبي صلى
الله عليه وسلم وحديث أنس كان لا يرد الطيب وحديث أبي هريرة في لعن الواصلة وحديثه
لا تشمن وحديث عائشة في نقض الصور وحديث ابن عمر في وعد جبريل ومنه لا تدخل الملائكة
بيتا فيه صورة وقد أخرجه مسلم من حديث عائشة وحديث صاحب الدابة أحق بصدرها على
أنه لم يصرح برفعه وهو مرفوع على ما بينته وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم تسعة
عشر أثرا والله أعلم
* (قوله بسم الله الرحمن الرحيم) *
* (كتاب الأدب) *
(قوله باب البر والصلة وقول الله سبحانه وتعالى ووصينا الانسان بوالديه حسنا)
كذا للأكثر وحذف بعضهم لفظ البر والصلة وبعضهم البسملة واقتصر النسفي على قوله
كتاب البر والصلة الخ ووقع في أول الأدب المفرد للبخاري باب ما جاء في قول الله تعالى ووصينا
الانسان بوالديه حسنا وكتاب الأدب المفرد يشتمل على أحاديث زائدة على ما في الصحيح وفيه
قليل من الآثار الموقوفة وهو كثير الفائدة والأدب استعمال ما يحمد قولا وفعلا وعبر بعضهم
عنه بأنه الاخذ بمكارم الأخلاق وقيل الوقوف مع المستحسنات وقيل هو تعظيم من فوقك
والرفق بمن دونك وقيل أنه مأخوذ من المأدبة وهي الدعوة إلى الطعام سمي بذلك لأنه يدعى إليه
وهذه الآية وقعت بهذا اللفظ في العنكبوت وفي الأحقاف لكن المراد هنا التي في العنكبوت
وقال ابن بطال ذكر أهل التفسير أن هذه الآية التي في لقمان نزلت في سعد بن أبي وقاص كذا
قال أنها التي في لقمان وليس كذلك وقد أخرج مسلم من طريق مصعب بن سعد عن أبيه قال
حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه قالت زعمت أن الله أوصاك بوالديك فأنا أمك وأنا
آمرك بهذا فنزلت ووصينا الانسان بوالديه حسنا وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس
لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا كذا وقع عنده وفيه انتقال من آية إلى
آية فإن في رواية العنكبوت وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى
335

مرجعكم والمذكور عنده بعد قوله وان جاهداك على آخره إنما هو في لقمان وقد وقع
عند الترمذي إلى قوله حسنا الآية فقط ومثله عند أحمد لكن لم يقل الآية ووقع في أخرى
لأحمد ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وقرأ حتى بلغ بما كنتم تعملون وهذا
القدر الأخير إنما هو في رواية العنكبوت وأوله من آية لقمان ويظهر لي أن الآيتين معا
كانتا في الأصل ثابتتين فسقط بعضهما على بعض الرواة والله أعلم واسم أم سعد بن أبي وقاص
حمنة بفتح المهملة وسكون الميم بعدها نون بنت سفيان بن أمية وهي ابنة عم أبي سفيان بن حرب
ابن أمية ولم أر في شئ من الاخبار أنها أسلمت واقتضت الآية الوصية بالوالدين والامر بطاعتهما
ولو كانا كافرين إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك ففيها بيان ما أجمل في غيرها وكذا
في حديث الباب من الامر ببرهما (قوله قال الوليد بن عيزار أخبرني) هو من تقديم اسم الراوي
على الصيغة وهو جائز وكان شعبة يستعمله كثيرا ووقع لبعضهم العيزار بزيادة ألف ولام في
أوله وكذا تقدم في أوائل الصلاة مع كثير من فوائد الحديث ولله الحمد وقال ابن التين تقديم البر
على الجهاد يحتمل وجهين أحدهما التعدية إلى نفع الغير والثاني أن الذي يفعله يرى أنه مكافأة
على فعلهما فكأنه يرى أن غيره أفضل منه فنبهه على إثبات الفضيلة فيه (قلت) والأول ليس
بواضح ويحتمل أنه قدم لتوقف الجهاد عليه إذ من بر الوالدين استئذانهما في الجهاد لثبوت النهي
عن الجهاد بغير اذنهما كما يأتي قريبا (قوله باب من أحق الناس بحسن الصحبة)
الصحبة والصحابة مصدران بمعنى وهو المصاحبة أيضا (قوله حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد
(قوله عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة) بضم المعجمة والراء بينهما موحدة كذا للأكثر ووقع عند
النسفي وكذا لأبي ذر عن الحموي والمستملي عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة بزيادة واو والصواب
حذفها فإن رواية ابن شبرمة قد علقها المصنف عقب رواية عمارة وقد أخرجه الإسماعيلي من
طريق زهير بن حرب عن جرير عن عمارة حسب (قوله جاء رجل) يحتمل أنه معاوية بن حيدة بفتح
المهملة وسكون التحتانية وهو جد بهز بن حكيم فقد أخرج المصنف في الأدب المفرد من حديثه
قال قلت يا رسول الله من أبر قال أمك الحديث وأخرجه أبو داود والترمذي (قوله فقال يا رسول
الله من أحق الناس بحسن صحابتي) في رواية محمد بن فضيل عن عمارة عند مسلم بحسن الصحبة
وعنده في رواية شريك عن عمارة وابن شبرمة جميعا عن أبي زرعة قال مثل رواية جرير وزاد
فقال نعم وأبيك لتنبأن وقد أخرجه ابن ماجة من هذا الوجه مطولا وزاد فيه حديث أفضل
الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح وأخرجه أحمد من طريق شريك فقال في أوله يا رسول الله
نبئني بأحق الناس مني صحبة ووجدته في النسخة بلفظ فقال نعم والله بدل وأبيك فلعلها تصحفت
وقوله وأبيك لم يقصد به القسم وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام ويحتمل أن يكون ذلك
وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء (قوله قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك
قال ثم من قال أبوك) كذا للجميع بالرفع ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند المصنف في الأدب
المفرد من وجه آخر بالنصب وفي آخره ثم أباك والأول ظاهر ويخرج الثاني على إضمار فعل
ووقع صريحا عند المصنف في الأدب المفرد كما سأنبه عليه وهكذا وقع تكرار الام ثلاثا وذكر
الأب في الرابعة وصرح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب ولفظه ثم عاد الرابعة فقال بر أباك وكذا
336

وقع في رواية بهز بن حكيم وزاد في آخره ثم الأقرب فالأقرب وله شاهد من حديث خداش أبي
سلامة رفعه أوصى امرأ بأمه أوصى امرأ بأمه أوصى امرأ بأمه أوصى امرأ بأبيه أوصي امرأ
بمولاه الذي يليه وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه أخرجه ابن ماجة والحاكم قال ابن بطال مقتضاه
أن يكون للام ثلاثة أمثال ما للأب من البر قال وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه
تنفرد بها الام وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى
ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين فسوى بينهما في الوصاية
وخص الام بالأمور الثلاثة قال القرطبي المراد أن الام تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر
وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة وقال عياض وذهب الجمهور إلى أن الام تفضل في البر
على الأب وقيل يكون برهما سواء ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول (قلت) إلى
الثاني ذهب بعض الشافعية لكن نقل الحرث المحاسبي الاجماع على تفضيل الام في البر وفيه نظر
والمنقول عن مالك ليس صريحا في ذلك فقد ذكره ابن بطال قال سئل مالك طلبني أبي فمنعتني أمي
قال أطع أباك ولا تعص أمك قال ابن بطال هذا يدل على أنه يرى برهما سواء كذا قال وليست
الدلالة على ذلك بواضحة قال وسئل الليث يعني عن المسئلة بعينها فقال أطع أمك فإن لها ثلثي البر
وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الام في الامرتين وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل
عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب
فيما أخرجه المصنف في الأدب المفرد وأحمد ابن ماجة وصححه الحاكم ولفظه إن الله يوصيكم
بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بآبائكم ثم يوصيكم بالأقرب
فالأقرب وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم كما تقدم وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة
عند مسلم بلفظ ثم أدناك فأدناك وفي حديث أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم بعدها مثلثة
انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول أمك وأباك ثم أختك وأخاك ثم أدناك
أدناك أخرجه الحاكم هكذا وأصله عند أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وابن حبان والمراد بالدنو
القرب إلى البار قال عياض تردد بعض العلماء في الجد والأخ والأكثر على تقديم الجد (قلت)
وبه جزم الشافعية قالوا يقدم الجد ثم الأخ ثم يقدم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد ثم تقدم
القرابة من ذوي الرحم ويقدم منهم المحارم على من ليس بمحرم ثم سائر العصبات ثم المصاهرة ثم
الولاء ثم الجار وسيأتي الكلام على حكمة بعد وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن
إيصال البر دفعة واحدة وهو واضح وجاء ما يدل على تقديم الام في البر مطلقا وهو ما أخرجه أحمد
والنسائي وصححه الحاكم من حديث عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم
حقا على المرأة قال زوجها قلت فعلى الرجل قال أمه ويؤيد تقديم الام حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري
له حواء وأن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال أنت أحق به ما لم تنكحي كذا أخرجه الحاكم وأبو
داود فتوصلت لاختصاصها به باختصاصه بها في الأمور الثلاثة (قوله وقال ابن شبرمة ويحيى
ابن أيوب حدثنا أبو زرعة مثله) أما ابن شبرمة فهو عبد الله الفقيه المشهور الكوفي وهو ابن عم
عمارة بن القعقاع المذكور قبل وطريقه هذه وصلها المؤلف في الأدب المفرد قال حدثنا سليمان
337

ابن حرب حدثنا وهيب بن خالد عن ابن شبرمة سمعت أبا زرعة فذكر بلفظ قيل يا رسول الله
من أبر والباقي مثل رواية جرير سواء لكن على سياق مسلم وأما يحيى بن أيوب فهو حفيد أبي زرعة
ابن عمرو بن جرير شيخه في هذا الحديث ولهذا يقال له الجريري وطريقه هذه وصلها المؤلف
أيضا في الأدب المفرد وأحمد كلاهما من طريق عبد الله هو ابن المبارك أنبأنا يحيى بن أيوب حدثنا
أبو زرعة فذكره بلفظ أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تأمرني فقال بر أمك ثم عاد
الحديث وكذا هو في كتاب البر والصلة لابن المبارك ونقل المحاسبي الاجماع على أن الام مقدمة
في البر على الأب (قوله باب لا يجاهد إلا بإذن الأبوين) ذكر فيه حديث
عبد الله بن عمرو وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد وحبيب المذكور في السند هو حبيب بن أبي
ثابت وسفيان في الطريقين هو الثوري وترجم له هناك في الجهاد بإذن الأبوين ووقع عند أحمد
من حديث أبي سعيد هاجر رجل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل باليمن أبواك قال نعم قال أذنا
لك قال لا قال ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما وقوله ففيهما فجاهد أي إن كان لك أبوان
فأبلغ جهدك في برهما والاحسان إليهما فإن ذلك يقوم لك مقام قتال العدو (قوله
باب لا يسب الرجل والديه) أي ولا أحدهما أي لا يتسبب إلى ذلك (قوله إن من أكبر
الكبائر أن يلعن الرجل والديه) سيأتي بعد باب عد العقوق في أكبر الكبائر والمذكور هنا فرد من
أفراد العقوق وإن كان التسبب إلى لعن الوالد من أكبر الكبائر فالتصريح بلعنه أشد وترجم بلفظ
السب وساقه بلفظ اللعن إشارة إلى ما وقع في بقية الحديث وقد وقع أيضا في بعض طرقه وهو في
الأدب المفرد من طريق عروة بن عياض سمع عبد الله بن عمرو يقول من الكبائر عند الله أن يسب
الرجل والده وقد أخرجه المصنف في الأدب المفرد من طريق سفيان الثوري ومسلم من طريق
يزيد بن الهاد كلاهما عن سعد بن إبراهيم بلفظ من الكبائر شتم الرجل وفي رواية المصنف أن يشتم
الرجل والديه (قوله قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه) هو استبعاد من السائل لان
الطبع المستقيم يأبي ذلك فبين في الجواب أنه وأن لم يتعاط السب بنفسه في الأغلب الأكثر لكن قد
يقع منه التسبب فيه وهو مما يمكن وقوعه كثيرا قال ابن بطال هذا الحديث أصل في سد الذرائع
ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرم يحرم عليه ذلك الفعل وأن لم يقصد إلى ما يحرم والأصل
في هذا الحديث قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية واستنبط منه الماوردي
منه بيع الثوب الحرير ممن يتحقق أنه يلبسه والغلام الأمرد ممن يتحقق أنه يفعل به الفاحشة
والعصير ممن يتحقق أنه يتخذه خمرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة فيه دليل على عظم حق الأبوين
وفيه العمل بالغالب لان الذي يسب أبا الرجل يجوز أن يسب الآخر أباه ويجوز أن لا يفعل لكن
الغالب أن يجيبه بنحو قوله وفيه مراجعة الطالب لشيخه فيما يقوله مما يشكل عليه وفيه
إثبات الكبائر وسيأتي البحث فيه قريبا وفيه أن الأصل يفضل الفرع بأصل الوضع ولو فضله الفرع
ببعض الصفات (قوله باب إجابة دعاء من بر والديه) ذكر فيه قصة الثلاثة الذين
انطبق عليهم فم الغار حتى ذكروا أعمالهم الصالحة ففرج عنهم وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب
الإجارة وقوله في هذه الرواية على فم غارهم في رواية الكشميهني باب بدل فم وقوله فأطبقت
تقدم توجيهه في أواخر أحاديث الأنبياء ووقع هنا في رواية الكشميهني فتطابقت وقوله نأى أي
338

بعد والشجر بمعجمة وجيم للأكثر وفي رواية الكشميهني بالمهملتين والأول أولى فإن في الخبر أنه رجع
بعد أن ناما فأقام ينتظر استيقاظهما إلى الصباح حتى انتبها من قبل أنفسهما وإنما قال بعد بي
الشجر أي لطلب المرعى وقوله فرجة يرون منها السماء في روايته حتى رأوا ووقع هنا للحموي وقص
الحديث بطوله وساقه الباقون وقوله يحب الرجال النساء في رواية الكشميهني الرجل بالافراد
وقوله تلك البقر في رواية الكشميهني ذلك البقر في الموضعين والإشارة فيه إلى الجنس (قوله
باب) بالتنوين (قوله عقوق الوالدين من الكبائر قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم) كذا في رواية أبي ذر عمر بضم العين وللأصيلي عمرو بفتحها وكذا هو في بعض النسخ عن أبي
ذر وهو المحفوظ وسيأتي في كتاب الايمان والنذور موصولا من رواية الشعبي عن عبد الله بن عمرو
ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس
واليمين الغموس ولابن عمر حديث في العاق أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم بلفظ
ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان وأخرج أحمد والنسائي
وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضا نحو حديث ابن عمر هذا لكن قال
الديوث بدل المنان والديوث بمهملة ثم تحتانية وآخره مثلثة بوزن فروج وقع تفسيره في نفس
الخبر أنه الذي يقر الخبث في أهله والعقوق بضم العين المهملة مشتق من العق وهو القطع والمراد به
صدور ما يتأذى به الوالد من ولده من قول أو فعل إلا في شرك أو معصية ما لم يتعنت الوالد وضبطه
ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلا وتركا واستحبابها في المندوبات وفروض الكفاية
كذلك ومنه تقديمها عند تعارض الامرين وهو كمن دعته أمه ليمرضها مثلا بحيث يفوت
عليه فعل واجب إن استمر عندها ويفوت ما قصدته من تأنيسه لها وغير ذلك ان لو تركها وفعله
وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة كالصلاة أول الوقت أو في الجماعة ثم ذكر المصنف
في الباب ثلاثة أحاديث أيضا * أولها حديث المغيرة بن شعبة (قوله عن منصور) هو ابن المعتمر
والمسيب هو ابن رافع ووراد هو كاتب المغيرة بن شعبة والسند كله كوفيون ووقع التصريح
بسماع منصور له من المسيب في الدعوات وقد تقدم في الاستقراض من رواية عثمان بن أبي شيبة
عن جرير عن منصور كالذي هنا وذكر المزي في الأطراف أن في رواية منصور عن المسيب عند
البخاري ذكر عقوق الأمهات فقط وليس كما قال بل هو بتمامه في الموضعين لكنه في الأصل طرف
من حديث مطول سيأتي في القدر من طريق عبد الملك بن عمير وفي الرقاق من طريق الشعبي
كلاهما عن وراد أن معاوية كتب إلى المغيرة أن أكتب إلي بحديث سمعته فذكر الحديث
في التهليل عقب الصلوات قال وكان ينهى فذكر ما هنا وسيأتي في الدعوات أوله فقط من رواية
قتيبة عن جرير دون ما في آخره والحاصل أنه فرقه من حديث جرير عن منصور في موضعين
ويحتمل أنه كان عند شيخه هكذا وتقدم في الزكاة من طريق أخرى عن الشعبي مقتصرا على
الذي هنا أيضا (قوله إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) تقدم في الاستقراض الإشارة إلى
حكمة اختصاص الام بالذكر وهو من تخصيص الشئ بالذكر إظهارا لعظم موقعه والأمهات جمع
339

أمهة وهي لمن يعقل بخلاف لفظ الام فإنه أعم (قوله ومنعا وهات) وقع في رواية غير أبي ذر
وفي الاستقراض ومنع بغير تنوين وهي في الموضعين بسكون النون مصدر منع يمنع وسيأتي
ما يتعلق به في الكلام على قيل وقال وأما هات فبكسر المثناة فعل أمر من الايتاء قال الخليل أصل
هات آت فقلبت الألف هاء والحاصل من النهي منع ما أمر باعطائه وطلب ما لا يستحق أخذه
ويحتمل أن يكون النهي عن السؤال مطلقا كما سيأتي بسط القول فيه قريبا ويكون ذكره هنا مع
ضده ثم أعيد تأكيدا للنهي عنه ثم هو محتمل أن يدخل في النهي ما يكون خطابا لاثنين كما ينهى
الطالب عن طلب ما لا يستحقه وينهى المطلوب منه عن إعطاء ما لا يستحقه الطالب لئلا يعينه
على الاثم (قوله ووأد البنات) بسكون الهمزة هو دفن البنات بالحياة وكان أهل الجاهلية
يفعلون ذلك كراهة فيهن ويقال أن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي وكان بعض أعدائه
أغار عليه فاسر بنته فاتخذها لنفسه ثم حصل بينهم صلح فخير ابنته فاختارت زوجها فآلى قيس
على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية فتبعه العرب في ذلك وكان من العرب فريق ثان
يقتلون أولادهم مطلقا إما نفاس منه على ما ينقصه من ماله وإما من عدم ينفقه عليه وقد
ذكر الله أمرهم في القرآن في عدة آيات وكان صعصعة بن ناجية التميمي أيضا وهو جد الفرزدق
همام بن غالب بن صعصعة أول من فدى الموؤدة وذلك أنه يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك فيفدى
الولد منه بمال يتفقان عليه وإلى ذلك أشار الفرزدق بقوله
وجدي الذي منع الوائدات * وأحيا الوئيد فلم يوأد
وهذا محمول على الفريق الثاني وقد بقي كل من قيس وصعصعة إلى أن أدركا الاسلام ولهما صحبة
وإنما خص البنات بالذكر لأنه كان الغالب من فعلهم لان الذكور مظنة القدرة على الاكتساب
وكانوا في صفة الوأد على طريقين أحدهما أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق بجانب
حفيرة فإذا وضعت ذكرا أبقته وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة وهذا أليق بالفريق الأول
ومنهم من كان إذا صارت البنت سداسية قال لامها طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها ثم يبعد بها
في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها انظري فيها ويدفعها من خلفها ويطمها وهذا اللائق بالفريق
الثاني والله أعلم (قوله وكره لكم قيل وقال) في رواية الشعبي وكان ينهى عن قيل وقال كذا
للأكثر في جميع المواضع بغير تنوين ووقع في رواية الكشميهني هنا قيلا وقالا والأول أشهر وفيه
تعقب على من زعم أنه جائز ولم تقع به الرواية قال الجوهري قيل وقال اسمان يقال كثير القيل
والقال كذا جزم بأنهما اسمان وأشار إلى الدليل على ذلك بدخول الألف واللام عليهما وقال ابن
دقيق العيد لو كانا اسمين بمعنى واحد كالقول لم يكن لعطف أحدهما على الآخر فائدة فأشار إلى
ترجيح الأول وقال المحب الطبري في قيل وقال ثلاثة أوجه * أحدها أنهما مصدران للقول تقول
قلت قولا وقيلا وقالا والمراد في الأحاديث الإشارة إلى كراهة كثرة الكلام لأنها تئول إلى الخطأ
قال وإنما كرره للمبالغة في الزجر عنه * ثانيها إرادة حكاية أقاويل الناس والبحث عنها ليخبر
عنها فيقول قال فلان كذا وقيل كذا والنهي عنه إما للزجر عن الاستكثار منه وإما لشئ
مخصوص منه وهو ما يكرهه المحكي عنه * ثالثها أن ذلك في حكاية الاختلاف في أمور الدين
كقوله قال فلان كذا وقال فلان كذا ومحل كراهة ذلك أن يكثر من ذلك بحيث لا يؤمن مع
340

الاكثار من الزلل وهو مخصوص بمن ينقل ذلك من غير تثبت ولكن يقلد من سمعه ولا يحتاط له
(قلت) ويؤيد ذلك الحديث الصحيح كفى بالمرء إنما أن يحدث بكل ما سمع أخرجه مسلم وفي شرح
المشكاة قوله قيل وقال من قولهم قيل كذا وقال كذا وبناؤهما على كونهما فعلين محكيين متضمنين
للضمير والاعراب على إجرامهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير ومنه قوله إنما الدنيا قيل وقال
وإدخال حرف التعريف عليهما في قوله ما يعرف القال القيل لذلك (قوله وكثرة السؤال) تقدم
في كتاب الزكاة بيان الاختلاف في المراد منه وهل هو سؤال المال أو السؤال عن المشكلات
والمعضلات أو أعم من ذلك وأن الأولى حمله على العموم وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المراد به
كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان أو كثرة سؤال إنسان بعينه عن تفاصيل حاله
فإن ذلك مما يكره المسؤول غالبا وقد ثبت النهي عن الأغلوطات أخرجه أبو داود من حديث
معاوية وثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدا
وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن إذ لا يخلو صاحبه من الخطأ وأما ما تقدم
في اللعان فكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وكذا في التفسير في قوله تعالى لا تسألوا عن
أشياء إن تبدلكم تسؤكم فذلك خاص بزمان نزول الوحي ويشير إليه حديث أعظم الناس جرما
عند الله من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسئلته وثبت أيضا ذم السؤال للمال ومدح من
لا يلحف فيه كقوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا وتقدم في الزكاة حديث لا تزال المسئلة بالعبد
حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم وفي صحيح مسلم أن المسئلة لا تحل إلا لثلاثة لذي
فقر مدقع أو غرم مفظع أو جائحة وفي السنن قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس إذا سألت فاسأل
الله وفي سنن أبي داو إن كنت لا بد سائلا فاسأل الصالحين وقد اختلف العلماء في ذلك والمعروف
عند الشافعية أنه جائز لأنه طلب مباح فأشبه العارية وحملوا الأحاديث الواردة على من سأل من
الزكاة الواجبة ممن ليس من أهلها لكن قال النووي في شرح مسلم اتفق العلماء على النهي عن
السؤال من غير ضرورة قال واختلف أصحابنا في سؤال القادر على الكسب على وجهين أصحهما
التحريم لظاهر الأحاديث * والثاني يجوز مع الكراهة بشروط ثلاثة أن لا يلح ولا يذل نفسه
زيادة على ذل نفس السؤال ولا يؤذي المسؤول فإن فقد شرط من ذلك حرم وقال الفاكهاني
يتعجب ممن قال بكراهة السؤال مطلقا مع وجود السؤال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم
السلف الصالح من غير نكير فالشارع لا يقر على مكروه (قلت) لعل من كره مطلقا أراد أنه خلاف
الأولى ولا يلزم من وقوعه أن تتغير صفته ولا من تقريره أيضا وينبغي حمل حال أولئك على السداد
وأن السائل منهم غالبا ما كان يسأل إلا عند الحاجة الشديدة وفي قوله من غير نكير نظر ففي
الأحاديث الكثيرة الواردة في ذم السؤال كفاية في إنكار ذلك * (تنبيه) * جميع ما تقدم
فيما سأل لنفسه وأما إذا سأل لغيره فالذي يظهر أيضا أنه يختلف باختلاف الأحوال (قوله
وإضاعة المال) تقدم في الاستقراض أن الأكثر حملوه على الاسراف في الانفاق وقيده بعضهم
بالانفاق في الحرام والأقوى أنه ما أنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعا سواء كانت دينية
أو دنيوية فمنع منه لان الله تعالى جعل المال قياما لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت تلك المصالح
إما في حق مضيعها وإما في حق غيره ويستثنى من ذلك كثرة انفاقه في وجوه البر لتحصيل ثواب
341

الآخرة ما لم يفوت حقا أخرويا أهم منه والحاصل في كثرة الانفاق ثلاثة أوجه * الأول إنفاقه
في الوجوه المذمومة شرعا فلا شك في منعه * والثاني إنفاقه في الوجوه المحمودة شرعا فلا شك
في كونه مطلوبا بالشرط المذكور * والثالث إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس فهذا
ينقسم إلى قسمين * أحدهما أن يكون على وجه يليق بحال المنفق وبقدر ماله فهذا ليس باسراف
* والثاني ما لا يليق به عرفا وهو ينقسم أيضا إلى قسمين * أحدهما ما يكون لدفع مفسدة إما
ناجزة أو متوقعة فهذا ليس باسراف * والثاني ما لا يكون في شئ من ذلك فالجمهور على أنه
إسراف وذهب بعض الشافعية إلى أنه ليس باسراف قال لأنه تقوم به مصلحة البدن وهو غرض
صحيح وإذا كان في غير معصية فهو مباح له قال ابن دقيق العيد وظاهر القرآن يمنع ما قال اه‍
وقد صرح بالمنع القاضي حسين فقال في كتاب قسم الصدقات هو حرام وتبعه الغزالي وجزم به
الرافعي في الكلام على المغارم وصحح في باب الحجر من الشرح وفي المحرر أنه ليس بتبذير وتبعه
النووي والذي يترجح أنه ليس مذموما لذاته لكنه يفضي غالبا إلى ارتكاب المحذور كسؤال الناس
وما أدى إلى المحذور فهو محذور وقد تقدم في كتاب الزكاة البحث في جواز التصدق بجميع المال
وأن ذلك يجوز لمن عرف من نفسه الصبر على المضايقة وجزم الباجي من المالكية بمنع استيعاب
جميع المال بالصدقة قال ويكره كثرة إنفاقه في مصالح الدنيا ولا بأس به إذا وقع نادرا لحادث يحدث
كضيف أو عيد أو وليمة ومما لا خلاف في كراهته مجاوزة الحد في الانفاق على البناء زيادة
على قدر الحاجة ولا سيما أن أضاف إلى ذلك المبالغة في الزخرفة ومنه احتمال الغبن الفاحش
في البياعات بغير سبب وأما إضاعة المال في المعصية فلا يختص بارتكاب الفواحش بل يدخل
فيها سوء القيام على الرقيق والبهائم حتى يهلكوا ودفع مال من لم يؤنس منه الرشد إليه وقسمه
ما لا ينتفع بجزئه كالجوهرة النفيسة وقال السبكي الكبير في الحلبيات الضابط في إضاعة المال
أن لا يكون لغرض ديني ولا دنيوي فإن انتفيا حرم قطعا وأن وجد أحدهما وجودا له بال وكان
الانفاق لائقا بالحال ولا معصية فيه جاز قطعا وبين الرتبتين وسائط كثيرة لا تدخل تحت ضابط فعلى
المفتي أن يرى فيما تيسر منها رأيه وأما ما لا يتيسر فقد تعرض له فالانفاق في المعصية حرام كله ولا
نظر إلى ما يحصل في مطلوبه من قضاء شهوة ولذة حسنة وأما انفاقه في الملاذ المباحة فهو موضع
الاختلاف فظاهر قوله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما أن الزائد
الذي لا يليق بحال المنفق إسراف ثم قال ومن بذل ما لا كثيرا في غرض يسير تافه عده العقلاء
مضيعا بخلاف عكسه والله أعلم قال الطيبي هذا الحديث أصل في معرفة حسن الخلق وهو
تتبع جميع الأخلاق الحميدة والخلال الجميلة * الحديث الثاني (قوله حدثني إسحق)
هو ابن شاهين الواسطي وخالد هو ابن عبد الله الطحان والجريري بضم الجيم هو سعيد بن إياس
وهو ممن اختلط ولم أر من صرح بأن سماع خالد منه قبل الاختلاط ولا بعده لكن تقدم
في الشهادات من طريق بشر بن المفضل ويأتي في استتابة المرتدين من رواية إسماعيل بن علية
كلاهما عن الجريري وإسماعيل ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه وبين في الشهادات تصريح
الجريري في رواية إسماعيل عنه بتحديث عبد الرحمن بن أبي بكرة له به (قوله ألا أنبئكم) في رواية
بشر بن المفضل عن الجريري في الاستئذان ألا أخبركم (قوله بأكبر الكبائر ثلاثا) أي قالها
342

ثلاث مرات على عادته في تكرير الشئ ثلاث مرات تأكيدا لينبه السامع على إحضار قلبه
وفهمه للخبر الذي يذكره وفهم بعضهم منه أن المراد بقوله ثلاثا عدد الكبائر وهو بعيد ويؤيد
الأول أن أول رواية إسماعيل بن علية في استتابة المرتدين أكبر الكبائر الاشراك وعقوق الوالدين
وشهادة الزور ثلاثا وقد اختلف السلف فذهب الجمهور إلى أن من الذنوب كبائر ومنها صغائر
وشذت طائفة منهم الأستاذ أبو إسحق الأسفرايني فقال ليس في الذنوب صغيرة بل كل ما نهى الله
عنه كبيرة ونقل ذلك عن ابن عباس وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتجوا بأن كل
مخالفة لله فهي بالنسبة إلى جلالة كبيرة اه‍ ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية فقال انقسام الذنوب
إلى صغائر وكبائر هو قول عامة الفقهاء وخالفهم من الأشعرية أبو بكر بن الطيب وأصحابه فقالوا
المعاصي كلها كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال القبلة المحرمة
صغيرة بإضافتها إلى الزنا وكلها كبائر قالوا ولا ذنب عندنا يغفر واجبا باجتناب ذنب آخر بل كل
ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر لقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء وأجابوا عن الآية التي احتج أهل القول الأول بها وهي قوله تعالى ان تجتنبوا
كبائر ما تنهون عنه أن المراد الشرك وقد قال الفراء من قرأ كبائر فالمراد بها كبير وكبير الاثم
هو الشرك وقد يأتي لفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله تعالى كذبت قوم نوح المرسلين ولم يرسل
إليهم غير نوح قالوا وجواز العقاب على الصغيرة كجوازه على الكبيرة اه‍ قال النووي قد تظاهرت
الأدلة من الكتاب والسنة إلى القول الأول وقال الغزالي في البسيط إنكار الفرق بين الصغيرة
والكبيرة لا يليق بالفقيه (قلت) قد حقق إمام الحرمين المنقول عن الأشاعرة واختاره وبين
أنه لا يخالف ما قاله الجمهور فقال في الارشاد المرضي عندنا أن كل ذنب يعصي الله به كبيرة فرب شئ
يعد صغيرة بالإضافة إلى الاقران ولو كان حق الملك لكان كبيرة والرب أعظم من عصى فكل
ذنب بالإضافة إلى مخالفته عظيم ولكن الذنوب وأن عظمت فهي متفاوتة في رتبها وظن بعض
الناس أن الخلاف لفظي فقال التحقيق أن للكبيرة اعتبارين فالبنسبة إلى مقايسة بعضها لبعض
فهي تختلف قطعا وبالنسبة إلى الآمر الناهي فكلها كبائر اه‍ والتحقيق أن الخلاف معنوي
وإنما جرى إليه الاخذ بظاهر الآية والحديث الدال على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر كما
تقدم والله أعلم وقال القرطبي ما أظنه يصح عن ابن عباس أن كل ما نهى الله عز وجل عنه كبيرة
لأنه مخالف لظاهر القرآن في الفرق بين الصغائر والكبائر في قوله الذين يجتنبون كبائر الاثم
والفواحش الا اللمم وقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فجعل في المنهيات
صغائر وكبائر وفرق بينهما في الحكم إذ جعل تكفير السيئات في الآية مشروطا باجتناب الكبائر
واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش فكيف يخفى ذلك على حبر القرآن (قلت) ويؤيده
ما سيأتي عن ابن عباس في تفسير اللمم لكن النقل المذكور عنه أخرجه إسماعيل القاضي والطبري
بسند صحيح على شرط الشيخين إلى ابن عباس فالأولى أن يكون المراد بقوله نهى الله عنه محمولا
على نهي خاص وهو الذي قرن به وعيد كما قيد في الرواية الأخرى عن ابن عباس فيحمل مطلقه على
مقيده جمعا بين كلاميه وقال الطيبي الصغيرة والكبيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر يضافان
إليه وهو أحد ثلاثة أشياء الطاعة أو المعصية أو الثواب فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا
343

فهو من الصغائر وكل ما يكفره الاسلام أو الهجرة فهو من الكبائر وأما المعصية فكل معصية
يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى
فهي كبيرة وأما الثواب ففاعل المعصية إذا كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة فقد وقعت
المعاتبة في حق بعض الأنبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية اه‍ وكلامه فيما يتعلق بالوعيد
والعقاب يخصص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها لكن
يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة كأنه وأن ورد الوعيد فيه أو العقاب لكن ورد الوعيد
والعقاب في حق قاتل ولده أشد فالصواب ما قاله الجمهور وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم
إلى كبيرة وأكبر والله أعلم قال النووي واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا فروى
عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب قال وجاء نحو هذا عن الحسن
البصري وقال آخرون هي ما أوعد الله عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه حدا في الدنيا (قلت)
وممن نص على هذا الأخير الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى ومن الشافعية الماوردي ولفظه
الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم
بسند لا بأس به إلا أن فيه انقطاعا وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس
قال كل ما توعد الله عليه بالنار كبيرة وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخرى منها قول
إمام الحرمين كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وقول الحليمي كل
محرم لعينه منهى عنه لمعنى في نفسه وقال الرافعي هي ما أوجب الحد وقيل ما يلحق الوعيد
بصاحبه بنص كتاب أو سنة هذا أكثر ما يوجد للأصحاب وهم إلى ترجيح الأول أميل لكن الثاني
أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اه‍ كلامه وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص
بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق وأجاب بعض الأئمة بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه
كبيرة وقال ابن عبد السلام في القواعد لم أقف لاحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من
الاعتراض والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها
(قلت) وهو ضابط جيد وقال القرطبي في المفهم الراجح أن كل ذنب نصل على كبره أو عظمه
أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو شدد النكير عليه فهو كبيرة وكلام ابن الصلاح يوافق
ما نقل أولا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد وعلى هذا يكثر عدد الكبائر فأما ما ورد النص الصريح
بكونه كبيرة فسيأتي القول فيه في الكلام على حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع الموبقات
في كتاب استنابة المرتدين ونذكر هناك ما ورد في الأحاديث زيادة على السبع المذكورات مما نص
على كونها كبيرة أو موبقة وقد ذهب آخرون إلى أن الذنوب التي لم ينص على كونها كبيرة مع كونها
كبيرة لا ضابط لها فقال الواحدي ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع
العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كاخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم والله
أعلم * (فصل) * قوله أكبر الكبائر ليس على ظاهره من الحصر بل من فيه مقدرة فقد ثبت في أشياء
أخر أنها من أكبر الكبائر منها حديث أنس في قتل النفس وسيأتي بيانه في الذي بعده وحديث
ابن مسعود أي الذنب أعظم فذكر فيه الزنا بحليلة الجار وسيأتي بعد أبواب وحديث عبد الله بن
أنيس الجهني مرفوعا قال من أكبر الكبائر فذكر منها اليمن الغموس أخرجه الترمذي بسند
344

حسن وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد وحديث أبي هريرة رفعه أن
من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن وحديث
بريدة رفعه من أكبر الكبائر فذكر منها منع فضل الماء ومنع الفحل أخرجه البزار بسند ضعيف
وحديث ابن عمر رفعه أكبر الكبائر سوء الظن بالله أخرجه ابن مردويه بسند ضعيف ويقرب
منه حديث أبي هريرة مرفوعا ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي الحديث وقد تقدم قريبا في كتاب
اللباس وحديث عائشة أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أخرجه الشيخان وتقدم قريبا
حديث عبد الله بن عمرو من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه ولكنه من جملة العقوق قال ابن
دقيق العيد يستفاد من قوله أكبر الكبائر انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر ويستنبط منه أن في
الذنوب صغائر وكبائر لكن فيه نظر لان من قال كل ذنب كبيرة فالكبائر والذنوب عنده متواردان
على شئ واحد فكأنه قيل ألا أنبئكم بأكبر الذنوب قال ولا يلزم من كون الذي ذكر أنه أكبر
الكبائر استواؤها فإن الشرك بالله أعظم من جميع ما ذكر معه (قوله الاشراك بالله) قال ابن
دقيق العيد يحتمل أن يراد به مطلق الكفر ويكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود لا سيما في
بلاد العرب فذكر تنبيها على غيره من أصناف الكفر ويحتمل أن يراد به خصوصه إلا أنه يرد على
هذا الاحتمال أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم من الشرك وهو التعطيل فيترجح الاحتمال
الأول على هذا (قوله وعقوق الوالدين) تقدم الكلام عليه قريبا وذكر قبله في حديث أنس
الآتي بعده قتل النفس والمراد قتلها بغير حق (قوله وكان متكئا فجلس) في رواية بشر بن
المفضل عن الجريري في الشهادات وجلس وكان متكئا وأما في الاستئذان فكالأول (قوله
فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت
لا يسكت) هكذا في هذه الطريق ووقع في رواية بشر بن المفضل فقال ألا وقول الزور فما زال
يكررها حتى قلنا ليته سكت أي تمنيناه يسكت اشفاقا عليه لما رأوا من انزعاجه في ذلك وقال
ابن دقيق العيد اهتمامه صلى الله عليه وسلم بشهادة الزور يحتمل أن يكون لأنها أسهل وقوعا
على الناس والتهاون بها أكثر ومفسدتها أيسر وقوعا لان الشرك ينبو عنه المسلم والعقوق
ينبو عنه الطبع وأما قول الزور فإن الحوامل عليه كثيرة فحسن الاهتمام بها وليس ذلك لعظمها
بالنسبة إلى ما ذكر معها قال وأما عطف الشهادة على القول فينبغي أن يكون تأكيدا للشهادة
لأنا لو حملناه على الاطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة وليس كذلك وإذا كان
بعض الكذب منصوصا على عظمه كقوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد
احتمل بهتانا وإثما مبينا وفي الجملة فمراتب الكذب متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده قال وقد نص
الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة والغيبة تختلف بحسب القول المغتاب به فالغيبة
بالقذف كبيرة ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة أو الهيئة مثلا والله أعلم وقال غيره يجوز أن يكون
من عطف الخاص على العام لان كل شهادة زور قول زور بغير عكس ويحتمل قول الزور على نوع
خاص منه (قلت) والأولى ما قاله الشيخ ويؤيده وقوع الشك في ذلك في حديث أنس الذي بعده
فدل على أن المراد شئ واحد وقال القرطبي شهادة الزور هي الشهادة بالكذب ليتوصل بها إلى
الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال فلا شئ من الكبائر أعظم
345

ضررا منها ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله وزعم بعضهم أن المراد بشهادة الزور في هذا الحديث
الكفر فإن الكافر شاهد بالزور وهو ضعيف وقيل المراد من يستحل شهادة الزور وهو بعيد والله
أعلم * الحديث الثالث (قوله عبيد الله بن أبي بكر) أي ابن أنس بن مالك ووقع كذلك في
الشهادات من رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن إبراهيم عن شعبة (قوله ذكر رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر) كذا في هذه الرواية بالشك وجزم في الرواية التي في
الشهادات بالثاني قال سئل الخ ووقع في الديات عن عمر وهو ابن مرزوق عن شعبة عن ابن أبي بكر
سمع أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أكبر الكبائر الاشراك بالله * الحديث وكذا رويناه
في كتاب الايمان لابن منده وفي كتاب القضاة للنقاش من طريق أبي عامر العقدي عن شعبة
وقد علق البخاري في الشهادات طريق أبي عامر ولم يسق لفظه وهذا موافق لحديث أبي بكرة في
أن المذكورات من أكبر الكبائر لا من الكبائر المطلقة (قوله فقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال
قول الزور الخ) هذا ظاهره أنه خص أكبر الكبائر بقول الزور ولكن الرواية التي أشرت إليها
قبل تؤذن بأن الأربعة المذكورات مشتركات في ذلك (قوله أو قال شهادة الزور قال شعبة
وأكثر ظني أنه قال شهادة الزور) قلت ووقع الجزم بذلك في رواية وهب بن جرير وعبد الملك بن
إبراهيم في الشهادات قال قتيبة وشهادة الزور ولم يشك ولمسلم من رواية خالد بن الحرث عن شعبة
وقول الزور ولم يشك أيضا وفي هذا الحديث والذي قبله استحباب إعادة الموعظة ثلاثا لتفهم
وانزعاج الواعظ في وعظه ليكون أبلغ في الوعي عنه والزجر عن فعل ما ينهى عنه وفيه غلظ أمر
شهادة الزور لما يترتب عليها من المفاسد وإن كانت مراتبها متفاوتة وقد تقدم بيان شئ من
أحكامها في كتاب الشهادات وضابط الزور وصف الشئ على خلاف ما هو به وقد يضاف إلى
القول فيشمل الكذب والباطل وقد يضاف إلى الشهادة فيختص بها وقد يضاف إلى الفعل ومنه
لابس ثوبي زور ومنه تسمية الشعر الموصول زورا كما تقدم في اللباس وتقدم بيان الاختلاف في
المراد بقوله تعالى والذين لا يشهدون الزور وأن الراجح أن المراد به في الآية الباطل والمراد
لا يحضرونه وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك كما وعد الله
عز وجل وفيه إشفاق التلميذ على شيخه إذا رآه منزعجا وتمنى عدم غضبه لما يترتب على الغضب من
تغير مزاجه والله أعلم (قوله باب صلة الوالد المشرك) ذكر فيه حديث أسماء
بنت أبي بكر أتتني أمي وهي راغبة وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة وتقدم بيان
الاختلاف في قوله راغبة هل هو بالميم أو الموحدة قال الطيبي الذي تحرر أن قولها راغبة إن كان
بلا قيد فالمراد راغبة في الاسلام لا غير وإذا قرنت بقوله مشركة أو في عهد قريش فالمراد راغبة في
صلتي وإن كانت الرواية راغمة بالميم فمعناه كارهة للاسلام (قلت) أما التي بالموحدة فيتعين حمل
المطلق فيه على المقيد فإنه حديث واحد في قصة واحدة ويتعين القيد من جهة أخرى وهي أنها
لو جاءت راغبة في الاسلام لم تحتج أسماء أن تستأذن في صلتها لشيوع التألف على الاسلام من
فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فلا يحتاج إلى استئذانه في ذلك (قوله باب
صلة المرأة أمها ولها زوج) ذكر فيه حديثين أحدهما حديث أبي سفيان في قصة هرقل أورد منها
طرفا وهو قول أبي سفيان يأمرنا يعني النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة والصدقة والعفاف
346

والصلة وقد تقدم شرحه مستوفى في أول الصحيح وذكرت كثيرا من فوائده أيضا في تفسير آل
عمران والمراد منه هنا ذكر الصلة فيؤخذ حكم الترجمة من عمومها الثاني حديث أسماء بنت أبي
بكر المشار إليه في الباب قبله أورده معلقا فقال وقال الليث حدثني هشام وهو ابن عروة وقد وقع
لنا موصولا في مستخرج أبي نعيم إلى الليث ووقع لنا بعلو في جزء أبي الجهم العلاء بن موسى عن
الليث قال ابن بطال فقه الترجمة من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لأسماء أن
تصل أمها ولم يشترط في ذلك مشاورة زوجها قال وفيه حجة لمن أجاز للمرأة أن تتصرف في مالها
بدون إذن زوجها كذا قال ولا يخفى أن القول بالاشتراط إن ثبت فيه دليل خاص يقدم على ما دل
عليه عدم التقييد في حديث أسماء (قوله باب صلة الأخ المشرك) ذكر فيه حديث
ابن عمر رأى عمر حلة سيراء تباع الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس وقوله فيه ولكن تبيعها
وقع في رواية الكشميهني لتبيعها (قوله باب فضل صلة الرحم) بفتح الراء وكسر
الحاء المهملة يطلق على الأقارب وهم من بينه وبين الآخر نسب سواء كان يرثه أم لا سواء كان ذا
محرم أم لا وقيل هم المحارم فقط والأول هو المرجح لان الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد
الأخوال من ذوي الأرحام وليس كذلك وذكر فيه حديث أبي أيوب الأنصاري قال قيل يا رسول
الله أخبرني بعلم يدخلني الجنة أورده من وجهين وفيه قوله صلى الله عليه وسلم أرب ماله وفيه
تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الزكاة (قوله
باب إثم القاطع) أي قاطع الرحم (قوله لا يدخل الجنة قاطع) كذا أورده من طريق
عقيل وكذا عند مسلم من رواية مالك ومعمر كلهم عن الزهري وقد أخرجه المصنف في الأدب
المفرد عن عبد الله بن صالح عن الليث وقال قاطع الرحم وأخرجه مسلم والترمذي من رواية
سفيان بن عيينة عن الزهري كرواية مالك قال سفيان يعني قاطع رحم وذكر ابن بطال ان بعض
أصحاب سفيان رواه عند كرواية عبد الله بن صالح فأدرج التفسير وقد ورد بهذا اللفظ من طريق
الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أخرجه إسماعيل القاضي في الاحكام ومن طريق أبي حريز
بمهملة وراء ثم زاي بوزن عظيم واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان عن أبي بردة عن أبي
موسى رفعه لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا مصدق بسحر ولا قاطع رحم أخرجه ابن حبان والحاكم
ولأبي داود من حديث أبي بكرة رفعه ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع
ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم وللمصنف في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة
رفعه أن أعمال بني آدم تعرض كل عشية خميس ليلة جمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم وللطبراني من
حديث ابن مسعود أن أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم وللمصنف في الأدب المفرد من
347

حديث ابن أبي أوفى رفعه أن للرحم لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم وذكر الطيبي أنه يحتمل أن
يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا في ينكرون عليه ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر
وأنه يحبس عن الناس عموما بشؤم التقاطع (قوله باب من بسط له الرزق لصلة
الرحم) أي لأجل صلة الرحم (قوله محمد بن معن) أي ابن محمد بن معن بن نضلة بنون مفتوحة
ومعجمة ساكنة ابن عمرو ولنضلة جده الاعلى صحبة وهو قليل الحديث موثق ليس له في البخاري
سوى هذا الحديث وكذا أبوه لكن له موضع آخر أو موضعان (قوله سعيد هو ابن أبي سعيد)
المقبري (قوله من سره أن يبسط له في رزقه) في حديث أنس من أحب وللترمذي وحسنه من
وجه آخر عن أبي هريرة أن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر وعند أحمد
بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعا صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار
ويزيدان في الأعمار وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والبزار وصححه الحاكم من حديث على
نحو حديثي الباب قال ويدفع عنه ميتة السوء ولأبي يعلى من حديث أنس رفعه أن الصدقة
وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء فجمع الامرين لكن سنده ضعيف
وأخرج المؤلف في الأدب المفرد من حديث ابن عمر بلفظ من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره
وثرى ماله وأحبه أهله (قوله وينسأ) بضم أوله وسكون النون بعدها مهملة ثم همزة أي يؤخر
(قوله في أثره) أي في أجله وسمي الاجل أثرا لأنه يتبع العمر قال زهير
والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا ينقضي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض فإن من مات لا يبقى له حركة فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر قال ابن
التين ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والجمع بينهما من وجهين أحدهما أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى
الطاعة وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة وصيانته عن تضييعه في غير ذلك ومثل هذا ما جاء أن النبي
صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لاعمار من مضى من الأمم فأعطاه الله ليلة القدر
وحاصله أن صلة الرحم تكون سببا للتوفيق للطاعة والصيانة عن المعصية فيبقى بعده الذكر الجميل
فكأنه لم يمت ومن جملة ما يحصل له من التوفيق العلم الذي ينتفع به من بعده والصدقة الجارية
عليه والخلف الصالح وسيأتي مزيد لذلك في كتاب القدر إن شاء الله تعالى ثانيهما أن الزيادة على
حقيقتها وذلك بالنسبة إلى علم الملك الموكل بالعمر وأما الأول الذي دلت عليه الآية فبالنسبة إلى
علم الله تعالى كأن يقال للملك مثلا أن عمر فلان مائة مثلا أن وصل رحمه وستون إن قطعها وقد
سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر والذي في علم الملك هو الذي
يمكن فيه الزيادة والنقص واليه الإشارة بقوله تعالى يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب
فالمحو الاثبات بالنسبة لما في علم الملك وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة
ويقال له القضاء المبرم ويقال للأول القضاء المعلق والوجه الأول أليق بلفظ حديث الباب فإن
الأثر ما يتبع الشئ فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور وقال الطيبي
الوجه الأول أظهر واليه يشير كلام صاحب الفائق قال ويجوز أن يكون المعنى أن الله يبقي أثر
واصل الرحم في الدنيا طويلا فلا يضمحل سريعا كما يضمحل أثر قاطع الرحم ولما أنشد أبو تمام
348

قوله في بعض المرائي
توفيت الآمال بعد محمد * وأصبح في شغل عن السفر السفر
قال له أبو دلف لم يمت من قيل فيه هذا الشعر ومن هذه المادة قول الخليل عليه السلام واجعل لي
لسان صدق في الآخرين وقد ورد في تفسيره وجه ثالث فأخرج الطبراني في الصغير بسند
ضعيف عن أبي الدرداء قال ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله
فقال إنه ليس زيادة في عمره قال الله تعالى فإذا جاء أجلهم الآية ولكن الرجل تكون له الذرية
الصالحة يدعون له من بعده وله في الكبير من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه إن الله لا يؤخر
نفسا إذا جاء أجلها وإنما زيادة العمر ذرية صالحة الحديث وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة
العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله وقال غيره في أعم من ذلك وفي وجود البركة في
رزقه وعلمه ونحو ذلك (قوله باب من وصل وصله الله) أي من وصل رحمه (قوله
عبد الله) هو ابن المبارك ومعاوية هو بن أبي مزرد بضم الميم وفتح الزاي وتشديد الراء بعدها دال
مهملة تقدم ضبطه وتسميته في أول الزكاة ولمعاوية بن أبي مزرد في هذا الباب حديث آخر وهو
ثالث أحاديث الباب من طريق عائشة (قوله أن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ) تقدم تأويل
فرغ في تفسير القتال قال ابن أبي حمرة يحتمل أن يكون المراد بالخلق جميع المخلوقات ويحتمل أن
يكون المراد به المكلفين وهذا القول يحتمل أن يكون بعد خلق السماوات والأرض وابرازها في
الوجود ويحتمل أن يكون بعد خلقها كتبا في اللوح المحفوظ ولم يبرز بعد الا اللوح والقلم ويحتمل
أن يكون بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله ألست بربكم لما أخرجهم من صلب آدم عليه
السلام مثل الذر (قوله قامت الرحم فقالت) قال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون بلسان الحال
ويحتمل أن يكون بلسان القال قولان مشهوران والثاني أرجح وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي
أو يخلق الله لها عند كلامها حياة وعقلا قولان أيضا مشهوران والأول أرجح لصلاحية القدرة
العامة لذلك ولما في الأولين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل ولما يلزم منه
من حصر قدرة القادر التي لا يحصرها شئ (قلت) وقد تقدم في التفسير القتال حمل عياض له على
المجاز وأنه من باب ضرب المثل وقوله أيضا يجوز أن يكون الذي نسب إليه القول ملكا يتكلم على
لسان الرحم وتقدم أيضا ما يتعلق بزيادة في هذا الحديث من وجه آخر عن معاوية بن أبي مزرد
وهي قوله فأخذت بحقو الرحمن ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني أن الرحم أخذت بحجزة
الرحمن وحكى شيخنا في شرح الترمذي أن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش وأيد ذلك بما أخرجه
مسلم من حديث عائشة أن الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وتقدم أيضا ما يتعلق بقوله هذا
مقام العائذ بك من القطيعة في تفسير القتال ووقع في رواية حبان بن موسى عن ابن المبارك
بلفظ هذا المكان بدل مقام وهو تفسير المراد أخرجه النسائي (قوله أصل من وصلك وأقطع من
قطعك) في ثاني أحاديث الباب من وجه آخر عن أبي هريرة من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته
قال ابن أبي جمرة الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه وإنما خاطب الناس بما يفهمون ولما كان
أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب منه وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه
وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده قال
349

وكذا القول في القطع هو كناية عن حرمان الاحسان وقال القرطبي وسواء قلنا إنه يعني القول
المنسوب إلى الرحم على سبيل المجاز أو الحقيقة أو أنه على جهة التقدير والتمثيل كأن يكون المعنى
لو كانت الرحم ممن يعقل ويتكلم لقالت كذا ومثله لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا
الآية وفي آخرها وتلك الأمثال نضربها للناس فمقصود هذا الكلام الاخبار بتأكد أمر صلة
الرحم وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره فأدخله في حمايته وإذا كان كذلك فجار الله غير
مخذول وقد قال صلى الله عليه وسلم من صلى الصبح فهو في ذمة الله وان من يطلبه الله بشئ من ذمته
يدركه ثم يكبه على وجهه في النار أخرجه مسلم * الحديث الثاني (قوله حدثنا خالد بن مخلد حدثنا
سليمان بن بلال حدثنا عبد الله بن دينار) لسليمان في هذا المعنى ثلاثة أحاديث أحدها هذا
والآخر الحديث الذي قبله وقد سبق من طريقه في تفسير القتال ويأتي في التوحيد والثالث
حديثه عن معاوية بن أبي مزرد أيضا عن يزيد بن رومان وهو ثالث أحاديث الباب (قوله الرحم
شجنة) بكسر المعجمة وسكون الجيم بعدها نون وجاء بضم أوله وفتحه رواية ولغة وأصل الشجنة
عروق الشجر المشتبكة والشجن بالتحريك واحد والشجون وهي طرق الأودية ومنه قولهم
الحديث ذو شجون أي يدخل بعضه في بعض وقوله من الرحمن أي أخذ اسمها من هذا الاسم كما في
حديث عبد الرحمن بن عوف في السنن مرفوعا أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى
والمعنى أنه أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها فالقاطع لها منقطع من رحمة الله وقال الإسماعيلي
معنى الحديث أن الرحم اشتق اسمها من اسم الرحمن فلها به علقة وليس معناه أنها من ذات الله
تعالى الله عن ذلك قال القرطبي الرحم التي توصل عامة وخاصة فالعامة رحم الدين وتجب
مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والانصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وأما الرحم
الخاصة فتزيد النفقة على القريب وتفقد أحوالهم والتغافل عن زلاتهم وتتفاوت مراتب
استحقاقهم في ذلك كما في الحديث الأول من كتاب الأدب الأقرب فالأقرب وقال ابن أبي جمرة
تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء والمعنى
الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة وهذا إنما يستمر إذا كان
أهل الرحم أهل استقامة فإن كانوا كفارا أو فجارا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم بشرط بذل الجهد
في وعظهم ثم اعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق ولا يسقط مع ذلك صلتهم
بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى (قوله فقال الله) زاد الإسماعيلي في روايته
لها وهذه الفاء عاطفة على شئ محذوف وأحسن ما يقدر له ما في الحديث الذي قبله فقالت هذا
مقام العائذ بك من القطيعة فقال الله الخ * الحديث الثالث حديث عائشة وهو بلفظ حديث
أبي هريرة الذي قبله إلا أنه بلفظ الغيبة وفي الأحاديث الثلاثة تعظيم أمر الرحم وأن صلتها مندوب
مرغب فيه وأن قطعها من الكبائر لورود الوعيد الشديد فيه واستدل به على أن الأسماء توقيفية
وعلى رجحان القول الصائر إلى أن المراد بقوله وعلم آدم الأسماء كلها أسماء جميع الأشياء سواء
كانت من الذوات أو من الصفات والله أعلم (قوله باب) هو بالتنوين (تبل الرحم
ببلالها) بضم أوله بالمثناة ويجوز بفتح أوله بالتحتانية والمراد المكلف (قوله حدثني لغير أبي ذر
حدثنا وعمرو بن عباس بالموحدة والمهملة هو أبو عثمان الباهلي البصري ويقال له الأهوازي
350

أصله من إحداهما وسكن الأخرى وهو من الطبقة الوسطى من شيوخ البخاري وانفرد به عن
الستة وحديث الباب قد حدث به أحمد ويحيى بن معين وغيرهما من شيوخ البخاري عن ابن
مهدي لكن ناسب تخريجه عنه كون صحابيه سميه وهو عمرو بن العاص ومحمد بن جعفر شيخه
هو غندر وهو بصري ولم أر الحديث المذكور عند أحد من أصحاب شعبة إلا عنده إلا ما أخرجه
الإسماعيلي من رواية وهب بن حفص عن عبد الملك بن إبراهيم الجدي عن شعبة ووهب بن
حفص كذبوه (قوله إن عمرو بن العاص قال) عند مسلم عن أحمد وعند الإسماعيلي عن يحيى
ابن معين كلاهما عن غندر بلفظ عن عمرو بن العاص ووقع في رواية بيان بن بشر عن قيس
سمعت عمرو بن العاص وستأتي الإشارة إليها في الكلام على الطريق المعلقة وليس لقيس بن أبي
حازم في الصحيحين عن عمرو بن العاص غير هذا الحديث ولعمرو في الصحيحين حديثان آخران
حديث أي الرجال أحب إليك وقد مضى في المناقب وحديث إذا اجتهد الحاكم وسيأتي في
الاعتصام وله آخر معلق عند البخاري مضى في المبعث النبوي وآخر مضى في التيمم وعند مسلم
حديث آخر في السحور وهذا جميع ماله عندهما من الأحاديث المرفوعة (قوله سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم جهارا) يحتمل أن يتعلق بالمفعول أي كان المسموع في حالة الجهر ويحتمل أن
يتعلق بالفاعل أي أقول ذلك جهارا وقوله غير سر تأكيد لذلك لدفع توهم أنه جهر به مرة وأخفاه
أخرى والمراد أنه لم يقل ذلك خفية بل جهر به وأشاعه (قوله إن آل أبي) كذا للأكثر بحذف
ما يضاف إلى أداة الكنية وأثبته المستملي في روايته لكن كنى عنه فقال آل أبي فلان وكذا هو
في روايتي مسلم والإسماعيلي وذكر القرطبي أنه وقع في أصل مسلم موضع فلان بياض ثم كتب
بعض الناس فيه فلان على سبيل الاصلاح وفلان كناية عن اسم علم ولهذا وقع لبعض رواته أن
آل أبي يعني فلان ولبعضهم أن آل أبي فلان بالجزم (قوله قال عمرو) هو ابن عباس شيخ
البخاري فيه (قوله في كتاب محمد بن جعفر) أي غندر شيخ عمرو فيه (قوله بياض) قال عبد الحق
في كتاب الجمع بين الصحيحين أن الصواب في ضبط هذه الكلمة بالرفع أي وقع في كتاب محمد بن جعفر
موضع أبيض يعني بغير كتابة وفهم منه بعضهم أنه الاسم المكنى عنه في الرواية فقرأه بالجر على أنه
في كتاب محمد بن جعفر أن آل أبي بياض وهو فهم سئ ممن فهمه لأنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال
لها آل أبي بياض فضلا عن قريش وسياق الحديث مشعر بأنهم من قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم
وهي قريش بل فيه إشعار بأنهم أخص من ذلك لقوله أن لهم رحما وأبعد من حمله على بني بياضة
وهم بطن من الأنصار لما فيه من التغيير أو الترخيم على رأي ولا يناسب السياق أيضا وقال ابن
التين حذفت التسمية لئلا يتأذى بذلك المسلمون من أبنائهم وقال النووي هذه الكناية من بعض
الرواة خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة إما في حق نفسه وإما في حق غيره وإما معا
وقال عياض أن المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص وقال ابن دقيق العيد كذا وقع مبهما في
السياق وحمله بعضهم على بني أمية ولا يستقيم مع قوله آل أبي فلو كان آل بني لأمكن ولا يصح
تقدير آل أبي العاص لانهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر بالخاص (قلت) لعل مراد
القائل أنه أطلق العام وأراد الخاص وقد وقع في رواية وهب بن حفص التي أشرت إليها أن آل
بني لكن وهب لا يعتمد عليه وجزم الدمياطي في حواشيه بأنه آل أبي العاص بن أمية ثم قال ابن
351

دقيق العيد أنه رأى في كلام ابن العربي في هذا شيئا يراجع منه (قلت) قال أبو بكر بن العربي في
سراج المريدين كان في أصل حديث عمرو بن العاص أن آل أبي طالب فغير أل أبي فلان كذا جزم
به وتعقبه بعض الناس وبالغ في التشنيع عليه ونسبه إلى التحامل على آل أبي طالب ولم يصب هذا
المنكر فإن هذه الرواية التي أشار إليها ابن العربي موجودة في مستخرج أبي نعيم من طريق الفضل
ابن الموفق عن عنبسة بن عبد الواحد بسند البخاري عن بيان بن بشر عن قيس بن أبي حازم عن
عمرو بن العاص رفعه أن لبني أبي طالب رحما أبلها ببلالها وقد أخرجه الإسماعيلي من هذا الوجه
أيضا لكن أبهم لفظ طالب وكأن الحامل لمن أبهم هذا الموضع ظنهم أن ذلك يقتضي نقصا في آل
أبي طالب وليس كما توهموه كما سأوضحه إن شاء الله تعالى (قوله ليسوا بأوليائي) كذا للأكثر وفي
نسخة من رواية أبي ذر بأولياء فنقل ابن التين عن الداودي أن المراد بهذا النفي من لم يسلم منهم أي
فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض والمنفي على هذا المجموع لا الجميع وقال الخطابي الولاية
المنفية ولاية القرب والاختصاص لا ولاية الدين ورجح ابن التين الأول وهو الراجح فإن من جملة
آل أبي طالب عليا وجعفر أو هما من أخص الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم لما لهما من السابقة
والقدم في الاسلام ونصر الدين وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى
بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته (قلت) أما قيس بن أبي حازم فقال
يعقوب بن شيبة تكلم أصحابنا في قيس فمنهم من رفع قدره وعظمه وجعل الحديث عنه من أصح
الأسانيد حتى قال ابن معين هو أوثق من الزهري ومنهم من حمل عليه وقال له أحاديث مناكير
وأجاب من أطراه بأنها غرائب وافراده لا يقدح فيه ومنهم من حمل عليه في مذهبه وقال كان يحمل
على علي ولذلك تجنب الرواية عنه كثير من قدماء الكوفيين وأجاب من أطراه بأنه كان يقدم عثمان
على علي فقط (قلت) والمعتمد عليه أنه ثقة ثبت مقبول الرواية وهو من كبار التابعين سمع من أبي
بكر الصديق فمن دونه وقد روى عنه حديث الباب إسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وهما
كوفيان ولم ينسبا إلى النصب لكن الراوي عن بيان وهو عنبسة بن عبد الواحد أموي قد
نسب إلى شئ من النصب وأما عمرو بن العاص وإن كان بينه وبين على ما كان فحاشاه أن يتهم
وللحديث محمل صحيح لا يستلزم نقصا في مؤمني آل أبي طالب وهو أن المراد بالنفي المجموع كما تقدم
ويحتمل أن يكون المراد بآل أبي طالب أبو طالب نفسه وهو إطلاق سائغ كقوله في أبي موسى أنه
أوتي مزمارا من مزامير آل داود وقوله صلى الله عليه وسلم آل أبي أوفى وخصه بالذكر مبالغة
في الانتفاء ممن لم يسلم لكونه عمه وشقيق أبيه وكان القيم بأمره ونصره وحمايته ومع ذلك فلما لم
يتابعه على دينه انتفى من موالاته (قوله إنما ولي الله وصالح المؤمنين) كذا للأكثر بالافراد
وإرادة الجملة وهو اسم جنس ووقع في رواية البرقاني وصالحوا المؤمنين بصيغة الجمع وقد أجاز
بعض المفسرين أن الآية التي في التحريم كانت في الأصل فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحو
المؤمنين لكن حذفت الواو من الخط على وفق النطق وهو مثل قوله سندع الزبانية وقوله يوم يدع
الداع وقوله ويمح الله الباطل وقال النووي معنى الحديث ان ولي من كان صالحا وأن بعد منى
نسبه وليس ولي من كان غير صالح وان قرب مني نسبه وقال القرطبي فائدة الحديث انقطاع
الولاية في الدين بين المسلم والكافر ولو كان قريبا حميما وقال ابن بطال أوجب في هذا الحديث
352

الولاية بالدين ونفاها عن أهل رحمه أن لم يكونوا من أهل دينه فدل ذلك على أن النسب يحتاج إلى
الولاية التي يقع بها الموارثة بين المتناسبين وأن الأقارب إذا لم يكونوا على دين واحد لم يكن بينهم
توارث ولا ولاية قال ويستفاد من هذا أن الرحم المأمور بصلتها والمتوعد على قطعها هي التي
شرع لها ذلك فأما من أمر بقطعه من أجل الدين فيستثني من ذلك ولا يلحق بالوعيد من قطعه لأنه
قطع من أمر الله بقطعه لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلا كما دعا صلى الله عليه وسلم
لقريش بعد أن كانوا كذبوه فدعا عليهم بالقحط ثم استشفعوا به فرق لهم لما سألوه برحمهم فرحمهم
ودعا لهم (قلت) ويتعقب كلامه في موضعين أحدهما يشاركه فيه كلام غيره وهو قصره النفي على
من ليس على الدين وظاهر الحديث أن من كان غير صالح في أعمال الدين دخل في النفي أيضا
لتقييده الولاية بقوله وصالح المؤمنين والثاني أن صلة الرحم الكافر ينبغي تقييدها بما إذا أيس
منه رجوعا من عن الكفر أو رجى أن يخرج من صلبه مسلم كما في الصورة التي استدل بها وهي دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم لقريش بالخصب وعلل بنحو ذلك فيحتاج من يترخص في صلة رحمه
الكافر أن يقصد إلى شئ من ذلك وأما من كان على الدين ولكنه مقصر في الأعمال مثلا فلا
يشارك الكافر في ذلك وقد وقع في شرح المشكاة المعنى أني لا أوالي أحدا بالقرابة وإنما أحب الله
تعالى لما له من الحق الواجب على العباد وأحب صالح المؤمنين لوجه الله تعالى وأوالي من أوالي
بالايمان والصلاح سواء كان من ذوي رحم أولا ولكن أرعى لذوي الرحم حقهم لصلة الرحم
انتهى وهو كلام منقح وقد اختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى وصالح المؤمنين على أقوال
أحدها الأنبياء أخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة وأخرجه الطبري وذكره ابن أبي حاتم عن
سفيان الثوري وأخرجه النقاش عن العلاء بن زياد الثاني الصحابة أخرجه ابن أبي حاتم عن
السدي ونحوه في تفسير الكلبي قال هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأشباههم ممن ليس بمنافق
الثالث خيار المؤمنين أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك الرابع أبو بكر وعمر وعثمان أخرجه
ابن أبي حاتم عن الحسن البصري الخامس أبو بكر وعمر أخرجه الطبري وابن مردويه عن ابن
مسعود مرفوعا وسنده ضعيف وأخرجه الطبري وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا وكذا هو في
تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي أحد الضعفاء بسنده عن ابن عباس موقوفا وأخرجه ابن
مردويه من وجه آخر ضعيف عنه كذلك قال ابن أبي حاتم وروى عن عكرمة وسعيد بن جبير
وعبد الله بن بريدة ومقاتل بن حيان كذلك السادس أبو بكر خاصة ذكره القرطبي عن المسيب
ابن شريك السابع عمر خاصة أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير وأخرجه
الطبري بسند ضعيف عن مجاهد وأخرجه ابن مردويه بسند واه جدا عن ابن عباس الثامن
على أخرجه ابن أبي حاتم بسند منقطع عن علي نفسه مرفوعا وأخرجه الطبري بسند ضعيف عن
مجاهد قال هو علي وأخرجه ابن مردويه بسندين ضعيفين من حديث أسماء بنت عميس مرفوعا
قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صالح المؤمنين علي بن أبي طالب ومن طريق
أبي مالك عن ابن عباس مثله موقوفا وفي سنده راو ضعيف وذكره النقاش عن ابن عباس ومحمد بن
علي الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق (قلت) فإن ثبت هذا ففيه دفع توهم من توهم أن في
الحديث المرفوع نقصا من قدر علي رضي الله عنه ويكون المنفي أبا طالب ومن مات من آله كافرا
353

والمثبت من كان منهم مؤمنا وخص علي بالذكر لكونه رأسهم وأشير بلفظ الحديث إلى لفظ الآية
المذكورة ونص فيها على على تنويها بقدره ودفعا لظن من يتوهم عليه في الحديث المذكور
غضاضة ولو تفطن من كنى عن أبي طالب لذلك لاستغني عما صنع والله أعلم (قوله وزاد عنبسة بن
عبد الواحد) أي ابن أمية بن عبد الله بن سعيد بن العاص بن أبي أحيحة بمهملتين مصغرا وهو سعيد
ابن العاص بن أمية وهو موثق عندهم وما له في البخاري سوى هذا الموضع المعلق وقد وصله
البخاري في كتاب البر والصلة فقال حدثنا محمد بن عبد الواحد بن عنبسة حدثنا جدي فذكره
وأخرجه الإسماعيلي من رواية نهد بن سليمان عن محمد بن عبد الواحد المذكور وساقه بلفظ
سمعت عمرو بن العاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي جهرا غير سر إن نبي أبي
فلان ليسوا بأوليائي إنما ولي الله والذين آمنوا ولكن لهم رحم الحديث وقد قدمت لفظ رواية
الفضل بن الموفق عن عنبسة من عند أبي نعيم وأنها أخص من هذا (قوله ولكن لها رحم أبلها
ببلالها يعني أصلها بصلتها) كذا لهم لكن سقط التفسير من رواية النسفي ووقع عند أبي ذر
وبعده أبلها ببلائها وبعده في الأصل كذا وقع وببلالها أجود وأصح وببلاها لا أعرف له وجها
انتهى وأظنه من قوله كذا وقع الخ من كلام أبي ذر وقد وجه الداودي فيما نقله ابن التين هذه
الرواية على تقدير ثبوتها بأن المراد ما أوصله إليها من الأذى على تركهم الاسلام وتعقبه ابن التين
بأنه لا يقال في الأذى أبله ووجهها بعضهم بأن البلاء بالمد يجئ بمعنى المعروف والانعام ولما
كانت الرحم مما يستحق المعروف أضيف إليها ذلك فكأنه قال أصلها بالمعروف اللائق بها
والتحقيق أن الرواية إنما هي ببلالها مشتق من أبلها قال النووي ضبطنا قوله ببلالها بفتح
الموحدة وبكسرها وهما وجهان مشهوران وقال عياض رويناه بالكسر ورأيته للخطابي بالفتح
وقال ابن التين هو بالفتح للأكثر ولبعضهم بالكسر (قلت) بالكسر أوجه فإنه من البلال جمع
بلل مثل جمل وجمال ومن قاله بالفتح بناه على الكسر مثل قطام وحذام والبلال بمعنى البلل وهو
النداوة وأطلق ذلك على الصلة كما أطلق اليبس على القطيعة لان النداوة من شأنها تجميع
ما يحصل فيها وتأليفه بخلاف اليبس فمن شأنه التفريق وقال الخطابي وغيره بللت الرحم بلا
وبللا وبلالا أي نديتها بالصلة وقد أطلقوا على الاعطاء الندى وقالوا في البخيل ما تندى كفه
بخير فشبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بالماء الذي يطفئ ببرده الحرارة ومنه الحديث بلوا
أرحامكم ولو بالسلام وقال الطيبي وغيره شبة الرحم بالأرض التي إذا وقع عليها الماء وسقاها حق
سقيها أزهرت ورؤيت فيها النضارة فأثمرت المحبة والصفاء وإذا تركت بغير سقي يبست وبطلت
منفعتها فلا تثمر إلا البغضاء والجفاء ومنه قولهم سنة جماد أي لا مطر فيها وناقة جماد أي لا لبن فيها
وجوز الخطابي أن يكون معنى قوله أبلها ببلالها في الآخرة أي أشفع لها يوم القيامة وتعقبه
الداودي بأن سياق الحديث يؤذن بأن المراد ما يصلهم به في الدنيا ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق
موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين دعا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص إلى أن قال يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من
الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها وأصله عند البخاري بدون هذه الزيادة وقال الطيبي في
قوله ببلالها مبالغة بديعة وهي مثل قوله إذا زلزلت الأرض زلزالها أي زلزالها الشديد الذي لا شئ
354

فوقه فالمعنى أبلها بما اشتهر وشاع بحيث لا أترك منه شيئا (قوله باب ليس الواصل
بالمكافئ) التعريف فيه للجنس (قوله سفيان) هو الثوري والحسن بن عمرو هو الفقيمي بفاء
وقاف مصغر وفطر بكسر الفاء وسكون المهملة ثم راء هو ابن خليفة (قوله عن مجاهد) أي
الثلاثة عن مجاهد وعبد الله بن عمرو هو ابن العاص وقوله قال سفيان هو الراوي وهو موصول
بهذا الاسناد وقوله لم يرفعه الأعمش ورفعه حسن وفطر هذا هو المحفوظ عن الثوري وأخرجه
الإسماعيلي من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان الثوري عن الحسن بن عمرو وحده
مرفوعا من رواية مؤمل بن إسماعيل عن الثوري عن الحسن بن عمرو موقوفا وعن الأعمش
مرفوعا وتابعه أبو قرة موسى بن طارق عن الثوري على رفع رواية الأعمش وخالفه عبد الرزاق
عن الثوري فرفع رواية الحسن بن عمرو وهو المعتمد ولم يختلفوا في أن رواية فطر بن خليفة
مرفوعة وقد أخرجه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن فطر وبشير بن إسماعيل كلاهما
عن مجاهد مرفوعا وأخرجه أحمد عن جماعة من شيوخه عن فطر مرفوعا وزاد في أول الحديث
أن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ الحديث (قوله ليس الواصل بالمكافئ) أي
الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفا ليس الواصل أن
تصل من وصلك ذلك القصاص ولكن الوصل أن تصل من قطعك (قوله ولكن) قال الطيبي
الرواية فيه بالتشديد ويجوز التخفيف (قوله الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) أي الذي إذا
منع أعطى وقطعت ضبطت في بعض الروايات بضم أوله وكسر ثانيه على البناء للمجهول وفي
أكثرها بفتحتين قال الطيبي المعنى ليست حقيقة الواصل ومن يعتد بصلته من يكافئ صاحبه
بمثل فعله ولكنه من يتفضل على صاحبه وقال شيخنا في شرح الترمذي المراد بالواصل في هذا
الحديث الكامل فإن في المكافأة نوع صلة بخلاف من إذا وصله قريبه لم يكافئه فإن فيه قطعا
باعراضه عن ذلك وهو من قبيل ليس الشديد بالصرعة وليس الغني عن كثرة العرض انتهى
وأقول لا يلزم من نفى الوصل ثبوت القطع فهم ثلاث درجات مواصل ومكافئ وقاطع فالواصل
من يتفضل ولا يتفضل عليه والمكافئ الذي لا يزيد في الاعطاء على ما يأخذ والقاطع الذي يتفضل
عليه ولا يتفضل وكما تقع المكافأة بالصلة من الجانبين كذلك تقع بالمقاطعة من الجانبين فمن بدأ
حينئذ فهو الواصل فإن جوزي سمي من جازاه مكافئا والله أعلم (قوله باب من
وصل رحمه في الشرك ثم أسلم) أي هل يكون له في ذلك ثواب وإنما لم يجزم بالحكم لوجود الاختلاف
في ذلك وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في أوائل كتاب الزكاة وتقدم البحث في ذلك في كتاب الايمان
في الكلام على حديث أبي سعيد الخدري إذا أسلم العبد فحسن إسلامه (قوله هل كان لي فيها من
أجر) وهو تفسير رواية يونس بن يزيد عند مسلم هل لي فيها من شئ ووقع في رواية صالح بن كيسان
أفيها أجر وفي رواية ابن مسافر هل لي فيها من أجر (قوله ويقال أيضا عن أبي اليمان أتحنت)
كذا لأبي ذر ووقع في رواية غيره وقال أيضا وعلى هذا فهو من كلام البخاري وفاعل قال هو
البخاري (قوله عن أبي اليمان أتحنت) يعني بالمثناة بدل المثلثة يشير إلى ما أورده هو في باب شراء
المملوك من الحربي في كتاب البيوع عن أبي اليمان بلفظ كنت أتحنت أو أتحنث بالشك وكأنه
سمعه منه بالوجهين وتقدم في كتاب الزكاة ما صوبه عياض من ذلك وقال ابن التين أتحنت
355

بالمثناة لا أعلم له وجها انتهى ووقع عند الإسماعيلي أتجنب بجيم وآخره موحدة فقال قال
البخاري يقال أتجنب قال الإسماعيلي والتجنب تصحيف وإنما هو التحنث مأخوذ من الحنث وهو
الاثم فكأنه قال أتوقى ما يؤثم (قلت) وبهذا التأويل يقوى رواية أتجنب بالجيم والموحدة
ويكون التردد في اللفظتين وهما أتحنث بمهملة ومثلثة وأتجنب بجيم وموحدة والمعنى واحد وهو
توقي ما يوقع في الاثم لكن ليس المراد توقى الاثم فقط بل أعلا منه وهو تحصيل البر (قوله وقال
معمر وصالح وابن المسافر أتحنث) يعني بالمثلثة أما رواية معمر فوصلها المؤلف في الزكاة وهي
في باب فمن تصدق في الشرك ثم أسلم وعزاها المزي في الأطراف للصلاة ولم أرها فيها وأما رواية صالح
وهو ابن كيسان فأخرجهما مسلم وأما رواية ابن المسافر فكذا وقع هنا بالألف واللام والمشهور فيه
بحذفهما وهو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصري أمير مصر فوصلها الطبراني في
الأوسط من طريق الليث بن سعد عنه (قوله وقال ابن إسحاق التحنث التبرر) هكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة النبوية فقال حدثني وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول لعبيد بن
عمير حدثنا كيف كان بدء النبوة قال فقال عبيد وأنا حاضر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يجاور في حراء من كل سنة شهرا وكان ذلك مما ينحنت به قريش في الجاهلية والتحنث التبرر وقد
تقدم التنبيه على ذلك في بدء الوحي في حديث عائشة في هذا المعنى فكان يتحنث وهو التعبد
ومضى التنبيه على ذلك في أول الكتاب (قوله وتابعه هشام بن عروة عن أبيه) في رواية
الكشميهني وتابعهم بصيغة الجمع والأول أرجح فإن المراد بهذه المتابعة خصوص تفسير التحنث
بالتبرر ورواية هشام وصلها المؤلف في العتق من طريق أبي أسامة عنه ولفظه أن حكيم بن حزام
قال فذكر الحديث وفيه كنت أتحنث بها يعني أتبرر (قوله باب من ترك صبية غيره
حتى تلعب به) أي ببعض جسده (قوله أو قبلها أو مازحها) قال ابن التين ليس في الخبر المذكور في
الباب للتقبيل ذكر فيحتمل أن يكون لما لم ينهها عن مس جسده صار كالتقبيل وإلى ذلك أشار ابن
بطال والذي يظهر لي أن ذكر المزح بعد التقبيل من العام بعد الخاص وأن الممازحة بالقول
والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس والتقبيل من جملة ذلك وحديث الباب عن أم خالد بنت
خالد بن سعيد تقدم شرحه في باب الخميصة السوداء من كتاب اللباس وعبد الله في هذا السند هو
ابن المبارك وخالد بن سعيد المذكور في السند تقدم بيان نسبه في كتاب الجهاد (قوله فذهبت ألعب
بخاتم النبوة فزبرني أبي) أي نهرني والزبر بزاي وموحدة ساكنة هو الزجر والمنع وزنه ومعناه
(قوله أبلى وأخلقي) تقدم ضبطه والاختلاف فيه (قوله ثم أبلي وأخلقي) قال الداودي يستفاد
منه مجئ ثم للمقارنة وأبى ذلك بعض النحاة فقالوا لا تأتي الا للتاراخي كذا قال وتعقبه ابن التين بأن
قال ما علمت أن أحدا قال إن ثم للمقارنة وإنما هي للترتيب بالمهلة وقال وليس في الحديث
ما ادعاه من المقارنة لان الابلاء يقع بعد الخلق أو الخلف (قلت) لعل الداودي أراد بالمقارنة المعاقبة فيتجه كلامه بعض اتجاه (قوله قال عبد الله) هو ابن المبارك وهو متصل بالاسناد
المذكور (قوله فبقي) أي الثوب المذكور كذا للأكثر وفي رواية أبي ذر فبقيت والمراد أم
خالد (قوله حتى ذكر) كذا للأكثر بذال معجمة ثم كاف خفيفة مفتوحتين ثم راء وفيه اكتفاء
والتقدير ذكر الراوي زمنا طويلا وقال الكرماني المعنى صار شيئا مذكورا عند الناس
356

بخروج بقائه عن العادة (قلت) وكأنه قرأه ذكر بضم أوله لكن لم يقع عندنا في الرواية
الا بالفتح ووقع في رواية أبي علي بن السكن حتى ذكر دهرا وهو يؤيد ما قدمته وفي رواية أبي ذر
عن الكشميهني حتى دكن بدال مهملة وكاف مكسورة ثم نون أي صار أدكن أي أسود قال أهل
اللغة الدكن لون يضرب إلى السواد وقد دكن الثوب بالكسر يدكن بفتح الكاف وبضمها مع
الفتح وقد جزم جماعة بأن رواية الكشميهني تصحيف (قوله يعني من بقائها) كذا للأصيلي
والضمير للخميصة أو لأم خالد بحسب التوجيهين المتقدمين (قوله باب رحمة الولد
وقبلته ومعانقته) قال ابن بطال يجوز تقبيل الولد الصغير في كل عضو منه وكذا الكبير عند أكثر
العلماء ما لم يكن عورة وتقدم في مناقب فاطمة عليها السلام أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها
وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة (قوله وقال ثابت عن أنس أخذ النبي صلى الله عليه وسلم
إبراهيم فقبله وشمه) سقط هذا التعليق لأبي ذر عن غير الكشميهني وقد وصله المؤلف في الجنائز
من طريق قريش بن حبان عن ثابت في حديث طويل وإبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وسلم
من مارية القبطية ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث * الحديث الأول حديث ابن عمر (قوله
مهدي) هو ابن ميمون وثبت ذلك في رواية أبي ذر (قوله ابن أبي يعقوب) هو محمد بن عبد الله
الضبي البصري وابن أبي نعم بضم النون وسكون المهملة هو عبد الرحمن واسم أبيه لا يعرف
والسند كله إلى عبد الرحمن هذا بصريون وهو كوفي عابد اتفقوا على توثيقه وشذ ابن أبي خيثمة
فحكى عن ابن معين أنه ضعفه (قوله كنت شاهدا لابن عمر) أي حاضرا عنده (قوله وسأله رجل)
الجملة حالية واسم الرجل السائل ما عرفته (قوله عن دم البعوض) تقدم في المناقب بلفظ الذباب
بضم المعجمة وموحدتين قال الكرماني لعله سأل عنهما معا (قلت) أو أطلق الراوي الذباب على
البعوض لقرب شبهه منه وإن كان في البعوض معنى زائد قال الجاحظ العرب تطلق على النحل
والدبر وما أشبه ذلك ذبابا (قوله وقد قتلوا ابن النبي صلى الله عليه وسلم) يعني الحسين بن علي (قوله
وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) هي جملة حالية (قوله ريحانتاي) كذا للأكثر ولأبي ذر
عن المستملي والحموي ريحاني بكسر النون والتخفيف على الافراد وكذا عند النسفي ولأبي ذر عن
الكشميهني ريحانتي بزيادة تاء التأنيث قال ابن التين وهو وهم والصواب ريحانتاي (قلت) كأنه
قرأه بفتح المثناة وتشديد الياء الأخيرة على التثنية فجعله وهما ويجوز أن يكون بكسر المثناة
والتخفيف فلا يكون وهما والمراد بالريحان هنا الرزق قاله ابن التين وقال صاحب الفائق أي
هما من رزق الله الذي رزقنيه يقال سبحان الله وريحانه أي أسبح الله وأسترزقه ويجوز أن يريد
بالريحان المشموم يقال حباني بطاقة ريحان والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به لان الأولاد
يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين وقوله من الدنيا أي نصيبي من الريحان الدنيوي
وقال ابن بطال يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه لانكار ابن
عمر على من سأله عن دم البعوض مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل
الحسين فوبخه بذلك وإنما خصه بالذكر لعظم قدر الحسين ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم انتهى
والذي يظهر أن ابن عمر لم يقصد ذلك الرجل بعينه بل أراد التنبيه على جفاء أهل العراق وغلبة
الجهل عليهم بالنسبة لأهل الحجاز ولا مانع أن يكون بعد ذلك أفتى السائل عن خصوص ما سأل
357

عنه لأنه لا يحل له كتمان العلم إلا إن حمل على أن السائل كان متعنتا ويؤكد ما قلته أنه ليس في
القصة ما يدل على أن السائل المذكور كان ممن أعان على قتل الحسين فإن ثبت ذلك فالقول ما قال
ابن بطال والله أعلم * الحديث الثاني (قوله عبد الله بن أبي بكر) أي ابن محمد بن عمرو بن حزم
ومضى في الزكاة من رواية ابن المبارك عن معمر عبد الله بن أبي بكر بن حزم فنسب أباه لجد أبيه
وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلا مما يؤذن بأنه قليل التدليس وقد أخرجه الترمذي مختصرا
من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد عن معمر بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند
فإن كان محفوظا احتمل أن يكون الزهري سمعه من عروة مختصرا وسمعه عنه مطولا وإلا
فالقول ما قال ابن المبارك (قوله جاءتني امرأة ومعها بنتان) لم أقف على أسمائهن وسقطت الواو
لغير أبي ذر من قوله ومعها وكذا هو في رواية ابن المبارك (قوله فلم تجد عندي غير تمرة واحدة
فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها) زاد معمر ولم تأكل منها شيئا (قوله ثم قامت فخرجت فدخل النبي
صلى الله عليه وسلم فحدثته) هكذا في رواية عروة ووقع في رواية عراك بن مالك عن عائشة جاءتني
مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهن تمرة ورفعت تمرة إلى
فيها لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها فأعجبني شأنها الحديث
أخرجه مسلم وللطبراني من حديث الحسن بن علي نحوه ويمكن الجمع بأن مرادها بقولها في
حديث عروة فلم تجد عندي غير تمرة واحدة أي أخصها بها ويحتمل أنها لم يكن عندها في أول
الحال سوى واحدة فأعطتها ثم وجدت ثنتين ويحتمل تعدد القصة (قوله من يلي من هذه البنات
شيئا) كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله من الولاية وللكشميهني بموحدة مضمومة من البلاء
وفي رواية الكشميهني أيضا بشئ وقواه عياض وأيده برواية شعيب بلفظ من ابتلى وكذا وقع في
رواية معمر عند الترمذي واختلف في المراد بالابتلاء هل هو نفس وجودهن أو ابتلى بما يصدر
منهن وكذلك هل هو على العموم في البنات أو المراد من اتصف منهن بالحاجة إلى ما يفعل به
(قوله فأحسن إليهن) هذا يشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث من هذه أكثر من واحدة
وقد وقع في حديث أنس عند مسلم من عال جاريتين ولأحمد من حديث أم سلمة من أنفق على
ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة يحتسب عليهما والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الاحسان وفي
رواية عبد المجيد فصبر عليهن ومثله في حديث عقبة بن عامر في الأدب المفرد وكذا وقع
في ابن ماجة وزاد وأطعمهن وسقاهن وكساهن وفي حديث ابن عباس عند الطبراني فأنفق
عليهن وزوجهن وأحسن أدبهن وفي حديث جابر عند أحمد وفي الأدب المفرد يؤويهن
ويرحمهن ويكفلهن زاد الطبري فيه ويزوجهن وله نحوه من حديث أبي هريرة في الأوسط
وللترمذي وفي الأدب المفرد من حديث أبي سعيد فأحسن صحبتهن وأتقى الله فيهن وهذه
الأوصاف يجمعها لفظ الاحسان الذي اقتصر عليه في حديث الباب وقد اختلف في المراد
بالاحسان هل يقتصر به على قدر الواجب أو بما زاد عليه والظاهر الثاني فإن عائشة أعطت
المرأة التمرة فآثرت بها ابنتيها فوصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالاحسان بما أشار إليه من الحكم
المذكور فدل على أن من فعل معروفا لم يكن واجبا عليه أو زاد على قدر الواجب عليه عد محسنا
والذي يقتصر على الواجب وإن كان يوصف بكونه محسنا لكن المراد من الوصف المذكور قدر
358

زائد وشرط الاحسان أن يوافق الشرع لا ما خالفة والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل
لفاعله إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهن عنه بزوج أو غيره كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث
والاحسان إلى كل أحد بحسب حاله وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة
فقط ففي حديث ابن عباس المتقدم فقال رجل من الاعراب أو اثنتين فقال أو اثنتين وفي حديث
عوف بن مالك عن الطبراني فقالت امرأة وفي حديث جابر وقيل وفي حديث أبي هريرة قلنا
وهذا يدل على تعدد السائلين وزاد في حديث جابر فرأى بعض القوم أن لو قال وواحدة لقال
وواحدة وفي حديث أبي هريرة قلنا وثنتين قال وثنتين قلنا وواحدة قال وواحدة وشاهده حديث
ابن مسعود رفعه من كانت له ابنة فأدبها وأحسن أدبها وعلمها فأحسن تعليمها وأوسع عليها من
نعمة الله التي أوسع عليه أخرجه الطبراني بسند واه (قوله كن له سترا من النار) كذا في أكثر
الأحاديث التي أشرت إليها ووقع في رواية عبد المجيد حجابا وهو بمعناه وفي الحديث تأكيد حق
البنات لما فيهن من الضعف غالبا عن القيام بمصالح أنفسهن بخلاف الذكور لما فيهم من قوة
البدن وجزالة الرأي وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال قال ابن بطال
وفيه جواز سؤال المحتاج وسخاء عائشة لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها وأن القليل لا يمتنع
التصدق به لحقارته بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسر له قل أو أكثر وفيه جواز ذكر
المعروف إن لم يكن على وجه الفخر ولا المانة وقال النووي تبعا لابن بطال إنما سماه ابتلاء لان
الناس يكرهون البنات فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك ورغب في إبقائهن وترك قتلهن بما ذكر
من الثواب الموعود به من أحسن إليهن وجاهد نفسه في الصبر عليهن وقال شيخنا في شرح
الترمذي يحتمل أن يكون معنى الابتلاء هنا الاختبار أي من اختبر بشئ من البنات لينظر
ما يفعل أيحسن إليهن أو يسيئ ولهذا قيده في حديث أبي سعيد بالتقوى فإن من لا يتق الله
لا يأمن أن يتضجر بمن وكله الله إليه أو يقصر عما أمر بفعله أولا يقصد بفعله امتثال أمر الله
وتحصيل ثوابه والله أعلم * الحديث الثاني (قوله وأمامة بنت أبي العاص) أي ابن الربيع وهي
ابنة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم (قوله فإذا ركع وضع) كذا للأكثر بحذف المفعول
وللكشميهني وضعها وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل الصلاة في أبواب سترة المصلي
ووقع هنا بلفظ ركع وهناك بلفظ سجد ولا منافاة بينهما بل يحمل على أنه كان يفعل ذلك في حال
الركوع والسجود وبهذا تظهر مناسبة الحديث للترجمة وهو رحمة الولد وولد الولد ولد ومن
شفقته صلى الله عليه وسلم ورحمته لأمامة أنه كان إذا ركع أو سجد يخشى عليها أن تسقط فيضعها
بالأرض وكأنها كانت لتعلقها به لا تصبر في الأرض فتجزع من مفارقته فيحتاج أن يحملها إذا
قام واستنبط منه بعضهم عظم قدر رحمة الولد لأنه تعارض حينئذ المحافظة على المبالغة في
الخشوع والمحافظة على مراعاة خاطر الولد فقدم الثاني ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم
إنما فعل ذلك لبيان الجواز * الحديث الرابع (قوله أن أبا هريرة قال) كذا في رواية شعيب
ووقع عند مسلم من رواية سفيان بن عيينة ومعمر فرقهما كلاهما عن الزهري عن أبي سلمة عن
أبي هريرة (قوله وعنده الأقرع بن حابس) الجملة حالية وقد تقدم نسب الأقرع في تفسير سورة
الحجرات وهو من المؤلفة وممن حسن إسلامه (قوله إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا)
359

زاد الإسماعيلي في روايته ما قبلت إنسانا قط (قوله من لا يرحم لا يرحم) هو بالرفع فيهما على الخبر
وقال عياض هو للأكثر وقال أبو البقاء من موصولة ويجوز أن تكون شرطية فيقرأ بالجزم فيهما
قال السهيلي جعله على الخبر أشبه بسياق الكلام لأنه سيق للرد على من قال أن لي عشرة من الولد
الخ أي الذي يفعل هذا الفعل لا يرحم ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع لان
الشرط وجوابه كلام مستأنف (قلت) وهو أولى من جهة أخرى لأنه يصير من نوع ضرب المثل
ورجح بعضهم كونها موصولة لكون الشرط إذا أعقبه نفي ينفي غالبا بلم وهذا لا يقتضي ترجيحا
إذا كان المقام لائقا بكونها شرطية وأجاز بعض شراح المشارق الرفع في الجزأين والجزم فيهما
والرفع في الأولى والجزم في الثاني وبالعكس فيحصل أربعة أوجه وأستبعد الثالث ووجه بأنه
يكون في الثاني بمعنى النهي أي لا ترحموا من لا يرحم الناس وأما الرابع فظاهر وتقديره من لا
يكن من أهل الرحمة فإنه لا يرحم ومثله قول الشاعر
فقلت له أحمل فوق طوقك انها * مطوقة من يأتها لا يضيرها
وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارة إلى أن تقبيل الولد وغيره من الأهل المحارم
وغيرهم من الأجانب إنما يكون للشفقة والرحمة لا للذة والشهوة وكذا الضم والشم والمعانقة
* الحديث الخامس (قوله حدثنا محمد بن يوسف) هو الفريابي وسفيان هو الثوري (قوله عن
هشام) هو ابن عروة ووقع في رواية الإسماعيلي عن هشام بن عروة عن أبيه (قوله جاء أعرابي)
يحتمل أن يكون هو الأقرع المذكور في الذي قبله ويحتمل أن يكون قيس بن عاصم التميمي ثم
السعدي فقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني ما يشعر بذلك ولفظه عن أبي هريرة أن قيس
ابن عاصم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر قصة فيها فهل الا أن تنزع الرحمة منك فهذا
أشبه بلفظ حديث عائشة ووقع نحو ذلك لعيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري أخرجه أبو يعلى
في مسنده بسند رجاله ثقات إلى أبي هريرة قال دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين فقال أتقبلهما يا رسول الله إن لي عشرة فما قبلت أحدا
منهم ويحتمل أن يكون وقع ذلك لجميعهم فقد وقع في رواية مسلم قدم ناس من الاعراب فقالوا
(قوله تقبلون الصبيان) كذا للأكثر بحذف أداة الاستفهام وثبتت في رواية الكشميهني (قوله
فما نقبلهم) وفي رواية الإسماعيلي فوالله ما نقبلهم وعند مسلم فقال نعم قالوا لكنا والله ما نقبل
(قوله أو أملك) هو بفتح الواو والهمزة الأولى للاستفهام الانكاري ومعناه النفي أي لا أملك أي
لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي
مرادة وعند الإسماعيلي وما أملك وله في أخرى ما ذنبي إن كان الخ (قوله أن نزع) بفتح الهمزة
في الروايات كلها مفعول أملك وحكى بعض شراح المصابيح كسر الهمزة على أنها شرط والجزاء
محذوف وهو من جنس ما تقدم أي أن نزع الله الرحمة من قلبك لا أملك لك ردها إليه ووقع في قصة
عيينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم * الحديث السادس (قوله حدثنا ابن أبي
مريم) هو سعيد ومدار هذا الحديث في الصحيحين عليه وأبو غسان هو محمد بن مطرف والاسناد
منه فصاعدا مدنيون (قوله قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي) في رواية الكشميهني بسبي
وبضم قاف قدم وهذا السبي هو سبي هوازن (قوله فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقى) كذا
360

للمستملي والسرخسي بسكون المهملة من تحلب وضم اللام وثديها بالنصب وتسقى بفتح المثناة
وبقاف مكسورة وللباقين قد تحلبه بفتح الحاء وتشديد اللام أي تهيأ لان يحلب وثديها بالرفع ففي
رواية الكشميهني بالافراد وللباقين ثدياها بالتثنية وللكشميهني بسقي بكسر الموحدة وفتح المهملة
وسكون القاف وتنوين التحتانية وللباقين تسعى بفتح العين المهملة من السعي وهو المشي
بسرعة وفي رواية مسلم عن الحلواني وابن عسكر كلاهما عن ابن أبي مريم تبتغي بموحدة ساكنة
ثم مثناة مفتوحة ثم غين معجمة من الابتغاء وهو الطلب قال عياض وهو وهم والصواب ما في رواية
البخاري وتعقبه النووي بأن كلا من الروايتين صواب فهي ساعية وطالبة لولدها وقال القرطبي
لاخفاء بحسن رواية تسعى ووضوحها ولكن لرواية تبتغي وجها وهو تطلب ولدها وحذف
المفعول للعلم به فلا يغلط الراوي مع هذا التوجيه (قوله إذا وجدت صبيا في السبي أخذته
فألصقته ببطنها) كذا للجميع ولمسلم وحذف منه شئ بينته رواية الإسماعيلي ولفظه إذا وجدت
صبيا أخذته فأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فألزمته بطنها وعرف من سياقه أنها كانت فقدت
صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخف عنها فلما وجدت
صبيها بعينه أخذته فالتزمته ولم أقف على اسم هذا الصبي ولا على اسم أمه (قوله أترون) بضم
المثناة أي أتظنون (قوله قلنا لا وهي تقدر على أن لا تطرحه) أي لا تطرحه طائعة أبدا وفي رواية
الإسماعيلي فقلنا لا والله إلى آخره (قوله الله) بفتح أوله لام تأكيد وصرح بالقسم في رواية
الإسماعيلي فقال والله لله أرحم إلى آخره (قوله بعباده) كأن المراد بالعباد هنا من مات على الاسلام
ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من
أصحابه وصبي على الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول
ابني ابني وسعت فأخذته فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقى ابنها في النار فقال ولا الله
بطارح حبيبه في النار فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي
الكبائر وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة لفظ العباد عام ومعناه خاص بالمؤمنين وهو كقوله تعالى
ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون فهي عامة من جهة الصلاحية وخاصة بمن كتبت له
قال ويحتمل أن يكون المراد أن رحمة الله لا يشبهها شئ لمن سبق له منها نصيب من أي العباد كان
حتى الحيوانات وفيه إشارة إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره بالله وحده وأن كل
من فرض أن فيه رحمة ما حتى يقصد لأجلها فالله سبحانه وتعالى أرحم منه فليقصد العاقل لحاجته
من هو أشد له رحمة قال وفي الحديث جواز نظر النساء المسبيات لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن
النظر إلى المرأة المذكورة بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها وفيه ضرب المثل بما
يدرك بالحواس لما لا يدرك بها لتحصيل معرفة الشئ على وجهه وإن كان الذي ضرب به المثل
لا يحاط بحقيقته لان رحمة الله لا تدرك بالعقل ومع ذلك فقربها النبي صلى الله عليه وسلم للسامعين
بحال المرأة المذكورة وفيه جواز ارتكاب أخف الضررين لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة
عن ارضاع الأطفال الذين أرضعتم مع احتمال أن يكبر بعضهم فيتزوج بعض من أرضعته المرأة
معه لكن لما كانت حالة الارضاع ناجزة وما يخشى من المحرمية متوهم اغتفر (قلت) ولفظ
الصبي بالتذكير في الخبر ينازع في ذلك قال وفيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وقد
361

يستدل به على عكس ذلك فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى
الارضاع في تلك الحالة ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم ترضع أحدا منهم وأما الثاني وهو
أقوى فلانه أقرها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة اه‍ ملخصا ولا يخفى ما فيه
(قوله باب) بالتنوين (جعل الله الرحمة في مائة جزء) هكذا ترجم ببعض الحديث
وفي رواية النسفي باب من الرحمة وللإسماعيلي باب بغير ترجمة (قوله البهراني) بفتح الموحدة
وسكون الهاء نسبة إلى قبيلة من قضاعة ينتهي نسبهم إلى بهر بن عمرو بن الحاف بن قضاعة نزل
أكثرهم حمص في الاسلام (قوله جعل الله الرحمة في مائة جزء) قال الكرماني كان المعنى يتم
بدون الظرف فلعل في زائدة أو متعلقة بمحذوف وفيه نوع مبالغة إذ جعلها مظروفا لها معنى بحيث
لا يفوت منها شئ وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون سبحانه وتعالى لما من على خلقه بالرحمة
جعلها في مائة وعاء فاهبط منها واحدا للأرض (قلت) خلت أكثر الطرق عن الظرف كرواية سعيد
المقبري عن أبي هريرة الآتية في الرقاق أن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ولمسلم من رواية
عطاء عن أبي هريرة أن لله مائة رحمة وله من حديث سلمان أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق
السماوات والأرض كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض وقال القرطبي يجوز أن يكون
معنى خلق اخترع وأوجد ويجوز أن يكون بمعنى قدر وقد ورد خلق بمعنى قدر في لغة العرب فيكون
المعنى أن الله أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض وقوله كل رحمة تسع طباق
الأرض المراد بها التعظيم والتكثير وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرا (قوله
فأمسك عنده تسعة وتسعين جزأ) في رواية عطاء وأخر عنده تسعة وتسعين رحمة وفي رواية
العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم وخبأ عنده مائة إلا واحدة (قوله وأنزل
في الأرض جزأ واحدا) في رواية المقبري وأرسل في خلقه كلهم رحمة وفي رواية عطاء أنزل منها رحمة
واحدة بين الجن والإنس والبهائم وفي حديث سلمان فجعل منها في الأرض واحدة قال القرطبي
هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة لا نفس الإرادة وأنها راجعة إلى المنافع والنعم (قوله
فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) في رواية عطاء
فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وفي حديث سلمان فيها تعطف
الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض قال ابن أبي جمرة خص الفرس بالذكر لأنها
أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده ولما في الفرس من الخفة والسرعة
في التنقل ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها ووقع في حديث سلمان عند مسلم في آخره
من الزيادة فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا
بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضا وصرح بذلك المهلب فقال الرحمة التي
خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم
قال ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شئ وهي التي
من صفة ذاته ولم يزل موصوفا بها فهي التي يرحمهم بها زائدا على الرحمة التي خلقها لهم قال ويجوز
أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض لان
استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض (قلت) وحاصل كلامه أن الرحمة
362

رحمتان رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها هنا ولكن ليس
في شئ من طرق الحديث أن التي عند الله رحمة واحدة بل اتفقت جميع الطرق على أن عنده
تسعة وتسعين رحمة وزاد في حديث سلمان أنه يكملها يوم القيامة مائة بالرحمة التي في الدنيا فتعدد
الرحمة بالنسبة للخلق وقال القرطبي مقتضى هذا الحديث أن الله علم أن أنواع النعم التي ينعم
بها على خلقه مائة نوع فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد انتظمت به مصالحهم وحصلت به
مرافقهم فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي فبلغت مائة وكلها للمؤمنين واليه
الإشارة بقوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما فإن رحيما من أبنية المبالغة التي لا شئ فوقها ويفهم
من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة لا من جنس رحمات الدنيا ولا من غيرها إذا أكمل كل
ما كان في علم الله من الرحمات للمؤمنين واليه الإشارة بقوله تعالى فسأكتبها للذين يتقون الآية
وقال الكرماني الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بايصال الخير والقدرة في نفسها غير متناهية
والتعلق غير متناه لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل تسهيلا للفهم وتقليلا لما عند الخلق
وتكثيرا لما عند الله سبحانه وتعالى وأما مناسبة هذا العدد الخاص فحكى القرطبي عن بعض
الشراح أن هذا العدد الخاص أطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه وتعقبه بأنه لم تجر عادة العرب
بذلك في المائة وإنما جرى في السبعين كذا قال وقال ابن أبي جمرة ثبت أن نار الآخرة تفضل نار
الدنيا بتسع وستين جزأ فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزأ فيؤخذ منه أن الرحمة
في الآخرة أكثر من النقمة فيها ويؤيده قوله غلبت رحمتي غضبي (قلت) لكن تبقى مناسبة
خصوص هذا العدد فيحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة
والجنة هي محل الرحمة فكان كل رحمة بإزاء درجة وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله
تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع
الأنواع من الرحمة وقال ابن أبي جمرة في الحديث إدخال السرور على المؤمنين لان العادة أن
النفس يكمل فرحها بما وهب لها إذا كان معلوما مما يكون موعودا وفيه الحث على الايمان
واتساع الرجاء في رحمات الله تعالى المدخرة (قلت) وقد وقع في آخر حديث سعيد المقبري
في الرقاق فلو يعلم الكافر بكل ما عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة وأفرده مسلم من طريق
العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى (قوله
باب قتل الولد خشية أن يأكل معه) تقدير الكلام قتل المرء ولده الخ فالضمير يعود
للمقدر في قوله قتل الولد ووقع لأبي ذر عن المستملي والكشميهني باب أي الذنب أعظم وعند النسفي
باب من الرحمة وذكر فيه حديث ابن مسعود أي الذنب أعظم الحديث وسيأتي شرحه مستوفى
في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى (قوله باب وضع الصبي في الحجر) ذكر فيه
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع صبيا في حجره وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة
وتقدم أيضا قريبا في العقيقة ويستفاد منه الرفق بالأطفال والصبر على ما يحدث منهم وعدم
مؤاخذتهم لعدم تكليفهم (قوله باب وضع الصبي على الفخذ) هذه الترجمة
أخص من التي قبلها وذكر فيه حديث أسامة بن زيد (قوله عن أبيه) هو سليمان بن طرخان
التيمي وأبو تميمة هو طريف بمهملة بوزن عظيم ابن مجالد بالجيم الهجيمي بالجيم مصغر (قوله
363

فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر) استشكله الداودي فيما نقله ابن التين
فقال لا أدري ذلك وقع في وقت واحد لان أسامة أكبر من الحسن ثم أخذ يستدل على ذلك والامر
فيه أوضح من أن يحتاج إلى دليل فإن أكثر ما قيل في عمر الحسن عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
ثمان سنين وأما أسامة فكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وقد أمره على الجيش الذي
اشتمل على عدد كثير من كبار المسلمين كعمر كما تقدم بيانه في ترجمته في المناقب وصرح جماعة بأنه
كان عند موت النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وذكر الواقدي في المغازي عن محمد بن
الحسن بن أسامة عن أهله قالوا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسامة ابن تسع عشرة سنة
فيحتمل أن يكون ذلك وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة مراهق والحسن ابن سنتين مثلا
ويكون إقعاده أسامة في حجره لسبب اقتضى ذلك كمرض مثلا أصاب أسامة فكان النبي صلى الله
عليه وسلم لمحبته فيه ومعزته عنده يمرضه بنفسه فيحتمل أن يكون أقعده في تلك الحالة وجاء الحسن
ابن ابنته فأقعده على الفخذ الأخرى وقال معتذرا عن ذلك إني أحبهما والله أعلم (قوله وعن علي
قال حدثنا يحيى حدثنا سليمان) أما علي فهو علي بن عبد الله المديني وأما يحيى فهو ابن سعيد
القطان وأما سليمان فهو التيمي المذكور قبل ثم هو معطوف على السند الذي قبله وهو قوله حدثنا
عبد الله بن محمد فيكون من رواية البخاري عن علي ولكنه عبر عنه بصيغة عن فقال حدثنا عبد الله
ابن محمد آخره وعن علي آخره ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله حدثنا عارم فيكون من
رواية البخاري عن شيخه بواسطة قرينه عبد الله بن محمد ولا يستغرب ذلك من رواية الاقران
ولا من البخاري فقد حدث بالكثير عن كثير من شيوخه ويدخل أحيانا بينهم الواسطة وقد حدث
عن عارم بالكثير بغير واسطة منها ما سيأتي قريبا في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يسروا
ولا تعسروا وأدخل هنا بينه وبين عبد الله بن محمد الجعفي ووقع في بعض النسخ في آخر هذا
الحديث قيل لأبي عبد الله من يقول عن علي فقال حدثنا عبد الله بن محمد انتهى فإن كان محفوظا
صح الاحتمال الأخير وبالله التوفيق (قوله قال التيمي) هو موصول بالسند المذكور (قوله
فوقع في قلبي منه شئ) يعني شك هل سمعه من أبي تميمة عن أبي عثمان أو سمعه من أبي عثمان بغير
واسطة وفي السند على الأول ثلاثة بصريون من التابعين في نسق من سليمان التيمي فصاعدا وليس
لأبي تميمة في البخاري إلا هذا الحديث وآخر سيأتي في كتاب الأحكام من روايته عن جندب البجلي
(قوله فوجدته عندي مكتوبا فيما سمعت) أي من أبي عثمان فكأنه سمعه من أبي تميمة عن أبي
عثمان ثم لقي أبا عثمان فسمعه منه أو كان سمعه من أبي عثمان فثبته فيه أبو تميمة وانتزع منه بعضهم
جواز الاعتماد في تحديثهم على خطه ولو لم يتذكر السماع ولا حجة فيه لاحتمال التذكر في هذه
الحالة وقد ذكر ابن الصلاح المسئلة ونقل الخلاف فيها والراجح في الرواية الاعتماد (قوله
باب حسن العهد من الايمان) قال أبو عبيد العهد هنا رعاية الحرمة وقال عياض
هو الاحتفاظ بالشئ والملازمة له وقال الراغب حفظ الشئ ومراعاته حالا بعد حال وعهد الله
تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر ومنه
قوله تعالى ومنهم من عاهد الله وأما لفظ العهد فيطلق بالاشتراك بإزاء معان أخرى منها الزمان
والمكان واليمين والذمة والصحة والميثاق والايمان والنصيحة والوصية والمطر ويقال له العهاد
364

أيضا (قوله عن عائشة رضي الله عنها قالت ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة) قد تقدم
شرحه في ترجمة خديجة من كتاب المناقب وقوله على خديجة يريد من خديجة فأقام على مقام من
وحروف الجر تتناوب في رأي أو على سببية أي بسبب خديجة وقوله فيه ولقد أمره ربه إلى آخره
تقدم شرحه هناك أيضا ولكن أورده هناك من حديث عبد الله بن أبي أوفى وقوله فيه وإن كان
ليذبح الشاة ثم ليهدي في خلتها منها أي من الشاة المذبوحة وزاد في رواية الليث عن هشام
في فضل خديجة ما يسعهن وقد تقدم هناك بيان الاختلاف في ضبط هذه اللفظة وأن مخففة من
الثقيلة وخلتها بضم المعجمة أي خلائلها وقال الخطابي الخلة مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث
والواحد والجماعة تقول رجل خلة وامرأة خلة وقوم خلة ويحتمل أن يكون فيه محذوف تقديره
إلى أهل خلتها أي أهل صداقتها والخلة الصداقة والخليل الصديق (قلت) وقع في رواية مسلم
من هذا الوجه بلفظ ثم نهديها إلى خلائلها وسبق في المناقب من وجه آخر عن هشام بن عروة وإلى
أصدقائها وللبخاري في الأدب المفرد من حديث أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشئ
يقول اذهبوا به إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة * (تنبيه) * جرى البخاري على عادته
في الاكتفاء بالإشارة دون التصريح فإن لفظ الترجمة قد ورد في حديث يتعلق بخديجة رضي الله
عنها أخرجه الحاكم والبيهقي في الشعب من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة
قالت جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أنتم كيف حالكم كيف كنتم بعدنا قالت
بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله فلما خرجت قلت يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الاقبال
فقال يا عائشة أنها كانت تأتينا زمان خديجة وإن حسن العهد من الايمان وأخرجه البيهقي
أيضا من طريق مسلم بن جنادة عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مثله
بمعنى القصة وقال غريب ومن طريق أبي سلمة عن عائشة نحوه وإسناده ضعيف (قوله
باب فضل من يعول يتيما) أي يربيه وينفق عليه (قوله عبد العزيز بن أبي حازم)
أي سلمة بن دينار (قوله أنا وكافل اليتيم) أي القيم بأمره ومصالحه زاد مالك من مرسل صفوان
ابن سليم كافل اليتيم له أو لغيره ووصله البخاري في الأدب المفرد والطبراني من رواية أم سعيد
بنت مرة الفهرية عن أبيها ومعنى قوله له بأن يكون جدا أو عما أو أخا أو نحو ذلك من الأقارب
أو يكون أبوا لمولود قد مات فتقوم أمه مقامه أو ماتت أمه فقام أبوه في التربية مقامها وأخرج
البزار من حديث أبي هريرة موصولا من كفل يتيما ذا قرابة أو لا قرابة له وهذه الرواية تفسر المراد
بالرواية التي قبلها (قوله وأشار بأصبعيه السبابة) في رواية الكشميهني السباحة بمهملة بدل
الموحدة الثانية والسباحة هي الإصبع التي تلي الابهام سميت بذلك لأنها يسبح بها في الصلاة فيشار
بها في التشهد لذلك وهي السبابة أيضا لأنها يسب بها الشيطان حينئذ قال ابن بطال حق على
من سمع هذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ولا منزلة
في الآخرة أفضل من ذلك (قلت) قد تقدم الحديث في كتاب اللعان وفيه وفرج بينهما أي بين
السبابة والوسطى وفيه إشارة إلى أن بين درجة النبي صلى الله عليه وسلم وكافل اليتيم قدر تفاوت
ما بين السبابة والوسطى وهو نظير الحديث الآخر بعثت أنا والساعة كهاتين الحديث وزعم
بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك استوت إصبعاه في تلك الساعة ثم عادتا إلى حالهما
365

الطبيعة الأصلية تأكيدا لأمر كفالة اليتيم (قلت) ومثل هذا لا يثبت بالاحتمال ويكفي في اثبات
قرب المنزلة من المنزلة أنه ليس بين الوسطى والسبابة إصبع أخرى وقد وقع في رواية لام سعيد
المذكورة عند الطبراني معي في الجنة كهاتين يعني المسبحة والوسطى إذ اتقى ويحتمل أن يكون
المراد قرب المنزلة حالة دخول الجنة لما أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفعه أنا أول من يفتح
باب الجنة فإذا امرأة تبادرني فأقول من أنت فتقول أنا امرأة تأيمت على أيتام لي ورواته لا بأس
بهم وقوله تبادرني أي لتدخل معي أو تدخل في أثري ويحتمل أن يكون المراد مجموع الامرين
سرعة الدخول وعلو المنزلة وقد أخرج أبو داود من حديث عوف بن بن مالك رفعه أنا وامرأة
سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة امرأة ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى
ماتوا أو بانوا فهذا فيه قيد زائدة وتقييده في الرواية التي أشرت إليها بقوله اتقى الله أي فيما يتعلق
باليتيم المذكور وقد أخرج الطبراني في المعجم الصغير من حديث جابر قلت يا رسول الله مم أضرب
منه يتيمي قال مم كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله وقد زاد في رواية مالك المذكور حتى
يستغنى عنه فيستفاد منه أن الكفالة المذكورة أمدا قال شيخنا في شرح الترمذي لعل الحكمة
في كون كافل اليتيم يشبه في دخول الجنة أو شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي أو منزلة النبي
لكون النبي شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم فيكون كافلا لهم ومعلما ومرشدا وكذلك
كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه فظهرت
مناسبة ذلك اه‍ ملخصا (قوله باب الساعي على الأرملة) أي في مصالحها ذكر
فيه حديث أبي هريرة موصولا وحديث صفوان بن سليم مرسلا كلاهما من رواية مالك وقد تقدم
شرحه في كتاب النفقات (قوله باب الساعي على المسكين) ذكر فيه حديث
أبي هريرة المذكور قبله مقتصرا عليه دون المرسل ووقع في هذه الرواية كالمجاهد في سبيل الله
وأحسبه قال يشك القعنبي وهو رواية عن مالك كالقائم لا يفتر ولفظ الرواية التي قبلها لإسماعيل
ابن أبي أويس عن مالك كالمجاهد أو كالذي يصوم الحديث وقد تقدم بيان ذلك واضحا في كتاب
النفقات (قوله باب رحمة الناس والبهائم) أي صدور الرحمة من الشخص لغيره
وكأنه أشار إلى حديث ابن مسعود رفعه قال لن تؤمنوا حتى ترحموا قالوا كنا رحيم يا رسول
الله قال إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة الناس رحمة العامة أخرجه الطبراني ورجاله
ثقات وقد ذكر فيه أحاديث * الأول حديث مالك بن الحويرث وفيه وصلوا كما رأيتموني أصلي وقد
سبق شرحه في كتاب الصلاة والغرض منه هنا قوله وكان رقيقا رحيما وهو للأكثر بقافين من الرقة
وللقابسي والأصيلي والكشميهني بفاء ثم قاف من الرفق وقوله شببة بفتح المعجمة والموحدة جمع
شاب مثل بار وبررة وقوله فقال ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم وفي الرواية الأخرى لو رجعتم إلى
أهليكم فعلمتموهم استدل به ابن التين على أن الهجرة قبل الفتح لم تكن واجبة على الأعيان بل
على البعض وفيه نظر ومن أين له أن وفود مالك ومن معه كان قبل الفتح وقوله وصلوا كما رأيتموني
366

أصلي حكى ابن التين عن الداودي أنه فيه دلالة على إمامة الصبيان وزيفه فأجاد * الحديث
الثاني حديث أبي هريرة في كل ذات كبد رطبة أجر وفيه قصة الرجل الذي سقى الكلب وقد تقدم
شرحه في أواخر كتاب الشرب قبيل كتاب الاستقراض والرطوبة هنا كناية عن الحياة وقيل
إن الكبد إذا ظمئت ترطبت بدليل أنها إذا ألقيت في النار ظهر منها الرشح والسبب في ذلك أن النار
تخرج منها رطوبتها إلى خارج وقد تقدم في بدء الخلق أن القصة المذكورة وقع نحوها لامرأة
وحمل على التعدد * الحديث الثالث حديث أبي هريرة أيضا في قصة الأعرابي الذي قال اللهم
ارحمني ومحمدا وقد تقدمت الإشارة إليه في كتاب الوضوء وأنه الذي بال في المسجد وأنه
ذو الخويصرة اليماني وقيل الأقرع بن حابس وأخرج ابن ماجة وصححه ابن حبان من وجه آخر
عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال دخل الأعرابي المسجد فقال اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لاحد
معنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد احتظرت واسعا ثم تنحى الأعرابي فبال في ناحية المسجد
الحديث (قوله لقد حجرت واسعا يريد رحمة الله) حجرت بمهملة ثم جيم ثقيلة ثم راء أي ضيقت
وزنا ومعنى ورحمة الله واسعة كما قال تعالى واتفقت الروايات على أن حجرت بالراء لكن نقل ابن
التين أنها في رواية أبي ذر بالزاي قال وهما بمعنى والقائل يريد رحمة الله بعض رواته وكأنه
أبو هريرة قال ابن بطال أنكر صلى الله عليه وسلم على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه وقد
أثنى الله تعالى على من فعل خلاف ذلك حيث قال والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان وقوله في الرواية الأخرى احتظرت بحاء مهملة وظاء مشالة
بمعنى امتنعت مأخوذ من الحظار بكسر أوله وهو الذي يمنع ما وراءه * الحديث الرابع (قوله
زكريا) هو ابن أبي زائدة وعامر هو الشعبي (قوله ترى المؤمنين في تراحمهم) قال ابن أبي جمرة
المراد من يكون إيمانه كاملا (قوله وتوادهم) بتشديد الدال والأصل التوادد فأدغم والتوادد
تفاعل من المودة والود والوداد بمعنى وهو تقرب شخص من آخر بما يحب (قوله وتعاطفهم)
قال ابن أبي جمرة الذي يظهر أن التراحم والتوادد والتعاطف وإن كانت متقاربة في المعنى لكن
بينها فرق لطيف فأما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضا بأخوة الايمان لا بسبب شئ آخر وأما
التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي وأما التعاطف فالمراد به إعانة
بعضهم بعضا كما يعطف الثوب عليه ليقويه اه‍ ملخصا ووقع في رواية الأعمش عن الشعبي
وخيثمة فرقهما عن النعمان عند مسلم المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر
الجسد بالحمى والسهر وفي رواية خيثمة اشتكى وان اشتكى رأسه كله (قوله كمثل الجسد)
أي بالنسبة إلى جميع أعضائه ووجه التشبيه فيه التوافق في التعب والراحة (قوله تداعى)
أي دعا بعضه بعضا إلى المشاركة في الألم ومنه قولهم تداعت الحيطان أي تساقطت أو كادت
(قوله بالسهر والحمى) أما السهر فلان الألم يمنع النوم وأما الحمى فلان فقد النوم يثيرها وقد
عرف أهل الحذق الحمى بأنها حرارة غريزية تشتعل في القلب فتشب منه في جميع البدن فتشتعل
اشتعالا يضر بالافعال الطبيعية قال القاضي عياض فتشبيه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل
صحيح وفيه تقريب للفهم وإظهار للمعاني في الصور المرئية وفيه تعظيم حقوق المسلمين والحض على
تعاونهم وملاطفة بعضهم بعضا وقال ابن أبي جمرة شبة صلى الله عليه وسلم الايمان بالجسد وأهله
367

بالأعضاء لان الايمان أصل وفروعه التكاليف فإذا أخل المرء بشئ من التكاليف شأن ذلك
الاخلال الأصل وكذلك الجسد أصل كالشجرة وأعضاؤه كالأغصان فإذا اشتكى عضو من الأعضاء
اشتكت الأعضاء كلها كالشجرة إذا ضرب غصن من أغصانها اهتزت الأغصان كلها بالتحرك
والاضطراب * الحديث الخامس حديث أنس ما من مسلم غرس غرسا تقدم شرحه في المزارعة
وقوله أو دابة إن كان مأخوذا من دب على الأرض فهو من عطف العام على الخاص وإن كان
المراد الدابة في العرف فهو من عطف جنس على جنس وهو الظاهر هنا قال ابن أبي جمرة يدخل
الغارس في عموم قوله إنسان فإن فضل الله واسع وفيه التنويه بقدر المؤمن وأنه يحصل له الاجر
وإن لم يقصد إليه عينا وفيه الترغيب في التصرف على لسان المعلم والحض على التزام طريق
المصلحين والارشاد إلى ترك المقاصد الفاسدة والترغيب في المقاصد الصالحة الداعية إلى تكثير
الثواب وأن تعاطي الأسباب التي اقتضتها الحكمة الربانية من عمارة هذه الدار لا ينافي العبادة
ولا طريق الزهد ولا التوكل وفيه التحريض على تعلم السنة ليعلم المرء ماله من الخير فيرغب فيه لان
مثل هذا الفضل المذكور في الغرس لا يدرك إلا من طريق السنة وفيه إشارة إلى أن المرء قد يصل
إليه من الشر ما لم يعمل به ولا قصد إليه فيحذر من ذلك لأنه لما جاز حصول هذا الخير بهذا الطريق
جاز حصول مقابله اه‍ ملخصا * الحديث السادس حديث جرير (قوله عمر بن حفص) أي ابن
غياث والسند كله كوفيون (قوله من لا يرحم لا يرحم) تقدم هذا المتن في أثناء حديث أبي هريرة في
باب رحمة الولد ووقع في حديث جرير في رواية لمسلم من لا يرحم الناس لا يرحمه الله وهو عند الطبراني
بلفظ من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء وله من حديث ابن مسعود رفعه أرحم من في
الأرض يرحمك من في السماء ورواته ثقات وهو في حديث عبد الله بن عمر وعند أبي داود والترمذي
والحاكم بلفظ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء وهذا الحديث قد اشتهر بالمسلسل
بالأولية وفي حديث الأشعث بن قيس عند الطبراني في الأوسط من لم يرحم المسلمين لم يرحمه الله قال
ابن بطال فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر والبهائم المملوك
منها وغير المملوك ويدخل في الرحمة التعاهد بالاطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي
بالضرب وقال ابن أبي جمرة يحتمل أن يكون المعنى من لا يرحم غيره بأي نوع من الاحسان لا يحصل
له الثواب كما قال تعالى هل جزاء الاحسان إلا الاحسان ويحتمل أن يكون المراد من لا يكون فيه
رحمة الايمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه
لا يرحمه الله لأنه ليس له عنده عهد فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال والثانية بمعنى الجزاء أي
لا يثاب إلا من عمل صالحا ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة والثانية البلاء أي لا يسلم من البلاء
إلا من تصدق أو من لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقا أو لا ينظر الله بعين
الرحمة إلا لمن جعل في قلبه الرحمة ولو كان عمله صالحا اه‍ ملخصا قال وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه
في هذه الأوجه كلها فما قصر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه (قوله باب
الوصاءة بالجار) بفتح الواو وتخفيف الصاد المهملة مع المد لغة في الوصية وكذا الوصاية بإبدال الهمزة
ياء وهما بمعنى لكن الأول من أوصيت والثاني من وصيت * (تنبيه) * وقع في شرح شيخنا ابن
الملقن هنا بسملة وبعدها كتاب البر والصلة ولم أر ذلك في شئ من الروايات التي اتصلت لنا ويؤيد
368

ما عندنا أن أحاديث صلة الرحم تقدمت وأحاديث بر الوالدين قبلها والوصية بالجار وما يتعلق بها
ذكرت هنا وتلاها باقي أبواب الأدب وقوله هنا بعد الباب واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
يؤيد ذلك لأنه بوب على ترتيب ما في هذه الآية فبدأ ببر الوالدين وثنى بذي القربى وثلث بالجار
وربع بالصاحب ولم يقع ذلك أيضا في مستخرج الإسماعيلي ولا أبي نعيم (قوله وقول الله تعالى
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الآية) كذا لأبي ذر وللباقين بعد قوله
إحسانا إلى قوله مختالا فخورا وللنسفي وقوله تعالى وبالوالدين إحسانا الآية والمراد من هذه الآية
هنا قوله تعالى والجار ذي القربى والجار الجنب وثبت للنسفي البسملة قبل الباب وكأنه للانتقال
إلى نوع غير الذي قبله ورأيت في شرح شيخنا سراج الدين بن الملقن كتاب البر والصلة ولم أره لغيره
والجار القريب من بينهما قرابة والجار الجنب بخلافه وهذا قول الأكثر وأخرجه الطبري بسند
حسن عن ابن عباس وقيل الجار القريب المسلم والجار الجنب غيره وأخرجه أيضا الطبري عن
نوف البكالي أحد التابعين وقيل الجار القريب المرأة والجنب الرقيق في السفر ثم ذكر فيه حديثين
* الأول حديث عائشة (قوله أبو بكر بن محمد) أي ابن عمرو بن حزم وعمرة هي أمه والسند كله
كوفيون وفيه ثلاثة من التابعين في نسق وقد سمع يحيى بن سعيد وهو الأنصاري من عمرة كثيرا
وربما دخل بينهما واسطة مثل هذا وروايته عن أبي بكر المذكور من الاقران (قوله ما زال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره واختلف في المراد
بهذا التوريث فقيل يجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب وقيل المراد أن ينزل
منزلة من يرث بالبر والصلة والأول أظهر فإن الثاني استمر والخبر مشعر بأن التوريث لم يقع ويؤيده
ما أخرجه البخاري من حديث جابر نحو حديث الباب بلفظ حتى ظننت أنه يجعل له ميراثا وقال
ابن أبي جمرة الميراث على قسمين حسي ومعنوي فالحس هو المراد هنا والمعنوي ميراث العلم ويمكن
أن يلحظ هنا أيضا فإن من حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه والله أعلم واسم الجار يشمل
المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والغريب والبلدي والنافع والضار والقريب
والأجنبي والأقرب دارا والابعد وله مراتب بعضها أعلا من بعض فأعلاها من اجتمعت فيه
الصفات الأول كلها ثم أكثرها وهلم جرا إلى الواحد وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى
كذلك فيعطي كل حقه بحسب حاله وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي وقد
حمله عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدي منها لجاره
اليهودي أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وحسنه وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرته
في حديث مرفوع أخرجه الطبراني من حديث جابر رفعه الجيران ثلاثة جار له حق وهو المشرك
له حق الجوار وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الاسلام وجار له ثلاثة حقوق مسلم
له رحم له حق الجوار والاسلام والرحم قال القرطبي الجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار
ويطلق ويراد به المجاور في الدار وهو الأغلب والذي يظهر أن المراد به في الحديث الثاني لان الأول
كان يرث ويورث فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التوريث بين المتعاقدين فقد كان ثابتا
فكيف يترجى وقوعه وإن كان بعد النسخ فكيف يظن رجوعه بعد رفعه فتعين أن المراد به
المجاور في الدار وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة حفظ الجار من كمال الايمان وكان أهل الجاهلية
369

يحافظون عليه ويحصل امتثال الوصية به بايصال ضروب الاحسان إليه بحسب الطاقة
كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه وتفقد حاله ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك
وكف أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه حسية كانت أو معنوية وقد نفى صلى الله عليه
وسلم الايمان عمن لم يأمن جاره بوائقه كما في الحديث الذي يليه وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم
حق الجار وأن إضراره من الكبائر قال ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح
والذي يشمل الجميع إرادة الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الاضرار له إلا في
الموضع الذي يجب فيه الاضرار له بالقول والفعل والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم وغير
الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
ويعظ الكافر بعرض الاسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق ويعظ الفاسق بما
يناسبه بالرفق أيضا ويستر عليه زلله عن غيره وينهاه برفق فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصدا تأديبه
على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف وسيأتي القول في حد الجار في باب حق الجوار قريبا انتهى
ملخصا * الحديث الثاني (قوله عمر بن محمد) أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وذكر لفظه
مثل لفظ حديث عائشة وقد روى هذا المتن أيضا أبو هريرة وهو في صحيح ابن حبان وعبد الله بن
عمرو بن العاص وهو عند أبي داود والترمذي وأبو أمامة وهو عند الطبراني ووقع عنده في حديث
عبد الله بن عمرو أن ذلك كان في حجة الوداع وله في لفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي
بالجار حتى ظننت أنه سيورثه فأفاد أنه وقع لعبد الله بن عمرو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نظير
ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع جبريل ولأحمد من حديث رجل من الأنصار خرجت
أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل مقبل عليه فجلست حتى جعلت أرثي له من طول
القيام فذكرت له ذلك فقال أتدري من هذا قلت لا قال هذا جبريل فذكر مثل حديث ابن عمر
سواء وأخرج عبد بن حميد نحوه من حديث جابر فأفاد سبب الحديث ولم أر في شئ من طرقه بيان
لفظ وصية جبريل إلا أن الحديث يشعر بأنه بالغ في تأكيد حق الجار وقال ابن أبي جمرة يستفاد
من الحديث أن من أكثر من شئ من أعمال البر يرجى له الانتقال إلى ما هو أعلا منه وأن الظن إذا
كان في طريق الخير جاز ولو لم يقع المظنون بخلاف ما إذا كان في طريق الشر وفيه جواز
الطمع في الفضل إذا توالت النعم وفيه جواز التحدث بما يقع في النفس من أمور الخير والله أعلم
(قوله باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه) البوائق بالموحدة والقاف جمع بائقة وهي
الداهية والشئ المهلك والامر الشديد الذي يوافي بغتة (قوله يوبقهن يهلكهن موبقا مهلكا)
هما أثران قال أبو عبيدة في قوله تعالى أو يوبقهن بما كسبوا قال يهلكهن وقال في قوله تعالى
وجعلنا بينهم موبقا أي متوعدا وأخرج أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله تعالى وجعلنا بينهم موبقا أي مهلكا (قوله عن سعيد) هو المقبري ووقع منسوبا غير مسمى
عند الإسماعيلي عن محمد بن يحيى بن سليمان عن عاصم بن علي شيخ البخاري فيه وأخرجه أبو نعيم
من طريق عمر بن حفص ومن طريق إبراهيم الحربي كلاهما عن عاصم بن علي مسمى منسوبا
قال عن سعيد المقبري (قوله عن أبي شريح) هو الخزاعي ووقع كذلك عند أبي نعيم واسمه علي
المشهور خويلد وقيل عمرو وقيل هانئ وقيل كعب (قوله والله لا يؤمن) وقع تكريرها ثلاثا
370

صريحا ووقع عند أحمد والله لا يؤمن ثلاثا وكأنه اختصار من الراوي ولأبي يعلى من حديث
أنس ما هو بمؤمن وللطبراني من حديث كعب بن مالك لا يدخل الجنة ولأحمد نحوه عن أنس
بسند صحيح (قوله قيل يا رسول الله ومن) هذه الواو يحتمل أن تكون زائدة أو استئنافية أو
عاطفة على شئ مقدر أي عرفنا ما المراد مثلا ومن المحدث عنه ووقع لأحمد من حديث ابن مسعود
أنه السائل عن ذلك وذكره المنذري في ترغيبه بلفظ قالوا يا رسول الله لقد خاب وخسر من هو وعزاه
للبخاري وحده وما رأيته فيه بهذه الزيادة ولا ذكرها الحميدي في الجمع (قوله قال الذي لا يأمن جاره
بوائقه) في حديث أنس من لم يأمن وفي حديث كعب من خاف زاد أحمد والإسماعيلي قالوا
وما بوائقه قال شره وعند المنذري هذه الزيادة للبخاري ولم أرها فيه * (تنبيه) * في المتن جناس
بليغ وهو من جناس التحريف وهو قوله لا يؤمن ولا يأمن فالأول من الايمان والثاني من الآمان
(قوله تابعه شبابة وأسد بن موسى) يعني عن ابن أبي ذئب في ذكر أبي شريح فأما رواية شبابة
وهو ابن سوار المدايني فأخرجها الإسماعيلي وأما رواية أسد بن موسى وهو الأموي المعروف بأسد
السنة فأخرجها الطبراني في مكارم الأخلاق (قوله وقال حميد بن الأسود وعثمان بن عمر
وأبو بكر بن عياش وشعيب بن إسحاق عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة) يعني اختلف
أصحاب ابن أبي ذئب عليه في صحابي هذا الحديث فالثلاثة الأول قالوا فيه عن أبي شريح والأربعة
قالوا عن أبي هريرة وقد نقل أبو معين الرازي عن أحمد أن من سمع من ابن أبي ذئب بالمدينة فإنه
يقول عن أبي هريرة ومن سمع منه ببغداد فإنه يقول عن أبي شريح (قلت) ومصداق ذلك أن ابن
وهب وعبد العزيز الدراوردي وأبا عمرو العقدي وإسماعيل بن أبي أويس وابن أبي فديك ومعن بن
عيسى إنما سمعوا من ابن أبي ذئب بالمدينة وقد قالوا كلهم فيه عن أبي هريرة وقد أخرجه الحاكم
من رواية ابن وهب ومن رواية إسماعيل ومن رواية الدراوردي وأخرجه الإسماعيلي من رواية
معن والعقدي وابن أبي فديك وأما حميد بن الأسود وأبو بكر بن عياش اللذان علقه البخاري من
طريقهما فهما كوفيان وسماعهما من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة لما حجا وأما عثمان بن عمر فهو
بصري وقد أخرج أحمد الحديث عنه كذلك وأما رواية شعيب بن إسحاق فهو شامي وسماعه
من ابن أبي ذئب أيضا بالمدينة وقد أخرجه أحمد أيضا عن إسماعيل بن عمر فقال عن أبي هريرة
وإسماعيل واسطي وممن سمعه ببغداد من ابن أبي ذئب يزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي وحجاج
ابن محمد وروح ابن عبادة وآدم بن أبي إياس وقد قالوا كلهم عن أبي شريح وهو في مسند
الطيالسي كذلك وعند الإسماعيلي من رواية يزيد وعند الطبراني من رواية آدم وعند أحمد من
رواية حجاج وروح بن عبادة ويزيد واسطي سكن بغداد وأبو داود وروح بصريان وحجاج بن
محمد مصيصي وآدم عسقلاني وكانوا كلهم يقدمون بغداد ويطلبون بها الحديث وإذا تقرر ذلك
فالأكثر قالوا فيه عن أبي هريرة فكان ينبغي ترجيحهم ويؤيده أن الراوي إذا حدث في بلده
كان أتقن لما يحدث به في حال سفره ولكن عارض ذلك أن سعيدا المقبري مشهور بالرواية عن
أبي هريرة فمن قال عنه عن أبي هريرة سلك الجادة فكانت مع من قال عنه عن أبي شريح زيادة
علم ليست عند الآخرين وأيضا فقد وجد معنى الحديث من رواية الليث عن سعيد المقبري عن
أبي شريح كما سيأتي بعد باب فكانت فيه تقوية لمن رآه عن ابن أبي ذئب فقال فيه عن أبي شريح
371

ومع ذلك فصنيع البخاري يقتضي تصحيح الوجهين وإن كانت الرواية عند أبي شريح أصح
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة ذاهلا عن الذي أورده البخاري بل وعن
تخريج مسلم له من وجه آخر عن أبي هريرة فقال بعد تخريجه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
بهذا اللفظ وإنما أخرجاه من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ لا يدخل الجنة من
لا يأمن جاره بوائقه وتعقبه شيخنا في أماليه بأنهما لم يخرجا طريق أبي الزناد ولا واحد منهما
وإنما أخرج مسلم طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة باللفظ الذي ذكره الحاكم
(قلت) وعلى الحاكم تعقب آخر وهو أن مثل هذا لا يستدرك لقرب اللفظين في المعنى قال ابن
بطال في هذا الحديث تأكيد حق الجار لقسمه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتكريره اليمين ثلاث
مرات وفيه نفى الايمان عمن يؤذي جاره بالقول أو الفعل ومراده الايمان الكامل ولا شك
أن العاصي غير كامل الايمان وقال النووي عن نفي الايمان في مثل هذا جوابان أحدهما أنه في
حق المستحل والثاني أن معناه ليس مؤمنا كاملا اه‍ ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يجازى
مجازاة المؤمن بدخول الجنة من أول وهلة مثلا أو أن هذا خرج مخرج الزجر والتغليظ وظاهره
غير مراد والله أعلم وقال ابن أبي جمرة إذا أكد حق الجار مع الحائل بين الشخص وبينه وأمر
بحفظه وإيصال الخير إليه وكف أسباب الضرر عنه فينبغي له أن يراعي حق الحافظين اللذين ليس
بينه وبينهما جدار ولا حائل فلا يؤذيهما بإيقاع المخالفات في مرور الساعات فقد جاء أنهما
يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما
بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية فهما أولى برعاية الحق من كثير من
الجيران اه‍ ملخصا (قوله باب لا تحقرن جارة لجارتها) كذا حذف المفعول
اكتفاء بشهرة الحديث وأورد فيه حديث أبي هريرة في ذلك واتفق أن هذا الحديث ورد من
طريق سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة والحديث قبله من طريق سعيد المقبري عن أبي
هريرة ليس بينهما واسطة وكل من الطريقين صحيح لان سعيدا أدرك أبا هريرة وسمع منه أحاديث
وسمع من أبيه عن أبي هريرة أشياء كان يحدث بها تارة عن أبي هريرة بلا واسطة وقد ذكر البخاري
بعضها وبين الاختلاف على سعيد فيها وهي محمولة على أنه سمعها من أبي هريرة واستثبت أباه فيها
فكان يحدث بها تارة عن أبيه عن أبي هريرة وتارة عنه بلا واسطة ولم يكن مدلسا وإلا لحدث
بالجميع عن أبي هريرة والله أعلم وبقية المتن ولو فرسن شاة بكسر الفاء وسكون الراء وكسر
المهملة ثم نون حافر الشاة وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الهبة والكلام على إعراب يا نساء
المسلمات وحاصله إن فيه اختصارا لان المخاطبين يعرفون المراد منه أي لا تحقرن أن تهدى إلى
جارتها شيئا ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشئ
أمر بضده وهو كناية عن التحابب والتوادد فكأنه قال لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت
فيتساوى في ذكر الغني والفقير وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء ولأنهن
أسرع انفعالا في كل منهما وقال الكرماني يحتمل أن يكون النهي للمعطية ويحتمل أن يكون
للمهدي إليها (قلت) ولا يتم حمله على المهدي إليها إلا بجعل اللام في قوله لجارتها بمعنى من ولا
يمتنع حمله على المعنيين (قوله باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)
372

ذكر فيه حديثا لأبي هريرة في ذلك وآخر لأبي شريح (قوله أبو الأحوص) هو سلام بالتشديد ابن
سليم وأبو حصين بفتح أوله هو عثمان بن عاصم وأبو صالح هو ذكوان (قوله من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر) المراد بقوله يؤمن الايمان الكامل وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ
والمعاد أي من آمن بالله الذي خلقه وآمن بأنه سيجازيه بعمله فليفعل الخصال المذكورات (قوله
فلا يؤذ جاره) في حديث أبي شريح فليكرم جاره وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة من طريق
الأعمش عن أبي صالح بلفظ فليحسن إلى جاره وقد ورد تفسير الاكرام والاحسان للجار وترك أذاه
في عدة أحاديث أخرجها الطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والخرائطي في مكارم الأخلاق
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ من حديث
معاذ بن جبل قالوا يا رسول الله ما حق الجار على الجار قال إن استقرضك أقرضته وإن استعانك
أعنته وإن مرض عدته وإن احتاج أعطيته وإن افتقر عدت عليه وإن أصابه خير هنيته وإن
أصابته مصيبة عزيته وإذا مات اتبعت جنازته ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح
إلا بإذنه ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له وإن اشتريت فاكهة فأهد له وإن لم تفعل
فأدخلها سرا ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده وألفاظهم متقاربة والسياق أكثره لعمرو بن
شعيب وفي حديث بهز بن حكيم وإن أعوز سترته وأسانيدهم واهية لكن اختلاف مخارجها
يشعر بأن للحديث أصلا ثم الامر بالاكرام يختلف باختلاف الاشخاص والأحوال فقد يكون
فرض عين وقد يكون فرض كفاية وقد يكون مستحبا ويجمع الجميع أنه من مكارم الاخلاف
(قوله ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) زاد في حديث أبي شريح جائزته (1)
قال وما جائزته يا رسول الله قال يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام الحديث وسيأتي شرحه بعد نيف
وخمسين بابا في باب إكرام الضيف إن شاء الله تعالى (قوله ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيرا أو ليصمت) بضم الميم ويجوز كسرها وهذا من جوامع الكلم لان القول كله إما
خير وإما شر وإما آيل إلى أحدهما فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها فأذن فيه
على اختلاف أنواعه ودخل ما يؤل إليه وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤل إلى الشر فأمر عند
إرادة الخوض فيه بالصمت وقد أخرج الطبراني والبيهقي في الزهد من حديث أبي أمامة نحو
حديث الباب بلفظ فليقل خيرا ليغنم أو ليسكت عن شر ليسلم واشتمل حديث الباب من الطريقين
على أمور ثلاثة تجمع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية أما الأولان فمن الفعلية وأولهما يرجع
إلى الامر بالتخلي عن الرذيلة والثاني يرجع إلى الامر بالتحلي بالفضيلة وحاصله من كان حامل
الايمان فهو متصف بالشفقة على خلق الله قولا بالخير وسكوتا عن الشر وفعلا لما ينفع أو تركا لما
يضر وفي معنى الامر بالصمت عدة أحاديث منها حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو بن
العاص المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه وقد تقدما في كتاب الايمان وللطبراني عن ابن
مسعود قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل فذكر فيها أن يسلم المسلمون من لسانك ولأحمد
وصححه ابن حبان من حديث البراء رفعه في ذكر أنواع من البر قال فإن لم تطق ذلك فكف لسانك
إلا من خير وللترمذي من حديث ابن عمر من صمت نجا وله من حديثه كثرة الكلام بغير ذكر الله
تقسي القلب وله من حديث سفيان الثقفي قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي قال هذا
373

وأشار إلى لسانه وللطبراني مثله من حديث الحرث بن هشام وفي حديث معاذ عند أحمد
والترمذي والنسائي أخبرني بعمل يدخلني الجنة فذكر الوصية بطولها وفي آخرها ألا أخبرك بملاك ذلك كله
كف عليك هذا وأشار إلى لسانه الحديث وللترمذي من حديث عقبة بن عامر قلت يا رسول الله
ما النجاة قال أمسك عليك لسانك (قوله باب حق الجوار في قرب الأبواب) ذكر فيه
حديث عائشة قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما منك بابا وقد
تقدم الكلام على سنده مستوفى في كتاب الشفعة وقوله أقربهما أي أشدهما قربا قيل الحكمة
فيه أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوف لها بخلاف الابعد وأن
الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره من المهمات ولا سيما في أوقات الغفلة وقال ابن أبي جمرة
الاهداء إلى الأقرب مندوب لان الهدية في الأصل ليست واجبة فلا يكون الترتيب فيها واجبا
ويؤخذ من الحديث أن الاخذ في العمل بما هو أعلا أولى وفيه تقديم العلم على العمل واختلف
في حد الجوار فجاء عن علي رضي الله عنه من سمع النداء فهو جار وقيل من صلى معك صلاة الصبح
في المسجد فهو جار وعن عائشة حد الجوار أربعون دارا من كل جانب وعن الأوزاعي مثله
وأخرج البخاري في الأدب المفرد مثله عن الحسن وللطبراني بسند ضعيف عن كعب بن مالك
مرفوعا ألا إن أربعين دارا جار وأخرج ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أربعون دارا عن يمينه
وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه وهذا يحتمل كالأولى ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون
من كل جانب عشرة (قوله باب كل معروف صدقة) أورد فيه حديث جابر بهذا
اللفظ وقد أخرج مسلم من حديث حذيفة وقد أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق عبد الحميد
ابن الحسن الهلالي عن ابن المنكدر مثله وزاد في آخره وما أنفق الرجل على أهله كتب له به صدقة
وما وقى به المرء عرضه فهو صدقة وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن المنكدر
عن أبيه كالأول وزاد ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تلقى من دلوك في اناء أخيك
قال ابن بطال دل هذا الحديث على أن كل شر يفعله المرء أو يقوله من الخير يكتب له به صدقة وقد
فسر ذلك في حديث أبي موسى المذكور في الباب بعد حديث جابر وزاد عليه أن الامساك عن
الشر صدقة وقال الراغب المعروف اسم كل فعل يعرف حسنة بالشرع والعقل معا ويطلق
على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف وقال ابن أبي جمرة يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة
الشرع أنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا قال والمراد بالصدقة الثواب فإن قارنته النية
أجر صاحبه جزما وإلا ففيه احتمال قال وفي هذا الكلام إشارة إلى أن الصدقة لا تنحصر في الامر
المحسوس منه فلا تختص بأهل اليسار مثلا بل كل واحد قادر على أن يفعلها في أكثر الأحوال
بغير مشقة وقوله على كل مسلم صدقة أي في مكارم الأخلاق وليس ذلك بفرض إجماعا قال ابن
بطال وأصل الصدقة ما يخرجه المرء من ماله متطوعا به وقد يطلق على الواجب لتحري صاحبه
الصدق بفعله ويقال لكل ما يحابي به المرء من حقه صدقة لأنه تصدق بذلك على نفسه (قوله فإن لم
يجد) أي ما يتصدق به (قال فيعمل بيديه) قال ابن بطال فيه التنبيه على العمل والتكسب
ليجد المرء ما ينفق على نفسه ويتصدق به ويغنيه على ذل السؤال وفيه الحث على فعل الخير مهما
أمكن وأن من قصد شيئا منها فتعسر فلينتقل إلى غيره (قوله فإن لم يستطع أو لم يفعل) هو شك من
374

الراوي (قوله فيعين ذا الحاجة الملهوف) أي بالفعل أو بالقول أبهما (قوله فإن لم يفعل) أي
عجزا أو كسلا (قوله فليأمر بالخير أو قال بالمعروف) هو شك من الراوي أيضا (قوله فإن لم يفعل
قال فليمسك عن الشر الخ) قال ابن بطال فيه حجة لمن جعل الترك عملا وكسبا للعبد خلافا لمن قال
من المتكلمين أن الترك ليس بعمل ونقل عن المهلب أنه مثل الحديث الآخر من هم بسيئة فلم
يعملها كتبت له حسنة (قلت) وسيأتي الكلام على شرح هذا الحديث في كتاب الرقاق أن
الحسنة إنما تكتب لمن هم بالسيئة فلم يعملها إذا قصد بتركها الله تعالى وحينئذ فيرجع إلى
العمل وهو فعل القلب وقد مضى هذا مع شرح الحديث مستوفى في كتاب الزكاة واستدل
بظاهر الحديث الكعبي لقوله ليس في الشرع شئ يباح بل إما أجر وإما وزر فمن اشتغل بشئ عن
المعصية فهو مأجور عليه قال ابن التين والجماعة على خلافه وقد ألزموه أن يجعل الزاني مأجورا
لأنه يشتغل به عن غيره من المعصية (قلت) ولا يرد هذا عليه لأنه إنما أراد الاشتغال بغير المعصية
نعم يمكن أن يرد عليه ما لو اشتغل بعمل صغيرة عن كبيرة كالقبلة والمعانقة عن الزنا وقد لا يرد عليه
أيضا لان الذي يظهر أنه يريد الاشتغال بشئ مما لم يرد النص بتحريمه (قوله باب
طيب الكلام) أصل الطيب ما تستلذه الحواس ويختلف باختلاف متعلقة قال ابن بطال طيب
الكلام من جليل عمل البر لقوله تعالى ادفع بالتي هي أحسن الآية والدفع قد يكون بالقول كما
يكون بالفعل (قوله وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة صدقة) هو
طرف من حديث أورده المصنف موصولا في كتاب الصلح وفي كتاب الجهاد وقد تقدم الكلام عليه
هناك في باب من أخذ بالركاب قال ابن بطال وجه كون الكلمة الطيبة صدقة أن إعطاء المال
يفرح به قلب الذي يعطاه ويذهب ما في قلبه وكذلك الكلام الطيب فاشتبها من هذه الحيثية ثم
ذكر حديث عدي بن حاتم وفيه اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقوله أخبرني
عمرو كذا لهم وهو ابن مرة وقد تقدم الحديث من طريق شعبة عنه في كتاب الزكاة مع شرحه
وخيثمة شيخ عمرو هو ابن عبد الرحمن وتقدم الحديث مبسوطا في علامات النبوة (قوله
باب الرفق في الامر كله) الرفق بكسر الراء وسكون الفاء بعدها قاف هو لين الجانب
بالقول والفعل والاخذ بالأسهل وهو ضد العنف وذكر فيه حديثين * أحدهما حديث عائشة
في قصة اليهود لما قالوا السام عليكم وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الاستئذان وقوله إن الله
يحب الرفق في الامر كله في حديث عمرة عن عائشة عند مسلم أن الله رفيق يحب الرفق ويعطي
على الرفق ما لا يعطي على العنف والمعنى أنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده وقيل المراد
يثيب عليه ما لا يثيب على غيره والأول أوجه وله في حديث شريح بن هانئ عنها أن الرفق
لا يكون في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إلا شانه وفي حديث أبي الدرداء من أعطى حظه من الرفق
فقد أعطى حظه من الخير الحديث وأخرجه الترمذي وصححه وابن خزيمة وفي حديث جرير عند
مسلم من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقوله فيه عن صالح هو ابن كيسان * ثانيهما حديث أنس في
قصة الذي بال في المسجد وقد تقدم مشروحا في كتاب الطهارة وقوله لا تزرموه بضم أوله وسكون
الزاي وكسر الراء من الازرام أي لا تقطعوا عليه بوله يقال زرم البول إذا انقطع وأزرمته قطعته
375

وكذلك يقال في الدمع (قوله باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضا) بجر بعضهم على
البدل ويجوز الضم (قوله سفيان) هو الثوري وبريد بن أبي بردة بموحدة وراء مصغر هو ابن
عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى نسب لجده وكنية بريد أبو بردة أيضا وقد أخرجه النسائي من
طريق يحيى القطان حدثنا سفيان حدثني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة فذكره (قوله المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) اللام فيه للجنس والمراد بعض المؤمنين للبعض وقوله يشد
بعضه بعضا بيان لوجه التشبيه وقال الكرماني نصب بعضا بنزع الخافض وقال غيره بل هو
مفعول يشد (قلت) ولكل وجه قال ابن بطال والمعاونة في أمور الآخرة وكذا في الأمور
المباحة من الدنيا مندوب إليها وقد ثبت حديث أبي هريرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون
أخيه (قوله ثم شبك بين أصابعه) هو بيان لوجه التشبيه أيضا أي يشد بعضهم بعضا مثل
هذا الشد ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته ليكون أوقع في
نفس السامع (قوله وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة
أقبل بوجهه فقال اشفعوا) هكذا وقع في النسخ من رواية محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان
الثوري وفي تركيبه قلق ولعله كان في الأصل كان إذا كان جالسا إذا جاء رجل إلى آخره فحذف
اختصارا أو سقط على الراوي لفظ إذا كان على أنني تتبعت ألفاظ الحديث من الطرق فلم أره في
شئ منها بلفظ جالسا وقد أخرجه أبو نعيم من رواية إسحق بن زريق عن الفريابي بلفظ كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طالب الحاجة أقبل علينا بوجهه الحديث وهذا
السياق لا إشكال فيه وأخرجه النسائي من طريق يحيى القطان عن سفيان مختصر اقتصر على
قوله اشفعوا تؤجروا الخ وأخرجه الإسماعيلي من رواية عمر بن علي المقدمي عن سفيان الثوري
لكنه جعله كله من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اني أوتي
فأسأل أو تطلب إلى الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا الحديث وقد أخرجه المصنف في الباب الذي
يليه من رواية أبي أسامة عن بريد ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه السائل
أو صاحب الحاجة ومن هذا الوجه أخرجه مسلم وتقدم في الزكاة من رواية عبد الواحد بن
زياد عن بريد بلفظ كان إذا جاءه السائل أو طلبت إليه الحاجة وكذا أخرجه مسلم من رواية علي
ابن مسهر وحفص بن غياث كلاهما عن بريد بلفظ كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه
فقال فذكره (قوله فلتؤجروا) كذا للأكثر وفي رواية كريمة تؤجروا وقال القرطبي وقع في
أصل مسلم اشفعوا تؤجروا بالجزم على جواب الامر المضمن معنى الشرط وهو واضح وجاء بلفظ
فلتؤجروا وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة لأنها لام كي وتكون الفاء زائدة كما زيدت
في حديث قوموا فلأصلي لكم ويكون معنى الحديث اشفعوا كي تؤجروا ويحتمل أن تكون لام
الامر والمأمور به التعرض للاجر بالشفاعة فكأنه قال اشفعوا فتعرضوا بذلك للاجر وتكسر
هذه اللام على أصل لام الامر ويجوز تسكينها تخفيفا لأجل الحركة التي قبلها (قلت) ووقع
في رواية أبي داود اشفعوا لتؤجروا وهو يقوي أن اللام للتعليل وجوز الكرماني أن تكون الفاء
سببية واللام بالكسر وهي لام كي وقال جاز اجتماعهما لأنهما لأمر واحد ويحتمل أن تكون
جزائية جوابا للامر ويحتمل أن تكون زائدة على رأي أو عاطفة على اشفعوا واللام لام الامر
376

أو على مقدر أي اشفعوا لتؤجروا فلتؤجر أو لفظ اشفعوا تؤجروا في تقدير ان تشفعوا تؤجروا
والشرط يتضمن السببية فإذا أتى باللام وقع التصريح بذلك وقال الطيبي الفاء واللام زائدتان
للتأكيد لأنه لو قيل اشفعوا تؤجروا صح أي إذا عرض المحتاج حاجته فاشفعوا له إلي فإنكم
إن شفعتم حصل لكم الاجر سواء قبلت شفاعتكم أم لا ويجري الله على لسان نبيه ما شاء أي
من موجبات قضاء الحاجة أو عدمها أي ان قضيتها أو لم أقضها فهو بتقدير الله تعالى وقضائه
* (تنبيه) * وقع في حديث عن ابن عباس سنده ضعيف رفعه من سعى لأخيه المسلم في حاجة
قضيت له أو لم تقض غفر له (قوله وليقض الله على لسان نبيه ما شاء) كذا ثبت في هذه الرواية
وليقض باللام وكذا في رواية أبي أسامة التي بعدها للكشميهني فقط وللباقين ويقضي بغير لام
وفي رواية مسلم من طريق علي بن مسهر وحفص بن غياث فليقض أيضا قال القرطبي لا يصح أن
تكون هذه اللام لام الامر لان الله لا يؤمر ولا لام كي لأنه ثبت في الرواية وليقض بغير ياء مد ثم
قال يحتمل أن تكون بمعنى الدعاء أي اللهم أقض أو الامر هنا بمعنى الخير وفي الحديث الحض على
الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف
إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس ولا التمكن منه ليلج عليه أو يوضح له مراده ليعرف
حاله على وجهه وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب قال عياض ولا يستثنى من الوجوه التي
تستحب الشفاعة فيها إلا الحدود وإلا فما لاحد فيه تجوز الشفاعة فيه ولا سيما ممن وقعت منه
الهفوة أو كان من أهل الستر والعفاف قال وأما المصرون على فسادهم المشتهرون في باطلهم فلا
يشفع فيهم ليزجروا عن ذلك (قوله باب قول الله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن
له نصيب منها) كذا لأبي ذر وساق غيره إلى قوله مقيتا وقد عقب المصنف الحديث المذكور قبله
بهذه الترجمة إشارة إلى أن الاجر على الشفاعة ليس على العموم بل مخصوص بما تجوز فيه
الشفاعة وهي الشفاعة الحسنة وضابطها ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه كما دلت عليه
الآية وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن مجاهد قال هي في شفاعة الناس بعضهم لبعض وحاصله
أن من شفع لاحد في الخير كان له نصيب من الاجر ومن شفع له بالباطل كان له نصيب من الوزر وقيل
الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمن والسيئة الدعاء عليه (قوله كفل نصيب) هو تفسير أبي عبيدة
وقال الحسن وقتادة الكفل الوزر والاثم وأراد المصنف أن الكفل يطلق ويراد به النصيب ويطلق
ويراد به الاجر وأنه في آية النساء بمعنى الجزاء وفي آية الحديد بمعنى الاجر ثم ذكر حديث أبي موسى
وقد أشرت إلى ما فيه في الذي قبله ووقع فيه إذا أتاه صاحب الحاجة وعند الكشميهني صاحب
حاجة (قوله قال أبو موسى كفلين أجرين بالحبشية) وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحق
عن أبي الأحوص عن أبي موسى الأشعري في قوله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته قال ضعفين
بالحبشية أجرين (قوله باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا)
كذا للأكثر وللكشميهني ولا متفحشا بالتشديد كما في لفظ حديث عبد الله بن عمر وفي الباب ووقع
في بعضها بلفظ متفاحشا والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح ويدخل في القول والفعل
والصفة يقال طويل فاحش الطول إذا أفرط في طوله لكن استعماله في القول أكثر والمتفحش
بالتشديد الذي يتعمد ذلك ويكثر منه ويتكلفه وأغرب الداودي فقال الفاحش الذي يقول
377

الفحش والمتفحش الذي يستعمل الفحش ليضحك الناس ذكر فيه أربعة أحاديث * الحديث
الأول حديث عبد الله بن عمر وأورده من طريق شعبة عن سليمان وهو الأعمش سمعت أبا وائل
ومن طريق جرير عن الأعمش عن شقيق بن سلمة وهو أبو وائل المذكور وقد تقدم المتن بتمامه
في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء في معناه وفيه أيضا قوله إن من خيركم أحسنكم أخلاقا
ووقع هنا للكشميهني أن خيركم وتبين بالرواية الأخرى أن من مرادة فيه ووقع للأكثر أخيركم
بوزن أفضلكم ومعناه وهي على الأصل والرواية الأخرى بمعناها يقال فلان خير من فلان أي
أفضل منه وقد أخرج أحمد والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أسامة رفعه ان الله لا يحب كل
فحاش متفحش * الحديث الثاني حديث عائشة في قصة اليهود وقد تقدم قريبا في باب الرفق وأن
شرحه يأتي في الاستئذان ووقع هنا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش وقد حكى
عياض عن بعض شيوخه أن عين العنف مثلثة والمشهور ضمها * الحديث الثالث حديث أنس
(قوله سبابا) بالمهملة وموحدتين الأولى ثقيلة (قوله كان يقول لاحدنا عند المعتبة) بفتح الميم
وسكون المهملة وكسر المثناة الفوقية ويجوز فتحها بعدها موحدة وهي مصدر عتب عليه يعتب
عتبا وعتابا ومعتبة ومعاتبة قال الخليل العتاب مخاطبة الا دلال ومذاكرة الموجدة (قوله ما له
ترب جبينه) قال الخطابي يحتمل أن يكون المعنى خر لوجهه فأصاب التراب جبينه ويحتمل أن
يكون دعاء له بالعبادة كأن يصلي فيترب جبينه والأول أشبه الان الجبين لا يصلي عليه قال ثعلب
الجبينان يكتنفان الجبهة ومنه قوله تعالى وتله للجبين أي ألقاه على جبينه (قلت) وأيضا فالثاني
بعيد جدا لأن هذه الكلمة استعملها العرب قبل أن يعرفوا وضع الجبهة بالأرض في الصلاة
وقال الداودي قوله ترب جبينه كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم وهي من التراب أي سقط
جبينه للأرض وهو كقولهم رغم أنفه ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه بل هو نظير ما تقدم
في قوله تربت يمينك أي أنها كلمة تجري على اللسان ولا يراد حقيقتها * الحديث الرابع حديث
عائشة (قوله حدثنا عمرو بن عيسى) هو أبو عثمان الضبعي البصري ثقة مستقيم الحديث قاله
ابن حبان وما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في كتاب الصلاة وشيخه محمد بن سواء هو
أبو الخطاب السدوسي البصري ثقة أيضا له عند البخاري هذا الحديث وآخر في المناقب وشيخه
روح بن القاسم مشهور كثير الحديث وقد تابعه عن محمد بن المنكدر سفيان بن عيينة كما سيأتي
في باب اغتياب أهل الفساد وفي باب المداراة ومعمر عند مسلم وسياق روح أتم (قوله عن عروة
عن عائشة) في رواية ابن عيينة سمعت عروة أن عائشة أخبرته (قوله أن رجلا) قال ابن بطال هو
عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري وكان يقال له الأحمق المطاع ورجا النبي صلى الله عليه
وسلم بإقباله عليه تألفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي
جازمين بذلك ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالا جزما وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد
في المبهمات من طريق عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة استأذن عيينة بن
حصن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال بئس ابن العشيرة الحديث وأخرجه ابن بشكوال
في المبهمات من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا وأخرج
378

عبد الغني أيضا من طريق أبي عامر الخراز عن أبي يزيد المدني عن عائشة قالت جاء مخرمة بن
نوفل يستأذن فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته قال بئس أخو العشيرة الحديث وهكذا
وقع لنا في أواخر الجزء الأول من فوائد أبي إسحق الهاشمي وأخرجه الخطيب فيحمل على التعدد
وقد حكى المنذر في مختصره القولين فقال هو عيينة وقيل مخرمة وأما شيخنا ابن الملقن فاقتصر
على أنه مخرمة وذكر أنه نقله من حاشية بخط الدمياطي فقصر لكنه حكى بعد ذلك عن ابن التين
أنه جوز أنه عيينة قال وصرح به ابن بطال (قوله بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة) في
رواية معمر بئس أخو القوم وابن القوم وهي بالمعنى قال عياض المراد بالعشيرة الجماعة أو القبيلة
وقال غيره العشيرة الأدنى إلى الرجل من أهله وهم ولد أبيه وجده (قوله فلما جلس تطلق) بفتح
الطاء المهملة وتشديد اللام أي أبدى له طلاقة وجهه يقال وجه طلق وطليق أي مسترسل منبسط
غير عبوس ووقع في رواية ابن عامر بشر في وجهه ولأحمد من وجه آخر عن عائشة واستأذن
آخر فقال نعم أخو العشيرة فلما دخل لم يهش له ولم ينبسط كما فعل بالآخر فسألته فذكر الحديث
قال الخطابي جمع هذا الحديث علما وأدبا وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور
التي يسميهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض بل الواجب
عليه أن يبين ذلك ويفصح به ويعرف الناس أمره فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة
ولكنه لما جبل عليه من الكرم وأعطيه من حسن الخلق أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه
ليقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله وفي مداراته ليسلموا من شره وغائلته (قلت) وظاهر
كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص وليس كذلك بل كل من اطلع من حال شخص على شئ
وخشي أن غيره يغتر بجميل ظاهره فيقع في محذور ما فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدا
نصيحته وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي صلى الله عليه وسلم أن يكشف له عن حال من يغتر
بشخص من غير أن يطلعه المغتر على حاله فيذم الشخص بحضرته ليتجنبه المغتر ليكون نصيحة
بخلاف غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الامر بالقول
أو الفعل ممن يريد نصحه وقال القرطبي في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك
من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة
في دين الله تعالى ثم قال تبعا لعياض والفرق بين المدارة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح
الدنيا أو الدين أو هما معا وهي مباحة وربما استحبت والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا والنبي
صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته ومع ذلك فلم يمدحه بقول
فلم يناقض قوله فيه فعله فإن قوله فيه قول حق وفعله معه حسن عشرة فيزول مع هذا التقرير
الاشكال بحمد الله تعالى وقال عياض لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم فلم يكن القول فيه غيبة
أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم
يعرف باطنه وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه
فيكون ما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة وأما إلانة القول له بعد أن
دخل فعلى سبيل التألف له ثم ذكر نحو ما تقدم وهذا الحديث أصل في المداراة وفى جواز غيبة
أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم (قوله متى عهدتني فاحشا) في رواية الكشميهني فحاشا
379

بصيغة المبالغة (قوله من تركه الناس) في رواية عيينة من تركه أو ودعه الناس قال المازري ذكر
بعض النحاة ان العرب اما توا مصدر يدع وماضيه والنبي صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وقد
نطق بالمصرد في قوله لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات وبماضيه في هذا الحديث وأجاب عياض
بان المراد بقولهم اما توه أي تركوا استعماله الا نادرا قال ولفظ اما توه يدل عليه ويؤيد ذلك أنه
لم ينقل في الحديث إلا في هذين الحديثين مع شك الراوي في حديث الباب مع كثرة استعمال ترك
ولم يقل أحد من النحاة إنه لا يجوز (قوله اتقاء شره) أي قبح كلامه لان المذكور كان من جفاة
العرب وقال القرطبي في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور ختم له بسوء لان النبي صلى
الله عليه وسلم اتقى فحشه وشره وأخبر أن من يكون كذلك يكون شر الناس منزلة عند الله يوم
القيامة (قلت) ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال فإن الحديث ورد بلفظ العموم فمن اتصف
بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد وشرط ذلك أن يموت على ذلك ومن أين له أن
عيينة مات على ذلك واللفظ المذكور يحتمل لان يقيد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك وما المانع
أن يكون تاب وآناب وقد كان عيينة ارتد في زمن أبي بكر وحارب ثم رجع وأسلم وحضر بعض
الفتوح في عهد عمر وله مع عمر قصة ذكرت في تفسير الأعراف ويأتي شرحها في كتاب الاعتصام
إن شاء الله تعالى وفيها ما يدل على جفائه والحديث الذي فيه أنه أحمق مطاع أخرجه سعيد بن
منصور عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي قال جاء عيينة بن حصن إلى النبي صلى الله
عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه قال أم المؤمنين قال ألا أنزل لك عن أجمل منها فغضبت
عائشة وقالت من هذا قال هذا أحمق ووصله الطبراني من حديث جرير وزاد فيه أخرج
فاستأذن قال أنها يمين على أن لا استأذن على مضري وعلى تقدير أن يسلم له ذلك وللقاضي قبله في
عيينة لا يسلم له ذلك في مخرمة بن نوفل وسيأتي في باب المداراة ما يدل على أن تفسير المبهم هنا بمخرمة
هو الراجح (قوله باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل) جمع في هذه الترجمة
بين هذه الأمور الثلاثة لان السخاء من جملة محاسن الأخلاق بل هو من معظمها والبخل ضده
فأما الحسن فقال الراغب هو عبارة عن كل مرغوب فيه إما من جهة العقل وإما من جهة
العرض وإما من جهة الحسن وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يدرك بالبصر وأكثر ما جاء في
الشرع فيما يدرك بالبصيرة انتهى ملخصا وأما الخلق فهو بضم الخاء واللام ويجوز سكونها قال
الراغب الخلق والخلق يعني بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشرب والشرب لكن خص
الخلق الذي بالفتح بالهيآت والصور المدركة بالبصر وخص الخلق الذي بالضم بالقوي والسجايا
المدركة بالبصيرة انتهى وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي
أخرجه أحمد وصححه ابن حبان وفي حديث علي الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم واهدني
لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت وقال القرطبي في المفهم الأخلاق أوصاف
الانسان التي يعامل بها غيره وهي محمودة ومذمومة فالمحمودة على الاجمال أن تكون مع غيرك على
نفسك فتنصف منها ولا تنصف لها وعلى التفصيل العفو والحلم والجود والصبر وتحمل الأذى
والرحمة والشفقة وقضاء الحوائج والتوادد ولين الجانب ونحو ذلك والمذموم منها ضد ذلك وأما
السخاء فهو بمعنى الجود وهو بذل ما يقتنى بغير عوض وعطفه على حسن الخلق من عطف
380

الخاص على العام وإنما أفرد للتنويه به وأما البخل فهو منع ما يطلب مما يقتنى وشره ما كان
طالبه مستحقا ولا سيما إن كان من غير مال المسؤول وأشار بقوله وما يكره من البخل إلى أن بعض
ما يجوز انطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذموما ثم ذكر المصنف في الباب ثمانية أحاديث
الأولان معلقان * الحديث الأول (قوله وقال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود
الناس) تقدم موصولا في كتاب الايمان وتقدم شرحه في كتاب الصيام وفيه بيان السبب في
أكثرية جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان * الحديث الثاني (قوله وقال أبو ذر لما بلغه مبعث
النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه الخ) كذا للأكثر بتكرير قال وفي رواية الكشميهني وكان
أبو ذر إلى آخره وهي أولى وهذا طرف من قصة إسلام أبي ذر وقد تقدمت موصولة مطولة في
المبعث النبوي مشروحة والغرض منه هنا قوله ويأمر بمكارم الأخلاق والمكارم جمع
مكرمة بضم الراء وهي من الكرم قال الراغب وهو اسم الأخلاق وكذلك الافعال المحمودة قال
ولا يقال للرجل كريم حتى يظهر ذلك منه ولما كان أكرم الافعال ما يقصد به أشرف الوجوه
وأشرفها ما يقصد به وجه الله تعالى وإنما يحصل ذلك من المتقى قال الله تعالى إن أكرمكم عند الله
أتقاكم وكل فائق في بابه يقال له كريم * الحديث الثالث حديث أنس قال كان النبي صلى الله
عليه وسلم أحسن الناس أي أحسنهم خلقا وخلقا وأجود الناس أي أكثرهم بذلا لما يقدر
عليه وأشجع الناس أي أكثرهم إقداما مع عدم الفرار وقد تقدم شرح الحديث المذكور
في كتاب الهبة واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم لأنها أمهات
الأخلاق فإن في كل إنسان ثلاث قوى أحدها الغضبية وكمالها الشجاعة ثانيها الشهوانية
وكمالها الجود ثالثها العقلية وكمالها النطق بالحكمة وقد أشار أنس إلى ذلك بقوله
أحسن الناس لان الحسن يشمل القول والفعل ويحتمل أن يكون المراد بأحسن الناس حسن
الخلقة وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جودة القريحة التي ينشأ
عنها الحكمة قاله الكرماني وقوله فزع أهل المدينة أي سمعوا صوتا في الليل فخافوا أن يهجم
عليهم عدو وقوله فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت أي أنه سبق
فاستكشف الخبر فلم يجد ما يخاف منه فرجع يسكنهم وقوله لم تراعوا هي كلمة تقال عند تسكين
الروع تأنيسا وإظهارا للرفق بالمخاطب * الحديث الرابع حديث جابر (قوله سفيان) هو
الثوري (قوله عن ابن المنكدر) في رواية الإسماعيلي من طريق أبي الوليد الطيالسي ومن
طريق عبد الله وهو ابن المبارك كلاهما عن سفيان سمعت محمد بن المنكدر (قوله ما سئل النبي
صلى الله عليه وسلم عن شئ قط فقال لا) كذا للجميع وكذا في الأدب المفرد من طريق ابن
عيينة سمعت ابن المنكدر ووقع في رواية الإسماعيلي من الطريقين المذكورين وكذا عند مسلم
من طريق سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر بلفظ ما سئل شيئا قط فقال لا قال الكرماني معناه
ما طلب منه شئ من أمر الدنيا فمنعه قال الفرزدق * ما قال لا قط إلا في تشهده (قلت) وليس المراد
أنه يعطى ما يطلب منه جزما بل المراد أنه لا ينطق بالرد بل إن كان عنده أعطاه إن كان الاعطاء
سائغا وإلا سكت وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية أخرجه ابن سعد ولفظه إذا
سئل فأراد أن يفعل قال نعم وإذا لم يرد أن يفعل سكت وهو قريب من حديث أبي هريرة الماضي
381

في الأطعمة ما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه
لم يقل لا منعا للعطاء ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى قلت لا أجد ما أحملكم
عليه ولا يخفى الفرق بين قول لا أجد ما أحملكم وبين لا أحملكم (قلت) وهو نظير ما تقدم
في حديث أبي موسى الأشعري لما سأل الأشعريون الحملان فقال النبي صلى الله عليه وسلم
ما عندي ما أحملكم لكن يشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعري المذكور أنه صلى الله عليه
وسلم حلف لا يحملهم فقال والله لا أحملكم فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر بما إذا سئل
ما ليس عنده والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك أو حيث كان المقام لا يقتضى الاقتصار على
السكوت من الحالة الواقعة أو من حال السائل كان يكون لم يعرف العادة فلوا اقتصر في جوابه على
السكوت مع حاجة السائل لتمادي على السؤال مثلا ويكون القسم على ذلك تأكيد القطع طمع
السائل والسرفي الجمع بين قوله لا أجد ما أحملكم وقوله والله لا أحملكم ان الأول لبيان ان الذي
سأله لم يكن موجودا عنده والثاني انه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا أو بالاستيهاب
إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الايمان والنذور وفهم بعضهم من لازم
عدم قول لا اثبات نعم ورتب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل لان من القواعد أنه صلى الله عليه
وسلم إذا وظب على شئ كان ذلك علامة وجوبه والترجمة تقتضي أن البخل مكروه وأجيب بأنه
إذا تم هذا البحث حملت الكراهة على التحريم لكنه لا يتم لان الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب
سلمنا أنه يدل على الوجوب لكن على من هو في مقام النبوة إذ مقابله نقص منزه عنه الأنبياء
فيختص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره ومقابله أن منه
ما يحرم كما أن فيه ما يباح بل ويستحب بل ويجب فلذلك اقتصر المصنف على قوله يكره * الحديث
الخامس حديث مسروق كنا جلوسا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ورجاله إلى الصحابة كوفيون
وقد دخلها كما تقدم صريحا في هذا الحديث في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (قوله لم يكن
فاحشا) تقدم شرحه في الباب المذكور وهو الحديث السادس عشر منه وقوله فيه ان خياركم
أحاسنكم أخلاقا في رواية الكشميهني أحسنكم ووقع في الرواية الماضية أن من خياركم
وهي مرادة هنا وقد أخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة رقعه ان من أكمل المؤمنين أحسنهم
خلقا ولأحمد بسند رجاله ثقات من حديث جابر بن سمرة نحوه بلفظ أحسن الناس إسلاما
وللترمذي من حديث جابر رفعه إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم
أخلاقا وأخرجه البخاري في الأدب المفرد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولأحمد
والطبراني وصححه ابن حبان من حديث أبي ثعلبة نحوه وقال أحاسنكم أخلاقا وسياقه أتم
وللبخاري في الأدب المفرد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أسامة بن شريك قالوا يا رسول
الله من أحب عباد الله إلى الله قال أحسنهم خلقا وفي رواية عنه ما خير ما أعطى الانسان قال
خلق حسن ومن الأحاديث الصحيحة في حسن الخلق حديث النواس بن سمعان رفعه البر
حسن الخلق أخرجه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وحديث أبي الدرداء رفعه ما شئ أثقل
في الميزان من حسن الخلق أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وصححه هو وابن
382

حبان وزاد الترمذي فيه وهو عند البزار وأن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم
والصلاة وأخرجه أبو داود وابن حبان أيضا والحاكم من حديث عائشة نحوه وأخرجه الطبراني
في الأوسط والحاكم من حديث أبي هريرة وأخرجه الطبراني من حديث أنس نحوه وأحمد
والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وأخرج الترمذي وابن حبان وصححاه وهو عند البخاري
في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس
الجنة فقال تقوى الله وحسن الخلق وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه إنكم لن
تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق والأحاديث في ذلك
كثيرة وحكى ابن بطال تبعا للطبري خلافا هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب وتمسك من قال
بأنه غريزة بحديث ابن مسعود أن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم الحديث وهو عند
البخاري في الأدب المفرد وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في كتاب القدر وقال القرطبي في
المفهم الخلق جبلة في نوع الانسان وهم في ذلك متفاوتون فمن غلب عليه شئ منها إن كان محمودا
وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا وكذا إن كان ضعيفا فيرتاض صاحبه حتى يقوى
(قلت) وقد وقع في حديث الأشج العصري عند أحمد والنسائي والبخاري في الأدب المفرد وصححه
ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول
الله قديما كانا في أو حديثا قال قديما قال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما فترديده
السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب * الحديث السادس
حديث سهل بن سعد في قصة البردة التي سأل الصحابي لتكون كفنه والغرض منه قولهم للذي
طلبها سألته إياها وقد عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في أوائل
الجنائز وفي قولهم سألته إياها استعمال ثاني الضميرين منفصلا وهو المتعين هنا فرارا من
الاستثقال إذ لو قاله متصلا فإنه يصير هكذا سألتموها قال ابن مالك والأصل أن لا يستعمل المنفصل
إلا عند تعذر المتصل لان الاتصال أخصر وأبين لكن إذا اختلف الضميران وتقاربا فالأحسن
الانفصال نحو هذا فإن اختلفا في الرتبة جاز الاتصال والانفصال مثل أعطيتكه وأعطيتك إياه
* الحديث السابع حديث أبي هريرة يتقارب الزمان وسيأتي شرحه في كتاب الفتن وقوله فيه
وينقص العمل وقع في رواية الكشميهني وينقص العلم وهو المعروف في هذا الحديث وللآخر
وجه وقوله فيه ويلقي الشح وهو مقصود الباب وهو أخص من البخل فإنه بخل مع حرص واختلف
في ضبط يلقى فالأكثر على أنه بسكون اللام أي يوضع في القلوب فيكثر وهو على هذا بالرفع وقيل
بفتح اللام وتشديد القاف أي يعطي القلوب الشح وهو على هذا بالنصب حكاه صاحب المطالع
وقال الحميدي لم تضبط الرواة هذا الحرف ويحتمل أن يكون تلقى بالتشديد أي يتلقى ويتواصى به
ويدعوه إليه من قوله وما يلقاها إلا الصابرون أي ما يعلمها وينبه عليها قال ولو قيل يلقى مخففة
لكان بعيدا لأنه لو ألقى لترك وكان مدحا والحديث مساق للذم ولو كان بالفاء بمعنى يوجد لم يستقم
لأنه لم يزل موجودا وقد ذكرت توجيه القاف * الحديث الثامن حديث أنس (قوله
خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين) تقدم نظيره في الوليمة من وجه آخر عن أنس ومثله
عند أحمد وغيره عن ثابت عن أنس وكذا هو في معظم الروايات ووقع عند مسلم من طريق إسحق
383

ابن أبي طلحة عن أنس والله لقد خدمته تسع سنين ولا مغايرة بينهما لان ابتداء خدمته له كان بعد
قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة فقد مضى في الوصايا من
طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وليس له خادم
فأخذ أبو طلحة بيدي الحديث وفيه أن أنسا غلام كيس فليخدمك قال فخدمته في السفر والحضر
وأشار بالسفر إلى ما وقع في المغازي وغيرها من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أنس أن النبي صلى الله
عليه وسلم طلب من أبي طلحة لما أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه فأحضر له أنسا فأشكل هذا
على الحديث الأول لان بين قدومه إلى المدينة وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرا وأجيب بأنه
طلب من أبي طلحة من يكون أسن من أنس وأقوى على الخدمة في السفر فعرف أبو طلحة من
أنس القوة على ذلك فأحضره فلهذا قال أنس في هذه الرواية خدمته في الحضر والسفر وإنما
تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر لأنها بادرت إلى الاسلام
ووالد أنس حي فعرف بذلك فلم يسلم وخرج في حاجة له فقتله عدو له وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه
فاتفق أنه خطبها فاشترطت عليه أن يسلم فأسلم أخرجه ابن سعد بسند حسن فعلى هذا تكون مدة
خدمة أنس تسع سنين وأشهرا فألغى الكسر مرة وجبره أخرى وقوله في هذا الحديث والله ما قال
لي أف قط قال الراغب أصل آلاف كل مستقذر من وسخ كقلامة الظفر وما يجري مجراها
ويقال ذلك لكل مستخف به ويقال أيضا عند تكره الشئ وعند التضجر من الشئ واستعملوا منها
الفعل كاففت بفلان وفي أف عدة لغات الحركات الثلاث بغير تنوين وبالتنوين ووقع في رواية
مسلم هنا أفا بالنصب والتنوين وهي موافقة لبعض القراءات الشاذة كما سيأتي وهذا كله مع ضم
الهمزة والتشديد وعلى ذلك اقتصر بعض الشراح وذكر أبو الحسن الرماني فيها لغات كثيرة
فبلغها تسعا وثلاثين ونقلها ابن عطية وزاد واحدة أكملها أربعين وقد سردها أبو حيان في البحر
واعتمد على ضبط القلم ولخص ضبطها صاحبه الشهاب السمين ولخصته منه وهي الستة المقدمة
وبالتخفيف كذلك ستة أخرى وبالسكون مشددا ومخففا وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشددا
ومخففا وافى بالإمالة وبين بين وبلا إمالة الثلاثة بلا تنوين وأفو بضم ثم سكون وافى بسكر ثم
سكون فذلك ثنتان وعشرون وهذا كله مع ضم الهمزة ويجوز كسرها وفتحها فأما بكسرها
ففي إحدى عشرة كسر الفاء وضمها ومشددا مع التنوين وعدمه أربعة ومخففا بالحركات
الثلاث مع التنوين وعدمه ستة وافى بالإمالة والتشديد وأفا بفتح الهمزة ففي ست بفتح الفاء
وكسرها مع التنوين وعدمه أربعة وبالسكون وبألف مع التشديد والتي زادها ابن عطية أفاه
بضم أوله وزيادة ألف وهاء ساكنة وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة فأكثر السبعة
بكسر الفاء مشددا بغير تنوين ونافع وحفص كذلك لكن بالتنوين وابن كثير وابن عامر بالفتح
والتشديد بلا تنوين وقرأ أبو السماك كذلك لكن بضم الفاء وزيد بن علي بالنصب والتنوين وعن
ابن عباس بسكون الفاء (قلت) وبقى من الممكن في ذلك أفي كما مضى لكن بفتح الفاء وسكون الياء
وأفيه بزيادة هاء وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية وأضفتها إلى ما بدئ به صارت العدة
خمسا وعشرين كلها بضم الهمزة فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك
وبكسرها كذلك فتكمل خمسا وسبعين (قوله ولا لم صنعت ولا ألا صنعت) بفتح الهمزة
384

والتشديد بمعنى هلا وفي رواية مسلم من هذا الوجه لشئ مما يصنعه الخادم وفي رواية إسحق بن
أبي طلحة ما علمته قال لشئ صنعته لم فعلت كذا وكذا ولشئ تركته هل لا فعلت كذا وكذا وفي
رواية عبد العزيز بن صهيب ما قال لشئ صنعته لم صنعت كذا ولا لشئ لم اصنعه لم لم تصنع
هذا كذا ويستفاد من هذا ترك العتاب على ما فات لان هناك مندوحة عنه باستئناف الامر به
إذا احتيج إليه وفائدة تنزيه اللسان عن الزجر والذم والاستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته وكل
ذلك في الأمور التي تتعلق بحظ الناس وأما الأمور الأزمة شرعا فلا يتسامح فيها لأنها من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر (قوله باب) بالتنوين (كيف يكون الرجل
في أهله) ذكر فيه حديث عائشة كان في مهنة أهله وقد تقدم شرحه في أبواب صلاة الجماعة من
كتاب الصلاة وقوله في مهنة أهله المهنة بكسر الميم وبفتحها وأنكر الأصمعي الكسر وفسرها
هناك بخدمة أهله وبينت أن التفسير من قول الراوي عن شعبة وأن جماعة رووه عن شعبة بدونها
وكذا أخرجه ابن سعد في الترجمة النبوية عن وهب بن جرير وعفان وأبى قطن كلهم عن شعبة
بدونها لكن وقع عنده عن أبي النضر عن شعبة في آخره يعنى بامهنة في خدمة أهله وقد وقع في
حديث آخر لعائشة أخرجه احمد وابن سعد وصححه ابن حبان من رواية هشام بن عروة عن أبيه
قلت لعائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت يخيط ثوبه ويخصف نعله
ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم وفى رواية لابن حبان ما يعمل أحدكم في بيته وله ولأحمد من
رواية الزهري عن عروة عن عائشة يخصف نعله ويخيط ثوبه ويرقع دلوه وله من طريق معاوية
ابن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ ما كان الا بشرا من البشر كان يفلي ثوبه
ويحلب شاته ويخدم نفسه وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار وقال وروى عن يحيى عن
القاسم عن عائشة وروى عن يحيى عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة وفى رواية حارثة بن أبي
الرجال عن عمرة عن عائشة عند أبي سعد كان ألين الناس وأكرم الناس وكان رجلا من رجالكم
الا انه كانا بساما قال ابن بطال من أخلاق الأنبياء التواضع والبعد عن التنعم وامتهان النفس
ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى إلى الرفاهية المذمومة وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى وذرني والمكذبين
أولى النعمة ومهلهم قليلا (قوله باب المقة من الله) أي ابتداؤها من الله المقة بكسر
الميم وتخفيف القاف هي المحبة وقد ومق يمق والأصل الومق والهاء فيه عوض عن الواو كعدة
ووعد وزنه ووزن وهذه الترجمة لفظ زيادة وقعت في نحو حديث الباب في بعض طرقه لكنها على غير
شرط البخاري فأشار إليها في الترجمة كعادته أخرجه احمد والطبراني وابن أبي شيبة من طريق
محمد بن سعد الأنصاري عن أبي ظبية بمعجمة عن أبي أمامة مرفوعا قال المقة من الله والصيت من
السماء فإذا أحب الله عبدا الحديث وللبزار من طريق أبى وكيع الجراح بن مليح عن الأعمش
عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه ما من عبد الا وله صيت في السماء فإن كان حسنا وضع في الأرض
وإن كان سيأ وضع في الأرض والصيت بكسر الصاد المهملة وسكون التحتانية بعدها مثناة أصله
الصوت كالريح من الروح والمراد به الذكر الجميل وربما قيل لضده لكن بقيد (قوله أبو عاصم)
هو النبيل وهو من كبار شيوخ البخاري وربما روى عنه بواسطة مثل هذا فقد علقه في بدء الخلق
لأبي عاصم وقد نبهت عليه ثم (قوله عن نافع) هو مولى ابن عمر قال البزار بعد أن أخرجه عن عمرو
385

بن علي الفلاس شيخ البخاري فيه لم يروه عن نافع الا موسى بن عقبة ولا عن موسى الا ابن جريج
(قلت) وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثوبان عند احمد والطبراني في الأوسط وأبو امامة عند
احمد ورواه عن أبي هريرة أبو صالح عند المصنف في التوحيد وأخرجه مسلم والبزار (قوله إذا
أحب الله العبد) وقع في بعض طرقه بيان سبب هذه المحبة والمراد بها ففي حديث ثوبان ان العبد
ليلتمس مرضاة الله تعالى فلا يزال كذلك حتى يقول يا جبريل ان عبدي فلانا يلتمس ان يرضيني
الا وان رحمتي غلبت عليه الحديث أخرجه احمد والطبراني في الأوسط ويشهد له حديث أبي
هريرة الآتي في الرقاق ففيه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه الحديث (قوله إن
الله يحب فلانا فأحبه) بفتح الموحدة المشددة ويجوز الضم ووقع في حديث ثوبان فيقول جبريل
رحمة الله على فلان وتقوله حملة العرش (قوله فينادى جبريل في أهل السماء الخ) في حديث ثوبان
أهل السماوات السبع (قوله ثم يوضع له القبول في أهل الأرض) زاد الطبراني في حديث ثوبان
ثم يهبط إلى الأرض ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل
لهم الرحمن ودا وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذي وابن أبي حاتم من طريق
سهيل عن أبيه وقد أخرج مسلم إسنادها ولم يسق اللفظ وزاد مسلم فيه وإذا أبغض عبدا دعا
جبريل فساقه على منوال الحب وقال في آخره ثم يوضع له البغضاء في الأرض ونحوه في حديث أبي
أمامة عند أحمد وفي حديث ثوبان عند الطبراني وان العبد يعمل بسخط الله فيقول الله يا جبريل
إن فلانا يستسخطني فذكر الحديث على منوال الحب أيضا وفيه فيقول جبريل سخطة الله على
فلان وفي آخره مثل ما في الحب حتى يقوله أهل السماوات السبع ثم يهبط إلى الأرض وقوله
يوضع له القبول هو من قوله تعالى فتقبلها ربها بقول حسن أي رضيها قال المطرزي القبول
مصدر لم أسمع غيره بالفتح وقد جاء مفسرا في رواية القعنبي فيوضع له المحبة والقبول والرضا بالشئ
وميل النفس إليه وقال ابن القطاع قبل الله منك قبولا والشئ والهدية أخذت والخبر صدقت
وفي التهذيب عليه قبول إذا كانت العين تقبله والقبول من الريح الصبا لأنها تستقبل الدبور
والقبول أن يقبل العفو والعافية وغير ذلك وهو اسم للمصدر أميت الفعل منه وقال أبو عمرو بن
العلاء القبول بفتح القاف لم أسمع غيره يقال فلان عليه قبول إذا قبلته النفس وتقبلت الشئ
قبولا ونحو لابن الأعرابي وزاد قبلته قبولا بالفتح والضم وكذا قبلت هديته عن اللحياني قال ابن
بطال في هذه الزيادة رد على ما يقوله القدرية ان الشر من فعل العبد وليس من خلق الله انتهى
والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل إليه والرضا عنه ويؤخذ منه أن
محبة قلوب الناس علامة محبة الله ويؤيده ما تقدم في الجنائز أنتم شهداء الله في الأرض والمراد
بمحبة الله إرادة الخير للعبد وحصول الثواب له وبمحبة الملائكة استغفارهم له وإرادتهم خير
الدارين له وميل قلوبهم إليه لكونه مطيعا لله محبا له ومحبة العباد له اعتقادهم فيه الخير وإرادتهم
دفع الشر عنه ما أمكن وقد تطلق محبة الله تعالى للشئ على إرادة إيجاده وعلى إرادة تكميله
والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي
لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا لا يمكن التعبير عنه والحب على ثلاثة أقسام إلهي
وروحاني وطبيعي وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة فحب الله العبد حب إلهي
386

وحب جبريل والملائكة له حب روحاني وحب العباد له حب طبيعي (قوله باب
الحب في الله) ذكر فيه حديث أنس لا يجد أحد حلاوة الايمان حتى يحب المرء لا يحب إلا لله
الحديث وقد تقدم شرحه مستوفى في كتاب الايمان وبيان أن هذه الترجمة أول حديث
أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي أمامة ولفظه الحب في الله والبغض في الله من الايمان
وان له طرقا أخرى وقوله أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما معناه أن من استكمل
الايمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق أبيه وأمه وولده وزوجه وجميع الناس لان
الهدى من الضلال والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله ومن علامات محبته
نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه والله أعلم (قوله باب
قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم الآية) كذا لأبي ذر والنسفي وسقطت
الآية لغيرهما وزاد عسى أن يكونوا خيرا منهم إلى قوله فأولئك هم الظالمون وذكر فيه حديثين
* أحدهما حديث عبد الله بن زمعة نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحك الرجل مما يخرج
من الأنفس وقد تقدم في تفسير والشمس وضحاها من وجه آخر عن هشام بن عروة راوية هنا
بلفظ ثم وعظهم في الضرطة فقال لم يضحك أحدهم مما يخرج منه قوله لا يسخر نهى عن
السخرية وهي فعل الساخر وهو الذي يهزأ منه والسخرية تسخير خاص والسخرية سياقه
الشئ إلى الغرض المختص به قهرا فورد النهي عن استهزاء المرء بالآخر تنقيصا له مع احتمال أن
يكون في نفس الامر خيرا منه وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رفعه في أثناء حديث بحسب امرئ
من الشر أن يحقر أخاه المسلم (قوله وقال الثوري ووهيب بن خالد وأبو معاوية عن هشام جلد
العبد) يريد أن هؤلاء الثلاثة رووه عن هشام بن عروة بهذا الاسناد في قصة النهي عن ضرب المرأة
وأن هؤلاء جزموا بقولهم جلد العبد موضع شك ابن عيينة هل قال جلد الفحل أو جلد العبد
والتعاليق الثلاثة تقدم بيان كونها موصولة أما رواية الثوري فوصلها المؤلف في النكاح
وساقها كذلك وأما رواية وهيب فوصلها المؤلف في التفسير كذلك وأما رواية أبي معاوية
فوصلها أحمد وإسحق كذلك وتقدم التنبيه عليها في التفسير أيضا * الحديث الثاني حديث ابن
عمر في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى والغرض منه بيان تحريم العرض وهو موضع المدح
والذم من الشخص أعم من أن يكون في نفسه أو نسبه أو حسبه وقال ابن قتيبة عرض الرجل
بدنه ونفسه لا غير ومنه استبرأ لدينه وعرضه (قلت) ولا حجة فيه لما ادعاه من الحصر ويدل للأول
قول حسان
فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء
يخاطب بذلك من كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ما يقع تهاجيهم في مدح الآباء
وذمهم وقد تقدم شرح الحديث مستوفى في كتاب الحج وعند مسلم من حديث أبي هريرة كل
المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله (قوله باب ما ينهى من السباب
واللعن) في رواية غير أبي ذر والنسفي عن بدل من وهي أولى وفي الأول حذف تقديره ما ينهى عنه
387

والسباب بكسر المهملة وتخفيف الموحدة تقدم بيانه مع شرح الحديث الأول في كتاب الايمان
وهو محتمل لان يكون على ظاهر لفظه من التفاعل ويحتمل أن يكون بمعنى السب وهو الشتم وهو
نسبة الانسان إلى عيب ما وعلى الأول فحكم من بدأ منهما أن الوزر عليه حتى يعتدى الثاني كما
ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة وصحح ابن حبان من حديث العرباض بن سارية قال
المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان وقوله في آخر الحديث الأول تابعه محمد بن جعفر عن
شعبة وصله أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر وهو غندر بهذا الاسناد لكن قال فيه عن شعبة عن
زبيد ومنصور وزاد فيه زبيدا وهو بالزاي والموحدة مصغر ومعنى اللعن الدعاء بالابعاد من رحمة
الله تعالى * الحديث الثاني (قوله عن الحسين) هو ابن ذكوان المعلم والاسناد إلى أبي ذر بصريون
وقد دخلها هو أيضا وفى رواية مسلم من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا أبي حدثنا
الحسين المعلم (قوله عن أبي ذر) في رواية الإسماعيلي من وجهين عن أبي معمر شيخ البخاري فيه
بالسند إلى أبى الأسودان أبا ذر حدثه (قوله لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر الا
ارتدت عليه ان لم يكن صاحبه كما قال 1) وفى رواية للإسماعيلي الاحار عليه وفى أخرى الا ارتدت
عليه يعنى رجعت عليه وحار بمهملتين أي رجع وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال
له أنت كافر فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور وأنه إذا كان كما قال لم يرجع
عليه شئ لكونه صدق فيما قال ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقا ولا كافرا أن لا يكون
آثما في صورة قوله له أنت فاسق بل في هذه الصورة تفصيل إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز
وأن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى
فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف لأنه قد يكون سببا لاغرائه وإصراره على ذلك
الفعل كما في طبع كثير من الناس من الآنفة لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة ووقع في
رواية مسلم بلفظ ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ذكره في أثناء
حديث في ذم من ادعى إلى غير أبيه وقد تقدم صدره في مناقب قريش بالاسناد المذكور هنا فهو
حديث واحد فرقه البخاري حديثين وسيأتي هذا المتن في باب من أكفر أخاه بغير تأويل من حديث
أبي هريرة ومن حديث ابن عمر بلفظ فقد باء بها أحدهما وهو بمعنى رجع أيضا قال النووي
اختلف في تأويل هذا الرجوع فقيل رجع عليه الكفر إن كان مستحلا وهذا بعيد من سياق الخبر
وقيل محمول على الخوارج لانهم يكفرون المؤمنين هكذا نقله عياض عن مالك وهو ضعيف لأن الصحيح
عند الأكثرين أن الخوارج لا يكفرون ببدعتهم (قلت) ولما قاله مالك وجه وهو أن منهم من
يكفر كثيرا من الصحابة ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وبالايمان فيكون تكفيرهم
من حيث تكذيبهم للشهادة المذكورة لا من مجرد صدور التكفير منهم بتأويل كما سيأتي إيضاحه
في باب من أكفر أخاه بغير تأويل والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم عن أن يقول ذلك لأخيه
المسلم وذلك قبل وجود فرقة الخوارج وغيرهم وقيل معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية
تكفيره وهذا لا بأس به وقيل يخشى عليه أن يؤل به ذلك إلى الكفر كما قيل المعاصي بريد
الكفر فيخاف على من أدامها وأصر عليها سوء الخاتمة وأرجح من الجميع أن من قال ذلك لمن
يعرف منه الاسلام ولم يقم له شبهة في زعمه أنه كافر فإنه يكفر بذلك كما سيأتي تقريره فمعنى
388

الحديث فقد رجع عليه تكفيره فالراجع التكفير لا الكفر فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من
هو مثله ومن لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الاسلام ويؤيده أن في بعض طرقه وجب
الكفر على أحدهما وقال القرطبي حيث جاء الكفر في لسان الشرع فهو جحد المعلوم من دين
الاسلام بالضرورة الشرعية وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم وترك شكر المنعم والقيام
بحقه كما تقدم تقريره في كتاب الايمان في باب كفر دون كفر وفي حديث أبي سعيد يكفرن
الاحسان ويكفرن العشير قال وقوله باء بها أحدهما أي رجع بإثمها ولازم ذلك واصل البوء اللزوم
ومنه أبوء بنعمتك أي ألزمها نفسي وأقر بها قال والهاء في قوله بها راجع إلى التكفيرة الواحدة
التي هي أقل ما يدل عليها لفظ كافر ويحتمل أن يعود إلى الكلمة والحاصل أن المقول له إن كان
كافرا كفرا شرعيا فقد صدق القائل وذهب بها المقول له وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك
القول واثمه كذا اقتصر على هذا التأويل في رجع وهو من أعدل الأجوبة وقد أخرج أبو داود
عن أبي الدرداء بسند جيد رفعه أن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب
السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن فإن
كان أهلا وإلا رجعت إلى قائلهم وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بسند حسن وآخر
عند أبي داود والترمذي عن ابن عباس ورواته ثقات ولكنه أعل بالارسال * الحديث الثالث
حديث أنس تقدم شرحه في باب حسن الخلق * الحديث الرابع حديث ثابت بن الضحاك
وقد اشتمل على خمسة أحكام وسيأتي في باب من أكفر أخاه بغير تأويل بتمامه إلا خصلة واحدة
منها ويأتي كذلك في الايمان والنذور ويأتي شرحه هناك إن شاء الله تعالى ويؤخذ حكم
ما يتعلق بتكفير من كفر المسلم من الذي قبله وقوله لعن المسلم كقتله أي لأنه إذا لعنه فكأنه
دعا عليه بالهلاك * الحديث الخامس حديث سليمان بن صرد بضم الصاد وفتح الراء بعدها دال
مهملات وهو ابن الجون بن أبي الجون الخزاعي صحابي شهير يقال كان اسمه يسار بتحتانية ومهملة
فغيره النبي صلى الله عليه وسلم ويكنى أبا المطرف وقتل في سنة خمس وستين وله ثلاث وتسعون
سنة (قوله استب رجلان) لم أعرف أسماءهما ووقع في صفة إبليس من وجه آخر عن الأعمش
بهذا السند كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يستبان (قوله حتى انتفخ وجهه)
في الرواية المذكورة فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه وفي رواية مسلم تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه
وقد تقدم تفسير الودج في صفة إبليس وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد وأصحاب السنن حتى
أنه ليخيل إلي أن أنفه ليتمزع من الغضب (قوله إني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد) في
الرواية المذكورة لو قال أعوذ بالله من الشيطان وفي رواية مسلم الرجيم ومثله في حديث معاذ
ولفظه أني لاعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان لذهب عنه الغضب اللهم أني أعوذ بك من الشيطان
الرجيم (قوله فانطلق إليه الرجل) في رواية مسلم فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله
عليه وسلم وفي الرواية المتقدمة فقالوا له فدلت هذه الرواية على أن الذي خاطبه منهم واحد وهو
معاذ بن جبل كما بينته رواية أبي داود ولفظه قال فجعل معاذ يأمره فأبى وضحك وجعل يزداد غضبا
(قوله وقال تعوذ بالله) في الرواية المذكورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعوذ بالله وهو بالمعنى
فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك وليس في الخبر أنه أمرهم أن يأمروه بذلك لكن استفادوا
389

ذلك من طريق عموم الامر بالنصيحة للمسلمين (قوله أترى بي بأس) بضم التاء أي أتظن ووقع
بأس هنا بالرفع للأكثر وفي بعضها بأسا بالنصب وهو أوجه (قوله أمجنون أنا) في الرواية
المذكورة وهل بي من جنون (قوله اذهب) هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمره بالتعوذ
أي أمض في شغلك وأخلق بهذا المأمور أن يكون كافرا أو منافقا أو كان غلب عليه الغضب
حتى أخرجه عن الاعتدال بحيث زجر الناصح الذي دله على ما يزيل عنه ما كان به من وهج
الغضب بهذا الجواب السئ وقيل أنه كان من جفاة الاعراب وظن أنه لا يستعيذ من الشيطان
إلا من به جنون ولم يعلم أن الغضب نوع من شر الشيطان ولهذا يخرج به عن صورته ويزين
إفساد ما له كتقطيع ثوبه وكسر آنيته أو الاقدام على من أغضبه ونحو ذلك مما يتعاطاه من
يخرج عن الاعتدال وقد أخرج أبو داود من حديث عطية السعدي رفعه إن الغضب من
الشيطان الحديث * الحديث السادس عن عبادة بن الصامت في ذكر ليلة القدر وقد تقدم في
أواخر الصيام مشروحا وأورده هنا لقوله فيه فتلاحى أي تنازع والتلاحي بالمهملة أي التجادل
والتنازع وهو يفضي في الغالب إلى المسابية وتقدم أن الرجلين هما كعب بن مالك وعبد الله بن
أبي حدرد * الحديث السابع حديث أبي ذر ساببت رجلا وقد تقدم شرحه في كتاب الايمان
وأن الرجل المذكور هو بلال المؤذن وكان اسم أمه حمامة بفتح المهملة وتخفيف الميم وقوله إنك
امرؤ فيك جاهلية التنوين للتقليل والجاهلية ما كان قبل الاسلام ويحتمل أن يراد بها هنا الجهل
أي إن فيك جهلا وقوله قلت على ساعتي هذه من كبر السن أي هل في جاهلية أو جهل وأنا شيخ
كبير وقوله هم إخوانكم أي العبيد أو الخدم حتى يدخل من ليس في الرق منهم وقرينة قوله
تحت أيديكم ترشد إليه ويؤخذ منة المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم وقد جاء
الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الاحكام وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى فلا
يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى وينتفع الوضيع النسب بالتقوى كما
قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم (قوله باب ما يجوز من ذكر الناس) أي
بأوصافهم (نحو قولهم الطويل والقصير وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول ذو اليدين وما لا
يراد به شين الرجل) هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الألقاب وما لا يعجب الرجل أن يوصف به مما
هو فيه وحاصله أن اللقب إن كان مما يعجب الملقب ولا إطراء فيه مما يدخل في نهي الشرع فهو
جائز أو مستحب وإن كان مما لا يعجبه فهو حرام أو مكروه إلا إن تعين طريقا إلى التعريف به حيث
يشتهر به ولا يتميز عن غيره إلا بذكره ومن ثم أكثر الرواة من ذكر الأعمش والأعرج ونحوهما
وعارم وغندر وغيرهم والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لما سلم في ركعتين من صلاة الظهر فقال
أكما يقول ذو اليدين وقد أورده المصنف في الباب ولم يذكر هذه الزيادة وقال في سياق الرواية التي
390

أوردها وفي القوم رجل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه ذا اليدين وأما الرواية التي علقها في
الباب فوصلها في باب تشبيك الأصابع في أوائل كتاب الصلاة من طريق ابن عون عن ابن
سيرين عن أبي هريرة ولكن لفظه أكما يقول ذو اليدين وقد أخرجه مسلم من طريق أيوب عن
ابن سيرين بلفظ ما يقول ذو اليدين وهو المطابق للتعليق المذكور وإلى ما ذهب إليه البخاري
من التفصيل في ذلك ذهب الجمهور وشذ قوم تشددوا حتى نقل عن الحسن البصري أنه كان
يقول أخاف أن يكون قولنا حميدا الطويل غيبة وكأن البخاري لمح بذلك حيث ذكر قصة ذي
اليدين وفيها وفي القوم رجل في يديه طول قال ابن المنير أشار البخاري إلى أن ذكر مثل هذا إن
كان للبيان والتمييز فهو جائز وإن كان للتنقيص لم يجز قال وجاء في بعض الحديث عن عائشة في
المرأة التي دخلت عليها فأشارت بيدها أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اغتبتيها وذلك أنها
لم تفعل هذا بيانا وإنما قصدت الاخبار عن صفتها فكان كالاغتياب انتهى والحديث المذكور
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الغيبة وابن مردويه في التفسير وفي من طريق
حبان بن مخارق عن عائشة وهو (قوله باب الغيبة وقول الله تعالى ولا
يغتب بعضكم بعضا الآية) هكذا اكتفى بذكر الآية المصرحة بالنهي عن الغيبة ولم يذكر حكمها
كما ذكر حكم النميمة بعد بابين حيث جزم بأن النميمة من الكبائر وقد اختلف في حد الغيبة وفي
حكمها فأما حدها فقال الراغب هي ان يذكر الانسان عيب غيره من غير محوج إلى ذكر ذلك
وقال الغزالي حد الغيبة ان تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه وقال ابن الأثير في النهاية الغيبة ان تذكر
الانسان في غيبته بسوء وإن كان فيه وقال النووي في الاذكار تبعا للغزالي ذكر المرء بما يكرهه
سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو والده أو ولده
أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به سواء ذكرته
باللفظ أو بالإشارة والرمز قال النووي وممن يستعمل التعريض في ذلك كثير من الفقهاء في
التصانيف وغيرها كقولهم قال بعض من يدعي العلم أو بعض من ينسب إلى الصلاح أو نحو ذلك
مما يفهم السامع المراد به ومنه قولهم عند ذكره الله يعافينا الله يتوب علينا نسأل الله السلامة
ونحو ذلك فكل ذلك من الغيبة وتمسك من قال إنها لاشترط فيها غيبة الشخص بالحديث
المشهور الذي أخرجه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رفعة أتدرون ما الغيبة قالوا الله
ورسوله اعلم قال ذكرك أخاك بما يكرهه قال أفرأيت إن كان في اخى ما أقول قال إن كان في
أخيك ما تقول فقد اغتبته وان لم يكن فيه ما تقول فقد بهته وله شاهد مرسل عن المطلب بن
عبد الله عند مالك فلم يقيد ذلك بغيبة الشخص فدل على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته
أو في حضوره ولا رجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لاشتقاقها وبذلك جزم أهل اللغة قال ابن التين
الغيبة ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب وكذا قيده الزمخشري وأبو نصر القشيري في التفسير وابن
خميس في جزء له مفرد في الغيبة والمنذري وغير واحد من العلماء من آخرهم الكرماني قال الغيبة
ان تتكلم خلف الانسان بما يكرهه لو سمعه وكان صدقا قال وحكم الكتابة والإشارة مع النية
كذلك وكلام من اطلق منهم محمول على المقيد في ذلك وقد وقع في حديث سليم بن جابر
والحديث سيق لبيان صفتها واكتفى باسمها على ذكر محلها نعم المواجهة بما ذكر حرام لأنه داخل
391

في السب والشتم واما حكمها فقال النووي في الاذكار الغيبة والنميمة محرمتان باجماع المسلمين
وقد تظاهرت الأدلة على ذلك وذكر في الروضة تبعا للرافعي انها من الصغائر وتعقبه جماعة ونقل
أبو عبد الله القرطبي في تفسيره الاجماع على انها من الكبائر لان حد الكبيرة صادق عليها لأنها مما
ثبت الوعيد الشديد فيه وقال الأذرعي لم أر من صرح بأنها من الصغائر الاصاحب 1 العدة
والغزالي وصرح بعضهم بأنها من الكبائر وإذا لم يثبت الاجماع فلا أقل من التفصيل فمن اغتاب
وليا لله أو عالما ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلا وقد قالوا ضابطها ذكر الشخص بما يكره
وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه وقد يشتد تأذيه بذلك واذى المسلم محرم وذكر النووي من
الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث انس رفعة لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من
نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم
الناس ويقعون في اعراضهم أخرجه أبو داود وله شاهد عن ابن عباس عند احمد وحديث سعيد
ابن زيد رفعه ان من اربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق أخرجه أبو داود وله شاهد عند
البزار وابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة وعند أبى يعلى من حديث عائشة ومن حديث أبي
هريرة رفعه من اكل لحم أخيه في الدنيا قرب له يوم القيامة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا
فيأكله ويكلح ويصيح سنده حسن وفى الأدب المفرد عن ابن مسعود قال ما التقم أحد لقمة شرا
من اغتياب مؤمن الحديث وفيه أيضا وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ما عز
ورجمه في الزنا وان رجلا قال لصاحبه انظر إلى الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم
الكلب فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم كلا من جيفة هذا الحمار لحمار ميت فما نلتما من عرض
هذا الرجل أشد من اكل هذه الجيفة وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن عن
جابر قال كنا مع النبي صلى الله عيه وسلم فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه
ريح الذين يغتابون المؤمنين وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدل على الغيبة من الكبائر لكن
تقييده في بعضها بغير حق قد يخرج الغيبة بحق لما تقرر انها ذكر المرء بما فيه ثم ذكر المصنف
حديث ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين يعذبان الحديث وقد تقدم
شرحه في كتاب الطهارة وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه يمشى بالنميمة قال ابن التين انما ترجم بالغيبة
وذكر النميمة لان الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه بظهر الغيب وقال الكرماني الغيبة
نوع من النميمة لأنه لو سمع المنقول عنه ما نقل عنه لغمه (قلت) الغيبة قد توجد في بعض صور
النميمة وهوان يذكره في غيبته بما فيه مما يسوؤه قاصدا بذلك الافساد فيحتمل أن تكون قصة
الذي كان يعذب في قبره كانت كذلك ويحتمل ان يكون أشار إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ
الغيبة صريحا وهو ما أخرجه هو في الأدب المفرد من حديث جابر قال كنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم فاتى على قبرين فذكر فيه نحو حديث الباب وقال فيه اما أحدهما فكان يغتاب الناس
الحديث وأخرج أحمد والطبراني باسناد صحيح عن أبي بكرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم
بقبرين فقال إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير وبكى وفيه وما يعذبان الا في الغيبة والبول ولأحمد
والطبراني أيضا من حديث يعلى بن شبابة ان النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب صاحبه
فقال إن هذا كان يأكل لحوم الناس ثم دعا بجريدة رطبة الحديث ورواته موثقون
392

ولأبي داود الطيالسي عن ابن عباس بسند جيد مثله وأخرجه الطبراني وله شاهد عن أبي أمامة
عند أبي جعفر الطبري في التفسير واكل لحوم الناس يصدق على النميمة والغيبة والظاهر اتحاد
القصة ويحتمل التعدد وتقدم بيان ذلك واضحا في كتاب الطهارة (قوله باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم خير دور الأنصار) ذكر فيه أول حديث أبي أسيد الساعدي وقد تقدم
في المناقب بتمامه وفى ايراد هذه الترجمة هنا اشكال لان هذا ليس من الغيبة أصلا الا ان اخذ
من أن المفضل عليهم يكرهون ذلك فيستثنى ذلك من عموم قوله ذكرك أخاك بما يكره ويكون
محل الزجر إذا لم يترتب عليه حكم شرعي فاما ما يترتب عليه حكم شرعي فلا يدخل في الغيبة
ولو كرهه المحدث عنه ويدخل في ذلك ما يذكر لقصد النصيحة من بيان غلط من يخشى ان
يقلد أو يغتر به في أمر ما فلا يدخل ذكره بما يكره من ذلك في الغيبة المحرمة كما سيأتي واليه
يشير ما ترجم به المصنف عقب هذا وقال ابن التين في حديث أبي أسيد دليل على جواز
المفاضلة بين الناس لمن يكون عالما بأحوالهم لينبه على فضل الفاضل ومن لا يلحق بدرجته
في الفضل فيتمثل أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيل الناس منازلهم وليس ذلك بغيبة (قوله
باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد) ذكر فيه حديث عائشة في قوله بئس أخو
العشيرة وقد تقدم شرحه قريبا في باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا وقد نوزع في كون
ما وقع من ذلك غيبة وإنما هو نصيحة ليحذر السامع وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك لحسن خلقه
صلى الله عليه وسلم ولو واجه المقول فيه بذلك لكان حسنا ولكن حصل القصد بدون مواجهة
والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه وأن لم يتناول الغيبة المذمومة شرعا وغايته أن
تعريف الغيبة المذكور أولا هو اللغوي وإذا استثنى منه ما ذكر كان ذلك تعريفها الشرعي
وقوله في الحديث أن شر الناس استئناف كلام كالتعليل اتركه مواجهته بما ذكره في غيبته
ويستنبط منه أن المجاهر بالفسق والشر لا يكون ما يذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة
المذمومة قال العلماء تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه
بها كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والمحاكمة والتحذير من الشر ويدخل فيه
تجريح الرواة والشهود وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده وجواب الاستشارة في
نكاح أو عقد من العقود وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق ويخاف عليه الاقتداء
به وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة ومما يدخل في ضابط الغيبة وليس
بغيبة ما تقدم تفصيله في باب ما يجوز من ذكر الناس فيستثنى أيضا والله أعلم (قوله
باب النميمة من الكبائر) سقط لفظ باب من رواية أبي ذر وحده ذكر فيه حديث ابن
عباس في قصة القبرين وهو ظاهر فيما ترجم به لقوله في سياقه وأنه لكبير وقد تقدم القول فيه في
كتاب الطهارة وقد صحح ابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه
ويمشي بينهم بالنميمة * (لطيفة) * أبدى بعضهم للجمع بين هاتين الخصلتين مناسبة وهي أن البرزخ
مقدمة الآخرة وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة ومن حقوق العباد الدماء
ومفتاح الصلاة التطهر من الحدث والخبث ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بن الناس بالنميمة
بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء (قوله باب ما يكره من النميمة) كأنه أشار بهذه
393

الترجمة إلى بعض القول المنقول على جهة الافساد يجوز إذا كان المقول فيه كافرا مثلا كما
يجوز التجسس في بلاد الكفار ونقل ما يضرهم (قوله وقوله تعالى هماز مشاء بنميم) قال الراغب
همز الانسان اغتيابه والنم إظهار الحديث بالوشاية وأصل النميمة الهمس والحركة (قوله ويل
لكل همزة لمزة يهمز ويلمز ويعيب واحد) كذا للأكثر بكسر العين المهملة وسكون التحتانية بعدها
موحدة ووقع في رواية الكشميهني ويغتاب بغين معجمة ساكنة ثم مثناة وأظنه تصحيفا والهمزة
الذي يكثر منه الهمز وكذا اللمزة واللمز تتبع المعايب ونقل ابن التين أن اللمز العيب في الوجه
والهمز في القفا وقيل بالعكس وقيل الهمز الكسر واللمز الطعن فعلى هذا هما بمعنى واحد لان
المراد بالكسر الكسر من الاعراض وبالطعن الطعن فيها وحكى في ميم يهمز ويلمز الضم
والكسر واسند البيهقي عن ابن جريج قال الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان (قوله
سفيان) هو الثوري ومنصور هو ابن المعتمر وإبراهيم هو النخعي وهمام هو ابن الحرث والسند
كله كوفيون (قوله إن رجلا يرفع الحديث) لم أفق على اسمه وعثمان هو ابن عفان أمير
المؤمنين (قوله فقال حذيفة) في رواية المستملى فقال له حذيفة ولمسلم من رواية الأعمش عن
إبراهيم فقال حذيفة وأراده أن يسمعه (قوله لا يدخل الجنة) أي في أول وهلة كما في نظائره (قوله
قتات) بقاف ومثناة ثقيلة وبعد الألف مثناة أخرى هو التمام ووقع بلفظ تمام في رواية أبي وائل
عن حذيفة عند مسلم وقيل الفرق بين القتات والتمام أن التمام الذي يحضر القصة فينقلها
والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه قال الغزالي ما ملخصه ينبغي لمن حملت إليه
نميمة أن لا يصدق من نم له ولا يظن بمن نم عنه ما نقل عنه ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له وأن ينهاه
ويقبح له فعله وأن يبغضه ان لم ينزجر وان لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فينم هو على النمام
فيصير نماما قال النووي وهذا كله إذا لم يكن في النقل مصلحة شرعية وإلا فهي مستحبة
أو واجبة كمن اطلع من شخص أنه يريد أن يؤذي شخصا ظلما فحذره منه وكذا من أخبر الامام أو
من له ولاية بسيرة نائبة مثلا فلا منع من ذلك وقال الغزالي ما ملخصه النميمة في الأصل نقل القول
إلى المقول فيه ولا اختصاص لها بذلك بل ضابطها كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه
أو المنقول إليه أو غيرهما وسواء كان المنقول قولا أم فعلا وسواء كان عيبا أم لا حتى لو رأى
شخصا يخفى ما له فأفشى كان نميمة واختلف في الغيبة والنميمة هل هما متغايرتان أو متحدتان
والراجح التغاير وأن بينهما عموما وخصوصا وجهيا وذلك لان النميمة نقل حال الشخص لغيره على
جهة الافساد بغير رضاه سواء كان بعلمه أم بغير علمه والغيبة ذكره في غيبته بما لا يرضيه فامتازت
النميمة بقصد الافساد ولا يشترط ذلك في الغيبة وامتازت الغيبة بكونها في غيبة المقول فيه
واشتركتا فيما عدا ذلك ومن العلماء من يشترط في الغيبة أن يكون المقول فيه غائبا والله أعلم
(قوله باب قول الله تعالى واجتنبوا قول الزور) قال الراغب الزور الكذب قيل
له ذلك لكونه مائلا عن الحق والزور بفتح الزاي الميل وكان موقع هذه الترجمة للإشارة إلى أن
القول المنقول بالنميمة لما كان أعم من أن يكون صدقا أو كذبا فالكذب فيه أقبح (قوله حدثنا
أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس نسب إلى جده وقد تقدم حديث الباب في أوائل
الصيام أخرجه عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب بالسند والمتن وتقدم شرحه هناك وقوله
394

هنا في آخره قال أحمد أفهمني رجل إسناده أحمد هو ابن يونس المذكور والمعنى أنه لما سمع
الحديث من ابن أبي ذئب لم يتيقن إسناده من لفظ شيخه فأفهمه إياه رجل كان معه في المجلس
وقد خالف أبو داود رواية البخاري فأخرج الحديث المذكور عن أحمد بن يونس هذا لكن قال في
آخره قال أحمد فهمت إسناده من ابن أبي ذئب وأفهمني الحديث رجل إلى جنبه أراه ابن أخيه
وهكذا أخرجه الإسماعيلي عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس وهذا عكس ما ذكره
البخاري فإن مقتضى روايته أن المتن فهمه أحمد من شيخه ولم يفهم الاسناد منه بخلاف ما قال
أبو داود وإبراهيم بن شريك فيحمل على أن أحمد بن يونس حدث به على الوجهين وخبط الكرماني
هنا فقال قال أفهمني أي كنت نسيت هذا الاسناد فذكرني رجل إسناده ووجه الخبط نسبته
إلى أحمد بن يونس نسيان الاسناد وإن التذكير وقع له من الرجل بعد ذلك وليس كذلك بل أراد
أنه لما سمعه من ابن أبي ذئب خفي عنه بعض لفظه أما على رواية البخاري فمن الاسناد وأما على
رواية أبي داود فمن المتن وكان الرجل بجنبه فكأنه استفهمه عما خفي عليه منه فأفهمه فلما كان
بعد ذلك وتصدى للتحديث به أخبر بالواقع ولم يستجز أن يسنده عن ابن أبي ذئب بغير بيان وقد وقع
مثل ذلك لكثير من المحدثين وعقد الخطيب لذلك بابا في كتاب الكفاية وانظر إلى قوله أفهمني
رجل إلى جنبه أي إلى جنب ابن أبي ذئب ثم قال الكرماني وأراد رجل عظيم والتنوين يدل عليه
والغرض مدح شيخه ابن أبي ذئب أو رجل آخر غيره أفهمني ولم يتعين أنه تعظيم للرجل
الذي أفهمه من مجرد قول رجل بل الذي فيه أنه إما نسي اسمه فعبر عنه برجل أو كنى عن اسمه
عمدا وأما مدح شيخه فليس في السياق ما يقتضيه (قلت) وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن
المغيرة المخزومي وكان له أخوان المغيرة وطالوت ولم أقف على اسم ابن أخيه المذكور ولا على
تعيين أبيه أيهما هو قال ابن التين ظاهر الحديث أن من اغتاب في صومه فهو مفطر واليه ذهب
بعض السلف وذهب الجمهور إلى خلافة لكن معنى الحديث أن الغيبة من الكبائر وأن إثمها
لا يفي له بأجر صومه فكأنه في حكم المفطر (قلت) وفي كلامه مناقشة لان حديث الباب لا ذكر
للغيبة فيه وإنما فيه قول الزور والعمل به والجهل ولكن الحكم والتأويل في كل ذلك ما أشار إليه
والله أعلم وقوله فيه فليس لله حاجة هو مجاز عن عدم قبول الصوم (قوله باب ما قيل
في ذي الوجهين) أورد فيه حديث أبي هريرة وفيه تفسيره وهو من جملة صور التمام (قوله تجد
من شرار الناس) كذا وقع في رواية الكشميهني شرار بصيغة الجمع وأخرجه الترمذي من طريق
أبي معاوية عن الأعمش بلفظ أن من شر الناس وقد تقدم في أوائل المناقب من طريق عمارة بن
القعقاع عن أبي زرعة عنه عن أبي هريرة بلفظ تجدون شر الناس وأخرجه مسلم من هذا الوجه
ومن رواية ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عنه بلفظ تجدون من شر الناس ذا الوجهين وأخرجه
أبو داود من رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه بلفظ من شر الناس ذو
الوجهين ولمسلم من رواية مالك عن أبي الزناد ان من شر الناس ذا الوجهين وسيأتي في الاحكام
من طريق عراك بن مالك عنه بلفظ أن شر الناس ذو الوجهين وهو عند مسلم أيضا وهذه الألفاظ
متقاربة والروايات التي فيها شر الناس محمولة على الرواية التي فيها من شر الناس ووصفه بكونه
شر الناس أو من شر الناس مبالغة في ذلك ورواية أشر الناس بزيادة الألف لغة في شر يقال خير
395

وأخير وشر وأشر بمعنى ولكن الذي بالألف أقل استعمالا ويحتمل أن يكون المراد بالناس من
ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصة فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرا فلا يتمكن من
الاطلاع على أسرارها إلا بما ذكر من خداعه الفريقين ليطلع على أسرارهم فهو شرهم كلهم
والأولى حمل الناس على عمومة فهو أبلغ في الذم وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي
شهاب عن الأعمش بلفظ من شر خلق الله ذو الوجهين قال القرطبي إنما كان ذو الوجهين شر
الناس لان حاله حال المنافق إذ هو متملق بالباطل وبالكذب مدخل للفساد بين الناس وقال
النووي هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها وصنيعه نفاق
ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين وهي مداهنة محرمة قال فأما
من يقصد بذلك الاصلاح بين الطائفتين فهو محمود وقال غيره الفرق بينهما أن المذموم من يزين
لكل طائفة عملها ويقبحه عند الأخرى ويذمل كل طائفة عند الأخرى والمحمود أن يأتي لكل طائفة
بكلام فيه صلاح الأخرى ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى وينقل إليه ما أمكنه من الجميل
ويستر القبيح ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش الذي يأتي
هؤلاء بحديث هؤلاء وهؤلاء بحديث هؤلاء وقال ابن عبد البر حمله على ظاهره جماعة وهو أولى
وتأوله قوم على أن المراد به من يرائي بعمله فيرى الناس خشوعا واستكانة ويوهمهم أنه
يخشى الله حتى يكرموه وهو في الباطن بخلاف ذلك قال وهذا محتمل لو اقتصر في الحديث على
صدره فإنه داخل في مطلق ذي الوجهين لكن بقية الحديث ترد هذا التأويل وهي قوله يأتي
هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه (قلت) وقد اقتصر في رواية الترمذي على صدر الحديث لكن دلت
بقية الروايات على أن الراوي اختصره فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش وقد ثبت هنا من
رواية الأعمش بتمامه ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي ترد التأويل المذكور صريحا وقد
رواه البخاري في الأدب المفرد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون
أمينا وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له
وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار وفي الباب عن أنس أخرجه ابن عبد البر بهذا
اللفظ وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البر عمن ذكره بخلاف حديث الباب فإنه فسر من
يتردد بين طائفتين من الناس والله أعلم (قوله باب من أخبر صاحبه بما يقال فيه)
قد تقدمت الإشارة إلى أن المذموم من نقله الاخبار من يقصد الافساد واما من يقصد النصيحة
ويتحرى الصدق ويتجنب الأذى فلا وقل من يفرق بين البابين فطريق السلامة في ذلك لمن
يخشى عدم الوقوف على ما يباح من ذلك مما لا يباح الامساك عن ذلك وذكر فيه حديث ابن
مسعود في إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بقول القائل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله وسيأتي
شرحه مستوفى في باب الصبر على الأذى إن شاء الله تعالى وقوله في هذه الرواية فتمعر وجهه بالعين
المهملة أي تغير من الغضب وللكشميهني فتمغر بالغين المعجمة أي صار لونه لون المغرة وأراد البخاري
بالترجمة بيان جواز النقل على وجه النصيحة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن
مسعود نقله ما نقل بل غضب من قول المنقول عنه ثم حلم عنه وصبر على أذاه ائتساء بموسى عليه
السلام وامتثالا لقوله تعالى فبهداهم اقتده (قوله باب ما يكره من التمادح)
396

هو تفاعل من المدح أي المبالغ والتمدح التكلف والممادحة أي مدح كل من الشخصين الآخر
وكأنه ترجم ببعض ما يدل عليه الخبر لأنه أعم من أن يكون من الجانبين أو من جانب
واحد ويحتمل أن لا يريد حمل التفاعل فيه على ظاهره وقد ترجم له في الشهادات ما يكره من
الاطناب في المدح أورد فيه حديثين الأول حديث أبي موسى قال فيه حدثنا محمد بن الصباح
بفتح المهملة وتشديد الموحدة وآخره حاء مهملة هو البزار ووقع هنا في رواية أبي ذر محمد بن صباح
بغير ألف ولام وتقدم الكل في الشهادات بهذا الحديث بعينه وأخرجه مسلم عنه فقال حدثنا
أبو جعفر محمد بن الصباح وهذا الحديث مما اتفق الشيخان على تخريجه عن شيخ واحد ومما ذكره
البخاري بسنده ومتنه في موضعين ولم يتصرف في متنه ولا إسناده وهو قليل في كتابه وقد أخرجه
أحمد في مسنده عن محمد بن الصباح وقال عبد الله بن أحمد بعد أن أخرجه عن أبيه عنه قال
عبد الله وسمعته انا من محمد بن الصباح فذكره وإسماعيل بن زكريا شيخه هو الخلقاني بضم المعجمة
وسكون اللام بعدها قاف وبريدة بموحدة وراء يكنى أبا بردة مثل كنية جده وهو شيخه فيه وقوله
عن بريد في رواية الإسماعيلي حدثنا بريد (قوله سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثنى على
رجل) لم اقف على اسمهما صريحا ولكن أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث محجن
ابن الأدرع الأسلمي قال اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فذكر حديثا قال فيه فدخل
المسجد فإذا رجل يصلى فقال لي من هذا فأثنيت عليه خيرا فقال اسكت لا تسمعه فتهلكه وفى
رواية له فقلت يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا وفى أخرى له هذا فلان وهو من أحسن أهل
المدينة صلاة أو من أكثر أهل المدينة الحديث والذي اثنى عليه محجن يشبه ان يكون هو
عبد الله ذو النجادين المزني فقد ذكرت في ترجمته في الصحابة ما يقرب ذلك (قوله ويطريه) بضم
أوله وبالطاء المهملة من الاطراء وهو المبالغة في المدح وسأذكر ما ورد في بيان ما وقع من ذلك
في الحديث الذي بعده (قوله في المدحة) بكسر الميم وفى نسخة مضت في الشهادات في المدح بفتح
الميم بلا هاء وفى أخرى في مدحه بفتح الميم وزيادة الضمير والأول هو المعتمد (قوله لقد أهلكتم
أو قطعتم ظهر الرجل) كذا فيه بالشك وكذا المسلم وسيأتي في حديث أبي بكرة الذي بعده بلفظ
قطعت عنق صاحبك وهما بمعنى والمراد بكل منهما الهلاك لان من يقطع عنقه يقتل ومن يقطع
ظهره يهلك * الحديث الثاني (قوله عن خالد) هو الحذاء وصرح به مسلم في روايته من طريق
غندر عن شعبة (قوله إن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فاثنى عليه رجل خيرا) وفى رواية
غندر فقال يا رسول الله ما من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منه في كذا وكذا العلة
يعنى الصلاة لما سيأتي (قوله ويحك) هي كلمة رحمة وتوجع وويل كلمة عذاب وقد تأتى موضع ويح
كما سأذكره (قوله قطعت عنق صاحبك يقوله مرارا) في رواية يزيد بن زريع عن خالد الحذاء التي
مضت في الشهادات ويحك قطعت عنق صاحبك قطعت عنق صاحبك مرارا في رواية
وهيب التي سأنبه عليها بعد أنه قال ذلك ثلاثا (قوله إن كان أحدكم) في رواية يزيد بن زريغ
وقال إن كان (قوله لا محالة) أي لا حيلة له في ترك ذلك وهى بمعنى لابد والميم زائدة ويحتمل ان
يكون من الحول أي القوة والحركة (قوله فليقل احسب كذا وكذا إن كان يرى) بضم أوله
أي يظن ووقع في رواية يزيد بن زريع إن كان يعلم ذلك وكذا في رواية وهيب (قوله والله حسيبه)
397

بفتح أوله وكسر ثانيه وبعد التحتانية الساكنة موحدة أي كافيه ويحتمل ان يكون هنا فعيل
من الحساب أي محاسبه على عمله الذي يعلم حقيقته وهى جملة اعتراضية وقال الطيبى هي من تتمة
المقول والجملة الشرطية حال من فاعل فليقل والمعنى فليقل احسب ان فلانا كذا إن كان يحسب
ذلك منه والله يعلم سره لأنه هو الذي يجازيه ولا يقل أتيقن ولا أتحقق جاز ما بذلك (قوله ولا يزكى
على الله أحد) كذا لأبي ذر عن المستملى والسرخسي بفتح الكاف على البناء للمجهول وفى رواية
الكشميهني ولا يزكى بكسر الكاف على البناء للفاعل وهو المخاطب أولا المقول له فليقل وكذا
في أكثر الروايات وفى رواية غندر ولا أزكى بهمزة بدل التحتانية أي لا اقطع على عاقبة أحد ولا على
ما في ضميره لكون ذلك مغيبا عنه وجئ بذلك بلفظ الخبر ومعناه النهى أي لا تزكوا أحدا على
الله لأنه اعلم بكم منكم (قوله قال وهيب عن خالد) يعنى بسنده المتقدم (ويلك) أي وقع في روايته
ويلك بدل ويحل وستأتي رواية وهيب موصولة في باب ما جاء في قول الرجل ويلك ويأتي شرح
هذه اللفظة هناك قال ابن بطال حاصل النهى ان من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه لم يأمن على
الممدوح العجب لظنه انه بتلك المنزلة فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالا على ما وصف
به ولذلك تأول العلماء في الحديث الاخر احثوا في وجوه المداحين التراب ان المراد من يمدح
الناس في وجوههم بالباطل وقال عمر المدح هو الذبح قال واما من مدح بما فيه فلا يدخل في
النهى فقد مدح صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجه مادحه ترابا
انتهى ملخصا فاما الحديث المشار إليه فأخرجه مسلم من حديث المقداد وللعلماء فيه خمسة
أقوال أحدها هذا وهو حمله على ظاهره واستعمله المقداد راوي الحديث والثاني الخيبة
والحرمان كقولهم لمن رجع خائبا رجع وكفه مملوأة ترابا والثالث قولوا له بفيك التراب والعرب
تستعمل ذلك لمن تكره قوله والرابع ان ذلك يتعلق بالممدوح كان يأخذ ترابا فيبذره بين يديه
يتذكر بذلك مصيره إليه فلا يطغى بالمدح الذي سمعه والخامس المراد بحثو التراب في وجه المادح
اعطاؤه ما طلب لان كل فوق التراب وبهذا جزم البيضاوي وقال شبه الاعطاء بالحثى
على سبيل الترشيح والمبالغة في التقليل والاستهانة قال الطيبى ويحتمل ان يراد دفعه عنه وقطع
لسانه عن عرضه بما يرضيه من الرضخ والدافع قد يدفع خصمه بحثي التراب على وجهه استهانة به
واما الأثر عن عمر فورد مرفوعا أخرجه ابن ماجة واحمد من حديث معاوية سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول فذكره بلفظ إياكم والتمادح فإنه الذبح والى لفظ هذه الرواية رمز
البخاري في الترجمة وأخرجه البيهقي في الشعب مطولا وفيه وإياكم والمدح فإنه من الذبح واما
ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم فقد ارشد مادحيه إلى ما يجوز من ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم الحديث وقد تقدم بيانه في أحاديث الأنبياء وقد
ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بان الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة
بخلافها ويستثنى من ذلك ما جاء عن المعصوم فإنه لا يحتاج إلى قيد كالألفاظ التي وصف النبي
صلى الله عليه وسلم بها بعض الصحابة مثل قوله لابن عمر نعم العبد عبد الله وغير ذلك وقال الغزالي
في الاحياء آفة المدح في المادح انه قد يكذب وقد يرائي الممدوح بمدحه ولا سيما إن كان فاسقا
أو ظالما فقد جاء في حديث انس رفعه إذا مدح الفاسق غضب الرب أخرجه أبو يعلى وابن أبي
398

الدنيا في الصمت وفى سنده ضعف وقد يقول ما لا يتحققه مما لا سبيل له إلى الاطلاع عليه ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم فليقل احسب وذلك كقوله انه ورع ومنق وزاهد بخلاف ما لو قال رايته
يصلى أو يحج أو يزكن فإنه يمكنه الاطلاع على ذلك ولكن تبقى الآفة على الممدوح فإنه لا يأمن
ان يحدث فيه المدح كبرا أو اعجابا أو يكله على ما شهره به المادح فيفتر عن العمل لان الذي يستمر
في العمل غالبا هو الذي يعد نفسه مقصرا فان سلم المدح من هذه الأمور لم يكن به باس وربما كان
مستحبا قال ابن عيينة من عرف نفسه لم يضره المدح وقال بعض السلف إذا مدح الرجل في
وجهه فليقل اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون أخرجه
البيهقي في الشعب (قوله باب من اثنى على أخيه بما يعلم) أي فهو جائز ومستثنى
من الذي قبله والضابط ان لا يكون في المدح مجازفة ويؤمن على الممدوح الاعجاب والفتنة كما
تقدم (قوله وقال سعد) هو ابن أبي وقاص وقد تقدم الحديث المذكور موصولا في مناقب
عبد الله بن سلام من كتاب المناقب ثم ذكر فيه حديث ابن عمر موصولا في قصة جر الازار فقال أبو
بكر ان إزاري يسقط من أحد شقيه قال إنك لست منهم وقد تقدم ابسط من هذا في كتاب
اللباس وفى لفظ انك لست ممن نفعل ذلك خيلاء وهذا من جملة المدح لكنه لما كان صدقا محضا
وكان الممدوح يؤمن معه الاعجاب والكبر مدح به ولا يدخل ذلك في المنع ومن جملة ذلك
الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة
كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر ما لقيك الشيطان سالكا فجا الا سلك فجا غير فجك وقوله
للأنصاري عجب الله من صنعكما وغير ذلك من الاخبار (قوله باب قول الله تعالى
ان الله يأمر بالعدل والاحسان الآية) كذا الابى ذر والنسفي وساق الباقون إلى تذكرون
وأخرج البخاري في الأدب المفرد من طريق أبى الضحى قال قال شتير بن شكل لمسروق حدث
يا أبا عائشة وأصدقك قال هل سمعت عبد الله بن مسعود يقول ما في القرآن آية أجمع لحلال
وحرام وامر ونهى من هذه الآية ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى قال نعم
وسنده صحيح (قوله وقوله انما بغيكم على أنفسكم) أي ان اثم البغى وعقوبة البغى على الباغي
اما عاجلا واما آجلا (قوله وقوله ثم بغى عليه لينصرنه الله) كذا في رواية كريمة والأصيلي على
وفق التلاوة وكذا في رواية النسفي وأبي ذر وللباقين ومن بغى عليه وهو سبق فلم اما من المصف
واما ممن بعده كما أن المطابق للتلاوة اما من المصنف واما من اصلاح من بعده وإذا لم تتفق
الروايات على شئ فمن جزم بان الوهم من المصنف فقد تحامل عليه قال الراغب البغى مجاوزة
القصد في الشئ فمنه ما يحمد ومنه ما يذم فالمحمود مجاوزة العدل الذي هو الاتيان بالمأمور بغير زيادة
فيه ولا نقصان منه إلى الاحسان وهو الزيادة عليه ومنه الزيادة على الفرض بالتطوع المادون
فيه والمذموم مجاوزة العدل إلى الجور والحق إلى الباطل والمباح إلى الشبهة ومع ذلك فأكثر
ما يطلق البغى على المذموم قال الله تعالى انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في
الأرض بغير الحق وقال تعالى انما بغيكم على أنفسكم وقال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد وإذا
اطلق البغى وأريد به المحمود يزاد فيه غالبا التاء كما قال تعالى فابتغوا عند الله الرزق وقال تعالى
399

واما بعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها وقال غيره البغى الاستعلاء بغير حق ومنه بغى
الجرح إذا فسد (قوله وترك إثارة الشر على مسلم أو كافر) ثم ذكر فيه حديث عائشة في قصة
الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن بطال وجه الجمع بين الآيات المذكورة وترجمة الباب
مع الحديث أن الله لما نهى عن البغي وأعلم أن ضرر البغي إنما هو راجع إلى الباغي وضمن النصر
لمن بغى عليه كان حق من بغى عليه أن يشكر الله على إحسانه إليه بأن يعفو عمن بغى عليه وقد
امتثل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقب الذي كاده بالسحر مع قدرته على ذلك انتهى ملخصا
ويحتمل أن يكون مطابقة الترجمة للآيات والحديث انه صلى الله عليه وسلم ترك استخراج
السحر خشية ان يثور على الناس منه شر فسلك مسلك العدل في أن لا يحصل لمن لم يتعاط
السحر من اثر الضرر الناشئ عن السحر شر وسلك مسلك الاحسان في ترك عقوبة الجاني كما سبق
وقال ابن التين يستفاد من الآية الأولى ان دلالة الاقتران ضعيفة لجمعه تعالى بين العدل
والاحسان في أمر واحد والعدل واجب والاحسان مندوب (قلت) وهو مبنى على تفسير
العدل والاحسان وقد اختلف السلف في المراد بهما في الآية فقيل العدل لا إله إلا الله
والاحسان الفرائض وقيل العدل لا إله إلا الله والاحسان الاخلاص وقيل العدل خلع الأنداد
والاحسان أن تعبد الله كأنك تراه وهو بمعنى الذي قبله وقيل العدل الفرائض والاحسان
النافلة وقيل العدل العبادة والاحسان الخشوع فيها وقيل العدل الانصاف والاحسان
التفضل وقيل العدل امتثال المأمورات والاحسان اجتناب المنهيات وقيل العدل بذل
الحق والاحسان ترك الظلم وقيل العدل استواء السر والعلانية والاحسان فضل العلانية
وقيل العدل البذل والاحسان العفو وقيل العدل في الافعال والاحسان في الأقوال وقيل
غير ذلك وأقربها لكلامه الخامس والسادس وقال القاضي أبو بكر بن العربي العدل بين العبد
وربه بامتثال أوامره واجتناب مناهيه وبين العبد وبين نفسه بمزيد الطاعات وتوقي الشبهات
والشهوات وبين العبد وبين غيره بالأنصاف انتهى ملخصا وقال الراغب العدل ضربان مطلق
يقتضى العقل حسنه ولا يكون في شئ من الأزمنة منسوخا ولا يوصف بالاعتداء بوجه نحو أن
تحسن لمن أحسن إليك وتكف الأذى عمن كف أذاه عنك وعدل يعرف بالشرع ويمكن أن
يدخله النسخ ويوصف بالاعتداء مقابلة كالقصاص وأرش الجنايات وأخذ مال المرتد ولذا قال
تعالى فمن اعتدى عليكم الآية وهذا النحو هو المعنى بقوله تعالى أن الله يأمر بالعدل والاحسان
فإن العدل هو المساواة في المكافأة في خير أو شر والاحسان مقابلة الخير بأكثر منه والشر بالترك
أو بأقل منه (قوله سفيان) هو ابن عيينة (قوله مطبوب يعني مسحورا) هذا التفسير مدرج في
الخير وقد بينت ذلك عند شرح الحديث في كتاب الطب وكذا قوله فهلا تعني تنشرت ومن قال
هو مأخوذ من النشرة أو من نشر الشئ بمعنى إظهاره وكيف يجمع بين قولها فأخرج وبين قولها
في الرواية الأخرى هلا استخرجته وأن حاصله أن الاخراج الواقع كان لأصل السحر والاستخراج
المنفي كان لاجزاء السحر وقوله في آخره حليف ليهود وقع في رواية الكشميهني هنا لليهود بزيادة
لام (قوله باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر) كذا للأكثر وعند الكشميهني
400

وحده من بدل عن (وقوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد) أشار بذكر هذه الآية إلى أن النهي عن
التحاسد ليس مقصورا على وقوعه بين اثنين فصاعدا بل الحسد مذموم ومنهي عنه ولو وقع من
جانب واحد لأنه إذا ذم مع وقوعه مع المكافأة فهو مذموم مع الافراد بطريق الأولى وذكر
في الباب حديثين * أحدهما (قوله بشر بن محمد) هو المروزي وعبد الله هو ابن المبارك
(قوله إياكم والظن) قال الخطابي وغيره ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تناط به الاحكام
غالبا بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به وكذا ما يقع في القلب بغير دليل وذلك أن
أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها وما لا يقدر عليه لا يكلف به ويؤيده حديث تجاوز
الله للأمة عما حدثت به أنفسها وقد تقدم شرحه وقال القرطبي المراد بالظن هنا التهمة التي
لا سبب لها كمن يتهم رجلا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها ولذلك عطف عليه قوله
ولا تجسسوا وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة فيريد أن يتحقق فيتجسس ويبحث ويستمع
فنهى عن ذلك وهذا الحديث يوافق قوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا فدل سياق الآية على الامر بصون عرض المسلم غاية الصيانة
لتقدم النهي عن الخوض فيه بالظن فإن قال الظان أبحث لأتحقق قيل له ولا تجسسوا فإن قال
تحققت من غير تجسس قيل له ولا يغتب بعضكم بعضا وقال عياض استدل بالحديث قوم على
منع العمل في الاحكام بالاجتهاد والرأي وحمله المحققون على ظن مجرد عن الدليل ليس مبنيا على
أصل ولا تحقيق نظر وقال النووي ليس المراد في الحديث بالظن ما يتعلق بالاجتهاد الذي يتعلق
بالأحكام أصلا بل الاستدلال به لذلك ضعيف أو باطل وتعقب بأن ضعفه ظاهر وأما بطلانه
فلا فإن اللفظ صالح لذلك ولا سيما إن حمل على ما ذكره القاضي عياض وقد قربه القرطبي في المفهم
وقال الظن الشرعي الذي هو تغليب أحد الجانبين أو هو بمعنى اليقين ليس مرادا من الحديث
ولا من الآية فلا يلتفت لمن استدل بذلك على إنكار الظن الشرعي وقال ابن عبد البر احتج به
بعض الشافعية على من قال بسد الذريعة في البيع فأبطل بيع العينة ووجه الاستدلال النهي
عن الظن بالمسلم شرا فإذا باع شيئا حمل على ظاهره الذي وقع العقد به ولم يبطل بمجرد توهم أن سلك به
مسلك الحيلة ولا يخفى ما فيه وأما وصف الظن بكونه أكذب الحديث مع أن تعمد الكذب الذي
لا يستند إلى ظن أصلا أشد من الامر الذي يستند إلى الظن فللإشارة إلى أن الظن المنهي عنه هو
الذي لا يستند إلى شئ يجوز الاعتماد عليه فيعتمد عليه ويجعل أصلا ويجزم به فيكون الجازم به
كاذبا وإنما صار أشد من الكاذب لان الكذب في أصله مستقبح مستغنى عن ذمه بخلاف هذا فإن
صاحبه بزعمه مستند إلى شئ فوصف بكونه أشد الكذب مبالغة في ذمه والتنفير منه وإشارة إلى أن
الاغترار به أكثر من الكذب المحض لخفائه غالبا ووضوح الكذب المحض (قوله فإن الظن
أكذب الحديث) قد استشكلت تسمية الظن حديثا وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع
سواء كان قولا أو فعلا ويحتمل أن يكون المراد ما ينشأ عن الظن فوصف الظن به مجازا (قوله
ولا تحسسوا ولا تجسسوا) إحدى الكلمتين بالجيم والاخرى بالحاء المهملة وفي كل منهما
حذف إحدى التاءين تخفيفا وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب والأصل تتحسسوا
قال الخطابي معناه لا تبحثوا عن عيوب الناس ولا تتبعوها قال الله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه
401

السلام اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسة إحدى
الحواس الخمس وبالجيم من الجس بمعنى اختبار الشئ باليد وهي إحدى الحواس فتكون التي
بالحاء أعم وقال إبراهيم الحربي هما بمعنى واحد وقال ابن الأنباري ذكر الثاني للتأكيد
كقولهم بعدا وسحقا وقيل بالجيم البحث عن عوراتهم وبالحاء استماع حديث القوم وهذا رواه
الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أحد صغار التابعين وقيل بالجيم البحث عن بواطن الأمور وأكثر
ما يقال في الشر وبالحاء البحث عما يدرك بحاسة العين والاذن ورجح هذا القرطبي وقيل بالجيم
تتبع الشخص لأجل غيره وبالحاء تتبعه لنفسه وهذا اختيار ثعلب ويستثنى من النهي عن
التجسس ما لو تعين طريقا إلى انقاذ نفس من الهلاك مثلا كأن يخبر ثقة بأن فلانا خلا بشخص
ليقتله ظلما أو بامرأة ليزني بها فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك حذرا من فوات
استدراكه نقله النووي عن الأحكام السلطانية للماوردي واستجاده وأن كلامه ليس للمحتسب
أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات ولو غلب على الظن استسرار أهلها بها إلا هذه الصورة (قوله
ولا تحاسدوا) الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا
فإن سعى كان باغيا وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهى
المسلم عنها في حق المسلم نظر فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور
وإن كان المانع له من ذلك التقوى فقد يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه
في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن
إسماعيل بن أمية رفعه ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد قيل فما المخرج منها يا رسول
الله قال إذا تطيرت فلا ترجع وإذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وعن الحسن البصري
قال ما من آدمي إلا وفيه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شئ (قوله ولا
تدابروا) قال الخطابي لا تتهاجروا فيهجر أحدكم أخاه مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا
أعرض عنه حين يراه وقال ابن عبد البر قيل للاعراض مدابرة لان من أبغض ومن اعرض ومن
أعرض ولي دبره والمحب بالعكس وقيل معناه لا يستأثر أحدكم على الآخر وقيل للمستأثر مستدبر
لأنه يولي دبره حين يستأثر بشئ دون الآخر وقال المازري معنى التدابر المعاداة يقول دابرته أي
عاديته وحكى عياض أن معناه لا تجادلوا ولكن تعاونوا والأول أولى وقد فسره مالك في الموطأ
بأخص منه فقال إذ ساق حديث الباب عن الزهري بهذا السند ولا أحسب التدابر إلا الاعراض
عن السلام يدبر عنه بوجهه وكأنه أخذه من بقية الحديث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا
وخيرهما الذي يبدأ بالسلام فإنه يفهم أن صدور السلام منهما أو من أحدهما يرفع ذلك
الاعراض وسيأتي مزيد لهذا في باب الهجرة ويؤيده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزي
في زيادات كتاب البر والصلة لابن المبارك بسند صحيح عن أنس قال التدابر التصارم (قوله
ولا تباغضوا) أي لا تتعاطوا أسباب البغض لان البغض لا يكتسب ابتداء وقيل المراد النهي عن
الأهواء المضلة المقتضية للتباغض (قلت) بل هو لأعم من الأهواء لان تعاطي الأهواء ضرب من
ذلك وحقيقة التباغض أن يقع بين اثنين وقد يطلق إذا كان من أحدهما والمذموم منه ما كان
في غير الله تعالى فإنه واجب فيه ويثاب فاعله لتعظيم حق الله ولو كانا أو أحدهما عند الله من أهل
402

السلامة كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر فيبغضه على ذلك وهو معذور عند الله
(قوله وكونوا عباد الله إخوانا) بلفظ المنادى المضاف زاد مسلم في آخره من رواية أبي صالح عن
أبي هريرة كما أمركم الله ومثله عنده من طريق قتادة عن أنس وهذه الجملة تشبه التعليل لما تقدم
كأنه قال إذا تركتم هذه المنهيات كنتم إخوانا ومفهومه إذا لم تتركوها تصيروا أعداء ومعنى
كونوا إخوانا اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا مما سبق ذكره وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك
اثباتا ونفيا وقوله عباد الله أي يا عباد الله بحذف حرف النداء وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله
فحقكم أن تتواخوا بذلك قال القرطبي المعنى كونوا كإخوان النسب في الشفقة والرحمة والمحبة
والمواساة والمعاونة والنصيحة ولعل قوله في الرواية الزائدة كما أمركم الله أي بهذه الأوامر المقدم
ذكرها فإنها جامعة لمعاني الاخوة ونسبتها إلى الله لان الرسول مبلغ عن الله وقد أخرج أحمد
بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا لا أقول إلا ما أقول ويحتمل أن يكون أراد بقوله كما أمركم الله
الإشارة إلى قوله تعالى إنما المؤمنون إخوة فإنه خبر عن الحالة التي شرعت للمؤمنين فهو بمعنى
الامر قال ابن عبد البر تضمن الحديث تحريم بغض المسلم والاعراض عنه وقطيعته بعد صحبته
بغير ذنب شرعي والحسد له على ما أنعم الله به عليه وان يعامله معاملة الأخ النسيب وان لا ينقب
عن معايبه ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب وقد يشترك الميت مع الحي في كثير من ذلك
* (تنبيه) * وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن همام في هذا الحديث من الزيادة ولا تنافسوا
وكذا وقعت في حديث أبي هريرة من رواية الأعرج وبين الاختلاف فيها في الباب الذي بعده
ووقع عند مسلم في رواية أبى صالح عن أبي هريرة في آخره كما امركم الله وقد نبهت عليها ولمسلم أيضا
من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة فيه ولا يبع بعضكم على بيع بعض
وأفرد هذه الزيادة في البيوع من وجه آخر ومثله له من رواية أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن
أبي هريرة وزاد بعد قوله اخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من
الشر ان يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه التقوى ههنا ويشير إلى
صدره وزاد في رواية أخرى من هذه الطريق ان الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن
ينظر إلى قلوبكم وقد افردها أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة وزاد البخاري من رواية جعفر بن
ربيعة عن الأعرج فيه زيادة سأذكرها في الباب الذي بعده وهذه الطريق من رواية مولى عامر
أجمع ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث عن أبي هريرة وكانه كان يحدث به أحيانا مختصرا
وطورا بتمامه وقد فرقه بعض الرواة أحاديث وممن وقع عنده بعضه مفرقا ابن ماجة في كتاب
الزهد من كتابه وهو حديث عظيم اشتمل على جمل من الفوائد والآداب المحتاج إليها * الحديث
الثاني حديث انس (قوله لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا) هكذا اقتصر الحفاظ من
أصحاب الزهري عنه على هذه الثلاثة وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه ولا تنافسوا ذكر ذلك ابن
عبد البر في التمهيد والخطيب في المدرج قال وهكذا قال سعيد بن أبي مريم عن مالك عن ابن
شهاب وقد قال الخطيب وابن عبد البر خالف سعيد جميع الرواة عن مالك في الموطأ وغيره فإنهم لم
يذكروا هذه الكلمة في حديث انس وانما هي عنهم في حديث مالك عن أبي الزناد أي الحديث
الذي يلي هذا فأدرجها ابن أبي مريم في اسناد حديث انس وكذا قال حمزة الكناني لا اعلم أحدا
403

قالها عن مالك في حديث انس غير سعيد وسيأتي الكلام على حكم التهاجر والتنبيه على
زيادة وقعت في آخر حديث انس هذا بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله تعالى (قوله باب
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض الظن اثم ولا تجسسوا) كذا للجميع الا
ان لفظ باب سقط من رواية أبي ذر وأورد فيه حديث أبي هريرة من رواية مالك عن أبي الزناد
عن الأعرج عنه فقط وزعم ابن بطال وتبعه ابن التين ان البخاري أورد فيه حديث أنس أي
المذكور في الباب الذي قبله ثم حكى ابن يطال عن المهلب ان مطابقته للترجمة من جهة ان البغض
والحسد ينشان عن سوء الظن قال ابن التين وذلك انهما يتأولان أفعال من يبغضانه
ويحسد انه على أسوأ التأويل اه‍ والذي وقفت عليه في النسخ التي وقعت لنا كلها ان حديث
انس في الباب الذي قبله ولا اشكال فيه (قوله فيه ولا تناجشوا) كذا في جميع النسخ التي
وقفت عليها من البخاري بالجيم والشين المعجمة من النجش وهو ان يزيد في السلعة وهو لا يريد
شراءها ليقع غيره فيها وقد تقدم بيانه وحكمه في كتاب البيوع والذي في جميع الروايات عن مالك
بلفظ ولا تنافسوا بالفاء والسين المهملة وكذا أخرجه الدارقطني في الموطئات من طريق ابن
وهب ومعن وابن القاسم وإسحق بن عيسى بن الطباع وروح بن عبادة ويحيى بن يحيى التميمي
والقعنبي ويحيى بن بكير ومحمد بن الحسن ومحمد بن جعفر الوركاني وأبى مصعب وأبى حذافة كلهم
عن مالك وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك وكذا أخرجه مسلم
عن يحيى بن يحيى التميمي وكذلك أخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة
ولكنه اخرج من طريق الأعمش عن أبي صالح بلفظ ولا تناجشوا كما وقع عند البخاري ومن
طريق أبي سعيد مولى عامر بن كريز كذلك فاختلف فيها على أبي هريرة ثم على أبى صالح عنه فلا
يمتنع ان يختلف فيها على مالك الا أنى ما وجدت ما يعضد رواية عبد الله بن يوسف هذه ويبعد أن
يجتمع الجميع على شئ وينفرد واحد بخلافه ويكون محفوظا ولم أر الحديث في نسختي من
مستخرج الإسماعيلي أصلا فلا أدرى سقط عليه أو سقط من النسخة وقد أخرجه أبو نعيم
في المستخرج من رواية الوركاني عن مالك ووقع فيه عنده ولا تنافسوا كالجماعة ولكنه قال
في آخره أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك ولم ينبه على هذه اللفظة فما أدرى هل
وقع في نسخته على وفاق الجماعة أو على ما عندنا ولم يعتن ببيان ذلك ولم أر من نبه على هذا الموضع
حتى أن الحميدي ساقه من البخاري وحده من رواية جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة
وهذه الطريق قد مضت في أوائل النكاح وليس فيها هذه اللفظة المختلف فيها ولكن فيها بعد قوله
إخوانا ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك قال وأخرجه البخاري أيضا من
حديث مالك فساقه بهذا السند والمتن بتمامه دون اللفظة التي أتكلم عليها وقال هكذا أخرجه
البخاري في الأدب وأغفله أبو مسعود ولكنه ذكر انه أخرجه من رواية شعيب عن أبي الزناد ولم
أجد ذلك فيه الا من رواية شعيب عن الزهري عن أنس قال الحميدي وأخرجه البخاري من رواية
همام عن أبي هريرة نحوه ومن رواية طاوس عن أبي هريرة مثل رواية الأعرج سواء (قلت)
ورواية طاوس تأتى في الفرائض قال الحميدي وقد أخرجه مسلم أيضا من رواية مالك عن أبي الزناد
فساقه وفيه ولا تنافسوا قال فهو متفق عليه من رواية مالك لا من افراد البخاري وكأنه استدرك
404

ذلك على نفسه والغرض من ذلك أن الحميدي مع تتبعه واعتنائه لم ينبه على ما وقع في هذه اللفظة
من الاختلاف وكذا أغفل ابن عبد البر التنبيه عليها وهى على شرطه في التمهيد وكذلك الدارقطني
ولو تفطن لها لساقها في غرائب مالك كعادته في انظارها ولكنه لم يتعرض لها فلعلها من تغيير
بعض الرواة بعد البخاري والله أعلم (قوله باب ما يجوز من الظن) كذا
للنسفي ولأبي ذر عن الكشميهني وكذا في ابن بطال وفى رواية القابسي والجرجاني ما يكره وللباقين
ما يكون والأول أليق بسياق الحديث (قوله ما أظن فلانا وفلانا) لم اقف على تسميتهما وقد ذكر
الليث في الرواية الأولى انهما كانا منافقين (قوله يعرفان من ديننا شيئا وفى الرواية الأخرى
يعرفان ديننا الذي نحن عليه قال الداودي تأويل الليث بعيد ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم
يعرف جميع المنافقين كذا قال وقال غيره الحديث لا يطابق الترجمة لان في الترجمة اثبات الظن
وفى الحديث نفى الظن والجواب ان النفي في الحديث لظن النفي لا لنفى الظن فلا تنافى بينه وبين
الترجمة وحاصل الترجمة ان مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهى عنه لأنه في مقام
التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين والنهى انما هو عن الظن السوء بالمسلم السالم في دينه
وعرضه وقد قال ابن عمر انا كنا إذا فقدنا الرجل في عشاء الآخرة أسأنا به الظن ومعناه انه لا يغيب
الا لأمر سيئ اما في بدنه واما في دينه (قوله باب ستر المؤمن على نفسه) أي
إذا وقع منه ما يعاب فيشرع له ويندب له (قوله عبد العزيز بن عبد الله) هو الأويسي
(قوله عن ابن اخى ابن شهاب) هو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري ووقع في رواية لأبي نعيم
في المستخرج من وجه آخر عن عبد العزيز شيخ البخاري فيه حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن
عبد الله ابن اخى ابن شهاب وقد روى إبراهيم بن سعد عن الزهري نفسه الكبير وربما ادخل
بينهما واسطة مثل هذا (قوله عن ابن شهاب) في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن
ابن اخى ابن شهاب عن عمه أخرجه مسلم والإسماعيلي (قوله كال أمتي معافى) بفتح الفاء مقصور
اسم مفعول من العافية وهو اما بمعنى عفا الله عنه واما سلمه الله وسلم منه (قوله الا المجاهرين)
كذا للأكثر وكذا في رواية مسلم ومستخرجي الإسماعيلي وأبى نعيم بالنصب وفى رواية النسفي
الا المجاهرون بالرفع وعليها شرح ابن بطال وابن التين وقال كذا وقع وصوابه عند البصريين
بالنصب وأجاز الكوفيون الرفع في الاستثناء المنقطع كذا قال وقال ابن مالك الا على هذا
بمعنى لكن وعليها خرجوا قراءة ابن كثيرو أبى عمرو ولا يلتفت منكم أحد الا امرأتك أي لكن
امرأتك انه مصيبها ما أصابهم وكذلك هنا المعنى لكن المجاهرون بالمعاصي لا يعافون
فالمجاهرون مبتدأ والخبر محذوف وقال الكرماني حق الكلام النصب الا ان يقال العفو بمعنى
الترك وهو نوع من النفي ومحصل الكلام كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به
الا الفاسق المعلن اه‍ واختصره من كلام الطيبى فإنه قال كتب في نسخة المصابيح المجاهرون
بالرفع وحقه النصب وأجاب بعض شراح المصابيح بأنه مستثنى من قوله معافى وهو في معنى النفي
أي كل أمتي لا ذنب عليهم الا المجاهرون وقال الطيبى والأظهر ان يقال المعنى كل أمتي يتركون
في الغيبة الا المجاهرون والعفو بمعنى الترك وفيه معنى النفي كقوله ويأبى الله الا ان يتم نوره والمجاهر
الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها وقد ذكر النووي ان من جاهر بفسقه
405

أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به اه‍ والمجاهر في هذا الحديث يحتمل ان يكون
من جاهر بكذا بمعنى جهر به والنكتة في التعبير بفاعل إرادة المبالغة ويحتمل ان يكون على ظاهر
المفاعلة والمراد الذين يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي وبقية الحديث تؤكد الاحتمال
الأول (قوله وان من المجاهرة) كذا لابن السكن والكشميهني وعليه شرح ابن بطال وللباقين
المجانة بدل المجاهرة ووقع في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد وان من الا جهار كذا عند مسلم
وفى رواية له الجهار وفي رواية الإسماعيلي الاهجار وفى رواية لأبي نعيم في المستخرج وان من
الهجار فتحصلنا على أربعة أشهرها الجهار ثم تقديم الهاء وبزيادة الف قبل كل منهما قال
الإسماعيلي لا اعلم أنى سمعت هذه اللفظة في شئ من الحديث يعنى الا في هذا الحديث وقال
عياض وقع للعذرى والسجزي في مسلم الاجهار وللفارسي الا هجار وقال في آخره وقال زهير
الجهار هذه الروايات من طريق ابن سفيان وابن أبي ماهان عن مسلم وفى أخرى عن ابن سفيان في
رواية زهير الهجار قال عياض الجهار والاجهار والمجاهرة كله صواب بمعنى الظهور والاظهار
يقال جهروا جهر بقوله وقراءته إذا أظهر وأعلن لأنه راجع لتفسير قوله أولا الا المجاهرون قال
واما المجانة فتصحيف وإن كان معناها لا يبعد هنا لان الماجن هو الذي يستهتر في أموره وهو الذي
لا يبالي بما قال وما قيل له (قلت) بل الذي يظهر رجحان هذه الرواية لان الكلام المذكور بعده
لا يرتاب أحد انه من المجاهرة فليس في إعادة ذكره كبير فائدة واما الرواية بلفظ المجانة فتفيد
معنى زائدا وهو ان الذي يجاهر بالمعصية يكون من جملة المجان والمجانة مذمومة شرعا وعرفا
فيكون الذي يظهر المعصية قد ارتكب محذورين اظهار المعصية وتلبسه بفعل المجان قال
عياض وأما الا هجار فهو الفحش والخناء وكثرة الكلام وهو قريب من معنى المجانة يقال أهجر في
كلامه وكانه أيضا تصحيف من الجهار أو الاجهار وإن كان المعنى لا يبعد أيضا هنا واما لفظ الهجار
فبعيد لفظا ومعنى لان الهجار الحبل أو الوتر تشد به يد البعير أو الحلقة التي يتعلم فيها الطعن ولا يصح
له هنا معنى والله أعلم (قلت) بل له معنى صحيح أيضا فإنه يقال هجروا هجر إذا أفحش في كلامه
فهو مثل جهر وأجهر فما صح في هذا صح في هذا ولا يلزم من استعمال الهجار بمعنى الحبل أو غيره
ان لا يستعمل مصدرا من الهجر بضم الهاء (قوله البارحة) هي أقرب ليلة مضت من وقت
القول تقول لقيته البارحة وأصلها من برح إذا زال وورد في الامر بالستر حديث ليس على
شرط البخاري وهو حديث ابن عمر رفعه اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها فمن ألم بشئ
منها فليستتر بستر الله الحديث أخرجه الحاكم وهو في الموطأ من مرسل زيد بن أسلم قال ابن
بطال في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين وفيه ضرب من العناد لهم
وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف لان المعاصي تذل أهلها ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه
حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين ورحمته سبقت غضبه
فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر يفوته جميع ذلك وبهذا يعرف موقع
إيراد حديث النجوي عقب حديث الباب وقد استشكلت مطابقته للترجمة من جهة أنها معقودة
لستر المؤمن على نفسه والذي في الحديث ستر الله على المؤمن والجواب أن الحديث مصرح بذم
من جاهر بالمعصية فيستلزم مدح من يستتر وأيضا فإن ستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه فمن
406

قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه فلم يستره ومن قصد التستر بها حياء من ربه ومن
الناس من الله عليه بستره إياه وقيل إن البخاري أشار بذكر هذا الحديث في هذه الترجمة إلى
تقوية مذهبه أن أفعال العباد مخلوقة لله (قوله عن صفوان بن محرز) في رواية شيبان عن
قتادة حدثنا صفوان وتقدم التنبيه عليها في تفسير سورة هود وصفوان مازني بصري وأبوه بضم
أوله وسكون المهملة وكسر الراء ثم زاي ما له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء
الخلق عنه عن عمران بن حصين وقد ذكرهما في عدة مواضع (قوله أن رجلا سأل ابن عمر) في رواية
همام عن قتادة الماضية في المظالم عن صفوان قال بينما أنا أمشي مع ابن عمر آخذ بيده وفي رواية
سعيد وهشام عن قتادة في تفسير هود بينما ابن عمر يطوف إذ عرض له رجل ولم أقف على اسم
السائل لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير فقد أخرج الطبراني من طريقه قال قلت لابن عمر
حدثني فذكر الحديث (قوله كيف سمعت) في رواية سعيد وهشام فقال يا أبا عبد الرحمن
وهي كنية عبد الله بن عمر (قوله كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى)
هي ما تكلم به المرء يسمع نفسه ولا يسمع غيره أو يسمع غيره سرا دون من يليه قال الراغب
ناجيته إذا ساررته وأصله أن تخلو في نجوه من الأرض وقيل أصله من النجاة وهي أن تنجو بسرك
من أن يطلع عليه والنجوى أصله المصدر وقد يوصف بها فيقال هو نجوى وهم نجوى والمراد بها
هنا المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين وقال الكرماني أطلق على
ذلك النجوى لمقابلة مخاطبة الكفار على رؤس الاشهاد هناك (قوله يدنو أحدكم من ربه) في رواية
سعيد بن أبي عروبة يدنو المؤمن من ربه أي يقرب منه قرب كرامة وعلو منزلة (قوله حتى يضع كنفه)
بفتح الكاف والنون بعدها فاء أي جانبه والكنف أيضا الستر وهو المراد هنا والأول مجاز في حق
الله تعالى كما يقال فلان في كنف فلان أي في حمايته وكلاءته وذكر عياض أن بعضهم صحفه
تصحيفا شنيعا فقال بالمثناة بدل النون ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ
يجعله في حجابه زاد في رواية همام وستره (قوله فيقول عملت كذا وكذا) في رواية همام فيقول
أتعرف ذنب كذا وكذا زاد في رواية سعيد وهشام فيقرره بذنوبه وفي رواية سعيد بن جبير فيقول
له اقرأ صحيفتك فيقرأ ويقرره بذنب ذنب ويقول أتعرف أتعرف (قوله فيقول نعم) زاد في رواية
همام أي رب وفي رواية سعيد وهشام فيقول أعرف (قوله ثم يقول اني سترتها عليك في الدنيا
وأنا أغفرها لك اليوم) في رواية سعيد بن جبير فيلتفت يمنة ويسرة فيقول لا بأس عليك إنك في
سترى لا يطلع على ذنوبك غيري زاد همام وسعيد وهشام في روايتهم فيعطى كتاب حسناته ووقع
في بعض روايات سعيد وهشام فيطوى وهو خطأ وفي رواية سعيد بن جبير أذهب فقد غفرتها لك
ووقع عند الثلاثة وأما الكافر والمنافق ولبعضهم الكفار والمنافقون وفي رواية سعيد وهشام
وأما الكافر فينادي على رؤس الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين وقد
تقدم في تفسير هود أن الاشهاد جمع شاهد مثل أصحاب وصاحب وهو أيضا جمع شهيد كشريف
وأشراف قال المهلب في الحديث تفضل الله على عباده بستره لذنوبهم يوم القيامة وأنه يغفر
ذنوب من شاء منهم بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الايمان لأنه لم يستثن في هذا الحديث
ممن يضع عليه كنفه وستره أحدا الا الكفار والمنافقين فإنهم الذين ينادى عليهم على رؤس
407

الاشهاد باللعنة (قلت) قد استشعر البخاري هذا فأورد في كتاب المظالم هذا الحديث
ومعه حديث أبي سعيد إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون
مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة الحديث فدل هذا
الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم
العباد فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة ودل حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من
العصاة يعذب بالنار ثم يخرج منها بالشفاعة كما تقدم تقريره في كتاب الايمان فدل مجموع هذه
الأحاديث على أن العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين * أحدهما من معصيته بينه وبين
ربه فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين قسم تكون معصيته مستورة في الدنيا فهذا
الذي يسترها الله عليه في القيامة وهو بالمنطوق وقسم تكون معصيته مجاهرة فدل مفهومه
على أنه بخلاف ذلك * والقسم الثاني من تكون معصيته بينه وبين العباد فهم على قسمين أيضا
قسم ترجح سيأتهم على حسناتهم فهؤلاء يقعون في النار ثم يخرجون بالشفاعة وقسم تتساوى
سيأتهم وحسناتهم فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاص كما دل عليه حديث أبي سعيد
وهذا كله بناء على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن يفعله باختياره وإلا فلا يجب
على الله شئ وهو يفعل في عباده ما يشاء (قوله باب الكبر) بكسر الكاف وسكون
الموحدة ثم راء قال الراغب الكبر والتكبر والاستكبار متقارب فالكبر الحالة التي يختص بها
الانسان من إعجابه بنفسه وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم ذلك أن يتكبر على ربه بأن
يمتنع من قبول الحق والاذعان له بالتوحيد والطاعة والتكبر يأتي على وجهين * أحدهما
أن تكون الأفعال الحسنة زائدة على محاسن الغير ومن ثم وصف سبحانه وتعالى بالمتكبر
* والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا بما ليس فيه وهو وصف عامة الناس نحو قوله كذلك
يطبع الله على كل قلب متكبر جبار والمستكبر مثله وقال الغزالي الكبر على قسمين فإن ظهر
على الجوارح يقال تكبر وإلا قيل في نفسه كبر والأصل هو الذي في النفس وهو الاسترواح
إلى رؤية النفس والكبر يستدعي متكبرا عليه يرى نفسه فوقه ومتكبرا به وبه ينفصل الكبر
عن العجب فمن لم يخلق إلا وحده يتصور أن يكون معجبا لا متكبرا (قوله وقال مجاهد ثاني عطفه
مستكبرا في نفسه عطفه رقبته) وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال في قوله
تعالى ثاني عطفه قال رقبته وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
في قوله ثاني عطفه قال مستكبرا في نفسه ومن طريق قتادة قال لاوي عنقه ومن طريق السدي
ثاني عطفه أي معرض من العظمة ومن طريق أبي صخر المدني قال كان محمد بن كعب يقول
هو الرجل يقول هذا شئ ثنيت عليه رجلي فالعطف هو الرجل قال أبو صخر والعرب تقول
العطف العنق وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن مجاهد أنها نزلت في النضر بن الحرث
ثم ذكر فيه حديثين * أحدهما حديث حارثة بن وهب وقد تقدم شرحه في تفسير سورة ن
والغرض منه وصف المستكبر بأنه من أهل النار وقوله ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف
هو برفع كل لان التقدير هم كل ضعيف الخ ولا يجوز أن يكون بدلا من أهل * ثانيهما
حديث أنس (قوله وقال محمد بن عيسى) أي ابن أبي نجيح المعروف بابن الطباع بمهملة
408

مفتوحة وموحدة ثقيلة وهو أبو جعفر البغدادي نزيل أذنة بفتح الهمزة والمعجمة والنون وهو
ثقة عالم بحديث هشيم حتى قال علي بن المديني سمعت يحيى القطان وابن مهدي يسألانه عن
حديث هشيم وقال أبو حاتم حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع الثقة المأمون ورجحه على أخيه
إسحق بن عيسى وإسحق أكبر من محمد وقال أبو داود وكان يتفقه وكأني يحفظ نحو أربعين ألف
حديث مات سنة أربع وعشرين ومائتين وحدث عنه أبو داود بلا واسطة وأخرج الترمذي في
الشمائل والنسائي وابن ماجة من حديثه بواسطة ولم أر له في البخاري سوى هذا الموضع وموضع
آخر في الحج قال محمد بن عيسى حدثنا قال حماد ولم أر في شئ من نسخ البخاري تصريحه عنه
بالتحديث وقد قال أبو نعيم بعد تخريجه ذكره البخاري بلا رواية وأما الإسماعيلي فإنه قال قال
البخاري قال محمد بن عيسى فذكره ولم يخرج له سندا وقد ضاق مخرجه على أبي نعيم أيضا فساقه في
مستخرجه من طريق البخاري وغفل عن كونه في مسند أحمد وأخرجه أحمد عن هشيم شيخ محمد
ابن عيسى فيه وإنما عدل البخاري عن تخريجه عن أحمد بن حنبل لتصريح حميد في رواية محمد بن
عيسى بالتحديث فإنه عنده عن هشيم أنبأنا حميد عن أنس وحميد مدلس والبخاري يخرج له
ما صرح فيه بالتحديث (قوله فتنطلق به حيث شاءت) في رواية أحمد فتنطلق به في حاجتها وله من
طريق علي بن زيد عن انس إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجئ فتأخذ بيد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت وأخرجه ابن ماجة من هذا
الوجه والمقصود من الاخذ باليد لازمه وهو الرفق والانقياد وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في
التواضع لذكره المرأة دون الرجل والأمة دون الحرة وحيث عمم بلفظ الإماء أي أمة كانت وبقوله
حيث شاءت أي من الأمكنة والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها
خارج المدينة والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك وهذا دال على مزيد
تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم وقد ورد في ذم الكبر ومدح التواضع
أحاديث من أصحها ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله
حسنا قال الكبر بطر الحق وغمط الناس والغمط بفتح المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة هو الازدراء
والاحتقار وقد أخرجه الحاكم بلفظ الكبر من بطر الحق وازدرى الناس والسائل المذكور
يحتمل أن يكون ثابت بن قيس فقد روى الطبراني بسند حسن عنه أنه سأل عن ذلك وكذا أخرج
من حديث سواد بن عمرو أنه سأل عن ذلك وأخرج عبد بن حميد من حديث ابن عباس رفعه الكبر
السفه عن الحق وغمص الناس فقال يا نبي الله وما هو قال السفه أن يكون لك على رجل مال
فينكره فيأمره رجل بتقوى الله فيأبى والغمص أن يجئ شامخا بأنفه وإذا رأى ضعفاء الناس
وفقراءهم لم يسلم عليهم ولم يجلس إليهم محقرة لهم وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه ابن
حبان والحاكم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم من مات وهو برئ من الكبر
والغلول والدين دخل الجنة وأخرج أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد رفعه
من تواضع لله درجة رفعه الله درجة حتى يجعله الله في أعلى عليين ومن تكبر على الله درجة وضعه
الله درجة حتى يجعله في أسفل سافلين وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رفعه إياكم والكبر
409

فإن الكبر يكون في الرجل وإن عليه العباءة ورواته ثقات وحكى ابن بطال عن الطبري أن المراد
بالكبر في هذه الأحاديث الكفر بدليل قوله في الأحاديث على الله ثم قال ولا ينكر أن يكون من
الكبر ما هو استكبار على غير الله تعالى ولكنه غير خارج عن معنى ما قلناه لان معتقد الكبر على
ربه يكون لخلق الله أشد استحقارا انتهى وقد أخرج مسلم من حديث عياض بن حمار بكسر
المهملة وتخفيف الميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى
لا يبغي أحد على أحد الحديث والامر بالتواضع نهى عن الكبر فإنه ضده وهو أعم من الكفر
وغيره واختلف في تأويل ذلك في حق المسلم فقيل لا يدخل الجنة مع أول الداخلين وقيل لا يدخلها
بدون مجازاة وقيل جزاؤه أن لا يدخلها ولكن قد يعفى عنه وقيل ورد مورد الزجر والتغليظ وظاهره
غير مراد وقيل معناه لا يدخل الجنة حال دخولها وفي قلبه كبر حكاه الخطابي واستضعفه النووي
فأجاد لان الحديث سيق لذم الكبر وصاحبه لا للاخبار عن صفة دخول أهل الجنة الجنة قال
الطيبي المقام يقتضي حمل الكبر على من يرتكب الباطل لان تحرير الجواب إن كان استعمال
الزينة لاظهار نعمة الله فهو جائز أو مستحب وإن كان للبطر المؤدي إلى تسفيه الحق وتحقير
الناس والصد عن سبيل الله فهو المذموم (قوله باب الهجرة) بكسر الهاء وسكون
الجيم أي ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا وهي في الأصل الترك فعلا كان أو قولا وليس
المراد بها مفارقة الوطن فإن تلك تقدم حكمها (قوله وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لرجل
أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) قد وصله في الباب عن أبي أيوب وأراد هنا أن يبين أن عمومه
مخصوص بمن هجر أخاه بغير موجب لذلك قال النووي قال العلماء تحرم الهجرة بين المسلمين أكثر
من ثلاث ليال بالنص وتباح في الثلاث بالمفهوم وإنما عفى عنه في ذلك لان الآدمي مجبول على
الغضب فسومح بذلك القدر ليرجع ويزول ذلك العارض وقال أبو العباس القرطبي المعتبر ثلاث
ليال حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار الغي البعض وتعتبر ليلة ذلك اليوم وينقضي العفو بانقضاء
الليلة الثالثة (قلت) وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود وقد مضى في باب ما نهي عن
التحاسد في رواية شعيب في حديث أبي أيوب بلفظ ثلاثة أيام فالمعتمد أن المرخص فيه ثلاثة أيام
بلياليها فحيث أطلقت الليالي أريد بأيامها وحيث أطلقت الأيام أريد بلياليها ويكون الاعتبار
مضى ثلاثة أيام بلياليها ملفقة إذا ابتدئت مثلا من الظهر يوم السبت كان آخرها الظهر يوم
الثلاثاء ويحتمل أن يلغى الكسر ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة والأول أحوط ثم
ذكر فيه ثلاثة أحاديث * الحديث الأول وفيه عن ثلاثة من الصحابة شئ مرفوع وباقيه عنهم وعن
رابع موقوف (قوله حدثني عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة) كذا عند النسفي وأبي ذر
وعند غيرهما وكذا أخرجه أحمد عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فقال عوف بن مالك بن الطفيل
وهو ابن أخي عائشة لامها وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق علي بن المديني من رواية الأوزاعي
وصالح بن كيسان ومعمر ثلاثتهم عن الزهري ففي رواية الأوزاعي عنه حدثني الطفيل بن الحرث
وكان من أزد شنوءة وكان أخا لها من أمها أم رومان وفي رواية صالح عنه حدثني عوف بن الطفيل
ابن الحرث وهو ابن أخي عائشة لامها وفي رواية معمر عوف بن الحارث بن الطفيل قال علي بن
المديني هكذا اختلفوا والصواب عندي وهو المعروف عوف بن الحارث بن الطفيل بن سخبرة
410

يعني بفتح المهملة والموحدة بينهما معجمة ساكنة قال والطفيل أبوه هو الذي روى عبد الملك بن عمير
عن ربعي بن حراش عنه يعني حديث لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان أخرجه النسائي وابن ماجة
وكذا أخرج أحمد طريق معمر والأوزاعي وقال إبراهيم الحربي في كتاب النهي عن الهجران
بعد أن أورد من طريق معمر وشعيب وصالح الأوزاعي كما تقدم ومن طريق عبد الرحمن بن خالد
ابن مسافر عن الزهري عن عوف بن الحرث بن الطفيل ومن طريق النعمان بن راشد عن الزهري
عن عروة عن المسور هذا وهم قال وكذا وهم الأوزاعي في قوله الطفيل بن الحرث وصالح في قوله
عوف بن الطفيل بن الحرث وأصاب معمر وعبد الرحمن بن خالد في قولهما عوف بن الحرث بن
الطفيل كذا قال ثم قال الذي عندي أن الحرث بن سخبرة الأزدي قدم مكة ومعه امرأته أم
رومان بنت عامر الكنانية فخالف أبا بكر الصديق ثم مات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له
عبد الرحمن وعائشة وكان لها من الحرث الطفيل بن الحرث فهو أخو عائشة لامها وولد الطفيل
بن الحرث عوفا وله عن عائشة رواية غير هذه وهو الذي حدث عنه الزهري انتهى فعلى هذا يكون
الذي أصاب في تسميته ونسبه صالح بن كيسان وأما معمر وعبد الرحمن بن خالد فقلباه والأول هو
الذي صوبه علي بن المديني وقد اختلف على الأوزاعي فالرواية التي ذكرها الحربي عنه هي رواية
الوليد بن مسلم وأخرجه الإسماعيلي من رواية ابن كثير عن الأوزاعي على وفق رواية معمر وابن
خالد وأما شعيب في رواية أحمد فقلب الحرث أيضا فسماه مالكا وحذفه البخاري في رواية أبي ذر
فأصاب وسكت عن تسمية جده وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد رواية عبد الرحمن بن خالد
كذلك وإذا تحرر ذلك ظهر أن الذي جزم به ابن الأثير في جامع الأصول من أنه عوف بن مالك
ابن الطفيل ليس بجيد والاختلاف المذكور كله في تحرير اسم الراوي هنا عن عائشة ونسبه
إلا رواية النعمان بن راشد فإنها شاذة لأنه قلب شيخ الزهري فجعله عروة بن الزبير والمحفوظ رواية
الجماعة على أن للخبر من رواية عروة أصلا كما تقدم في أوائل مناقب قريش لكنه من غير رواية
الزهري عنه (قوله إن عائشة حدثت) كذا للأكثر بضم أوله وبحذف المفعول ووقع في رواية
الأصيلي حدثته والأول أصح ويؤيده أن في رواية الأوزاعي أن عائشة بلغها ووقع في رواية معمر
على الوجهين ووقع في رواية صالح أيضا حدثته (قوله في بيع أو عطاء أعطته عائشة) في رواية
الأوزاعي في دار لها باعتها فسخط عبد الله بن الزبير بيع تلك الدار (قوله لتنتهين عائشة) زاد في
رواية الأوزاعي فقال أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها وهذا مفسر لما أبهم في رواية غيره
وكذا لما تقدم في مناقب قريش من طريق عروة قال كانت عائشة لا تمسك شيئا فما جاءها من رزق
الله تصدقت به وهذا لا يخالف الذي هنا لأنه يحتمل أن تكون باعت الرباع لتتصدق بثمنها وقوله
لتنتهين أو لأحجرن عليها هذا أيضا يفسر قوله في رواية عروة ينبغي أن يؤخذ على يدها (قوله لله علي
نذر أن لا أكلم بن الزبير أبدا) في رواية عبد الرحمن بن خالد كلمة أبدا وفي رواية معمر بكلمة وفي
رواية الإسماعيلي من طريق الأوزاعي بدل قوله أبدا حتى يفرق الموت بيني وبينه قال ابن التين
قولها أن لا أكلم تقديره علي نذر إن كلمته انتهى ووقع في بعض الروايات بحذف لا وشرح
عليها الكرماني وضبطها بالكسر بصيغة الشرط قال وهو الموافق للرواية المتقدمة في مناقب
قريش بلفظ لله على نذر ان كلمته فعلى هذا يكون النذر معلقا على كلامه لا أنها نذرت ترك كلامه
411

ناجزا (قوله فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة) كذا للأكثر ووقع في رواية
السرخسي والمستملي حتى بدل حين والأول الصواب ووقع في رواية معمر على الصواب زاد في
رواية الأوزاعي فطالت هجرتها إياه فنقصه الله بذلك في أمره كله فاستشفع بكل جدير أنها تقبل
عليه وفي الرواية الأخرى عنه فاستشفع عليها بالناس فلم تقبل وفي رواية عبد الرحمن بن خالد
فاستشفع ابن الزبير بالمهاجرين وقد أخرج إبراهيم الحربي من طريق حميد بن قيس بن عبد الله
ابن الزبير قال فذكر نحو هذه القصة قال فاستشفع إليها بعبيد بن عمير فقال لها أين حديث أخبرتنيه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الصوم فوق ثلاث (قوله فقالت لا والله لا أشفع)
بكسر الفاء الثقيلة (قوله فيه أحدا) في رواية الكشميهني أبدا بدل قوله أحدا وجمع بين اللفظين
في رواية عبد الرحمن بن خالد وكذا في رواية معمر (قوله ولا أتحنث إلى نذري) في رواية معمر ولا
أحنث في نذري وفي رواية الأوزاعي فقالت والله لا آثم فيه أي في نذرها أو في ابن الزبير وتكون في
سببيه (قوله فلما طال ذلك علي ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن
عبد يغوث وهما من بني زهرة) أما المسور فهو ابن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن زهرة بن كلاب وأما
عبد الرحمن فجده يغوث بفتح التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو بعدها مثلثة وهو ابن وهيب
ابن عبد مناف بن زهرة يجتمع مع المسور في عبد مناف بن زهرة ووهيب وأهيب أخوان ومات
الأسود قبل الهجرة ولم يسلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن صغير فذكر في الصحابة
وله في البخاري غير هذا الموضع حديث عن أبي بن كعب سيأتي قريبا ووقع في رواية عروة
المتقدمة فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وقد
بينت هناك معنى هذه الخؤلة وصفة قرابة بني زهرة برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه
وأمه (قوله أنشدكما بالله لما) بالتخفيف وما زائدة ويجوز التشديد حكاه عياض يعني إلا أي
لا أطلب الا الادخال عليها ونظره بقوله تعالى لما جميع لدينا محضرون وقوله لما عليها حافظ فقد قرنا
بالوجهين وفي رواية الكشميهني إلا أدخلتماني زاد الأوزاعي فسألهما أن يشتملا عليه بأرديتهما
(قوله فإنها) في رواية الكشميهني فإنه والهاء ضمير الشأن (قوله لا يحل لها أن تنذر قطيعتي) لأنه
كان ابن أختها وهي التي كانت تتولى تربيته غالبا (قوله فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته)
في رواية معمر فقالا السلام على النبي ورحمة الله فيحتمل أن تكون الكاف في الأول مفتوحة
(قوله أندخل قالت نعم قالوا كلنا قالت نعم) في رواية الأوزاعي قالا ومن معنا قالت ومن معكما
(قوله فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي) في رواية الأوزاعي فبكى إليها وبكت إليه وقبلها وفي
روايته الأخرى عند الإسماعيلي وناشدها ابن الزبير الله والرحم (قوله ويقولان إن النبي صلى
الله عليه وسلم قد نهى عما قد علمت من الهجرة وأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال)
في رواية معمر أنه لا يحل بحذف الواو وهو كالتفسير لما قبله ويؤيد ذلك ورود الحديث مرفوعا
من طريق أخرى كحديثي أنس وأبي أيوب اللذين بعده وهذا القدر هو المرفوع من الحديث وهو
هنا من مسند المسور وعبد الرحمن بن الأسود وعائشة جميعا فإنها أقرتهما على ذلك وقد غفل
أصحاب الأطراف عن ذكره في مسند عبد الرحمن بن الأسود لكونه مرسلا ولكن ذكروا أنظاره
فيلزمهم من هذه الحيثية وله عن عائشة طريق أخرى تقدم بيانها وأنها من رواية حميد بن قيس
412

عن عبيد بن عمير عنها وأخرجه أيضا أبو داود من طريق أخرى عن عائشة وجاء المتن عن جماعة
كثيرة من الصحابة يزيد بعضهم على بعض كما سأبينه بعد * (تنبيه) * ادعى المحب الطبري أن
الهجران المنهي عنه ترك السلام إذا التقيا ولم يقع ذلك من عائشة في حق ابن الزبير ولا يخفى
ما فيه فإنها حلفت أن لا تكلمه والحالف يحرص على أن لا يحنث وترك السلام داخل في ترك
الكلام وقد ندمت على سلامها عليه فدل على أنها اعتقدت أنها حنثت ويؤيده ما كانت تعتقه
في نذرها ذلك (قوله فلما أكثروا على عائشة من التذكرة) أي التذكير بما جاء في فضل صلة الرحم
والعفو وكظم الغيظ (قوله والتحريج) بحاء مهملة ثم الجيم أي الوقوع في الحرج وهو الضيق لما
ورد في القطيعة من النهي وفي رواية معمر التخويف (قوله فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير) في
رواية الأوزاعي فكلمته بعد ما خشي أن لا تكلمه وقبلت منه بعد أن كادت أن لا تقبل منه (قوله
وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة) في رواية الأوزاعي ثم بعثت إلى اليمن بمال فابتيع لها به
أربعون رقبة فأعتقها كفارة لنذرها ووقع في رواية عروة المتقدمة فأرسل إليها بعشر رقاب
فأعتقتهم وظاهره أن عبد الله بن الزبير أرسل إليها بالعشرة أولا ولا ينافي رواية الباب أن تكون
هي اشترت بعد ذلك تمام الأربعين فأعتقتهم وقد وقع في الرواية الماضية ثم لم تزل حتى بلغت
أربعين (قوله وكانت تذكر نذرها) في رواية الأوزاعي قال عوف بن الحرث ثم سمعتها بعد ذلك تذكر
نذرها ذلك ووقع في رواية عروة أنها قالت وددت أني جعلت حين حلفت عملا فأعمله فأفرغ منه
وبينت هناك ما يحتمله كلامها هذا * الحديث الثاني والثالث حديث الزهري عن أنس وعن عطاء
ابن يزيد عن أبي أيوب وقد تقدم حديث أنس في باب التحاسد وأراد بإيرادهما معا أنه عند الزهري
على الوجهين لأنه أخرج من طريق مالك عن شيخه وأول حديث أبي أيوب عنه لا يحل لرجل كما
علقه أولا وزاد فيه يلتقيان وفي رواية الكشميهني فيلتقيان بزيادة فاء (قوله عن عطاء بن يزيد
الليثي عن أبي أيوب) هكذا اتفق أصحاب الزهري وخالفهم عقيل فقال عن عطاء بن يزيد عن أبي
وخالفهم كلهم شبيب بن سعيد عن يونس عنه فقال عن عبيد الله أو عبد الرحمن عن أبي بن كعب
قال إبراهيم الحربي أما شبيب فلم يضبط سنده وقد ضبطه ابن وهب عن يونس فساقه على الصواب
أخرجه مسلم وأما عقيل فلعله سقط عليه لفظ أيوب فصار عن أبي فنسبه من قبل نفسه فقال ابن
كعب فوهم في ذلك (قوله فوق ثلاث) ظاهره إباحة ذلك في الثلاث وهو من الرفق لان الآدمي
في طبعه الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث (قوله فيعرض
هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) زاد الطبري من طريق أخرى عن الزهري يسبق
إلى الجنة ولأبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه فإن
رد عليه فقد اشتركا في الاجر وأن لم يرد عليه فقد باء بالاثم وخرج المسلم من الهجرة ولأحمد
والمصنف في الأدب المفرد وصححه ابن حبان من حديث هشام بن عامر فإنهما ناكثان عن الحق
ما داما على صرامهما وأولهما فيأيكون سبقه كفارة فذكر نحو حديث أبي هريرة وزاد في آخره
فإن ماتا على صرامهما لم يدخلا الجنة جميعا (قوله وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) قال أكثر العلماء
نزول الهجرة بمجرد السلام ورده وقال أحمد لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها
أولا وقال أيضا ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام وكذا قال ابن القاسم وقال
413

عياض إذا اعتزل كلامه لم تقبل شهادته عليه عندنا ولو سلم عليه يعني وهذا يؤيد قول ابن القاسم
(قلت) ويمكن الفرق بأن الشهادة يتوقى فيها وترك المكالمة يشعر بأن في باطنه عليه شيئا فلا
تقبل شهادته عليه وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تركه ذلك في الثلاث فليس بممتنع
واستدل للجمهور بما رواه الطبراني من طريق زيد بن وهب عن ابن مسعود في أثناء حديث
موقوف وفيه ورجوعه أن يأتي فيسلم عليه واستدل بقوله أخاه على أن الحكم يختص بالمؤمنين
وقال النووي لا حجة في قوله لا يحل لمسلم لمن يقول الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة لان
التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع وينتفع به وأما التقييد بالاخوة فدال على أن
للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد واستدل بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه
المسلم وامتنع من مكالمته والسلام عليه أثم بذلك لان نفي الحل يستلزم التحريم ومرتكب الحرام
آثم قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث إلا لمن خاف من مكالمته ما يفسد
عليه دينه أو يدخل منه على نفسه أو دنياه مضرة فإن كان كذلك جاز ورب هجر جميل خير من
مخالطة مؤذية وقد استشكل على هذا ما صدر من عائشة في حق ابن الزبير قال ابن التين إنما
ينعقد النذر إذا كان في طاعة كلله علي أن أعتق أو أن أصلي وأما إذا كان في حرام أو مكروه
أو مباح فلا نذر وترك الكلام يفضي إلى التهاجر وهو حرام أو مكروه وأجاب الطبري بأن المحرم
إنما هو ترك السلام فقط وأن الذي صدر من عائشة ليس فيه أنها امتنعت من السلام علي ابن
الزبير ولا من رد السلام عليه لما بدأها بالسلام وأطال في تقرير ذلك وجعله نظير من كانا في بلدين
لا يجتمعان ولا يكلم أحدهما الآخر وليسا مع ذلك متهاجرين قال وكانت عائشة لا تأذن لاحد
من الرجال أن يدخل عليها إلا بإذن ومن دخل كان بينه وبينها حجاب إلا إن كان ذا محرم منها ومع
ذلك لا يدخل عليها حجابها إلا بإذنها فكانت في تلك المدة منعت ابن الزبير من الدخول عليها كذا
قال ولا يخفى ضعف المأخذ الذي سلكه من أوجه لا فائدة للإطالة بها والصواب ما أجاب به غيره
أن عائشة رأت أن ابن الزبير أرتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله لأحجرن عليها فإن فيه تنقيصا
لقدرها ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله
تعالى مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين وخالته أخت أمه ولم يكن أحد عندها في منزلته
كما تقدم التصريح به في أوائل مناقب قريش فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق
والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب فرأت أن مجازاته على ذلك بترك
مكالمته كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه عقوبة لهم لتخلفهم
عن غزوة تبوك بغير عذر ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة الثلاثة لعظيم
منزلتهم وازدراء بالمنافقين لحقارتهم فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة وقد ذكر الخطابي أن هجر
الوالد ولده والزوج زوجته ونحو ذلك لا يتضيق بالثلاث واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم هجر
نساءه شهرا وكذلك ما صدر من كثير من السلف في استجازتهم ترك مكالمة بعضهم بعضا مع علمهم
بالنهي عن المهاجرة ولا يخفى أن هنا مقامين أعلى وأدنى فالأعلى اجتناب الاعراض جملة فيبذل
السلام والكلام والمواددة بكل طريق والأدنى الاقتصار على السلام دون غيره والوعيد الشديد
إنما هو لمن يترك المقام الأدنى وأما الاعلى فمن تركه من الأجانب فلا يلحقه اللوم بخلاف الأقارب
414

فإنه يدخل فيه قطيعة الرحم وإلى هذا أشار ابن الزبير في قوله فإنه لا يحل لها قطيعتي أي إن كانت
هجرتي عقوبة على ذنبي فليكن لذلك أمد وإلا فتأييد ذلك يفضي إلى قطيعة الرحم وقد كانت
عائشة علمت بذلك لكنها تعارض عندها هذا والنذر الذي التزمته فلما وقع من اعتذار ابن الزبير
واستشفاعه ما وقع رجح عندها ترك الاعراض عنه واحتاجت إلى التكفير عن نذرها بالعتق الذي
تقدم ذكره ثم كانت بعد ذلك يعرض عندها شك في أن التكفير المذكور لا يكفيها فتظهر الأسف
على ذلك إما ندما على ما صدر منها من أصل النذر المذكور وإما خوفا من عاقبة ترك الوفاء به والله
أعلم (قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى) أراد بهذه الترجمة بيان الهجران
الجائز لان عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع فتبين هنا السبب المسوغ للهجر
وهو لمن صدرت منه معصية فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها (قوله وقال
كعب) أي ابن مالك الأنصاري (حين تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ونهى النبي صلى الله
عليه وسلم المسلمين عن كلامنا وذكر خمسين ليلة) وهذا طرف من الحديث الطويل وقد تقدم
شرحه مستوفى في أواخر المغازي وذكر حديث عائشة أني لأعرف غضبك ورضاك وقد تقدم
شرحه في باب غيرة النساء ووجدهن في كتاب النكاح قال المهلب غرض البخاري في هذا الباب أن
يبين صفة الهجران الجائز وأنه يتنوع بقدر الجرم فمن كان من أهل العصيان يستحق الهجران
بترك المكالمة كما في قصة كعب وصاحبيه وما كان من المغاضبة بين الأهل والاخوان فيجوز الهجر
فيه بترك التسمية مثلا أو بترك بسط الوجه مع عدم هجر السلام والكلام وقال الكرماني لعله
أراد قياس هجران من يخالف الامر الشرعي على هجران اسم من يخالف الامر الطبيعي وقال
الطبري قصة كعب بن مالك أصل في هجران أهل المعاصي وقد استشكل كون هجران الفاسق
أو المبتدع مشروعا ولا يشرع هجران الكافر وهو أشد جرما منهما لكونهما من أهل التوحيد
في الجملة وأجاب ابن بطال بأن لله أحكاما فيها مصالح للعباد وهو أعلم بشأنها وعليهم التسليم لامره
فيها فجنح إلى أنه تعبد لا يعقل معناه وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين الهجران بالقلب
والهجران باللسان فهجران الكافر بالقلب وبترك التودد والتعاون والتناصر لا سيما إذا كان
حربيا وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام لعدم ارتداعه بذلك عن كفره بخلاف العاصي المسلم فإنه
ينزجر بذلك غالبا ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما المشروع ترك المكالمة بالموادة ونحوها قال عياض
إنما اغتفرت مغاضبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في ذلك من الحرج لان الغضب على
النبي صلى الله عليه وسلم معصية كبيرة لان الحامل لها على ذلك الغيرة التي جبلت عليها النساء
وهي لا تنشأ إلا عن فرط المحبة فلما كان الغضب لا يستلزم البغض اغتفر لان البغض هو الذي
يفضي إلى الكفر أو المعصية وقد دل قولها لا أهجر الا اسمك على أن قلبها مملوء بمحبته صلى الله عليه
وسلم (قوله أجل) بوزن نعم ومعناه وقال الأخفش الا أن نعم أحسن من أجل في جواب
الاستفهام وأجل أحسن من نعم في التصديق (قلت) وهي في هذا الحديث على وفق ما قال
(قوله باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيا) قيل العشي من الزوال إلى العتمة
وقيل إلى الفجر فقال ابن فارس العشاء بالفتح والمد الطعام وبالكسر من الزوال إلى العتمة
415

والعشي من الزوال إلى الفجر (قوله هشام) هو ابن يوسف (قوله عن معمر وقال الليث
حدثني عقيل) وفي بعض النسخ ح وقال الليث وهذا التعليق سبق مطولا في باب الهجرة إلى
المدينة موصولا عن يحيى بن بكير عن الليث (قوله قال ابن شهاب فأخبرني عروة) كأن هذا سياق
معمر وكأنه كان عنده قبل قوله لم أعقل أبوي كلام آخر فعطف هذا عليه وقد وقع عند أحمد عن
عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال وأخبرني عروة كذا رأيته فيه بالواو وأما رواية عقيل
فلفظه في باب الهجرة إلى المدينة عن ابن شهاب أخبرني عروة عن عائشة قالت لم أعقل الخ وقد
استشكل كون أبي بكر كان يحوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتكلف المجئ إليه وكان يمكنه
هو أن يفعل ذلك وأجاب ابن التين بأنه لم يكن يجئ إلى أبي بكر لمجرد الزيارة بل لما يتزايد عنده من علم
الله ولم يتضح لي هذا الجواب ويحتمل أن يقال أنه ليس في الخبر ما يمنع أن أبا بكر كان يجئ إليه صلى
الله عليه وسلم في الليل والنهار أكثر من مرتين ويحتمل أن يقال كان سبب ذلك أنه صلى الله عليه
وسلم كان إذا جاء إلى بيت أبي بكر يأمن من أذى المشركين بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه ويحتمل أن
يكون منزل أبي بكر كان بين بيت النبي صلى الله عليه وسلم وبين المسجد فكان يمر به والمقصود
المسجد وكان يشهده كلما مر به وقد تقدم شرح الحديث مستوفى بطوله في باب الهجرة إلى
المدينة وكأن البخاري رمز بالترجمة إلى توهين الحديث المشهور زر غبا تزدد حبا وقد ورد من طرق
أكثرها غرائب لا يخلو واحد منها من مقال وقد جمع طرقه أبو نعيم وغيره وجاء من حديث علي
وأبي ذر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي برزة وعبد الله بن عمر وأنس وجابر وحبيب بن مسلمة
ومعاوية بن حيدة وقد جمعتها في جزء مفرد وأقوى طرقه ما أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور
والخطيب في تاريخ بغداد والحافظ أبو محمد بن السقاء في فوائده من طريق أبي عقيل يحيى بن
حبيب بن إسماعيل بن عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن
أبيه عن عائشة وأبو عقيل كوفي مشهور بكنيته قال ابن أبي حاتم سمع منه أبي وهو صدوق وذكره
ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ وأغرب (قلت) واختلف عليه في رفعه ووقفه وقد رفعه
أيضا يعقوب بن شيبة عن جعفر بن عون رويناه في فوائد أبي محمد بن السقاء أيضا عن أبي بكر بن
أبي شيبة عن جده يعقوب واختلف فيه على جعفر بن عون فرواه عبد بن حميد في تفسيره عنه
عن أبي حبان الكلبي عن عطاء عن عبيد بن عمير موقوفا في قصة له مع عائشة وأخرجه ابن حيان
في صحيحه من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة
فقالت يا عبيد بن عمير ما يمنعك أن تزورنا قال قول الأول زر غبا تزدد حبا فقال عبد الله بن عمير
دعونا من بطالتكم هذه وأخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت
الحديث في صلاته صلى الله عليه وسلم وذكر أبو عبيد في الأمثال بأنه من أمثال العرب وكان هذا
الكلام شائعا في المتقدمين فرويناه في فوائد أبي محمد السقاء قال أنشدونا لهلال بن العلاء
الله يعلم أنني * لك أخلص الثقلين قلبا
لكن لقول نبينا * زوروا على الأيام غبا
ولقوله من زار غبا منكم يزداد حبا
(قلت) وكان يمكنه أن يوجز فيقول * لكن لقول نبينا * من زار غبا زاد حبا وقد أنشدونا لأبي محمد
416

ابن هارون القرطبي راوي الموطأ
أقل زيارة الاخوان * ن تزدد عندهم قربا
فإن المصطفى قد قال * زر غبا تزد حبا
(قلت) ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث الباب لان عمومه يقبل التخصيص فيحمل على من
ليست له خصوصية ومودة ثابتة فلا ينقص كثرة زيارته من منزلته قال ابن بطال الصديق
الملاطف لا يزيده كثرة الزيارة إلا محبة بخلاف غيره (قوله باب الزيارة) أي
مشروعيتها (ومن زار قوما فطعم عندهم) أي من تمام الزيارة أن يقدم للزائر ما حضر قاله ابن
بطال وهو مما يثبت المودة ويزيد في المحبة (قلت) وقد ورد في ذلك حديث أخرجه الحاكم
وأبو يعلى من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير قال دخل على جابر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم فقدم إليهم خبزا وخلا فقال كلوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نعم الادام
الخل انه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليهم وهلاك
بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم وورد في فضل الزيادة أحاديث منها عند الترمذي وحسنه وصححه
ابن حبان من حديث أبي هريرة رفعه من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد طبت وطاب
ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا وله شاهد عند البزار من حديث أنس بسند جيد وعند مالك
وصححه ابن حبان من حديث معاذ بن جبل مرفوعا حقت محبتي للمتزاورين في الحديث
وأخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عتبان بن مالك وعند الطبراني من حديث صفوان بن
عسال رفعه من زار أخاه المؤمن خاض في الرحمة حتى يرجع (قوله وزار سلمان أبا الدرداء في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم فأكل عنده) هو طرف من حديث لأبي جحيفة تقدم مستوفى مشروحا
في كتاب الصيام (قوله عبد الوهاب) هو ابن عبد المجيد الثقفي (قوله زار أهل بيت من
الأنصار) هم أهل عتبان بن مالك كما مضى في الصلاة من وجه آخر عن أنس بن سيرين بأتم من هذا
السياق وأوله قال رجل من الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اني لا أستطيع الصلاة معك وصنع
طعاما الحديث وأورده في صلاة الضحى وقصة عتبان وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن
يصلي في بيته قد تقدمت في الصلاة أيضا مطولة وفيها أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في بيته
تأخر حتى أكل عندهم وفيه قصة مالك بن الدخشم ووقع له صلى الله عليه وسلم نحو القصة التي
في هذا الباب في بيت أبي طلحة كما سيأتي في باب كنية الصبي من طريق أبي التياح عن أنس فإن فيه
ذكر البساط ونضحه لكن ليس فيه ذكر الطعام نعم في رواية إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس
أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته وفيه ذكر نضح الحصير
والصلاة بهم لكن ليس في أوله القصة التي في رواية أنس بن سيرين عن أنس أن الرجل
قال لا أستطيع الصلاة معك فإن هذا القدر مختص بقصة عتبان فتعين الحمل عليه ووهم
من رجح أنه بيت أبي طلحة وفي الحديث استحباب الزيارة ودعاء الزائر لمن زاره وطعم عنده
(قوله باب من تجمل للوفود) أي حسن هيئته بالملبوس ونحوه لمن يقدم عليه
والوفود جمع وافد وهو من يقدم على من له أمر أو سلطان زائرا أو مستوفدا والمراد هنا من قول
عمر للوفود من كان يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ممن يرسلهم قبائلهم يبايعون لهم على الاسلام
417

ويتعلمون أمور الدين حتى يعلموهم وإنما أورد الترجمة بصورة الاستفهام لان النبي صلى الله عليه
وسلم أنكر على عمر فالظاهر أنه إنما أنكر لبس الحرير بقربنة قوله إنما يلبس هذه ولم ينكر أصل
التجمل لكنه محتمل مع ذلك ذكر فيه حديث ابن عمر في قصة حلة عطارد وقد تقدم شرح الحديث
مستوفى في كتاب اللباس وعبد الصمد في سنده هو ابن عبد الوارث وقوله وخشن بفتح الخاء
وضم الشين المعجمتين للأكثر ولبعضهم بالمهملتين وشاهد الترجمة منه قول عمر تجمل بها للوفود
وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد اعترضها الداودي فقال كان ينبغي أن يقول التجمل
للوفود لأنه لا يقال فعل كذا إلا لمن صدر منه الفعل وليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل
ذلك وجوابه أن معنى الترجمة من فعل ذلك متمسكا بما دل عليه الحديث المذكور وقوله في آخر
الحديث وكان ابن عمر يكره العلم في الثوب لهذا الحديث قال الخطابي مذهب ابن عمر في هذا
مذهب الورع وكان ابن عباس يقول في روايته إلا علما في ثوب وذلك لان مقدار العلم لا يقع عليه
اسم اللبس قال ولو أن رجلا حلف لا يلبس غزل فلانة فأخذ ثوبا فنسج فيه من غزلها ومن غزل
غيرها وكان الذي من غزلها لو انفرد لم يبلغ إذا نسج أنه يحصل منه شئ مما يقع على مثله اسم اللبس
لم يحنث كذا قال وقد تقدم في كتاب اللباس من رواية أبي عثمان عن عمر في النهي عن لبس الحرير
إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع وتقدم شرح ذلك مستوفى هناك (قوله باب
الاخاء والحلف) بكسر المهملة وسكون اللام وبفتح المهملة وكسر اللام هو المعاهدة وقد تقدم
بيانها في أوائل الهجرة (قوله آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء) هو
طرف من الحديث الذي أشرت إليه في الباب الذي قبله وقد تقدم في باب الهجرة إلى المدينة أنه
صلى الله عليه وسلم آخى بين الصحابة وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أنس
قال آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين ابن مسعود والزبير والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة وذكر غير
واحد أنه آخى صلى الله عليه وسلم بين أصحابه مرتين مرة بين المهاجرين فقط ومرة بين المهاجرين
والأنصار (قوله وقال عبد الرحمن بن عوف لما قدمنا المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم
بيني وبين سعد بن الربيع (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو لم ولو بشاة) هذا طرف من حديث
تقدم موصولا في فضائل الأنصار وقدمت شيئا يتعلق به في أبواب الوليمة (قوله حدثنا إسماعيل بن
زكريا) لمحمد بن الصباح فيه شيخ آخر فإن مسلما أخرجه عنه عن حفص بن غياث عن عاصم (قوله
عاصم) هو ابن سليمان الأحول (قوله قلت لأنس بن مالك أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لا حلف في الاسلام فقال قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري)
ووقع في رواية أبي داود من رواية سفيان بن عيينة عن عاصم قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف
فذكره بلفظ المهاجرين بدل قريش فقيل له أليس قال لا حلف في الاسلام قال قد حالف فذكر
مثله وزاد مرتين أو ثلاثا وأخرجه مسلم بنحوه مختصرا وعرف من رواية الباب تسمية السائل عن
ذلك وذكره المصنف في الاعتصام مختصرا خاليا عن السؤال وزاد في آخره وقنت شهرا يدعو على
أحياء من بني سليم وحديث القنوت من طريق عاصم مضى في الوتر وغيره وأما الحديث المسؤول
عنه فهو حديث صحيح أخرجه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حلف
في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة وأخرجه الترمذي من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه وأخرج البخاري في الأدب المفرد
418

عن عبد الله بن أبي أوفى نحوه باختصار وأخرج أيضا أحمد وأبو يعلى وصححه ابن حبان والحاكم
من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعا شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه
وحلف المطيبين كان قبل المبعث بمدة ذكره ابن إسحاق وغيره وكان جمع من قريش اجتمعوا
فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم وينصفوا بين الناس ونحو ذلك من خلال الخير واستمر ذلك بعد
المبعث ويستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الاسلام وإلى ذلك
الإشارة في حديث جبير بن مطعم وتضمن جواب أنس إنكار صدر الحديث لان فيه نفي الحلف
وفيما قاله هو إثباته ويمكن الجمع بأن المنفي ما كانوا يعتبرونه في الجاهلية من نصر الحليف ولو كان
ظالما ومن أخذ الثأر من القبيلة بسبب قتل واحد منها ومن التوارث ونحو ذلك والمثبت ما عدا
ذلك من نصر المظلوم والقيام في أمر الدين ونحو ذلك من المستحبات الشرعية كالمصادقة
والمواددة وحفظ العهد وقد تقدم حديث ابن عباس في نسخ التوارث بين المتعاقدين وذكر
الداودي أنهم كانوا يورثون الحليف السدس دائما فنسخ ذلك وقال ابن عيينة حمل العلماء قول
أنس حالف على المؤاخاة (قلت) لكن سياق عاصم عنه يقتضي أنه أراد المحالفة حقيقة إلا لما
كان الجواب مطابقا وترجمة البخاري ظاهرة في المغايرة بينهما وتقدم في الهجرة إلى المدينة باب
كيف آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وذكر الحديثين المذكورين هنا أولا ولم يذكر حديث
الحلف وتقدم ما يتعلق بالمؤاخاة المذكورة هناك قال النووي المنفي حلف التوارث وما يمنع منه
الشرع وأما التحالف على طاعة الله ونصر المظلوم والمؤاخاة في الله تعالى فهو أمر مرغب فيه
(قوله باب التبسم والضحك) قال أهل اللغة التبسم مبادئ الضحك والضحك
انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو
القهقهة وإلا فهو الضحك وإن كان بلا صوت فهو التبسم وتسمى الأسنان في مقدم الفم
الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ (قوله وقالت فاطمة أسر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فضحكت) هو طرف من حديث لعائشة عن فاطمة عليها السلام مر بتمامه
وشرحه في الوفاة النبوية (قوله وقال ابن عباس إن الله هو أضحك وأبكى) أي خلق في الانسان
419

الضحك والبكاء وهذا طرف من حديث لابن عباس تقدم في الجنائز وأشار فيه ابن عباس بجواز
البكاء بغير نياحة إلى قوله تعالى في سورة النجم وأنه هو أضحك وأبكى ثم ذكر في الباب تسعة
أحاديث تقدم أكثرها وفي جميعها ذكر التبسم أو الضحك وأسبابها مختلفة لكن أكثرها للتعجب
وبعضها للاعجاب وبعضها للملاطفة * الأول حديث عائشة في قصة امرأة رفاعة والغرض
منه قولها فيه وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم وقد مر شرحه مستوفى في كتاب
الصلاة وقوله فيه وابن سعيد بن العاص جالس وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني وسعيد بن
العاص والصواب الأول وهو خالد وقد وقع مسمى فيما مضى * الثاني حديث سعد استأذن
عمر تقدم شرحه مستوفى في مناقب عمر والغرض منه قوله والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك فقال
أضحك الله سنك ويستفاد منه ما يقال للكبير إذا ضحك وإسماعيل شيخه فيه هو ابن أبي أويس كما
جزم به المزي وقال أبو علي الجياني لعله ابن أبي أويس (قلت) وقد تقدم في فضائل الأنصار
حديث قال فيه البخاري حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد وإسماعيل هذا هو ابن
أبي أويس جزما وهو يؤيد ما جزم به المزي * الحديث الثالث حديث عمرو هو ابن دينار عن
أبي العباس وهو الشاعر عن عبد الله بن عمر كذا للأكثر بضم العين وللحموي وحده هنا عمرو
بفتحها والصواب الأول وقد تقدم بيانه في غزوة الطائف مع شرح الحديث والغرض منه
هنا قوله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله فيه لا نبرح أو نفتحها قال ابن التين ضبطناه
بالرفع والصواب النصب لان أو إذا كانت بمعنى حتى أو إلى أن نصبت وهي هنا كذلك (قوله
قال الحميدي حدثنا سفيان بالخبر كله) تقدم بيان من وصله في غزوة الطائف ووقع في رواية
الكشميهني حدثنا سفيان كله بالخبر والمعنى أنه ذكر بصريح الاخبار في جميع السند لا بالعنعنة
* الحديث الرابع (قوله حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل وإبراهيم هو ابن سعد (قوله حدثنا
ابن شهاب) هذا إنما سمعه إبراهيم بن سعد من الزهري وقد سبق في الحديث الثاني أنه روى عنه
بواسطة صالح بن كيسان بينهما وقصة المجامع في رمضان تقدم شرحها في كتاب الصيام وقوله فيه
قال إبراهيم هو ابن سعد وهو موصول بالسند المذكور وقوله والعرق المكتل فيه بيان لما أدرجه
غيره فجعل تفسير العرق من نفس الحديث والغرض منه قوله فضحك حتى بدت نواجذه والنواجذ
جمع ناجذة بالنون والجيم والمعجمة هي الأضراس ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك
ولا منافاة بينه وبين حديث عائشة ثامن أحاديث الباب ما رأيته صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط
ضاحكا حتى أرى منه لهواته لان المثبت مقدم على النافي قاله ابن بطال وأقوى منه أن الذي
نفته غير الذي أثبته أبو هريرة ويحتمل أن يريد بالنواجذ الأنياب مجازا أو تسامحا (3) وبالأنياب
مرة فقد تقدم في الصيام في هذا الحديث بلفظ حتى بدت أنيابه والذي يظهر من مجموع الأحاديث
أنه صلى الله عليه وسلم كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم وربما زاد على ذلك فضحك والمكروه
من ذلك إنما هو الاكنار منه أو الافراط فيه لأنه يذهب الوقار قال ابن بطال والذي ينبغي أن
يقتدي به من فعله ما واظب عليه من ذلك فقد روى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجة من
وجهين عن أبي هريرة رفعه لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب * الحديث الخامس
حديث أنس (قوله مالك) قال الدارقطني لم أر هذا الحديث عند أحمد من رواة الموطأ إلا عند
420

يحيى بن بكير ومعن بن عيسى ورواه جماعة من رواة الموطأ عن مالك لكن خارج الموطأ وزاد ابن
عبد البر أنه رواه في الموطأ أيضا مصعب بن عبد الله الزبيري وسليمان بن صرد (قلت) ولم يخرجه
البخاري إلا من رواية مالك وأخرجه مسلم أيضا من رواية الأوزاعي ومن رواية همام ومن رواية
عكرمة بن عمار كلهم عن إسحاق بن أبي طلحة وساقه على لفظ مالك وبين بعض لفظ غيره (قوله
كنت أمشي) في رواية الأوزاعي أدخل المسجد (قوله وعليه برد) في رواية الأوزاعي رداء (قوله
نجراني) بفتح النون وسكون الجيم نسبة إلى نجران بلد معروف بين الحجاز واليمن وتقدم في أواخر
المغازي (قوله غليظ الحاشية) في رواية الأوزاعي الصنفة بفتح المهملة وكسر النون بعدها
فاء وهي طرف الثوب مما يلي طرته (قوله فأدركه أعرابي) زاد همام من أهل البادية وفي رواية
الأوزاعي فجاء أعرابي من خلفه (قوله فجبذ) بفتح الجيم والموحدة بعدها ذال معجمة وفي رواية
الأوزاعي فجذب وهي بمعنى جبذ (قوله جبذة شديدة) في رواية عكرمة حتى رجع النبي صلى
الله عليه وسلم في نحر الأعرابي (قوله قال أنس فنظرت إلى صفحة عاتق) في رواية مسلم عنق
وكذا عند جميع الرواة عن مالك وكذا في رواية الأوزاعي (قوله أثرت فيها) في رواية الكشميهني
بها وكذا لمسلم من رواية مالك وفي رواية همام حتى انشق البرد وذهبت حاشيته في عنقه وزاد أن
ذلك وقع من الأعرابي لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى حجرته ويجمع بأنه لقيه خارج المسجد
فأدركه لما كاد يدخل فكلمه أو مسك بثوبه لما دخل فلما كاد يدخل الحجرة خشي أن يفوته فجبذة
(قوله مر لي) في رواية الأوزاعي أعطنا (قوله فضحك) في رواية الأوزاعي فتبسم ثم قال مروا
له وفي رواية همام وأمر له بشئ وفي هذا الحديث بيان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى
في النفس والمال والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الاسلام وليتأسى به الولاة بعده في خلقه
الجميل من الصفح والاغضاء والدفع بالتي هي أحسن * الحديث السادس حديث جرير وهو
ابن عبد الله البجلي وابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير وابن إدريس هو عبد الله وإسماعيل هو
ابن أبي خالد وقيس هو ابن أبي حازم والجميع كوفيون والغرض منه قوله والغرض منه قوله ولا رآني إلا تبسم
وتقدم في المناقب بلفظ إلا ضحك وهما متقاربان والتبسم أوائل الضحك كما تقدم وبقية شرحه
هناك * الحديث السابع حديث أم سلمة في سؤال أم سليم هل على المرأة من غسل وقد تقدم
شرحه مستوفى في كتاب الطهارة والغرض منه قوله فضحكت أم سلمة لوقوع ذلك بحضرة النبي
صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها ضحكها وإنما أنكر عليها إنكارها احتلام المرأة * الحديث
الثامن (قوله عمرو) هو ابن الحرث المصري وأبو النضر هو سالم (قوله مستجمعا قط ضاحكا) في
421

رواية الكشميهني مستجمعا ضحكا أي مبالغا في الضحك لم يترك منه شيئا يقال استجمع السيل اجتمع
من كل موضع واستجمعت للمرء أموره اجتمع له ما يحبه فعلى هذا قوله ضاحكا منصوب على التمييز
وإن كان مشتقا مثل لله دره فارسا أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما
مقبلا بكليته على الضحك واللهوات بفتح اللام والهاء جمع لهاة وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة
من أقصى الفم وهذا القدر المذكور طرف من حديث تقدم بتمامه وشرحه في تفسير سورة
الأحقاف * الحديث التاسع حديث أنس في قصة الذي طلب الاستقاء ثم الاستصحاء والغرض
منه ضحكه صلى الله عليه وسلم عند قول القائل غرقنا أورده من وجهين عن قتادة وساقه هنا على
لفظ سعيد بن أبي عروبة وساقه في الدعوات على لفظ أبي عوانة ومحمد بن محبوب شيخه هو
أبو عبد الله البناني البصري وهو غير محمد بن الحسن الذي لقيه محبوب ووهم من وحدهما
كشيخنا ابن الملقن فإنه جزم بذلك وزعم أن البخاري روى عنه هنا وروى عن رجل عنه وليس
كذلك بل هما اثنان أحدهما في عداد شيوخ الآخر وشيخ البخاري اسمه محمد واسم أبيه محبوب
والآخر اسمه محمد واسم أبيه الحسن ومحبوب لقب محمد لا لقب الحسن وقد أخرج له البخاري
في كتاب الأحكام حديثا واحدا قال فيه حدثنا محبوب بن الحسن وسبب الوهم أنه وقع في بعض
الأسانيد حدثنا محمد بن الحسن محبوب فظنوا أنه لقب الحسن وليس كذلك (قوله
باب قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وما ينهى عن الكذب)
قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره ولا يكونان
بالقصد الأول إلا في الخبر وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب والصدق مطابقة القول
الضمير والمخبر عنه فإن انخرم شرط لم يكن صدقا بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين
كقول المنافق محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك ويصح أن يقال
كذب لمخالفة قوله لضميره والصديق من كثر منه الصدق وقد يستعمل الصدق والكذب في
كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني وفي الفعل نحو صدق في القتال ومنه قد صدقت
الرؤيا اه‍ ملخصا وقال ابن التين اختلف في قوله مع الصادقين فقيل معناه مثلهم وقيل منهم
(قلت) وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخبر
الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه
الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته وقال في قصته ما أنعم الله علي من نعمة بعد
إذ هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا
وقال الغزالي الكذب من قبائح الذنوب وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر ولذلك يؤذن فيه
حيث يتعين طريقا إلى المصلحة وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب إذا لم ينشأ عنه ضرر مباحا
وليس كذلك ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة
فقد أخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال الكذب يجانب الايمان
وأخرجه عنه مرفوعا وقال الصحيح موقوف وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص
رفعه قال يطبع المؤمن على كل شئ إلا الخيانة والكذب وسنده قوي وذكر الدارقطني في العلل
أن الأشبه أنه موقوف وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين ظاهره
422

يعارض حديث ابن مسعود والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل (قوله
جرير) هو ابن عبد الحميد ومنصور هو ابن المعتمر وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب
فهو ابن حازم (قوله إن الصدق يهدي) بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى
المطلوب هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل ووقع في أوله من رواية الأعمش
عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي عليكم بالصدق فإن الصدق وفيه وإياكم والكذب فإن
الكذب الخ (قوله إلى البر) بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير وهو اسم جامع
للخيرات كلها ويطلق على العمل الخالص الدائم (قوله وإن البر يهدي إلى الجنة قال ابن بطال
مصداقه في كتاب الله تعالى ان الأبرار لفي نعيم (قوله وان الرجل ليصدق) زاد في رواية الأعمش
ويتحرى الصدق وكذا زادها في الشق الثاني (قوله حتى يكون صديقا) في رواية الأعمش
حتى يكتب عند الله صديقا قال ابن بطال المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة
في الصدق (قوله وان الكذب يهدي إلى الفجور) قال الراغب أصل الفجر الشق فالفجور شق
ستر الديانة ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي وهو اسم جامع للشر (قوله
وان الرجل ليكذب حتى يكتب) في رواية الكشميهني يكون وهو وزن الأول والمراد بالكتابة
الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملا الاعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض وقد ذكره
مالك بلاغا عن بن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب
فينكث في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين قال النووي قال
العلماء في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب
والتساهل فيه فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به (قلت) والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي
الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه وإن العبد ليتحرى الصدق وكذا قال في الكذب
وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده عليكم بالصدق وفيه وما يزال
الرجل يصدق ويتحرى الصدق وقال فيه وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب فذكره وفي
هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق
الوصف به وكذلك عكسه وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما فقط وإن كان
الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما ثم قال النووي وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري
ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض وكذا نقله
الحميدي ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي أن شر الروايا
روايا الكذب لان الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه فذكر أبو مسعود
أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث قال الحميدي
وليست عندنا في كتاب مسلم والروايا جمع روية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الانسان قبل قوله أو
فعله وقيل هو جمع راوية أي للكذب والهاء للمبالغة (قلت) لم أر شيئا من هذا في الأطراف
لأبي مسعود ولا في الجمع بين الصحيحين للحميدي فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين ثم ذكر
حديث أبي هريرة آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب الايمان
وطرفا من حديث سمرة في المنام الطويل المقدم ذكره وشرحه في كتاب الجنائز وفيه الذي رأيته
423

يشق شدقه الكذاب قال ابن بطال إذا كرر الرجل الكذب حتى استحق اسم المبالغة بالوصف
بالكذب لم يكن من صفات كملة المؤمنين بل من صفات المنافقين يعني فلهذا عقب البخاري حديث
ابن مسعود بحديث أبي هريرة (قلت) وحديث أبي هريرة المذكور هنا في صفة المنافق يشمل
الكذب في القول والفعل والقصد الأول في حديثه والثاني في إمارته والثالث في وعده قال وأخبر
في حديث سمرة بعقوبة الكاذب بأنه يشق شدقه وذلك في موضع المعصية وهو فمه الذي كذب به
(قلت) ومناسبته للحديث الأول أن عقوبة الكاذب أطلقت في الحديث الأول بالنار فكان في
حديث سمرة بيانها (قوله في حديث سمرة قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب) هكذا وقع بالفاء
واستشكل بأن الموصول الذي يدخل خبره الفاء يشترط أن يكون مبهما عاما وأجاب ابن مالك
بأنه نزل المعين المبهم منزلة العام إشارة إلى اشتراك من يتصف بذلك في العقاب المذكور والله أعلم
(قوله باب الهدي الصالح) بفتح الهاء وسكون الدال هو الطريقة الصالحة وهذه الترجمة
لفظ حديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد من وجهين من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه
عن ابن عباس رفعه الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزأ من
النبوة وفي الطريق الأخرى جزء من سبعين جزأ من النبوة وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول
وسنده حسن وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ خمسة وأربعين وسنده ضعيف
وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الروايا الصالحة قال
التوربشتي الاقتصاد على ضربين أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين
الجور والعدل وهذا المراد بقوله تعالى ومنهم مقتصد وهذا محمود ومذموم بالنسبة والثاني متوسط
بين طرفي الافراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الاسراف والبخل وكالشجاعة فإنها
متوسطة بين التهور والجبن وهذا هو المراد في الحديث (قوله حدثني إسحق بن إبراهيم) هو ابن
راهويه ونص البخاري لفظه ولكنه حذف من آخره قول أبي أسامة وهو ثابت في مسند إسحق
فقال في آخر الحديث فأقر به أبو أساسة وقال نعم وشقيق هو أبو وائل (قوله دلا) بفتح
المهملة وتشديد اللام هو حسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما ويطلق أيضا على الطريق
(قوله وسمتا) بفتح المهملة وسكون الميم هو حسن المنظر في أمر الدين ويطلق أيضا على القصد
في الامر وعلى الطريق والجهة (قوله وهديا) قال أبو عبيد الهدى والدل متقاربان يقال في
السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل قال والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من
جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة ويطلق على الطريق وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة
أهل الخير على طريقة أهل الاسلام (قوله لابن أم عبد) بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد
بأن المكسورة التي في أول الحديث وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود ووقع في رواية محمد بن
عبيد عن الأعمش عند الإسماعيلي بلفظ عبد الله بن مسعود وفي الحديث فضيلة لابن مسعود
جليلة لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال وفيه
توقى حذيفة حيث قال من حين يخرج إلى أن يرجع فإنه اقتصر في الشهادة له بذلك على ما يمكنه
مشاهدته وإنما قال لا أدري ما يصنع في أهله لأنه جوز أن يكون إذا خلا يكون في انبساطه لأهله
يزيد أبو ينقص عن هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله ولم يرد بذلك اثبات نقص في حق عبد
424

الله رضي الله عنه وقد أخرج أبو عبيد في غريب الحديث أن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا
ينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به فكأن الحامل لهم على ذلك حديث حذيفة وأخرج
البخاري في الأدب المفرد من طريق زيد بن وهب سمعت ابن مسعود قال اعلموا أن حسن الهدى
في آخر الزمان خير من بعض العمل وسنده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي فكأن ابن مسعود
لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدى وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة
في ابن مسعود قول مالك كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس
بعمر ابنه عبد الله وبعبد الله ابنه سالم قال الداودي وقول حذيفة يقدم على قول مالك ويمكن
الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبة ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه وقول مالك بالقوة في
الدين ونحوها ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر ويؤيد قول مالك ما أخرج
البخاري في كتاب رفع اليدين عن جابر قال لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم
من عمر وفي السنن ومستدرك الحاكم عن عائشة قالت ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا
برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام (قلت) ويجمع بالحمل في هذا على النساء
وأخرج أحمد عن عمر من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدى
عمرو بن الأسود (قلت) ويجمع بالحمل على من بعد الصحابة وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حج
عمرو بن الأسود فرآه ابن عمر يصلي فقال ما رأيت أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول
الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل انتهى وعمرو المذكور (قوله عن مخارق) هو
ابن عبد الله ويقال ابن خليفة الأحمسي وطارق هو ابن شهاب الأحمسي (قوله قال قال عبد الله)
في رواية الإسماعيلي كان عبد الله يقول وعبد الله هو ابن مسعود وجزم ابن بطال بان عبد الله
هذا هو ابن عمر فوهم في ذلك (قوله أن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد) هو
بفتح الهاء كما في الترجمة وروى بضمها ضد الضلال زاد أبو خليفة عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه
في آخره وشر الأمور محدثاتها وان ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين أخرجه أبو نعيم في المستخرج
وسيأتي في كتاب الاعتصام من وجه آخر عن ابن مسعود وفيه هذه الزيادة بلفظها وسأذكر
شرحها هناك إن شاء الله تعالى هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفا وقد ورد بعضه
مرفوعا من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود أخرجه أصحاب السنن وجاء أكثره مرفوعا من
حديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجة وغيرهم من طريق جعفر بن محمد
ابن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بألفاظ مختلفة منها لأحمد عن يحيى القطان عن جعفر به أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهد ان أحسن الحديث كتاب الله
وأحسن الهدى هدى محمد قال يحيى ولا أعلمه إلا قال وشر الأمور محدثاتها الحديث وفي لفظ
لمسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد في أثناء حديث قال فيه ويقول أما بعد إن
خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة الحديث
(قوله باب الصبر في الأذى) أي حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولا أو فعلا
وقد يطلق على الحلم (وقول الله تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) قال بعض أهل العلم
الصبر على الأذى جهاد النفس وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها ولهذا
425

شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من
جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب والصابر أعظم أجرا من المنفق لان حسنته
مضاعفة إلى سبعمائة والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء الله أن يزيده وقد تقدم في أوائل
الايمان حديث ابن مسعود الصبر نصف الايمان وقد ورد في فضل الصبر على الأذى حديث ليس على
شرط البخاري وهو ما أخرجه ابن ماجة بسند حسن عن ابن عمر رفعه المؤمن الذي يخالط الناس
ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم وأخرجه الترمذي من حديث
صحابي لم يسم (قوله حديث أبي موسى ليس أحد أوليس شئ) هو شك من الراوي وقد أخرجه
النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد بسند البخاري وقال فيه أحد بغير شك (قوله أصبر على
أذى) هو بمعنى الحلم أو أطلق الصبر لأنه بمعنى الحبس والمراد به حبس العقوبة على مستحقها عاجلا
وهذا هو الحلم (قوله على أذى سمعه من الله) قد بينه في بقية الحديث وهو أنهم يشركون به
ويرزقهم وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى (قوله قال عبد الله) هو ابن
مسعود ووقع في رواية سفيان عن الأعمش الماضية في باب من أخبر صاحبه بما يعلم بلفظ عن ابن
مسعود (قوله قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما) في رواية شعبة عن الأعمش أنها قسمة غنائم
حنين وفي رواية منصور عن أبي وائل لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة
أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصين مائة من الإبل وأعطى ناسا من
أشراف العرب وقد تقدم إيضاح ذلك في غزوة حنين (قوله فقال رجل من الأنصار) تقدمت
تسميته في غزوة حنين والرد على من زعم أنه حرقوص بن زهير (قوله والله أنها لقسمة ما أريد بها
وجه الله) قد تقدم في غزوة حنين من وجه آخر بلفظ ما أراد على البناء للفاعل وفي رواية منصور
ما عدل فيها وهو بضم أوله على البناء للمجهول (قوله قلت أما لأقولن) قال ابن التين هي بتخفيف
الميم ووقع في رواية أما بتشديدها وليس ببين (قلت) وقع للكشميهني أم بغير ألف وهو يؤيد
التخفيف ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذ قلت ذلك لأقولن (قوله فشق
ذلك عليه وتغير وجهه) قد تقدم بأكثر من عشرة أبواب بلفظ فتمعر وجهه وهو بالعين
المهملة ويجوز بالمعجمة (قوله حتى وددت أني لم أكن) في رواية أن بفتح وتخفيف (قوله ثم قال قد
أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر) في رواية شعبة عن الأعمش يرحم الله موسى قد أوذى فذكره وزاد
في رواية منصور فقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله موسى الحديث وفي هذا الحديث
جواز إخبار الامام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل وفيه بيان ما يباح
من الغيبة والنميمة لان صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا ولم ينكره النبي صلى الله
عليه وسلم وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه بمن يطعن فيه
ممن يظهر الاسلام ويبطن النفاق ليحذر منه وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من
كيدهم وقد أرتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة وفيه أن أهل الفضل قد
يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه
وسلم اقتداء بموسى عليه السلام وأشار بقوله قد أوذي موسى إلى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا
لا تكونوا كالذين آذوا موسى قد حكى في صفة إذا هم له ثلاث قصص إحداها قولهم هو آدر وقد
426

تقدم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء ثانيها في قصة موت هارون وقد
أوضحته أيضا في قصة موسى ثالثها في قصته مع قارون حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى راودها
حتى كان ذلك سبب هلاك قارون وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث
الأنبياء (قوله باب من لم يواجه الناس بالعتاب) أي حياء منهم (قوله مسلم) هو ابن
صبيح أبو الضحى ووهم من زعم أنه ابن عمران البطين وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن
الأعمش فقال عن أبي الضحى ومن طريق حفص بن غياث التي أخرجها البخاري من طريقه
فقال نحو جرير ومن طريق عيسى بن يونس عن الأعمش كذلك ومن طريق أبي معاوية عن
الأعمش عن مسلم (قوله صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فترخص فيه) في رواية مسلم من طريق
أبي معاوية عن الأعمش رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر (قوله فتنزه عنه قوم) في رواية
مسلم من طريق جرير عن الأعمش فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا (قوله
فخطب) في رواية أبي معاوية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه
(قوله ما بال أقوام) في رواية جرير ما بال رجال قال ابن بطال هذا لا ينافي الترجمة لان المراد بها
المواجهة مع التعيين كأن يقول ما بالك يا فلان تفعل كذا وما بال فلان يفعل كذا فأما مع الابهام فلم
تحصل المواجهة وأن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك لكنه لما كان من جملة
المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب (قوله يتنزهون عن الشئ أصنعه) في رواية جرير بلغهم
عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه وفي رواية أبي معاوية يرغبون عما رخص لي فيه
(قوله فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) جمع بين القوة العلمية والقوة العملية أي أنهم
توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله وليس كذلك إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل
بها وقد تقدم معنى هذا الحديث في كتاب الايمان في رواية هشام بن عروة عن عائشة قالت كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون الحديث وفيه فيغضب
ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا وقد أوضحت شرحه هناك وذكرت فيه أن الحديث من أفراد
هشام عن أبيه عروة عن عائشة وطريق مسروق هذه متابعة جيدة لأصل هذا الحديث قال ابن
بطال كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيفا بأمته فلذلك خفف عنهم العتاب لانهم فعلوا ما يجوز لهم
من الاخذ بالشدة ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله (قلت) أما المعاتبة فقد حصلت
منه لهم بلا ريب وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك
العتاب أصلا وأما استدلاله بكون ما فعلوه غير حرام فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو
وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وذم التعمق والتنزه عن المباح وحسن
العشرة عند الموعظة والانكار والتلطف في ذلك ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا
الحديث ولا الشئ الذي ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك
وهو ما أخرجه مسلم في كتاب الصيام من وجه آخر عن عائشة أن رجلا قال يا رسول الله إني أصبح
جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا تدركني الصلاة
وأنا جنب فأصوم فقال يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما
أتقي ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل
427

رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر الحديث وفيه قولهم وأين نحن من النبي صلى الله
عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفيه قوله لهم والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم
له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء وثالث أحاديث الباب حديث أبي سعيد
يأتي في باب الحياء بعد أربعة أبواب وقد تقدم شرحه أيضا في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم
قال ابن بطال يستفاد منه الحكم بالدليل لانهم جزموا بأنهم كانوا يعرفون ما يكرهه بتغير
وجهه ونظيره أنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته كما تقدم في موضعه
(قوله باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال) كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر
ذلك بغير تأويل من قائله واستدل لذلك في الباب الذي يليه (قوله حدثنا محمد وأحمد بن سعيد
قالا حدثنا عثمان بن عمر) أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي وأما أحمد بن سعيد فهو ابن سعيد بن صخر
أبو جعفر الدارمي جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي (قوله عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة) كذا في
رواية الجميع بالعنعنة (قوله عن أبي هريرة) في رواية عكرمة بن عمار المعلقة أنه سمع أبا هريرة
(قوله إذا قال الرجل لأخيه يا كافر) تقدم شرحه في باب ما ينهى عنه من السباب واللعن (قوله
وقال عكرمة بن عمار عن يحيى) هو ابن أبي كثير (عن عبد الله بن يزيد) هو المدني مولى الأسود بن
سفيان وليس له في البخاري سوى هذا الحديث المعلق وحديث آخر موصول مضى في التفسير
(قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم) يعني بهذا الحديث وقد وصله الحرث بن أبي أسامة في مسنده
وأبو نعيم في المستخرج من طريقه عن النضر بن محمد اليماني عن عكرمة بن عمار به وقد أخرج مسلم
في كتاب الايمان من طريق النضر بن محمد عن عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي
هريرة حديثا غير هذا ليس فيه بين يحيى وأبي سلمة واسطة وأخرج الإسماعيلي حديث الباب من
رواية أبي حذيفة عن عكرمة بن عمار بهذا السند وقال إنه موقوف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم
فيه انتهى وقد رفعه النضر بن محمد عن عكرمة كما ترى ودل صنيع البخاري على أن زيادة عبد الله
ابن يزيد بين يحيى وأبي سلمة في هذه الرواية المعلقة لم تقدح في رواية علي بن المبارك عن يحيى بدون
ذكر عبد الله بن يزيد عنده إما لاحتمال أن يكون يحيى سمعه من أبي سلمة بواسطة ثم سمعه من أبي
سلمة وإما أن يكون لم يعتد بزيادة عكرمة بن عمار لضعف حفظه عنده وقد استدرك الدارقطني عليه
إخراجه لرواية علي بن المبارك وقال يحيى بن أبي كثير مدلس وقد زاد فيه عكرمة رجلا والحق أن
مثل هذا لا يتعقب به البخاري لأنه لم تخف عليه العلة بل عرفها وأبرزها وأشار إلى أنها لا تقدح
وكأن ذلك لان أصل الحديث معروف ومتنه مشهور مروي من عدة طرق فيستفاد منه أن
مراتب العلل متفاوتة وأن ما ظاهره القدح منها إذا انجبر زال عنه القدح والله أعلم ثم ذكر المصنف
حديث ابن عمر في المعنى وحديث ثابت بن الضحاك كذلك وتقدم شرحهما في الباب المشار إليه
قال ابن بطال كنت أسأل المهلب كثيرا عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبة مختلفة والمعنى
واحد قال قوله فهو كما قال يعني فهو كاذب لا كافر إلا أنه لما تعمد الكذب الذي حلف عليه والتزم
الملة التي حلف بها قال عليه السلام فهو كما قال من التزام تلك الملة أن صح قصده بكذبه إلى
التزامها في تلك الحالة لا في وقت ثان إذا كان ذلك على سبيل الخديعة للمحلوف له (قلت) وحاصله
أنه لا يصير بذلك كافرا وإنما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصة وسيأتي أن غيره حمل
428

الحديث على الزجر والتغليظ وأن ظاهره غير مراد وفيه غير ذلك من التأويلات (قوله
باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا) أي بالحكم أو بحال المقول فيه
(قوله وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة إنه نافق) كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي وفي رواية
الكشميهني منافق باسم الفاعل وهذا طرف من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة وقد تقدم
موصولا مع شرحه في تفسير سروة الممتحنة ثم ذكر حديث جابر في قصة معاذ بن جبل حيث
طول في صلاة الصبح ففارقه الرجل فصلى وحده فقال معاذ أنه منافق وقد تقدم شرحه مستوفى
في صلاة الجماعة ومحمد بن عبادة شيخ البخاري فيه أبوه بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة وقوله
فتجوز رجل بالجيم والزاي للجميع وحكى ابن التين أنه روى بالحاء المهملة أي انحاز فصلى وحده
(قوله حدثني إسحق) هو ابن راهويه وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي وهو من شيوخ
البخاري قد حدث عنه كثيرا بلا واسطة وتقدم الحديث في تفسير سورة النجم مع شرحه ووجه
دخوله في هذا الباب واضح قال ابن بطال عن المهلب أمره صلى الله عليه وسلم للحالف باللات
والعزى بقوله لا إله إلا الله خشية أن يستديم حاله على ما قال فيخشى عليه من حبوط عمله فيما نطق
به من كلمة الكفر بعد الايمان قال ومثله قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن فنفى عنه الايمان
في حالة الزنا خاصة انتهى وقال في موضع آخر ليس في هذا الحديث إطلاق الحلف بغير الله وإنما
فيه تعليم من نسي أو جهل فحلف بذلك أن يبادر إلى ما يكفر عنه ما وقع فيه وحاصله أنه أرشد من
تلفظ بشئ مما لا ينبغي له التلفظ به أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل أن لو قال ذلك قاصدا إلى
معنى ما قال وقد قدمت توجيه هذا في شرح الحديث المذكور ومناسبة الامر بالصدقة لمن قال
أقامرك من حيث أنه أراد إخراج المال في الباطل فأمر بإخراجه في الحق ثم ذكر المصنف حديث
ابن عمر في حلف عمر بأبيه وفيه النهي عن ذلك وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الايمان والنذور
وقصد بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه من حلف بغير الله فقد أشرك لكن لما كان
حلف عمر بذلك قبل أن يسمع النهي كان معذورا فيما صنع فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه
بذلك لأنه تأول وأن حق أبيه عليه يقتضي أنه يستحق أن يحلف به فبين النبي صلى الله عليه وسلم
أن الله لا يحب لعبده أن يحلف بغيره والله أعلم (قوله باب ما يجوز من الغضب
والشدة لأمر الله تعالى وقال الله تعالى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم) كأنه يشير إلى أن
الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه وأما
إذا كان لله تعالى فإنه يتمثل فيه أمر الله من الشدة وذكر فيه خمسة أحاديث تقدمت كلها وفي كل
منها ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كله كان في أمر الله
وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر عنها * الحديث الأول حديث عائشة في القرام وقد
429

تقدم شرحه في اللباس ويسرة شيخه بفتح الياء المثناة من تحت والمهملة * الثاني حديث ابن
مسعود في قصة تطويل الامام في صلاة الغداة وتقدم شرحه في صلاة الجماعة * الثالث حديث
ابن عمر في النخامة في القبلة وقد تقدم شرحه في أوائل كتاب الصلاة وقوله حيال وجهه بكسر
المهملة بعدها تحتانية خفيفة أي تلقاءه * الرابع حديث زيد بن خالد في اللقطة وتقدم شرحه
هناك * الخامس حديث زيد بن ثابت احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة وقد تقدم شرحه
في أبواب الإمامة وحجيرة تصغير حجرة بالراء وقد تقدم فيه رواية بالزاي ويقال بفتح أوله وكسر ثانيه
والخصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ثم فاء ما يتخذ من خوص المقل أو النخل وقوله فيه وقال
المكي هو ابن إبراهيم البلخي أحد مشايخه وقد وصله أحمد والدارمي في مسنديهما عن المكي بن
إبراهيم بتمامه ومحمد بن زياد شيخه في الطريق الثانية هو الزيادي ماله في البخاري سوى هذا
الحديث قال الكلاباذي أخرج له شبه المقرون وكذا قال ابن عدي روى له استشهادا وكانت
وفاته قبل البخاري بقليل مات في حدود الخمسين ويقال سنة اثنتين وخمسين ذكر ذلك الدمياطي
في حواشيه ومحمد بن جعفر هو غندر وعبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند وسياق الحديث في هذا
الباب على لفظ محمد بن جعفر والغرض منه قوله فخرج عليهم مغضبا والظاهر أن غضبه لكونهم
اجتمعوا بغير أمره فلم يكتفوا بالإشارة منه لكونه لم يخرج عليهم بل بالغوا فحصبوا بابه وتتبعوه
أو غضب لكونه تأخر اشفاقا عليهم لئلا تفرض عليهم وهم يظنون غير ذلك وأبعد من قال صلى
في مسجده بغير أمره وقوله في آخره أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة دال على أن المراد
بالصلاة أي في قوله في الحديث الآخر اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا صلاة
النافلة وحكى ابن التين عن قوم أنه يستحب أن يجعل في بيته من فريضة وزيفه بحديث الباب
والله أعلم (قوله باب الحذر من الغضب لقوله تعالى والذين يجتنبون كبائر الاثم
والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون وقوله عز وجل الذين ينفقون في السراء والضراء
والكاظمين الغيظ الآية) كذا لأبي ذر وساق في رواية كريمة إلى قوله المحسنين وكأنه أشار بالآية
الثانية إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الأول في الباب فعند أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
مر بقوم يصطرعون فقال ما هذا قالوا فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه قال أفلا أدلكم على من
هو أشد منه رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه رواه البزار
430

بسند حسن وليس في الآيتين دلالة على التحذير من الغضب إلا أنه لما ضم من يكظم غيظه إلى من
يجتنب الفواحش كان في ذلك إشارة إلى المقصود (قوله ليس الشديد بالصرعة) بضم الصاد
المهملة وفتح الراء الذي يصرع الناس كثيرا بقوته والهاء للمبالغة في الصفة والصرعة بسكون
الراء بالعكس وهو من يصرعه غيره كثيرا وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم وبالسكون فهو كذلك
كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة وضحكة ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود عند مسلم وأوله
ما تعدون الصرعة فيكم قالوا الذي لا يصرعه الرجال قال ابن التين ضبطناه بفتح الراء وقرأه
بعضهم بسكونها وليس بشئ لأنه عكس المطلوب قال وضبط أيضا في بعض الكتب بفتح الصاد
وليس بشئ (قوله إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) في رواية أحمد من حديث رجل لم
يسمه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الصرعة كل الصرعة كررها ثلاثا الذي يغضب
فيشتد غضبه ويحمر وجهه فيصرع غضبه * الحديث الثاني حديث سليمان بن صرد تقدم
شرحه في باب السباب واللعن * الحديث الثالث (قوله حدثني يحيى بن يوسف) هو الزمي بكسر
الزاي وتشديد الميم لم أر له في البخاري رواية إلا عن أبي بكر بن عياش وأبو حصين بفتح أوله (قوله
عن أبي صالح عن أبي هريرة) خالفه الأعمش فقال عن أبي صالح عن أبي سعيد أخرجه مسدد في
مسنده عن عبد الواحد بن زياد عن الأعمش وهو على شرط البخاري أيضا لولا عنعنة الأعمش
(قوله إن رجلا) هو جارية بالجيم بن قدامة أخرجه أحمد وابن حبان والطبراني من حديثه مبهما
ومفسرا ويحتمل أن يفسر بغيره ففي الطبراني من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي قلت يا رسول
الله قل لي قولا أنتفع به وأقلل قال لا تغضب ولك الجنة وفيه عن أبي الدرداء قلت يا رسول الله دلني
على عمل يدخلني الجنة قال لا تغضب وفي حديث ابن عمر عند أبي يعلى قلت يا رسول الله قل لي
قولا وأقلل لعلي أعقله (قوله أوصني) في حديث أبي الدرداء دلني على عمل يدخلني الجنة وفي
حديث ابن عمر عند أحمد ما يباعدني من غضب الله زاد أبو كريب عن أبي بكر بن عياش عند
الترمذي ولا تكثر علي لعلي أعيه وعند الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة عن أبي بكر بن
عياش نحوه (قوله فردد مرارا) أي ردد السؤال يلتمس أنفع من ذلك أو أبلغ أو أعم فلم يزده على
ذلك (قوله قال لا تغضب) في رواية أبي كريب كل ذلك يقول لا تغضب وفي رواية عثمان بن أبي
شيبة قال لا تغضب ثلاث مرات وفيها بيان عدد المرار وقد تقدم حديث أنس أنه صلى الله عليه
وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه وأنه كان لا يراجع بعد ثلاث وزاد أحمد وابن حبان في رواية
عن رجل لم يسم قال تفكرت فيما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله قال الخطابي معنى قوله
لا تغضب اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه وأما نفس الغضب فلا يتأتى النهي
عنه لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة وقال غيره ما كان من قبيل الطبع الحيواني لا يمكن دفعه
فلا يدخل في النهي لأنه من تكليف المحال وما كان من قبيل ما يكتسب بالرياضة فهو المراد وقيل
معناه لا تغضب لان أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر
على الغضب فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب وقيل معناه لا تفعل
ما يأمرك به الغضب وقال ابن بطال في الحديث الأول أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو
لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة وقال غيره لعل السائل
431

كان غضوبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به فلهذا اقتصر في وصيته له
على ترك الغضب وقال ابن التين جمع صلى الله عليه وسلم في قوله لا تغضب خير الدنيا والآخرة لان
الغضب يؤل إلى التقاطع ومنه الرفق وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك
من الدين وقال البيضاوي لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للانسان إنما هي من شهوته
ومن غضبه وكانت شهوة السائل مكسورة فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب
الذي هو أعظم ضررا من غيره وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه انتهى
ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لان أعدى عدو الشخص شيطانه ونفسه
والغضب إنما ينشأ عنهما فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر
نفسه عن الشهوة أيضا أقوى وقال ابن حبان بعد أن أخرجه أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما
نهيت عنه لا أنه نهاه عن شئ جبل عليه ولا حيلة له في دفعه وقال بعض العلماء خلق الله الغضب
من النار وجعله غريزة في الانسان فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت
حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لان البشرة تحكى لون ما وراءها وهذا إذا غضب على من دونه
واستشعر القدرة عليه وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب
فيصفر اللون حزنا وإن كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويترتب
على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الافعال عن غير
ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لسكن غضبه حياء من قبح
صورته واستحالة خلقته هذا كله في الظاهر وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد الحقد في
القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه بل أولى شئ يقبح منه باطنه وتغير ظاهره ثمرة
تغير باطنه وهذا كله أثره في الجسد وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحيي
منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل
وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوب نفسه ويلطم خده وربما سقط
صريعا وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة ومن تأمل هذه
المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قوله صلى الله عليه وسلم لا تغضب
من الحكمة واستجلاب المصلحة في درء المفسدة مما يتعذر احصاؤه والوقوف على نهايته وهذا
كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم تقريره في الباب الذي قبله ويعين على ترك
الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد وأن
يستعيذ من الشيطان كما تقدم في حديث سليمان بن صرد وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه
في حديث عطية والله أعلم وقال الطوفي أقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار التوحيد الحقيقي
وهو أن لا فاعل إلا الله وكل فاعل غيره فهو آلة له فمن توجه إليه بمكروه من جهة غيره فاستحضر أن
الله لو شاء لم يمكن ذلك الغير منه اندفع غضبه لأنه لو غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه جل وعلا
وهو خلاف العبودية (قلت) وبهذا يظهر السر في أمره صلى الله عليه وسلم الذي غضب بأن يستعيذ
من الشيطان لأنه إذا توجه إلى الله في تلك الحالة بالاستعاذة به من الشيطان أمكنه استحضار
ما ذكر وإذا استمر الشيطان متلبسا متمكنا من الوسوسة لم يمكنه من استحضار شئ من ذلك والله أعلم
432

(قوله باب الحياء) بالمد تقدم تعريفه في أول كتاب الايمان ووقع لابن دقيق العيد
في شرح العمدة أن أصل الحياء الامتناع ثم استعمله في الانقباض والحق ان الامتناع من لوازم
الحياء ولازم الشئ لا يكون أصله ولما كان الامتناع لازم الحياء كان في التحريض على ملازمة
الحياء حض على الامتناع عن فعل ما يعاب والحاء بالقصر المطر وذكر فيه ثلاثة أحاديث * الأول
(قوله عن قتادة) كذا قال أكثر أصحاب شعبة وخالفهم شبابة بن سوار فقال عن شعبة عن خالد بن
رباح بدل قتادة أخرجه ابن منده ووقع نظير هذه القصة عن عمران بن حصين أيضا للعلاء بن زياد
أخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة (قوله عن أبي السوار) بفتح المهملة وتشديد الواو
وبعد الألف راء اسمه حريث على الصحيح وقيل حجير بن الربيع وقيل غير ذلك ووقع في رواية
محمد بن جعفر عن شعبة عند مسلم سمعت أبا السوار (قوله الحياء لا يأتي إلا بخير) في رواية خالد بن
رباح عن أبي السوار عند أحمد وكذلك في رواية أبي قتادة العدوي عن عمران عند مسلم الحياء
خير كله وللطبراني من حديث قرة بن إياس قيل لرسول الله الحياء من الدين فقال بل هو الدين كله
وللطبراني من وجه آخر عن عمران بن حصين الحياء من الايمان والايمان في الجنة (قوله بشير بن
كعب) بالموحدة والمعجمة مصغر تابعي جليل يأتي ذكره في الدعوات (قوله مكتوب في الحكمة)
في رواية محمد بن جعفر أنه مكتوب في الحكمة وفي رواية أبي قتادة العدوي عند مسلم فقال بشير
ابن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة بالشك والحكمة في الأصل إصابة الحق بالعلم
وسيأتي بسط القول في ذلك في باب ما يجوز من الشعر إن شاء الله تعالى (قوله أن من الحياء
وقارا وأن من الحياء سكينة) في رواية الكشميهني السكينة بزيادة ألف ولام وفي رواية أبي قتادة
العدوي أن منه سكينة ووقارا لله وفيه ضعف وهذه الزيادة متعينة ومن أجلها غضب عمران
وإلا فليس في ذكر السكينة والوقار ما ينافي كونه خيرا أشار إلى ذلك ابن بطال لكن يحتمل أن
يكون غضب من قوله منه لان التبعيض يفهم أن منه ما يضاد ذلك وهو قد روى أنه كله خير
وقال القرطبي معنى كلام بشير أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار بأن يوقر غيره ويتوقر
هو في نفسه ومنه ما يحمله على أن يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا تليق بذي
المروأة ولم ينكر عمران عليه هذا القدر من حيث معناه وإنما أنكره عليه من حيث أنه ساقه في
معرض من يعارض كلام الرسول بكلام غيره وقيل إنما أنكر عليه لكونه خاف أن يخلط السنة
بغيرها (قلت) ولا يخفى حسن التوجيه السابق (قوله وتحدثني عن صحيفتك) في رواية أبي
قتادة فغضب عمران حتى احمرت عيناه وقال لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتعارض فيه وفي رواية أحمد وتعرض فيه بحديث الكتب وهذا يؤيد الاحتمال الماضي وقد
ذكر مسلم في مقدمة صحيحه لبشير بن كعب هذا قصة مع ابن عباس تشعر بأنه كان يتساهل في
الاخذ عن كل من لقيه * الحديث الثاني (قوله عبد العزيز بن أبي سلمة) هو الماجشون (قوله مر
النبي صلى الله عليه وسلم على رجل (1) يعظ أخاه في الحياء) تقدم في أول كتاب الايمان مع شرحه
ولم أعرف اسم الرجل ولا اسم أخيه إلى الآن والمراد بوعظه أنه يذكر له ما يترتب على ملازمته من
المفسدة (قوله الحياء من الايمان) حكى ابن التين عن أبي عبد الملك أن المراد به كمال الايمان وقال
أبو عبيد الهروي معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم يكن له تقية فصار كالايمان
433

القاطع بينه وبين المعاصي قال عياض وغيره إنما جعل الحياء من الايمان وإن كان
غريزة لان استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم وأما كونه خيرا كله
ولا يأتي الا بخير فأشكل حمله على العموم لأنه قد يصد صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات
ويحمله على الاخلال ببعض الحقوق والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون
شرعيا والحياء الذي ينشأ عنه الاخلال بالحقوق ليس حياء شرعيا بل هو عجز ومهانة وإنما يطلق
عليه حياء لمشابهته للحياء الشرعي وهو خلق يبعث على ترك القبيح (قلت) ويحتمل أن يكون
أشير إلى أن من كان الحياء من خلقه أن الخير يكون فيه أغلب فيضمحل ما لعله يقع منه مما
ذكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير أو لكونه إذا صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا
لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب وقال أبو العباس القرطبي الحياء المكتسب
هو الذي جعله الشارع من الايمان وهو المكلف به دون الغريزي غير أن من كان فيه غريزة
منه فإنها تعينه على المكتسب وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزا قال وكان النبي صلى الله
عليه وسلم قد جمع له النوعان فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في الحياء
المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم انتهى وبهذا تعرف مناسبة ذكر الحديث الثالث
هنا وقد تقدم شرحه في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله عن مولى أنس قال أبو عبد الله
اسمه عبد الله بن أبي عتبة كذا للأكثر وحكى الجياني أنه وقع لبعض رواة الفربري عبد الله
بدل عبد الرحمن وأبو عبد الله المذكور هو البخاري هكذا جزم بتسميته هنا وتقدم كذلك مسمى
هناك وفي اسمه خلاف فقيل عبد الرحمن وقيل عبيد الله بالتصغير والمعتمد أنه عبد الله مكبرا
وقوله العذراء بفتح المهملة وسكون الذال المعجمة ثم راء ومد هي البكر والخدر بكسر المعجمة
وسكون المهملة الموضع الذي تحبس فيه وتستتر والله أعلم (قوله باب إذا لم تستح
فاصنع ما شئت) كذا ترجم بلفظ الحديث وضمه في الأدب المفرد إلى ترجمة الحياء (قوله زهير)
هو ابن معاوية أبو خيثمة ومنصور هو ابن المعتمر والاسناد كله كوفيون وقد تقدم الاختلاف فيه
على ربعي في آخر ذكر بني إسرائيل (قوله إن مما أدرك الناس) وقع في حديث حذيفة عند
أحمد والبزار إن آخر ما تعلق به أهل الجاهلية من كلام النبوة الأولى والناس يجوز فيه الرفع
والعائد على ما محذوف ويجوز النصب وللعائد ضمير الفاعل وأدرك بمعنى بلغ وإذا لم تستح اسم
للكلمة المشبهة بتأويل هذا القول (قوله فاصنع ما شئت) قال الخطابي الحكمة في التعبير
بلفظ الامر دون الخبر في الحديث أن الذي يكف الانسان عن مواقعة الشر هو الحياء فإذا تركه
صار كالمأمور طبعا بارتكاب كل شر وقد سبق هذا الحديث والإشارة إلى شرحه في ذكر بني
إسرائيل في أواخر أحاديث الأنبياء وأشير هنا إلى زيادة على ذلك قال النووي في الأربعين الامر
فيه للإباحة أي إذا أردت فعل شئ فإن كان مما لا تستحي إذا فعلته من الله ولا من الناس فافعله
وإلا فلا وعلى هذا مدار الاسلام وتوجيه ذلك أن المأمور به الواجب والمندوب يستحي من
تركه والمنهي عنه الحرام والمكروه يستحي من فعله وأما المباح فالحياء من فعله جائز وكذا من تركه
فتضمن الحديث الأحكام الخمسة وقيل هو أمر تهديد كما تقدم توجيهه ومعناه إذا نزع منك الحياء
فافعل ما شئت فإن الله مجازيك عليه وفيه إشارة إلى تعظيم أمر الحياء وقيل هو أمر بمعنى الخبر
434

أي من لا يستحي يصنع ما أراد (قوله باب ما لا يستحي من الحق للتفقه في الدين)
هذا تخصيص للعموم الماضي في الذي قبله أن الحياء خير كله أو يحمل الحياء في الخبر الماضي على
الحياء الشرعي فيكون ما عداه مما يوجد فيه حقيقة الحياء لغة ليس مرادا بالوصف المذكور
وذكر فيه ثلاثة أحاديث تقدمت وهي ظاهرة فيما ترجم له * أحدها حديث أم سلمة في سؤال أم
سليم عن احتلام المرأة وقد تقدم شرحه في كتاب الطهارة * ثانيها حديث ابن عمر مثل المؤمن مثل
شجرة خضراء أورده من وجهين ومناسبته للترجمة من إنكار عمر على ابنه تركه قوله الذي ظهر له
لكونه استحيي وتمنيه أن لو كان قال ذلك وقوله أحب إلي من كذا أي من حمر النعم كما تقدم صريحا
وقد تقدم شرحه في كتاب العلم * ثالثها حديث أنس (قوله مرحوم) هو ابن عبد العزيز العطار
(قوله جاءت امرأة) لم أقف على تعيين اسمها وقوله فقالت ابنته الضمير لأنس واسم ابنته فيما أظن
أمينة بنون مصغر وقد تقدم شرح هذا الحديث في كتاب النكاح (قوله باب قول
النبي صلى الله عليه وسلم يسروا ولا تعسروا وكان يحب التخفيف والتسري على الناس) أما حديث
يسروا فوصله في الباب وأما الحديث الآخر فأخرجه مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة عن
عائشة فذكر حديثا في صلاة الضحى وفيه وكان يحب ما خف على الناس وفي حديث أيمن المخزومي
عن عائشة في قصة الصلاة بعد العصر وفيه وما كان يصليها في المسجد مخافة أن تثقل على أمته
وكان يحب ما خفف عليهم وقد تقدم في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت من كتاب الصلاة وقد
وصل في الباب حديث أبي برزة وفيه أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من تيسيره وذكر في
الباب أيضا خمسة * أحاديث * الأول حديث أنس يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا
* الحديث الثاني حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ولمعاذ لمابعثهما إلى اليمن
يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا (قوله يسروا) هو أمر بالتيسير والمراد به الاخذ بالتسكين تارة
وبالتيسير أخرى من جهة أن التنفير يصاحب المشقة غالبا وهو ضد التسكين والتبشير يصاحب
التسكين غالبا وهو ضد التنفير وقد تقدم بيان الوقت الذي بعث فيه أبو موسى ومعاذ
رضي الله عنهما إلى اليمن في أواخر كتاب المغازي وتقدم الكلام على البتع وهو بكسر الموحدة
وسكون المثناة بعدها مهملة في كتاب الأشربة قال الطبري المراد بالامر بالتيسير فيما كان من
النوافل مما كان شاقا لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل فيتركه أصلا أو يعجب بعمله فيحبط فيما
رخص فيه من الفرائض كصلاة الفرض قاعدا للعاجز والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه
وزاد غيره في ارتكاب أخف الضررين إذا لم يكن من أحدهما بد كما في قصة الأعرابي
حيث بال في المسجد وإسحق في حديث أبي موسى هو ابن راهويه كما وقع في رواية ابن السكن
435

وجزم به أبو نعيم وتردد الكلاباذي وتبعه أبو علي الجياني هل هو ابن راهويه أو هو ابن منصور
* الحديث الثالث حديث عائشة ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين الحديث وقد
تقدم شرحه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال البيضاوي يتصور التخيير بين ما فيه إثم ومالا إثم
فيه إذا صدر من الكفار مثلا وفيه توجيه آخر تقدم هناك * الحديث الرابع حديث أبي برزة
(قوله وفينا رجل له رأى) لم أقف على اسمه وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله له رأى
يظن أنه محسن وليس كذلك وقوله نضب عنه الماء بنون وضاد معجمة ثم موحدة أي زال وقد
تقدم في أواخر الصلاة بلفظ فجعل رجل من الخوارج يقول فهذا هو المعتمد وأن المراد بالرأي
رأي الخوارج والتنوين فيه للتحقير أي رأي فاسد وقد تقدم شرح الحديث هناك * الحديث
الخامس حديث أبي هريرة في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد وقد سبقت الإشارة إليه في باب
الرفق وأن شرحه تقدم في كتاب الطهارة وفي هذه الأحاديث أن الغلو ومجاوزة القصد في العبادة
وغيرها مذموم وأن المحمود من جميع ذلك ما أمكنت المواظبة معه وأمن صاحبه العجب وغيره من
المهلكات (قوله باب الانبساط إلى الناس) في رواية الكشميهني مع الناس (قوله
وقال ابن مسعود خالط الناس ودينك لا تكلمنه) بفتح أوله وسكون الكاف وكسر اللام وفتح
الميم من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح وزنا ومعنى وروى بالمثلثة بدل الكاف
والنون مشددة للتأكيد وقوله ودينك يجوز فيه النصب والرفع وهذا الأثر وصله الطبراني في
الكبير من طريق عبد الله بن باباه بموحدتين عن ابن مسعود قال خالطوا الناس وصافوهم بما
يشتهون ودينكم لا تكلمنه وهذه بضم الميم للجميع وأخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة
من وجه آخر عن ابن مسعود بلفظ خالقوا الناس وزايلوهم في الأعمال وعن عمر مثله لكن قال
وانظروا ألا تكلموا دينكم (قوله والدعابة مع الأهل) هو بقية الترجمة معطوف على الانبساط
فهو بالجر ويجوز أن يعطف على باب فيقرأ بالرفع والدعابة بضم الدال وتخفيف العين المهملتين
وبعد الألف موحدة هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره وقد أخرج الترمذي وحسنه من
حديث أبي هريرة قال قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال أني لا أقول إلا حقا وأخرج من حديث
ابن عباس رفعه لا تمار أخاك ولا تمازحه الحديث والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط
أو مداومة عليه لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين ويؤل كثيرا إلى قسوة
القلب والإيذاء والحقد وسقوط المهابة والوقار والذي يسلم من ذلك هو المباح فإن صادف مصلحة
مثل تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب قال الغزالي من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة
ويتمسك بأنه صلى الله عليه وسلم مزح فهو كمن يدور مع الريح حيث دار وينظر رقصهم ويتمسك
بأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إليهم وذكر فيه حديث أنس في قصة التغير وسيأتي
شرحه مستوفى في باب ما يجوز من الشعر قريبا إن شاء الله تعالى وحديث عائشة كنت ألعب
436

بالبنات ومحمد شيخه فيه هو ابن سلام (قوله وكان لي صواحب يلعبن معي) أي من أقرانها (قوله
يتقمعن) بمثناة وتشديد الميم المفتوحة وفي رواية الكشميهني بنون ساكنة وكسر الميم ومعناه
أنهن يتغيبن منه ويدخلن من وراء الستر وأصله من قمع التمرة أي يدخلن في الستر كما يدخلن التمرة
في قمعها (قوله فيسر بهن إلي) بسين مهملة ثم موحدة أي يرسلهن واستدل بهذا الحديث على
جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ
الصور وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من
صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن قال وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ واليه مال ابن
بطال
وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور ومن ثم رجح الداودي أنه
منسوخ وقد ترجم ابن حبان الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب وترجم له النسائي إباحة الرجل
لزوجته اللعب بالبنات فلم يقيد بالصغر وفيه نظر قال البيهقي بعد تخريجه ثبت النهي عن اتخاذ
الصور فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم وبه جزم ابن الجوزي وقال
المنذري إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم وإلا فقد يسمى ما ليس بصورة لعبة وبهذا جزم
الحليمي فقال إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز وقيل معنى الحديث اللعب مع البنات أي
الجواري والباء هنا بمعنى مع حكاه ابن التين عن الداودي ورده (قلت) ويرده ما أخرجه ابن عيينة
في الجامع من رواية سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه عن هشام بن عروة في هذا الحديث وكن
جواري يأتين فيلعبن بها معي وفي رواية جرير عن هشام كنت ألعب بالبنات وهن اللعب أخرجه
أبو عوانة وغيره وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها قالت
فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب فقال ما هذا يا عائشة قالت بناتي قالت ورأى فيها
فرسا مربوطا له جناحان فقال ما هذا قلت فرس قال فرس له جناحان قلت ألم تسمع أنه كان
لسليمان خيل لها أجنحة فضحك فهذا صريح في أن المراد باللعب غير الآدميات قال الخطابي في
هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد وإنما أرخص
لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغ (قلت) وفي الجزم به نظر لكنه محتمل لان عائشة كانت في
غزوة خيبر بنت أربع عشرة ستة إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها وأما في غزوة تبوك فكانت قد
بلغت قطعا فيترجح رواية من قال في خيبر ويجمع بما قال الخطابي لان ذلك أولى من التعارض
(قوله باب المداراة مع الناس) هو بغير همز وأصله الهمز لأنه من المدافعة
والمراد به الدفع برفق وأشار المصنف بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه واقتصر على إيراد
ما يؤدي معناه فما ورد فيه صريحا حديث لجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مداراة الناس
صدقة أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه وقال
ابن عدي أرجو أنه لا بأس به وأخرجه ابن أبي عاصم في أداب الحكماء بسند أحسن منه وحديث
أبي هريرة رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس أخرجه البزار بسند ضعيف (قوله
ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر) بالكاف الساكنة وكسر المعجمة (قوله في وجوه أقوام وأن
قلوبنا لتلعنهم) كذا للأكثر بالعين المهملة واللام الساكنة والنون وللكشميهني بالقاف
437

الساكنة قبل اللام المكسورة ثم تحتانية ساكنة من القلاء بكسر القاف مقصور وهو البغض
وبهذه الرواية جزم ابن التين ومثله في تفسير المزمل من الكشاف وهذا الأثر وصله ابن أبي الدنيا
وإبراهيم الحربي في غريب الحديث والدينوري في المجالسة من طريق أبي الزاهرية عن جبير بن
نفير عن أبي الدرداء فذكر مثله وزاد ونضحك إليهم وذكره بلفظ اللعن ولم يذكر الدينوري في إسناده
جبير بن نفير ورويناه في فوائد أبي بكر بن المقري من طريق كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن
أبي الدرداء قال إنا لنكشر أقواما فذكر مثله وهو منقطع وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق
خلف بن حوشب قال قال أبو الدرداء فذكر اللفظ المعلق سواء وهو منقطع أيضا والكشر بالشين
المعجمة وفتح أوله ظهور الأسنان وأكثر ما يطلق عند الضحك والاسم الكشرة كالعشرة قال ابن
بطال المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الاغلاظ لهم في
القول وذلك من أقوى أسباب الألفة وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط لان المداراة
مندوب إليها والمداهنة محرمة والفرق أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشئ ويستر
باطنه وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه
والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الاغلاظ عليه حيث
لا يظهر ما هو فيه والانكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك ثم
ذكر حديثين تقدما * أحدهما حديث عائشة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال
ائذنوا له فبئس ابن العشيرة وقد تقدم بيان موضع شرحه في باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد
والنكتة في إيراده هنا التلميح إلى ما وقع في بعض الطرق بلفظ المداراة وهو عند الحرث بن أبي
أسامة من حديث صفوان بن عسال نحو حديث عائشة وفيه فقال أنه منافق أداريه عن نفاقه
وأخشى أن يفسد علي غيره * والثاني حديث المسور بن مخرمة قدمت على النبي صلى الله عليه
وسلم أقبية وفيه قصة أبيه مخرمة وقد تقدم شرحه في كتاب اللباس ووقع في هذه الطريق وكان
في خلقه شئ وقد رمز البخاري بإيراده عقب الحديث الذي قبله بأنه المبهم فيه كما أشرت إلى ذلك قبل
ووقع في رواية مسروق عن عائشة مر رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بئس عبد الله
وأخو العشيرة ثم دخل عليه فرأيته أقبل عليه بوجهه كأن له عنده منزلة أخرجه النسائي وشرح
ابن بطال الحديث على أن المذكور كان منافقا وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالحكم
بما ظهر لا بما يعلمه في نفس الامر وأطال في تقرير ذلك ولم يقل أحد في المبهم في حديث عائشة أنه
كان منافقا لا مخرمة بن نوفل ولا عيينة بن حصن وإنما قيل في مخرمة ما قيل لما كان في خلقه من
الشدة فكان لذلك في لسانه بذاءة وأما عيينة فكان إسلامه ضعيفا وكان مع ذلك أهوج فكان
مطاعا في قومه كما تقدم والله أعلم وقوله في هذه الرواية فلما جاء قال خبأت هذا لك وفي رواية
الكشميهني قد خبأت وقوله قال أيوب هو موصول بالسند المذكور وقوله بثوبه وأنه يريه إياه
والمعنى أشار أيوب بثوبه ليرى الحاضرين كيفية ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند كلامه مع مخرمة
ولفظ القول يطلق ويراد به الفعل وقوله رواه حماد بن زيد عن أيوب تقدم موصولا في باب فرض
الخمس وصورته مرسل أيضا (قوله وقال حاتم بن وردان الخ) أراد بهذا التعليق بيان وصل الخبر
وأن رواية ابن علية وحماد وإن كانت صورتهما الارسال لكن الحديث في الأصل موصول وقد
438

مضى بيان وصل رواية حاتم هذه في الشهادات (قوله باب لا يلدغ المؤمن من
جحر مرتين) اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة ما يكون من ذوات السموم واللذع بالذال المعجمة
والعين المهملة ما يكون من النار وقد تقدم بيان ذلك في كتاب الطب والجحر بضم الجيم وسكون
المهملة (قوله وقال معاوية لا حكيم إلا بتجربة) كذا للأكثر بوزن عظيم وفي رواية الأصيلي (1)
إلا ذو تجربة وفي رواية أبي ذر عن غير الكشميهني لا حلم بكسر المهملة وسكون اللام إلا بتجربة
وفي رواية الكشميهني إلا لذي تجربة وهذا الأثر وصله أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن عيسى
ابن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال قال معاوية لا حلم إلا بالتجارب وأخرجه البخاري في
الأدب المفرد من طريق علي بن مسهر عن هشام عن أبيه قال كنت جالسا عند معاوية فحدث
نفسه ثم انتبه فقال لا حليم إلا ذو تجربة قالها ثلاثا وأخرج من حديث أبي سعيد مرفوعا لا حليم
إلا ذو عشرة ولا حكيم إلا ذو تجربة وأخرجه أحمد وصححه ابن حبان قال ابن الأثير معناه لا يحصل
الحلم حتى يرتكب الأمور ويعثر فيها فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ ويجتنبها وقال غيره المعنى
لا يكون حليما كاملا إلا من وقع في زلة وحصل منه خطأ فحينئذ يخجل فينبغي لمن كان كذلك أن
يستر من رآه على عيب فيعفو عنه وكذلك من جرب الأمور علم نفعها وضررها فلا يفعل
شيئا إلا عن حكمة قال الطيبي ويمكن أن يكون تخصيص الحليم بذي التجربة للإشارة إلى أن غير
الحكيم بخلافه وأن الحليم الذي ليس له تجربة قد يعثر في مواضع لا ينبغي له فيها الحلم بخلاف الحليم
المجرب وبهذا تظهر مناسبة أثر معاوية لحديث الباب والله تعالى أعلم (قوله عن ابن المسيب) في
رواية يونس عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه أخرجه البخاري في الأدب
المفرد وكذا قال أصحاب الزهري فيه وخالفهم صالح بن أبي الأخضر وزمعة بن صالح وهما
ضعيفان فقالا عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أخرجه ابن عدي من طريق المعافى
ابن عمران عن زمعة وابن أبي الأخضر واستغربه من حديث المعافى قال وأما زمعة فقد رواه عنه
أيضا أبو نعيم (قلت) أخرجه أحمد عنه ورواه عن زمعة أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو
أحمد الزبيري أخرجه ابن ماجة (قوله لا يلدغ) هو بالرفع على صيغة الخبر قال الخطابي هذا لفظه
خبر ومعناه أمر أي ليكن المؤمن حازما حذرا لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى
وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا وهو أولاهما بالحذر وقد روي بكسر الغين
في الوصل فيتحقق معنى النهي عنه قال ابن التين وكذلك قرأناه قيل معنى لا يلدغ المؤمن من جحر
مرتين أن من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا لا يعاقب به في الآخرة (قلت) إن أراد قائل هذا أن
عموم الخبر يتناول هذا فيمكن وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك ويؤيده قول من قال فيه تحذير من
التغفيل وإشارة إلى استعمال الفطنة وقال أبو عبيد معناه ولا ينبغي للمؤمن إذا نكب من وجه
أن يعود إليه (قلت) وهذا هو الذي فهمه الأكثر ومنهم الزهري راوي الخبر فأخرج ابن حبان من
طريق سعيد بن عبد العزيز قال قيل للزهري لما قدم من عند هشام بن عبد الملك ماذا صنع بك قال
أوفى عني ديني ثم قال بابن شهاب تعود تدان قلت لا وذكر الحديث وقال أبو داود الطيالسي بعد
تخريجه لا يعاقب في الدنيا بذنب فيعاقب به في الآخرة وحمله غيره على غير ذلك قيل المراد بالمؤمن
في هذا الحديث الكامل الذي قد أوقفته معرفته على غوامض الأمور حتى صار يحذر مما سيقع
439

وأما المؤمن المغفل فقد يلدغ مرارا (قوله من جحر) زاد في رواية الكشميهني والسرخسي واحد
ووقع في بعض النسخ من جحر حية وهي زيادة شاذة قال ابن بطال وفيه أدب شريف أدب به النبي
صلى الله عليه وسلم أمته ونبههم كيف يحذرون مما يخافون سوء عاقبته وفي معناه حديث المؤمن
كيس حذر أخرجه صاحب مسند الفردوس من حديث أنس بسند ضعيف قال وهذا الكلام
مما لم يسبق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا فأسر ببدر
فشكى عائلة وفقرا فمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأطلقه بغير فداء فظفر به بأحد فقال من علي
وذكر فقره وعياله فقال لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين وأمر به فقتل وأخرج
قصته ابن إسحاق في المغازي بغير إسناد وقال ابن هشام في تهذيب السيرة بلغني عن سعيد بن المسيب
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينئذ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وصنيع أبي عبيد في كتاب
الأمثال مشكل على قول ابن بطال أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من قال ذلك ولذلك قال ابن
التين أنه مثل قديم وقال التوربشتي هذا السبب يضعف الوجه الثاني يعني الرواية بكسر الغين
على النهي وأجاب الطيبي بأنه يوجه بأن يكون صلى الله عليه وسلم لما رأى من نفسه الزكية الميل إلى
الحلم جرد منها مؤمنا حازما فنهاه عن ذلك يعني ليس من سيمة المؤمن الحازم الذي يغضب لله أن
ينخدع من الغادر المتمرد فلا يستعمل الحلم في حقه بل ينتقم منه ومن هذا قول عائشة ما انتقم
لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها قال فيستفاد من هذا أن الحلم ليس محمودا مطلقا كما
أن الجود ليس محمودا مطلقا وقد قال تعالى في وصف الصحابة أشداء على الكفار رحماء بينهم قال
وعلى الوجه الأول وهو الرواية بالرفع فيكون إخبارا محضا لا يفهم هذا الغرض المستفاد من
هذه الرواية فتكون الرواية بصيغة النهي أرجح والله أعلم (قلت) ويؤيده حديث احترسوا من
الناس بسوء الظن أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس وهو من رواية بقية بالعنعنة عن
معاوية بن يحيى وهو ضعيف فله علتان وصح من قول مطرف التابعي الكبير أخرجه مسدد
(قوله باب حق الضيف) * (قوله حسين) هو المعلم وقد تقدم الحديث مشروحا
في كتاب الصيام والغرض منه قوله وأن لزورك عليك حقا والزور بفتح الزاي وسكون الواو بعدها
راء الزائر وقد بسط القول فيه في الباب الذي يليه (قوله باب إكرام الضيف
وخدمته إياه بنفسه وقوله تعالى ضيف إبراهيم المكرمين) يشير إلى أن لفظ ضيف يكون واحدا
وجمعا وجمع القلة أضياف والكثرة ضيوف وضيفان (قوله قال أبو عبد الله يقال هو زور
وهؤلاء زور وضيف ومعناه أضيافه وزواره لأنها مصدر مثل قوم رضا وعدل ويقال ماء غور
وبئر غور وما آن غور ومياه غور) قلت ثبت هذا في رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني فقط
وهو مأخوذ من كلام الفراء قال في معاني القرآن قوله تعالى قال أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا
العرب تقول ماء غور وما آن غور ومياه غور ولا يجمعون غورا ولا يثنونه فلم يقولوا ما آن غوران
ولا مياه أغوار وهو بمنزلة الزور يقال هؤلاء زور فلان وضيف فلان معناه أضيافه وزواره وذلك
لأنه مصدر فأجرى على مثل قولهم قوم عدل وقوم رضا ومقنع وقال غيره الزور جمع زائر كراكب
وركب (قلت) وهذا قول أبي عبيدة وجزم به في الصحاح (قوله ويقال الغور الغائر لا تناله الدلاء كل
شئ غرت فيه فهو مغارة) هو كلام أبي عبيدة أيضا وقال أبو عبيدة غور أي غائر والغور مصدر
440

(قوله تزاور تميل من الزور والأزور الأميل) (قلت) هو كلام أبي عبيدة قاله في تفسير سورة
الكهف في قوله تعالى وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين أي تميل وهو من الزور
يعني بفتح الواو وهو العوج والميل ثم ذكر ثلاثة أحاديث * أحدها حديث أبي شريح من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وقوله في الطريق الثانية حدثنا إسماعيل أنبأنا مالك مثله
يعني بإسناده وقوله أو ليصمت ضبطه النووي بضم الميم وقال الطوفي سمعناه بكسرها وهو القياس
كضرب يضرب وقد استشكل التخيير الذي في قوله فليقل خيرا أو ليصمت لان المباح إذا كان
في أحد الشقين لزم أن يكون مأمورا به فيكون واجبا أو منهيا فيكون حراما والجواب عن ذلك أن
صيغة أفعل في قوله فليقل وفي قوله ليسكت لمطلق الاذن الذي هو أعم من المباح وغيره نعم يلزم من
ذلك أن يكون المباح حسنا لدخوله في الخير ومعنى الحديث أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر
قبل كلامه فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه فليتكلم وإن كان مباحا
فالسلامة في السكوت لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه وفي حديث أبي ذر الطويل الذي صححه
ابن حبان ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه * ثانيها حديث أبي هريرة فيه أورده
من وجهين عنه وفي أحدهما ما ليس في الآخر وقد تقدم كل ذلك في باب إكرام الجار باختلاف
ألفاظه وبيان المراد به قال الطوفي ظاهر الحديث انتفاء الايمان عمن قال ذلك وليس مرادا بل
أريد به المبالغة كما يقول القائل ان كنت ابني فأطعني تهييجا له على الطاعة لا أنه بانتفاء طاعته
ينتفي أنه ابنه * ثالثها حديث عقبة بن عامر قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا
الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب المظالم (قوله في حديث أبي شريح جائزته يوم وليلة) قال
السهيلي روى جائزته بالرفع على الابتداء وهو واضح وبالنصب على بدل الاشتمال أي يكرم جائزته
يوما وليلة (قوله والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة) قال ابن بطال سئل عنه مالك
فقال يكرمه ويتحفه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة (قلت) واختلفوا هل الثلاث غير الأول أو بعد
منها فقال أبو عبيد يتكلف له في اليوم الأول بالبر والالطاف وفي الثاني والثالث يقدم له ما حضره
ولا يزيده على عادته ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة وتسمى الجيزة وهي قدر ما يجوز به المسافر
من منهل إلى منهل ومنه الحديث الآخر أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وقال الخطابي معناه
أنه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على ما بحضرته يوما وليلة وفي اليومين الأخيرين
يقدم له ما يحضره فإذا مضى الثلاث فقد قضى حقه فما زاد عليها مما يقدمه له يكون صدقة
وقد وقع في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح عند أحمد ومسلم بلفظ
الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة وهذا يدل على المغايرة ويؤيده ما قال أبو عبيد وأجاب
الطيبي بأنها جملة مستأنفة بيان للجملة الأولى كأنه قيل كيف يكرمه قال جائزته ولا بد من
تقدير مضاف أي زمان جائزته أي بره والضيافة يوم وليلة فهذه الرواية محمولة على اليوم الأول
ورواية عبد الحميد على اليوم الأخير أي قدر ما يجوز به المسافر ما يكفيه يوم وليلة فينبغي أن
يحمل على هذا عملا بالروايتين انتهى ويحتمل أن يكون المراد بقوله وجائزته بيانا لحالة أخرى
وهي أن المسافر تارة يقيم عند من ينزل عليه فهذا لا يزاد على الثلاث بتفاصيلها وتارة لا يقيم
فهذا يعطى ما يجوز به قدر كفايته يوما وليلة ولعل هذا أعدل الأوجه والله أعلم واستدل بجعل
441

ما زاد على الثلاث صدقة على أن الذي قبلها واجب فإن المراد بتسميته صدقة التنفير عنه لان
كثيرا من الناس خصوصا الأغنياء يأنفون غالبا من أكل الصدقة وقد تقدمت أجوبة من لم
يوجب الضيافة في شرح حديث عقبة واستدل ابن بطال لعدم الوجوب بقوله جائزته قال
والجائزة تفضل واحسان ليست واجبة وتعقب بأنه ليس المراد بالجائزة في حديث أبي شريح
العطية بالمعنى المصطلح وهي ما يعطاه الشاعر والوافد فقد ذكر في الأوائل أن أول من سماها
جائزة بعض الامراء من التابعين وأن المراد بالجائزة في الحديث أنه يعطيه ما يغنيه عن غيره كما
تقدم تقريره قبل (قلت) وهو صحيح في المراد من الحديث وأما تسميته العطية للشاعر ونحوه
جائزة فليس بحادث للحديث الصحيح أجيزوا الوقد كما تقدمت الإشارة إليه ولقوله صلى الله عليه
وسلم للعباس ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أجيزك فذكر حديث صلاة التسبيح فدل على أن
استعمالها كذلك ليس بحادث (قوله ولا يحل له أن يثوي عنده) قال ابن التين هو بكسر الواو
وبفتحها في الماضي وبكسرها في المضارع (قوله حتى يحرجه) بحاء مهملة ثم جيم من الحرج
وهو الضيق والثواء بالتخفيف والمد والإقامة بمكان معين قال النووي في رواية لمسلم حتى يؤثمه
أي يوقعه في الاثم لأنه قد يغتابه لطول مقامه أو يعرض له بما يؤذيه أو يظن به ظنا سيئا وهذا كله
محمول على ما إذا لم تكن الإقامة باختيار صاحب المنزل بأن يطلب منه الزيادة في الإقامة أو يغلب
على ظنه أنه لا يكره ذلك وهو مستفاد من قوله حتى يحرجه لان مفهومه إذا ارتفع الحرج
أن ذلك يجوز ووقع عند أحمد في رواية عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن أبي شريح قيل
يا رسول الله وما يؤثمه قال يقيم عنده لا يجد شيئا يقدمه أخرجه أحمد والحاكم وفيه قصة لسلمان
مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب ذلك ثم قال الحمد لله قال ابن
بطال إنما كره له المقام بعد الثلاث لئلا يؤذيه فتصير الصدقة منه على وجه المن والأذى (قلت)
وفيه نظر فإن في الحديث فما زاد فهو صدقة فمفهومه أن الذي في الثلاث لا يسمى صدقة فالأولى أن
يقول لئلا يؤذيه فيوقعه في الاثم بعد أن كان مأجورا (قوله باب صنع الطعام
والتكلف للضيف) ذكر فيه حديث أبي جحيفة في قصة سلمان وأبي الدرداء وهو ظاهر فيما ترجم له
وقد تقدم إيضاح ذلك مع بقية شرحه في كتاب الصيام (قوله أبو جحيفة وهب السوائي) يعني
بضم المهملة والمد (وهب الخير) أي كان يقال له وهب الخير وهذا لم يقع في رواية أبي ذر ووقع في
التكلف للضيف حديث سلمان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلف للضيف أخرجه
أحمد والحاكم وفيه قصة سلمان مع ضيفه حيث طلب منه زيادة على ما قدم له فرهن مطهرته بسبب
ذلك ثم قال الرجل لما فرغ الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا فقال له سلمان لو قنعت ما كانت مطهرتي
442

مرهونة (قوله باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف) ذكر فيه حديث
عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في قصة أضياف أبي بكر وقد تقدم شرحه في علامات النبوة من
الترجمة النبوية وأخذ الغضب منه من قول عبد الرحمن فعرفت أنه يجد على وهو من الموجدة
وهي الغضب وقد وقع التصريح بذلك في الطريق التي بعد هذه حيث قال فيه فغضب أبو بكر
(قوله باب قول الضيف لصاحبه والله لا آكل حتى تأكل) ذكر فيه حديث أبي جحيفة
يشير إلى قصة أبي الدرداء وسلمان وقد تقدم شرحها في كتاب الصيام ولم تقع هذه الترجمة ولا هذا
التعليق في رواية أبي ذر وإنما ساق قصة أضياف أبي بكر تلو الطريق التي قبلها وهي من هذا
الوجه مختصرة وسليمان في سندها هو التيمي وقوله الأولى للشيطان أي الحالة التي غضب فيها
وحلف وتقدم له توجيه متعقب (قوله باب اكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام
والسؤال) المراد الأكبر في السن إذا وقع التساوي في الفضل والا فيقدم الفاضل في الفقه والعلم
إذا عارضه السن وذكر فيه حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في قصة محيصة وحويصة
وسيأتي شرحه في كتاب القسامة وقوله فوداهم هو للأكثر ويروى بالفاء بدل الواو وقوله من قبله
بكسر القاف وفتح الموحدة على الصحيح (قوله قال الليث حدثني يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري
وبشير بالموحدة والمعجمة مصغر هو ابن يسار بتحتانية ثم مهملة خفيفة وهذا التعليق وصله مسلم
والترمذي والنسائي من حديث الليث به (قوله وقال ابن عيينة حدثنا يحيى) هو ابن سعيد أيضا
443

وهذا التعليق وصله مسلم والنسائي من حديث ابن عيينة ثم ذكر حديث ابن عمر أخبروني بشجرة
مثلها مثل المسلم الحديث وقد تقدم شرحه في كتاب العلم مستوفى وكأنه أشار بإيراده إلى أن
تقديم الكبير حيث يقع التساوي أما لو كان عند الصغير ما ليس عند الكبير فلا يمنع من الكلام
بحضرة الكبير لان عمر تأسف حيث لم يتكلم ولده مع أنه اعتذر له بكونه بحضوره وحضور أبي بكر
ومع ذلك تأسف على كونه لم يتكلم (قوله باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء)
أما الشعر فهو في الأصل اسم لما دق ومنه ليت شعري ثم استعمل في الكلام المقفي الموزون قصدا
ويقال أصله الشعر بفتحتين يقال شعرت أصبت الشعر وشعرت بكذا علمت علما دقيقا كاصابة
الشعر وقال الراغب قال بعض الكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شاعر فقيل لما وقع في
القرآن من الكلمات الموزونة والقوافي وقيل أرادوا أنه كاذب لأنه أكثر ما يأتي به الشاعر كذب
ومن ثم سموا الأدلة الكاذبة شعرا وقيل في الشعر أحسنه أكذبه ويؤيد ذلك قوله تعالى وأنهم
يقولون ما لا يفعلون ويؤيد الأول ما ذكر في حد الشعر أن شرطه القصد إليه وأما ما وقع موزونا
اتفاقا فلا يسمى شعرا وأما الرجز فهو بفتح الراء والجيم بعدها زاي وهو نوع من الشعر عند الأكثر
وقيل ليس بشعر لأنه يقال راجز لا شاعر وسمي رجزا لتقارب اجزائه واضطراب اللسان به ويقال
رجز البعير إذا تقارب خطوه واضطراب لضعف فيه وأما الحداء فهو بضم الحاء وتخفيف الدال
المهملتين يمد ويقصر سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء والحداء في الغالب إنما يكون
بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر ولذلك عطفه على الشعر والرجز وقد جرت عادة الإبل أنها تسرع
السير إذا حدا بها وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن طاوس مرسلا وأورده البزار موصولا عن ابن
عباس دخل حديث بعضهم في بعض أن أول من حدا الإبل عبد لمضر بن نزار بن معد بن عدنان
كان في إبل لمضر فقصر فضربه مضر على يده فارجعه فقال يا يداه يا يداه وكان حسن الصوت
فأسرعت الإبل لما سمعته في السير فكان ذلك مبدأ الحداء ونقل ابن عبد البر الاتفاق على إباحة
الحداء وفي كلام بعض الحنابلة إشعار بنقل خلاف فيه ومانعه محجوج بالأحاديث الصحيحة
ويلتحق بالحداء هنا الحجيج المشتمل على التشوق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد ونظيره
ما يحرض أهل الجهاد على القتال ومنه غناء المرأة لتسكين الولد في المهد (قوله وقوله تعالى
والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) ساق في رواية كريمة والأصيلي إلى آخر
السورة ووقع في رواية أبي ذر بين الآيتين المذكورتين لفظة وقوله وهي زيادة لا يحتاج إليها
قال المفسرون في هذه الآية المراد بالشعراء شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومردة
الشياطين وعصاة الجن ويروون شعرهم لان الغاوي لا يتبع إلا غاويا مثله وسمي الثعلبي منهم
عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب ومسافع وعمرو بن أبي أمية بن أبي الصلت وقيل نزلت
في شاعرين تهاجيا فكان مع كل واحد منهما جماعة وهم الغواة السفهاء وأخرج البخاري في
الأدب المفرد وأبو داود من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى والشعراء
يتبعهم الغاوون إلى قوله ما لا يفعلون قال فنسخ من ذلك واستثنى فقال الا الذين آمنوا إلى آخر
السورة وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مرسلة قال لما نزلت والشعراء يتبعهم الغاون جاء
عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا يا رسول الله أنزل الله هذه
444

الآية وهو يعلم أنا شعراء فقال اقرؤا ما بعدها إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنتم وانتصروا
من بعد ما ظلموا أنتم وقال السهيلي نزلت الآية في الثلاثة وإنما وردت بالابهام ليدخل معهم
من اقتدى بهم وذكر الثعلبي مع الثلاثة كعب بن زهير بغير إسناد والله أعلم (قوله قال ابن عباس
في كل لغو يخوضون) وصله ابن أبي حاتم والطبري من طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله في كل واد قال في كل لغو وفي قوله يهيمون قال يخوضون وقال غيره
يهيمون أي يقولون في الممدوح والمذموم ما ليس فيه فهم كالهائم على وجهه والهائم المخالف
للقصد (قوله وما يكره منه) هو قسيم قوله ما يجوز والذي يتحصل من كلام العلماء في حد الشعر
الجائز أنه إذا لم يكثر منه في المسجد وخلا عن هجو وعن الاغراق في المدح والكذب المحض والتغزل
بمعين لا يحل وقد نقل ابن عبد البر الاجماع على جوازه إذا كان كذلك واستدل بأحاديث الباب
وغيرها وقال ما أنشد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو استنشده ولم ينكره (قلت)
وقد جمع ابن سيد الناس شيخ شيوخنا مجلدا في أسماء من نقل عنه من الصحابة شئ من شعر متعلق
بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقد ذكر في الباب خمسة أحاديث دالة على الجواز وبعضها مفصل
لما يكره مما لا يكره وترجم في الأدب المفرد ما يكره من الشعر وأورد فيه حديث عائشة مرفوعا
أن أعظم الناس فرية الشاعر يهجو القبيلة بأسرها وسنده حسن وأخرجه ابن ماجة من هذا
الوجه بلفظ أعظم الناس فرية رجل هاجي رجلا فهجا القبيلة بأسرها وصححه ابن حبان وأخرج
البخاري في الأدب المفرد عن عائشة أنها كانت تقول الشعر منه حسن ومنه قبيح خذ الحسن
ودع القبيح ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا وسنده
حسن وأخرج أبو يعلى أوله من حديثها من وجه آخر مرفوعا وأخرجه البخاري في الأدب المفرد
أيضا من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا بلفظ الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام
وقبيحه كقبيح الكلام وسنده ضعيف وأخرجه الطبراني في الأوسط وقال لا يروي عن النبي صلى
الله عليه وسلم إلا بهذا الاسناد وقد اشتهر هذا الكلام عن الشافعي واقتصر ابن بطال على نسبته
إليه فقصر وعاب القرطبي المفسر على جماعة من الشافعية الاقتصار على نسبة ذلك للشافعي وقد
شاركهم في ذلك ابن بطال وهو مالكي وأخرج الطبري من طريق ابن جريج قال سألت عطاء عن
الحداء والشعر والغناء فقال لا بأس به ما لم يكن فحشا * الحديث الأول (قوله عن الزهري
أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن) يعني ابن الحرث بن هشام المخزومي وفي هذا الاسناد أربعة من
التابعين قرشيون مدنيون في نسق فالزهري من صغار التابعين وأبو بكر ومن فوقه من كبارهم
ولمروان وعبد الرحمن مزية إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما من حيث الرواية معدودان
في التابعين وقد تقدم قريبا أن لعبد الرحمن رؤية وأنه عد لذلك في الصحابة وكذا ذكر بعضهم
مروان في الصحابة لادراكه وقد تقدم ذلك في الشروط وقد اختلف على الزهري في سنده فالأكثر
على ما قال شعيب وقال معمر في المشهور عنه عن الزهري عن عروة بدل أبي بكر موصولا وأخرجه
ابن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة مرسلا ووافق رباح بن زيد عن معمر
الجماعة وكذا قال هشام بن يوسف عن معمر لكن قال عبد الله بن الأسود وكذا قال إبراهيم بن
سعيد عن الزهري وحذف يزيد بن هارون عن إبراهيم بن سعد مروان من السند والصواب إثباته
445

(قوله أن من الشعر حكمة) أي قولا صادقا مطابقا للحق وقيل أصل الحكمة المنع فالمعنى أن
من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه وأخرج أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن
أبيه عن جده سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أن من البيان سحرا وأن من العلم
جهلا وأن من الشعر حكما وأن من القول عيلا فقال صعصعة بن صوحان صدق رسول الله صلى
الله عليه وسلم أما قوله أن من البيان سحرا فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب
الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وأن قوله وأن من العلم جهلا فيكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم
فيجهل ذلك وأما قوله أن من الشعر حكما فهي هذه المواعظ والامثال التي يتعظ بها الناس وأما
قوله أن من القول عيلا فعرضك كلامك على من لا يريده وقال ابن التين مفهومه أن بعض
الشعر ليس كذلك لان من تبعيضية ووقع في حديث ابن عباس عند البخاري في الأدب المفرد
وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجة بلفظ أن من الشعر حكما وكذا أخرجه ابن أبي شيبة من
حديث ابن مسعود وأخرجه أيضا من حديث بريدة مثله وأخرج ابن أبي شيبة من طريق
عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبو بكر ربما قال الشاعر الكلمة الحكمية وقال ابن بطال ما كان
في الشعر والرجز ذكر الله تعالى وتعظيم له ووحدانيته وايثار طاعته والاستسلام له فهو حسن
مرغب فيه وهو المراد في الحديث بأنه حكمة وما كان كذبا وفحشا فهو مذموم قال الطبري في
هذا الحديث رد على من كره الشعر مطلقا واحتج بقول ابن مسعود الشعر مزامير الشيطان وعن
مسروق أنه تمثل بأول بيت شعر ثم سكت فقيل له فقال أخاف أن أجد في صحيفتي شعرا وعن أبي
أمامة رفعه أن إبليس لما أهبط إلى الأرض قال رب اجعل لي قرآنا قال قرآنك الشعر ثم أجاب عن
ذلك بأنها أخبار واهية وهو كذلك فحديث أبي أمامة فيه علي بن يزيد ألهاني وهو ضعيف وعلى
تقدير قوتها فهو محمول على الافراط فيه والاكثار منه كما سيأتي تقريره بعد باب ويدل على الجواز
سائر أحاديث الباب وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن عمر بن الشريد عن أبيه قال استنشدني
النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته حتى أنشدته مائة قافية وعن مطرف
قال صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعرا وأسند
الطبري عن جماعة من كبار الصحابة ومن كبار التابعين أنهم قالوا الشعر وأنشدوه واستنشدوه
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن خالد بن كيسان قال كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن
خيثمة فقال ألا أنشدك من شعري قال بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا وأخرج ابن أبي شيبة
بسند حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين
ولا متماوتين وكانوا يتناشدون الاشعار في مجالسهم ويذكرون أمر جاهليتهم فإذا أريد أحدهم
على شئ من دينه دارت حماليق عينيه ومن طريق عبد الرحمن بن أبي بكرة قال كنت أجالس
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي في المسجد فيتناشدون الاشعار ويذكرون حديث
الجاهلية وأخرج أحمد وابن شيبة والترمذي وصححه من حديث جابر بن سمرة قال كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر وحديث الجاهلية عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلا ينهاهم وربما يتبسم * الحديث الثاني (قوله سفيان) هو الثوري (قوله
سمعت جندبا) في رواية أبى عوانة عن الأسود الماضية في أوائل الجهاد جندب بن سفيان البجلي
446

(قوله بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي) في رواية أبي عوانة كان في بعض المشاهد وفي رواية
شعبة عن الأسود خرج إلى الصلاة وأخرجه الطيالسي وأحمد في رواية ابن عيينة عن
عن الأسود
جندب كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار (قوله فعثر) بالعين المهملة والثاء المثلثة (قوله
فقال هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت) هذان قسمان من رجر والتاء في آخرهما
مكسورة على وفق الشعر وجزم الكرماني بأنهما في الحديث بالسكون وفيه نظر وزعم غيره أن
النبي صلى الله عليه وسلم تعمد إسكانهما ليخرج القسمين عن الشعر وهو مردود فإنه يصير من
ضرب آخر من الشعر وهو من ضروب البحر الملقب الكامل وفي الثاني زحاف جائز قال عياض
وقد غفل بعض الناس فروى دميت ولقيت بغير مد فخالف الرواية ليسلم من الاشكال فلم يصب
وقد اختلف هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم متمثلا أو قاله من قبل نفسه غير قاصد لانشائه
فخرج موزونا وبالأول جزم الطبري وغيره ويؤيده أن ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس أوردهما
لعبد الله بن رواحة فذكر أن جعفر بن أبي طالب لما قتل في غزوة مؤتة بعد أن قتل زيد بن حارثة
أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل فأصيب إصبعه فارتجز وجعل يقول هذين القسمين وزاد
يا نفس إن لا تقتلي تموتي * هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت * أن تفعلي فعلهما هديت
وهكذا جزم ابن التين بأنهما من شعر ابن رواحة وذكر الواقدي أن الوليد بن الوليد بن المغيرة كان
رافق أبا بصير في صلح الحديبية على ساحل البحر ثم أن الوليد رجع إلى المدينة فعثر بالحرة فانقطعت
إصبعه فقال هذين القسمين وأخرجه الطبراني من وجه آخر موصول بسند ضعيف وقال ابن
هشام في زيادات السيرة حدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لي بعباس بن أبي
ربيعة فقال الوليد بن الوليد أنا فذكر قصة فيها فعثر فدميت إصبعه فقالهما وهذا إن كان محفوظا
احتمل أن يكون ابن رواحة ضمنهما شعره وزاد عليهما فإن قصة الحديبية قبل قصة مؤتة وقد
تقدم نحو هذا الاحتمال في أوائل غزوة خيبر في الرجز المنسوب لعامر بن الأكوع
* اللهم لولا أنت ما اهتدينا * وأنه نسب في رواية أخرى لابن رواحة وقد اختلف في جواز تمثل
النبي صلى الله عليه وسلم بشئ من الشعر وانشاده حاكيا عن غيره فالصحيح جوازه وقد أخرج
البخاري في الأدب المفرد والترمذي وصححه والنسائي من رواية المقدام بن شريح عن أبيه قلت
لعائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر قالت كان يتمثل من شعر ابن
رواحة * ويأتيك بالاخبار من لم تزود * وأخرج ابن أبي شيبة نحوه من حديث ابن عباس
وأخرج أيضا من مرسل أبي جعفر الخطمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني المسجد
وعبد الله بن رواحة يقول * أفلح من يعالج المساجدا فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيقول ابن رواحة * يتلو القرآن قائما وقاعدا فيقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما
ما أخرجه الخطيب في التاريخ عن عائشة
تفاءل بما تهوى تكن فلقلما * يقال لشئ كان إلا تحققا
قال وإنما لم يعربه لئلا يكون شعرا فهو شئ لا يصح ومما يدل على وهائه التعليل المذكور
والحديث الثالث في الباب يؤيد ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجوز له أن يحكي الشعر عن
447

ناظمه وقد تقدم في غزوة حنين قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
وأنه دل على جواز وقوع الكلام منه منظوما من غير قصد إلى ذلك ولا يسمى ذلك شعرا وقد وقع
الكثير من ذلك في القرآن العظيم لكن غالبها أشطار أبيات والقليل منها وقع وزن بيت تام
فمن التام قوله تعالى الحامدون السائحون الراكعون الساجدون أوتيت من كل شئ ولها عرش
عظيم مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين نبئ
عبادي أني أنا الغفور الرحيم لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر
لهم وجفان كالجوابي وقدور راسيات واتقون يا أولي الألباب ان هذا لرزقنا ما له من نفاد
تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله ومن الليل فسبحه وأدبار
النجوم وكذلك السجود والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم اني وجدت امرأة تملكهم
وأوتيت من كل شئ ولها يأتيكم التابوت فهي سكينة من ربكم وبقية مما ترك وأزواج مطهرة
ورضوان من الله ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ولقد ضل قبلهم أكثر
الأولين ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويأكلون التراث أكلا لما ويحبون
المال حبا جما والواو في كل منهما وإن كانت زائدة على الوزن لكنه يجوز في النظم ويسمى الخزم
بالزاي بعد الخاء المعجمة وأما الأشطار فكثيرة جدا فمنها فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
ليقضي الله أمرا كان مفعولا فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم في أمة قد خلت من قبلها أمم
فذلكن الذي لمتنني فيه فانبذ إليهم على سواء ادخلوها بسلام آمنين إنه كان وعده مفعولا
حسدا من عند أنفسهم ألا بعدا لعاد قوم هود ويعلم ما جرحتم بالنهار وتراهم يعرضون
عليها وكفى الله المؤمنين القتال والله أركسهم بما كسبوا حتى يخوضوا في حديث غيره
قل هو الرحمن آمنا به ألا إلى الله تصير الأمور نصر من الله وفتح قريب ذلك تقدير العزيز
العليم نقذف بالحق على الباطل اليوم أكملت لكم دينكم يا أيها الناس اتقوا ربكم لئن
شكرتم لأزيدنكم قتل الانسان ما أكفره ثاني اثنين إذ هما في الغار قد علمنا ما تنقص الأرض
منهم إن قارون كان من قوم موسى إن ربي بكيدهن عليم وينصرك الله نصرا عزيزا خلق
الانسان من علق وآخر دعواهم أن الحمد لله وأحلوا قومهم دار البوار ولا تقتلوا النفس
التي حرم الله التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون قل للذين
كفروا أن ينتهوا يغفر لهم كلما أضاء لهم وتحشر المجرمين يومئذ يا أيها الانسان إنك كادح
يا أيها الانسان ما غرك وهب لنا من لدنك رحمة وينصرك الله نصرا عزيزا والطير محشورة
كل له أواب وعندهم قاصرات الطرف أتراب فإن عدنا فانا ظالمون زلزلة الساعة شئ عظيم
أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ثمرات النخيل والأعناب ذلك الكتاب لا ريب فيه ومن التام
أيضا وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس ونزلناه تنزيلا وإذا انتهى إلى الناس تم أيضا وأيضا
لتقرأه على الناس ونزلناه تنزيلا وقيل في الجواب عن الحديث ان وقوع البيت الواحد من
الفصيح لا يسمى شعرا ولا يسمى قائله شاعرا * الحديث الثالث حديث أبي هريرة أصدق كلمة
قالها الشاعر تقدم شرحه في أيام الجاهلية وقوله عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقع في رواية زائدة
ابن قدامة عن عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة به وزاد بعد قوله كلمة لبيد ثم تمثل
448

أوله وترك آخره وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن زائدة مثل رواية سفيان ومن تابعه وهو المحفوظ
* الحديث الرابع حديث سلمة بن الأكوع في قصة عامر بن الأكوع تقدم شرحه مستوفى في غزوة
خيبر من كتاب المغازي وقوله فيه وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يؤخذ منه جميع
الترجمة لاشتماله على الشعر والرجز والحداء ويؤخذ منه الرجز من جملة الشعر وقوله
اللهم لولا أنت ما اهتدينا قال ابن التين هذا ليس بشعر ولا رجز لأنه ليس بموزون وليس كما قال
بل هو رجز موزون وإنما زيد في أوله سبب خفيف ويسمى الخزم بالمعجمتين وقوله فاغفر فداء لك
ما اقتفينا أما فداء فهو بكسر الفاء والمد منون ومنهم من يقوله بالقصر وشرط اتصاله بحرف
الجر كالذي هنا قاله ابن التين وقال المازري لا يقال لله فداء لك لأنها كلمة تستعمل عند توقع مكروه
لشخص فيختار شخص آخر أن يحل به دون ذلك الآخر ويفديه فهو إما مجاز عن الرضا كأنه قال
نفسي مبذولة لرضاك أو هذه الكلمة وقعت خطابا لسامع الكلام وقد تقدم له توجيه آخر في غزوة
خيبر وقال ابن بطال معناه اغفر لنا ما ارتكبناه من الذنوب وفداء لك دعاء أي أفدنا من عقابك على
ما اقترفنا من ذنوبنا كأنه قال اغفر لنا وافدنا منك فداء لك أي من عندك فلا تعاقبنا به وحاصله
أنه جعل اللام للتبيين مثل هيت لك واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب
وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان
التي تشتمل عليها الموسيقى وفيه نظر وقال الماوردي اختلف فيه فأباحه قوم مطلقا ومنعه قوم
مطلقا وكرهه مالك والشافعي في أصح القولين ونقل عن أبي حنيفة المنع وكذا أكثر الحنابلة
ونقل ابن طاهر في كتاب السماع الجواز عن كثير من الصحابة لكن لم يثبت من ذلك شئ إلا في النصب
المشار إليه أولا قال ابن عبد البر الغناء الممنوع ما فيه تمطيط وإفساد لوزن الشعر طلبا للضرب
وخروجا من مذاهب العرب وإنما وردت الرخصة في الضرب الأول دون ألحان العجم وقال
الماوردي هو الذي لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه من غير نكير إلا في حالتين أن يكثر منه جدا وأن
يصحبه ما يمنعه منه واحتج من إباحه بأن فيه ترويحا للنفس فإن فعله ليقوى على الطاعة فهو مطيع
أو على المعصية فهو عاص وإلا فهو مثل التنزه في البستان والتفرج على المارة وأطنب الغزالي في
الاستدلال ومحصله أن الحداء بالرجز والشعر لم يزل يفعل في الحضرة النبوية وربما التمس ذلك
وليس هو إلا أشعار توزن بأصوات طيبة وألحان موزونة وكذلك الغناء اشعار موزونة تؤدي
بأصوات مستلذة وألحان موزونة وقد تقدم له بوجه آخر في غزوة خيبر والحليمي
ما تعين طريقا إلى الدواء أو شهد به طبيب عدل عارف * الحديث الخامس (قوله إسماعيل) هو ابن
علية (قوله أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه) يأتي في باب المعاريض في رواية حماد بن
زيد عن أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر في رواية شعبة عن ثابت عن أنس كان
449

في منزله فحدى الحادي وسيأتي ذلك في باب المعاريض وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق
شعبة بلفظ وكان معهم سائق وحادي ولأبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن انس
كان أنجشة يحدو بالنساء وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال وأخرجه أبو عوانة من رواية عفان
عن حماد وفى رواية قتادة عن انس كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشة وكان حسن
الصوت وسيأتي في باب المعاريض وفى رواية وهيب وأنجشة غلام النبي صلى الله عليه وسلم يسوق
بهن وفى رواية حميد عن انس فاشتد بهن في السياق أخرجها احمد عن ابن أبي عدى عنه وفى رواية
حماد بن سلمة عن ثابت فإذا أعنقت الإبل وهى بعين مهملة ونون وقاف أي أسرعت وزنه ومعناه
والعنق بفتحتين قد تقدم بيانه في كتاب الحج (قوله ومعهن أم سليم) في رواية حميد عن انس عند
الحرث وكان يحد وبأمهات المؤمنين ونسائهم وفى رواية وهيب عن أيوب كما سيأتي بعد عشرين بابا
كانت أم سليم في الثقل وفى رواية سليمان التميمي عن انس عنده مسلم كانت أم سليم مع نساء النبي
صلى الله عليه وسلم أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه وأخرجه النسائي من طريق زهير
والرامهرمزي في الأمثال من طريق حماد بن مسعدة كلاهما عن سليمان فقال عن انس عن أم
سليم جعله من مسند أم سليم والأول هو المحفوظ وحكى عياض ان في رواية السمرقندي في مسلم
أم سلمة بدل أم سليم قال وقوله في الرواية الأخرى مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم يقوى انها
ليست من نسائه (قلت) وتظافر الروايات على انها أم سليم يقضى بان قوله أم سلمة تصحيف (قوله
فقال ويحك يا أنجشة) في رواية حماد كان في سفر له وكان غلام يحد وبهن يقال له أنجشة وسيأتي
في باب المعاريض وفى رواية مسلم من هذا الوجه كان في بعض أسفاره وغلام اسود وفى رواية
للنسائي عن قتيبة عن حماد وغلام له يقال له أنجشة وهو بفتح الهمز وسكون النون وفتح الجيم
بعدها شين معجمة ثم هاء تأنيث ووقع في رواية وهيب يا أنجش على الترخيم قال البلاذري كان
أنجشة حبشيا يكنى أبا مارية وأخرج الطبراني من حديث واثلة انه كان ممن نفاهم النبي صلى الله
عليه وسلم من المخنثين (قوله رويدك) كذا للأكثر وفى رواية سليمان التيمي رويدا وفى رواية
شعبة ارفق ووقع في رواية حميد رويدك ارفق جمع بينهما رويناه في جزء الأنصاري عن حميد
وأخرجه الحرث عن عبد الله بن بكر عن حميد فقال كذلك سوقت وهى بمعنى كفاك قال عياض
قوله رويدا منصوب على أنه صفة المحذوف دل عليه اللفظ أي سق سوقا رويدا أو أحد حدوا رويدا
أو على المصدر أي ارود رويدا مثل ارفق رفقا أو على الحال أي سر رويدا ورو يدك منصوب على
الاغراء أو مفعول بفعل مضمر أي الزم رفقك أو على المصدر أي ارود رويدك وقال الراغب
رويدا من أرود يرود كامهل يمهل وزنه ومعناه وهو من الرود بفتح الراء وسكون ثانيه وهو التردد
في طلب الشئ برفق راد وارتاد والرائد طالب الكلأ ورادت المرأة ترود إذا مشت على هينتها وقال
الرامهرمزي رويدا تصغير رود وهو مصدر فعل الرائد وهو المبعوث في طلب الشئ ولم يستعمل
في معنى المهلة الا مصغرا قال وذكر صاحب العين انه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينون
وقال السهيلي قوله رويدا أي ارفق جاء بلفظ التصغير لان المراد التقليل أي ارفق قليلا وقد يكون
من تصغير المرخم وهو ان يصغر الاسم بعد حرف الزوائد كما قالوا في اسود سويد فكذا في أرود رويد
(قوله سوقك) (1) كذا للأكثر وفى رواية حميد سيرك وهو بالنصب على نزع الخافض أي ارفق
450

في سوقك أو سقهن كسوقك وقال القرطبي في المفهم رويدا أي ارفق وسوقك مفعول به ووقع
في رواية مسلم سوقا وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة وهو منصوب على الاغراء بقوله ارفق سوقا
أو على المصدر أي سق سوقا وقرات بخط ابن الصائغ المتأخر رويدك اما مصدر والكاف في محل
خفض واما اسم فعل والكاف حرف خطاب وسوقك بالنصب على الوجهين والمراد به حدوك
اطلاقا لاسم المسبب على السبب وقال ابن مالك رويدك اسم فعل بمعنى أرود أي امهل والكاف
المتصلة به حرف خطاب وفتحة داله بنائية ولك ان تجعل رويدك مصدرا مضافا إلى الكاف ناصيها
سوقك وفتحة داله على هذا أعرابية وقال أبو البقاء الوجه النصب برويدا والتقدير امهل
سوقك والكاف حرف خطاب وليست اسما ورويدا يتعدى إلى مفعول واحد (قوله بالقوارير)
في رواية هشام عن قتادة رويدك سوقك ولا تكسر القوارير وزاد حماد في روايته عن أيوب قال أبو
قلابة يعنى النساء ففي رواية همام عن قتادة ولا تكسر القوارير قال قتادة يعنى ضعفة النساء
والقوارير جمع قارورة وهى الزجاجة سميت بذلك لاستقرار الشراب فيها وقال الرامهرمزي كنى
وضعف البينة وقيل المعنى سقهن كسوقك القوارير لو كانت محمولة على الإبل وقال غيره
شبههن بالقوارير لسرعة انقلابهن عن الرضا وقلة دوامهن على الوفاء كالقوارير يسرع إليها
الكسر ولا تقبل الجبر وقد استعملت الشعراء ذلك قال بشار
أو فق بعمرو إذا حركت نسبته * فإنه عربي من قواريري
قال أبو قلابة فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه (قوله
سوقك بالقوارير) قال الداودي هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لما كان عندهم من التكلف
ومعارضة الحق بالباطل وقال الكرماني لعله نظر إلى أن شري الاستعارة ان يكون وجه الشبه
جلبا وليس بين القارورة والمراة وجه التشبيه من حيت ذاتهما ظاهر لكن الحق انه كلام في غاية
الحسن والسلامة عن العيب ولا يلزم في الاستعارة ان يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما بل
يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة وهو هنا كذلك قال ويحتمل ان يكون قصد أبى قلابة
ان هذه الاستعارة من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة
له لعبتموها قال وهذا هو اللائق بمنصب أبى قلابة (قلت) وليس ما قاله الداودي بعيدا ولكن المراد
من كان يتنطع في العبارة ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شئ من الهزل وقريب من ذلك قول
شداد بن أوس الصحابي لغلامه ائتنا بسفرة نعبث بها فأنكرت عليه أخرجه احمد والطبراني قال
الخطابي كان أنجشة اسود وكان في سوقه عنف فأمره ان يرفق بالمطايا وقيل كان حسن الصوت
بالحداء فكره ان تسمع النساء الحداء فان حسن الصوت يحرك من النفوس فشبه ضعف عزائمهن
وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها وجزم ابن بطال بالأول فقال القوارير
كناية عن النساء اللاتي كن على الإبل التي تساق حينئذ فامر الحادي بالرفق في الحداء لأنه يحث
الإبل حتى تسرع فإذا أسرعت لم يؤمن على النساء السقوط وإذا مشت رويدا امن على النساء
السقوط قال وهذا من الاستعارة البديعة لان القوارير أسرع شئ بكسيرا فافادت الكناية من
الحض على الرفق بالنساء في السير ما لم تفده الحقيقة لو قال ارفق بالنساء وقال الطيبى هي استعارة
451

لان المشبه به غير مذكور والقرينة حالية لا مقالية ولفظ الكسر ترشيح لها وحزم أبو عبيد الهروي
بالثاني وقال شبه النساء بالقوارير لضعف عزائمهن والقوارير يسرع إليها الكسر فحشى من
سماعهن النشيد الذي يحدو به ان يقع بقلوبهن منه فأمره بالكف فشبه عزائمهن بسرعة تأثير
الصوت فيهن بالقوارير في اسراع الكسر إليها ورجح عياض هذا الثاني فقال هذا أشبه بمساق
الكلام وهو الذي يدل عليه كلام أبى قلابة والا فلو عبر عن السقوط بالكسر لم يعبه أحد وجوز
القرطبي في المفهم الامرين فقال شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن فخاف عليهن
من حث السير بسرعة السقوط أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ عن السرعة
أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد (قلت) والراجح عند البخاري الثاني ولذلك ادخل هذا
الحديث في باب المعاريض ولو أريد المعنى الأول لم يكن في لفظ القوارير تعريض (قوله
باب هجاء المشركين) الهجاء والهجو بمعنى ويقال هجوته ولا تقل هجيته وأشار بهذه
الترجمة إلى أن بعض الشعر قد يكون مستحبا وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن
حبان من حديث انس رفعه جاهد والمشركين بألسنتكم وتقدم في مناقب قريش الإشارة إلى
حديث كعب بن مالك وغيره في ذلك وللطبراني من حديث عمار بن ياسر لما هجانا المشركون قال
لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا لهم كما يقولون لكم فان كنا لنعلمه اما أهل المدينة وذكر
فيه خمسه أحاديث * الحديث الأول والثاني (قوله حدثنا محمد) هو ابن سلام نسبه أبو علي بن
السكن وصرح به البخاري في الأدب المفرد وعبدة هو ابن سليمان وتقدم شرح حديث عائشة
هذا في مناقب قريش وقوله استأذن حسان ووقع في طريق مرسلة بيان ذلك وسببه فروى ابن
وهب في جامعه وعبد الرزاق في مصنفه من طريق محمد بن سيرين قال هجا رهط من المشركين
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال المهاجرون يا رسول الله الا تأمر عليا فيهجو هؤلاء
القوم فقال إن القوم الذين نصروا بأيديهم أحق ان ينصروا بألسنتهم فقالت الأنصار أرادنا والله
فارسلوا إلى حسان فاقبل فقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أحب ان لي بمقولى ما بين صنعاء
وبصرى فقال أنت لها فقال لاعلم لي بقريش فقال لأبي بكر اخبره عنهم ونقب له في مثالبهم وقد
تقدم بعض هذا موصولا من حديث عائشة وهو عند مسلم وقوله لاسلنك أي لأخلص نسبك
من هجوهم بحيث لا يبقى شئ من نسبك فيما له الهجو كالشعرة إذا انسلت لا يبقى عليها شئ من
العجين وفى الحديث جواز سب المشرك جوابا عن سبه للمسلمين ولا يعارض ذلك مطلق النهى عن سب المشركين لئلا يسبوا المسلمين لأنه محمول على البداءة به لا على من أجاب منتصرا وقوله
في الحديث الثاني ينافح بفاء ومهملة أي يخاصم بالمدافعة والمنافح المدافع تقول نافحت عن
سب المشركين لئلا يسبوا المسلمين لأنه محمول على البداءة به لا على من أجاب منتصرا وقوله
في الحديث الثاني ينافح بفاء ومهملة أي يخاصم بالمدافعة والمنافح المدافع تقول نافحت عن
فلان أي دافعت عنه * الحديث الثالث حديث أبي هريرة في شعر عبد لله بن رواحة وقد تقدم
شرحه في قيام الليل في أواخر كتاب الصلاة وكذا بيان متابعة عقيل ومن وصلها ورواية الزبيدي
ومن وصلها قال ابن بطال فيه ان الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والعمال الصالحة كان حسنا ولم
يدخل فيما ورد فيه الذم من الشعر قال الكرماني في البيت الأول إشارة إلى علمه وفى الثالث إلى
عمله وفى الثاني إلى تكميله غيره صلى الله عليه وسلم فهو كامل مكمل * (تنبيه) * وقع للجميع
في البيت الثالث إذا استثقلت بالكافرين المضاجع الا الكشميهني فقال بالمشركين واستثقلت
452

بالمثلثة ولا قاف من الثقل وزعم عياض انه وقع في رواية أبي ذر استقلت بمثناة فقط وتشديد اللام
قال وهو فاسد الرواية والنظم والمعنى (قلت) وروايتنا من طريق أبي ذر متقنة وهى كالجادة
* الحديث الرابع (قوله وحدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس واخوه أبو بكر واسمه عبد الحميد
وسليمان هو ابن بلال ومحمد بن أبي عتيق هو محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر
الصديق وأبو عتيق كنية جده محمد وقد تقدمت رواية شعيب مفردة في باب الشعر في المسجد
في أوائل الصلاة وقرنها هنا برواية ابن أبي عتيق ولفظهما واحد الا أنه قال هناك أنشدك الله
هل سمعت وقال هنا نشدتك الله وفى رواية الكشميهني نشدتك بالله يا أبا هريرة والباقي سواء
وقد تقدم بيان الاختلاف على الزهري في شيخه في هذا الحديث هناك وتوجيه الجمع والإشارة
إلى شرح الحديث وقوله هل سمعت وقال في آخره نعم يستفاد منه مشروعية تحمل الحديث
بهذه الصيغة وعد المزي هذا الحديث في الأطراف من مسند حسان وهو صريح في كونه من
مسند أبي هريرة ويحتمل ان يكون من مسند حسان * الحديث الخامس (قوله عن البراء
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان) هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة فقال فيه عن البراء
عن حسان جعله من مسند حسان أخرجه النسائي وقد أوردت هذا في الملائكة من بدء الخلق
معزوا إلى الترمذي وهو سهو كان سببه التباس الرقم فإنه للترمذي ت وللنسائي ن وهما
يلتبسان وقد تقدم بيان الوقت الذي وقع ذلك فيه لحسان في المغازي في غزوة بني قريظة
(قوله باب ما يكره ان يكون الغالب على الانسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله
والعلم والقرآن) هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد كما سأذكره ووجهه ان الذم إذا كان
للامتلاء وهو الذي لا بقية لغيره معه دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم ثم ذكر فيه حديث
لان يمتلى جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلى شعرا من حديث ابن عمرو من حديث أبي هريرة
وزاد أبو ذر في روايته عن الكشميهني في حديث أبي هريرة حتى ير يه وهذه الزيادة ثابتة في الأدب
المفرد عن الشيخ الذي أخرجه عنه هنا وكذلك رواية النسفي ونسبها بعضهم للأصيلي ولسائر رواة
الصحيح قيحا يريه باسقاط حتى وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبان
من طرق عن الأعمش في أكثرها حتى ير يه ووقع عند الطبراني من وجه آخر عن سالم عن ابن عمر
بلفظ حتى يريه أيضا قال ابن الجوزي وقع في حديث سعد عند مسلم حتى يريه وفى حديث أبي
هريرة عند البخاري باسقاط حتى فعلى ثبوتها يقرأ يريه بالنصب وعلى حذفها بالرفع قال ورأيت
جماعة من المبتدئين يقرؤنها بالنصب مع اسقاط حتى جريا على المألوف وهو غلط إذ ليس هنا
ما ينصب وذكران ابن الخشاب نبهه على ذلك ووجه بعضهم النصب على بدل الفعل من الفعل
واجراء اعراب يمتلئ على يريه ووقع في حديث عوف بن مالك عند الطحاوي والطبراني لان يمتلئ
جوف أحدكم من عانته إلى لهاته قيحا يتخضخض خير له من أن يمتلى شعرا وسنده حسن ووقع
في حديث أبي سعيد عند مسلم لهذا الحديث سبب ولفظه بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالعرج إذ عرض لنا شاعر ينشد فقال أمسكوا الشيطان لان يمتلئ فذكره ويريه بفتح
الياء آخر الحروف بعدها راء ثم ياء أخرى قال الأصمعي هو من الورى بوزن الرمي يقال منه رجل
مورى غير مهموز وهو ان يورى جوفه وانشد * قالت له وريا إذا تنحنحا * تدعو عليه بذلك وقال
453

أبو عبيد لورى هوان يأكل القيح جوفه وحكى ابن التين فيه الفتح بوزن القرى وهو قول الفراء
وقال ثعلب هو بالسكون المصدر وبالفتح الاسم وقيل معنى قوله حتى يريه أي يصيب رئته وتعقب
بان الرئة مهموزة فإذا بنيت منه فعلا قلت رآه يراه فهو مرئي انتهى ولا يلزم من كون أصلها
مهموزا ان لا تستعمل مسهلة ويقرب ذلك أن الرئة إذا امتلأت قيحا يحصل الهلاك واما قوله
جوف أحدكم فقال ابن أبي جمرة يحتمل ظاهره وأن يكون المراد جوفه كله وما فيه من القلب وغيره
ويحتمل ان يريد به القلب خاصة وهو الاظهر لان أهل الطب يزعمون أن القيح إذا وصل إلى القلب
شئ منه وإن كان يسيرا فان صاحبه يموت لا محالة بخلاف غير القلب مما في الجوف من الكبد
والرئة (قلت) ويقوى الاحتمال الأول رواية عوف بن مالك لان يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى
لهاته وتظهر مناسبته للثاني لان مقابله وهو الشعر محله القلب لأنه ينشأ عن الفكر وأشار ابن أبي
جمرة إلى عدم الفرق في امتلاء الجوف من الشعر بين من ينشئه أو يتعانى حفظه من شعر غيره وهو
ظاهر وقوله قيحا بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها مهملة المدة لا يخالطها دم وقوله شعرا ظاهره
العموم في كل شعر لكنه مخصوص بما لم يكن مدحا حقا كمدح الله ورسوله وما اشتمل على الذكر
والزهد وسائر المواعظ مما لا افراط فيه ويؤيده حديث عمرو بن الشريد عن أبيه عند مسلم كما
أشرت إليه قريبا قال ابن بطال ذكر بعضهم ان معنى قوله خير له من أن يمتلئ شعرا يعنى الشعر الذي
هجى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو عبيد والذي عندي في هذا الحديث غير هذا للقول
لان الذي هجى به النبي صلى الله عليه وسلم لو كان شطر بيت لكان كفرا فكأنه إذا حمل وجه
الحديث على امتلاء القلب منه انه قدر خص في القليل منه ولكن وجهه عندي ان يمتلئ قلبه من
الشعر حتى يغلب عليه فيشغله عن القرآن وعن ذكر الله فيكون الغلب عليه فاما إذا كان
القرآن والعلم الغالبين عليه فليس جوفه ممتلئا من الشعر (قلت) واخرج أبو عبيد التأويل
المذكور من رواية مجالد عن الشعبي مرسلا فذكر الحديث وقال في آخره يعنى من الشعر الذي
هجى به النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع لنا ذلك موصولا من وجهين آخرين فعند أبى يعلى من
حديث جابر في الحديث المذكور قيحا أو دما خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به وفى سنده راو
لا يعرف وأخرجه الطحاوي وابن عدي من رواية ابن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة مثل
حديث الباب قال فقالت عائشة لم يحفظ انما قال من أن يمتلئ شعرا هجيت به وابن الكلبي واهي
الحديث وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي
هريرة بل هذا آخر ضعيف يقال له باذان فلم تثبت هذه الزيادة ويؤيد تأويل أبى عبيد ما أخرجه
البغوي في معجم الصحابة والحسن بن سفيان في مسنده والطبراني في الأوسط من حديث مالك بن
عمير السلمي انه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وغيرها وكان شاعرا فقال يا رسول الله
افتني في الشعر فذكر الحديث وزاد قلت يا رسول الله امسح على رأسي قال فوضع يده على رأسي
فما قلت بيت شعر بعد وفى رواية الحسن بن سفيان بعد قوله على رأسي ثم أمرها على كبدي
وبطني وزاد البغوي في روايته فان رابك منه شئ فاشبب بامرأتك وامدح راحلتك فلو كان
المراد الامتلاء من الشعر لما اذن له في شئ منه بل دلت الزيادة الأخيرة على الاذن في المباح منه
وذكر السهيلي في غزوة ودان عن جامع بن وهب أنه روى فيه ان عائشة رضي الله عنها تأولت هذا
454

الحديث على ما هجى به النبي صلى الله عليه وسلم وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر
قال السهيلي فان قلنا بذلك فليس في الحديث ألاعيب امتلاء الجوف منه فلا يدخل في النهى
رواية اليسير على سبيل الحكاية ولا الاستشهاد به في اللغة ثم ذكر استشكال أبى عبيد وقال عائشة
اعلم منه فان الذي يروى ذلك على سبيل الحكاية لا يكفر ولا فرق بينه وبين الكلام الذي ذموا به
النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الجواب عن صنيع ابن إسحاق في ايراده بعض اشعار الكفرة في
هجو المسلمين والله أعلم واستدل بتأويل أبى عبيد على أن مفهوم الصفة ثابت باللغة لأنه فهم
منه ان غير الكثير من الشعر ليس كالكثير فخص الذم بالكثير الذي دل عليه الامتلاء دون القليل
منه فلا يدخل في الذم واما من قال إن أبا عبيد بنى هذا التأويل على اجتهاده فلا يكون ناقلا للغة
فجوابه انه انما فسر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه على ما تلقفه من لسان العرب لا على
ما يعرض في خاطره لما عرف من تحرزه في تفسير الحديث النبوي وقال النووي استدل به على كراهة
الشعر مطلقا وان قل وان سلم من الفحش وتعلق بقوله في حديث أبي سعيد (3) حذو الشيطان
وأجيب باحتمال ان يكون كافرا أو كان الشعر هو الغلب عليه أو كان شعره الذي ينشده إذ ذاك
من المذموم وبالجملة فهي واقعة عين يتطرق إليها الاحتمال ولا عموم لها فلا حجة فيها والحق ابن أبي
جمرة بامتلاء الجوف بالشعر المذموم حتى يشغله عما عداه من الواجبات والمستحبات الامتلاء
من السجع مثلا ومن كل علم مذموم كالسحر وغير ذلك من العلوم التي تقسي القلب وتشغله عن
الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقاد وتفضي به إلى التباغض والتنافس * (تنبيه) * مناسبة
هذه المبالغة في ذم الشعر ان الذين خوطبوا بذلك كانوا في غاية الاقبال عليه والاشتغال به
فزجر هم عنه ليقبلوا على القرآن وعلى ذكر الله تعالى وعباد به فمن اخذ من ذلك ما أمر به لم يضره
ما بقى عنده مما سوى ذلك والله أعلم (قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم تربت
يمينك وعقري حلقى) ذكر فيه حديثين لعائشة مقدما فيهما ما ترجم به * أحدهما حديثهما في قصة
أبى القعيس في الرضاعة وقد تقدم شرحه في كتاب النكاح في باب الأكفاء في الدين في شرح
حديث أبي هريرة تنكح المراة لأربع الحديث قال ابن السكيت أصل تربت افتقرت ولكنها
كلمة تقال ولا يراد بها الدعاء وانما أراد التحريض على الفعل المذكور وانه ان خالف أساء وقال
النحاس معناه ان لم تفعل لم يحصل في يديك الا التراب وقال ابن كيسان هو مثل حرى على أنه ان
فاتك ما أمرتك به افتقرت إليه فكأنه قال افتقرت ان فاتك فاختصر وقال الداودي معناه
افتقرت من العلم وقيل هي كلمة تستعمل في المدح عند المبالغة كما قالوا للشاعر قابله الله لقد أجاد
وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه في حديث أبي هريرة * ثانيهما حديثها في قصة صفية لما حاضت في
الحج وقد تقدم شرحه في كتاب الحج في باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت وضبطه أبو عبيد في
غريب الحديث بالقصر وبالتنوين وذكر في الأمثال انه في كلام العرب بالمد وفى كلام المحدثين
بالقصر وقال أبو علي القالي هو بالمد وبالقصر معا قالوا والمعنى عقرها الله وحلقها وفيه من
القول نحو ما تقدم في تربت (قوله باب ما جاء في زعموا) كأنه يشير إلى حديث أبي
455

قلابة قال قيل لأبي مسعود ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال بئس مطيعة
الرجل أخرجه احمد وأبو داود ورجاله ثقات الا ان فيه انقطاعا وكان البخاري أشار إلى ضعف هذا
الحديث باخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها زعم ابن أمي فان أم هانئ أطلقت ذلك في حق على
ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم والأصل في زعم أنها تقال في الامر الذي لا يوقف على
حقيقته وقال ابن بطال معنى حديث أبي مسعود ان من أكثر من الحديث بما لا يتحقق صحته
لم يؤمن عليه الكذب وقال غيره كثر استعمال الزعم بمعنى القول وقد وقع في حديث ضمام بن
ثعلبة الماضي في كتاب العلم زعم رسولك وقد أكثر سيبويه في كتابه من قوله في أشياء يرتضيها زعم
الخليل (قوله باب ما جاء في قول الرجل ويلك) تقدم شرح هذه الكلمة في كتاب الحج
عند شرح أول أحاديث الباب وقد قيل إن أصل ويل وي وهي كلمة تأوه فلما كثر قولهم وي لفلان
وصلوها باللام وقدروها أنها منها فأعربوها وعن الأصمعي ويل للتقبيح على المخاطب فعله وقال
الراغب ويل قبوح وقد تستعمل بمعنى التحسر وويح ترحم وويس استصغار وأما ما ورد ويل واد
في جهنم فلم يرد أنه معناه في اللغة وإنما أراد من قال الله ذلك فيه فقد استحق مقرا من النار وفي كتاب
من حدث ونسي عن معتمر بن سليمان قال قال لي أبي أنت حدثتني عني عن الحسن قال ويح كلمة
رحمة وأكثر أهل اللغة على أن ويل كلمة عذاب وويح كلمة رحمة وعن اليزيدي هما بمعنى واحد
تقول ويح لزيد وويل لزيد ولك أن تنصبهما بإضمار فعل كأنك قلت ألزمه الله ويلا أو ويحا (قلت)
وتصرف البخاري يقتضي أنه على مذهب اليزيدي في ذلك فإنه ذكر في بعض الأحاديث في الباب
ما ورد بلفظ ويل فقط وما ما ورد بلفظ ويح فقط وما وقع التردد فيهما ولعله رمز إلى تضعيف
الحديث الوارد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في قصة لا تجزعي من الويح فإنه
كلمة رحمة ولكن اجزعي من الويل أخرجه الخرائطي في مساوئ الأخلاق بسند واه وهو آخر
حديث فيه وقال الداودي ويل وويح وويس كلمات تقولها العرب عند الذم قال وويح مأخوذ
من الحزن وويس من الآسي وهو الحزن وتعقبه ابن التين بأن أهل اللغة إنما قالوا ويل كلمة تقال
عند الحزن وأما قول ابن عرفة الويل الحزن فكأنه أخذه من أن الدعاء بالويل إنما يكون عند
الحزن والأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله هنا فيها ما اختلف الرواة في لفظه هل هي ويل
أو ويح وفيها ما تردد الراوي فقال ويل أو ويح وفيها ما جزم فيه بأحدهما ومجموعها يدل على أن
كلا منهما كلمة توجع يعرف هل المراد الذم أو غيره من السياق فإن في بعضها الجزم بويل وليس
حمله على العذاب بظاهر والحاصل أن الأصل في كل منهما ما ذكر وقد تستعمل إحداهما موضع
الأخرى وقوله ويس مأخوذ من الأسى متعقب لاختلاف تصريف الكلمتين وذكر المصنف
في الباب تسعة أحاديث تقدمت كلها * الحديث الأول والثاني لأبي هريرة وأنس في قوله صلى الله
عليه وسلم لسائق البدنة اركبها ويلك هذا لفظ أنس زاد في رواية أبي هريرة في الثانية أو في الثالثة
وقد تقدم شرحه في باب ركوب البدن من كتاب الحج وما وقع في حديث أنس من اختلاف
ألفاظه في قوله ثلاثا أو في الثالثة أو الرابعة وهل قال له ويلك أو ويحك * الحديث الثالث
حديث أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه قريبا قبل أربعة أبواب * الحديث الرابع حديث
أبي بكرة أثنى رجل وفيه ويلك قطعت عنق أخيك وقد تقدم شرحه في باب ما يكره من التمادح
456

* الحديث الخامس حديث أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة وقوله يا رسول الله أعدل قال ويلك
من يعدل إذا لم أعدل وقد تقدم بعض شرحه في علامات النبوة وفي أواخر المغازي ويأتي تمامه
في استتابة المرتدين وقوله هنا على حين فرقة بالحاء المهملة المكسورة والنون ووقع في رواية
الكشميهني خير فرقة بخاء معجمة وراء والضحاك المذكور في السند هو ابن شرحبيل المشرفي
بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الراء منسوب إلى بطن من همدان * الحديث السادس حديث
أبي هريرة في الذي وقع على امرأته في رمضان وقد تقدم شرحه في كتاب الصيام وأورده هنا لقوله
في بعض طرقه فقال ويلك كما سأبينه وقوله عبد الله هو ابن المبارك وقوله أخبرنا الأوزاعي قال
حدثني الزهري فيه رد على من أعل هذه الطريق بأن الأوزاعي لم يسمعه من الزهري لرواية عقبة
ابن علقمة له عن الأوزاعي قال بلغني عن الزهري هكذا رويناه في الجزء الثاني من حديث أبي
العباس الأصم وعقبة لا بأس به فيحتمل أن يكون الأوزاعي لقي الزهري فحدثه به بعد أن كان بلغه
عنه فحدث به على الوجهين وقوله ما بين طنبي المدينة بضم الطاء والمهملة وسكون النون بعدها
موحدة تثنية طنب أي ناحيتي المدينة قال ابن التين ضبط في رواية الشيخ أبي الحسن بفتحتين
وفي رواية أبي ذر بضمتين والأصل ضم النون وتسكن تخفيفا وأصل الطنب الحبل للخيمة فاستعير
للطرف من الناحية وقوله أحوج مني وقع في رواية الكشميهني أفقر وقوله في آخره وقال خذه في
رواية الكشميهني ثم قال أطعمه أهلك (قوله تابعه يونس) يعني ابن يزيد (عن الزهري) يعني
بسنده في قوله فقال ويحك قال وقعت على أهلي وهذه المتابعة وصلها البيهقي من طريق عنبسة
ابن خالد عن يونس بن يزيد عن الزهري بتمامه وقال في روايته فقال ويحك وما ذاك (قوله وقال
عبد الرحمن بن خالد علن الزهري ويلك) يعني بدل قوله ويحك وهذا التعليق وصله الطحاوي من
طريق الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب الزهري بسنده المذكور فيه فقال
مالك ويلك قال وقعت على أهلي * الحديث السابع حديث أبي سعيد في رواية الوليد هو ابن
مسلم (قوله أخبرني عن الهجرة قال ويحك إن الهجرة شأنها شديد) الحديث وقد تقدم في باب
الهجرة إلى المدينة وان الهجرة كانت واجبة على أهل مكة على الأعيان قبل فتح مكة فكان
النبي صلى الله عليه وسلم يحذرهم شدة الهجرة ومفارقة الأهل والوطن وقد تقدم شرح حديثه
صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح وقوله من وراء البحار بموحدة ثم مهملة للأكثر أي من وراء
القرى والفرية يقال لها البحرة لاتساعها ووقع في رواية الكشميهني بمثناة ثم جيم وهو تصحيف
وقوله لن يترك بفتح أوله وسكون ثانيه من الترك والكاف أصلية وبفتح أوله وكسر ثانيه
457

ونصب الراء وفتح الكاف أي لن ينقصك * الحديث الثامن حديث ابن عمر (قوله قال ويلكم
أو ويحكم قال شعبة شك هو) يعني شيخه واقد بن محمد (قوله وقال النضر) هو ابن شميل
(عن شعبة) يعني بهذا السند (ويحكم) يعني لم يشك (قوله وقال عمر بن محمد) هو أخو واقد
المذكور (قوله عن أبيه) هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن جده ابن عمر (ويلكم أو ويحكم)
يعني مثل ما قال أخوه واقد فدل على أن الشك فيه من محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أو ممن فوقه
وقد تقدمت طريق عمر هذه موصولة في أواخر المغازي من طريق ابن وهب عنه وتقدم حديث
عمر هذا من وجه آخر عن ابن عمر مطولا في باب قوله يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ويأتي
شرحه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى * الحديث التاسع (قوله همام عن قتادة عن أنس) صرح
شعبة في روايته عن قتادة بسماعه له من أنس ويأتي بيانه عقب هذا (قوله إن رجلا من أهل
البادية) في رواية الزهري عن أنس عند مسلم أن رجلا من الاعراب وفي رواية إسحق بن أبي
طلحة عن أنس عنده نحوه وفي رواية سالم بن أبي الجعد الآتية في كتاب الأحكام عن أنس بينما أنا
والنبي صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد وقد بينت في مناقب
عمر أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد وأن حديثه بذلك مخرج عند الدارقطني وأن
من زعم أنه أبو موسى أو أبو ذر فقد وهم فإنهما وان اشتركا في معنى الجواب وهو أن المرء مع
من أحب فقد اختلف سؤالهما فإن كلا من أبي موسى وأبي ذر إنما سأل عن الرجل يحب
القوم ولم يلحق بهم وهذا سأل متى الساعة (قوله متى الساعة قائمة) يجوز فيه الرفع والنصب
وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم متى تقوم الساعة وكذا في أكثر الروايات
(قوله ويلك وما أعددت لها قال ما أعددت لها) زاد معمر عن الزهري عن أنس عند مسلم من
كثير عمل أحمد عليه نفسي وفي رواية سفيان عن الزهري عند مسلم فلم يذكر كثيرا وفي رواية
سالم بن أبي الجعد المذكورة فكأن الرجل استكان ثم قال ما أعددت من كبير صلاة ولا صوم
ولا صدقة (قوله إلا أني أحب الله ورسوله) قال الكرماني هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا
وأن يكون منقطعا (قوله إنك مع من أحببت) أي ملحق بهم حتى تكون من زمرتهم وبهذا يندفع
إيراد أن منازلهم متفاوتة فكيف تصح المعية فيقال أن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شئ ما
ولا تلزم في جميع الأشياء فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وان تفاوتت الدرجات
ويأتي بقية شرحه في الباب الذي بعده (قوله فقلنا ونحن كذلك قال نعم) هذا يؤيد ما بينت به
المعية لان درجات الصحابة متفاوتة (قوله ففرحنا يومئذ فرحا شديدا) في رواية أخرى عن أنس
فلم أر المسلمين فرحوا فرحا أشد منه (قوله فمر غلام للمغيرة) في رواية مسلم للمغيرة بن شعبة
أخرجه من رواية عفان عن همام قال مر غلام ولم يذكر ما قبله من هذه الطريق (قوله وكان
من أقراني) أي مثلي في السن قال ابن التين القرن المثل في السن وهو بفتح القاف وبكسرها
المثل في الشجاعة قال وفعل بفتح أوله وسكون ثانيه إذا كان صحيحا لا يجمع على أفعال إلا ألفاظ
لم يعدوا هذا فيها ووقع في رواية معبد بن هلال عند مسلم عن أنس وذلك الغلام من أترابي يومئذ
والاتراب جمع ترب بكسر المثناة وسكون الراء بعدها موحدة وهم المتماثلون شبهوا بالترائب
التي هي ضلوع للصدر ووقع في رواية الحسن عن أنس في آخره وأنا يومئذ بعد غلام قال ابن
458

بشكوال اسم هذا الغلام محمد واحتج بما أخرجه مسلم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن
رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى تقوم الساعة وغلام من الأنصار يقال له محمد الحديث
قال وقيل اسمه سعد ثم أخرج من طريق الحسن عن أنس أن رجلا سأل عن الساعة فذكر
حديثا قال فنظر إلى غلام من دوس يقال له سعد وهذا أخرجه البارودي في الصحابة وسنده حسن
وأخرجه أيضا من طريق أبي قلابة عن أنس نحوه وأخرجه ابن منده من طريق قيس بن وهب عن
أنس وقال فيه مر سعد الدوسي قال ورواه قرة بن خالد عن الحسن فقال فيه فقال لشاب من دوس
يقال له ابن سعد (قلت) وقد وقع عند مسلم في رواية معبد بن هلال عن أنس ثم نظر إلى غلام من
أزد شنوءة فيحتمل التعدد أو كان اسم الغلام سعدا ويدعى محمدا أو بالعكس ودوس من أزد شنوءة
فيحتمل أن يكون حالف الأنصار (قوله فقال إن أخر هذا فلم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة)
في رواية الكشميهني فلن وكذا لمسلم وهي أولى وفي رواية حماد بن سلمة أن يعش هذا الغلام فعسى
أن لا يدركه الهرم وفي رواية معبد بن هلال لان عمر هذا لم يدركه الهرم كذا في الطرق كلها بإسناد
الادراك للهرم ولو أسند للغلام لكان سائغا ولكن أشير بالأول إلى أن الاجل كالقاصد للشخص
(قوله حتى تقوم الساعة) وقع في رواية الباوردي التي أشرت إليها بدل قوله حتى تقوم الساعة
لا يبقى منكم عين تطرف وبهذا يتضح المراد وله في أخرى ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة
وهذا نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم بيانه في العلم أنه قال لأصحابه في آخر عمره
أرأيتكم ليلتكم هذه فان على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها
أحد وكان جماعة من أهل ذلك العصر يظنون أن المراد ان الدنيا تنقضي بعد مائة سنة فلذلك
قال الصحابي فوهل الناس فيما يتحدثون من مائة سنة وانما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك انخرام
قرنه أشار إلى ذلك عياض مختصرا (قلت) ووقع في الخارج كذلك فلم يبق ممن كان موجودا
عند مقالته تلك عند استكمال مائة سنة من سنة موته أحد وكان آخر من رأى النبي صلى الله عليه
وسلم موتا أبو الطفيل عامر بن وائلة كما ثبت في صحيح مسلم وقال الإسماعيلي بعد أن قرر أن المراد
بالساعة ساعة الذين كانوا حاضرين عند النبي صلى الله عليه وسلم وأن المراد موتهم وأنه أطلق
على يوم موتهم اسم الساعة لافضائه بهم إلى أمور الآخرة ويؤيد ذلك أن الله استأثر بعلم وقت
قيام الساعة العظمى كما دلت عليه الآيات والأحاديث الكثيرة قال ويحتمل أن يكون المراد بقوله
حتى تقوم الساعة المبالغة في تقريب قيام الساعة لا التحديد كما قال في الحديث الآخر بعثت انا
والساعة كهاتين ولم يرد أنها تقوم عند بلوغ المذكور الهرم قال وهذا عمل شائع للعرب يستعمل
للمبالغة عند تفخيم الامر وعند تحقيره وعند تقريب الشئ وعند تبعيده فيكون حاصل المعنى أن
الساعة تقوم قريبا جدا وبهذا الاحتمال الثاني جزم بعض شراح المصابيح واستبعده بعض شراح
المشارق وقال الداودي المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك للذين خاطبهم بقوله تأتيكم
ساعتكم يعني بذلك موتهم لانهم كانوا أعرابا فخشي أن يقول لهم لا أدري متى الساعة فيرتابوا
فكلمهم بالمعاريض وكأنه أشار إلى حديث عائشة الذي أخرجه مسلم كان الاعراب إذا قدموا
على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم سنا
فيقول أن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم قال عياض وتبعه القرطبي هذه
459

رواية واضحة تفسر كل ما ورد من الألفاظ المشكلة في غيرها وأما قول النووي يحتمل أنه صلى الله
عليه وسلم أراد أن الغلام المذكور لا يؤخر ولا يعمر ولا يهرم أي فيكون الشرط لم يقع فكذلك
لم يقع الجزاء فهو تأويل بعيد ويلزم منه استمرار الاشكال لأنه ان حمل الساعة على انقراض
الدنيا وحلول أمر الآخرة كان مقتضي الخبر أن القدر الذي كان بين زمانه صلى الله عليه وسلم وبين
ذلك بمقدار ما لو عمر ذلك الغلام إلى أن يبلغ الهرم والشاهد خلاف ذلك وأن حمل الساعة على
زمن مخصوص رجع إلى التأويل المتقدم وله أن ينفصل عن ذلك بأن سن الهرم لا حد لقدره
وقال الكرماني يحتمل أن يكون الجزاء محذوفا كذا قال (قوله واختصره شعبة عن قتادة سمعت
أنسا) وصله مسلم من رواية محمد بن جعفر عن شعبة ولم يسق ألفاظه بل أحاله به على رواية سالم بن
أبي الجعد عن أنس وساقها أحمد في مسنده عن محمد بن جعفر ولفظه جاء أعرابي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال متى الساعة قال ما أعددت لها قال حب الله ورسوله قال أنت مع من أحببت
وهو موافق لرواية همام فكأن مراد البخاري بالاختصار ما زاده همام في آخر الحديث من قوله
فقلنا ونحن كذلك قال نعم ففرحنا يومئذ فرحا شديدا فمر غلام الخ (قوله باب
علامة الحب في الله لقوله تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ذكر فيه حديث المرء
مع من أحب قال الكرماني يحتمل أن يكون المراد بالترجمة محبة الله للعبد أو محبة العبد لله أو المحبة
بين العباد في ذات الله بحيث لا يشوبها شئ من الرياء والآية مساعدة للأولين واتباع الرسول
علامة للأولى لأنها مسببة للاتباع وللثانية لأنها سببه انتهى ولم يتعرض لمطابقة الحديث للترجمة
وقد توقف فيه غيره واحد والمشكل منه جعل ذلك علامة الحب في الله وكأنه محمول على الاحتمال
الثاني الذي أبداه الكرماني وأن المراد علامة حب العبد لله فدلت الآية أنها لا تحصل إلا باتباع
الرسول ودل الخبر على أن أتباع الرسول وإن كان الأصل أنه لا يحصل إلا بامتثال جميع ما أمر به
أنه قد يحصل من طرق التفضل باعتقاد ذلك وان لم يحصل استيفاء العمل بمقتضاه بل محبة من
يعمل ذلك كافية في حصول أصل النجاة والكون مع العاملين بذلك لان محبتهم إنما هي لأجل
طاعتهم والمحبة من أعمال القلوب فأثاب الله محبهم على معتقده إذ النية هي الأصل والعمل تابع
لها وليس من لازم المعية الاستواء في الدرجات وقد اختلف في سبب نزول الآية فأخرج ابن أبي
حاتم عن الحسن البصري قال كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله فأراد الله أن يجعل لقولهم
تصديقا من عمل فأنزل الله هذه الآية وذكر الكلبي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت حين قال
اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه وفي تفسير محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير نزلت في نصارى
نجران قالوا إنما نعبد المسيح حبا لله وتعظيما له وفي تفسير الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت
في قريش قالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إليه زلفى فنزلت (قوله شعبة عن سليمان
هو الأعمش وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش (قوله عن أبي وائل) في رواية
الطيالسي عن شعبة عن الأعمش سمع أبا وائل وكذا في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عن
الأعمش سمعت أبا وائل (قوله عن عبد الله) هكذا رواه أصحاب شعبة فقالوا عن عبد الله ولم
ينسبوه منهم ابن أبي عدي عند مسلم وأبو داود الطيالسي عند أبي عوانة وعمرو بن مرزوق عند أبي
نعيم وأبو عامر العقدي ووهب بن جرير عند الإسماعيلي وحكى الإسماعيلي عن بندار أنه
460

عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري واستدل برواية سفيان الثوري عن الأعمش الآتية عقب
هذا وسيأتي ما يؤيده ولكن صنيع البخاري يقتضي أنه كان عند أبي وائل عن ابن مسعود وعن
أبي موسى جميعا وأن الطريقين صحيحان لأنه بين الاختلاف في ذلك ولم يرجع ولذا ذكر أبو عوانة
في صحيحه عن عثمان بن أبي شيبة أن الطريقين صحيحان (قلت) ويؤيد ذلك أن له عند ابن
مسعود أصلا فقد أخرج أبو نعيم في كتاب المحبين من طريق عطية عن أبي سعيد قال أتيت أنا
وأخي عبد الله بن مسعود فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وأخرجه أيضا من
طريق مسروق عن عبد الله به (قوله جرير عن الأعمش عن أبي وائل قال قال عبد الله بن
مسعود ثم قال في آخره تابعه جرير بن حازم) فيه إشارة إلى أن جريرا الأول هو ابن عبد الحميد
وأما متابعة جرير بن حازم فوصلها أبو نعيم في كتاب المحبين من طريق أبي الأزهر أحمد بن الأزهر
عن وهب بن جرير بن حازم حدثنا أبي سمعت الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله فذكره ولم ينسب
عبد الله (قوله وسليمان بن قرم) هو بفتح القاف وسكون الراء ومتابعته هذه وصلها مسلم من
طريق أبي الجواب عمار بن رزيق بتقديم الراء عنه عن عبد الله وعطفها على رواية شعبة فقال مثله
وساق أبو عوانة في صحيحه لفظها ولم ينسب عبد الله أيضا وساقها الخطيب في كتاب المكمل مطولة
(قوله وأبو عوانة عن الأعمش) يعني أن الثلاثة رووه عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله
وأبو عوانة هذا هو الوضاح وأما أبو عوانة صاحب الصحيح فاسمه يعقوب ومتابعة أبي عوانة
الوضاح وصلها أبو عوانة يعقوب والخطيب في كتاب المكمل من طريق يحيى بن حماد عنه وقال
فيه أيضا عن عبد الله ولم ينسبه (قوله حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان) هو الثوري (قوله عن
أبي موسى) هكذا صرح به أبو نعيم وأخرجه أبو عوانة من رواية قبيصة عن سفيان الثوري فقال
عن عبد الله ولم ينسبه وهذا يؤيد قول بندار أن عبد الله حيث لم ينسب فالمراد به في هذا الحديث
أبو موسى وأن من نسبه ظن أنه ابن مسعود لكثرة مجئ ذلك على هذه الصورة في رواية أبي وائل
ولكنه هنا خرج عن القاعدة وتبين برواية من صرح بأنه أبو موسى الأشعري أن المراد بعبد الله
عبد الله بن قيس وهو أبو موسى الأشعري ولم أر من صرح في روايته عن الأعمش أنه عبد الله بن
مسعود إلا ما وقع في رواية جرير بن عبد الحميد هذه عند البخاري عن قتيبة عنه وقد أخرجه مسلم
عن إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة كلاهما عن جرير فقال عن عبد الله حسب وكذا قال
أبو يعلى عن أبي خيثمة وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية جعفر بن العباس وأبو عوانة من رواية
إسحق بن إسماعيل كلهم عن جرير به وكل من ذكر البخاري أنه تابعه إنما جاء من روايته أيضا عن
عبد الله غير منسوب وكذا أخرجه أبو عوانة من رواية شيبان عن الأعمش فقال عبد الله ولم ينسبه
(قوله تابعه أبو معاوية ومحمد بن عبيد) يعني عن الأعمش وهذه المتابعة وصلها مسلم عن محمد بن
عبد الله بن نمير عنهما وقال في روايته عن أبي موسى وهكذا أخرجه أبو عوانة من طريق محمد بن
كناسة عن الأعمش ووجدت للأعمش فيه إسنادا آخر أخرجه الحسن بن رشيق في شيوخ مكة له
عن جعفر بن محمد السوسي عن سهل بن عثمان عن حفص بن غياث عن الأعمش عن الشعبي عن
عروة بن مضرس به وقال غريب تفرد به سهل (قلت) ورجاله ثقات إلا أني لا أعرف جعفر بن
محمد ولعله دخل عليه متن حديث في إسناد حديث (قوله جاء رجل) في حديث أبي موسى قيل
461

للنبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية أبي معاوية ومحمد بن عبيد أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل
وأولى ما فسر به هذا المبهم أنه أبو موسى راوي الحديث فعند أبي عوانة من رواية محمد بن كناسة
عن الأعمش في هذا الحديث عن شقيق عن أبي موسى قلت يا رسول الله فذكر الحديث ولكن يعكر
عليه ما وقع في رواية وهب بن جرير التي تقدم ذكرها من عند أبي نعيم فإن لفظه عن عبد الله قال
جاء أعرابي فقال يا رسول الله اني أحب قوما ولا ألحق بهم الحديث وأبو موسى إن جاز أن يبهم
نفسه فيقول أتى رجل فغير جائز أن يصف نفسه بأنه أعرابي وقد وقع في حديث صفوان بن عسال
الذي أخرجه الترمذي والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال
قلت لصفوان بن عسال هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوا شيئا قال نعم كنا مع
رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسير فناداه أعرابي بصوت له جهوري فقال أيا محمد فأجابه النبي
صلى الله عليه وسلم على قدر ذلك فقال هاؤم قال أرأيت المرء يحب القوم الحديث وأخرج أبو
نعيم في كتاب المحبين من طريق مسروق عن عبد الله وهو ابن مسعود قال أتى أعرابي فقال يا رسول
الله والذي بعثك بالحق اني لأحبك فذكر الحديث فهذا الأعرابي يحتمل أن يكون هو صفوان بن
قدامة فقد أخرج الطبراني وصححه أبو عوانة من حديثه قال قلت يا رسول الله إني أحبك قال
المرء مع من أحب وقد وقع هذا السؤال لغير من ذكر فعند أبي عوانة أيضا واحمد وأبى داود وابن
حبان من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله الرجل يحب القوم الحديث
ورجاله ثقات فإن كان مضبوطا أمكن ان يفسر به المبهم في حديث أبي موسى لكن المحفوظ بهذا
الاسناد عن أبي ذر الرجل يعمل العمل من الخير ويحمد الناس عليه كذا أخرجه مسلم وغيره فلعل
بعض رواته دخل عليه حديث في حديث (قوله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم) في
رواية سفيان الآتية ولما يلحق بهم وهى أبلغ فان النفي بلما أبلغ من النفي بلم فيؤخذ منه ان الحكم
ثابت ولو بعد اللحاق ووقع في حديث انس عند مسلم ولم يلحق بعملهم وفى حديث أبي ذر المشار إليه
قبل ولا يستطيع أن يعمل بعملهم وفي بعض طرق حديث صفوان بن عسال عند أبي نعيم ولم
يعمل بمثل عملهم وهو يفسر المراد (قوله المرء مع من أحب) قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث
في جزء سماه كتاب المحبين مع المحبوبين وبلغ عدد الصحابة فيه نحو العشرين وفي رواية أكثرهم
بهذا اللفظ وفي بعضها بلفظ أنس الآتي عقب هذا (قوله حدثنا عبدان) هو عبد الله بن
عثمان بن جبلة بن أبي رواد ويقال إن أباه تفرد برواية هذا الحديث عن شعبة وضاق مخرجه على
الإسماعيلي وأبي نعيم فأخرجاه من طريق البخاري عنه وأخرجه مسلم عن واحد عن عبدان
ووقع لي من رواية أخرى عن شعبة أخرجه أبو نعيم في المحبين من طريق السميدع بن واهب عنه
وقد رواه منصور عن سالم بن أبي الجعد كما سيأتي في كتاب الأحكام وأخرجه أبو عوانة من رواية
الأعمش عن سالم واستغربه (قوله إن رجلا) تقدم القول في تسميته في الباب الذي قبله (قوله
متى الساعة) هكذا في أكثر الروايات عن أنس ووقع في رواية جرير عن منصور في أوله بينما أنا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال يا رسول
الله متى الساعة وفي رواية أبي المليح الرقي عن الزهري عن أنس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتعرض له أعرابي أخرجه أبو نعيم وله من طريق شريك عن أبي نمر عن أنس دخل رجل والنبي
462

صلى الله عليه وسلم يخطب ومن رواية أبي ضمرة عن حميد عن أنس جاء رجل فقال متى الساعة
فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى ثم قال أين السائل عن الساعة ويجمع بينها بأن
سأله والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلم يجبه حينئذ فلما انصرف من الصلاة وخرج من المسجد
رآه فتذكر سؤاله أو عاوده الأعرابي في السؤال فأجابه حينئذ (قوله ما أعددت لها) قال الكرماني
سلك مع السائل أسلوب الحكيم وهو تلقى السائل بغير ما يطلب مما يهمه أو هو أهم (قوله
أنت مع من أحببت) زاد سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس إنك مع من أحببت ولك
ما احتسبت أخرجه أبو نعيم وله مثله من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أنس وأخرج أيضا من
طريق أشعث عن الحسن عن أنس المرء مع من أحب وله ما اكتسب ومن طريق مسروق عن
عبد الله أنت مع من أحببت وعليك ما اكتسبت وعلى الله ما احتسبت (قوله باب
قول الرجل للرجل اخسأ) سيأتي بيانه في آخر الباب قال ابن بطال اخسأ زجر للكلب وابعاد له
هذا أصل هذه الكلمة واستعملتها العرب في كل من قال أو فعل ما لا ينبغي له مما يسخط الله ذكر
فيه حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد قد خبأت لك خبأ قال فما
هو قال الدخ قال أخسأ وأخرجه من رواية عبد الله بن عمر قال انطلق عمر مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد فذكر الحديث مطولا وفيه اخسأ فلن تعدو قدرك وقد
سبق مطولا في أواخر كتاب الجنائز وقوله في هذه الرواية فرضه النبي صلى الله عليه وسلم قال
الخطابي وقع هنا بالضاد المعجمة وهو غلط والصواب بالصاد المهملة أي قبض عليه بثوبه يضم بعضه
إلى بعض وقال ابن بطال من رواه بالمعجمة فمعناه دفعه حتى وقع فتكسر يقال رض الشئ فهو
رضيض ومرضوض إذا انكسر (قوله قال أبو عبد الله خسأت الكلب بعدته خاسئين مبعدين)
ثبت هذا في رواية المستملي وحده وهو قول أبي عبيدة قال في قوله تعالى كونوا قردة خاسئين أي
قاصين مبعدين يقال خسأته عني وخسأ هو يعني يتعدى ولا يتعدى وقال في قوله تعالى
ينقلب إليك البصر خاسئا أي مبعدا وقال الراغب خسأ البصر انقبض عن مهانة وخسأت
الكلب فخسأ أي زجرته مستهينا به فانزجر وقال ابن التين في قوله في حديث الباب اخسأ معناه
اسكت صاغرا مطرودا وثبتت الهمزة في آخر اخسأ في رواية وحذفت في أخرى بلفظ اخس وهو
تخفيف (قوله باب قول الرجل مرحبا) كذا للأكثر وفي رواية المستملي باب
463

قول النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا قال الأصمعي معنى قوله مرحبا لقيت رحبا وسعة وقال
الفراء نصب على المصدر وفيه معنى الدعاء بالرحب والسعة وقيل هو مفعول به أي لقيت سعة
لا ضيقا (قوله وقالت عائشة قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة مرحبا يا بنتي) هذا طرف من
حديث تقدم موصولا في علامات النبوة من رواية مسروق عن عائشة قالت أقبلت فاطمة تمشي
الحديث وفيه القدر المعلق وقد تقدم شرحه هناك (قوله وقالت أم هانئ جئت النبي صلى الله
عليه وسلم فقال مرحبا بأم هانئ) هذا طرف من حديث تقدم موصولا في مواضع منها في أوائل
الصلاة من رواية أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ وفيه اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك
ثم ذكر حديث ابن عباس في وفد عبد قيس وفيه قوله صلى الله عليه وسلم مرحبا بالوفد وقد تقدم
شرحه في كتاب الايمان وفي كتاب الأشربة مستوفى وأخرجه هنا من طريق أبي التياح بالمثناة
الفوقانية المفتوحة وتشديد التحتانية وآخره مهملة واسمه يزيد بن حميد عن أبي جمرة بالجيم والراء
ووقع في سياق متنه ألفاظ ليست في رواية غيره منها قوله مرحبا بالوفد الذين جاؤوا ومنها قوله أربع
وأربع وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأعطوا خمس ما غنمتم ولا تشربوا الحديث والمعنى آمركم
بأربع وأنهاكم عن أربع كما في رواية غيره ومنها جعله إعطاء الخمس من جملة الأربع وفي سائر
الروايات هي زائدة على الأربع وقد أخرج ابن أبي عاصم في هذا الباب حديث بريدة أن عليا
لما خطب فاطمة قال له النبي صلى الله عليه وسلم مرحبا وأهلا وهو عند النسائي وصححه الحاكم
وأخرج فيه أيضا من حديث علي استأذن عمار بن ياسر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا
بالطيب المطيب وهو عند الترمذي وابن ماجة والمصنف في الأدب المفرد وصححه ابن حبان
والحاكم وأخرج ابن أبي عاصم وابن السني فيه أحاديث أخرى غير هذه (قوله باب ما
يدعي الناس بآبائهم) كذا للأكثر وذكره ابن بطال بلفظ هل يدعي الناس زاد في أوله هل وقد ورد
في ذلك حديث لام الدرداء سأنبه عليه في باب تحويل الاسم واستغنى المصنف عنه لما لم يكن على
شرطه بحديث الباب وهو حديث ابن عمر في الغادر يرفع له لواء لقوله فيه غدرة فلان بن فلان
فتضمن الحديث أنه ينسب إلى أبيه في الموقف الأعظم ووقع في رواية الكشميهني في الرواية
الأولى ينصب بدل يرفع قال الكرماني الرفع والنصب هنا بمعنى واحد يعني لان الغرض إظهار
ذلك وقال ابن بطال في هذا الحديث رد لقول من زعم أنهم لا يدعون يوم القيامة إلا بأمهاتهم سترا
على آبائهم (قلت) هو حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس وسنده ضعيف جدا
وأخرج ابن عدي من حديث أنس مثله وقال منكر أورده في ترجمة إسحق بن إبراهيم الطبري قال
ابن بطال والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز وفي الحديث جواز الحكم بظواهر
الأمور (قلت) وهذا يقتضي حمل الآباء على من كان ينسب إليه في الدنيا لا على ما هو في نفس
الامر وهو المعتمد وينظر كلامه من شرحه وقال ابن أبي جمرة والغدر على عمومه في الجليل والحقير
وفيه أن لصاحب كل ذنب من الذنوب التي يريد الله اظهارها علامة يعرف بها صاحبها ويؤيده
قوله تعالى يعرف المجرمون بسيماهم قال وظاهر الحديث أن لكل غدرة لواء فعلى هذا يكون
للشخص الواحد عدة ألوية بعدد غدراته قال والحكمة في نصب اللواء أن العقوبة تقع غالبا
بضد الذنب فلما كان الغدر من الأمور الخفية ناسب أن تكون عقوبته بالشهرة ونصب اللواء
464

أشهر الأشياء عند العرب (قوله باب لا يقل خبثت نفسي) بفتح الخاء المعجمة
وضم الموحدة بعدها مثلثة ثم مثناة ويقال بفتح الموحدة والضم أصوب قال الراغب الخبث
يطلق على الباطل في الاعتقاد والكذب في المقال والقبيح في الفعال (قلت) وعلى الحرام
والصفات المذمومة القولية والفعلية أورد حديث عائشة بلفظ لا يقولن أحدكم خبثت نفسي
ولكن ليقل لقست نفسي وحديث سهل بن حنيف مثله سواء قال الخطابي تبعا لأبي عبيد لقست
وخبثت بمعنى واحد وإنما كره صلى الله عليه وسلم من ذلك اسم الخبث فاختار اللفظة السالمة من
ذلك وكان من سنته تبديل الاسم القبيح بالحسن وقال غيره معنى لقست غثت بغين معجمة ثم مثلثة
وهو يرجع أيضا إلى معنى خبثت وقيل معناه ساء خلقها وقيل مالت به إلى الدعة وقال ابن بطال
هو على معنى الأدب وليس على سبيل الايجاب وقد تقدم في الصلاة في الذي يعقد الشيطان على
قافية رأسه فيصبح خبيث النفس ونطق القرآن بهذه اللفظة فقال تعالى ومثل كلمة خبيثة (قلت)
لكن لم يرد ذلك إلا في معرض الذم فلا ينافي ذلك ما دل عليه حديث الباب من كراهة وصف
الانسان نفسه بذلك وقد سبق لهذا عياض فقال الفرق أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة
شخص مذموم الحال فلم يمتنع إطلاق ذلك اللفظ عليه وقال ابن أبي جمرة النهي عن ذلك للندب
والامر بقوله لقست للندب أيضا فإن عبر بما يؤدي معناه كفى ولكن ترك الأولى قال ويؤخذ من
الحديث استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة والأسماء والعدول إلى ما لا قبح فيه والخبث واللقس
وأن كان المعنى المراد يتأدى بكل منهما لكن لفظ الخبث قبيح ويجمع أمورا زائدة على المراد بخلاف
اللقس فإنه يختص بامتلاء المعدة قال وفيه أن المرء يطلب الخير حتى بالفأل الحسن ويضيف الخير
إلى نفسه ولو بنسبة ما ويدفع الشر عن نفسه مهما أمكن ويقطع الوصلة بينه وبين أهل الشر حتى
في الألفاظ المشتركة قال ويلتحق بهذا أن الضعيف إذا سئل عن حاله لا يقول لست بطبيب بل
يقول ضعيف ولا يخرج نفسه من الطيبين فيلحقها بالخبيثين * (تنبيه) * أخرج أبو نعيم
في المستخرج حديث سهل من طريق شبيب بن سعيد عن يونس بن يزيد عن الزهري ثم قال أخرجه
البخاري عن عبدان عن ابن المبارك عن موسى وقال هو موسى بن عقبة والصحيح يونس (قلت)
لم اقف عليه في الأصول المعتمدة من رواية أبي ذر الا عن يونس وكذا في رواية النسفي (قوله تابعه
عقيل) يعنى عن الزهري بسنده المذكور والمتن وهذه المتابعة وصلها الطبراني من طريق نافع بن
يزيد عن عقيل وسقطت من رواية أبي ذر وثبتت للنسفي والباقين (قوله باب
لا تسبوا الدهر) هذا اللفظ أخرجه مسلم من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي
هريرة فذكره وبعده فان الله هو الدهر (قوله الليث عن يونس عن ابن شهاب) قال أبو علي
الجياني هكذا للجميع إلا لأبي علي بن السكن فقال فيه الليث عن عقيل عن ابن شهاب وهكذا
وقع في الزهريات للذهلي من روايته عن أبي صالح عن الليث ولكن لفظه لا يسب ابن آدم الدهر قال
أبو علي الجياني الحديث محفوظ ليونس عن ابن شهاب أخرجه مسلم من طريق ابن وهب عنه
(قلت) الحديث عند الليث عن شيخين وقد أخرجه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم من طريقه
قال حدثنا أبو صالح وابن بكير قالا حدثنا الليث حدثني يونس به (قوله قال الله يسب بنو آدم
الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار) هذه رواية يونس بن يزيد عن الزهري ورواية معمر
465

بعدها بلفظ ولا تقولوا يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر وأوله لا تسموا العنب الكرم ويأتي شرحه
في الباب الذي بعده وقد اختلف على معمر في شيخ الزهري فقال عبد الاعلى بن عبد الاعلى عن
معمر عنه عن أبي سلمة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة
ولفظه قال الله يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر الحديث أخرجه مسلم وهكذا قال سفيان بن
عيينة عن الزهري عن سعيد أخرجه أحمد عنه ولفظه يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي
الامر أقلب الليل والنهار وقد مضى في التفسير من هذا الوجه وسيأتي في التوحيد وهكذا أخرجه
مسلم وغيره من رواية سفيان بن عيينة قال ابن عبد البر الحديثان للزهري عن أبي سلمة وعن سعيد
ابن المسيب جميعا صحيحان (قلت) قد قال النسائي كلاهما محفوظ لكن حديث أبي سلمة
أشهرهما (قلت) ولعبد الرزاق فيه عن معمر إسناد آخر أخرجه مسلم أيضا من طريقه فقال
عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر ولا يقولن
أحدكم للعنب الكرم الحديث وأخرجه أحمد من رواية همام عن أبي هريرة بلفظ لا يقل ابن آدم
يا خيبة الدهر إني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما وأخرجه مالك في الموطأ عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ لا يقولن أحدكم والباقي مثل رواية عبد الاعلى عن معمر
لكن وقع في رواية يحيى بن يحيى الليثي عن مالك في آخره فإن الدهر هو الله قال ابن عبد البر خالف
جميع الرواة عن مالك وجميع رواة الحديث مطلقا فإن الجميع قالوا فإن الله هو الدهر وأخرجه
أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ لا تسبوا الدهر فإن الله قال أنا الدهر الأيام والليالي لي
أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك وسنده صحيح (قوله ولا تقولوا خيبة الدهر) كذا للأكثر
وللنسفي يا خيبة الدهر وفي غير البخاري واخيبة الدهر الخيبة بفتح الخاء المعجمة وإسكان التحتانية
بعدها موحدة الحرمان وهي بالنصب على الندبة كأنه فقد الدهر لما يصدر عنه مما يكرهه فندبه
متفجعا عليه أو متوجعا منه وقال الداودي هو دعاء على الدهر بالخيبة وهو كقولهم قحط الله
نوءها يدعون على الأرض بالقحط وهي كلمة هذا أصلها ثم صارت تقال لكل مذموم ووقع في رواية
العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم بلفظ وأدهره وأدهره ومعنى النهي عن
سب الدهر أن من اعتقد أنه الفاعل للمكروه فسبه أخطأ فإن الله هو الفاعل فإذا سببتم من أنزل
ذلك بكم رجع السب إلى الله وقد تقدم شرح الحديث في تفسير سورة الجاثية ومحصل ما قيل في
تأويله ثلاثة أوجه أحدها أن المراد بقوله أن الله هو الدهر أي المدبر للأمور ثانيها أنه على
حذف مضاف أي صاحب الدهر ثالثها التقدير مقلب الدهر ولذلك عقبه بقوله بيدي الليل
والنهار ووقع في رواية زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ بيدي الليل والنهار أجدده
وأبليه وأذهب بالملوك أخرجه أحمد وقال المحققون من نسب شيئا من الافعال إلى الدهر حقيقة
كفر ومن جرى هذا اللفظ على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر لكنه يكره له ذلك لشبهه بأهل
الكفر في الاطلاق وهو نحو التفصيل الماضي في قولهم مطرنا بكذا وقال عياض زعم بعض
من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله وهو غلط فإن الدهر مدة زمان الدنيا وعرفه بعضهم بأنه
أمد مفعولات الله في الدنيا أو فعله لما قبل الموت وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر
هذا الحديث واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم لان الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم
466

ولا شئ عندهم ولا صانع سواه وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث أنا الدهر أقلب ليله ونهاره
فكيف يقلب الشئ نفسه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة
لا يخفى أن من سب الصنعة فقد سب صانعها فمن سب نفس الليل والنهار أقدم على أمر عظيم بغير
معنى ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث وذلك هو أغلب ما يقع من الناس وهو الذي يعطيه
سياق الحديث حيث نفى عنهما التأثير فكأنه قال لا ذنب لهما في ذلك وأما الحوادث فمنها
ما يجري بوساطة العاقل المكلف فهذا يضاف شرعا ولغة إلى الذي جرى على يديه ويضاف إلى الله
تعالى لكونه بتقديره فأفعال العباد من أكسابهم ولهذا ترتبت عليها الاحكام وهي في الابتداء
خلق الله ومنها ما يجري بغير وساطة فهو منسوب إلى قدرة القادر وليس لليل والنهار فعل ولا
تأثير لا لغة ولا عقلا ولا شرعا وهو المعنى في هذا الحديث ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير
العاقل ثم أشار بأن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى وأن فيه إشارة إلى ترك سب
كل شئ مطلقا الا ما أذن الشرع فيه لان العلة واحدة والله أعلم انتهى ملخصا واستنبط منه
أيضا منع الحيلة في البيوع كالعينة لأنه نهى عن سب الدهر لما يؤل إليه من حيث المعنى
وجعله سبا لخالقه (قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الكرم قلب
المؤمن وقد قال إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة كقوله إنما الصرعة الذي يملك نفسه عند
الغضب كقوله لا ملك ألا الله فوصفه بانتهاء الملك ثم ذكر الملوك أيضا فقال إن الملوك إذا دخلوا
قرية أفسدوها) غرض البخاري أن الحصر ليس على ظاهره وإنما المعنى أن الأحق باسم الكرم
قلب المؤمن ولم يرد أن غيره لا يسمى كرما كما أن المراد بقوله إنما المفلس من ذكر ولم يرد أن من
يفلس في الدنيا لا يسمى مفلسا وبقوله إنما الصرعة كذلك وكذا قوله لا ملك إلا الله لم يرد أنه
لا يجوز أن يسمى غيره ملكا وإنما أراد الملك الحقيقي وان سمي غيره ملكا واستشهد لذلك بقوله
تعالى ان الملوك وفي القرآن من ذلك عدة أمثلة كقوله تعالى وقال الملك في صاحب يوسف وغيره
وأشار ابن بطال إلى أنه يؤخذ من ذلك ترك المبالغة والاغراق في الوصف إذا كان الموصوف
لا يستحق ذلك وحديث إنما المفلس يأتي الكلام عليه في الرقاق وحديث إنما الصرعة تقدم
قريبا وحديث لا ملك إلا الله يأتي الكلام عليه في باب أبغض الأسماء إلى الله ووقع لبعض الرواة
هنا بلفظ لا ملك إلا الله بضم الميم وسكون اللام وحذف الألف بعد قوله إلا والأول هو اللائق
للسياق (قوله ويقولون الكرم إنما الكرم قلب المؤمن) هكذا وقع في هذه الرواية من طريق
سفيان بن عيينة قال حدثنا الزهري عن سعيد ووقع في الباب الذي قبله من رواية معمر عن
الزهري عن أبي سلمة بلفظ لا تسموا العنب كرما وهي رواية ابن سيرين عن أبي هريرة عند مسلم
وعنده من طريق همام عن أبي هريرة لا يقل أحدكم للعنب الكرم إنما الكرم الرجل المسلم وله
من حديث وائل بن حجر لا تقولوا الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة قالوا وفي قوله في الباب
ويقولون عاطفة على شئ حذف هنا وكأنه الحديث الذي قبله وقد أخرجه ابن أبي عمر في مسنده
عن سفيان ومن طريقه الإسماعيلي فقال في أوله يقولون بغير واو أخرجه الحميدي في مسنده
ومن طريق أبو نعيم وذكره بالواو كما ذكره البخاري عن علي بن عبد الله وكذا أخرجه أحمد في
مسنده عن سفيان ولكن قال فيه عن أبي هريرة رفعه وقال مرة يبلغ به وقال مرة قال رسول الله
467

صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر وعمرو الناقد قالا حدثنا سفيان بهذا السند
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا كرم فإن الكرم قلب المؤمن وقوله ويقولون الكرم
هو مبتدأ وخبره محذوف أي يقولون الكرم شجر العنب وقد أخرج الطبراني والبزار من حديث
سمرة رفعه أن اسم الرجل المؤمن في الكتب الكرم من أجل ما أكرمه الله على الخليقة وإنكم
تدعون الحائط من العنب الكرم الحديث قال الخطابي ما ملخصه ان المراد بالنهي تأكيد
تحريم الخمر بمحو اسمها ولان في تبقية هذا الاسم لها تقريرا لما كانوا يتوهمونه من تكرم شاربها
فنهى عن تسميتها كرما وقال إنما الكرم قلب المؤمن لما فيه من نور الايمان وهدى الاسلام
وحكى ابن بطال عن ابن الأنباري أنهم سموا العنب كرما لان الخمر المتخذة منه تحث على السخاء
وتأمر بمكارم الأخلاق حتى قال شاعرهم * والخمر مشتقة المعنى من الكرم * وقال آخر
شققت من الصبي واشتق مني * كما اشتقت من الكرم الكروم
فلذلك نهى عن تسمية العنب بالكرم حتى لا يسموا أصل الخمر باسم مأخوذ من الكرم وجعل
المؤمن الذي يتقي شربها ويرى الكرم في تركها أحق بهذا الاسم انتهى وأما قول الأزهري سمي
العنب كرما لأنه ذلل لقاطفه وليس فيه سلاء يعقر جانيه ويحمل الأصل منه مثل ما تحمل النخلة
فأكثر وكل شئ كثر فقد كرم فهو صحيح أيضا من حيث الاشتقاق لكن المعنى الأول أنسب للنهي
وقال النووي النهي في هذا الحديث عن تسمية العنب كرما وعن تسمية شجرها أيضا للكراهية
وحكى القرطبي عن المازري أن السبب في النهي أنه لما حرمت عليهم الخمر وكانت طباعهم تحثهم
على الكرم كره صلى الله عليه وسلم أن يسمى هذا المحرم باسم تهيج طباعهم إليه عند ذكره فيكون
ذلك كالمحرك لهم وتعقبه بأن محل النهي إنما هو تسمية العنب كرما وليست العنبة محرمة والخمر
لا تسمى عنبة بل العنب قد يسمى خمرا باسم ما يؤل إليه (قلت) والذي قاله المازري موجه لأنه
يحمل على إرادة حسم المادة بترك تسمية أصل الخمر بهذا الاسم الحسن ولذلك ورد النهي تارة عن
العنب وتارة عن شجرة العنب فيكون التنفير بطريق الفحوى لأنه إذا نهى عن تسمية ما هو
حلال في الحال بالاسم الحسن لما يحصل منه بالقوة مما ينهي عنه فلان ينهى عن تسمية ما ينهى
عنه بالاسم الحسن أحرى وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما ملخصه لما كان اشتقاق الكرم من
الكرم والأرض الكريمة هي أحسن الأرض فلا يليق أن يعبر بهذه الصفة إلا عن قلب المؤمن
الذي هو خير الأشياء لان المؤمن خير الحيوان وخير ما فيه قلبه لأنه إذا صلح صلح الجسد كله وهو
أرض لنبات شجرة الايمان قال ويؤخذ منه ان كل خير باللفظ أو المعنى أو بهما أو مشتقا منه
أو مسمى به انما يضاف بالحقيقة الشرعية لان الايمان وأهله وان أضيف إلى ما عدا ذلك فهو
بطريق المجاز وفى تشبيه الكرم بقلب المؤمن معنى لطيف لان أوصاف الشيطان تجرى مع
الكرمة كما يجرى الشيطان في بني آدم مجرى الدم فإذا غفل المؤمن عن شيطانه أوقعه في المخالفة
كما أن من غفل عن عصير كرمه تخمر فتنجس ويقوى التشبه أيضا ان الخمر يعود خلا من ساعته
بنفسه أو بالتخليل فيعود طاهرا وكذا المؤمن يعود من ساعته بالتوبة النصوح طاهرا من خبث
الذنوب المتقدمة التي كان متنجسا باتصافه بها إما بباعث من غيره من موعظة ونحوها وهو
كالتخليل أو بباعث من نفسه وهو كالتخلل فينبغي للعاقل أن يتعرض لمعالجة قلبه لئلا يهلك وهو
468

على الصفة المذمومة * (تنبيه) * الحبلة المذكورة في حديث وائل عند مسلم بفتح المهملة وحكى
ضمها وسكون الموحدة وبفتحها أيضا وهو أشهر هي شجرة العنب وقيل أصل الشجرة وقيل
القضيب منها وقال في المحكم الحبل بفتحتين شجر العنب الواحدة حبلة وبالضم ثم السكون الكرم
وقيل الأصل من أصوله وهو أيضا اسم ثمر السمر والعضاه (قوله باب قول الرجل فداك
أبي وأمي) تقدم ضبط فداك ومعناه في باب ما يجوز من الرجز والشعر قريبا (قوله فيه الزبير عن
النبي صلى الله عليه وسلم) يشير إلى ما وصله في مناقب الزبير بن العوام من طريق عبد الله بن الزبير
قال جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة يوم الأحزاب في النساء الحديث وفيه قول الزبير فلما رجعت جمع
لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه فقال فداك أبي وأمي (قوله يحيى) هو ابن سعيد القطان
وسفيان هو الثوري (قوله يفدى) بفتح أوله وسكون الفاء للكشميهني ولغيره بضم أوله والفاء
المفتوحة والتشديد وقد تقدم في مناقب سعد بن أبي وقاص بيان الجمع بين حديث الزبير المذكور
في الباب في إثبات التفدية له وبين حديث على هذا في نفي ذلك عن غير سعد وكأن البخاري رمز
بذلك إلى هذا الجمع وغفل من خص حديث الزبير بتخريج مسلم مع إخراج البخاري له ورمزه
إليه في هذا الباب وقوله في آخر هذا الحديث أظنه يوم أحد تقدم الجزم بذلك في رواية إبراهيم بن
سعد بن إبراهيم عن أبيه في غزوة أحد من كتاب المغازي ولفظه فإني سمعته يقول إرم سعد فداك
أبي وأمي وتقدم هناك سبب هذا القول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (قوله باب
قول الرجل جعلني الله فداك) أي هل يباح أو يكره وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز
أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه آداب الحكماء وجزم بجواز ذلك فقال للمرء أن يقول ذلك
لسلطانه ولكبيره ولذوي العلم ولمن أحب من إخوانه غير محظور عليه ذلك بل يثاب عليه إذا قصد
توقيره واستعطافه ولو كان ذلك محظورا لنهى النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك ولأعلمه أن ذلك
غير جائز أن يقال لاحد غيره (قوله وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فديناك بآبائنا
وأمهاتنا) هو طرف من حديث لأبي سعيد رفعه أن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار
ما عنده فقال أبو بكر فديناك بآبائنا وأمهاتنا الحديث وقد تقدم موصولا في مناقب أبي بكر
مع شرحه ثم ذكر حديث أنس في إرداف صفية وقد تقدم شرحه في أواخر كتاب اللباس والمراد
منه قول أبي طلحة يا نبي الله جعلني الله فداك هل أصابك شئ وقد ترجم أبو داود نحو هذه الترجمة
وساق حديث أبي ذر قلت للنبي صلى الله عليه وسلم لبيك وسعديك جعلني الله فداك
الحديث وكذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد في الترجمة قال الطبراني في هذه الأحاديث دليل
على جواز قول ذلك وأما ما رواه مبارك بن فضالة عن الحسن قال دخل الزبير على النبي صلى الله
عليه وسلم وهو شاك فقال كيف تجدك جعلني الله فداك قال ما تركت أعرابيتك بعد ثم ساقه
من هذا الوجه ومن وجه آخر ثم قال لا حجة في ذلك على المنع لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة
وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح المنع بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأولى في القول
للمريض إما بالتأنيس والملاطفة وإما بالدعاء والتوجع فإن قيل إنما ساغ ذلك لان الذي دعا
بذلك كان أبواه مشركين فالجواب أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم وكذا أبو ذر وقول أبي بكر
كان بعد أن أسلم أبواه انتهى ملخصا ويمكن أن يعترض بأنه لا يلزم من تسويغ قول ذلك للنبي
469

صلى الله عليه وسلم أن يسوغ لغيره لان نفسه أعز من أنفس القائلين وآبائهم ولو كانوا أسلموا
فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية وأخرج
ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة فداك أبوك ومن
حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه فداكم أبي وأمي ومن حديث أنس
أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار (قوله باب أحب الأسماء إلى الله
عز وجل) ورد بهذا اللفظ حديث أخرجه مسلم من طريق نافع عن ابن عمر رفعه ان أحب
أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وله شاهد من حديث أبي وهب الجشمي وسيأتي التنبيه
عليه بعد باب وآخر عن مجاهد عند ابن أبي شيبة مثله قال القرطبي يلتحق بهذين الاسمين ما كان
مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد وإنما كانت أحب إلى الله لأنها تضمنت ما هو
وصف واجب لله وما هو وصف للانسان وواجب له وهو العبودية ثم أضيف العبد إلى الرب
إضافة حقيقية فصدقت أفراد هذه الأسماء وشرفت بهذا التركيب فحصلت لها هذه الفضيلة
وقال غيره الحكمة في الاقتصار على الاسمين أنه لم يقع في القرآن إضافة عبد إلى اسم من أسماء الله
تعالى غيرهما قال الله تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقال في آية أخرى وعباد الرحمن ويؤيده
قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وقد أخرج الطبراني من حديث أبي زهير الثقفي رفعه إذا
سميتم فعبدوا ومن حديث ابن مسعود رفعه أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به وفي إسناد كل منهما
ضعف (قوله عن جابر ولد لرجل منا غلام) اسم الرجل المذكور لم أقف عليه (قوله فسماه
القاسم) مقتضى رواية مسلم عن رفاعة بن الهيثم عن خالد الواسطي بالسند المذكور هنا فسماه
محمدا إلا أنه أورده عقب رواية عبثر وهو بوزن جعفر بعين مهملة ثم موحدة ساكنة ثم مثلثة عن
حصين بالسند المذكور فسماه محمدا فذكر الحديث وفي آخره سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي
فإنما بعثت قاسما أقسم بينكم ثم ساق رواية خالد وقال بهذا الاسناد ولم يذكر فإنما بعثت قاسما
أقسم بينكم وكأن الاختلاف فيه على خالد فإن الإسماعيلي أخرجه من رواية وهيب بن بقية
عن خالد فقال فسماه القاسم وأخرجه أحمد عن هشيم عن حصين فقال سماه القاسم وأخرجه
أيضا من رواية معمر عن منصور كذلك وأخرجه أبو نعيم من رواية يوسف القاضي عن مسدد
عن خالد فقال سماه باسم النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا قاله أبو عوانة عن حصين أخرجه أبو
نعيم في المستخرج على مسلم وهذا يقتضي ترجيح رواية رفاعة بن الهيثم وأخرجه أحمد عن زياد
البكائي عن منصور كما قال رفاعة وقد وقع الاختلاف فيه على شعبة أيضا في باب قوله تعالى فإن
لله خمسه وللرسول يعني قسم ذلك من كتاب فرض الخمس فأخرجه البخاري هناك عن أبي الوليد
عن شعبة عن سليمان وهو الأعمش ومنصور وقتادة قالوا سمعنا سالما أي ابن أبي الجعد عن جابر
قال ولد لرجل منا غلام فأراد أن يسميه محمدا قال وقال عمرو يعني ابن مرزوق عن شعبة عن قتادة
بسنده أراد أن يسميه القاسم وأورده من رواية سفيان الثوري عن الأعمش فقال أراد أن يسميه
القاسم وأخرجه مسلم من رواية جرير عن منصور فقال فيه ولد لرجل منا غلام فسماه محمدا فقال
له قومه لا ندعك تسمية باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إليه بابنه حامله على ظهره
فقال يا رسول الله ولد لي غلام فسميته محمدا فذكر الحديث وقد بين شعبة أن في رواية منصور عن
470

سالم عن جابر أن الأنصاري قال حملته على عنقي أورده البخاري في فرض الخمس وقد تقدم أنه
يقتضي أن يكون من مسند الأنصاري من رواية جابر عنه وسائر الروايات عن سالم بن أبي الجعد
يقتضي أنه من مسند جابر وفيه أورده أصحاب المسانيد والأطراف وقدمت في فرض الخمس أن
رواية من قال أراد أن يسميه القاسم أرجح وذكرت وجه رجحانه ويؤيده أنه لم يختلف على محمد بن
المنكدر عن جابر في ذلك كما أخرجه المؤلف في آخر الباب الذي يليه (قوله لا نكنيك أبا القاسم
ولا كرامة) في الرواية التي في الباب بعده من هذا الوجه ولا ننعمك عينا هو من الانعام أي
لا ننعم عليك بذلك فتقر به عينك ويؤخذ منه مشروعية تكنية المرء بمن يولد له ولا يختص بأول
أولاده (قوله فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم) كذا للأكثر بضم الهمزة على البناء للمجهول
ولبعضهم بالبناء للفاعل ويؤيده ما في الباب الذي بعده بلفظ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم (قوله
فقال سم ابنك عبد الرحمن) في مطابقة الترجمة لحديث جابر عسر وأقرب ما قيل أنهم لما أنكروا
عليه التكني بكنية النبي صلى الله عليه وسلم اقتضى مشروعية الكنية وأنه لما أمره أن يسميه
عبد الرحمن أختار له اسما يطيب خاطره به إذ غير الاسم فاقتضى الحال أنه لا يشير عليه إلا باسم
حسن وتوجيه كونه أحسن تقدم في أول الباب قال بعض شراح المشارق لله الأسماء الحسنى
وفيها أصول وفروع أي من حيث الاشتقاق قال وللأصول أصول أي من حيث المعنى فأصول
الأصول اسمان الله والرحمن لان كلا منهما مشتمل على الأسماء كلها قال الله تعالى قل ادعوا الله
أو ادعوا الرحمن ولذلك لم يتسم بهما أحد وما ورد من رحمن اليمامة غير وارد لأنه مضاف وقول
شاعرهم * وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا * تغال في الكفر وليس بوارد لان الكلام في أنه
لم يتسم به أحد ولا يرد إطلاق من أطلقه وصفا لأنه لا يستلزم التسمية بذلك وقد لقب غير واحد
الملك الرحيم ولم يقع مثل ذلك في الرحمن وإذا تقرر ذلك كانت إضافة العبودية إلى كل منهما حقيقية
محضة فظهر وجه الأحبية والله أعلم (قوله باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سموا
باسمي ولا تكنوا) بفتح الكاف وتشديد النون وهو على حذف إحدى التائين أو بسكون
الكاف وضم النون وفي رواية الكشميهني ولا تكتنوا بسكون الكاف وفتح المثناة بعدها نون
(قوله بكنيتي) في رواية الأصيلي بكنوتي بالواو بدل التحتانية وهي بمعناها كنوته وكنيتة بمعنى
قال عياض رووه كلهم في عدة مواضع بالياء وقد تقدم معنى الكنية والتعريف بها في أوائل
المناقب في باب كنية النبي صلى الله عليه وسلم (قوله فيه أنس) يشير إلى ما تقدم موصولا في
البيوع ثم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حميد عن أنس بهذا وفيه قصة سيأتي التنبيه
عليها ولفظه سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي ثم ذكر فيه حديث جابر في ذلك ثم حديث أبي هريرة ثم
حديث جابر من وجه آخر فأما حديث أبي هريرة فاقتصر فيه على المتن ولفظه كحديث أنس
المذكور وأما حديث جابر ففي الرواية الأولى من طريق سالم وهو ابن أبي الجعد عنه ولد لرجل
منا غلام فسماه القاسم فقالوا لا نكنيك حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الثانية
من طريق محمد بن المنكدر عنه فقلنا لا نكنيك بأبي القاسم ولا ننعمك عينا فيجمع بين هذا
الاختلاف إما بأن بعضهم قال هذا وبعضهم قال هذا وإما أنهم منعوا أولا مطلقا ثم استدركوا
فقالوا حتى نسأل وفي الرواية الأولى أيضا فقال سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي وفي الرواية الثانية
471

فقال سم ابنك عبد الرحمن ويجمع بينهما بأن أحد الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر وقوله لا نكنيك
بفتح أوله مع التخفيف وبضمه مع التشديد وننعمك بضم أوله قال النووي اختلف في التكني بأبي
القاسم على ثلاثة مذاهب الأول المنع مطلقا سواء كان اسمه محمدا أم لا ثبت ذلك عن الشافعي
والثاني الجواز مطلقا ويختص النهي بحياته صلى الله عليه وسلم والثالث لا يجوز لمن اسمه محمد
ويجوز لغيره قال الرافعي يشبه أن يكون هذا هو الأصح لان الناس لم يزالوا يفعلونه في جميع
الأعصار من غير إنكار قال النووي هذا مخالف لظاهر الحديث وأما إطباق الناس عليه ففيه
تقوية للمذهب الثاني وكأن مستندهم ما وقع في حديث أنس المشار إليه قبل أنه صلى الله
عليه وسلم كان في السوق فسمع رجلا يقول يا أبا القاسم فالتفت إليه فقال لم أعنك فقال سموا باسمي
ولا تكنوا بكنيتي قال ففهموا من النهي الاختصاص بحياته للسبب المذكور وقد زال بعده صلى
الله عليه وسلم انتهى ملخصا وهذا السبب ثابت في الصحيح فما خرج صاحب القول المذكور عن
الظاهر إلا بدليل ومما ننبه عليه أن النووي أورد المذهب الثالث مقلوبا فقال يجوز لمن اسمه محمد
دون غيره وهذا لا يعرف به قائل وإنما هو سبق قلم وقد حكى المذاهب الثلاثة في الاذكار على
الصواب وكذا هي في الرافعي ومما تعقبه السبكي عليه أنه رجح منع التكنية بأبي القاسم مطلقا
ولما ذكر الرافعي في خطبة المنهاج كناه فقال المحرر للامام أبي القاسم الرافعي وكان يمكنه أن يقول
للامام الرافعي فقط أو يسميه باسمه ولا يكنيه بالكنية التي يعتقد المصنف منعها وأجيب
باحتمال أن يكون أشار بذلك إلى اختيار الرافعي الجواز أو إلى أنه مشتهر بذلك ومن شهر بشئ لم
يمتنع تعريفه به ولو كان بغير هذا القصد فإنه لا يسوغ والله أعلم وبالمذهب الأول قال الظاهرية
وبالغ بعضهم فقال لا يجوز لاحد أن يسمى ابنه القاسم لئلا يكنى أبا القاسم وحكى الطبري مذهبا
رابعا وهو المنع من التسمية بمحمد مطلقا وكذا التكني بأبي القاسم مطلقا ثم ساق من طريق سالم
ابن أبي الجعد كتب عمر لا تسموا أحدا باسم نبي واحتج لصاحب هذا القول بما أخرجه من طريق
الحكم بن عطية عن ثابت عن أنس رفعه يسمونهم محمدا ثم يلعنونهم وهو حديث أخرجه البزار
وأبو يعلى أيضا وسنده لين قال عياض والأشبه أن عمر إنما فعل ذلك إعظاما لاسم النبي صلى الله
عليه وسلم لئلا ينتهك وقد كان سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب يا محمد فعل الله بك وفعل
فدعاه وقال لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك فغير اسمه (قلت) أخرجه أحمد
والطبراني من طريق عبد الرحمن بن بن أبي ليلى نظر عمر إلى ابن عبد الحميد وكان اسمه محمدا ورجل
يقول له فعل الله بك يا محمد فأرسل إلى ابن زيد بن الخطاب فقال لا أرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسب بك فسماه عبد الرحمن وأرسل إلى بني طلحة وهم سبعة ليغير أسماءهم فقال له محمد وهو
كبيرهم والله لقد سماني النبي صلى الله عليه وسلم محمدا فقال قوموا فلا سبيل إليكم فهذا يدل
على رجوعه عن ذلك وحكى غيره مذهبا خامسا وهو المنع مطلقا في حياته والتفصيل بعده بين من
اسمه محمد وأحمد فيمتنع وإلا فيجوز وقد ورد ما يؤيد المذهب الثالث الذي ارتضاه الرافعي ووهاه
النووي وذلك فيما أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان من طريق أبي
الزبير عن جابر رفعه من تسمى باسمي فلا يكتنى بكنيتي ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي لفظ
أبي داود وأحمد من طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير ولفظ الترمذي وابن حبان من طريق
472

حسين بن واقد عن أبي الزبير إذا سميتم بي فلا تكنوا بي وإذا كنيتم بي فلا تسموا بي قال أبو داود
ورواه الثوري عن ابن جريج مثل رواية هشام ورواه معقل عن أبي الزبير مثل رواية ابن سيرين
عن أبي هريرة قال ورواه محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة مثل رواية أبي الزبير (قلت) ووصله
البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى ولفظه لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي والترمذي من طريق الليث
عنه ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته وقال أنا أبو القاسم الله
يعطي وأنا أقسم قال أبو داود واختلف على عبد الرحمن بن أبي عمرة وعلي أبي زرعة بن عمرو
وموسى بن يسار عن أبي هريرة على الوجهين (قلت) وحديث ابن أبي عمرة أخرجه أحمد وابن أبي
شيبة من طريقه عن عمه رفعه لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي وأخرج الطبراني من حديث محمد بن
فضالة قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن أسبوعين فأتى بي إليه فمسح على
رأسي وقال سموه باسمي ولا تكنوه بكنيتي ورواية أبي زرعة عند أبي يعلى بلفظ من تسمى باسمي
فلا يكتنى بكنيتي واحتج للمذهب الثاني بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن
ماجة وصححه الحاكم من حديث علي قال قلت يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد اسميه باسمك
وأكنيه بكنيتك قال نعم وفي بعض طرقه فسماني محمدا وكناني أبا القاسم وكان رخصة من النبي
صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب روينا هذه الرخصة في أمالي الجوهري وأخرجها ابن عساكر
في الترجمة النبوية من طريقه وسندها قوي قال الطبري في إباحة ذلك لعلي ثم تكنية على ولده
أبا القاسم إشارة إلى أن النهي عن ذلك كان على الكراهة لا على التحريم قال ويؤيد ذلك أنه لو كان
على التحريم لا نكره الصحابة ولما مكنوه أن يكنى ولده أبا القاسم أصلا فدل على أنهم إنما فهموا
من النهي التنزيه وتعقب بأنه لم ينحصر الامر فيما قال فلعلهم علموا الرخصة له دون غيره كما في
بعض طرقه أو فهموا تخصيص النهي بزمانه صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى لان بعض الصحابة
سمي ابنه محمدا وكناه أبا القاسم وهو طلحة بن عبيد الله وقد جزم الطبراني أن النبي صلى الله عليه
وسلم هو الذي كناه وأخرج ذلك من طريق عيسى بن طلحة عن ظئر محمد بن طلحة وكذا يقال لكنية
كل من المحمدين ابن أبي بكر وابن سعد وابن جعفر بن أبي طالب وابن عبد الرحمن بن عوف وابن
حاطب بن أبي بلتعة وابن الأشعث بن قيس أبو القاسم وأن آباءهم كنوهم بذلك قال عياض وبه قال
جمهور السلف والخلف وفقهاء الأمصار وأما ما أخرجه أبو داود من حديث عائشة أن امرأة
قالت يا رسول الله إني سميت ابني محمدا وكنيته أبا القاسم فذكر لي انك تكره ذلك قال ما الذي
أحل اسمي وحرم كنيتي فقد ذكر الطبراني في الأوسط أن محمد بن عمران الحجي تفرد به عن صفية
بنت شيبة عنها ومحمد المذكور مجهول وعلى تقدير أن يكون محفوظا فلا دلالة فيه على الجواز
مطلقا لاحتمال أن يكون قبل النهي وفي الجملة أعدل المذاهب المذهب المفصل المحكي أخيرا
مع غرابته وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح المذهب الثالث من حيث
الجواز لكن الأولى الاخذ بالمذهب الأول فإنه أبرأ للذمة وأعظم للحرمة والله أعلم (قوله
باب اسم الحزن) بفتح المهملة وسكون الزاي ما غلظ من الأرض وهو ضد السهل
واستعمل في الخلق يقال في فلان حزونة أي في خلقه غلظة وقساوة (قوله عن ابن المسيب) هو
سعيد وسماه أحمد في ورايته عن عبد الرزاق وكذا محمود بن غيلان وأحمد بن صالح وغيرهما (قوله
473

عن أبيه أن أباه جاء) كذا رواه إسحق بن نصر عن عبد الرزاق وتابعه أحمد عن عبد الرزاق قال في
روايته عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجده وكذا أخرجه ابن حبان من طريق محمد بن
أبي السري عن عبد الرزاق وأورده المصنف عن عقبة عن محمود بن غيلان وعلي بن عبد الله
كلاهما عن عبد الرزاق فقالا في روايتهما عن أبيه عن جده وكذا أورده أبو داود عن أحمد بن صالح
والإسماعيلي من طريق إسحق بن الضيف كلاهما عن عبد الرزاق وفيه عن جده أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال له وهذا الاختلاف على عبد الرزاق وبحسبه يكون الحديث إما من مسند
المسيب بن حزن على الرواية الأولى وإما من مسند حزن بن أبي وهب والده على الرواية الثانية وقد
أعرض الحميدي تبعا لأبي مسعود عن الرواية الثانية وأورد الحديث في مسند المسيب وأما
الكلاباذي فجزم بأن الحديث من مسند حزن وهذا الذي ينبغي أن يعتمد لان الزيادة من الثقة
مقبولة ولا سيما وفيهم ابن المديني (قوله قال أنت سهل) في رواية الإسماعيلي من طريق محمود بن
غيلان ومن طريق إسحق بن الضيف جميعا قال بل اسمك سهل (قوله لا أغير اسما) في رواية أحمد
ابن صالح فقال لا السهل يوطأ ويمتهن ويجمع بأنه قال كلا من الكلامين فنقل بعض الرواة ما لم
ينقله الآخر (قوله فما زالت الحزونة فينا بعد) في رواية أحمد بن صالح فظننت أنه سيصيبنا بعده
حزونة (قوله حدثنا علي بن عبد الله ومحمود هو ابن غيلان) كذا ثبت للأكثر وسقط محمود من
رواية الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني وقد أخرجه الإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن محمود بن
غيلان كما قال البخاري ولفظه كما قدمته وأخرجه أبو نعيم عن أبي أحمد وهو الغطريفي عن الهيثم
فقال في السند عن أبيه أن أباه جاءه والمعتمد ما قال الإسماعيلي قال ابن بطال فيه أن الامر بتحسين
الأسماء وبتغيير الاسم إلى أحسن منه ليس على الوجوب وسيأتي مزيد لهذا في الباب الذي يليه
وقال ابن التين معنى قول ابن المسيب فما زالت فينا الحزونة يريد اتساع التسهيل فيما يريدونه
وقال الداودي يريد الصعوبة في أخلاقهم إلا أن سعيدا أفضى به ذلك إلى الغضب في الله وقال
غيره يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم فقد ذكر أهل النسب أن في ولده سوء خلق معروف
فيهم لا يكاد يعدم منهم * (تنبيه) * قال الكرماني هنا قالوا لم يرو عن المسيب بن حزن وهو وأبوه
صحابيان إلا ابنه سعيد بن المسيب وهذا خلاف المشهور من شرط البخاري أنه لم يرو عن واحد
ليس له إلا راو واحد (قلت) وهذا المشهور راجع إلى غرابته وذلك أنه لم يذعه إلا الحاكم ومن
تلقى كلامه وأما المحققون فلم يلتزموا ذلك وحجتهم أن ذلك لم ينقل عن البخاري صريحا وقد وجد
عمله على خلافه في عدة مواضع منها هذا فلان يعتد به وقد قررت ذلك في النكت على علوم
الحديث وعلى تقدير تسليم الشرط المذكور فالجواب عن هذا الموضع أن الشرط المذكور
إنما هو في غير الصحابة وأما الصحابة فكلهم عدول فلا يقال في واحد منهم بعد أن ثبتت صحبته
مجهول وان وقع ذلك في كلام بعضهم فهو مرجوح ويحتاج من ادعى الشرط في بقية المواضع
إلى الأجوبة (قوله باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه) هذه الترجمة منتزعة
مما أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عروة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الاسم القبيح
حوله إلى ما هو أحسن منه وقد وصله الترمذي من وجه آخر عن هشام بذكر عائشة فيه وفيه
ثلاثة أحاديث * الأول حديث سهل بن سعد (قوله أتى بالمنذر بن أبي أسيد إلى النبي صلى الله
474

عليه وسلم حين ولد) أسيد بالتصغير صحابي مشهور وله أحاديث في الصحيح وتقدم ذكر ولده
هذا في صلاة الجماعة في المغازي وتقدمت روايته عن أبيه في كتاب الطلاق وكان الصحابة
إذا ولد لأحدهم الولد أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه ويبارك عليه وقد تكرر ذلك في
الأحاديث (قوله فوضعه على فخذه) يعني إكراما له (قوله فلهى النبي صلى الله عليه
وسلم بشئ بين يديه) أي اشتغل وكل ما شغلك عن شئ فقد ألهاك عن غيره قال ابن التين روى
لهى بوزن علم وهي اللغة المشهورة وبالفتح لغة طئ (قوله فاستفاق النبي صلى الله عليه
وسلم) أي انقضى ما كان مشتغلا به فأفاق من ذلك فلم ير الصبي فسال عنه يقال أفاق من
نومه ومن مرضه واستفاق بمعنى (قوله قلبناه) بفتح القاف وتشديد اللام بعدها موحدة
ساكنة أي صرفناه إلى منزله وذكر ابن التين أنه وقع في روايته أقلبناه بزياد همزة أوله قال
والصواب حذفها وأثبتها غيره لغة (قوله ما اسمه قال فلان) لم أقف على تعيينه فكأنه كان
سماه اسما ليس مستحسنا فسكت عن تعيينه أو سماه فنسيه بعض الرواة (قوله ولكن اسمه
المنذر) أي ليس هذا الاسم الذي سميته به اسمه الذي يليق به بل هو المنذر قال الداودي سماه
المنذر تفاؤلا أن يكون له علم ينذر به (قلت) وتقدم في المغازي أنه سمي المنذر بالمنذر بن عمرو
الساعدي الخزرجي وهو صحابي مشهور من رهط أبي أسيد * الحديث الثاني (قوله عطاء بن أبي
ميمونة) هو ابن هلال مولى أنس وأبو رافع هو نفيع الصانع (قوله أن زينب كان اسمها برة)
بفتح الموحدة وتشديد الراء كذا في رواية محمد بن جعفر وهو غندر عن شعبة ووافقه جماعة
وقال عمرو بن مرزوق عن شعبة بهذا السند عن أبي هريرة كان اسم ميمونة برة أخرجه المصنف
في الأدب المفرد عنه والأول أكبر وزينب هي بنت جحش أو بنت أبي سلمة والأولى زوج النبي صلى
الله عليه وسلم والثانية ربيبته وكل منهما كان اسمها أولا برة فغيره النبي صلى الله عليه وسلم كذا
قال ابن عبد البر وقصة زينب بنت جحش أخرجها مسلم وأبو داود في أثناء حديث عن زينب بنت
أم سلمة قالت سميت برة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم فإن الله أعلم بأهل البر
منكم قالوا ما نسميها قال سموها زينب وفي بعض روايات مسلم وكان اسم زينب بنت جحش برة
وقد أخرج الدارقطني في المؤتلف بسند فيه ضعف أن زينب بنت جحش قالت يا رسول الله اسمي
برة فلو غيرته فإن البرة صغيرة فقال لو كان مسلما لسميته باسم من أسمائها ولكن هو جحش فالجحش
أكبر من البرة وقد وقع مثل ذلك لجويرية بنت الحرث أم المؤمنين فأخرج مسلم وأبو داود
والمصنف في الأدب المفرد عن ابن عباس قال كان اسم جويرية بنت الحرث برة فحول النبي صلى
الله عليه وسلم اسمها فسماها جويرية كره أن يقول خرج من عند برة (قوله فقيل تزكى نفسها)
أي لان لفظة برة مشتقة من البر وكذلك وقع في قصة جويرية كره أن يقال خرج من عند برة وقال
في قصة زينب الله أعلم بأهل البر منكم * الحديث الثالث (قوله هشام) هو ابن يوسف
وعبد الحميد بن جبير بن شيبة أي ابن عثمان الحجبي (قوله فحدثني أن جده حزنا) هكذا أرسل
سعيد الحديث لما حدث به عبد الحميد ولما حدث به الزهري وصله عن أبيه كما تقدم بيانه في
الباب الذي قبله وهذا على قاعدة الشافعي أن المرسل إذا جاء موصولا من وجه آخر تبين صحة
مخرج المرسل وقاعدة البخاري أن الاختلاف في الوصل والارسال لا يقدح المرسل في الموصول
475

إذا كان الواصل أحفظ من المرسل كالذي هنا فإن الزهري أحفظ من عبد الحميد قال الطبري
لا تنبغي التسمية باسم قبيح المعنى ولا باسم يقتضي التزكية له ولا باسم معناه السب (قلت) الثالث
أخص من الأول قال ولو كانت الأسماء إنما هي أعلام للاشخاص لا يقصد بها حقيقة الصفة
لكن وجه الكراهة أن يسمع سامع بالاسم فيظن أنه صفة للمسمى فلذلك كان صلى الله عليه
وسلم يحول الاسم إلى ما إذا دعى به صاحبه كان صدقا قال وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم
عدة أسماء وليس ما غير من ذلك على وجه المنع من التسمي بها بل وجه الاختيار قال ومن ثم أجاز
المسلمون أن يسمى الرجل القبيح بحسن والفاسد بصالح ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم
حزنا لما امتنع من تحويل اسمه إلى سهل بذلك ولو كان ذلك لازما لما أقره على قوله لا أغير اسما
سمانيه أبي انتهى ملخصا وقد ورد الامر بتحسين الأسماء وذلك فيما أخرجه أبو داود وصححه
ابن حبان من حديث أبي الدرداء رفعه انكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم
فأحسنوا أسماءكم ورجاله ثقات إلا أن في سنده انقطاعا بين عبد الله بن أبي زكريا رواية عن أبي
الدرداء وأبي الدرداء فإنه لم يدركه قال أبو داود وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم العاص وعتلة بفتح المهملة
والمثناة بعدها لام وشيطان وغراب وحباب بضم المهملة وتخفيف الموحدة وشهاب وحرب وغير
ذلك (قلت) والعاصي الذي ذكره هو مطيع بن الأسود العدوي والد عبد الله بن مطيع ووقع
مثله لعبد الله بن الحرث بن جزء وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر أخرجه البزار والطبراني من
حديث عبد الله بن الحرث بسند حسن والاخبار في مثل ذلك كثيرة وعتلة هو عتبة بن عبد
السلمي وشيطان هو عبد الله وغراب هو مسلم أبو رايطة وحباب هو عبد الله بن عبد الله بن أبي
وشهاب هو هشام بن عامر الأنصاري وحرب هو الحسن بن علي سماه علي أولا حربا وأسانيدها
مبينة في كتابي في الصحابة (قوله باب من سمى بأسماء الأنبياء) في هذه الترجمة
حديثان صريحان * أحدهما أخرجه مسلم من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم * ثانيهما أخرجه أبو داود والنسائي
والمصنف في الأدب المفرد من حديث أبي وهب الجشمي بضم الجيم وفتح المعجمة رفعه تسموا بأسماء
الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب
ومرة قال بعضهم أما الأولان فلما تقدم في باب أحب الأسماء إلى الله وأما الآخران فلان العبد
في حرث الدنيا أو حرث الآخرة ولأنه لا يزال يهم بالشئ بعد الشئ وأما الأخيران فلما في الحرب
من المكاره ولما في مرة من المرارة وكأن المؤلف رحمه الله لما لم يكونا على شرطه اكتفى بما
استنبطه من أحاديث الباب وأشار بذلك إلى الرد على من كره ذلك كما تقدم عن عمر أنه أراد أن يغير
أسماء أولاد طلحة وكان سماهم بأسماء الأنبياء وأخرج البخاري أيضا في الأدب المفرد في مثل
ترجمة هذا الباب حديث يوسف بن عبد الله بن سلام قال سماني النبي صلى الله عليه وسلم يوسف
الحديث وسنده صحيح وأخرجه الترمذي في الشمائل وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن
سعيد بن المسيب قال أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء ثم ذكر فيه أحد عشر حديثا موصولة
ومعلقة * الأول حديث أنس (قوله وقال أنس قبل النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم يعني ابنه)
ثبت هذا التعليق في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده وهو في رواية النسفي أيضا وهو طرف من
476

حديث طويل تقدم موصولا في الجنائز * الحديث الثاني (قوله حدثنا ابن نمير) هو محمد
ابن عبد الله بن نمير نسب لجده ومحمد بن بشر هو العبدي وإسماعيل هو ابن خالد والاسناد كله
كوفيون (قوله قلت لابن أبي أوفى) هو عبد الله الصحابي بن الصحابي (قوله رأيت إبراهيم بن
النبي صلى الله عليه وسلم قال مات صغيرا) تضمن كلامه جواب السؤال بالإشارة إليه وصرح
بالزيادة عليه كأنه قال نعم رأيته لكن مات صغيرا ثم ذكر السبب في ذلك وقد رواه إبراهيم
ابن حميد عن إسماعيل عن أبي خالد بلفظ قال نعم كان أشبه الناس به مات وهو صغير أخرجه ابن
منده والإسماعيلي من طريق جرير عن إسماعيل سألت ابن أبي أوفى عن إبراهيم بن النبي صلى
الله عليه وسلم مثل أي شئ كان حين مات قال كان صبيا (قوله ولو قضى أن يكون بعد محمد نبي
عاش ابنه) إبراهيم (ولكن لا نبي بعده) هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى ومثل هذا لا يقال
بالرأي وقد توارد عليه جماعة فأخرج ابن ماجة من حديث ابن عباس قال لما مات إبراهيم بن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وقال أن له مرضعا في الجنة لو عاش لكان صديقا نبيا
ولأعتقت أخواله القبظ وروى أحمد وابن منده من طريق السدي سألت أنساكم بلغ إبراهيم
قال كان قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيا ولكن لم يكن ليبقى لان نبيكم آخر الأنبياء ولفظ أحمد
لو عاش إبراهيم بن النبي لكان صديقا نبيا ولم يذكر القصة فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء
الصحابة أنهم أطلقوا ذلك فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب
تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال هو باطل وجسارة في الكلام
على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة
المذكورين فرواه عن غيرهم ممن تأخر عنهم فقال ذلك وقد استنكر قبله ابن عبد البر في
الاستيعاب الحديث المذكور فقال هذا لا أدري ما هو وقد ولد نوح من ليس بنبي وكما يلد غير النبي
نبيا فكذا يجوز عكسه حتى نسب قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير
ذلك مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية * الحديث الثالث
حديث البراء لما مات إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم إن له مرضعا في الجنة قال الخطابي
هو بضم الميم على أنه اسم فاعل من أرضع أي من يتم إرضاعه وبفتحها أي أن له رضاعا في الجنة
وقال ابن التين قال في الصحاح امرأة مرضع أي لها ولد ترضعه فهي مرضعة بضم أوله فإن
وصفتها بإرضاعه قلت مرضعة يعني بفتح الميم قال والمعنى هنا يصح ولكن لم يروه أحد
بفتح الميم (قلت) وقع في رواية الإسماعيلي أن له مرضعا ترضعه في الجنة والمعنى يكمل إرضاعه
لأنه لما مات كان ابن ستة عشر شهرا أو ثمانية عشر شهرا على اختلاف الروايتين وقيل إنما عاش
سبعين يوما * الحديث الرابع حديث جابر سموا باسمي ذكره مختصرا عن آدم عن شعبة عن
حصين وقد تقدم شرحه قريبا وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة عن حصين بتمامه
* الحديث الخامس (قوله ورواه أنس) تقدم التنبيه عليه قريبا في باب قول النبي صلى
الله عليه وسلم سموا باسمي * الحديث السادس والسابع والثامن حديث أبي هريرة سموا باسمي
ولا تكنوا بكنيتي ووقع في رواية المستملي والسرخسي هنا بكنوتي وقد تقدم توجيهه قريبا
(قوله ومن رآني في المنام الحديث) هو حديث آخر جمعهما الراوي بهذا الاسناد وسيأتي
477

شرحه في كتاب التعبير (قوله ومن كذب علي معتمدا الحديث) هو حديث آخر تقدم شرحه
في كتاب العلم * الحديث التاسع عن أبي موسى هو الأشعري قال ولد لي غلام (قوله وكان
أكبر ولد أبي موسى) هذا يشعر بأن أبا موسى كنى قبل أن يولد له وإلا فلو كان الامر على غير
ذلك لكني بابنه إبراهيم المذكور ولم ينقل أنه كان يكنى أبا إبراهيم * الحديث العاشر حديث
المغيرة انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم كذا أورده مختصرا وقد تقدم في الكسوف بهذا
الاسناد مطولا من وجه آخر عن زياد بن علاقة مطولا أيضا وتقدم شرحه هناك * الحديث
الحادي عشر (قوله رواه أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم) يشير إلى ما أخرجه موصولا في
الكسوف ومعلقا لكن لم أر في شئ من طرق حديث أبي بكرة التصريح بأن ذلك كان يوم مات
إبراهيم إلا في رواية أسندها في باب كسوف القمر مع أن مجموع الأحاديث تدل على ذلك كما قاله
البيهقي قال ابن بطال في هذه الأحاديث جواز التسمية بأسماء الأنبياء وقد ثبت عن سعيد بن
المسيب أنه قال أحب الأسماء إلى الله أسماء الأنبياء وإنما كره عمر ذلك لئلا يسب أحد المسمى
بذلك فأراد تعظيم الاسم لئلا يبتذل في ذلك وهو قصد حسن وذكر الطبري أن الحجة في ذلك حديث
أنس يسمونهم محمدا ويلعنونهم قال وهو ضعيف لأنه من رواية الحكم بن عطية عن ثابت عنه
وعلى تقدير ثبوته فلا حجة فيه للمنع بل فيه النهي عن لعن من يسمى محمدا وقد تقدمت الإشارة
إلى هذا الحديث في باب سموا باسمي قال ويقال أن طلحة قال للزبير أسماء بني أسماء الأنبياء
وأسماء بنيك أسماء الشهداء فقال أنا أرجو أن يكون بني شهداء وأنت لا ترجو أن يكون
بنوك أنبياء فأشار إلى الذي فعله أولى من الذي فعله طلحة (قوله باب تسمية
الوليد) ورد في كراهة هذا الاسم حديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يسمى الرجل عبده أو ولده حربا أو مرة أو وليدا الحديث وسنده
ضعيف جدا وورد فيه أيضا حديث آخر مرسل أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي
في الدلائل من طريقه قال حدثنا محمد بن خالد بن العباس السكسكي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا
أبو عمرو الأوزاعي وأخرجه البيهقي في الدلائل أيضا من رواية بشر بن بكر عن الأوزاعي وأخرجه
عبد الرزاق في الجزء الثاني من أماليه عن معمر كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال
ولد لاخي أم سلمة ولد فسماه الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سميتموه بأسماء فراعنتكم
ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد هو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه قال الوليد بن
مسلم في روايته قال الأوزاعي فكانوا يرونه الوليد بن عبد الملك ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتنة
الناس به حين خرجوا عليه فقتلوه وانفتحت الفتن على الأمة بسبب ذلك وكثر فيهم القتل وفي
رواية بشر بن بكر من الزيادة غيروا اسمه فسموه عبد الله وبين في روايته أنه أخو أم سلمة لامها
وهكذا أخرجه الحرث بن أبي أسامة في مسنده عن إسماعيل بن أبي إسماعيل عن إسماعيل بن عياش
عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخرجه أبو نعيم في الدلائل من رواية الحرث
وأخرجه أحمد عن أبي المغيرة عن إسماعيل بن عياش فزاد فيه قال حدثني الأوزاعي وغيره عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر به فزاد فيه عمر فادعى ابن حبان أنه لا أصل له فقال في كتاب
الضعفاء في ترجمة إسماعيل بن عياش هذا خبر باطل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رواه
478

عمر ولا حدث به سعيد ولا الزهري ولا هو من حديث الأوزاعي ثم أعله بإسمعيل بن عياش واعتمد
ابن الجوزي على كلام ابن حبان فأورد الحديث في الموضوعات فلم يصب فإن إسماعيل لم ينفرد به
وعلى تقدير انفراده فإنما انفرد بزيادة عمر في الاسناد وإلا فأصله كما ذكرت عند الوليد وغيره من
أصحاب الأوزاعي عنه وعند معمر وغيره من أصحاب الزهري فإن كان سعيد بن المسيب تلقاه عن
أم سلمة فهو على شرط الصحيح ويؤيد ذلك أن له شاهدا عن أم سلمة أخرجه إبراهيم الحربي في غريب
الحديث من رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء عن زينب بنت أم سلمة عن أمها قالت
دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال من هذا قلت
الوليد قال قد اتخذتم الوليد حنانا غيروا اسمه فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد وقد
أخرجه الحاكم من وجه آخر عن الوليد موصولا بذكر أبي هريرة فيه أخرجه من طريق نعيم بن
حماد عن الوليد بن مسلم وقال في آخره قال الزهري ان استخلف الوليد بن يزيد وإلا فهو الوليد بن
عبد الملك (قلت) وعندي أن ذكر أبي هريرة فيه من أوهام نعيم بن حماد والله أعلم ولما لم يكن هذا
الحديث المذكور على شرط البخاري أومأ إليه كعادته وأورد فيه الحديث الدال على الجواز فإنه
لو كان مكروها لغيره النبي صلى الله عليه وسلم كعادته فإن في بعض طرق الحديث المذكور الدلالة
على أن الوليد بن الوليد المذكور قد قدم بعد ذلك المدينة مهاجرا كما مضى في المغازي ولم ينقل
أنه صلى الله عليه وسلم غير اسمه وأما ما تقدم أنه أمر بتغيير اسم الوليد فلذلك اسم ولد المذكور فغيره
فسماه عبد الله وأخرج الطبراني في ترجمة الوليد بن الوليد بن المغيرة من طريق إسماعيل بن أيوب
المخزومي في قصة موت الوليد بن الوليد بعد أن جاء إلى المدينة مهاجرا وأن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل على أم سلمة بعد موته وهي تقول * أبك الوليد بن الوليد أبا الوليد بن المغيرة فقال إن كدتم
لتتخذون الوليد حنانا فسماه عبد الله ووصله ابن منده من وجه واه إلى أيوب بن سلمة بن عبد الله
ابن الوليد بن الوليد بن المغيرة عن أبيه عن جده أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ومن
شواهد الحديث ما أخرجه الطبراني أيضا من حديث معاذ بن جبل قال خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا فيه قال الوليد اسم فرعون هادم شرائع الاسلام يبوء بدمه رجل
من أهل بيته ولكن سنده ضعيف جدا (قوله باب من دعا صاحبه فنقص من
اسمه حرفا) كذا اقتصر على حرف وهو مطابق لحديث عائشة في عائش ولحديث أنس في أنجش
وأما حديث أبي هريرة فنازع ابن بطال في مطابقته فقال ليس من الترخيم وإنما هو نقل اللفظ
من التصغير والتأنيث إلى التكبير والتذكير وذلك أنه كان كناه أبا هريرة وهريرة تصغير هرة
فخاطبه باسمها مذكرا فهو نقصان في اللفظ وزيادة في المعنى (قلت) فهو نقص في الجملة لكن كون
النقص منه حرفا فيه نظر وكأنه لحظ الاسم قبل التصغير وهي هرة فإذا حذف الياء الأخيرة صدق
أنه نقص من الاسم حرفا وقد ترجم في الأدب المفرد مثله لكن قال شيئا بدل حرفا وأورد فيه
حديث عائشة رأيت عثمان والنبي صلى الله عليه وسلم يضرب كتفه يقول أكنت عثم وجبريل
يوحى إليه (قوله وقال أبو حازم عن أبي هريرة قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هر) بتشديد
الراء ويجوز تخفيفها وهذا طرف من حديث وصله المصنف رحمه الله في الأطعمة أوله أصابني
جهد شديد وفيه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال يا أبا هر ويأتي في الرقاق
479

حديث أوله والذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع وفيه مثله (قوله
يا أنجش رويدك) تقدم شرحه في باب ما يجوز من الشعر وأكثر ما وقع في الروايات بغير ترخيم
ويجوز في الشين الضم والفتح كما في الذي قبله (قوله باب الكنية للصبي وقبل
أن يولد للرجل) في رواية الكشميهني يلد الرجل ذكر فيه قصة أبي عمير وهو مطابق لاحد ركني
الترجمة والركن الثاني مأخوذ من الالحاق بل بطريق الأولى وأشار بذلك إلى الرد على من منع
تكنية من لم يولد له مستندا إلى أنه خلاف الواقع فقد أخرج ابن ماجة وأحمد والطحاوي وصححه
الحاكم من حديث صهيب أن عمر قال له مالك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد قال أن النبي صلى الله
عليه وسلم كناني وأخرج سعيد بن منصور من طريق فضيل بن عمرو قلت لإبراهيم إني أكنى أبا
النضر وليس لي ولد وأسمع الناس يقولون من اكتنى وليس له ولد فهو أبو جعر فقال إبراهيم
كان علقمة يكنى أبا شبل وكان عقيما لا يولد له وقوله جعر بفتح الجيم وسكون المهملة وشبل بكسر
المعجمة وسكون الموحدة وأخرج المصنف في الأدب المفرد عن علقمة قال كناني عبد الله بن مسعود
قبل أن يولد لي وقد كان ذلك مستعملا عند العرب قال الشاعر * لها كنية عمرو وليس لها عمرو
وأخرج ابن أبي شيبة عن الزهري قال كان رجل من الصحابة يكتنون قبل أن يولد لهم وأخرج
المصنف في باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الجنائز عن هلال الوزان قال كناني
عروة قبل أن يولد لي (قلت) وكنيه هلال المذكور أبو عمرو ويقال أبو أمية ويقال غير ذلك
وأخرج الطبراني عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبد الرحمن قبل
أن يولد له وسنده صحيح قال العلماء كانوا يكنون الصبي تفاؤلا بأنه سيعيش حتى يولد له وللأمن من
التلقيب لان الغالب أن من يذكر شخصا فيعظمه أن لا يذكره باسمه الخاص به فإذا كانت له كنية
أمن من تلقيبه ولهذا قال قائلهم بادروا أبناءكم بالكنى قبل أن تغلب عليها الألقاب وقالوا الكنية
للعرب كاللقب للعجم ومن ثم كره للشخص أن يكنى نفسه إلا أن قصد التعريف (قوله عبد
الوارث) هو ابن سعيد وأبو التياح بمثناة فوقانية ثم تحتانية ثقيلة مفتوحين ثم مهملة هو يزيد بن
حميد والاسناد كله بصريون وقد تقدم من رواية شعبة عن أبي التياح في باب الانبساط إلى الناس
وقد أخرجه النسائي من طريق شعبة هكذا ومن وجه آخر عن شعبة عن قتادة عن أنس ومن
وجه ثالث عن شعبة عن محمد بن قيس عن حميد عن أنس والمشهور الأول ويحتمل أن يكون
لشعبة فيه طرق (قوله كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) هذا قاله أنس توطئة
لما يريد يذكره من قصة الصبي وأول حديث شعبة المذكور عن أنس قال أن النبي صلى الله
عليه وسلم ليخالطنا ولأحمد من طريق المثنى بن سعيد عن أبي التياح عن أنس كان النبي صلى الله
عليه وسلم يزور أم سليم وفي رواية محمد بن قيس المذكور كان النبي صلى الله عليه وسلم قد اختلط بنا
أهل البيت يعني لبيت أبي طلحة وأم سليم ولأبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس كان النبي
صلى الله عليه وسلم يغشانا ويخالطنا وللنسائي من طريق إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي أبا طلحة كثيرا ولأبي يعلى من طريق خالد بن عبد الله عن حميد
كان يأتي أم سليم وينام على فراشها وكان إذا مشا يتوكأ ولابن سعد وسعيد بن منصور عن ربعي
480

ابن عبد الله بن الجارود عن أنس كان يزور أم سليم فتتحفه بالشئ تصنعه له (قوله وكان لي أخ يقال
له أبو عمير) هو بالتصغير وفي رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند أحمد كان لي أخ صغير وهو
أخو أنس بن مالك من أمه ففي رواية المثنى بن سعيد المذكورة وكان لها أي أم سليم ابن صغير وفي
رواية حميد عند أحمد وكان لها من أبي طلحة ابن يكنى أبا عمير وفي رواية مروان بن معاوية عن حميد
عند ابن أبي عمر كان بني لأبي طلحة وفي رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عند ابن سعد أن أبا طلحة
كان له ابن قال أحسبه فطيما في بعض النسخ فطيم بغير ألف وهو محمول على طريقة من يكتب
المنصوب المنون بلا ألف والأصل فطيم لأنه صفة أخ وهو مرفوع لكن تخلل بين الصفة
والموصوف أحسبه وقد وقع عند أحمد من طريق المثنى بن سعيد مثل ما في الأصل فطيم بمعنى
مفطوم أي انتهى ارضاعه (قوله وكان) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إذا جاء) زاد مروان بن
معاوية في روايته إذا جاء لام سليم يمازحه ولأحمد في روايته عن حميد مثله وفي أخرى يضاحكه
وفي رواية محمد بن قيس يهازله وفي رواية المثنى بن سعيد عن أبي عوانة يفاكهه (قوله يا أبا عمير)
في رواية ربعي بن عبد الله فزارنا ذات يوم فقال يا أم سليم ما شأني أرى أبا عمير ابنك خائر النفس
بمعجمة ومثلثة أي ثقيل النفس غير نشيط وفي رواية مروان بن معاوية وإسماعيل بن جعفر كلاهما
عن حميد فجاء يوما وقد مات نغيره زاد مروان الذي كان يلعب به زاد إسماعيل فوجده حزينا فسأل
عنه فأخبرته فقال يا أبا عمير وساقه أحمد عن يزيد بن هارون عن حميد بتمامه وفي رواية حماد بن سلمة
المشار إليها فقال ما شأن أبي عمير حزينا وفي رواية ربعي بن عبد الله فجعل يمسح رأسه ويقول في
رواية عمارة بن زاذان فكان يستقبله ويقول (قوله ما فعل النغير) بنون ومعجمة وراء مصغر وكرر
ذلك في رواية حماد بن سلمة (قوله نغير كان يلعب به) وهو طير صغير واحدة نغرة وجمعه نغران
قال الخطابي طوير له صوت وفيه نظر فإنه ورد في بعض طرقه أنه الصعو بمهملتين بوزن العفو كما
في رواية ربعي فقالت أم سليم ماتت صعوته التي كان يلعب بها فقال أي أبا عمير مات النغير فدل
على أنهما شئ واحد والصعو لا يوصف بحسن الصوت قال الشاعر
كالصعو يرتع في الرياض وإنما * حبس الهزار لأنه يترنم
قال عياض النغير طائر معروف يشبه العصفور وقيل هي فراخ العصافير وقيل هي نوع من الحمر
بضم المهملة وتشديد الميم ثم راء قال والراجح أن النغير طائر أحمر المنقار (قلت) هذا الذي جزم
به الجوهري وقال صاحب العين والمحكم الصعو صغير المنقار أحمر الرأس (قوله فربما حضر
الصلاة وهو في بيتنا الخ) تقدم شرحه مستوفى في كتاب الصلاة وتقدمت الإشارة إليه قريبا أيضا
وفي هذا الحديث عدة فوائد جمعها أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص
الفقيه الشافعي صاحب التصانيف في جزء مفرد بعد أن أخرجه من وجهين عن شعبة عن أبي
التياح ومن وجهين عن حميد عن أنس ومن طريق محمد بن سيرين وقد جمعت في هذا الموضع
طرقه وتتبعت ما في رواية كل منهم من فائدة زائدة وذكر ابن القاص في أول كتابه أن بعض الناس
عاب على أهل الحديث أنهم يروون أشياء لا فائدة فيها ومثل ذلك بحديث أبي عمير هذا قال وما
درى أن في هذا الحديث من وجوه الفقه وفنون الأدب والفائدة ستين وجها ثم ساقها مبسوطة
فلخصتها مستوفيا مقاصده ثم أتبعته بما تيسر من الزوائد عليه فقال فيه استحباب التأني في المشي
481

وزيارة الاخوان وجواز زيارة الرجل للمرأة الأجنبية إذا لم تكن شابة وأمنت الفتنة وتخصيص
الامام بعض الرعية بالزيارة ومخالطة بعض الرعية دون بعض ومشى الحاكم وحده وأن كثرة
الزيارة لا تنقص المودة وأن قوله زر غبا تزدد حبا مخصوص بمن يزور لطمع وأن النهي عن كثرة
مخالطة الناس مخصوص بمن يخشى الفتنة أو الضرر وفيه مشروعية المصافحة لقول أنس فيه
ما مسست كفا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيص ذلك بالرجل دون المرأة وأن
الذي مضى في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان شئن الكفين خاص بعبالة الجسم لا بخشونة
اللمس وفيه استحباب صلاة الزائر في بيت المزور ولا سيما إن كان الزائر ممن يتبرك به وجواز
الصلاة على الحصير وترك التقرر لأنه علم أن في البيت صغيرا وصلى مع ذلك في البيت وجلس فيه
وفيه أن الأشياء على يقين الطهارة لان نضحهم البساط إنما كان للتنظيف وفيه أن الاختيار
للمصلى أن يقوم على أروح الأحوال وأمكنها خلافا لمن استحب من المشددين في العبادة أن
يقوم على أجهدها وفيه جواز حمل العالم علمه إلى من يستفيده منه وفضيلة لآل أبي طلحة ولبيته
إذ صار في بيتهم قبلة يقطع بصحتها وفيه جواز الممازحة وتكرير المزح وأنها إباحة سنة لا رخصة
وأن ممازحة الصبي الذي لم يميز جائزة وتكرير زيارة الممزوح معه وفيه ترك التكبر والترفع
والفرق بين كون الكبير في الطريق فيتواقر أو في البيت فيمزح وأن الذي ورد في صفة المنافق أن
سره يخالف علانيته ليس على عمومه وفيه الحكم على ما يظهر من الامارات في الوجه من حزنه
أو غيره وفيه جواز الاستدلال بالعين على حال صاحبها إذا استدل صلى الله عليه وسلم بالحزن
الظاهر على الحزن الكامن حتى حكم بأنه حزين فسأل أمه عن حزنه وفيه التلطف بالصديق
صغيرا كان أو كبيرا والسؤال عن حاله وأن الخبر الوارد في الزجر عن بكاء الصبي محمول على ما إذا
بكى عن سبب عامدا ومن أذى بغير حق وفيه قبول خبر الواحد لان الذي أجاب عن سبب حزن
أبي عمير كان كذلك وفيه جواز تكنية من لم يولد له وجواز لعب الصغير بالطير وجواز ترك الأبوين
ولدهما الصغير يلعب بما أبيح اللعب به وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات
وجواز إمساك الطير في القفص ونحوه وقص جناح الطير إذ لا يخلو حال طير أبي عمير من واحد
منهما وأيهما كان الواقع التحق به الآخر في الحكم وفيه جواز إدخال الصيد من الحل إلى الحرم
وإمساكه بعد إدخاله خلافا لمن منع من إمساكه وقاسه على من صاد ثم أحرم فإنه يجب عليه
الارسال وفيه جواز تصغير الاسم ولو كان لحيوان وجواز مواجهة الصغير بالخطاب خلافا لمن
قال الحكيم لا يواجه بالخطاب إلا من يعقل ويفهم قال والصواب الجواز حيث لا يكون هناك
طلب جواب ومن ثم لم يخاطبه في السؤال عن حاله بل سأل غيره وفيه معاشرة الناس على قدر
عقولهم وفيه جواز قيلولة الشخص في بيت غير بيت زوجته ولو لم تكن فيه زوجته ومشروعية
القيلولة وجواز قيلولة الحاكم في بيت بعض رعيته ولو كانت امرأة وجواز دخول الرجل بيت
المرأة وزوجها غائب ولو لم يكن محرما إذا انتفت الفتنة وفيه إكرام الزائر وأن التنعم الخفيف
لا ينافي السنة وأن تشييع المزور الزائر ليس على الوجوب وفيه أن الكبير إذا زار قوما واسى
بينهم فإنه صافح أنسا ومازح أبا عمير ونام على فراش أم سليم وصلى بهم في بيتهم حتى نالوا كلهم من
بركته انتهى ما لخصته من كلامه فيما استنبط من فوائد حديث أنس في قصة أبي عمير ثم ذكر فصلا
482

في فائدة تتبع طرق الحديث فمن ذلك الخروج من خلاف من شرط في قبول الخبر أن تتعدد
طرقه فقيل لاثنين وقيل لثلاثة وقيل لأربعة وقيل حتى يستحق اسم الشهرة فكان في جميع الطرق
ما يحصل المقصود لكل أحد غالبا وفي جميع الطرق أيضا ومعرفة من رواها وكميتها العلم بمراتب
الرواة في الكثرة والقلة وفيها الاطلاع على علة الخبر بانكشاف غلط الغالط وبيان تدليس
المدلس وتوصيل المعنعن ثم قال وفيما يسره الله تعالى من جمع طرق هذا الحديث واستنباط
فوائده ما يحصل به التمييز بين أهل الفهم في النقل وغيرهم ممن لا يهتدي لتحصيل ذلك مع أن العين
المستنبط منها واحدة ولكن من عجائب اللطيف الخبير أنها تسقى بماء واحد وتفضل بعضها على
بعض في الاكل هذا آخر كلامه ملخصا وقد سبق إلى التنبيه على فوائد قصة أبي عمير بخصوصها
من القدماء أبو حاتم الرازي أحد أئمة الحديث وشيوخ أصحاب السنن ثم تلاه الترمذي في الشمائل
ثم تلاه الخطابي وجميع ما ذكروه يقرب من عشرة فوائد فقط وقد ساق شيخنا في شرح الترمذي
ما ذكره ابن القاص بتمامه ثم قال ومن هذه الأوجه ما هو واضح ومنها الخفي ومنها المتعسف
قال والفوائد التي ذكرها آخرا وأكمل بها الستين هي من فائدة جمع طرق الحديث لا من خصوص
هذا الحديث وقد بقي من فوائد هذا الحديث أن بعض المالكية والخطابي من الشافعية
استدلوا به على أن صيد المدينة لا يحرم وتعقب باحتمال ما قاله ابن القاص أنه صيد في الحل ثم
أدخل الحرم فلذلك أبيح إمساكه وبهذا أجاب مالك في المدونة ونقله ابن المنذر عن أحمد
والكوفيين ولا يلزم منه أن حرم المدينة لا يحرم صيده وأجاب ابن التين بأن ذلك كان قبل تحريم
صيد حرم المدينة وعكسه بعض الحنفية فقال قصة أبي عمير تدل على نسخ الخبر الدال على تحريم
صيد المدينة وكلا القولين متعقب وما أجاب به ابن القاص من مخاطبة من لا يميز التحقيق فيه جواز
مواجهته بالخطاب إذا فهم الخطاب وكان في ذلك فائدة ولو بالتأنيس له وكذا في تعليمه الحكم
الشرعي عند قصد تمرينه عليه من الصغر كما في قصة الحسن بن علي لما وضع التمرة في فيه قال له
كخ كخ أما علمت أنا لا نأكل الصدقة كما تقدم بسطه في موضعه ويجوز أيضا مطلقا إذا كان
القصد بذلك خطاب من حضر أو استفهامه ممن يعقل وكثيرا ما يقال للصغير الذي لا يفهم أصلا
إذا كان ظاهر الوعك كيف أنت والمراد سؤال كالفه أو حامله وذكر ابن بطال من فوائد هذا
الحديث أيضا استحباب النضح فيما لم يتيقن طهارته وفيه أن أسماء الاعلام لا يقصد معانيها وأن
إطلاقها على المسمى لا يستلزم الكذب لان الصبي لم يكن أبا وقد دعي أبا عمير وفيه جواز السجع
في الكلام إذا لم يكن متكلفا وأن ذلك لا يمتنع من النبي كما امتنع منه إنشاء الشعر وفيه إتحاف
الزائر بصنيع ما يعرف أنه يعجبه من مأكول أو غيره وفيه جواز الرواية بالمعنى لان القصة واحدة
وقد جاءت بألفاظ مختلفة وفيه جواز الاقتصار على بعض الحديث وجواز الاتيان به تارة مطولا
وتارة ملخصا وجميع ذلك يحتمل أن يكون من أنس ويحتمل أن يكون ممن بعده والذي يظهر أن
بعض ذلك منه والكثير منه ممن بعده وذلك يظهر من اتحاد المخارج واختلافها وفيه مسح رأس
الصغير للملاطفة وفيه دعاء الشخص بتصغير اسمه عند عدم الايذاء وفيه جواز السؤال عما
السائل به عالم لقولوه ما فعل النغير بعد علمه بأنه مات وفيه إكرام أقارب الخادم وإظهار المحبة لهم
لان جميع ما ذكر من صنيع النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سليم وذويها كان غالبه بواسطة خدمة
483

أنس له وقد نوزع ابن القاص في الاستدلال به على إطلاق جواز لعب الصغير بالطير فقال أبو
عبد الملك يجوز أن يكون ذلك منسوخا بالنهي عن تعذيب الحيوان وقال القرطبي الحق أن لا نسخ
بل الذي رخص فيه للصبي إمساك الطير ليلتهي به وأما تمكينه من تعذيبه ولا سيما حتى يموت
فلم يبح قط ومن الفوائد التي لم يذكرها ابن القاص ولا غيره في قصة أبي عمير أن عند أحمد في آخر
رواية عمارة بن زاذان عن ثابت عن أنس فمرض الصبي فهلك فذكر الحديث في قصة موته وما وقع
لام سليم من كتمان ذلك عن أبي طلحة حتى نام معها ثم أخبرته لما أصبح فأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم بذلك فدعا لهما فحملت ثم وضعت غلاما فأحضره أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه
وسماه عبد الله وقد تقدم شرح ذلك مستوفى في كتاب الجنائز وتأتي الإشارة إلى بعضه في باب
المعاريض قريبا وقد جزم الدمياطي في أنساب الخزرج بأن أبا عمير مات صغيرا وقال ابن الأثير
في ترجمته في الصحابة لعله الغلام الذي جرى لام سليم وأبي طلحة في أمره ما جرى وكأنه لم يستحضر
رواية عمارة بن زاذان المصرحة بذلك فذكره احتمالا ولم أر عند من ذكر أبا عمير في الصحابة له غير
قصة النغير ولا ذكروا له اسما بل جزم بعض الشراح بأن اسمه كنيته فعلى هذا يكون ذلك من
فوائد هذا الحديث وهو جعل الاسم المصدر بأب أو أم اسما علما من غير أن يكون له اسم غيره
لكن قد يؤخذ من قول أنس في رواية ربعي بن عبد الله يكنى أبا عمير أن له اسما غير كنيته وأخرج
أبو داود والنسائي وابن ماجة من رواية هشيم عن أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له حديثا
وأبو عمير هذا ذكروا أنه كان أكبر ولد أنس وذكروا أن اسمه عبد الله كما جزم به الحاكم أبو أحمد وغيره
فلعل أنسا سماه باسم أخيه لامه وكناه بكنيته ويكون أبو طلحة سمى ابنه الذي رزقه خلفا من أبي
عمير باسم أبي عمير لكنه لم يكنه بكنيته والله أعلم ثم وجدت في كتاب النساء لأبي الفرج بن الجوزي
قد أخرج في أواخره في ترجمة أم سليم من طريق محمد بن عمرو وهو أبو سهل البصري وفيه مقال عن
حفص بن عبيد الله عن أنس أن أبا طلحة زوج أم سليم كان له منها ابن يقال له حفص غلام قد
ترعرع فأصبح أبو طلحة وهو صائم في بعض شغله فذكر قصة نحو القصة التي في الصحيح بطولها في
موت الغلام ونومها مع أبي طلحة وقولها له أرأيت لو أن رجلا أعارك عارية الخ وإعلامهما النبي
صلى الله عليه وسلم بذلك ودعائه لهما وولادتها وإرسالها الولد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحنكه
وفي القصة مخالفة لما في الصحيح منها أن الغلام كان صحيحا فمات بغتة ومنها أنه ترعرع والباقي بمعناه
فعرف بهذا أن اسم أبي عمير حفص وهو وارد على من صنف في الصحابة وفي المبهمات والله أعلم ومن
النوادر التي تتعلق بقصة أبي عمير ما أخرجه الحاكم في علوم الحديث عن أبي حاتم الرازي أنه قال
حفظ الله أخانا صالح بن محمد يعني الحافظ الملقب جزرة فإنه لا يزال يبسطنا غائبا وحاضرا كتب إلي
أنه لما مات الذهلي يعني بنيسابور أجلسوا شيخا لهم يقال له محمش فأملأ عليهم حديث أنس هذا
فقال يا أبا عمير ما فعل البعير قاله بفتح عين عمير بوزن عظيم وقال بموحدة مفتوحة بدل النون وأهمل
العين بوزن الأول فصحف الاسمين معا (قلت) ومحمش هذا لقب وهو بفتح الميم الأولى وكسر الثانية
بينهما حاء مهملة ساكنة وآخره معجمة واسمه محمد بن يزيد بن عبد الله النيسابوري السلمي ذكره ابن
حبان في الثقات وقال روى عن يزيد بن هارون وغيره وكانت فيه دعابة (قوله باب
التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى) وذكر فيه قصة علي بن أبي طالب في ذلك وقد تقدمت
484

بأتم من هذا السياق في مناقبه وفيه بيان الاختلاف في سبب ذلك وأن الجمع بينهما ممتنع ثم ظهر
لي إمكان الجمع وقد ذكرته في بابه من كتاب الاستئذان وقد ثبت في حديث عبد المطلب بن ربيعة
عند مسلم في قصة طويلة أن عليا رضي الله عنه قال أنا أبو حسن وقوله في السند سليمان هو ابن
بلال وقوله عن سهل بن سعد في رواية الإسماعيلي وأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن
خالد بن مخلد شيخ البخاري فيه بهذا السند سمعت سهل بن سعد وقوله وما سماه أبو تراب إلا النبي
صلى الله عليه وسلم قال ابن التين صوابه أبا تراب (قلت) وليس الذي وقع في الأصل خطأ بل هو
موجه على الحكاية أو على جعل الكنية اسما وقد وقع في بعض النسخ أبا تراب ونبه على
اختلاف الروايات في ذلك الإسماعيلي ووقع في رواية أبي بكر المشار إليها آنفا بالنصب أيضا
وقوله إن كانت لأحب أسمائه إليه فيه إطلاق الاسم على الكنية وأنث كانت باعتبار الكنية
قال الكرماني أن مخففة من الثقيلة وكانت زائدة وأحب منصوب على أنه اسم أن وهي وأن
خففت لكن لا يوجب تخفيفها الغاءها (قلت) ولم يتعين ما قال بل كانت على حالها وأشار سهل
بذلك إلى انقضاء محبته بموته وسهل إنما حدث بذلك بعد موت علي بدهر وقال ابن التين وأنث
كانت على تأنيث الأسماء مثل وجاءت كل نفس ومثل كما شرقت صدر القناة كذا قال وما تقدم
أولى وقوله وإن كان ليفرح أن ندعوها بنون مفتوحة ودال ساكنة والواو محركة بمعنى نذكرها كذا
للنسفي ولأبي ذر عن المستملي والسرخسي ووقع في روايتنا من طريق أبي الوقت أن يدعاها وهو
بتحتانية أوله مضمومة ولسائر الرواة يدعي بها بضم أوله أي ينادي بها وهي رواية المصنف في الأدب
المفرد عن شيخه المذكور هنا بهذا الاسناد وكذا لأبي نعيم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة
وفي رواية عثمان بن أبي شيبة من خالد بن مخلد أن يدعوه بها وقوله فاضطجع إلى الجدار في المسجد
في رواية الكشميهني إلى جدار المسجد وعنه في بدل إلى وفي رواية النسفي إلى الجدار إلى المسجد
وقد تقدم في أبواب المساجد بلفظ فإذا هو راقد في المسجد وهو يقوي رواية الأكثر هنا وقوله
يتبعه بتشديد المثناة والعين مهملة وللكشميهني يبتغيه بتقديم الموحدة ثم مثناة والغين معجمة بعدها
تحتانية ويستفاد من الحديث جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية والتلقيب بلفظ الكنية وبما
يشتق من حال الشخص وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول ولو لم يكن
لفظه مدح وأن من حمل ذلك على التنقيص لا يلتفت إليه وهو كما كان أهل الشام يتنقصون
ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له ابن ذات النطاقين فيقول * تلك شكاة ظاهر عنك عارها * قال
ابن بطال وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من
الغضب وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه (قلت) ويحتمل أن يكون سبب
خروج علي خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما فحسم مادة
الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما وفيه كرم خلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
توجه نحو علي ليترضاه ومسح التراب عن ظهره ليبسطه وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من
حالته ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار
وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم لان العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك
* (تنبيه) * أخرج ابن إسحاق والحاكم من طريقه من حديث عمار أنه كان هو وعلي في غزوة العشيرة
485

فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عليا نائما وقد علاه تراب فأيقظه وقال له مالك أبا تراب ثم قال
ألا أحدثك بأشقى الناس الحديث وغزوة العشيرة كانت في أثناء السنة الثانية قبل وقعة بدر وذلك
قبل أن يتزوج على فاطمة فإن كان محفوظا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه
وسلم في حق علي والله أعلم وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال حدثني بعض أهل
العلم أن عليا كان إذا غضب على فاطمة في شئ لم يكلمها بل كان يأخذ ترابا فيضعه على رأسه وكان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عرف فيقول مالك يا أبا تراب فهذا سبب آخر يقوي التعدد
والمعتمد في ذلك كله حديث سهل في الباب والله أعلم (قوله باب أبغض
الأسماء إلى الله عز وجل) كذا ترجم بلفظ أبغض وهو بالمعنى وقد ورد بلفظ أخبث بمعجمة وموحدة
ثم مثلثة وبلفظ أغيظ وهما عند مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة ولابن أبي شيبة عن مجاهد
بلفظ أكره الأسماء ونقل ابن التين عن الداودي قال ورد في بعض الأحاديث أبغض الأسماء إلى
الله خالد ومالك قال وما أراه محفوظا لان في الصحابة من تسمى بهما قال وفي القرآن تسمية خازن
النار مالكا قال والعباد وأن كانوا يموتون فإن الأرواح لا تفنى انتهى كلامه فأما الحديث الذي
أشار إليه فما وقفت عليه بعد البحث ثم رأيت في ترجمة إبراهيم بن الفضل المدني أحد الضعفاء
من مناكيره عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رفعه أحب الأسماء إلى الله ما سمي به وأصدقها
الحرث وهمام وأكذب الأسماء خالد ومالك وأبغضها إلى الله ما سمي لغيره فلم يضبط الداودي لفظ
المتن أو هو متن آخر اطلع عليه وأما استدلاله على ضعفه بما ذكر من تسمية بعض الصحابة وبعض
الملائكة فليس بواضح لاحتمال اختصاص المنع بمن لا يملك شيئا وأما احتجاجه لجواز التسمية
بخالد بما ذكر من أن الأرواح لا تفنى فعلى تقدير التسليم فليس بواضح أيضا لان الله سبحانه وتعالى
قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد والخلد البقاء الدائم بغير موت فلا
يلزم من كون الأرواح لا تفنى أن يقال صاحب تلك الروح خالد (قوله عن أبي الزناد) في رواية
الحميدي في مسنده عن سفيان حدثنا أبو الزناد وهي عند أبي عوانة في صحيحه أيضا من طريقه
(قوله رواية) كذا في رواية علي هنا وفي رواية أحمد عن سفيان يبلغ به أخرجها مسلم وأبو داود
وعند الترمذي عن محمد بن ميمون عن سفيان مثله وكلاهما كناية عن الرفع بمعنى قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ووقع التصريح بذلك في رواية الحميدي (قوله أخني) كذا في رواية شعيب ابن
أبي حمرة للأكثر من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهو الفحش في القول ويحتمل أن
يكون من قولهم أخنى عليه الدهر أي أهلكه ووقع عند المستملي أخنع بعين مهملة وهو المشهور
في رواية سفيان بن عيينة وهو من الخنوع وهو الذل وقد فسره بذلك الحميدي شيخ البخاري عقب
روايته له عن سفيان قال أخنع أذل وأخرج مسلم عن أحمد بن حنبل قال سألت أبا عمرو الشيباني
يعني إسحق اللغوي عن أخنع فقال أوضع قال عياض معناه أنه أشد الأسماء صغارا وبنحو ذلك
فسره أبو عبيد والخانع الذليل وخنع الرجل ذل قال ابن بطال وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان
من تسمى به أشد ذلا وقد فسر الخليل أخنع بأفجر فقال الخنع الفجور يقال أخنع الرجل إلى المرأة
إذا دعاها للفجور (قلت) وهو قريب من معنى الخنا وهو الفحش ووقع عند الترمذي في آخر
الحديث أخنع أقبح وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ أنخع بتقديم النون على المعجمة وهو بمعنى أهلك
486

لان النخع الذبح والقتل الشديد وتقدم أن في رواية همام أغيظ بغين وظاء معجمتين ويؤيده أشتد
غضب الله على من زعم أنه ملك الاملاك أخرجه الطبراني ووقع في شرح شيخنا ابن الملقن أن في
بعض الروايات أفحش الأسماء ولم أرها وإنما ذكر ذلك بعض الشراح في تفسير أخنى وقوله أخنع
اسم عند الله وقال سفيان غير مرة أخنع الأسماء أي قال ذلك أكثر من مرة وهذا اللفظ يستعمل
كثيرا في إرادة الكثرة وسأذكر توجيه الروايتين (قوله عند الله) زاد أبو داود والترمذي في
روايتهما يوم القيامة وهذه الزيادة ثابتة هنا في رواية شعيب التي قبل هذه (قوله تسمى) أي سمي
نفسه أو سمي بذلك فرضي به واستمر عليه (قوله بملك الاملاك) بكسر اللام من ملك والاملاك جمع
ملك بالكسر وبالفتح وجمع مليك (قوله قال سفيان يقول غيره) أي غير أبي الزناد (قوله تفسيره
شاهان شاه) هكذا ثبت لفظ تفسيره في رواية الكشميهني ووقع عنه أحمد عن سفيان قال سفيان
مثل شاهان شاه فلعل سفيان قاله مرة نقلا ومرة من قبل نفسه وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية
محمد بن الصباح عن سفيان مثله وزاد مثل ذلك الصين وشاهان شاه بسكون النون وبهاء في آخره
وقد تنون وليس هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا وقد تعجب بعض الشراح من تفسير سفيان بن
عيينة اللفظة العربية باللفظة العجمية وأنكر ذلك آخرون وهو غفلة منهم عن مراده وذلك أن لفظ
شاهان شاه كان قد كثر التسمية به في ذلك العصر فنبه سفيان على أن الاسم الذي ورد الخبر بذمه
لا ينحصر في ملك الاملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم ويؤيد ذلك أنه وقع
عند الترمذي مثل شاهان شاه وقوله شاهان شاه هو المشهور في روايات هذا الحديث وحكى
عياض عن بعض الروايات شاه شاه بالتنوين بغير إشباع في الأولى والأصل هو الأولى وهذه
الرواية تخفيف منها وزعم بعضهم أن الصواب شاة شاهان وليس كذلك لان قاعدة العجم تقديم
المضاف إليه على المضاف فإذا أرادوا قاضي القضاة بلسانهم قالوا موبذان موبذ فموبذ هو القاضي
وموبذان جمعه فكذا شاه هو الملك وشاهان هو الملوك قال عياض استدل به بعضهم على أن
الاسم غير المسمى ولا حجة فيه بل المراد من الاسم صاحب الاسم ويدل عليه رواية همام أغيظ
رجل فكأنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ويؤيده قوله تسمى فالتقدير أن
أخنع اسم اسم رجل تسمى بدليل الرواية الأخرى وأن أخنع الأسماء واستدل بهذا الحديث على
تحريم التسمي بهذا الاسم لورود الوعيد الشديد ويلتحق به ما في معناه مثل خالق الخلق وأحكم
الحاكمين وسلطان السلاطين وأمير الامراء وقيل يلتحق به أيضا من تسمى بشئ من أسماء الله
الخاصة به كالرحمن والقدوس والجبار وهل يلتحق به من تسمى قاضي القضاة أو حاكم الحكام
اختلف العلماء في ذلك فقال الزمخشري في قوله تعالى أحكم الحاكمين أي أعدل الحكام
وأعلمهم إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل قال ورب غريق في الجهل والجور من مقلدي
زماننا قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر و استعبر وتعقبه ابن المنير بحديث
أقضاكم على قال فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض يكون أعدل القضاة أو أعلمهم
في زمانه أقضى القضاة أو يريد إقليمه أو بلده ثم تكلم في الفرق بين قاضي القضاة وأقضى القضاة
وفي اصطلاحهم على أن الأول فوق الثاني وليس من غرضنا هنا وقد تعقب كلام ابن المنير علم
الدين العراقي فصوب ما ذكره الزمخشري من المنع ورد ما احتج به من قضية علي بأن التفضيل في ذلك
487

وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لاطلاق التفضيل بالألف واللام قال
ولا يخفى ما في إطلاق ذلك من الجراءة وسوء الأدب ولا عبرة بقول من ولي القضاء فنعت بذلك فلذ في
سمعه فاحتال في الجواز فان الحق أحق أن يتبع انتهى كلامه ومن النوادر أن القاضي عز الدين
ابن جماعة قال أنه رأى أباه في المنام فسأله عن حاله فقال ما كان علي أضر من هذا الاسم فأمر
الموقعين أن لا يكتبوا له في السجلات قاضي القضاة بل قاضي المسلمين وفهم من قول أبيه أنه أشار
إلى هذه التسمية مع احتمال أنه أشار إلى الوظيفة بل هو الذي يترجح عندي فإن التسمية بقاضي
القضاة وجدت في العصر القديم من عهد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة وقد منع الماوردي من
جواز تلقيب الملك الذي كان في عصره بملك الملوك مع أن الماوردي كان يقال له أقضى القضاة وكأن
وجه التفرقة بينهما الوقوف مع الخبر وظهور إرادة العهد الزماني في القضاة وقال الشيخ أبو محمد
ابن أبي جمرة يلتحق بملك الاملاك قاضي القضاة وإن كان اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان
إطلاق ذلك على كبير القضاة وقد أسلم أهل المغرب من ذلك قاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة
قال وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شئ لان الزجر عن ملك الاملاك والوعيد عليه يقتضي
المنع منه مطلقا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها سواء كان محقا
في ذلك أم مبطلا مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا
(قوله باب كنية المشرك) أي هل يجوز ابتداء وهل إذا كانت له كنية تجوز مخاطبته
أو ذكره بها وأحاديث الباب مطابقة لهذا الأخير ويلتحق به الثاني في الحكم (قوله وقال مسور)
هو ابن مخرمة الزهري كذا للجميع الا النسفي فسقط هذا التعليق من روايته ووقع في مستخرج
أبي نعيم وقال المسور وهو الأشهر (قوله إلا أن يريد ابن أبي طالب) هذا طرف من حديث تقدم
موصولا في باب فرض الخمس (قوله وحدثنا إسماعيل) هو ابن أبي أويس وهو معطوف على السند
الذي قبله وساق المتن على لفظه وسليمان هو بن بلال وقوله عن عروة في رواية شعيب أخبرنا عروة
ابن الزبير وتقدم سياق لفظ شعيب في تفسير آل عمران مع شرح الحديث والغرض منه قوله ألم
تسمع ما قال أبو حباب بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخره موحدة وهي كنية عبد الله بن أبي
488

وكان حينئذ لم يظهر الاسلام كما هو بين من سياق الحديث وظاهر في آخره ثم ذكر حديث العباس
بن عبد المطلب قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشئ وقد تقدم شرحه في الترجمة النبوية
قبيل الاسراء وكأنه أراد بإيراده الأول لأنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهذا سمعه وأقره قال
النووي في الاذكار بعد أن قرر أنه لا تجوز تكنية الكافر الا بشرطين ذكرهما وقد تكرر في
الحديث ذكر أبي طالب واسمه عبد مناف وقال الله تعالى تبت يدا أبي لهب ثم ذكر الحديث الثاني
وقوله فيه أبو حباب قال ومحل ذلك إذا وجد فيه الشرط وهو أن لا يعرف إلا بكنيته أو خيف من
ذكر اسمه فتنة ثم قال وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فسماه باسمه ولم يكنه ولا
لقبه بلقبه وهو قيصر وقد أمرنا بالاغلاظ عليهم فلا نكنيهم ولا نلين لهم قولا ولا نظهر لهم ودا وقد
تعقب كلامه بأنه لا حصر فيما ذكر بل قصة عبد الله بن أبي في ذكره بكنيته دون اسمه وهو باسمه
أشهر ليس لخوف الفتنة فإن الذي ذكر بذلك عنده كان قويا في الاسلام فلا يخشى معه أن لو ذكر
عبد الله باسمه أن يجر بذلك فتنة وإنما هو محمول على التألف كما جزم به ابن بطال فقال فيه جواز
تكنية المشركين على وجه التألف إما رجاء إسلامهم أو لتحصيل منفعة منهم وأما تكنية أبي
طالب فالظاهر أنه من القبيل الأول وهو اشتهاره بكنيته دون اسمه وأما تكنية أبي لهب فقد أشار
النووي في شرحه إلى احتمال رابع وهو اجتناب نسبته إلى عبودية الصنم لأنه كان اسمه عبد
العزى وهذا سبق إليه ثعلب ونقله عنه ابن بطال وقال غيره إنما ذكر بكنيته دون اسمه للإشارة إلى
أنه سيصلى نارا ذات لهب قيل وإن تكنيته بذلك من جهة التجنيس لان ذلك من جملة البلاغة
أو للمجازاة أشير إلى أن الذي نفخر به في الدنيا من الجمال والولد كان سببا في خزيه وعقابه وحكى ابن
بطال عن أبي عبد الله بن أبي زمنين أنه قال كان اسم أبي لهب عبد العزي وكنيته أبو عتبة وأما أبو
لهب فلقب لقب به لان وجهه كان يتلألأ ويلتهب جمالا قال فهو لقب وليس بكنية وتعقب بأن
ذلك يقوي الاشكال الأول لان اللقب إذا لم يكن على وجه الذم للكافر لم يصلح من المسلم وأما قول
الزمخشري هذه التكنية ليست للاكرام بل للإهانة إذ هي كناية عن الجهنمي إذ معناه تبت يدا
الجهنمي فهو متعقب لان الكنية لا نظر فيها إلى مدلول اللفظ بل الاسم إذا صدر بأم أو أب فهو كنية
سلمنا لكن اللهب لا يختص بجهنم وإنما المعتمد ما قاله غيره أن النكتة في ذكره بكنيته أنه لما علم
الله تعالى أن ماله إلى النار ذات اللهب ووافقت كنيته حاله حسن أن يذكر بها وأما ما استشهد به
النووي من الكتاب إلى هرقل فقد وقع في نفس الكتاب ذكره بعظيم الروم وهو مشعر بالتعظيم
واللقب لغير العرب كالكنى للعرب وقد قال النووي في موضع آخر فرع إذا كتب إلى مشرك
كتابا وكتب فيه سلاما أو نحوه فينبغي أن يكتب كما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فذكر
الكتاب وفيه عظيم الروم وهذا ظاهره التناقض وقد جمع أبي رحمه الله في نكت له على الاذكار بأن
قوله عظيم الروم صفة لازمة لهرقل فإنه عظيمهم فاكتفى به صلى الله عليه وسلم عن قوله ملك الروم
فإنه لو كتبها لأمكن هرقل أن يتمسك بها في أنه أقره على المملكة قال ولا يرد مثل ذلك في قوله تعالى
حكاية عن صاحب مصر وقال الملك لأنه حكاية عن أمر مضى وانقضى بخلاف هرقل انتهى
وينبغي أن يضم إليه أن ذكر عظيم الروم والعدول عن ملك الروم حيث كان لا بد له من صفة تميزه
عند الاقتصار على اسمه لان من يتسمى بهرقل كثير فقيل عظيم الروم ليميز عمن يتسمى بهرقل فعلى
489

هذا فلا يحتج به على جواز الكتابة لكل ملك مشرك بلفظ عظيم قومه إلا إن احتيج إلى مثل ذلك
للتمييز وعلى عموم ما تقدم من التألف أو من خشية الفتنة يجوز ذلك بلا تقييد والله أعلم وإذا ذكر
قيصر وأنه لقب لكل من ملك الروم فقد شاركه في ذلك جماعة من الملوك ككسرى لملك الفرس
وخاقان لملك الترك والنجاشي لملك الحبشة وتبع لملك اليمن وبطليوس لملك اليونان والقطنون لملك
اليهود وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت ونمرود لملك الصابئة ودهمي لملك الهند وقور
لملك السند ويعبور لملك الصين وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير وهياج لملك الزنج وزنبيل لملك
الخزر وشاه أرمن لملك أخلاط وكابل لملك النوبة والأفشين لملك فرغانة وأسروسية وفرعون لملك
مصر والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية وجالوت لملك العمالقة ثم البربر والنعمان لملك الغرب من
قبل الفرس نقل أكثر هذا الفصل من السيرة لمغلطاي وفي بعضه نظر (قوله باب)
بالتنوين (المعاريض) وقع عند ابن التين المعارض بغير ياء وصوابه بإثبات الياء قال وثبت كذلك
في رواية أبي ذر وهو من التعريض خلاف التصريح (قوله مندوحة) بوزن مفعولة بنون
ومهملة أي فسحة ومتسع ندحت الشئ وسعته وانتدح فلان بكذا اتسع وانتدحت الغنم في
مرابضها إذا اتسعت من البطنة والمعنى أن في المعاريض من الاتساع ما يغني عن الكذب وهذه
الترجمة لفظ حديث أخرجه المصنف في الأدب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله
قال صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فما أتى عليه يوم إلا أنشدنا فيه شعرا وقال إن
في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب وأخرجه الطبري في التهذيب والطبراني في الكبير
ورجاله ثقات وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه وأخرجه أبو بكر بن كامل
في فوائده والبيهقي في الشعب من طريقه كذلك وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي مرفوعا
بسند واه أيضا وللمصنف في الأدب المفرد من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال أما في
المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب والمعاريض والمعارض بإثبات الياء أو بحذفها كما تقدم جمع
معراض من التعريض بالقول قال الجوهري هو خلاف التصريح وهو التورية بالشئ عن الشئ
وقال الراغب التعريض كلام له وجهان في صدق وكذب أو باطن وظاهر (قلت) والأولى أن
يقال كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه ومما يكثر السؤال عنه الفرق بين التعريض
والكناية وللشيخ تقي الدين السبكي جزء جمعه في ذلك (قوله وقال إسحق) هو ابن أبي طلحة
التابعي المشهور وهذا التعليق سقط من رواية النسفي وهو طرف من حديث طويل أخرجه
المصنف في الجنائز وشاهد الترجمة من قول أم سليم هدأ نفسه وأرجو أن قد استراح فإن أبا
طلحة فهم من ذلك أن الصبي المريض تعافى لان قولها هدأ مهموز بوزن سكن ومعناه والنفس
بفتح الفاء مشعر بالنوم والعليل إذا نام أشعر بزوال مرضه أو خفته وارادت هي أنه انقطع بالكلية
بالموت وذلك قولها وأرجو أنه استراح فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية ومرادها أنه
استراح من نكد الدنيا وألم المرض فهي صادقة باعتبار مرادها وخبرها بذلك غير مطابق للامر
الذي فهمه أبو طلحة فمن ثم قال الراوي وظن أنها صادقة أي باعتبار ما فهم هو ثم ذكر حديث
أنس في قصة أنجشة وقد تقدم شرحه في باب ما يجوز من الشعر والمراد منه قوله رفقا بالقوارير
فإنه كني بذلك عن النساء كما تقدم تقريره هناك وحديث أنس في فرس أبي طلحة والمراد منه
490

أنا وجدناه لبحرا أي لسرعة جريه وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد وكأنه استشهد بحديثي
أنس لجواز التعريض والجامع بين التعريض وبين ما دل عليه استعمال اللفظ في غير ما وضع
له لمعنى جامع بينهما قال ابن المنير حديث القوارير والفرس ليسا من المعاريض بل من
المجاز فكأنه لما رأى ذلك جائزا قال فالمعاريض التي هي حقيقة أولى بالجواز قال ابن بطال
شبه جرى الفرس بالبحر إشارة إلى أنه لا ينقطع يعني ثم أطلق صفة الجري على نفس الفرس مجازا
قال وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض ومحل الجواز فيما يخلص من الظلم أو يحصل
الحق وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز وأخرج الطبري
من طريق محمد بن سيرين قال كان رجل من باهلة عيونا أي كثير الإصابة بالعين فرأى بغلة لشريح
فأعجب بها فخشي شريح عليها فقال إنها إذا ربضت لا تقوم حتى تقام فقال أف أف فسلمت منه
وإنما أراد شريح بقوله حتى تقام أي حتى يقيمها الله تعالى (قوله باب قول الرجل
للشئ ليس بشئ وهو ينوي أنه ليس بحق) ذكر فيه حديثين * الأول (قوله وقال ابن عباس
قال النبي صلى الله عليه وسلم للقبرين يعذبان بلا كبير وأنه لكبير) وهذا طرف من حديث تقدم
في كتاب الطهارة وتقدم شرحه أيضا وتقدم أيضا في باب النميمة من الكبائر من كتاب الأدب بلفظ
وما يعذبان في كبير وأنه لكبير * الثاني حديث عائشة في الكهان ليسوا بشئ وقد تقدم شرحه
في أواخر كتاب الطب قال الخطابي معنى قوله ليسوا بشئ فيما يتعاطونه من علم الغيب أي ليس
قولهم بشئ صحيح يعتمد كما يعتمد قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخبر عن الوحي وهو كما يقال لمن
عمل عملا غير متقن أو قال قولا غير سديد ما علمت أو ما قلت شيئا وقال ابن بطال نحوه وزاد إنهم
يريدون بذلك المبالغة في النفي وليس ذلك كذبا وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى هل أتى
على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا والمراد بالذكر هنا القدر والشرف أي كان موجودا
ولكن لم يكن له قدر يذكر به إما وهو مصور من طين على قول من قال المراد به آدم أو في بطن أمه
على قول من قال أن المراد به الجنس (قوله باب رفع البصر إلى السماء وقوله تعالى
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) كذا لأبي ذر وزاد وزاد الأصيلي وغيره وإلى السماء كيف رفعت
وهذا القدر هو المراد من الترجمة وكأن المصنف أشار إلى ما جاء في النهي عن ذلك وقال ابن التين
غرض البخاري الرد على من كره أن يرفع بصره إلى السماء كما أخرجه الطبري عن إبراهيم التيمي
وعن عطاء السلمي أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء تخشعا نعم صح النهي عن رفع البصر
إلى السماء في حالة الصلاة كما تقدم في الصلاة عن أنس رفعه ما بال أقوام يرفعون أبصارهم
إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ولمسلم
عن جابر بن سمرة نحوه ولابن ماجة عن ابن عمر نحوه وقال أن تلتمع وصححه ابن حبان وحاصل
طريق الجمع بين الحديثين أن النهي خاص بحالة الصلاة وقد تكلم أهل التفسير في تخصيص الإبل
بالذكر دون غيرها من الدواب بأشياء امتازت به وذكر بعضهم أنه اسم السحاب فإن ثبت فمناسبتها
للسماء والأرض ظاهرة فكأنه ذكر شيئين من الأفق العلوي وشيئين من الأفق السفلي في كل
منهما ما يعتبر به من وفقه الله تعالى إلى الحق (قوله وقال أيوب) هو السختياني (عن ابن أبي
مليكة عن عائشة رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء) وقع هذا التعليق لأبي ذر عن
491

المستملي والكشميهني فقط وسقط للباقين وهو طرف من حديث أوله مات رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بيتي ويومي وبين سحري ونحري الحديث وفيه فرفع بصره إلى السماء وقال الرفيق
الاعلى أخرجه هكذا أحمد عن إسماعيل بن علية عن أيوب وأخرجه ابن حبان من وجه آخر عن
إسماعيل وقد تقدم للمصنف في الوفاة النبوية من طريق حماد بن زيد عن أيوب بتمامه لكن فيه
فرفع رأسه إلى السماء وقد تقدم شرحه مستوفى هناك ثم ذكر حديث جابر في فترة الوحي والغرض
منه قوله فرفعت بصري إلى السماء وقد تقدم شرحه في أول الكتاب وحديث ابن عباس بت
في بيت ميمونة والغرض منه قوله فنظر إلى السماء وقد تقدم بتمامه مشروحا في باب التهجد في
أواخر كتاب الصلاة وفي الباب حديث أبي موسى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يرفع
بصره إلى السماء الحديث أخرجه مسلم وحديث عبد الله بن سلام كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع بصره إلى السماء أخرجه أبو داود فحاصل طريق الجمع أن
النهي خاص بحالة الصلاة والله أعلم (قوله باب من نكت العود في الماء
والطين) النكت بالنون والمثناة الضرب المؤثر ذكر فيه حديث أبي موسى في قصة القف وقد
تقدم شرحه في المناقب وهو ظاهر فيما ترجم له وأورده هنا بلفظ عود يضرب به بين الماء والطين
وفي رواية الكشميهني في الماء والطين وأورده بلفظ ينكت في مناقب أبي بكر الصديق وعثمان بن
غياث المذكور في السند بكسر الغين المعجمة ثم تحتانية خفيفة وآخره مثلثة وحكى الكرماني أنه
وقع في بعض النسخ يحيى بن عثمان وهو غلط قال ابن بطال من عادة العرب إمساك العصا
والاعتماد عليها عند الكلام وغيره وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم وفي استعمال
النبي صلى الله عليه وسلم له الحجة البالغة وكأن المراد بالعود هنا المخصرة التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يتوكأ عليها وليس مصرحا به في هذا الحديث (قلت) وفقه الترجمة أن ذلك لا يعد من
العبث المذموم لان ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشئ ثم لا يستعمله فيما لا يضر تأثيره
فيه بخلاف من يتفكر وفي يده سكين فيستعملها في خشبة تكون في البناء (1) الذي فيها فسادا
فذاك هو العبث المذموم (قوله باب الرجل ينكت الشئ بيده في الأرض) ذكر
فيه حديث علي بن أبي طالب اعملوا فكل ميسر لما خلق له وسيأتي شرحه في كتاب القدر ومضى
الحديث بأتم من هذا السياق في تفسير سورة والليل والغرض منه قوله ينكت في الأرض بعود
وقوله في السند شعبة عن سليمان هو الأعمش ومنصور هو ابن المعتمر وقد أخرجه الإسماعيلي
عن عمران بن موسى عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه فقال عن الأعمش وذهل الكرماني حيث
زعم أن سليمان هو التيمي (قوله باب التكبير والتسبيح عند التعجب) قال ابن
492

بطال التسبيح والتكير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء واستعمال ذلك عند التعجب
واستعظام الامر حسن وفيه تمرين اللسان على ذكر الله تعالى وهذا توجيه جيد كأن البخاري رمز
إلى الرد على من منع من ذلك وذكر المصنف فيه حديث صفية بنت حي في قصة الرجلين اللذين
قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنها صفية فقالا سبحان الله أورده من طريق
شعيب بن أبي حمزة ومن طريق ابن أبي عتيق وساقه على لفظ ابن أبي عتيق وقد تقدم شرحه في
الاعتكاف وقوله العشر الغوابر بالغين ثم الموحدة المراد بها هنا البواقي وقد تطلق أيضا على
المواضي وهو من الأضداد وهو مطابق لما ترجم له لأن الظاهر أن مرادهما بقولهما سبحان الله
التعجب من القول المذكور بقرينة قوله وكبر عليهما أي عظم وشق وقوله يقذف في قلوبكما كذا
هنا بحذف المفعول وقد سبق في الاعتكاف بلفظ في قلوبكما شرا وحديث أم سلمة استيقظ النبي
صلى الله عليه وسلم فقال ماذا أنزل من الفتن وقد تقدم بعض شرحه في العلم وتأتي بقيته في الفتن
وقوله من الخزائن قيل عبر بها عن الرحمة كقوله خزائن رحمة ربي كما عبر بالفتن عن العذاب لأنها
أسباب مؤدية إليه أو المراد بالخزائن إعلامه بما سيفتح على أمته من الأموال بالغنائم من البلاد
التي يفتحونها وأن الفتن تنشأ عن ذلك فهو من جملة ما أخبر به مما وقع قبل وقوعه وقد تعرض له
البيهقي في دلائل النبوة (قوله وقال ابن أبي ثور) هو عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث عمر
حيث قال أطلقت نساءك قال لا قلت الله أكبر وهو طرف من حديث طويل تقدم موصولا
في كتاب العلم وتقدم شرحه في كتاب النكاح وقد وردت عدة أحاديث صحيحة في قول سبحان الله
عند التعجب كحديث أبي هريرة لقيني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا جنب وفيه فقال سبحان الله
إن المؤمن لا ينجس متفق عليه وحديث عائشة أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن
غسلها من المحيض وفيه قال تطهري بها قالت كيف قال سبحان الله الحديث متفق عليه وعند
مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي نذرت أن تنحر ناقة النبي صلى الله عليه وسلم
فقال سبحان الله بئسما جزيتها وكلاهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين أيضا من
قول جماعة من الصحابة كحديث عبد الله بن سلام لما قيل له إنك من أهل الجنة قال سبحان الله
ما ينبغي لاحد أن يقول ما لا يعلم * (تنبيه) * وقع في حديث صفية في رواية غير أبي ذر مؤخرا
آخر هذا الباب والخطب فيه سهل ووقع في شرح ابن بطال إيراد حديث صفية المذكور عقب
حديث علي في الباب الذي قبله متصلا به ثم استشكل مطابقته للترجمة وقال سألت المهلب عنه
فقال إنما أورده لحديث علي حيث قال فيه ليس منكم أحد إلا وقد فرغ من مقعده من الجنة والنار
فقواه بحديث أم سلمة أشار إلى أن أقوى أسباب النار الفتن والعصبية فيها والتقاتل على المال
وما يفتح من الخزائن اه‍ ولم أقف في شئ من نسخ البخاري على وفق ما نقل ابن بطال وإنما وقع
حديث أم سلمة في باب التسبيح والتكبير للتعجب وهو ظاهر فيما ترجم له مستغن عن التكلف
والجواب المذكور لا يفيد مطابقة الحديث للترجمة وإنما هو مطابق لحديث الترجمة فيما لا يتعلق
بالترجمة (قوله باب النهي عن الحذف) بفتح المعجمة 2 وسكون الدال المهملة بعدها
فاء تقدم بيانه وشرح الحديث في كتاب الصيد والذبائح (قوله باب الحمد للعاطس)
493

أي مشروعيته وظاهر الحديث يقتضي وجوبه لثبوت الامر الصريح به ولكن نقل النووي
الاتفاق على استحبابه وأما لفظه فنقل ابن بطال وغيره عن طائفة أنه لا يزيد على الحمد لله كما
في حديث أبي هريرة الآتي بعد بابين وعن طائفة يقول الحمد لله على كل حال قال وقد جاء النهي
عن ابن عمر وقال فيه هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البزار والطبراني وأصله عند
الترمذي وعند الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري رفعه إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على
كل حال ومثله عند أبي داود من حديث أبي هريرة كما سيأتي التنبيه عليه وللنسائي من حديث
علي رفعه يقول العاطس الحمد لله على كل حال ولابن السني من حديث أبي أيوب مثله ولأحمد
والنسائي من حديث سالم بن عبيد رفعه إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال أو الحمد لله
رب العالمين وعن طائفة يقول الحمد لله رب العالمين (قلت) ورد ذلك في حديث لابن مسعود
أخرجه المصنف في الأدب المفرد والطبراني وورد الجمع بين اللفظين فعنده في الأدب المفرد عن علي
قال من قال عند عطسة سمعها الحمد لله رب العالمين على كل حال ما كان لم يجد وجع الضرس ولا
الاذن أبدا وهذا موقوف رجاله ثقات ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع وقد أخرجه
الطبراني من وجه آخر عن علي مرفوعا بلفظ من بادر العاطس بالحمد عوفي من وجع الخاصرة
ولم يشتك ضرسه أبدا وسنده ضعيف وللمصنف أيضا في الأدب المفرد والطبراني بسند لا بأس به
عن ابن عباس قال إذا عطس الرجل فقال الحمد لله قال الملك رب العالمين فإن قال رب العالمين
قال الملك يرحمك الله وعن طائفة ما زاد من الثناء فيما يتعلق بالحمد كان حسنا فقد أخرج
أبو جعفر الطبري في التهذيب بسند لا بأس به عن أم سلمة قالت عطس رجل عند النبي صلى الله
عليه وسلم فقال الحمد لله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك الله وعطس آخر فقال الحمد لله
رب العالمين حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه فقال ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة ويؤيده
ما أخرجه الترمذي وغيره من حديث رفاعة بن رافع قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم
فعطست فقلت الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما انصرف
قال من المتكلم ثلاثا فقلت أنا فقال والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم
يصعد بها وأخرجه الطبراني وبين أن الصلاة المذكورة المغرب وسنده لا بأس به وأصله في صحيح
البخاري لكن ليس فيه ذكر العطاس وإنما فيه كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه
من الركعة قال سمع الله لمن حمده فقال رجل وراءه ربنا لك الحمد إلى آخره بنحوه وقد تقدم في
صفة الصلاة بشرحه ولمسلم وغيره من حديث أنس جاء رجل فدخل في الصف وقد حفزه النفس
فقال الله أكبر الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه الحديث وفيه لقد رأيت اثني عشر ملكا
يبتدرونها أيهم يرفعها وأخرج الطبراني وابن السني من حديث عامر بن ربيعة نحوه بسند
لا بأس به وأخرج ابن السني بسند ضعيف عن أبي رافع قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعطس فخلى يدي ثم قام فقال شيئا لم أفهمه فسألته فقال أتاني جبريل فقال إذا أنت عطست
فقل الحمد لله لكرمه الحمد لله لعز جلاله فإن الله عز وجل يقول صدق عبدي ثلاثا مغفورا له
وأما الثناء الخارج عن الحمد فورد فيه ما أخرجه البيهقي في الشعب من طريق الضحاك بن قيس
اليشكري قال عطس رجل عند ابن عمر فقال الحمد لله رب العالمين فقال ابن عمر لو تممتها والسلام
494

على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه ويعارضه ما أخرجه
الترمذي قال عطس رجل فقال الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر
الحمد لله والصلاة على رسول الله ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي
غريب لا نعرفه إلا من رواية زياد بن الربيع (قلت) وهو صدوق قال البخاري وفيه نظر وقال
ابن عدي لا أرى به بأسا ورجح البيهقي ما تقدم على رواية زياد والله أعلم ولا أصل لما اعتاده كثير
من الناس من استكمال قراءة الفاتحة بعد قوله الحمد لله رب العالمين وكذا العدول عن الحمد
إلى أشهد أن لا إله إلا الله أو تقديمها على الحمد فمكروه وقد أخرج المصنف في الأدب المفرد بسند
صحيح عن مجاهد أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال أب فقال وما أب ان الشيطان جعلها بين
العطسة والحمد وأخرجه ابن أبي شيبة بلفظ اش بدل أب ونقل ابن بطال عن الطبراني أن
العاطس يتخير بين أن يقول الحمد لله أو يزيد رب العالمين أو على كل حال والذي يتحرر من الأدلة
أن كل ذلك مجزئ لكن ما كان أكثر ثناء أفضل بشرط أن يكون مأثورا وقال النووي في الاذكار
اتفق العلماء على أنه يستحب للعاطس أن يقول عقب عطاسه الحمد لله ولو قال الحمد لله رب العالمين
لكان أحسن فلو قال الحمد لله على كل حال كان أفضل كذا قال والاخبار التي ذكرتها تقتضي
التخيير ثم الأولوية كما تقدم والله أعلم (قوله حدثنا سفيان) هو الثوري وسليمان هو التيمي
(قوله عن أنس) في رواية شعبة عن سليمان التيمي سمعت أنسا (قوله عطس) بفتح الطاء
في الماضي وبكسرها وضمها في المضارع (قوله رجلان) في حديث أبي هريرة عند المصنف
في الأدب المفرد وصححه ابن حبان أحدهما أشرف من الآخر وأن الشريف لم يحمد وللطبراني
من حديث سهل بن سعد أنهما عامر بن الطفيل وابن أخيه (قوله فشمت) بالمعجمة وللسرخسي
بالمهملة ووقع في رواية أحمد عن يحيى القطان عن سليمان التيمي فشمت أو سمت بالشك في المعجمة
أو المهملة وهو من التشميت قال الخليل وأبو عبيد وغيرهما يقال بالمعجمة وبالمهملة وقال ابن
الأنباري كل داع بالخير مشمت بالمعجمة وبالمهملة والعرب تجعل الشين والسين في اللفظ الواحد بمعنى
اه‍ وهذا ليس مطردا بل هو في مواضع معدودة وقد جمعها شيخنا مجد الدين الشيرازي صاحب
القاموس في جزء لطيف قال أبو عبيد التشميت بالمعجمة أعللا و أكثر وقال عياض هو كذلك
للأكثر من أهل العربية وفي الرواية وقال ثعلب الاختيار أنه بالمهملة لأنه مأخوذ من السمت
وهو القصد والطريق القويم وأشار ابن دقيق العيد في شرح الالمام إلى ترجيحه وقال القزاز
التشميت التبريك والعرب تقول شمته إذا دعا له بالبركة وشمت عليه إذا برك عليه وفي الحديث في
قصة تزويج علي بفاطمة شمت عليهما إذا دعا لهما بالبركة ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك
قال التسميت بالمهملة أفصح وهو من سمت الإبل في المرعى إذا جمعت فمعناه على هذا جمع الله شملك
وتعقبه بأن سمت الإبل إنما هو بالمعجمة وكذا نقله غير واحد أنه بالمعجمة فيكون معنى سمته دعا له
بأن يجمع شمله وقيل هو بالمعجمة من الشماتة وهو فرح الشخص بما يسوء عدوه فكأنه دعا له أن
لا يكون في حال من يشمت به أو أنه إذا حمد الله أدخل على الشيطان ما يسوؤه فشمت هو بالشيطان
وقيل هو من الشوامت جمع شامتة وهي القائمة يقال لا ترك الله له شامتة أي قائمة وقال ابن
العربي في شرح الترمذي تكلم أهل اللغة على اشتقاق اللفظين ولم يبينوا المعنى فيه وهو بديع
495

وذلك أن العاطس ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق ونحوه فكأنه إذا قيل له رحمك
الله كان معناه أعطاه الله رحمة يرجع بها بذلك إلى حاله قبل العطاس ويقيم على حاله من غير تغيير
فإن كان التسميت بالمهملة فمعناه رجع كل عضو إلى سمته الذي كان عليه وإن كان بالمعجمة فمعناه صان
الله شوامته أي قوائمه التي بها قوام بدنه عن خروجها عن الاعتدال قال وشوامت كل شئ قوائمه
التي بها قوامه فقوام الدابة بسلامة قوائمها التي ينتفع بها إذا سلمت وقوام الآدمي بسلامة قوائمه
التي بها قوامه وهي رأسه وما يتصل به من عنق وصدر اه‍ ملخصا (قوله فقيل له) السائل عن
ذلك هو العاطس الذي لم يحمد وقع كذلك في حديث أبي هريرة المشار إليه بلفظ فسأله الشريف
وكذا في رواية شعبة الآتية بعد بابين بلفظ فقال الرجل يا رسول الله شمت هذا ولم تشمتني وهذا قد
يعكر على ما في حديث سهل بن سعد أن الشريف المذكور هو عامر بن الطفيل فإنه كان كافرا ومات
على كفره فيبعد أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يا رسول الله ويحتمل أن يكون قالها غير
معتقد بل باعتبار ما يخاطبه المسلمون ويحتمل أن يكون القصة لعامر بن الطفيل المذكور ففي
الصحابة عامر بن الطفيل الأسلمي له ذكر في الصحابة وحديث رواه عنه عبد الله بن بريدة الأسلمي
حدثني عمي عامر بن الطفيل وفي الصحابة أيضا عامر بن الطفيل الأزدي ذكره وثيمة في كتاب الردة
وورد له مرثية في النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في سياق حديث سهل بن سعد ما يدل على
أنه عامر المشهور احتمل أن يكون أحد هذين ثم راجعت معجم الطبراني فوجدت في سياق حديث
سهل بن سعد الدلالة الظاهرة على أنه عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب الفارس المشهور
وكان قدم المدينة وجرى بينه وبين ثابت بن قيس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كلام ثم عطس
ابن أخيه فحمد فشمته النبي صلى الله عليه وسلم ثم عطس عامر فلم يحمد فلم يشمته فسأله الحديث
وفيه قصة غزوة بئر معونة وكان هو السبب فيها ومات عامر بن الطفيل بعد ذلك كافرا في قصة له
مشهورة في موته ذكرها ابن إسحاق وغيره (قوله هذا حمد الله وهذا لم يحمد) في حديث أبي هريرة
إن هذا ذكر الله فذكرته وأنت نسيت الله فنسيتك وقد تقدم أن النسيان يطلق ويراد به الترك
قال الحليمي الحكمة في مشروعية الحمد للعاطس أن العطاس يدفع الأذى من الدماغ الذي فيه قوة
الفكر ومنه منشأ الأعصاب التي هي معدن الحس وبسلامته تسلم الأعضاء فيظهر بهذا أنها نعمة
جليلة فناسب أن تقابل بالحمد لله لما فيه من الاقرار لله بالخلق والقدرة وإضافة الخلق إليه لا إلى
الطبائع اه‍ وهذا بعض ما ادعى ابن العربي أنه انفرد به فيحتمل أنه لم يطلع عليه وفي الحديث أن
التشميت إنما يشرع لمن حمد الله قال ابن العربي وهو مجمع عليه وسيأتي تقريره في الباب الذي
بعده وفيه جواز السؤال عن علة الحكم وبيانها للسائل ولا سيما إذا كان له في ذلك منفعة وفيه
أن العاطس إذا لم يحمد الله لا يلقن الحمد ليحمد فيشمت كذا استدل به بعضهم وفيه نظر وسيأتي
البحث فيه بعد ثالث باب ومن آداب العاطس أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد وأن يغطي
وجهه لئلا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه ولا يلوي عنقه يمينا ولا شمالا لئلا يتضرر بذلك
قال ابن العربي الحكمة في خفض الصوت بالعطاس إن في رفعه إزعاجا للأعضاء وفي تغطية الوجه
أنه لو بدر منه شئ آذى جليسه ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء وقد شاهدنا من وقع
له ذلك وقد أخرج أبو داود والترمذي بسند جيد عن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم
496

إذا عطس وضع يده على فيه وخفض صوته وله شاهد من حديث ابن عمر بنحوه عند الطبراني قال
ابن دقيق العيد ومن فوائد التشميت تحصيل المودة والتأليف بين المسلمين وتأديب العاطس بكسر
النفس عن الكبر والحمل على التواضع لما في ذكر الرحمة من الاشعار بالذنب الذي لا يعرى عنه أكثر
المكلفين (قوله باب تشميت العاطس إذا حمد الله) أي مشروعية التشميت
بالشرط المذكور ولم يعين الحكم وقد ثبت الامر بذلك كما في حديث الباب قال ابن دقيق العيد
ظاهر الامر الوجوب ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه فحق على كل مسلم
سمعه أن يشمته وفي حديث أبي هريرة عند مسلم حق المسلم على المسلم ست فذكر فيها وإذا عطس
فحمد الله فشمته وللبخاري من وجه آخر عن أبي هريرة خمس تجب للمسلم على المسلم فذكر منها
التشميت وهو عند مسلم أيضا وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى إذا عطس أحدكم فليقل الحمد
لله وليقل من عنده يرحمك الله ونحوه عند الطبراني من حديث أبي مالك وقد أخذ بظاهرها ابن
مزين من المالكية وقال به جمهور أهل الظاهر وقال ابن أبي جمرة قال جماعة من علمائنا إنه فرض
عين وقواه ابن القيم في حواشي السنن فقال جاء بلفظ الوجوب الصريح وبلفظ الحق الدال عليه
وبلفظ على الظاهرة فيه وبصيغة الامر التي هي حقيقة فيه وبقول الصحابي أمرنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال ولا ريب أن الفقهاء أثبتوا وجوب أشياء كثيرة بدون مجموع هذه الأشياء وذهب
آخرون إلى أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ورجحه أبو الوليد بن رشد وأبو بكر
ابن العربي وقال به الحنفية وجمهور الحنابلة وذهب عبد الوهاب وجماعة من المالكية إلى أنه
مستحب ومجزئ الواحد عن الجماعة وهو قول الشافعية والراجح من حيث الدليل القول الثاني
والأحاديث الصحيحة الدالة على الوجوب لا تنافي كونه على الكفاية فإن الامر بتشميت العاطس
وإن ورد في عموم المكلفين ففرض الكفاية يخاطب به الجميع على الأصح ويسقط بفعل البعض
وأما من قال إنه فرض على مبهم فإنه ينافي كونه فرض عين (قوله فيه أبو هريرة) يحتمل أن يريد به
حديث أبي هريرة المذكور في الباب الذي بعده ويحتمل أن يريد به حديث أبي هريرة الذي أوله
حق المسلم على المسلم ست وقد أشرت إليه قبل وأن مسلما أخرجه ثم ذكر المصنف حديث البراء
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز
وتشميت العاطس الحديث وقد تقدم شرح معظمه في كتاب اللباس قال ابن بطال ليس
في حديث البراء التفصيل الذي في الترجمة وإنما ظاهره أن كل عاطس يشمت على التعميم قال
وإنما التفصيل في حديث أبي هريرة الآني قال وكان ينبغي له أن يذكره بلفظه في هذا الباب ويذكر
بعده حديث البراء ليدل على أن حديث البراء وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص
ببعض العاطسين وهم الحامدون قال وهذا من الأبواب التي أعجلته المنية عن تهذيبها كذا قال
والواقع أن هذا الصنيع لا يختص بهذه الترجمة بل قد أكمل منه البخاري في الصحيح فطالما ترجم
بالتقييد والتخصيص كما في حديث الباب من إطلاق أو تعميم ويكتفي من دليل التقييد
والتخصيص بالإشارة إما لما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده أو في حديث آخر كما صنع
في هذا الباب فإنه أشار بقوله فيه أبو هريرة إلى ما ورد في حديثه من تقييد الامر بتشميت العاطس
بما إذا حمد وهذا أدق التصرفين ودل إكثاره من ذلك على أنه عن عمد منه لا أنه مات قبل تهذيبه
497

بل عد العلماء ذلك من دقيق فهمه وحسن تصرفه في إيثار الأخفى على الاجلى شحذا للذهن
وبعثا للطالب على تتبع طرق الحديث إلى غير ذلك من الفوائد وقد خص من عموم الامر بتشميت
العاطس جماعة الأول من لم يحمد كما تقدم وسيأتي في باب مفرد الثاني الكافر فقد أخرج أبو
داود وصححه الحاكم من حديث أبي موسى الأشعري قال كانت اليهود يتعاطسون عند النبي صلى
الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم قال ابن دقيق العيد
إذا نظرنا إلى قول من قال من أهل اللغة أن التشميت الدعاء بالخير دخل الكفار في عموم الامر
بالتشميت وإذا نظرنا إلى من خص التشميت بالرحمة لم يدخلوا قال ولعل من خص التشميت بالدعاء
بالرحمة بناء على الغالب لأنه تقييد لوضع اللفظ في اللغة (قلت) وهذا البحث أنشأه من حيث
اللغة وأما من حيث الشرع فحديث أبي موسى دال على أنهم يدخلون في مطلق الامر بالتشميت
لكن لهم تشميت مخصوص وهو الدعاء لهم بالهداية وإصلاح البال وهو الشأن ولا مانع من ذلك
بخلاف تشميت المسلمين فإنهم أهل للدعاء بالرحمة بخلاف الكفار الثالث المزكوم إذا تكرر منه
العطاس فزاد على الثلاث فإن ظاهر الامر بالتشميت يشمل من عطس واحدة أو أكثر لكن أخرج
البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال يشمته
واحدة وثنتين وثلاثا وما كان بعد ذلك فهو زكام هكذا أخرجه موقوفا من رواية سفيان بن عيينة
عنه وأخرجه أبو داود من طريق يحيى القطان عن ابن عجلان كذلك لفظه شمت أخاك وأخرجه
من رواية الليث عن ابن عجلان وقال فيه لا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود
ورفعه موسى بن قيس عن ابن عجلان أيضا وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رفعه ان
عطس شمته ثم إن عطس فشمته ثم إن عطس فقل إنك مضنوك قال ابن أبي بكر لا أدري بعد
الثالثة أو الرابعة وهذا مرسل جيد وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن
أبيه قال فشمته ثلاثا فما كان بعد ذلك فهو زكام وأخرج ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن
العاص شمتوه ثلاثا فإن زاد فهو داء يخرج من رأسه موقوف أيضا ومن طريق عبد الله بن الزبير
أن رجلا عطس عنده فشمته ثم عطس فقال له في الرابعة أنت مضنوك موقوف أيضا ومن طريق
عبد الله بن عمر مثله لكن قال في الثالثة ومن طريق علي بن أبي طالب شمته ما بينك وبينه ثلاث فإن
زاد فهو ربح وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن قتادة يشمت العاطس إذا تتابع عليه العطاس
ثلاثا قال النووي في الاذكار إذا تكرر العطاس متتابعا فالسنة أن يشمته لكل مرة إلى أن يبلغ
ثلاث مرات روينا في صحيح مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع أنه سمع النبي صلى الله
عليه وسلم وعطس عنده رجل فقال له يرحمك الله ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم الرجل مزكوم هذا لفظ رواية مسلم وأما أبو داود والترمذي فقالا قال سلمة عطس رجل
عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمك الله ثم عطس
الثانية أو الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحمك الله هذا رجل مزكوم اه‍ كلامه
ونقلته من نسخة عليها خطه بالسماع عليه والذي نسبه إلى أبي داود والترمذي من إعادة قوله صلى
الله عليه وسلم للعاطس يرحمك الله ليس في شئ من نسخهما كما سأبينه فقد أخرجه أيضا أبو عوانة
وأبو نعيم في مستخرجيهما والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد وابن أبي شيبة وابن السني وأبو
498

نعيم أيضا في عمل اليوم والليلة وابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب كلهم من رواية عكرمة بن
عمار عن إياس بن سلمة عن أبيه وهو الوجه الذي أخرجه منه مسلم وألفاظهم متفاوتة وليس عند
أحد منهم إعادة يرحمك الله في الحديث وكذلك ما نسبه إلى أبي داود والترمذي أن عندهما ثم
عطس الثانية أو الثالثة فيه نظر فإن لفظ أبي داود أن رجلا عطس والباقي مثل سياق مسلم سواء
إلا أنه لم يقل أخرى ولفظ الترمذي مثل ما ذكره النووي إلى قوله ثم عطس فإنه ذكره بعده مثل أبي
داود سواء وهذه رواية ابن المبارك عنده وأخرجه من رواية يحيى القطان فأحال به على رواية ابن
المبارك فقال نحوه إلا أنه قال له في الثانية أنت مزكوم وفي رواية شعبة قال يحيى القطان وفي
رواية عبد الرحمن بن مهدي قال له في الثالثة أنت مزكوم وهؤلاء الأربعة رووه عن عكرمة بن
عمار وأكثر الروايات المذكورة ليس فيها تعرض للثالثة ورجح الترمذي رواية من قال في الثالثة
على رواية من قال في الثانية وقد وجدت الحديث من رواية يحيى القطان يوافق ما ذكره النووي
وهو ما أخرجه قاسم بن أصبغ في مصنفه وابن عبد البر من طريقه قال حدثنا محمد بن عبد السلام
حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى القطان حدثنا عكرمة فذكره بلفظ عطس رجل عند النبي صلى
الله عليه وسلم فشمته ثم عطس فشمته ثم عطس فقال له في الثالثة أنت مكزوم هكذا رأيت فيه
ثم عطس فشمته وقد أخرجه الإمام أحمد عن يحيى القطان ولفظه ثم عطس الثانية والثالثة
فقال النبي صلى الله عليه وسلم الرجل مكزوم وهذا اختلاف شديد في لفظ هذا الحديث لكن
الأكثر على ترك ذكر التشميت بعد الأولى وأخرجه ابن ماجة من طريق وكيع عن عكرمة بلفظ
آخر قال يشمت العاطس ثلاثا فما زاد فهو مزكوم وجعل الحديث كله من لفظ النبي صلى الله
عليه وسلم وأفاد تكرير التشميت وهي رواية شاذة لمخالفة جميع أصحاب عكرمة بن عمار في سياقه
ولعل ذلك من عكرمة المذكور لما حدث به وكيعا فإن في حفظه مقالا فإن كانت محفوظة فهو
شاهد قوي لحديث أبي هريرة ويستفاد منه مشروعية تشميت العاطس ما لم يزد على ثلاث إذا
حمد الله سواء تتابع عطاسه أم لا فلو تتابع ولم يحمد لغلبة العطاس عليه ثم كرر الحمد بعدد
العطاس فهل يشمت بعدد الحمد فيه نظر وظاهر الخبر نعم وقد أخرج أبو يعلى وابن السني من
وجه آخر عن أبي هريرة النهي عن التشميت بعد ثلاث ولفظه إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه
فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمته بعد ثلاث قال النووي فيه رجل لم أتحقق حاله وباقي
إسناده صحيح (قلت) الرجل المذكور هو سليمان بن أبي داود الحراني والحديث عندهما من رواية
محمد بن سليمان عن أبيه ومحمد موثق وأبوه يقال له الحراني ضعيف قال فيه النسائي ليس
بثقة ولا مأمون قال النووي وأما الذي رويناه في سنن أبي داود والترمذي عن عبيد بن رفاعة
الصحابي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمت العاطس ثلاثا فإن زاد فإن شئت فشمته
وإن شئت فلا فهو حديث ضعيف قال فيه الترمذي هذا حديث غريب وإسناده مجهول (قلت)
إطلاقه عليه الضعف ليس بجيد إذ لا يلزم من الغرابة الضعف وأما وصف الترمذي إسناده بكونه
مجهولا فلم يرد جميع رجال الاسناد فإن معظمهم موثقون وإنما وقع في روايته تغيير اسم بعض
رواته وإبهام اثنين منهم وذلك أن أبا داود والترمذي أخرجاه معا من طريق عبد السلام بن حرب
عن يزيد بن عبد الرحمن ثم اختلفا فأما رواية أبي داود ففيها عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن أمه
499

حميدة أو عبيدة بنت عبيد بن رفاعة عن أبيها وهذا إسناد حسن والحديث مع ذلك مرسل كما
سأبينه وعبد السلام بن حرب من رجال الصحيح ويزيد هو أبو خالد الدالاني وهو صدوق في حفظه
شئ ويحيى بن إسحاق وثقه يحيى بن معين وأمه حميدة روى عنها أيضا زوجها إسحق بن أبي طلحة
وذكرها ابن حبان في ثقات التابعين وأبوها عبيد بن رفاعة ذكروه في الصحابة لكونه ولد في عهد
النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية قاله ابن السكن قال ولم يصح سماعه وقال البغوي روايته
مرسلة وحديثه عن أبيه عند الترمذي والنسائي وغيرهما وأما رواية الترمذي ففيها عن عمر بن إسحاق
بن أبي طلحة عن أمه عن أبيها كذا سماه عمر ولم يسم أمه ولا أباها وكأنه لم يمعن النظر فمن ثم قال
إنه إسناد مجهول وقد تبين أنه ليس بمجهول وأن الصواب يحيى بن إسحاق لا عمر فقد أخرجه
الحسن بن سفيان وابن السني وأبو نعيم وغيرهم من طريق عبد السلام بن حرب فقالوا يحيى بن إسحاق
وقالوا حميدة بغير شك وهو المعتمد وقال ابن العربي هذا الحديث وإن كان فيه مجهول
لكن يستحب العمل به لأنه دعاء بخير وصلة وتودد للجليس فالأولى العمل به والله أعلم وقال ابن
عبد البر دل حديث عبيد بن رفاعة على أنه يشمت ثلاثا ويقال أنت مزكوم بعد ذلك وهي زيادة
يجب قبولها فالعمل بها أولى ثم حكى النووي عن ابن العربي أن العلماء اختلفوا هل يقول لمن
تتابع عطسه أنت مزكوم في الثانية أو الثالثة أو الرابعة على أقوال والصحيح في الثالثة قال
ومعناه أنك لست ممن يشمت بعدها لان الذي بك مرض وليس من العطاس المحمود الناشئ عن
خفة البدن كما سيأتي تقريره في الباب الذي يليه قال فإن قيل فإذا كان مرضا فينبغي أن يشمت
بطريق الأولى لأنه أحوج إلى الدعاء من غيره قلنا نعم لكن يدعى له بدعاء يلائمه لا بالدعاء المشروع
للعاطس بل من جنس دعاء المسلم للمسلم بالعافية وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه
قال يكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يعرف أنه مزكوم فيدعو له بالشفاء قال وتقريره
أن العموم يقتضي التكرار إلا في موضع العلة وهو الزكام قال وعند هذا يسقط الامر
بالتشميت عند العلم بالزكام لان التعليل به يقتضى أن لا يشمت من علم أن به زكاما أصلا وتعقبه
بأن المذكور هو العلة دون التعليل وليس المعلل هو مطلق الترك ليعم الحكم عليه بعموم علته بل
المعلل هو الترك بعد التكرير فكأنه قيل لا يلزم تكرر التشميت لأنه مزكوم قال ويتأيد بمناسبة
المشقة الناشئة عن التكرار * الرابع ممن يخص من عموم العاطسين من يكره التشميت قال ابن
دقيق العيد ذهب بعض أهل العلم إلى أن من عرف من حاله أنه يكره التشميت أنه لا يشمت إجلالا
للتشميت أن يؤهل له من يكرهه فإن قيل كيف يترك السنة لذلك قلنا هي سنة لمن أحبها فأما من
كرهها ورغب عنها فلا قال ويطرد ذلك في السلام والعيادة قال ابن دقيق العيد والذي عندي
أنه لا يمتنع من ذلك إلا من خاف منه ضررا فأما غيره فيشمت امتثالا للامر ومناقضة للمتكبر في
مراده وكسرا لسورته في ذلك وهو أولى من إجلال التشميت (قلت) ويؤيده أن لفظ التشميت
دعاء بالرحمة فهو يناسب المسلم كائنا من كان والله أعلم * الخامس قال ابن دقيق العيد يستثنى
أيضا من عطس والامام يخطب فإنه يتعارض الامر بتشميت من سمع العاطس والامر
بالانصات لمن سمع الخطيب والراجح الانصات لامكان تدارك التشميت بعد فراغ الخطيب ولا
سيما إن قيل بتحريم الكلام والامام يخطب وعلى هذا فهل يتعين تأخير التشميت حتى يفرغ
500

الخطيب أو يشرع له التشميت بالإشارة فلو كان العاطس الخطيب فحمد واستمر في خطبته
فالحكم كذلك وأن حمد فوقف قليلا ليشمت فلا يمتنع أن يشرع تشميته السادس ممن يمكن أن
يستثنى من كان عند عطاسه في حالة يمتنع عليه فيها ذكر الله كما إذا كان على الخلاء أو في الجماعة
فيؤخر ثم يحمد الله فيشمت فلو خالف فحمد في تلك الحالة هل يستحق التشميت فيه نظر (قوله
باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب) قال الخطابي معنى المحبة والكراهة
فيهما منصرف إلى سببهما وذلك أن العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام وعدم
الغاية في الشبع وهو بخلاف التثاؤب فإنه يكون من علة امتلاء البدن وثقله مما يكون ناشئا
عن كثرة الاكل والتخليط فيه والأول يستدعى النشاط للعبادة والثاني على عكسه (قوله سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة) هكذا قال آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وتابعه عاصم بن علي
كما سيأتي بعد باب والحجاج بن محمد عند النسائي وأبو داود الطيالسي ويزيد بن هارون عند
الترمذي وابن أبي فديك عند الإسماعيلي وأبو عامر العقدي عند الحاكم كلهم عن ابن أبي ذئب
وخالفهم القاسم بن يزيد عند النسائي فلم يقل فيه عن أبيه وكذا ذكره أبو نعيم من طريق الطيالسي
وكذلك أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من رواية محمد بن عجلان عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة ولم يقل عن أبيه ورجح الترمذي رواية من قال عن أبيه وهو المعتمد (قوله إن
الله يحب العطاس) يعني الذي لا ينشأ عن زكام لأنه المأمور فيه بالتحميد والتشميت ويحتمل
التعميم في نوعي العطاس والتفصيل في التشميت خاصة وقد ورد ما يخص بعض أحوال
العاطسين فأخرج الترمذي من طريق أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه
قال العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة من الشيطان وسنده ضعيف وله شاهد عن ابن
مسعود في الطبراني لكن لم يذكر النعاس وهو موقوف وسنده ضعيف أيضا قال شيخنا في شرح
الترمذي لا يعارض هذا حديث أبي هريرة يعني حديث الباب في محبة العطاس وكراهة التثاؤب
لكونه مقيدا بحال الصلاة فقد يتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته
وقد يقال أن العطاس إنما لم يوصف بكونه مكروها في الصلاة لأنه لا يمكن رده بخلاف التثاؤب
ولذلك جاء في التثاؤب كما سيأتي بعد فليرده ما استطاع ولم يأت ذلك في العطاس وأخرج ابن أبي
شيبة عن أبي هريرة أن الله يكره التثاؤب ويحب العطاس في الصلاة وهذا يعارض حديث جد
عدي وفي سنده ضعف أيضا وهو موقوف والله أعلم ومما يستحب للعاطس أن لا يبالغ في إخراج
العطسة فقد ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال سبع من الشيطان فذكر منها شدة
العطاس (قوله فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته) استدل به على استحباب مبادرة العاطس
بالتحميد ونقل ابن دقيق العمد عن بعض العلماء أنه ينبغي أن يتأنى في حقه حتى يسكن ولا يعاجله
بالتشميت قال وهذا فيه غفلة عن شرط التشميت وهو توقفه على حمد العاطس وأخرج البخاري
في الأدب المفرد عن مكحول الأزدي كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد
فقال ابن عمر يرحمك الله إن كنت حمدت الله واستدل به على أن التشميت إنما يشرع لمن سمع
العاطس وسمع حمده فلو سمع من يشمت غيره ولم يسمع هو عطاسه ولا حمده هل يشرع له تشميته
سيأتي قريبا (قوله وأما التثاؤب) سيأتي شرحه بعد بابين (قوله باب إذا عطس
501

كيف يشمت) بضم أوله وتشديد الميم المفتوحة (قوله عن أبي صالح) هو السمان والاسناد كله
مدنيون إلا شيخ البخاري وهو من رواية تابعي عن تابعي (قوله إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله)
كذا في جميع نسخ البخاري وكذا أخرجه النسائي من طريق يحيى بن حسان والإسماعيلي من
طريق بشر بن المفضل وأبي النضر وأبو نعيم في المستخرج من طريق عاصم بن علي وفي عمل يوم
وليلة من طريق عبد الله بن صالح كلهم عن عبد العزيز بن أبي سلمة وأخرجه أبو داود عن موسى
ابن إسماعيل عن عبد العزيز المذكور به بلفظ فليقل الحمد لله على كل حال (قلت) ولم أر هذه
الزيادة من هذا الوجه في غير هذه الرواية وقد تقدم ما يتعلق بحكمها واستدل بأمر العاطس
بحمد الله أنه يشرع حتى للمصلي وقد تقدمت الإشارة إلى حديث رفاعة بن رافع في باب الحمد
للعاطس وبذلك قال الجمهور من الصحابة والأئمة بعدهم وبه قال مالك والشافعي وأحمد ونقل
الترمذي عن بعض التابعين أن ذلك يشرع في النافلة لا في الفريضة ويحمد مع ذلك في نفسه
وجوز شيخنا في شرح الترمذي أن يكون مراده أنه يسر به ولا يجهر به وهو متعقب مع ذلك
بحديث رفاعة بن رافع فإنه جهر بذلك ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه نعم يفرق بين أن يكون
في قراءة الفاتحة أو غيرها من أجل اشتراط الموالاة في قراءتها وجزم ابن العربي من المالكية بان
العاطس في الصلاة يحمد في نفسه ونقل عن سحنون أنه لا يحمد حتى يفرغ وتعقبه بأنه غلو (قوله
وليقل له أخوه أو صاحبه) هو شك من الراوي وكذا وقع للأكثر من رواية عاصم بن علي فليقل له
أخوه ولم يشك والمراد بالاخوة إخوة الاسلام (قوله يرحمك الله) قال ابن دقيق العيد يحتمل أن
يكون دعاء بالرحمة ويحتمل أن يكون إخبارا على طريق البشارة كما قال في الحديث الآخر طهور
إن شاء الله أي هي طهر لك فكأن المشمت بشر العاطس بحصول الرحمة له في المستقبل بسبب
حصولها له في الحال لكونها دفعت ما يضره قال وهذا ينبني على قاعدة وهي أن اللفظ إذا أريد به
معناه لم ينصرف لغيره وان أريد به معنى يحتمله انصرف إليه وإن أطلق انصرف إلى الغالب وان
لم يستحضر القائل المعنى الغالب وقال ابن بطال ذهب إلى هذا قوم فقالوا يقول له يرحمك الله
يخصه بالدعاء وحده وقد أخرج البيهقي في الشعب وصححه ابن حبان من طريق حفص بن عاصم
عن أبي هريرة رفعه لما خلق الله آدم عطس فألهمه ربه أن قال الحمد لله فقال له ربه يرحمك الله
وأخرج الطبري عن ابن مسعود قال يقول يرحمنا الله وإياكم وأخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر
نحوه وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي جمرة بالجيم سمعت ابن عباس إذا شمت
يقول عافانا الله وإياكم من النار يرحمكم الله وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل
له يرحمك الله قال يرحمنا الله وإياكم ويغفر الله لنا ولكم قال ابن دقيق العيد ظاهر الحديث أن
السنة لا تتأدى الا بالمخاطبة وأما ما اعتاده كثير من الناس من قولهم للرئيس يرحم الله سيدنا
فخلاف السنة وبلغني عن بعض الفضلاء أنه شمت رئيسا فقال له يرحمك الله يا سيدنا فجمع الامرين
وهو حسن (قوله فإذا قال له يرحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم) مقتضاه أنه لا يشرع ذلك
إلا لمن شمت وهو واضح وأن هذا اللفظ هو جواب التشميت وهذا مختلف فيه قال ابن بطال
ذهب الجمهور إلى هذا وذهب الكوفيون إلى أنه يقول يغفر الله لنا ولكم وأخرجه الطبري عن
ابن مسعود وابن عمر وغيرهما (قلت) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد والطبراني من حديث
502

ابن مسعود وهو في حديث سالم بن عبيد المشار إليه قبل ففيه وليقل يغفر الله لنا ولكم (قلت)
وقد وافق حديث أبي هريرة في ذلك حديث عائشة عند أحمد وأبي يعلى وحديث أبي مالك
الأشعري عند الطبراني وحديث علي عند الطبراني أيضا وحديث ابن عمر عند البزار وحديث
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند البيهقي في الشعب وقال ابن بطال ذهب مالك والشافعي إلى
أنه يتخير بين اللفظين وقال أبو الوليد بن رشد الثاني أولى لان المكلف يحتاج إلى طلب المغفرة
والجمع بينهما أحسن الا للذمي وذكر الطبري أن الذين منعوا من جواب التشميت بقول يهديكم
الله ويصلح بالكم احتجوا بأنه تشميت اليهود كما تقدمت الإشارة إليه من تخريج أبي داود من
حديث أبي موسى قال ولا حجة فيه إذ لا تضاد بين خبر أبي موسى وخبر أبي هريرة يعني حديث
الباب لان حديث أبي هريرة في جواب التشميت وحديث أبي موسى في التشميت نفسه وأما
ما أخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النبي صلى الله عليه
وسلم فشمته الفريقان جميعا فقال للمسلمين يغفر الله لكم ويرحمنا وإياكم وقال لليهود يهديكم الله
ويصلح بالكم فقال تفرد به عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد عن أبيه عن نافع وعبد الله
ضعيف واحتج بعضهم بأن الجواب المذكور مذهب الخوارج لانهم لا يرون الاستغفار للمسلمين
وهذا منقول عن إبراهيم النخعي وكل هذا لا حجة فيه بعد ثبوت الخبر بالامر به قال البخاري بعد
تخريجه في الأدب المفرد وهذا أثبت ما يروى في هذا الباب وقال الطبري هو من أثبت الاخبار
وقال البيهقي هو أصح شئ ورد في هذا الباب وقد أخذ به الطحاوي من الحنفية واحتج له بقول الله
تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها قال والذي يجيب بقوله غفر الله لنا ولكم لا يزيد
المشمت على معنى قوله يرحمك الله لان المغفرة ستر الذنب والرحمة ترك المعاقبة عليه بخلاف دعائه
له بالهداية والاصلاح فإن معناه أن يكون سالما من مواقعة الذنب صالح الحال فهو فوق الأول
فيكون أولى واختار ابن أبي جمرة أن يجمع المجيب بين اللفظين فيكون أجمع للخير ويخرج من
الخلاف ورجحه ابن دقيق العيد وقد أخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس
فقيل له يرحمك الله قال يرحمنا الله وإياكم يغفر الله لنا ولكم قال ابن أبي جمرة وفي الحديث دليل
على عظيم نعمة الله على العاطس يؤخذ ذلك مما رتب عليه من الخير وفيه إشارة إلى عظيم فضل الله
على عبده فإنه أذهب عنه الضرر بنعمة العطاس ثم شرع له الحمد الذي يثاب عليه ثم الدعاء بالخير
بعد الدعاء بالخير وشرع هذه النعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحسانا وفي هذا لمن رآه
بقلب له بصيرة زيادة قوة في إيمانه حتى يحصل له من ذلك ما لا يحصل بعبادة أيام عديدة ويداخله من
حب الله الذي أنعم عليه بذلك ما لم يكن في باله ومن حب الرسول الذي جاءت معرفة هذا الخير على
يده والعلم الذي جاءت به سنته ما لا يقدر قدره قال وفي زيادة ذرة من هذا ما يفوق الكثير مما عداه
من الأعمال ولله الحمد كثيرا وقال الحليمي أنواع البلاء والآفات كلها مؤاخذات وإنما المؤاخذة
عن ذنب فإذا حصل الذنب مغفورا وأدركت العبد الرحمة لم تقع المؤاخذة فإذا قيل للعاطس
يرحمك الله فمعناه جعل الله لك ذلك لتدوم لك السلامة وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب
الرحمة والتوبة من الذنب ومن ثم شرع له الجواب بقوله غفر الله لنا ولكم (قوله (1) بالكم
شأنكم) قال أبو عبيدة في معنى قوله تعالى سيهديهم ويصلح بالهم أي شأنهم (قوله باب
503

لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله) أورد فيه حديث أنس الماضي في باب الحمد للعاطس
وكأنه أشار إلى أن الحكم عام وليس مخصوصا بالرجل الذي وقع له ذلك وإن كانت واقعة
حال لا عموم فيها لكن ورد الامر بذلك فيما أخرجه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ إذا عطس
أحدكم فحمد الله فشمتوه وان لم يحمد الله فلا تشمتوه قال النووي مقتضى هذا الحديث أن من
لم يحمد الله لم يشمت (قلت) هو منطوقه لكن هل النهي فيه للتحريم أو للتنزيه الجمهور على
الثاني قال وأقل الحمد والتشميت أن يسمع صاحبه ويؤخذ منه أنه إذا أتى بلفظ آخر غير الحمد
لا يشمت وقد أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما من حديث سالم بن عبيد الأشجعي قال عطس
رجل فقال السلام عليكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم عليك وعلى أمك وقال إذا عطس أحدكم
فليحمد الله واستدل به على أنه يشرع التشميت لمن حمد إذا عرف السامع أنه حمد الله وان
لم يسمعه كما لو سمع العطسة ولم يسمع الحمد بل سمع من شمت ذلك العاطس فإنه يشرع له التشميت
لعموم الامر به لمن عطس فحمد وقال النووي المختار أنه يشمته من سمعه دون غيره وحكى ابن
العربي اختلافا فيه ورجح أنه يشمته (قلت) وكذا نقله ابن بطال وغيره عن مالك واستثنى ابن
دقيق العيد من علم أن الذين عند العاطس جهلة لا يفرقون بين تشميت من حمد وبين من
لم يحمد والتشميت متوقف على من علم أنه حمد فيمتنع تشميت هذا ولو شمته من عنده لأنه لا يعلم هل
حمد أو لا فإن عطس وحمد ولم يشمته أحد فسمعه من بعد عنه استحب له أن يشمته حين يسمعه وقد
أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن أنه كان في سفينة فسمع عاطسا
على الشط حمد فاكترى قاربا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته ثم رجع فسئل عن ذلك فقال
لعله يكون مجاب الدعوة فلما رقدوا سمعوا قائلا يقول يا أهل السفينة أن أبا داود اشترى الجنة من
الله بدرهم قال النووي ويستحب لمن حضر من عطس فلم يحمد أن يذكره بالحمد ليحمد فيشمته
وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي وهو من باب النصيحة والامر بالمعروف وزعم ابن العربي أنه جهل
من فاعله قال وأخطأ فيما زعم بل الصواب استحبابه (قلت) احتج ابن العربي لقوله بأنه إذا نبهه
ألزم نفسه ما لم يلزمها قال فلو جمع بينهما فقال الحمد لله يرحمك الله جمع جهالتين ما ذكرناه أولا
وإيقاعه التشميت قبل وجود الحمد من العاطس وحكى ابن بطال عن بعض أهل العلم وحكى غيره
أنه الأوزاعي أن رجلا عطس عنده فلم يحمد فقال له كيف يقول من عطس قال الحمد لله قال
يرحمك الله (قلت) وكأن ابن العربي أخذ بظاهر حديث الباب لان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يذكر الذي عطس فلم يحمد لكن تقدم في باب الحمد للعاطس احتمال أنه لم يكن مسلما فلعل ترك
ذلك لذلك لكن يحتمل أن يكون كما أشار إليه ابن بطال أراد تأديبه على ترك الحمد بترك تشميته ثم
عرفه الحكم وأن الذي يترك الحمد لا يستحق التشميت وهذا الذي فهمه أبو موسى الأشعري ففعل
بعد النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم شمت من حمد ولم يشمت من
لم يحمد كما ساق حديثه مسلم (قوله باب إذا تثاوب) كذا للأكثر وللمستملي تثاءب
بهمزة بدل الواو قال شيخنا في شرح الترمذي وقع في رواية المحبوبي عند الترمذي بالواو وفي رواية
السنجي بالهمز ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز وكذا في حديث أبي سعيد عند أبي داود
وأما عند مسلم فبالواو قال وكذا هو في أكثر نسخ مسلم وفي بعضها بالهمز وقد أنكر الجوهري
504

كونه بالواو وقال تقول تثاءبت على وزن تفاعلت ولا تقل تثاوبت قال والتثاؤب أيضا مهموز
وقد يقلبون الهمزة المضمومة واوا والاسم الثؤباء بضم ثم همز على وزن الخيلاء وجزم ابن دريد
وثابت بن قاسم في الدلائل بان الذي بغير واو بوزن تيممت فقال ثابت لا يقال تثاءب بالمد
مخففا بل يقال تثأب بالتشديد وقال ابن دريد أصله من ثئب فهو مثؤب إذا استرخى وكسل
وقال غير واحد إنهما لغتان وبالهمز والمد أشهر (قوله فليضع يده على فيه) أورد فيه حديث أبي
هريرة بلفظ فليرده ما استطاع قال الكرماني عموم الامر بالرد يتناول وضع اليد على الفم فيطابق
الترجمة من هذه الحيثية (قلت) وقد ورد في بعض طرقه صريحا أخرجه مسلم وأبو داود من طريق
سهيل بن أبي صالح عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه بلفظ إذا تثاءب أحدكم
فليمسك بيده على فمه ولفظ الترمذي مثل لفظ الترجمة (قوله إن الله يحب العطاس) تقدم شرحه
قريبا (قوله وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان) قال ابن بطال إضافة التثاؤب إلى الشيطان
بمعنى إضافة الرضا والإرادة أي أن الشيطان يحب أن يرى الانسان متثائبا لأنها حالة تتغير فيها
صورته فيضحك منه لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب وقال ابن العربي قد بينا أن كل فعل
مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك
لأنه واسطته قال والتثاؤب من الامتلاء وينشأ عنه التكاسل وذلك بواسطة الشيطان
والعطاس من تقليل الغذاء وينشأ عنه النشاط وذلك بواسطة الملك وقال النووي أضيف التثاؤب
إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه والمراد
التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل (قوله فإذا تثاءب أحدكم فليرده
ما استطاع) أي يأخذ في أسباب رده وليس المراد به أنه يملك دفعه لان الذي وقع لا يرد حقيقة وقيل
معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب وجوز الكرماني أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع (قوله
فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان) في رواية ابن عجلان فإذا قال آه ضحك منه الشيطان وفي
حديث أبي سعيد فإن الشيطان يدخل وفي لفظ له إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع
فإن الشيطان يدخل هكذا قيده بحالة الصلاة وكذا أخرجه الترمذي من طريق العلاء بن
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ التثاؤب في الصلاة من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم
فليكظم ما استطاع وللترمذي والنسائي من طريق محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة
نحوه ورواه ابن ماجة من طريق عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه بلفظ إذا تثاءب أحدكم
فليضع يده على فيه ولا يعوى فإن الشيطان يضحك منه قال شيخنا في شرح الترمذي أكثر روايات
الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة فيحتمل أن يحمل
المطلق على المقيد وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته ويحتمل أن تكون
كراهته في الصلاة أشد ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة وقد قال بعضهم أن المطلق
إنما يحمل على المقيد في الامر لا في النهي ويؤيد كراهته مطلقا كونه من الشيطان وبذلك صرح
النووي قال ابن العربي ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة وإنما خص الصلاة لأنها أولى الأحوال
بدفعه لما فيه من الخروج عن اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة وأما قوله في رواية أبي سعيد في
ابن ماجة ولا يعوى فإنه بالعين المهملة شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيرا عنه
505

واستقباحا له فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي والمتثائب إذا أفرط في التثاؤب شابهه
ومن هنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة وأما قوله
في رواية مسلم فإن الشيطان يدخل فيحتمل أن يراد به الدخول حقيقة وهو وإن كان يجري من
الانسان مجري الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكرا لله تعالى والمتثائب في تلك الحالة غير ذاكر
فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه
لان من شأن من دخل في شئ أن يكون متمكنا منه وأما الامر بوضع اليد على الفم فيتناول ما إذا
انفتح بالتثاؤب فيغطي بالكف ونحوه وما إذا كان منطبقا حفظا له عن الانفتاح بسبب ذلك وفي
معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه مما يحصل ذلك المقصود وإنما تتعين اليد إذا لم يرتد
التثاؤب بدونها ولا فرق في هذا الامر بين المصلي وغيره بل يتأكد في حال الصلاة كما تقدم ويستثنى
ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه ومما يؤمر به المتثائب إذا كان في الصلاة أن يمسك عن
القراءة حتى يذهب عنه لئلا يتغير نظم قراءته وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة
والتابعين المشهورين ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ من
مرسل يزيد بن الأصم قال ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط وأخرج الخطابي من طريق مسلمة
ابن عبد الملك بن مروان قال ما تثاءب نبي قط ومسلمة أدرك بعض الصحابة وهو صدوق ويؤيد ذلك
ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان ووقع في الشفاء لابن سبع أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى
لأنه من الشيطان والله أعلم * (خاتمة) * اشتمل كتاب الأدب من الأحاديث المرفوعة على مائتين
وستة وخمسين حديثا المعلق منها خمسة وسبعون والبقية موصولة المكرر منها فيه وفيما مضى
مائتا حديث وحديث وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الله بن عمرو في عقوق الوالدين
وحديث أبي هريرة من سره أن يبسط له في رزقه وحديث الرحم شجنة وحديث ابن عمرو ليس
الواصل بالمكافئ وحديث أبي هريرة قام اعرابي فقال اللهم ارحمنا وحديث أبي شريح من لا
يأمن جاره وحديث جابر كل معروف صدقة وحديث أنس لم يكن فاحشا وحديث عائشة ما أظن
فلانا وفلانا يعرفان ديننا وحديث أنس إن كانت الأمة وحديث حذيفة ان أشبه الناس
دلا وسمتا وحديث ابن مسعود أن أحسن الحديث كتاب الله وحديث أبي هريرة إذا قال
الرجل يا كافر وحديث ابن عمر فيه وحديث أبي هريرة لا تغضب وحديث ابن
عمر لأن يمتلئ وحديث ابن عباس في ابن صياد وحديث سعيد بن
المسيب عن أبيه في اسم الحزن وحديث ابن أبي أوفى في إبراهيم
ابن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه من الآثار عن الصحابة
فمن بعدهم أحد عشر أثرا بعضها
موصول وبعضها معلق والله
أعلم بالصواب
* (تم الجزء العاشر ويليه الجزء الحادي عشر أوله كتاب الاستئذان) *
506