الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: ١٤
الوفاة: ٨٥٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمان الرحيم
51
((باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في الجهاد وفي بيان المصالحة مع أهل الحرب، وفي بيان كتابة الشروط، هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي زيادة وهي قوله بعد كتابة الشروط: مع الناس بالقول.
2372 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر قال أخبرني الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولاكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصاى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم إمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجيء لقتال أحد ولاكنا جئنا
2

معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هاذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل سأبلغهم ما تقول قال فانطلق حتى أتاى قريشا قال إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أو لست بالولد قالوا بلى قال فهل تتهموني قالوا لا قال ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك وإن تكن الأخراى فإني والله لأراى وجوها وإني لأراى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه امصص ببظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهواى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من هذا قالوا المغيرة بن شعبة فقال أي: غدر ألست أسعى في غدرتك وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده
3

وما يحدون إليه النظر تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسراى والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وسلم إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آتيه فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذالك قال سبحان الله ما ينبغي لهاؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أراى أن يصدوا عن البيت فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال دعوني آتيه فقالوا ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمر و قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمر و قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد سهل لكم من أمركم قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب بسم الله الرحمان الرحيم قال سهيل أما الرحمان فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمان الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضاى عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولاكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا اخذنا
ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي قال ما أنا بمجيزه لك قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وكان قد عذب عذابا شديدا في الله قال فقال عمر بن الخطاب فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت
4

أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام قال قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق قال بلى وعدونا على الباطل قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن) * (الممتحنة: 01). حتى بلغ * (بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 01). فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية ابن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم قال النبي صلى الله عليه وسلم * (ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) * فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى: * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن
5

أظفركم عليهم) * (الفتح: 42، 62). حتى بلغ * (الحمية حمية الجاهلية) * (الفتح: 42، 62). وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمان الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت.
.
مطابقته للترجمة من حيث أن فيه المصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم صالح مع أهل مكة في هذه السفرة، وهم أهل الحرب لأن مكة كانت دار الحرب حينئذ، وكتب بينه وبينهم شروطا.
وعبد الله بن محمد هو أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي، وعبد الرزاق بن همام اليماني، ومعمر بن راشد، والزهري هو محمد بن مسلم قد مر ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم في أول كتاب الشروط فإنه أخرج عنهما قطعة من هذا الحديث هناك، وههنا ذكره مطولا، وهذا الحديث بالنسبة إلى مروان مرسل لأنه لا صحبة له، وكذلك بالنسبة إلى المسور لأنه: وإن كانت له صحبة، ولكنه لم يحضر القصة ولكنهما سمعا جماعة من الصحابة شهدوا هذه القصة، كعمر وعثمان وعلي والمغيرة بن شعبة وسهل بن حنيف وأم سلمة وآخرين، وقد روى مروان والمسور عن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث، وقال محمد بن طاهر: الحديث المروي هنا معلول.
ذكر معناه: قوله: (يصدق كل واحد منهما) أي: من المسور ومروان، والجملة محلها النصب على الحال. قوله: (زمن الحديبية)، قد مر ضبطها في كتاب الحج، وهي: بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت، وسمي المكن بها. وقال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة سنة ست بلا خلاف، وممن نص على ذلك الزهري ونافع مولى ابن عمر وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق. وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل عن علي بن مسهر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان، وكانت الحديبية في شوال، وهذا غريب جدا عن عروة. وقال ابن إسحاق: خرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا، قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي، وقال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه
الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له. قال: وكان الهدي سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة أنفس. وقال ابن عقبة، عن جابر: عن كل سبعة بدنة، وكان جابر يقول: فيما بلغني، كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة، وعن الزهري في رواية ابن أبي شيبة: خرج في ألف وثمانمائة. وبعث عينا له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر قريش، كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي، نص عليه ابن إسحاق وغيره، وأما الذي بعثه عينا لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان، وقال الزهري: خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا وقد نزلوا بذي طوى. وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموها إلى كراع الغميم، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم. والغميم، بفتح الغين المعجمة وكسر الميم وبضم الغين وفتح الميم أيضا، قاله ابن قرقول، ورد ذلك الحميري في كتابه (تثقيف اللسان) بقوله: يقولون لموضع بقرب مكة: الغميم، على التصغير، والصواب: الغميم، يعني بالفتح وهو واد بينه وبين مكة مرحلتان، وذكر الحازمي في (كتاب البلدان): أن الذي بالضم واد في ديار حنظلة من بني تميم. قوله: (طليعة)، نصب على الحال من قوله: (في خيل لقريش)، وهي مقدمة الجيش. قوله: (فخذوا ذات اليمين)، وهي بين ظهري الحمض في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة. قال ابن هشام: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش، وهو معنى قوله: (فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش). القترة: بفتح القاف والتاء المثناة من فوق: الغبار الأسود. قوله: (فانطلق)، أي: خالد. قوله: (يركض)، جملة حالية من خالد من الركض، وهو الضرب بالرجل على الدابة لأجل استعجاله في السير. قوله: (نذيرا) نصب على الحال من
6

الأحوال المترادفة أو المتداخلة، أي: منذرا لقريش بمجيء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ثنية المرار. الثنية، بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف: وهي في الجبل كالعقبة فيه وقيل: هو الطريق التالي فيه، وقيل: أعلى المسيل في رأسه، والمرار، بضم الميم وتخفيف الراء. وقال ابن الأثير: هو موضع بين مكة والمدينة من طريق الحديبية، وبعضهم يقوله بفتح الميم. ويقال: هو طريق في الجبل تشرف على الحديبية. وقال الداودي: هي الثنية التي أسفل مكة، ورد عليه ذلك، وقال ابن سعد الذي سلك بهم حمزة بن عمرو الأسلمي. قوله: (بركت راحلته) الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت. قوله: (حل حل) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام فيهما، وهو زجر للناقة إذا حملها على السير، وقال الخطابي: فإن قلت: حل، واحدة فبالسكون وإن أعدتها نونت في الأولى وسكنت في الثانية، وحكى غيره السكون فيهما والتنوين كقولهم: بخ بخ وصه صه، وقال ابن سيده: هو زجر لإناث الإبل خاصة، ويقال: حلا وحلى لا حليت، وقد اشتق منه اسم فقيل: الحلحال. وقال الجوهري: جوب زجر للبعير. قوله: (فألحت) بحاء مهملة مشددة، أي: لزمت مكانها ولم تنبعث، من الإلحاح. قوله: (خلأت) بالخاء المعجمة، فهو كالحران في الخيل، يقال: خلأت خلاء بالمد، وقال ابن قتيبة: لا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة، وقال ابن فارس: لا يقال للجمل خلاء، لكن ألح (والقصواء) بفتح القاف وسكون الصاد المهملة وبالمد: اسم ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم قيل: سميت بذلك لأنه كان طرف أذنها مقطوعا من القصو، وهو: قطع طرف الأذن. يقال: بعير أقصى، وناقة قصواء. وقال الأصمعي: ولا يقال: بعير أقصى، وقيل: وكان القياس أن يكون بالقصر، وقد وقع ذلك في بعض نسخ أبي ذر. وفي (أدب الكاتب): القصوى، بالضم والقصر، شذ من بين نظائره، وحقه أن يكون بالياء مثل: الدنيا والعليا، لأن الدنيا من دنوت، والعليا من علوت، وقال الداودي: سميت بذلك لأنها كانت لا تكاد أن تسبق، فقيل لها: القصواء، لأنها بلغت من السبق أقصاه. وهي التي ابتاعها أبو بكر، وأخرى معها من بني قشير بثمانمائة درهم، وهي التي هاجر عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانت إذ ذاك رباعية، وكان لا يحمله غيرها إذا نزل عليه الوحي، وهي التي تسمى: العضباء، والجدعاء: وهي التي سبقت فشق ذلك على المسلمين. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من قدر الله أن لا يرفع شيئا في هذه الدنيا إلا وضعه)، وقيل: المسبوقة هي العضباء، وهي غير القصواء. قوله: (وما ذاك لها بخلق) أي: ليس الخلاء لها بعادة، وكانوا ظنوا أن ذلك من خلقها. فقال: وما ذاك لها بخلق، بضم الخاء. قوله: (ولكن حبسها حابس الفيل عن دخولها)، وفي رواية ابن إسحاق: (حابس الفيل عن مكة)، أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها حين جيء به لهدم الكعبة. قال الخطابي: المعنى في ذلك، والله أعلم، أنهم لو استباحوا مكة لأبي الفيل على قوم سبق في علم الله أنهم سيسلمون ويخرج من أصلابهم ذرية مؤمنون، فهذا موضع التشبيه لحبسها. وقال الداودي: لما رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، بروك القصواء، علم أن الله عز وجل أراد صرفهم عن القتال * (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * (الأنفال: 24 و 44). قوله: (خطة)، بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء: أي حالة، وقال الداودي: خصلة. وقال ابن قرقول: قضية وأمرا. قوله: (يعظمون فيها حرمات الله)، قال ابن التين: أي: يكفون عن القتال تعظيما للحرم. وقال ابن بطال يريد بذلك موافقة الله عز وجل في تعظيم الحرمات، لأنه فهم عن الله عز وجل وإبلاغ الأعذار إلى أهل مكة، فأبقى عليهم لما سبق في علمه من دخولهم في دين الله أفواجا. قوله: (إلا أعطيتهم إياها)، أي: أجبتهم إليها. قال السهيلي: لم يقع في شيء من طرق الحديث، إلا أنه قال: إن شاء الله، مع أنه مأمور بها في كل حالة. وأجيب: بأنه كان أمرا واجبا حتما، فلا يحتاج فيه إلى الاستثناء، واعترض فيه بأن الله تعالى قال في هذه القصة * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 82). فقال: إن شاء الله، مع تحقق وقوع ذلك، تعليما وإرشادا، فالأولى أن يحمل على أن الاستثناء من الراوي، وقيل: يحتمل أن تكون القصة قبل نزول الأمر بذلك. فإن قلت: سورة الكهف مكية؟ قلت: قيل: لا مانع أن يتأخر نزول بعض السورة. قوله: (ثم زجرها)، أي: ثم زجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الناقة فوثبت أي: انتهضت قائمة. قوله: (فعدل عنهم)، وفي رواية ابن سعد: (فولى راجعا). قوله: (على ثمد)، بفتح الثاء المثلثة والميم: أي: حفرة فيها ماء قليل
، ويقال: الثمد الماء القليل الذي لا مادة له. وقيل
7

هو ما يظهر من الماء زمن الشتاء ويذهب في الصيف، وقيل: لا يكون إلا فيما غلظ من الأرض. قوله: (قليل الماء)، تأكيد له، قال بعضهم، تأكيد لدفع توهم أن تراد لغة من يقول إن الثمد الماء الكثير. قلت: إنما يتوجه هذا الكلام أن لو ثبت في اللغة: أن الثمد الماء الكثير أيضا، فإذا ثبت يكون من الأضداد، فيحتاج إلى ثبوت هذا. وقال الكرماني: الثمد، ذكر معناه فيما بعده على سبيل التفسير. قوله: (يتبرضه الناس)،، أي: يأخذونه قليلا قليلا، ومادته باء موحدة وراء وضاد معجمة، والبرض: هو اليسير من العطاء. قوله: (تبرضا) مصدر من باب التفعل الذي يجيء للتكلف وانتصابه على أنه مفعول مطلق. قوله: (فلم يلبثه) بضم الياء وسكون اللام من الإثبات، وقال ابن التين، بفتح اللام وكسر الباء الموحدة المثقلة: من التلبيث أي: لم يتركوه يثبت أي: يقيم. قوله: (وشكى)، على صيغة المجهول. قوله: (فانتزع سهما من كنانته) أي: أخرج نشابة من جعبته. قوله: (ثم أمرهم أن يجعلوه فيه) أي: ثم أمرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا السهم في الثمد المذكور، وفي رواية الزهري: (فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل قليبا من تلك القلب فغرزه من جوفه، فجاش بالرواء). وقال ابن إسحاق: إن الذي نزل في القليب بسهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب سائق بدن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قال: وقد زعم بعض أهل العلم: كان البراء بن عازب، يقول: أنا الذي نزلت بسهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وروى الواقدي من طريق خالد بن عبادة الغفاري، قال: (أنا الذي نزلت بالسهم)، والتوفيق بين هذه الروايات أن يقال: إن هؤلاء تعاونوا في النزول في القليب. قوله: (يجيش لهم بالري)، أي: يفور، ومادته: جيم وياء آخر الحروف وشين معجمة، قال ابن سيده: جاشت تجيش جيشا وجيوشا وجيشانا، وكان الأصمعي يقول: جاشت بغير همزة، فارت، وبهمزة: ارتفعت، والري بكسر الراء وفتحها، ما يرويهم. فإن قلت: سيأتي في المغازي من حديث البراء بن عازب في قصة الحديبية: أنه، عليه الصلاة والسلام، جلس على البئر ثم دعا بإناء فتمضمض، ودعا وصبه فيها، ثم قال: دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا وبعد ذلك قلت: لا مانع من كون وقوع الأمرين معا، وقد روى الواقدي من طريق أوس بن خولي أنه، صلى الله عليه وسلم، توضأ في الدلو ثم أفرغه فيها وانتزع السهم فوضعه فيها، وهكذا ذكر أبو الأسود في روايته عن عروة أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهما من كنانته فألقاه فيها، ودعا ففارت، وهذه القصة غير القصة الآتية في المغازي أيضا من حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ركوة، فتوضأ منها فوضع يده فيها، فجعل الماء يفور من بين أصابعه... الحديث، وكأن ذلك كان قبل قصة البئر. قوله: فبينما هم كذلك، وفي رواية الكشميهني: فبينا هم كذلك، بدون الميم. قوله: (بديل بن ورقاء) بديل، بضم الباء وفتح الدال المهملة وورقاء بالقاف، مؤنث الأورق الخزاعي، قال أبو عمر: أسلم يوم الفتح بمر الظهران وشهد حنينا والطائف وتبوك، وكان من كبار مسلمة الفتح، وقيل: أسلم قبل ذلك وتوفي في حياة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حبان: وكان سيد قومه، وكان من دهاة العرب. قوله: (في نفر من قومه)، ذكر الواقدي منهم عمرو بن سالم وخراش بن أمية في رواية الأسود عن عروة منهم خارجة بن كرز ويزيد بن أمية. قوله: (وكانوا عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم) العيبة، بفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة، وهي في الأصل ما يوضع فيه الثياب لحفظها، والمراد بها هنا: موضع سره وأمانته، شبه الإنسان الذي هو مستودع سره بالعيبة التي هي مستودع الثياب، أي: محل نصحه وموضع أسراره، والنصح بضم النون، وحكى ابن التين فتحها على أنه مصدر من نصخ ينصح نصحا بالفتح. قلت: هو بالضم اسم، وأصله في اللغة الخلوص، يقال: نصحته ونصحت له ونصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبارة عن التصديق بنبوته ورسالته والانقياد لما أمر به ونهى عنه. قوله: (من أهل تهامة) لبيان الجنس، لأن خزاعة كانوا من جملة أهل تهامة، وتهامة، بكسر التاء المثناة من فوق: وهي مكة وما حولها من البلدان. وحدها من جهة المدينة، العرج، ومنتهاها إلى أقصى اليمن، ويقال: تهامة اسم لكل ما نزل من نجد، واشتقاقه من التهم وهو شدة الحر وركود الريح، يقال: أتهم إذا أتى تهامة. كما يقال: أنجد إذا أتى نجدا. قوله: (كعب بن لؤي وعامر بن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة وشدة الياء، إنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع يرجع أنسابهم إليهما، ولم يكن بمكة منهم أحد، وكذلك قريش
8

الظواهر الذين منهم بنو تميم بن غالب ومحارب بن فهر. قوله: (على أعداد مياه الحديبية) الأعداد، بالفتح جمع: عد، بالكسر والتشديد، وهو الماء الذي لا انقطاع له، يقال: ماء عد، ومياه أعداد، قال ابن قرقول مثل: ند وأنداد، وقال الداودي: هو موضع بمكة، وليس كذلك، وهو ذهول منه. قوله: (ومعهم العوذ المطافيل)، العوذ بضم العين المهملة وسكون الواو، وفي آخره ذال معجمة: جمع عائذ، وهي الناقة التي معها ولدها، والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها. قال السهيلي: يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان ويتزودون بألبانها ولا يرجعون حتى يناجزوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في زعمهم، وإنما قيل للناقة: عائذ، وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها عاطف عليه، كما قالوا: تجارة رابحة، وإن كانت مربوحا فيها، لأنها في معنى نامية زاكية. وقال الخطابي: العوذ الحديثات النتاج، وقال ابن التين: يجمع أيضا على عيذان. مثل: راع ورعيان. قلت: هذا التمثيل غير صحيح لأن: عائذا، أجوف واوي، و: الراعي، ناقص يائي. وقال الداودي: العوذ: سراة الرجال، قال ابن التين: وهو ذهول، وقيل: هي الناقة التي لها سبع ليال منذ ولدت، وقيل: عشرة، وقيل: خمس عشرة ثم هي مطفل بعد ذلك، وقيل: النساء مع الأولاد، وقيل: النوق مع فصلائها، وهذا هو أصلها وقال ابن الأثير: جاؤوا بالعوذ المطافيل أي: الإبل مع أولادها. المطفل: الناقة القريبة العهد بالنتاج معها طفلها، يقال: أطفلت فهي مطفل ومطفلة، والجمع: مطافل ومطافيل، بالإشباع يريد أنهم جاؤوا بأجمعهم كبارهم وصغارهم ووقع في رواية ابن سعد: معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان. قوله: (وصادوك)، أي: مانعوك، أصله صادون: فلما أضيف إلى كاف الخطاب حذفت النون، وأصله: صاد دون، فأدغمت الدال في الدال. قوله: (قد نهكتهم الحرب)، بفتح النون وكسر الهاء وفتحها: أي بلغت فيهم الحرب وأضرت بهم وهزلتهم. قوله: (ماددتهم، أي: ضربت معهم مدة
للصلح. قوله: (ويخلوا بيني وبين الناس)، أي: من كفار العرب وغيرهم. قوله: (فإن أظهر)، قال ابن التين وقع في بعض الكتب بالواو وهو بالجزم أي: إن غلبت عليهم. قوله: (فإن شاؤوا)، شرط معطوف على الشرط الأول، وجواب الشرطين. قوله: (فعلوا). قوله: (وإلا)، أي: وإن لم أظهر، أي: وإن لم أغلب عليهم (فقد جموا) بالجيم المفتوحة وضم الميم المشددة، أي: استراحوا من جهد الحرب، وقد فسر بعضهم هذا الكلام: بقوله: إن ظهر غيرهم علي كفاهم المؤونة، وإن أظهر أنا فإن شاؤوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا. انتهى. قلت: من له إدراك في حل التراكيب ينظر فيه: هل هذا التفسير الذي فسره يطابق هذا الكلام أم لا؟ فإن قلت: ما معنى ترديده صلى الله عليه وسلم في هذا مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره عليهم. قلت: هذا على طريق التنزل مع الخصم، وعلى سبيل الفرض، ولمجاراة معهم بزعمهم. وقال بعضهم: ولهذه النكتة حذف القسيم الأول وهو التصريح بظهور غيره عليه. قلت: وقع التصريح به في رواية ابن إسحاق ولفظه: فإن أصابوني كان الذي أرادوا. قوله: (حتى تنفرد سالفتي) بالسين المهملة وكسر اللام أي: حتى ينفصل مقدم عنقي، أي: حتى أقتل. وقال الخطابي: أي: حتى يبين عنقي، والسالفة مقدم العنق، وقيل: صفحة العنق. وفي (المحكم): السالفة أعلى العنق. وقال الداودي: المراد الموت، أي: حتى أموت وأبقى منفردا في قبري. قوله: (ولينفذن الله) بضم الياء وكسر الفاء أي: ليمضين الله أمره في نصر دينه ويظهره وإن كرهوا. قوله: (فقال سفهاؤهم)، سمى الواقدي منهم: عكرمة بن أبي جهل والحكم بن أبي العاص. قوله: (فقام عروة بن مسعود) أي: ابن معتب، بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة من فوق وفي آخره باء موحدة الثقفي، أسلم بعد ذلك ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال ومنها:: مثله كمثل صاحب يس في قومه، وفي رواية ابن إسحاق: إن مجيء عروة قبل قصة مجيء سهيل بن عمرو، والله أعلم. قوله: (أي قوم) أي: يا قومي. قوله: (ألستم بالوالد؟) أي: بمثل الوالد في الشفقة والمحبة. قوله: (أو لستم بالولد؟) أي: مثل الولد في النصح لوالده، ووقع في رواية أبي ذر: ألستم بالولد وألست بالوالد؟ (قالوا: بلى) والصواب هو الأول. وكذا في رواية ابن إسحاق وأحمد وغيرهما، وزاد ابن إسحاق عن الزهري: إن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف. قوله: (فهل تتهموني؟) أي: قال عروة: تنسبوني إلى التهمة؟ قالوا: لا، لأنه كان سيدا مطاعا ليس بمتهم. قوله: (إني استنفرت أهل عكاظ)، أي: دعوتهم إلى نصركم وعكاظ، بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وبالظاء المعجمة: وهو اسم سوق بناحية مكة كانت العرب تجتمع بها في كل سنة مرة. قوله: (فلما بلحوا علي) بفتح الباء الموحدة وتشديد اللام وبالحاء المهملة أي: عجزوا، يقال: بلح الفرس إذا أعيى ووقف، وقال ابن قرقول: وتخفيف اللام، قال لغة الأغشى، واشتكى الأوصال منه وبلح. وقال الخطابي:
9

بلحوا: امتنعوا، يقال: بلح الغريم إذا قام عليك فلم يؤد حقك، وبلحت البركة إذا انقطع ماؤها. قوله: (قد عرض لكم) كذا هو في رواية الكشميهني وفي رواية غيره: قد عرض عليكم. قوله: (خطة رشد) بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة، والرشد، بضم الراء وسكون الشين المعجمة وبفتحها أي: خصلة خير وصلاح، وإنصاف، ويقال: خذ خطة الإنصاف أي: انتصف. قوله: (آتيه)، بالياء على الاستئناف أي: أنا آتيه، ويجوز: أته، بالجزم جوابا للأمر. قوله: (قالوا: ائته) هذا أمر من: أتى يأتي، والأمر منه يأتي بهمزتين أحداهما همزة الكلمة والأخرى همزة الوصل فحذفت همزة الكلمة للتخفيف، وقال بعضهم: قالوا: ائته، بألف وصل بعدها همزة ساكنة ثم مثناة مكسورة ثم هاء ساكنة، ويجوز كسرها. قلت: ليس كذلك لأنه لا يقال ألف الوصل، وإنما يقال: همزة الوصل، لأن الألف لا تقبل الحركة، ولا يجوز تسكين الهاء إلا عند الوقف لأنها هاء الضمير وليست بهاء السكت حتى تكون ساكنة، وكيف يقول: ويجوز كسرها؟ بل كسرها متعين في الأصل. قوله: (نحوا من قوله لبديل). وزاد ابن إسحاق: وأخبره أنه لم يأت، يريد حربا. قوله: (فقال عروة عند ذلك) أي: عند قوله: لأقاتلنهم. قوله: (أي محمد) أي: يا محمد. قوله: (أرأيت؟) أي: أخبرني. قوله: (إن استأصلت أمر قومك) من الاستئصال وهو الاستهلاك بالكلية. قوله: (اجتاح) بجيم وفي آخره حاء مهملة، ومعناه: استأصل. قوله: (وإن تكن الأخرى) جزاؤه محذوف تقديره: وإن تكن الدولة لقومك فلا يخفى ما يفعلون بكم، وفيه رعاية الأدب مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصرح إلا بشق غالبيته، ولفظ، فأني، كالتعليل لظهور شق المغلوبية. قوله: (وجوها)، أي: أعيان الناس. قوله: (أشوابا) بتقديم الشين المعجمة على الواو. قال الخطابي: يريد الأخلاط من الناس. قال: والشوب الخلط، ويروى: أوشابا، بتقديم الواو على الشين، وهو مثله يقال: هم أوشاب وأشابات: إذا كانوا من قبائل شتى مختلفين، ووقع في رواية أبي ذر عن الكشميهني: أوباشا، وهم الأخلاط من السفلة. وقال الداودي، رحمه الله تعالى: الأوشاب: أرذل الناس، وعن القزاز مثل الأوباش. قوله: (خليقا)، بالخاء المعجمة والقاف، أي: حقيقا وزنا ومعنى، يقال: خليق للواحد والجمع، فلذلك وقع صفة لأشواب ويروى: خلقاء، بالجمع. قوله: (أن يفروا)، أي: بأن يفروا ويدعوك: أي يتركوك، بفتح الدال وهو من الأفعال التي أمات العرب ماضيها، وإنما قال ذلك لأن العادة جرت أن الجيوش المجتمعة من أخلاط الناس لا يؤمن عليهم الفرار، بخلاف من كان من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة، وفات عروة العلم بأن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة. قوله: (فقال له أبو بكر، رضي الله تعالى عنه) وفي رواية ابن إسحاق: وأبو بكر الصديق خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قاعد، فقال له، أي: لعروة: (امصص بظر اللات) ويروى عن الزهري: وهي طاغيته، أي: اللات طاغية عروة التي تعبد، وامصص: بفتح الصاد الأولى، أمر من: مصص يمصص، من باب: علم يعلم، كذا قيده الأصيلي، وقال ابن قرقول: هو الصواب من مص يمص، وهو أصل مطرد في المضاعف مفتوح الثاني، وفي رواية القابسي: ضم الصاد الأولى حكى عنه ابن التين وخطأها. والبظر، بفتح الباء الموحدة وسكون الظاء المعجمة: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وقال الكرماني: هي عنة عند شفري الفرج لم تخفض. وقال ابن الأثير: هي الهنة التي تقطعها الخافضة من فرج المرأة عند الختان. قلت: قول الكرماني: عند شفري الفرج، ليس كذلك، بل البظر بين شفريها، وكذا قال في (المغرب): بظر المرأة هنة بين شفري رحمها، وقال أبو عبيد: البظارة ما بين الأسكتين، وهما جانبا الحياء، وقال أبو زيد: هو البظر، وقال ابن مالك: هو البنظر، وقال ابن دريد: البيظرة ما تقطعه الخاتنة من الجارية ذكره في (المخصص) وفي (المحكم): البظر ما
بين الأسكتين، والجمع: بظور، وهو البيظر والبيظارة، وامرأة بظراء: طويلة البظر، والاسم: البظر، ولا فعل له، والبظر: الخاتن كأنه على السلب، ورجل أبظر لم يختتن. وقال ابن التين: هي كلمة تقولها العرب عند الذم والمشاتمة، لكن تقول: بظر أمه، واستعار أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، ذلك في اللات لتعظيمهم إياها، وحمل أبا بكر على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار. قوله: (أنحن نفر؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: (من ذا؟) قالوا: أبو بكر. وفي رواية ابن إسحاق: فقال: من هذا يا محمد؟ قال: ابن أبي قحافة. قوله: (إما هو) حرف استفتاح. قوله: (والذي نفسي بيده)، يدل على أن القسم بذاك كان عادة العرب. قوله: (لولا يد)، أي: نعمة ومنة. قوله: (لم أجزك بها) أي: لم أكافك، وفي رواية ابن إسحاق: ولكن هذه بها، أي: جازاه بعدم
10

إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها، وجاء عن الزهري بيان اليد المذكورة، وهو أن عروة كان تحمل بدية فأعانه فيها أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، بعون حسن، وفي رواية الواقدي: عشر قلائص. قوله: (فكلما تكلم)، وفي رواية السرخسي والكشميهني: فكلما كلمه أخذ بلحيته، وفي رواية ابن إسحاق: فجعل يتناول لحية النبي، صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه. قوله: (والمغيرة بن شعبة قائم)، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: أن المغيرة، لما رأى عروة بن مسعود مقبلا، لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه. قوله: (بنعل السيف)، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها. قوله: (أخر) أمر من التأخير، وزاد ابن إسحاق في روايته: قبل أن لا تصل إليك، وفي رواية عروة بن الزبير: فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه، وفي رواية ابن إسحاق، فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك؟ وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، ولا سيما عند الملاطفة، ويقال: عادة العرب أنهم يستعملونه كثيرا، يريدون بذلك التحبب والتواصل، وحكي عن بعض العجم فعل ذلك أيضا، وأكثر العرب فعلا لذلك أهل اليمن، وإنما كان المغيرة يمنعه من ذلك إعظاما لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وإكبارا لقدره، إذ كان إنما يفعل ذلك الرجل بنظيره دون الرؤساء، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من ذلك تألفا له واستمالة لقلبه وقلب أصحابه. قوله: (فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة) وفي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير: فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب، وقال: (ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك، والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة؟) وفي رواية ابن إسحاق: فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال له عروة: (من هذا يا محمد؟) قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قوله: (فقال: أي غدر) أي: فقال عروة مخاطبا للمغيرة: يا غدر، بضم الغين المعجمة على وزن: عمر، معدول عن: غادر، مبالغة في وصفه بالغدر. قوله: (ألست أسعى في غدرتك)، أي: ألست أسعى في دفع شر جنايتك ببذل المال ونحوه، وقال الكرماني: وكان بينهما قرابة. قلت: قد ذكرنا أنه كان ابن أخي عروة، وكأن الكرماني لم يطلع على هذا، فلهذا أبهمه. وفي المغازي: عروة؟ والله ما غسلت يدي من غدرتك، ولقد أورثتنا العداوة في ثقيف. وفي رواية ابن إسحاق: وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟ قوله: (وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم). وبيانه ما ذكره ابن هشام، وهو: أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك، فغدر بهم فقتلهم وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان: بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا واصطلحوا، وذكر الواقدي القصة، وحاصلها: أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة، فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم ولحق بالمدينة فأسلم. قوله: (أما الإسلام فأقبل)، بلفظ المتكلم أي: أقبله. قوله: (وأما المال فلست منه في شيء)، أي: لا أتعرض إليه لكونه أخذه غدرا، ولما قدم المغيرة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأسلم قال له أبو بكر، رضي الله تعالى عنه: (ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟) قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ليخمس، أو ليرى فيها رأيه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما المال فلست منه في شيء، يريد: في حل، لأنه علم أن أصله غصب، وأموال المشركين، وإن كانت مغنومة عند القهر، فلا يحل أخذها عند الأمن، فإذا كان الإنسان مصاحبا لهم فقد أمن كل واحد منهم صاحبه، فسفك الدماء وأخذ الأموال عند ذلك غدر، والغدر بالكفار وغيرهم محظور. قوله: (فجعل يرمق) بضم الميم، أي: يلحظ. قوله: (ما تنخم رسول الله، صلى الله عليه وسلم نخامة) ويروى: إن تنخم رسول الله، صلى الله عليه وسلم نخامة، وهي: أن النافية مثل: ما، و: النخامة، بضم النون التي تخرج من أقصى الحلق ومن مخرج الخاء المعجمة. قوله: (فدلك بها) أي: بالنخامة (وجهه وجلده) وفي رواية ابن إسحاق أيضا: ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه. قوله: (ابتدروا) أمر من الإبتدار، في الأمر وهو الإسراع فيه. قوله: (وضوءه) بفتح الواو وهو: الماء الذي يتوضؤ به. قوله: (وما يحدون إليه النظر) بضم الياء وكسر الحاء المهملة من: الإحداد وهو شدة النظر. قوله: (ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي) هذا من باب عطف الخاص على العام مثل قوله: (وفدت على الملوك) يتناول هؤلاء فقيصر، غير منصرف للعجمة والعلمية: وهو لقب لكل من ملك الروم، وكسرى، بكسر الكاف وفتحها: اسم لكل من ملك الفرس، والنجاشي: بتخفيف الجيم وتشديد الياء وتخفيفها:
11

اسم لكل من ملك الحبشة. قوله: (إن رأيت ملكا) أي: ما رأيت ملكا، وكلمة: إن، نافية. قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وهو الحليس، بضم الحاء المهملة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة: ابن علقمة الحارثي. قال ابن ماكولا: رئيس الأحابيش يوم أحد، وقال الزبير بن بكار: سيد الأحابيش. قوله: (وهو من قوم يعظمون البدن) أي: ليسوا ممن يستحلها، ومنه قوله تعالى: * (لا تحلوا شعائر الله) * (المائدة: 5). وكانوا يعظمون شأنها ولا يصدون من أم البيت الحرام، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم بإقامتها له من أجل علمه بتعظيمه لها ليخبر بذلك قومه فيخلوا بينه وبين البيت، والبدن: بضم الباء جمع بدنة، وهي من الإبل والبقر. قوله: (فابعثوها له) أي: للرجل الذي من كنانة. قوله: (فبعثت) على صيغة المجهول. قوله: (فاستقبله الناس) أي: استقبل الرجل الكناني. قوله: (يلبون)، جملة حالية أي: يقولون: لبيك اللهم لبيك إلى آخره. قوله: (فلما رأى ذلك) أي: المذكور من البدن، واستقبال الناس بالتلبية قال تعجبا: سبحان الله. وفي رواية ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
وفي رواية الحاكم: فصالح الحليس، فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عمارا. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم أجل يا أخا بني كنانة، فأعلمهم بذلك. فإن قلت: بين هذا وبين ما رواه ابن إسحاق منافاة؟ قلت: قيل: يحتمل أن يكون خاطبه على بعد، والله أعلم. قوله: (أن يصدوا) على صيغة المجهول، أي: يمنعوا. قال ابن إسحاق: وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ فقالوا: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى. قوله: (فقام رجل منهم يقال له مكرز) بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي: ابن حفص، وحفص بن الأخيف بالخاء المعجمة والياء آخر الحروف ثم الفاء، وهو من بني عامر بن لؤي. قوله: (وهو رجل فاجر) وفي رواية ابن إسحاق: غادر، وهذا أرجح لأنه كان مشهورا بالغدر ولم يصدر منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، بل الذي صدر منه خلاف ذلك، يظهر ذلك في قصة أبي جندل. وقال الواقدي: أراد أن يبيت المسلميين بالحديبية فخرج في خمسين رجلا، فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس، فانقلب منهم مكرز. قوله: (فبينما هو يكلمه) أي: بينما يكلم مكرز النبي صلى الله عليه وسلم: (إذ جاء سهيل بن عمرو) وكلمة: إذ، للمفاجأة، وفي رواية ابن إسحاق: دعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: إذهب إلى هذا الرجل فصالحه. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا. قوله: (قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة...) إلى آخره، هذا موصول إلى معمر بن راشد بالإسناد المذكور أولا، وهو مرسل، وأيوب هو السختياني، وعكرمة مولى ابن عباس. قوله: (لقد سهل لكم من أمركم)، تفاءل النبي، صلى الله عليه وسلم، باسم سهيل بن عمرو على أن أمرهم قد سهل لهم. قوله: (قال معمر: قال الزهري) هو محمد بن مسلم بن شهاب، وهو أيضا موصول بالإسناد الأول إلى معمر، وهو بقية الحديث، وإنما اعترض حديث عكرمة في أثنائه. قوله: (هات) أمر للمفرد المذكر تقول: هات يا رجل بكسر التاء أي: أعطني، وللأثنين: هاتيا، مثل: إتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، بالياء وللمرأتين: هاتيا، وللنساء: هاتين، مثل: عاطين. قال الخليل: أصل هات من: أتى يؤتي، فقلبت الألف: هاء. قوله: (أكتب بيننا وبينكم كتابا) وفي رواية ابن إسحاق: فلما انتهى، أي: سهيل، إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا، وهذا القدر من مدة الصلح التي ذكرها ابن إسحاق هو المتعمد عليها، وكذا جزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم. فإن قلت: وقع عند موسى بن عقبة وغيره أن المدة كانت سنتين. قلت: قد وفق بينهما بأن الذي قاله ابن إسحاق هي المدة التي وقع الصلح علهيا، والذي ذكره موسى وغيره هي المدة التي انتهى أمر الصلح فيها، حتى وقع نقضه على يد قريش، كما سيأتي بيان ذلك في غزوة الفتح، إن شاء الله تعالى. فإن قلت: وقع عند ابن عدي في (الكامل) و (الأوسط) للطبراني من حديث ابن عمر: (أن مدة الصلح كانت أربع سنين)؟ قلت: هذا ضعيف ومنكر ومخالف للصحيح، والله أعلم. قوله: (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب)، وفي رواية ابن إسحاق: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، (فقال: (أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قال سهيل: (أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو) وفي رواية ابن إسحاق: قال سهيل: (لا أعرف هذا ولكن أكتب باسمك اللهم)، وإنما أنكر سهيل البسملة
12

لأنهم كانوا يكتبون في الجاهلية: باسمك اللهم، وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، في بدء الإسلام يكتب كذلك، وهو معنى قوله: (ولكن أكتب باسمك اللهم) كما كنت تكتب، فلما نزلت: * (بسم الله مجريها) * (هود: 11). كتب * (بسم الله) * ولما نزل: * (ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 71). كتب * (بسم الله الرحمن الرحيم) * (النمل: 03). ولما نزل * (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) * (النمل: 03). كتب كذلك فأدركتهم حمية الجاهلية. قوله: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم) وقد مر الكلام فيه في أوائل الصلح في: باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان، وكذلك مضى الكلام هناك في سهيل بن عمرو وابنه أبي جندل. قوله: (نطوف به) بتشديد الطاء والواو وأصله نتطوف به. قوله: (فقال سهيل (والله لا) أي: لا يخلى بينك وبين البيت. وقوله: (تتحدث العرب) جملة استثنافية وليست مدخولة: لا، ومدخولة: لا، محذوفة وهي التي قدرناها، وبعضهم ظن أن: لا، دخلت على قوله: (تتحدث العرب) حتى قال عند شرح هذا: قوله: (لا تتحدث العرب) وهذا ظن فاسد، فافهم، فإنه موضع قليل من يدرك ذلك. قوله: (إنا أخذنا ضغطة) أي: قهرا. وقال الداودي: مفاجأة، وهو منصوب على التمييز، وقال ابن الأثير: يقال: ضغطه يضغطه ضغطا: إذا عصره وضيق عليه وقهره، ومنه حديث الحديبية: (إنا أخذنا ضغطة) أي: قهرا، يقال: أخذت فلانا ضغضة، بالضم: إذا ضيقت عليه لتكرهه على الشيء. قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل) وفي رواية ابن إسحاق: فإن الصحيفة تكتب إذ طلع أبو جندل، بالجيم والنون على وزن جعفر، وقد مر الكلام فيه في الصلح وله أخ اسمه: عبد الله أسلم قديما وحضر مع المشركين بدرا ففر منهم إلى المسلمين، ثم كان معهم بالحديبية، وقد استشهد باليمامة قبل أبي جندل بمدة، ووهم من جعلهما واحدا. قوله: (يرسف في قيوده) أي: يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد، ومادته: راء وسين مهملة وفاء. قوله: (إنا لم نقض الكتاب بعد) أي: لم نفرغ من كتابته بعد، وهو من: القضاء، بمعنى: الفراغ، ويروى: لم نفض، بالفاء والضاد من: فض ختم الكتاب، وهو كسره وفتحه. قوله: (فأجزه لي) بصيغة الأمر من الإجازة أي: أمض فعلي فيه، ولا أرده إليك وفي (الجمع) للحميدي: فأجزه، بالراء ورجح ابن الجوزي الزاي. قوله: (ما أنا بمجيزه لك) من الإجازة أيضا ويروى: بمجيز ذلك. قوله: (قال مكرز: بلى قد أجزنا ذلك) هكذا رواية الكشميهني بلفظ: بلى، وفي رواية غيره: قال مكرز بل بحرف الإضراب. وقال بعضهم: ولا يخفى ما فيه من النظر، ولم يذكر هنا ما أجاب به سهيل مكرزا في ذلك، قيل: لأن مكرزا لم يكن ممن جعل له أمر عقد الصلح، بخلاف سهيل، ورد على قائل هذا بما رواه الواقدي: أن مكرزا ممن جاء في الصلح مع سهيل، وكان معهما حويطب بن عبد العزى، وذكر أيضا أن مكرزا وحويطبا أخذا أبا جندل فأدخلاه فسطاطا وكفاه أباه عنه. قوله: (فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين) أي: يا معشر المسلمين. قوله: (وقد جئت مسلما) أي: حال كوني مسلما، وفي رواية ابن إسحاق. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل: إصبر واحتسب فأنا لا
نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا. قال: فوثب عمر، رضي الله تعالى عنه، مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه، فضن الرجل أي: بخل بأبيه ونفذت القضية، وقال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به للهلاك، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين، وقالت طائفة: إنما جاز رد المسلمين إليهم في الصلح لقوله، صلى الله عليه وسلم: لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون بها الحرم إلا أجبتهم، وفي رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير من صلاته بالمسجد الحرام وطوافه بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله تعالى، فعلى هذا يكون حكما مخصوصا بمكة وبسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغير جائز لمن بعده، كما قال العراقيون. قوله: (فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله...) إلى آخر الكلام، وفي رواية الواقدي من حديث أبي سعيد، قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي، صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط، وفي سورة الفتح، (فقال عمر: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلى ما نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولم يحكم الله بيننا؟) فقال: يا ابن الخطاب
13

(إني رسول الله ولن يضيعني الله، فرجع متغيظا ولم يصبر جتى جاء أبو بكر، رضي الله تعالى عنه) وأخرجه البزار من حديث عمر نفسه مختصرا، ولفظه: (قال عمر: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، برأيي وما آلوت عن الحق). وفيه: قال: فرضي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبيت حتى قال: (يا عمر! تراني رضيت وتأبى؟) قوله: (فلم نعطي الدنية؟) بفتح الدال المهملة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف وهي: النقيصة والخصلة الخسيسة. قوله: (إذا) أي: حينئذ. قوله: (قال: إني رسول الله ولست أعصيه) تنبيه لعمر، رضي الله تعالى عنه، أي: إنما أفعل هذا من أجل ما اطلعني الله عليه من حبس الناقة، وإني لست أفعل ذلك برأيي وإنما هو بوحي. قوله: (قال: أيها الرجل) يخاطب به أبا بكر عمر، رضي الله تعالى عنهما، قوله: (إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: إن محمدا لرسول الله، ويروى: إنه رسول الله، بلا لام. قوله: (فاستمسك بغرزه)، بفتح الغين المعجمة وسكون الراء، وبالزاي وهو في الأصل للإبل بمنزلة الركاب للسرج، أي: صاحبه، ولا تخالفه. قوله: (قال الزهري)، هو محمد بن مسلم الراوي وهو موصول إلى الزهري بالسند المذكور، وهو منقطع بين الزهري وعمر قوله: (فعملت لذلك أعمالا) قال الكرماني: أي من المجيء والذهاب والسؤال والجواب، ورد عليه هذا التفسير، بل المراد منه الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء، والدليل على صحة هذا ما روي عنه التصريح بمراده، بقوله: أعمالا، ففي رواية ابن إسحاق (فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به). وروي الواقدي من حديث ابن عباس: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا. قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) هذا لم يكن منهم مخالفة لأمره صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا ينتظرون إحداث الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، فيتم لهم قضاء نسكهم، فلما رأوه جازما قد فعل النحر والحلق علموا أنه ليس وراء ذلك غاية تنتظر، فبادروا إلى الإيتمار بقوله والإيتساء بفعله، وظنوا أن أمره، عليه الصلاة والسلام، بذلك للندب. قوله: (فقالت أم سلمة: يا نبي الله أخرج فلا تكلم أحدا منهم)، وفي رواية ابن إسحاق: قالت أم سلمة: يا رسول الله: لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذا بالرخصة في حقهم، وأنه هو يستمر على الإحرام أخذا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي، صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر. قوله: (نحر بدنه)، وفي رواية الكشميهني: هديه، وفي رواية ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان سبعين بدنة، كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة، وليغيظ به المشركين، وكان غنمه في غزوة بدر. قوله: (ودعا حالقه)، قال ابن إسحاق: بلغني أن الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، وخراش، بكسر الخاء المعجمة وفي آخره شين معجمة. قوله: (غما) أي: ازدحاما. قوله: (ثم جاءه نسوة مؤمنات)، قيل: ظاهره أنهن جئن إليه وهو بالحديبية، وليس كذلك، وإنما جئن إليه بعد في أثناء مدة الصلح (فأنزل الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات) * (الممتحنة: 01). قال ابن كثير: وفي سياق البخاري: ثم جاء نسوة مؤمنات، يعني: بعد أن حلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) * حتى بلغ: * (بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 01). وقد مر الكلام فيه في الصلح في: باب ما يجوز من الشروط في الإسلام. قوله: (فجاءه أبو بصير)، بفتح الباء الموحدة وكسر الصاد المهملة. قوله: (رجل من قريش) يعني: هو رجل من قريش، أي: بالحلف، واسمه: عتبة، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق، وقيل فيه: عبيد مصغر عبد وهو وهم: ابن أسيد، بفتح الهمزة على الصحيح: ابن جارية، بالجيم: الثقفي قوله: (وهو مسلم) جملة حالية. قوله: (فأرسلوا في طلبه رجلين) هما: خنيس، بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة: ابن جابر، ومولى له يقال له: كوثر، وسيأتي في آخر الباب أن الأخنس بن شريق هو الذي أرسل في طلبه، وفي رواية ابن إسحاق: كتب
14

الأحنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين. قوله: (فاستله الآخر) أي: صاحب السيف، أخرجه من غمده. قوله: (فأمكنه منه)، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: فأمكنه به، أي: بيده. قوله: (حتى برد)، بفتح الباء
الموحدة وفتح الراء أي: مات، وهو كناية لأن البرودة لازم الموت، وفي رواية ابن إسحاق: فعلاه حتى قتله. قوله: (وفر الآخر)، وفي رواية ابن إسحاق: وخرج المولى يشتد هربا. قوله: (ذعرا)، بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة أي: فزعا وخوفا. قوله: (قتل والله صاحبي) على صيغة المجهول، وفي رواية ابن إسحاق: قتل صاحبكم صاحبي. قوله: (وإني لمقتول)، يعني: إن لم تردوه عني. ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة: فرده رسول الله، صلى الله عليه وسلم إليهما، فأوثقاه حتى إذا كانا ببعض الطريق ناما، فتناول السيف بفيه، فأمره على الإسار فقطعه وضرب أحدهما بالسيف وطلب الآخر فهرب. وفي رواية الأوزاعي عن الزهري عند ابن عائذ في (المغازي): وجمز الآخر واتبعه أبو بصير حتى دفع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه وقد بدا طرف ذكره، والحصى يطن من تحت قدميه من شدة عدوه، وأبو بصير يتبعه. قوله: (قد والله أوفى الله ذمتك) أي: ليس عليك عتاب منهم فيما صنعت أنا، وكان القياس أن يقال: والله قد أوفى الله، ولكن القسم محذوف، والمذكور مؤكد له. قوله: (ويل أمه)، بضم اللام وقطع الهمزة وكسر الميم المشددة، وهي كلمة: أصلها دعاء عليه، واستعمل هنا للتعجب من إقدامه في الحرب، والإيقاد لنارها وسرعة النهوض لها) يروى: (ويلمه)، بحذف الهمزة تخفيفا، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق، أو هو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو ويل لأمه. وقال الجوهري: إذا أضفته فليس فيه إلا النصب، والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر. وقال الفراء: وأصل قولهم: ويل فلان: وي لفلان، أي: حزن له، فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها، وأعربوها. وقال الخليل: إن: وي، كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها اتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيفا. قوله: (مسعر حرب، بكسر الميم على لفظ الآلة، من الإسعار، وانتصابه على التمييز، وأصله: من مسعر حرب، ووقع في رواية ابن إسحاق: (محش حرب)، بحاء مهملة وشين معجمة وهو بمعنى: مسعر، وهو العود الذي تحرك به النار. قوله: (لو كان له أحد)، جواب: لو، محذوف أي: لو فرض له أحد ينصره ويعاضده. قوله: (سيف البحر)، بكسر السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بعدها فاء أي: ساحله وعين ابن إسحاق المكان فقال: حتى نزل العيص، بكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف بعدها صاد مهملة، وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام. قوله: (وينفلت منهم أبو جندل)، أي: من أبيه وأهله، وهو من الإنفلات، بالفاء والتاء المثناة من فوق: وهو التخلص. فإن قلت: ما النكتة في تعبيره المستقبل؟ قلت: إرادة مشاهدة الحال كما في قوله تعالى: * (الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا) * (فاطر: 9). وفي رواية أبي الأسود عن عروة: (وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا مسلمين، فلحقوا بأبي بصير، فنزلوا قريبا من ذي المروة على طريق عير قريش، فقطعوا مارتهم). قوله: (حتى اجتمعت منهم عصابة) أي: جماعة ولا واحد لها من لفظها، وهي تطلق على أربعين فما دونها، وفي رواية ابن إسحاق: أنهم بلغوا نحوا من سبعين نفسا، وجزم عروة في (المغازي): بأنهم بلغوا سبعين، وزعم السهيلي: أنهم بلغوا ثلاثمائة رجل، وزاد عروة: فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا المدينة في مدة الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين، وسمى الواقدي منهم: الوليد بن الوليد بن المغيرة وهذا كله يدل على أن العصابة تطلق على أكثر من أربعين. قوله: (لا يسمعون بعير)، أي: بخبر عير، بكسر العين المهملة: وهي القافلة. قوله: (فأرسلت قريش) وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه، قالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك. قوله: (يناشده) أي: يناشد رسول الله، صلى الله عليه وسلم (بالله والرحم) أي: يسألونه بالله وبحق القرابة. قوله: (لما أرسل) كلمة: لما، بتشديد الميم هنا بمعنى إلا، أي: إلا أرسل، كقوله تعالى: * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * (الطارق: 4). أي: إلا عليها حافظ، والمعنى هنا: لم تسأل قريش من رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلا إرساله إلى أبي بصير وأصحابه بالامتناع عن إيذاء قريش. قوله: (فمن
15

أتاه) أي: من أتى الكفار مسلما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم (فهو آمن) من الرد إلى قريش، فكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يقدم عليه، فقدم الكتاب وأبو بصير في النزع، فمات وكتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في يده: يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. قوله: (فأنزل الله تعالى * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة بعد أن أظفركم عليهم) * (الفتح: 42). حتى بلغ: * (الحمية حمية الجاهلية) * (الفتح: 62). وتمام الآية المذكورة * (وكان الله بما تعملون بصيرا) * (الفتح: 42). وبعد هذه الآية هو قوله: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما) * (الفتح: 52). وبعد هذه الآية هو قوله: * (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) * (الفتح: 62). وهو معنى قوله حتى بلغ * (الحمية حمية الجاهلية) * (الفتح: 62). وتمام هذه الآية هو قوله: * (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما) * (الفتح: 62). قوله: * (وهو الذي كف أيديهم) * أي: أيدي أهل مكة، أي: قضى بينهم وبينكم المكافأة والمحاجزة بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وظاهره: أنها نزلت في شأن أبي بصير، وفيه نظر، لأن نزولها في غيرها، وعن أنس، رضي الله تعالى عنه: (أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم واستحباهم، فأنزل الله هذه الآية. وعن عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الحديبية في أصل الشجرة التي ذكر الله تعالى في القرآن، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (هل كنتم في عهد أحد؟ أو جعل لكم أحد أمانا؟) فقالوا: (اللهم لا)، فخلى سبيلهم، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: (كف أيديكم)، بأن أمركم أن لا تحاربوا المشركين، وكف أيديهم عنكم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وقيل: بالصلح من الجانبين، وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت (ببطن
مكة من بعد أن أظفركم عليهم) * (الفتح: 42). أي: كف أيديكم عن القتال ببطن مكة فهو ظرف للقتال، وبطن مكة هو الحديبية لأنها من أرض الحرم، وقيل: إظفاره دخوله بلادهم بغير إذنهم به، وقيل: أظفركم عليهم بفتح مكة، وقيل: بقضاء العمرة، وقيل: نزلت هذه الآية بعد فتح مكة. قوله: * (هم الذين كفروا) * (الفتح: 52). يعني: قريشا، وصدوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام أن تطوفوا به للعمرة. قوله: * (والهدي) * (الفتح: 52). أي: وصدوا الهدي. قوله: * (معكوفا) * (الفتح: 52). حال أي: ممنوعا: وقيل: موقوفا * (أن يبلغ محله) * (الفتح: 52). أي: منحره، وهذا دليل لأبي حنيفة على أن المحصر محل هديه الحرم. فإن قلت: كيف حل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم ومن معه أن ينحروا هديهم بالحديبية؟ قلت: بعض الحديبية من الحرم، وروي: أن مضارب رسول الله، صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ومصلاه في الحرم. فإن قلت: قد نحر في الحرم، فلم قيل: * (معكوفا أن يبلغ محله) * (الفتح: 52). قلت: المراد: المحل المعهود وهو منى. قوله: * (لم تعلموهم) * صفة للرجال والنساء جميعا، أي: لم تعرفوهم بأعيانهم أنهم مؤمنون. قوله: * (أن تطؤهم) * بدل اشتمال من الرجال والنساء، وقيل: من الضمير المنصوب في * (تعلموهم) * أي: أن توقعوا بهم وتقتلوهم، والوطء، والدوس عبارة عن الإيقاع والإبادة. قوله: * (معرة) * (الفتح: 52). أي: عيب، مفعلة من: عره إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه، وعن ابن زيد: إثم، وعن ابن إسحاق: غرم الدية، وقيل: الكفارة. قوله: * (ليدخل الله) * (الفتح: 52). تعليل لما دلت عليه الآية من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع من قتلهم صونا لمن بين أظهرهم من المؤمنين. قوله: * (لو تزيلوا) * (الفتح: 52). تميزوا أي: تميز بعضهم من بعض، من زاله يزيله، وقيل: تفرقوا: * (لعذبنا الذين كفروا) * (الفتح: 52). من أهل مكة، فيكون: من، للتبعيض وقيل: هم الصادقون، فيكون: من، زائدة. قوله: * (عذابا أليما) * (الفتح: 52). أي: بالقتل والسيف، ويجوز: أن يكون * (لو تزيلوا) * (الفتح: 52). كالتكرير: للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون: لعذبنا، جوابا لهما. قوله: * (إذ جعل الذين كفروا) * أي: أذكر حين * (جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية) * (الفتح: 62). أي: الأنفة حمية الجاهلية حين صدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، ولم يقروا * (ببسم الله الرحمن الرحيم) * ولا برسالة النبي، صلى الله عليه وسلم، والحمية على وزن: فعيلة من قول القائل: فلان أنفة يحمي حمية ومحمية، أي: يمتنع. قوله: * (فأنزل الله سكينته) * (الفتح: 62). أي: وقاره * (على رسوله وعلى
16

المؤمنين) * (الفتح: 52). فتوقروا وصبروا. قوله: * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 52). أي: الإخلاص، وقيل: كلمة التقوى: بسم الله الرحمن الرحيم، ومحمد رسول الله). وقيل: (لا إله إلا الله، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله). وعن الحسن: الوفاء بالعهد، ومعنى: (لزمهم: أوجب عليهم)، وقيل: ألزمهم الثبات عليها، وكانوا أحق بها وأهلها من غيرهم.
قال أبو عبد الله معرة العر الجرب تزيلوا إنمازوا الحمية حميت أنفي حمية ومحمية وحميت المريض حمية وحميت القوم منعتهم حماية وأحميت الحمى جعلته حمى لا يدخل وأحميت الحديد وأحميت الرجل إذا أغضبته إحماء
أبو عبد الله هو البخاري، هذا في رواية المستملي وحده، وقد فسر هنا ثلاثة ألفاظ التي وقعت في الآيات المذكورة، أحدها: هو قوله: (العر) أشار بهذا إلى أن لفظ: المعرة، التي في الآية الكريمة مشتقة من: العر، بفتح العين المهملة. وتشديد الراء، ثم فسر: العر، بالجرب، بالجيم: وقال ابن الأثير: (المعرة الأمر القبيح المكروه، والأذى، وهي مفعلة من العر). وقال الجوهري: (العر، بالفتح: الجرب، تقول منه: عرت الإبل تعر فهي عارة، والعر، بالضم: قروح مثل القوباء تخرج بالإبل متفرقة في مشافرها وقوائمها، يسيل منها مثل الماء الأصفر، فتكوى الصحاح لئلا تعديها المراض، تقول منه: عرت الإبل فهي معرورة). الثاني: هو قوله: (تزيلوا)، وفسره بقوله: إنمازوا وهو من: الميز، يقال: مزت الشيء من الشيء: إذا فرقت بينهما فانماز، وامتاز وميزته فتميز. الثالث: هو قوله: (الحمية) إلى آخره، وقد ذكر فيه ستة معاني. الأول: حميت أنفي حمية، وهذا يستعمل في شيء تأنف منه، وداخلك عار ومصدره حمية ومحمية. فالأول بتشديد الياء آخر الحروف، يقال: حمى من ذلك أنفا أي: أخذته الحمية، وهي الأنفة والغيرة. الثاني: حميت المريض أي: الطعام، ومصدره: حمية، بكسر الحاء وسكون الميم وفتح الياء وجاء: حموه، أيضا. والثالث: حميت القوم: منعتهم من حصول الشر والأذى إليهم، ومصدره: حماية، على وزن فعالة بالكسر. والرابع: أحميت الحمى، بكسر الحاء وفتح الميم مقصور لا يدخل فيه ولا يقرب منه، وهذا حمى على وزن فعل، بكسر الفاء وفتح العين أي: محظور لا يقرب. والخامس: أحميت الحديد في النار، فهو محمي ولا يقال: حميته. والسادس: أحميت الرجل إذا أغضبته، وحميت عليه غضبت ومصدر الأول إحماء بكسر الهمزة. وله معنى سابع: حمى النهار بالكسر، وحمى التنور حميا، فيهما أي: اشتد حره. وحكى الكسائي: اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى. ومعنى ثامن: حاميت على ضيفي إذا احتفلت له. ومعنى تاسع: احتميت من الطعام احتماء.
3372 وقال عقيل عن الزهري قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى * (أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم) * وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر أن عمر طلق امرأتين قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي فتزوج قريبة معاوية وتزوج الأخرى أبو جهم فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم أنزل الله تعالى * (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) * (الممتحنة: 11). والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار فأمر أن يعطى من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللاتي هاجرن وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا مهاجرا في المدة فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أبا بصير فذكر الحديث.
.
قوله: قال عقيل، بضم العين عن محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره تقدم موصولا بتمامه في أول الشروط، ومضى
17

الكلام فيه مستوفى، وإنما أورده هنا لبيان ما وقع في رواية معمر بن راشد من الإدراج. قوله: (كان يمتحنهن) أي: يختبرهن بالحلف والنظر في الأمارات. قوله: (وبلغنا) هو مقول الزهري، وكذا قوله: (وبلغنا أن أبا بصير...) إلى آخره، والمراد به: أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرا على وصلها ابن إسحاق، وتابع عقيلا الأوزاعي على إرسالها، والظاهر أن الزهري كان يرسلها تارة ويوصلها أخرى. قوله: (من أزواجهم) ويروى من أزواجهن، وتأويله: أن الإضافة بيانية أي: أزواج هي هن، وفيه تعسف. وضبط (قريبة) قد تقدم في الشروط، وابنة جرول، بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الواو وباللام الخزاعي أم عبد الله بن عمر، قيل: اسمها كلثوم، وأبو جهم، بفتح الجيم وسكون الهاء: عامر بن حذيفة الأموي، وقد تقدم أن ابنة جرول تزوجها صفوان بن أمية، وهنا يقول: تزوجها أبو جهم، ووجهه: أن الأول رواية عقيل عن الزهري، والثاني رواية معمر عنه. قوله: (وإن فاتكم) أي: سبقكم. قوله: * (فعاقبتم) * قال الزمخشري: من العقبة وهي النوبة، شبه ما حكم به على المسلمين والمشركين من أداء المهور بأمر يتعاقبون فيه، ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهور. قوله: (أن يعطى) على صيغة المجهول، وقوله: (من صداق) يتعلق به. وقوله: (ومن ذهب) هو مفعول ما لم يسم فاعله. وقوله: (وما أنفق) هو المفعول. قوله: (مؤمنا) حال، ووقع في رواية السرخسي والمستملي: قدم من منى، وهو تصحيف، قوله: (مهاجرا) حال، إما من الأحوال المترادفة أو من المتداخلة. قوله: (في المدة)، أي: في مدة المصالحة. قوله: (يسأله) جملة وقعت حالا.
ذكر ما يستفاد من هذا الحديث: الذي ما وقع في البخاري حديث أطول منه. فيه: المصالحة مع أهل الحرب على مدة معينة واختلفوا في المدة. فقيل: لا تجاوز عشر سنين، على ما في الحديث المذكور، وبه قال الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: سنتين. وقال أصحابنا يجوز الصلح مع الكفار بمال يؤخذ منهم أو يدفع إليهم إذا كان الصلح خيرا في حق المسلمين، والذي يؤخذ منهم بالصلح يصرف مصارف الجزية. وفيه: كتابة الشروط التي تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها ليكون ذلك شاهدا على من رام نقض ذلك والرجوع منه. وفيه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة. وفيه: جواز التنكب عن الطريق بالجيوش، وإن كان في ذلك مشقة. وفيه: بركة التيامن في الأمور كلها. وفيه: أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا السنة في قضاء الله تعالى في الأمم الخالية، ويمتثلوا ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم، ونبهوا عليه، كما امتثله الشارع صلى الله عليه وسلم في أمر ناقته وبروكها في قصة الفيل، لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت، وإذا صرفت عنها مشت، كما كان دأب الفيل، وهذا خارج عن العادة، فعلم أن الله صرفها عن مكة كالفيل. وفيه: علامات النبوة وبركته صلى الله عليه وسلم. وفيه: بركة السلاح المحمولة في سبيل الله. وفيه: التفاؤل من الاسم كما سلف. وفيه: أن أصحاب السلطان يجب عليهم مراعاة أمره وعونه. وفيه: أن من صالح أو عاقد على شيء بالكلام ثم لم يوف له به أنه بالخيار في النقض. وفيه: جواز المعارضة في العلم حتى تتبين المعاني. وفيه: أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص، ألا يرى أن عمر، رضي الله تعالى عنه، جمل كلامه على الخصوص، لأنه طالبه بدخول البيت في ذلك العام، فأخبره أنه لم يعده بذلك في ذلك العام، بل وعده وعدا مطلقا في الدهر، حتى وقع ذلك، فدل على أن الكلام محمول على العموم، حتى يأتي دليل الخصوص. وفيه: أن من حلف على فعل ولم يوقت وقتا أن وقته أيام حياته. وقال ابن المنذر: فإن حلف بالطلاق على فعل ولم يوقت وقتا. أن وقته أيام حياته، وإن حلف بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم، فقالت طائفة: لا يطأها حتى يفعل الذي حلف عليه، فأيهما مات لم يرثه صاحبه، هذا قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والنخعي وأبي عبيد. وقالت طائفة: إن مات ورثته وله وطؤها، روي هذا عن عطاء، وقال يحيى بن سعيد: ترثه إن مات، وقال مالك: إن ماتت امرأته يرثها. وقال الثوري: إنما يقع الحنث بعد الموت، وبه قال أبو ثور، وقال أبو ثور أيضا: إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت، ولا يقع حنث بعد الموت، فإذا مات لم يكن عليه شيء. وقالت طائفة: يضرب لهما أجل المولى: أربعة أشهر، روي هذا عن القاسم وسالم، وهو قول ربيعة والأوزاعي، وقال أبو حنيفة: إن قال: أنت طالق إن لم آت البصرة، فماتت امرأته قبل أن يأتي البصرة فله الميراث، ولا يضره أن لا يأتي البصرة بعد، لأن
18

امرأته ماتت قبل أن يحنث، ولو مات قبلها حنث وكان لها الميراث، لأنه فار، ولو قال لها: أنت طالق إن لم تأت البصرة، فمات، فليس لها ميراث، وإن مات قبلها حنث، وكان لها الميراث لأنه فار. وفيه قول سادس: حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر، قال: إن أخذ الحالف في التأهب لما خلف عليه والسعي فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر وإلا فهو حانث عند ترك ذلك. وقال ابن المنذر: في هذا الحديث دليل على أن من لم يحد ليمينه أجلا أنه على يمينه، ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذي حلف بفعله. وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي. وفيه: أن من جاء إلى غير بلد الإمام ليس على الإمام رده. وفيه: جواز قيام الناس على رأس الإمام بالسيف مخافة العدو، وأن الإمام إذا جفا عليه أحد لزم ذلك القائم تغييره بما أمكنه. وفيه: فضل أبي بكر على عمر، رضي الله تعالى عنهما، في جوابه له بما أجاب به سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم سواء. وفيه: جواز السفر وحده للحاجة. وفيه: جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته. وفيه: جواز التصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك. وفيه: تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول. وقال ابن القيم في (الهدي): وقد حفظ عن النبي، صلى الله عليه وسلم (الحلف في أكثر من ثمانين موضعا). وفيه: استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم. وفيه: جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهارا على غيرهم، ولا يعد ذلك من
موالاة الكفار ولا من موادة أعداء الله تعالى. بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم وإنكار بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق. وفيه: أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم يكن عليه ضمانه، وهو وجه للشافعية. وفيه: طهارة النخامة والشعر المنفصل، والشافعية يحكمون بنجاسة الشعر المنفصل، ومنهم من بالغ حتى كاد أن يخرج من الإسلام، فقال: وفي شعر النبي صلى الله عليه وسلم وجهان، نعوذ بالله تعالى من هذا الضلال. وفيه: التبرك بآثار الصالحين من الأشياء الطاهرة. وفيه: جواز المخادعة في الحرب وإظهار إرادة الشيء والمقصود غيره. وفيه: أن كثيرا من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وينكرون من يصد عن ذلك، تمسكا منهم ببقايا من دين إبراهيم، صلى الله عليه وسلم. وفيه: فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول. وفيه: أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية.
61
((باب الشروط في القرض))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في القروض.
4372 وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمان بن هرمز عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فدفعها إليه إلى أجل مسمى.
.
مضى هذا الحديث بتمامه في: باب الكفالة في القرض، ومضى الكلام فيه هناك، وذكر هنا طرفا منه لأجل الترجمة المذكورة، وسقط جميع ذلك في رواية النسفي، ولكن زاد في الترجمة التي تليه: باب الشروط في القرض والمكاتب... إلى آخره.
وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعطاء إذا أجله في القرض جاز
مضى هذا الحديث أيضا في القرض في: باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى، ومضى الكلام فيه مع بيان الخلاف فيه.
19

71
((باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله تعالى))
أي: هذا باب في بيان حكم المكاتب، وقد تقدم في كتاب الشروط: باب ما يجوز من شروط المكاتب، وقوله هنا: باب المكاتب، أعم من ذلك، وقد تقدم أيضا في كتاب العتق: باب ما يجوز من شروط المكاتب، ومن اشترط شرطا ليس في كتاب الله. وحديث الأبواب الثلاثة واحد، وتكرار التراجم لا يدل على زيادة فائدة إلا في شيء واحد، وهو أنه فسر قوله: ليس في كتاب الله، بقوله: (التي تخالف كتاب الله) لأن المراد بكتاب الله حكمه، وحكمه تارة يكون بطريق النص وتارة يكون بطريق الاستنباط منه، وكل ما لم يكن من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما في المكاتب شروطهم بينهم
هذا التعليق وصله سفيان الثوري في كتاب الفرائض له من طريق مجاهد عن جابر، والمعنى: شروط المكاتبين وساداتهم معتبرة بينهم.
وقال ابن عمر أو عمر رضي الله تعالى عنهما كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مائة شرط
هكذا وقع لأكثر الرواة، وفي رواية النسفي: وقال ابن عمر، فقط. ولم يقل: أو عمر، ووقع في رواية كريمة.
وقال أبو عبد الله يقال عن كليهما عن عمر وابن عمر
أبو عبد الله هو البخاري. قوله: (عن كليهما) أي: عن عمر وعن ابنه عبد الله، وقد تقدم فيما مضى في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، في قصة بريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق). ويأتي الآن أيضا في حديث الباب، والمعنى: كل شرط ليس في حكم الله وقضائه في كتابه أو سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فهو باطل.
5372 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط.
.
قد تقدم هذا الحديث غير مرة، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وآخر ما ذكر في أواخر كتاب العتق.
81
((باب ما يجوز من الإشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم وإذا قال مائة إلا واحدة أو ثنتين))
أي: هذا باب في بيان ما يجوز من الاشتراط. وقال ابن بطال: وقع في بعض النسخ: باب ما لا يجوز في الاشتراط والثنيا، قال: وهو خطأ، والصواب: باب ما
يجوز، والحديث الذي ذكره البخاري بعد يدل على صحته. قوله: (والثنيا)، بضم الثاء المثلثة وسكون النون بعدها ياء آخر الحروف مقصور أي: الاستثناء في الإقرار سواء كان استثناء قليل من كثير، أو بالعكس، فالأول لا خلاف فيه أنه يجوز، والثاني مختلف فيه. وحديث الباب يدل على جواز استثناء القليل من الكثير، وهذا جائز عند أهل اللغة والفقه والحديث قال الداودي: أجمعوا على من استثنى في إقراره ما بقي بعده بقية ما أقر به أن له ثنياه، فإذا
20

قال له: علي ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعية، صح ولزمه واحد. قال: وكذلك لو قال: أنت طالق ثلاثة إلا ثنتين، لقوله تعالى: * (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) * (العنكبوت: 41). قال ابن التين: وهذا الذي ذكره الداودي أنه إجماع ليس كذلك، ولكن هو مشهور مذهب مالك، وذكر الشيخ أبو الحسن قولا ثالثا في قوله: أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين، أنه يلزمه ثلاث، وذكر القاضي في معونته عن عبد الملك وغيره أنه يقول: لا يصح استثناء الأكثر، واحتجاج الداودي بهذه الآية غير بين، وإنما الحجة في ذلك قوله تعالى: * (إلا من اتبعك من الغاوين) * (الحجر: 24). وقوله: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 51، وص: 38). فإن جعلت: المخلصين، الأكثر فقد استثناهم، وإن جعلت: الغاوين الأكثر فقد استثناهم أيضا، ولأن الاستثناء إخراج، فإذا جاز إخراج الأقل جاز إخراج الأكثر، ومذهب البصريين من أهل اللغة وابن الماجشون: المنع، وإليه ذهب البخاري حيث أدخل هذا الحديث هنا باستثناء القليل من الكثير. قوله: (والشروط)، أي: وفي بيان الشروط التي يتعارفها الناس بينهم، نحو: أن يشتري نعلا أو شراكا بشرط أن يحذوه البائع، أو اشترى أديما بشرط أن يخرز له خفا، أو اشترى قلنسوة بشرط أن يبطنه البائع، فإن هذه الشروط كلها جائزة، لأنه متعارف متعامل بين الناس، وفيه خلاف زفر، وكذا لو اشترى شيئا وشرط أن يرهنه بالثمن رهنا، وسماه أو يعطيه كفيلا وسماه والكفيل حاضر وقبله، وكذلك: الحوالة، جاز استحسانا خلافا لزفر، وأما الشروط التي لا يتعارفها الناس فباطلة، نحو ما إذا اشترى حنطة وشرط على البائع طحنها أو حملانها إلى منزله، أو اشترى دارا على أن يسكنها شهرا، فإن ذلك كله لا يصح لعدم التعارف والتعامل. قوله: (وإذا قال مائة إلا واحدة أو اثنتين)، أشار بهذا إلى أن اختياره جواز استثناء القليل من الكثير، وعدم جواز عكسه، وذكر بهذا صورة استثناء القليل من الكثير، نحو ما إذا قال: لفلان علي مائة درهم، مثلا، إلا واحدة أو الإثنتين، فإنه يصح، ويلزمه في قوله: إلا واحدة، تسعة وتسعون درهما. وفي قوله إلا اثنتين: يلزمه ثمانية وتسعون درهما.
وقال ابن عون عن ابن سيرين قال: قال رجل لكريه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه
ابن عون هو: عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، وابن سيرين هو محمد بن سيرين، وشريح هو القاضي. قوله: (لكريه) بفتح الكاف وكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف، على وزن فعيل هو المكاري، قوله: (ادخل) من الإدخال وركابك منصوب به، والركاب، بكسر الراء: الإبل التي يسار عليها والواحدة: راحلة ولا واحد لها من لفظها. قوله: (فلم يخرج)، أي: لم يرحل معه، يلزمه مائة درهم عند شريح، وهو معنى قوله: قال شريح: من شرط على نفسه طائعا، أي حال كونه طائعا مختارا غير مكره عليه، فهو أي الشرط الذي شرط عليه أي يلزمه، وفي هذا خالف الناس شريحا، يعني: لا يلزمه شيء، لأنه عدة، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور عن هشيم عن ابن عون... إلى آخره.
وقال أيوب عن ابن سيرين إن رجلا باع طعاما وقال إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع فلم يجيء فقال شريح للمشتري أنت أخلفت فقضى عليه
أيوب هو السختياني. قوله: (الأربعاء) أي: يوم الأربعاء، وهذا الشرط جائز أيضا عند شريح لأنه قال للمشتري عند التحاكم إليه: أنت أخلفت الميعاد، فقضي عليه برفع البيع، وهذا أيضا مذهب أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وقال مالك والشافعي وآخرون: يصح البيع ويبطل الشرط، وهذا التعليق أيضا وصله سعيد بن منصور عن سفيان عن أيوب عن ابن سيرين فذكره.
6372 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال إن لله تسعة وتسعين إسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة.
21

مطابقته للترجمة في موضعين. أحدهما: في قوله: (والثنيا) من غير قيد بالإقرار، لأن الثنيا في نفسه أعم من أن يكون في الإقرار أو في غيره، كما في الحديث المذكور. والآخر: في قوله: (مائة إلا واحدة).
ورجاله قد تكرر ذكرهم، وأبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي، وشعيب هو ابن أبي حمزة الحمصي، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن أبي اليمان أيضا وقال المزني: وأخرجه الترمذي في الدعوات عن إبراهيم بن يعقوب. وأخرجه النسائي في النعوت عن عمران بن بكار. قلت: أخرجه ابن ماجة من حديث موسى بن عقبة: حدثني الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعة وتسعين إسما، مائة إلا واحدا، إنه وتر يحب الوتر، من حفظها دخل الجنة) فذكرها مفصلة إسما بعد اسم. وقال في آخره، قال زهير: فبلغنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يفتتح بقوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى). وقال الترمذي: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح. وأخرجه الحاكم في (مستدركه): وقال: هذا حديث صحيح قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة، دون ذكر الأسامي فيه، والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقه بطوله وذكر الأسامي
فيه ولم يطكر غيره وليس هذا بعلة فإني لا أعلم خلافا بين أئمة الحديث أن الوليد بن مسلم أوثق وأحفظ وأعلم وأجل من أبي اليمان وبشر بن شعيب وعلي بن عياش وأقرانهم من أصحاب شعيب. وأخرجه ابن حبان أيضا في (صحيحه).
ذكر معناه: قوله: (إن لله تسعة وتسعين إسما) ليس فيه نفي غيرها، والدليل عليه حديث ابن مسعود يرفعه: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك).. الحديث، وحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: (اللهم إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير الأكبر من دعاك به أجبته). قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم أصبتيه أصبتيه). وأما وجه التخصيص بذكرها فلأنها أشهر الأسماء وأبينها معاني. قوله: (مائة إلا واحدا) أي: إلا إسما واحدا. ويروى: (واحدة) أنثها ذهابا إلى معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة. فإن قلت: ما فائدة هذا التأكيد. قلت: قيل: إن معرفة أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية تعلم من طريق الوحي والسنة، ولم يكن لنا أن نتصرف فيها بما لم يهتد إليه مبلغ علمنا ومنتهى عقولنا، وقد منعنا عن إطلاق ما لم يرد به التوقيف في ذلك، وإن جوزه العقل وحكم به القياس كان الخطأ في ذلك غير هين، والمخطئ فيه غير معذور، والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضي، وكان الاحتمال في رسم الخط واقعا باشتباه تسعة وتسعين في زلة الكاتب وهفوة القلم بسبعة وتسعين أو سبعة وسبعين أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور، فأكده به حسما لمادة الخلاف، وإرشادا إلى الاحتياط في هذا الباب. قال الكرماني: فإن قلت: ما الحكمة في الاستثناء؟ قلت: قيل: الفرد أفضل من الزوج، ولذلك (جاء: أن الله وتر يحب الوتر)، ومنتهى الإفراد من المراتب من غير تكرار تسعة وتسعون، لأن مائة وواحدة يتكرر فيه الواحد، وقيل: الكمال في العدد من المائة، لأن الأعداد كلها ثلاثة أجناس: آحاد وعشران ومآت، لأن الألوف ابتداء آحاد آخر بدل عشرات الألوف وآحادها، فأسماء الله تعالى مائة، وقد استأثر الله منها بواحد، وهو الاسم الأعظم لم يطلع عليه غيره، فكأنه قال: مائة، لكن واحد منها عند الله. قوله: (من أحصاها)، قال الخطابي: الإحصاء يحتمل وجوها: أظهرها: العد لها حتى يستوفيها، أي: لا يقتصر على بعضها، بل يثني على الله تعالى بجميعها. وثانيها: الإطاقة، أي: من أطاق القيام بحقها والعمل بمقتضاها، وهو أن يعتبر معانيها ويلزم نفسه بواجبها، فإذا قال: الرزاق ألزم ووثق بالرزق، وهلم جرا. وثالثها: العقل، أي: من عقلها وأحاط علما بمعانيها من قولهم: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل، وقيل: أحصاها، أي: عرفها، لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنا، والمؤمن يدخل الجنة لا محالة. وقال ابن الجوزي: لعله يكون المراد بقوله: (من أحصاها) من قرأ القرآن حتى يختمه فيستوفي، أي: من حفظ القرآن العزيز دخل الجنة، لأن جميع الأسماء فيه. وقيل: من أحصاها، أي: حفظها، هكذا فسره البخاري
22

والأكثرون، ويؤيده أنه ورد في رواية في (الصحيح): من حفظها دخل الجنة. وقال الطيبي: أراد بالحفظ: القراءة بظهر القلب، فيكون كناية، لأن الحفظ يستلزم التكرار، فالمراد بالإحصاء تكرار مجموعها. فإن قلت: لم ذكر الجزاء بلفظ الماضي؟ قلت: تحقيقا لوقوعه كأنه قد وجد.
فوائد: أسماء الله تعالى ما يصح أن يطلق عليه، سبحانه وتعالى، بالنظر إلى ذاته: كالله، أو باعتبار صفة من صفاته السلبية: كالقدوس والأول، أو الحقيقية: كالعليم والقادر، أو الإضافية: كالحميد والملك؛ أو باعتبار فعل من أفعاله: كالخالق والرزاق وقالت المعتزلة: الاسم هو التسمية دون المسمى، وقال الغزالي: الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة، والمسمى هو المعنى الموضوع له الاسم، والتسمية وضع اللفظ له أو إطلاقه عليه. وقال الطيبي: قال مشايخنا: التسمية هو اللفظ الدال على المسمى، والاسم هو المعنى المسمى به، كما أن الوصف هو لفظ الواصف، والصفة مدلوله، وهو المعنى القائم بالموصوف، وقد يطلق ويراد به اللفظ، كما تطلق الصفة ويراد الوصف إطلاقا لاسم المدلول على الدال، وعليه اصطلحت النحاة. وقيل: الفرق بين الاسم والمسمى إنما يظهر من قولك: رأيت زيدا، فإن المراد بالاسم المسمى لأن المرئي ليس (ز ي د) فإذا قلت: سميته زيدا، فالمراد غير المسمى، لأن معناه سميته بما يتركب من هذه الحروف، وفي قولك: زيد حسن، لفظ مشترك أن تعني به هذا اللفظ حسن، وأن تعني به المسمى حسن، وأما قول من قال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال: نار، احترق فمه، فهو بعيد. لأن العاقل لا يقول إن زيدا الذي هو: زاي وياء ودال، هو الشخص. وقال محيي السنة في (معالم التنزيل): الإلحاد في أسمائه تسميته بما لا ينطق به كتاب ولا سنة. وقال أبو القاسم القشيري في كتابه (مفاتيح الحجج): أسماء الله تؤخذ توقيفا ويراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع، فكل اسم ورد في هذه الأصول وجب إطلاقه في وصفه تعالى، وما لم يرد فيه لا يجوز إطلاقه في وصفه، وإن صح معناه. وقال الراغب: ذهبت المعتزلة إلى أنه يصح أن يطلق على الله تعالى كل اسم يصح معناه فيه، والأفهام الصحيحة البشرية لها سعة ومجال في اختيار الصفات. قال: وما ذهب إليه أهل الحديث هو الصحيح، ولو ترك الإنسان وعقله لما جسر أن يطلق عليه عامة هذه الأسماء التي ورد الشرع بها، إذ كان أكثرها على حسب تعارفنا يقتضي أعراضا، إما كمية نحو: العظيم والكبير، وإما كيفية نحو الحي والقادر، أو زمانا نحو: القديم والباقي، أو مكانا نحو: العلي والمتعالي، أو أنفعالا نحو: الرحيم والودود، وهذه معان لا تصح عليه سبحانه وتعالى على حسب ما هو متعارف بيننا، وإن كان لها معان معقولة عند أهل الحقائق، من أجلها صح إطلاقها عليه، عز وجل. وقال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يدعوه لما لم يصف به نفسه، فيقول: يا رحيم لا يا رقيق، ويقول: يا قوي لا يا خليل، وذكر الحاكم أبو عبد الله الحسن ابن الحسن الحليمي: أن أسماء الله التي ورد بها الكتاب والسنة وإجماع العلماء على تسميته بها منقسمة بين عقائد خمس: الأول: إثبات الباري لتقع به مفارقة التعطيل. الثاني: إثبات وحدانيته لتقع به البراءة من الشرك. الثالث: إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه. الرابع: إثبات إن وجود كل ما سواه كان من قبل إبداعه واختراعه إياه لتقع البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلول. الخامس: إثبات أنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء، لتقع به البراءة من قول القائلين بالطبائع أو بتدبير الكواكب، أو بتدبير الملائكة، عليهم السلام. وزعم ابن حزم أن من زاد شيئا في الأسماء على التسعة والتسعين من عند نفسه فقد ألحد في أسمائه، لأنه، عليه الصلاة والسلام، قال: مائة إلا واحدا، فلو جاز أن يكون له اسم زائد لكانت
مائة.
91
((باب الشروط في الوقف))
أي: هذا باب في بيان حكم الشروط في الوقف.
7372 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا ابن عون قال أنبأني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى
23

الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول قال فحدثت به ابن سيرين فقال غير متأثل مالا.
.
مطابقته للترجمة في قول عمر، رضي الله تعالى عنه: (أنه لا يباع...) إلى آخره. ومحمد بن عبد الله وابن عون هو عبد الله بن عون البصري. قوله: (أنبأني نافع)، أي: أخبرني، وقيل: الإنباء يطلق على الإجازة أيضا.
والحديث أخرجه البخاري في الوصايا أيضا عن قتيبة عن حماد، وأخرجه مسلم في الوصايا عن إسحاق بن إبراهيم به. وأخرجه النسائي في الأحباس عن إسحاق بن إبراهيم به، وعن هارون بن عبد الله وعن محمد بن المصفى بن بهلول.
قوله: (يستأمره)، أي: يستشيره. قوله: (أصبت أرضا بخيبر)، واسم تلك الأرض: ثمغ، بفتح الثاء المثلثة وسكون الميم وبالغين المعجمة. قوله: (أنفس عندي منه) أي: أجود وأعجب منه. قوله: (وفي القربى)، القرابة في الرحم. وهو في الأصل مصدر تقول: بيني وبينه قرابة وقرب وقربى ومقربة وقربة وقربة، بضم الراء وسكونها. قوله: (وفي الرقاب)، أي: في فك الرقاب، وهم المكاتبون يدفع إليهم شيء من الوقف تفك به رقابهم، وكذلك لهم نصيب في الزكاة. قوله: (وفي سبيل الله)، هو منقطع الحاج ومنقطع الغزاة. قوله: (وابن السبيل)، وهو الذي له مال في بلد لا يصل إليها وهو فقير. قوله: (والضيف)، من عطف الخاص على العام، قوله: (لا جناح) أي: لا إثم. (على من وليها)، أي: من ولي التحدث على تلك الأرض (أن يأكل منها) أي: من ريعها (بالمعروف) أي: بحسب ما يحتمل ريع الوقف على الوجه المعتاد. قوله: (ويطعم) بالنصب عطف على: أن يأكل. قوله: (غير متمول) حال من قوله: من وليها، أي: أكله وإطعامه لا يكون على وجه التمول، بل لا يتجاوز المعتاد. قوله: (فحدثت به ابن سيرين).
أي: قال ابن عون: فحدثت بهذا الحديث محمد بن سيرين: (فقال: غير متأثل مالا) أي: غير جامع مالا، يقال: مال مؤثل، بالثاء المثلثة المشددة، أي: مجموع ذو أصل، وأثلة الشيء: أصله.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به الجمهور وأبو يوسف ومحمد على جواز الوقف، ولا خلاف بينهم في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بما يحصل من الوقف ما دام الواقف حيا، حتى أن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض، ويكون ذلك بمنزلة النذر بالغلة، ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي، أو أضافه إلى ما بعد الموت بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وفقا على كذا، أو قال: هو وقف في حياتي، صدقة بعد وفاتي. واختلفوا في جوازه مزيلا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت، ولا اتصل به حكم حاكم، فقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته، وإذا مات يصير ميراثا لورثته. وقال أبو يوسف ومحمد والجمهور: يجوز حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث. وفيه: أن الوقف مشروع خلافا للقاضي شريح. وفيه: أن الوقف لا يجوز بيعه ولا هبته ولا يصير ميراثا، لأنه صار لله تعالى، وخرج عن ملك الواقف: واختلفوا، هل يدخل في ملك الموقوف عليه أم لا؟ فقال أصحابنا: لا يدخل، لكنه ينتقع بغلته بالتصدق عليه، لأن الوقف حبس الأصل وتصدق بالفرع، والحبس لا يوجب ملك المحبوس، وعن الشافعي ومالك وأحمد: ينتقل إلى ملك الموقوف عليه لو كان أهلا له. وعن الشافعي، في قول: ينتقل إلى الله تعالى، وهو رواية عن أصحابنا، وعن الشافعي: أن الملك في رقبة الوقف لله تعالى، وذكر صاحب (التحرير): أنه إذا كان الوقف على شخص، وقلنا: الملك للموقوف عليه، افتقر إلى قبضه كالهبة، وقال النووي في (الروضة): هذا غلط ظاهر. وفيه: أن الوقف بلفظ: حبست، بل الأصل هذه اللفظة، لأن الوقف في اللغة: الحبس، وفي (الروضة): لا يصح الوقف إلا بلفظ،
24

فلو بني على هيئة المساجد أو على غير هيئتها، وأذن في الصلاة فيه لم يصر مسجدا، وألفاظه على مراتب: إحداها قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة أو محبسة أو مسبلة. فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور، وفي وجه هذا كله كناية، وفي وجه الوقف صريح والباقي كناية. الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين. أو أبدتها أو داري محرمة، أو مؤبدة، كناية على المذهب. الثالثة: تصدقت بهذه البقعة ليس بصريح، فإن زاد معه: صدقة محرمة أو محبسة أو موقوفة التحق بالصريح، وقيل: لا بد من التقييد بأنه: لا يباع ولا يوهب. وقالت الحنابلة: يصح الوقف بالقول، وفي الفعل الدال عليه روايتان، وإن كان الوقف على آدمي معين افتقر إلى قبوله كالوصية والهبة، وقال القاضي منهم: لا يفتقر إلى قبوله كالعتق. وفيه: أن قيم الوقف له أن يتناول من غلة الوقف بالمعروف ولا يأخذ أكثر من حاجته، هذا إذا لم يعين الواقف له شيئا معينا. فإذا عينه، له أن يأخذ ذلك قليلا أو كثيرا. وفيه: صحة شروط الوقف. وفيه:
فضيلة ظاهرة لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. وفيه: مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير. وفيه: أن خيبر فتحت عنوة، وأن الغانمين ملكوها واقتسموها واستقرت أملاكهم على حصصهم ونفذت تصرفاتهم فيها. وفيه: فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم. وفيه: أن الواقف إذا أخرجه من يده إلى متولي النظر فيه يجعله في صنف أو أصناف مختلفة، إلا إذا عين الواقف الأصناف. وفيه: ما كان نظير الأرض التي حبسها عمر، رضي الله تعالى عنه، كالدور والعقارات يجوز وقفها، واحتج أبو حنيفة فيما ذهب إليه بقول شريح: لا حبس عن فرائض الله تعالى، أخرجه الطحاوي عن سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن عطاء ابن السائب عنه، ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في (سننه) بأتم منه، ومعناه: لا يوقف مال ولا يزوى عن ورثته ولا يمنع عن القسمة بينهم، ويؤيد هذا ما رواه الطحاوي أيضا من حديث عكرمة عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: بعدما أنزلت سورة النساء وأنزل فيها الفرائض، نهى عن الحبس. وأخرجه البيهقي أيضا، وقال: وفي سنده ابن لهيعة وأخوه عيسى وهما ضعيفان. قلت: ما لابن لهيعة؟ وقد قال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقا، وقال في موضع آخر: وحدثني الصادق البار والله ابن لهيعة؟ وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة؟ وعنه: من مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ ولهذا حدث عنه أحمد في (مسنده) بحديث كثير. وأما أخوه عيسى فإن ابن حبان ذكره في (الثقات)، وقال الطحاوي: هذا شريح، وهو قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين، رضي الله تعالى عنهم، قد روى عنه هذا، ووافق أبا حنيفة في هذا عطاء بن السائب وأبو بكر بن محمد وزفر بن الهذيل. فإن قلت: ما تقول في وقف رسول الله، صلى الله عليه وسلم وفي أوقاف الصحابة بعد موت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قلت: أما وقف رسول الله، صلى الله عليه وسلم فإنما جاز، لأن المانع وقوعه حبسا عن فرائض الله، ووقفه، عليه الصلاة والسلام، لم يقع حبسا عن فرائض الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة). وأما أوقاف الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة، هذا هو الظاهر. فإن قلت: قال البيهقي: ولو صح هذا الخبر لكان منسوخا. قلت: النسخ لا يثبت إلا بدليل، ولم يبين دليله في ذلك، فمجرد الدعوى غير صحيح. والجواب عن حديث الباب: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)، لا يستلزم إخراجها عن ملكه، ولكنها تكون جارية على ما أجراها عليه من ذلك ما تركها، ويكون له فسخ ذلك متى شاء، ويؤيد هذا ما رواه الطحاوي. وقال: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره عن زياد بن سعد عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، (قال: إني لولا ذكرت صدقتي لرسول الله، صلى الله عليه وسلم أو نحو هذا لرددتها)، فلما قال عمر هذا دل أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها، وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أمره فيها بشيء وفارقه على الوفاء به، فكره أن يرجع عن ذلك، كما كره عبد الله بن عمرو أن يرجع بعد موت رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن الصوم الذي كان فارقه عليه أنه يفعله، وقد كان له أن لا يصوم. فإن قلت: قال ابن حزم: هذا الخبر منكر وبلية من البلايا وكذب بلا شك. قلت: قوله: هذا بلية وكذب وتهافت عظيم، وكيف يقول هذا القول السخيف، والحال أن رجاله علماء ثقات، فيونس من رجال مسلم، والبقية من رجال (الصحيح) على ما لا يخفى، والله أعلم بحقيقة الحال.
بسم الله الرحمان الرحيم
25

55
((كتاب الوصايا))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الوصايا، وهو جمع وصية من: أوصى يوصي إيصاء، ووصية ووصى يوصي توصية، وذلك موصى إليه، وأوصى لفلان بكذا أي: جعل له من ماله، وذلك موصى له، والوصاية، بفتح الواو بمعنى الوصية، وبكسرها مصدر وأوصى إلى فلان بكذا أي جعله وصيا وذلك موصى إليه. قال الجوهري: أوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية بفتح الواو وكسرها، وإوصيته ووصيته إيصاء ووصية وتوصية بمعنى، والاسم الوصاءة. قلت: الوصية في الشرع تمليك مضاف إلى ما بعد الموت. وقال الأزهري: الوصية من وصيت الشيء بالتخفيف أصيه، إذا وصلته، وسميت: وصية لأن الميت يصل بها ما كان في حياته بما بعد مماته، ويقال: وصاه ووصاه بالتخفيف بغير همز، ويطلق شرعا أيضا على ما يقع به الزجر عن المنهيات، والحث على المأمورات.
1
((باب الوصايا وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده))
أي: هذا باب في بيان ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وصية الرجل مكتوبة عنده)، ووقع في بعض النسخ، هكذا: كتاب الوصايا: بسم الله الرحمن الرحيم: (باب الوصايا وقول النبي، صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده)، ووقع للنسفي: (بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوصايا)، ولم يقع في بعض النسخ لفظ: باب، ووقع كذا: (كتاب الوصايا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم، وصية الرجل مكتوبة عنده، وهذا تعليق أسنده بعد، وهو قوله: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، فكأنه نقله معلقا بالمعنى. وقوله: (وصية الرجل) مبتدأ، وقوله: (مكتوبة عنده)، خبره، والمعنى: وصية الرجل ينبغي أن تكون مكتوبة عنده، وإنما ذكره بهذه الصورة قصدا للمبالغة وحثا على كتابة الوصية.
وقول الله تعالى * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين * فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) * (البقرة: 081، 281).
وقول الله، بالجر عطف على قوله: قول النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ: (وقال الله تعالى: * (كتب عليكم..) * (البقرة: 081، 281). إلى
آخره، وهذه الآيات الثلاث مذكورة هكذا عند الأكثرين، وعند النسفي الآية الأولى. فقط. وقوله: * (كتب عليكم) * (البقرة: 081، 281). الآية، اشتملت على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية المواريث نسخت هذه وصارت المواريث المقررة فريضة من الله تعالى يأخذها أهلوها حتما من غير وصية، ولا تحمل أمانة الوصي، ولهذا جاء في الحديث في (السنن) وغيرها، عن عمرو بن خارجة، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخطب وهو يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله: الوصية للوالدين والأقربين، نسختها هذه الآية: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * (النساء: 7). ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمرو وأبي موسى وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وطاووس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري: أن هذه الآية منسوخة، نسختها آية المواريث، والعجب من الرازي كيف حكى في (تفسيره الكبير) عن أبي مسلم الأصفهاني: أن هذه الآية غير منسوخة، وإنما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه: كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين، من قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11). قال:
26

وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء، قال: ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد، قال ابن كثير: وبه قال أيضا سعيد بن جبير والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخا في اصطلاحنا المتأخر، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصية، لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت، فأما من قال: إنها كانت واجبة، وهو الظاهر من سياق الآية فتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين، والمعتبرون من الفقهاء، فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، فآية المواريث حكم مستقل، ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات، رفع بها حكم هذه بالكلية بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها، والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جدا. قوله: * (إن ترك خيرا) * (البقرة: 081). أي: مالا، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم، ثم منهم من قال: الوصية مشروعة، سواء قل المال أو كثر، كالوراثة. ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالا جزيلا ثم اختلفوا في مقداره، فقال ابن أبي حاتم، بإسناده إلى عروة، قال: قيل لعلي، رضي الله تعالى عنه: إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلاثمائة دينارا، أو أربعمائة دينار، ولم يوص! قال: ليس بشيء، إنما قال الله: * (إن ترك خيرا) * (البقرة: 081). وقال الحاكم بن أبان: حدثني عكرمة عن ابن عباس: إن ترك خيرا، قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا. وقال الحكم: قال طاووس: لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا. وقال قتادة: كان يقال: ألفا، فما فوقها. قوله: * (بالمعروف) * (البقرة: 081). أي: بالرفق والإحسان، وقال الحسن: المعروف أن يوصي لأقربائه وصية لا يجحف ورثته من غير إسراف ولا تقتير. قوله: * (حقا) * (البقرة: 081). أي: واجبا على المتقين الذي يتقون الشرك. قوله: * (فمن بدله) * (البقرة: 181). أي: فمن بدل ما ذكر من الوصية بعدما سمعه، والتبديل يكون بالتحريف وتغيير الحكم، وبالزيادة وبالنقصان أو بالكتمان. وقال ابن عباس وغير واحد: قد وقع أجر الميت على الله وتعلق الإثم بالذين بدلوا * (إن الله سميع عليم) * (البقرة: 181). أي: قد اطلع على ما أوصى به الميت، وهو عليم بذلك، ومما بدله الموصى إليهم. قوله: * (فمن خاف من موص) * (البقرة: 281). أي: فمن خشي، وقيل: علم، لأن الخوف يستعمل بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: * (وانذر به الذين يخافون) * (الأنعام: 15). * (إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) * (البقرة: 922). * (وإن خفتم شقاق بينهما) * (النساء: 53). قرىء بالتشديد والتخفيف، والجنف الميل على ما نذكره عن قريب، وقرأ علي، رضي الله تعالى عنه: (حيفا) بالحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف. قوله: * (فأصلح بينهم) * (البقرة: 281). أي: بين الورثة والمختلفين في الوصية. * (فلا إثم عليه) * (البقرة: 281). لأنه متوسط، وليس بمبدل * (إن الله غفور رحيم) * (البقرة: 281). حيث لم يجعل على عباده حرجا في الدين.
جنفا ميلا متجانف مائل
هذا من تفسير البخاري، وهو منقول عن عطاء، رواه الطبري عنه كذا بإسناد صحيح. قوله: (متجانف مائل) كذا هو في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: متمايل، وقال أبو عبيد: غير متجانف لإثم أي: غير متعوج مائل: للإثم، ونقل الطبري عن ابن عباس وغيره أن معناه غير متعمد لإثم.
8372 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.
مطابقته للترجمة باب قول النبي، صلى الله عليه وسلم ظاهرة، والحديث رواه عبد الله بن نمير وعبيدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر
27

عن نافع، كما رواه مالك. ورواه يونس بن يزيد عن نافع أيضا كذلك، وكذا رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سالم ابن عبد الله عن أبيه. ورواه مسلم من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)،
ورواه من حديث ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة).
وأخرجه الترمذي من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه إلا ووصيته عنده مكتوبة)، وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة عن أبي القاسم عن مالك به. وأخرجه ابن ماجة من حديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر نحو رواية مسلم.
ذكر معناه: قوله: (ما حق امرئ مسلم) كلمة: ما، بمعنى: ليس، هكذا وقع في أكثر الروايات بلفظ مسلم، وليست هذه اللفظة في رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصف بالمسلم هنا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وذكر للتهييج لتقع المبادرة لامتثاله لما يشعر به من نفي الإسلام عن تارك ذلك، وعن قريب نحرر ذلك. قوله: (له شيء). جملة وقعت صفة. لامرىء. قوله: (يوصي فيه) جملة فعلية وقعت صفة لقوله: شيء. قوله: (يبيت ليلتين)، جملة فعلية وقعت صفة أخرى لامرىء، وقال بعضهم: يبيت، كان فيه حذفا، تقديره: أن يبيت، وهو كقوله: * (ومن آياته يريكم البرق) * (الروم: 42). انتهى. قلت: وهذا قياس فاسد وفيه تغيير المعنى أيضا، وإنما قدر أن في قوله: يريكم، لأنه في موضع الابتداء، لأن قوله: ومن آياته، في موضع الخبر، والفعل لا يقع مبتدأ فيقدر: أن، فيه حتى يكون في معنى المصدر فيصح حينئذ وقوعه مبتدأ، فمن له ذوق من العربية يفهم هذا ويعلم تغيير المعنى فيما قال. قوله: (إلا ووصيته)، مستثنى، وهو خبر: ليس، والواو فيه للحال. وقال صاحب (المظهر): قيد ليلتين تأكيد وليس بتحديد، يعني لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وقال الطيبي: في تخصيص ليلتين تسامح في إرادة المبالغة، أي: لا ينبغي أن يبيت ليلة، وقد سامحناه في هذا المقدار، فلا ينبغي أن يتجاوز عنه. وقال النووي في (شرح مسلم): وفي رواية: ثلاث ليال. قلت: هو رواية مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سالم عن أبيه: يبيت ثلاث ليال، والحاصل أن ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج لتزاحم أشغال المرء التي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا المقدار ليتذكر ما يحتاج إليه، واعلم أن لفظ مالك في هذا الحديث لم تختلف الرواة فيه عنه، وفي رواية أحمد عن سفيان عن أيوب بلفظ: (حق على كل مسلم أن لا يبيت ليلتين وله ما يوصي فيه..) الحديث ورواه الشافعي، رحمه الله، عن سفيان بلفظ: ((ما حق امرئ يؤمن بالوصية...) الحديث، قال ابن عبد البر: فسره ابن عيينة: أي يؤمن بأنها حق. وأخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن الغاز عن نافع بلفظ: (لا ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين...) الحديث، وأخرجه الإسماعيلي من طريق روح بن عبادة عن مالك وابن عون جميعا عن نافع بلفظ: (ما حق امرئ مسلم له مال يريد أن يوصي فيه...) وذكره ابن عبد البر من طريق ابن عوف بلفظ: (لا يحل لامرىء مسلم له مال) وأخرجه الطحاوي أيضا، والله أعلم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: حث على الوصية، واحتجت به الظاهرية أنها واجبة، وقال الزهري: جعل الله الوصية حقا مما قل أو كثر، قيل لأبي مجلز: على كل مثر وصية؟ قال: كل من ترك خيرا، وقال ابن حزم: وروينا من طريق عبد الرزاق عن الحسن بن عبد الله، قال: كان طلحة بن عبيد الله والزبير يشددان في الوصية، وهو قول عبد الله بن أبي أوفى وطلحة بن مصرف والشعبي وطاووس وغيرهم. قال: وهو قول أبي سليمان وجميع أصحابنا، وقالت: طائفة ليست الوصية بواجبة. كان الموصى موسرا أو فقيرا، وهو قول النخعي والشعبي والثوري ومالك والشافعي، وقال ابن العربي: أما السلف الأول فلا نعلم أحدا قال بوجوبها. وقال النخعي والشعبي: الوصية للوالدين والأقربين على الندب، وقال الضحاك وطاووس: الوصية للوالدين والأقربين واجبة بنص القرآن إذا كانوا لا يرثون: وقال طاووس: من أوصى لأجانب وله أقرباء انتزعت الوصية فردت للأقرباء. وقال الضحاك: من مات وله شيء ولم يوص لأقربائه فقد مات عن معصية لله، عز وجل، وقال الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى، فيما ذكره الطبري: إذا أوصى رجل لقوم غرباء بثلثه وله أقرباء، أعطي الغرباء ثلث المال
28

ورد الباقي على الأقرباء. وقال الطبري: وحكي عن طاووس أن جميع ذلك ينتزع من الموصى لهم، ويدفع لقرابته لأن آية البقرة عندهم محكمة. وقال أصحابنا الحنفية: الوصية مستحبة لأنها إثبات حق في ماله فلم تكن واجبة كالهبة والعارية، وليس الاستدلال على وجوب الوصية بحديث الباب بصحيح، لأن ابن عمر راوي الحديث لم يوص، ومحال أن يخالف ما رواه لو كان واجبا، ورد ذلك بأنه إن ثبت فالعبرة لما روي لا بما رأى. وأجيب عنه: بأن في ذلك نسبته إلى مخالفة النبي، صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك، فإذا روي عنه أنه لم يوص على أن الحديث لم يدل على الوجوب لمانع عن ذلك ظهر عنده لأن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد، ولا سيما مثل هذا الصحابي الجليل المقدار. فإن قلت: ثبت في (صحيح مسلم) أنه قال: (لم أبت ليلة إلا ووصيتي مكتوبة عندي). قلت: يعارضه ما أخرجه ابن المنذر وغيره: عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، قال: قيل لابن عمر في مرض موته: ألا توصي؟ قال: أما ما لي فالله يعلم ما كنت أصنع فيه، وأما رباعي فلا أحب أن يشارك ولدي فيها أحد، فإذا جمعنا بينهما بالحمل على أنه كان يكتب وصيبته ويتعاهدها، ثم صار ينجز ما كان يوصي به معلقا، وإليه الإشارة بقوله: الله يعلم ما كنت أصنع في مالي، ولعل الحامل له على ذلك حديث: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح...) الحديث، سيأتي في الرقاق، فصار ينجز ما يريد التصدق به، فلم يحتج إلى تعليق. ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصية في الآية والحديث يختص بمن عليه حق شرعي يخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به: كوديعة ودين لله أو لآدمي، قال: ويدل على ذلك تقييده بقوله: له شيء يريد أن يوصي فيه، لأن فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجلا فإنه إذا أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له. وفيه: جواز الاعتماد على الكتابة والخط ولو لم تقترن ذلك بالشهادة، وبه قال أحمد ومحمد بن نصر من الشافعية وقال الشافعي: معنى هذا الحديث ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، فيستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحته ويشهد على ما فيها ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه با. وقال النووي: قالوا: لا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجريان الأمور المتكررة، ولا يقتصر على الكتابة بل لا يعمل بها ولا ينتفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، هذا مذهبنا، ومذهب الجمهور. فإن قلت: من أين اشتراط الإشهاد وإضمار الإشهاد فيه
بعد؟ قلت: استدل على اشتراط الإشهاد بأمر خارج لقوله تعالى: * (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية) * (المائدة: 601). فإنه يدل على اشتراط الإشهاد في الوصية. وقال القرطبي: الكتابة مبالغة في زيادة التوثيق، وإلا فالوصية المشهود بها متفق عليها، ولو لم تكن مكتوبة. وفيه: الندب إلى التأهب للموت والاحتراز قبل الفوت لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت. وفيه: يستدل بقوله: له شيء. أو: له مال، على صحة الوصية بالمنافع، وهو قول الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وداود الظاهري وأتباعه، واختاره ابن عبد البر، والله أعلم.
تابعه محمد بن مسلم عن عمر و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع مالكا في أصل الحديث: محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، وروى هذه المتابعة الدارقطني في (الأفراد) من طريقه. وقال: تفرد بن عمران بن أبان الواسطي عن محمد بن مسلم، وعمران أخرج له النسائي وضعفه، وقال ابن عدي: له غرائب عن محمد بن مسلم، ولا أعلم به بأسا، ولفظه عند الدارقطني: (لا يحل لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). ومحمد بن مسلم بن سوسن، ويقال ابن سوسن، ويقال: ابن سس، ويقال: ابن سنين، ويقال: ابن شونيز الطائفي يعد في المكيين، وعن أحمد: ما أضعف حديثه، وعن يحيى: ثقة، وعنه: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات. استشهد به البخاري في (الصحيح) وروى له في الأدب، وروى له الباقون، مات سنة سبع وسبعين ومائة بمكة.
9372 حدثنا إبراهيم بن الحارث قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا زهير بن معاوية الجعفي قال حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أخو جويرية بنت الحارث قال ما ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا
29

إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة.
مطابقته للترجمة لا تتأتى من حيث الوصية، لأنه لا ذكر لها فيه، ولكن من حيث إن فيه: التصدق بمنفعة الأرض وحكمها حكم الوقف، وهو في معنى الوصية لبقائها بعد الموت، وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه تعلقه بباب الوصية؟ قلت: حيث لا مال لا وصية به. انتهى. قلت: إذا لم تكن وصيته لعدم المال فكيف يطابق الترجمة؟ والوجه ما ذكرناه.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: إبراهيم بن الحارث البغدادي سكن نيسابور ومات سنة خمس وستين ومائتين. الثاني: يحيى بن أبي بكير، بضم الباء الموحدة وفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف: العبدي الكوفي قاضي كرمان، بفتح الكاف وكسرها وسكون الراء، مات سنة ثمان ومائتين. الثالث: زهير مصغر الزهر ابن معاوية، وقد مر في الوضوء. الرابع: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي. الخامس: عمرو بن الحارث بن أبي ضرار بن عائذ بن مالك بن خزيمة، وهو المصطلق بن سعد بن كعب بن عمرو وهو خزاعة المصطلقي الخزاعي أخو جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد أن شيخه من أفراده. وقال بعضهم: ليس له في البخاري غير هذا الحديث، وذكر في (رجال الصحيحين) المشتمل على كتابي أبي نصر الكلاباذي وأبي بكر الأصبهاني: أن البخاري روى عن إبراهيم هذا حديثين في تفسير سورة الحج حديثا، وفي الوصايا حديثا. وفيه: أبو إسحاق روى عن عمرو بن الحارث بالعنعنة، ووقع التصريح بسماعه منه في الخمس من هذا الكتاب، وفيه: يحيى بن أبي بكير، ربما يلتبس بيحيى بن بكير فيرتفع الالتباس بأن يحيى بن بكير مصري صاحب الليث، وأبوه بكير غير مكني، ويحيى بن أبي بكير أبوه مكني، وهو كرماني كما ذكرنا.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الخمس عن مسدد، وفي الجهاد عن عمرو بن علي وفيه عن عمرو بن العباس وفي المغازي عن قتيبة. وأخرجه الترمذي في الشمائل عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي في الأجناس عن قتيبة به وعن عمرو بن علي.
ذكر معناه: قوله: (ختن رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، هذا أي: كونه ختن رسول الله، صلى الله عليه وسلم على قول ابن الأعرابي، وابن فارس والأصمعي لأن الختن عندهم من قبل المرأة مثل الأخ، والأب وكل من كان من قبلها. وأما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته والصهر من قبل الزوج، وقيل: الختن الزوج ومن كان ذوي رحمه، والصهر من قبل المرأة. وقال ابن الأثير: الأختان من قبل المرأة. والأحماء من قبل الرجل، والصهر يجمعهما. قوله: (أخو جويرية) ويروى: أخي جويرية، وجه الأول أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أخو جويرية، ووجه الثاني أنه عطف بيان، لأن لفظ: ختن، مجرور على أنه وصف عمرو بن الحارث، أو عطف بيان، أو بدل. قوله: (ولا عبدا ولا أمة)، أي: في الرقية، لأنه كان له عبيد وإماء، وقد ذكرنا في (تاريخنا الكبير): أنه كان له عبيد ما ينيف على ستين، وكانت له عشرون أمة، فهذا يدل على أن منهم من مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعتقهم ولم يبق بعده عبد ولا أمة، وهو في الرقية. قوله: (ولا شيئا) من عطف العام على الخاص، هذا هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: ولا شاة، وهي رواية الإسماعيلي أيضا، وفي رواية مسلم وأبي داود والنسائي وآخرين من رواية مسروق عن عائشة، قالت: (ما ترك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، درهما ولا دينارا ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء). قوله: (إلا بغلته البيضاء)، إعلم أنه كانت له، صلى الله عليه وسلم، ست بغال: بغلة شهباء: يقال لها الدلدل، أهداها له المقوقس. وبغلة يقال لها فضة، أهداها له فروة بن عمرو الجذامي، فوهبها لأبي بكر، رضي الله تعالى عنه. وبغلة بعثها صاحب دومة الجندل. وبغلة أهداها له ابن العلماء ملك أيلة، ويقال لها: إيلية، وقال مسلم: كانت بيضاء. وبغلة أهداها له النجاشي. وبغلة أهداها له كسرى، ولا يثبت ذلك، ولم يكن فيها بيضاء، إلا الأيلية، ولم يذكر أهل السير بغلة بقيت بعده، عليه الصلاة والسلام، إلا الدلدل. قالوا: إنها عمرت بعده صلى الله عليه وسلم حتى كانت عند علي بن أبي طالب، وتأخرت أيامها حتى كانت
بعد علي، رضي الله تعالى عنه، عند عبد الله بن جعفر، وكان يحش لها الشعير لتأكله لضعفها، وفي (المرآة) وبقيت إلى أيام معاوية، فماتت بينبع، والظاهر أن التي في الحديث هي إياها، لأن الشهبة غلبة البياض على السواد، ومنه تسمى: الشهباء بيضاء. قوله: (وسلاحه)
30

وقال ابن الأثير: السلاح ما أعددته للحرب من آلة الحديد. مما يقاتل به، والسيف وحده يسمى سلاحا. قلت: فعلى هذا، المراد من قوله: وسلاحه، هو سيوفه وأرماحه، وكانت له عشرة أسياف، والمشهور منها: ذو الفقار، الذي تنفله يوم بدر، وهو الذي تأخر بعده، وفي (المرآة): لم يزل ذو الفقار عنده، صلى الله عليه وسلم، حتى وهبه لعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قبل موته، ثم انتقل إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين، رضي الله تعالى عنهم، وكانت له خمسة من الأرماح. قوله: (وأرضا جعلها صدقة)، وفي المغازي من رواية أبي إسحاق: (وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة)، وقال ابن التين: وهي فدك، والتي بخيبر، إنما تصدق بها في صحته، وأخبر بالحكم بعد وفاته، وإليه أشارت عائشة، رضي الله تعالى عنها، في حديثها الذي رواه مسلم وغيره، ولا أوصى بشيء.
0472 حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا مالك قال حدثنا طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصاى فقال لا فقلت كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية قال أوصى بكتاب الله.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (كيف كتب على الناس...) إلى آخره، وخلاد، بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام: ابن يحيى بن صفوان أبو محمد السلمي الكوفي، وهو من أفراد البخاري، ومالك هو ابن مغول، بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو وباللام: البجلي الكوفي، مات سنة تسع وخمسين ومائة، وفي بعض النسخ: حدثنا مالك هو ابن مغول، فالظاهر على هذه النسخة أن شيخ البخاري لم ينسبه، فلذلك قال: هو ابن مغول، وهذا من جملة احتياط البخاري، ومغول: هو ابن عاصم البجلي الكوفي مات سنة تسع وخمسين ومائة، في أولها، وطلحة بن مصرف، بلفظ اسم الفاعل من التصريف: ابن عمرو بن كعب اليامي، من بني يام من همدان مات سنة ثنتي عشرة ومائة، وعبد الله بن أبي أوفى واسمه علقمة بن خالد الأسلمي، له ولأبيه صحبة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أبي نعيم، وفي فضائل القرآن عن محمد بن يوسف، وأخرجه مسلم في الوصايا عن يحيى بن يحيى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد ابن منيع، وأخرجه النسائي فيه عن إسماعيل بن مسعود. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد.
قوله: (فقال: لا)، أي: ما أوصى، أراد به ما أوصى بالمال، لأنه لم يترك مالا، ثم إن ابن أبي أوفى لما فهم أن النفي عام بحسب الظاهر عاد وسأل، فقال: (كيف كتب على الناس الوصية؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في جوابه: بكتاب الله)، أي: أوصى بكتاب الله، أي: بالعمل به، ويقال أراد بالنفي أولا الوصية التي زعم بعض الشيعة أنه أوصى بالأمر إلى علي، رضي الله تعالى عنه، وقد تبرأ علي، رضي الله تعالى عنه، من ذلك حين قيل: (أعهد إليك رسول الله، صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة) وهو يرد لما أكثره الشيعة من الكذب على أنه أوصى له بالخلافة، وأما أرضه وسلاحه وبغلته فلم يوص فيها على جهة ما يوصي الناس في
أموالهم، لأنه قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، فكان جميع ما خلفه صدقة، فلم يبق بعد ذلك ما يوصي به من الجهة المالية. قوله: (أو أمروا بالوصية؟) شك من الراوي: وهو على صيغة المجهول، وروى ابن حبان هذا الحديث بلفظ يوضح ما في رواية البخاري من المنافاة الظاهرة، أخرجه من طريق ابن عيينة عن مالك بن مغول بلفظ: (سئل ابن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما ترك شيئا يوصي فيه، فقيل: فكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله.
1472 حدثنا عمرو بن زرارة قال أخبرنا إسماعيل عن ابن عون عن إبراهيم عن الأسود قال ذكروا عند عائشة أن عليا رضي الله تعالى عنهما كان وصيا فقالت متاى أوصاى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتاى أوصاى إليه.
(الحديث 1472 طرفه في: 9544).
31

مطابقته للترجمة من حيث إن فيه أمر الوصية وإنكار عائشة إياها، وعمرو، بفتح العين: ابن زرارة، بضم الزاي وتخفيف الراء الأولى: ابن واقد الكلابي النيسابوري، روى عنه مسلم أيضا وإسماعيل هو المعروف بابن علية، وقد مر غير مرة، وابن عون هو عبد الله بن عون، وقد مر عن قريب، وإبراهيم هو النخعي، والأوسود هو ابن يزيد خال إبراهيم.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن عبد الله بن محمد. وأخرجه مسلم في الوصايا عن يحيى بن يحيى وعن أبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن إسماعيل وأخرجه الترمذي في الشمائل عن حميد بن مسعدة. وأخرجه النسائي في الطهارة وفي الوصايا عن عمرو ابن علي وفي الوصايا أيضا عن أحمد بن سليمان. وأخرجه ابن ماجة في الجنائز عن أبي بكر بن أبي شيبة.
قوله: (ذكروا عند عائشة)، قال القرطبي: الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي، صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي، رضي الله تعالى عنه، فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك، وكذا من بعدهم، فمن ذلك ما قالته عائشة من إنكار ذلك حيث قالت: (قد كنت مسندته...) إلى آخره. وقيل: الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك، وأسندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها فلم يقع شيء من ذلك، فلذلك
أنكرتها. فإن قلت: هذا لا ينفي وقوع ذلك قبل مرض موته؟ قلت: حديث علي الذي مضى عن قريب يرد وقوعه أصلا. قوله: (مسندته)، بلفظ اسم الفاعل من الإسناد. قوله: (حجري)، بفتح الحاء وكسرها، وقال ابن الأثير: الحجر، بالفتح والكسر: الثوب والحضن، والمصدر بالفتح لا غير. قوله: (انخنث)، أي: انثنى ومال إلى السقوط، ومادته: خاء معجمة ونون وثاء مثلثة، وقال ابن الأثير: (انخنث) أي: انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت، وقال صاحب (العين): انحنث السقاء وخنث إذا مال، ومنه المخنث للينه وتكسر أعضائه.
2
((باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس))
أي: هذا باب يذكر فيه أن يترك... إلى آخره، وأخذ هذه الترجمة من لفظ الحديث مع بعض تغير في اللفظ، فإن لفظ الحديث: (إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)، وكلمة: أن، يجوز فيها فتح الهمزة وكسرها، ففي الفتح يكون: أن، مصدرية تقديره: بأن يترك، أي: تركه ورثته أغنياء. فقوله أن يترك في محل الرفع على الابتداء بالتقدير المذكور، وقوله: خير، خبره، وفي الكسر تكون: إن شرطية وجزاؤها محذوف تقديره: إن يترك ورثته أغنياء فهو خير، وقال ابن مالك: من خص هذا الحكم بالشعر فقد ضيق الواسع، والتكفف بسط الكف للسؤال، أو يسأل الناس كفافا من الطعام أو ما يكف الجوعة، أو بمعنى: يسألون بالكف.
2472 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن سعد ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال جاء النبي، صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا بمكة وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال يرحم الله ابن عفراء قلت يا رسول الله أوصي بمالي كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت الثلث قال فالثلث والثلث كثير إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك وعساى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون ولم يكن له يومئذ إلا ابنة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنها منه كما ذكرناه عن قريب. وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وسفيان هو ابن عيينة، وسعد ابن إبراهيم هو ابن عبد الرحمن بن عوف، وعامر بن سعد يروي عن أبيه سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه.
والحديث مضى في كتاب الجنائز في: (باب رثاء النبي، صلى الله عليه وسلم، سعد بن خولة)، وقد مضى بعض الكلام فيه، ولنتكلم أيضا زيادة للفائدة.
قوله: (يعودني)، جملة وقعت حالا، وكذلك قوله: (وأنا بمكة)، حال، وزاد الزهري في روايته في حجة الوداع: من
32

وجع اشتد بي، وله في الهجرة: من وجع أشفيت منه على الموت. واتفق أصحاب الزهري على أن ذلك كان في حجة الوداع إلا ابن عيينة، قال: في فتح مكة، أخرجه الترمذي وغيره من طريقه واتفق الحفاظ على أنه وهم فيه، وقد أخرجه البخاري في الفرائض من طريقه، فقال: (بمكة)، ولم يذكر الفتح، ويؤيد كلام ابن عيينة ما رواه أحمد والبزار والطبراني والبخاري في (التاريخ) وابن سعد من حديث عمرو بن القاري: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قدم فخلف سعدا مريضا حيث خرج إلى حنين، فلما قدم من الجعرانة معتمرا دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله! إن لي مالا وإني أورث كلالة، أفأوصي بما لي... الحديث، وفيه: قلت: يا رسول الله! أميت أنا بالدار التي خرجت منها مهاجرا؟ قال: إني لأرجو أن يرفعك الله حتى ينتفع بك أقوام... الحديث. فإن قلت: بين الروايتين فيهما ما فيه؟ قلت: يمكن التوفيق بينهما بأن يكون ذلك وقع مرتين: مرة عام الفتح، ومرة عام حجة الوداع ففي الأولى: لم يكن له وارث من الأولاد أصلا. وفي الثانية: كانت له بنت فقط. قوله: (وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها)، قال الكرماني: وهو يكره، أي: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو كلام سعد يحكي كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو هو كلام عام يحكي حال ولده، وقال بعضهم: قوله: (وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها)، يحتمل أن تكون الجملة حالا من المفعول وهو سعد ففيه التفات، لأن السياق يقتضي أن يقول: وأنا أكره... انتهى. قلت: هذا لا يخلو من التعسف، والظاهر من التركيب أن الجملة حال من النبي، صلى الله عليه وسلم، والضمير في: يكره، يرجع إليه، والذي في: يموت، يرجع إلى سعد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون سعد كارها أيضا، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا كان كارها لذلك فكراهة سعد بالطريق الأولى، ودل على كراهته ما رواه مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن عن ثلاثة من ولد سعد عن سعد، بلفظ: (فقال: يا رسول الله! خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، كما مات سعد بن خولة). قوله: (قال: يرحم الله ابن عفراء)، كذا وقع في هذه الرواية، وفي رواية أحمد والنسائي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله سعد بن عفراء، ثلاث مرات). قال الداودي: قوله: (ابن عفراء) غير محفوظ، وقال الحافظ الدمياطي: هو وهم، والمعروف: ابن خولة. قال: ولعل الوهم من سعد بن إبراهيم، فإن الزهري أحفظ منه. وقال فيه: سعد ابن خولة، يشير بذلك إلى ما وقع في رواية النسائي من طريق جرير بن يزيد عن عامر بن سعد: لكن البائس سعد بن خولة مات في الأرض التي هاجر منها. قلت: البائس اسم من بئس يبأس بؤسا وبأسا: إذا خضع وافتقر واشتدت حاجته، وقال التيمي: يحتمل أن يكون لأمه إسمان: خولة وعفراء، وقال غيره: ويحتمل أن يكون أحدهما إسما والآخر لقبا، أو أحدهما اسم أمه والآخر اسم أبيه أو اسم جدة له، وقيل في خولة: خولي، بكسر اللام وتشديد الياء والواو ساكنة بلا خلاف، وأغرب ابن التين فحكى عن القابسي فتحها، ووقع في رواية ابن عيينة في الفرائض، قال سفيان: وسعد بن خولة رجل من بني عامر بن لؤي، وذكر ابن إسحاق: أنه كان حليفا لهم، وقيل: كان من الفرس الذين نزلوا اليمن. قوله: (قلت: يا رسول الله! أوصي بمالي كله؟) وفي رواية عائشة بنت
سعد عن أبيها في الطب: أفأتصدق بثلثي مالي؟ وكذا وقع في رواية الزهري. فإن قلت: لفظ: أتصدق، يحتمل التنجيز والتعليق بخلاف لفظ: أوصي. قلت: لما كان متحدا حمل لفظ: أتصدق، على التعليق جمعا بين الروايتين، فإن قلت: ما وجه الاختلاف في السؤال؟ قلت: كأنه سأل أولا عن الكل، ثم سأل عن الثلثين، ثم سأل عن النصف، ثم سأل عن الثلث، وقد وقع مجموع ذلك في رواية الطبراني في (الكبير) من حديث عبيد الله بن عياض عن أبيه عن جده عمرو ابن عبد القاري: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن مالك يوم الفتح... الحديث، وفيه: فقال سعد: يا رسول الله! (إن مالي كثير وإنني أورث كلالة، أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا. قال: أفأتصدق بثلثيه؟ قال: لا. قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا. قال: أفأتصدق بثلثه؟ قال: نعم، وذلك كثير)، قوله: (قلت فالشطر)، أي: النصف، قال الكرماني: هو بالجر أو الرفع؟ قلت: وجه الجر أن يكون معطوفا على قوله: بمالي كله، ووجه الرفع على تقدير حذف الرافع، تقديره: أفيجوز الشطر؟ ونسب إلى الزمخشري جواز النصب على تقدير: أعين الشطر أو أسمي أو نحو ذلك. قوله: (قلت: الثلث؟) يجوز فيه الرفع والنصب، وفي بعض النسخ: فالثلث،
33

بالفاء، فإن صحت هذه فيجوز فيه الجر أيضا، ولا يخفى ذلك على من يتأمل فيه. قوله: (قال: فالثلث؟) نصب على الإغراء، ويجوز الرفع على الفاعل، أي: يكفيك الثلث؟ أو على تقدير الابتداء والخبر محذوف أو على العكس. قوله: (والثلث كثير)، بالثاء المثلثة أو بالباء الموحدة. وقوله: (قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير)، كذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية الزهري في الهجرة: (قال: الثلث يا سعد، والثلث كثير، وفي رواية مسلم عن مصعب بن سعد عن أبيه: (قلت: فالثلث؟ قال: نعم، والثلث كثير). وفي رواية عائشة بنت سعد عن أبيها في الباب الذي يليه: (قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير). وفي رواية النسائي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد بلفظ: (فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم؟ قلت: بمالي كله. قال: فما تركت لولدك؟ وفيه: أوص بالعشر؟ قال: فما زال يقول وأقول حتى قال: أوص بالثلث، والثلث كثير أو كبير) يعني: بالمثلثة أو بالموحدة، وهو شك من الراوي، والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه. قوله: (إنك إن تدع)، قد مر الكلام فيه في أول الباب وقال النووي: فتح: (إن) وكسرها صحيحان، يعني: بالفتح تكون للتعليل، وبالكسر تكون للشرط. وقال القرطبي: لا معنى للشرط هنا لأنه يصير لا جواب له ويبقى: خير، لا رافع له، وقال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وأنكره شيخنا عبد الله بن أحمد، يعني: ابن الخشاب، وقال: لا يجوز الكسر، لأنه لا جواب له لخلو لفظ: خير، من الفاء، انتهى. قلت: هذا كلام ساقط من رجل ضابط، وقد قلنا: إن الفاء حذفت وتقديره: فهو خير، وحذف الفاء من الجزاء سائغ شائع غير مختص بالضرورة. قوله: (ورثتك)، قيل: إنما عبر بلفظ: الورثة، ولم يقل: أن تدع بنتك، مع أنه لم يكن له يومئذ إلا ابنة واحدة لكون الوارث حينئذ لم يتحقق، لأن سعدا إنما قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، فأجابه صلى الله عليه وسلم بكلام كلي مطابق لكل حاله، وهو قوله: (ورثتك)، ولم يخص بنتا من غيرها. وقيل: إنما عبر: بالورثة، لأنه اطلع على أن سعدا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة، فكان ذلك، وولد له بعد ذلك أربعة بنين، ولا أعرف أسماءهم، ولعل الله أن يفتح بذلك، وهذا ذهول شديد منه، فإن ثلاثة من أولاده مذكورون في رواية هذا الحديث عند مسلم من طريق عامر ومصعب ومحمد ثلاثتهم عن سعد، والرابع وهو عمر ابن سعد في موضع آخر، وله غير هؤلاء من الذكور: إبراهيم ويحيى وإسحاق وعبد الله وعبد الرحمن وعمرو وعمران وصالح وعثمان وإسحاق الأصغر وعمر الأصغر وعمير مصغرا وغيرهم، ومن البنات: ثنتا عشرة بنتا، وقيل: لأن ميراثه لم يكن منحصرا في بنته، وقد كان لأخيه عتبة بن أبي وقاص أولاد إذ ذاك منهم: هاشم بن عتبة الصحابي الذي قتل بصفين. قوله: (عالة) أي: فقراء، وهو جمع: عائل، وهو الفقير من: عال يعيل إذا افتقر ومر تفسيره: يتكففون، في أول الباب. قوله: (في أيديهم) أي: بأيديهم، أو المعنى: يسألون بالكف اللقاء في أيديهم. قوله: (وإنك)، عطف على قوله: (إن تدع) وهذا كأنه علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، فينحل التركيب إلى قوله: لا تفعل، لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك حيا وميتا. قوله: (فإنها صدقة) أي: فإن النفقة صدقة، وأطلق الصدقة في هذه الرواية وفي رواية الزهري: (فإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها)، وفيه ذكرها مقيدة بابتغاء وجه الله وعلق حصول الأجر بذلك وهو المعتبر. وفيه دلالة على أن أجر الواجب يزداد بالنية، لأن الأعمال بالنيات. قوله: (حتى اللقمة)، حتى هذه ابتدائية، يعني: حرف ابتداء ابتدأ بعده إما جملة اسمية، كما في قوله: حتى ماء دجلة، أشكل، أو فعلية، كما في قوله: حتى عفوا، وهنا الجملة اسمية من المبتدأ والخبر، وقال بعضهم: حتى اللقمة، بالنصب عطفا على نفقة، وفيه نظر، قوله: (إلى في امرأتك) أي: إلى فم امرأتك. فإن قلت: ما وجه تعلق النفقة بقصة الوصية؟ قلت: لما كان سؤال سعد مشعرا برغبته في تكثير الأجر ومنعه صلى الله عليه وسلم من الزيادة على الثلث، قال له مسليا: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة، ومن نفقة، ولو كانت واجبة توجر بها إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى. فإن قلت: ما وجه تخصيص المرأة بالذكر؟ قلت: لأن نفقتها مستمرة بخلاف غيرها. قوله: (عسى الله أن يرفعك)، أي: يطيل عمرك، وكذلك اتفق فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، لأنه مات سنة خمس وخمسين من الهجرة. وقيل: سنة ثمان وخمسين، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين أو ثمانيا وأربعين سنة. قوله: (فينتفع بك ناس) أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك، ويضر بك المشركون الذين يهلكون على يديك، وزعم ابن التين أن المراد بالنفع به ما وقع من الفتوح على يديه: كالقادسية وغيرها، وبالضرر ما وقع من تأمير
34

ولده عمر بن سعد على الجيش الذين قتلوا الحسين بن علي ومن معه، وقال بعضهم: هو مردود لتكلفه بغير ضرورة تحمل على إرادة الضرر الصادر من ولده. قلت: لا ينظر فيه من هذا الوجه، بل فيه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بذلك بالإشارة قبل وقوعه. وعن الطحاوي في ذلك وجه آخر، وهو أنه روى من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبيه: أنه سأل عامر بن سعد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فقال: لما أمر سعد على العراق أتى بقوم
ارتدوا فاستتابهم، فتاب بعضهم وامتنع بعضهم، فانتفع به من تاب وحصل الضرر للآخرين. قوله: (ولم يكن له يومئذ إلا ابنة)، وفي رواية عائشة بنت سعد أن سعدا قال: (ولا يرثني إلا ابنة واحدة). قال النووي: معناه لا يرثني من الولد. أو من خواص الورثة أو من النساء، وإلا فقد كان لسعد عصبات، لأنه من بني زهرة وكانوا كثيرين. وقيل: معناه لا يرثني من أصحاب الفروض. وقيل: خصها بالذكر على تقدير: لا يرثني ممن أخاف عليه الضياع والعجز إلا هي. وقيل: ظن أنها ترث جميع المال، وقيل: استكثر لها نصف التركة. فإن قلت: هل ذكر أحد من الشراح اسم هذه البنت؟ قلت: ذكر بعضهم عن بعض المتأخرين أن اسمها: عائشة، ثم قال: فإن كان هذا محفوظا فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عند البخاري، في الباب الذي يليه، وفي الطب وهي تابعية عمرت حتى أدركها مالك، وروى عنها، وماتت سنة سبع عشرة ومائة، لكن لم يذكر أحد من النسابين لسعد بنتا تسمى عائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته: أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة، وذكروا له بنات أخرى أمهاتهن متأخرات الإسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أن البنت المذكورة هي: أم الحكم، المذكورة لتقدم تزويج سعد بأمها. انتهى، وهذا أيضا تخمين، والله أعلم.
ذكر ما يستفاد منه: قد ذكرنا أكثر ذلك في كتاب الجنائز في: باب رثاء النبي، صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ولنذكر بعض شيء. وفيه: زيارة المريض للإمام فمن دونه. وفيه: دعاء الزائر للمريض بطول العمر. وفيه: الحث على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد. وفيه: الإنفاق في وجوه الخير، لأن المباح إذا قصد به وجه الله، صار طاعة، وقد نبه على ذلك بأقل الحظوظ الدنيوية العادية، وهو وضع اللقمة في فم الزوجة إذ لا يكون ذلك غالبا إلا عند الملاعبة والممازحة، ومع ذلك فهو يؤجر عليه إذا قصد به قصدا صحيحا، فكيف بما هو فوق ذلك؟ وفيه: أن من لا وارث له يجوز له الوصية بأكثر من الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تذر ورثتك أغنياء)، فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد على الثلث). وفيه: استدلال من يرى بالرد بقوله: ولا يرثني إلا ابنة لي، للحصر. واعترض عليه بعضهم بأن المراد من ذوي الفروض، ومن قال بالرد لا يقول بظاهره، لأنهم يعطونها فرضها ثم يردون عليها الباقي. وظاهر الحديث: أنها ترث الجميع ابتداء. انتهى. قلت: هذا عند ظنه أنها ترث الجميع، والبنت الواحدة ليس لها إلا النصف والباقي يكون بالرد بنص آخر، وهو قوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) * (الأنفال: 57). يعني: بعضهم أولى بالميراث بسبب الرحم، والله أعلم.
3
((باب الوصية بالثلث))
أي: هذا باب في بيان جواز الوصية بالثلث.
وقال الحسن لا يجوز للذمي وصية إلا الثلث
الحسن هو البصري أراد أن الذمي إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله لا يجوز، وأما المسلم إذا أوصى بأكثر من ثلث ماله، فإن لم يكن له ورثة جاز، وإن كانت له ورثة فإن جازوا جازت الوصية، وإن ردوا بطلت الوصية. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز إلا في الثلث. ويوضع الثلثان لبيت المال. وقال ابن بطال: أراد البخاري بهذا الرد على من قال كالحنفية بجواز الوصية بالزيادة على الثلث لمن لا وارث له، ولذلك احتج بقوله تعالى: * (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) * (المائدة: 94). والذي حكم به النبي، صلى الله عليه وسلم من الثلث هو الحكم بما أنزل الله، فمن تجاوز ما حده فقد أتى ما نهى عنه، ورد عليه بأن البخاري لم يرد هذا، وإنما أراد الاستشهاد بالآية على أن الذمي إذا تحاكم إلينا ورثته لا تنفذ من وصيته إلا الثلث، لأنا لا نحكم فيهم إلا بحكم
35

الإسلام، لقوله تعالى: * (وإن أحكم بينهم بما أنزل الله...) * (المائدة: 94). الآية. قلت: العجب من البخاري أنه ذكر عن الحسن أنه لا يرى للذمي بالوصية بأكثر من الثلث، فليت شعري ما وجه ذكر هذا، والحال أن حكم المسلم كذلك عنده، وعند غير الحنفية. وأعجب منه كلام ابن بطال الذي تمحل في كلامه بالمحال واستحق الرد على كل حال، وأبعد من هذا وأكثر استحقاقا بالرد هو صاحب (التوضيح) حيث يقول: وعلى قول ابن حنيفة رد البخاري في هذا الباب، ولذلك صدر بقول الحسن، ثم بالآية، فسبحان الله كيف يرد على أبي حنيفة بقول الحسن، فما وجه ذلك؟ لا يدرى.
وقال الله تعالى * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * (المائدة: 94).
4472 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا زكرياء بن عدي قال حدثنا مروان عن هاشم بن هاشم عن عامر بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال مرضت فعادني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ادع الله (أن لا يردني على عقبي قال لعل الله أن يرفعك وينفع بك ناسا قلت أريد أن أوصي وإنما لي ابنة قلت أوصي بالنصف قال النصف كثير قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير أو كبير قال فأوصاى الناس بالثلث وجاز ذالك لهم.
.
36

مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن عبد الرحيم هو الحافظ المعروف بصاعقه، وهو من أقران البخاري وأكبر منه قليلا، مات في سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو من أفراد البخاري، وسمي صاعقة لأنه كان جيدا لحفظ، وزكرياء بن عدي أبو يحيى الكوفي، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين، ومروان هو ابن معاوية الفزاري، وهاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري يعد في أهل المدينة. والحديث مر عن قريب.
قوله: (أن لا يردني على عقبي)، بتشديد الياء أي: لا يميتني في الدار التي هاجرت منها، وهي مكة. قوله: (لعل الله أن يرفعك)، أي: يقيمك من مرضك، وكلمة: لعل، للإيجاب في حق الله تعالى. قوله: (قال: وأوصى الناس...) إلى آخره، من كلام سعد ظاهرا، ويحتمل أن يكون من قول من دونه.
4
((باب قول الموصي لوصيه تعاهد ولدي وما يجوز للوصي من الدعواى))
أي: هذا باب في بيان قول الموصي، بضم الميم وكسر الصاد، لوصيه الذي أوصى إليه: تعاهد ولدي، يعني: أنظر في أمره وافتقد حاله. قوله: (وما يجوز) أي: وفي بيان ما يجوز للوصي من الدعوى إذا ادعى.
5472 عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك فلما كان عام الفتح أخذه سعد فقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخي وابن أمة أبى ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي كان عهد إلي فيه فقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله تعالى.
.
الترجمة مركبة من شيئين: أحدهما: هو قوله: قول الموصي لوصيه: تعاهد ولدي، وبينه وبين قوله في الحديث: (كان عتبة عهد إلى أخيه سعد...) مطابقة ظاهرة. والثاني: هو قوله: وما يجوز للوصي من الدعوى بينه وبين قوله: (فقام عبد بن زمعة) مطابقة لأنه ادعى وصحت دعواه حتى حكم له رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
والحديث قد مر في كتاب العتق وغيره. قوله: (فتساوقا) أي: تماشيا.
5
((باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أومأ... إلى آخره. قوله: (جازت)، جواب: إذا، وليس في بعض النسخ قوله: جازت، ويقدر بعد قوله: بينة، هل يحكم بها؟ ونحو ذلك. قوله: (بينة) أي: ظاهرة.
6472 حدثنا حسان بن أبي عباد قال حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك أفلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فأومأت برأسها حين سمى اليهودي)، إشارة ظاهرة، وحسان، بتشديد السين، وعباد، بتشديد الباء الموحدة، مر في العمرة، وهمام بن يحيى العودي، بفتح العين. والحديث مر في الأشخاص ومر الكلام فيه.
6
((باب لا وصية لوارث))
أي: هذا باب ترجمته: (لا وصية لوارث)، وهذه الترجمة لفظ حديث مرفوع أخرجه جماعة وليس في الباب ذلك، لأنه
37

كأنه لما لم يكن على شرطه لم يذكره هنا. منهم: أبو داود، قال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة: قال: حدثنا ابن عياش من شرحبيل ابن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة، رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول،: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث). وقال الترمذي: حدثنا هناد وعلي بن حجر، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني عن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: (إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث...) الحديث، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ثم قال: ورواية إسماعيل بن عياش عن أهل العراق وأهل الحجاز ليس بذاك فيما ينفرد به، لأنه روى عنهم مناكير، وروايته عن أهل الشام أصح، وهكذا قال محمد ابن إسماعيل. انتهى. قلت: هذا روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة، وصرح في روايته بالتحديث في رواية الترمذي. ومنهم: عمرو بن خارجة، روى حديثه الترمذي: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن عمرو بن خارجة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها، وأن لعابها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: (إن الله عز وجل، أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر...) هذا حديث حسن صحيح. ومنهم: جابر، أخرج حديثه الدارقطني عنه مثله قال: والصواب أنه مرسل. ومنهم: ابن عباس أخرج حديثه الدارقطني أيضا من حديث حجاج عن عطاء عن ابن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز الوصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة). ومنهم: عبد الله بن عمر وأخرج حديثه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن جده يرفعه: (إن الله قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا يجوز لوارث إلا من الثلث، وذلك بمنى). ومنهم: أنس بن مالك أخرج حديثه ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، قال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد أنه حدثه عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم يسيل علي لعابها فسمعته، يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية
لوارث). ومنهم: علي بن أبي طالب أخرج حديثه ابن أبي شيبة من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، رضي الله تعالى عنه: (ليس للوارث وصية)، وروى الدارقطني من حديث أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث ولا إقرار بدين).
7472 حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذالك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع.
مطابقته للترجمة من حيث إن الوصية للوالدين لما نسخت وأثبت الميراث لهما بدلا من الوصية علم أنه لا يجمع لهما بين الوصية والميراث، وإذا كان لهما كذلك فمن دونهما أولى بأن لا يجمع له بينهما، فيؤول حاصل المعنى: لا وصية للوارث.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: محمد بن يوسف الفريابي، بينه أبو نعيم الحافظ. الثاني: ورقاء، مؤنث الأورق، ابن عمر بن كليب أبو بشر اليشكري، ويقال: الشيباني، أصله من خوارزم، ويقال من الكوفة سكن المدائن: الثالث عبد الله بن أبي نجيح، بفتح النون وكسر الجيم وبالحاء المهملة، وقد مر غير مرة. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع.
وهو موقوف على ابن عباس. وهذا أخرجه البخاري أيضا في التفسير وفي الوصايا عن محمد بن يوسف.
ذكر معناه: قوله: (كان المال للولد)، أي: كان مال الشخص إذا مات للولد. قوله: (وكانت الوصية للوالدين)، أي: كانت الوصية في الإسلام لوالدي الميت دون الأولاد، على ما يراه من المساواة والتفضيل. قوله: (نسخ الله في ذلك ما أحب)
38

أي: ما أراد، يعني: كانت الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ منها من كان وارثا بآية الفرائض. وبقوله: (لا وصية لوارث) وأبقى حق من لا يرث من الأقربين بالوصية على حاله، قاله طاووس وغيره. قوله: (وجعل للمرأة الثمن)، يعني: عند وجود الولد، وجعل (الربع) عند عدمه. قوله: (والشطر) أي: وجعل للزوج الشطر أي: النصف، أي: نصف المال عند عدم الولد، وجعل (الربع) عند وجود الولد، ثم الحديث دل على أن: لا وصية للوارث.
واختلفوا إذا أوصى لبعض ورثته، فأجازه بعضهم في حياته، ثم بدا لهم بعد وفاته. فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه، هذا قول عطاء والحسن وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا، هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاووس، وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال مالك: إذا أذنوا له في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا في مرضه وحين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق، وعن مالك أيضا: لا رجوع لهم إلا أن يكونوا في كفالته فيرجعوا. وقال المنذري: إنما يبطل الوصية للوارث في قول أكثر أهل العلم من أجل حقوق سائر الورثة، فإذا أجازوها جازت كما إذا أجازوا الزيادة على الثلث، وذهب بعضهم إلى أنها لا تجوز، وإن أجازوها، لأن المنع لحق الشرع فلو جوزناها كنا قد استعملنا الحكم المنسوخ، وذلك غير جائز، وهذا قول أهل الظاهر، وقال أبو عمر: وهو قول عبد الرحمن بن كيسان والمزني، وقال ابن المنذر: واتفق مالك والثوري والكوفيون والشافعي وأبو ثور أنه إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. وهل هو ابتداء عطية منهم أم لا؟ فيه خلاف، واتفقوا على اعتبار كون الموصي له وارثا بيوم الموت حتى لو أوصى لأخيه الوارث، حيث لا يكون له ابن يحجب الأخ المذكور، فولد له ابن قبل موته يحجب الأخ، فالوصية للأخ المذكور صحيحة، ولو أوصى لأخيه وله ابن فمات الابن قبل موت الموصي فهي وصية لوارثه.
7
((باب الصدقة عند الموت))
أي: هذا باب في بيان جواز الصدقة عند الموت، وإن كان في حال الصحة أفضل.
8472 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن سفيان عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال أن تصدق وأنت صحيح حريص تأمل الغناى وتخشاى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (حتى إذا بلغت الحلقوم...) إلى آخره، ومحمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي وأبو أسامة حماد بن أسامة، وسفيان هو الثوري، وعمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم: ابن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي، وأبو زرعة ابن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عبد الله، وقيل عبد الرحمن، وقيل: جرير، وقيل: عمرو.
والحديث مضى في كتاب الزكاة في: باب أي الصدقة أفضل؟ فإنه أخرجه هناك: عن موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد عن عمارة، ولكن الإسناد هناك كله بالتحديث وهنا بالتحديث في موضعين والباقي بالعنعنة. قوله: (قال رجل للنبي، صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله)، وهناك: جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم)، فقال. قوله: (أي الصدقة أفضل؟) وهناك: أي الصدقة أعظم أجرا؟ قوله: (وأنت صحيح حريص)، وهناك: (وأنت صحيح شحيح)، وقد مر الكلام فيه هناك. قوله: (ولا تمهل) بالجزم، لأنه نهي، ويروى بالرفع على أنه نفي، ويجوز النصب على تقدير: وأن لا تمهل. قوله: (قلت لفلان كذا...) إلى آخره، قال الخطابي: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث، لأنه إن شاء أبطله، وإن شاء أجازه. وقال الكرماني: قد كان لفلان أي: للوارث، والثاني
للمورث، والثالث للموصى له.
8
((باب قول الله تعالى * (من بعد وصية يوصي بها أو دين))
أي: هذا باب في بيان المراد من قول الله تعالى: * (من بعد وصية) * (النساء: 22). وكأن غرض البخاري بهذه الترجمة الاحتجاج إلى جواز
39

إقرار المريض بالدين مطلقا، سواء كان المقر له وارثا أو جنبيا. وقال بعضهم: وجه الدلالة أنه، سبحانه وتعالى، سوى بين الوصية والدين في تقديمهما على الميراث، ولم يفصل فخرجت الوصية للوارث بالدليل وبقي الإقرار بالدين على حاله. انتهى. قلت: كما خرجت الوصية للوارث للدليل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)، فكذلك خرج الإقرار بالدين للوارث بقوله (ولا إقرار له بدين)، وقد تقدم. وقوله: * (من بعد وصية يوصي بها أو دين) * (النساء: 22). قطعة من قوله تعالى: * (يوصيكم الله في أولادكم) * إلى قوله: * (إن الله كان عليما حكيما) * (النساء: 22). هذه الآية والتي بعدها، وهو قوله: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * إلى قوله: * (والله عليم حكيم) * (النساء: 62). والآية التي هي خاتمة هذه السورة، أعني: سورة النساء. وهو قوله: * (يستفتونك قل الله يفتيكم...) * (النساء: 671). إلى آخر الآية، آيات علم الفرائض، وهو مستنبط من هذه الآيات ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك.
ويذكر أن شريحا وعمر بن عبد العزيز وطاووسا وعطاء وابن أذينة أجازوا إقرار المريض بدين
ذكر عنهم ما ذكره بصيغة التمريض، لأنه لم يجزم بصحة النقل عنهم لضعف الإسناد إلى بعضهم. بيانه أن أثر شريح ذكره ابن أبي شيبة عنه بلفظ: إذا أقر في مرض لوارث بدين لم يجز إلا ببينة، وإذا أقر لوارث جاز. وفي إسناده جابر الجعفي وهو ضعيف، وكذلك أخرج أثر طاووس بلفظ: إذا أقر لوارث جاز، وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وكذلك أثر عطاء أخرجه ابن أبي شيبة بمثله، وكذلك أثر ابن أذينة أخرجه ابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه بلفظ: في الرجل يقر لوارث بدين، قال: يجوز. وابن أذينة، بضم الهمزة وفتح الذال المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالنون: واسمه عبد الرحمن، قاضي البصرة، من التابعين الثقات، مات سنة خمس وتسعين من الهجرة.
وقال الحسن أحق ما يصدق به الرجل آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة
الحسن هو البصري، وأثره رواه الدارمي في (مسنده) من طريق قتادة، قال: قال ابن سيرين: لا يجوز إقرار لوارث. قال: وقال الحسن: أحق ما جاز عليه عند موته أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا. قوله: ما يصدق على صيغة المجهول من التصديق، ويروى: ما تصدق على وزن تفعل على صيغة الماضي من التصدق. وقال الكرماني: آخر، بالنصب وبالرفع أي أحق زمان يصدق فيه الرجل في أحواله آخر عمره، والمقصود: أن إقرار المريض في مرض موته حقيق بأن يصدق به ويحكم بإنفاذه قلت: وجه النصب بتقدير: في آخر يوم، ووجه الرفع على أنه خبر لقوله: أحق.
وقال إبراهيم والحكم إذا أبرأ الوارث من الدين برىء
إبراهيم هو النخعي، والحكم، بفتحتين: ابن عيينة، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن إبراهيم في المريض: إذا أبرأ الوارث من الدين برئ، وعن مطرف عن الحكم قال مثله. قوله: (إذا أبرأ)، أي: المريض مرض الموت وارثه من الدين الذي عليه برىء الوارث.
وأوصاى رافع بن خديج أن لا تكشف أمرأته الفزارية عما أغلق عليه بابها
رافع ابن خديج بن رافع الأوسي الأنصاري الحارثي أبو عبد الله، شهد أحدا والخندق، وخديج، بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وفي آخره جيم. قوله: (الفزارية)، بفتح الفاء وتخفيف الزاي وبالراء. قوله: (عما أغلق عليه بابها) وفي رواية المستملي والسرخسي: عن مال أغلق عليه بابها. ويروى: (أغلق عليها)، ويروى: أغلقت عليه بابها. و: أغلقت، على صيغة المبني للفاعل، ولم أر أحدا من الشراح حرر هذا الموضع ولا ذكر ما المقصود منه، والظاهر أن المراد منه أن المرأة بعد موت زوجها لا يتعرض لها، فإن جميع ما في بيته لها، وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنما احتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنه تزوجها فقيرة وأن ما في بيتها من متاع الرجال، وبه قال مالك.
40

وقال الحسن إذا قال لمملوكه عند الموت قد كنت أعتقتك جاز
الحسن هو البصري، وهذا على أصله أن إقرار المريض نافذ مطلقا، فهذا على إطلاقه يتناول أن يكون من جميع ماله، ويخالفه غيره فلا يعتق إلا من الثلث.
وقال الشعبي إذا قالت المرأة عند موتها إن زوجي قضاني وقبضت منه جاز
الشعبي هو عامر. قوله: (قضاني)، يعني: أداني حقي، جاز إقرارها. قال ابن التين: لأنها لا تتهم بالميل إلى زوجها في تلك الحالة، ولا سيما إذا كان لها ولد من غيره.
وقال بعض الناس لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ثم استحسن فقال يجوز إقراره بالوديعة والبضاعة والمضاربة
قال صاحب (التوضيح): المراد ببعض الناس أبو حنيفة. وقال الكرماني. قوله: (وقال بعض الناس) أي، كالحنفية. قلت: هذا كله تشنيع على أبي حنيفة أو على الحنفية مطلقا، مع أن فيه سوء الأدب على ما لا يخفى. قوله: (لا يجوز إقراره)، أي: إقرار المريض لبعض الورثة. قوله: (لسوء الظن به)، أي: بهذا
الإقرار، أي: مظنة أن يريد الإساءة بالبعض الآخر منهم، وهذا لا يطلق عليه سوء الظن، ولم يعلل الحنفية عدم جواز إقرار المريض لبعض الورثة بهذه العبارة، بل قالوا: لا يجوز ذلك لأنه ضرر لبقية الورثة مع ورود قوله، صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث ولا إقرار له بدين)، ومذهب مالك كمذهب أبي حنيفة: إذا اتهم وهو اختيار الروياني من الشافعية، وعن شريح والحسن بن صالح: لا يجوز إقرار المريض لوارث إلا لزوجته بصداقها، وعن القاسم وسالم والثوري: لا يجوز إقرار المريض لوارثه مطلقا، وزعم ابن المنذر: أن الشافعي رجع إلى قول هؤلاء، وبه قال أحمد، والعجب من البخاري أنه خصص الحنفية بالتشنيع عليهم وهم ما هم منفردون فيما ذهبوا إليه، ولكن ليس هذا إلا بسبب أمر سبق فيما بينهم، والله أعلم. قوله: (ثم استحسن)، أي: بعض الناس، هذا، أي: رأى بالاستحسان، فقال... إلى آخره والفرق بين الإقرار بالدين وبين الإقرار بالوديعة والبضاعة والمضاربة ظاهر، لأن مبنى الإقرار بالدين على اللزوم، ومبنى الإقرار بهذه الأشياء المذكورة على الأمانة، وبين اللزوم والأمانة فرق عظيم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث
احتج البخاري بهذا القول نقلا عن الحنفية لسوء الظن به للورثة، وذلك لأن الظن محذر عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن)، وإنما يصح هذا الاحتجاج إذا ثبت أن الحنفية عللوا بسوء الظن به للورثة، وقد منعنا هذا عن قريب، ولئن سلمنا أن هذا ظن فلا نسلم أنه ظن فاسد، والمحذر عنه الظن الفاسد، ثم هذا الحديث الذي ذكره معلقا طرف من حديث سيأتي في الأدب موصولا من وجهين عن أبي هريرة، وقال الكرماني: فإن قلت: الصدق والكذب صفتان للقول لا للظن، ثم إنهما لا يقبلان الزيادة والنقص، فكيف يبنى منه أفعل التفضيل؟ قلت: جعل الظن للمتكلم فوصف بهما كما وصف المتكلم، فيقال متكلم صادق وكاذب، والمتكلم يقبل الزيادة والنقصان في الصدق والكذب، فيقال: زيد أصدق من عمرو، فمعناه: الظن أكذب في الحديث من غيره.
ولا يحل مال المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: آية المنافق إذا ائتمن خان
هذا احتجاج آخر لما ادعاه البخاري، ولكن لا يستقيم لأن فيه تعسفا شديدا، لأن الكرماني وجهه بالجر الثقيل على ما لا يخفى، وهو أنه إذا وجب ترك الخيانة وجب الإقرار بما عليه، وإذا أقر لا بد من اعتبار إقراره، وإلا لم يكن لإيجاب الإقرار فائدة. انتهى. قلت: سلمنا وجوب ترك الخيانة، ولكن لا نسلم وجوب الإقرار بما عليه إلا في موضع ليس فيه تهمة ولا أذى للغير، كما في الإقرار للأجنبي، وأما الإقرار لوارثه ففيه تهمة ظاهرة، وأذى ظاهر لبقية الورثة، وهذا ظاهر لا يدفع. فإن قلت: هذا
41

المقر في حالة يرد فيها على الله، فهي الحالة التي يجتنب فيها المعصية والظلم، قلت: هذا أمر مبطن ونحن لا نحكم إلا بالظاهر، وأما الحديث الذي علقه فهو طرف من حديث مضى في كتاب الإيمان.
وقال الله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 85). فلم يخص وارثا ولا غيره
هذا احتجاج آخر فيما ذهب إليه وهو بعيد جدا، وجهه الكرماني بقوله: فلم يخص، أي: لم يفرق بين الوارث وغيره في ترك الخيانة ووجوب أداء الأمانة إليه فيصح الإقرار سواء كان للوارث أو لغيره. أما وجه البعد. فهو أن يقال: من أين علم أن ذمة المقر للوارث كانت مشغولة حتى إذا لم يقر كان خائنا؟ فإن قيل: إقراره عند توجهه إلى الآخرة يدل على ذلك، يقال: مع هذا يحتمل تخصيصه بذلك بعض الورثة أنه فعل ذلك قصدا لنفعه، وفي ذلك ضرر لغيره، والضرر مدفوع شرعا، ولئن سلمنا اشتغال ذمته في نفس الأمر بما أقر به فهذا لا يكون إلا دينا مضمونا فلا يطلق عليه الأمانة، فلا يصح الاستدلال بالآية الكريمة على ذلك، على أن كون الدين في ذمته مظنون بحسب الظاهر، والضرر لباقي الورثة عند ذلك محقق، فكيف يترك العمل بالمحقق ويعمل بالمظنون؟.
فيه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في قوله: (آية المنافق إذا اؤتمن خان)، روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره في كتاب الإيمان في: باب علامة المنافق، أخرجه عن قبيصة عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عمرو بن العاص.
9472 حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا وعد أخلف.
.
ذكر هذا الحديث بطريق التبعية والبيان لقوله: (آية المنافق إذا اؤتمن خان)، ولقوله: فيه عبد الله بن عمرو، وإلا ليس لذكره وجه في هذا الباب، وهذا الحديث بعينه إسنادا ومتنا قد مر في كتاب الإيمان في: باب علامة المنافق.
9
((باب تأويل قول الله تعالى: * (من بعد وصية توصون بها أو دين) * (النساء: 21).))
أي: هذا باب في بيان تأويل قول الله، عز وجل، في أنه قدم الوصية في الذكر على الدين، مع أن الدين مقدم على الوصية وغيرها، هكذا قالوا، حتى قال بعضهم: وبهذا يظهر السر في تكرار هذه الترجمة. قلت: قدم الله تعالى الوصية على الدين في قوله: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * (النساء: 21). الآية في موضعين، وقدمها أيضا في الآية التي قبلها وهو قوله: * (يوصيكم الله في أولادكم) * (النساء: 11). وينبغي أن يسأل عن وجه تقديم الوصية على الدين في هذه
المواضع، ولا يتجه هذا إلا بترجمة غير هذا، ولا وجه لذكر التأويل هنا، لأن حد التأويل لا يصدق عليه، لأن التأويل ما يستخرج بحسب القواعد العربية، وبعض الآية التي هي ترجمة مفسرة، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تأويل غاية ما في الباب أنه يسأل عما ذكرناه الآن وذكروا فيه وجوها، فقال السهيلي: قدمت الوصية على الدين في الذكر لأنها إنما تقع على سبيل البر والصلة، بخلاف الدين، لأنه يقع قهرا فكانت الوصية أفضل، فاستحقت البداية. وقيل: الوصية تؤخذ بغير عوض، بخلاف الدين فكانت أشق على الورثة من الدين، وفيها مظنة التفريط، فكانت أهم فقدمت. وقيل: هي إنشاء الموصي من قبل نفسه، فقدمت تحريضا على العمل بها. وقيل: هي حظ فقير ومسكين غالبا، والدين حظ غريم يطلبه بقوة، وله مقال.
ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية
هذا الذي ذكره بصيغة التمريض طرف من حديث أخرجه الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن
42

أبي إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي، رضي الله تعالى عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم: (قضى بالدين قبل الوصية وأنتم تقرأون الوصية قبل الدين)، وأخرجه أحمد أيضا ولفظه: عن علي بن أبي طالب قال: قضى محمد صلى الله عليه وسلم (أن الدين قبل الوصية...) الحديث، وهذا إسناده ضعيف لأن الحارث هو ابن عبد الله الأعور، قال ابن أبي خيثمة: سمعت أبي يقول: الحارث الأعور كذاب، وقال أبو زرعة: لا يحتج بحديثه، وقال ابن المديني: الحارث كذاب. فإن قلت: ليست من عادة البخاري أن يورد الضعيف في مقام الاحتجاج به. قلت: بلى، ولكن لما رأى أن العلماء عملوا به، كما قال الترمذي عقيب الحديث المذكور، والعمل عليه عند أهل العلم، اعتمد عليه لاعتضاده بالاتفاق على مقتضاه.
وقوله * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (النساء: 85). فأداء الأمانة أحق من تطوع الوصية
وقوله، بالجر عطفا على: قول الله تعالى، المجرور بإضافة التأويل إليه، وذكر هذه الآية في معرض الاحتجاج في جواز إقرار المريض للوارث، وهذا بمعزل عن ذلك على ما لا يخفى على أحد، والآية نزلت في عثمان بن طلحة، قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، مفتاح الكعبة فدخل الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدفع إليه المفتاح. ذكره الواحدي في (أسباب النزول) عن مجاهد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا صدقة إلا عن ظهر غنى
أورد هذا أيضا في معرض الاحتجاج في جواز الإقرار للوارث. قال الكرماني: والمديون ليس بغني فالوصية التي لها حكم الصدقة تعتبر بعد الدين، وأراد بتأويل الآية مثله. انتهى. قلت: قوله: المديون ليس بغني، على إطلاقه لا يصح، والمديون الذي ليس بغني هو المديون المستغرق، وجعل مطلق المديون أصلا، ثم بناء الحكم عليه فيما ذهب إليه غير صحيح، وهذا التعليق مضى مسندا في كتاب الزكاة في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومضى الكلام فيه.
وقال ابن عباس: لا يوصي العبد إلا بإذن أهله
ذكر هذا أيضا في معرض الاحتجاج، وفيه نظر. قال الكرماني: قوله: (بإذن أهله وأداء الدين الواجب عليه)، قلت: ينبغي أن تكون هذه المسألة على التفصيل، وهو أن العبد لا يخلو إما أن يكون مأذونا له في التصرفات أو لا، فإن لم يكن فلا تصح وصيته بلا خلاف، لأنه لا يملك شيئا، فبماذا يوصي؟ وإن كان مأذونا له تصح وصيته بإذن الولي إذا لم يكن مستغرقا بالدين وعلى كل حال الاستدلال بأثر ابن عباس فيما ذهب إليه لا يتم، وفيه نظر لا يخفى، ورواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن شبيب بن فرقد عن جندب، قال: سأل طهمان ابن عباس: أيوصي العبد؟ قال: لا، إلا بإذن أهله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم العبد راع في مال سيده
قيل: لما تعارض في مال العبد حقه وحق سيده قدم الأقوى، وهو حق السيد، وجعل العبد مولى عنه، وهو أحد الحفظة فيه، فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية والدين واجب والوصية تطوع وجب تقديم الدين فهذا وجه مناسبة هذا الأثر، والحديث للترجمة. انتهى. قلت: العبد لا يملك شيئا أصلا فكيف يثبت له المال؟ ثم كيف تثبت المعارضة بين حقه وحق سيده ولا ثمة حق للعبد؟ وقوله: فكذلك حق الدين لما عارضه حق الوصية... إلى آخره، ممنوع لأنه هو يمنع كلامه بقوله: والدين واجب والوصية تطوع فكيف تتوجه المعارضة بين الواجب والتطوع؟ ومع هذا فإن كان مراد البخاري بهذا وجوب تقديم الدين على الوصية فهذا لا نزاع فيه، وإن كان مراده جواز إقرار المريض للوارث فلا يساعده شيء مما ذكره في هذا الباب، والحديث الذي علقه ذكره مسندا في كتاب العتق في: باب كراهية التطاول على الرقيق.
0572 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني
43

ثم سألته فأعطاني ثم قال لي يا حكيم إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر دعاه ليعطيه فيأبى أن يقبله فقال يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله.
قيل: وجه دخول هذا الحديث في هذا الباب من جهة أنه صلى الله عليه وسلم زهده في قبول العطية وجعل يد الآخذ سفلى تنفيرا عن قبولها، ولم يقع مثل ذلك في تقاضي الدين، لأن يد آخذ الدين ليست سفلى، لاستحقاق أخذه جبرا، فالدين أقوى، فيجب تقديمه. وقال الكرماني: ووجه آخر، وهو أن عمر، رضي الله تعالى عنه، ألا
تهد في توفيته حقه من بيت المال وخلاصه منه، وشبهه بالدين لكونه حقا بالجملة، فكيف إذا كان دينا متعينا؟ فإنه يجب تقديمه على التبرعات قلت ولو تكلفوا غاية ما يكون بأن يذكروا وجه المطابقة بين أحاديث هذا الباب وبين الترجمة فإن فيه تعسفا شديدا يظهر ذلك لمن يتأمله كما ينبغي. والحديث تقدم في كتاب الزكاة في: باب الاستعفاف في المسألة.
قوله: (لا أرزأ) بتقديم الراء على الزاي، أي: لا أخذ من أحد شيئا بعدك.
1572 حدثنا بشر بن محمد السختياني قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني سالم عن ابن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع ومسئول عن رعيته والإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع ومسئول عن رعيته قال وحسبت أن قد قال والرجل راع في مال أبيه.
.
لم يذكر أحد من الشراح وجه دخول هذا الحديث في هذا الباب، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك مثل الذي ذكر في قوله: وقال، عليه الصلاة والسلام: (العبد راع في مال سيده) يتناولا العبد. وبشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن محمد أبو محمد السختياني المروزي، وهو من أفراده، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، والحديث مضى في كتاب الجمعة في: باب الجمعة في القرى، بعين هذا الإسناد ومضى الكلام فيه.
01
((باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه ومن الأقارب؟))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا وقف شخص، وفي بعض النسخ: إذا أوقف، بزيادة ألف في أوله، وهي لغة قليلة، ويقال: لغة رديئة. قوله: (ومن الأقارب؟)، كلمة: من، استفهامية، ولم يذكر جواب إذا لمكان الخلاف فيه. وقال الطحاوي، رحمه الله تعالى: اختلف الناس في الرجل يوصي بثلث ماله لقرابة فلان، من القرابة الذين يستحقون تلك الوصية؟ فقال أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: هم كل ذي رحم محرم من فلان من قبل أبيه أو من قبل أمه. قلت: ولا يدخل الوالدان والولد. قال الطحاوي: غير أنه يبدؤ في ذلك من كانت قرابته منه من قبل أبيه على من كانت قرابته من قبل أمه، أما اعتبار الأقرب فلأن الوصية أخت الميراث، وفيه يعتبر الأقرب فالأقرب، حتى لو كان لفلان عمان وخالان فالوصية للعمين، ولو كان له عم وخالان فللعم النصف وللخالين النصف، وأما اعتبار عدم دخول الوالدين والولد، فلأن الله تعالى عطف الأقربين على الوالدين، والمعطوف
44

يغاير المعطوف عليه. فإن قلت: إذا لم يدخل الوالد والولد، فهل يدخل الجد وولد الولد؟ قلت: ذكر في الزيادات أنهما يدخلان ولم يذكر فيه خلافا، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنهما لا يدخلان، وهكذا روي عن أبي يوسف، وهو الصحيح وقال زفر: الوصية لكل من قرب منه من قبل أبيه أو من قبل أمه دون من كان أبعد منهم، وسواء في هذا بين من كان منهم ذا رحم محرم وبين من كان ذا رحم غير محرم، وقال أبو يوسف ومحمد: الوصية في ذلك لكل من جمعه، وفلانا أب واحد منذ كانت الهجرة من قبل أبيه أو من قبل أمه. وقال قوم من أهل الحديث وجماعة من الظاهرية: الوصية لكل من جمعه وفلانا أبوه الرابع إلى ما هو أسفل من ذلك، وقال مالك والشافعي وأحمد: الوصية في ذلك لكل من جمعه وفلانا أب واحد في الإسلام أو في الجاهلية، وتحقيق مذهب الشافعي ما ذكره النووي في (الروضة): أوصى لأقارب زيد، دخل فيه الذكر والأنثى والفقير والغني والوارث وغيره والمحرم وغيره والقريب والبعيد والمسلم والكافر لشمول الاسم، ولو أوصى لأقارب نفسه ففي دخول ورثته وجهان: أحدهما: المنع، لأن الوارث لا يوصى له، فعلى هذا يختص بالباقين، وبهذا قطع المتولي ورجحه الغزالي، وهو محكي عن الصيدلاني. والثاني: الدخول، لوقوع الاسم. ثم يبطل نصيبهم ويصح الباقي لغير الورثة. وهل يدخل في الوصية لأقارب زيد. أصوله وفروعه؟ فيه أوجه. أصحها: عند الأكثرين: لا يدخل الوالدان والأولاد، ويدخل الأجداد والأحفاد. والثاني: لا يدخل أحد من الأصول والفروع. والثالث: يدخل الجميع، وبه قطع المتولي، قلت: أمر الوقف في هذا كأمر الوصية، وقال الماوردي: تجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه من صغير وكبير وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم إذا لم يكن وارثا ولا قاتلا.
وقال ثابت عن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة اجعلها لفقراء أقاربك فجعلها لحسان وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو طرف من حديث أخرجه مسلم: حدثني محمد بن حاتم، قال: حدثنا بهز، قال: حدثنا حماد بن سلمة. قال: حدثنا ثابت عن أنس، رضي الله تعالى عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). قال أبو طلحة: أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي بيرحاء لله. قال: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إجعلها في قرابتك). قال: فجعلها في حسان بن ثابت وأبي بن كعب، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (إجعلها)، الضمير المنصوب فيه يرجع إلى أرضي بيرحاء، وقد بينه كذلك مسلم في (صحيحه) لأن المعلق المذكور قطعة من حديث مسلم، كما ذكرنا. وأبو طلحة: اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار النجاري الأنصاري وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو إلى النجار، واسم النجار: تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الخزرجي الأنصاري، وأبي بن كعب بن المنذر، ويقال: كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن
45

مالك بن النجار، فيجتمع أبو طلحة وحسان وأبي بن كعب في عمرو بن مالك بن النجار، ويجتمع أبو طلحة وحسان في حرام بن عمرو وجد أبيهما، على ما يجيء الآن، إن شاء الله تعالى.
وقال الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة عن أنس مثل حديث ثابت قال اجعلها لفقراء قرابتك قال أنس فجعلها لحسان وأبي بن كعب وكانا أقرب إليه مني وكان قرابة حسان وأبي من أبي طلحة واسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار وحسان بن ثابت بن المنذر بن حرام فيجتمعان إلى حرام وهو الأب الثالث وحرام بن عمرو بن زيد بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار فهو يجامع حسان وأبا طلحة وأبيا إلى ستة آباء إلى عمرو بن مالك وهو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار فعمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا
الأنصاري: هو محمد بن عبد الله بن المثنى، بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وفتح النون المشددة: ابن عبد الله بن أنس ابن مالك، هو يروي عن أبيه عبد الله المذكور، وعبد الله يروي عن عمه ثمامة، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم: ابن عبد الله ابن أنس، وهو يروي عن جده أنس بن مالك، وهذا الإسناد كله بصريون وأنسيون، والبخاري روى عن الأنصاري كثيرا.
قوله: (مثل حديث ثابت)، وهو المذكور الآن، اختصره البخاري هنا ووصله في تفسير آل عمران مختصرا. أيضا عقيب رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس في هذه القصة، قال: حدثنا الأنصاري، فذكر هذا الإسناد. قال: فجعلها لحسان وأبي، وكانا أقرب إليه، ولم يجعل لي منها شيئا. وسقط هذا القدر من رواية أبي ذر. وقد أخرجه الطحاوي: حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا حميد عن أنس، قال: لما نزلت هذه الآية: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 29). قال أو قال: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 542، والحديد: 11). جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله! حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى، ولو استطعت أن أسره لم أعلنه. فقال: (إجعله في فقراء قرابتك أو فقراء أهلك). حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني أبي عن ثمامة، قال: قال أنس، رضي الله تعالى عنه: كانت لأبي طلحة أرض فجعلها لله عز وجل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (اجعلها في فقراء قرابتك)، فجعلها لحسان. وأبي. قال أبي: عن ثمامة عن أنس قال: وكانا أقرب إليه مني. انتهى. أي: كان حسان وأبي بن كعب إقرب إلى أبي طلحة من أنس بن مالك، لأنهما يبلغان إلى عمرو بواسطة ستة أنفس، وأنس يبلغ إليه بواسطة اثني عشر نفسا، لأن أنس بن مالك بن النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: ابن ضمضم، بفتح الضادين المعجمتين: ابن زيد بن حرام ضد حلال ابن جندب بن عامر بن غنم، بفتح الغين المعجمة وسكون النون: ابن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. قوله: (وكان قرابة حسان...) إلى آخره من كلام البخاري، أو من كلام شيخه، وليس من الحديث. قوله: (واسمه) أي: اسم أبي طلحة. قوله: (حرام) ضد حلال كما ذكرنا. قوله: (زيد مناة)، بالإضافة. قال الكرماني: ليس بين زيد وبين مناة ابن، لأنه اسم مركب منهما. قوله: (ابن النجار) وقد ذكرنا أن اسمه: تيم اللات، وإنما سمي النجار لأنه اختتن بالقدوم، وقيل: ضرب وجه رجل بقدوم فنجره، فقيل له: النجار. قوله: (إلى حرام)، وهو الأب الثالث يعني: لأبي طلحة، ووقع هنا وفي رواية أبي ذر: وحرام بن عمرو، وساق النسب ثانيا إلى النجار، وهو زيادة لا معنى لها. قوله: (فهو يجامع حسان) أي: الشأن أن حسان وأبيا يجامع أبا طلحة، قاله الكرماني، وليس بشيء، والصواب: أن لفظ: هو يرجع إلى عمرو بن مالك، والمعنى: أن عمرو بن مالك يجمع حسان وأبا طلحة وأبيا، هكذا وقع في رواية المستملي، وكذا وقع في رواية أبي داود في (السنن) وقال: بلغني عن محمد بن عبد الله الأنصاري أنه قال: أبو طلحة هو زيد بن سهل، فساق نسبه ونسب حسان بن ثابت وأبي بن كعب كما تقدم، ثم قال: قال الأنصاري: فبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة أباء، قال: وعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبيا وأبا طلحة، والله أعلم، وكذا قال البخاري، فعمرو بن مالك يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، رضي الله تعالى عنهم.
وقال بعضهم إذا أوصاى لقرابته فهو إلى آبائه في الإسلام
أراد به: أبا يوسف صاحب أبي حنيفة. قوله: (إلى آبائه في الإسلام) أي: إلى آبائه الذين كانوا في الإسلام، وقد مر في أول الباب اختلاف العلماء فيه، ومحمد بن الحسن مع أبي يوسف.
2572 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسا رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة أراى أن تجعلها في الأقربين قال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
.
هذا الحديث قد مضى مطولا في كتاب الزكاة في: باب الزكاة على الأقارب، ومضى الكلام فيه مستوفى، والضمير في: (أن
46

تجعلها)، يرجع إلى: بيرحاء، ومضى تفسيره هناك.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما نزلت * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 412). وقال النبي صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش
ذكر هذا مختصرا معلقا، ووصله في مناقب قريش، وتفسير سورة الشعراء، بتمامه من طريق عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأورد في آخر الجنائز طرفا منه في قصة أبي لهب، موصولة وسيأتي تفسيره، إن شاء الله تعالى.
11
((باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يدخل... إلى آخره، وإنما ذكره بكلمة الاستفهام لمكان الاختلاف فيه. قوله: (في الأقارب)، أي: في وصيته للأقارب.
3572 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمان أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قام رسول الله،
صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 412). قال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا ويا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا.
قيل: لا مطابقة هنا بين الحديث والترجمة لأن الآية في إنذار العشيرة، وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعلق له في دخول النساء والولد في الأقارب. وقال بعضهم: موضع الشاهد منه يعني: مطابقة الحديث للترجمة تؤخذ من قوله: يا صفية ويا فاطمة، فإنه سوى في ذلك بين عشيرته، فعمهم أولا، ثم خص بعض البطون، ثم ذكر عمه العباس وعمته صفية وبنته فاطمة، فدل على دخول النساء في الأقارب، وعلى دخول الفروع أيضا، وعلى عدم التخصيص بمن يرث ولا بمن كان مسلما، ويحتمل أن يكون لفظ الأقربين صفة لازمه للعشيرة، والمراد بعشيرته قومه، وهم قريش، وفيه نظر: لا يخفى لأن الدلالة التي ذكرها في الموضعين، أي: لا دلالة من أنواع الدلالات. وكذلك قوله: (وعلى عدم التخصيص) وكيف وجه هذه الدلالة؟ فلا دلالة هنا أصلا على ما ذكره، يعرف ذلك بالتأمل.
وأخرج البخاري هذا الحديث في موضعين من التفسير بعين هذا الإسناد. وأخرجه النسائي في الوصايا عن محمد بن خالد بن خلي عن بشر بن شعيب بن أبي حمزة عن أبيه به، كذلك، وأخرجه الطحاوي: حدثنا يونس، قال: حدثنا سلامة بن روح، قال: حدثنا عقيل حدثني الزهري، قال: قال سعيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن أبا هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (الشعراء: 412). يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا؟) الحديث، قال الطحاوي: في هذا الحديث أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لما أمره الله عز وجل أن ينذر عشيرته الأقربين، دعا عشائر قريش، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثاني، وفيهم من يلقاه عند أبيه الثالث، وفيهم من يلقاه عند أبيه الرابع، وفيهم من يلقاه عند أبيه الخامس، وفيهم من يلقاه عند أبيه السادس، وفيهم من يلقاه عند آبائه الذين فوق ذلك، إلا أنه ممن جمعته وإياه قريش وقد ذكرنا عن الطحاوي في أول الباب، أنه ذكر في هذا الباب خمسة أقوال، وساق دليل كل واحد منهم، ثم ذكر أن الصحيح من ذلك كله القول الذي ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد، رضي الله تعالى عنهم، وأبطل بقية الأقوال، وصرح ببطلان ما ذهب إليه أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه، وما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد، فهذا الذي سلكه هو طريق المجتهدين المستنبطين للأحكام من الكتاب والسنة، فلذلك ترك تقليده لأبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة
47

ونقل صاحب (التلويح): عن الإسماعيلي أنه قال: حديث أبي هريرة هذا وابن عباس أيضا مرسلان، لأن الآية نزلت بمكة، وابن عباس كان صغيرا، وأبو هريرة أسلم بالمدينة. وأجيب عنه بأنه يمكن أن يكونا سمعا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي آخر.
ثم إن الإجماع قام على أن اسم الولد يقع على البنين والبنات، وأن النساء التي من صلبه وعصبته كالابنة والأخت والعمة يدخلن في الأقارب إذا وقف على أقاربه، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم خص عمته بالنذارة كما خص ابنته، وكذلك من كان في معناهما ممن يجمعه معه أب واحد، وروى أشهب عن مالك: أن الأم لا تدخل. وقال ابن القاسم: تدخل الأم في ذلك ولا تدخل الأخوات لأم.
واختلفوا في ولد البنات وولد العمات ممن لا يجتمع مع الموصى والمحبس في أب واحد، هل يدخلون بالقرابة أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا وقف وقف على ولده دخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا، وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات، والقرابة عند أبي حنيفة: كل ذي رحم، فسقط عنده ابن العم والعمة وابن الخال والخالة، لأنهم ليسوا بمحرمين، والقرابة عند الشافعي: كل ذي رحم محرم وغيره، ولم يسقط عنده ابن العم ولا غيره، وقال صاحب (التوضيح): صحح أصحابه أنه لا يدخل في القرابة الأصول والفروع ويدخل كل قرابة وإن بعد. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات وقوله: لقرابتي وعقبي، كقوله: لولدي، وقوله: ولدي، يدخل فيه: ولد البنين. ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه، ولا يدخل ولد البنات. وحجة من أدخل ولد البنت قوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد في الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما). وقال تعالى: * (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * (الحجرات: 31). والتولد من جهة الأم كالتولد من جهة الأب، وقد دل القرآن على ذلك قال تعالى: * (ومن ذريته داود) * إلى أن قال: * (وعيسى) * (الأنعام: 48). فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته، ولم يفرق في الاسم بين ابنه وبين بنته. وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم: إنما سمى الحسن ابنا على وجه التخنن، وأبوه في الحقيقة علي، رضي الله تعالى عنه، وإليه نسبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم في العباس: (اتركوا لي أبي)، وهو عمه وإن كان الأب حقيقة خلافه وعيسى، عليه الصلاة والسلام، جرى عليه اسم الذرية على طريق الاتساع.
قوله: (سليني ما شئت)، فيه أن الائتلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائز، وفي الكافر آكد.
تابعه أصبغ عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب
هذه المتابعة أخرجها مسلم عن حرملة عن عبد الله بن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب، وأبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حين أنزل الله عليه * (وأنذر عشيرتك الأقربين...) * (الشعراء: 412). الحديث.
21
((باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل ينتفع الواقف بوقفه الذي وقفه؟ وإنما ذكره بكلمة: هل، الاستفهامية لمكان الخلاف فيه، وانتفاع الواقف بوقفه أعم من أن يكون الوقف
على نفسه أو أن يجعل جزءا كم ريعه على نفسه، أو أن يجعل النظر عليه لنفسه.
وقد اشترط عمر رضي الله تعالى عنه: لا جناح على من وليه أن يأكل
هذه قطعة من قصة وقف عمر، رضي الله تعالى عنه، وقد مضى موصولا في آخر الشروط. قيل: ذكره لاشتراط عمر، لا حجة فيه، لأن عمر أخرجها عن يده ووليها غيره، فجعل لمن وليها أن يأكل على شرطه. قوله: (أن يأكل) ويروى: (أن يأكل منها). وقال ابن بطال: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه. لأنه أخرجه لله تعالى، وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته، وقد نهى الشارع عن ذلك، وإنما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك في الوقف أو إن يفتقر المحبس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه. وقال ابن القصار: من حبس دارا أو سلاحا أو عبدا في سبيل الله، فأنفذ ذلك في وجوهه زمانا، ثم أراد أن ينتفع به مع الناس، فإن كان من حاجة فلا بأس، وذكر ابن حبيب عن مالك قال: من حبس أصلا يجري
48

غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء، غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس، ويكتب على الولد كتاب: أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على المسكنة، وليس لهم على حق فيه، دون المساكين، واختلفوا: إذا أوصى بشيء للمساكين فغفل عن قسمته حتى افتقر بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين، فقال مطرف: أرى أن يعطوا من ذلك على المسكنة، وهم أولى من الأباعد. وقال ابن الماجشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثم افتقروا أعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يعطوا منه، لأنه أوصى وهو يعرف حاجتهم، فكأنه أزاحهم عنه. وقال ابن القاسم: لا يعطوا منه شيئا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى.
وقد يلي الواقف أو غيره
هذا من تفقه البخاري، يعني: قد يلي الواقف أمر وقفه أو يلي غيره، وكلامه هذا يشعر أن الواقف إذا شرط ولاية النظر له جاز، وقال ابن بطال: ذكر ابن المواز عن مالك أنه: إن اشترط في حبسه أن يليه هو لم يجز، وعن ابن عبد الحكم، قال مالك: إن جعل الواقف الوقف بيد غيره يجوزه ويجمع غلته ويدفعها إلى الذي حبسه يلي تفرقته، وعلى ذلك حبس، أن ذلك جائز. وقال ابن كنانة: من حبس ناقة في سبيل الله فلا ينتفع بشيء منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها فمن أجاز للواقف أن يليه فإنما يجوز له الأكل منه بسبب ولايته عليه، كما يأكل الوصي من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخاري في هذا الباب، ولم يجز مالك للواقف أن يلي وقفه، قطعا للذريعة إلى الانفراد بغلته، فيكون ذلك رجوعا فيه.
وكذلك من جعل بدنة أو شيئا لله فله أن ينتفع بها كما ينتفع غيره وإن لم يشترط
أشار بهذا أيضا إلى جواز انتفاع الواقف بوقفه ما لم يضره، وإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف. وقال الداودي: ليس فيه حجة لما بوب له، لأن مهديها إنما جعلها لله عز وجل، إذا بلغت محلها، وأبقى ملكه عليها مع ما عليه من الخدمة من السوق والعلف، ألا ترى أنها: إن كانت واجبة، أن عليه بدلها إن عطبت قبل محلها، وإنما أمره، صلى الله عليه وسلم، بركوبها لمشقة السفر، ولأنه لم ير له مركبا غيرها، وإذا كان ركوبها مهلكا لها لم يجز له ذلك، كما لا يجوز له أكل شيء من لحمها.
4572 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له اركبها فقال يا رسول الله إنها بدنة فقال في الثالثة أو الرابعة اركبها ويلك أو ويحك.
(انظر الحديث 0971 وطرفه).
أبو عوانة، بفتح العين المهملة اسمه الوضاح اليشكري، والحديث مضى في كتاب الحج في: باب ركوب البدن، فإنه رواه هناك: عن أبي هريرة وعن أنس، مضى الكلام فيه هناك.
5572 حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها قال يا رسول الله إنها بدنة قال اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة.
.
إسماعيل بن أبي أويس، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز. والحديث مضى في الحج كما ذكرناه الآن.
31
((باب إذا وقف شيئا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا وقف شخص وقفا فلم يدفعه إلى غيره بأن لم يخرجه من يده، فهو جائز، يعني: صحيح
49

لا يحتاج إلى قبض الغير، وهو قول الجمهور منهم الشافعي وأبو يوسف. وقالت طائفة: لا يصح الوقف حتى يخرجه عن يده، ويقبضه غيره وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وحجة الجمهور أن عمر وعليا وفاطمة، رضي الله تعالى عنهم، أوقفوا أوقافا وأمسكوها بأيديهم، وكانوا يصرفون الانتفاع منها في وجوه الصدقة، فلم تبطل. واحتج الطحاوي أيضا بأن الوقف شبيه بالعتق، لإشتراكهما في أنهما تمليك لله تعالى، فينفذ بالقول المجرد عن القبض، ويفارق الهبة، فإنها تمليك لآدمي، فلا يتم إلا بالقبض.
لأن عمر رضي الله تعالى عنه أوقف وقال لا جناح على من وليه أن يأكل ولم يخص إن وليه عمر أو غيره
هذا تعليل لقوله: فهو جائز، قيل: فيه نظر، لأن غاية ما ذكر عن عمر هو أن كل من ولي الوقف أبيح له التناول، ولا يلزم من ذلك أن كل أحد يسوغ له أن يتولى الوقف المذكور، بل الوقف لا بد له من متول. وأجيب: بأن عمر لما وقف ثم شرط لم يأمره النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يخرجه من يده، فكان سكوته عن ذلك دالا على صحة الوقف وإن لم يقبضه الموقوف عليه.
قال النبي، صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة أراى أن تجعلها في الأقربين فقال أفعل فقسمها في أقاربه وبني عمه
أراد بهذا أيضا الاحتجاج على عدم اشتراط القبض في جواز الوقف، وهذا قد تقدم موصولا قريبا. قال الداودي: ما استدل به البخاري على صحة الوقف قبل القبض من قصة عمر وأبي طلحة حمل للشيء على ضده وتمثيله بغير جنسه ودفع للظاهر عن وجهه، لأنه هو روى أن عمر دفع الوقف لابنته، وأن أبا طلحة دفع صدقته إلى أبي بن كعب وحسان. وأجيب بأن البخاري: إنما أراد أنه، عليه الصلاة والسلام، أخرج عن أبي طلحة ملكه بمجرد قوله: (هي لله صدقة)، وبهذا يقول مالك: إن الصدقة تلزم بالقول، وإن كان يقول: إنها لا تتم إلا بالقبض، ونوزع في ذلك باحتمال أنها خرجت من يد أبي طلحة، واحتمال أنها استمرت فلا دلالة فيها، ودفع بأن أبا طلحة أطلق صدقة أرضه وفوض إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مصرفها فلما قال له: (أرى أن تجعلها في الأقربين) ففوض له قسمتها بينهم، صار كأنه أقرها في يده بعد أن مضت الصدقة. قلت: وفي نفس الحديث: أن الذي تولى قسمتها هو أبو طلحة بنفسه، والنبي، صلى الله عليه وسلم عين له جهة المصرف، لكنه أجمل لأنه قال: (في الأقربين)، وهذا مجمل، ولما لم يمكن له أن يقسمها على الأقربين كلهم لكثرتهم وانتشارهم فقسمها على بعضهم ممن اختار منهم.
41
((باب إذا قال داري صدقة لله ولم يبين للفقراء أو غيرهم فهو جائز ويضعها في الأقربين أو حيث أراد))
أي: هذا باب يذكر فيه: إذا قال شخص: داري هذه صدقة لله، والحال أنه لم يبين، يعني: هل هي على الفقراء أو غيرهم، فهو جائز يعني: يتم وقفه، فإن شاء يضعها في أقاربه أو حيث شاء من الجهات. وقال أبو حنيفة: إذا قال الرجل: أرضي هذه صدقة، ولم يزد على هذا شيئا أنه ينبغي له أن يتصدق بأصلها على الفقراء والمساكين، أو يبيعها ويتصدق بثمنها على المساكين، ولا يكون وقفا، ولو مات كان جميع ذلك ميراثا بين ورثته على كتاب الله تعالى، وكل صدقة لا تضاف إلى أحد فهي للمساكين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة حين قال أحب أموالي إلي بيرحاء وأنها صدقة لله فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذالك
أشار بهذا إلى الاحتجاج فيما ذهب إليه من جواز وقف من قال: داري هذه صدقة، وسكت عليه، ولم يبين مصرفا
50

من الجهات، وقد مر هذا الحديث غير مرة، ومر أيضا تفسير بيرحاء في كتاب الزكاة في: باب الزكاة على الأقارب. قوله: (فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك) من كلام البخاري أي: أجاز النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي طلحة. حيث قال في الحديث المذكور: (إن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله...)، الحديث.
وقال بعضهم لا يجوز حتى يبين لمن والأول أصح
أي: قال بعض العلماء: لا يجوز ما ذكر من الصدقة على الوجه المذكور حتى يبين، أي: حتى يعين لمن هي، وأراد بذلك الإمام الشافعي، فإنه قال في قول: إن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه، وإلا فهو باق على ملكه. وقال في قول آخر: يصح الوقف، وإن لم يعين مصرفه، وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد، رحمهم الله. قيل: إن المراد بقوله: قال بعضهم الحنفية، وهو غير صحيح، لأن مذهب أبي حنيفة قد ذكرناه الآن، ومذهب أبي يوسف ومحمد: الجواز مطلقا. قوله: (والأول)، أي: الذي ذكره أولا، وهو الجواز هو الأصح.
51
((باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهو جائز وإن لم يبين لمن ذالك))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا قال... إلى آخره. قوله: (وإن لم يبين لمن ذلك)، يفيد زيادة فائدة، لأنه بين بقوله: (عن أمي) أن الصدقة عنها جائزة، ولكنه لم يبين لمن تلك الصدقة، فلا يضره ذلك، وقد ذكرنا الخلاف فيه في الباب السابق.
6572 حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا مخلد بن يزيد قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني يعلاى أنه سمع عكرمة يقول أنبأنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: محمد، كذا وقع في رواية الأكثرين بغير نسبة، وفي رواية أبي ذر وابن شبويه: حدثنا محمد بن سلام، وقال الجياني: نسبه شيوخنا إلى سلام. الثاني: مخلد، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام: ابن يزيد من الزيادة، مر في الجمعة. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الرابع: يعلى، على وزن يرضى: ابن حكيم، قاله الكرماني أخذا من قول الطرقي، قيل: إنه وهم فيه، وهو يعلى بن مسلم بن هرمز. الخامس: عكرمة مولى ابن عباس. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضعين. وفيه: الإنباء في موضع واحد. وفيه: السماع في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بخاري بيكندي، وهو من أفراده وأن شيخ شيخه حراني جزري، وأن ابن جريج مكي، وأن يعلى أيضا يعد في المكيين، وأصله من البصرة وليس له عن عكرمة في البخاري سوى هذا الموضع، وأن عكرمة مدني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الوصايا عن إبراهيم بن موسى عن هشام.
ذكر معناه: قوله: (أن سعد بن عبادة) هو الأنصاري الخزرجي سيد الخزرج. قوله: (أمه) هي: عمرة بنت مسعود، وقيل: سعد بن قيس بن عمر، وأنصارية خزرجية، وذكر ابن سعد أنها أسلمت وبايعت وماتت سنة خمس، والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، وابنها سعد بن عبادة معه قال: فلما رجعوا جاء النبي، صلى الله عليه وسلم فصلى على قبرها، قيل: فعلى هذا يكون هذا الحديث مرسل صحابي، لان ابن عباس كان حينئذ مع أبويه بمكة. قوله: (وهو غائب)، جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (عنها)، أي: عن أمه في الموضعين. قوله: (أينفعها؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (به) يرجع إلى قوله: بشيء. قوله: (نعم)، أي: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: ينفعها عند الله. قوله: (إن حائطي)، الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط أي: جدار، ويجمع على: حوائط. قوله: (المخراف)، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفي آخره فاء، وهو اسم للحائط، فلذلك انتصب على أنه عطف بيان، ووقع في
51

رواية عبد الرزاق: (مخرف) بدون ألف. قال القزاز: (المخراف) جماعة النخل، بفتح الميم وبكسرها: الزنبيل الذي يخترف فيه الثمار. وقال ابن الأثير: (المخرف)، بالفتح يقع على النخل، وعلى الرطب، وقال الخطابي: (المخراف) الثمرة سميت مخرافا لما يجتني من ثمارها، كما يقال: امرأة مذكار. قال: وقد يستوي هذا في نعت الذكور والإناث، ويقال: (المخراف)، الشجرة وهو الصواب، وتكلموا فيه كثيرا، والحاصل أن المخراف هنا اسم حائط سعد ابن عبادة كما ذكرنا. قوله: (صدقة عليها)، ويروى: عنها، وهذه هي الأصح، لا ما قاله صاحب (التوضيح): إن كليهما بمعنى واحد. فافهم.
ذكر ما يستفاد منه: أن ثواب الصدقة عن الميت يصل إلى الميت وينفعه. قال الكرماني: وهو مخصص لعموم قوله تعالى: * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * (النجم: 93). قلت: يلزمه أن يقول أيضا بوصول ثواب القراءة إلى الميت.
61
((باب إذا تصدق أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا تصدق شخص ماله ووقف إلى آخره، أما إذا تصدق ببعض ماله فلا خلاف فيه أنه يجوز، وكذا إذا تصدق بكل ماله فإنه يجوز، وقال ابن بطال: واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأكثر العلماء على: أنه يجوز للصحيح أن يتصدق بكل ماله في صحته، إلا أنهم استحبوا أن يبقي لنفسه منه ما يعيش به خوف الحاجة، وما يتقي من الآفات مثل الفقر وغيره، فإن آفات الدنيا كثيرة، وربما يطول عمره ويحصل له العمى أو الزمانة مع الفقر. لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)، ويروى: (أمسك عليك ثلث مالك)، فحض على الأفضل، وقال ابن التين: ومذهب مالك أنه يجوز إذا كان له صناعة أو حرفة يعود بها على نفسه وعياله، وإلا فلا ينبغي له ذلك، وأما إذا وقف بعض ماله فهو وقف المشاع، فإنه يجوز عند أبي يوسف والشافعي ومالك، لأن القبض ليس بشرط عندهم، عند محمد: لا يجوز وقف المشاع فيما يقبل القسمة، لأن القبض شرط عنده، وأما وقف بعض رقيقه فإن فيه حكمين. أحدهما: أنه مشاع، والحكم فيه ما ذكرنا. والآخر: أنه وقف المنقول، فإنه يجوز عند مالك والشافعي وأحمد، وبه قال محمد بن الحسن فيما يتعارف وقفه للتعامل بها. قوله: (أو بعض رقيقه...) إلى آخره، من باب عطف الخاص على العام. وقال بعضهم: هذه الترجمة معقودة لجواز وقف المنقول والمخالف فيه أبو حنيفة. انتهى. قلت: المذهب فيه تفصيل فلا يقال: المخالف فيه أبو حنيفة، كذا جزافا. أما مذهب أبي حنيفة فإنه لا يرى بالوقف أصلا، فضلا عن صحة وقف المنقول، وأما مذهب أبي يوسف ومحمد فإنهما يريان وقف المنقول بطريق التبعية، كآلات الحرث والثيران، وعبيد الأكرة تبعا للضيعة كالبناء يصح وقفه تبعا للأرض لا وحده، وأما المنقول بغير التبعية كوقف القدر والفأس والطست ونحو ذلك، فإنه يجوز عند محمد للتعارف كما ذكرنا.
7572 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن كعب أن عبد الله بن كعب قال سمعت كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر..
مطابقته للترجمة في قوله: (أمسك عليك بعض مالك) فإن فيه دلالة على جواز إخراج بعض ماله، والمال أعم من أن يكون من النقود ومن العقار.
ورجال هذا الحديث قد ذكروا غير مرة، وعقيل، بضم العين، وهذا قطعة من حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وسيأتي الحديث بطوله في كتاب المغازي، وهذا المقدار قد مضى في كتاب الزكاة في: باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومضى الكلام فيه هناك.
71
((باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه))
أي: هذا باب في بيان حكم من تصدق إلى وكيله، ثم رد الوكيل الصدقة إليه. قيل: هذه الترجمة وحديثها
52

غير موجودين في أكثر الأصول، ولهذا لم يشرحه ابن بطال وثبتا في رواية أبي ذر عن الكشميهني خاصة، لكن وقع في روايته على وكيله، وثبتت الترجمة وبعض
الحديث في رواية الحموي، وقد اعترض بعضهم على البخاري في انتزاع هذه الترجمة من قصة أبي طلحة. وأجيب: بأن مراد البخاري أن أبا طلحة لما أطلق أنه تصدق وفوض إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعيين المصرف، فصار كأنه وكله ثم رد، عليه الصلاة والسلام، عليه بأن قال له: (دعها في الأقربين)، فبهذا المقتضى صدق وضع هذه الترجمة بهذه الصورة.
53

81
((باب قول الله تعالى: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * (النساء: 8).))
أي: هذا باب في بيان حكم قول الله تعالى: * (وإذا حضر القسمة) * (النساء: 8). الآية وتمامها * (وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء: 8). قوله: * (القسمة) * (النساء: 8). أي: القسمة: الميراث. قوله: * (أولوا القربى) * (النساء: 8). أي: ذوو القربى ممن ليس بوارث * (واليتامى والمساكين فارزقوهم منه) * (النساء: 8). أي: فارضخوا لهم من التركة نصيبا، وكان ذلك واجبا في ابتداء الإسلام، وقيل: كان مستحبا. قال الزمخشري: والضمير في: منه، لما ترك الوالدان والأقربون.
ثم اختلفوا: هل هو منسوخ أم لا؟ على قولين: فقالت طائفة: وليست بمنسوخة، منهم: مجاهد وأبو العالية والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر قالوا: إنها واجبة. وقال الثوري: عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية، قال: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال: هي قائمة يعمل بها. قال الزهري: وهي محكمة. وقالت طائفة هي منسوخة، وبه قال سعيد بن المسيب، وروى ابن مردويه، وقال: حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن همام حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: إنها منسوخة، كانت قبل الفرائض كل ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم والفقير والمسكين وذوو القربى إذا حضروا القسمة، ثم نسخ بعد ذلك، نسختها المواريث، فألحق الله بكل ذي حق حقه، وصارت الوصية من ماله يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء، وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهذا مذهب جمهور الفقهاء الأئمة الأربعة وأصحابهم. قوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء: 8). المراد بالمعروف هنا، أن يقول: خذ بارك الله لك، هذا عند من يقول: إنها محكمة، وأما عند من يقول: إنها منسوخة، فهو أن يقول: إنه مال يتيم ومالي فيه شيء، أو: لست أملكه، إنما هو للصغار.
9572 حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت ولا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس هما واليان وال يرث وذاك الذي يرزق ووال لا يرث فذاك الذي يقول بالمعروف يقول لا أملك لك أن أعطيك.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن حديث الباب لابن عباس، والآية التي هي الترجمة غير منسوخة عنده، وأبو عوانة، بفتح العين المهملة: الوضاح اليشكري، وأبو بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: واسمه جعفر بن أبي وحشية، واسمه: إياس اليشكري البصري.
وهذا الحديث من أفراده، وذكره في التفسير من حديث عكرمة، ثم قال: تابعه سعيد عن ابن عباس يعني هذا بزيادة، قال: هي محكمة، وليست بمنسوخة، وادعى أبو مسعود في أطرافه إرساله يريد: مرسل صحابي، وليس كذلك، وإنما هو موقوف على صحابي لا مرسل، لأن الإرسال لا بد فيه من ذكر سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم قوله: والله ما نسخت، يقتضي إعطاء شيء من التركة للحاضرين في قوله: * (وإذا حضر القسمة أولو القربى) *.
قوله (ولكنها) أي ولكن قضية الآية مما تهاون الناس فيها ولم يعملوا بما فيها قوله (هما) أي المتصرفان في التركة والمتوليان أمرها قسمان أحدهما وال متصرف يرث المال كالعصبة مثلا والآخر وال يتصرف لا يرث كولي اليتيم.
قوله: (وذاك الذي يرزق)، إشارة إلى الوالي الذي يتصرف ويرث هو الذي يرزق الحاضرين القسمة من أولي القربى واليتامى والمساكين، ومعنى: يرزق، يرضخ لهم ما طابت أنفسهم ولم يعين فيه شيئا مقدرا. قوله: (فذاك الذي يقول...) إلى آخره، إشارة إلى الوالي الذي يتصرف ولا يرث، فإنه يقول: لا أملك لك أن أعطيك شيئا. وهو الذي خوطب بقوله: * (وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء: 8). قال الزمخشري: الخطاب للورثة
54

وحدهم بأن يجمعوا بين الأمرين: الإعطاء والاعتذار عنهم عن القلة، ونحوها. وروى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: ثلاث آيات في كتاب الله تعالى محكمات مبينات قد ضيعهن الناس، فذكر هذه الآية، وآية الاستئذان * (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) * (النور: 85). في العورات الثلاث، وهذه الآية: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * (الحجرات: 31).
91
((باب ما يستحب لمن يتوفى فجأة أن يتصدقوا عنه وقضاء النذور عن الميت))
أي: هذا باب في بيان ما يستحب لمن يموت فجاءة، أي: بغتة، وهو بضم الفاء وتخفيف الجيم ممدودة، ويجوز فتح الفاء وسكون الجيم بغير مد. قوله: (أن يتصدقوا) كلمة: أن، مصدرية والضمير في: أن يتصدقوا، لأهل الميت، أو لأصحابه بقرينة الحال. قوله: (وقضاء النذور)، بالجر عطف على قوله: (لمن يتوفى)،
والتقدير: وفي بيان استحباب قضاء النذور عن الميت الذي مات وعليه نذر.
0672 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن أمي افتلتت نفسها وأراها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها قال: نعم تصدق عنها.
(انظر الحديث 8831).
مطابقته للجزء الأول للترجمة ظاهرة. وإسماعيل هو ابن أبي أويس، وهشام هو ابن عروة بن الزبير بن العوام يروي عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الوصايا عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به.
قوله: (أفتلتت)، بلفظ المجهول من الافتلات، أي: ماتت بغتة، وكل شيء عوجل مبادرة فهو فلتة. قوله: (نفسها)، بالنصب على أنه مفعول ثان، وبالرفع على أنه مفعول أقيم مقام الفاعل، والنفس مؤنثة، وهي هنا: الروح، وقد تكون النفس بمعنى الذات. وقال بعضهم: كأن البخاري رمز إلى أن المبهم في حديث عائشة هو سعد بن عبادة الذي تقدم في حديث ابن عباس في قصة سعد بن عبادة بلفظ آخر، ولا تنافي بين قوله: إن أمي ماتت وعليها نذر، وبين قوله: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ لاحتمال أن يكون سأل عن النذر وعن الصدقة عنها. انتهى. قلت: المنافاة بين حديث عائشة وبين حديث ابن عباس ظاهرة بلا شك إن قرىء قوله: أراها، بفتح الهمزة، وإن قرىء بضمها فكذلك، لأن الرجل يخبر عن حال أمه مشاهدة. فإن قلت: يحتمل أن الرجل سأل عن النذر وعن الصدقة جميعا. قلت: هذا هنا احتمال، ومثل هذا الاحتمال لا يقطع به فالمنافاة حاصلة. فإن قلت: الحديث قد مضى في كتاب الجنائز في: باب موت الفجاءة، ولفظه: (إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت..) الحديث، فهذا يدل قطعا على أن الهمزة في أراها مضمومة وأنه بمعنى: وأظنها، لو تكلمت فهذا بوجه دعوى عدم المنافاة. قلت: في رواية النسائي عن ابن القاسم عن مالك بلفظ: (وأنها لو تكلمت تصدقت)، فهذا صريح في أن هذا الرجل في حديث عائشة غير سعد بن عبادة، وأنه سأل عن الصدقة عن أمه، وأن سعدا سأل عن الصدقة، في رواية ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه: أنه سأل عن النذر، وعدم المنافاة يتأتى في رواية سعد فقط، وأما المنافاة بين حديث عائشة هنا وبين حديث ابن عباس فظاهره برواية النسائي. والله أعلم. قوله: (أفأتصدق عنها؟)، قال: وفي الرواية التي مرت في الجنائز: (فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم). قوله: (نعم)، يدل على أن الصدقة تنفع الميت، وكذلك قوله، صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية...) الحديث يدل على ذلك. وحديث سعد بن عبادة، لما أمره، ومنها:، بالتصدق عن أمه، قال: (أي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء)، فهذه الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دلت على أن تأويل قوله تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 93). على الخصوص. وقال ابن المنذر: أما العتق عن الميت فلا أعلم فيه خبرا ثبت عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنها أعتقت عبدا عن أخيها عبد الرحمن، وكان مات ولم يوص، وأجاز ذلك الشافعي، قال بعض أصحابه: لما جاز أن يتطوع
55

بالنفقة، وهي مال، فكذا العتق. وفرق غيره بينهما، فقال: إنما أجزناها للأخبار الثابتة، والعتق لا خير فيه، بل في قوله: (الولاء لمن أعتق)، دلالة على منعه، لأن الحي هو المعتق بغير أمر الميت، فله الولاء إذا ثبت له الولاء، فليس للميت منه شيء، وهذا ليس بصحيح، لأنه قد روي في حديث سعد بن عبادة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم). فدل على أن العتق ينفع الميت، ويشهد لذلك فعل عائشة الذي سبق.
1672 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر فقال اقضه عنها.
مطابقته للجزء الثاني للترجمة ظاهرة، وعبيد الله بن عبد الله العمري. قوله: (عن ابن عباس ان سعد بن عبادة)، كذا هو في رواية مالك، وتابعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما عن الزهري، وقال سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن سعد بن عبادة: أنه استفتى، فجعله من مسند سعد، أخرجه النسائي قيل: هذا أرجح، لأن ابن عباس لم يدرك القصة. كما ذكرا عن قريب، ويكون ابن عباس قد أخذه عنه. قلت: يحتمل أن يكون أخذه عن غيره، كما هو عادته في أحاديث كثيرة. قوله: (وعليها نذر)، قد اختلفت الآثار في النذر الذي على أم سعد، فقيل: كان العتق، وقد مر الآن، وقيل: كان الصيام. فروى في ذلك عن ابن عباس أن رجلا، قال: يا رسول الله: (إن أمي ماتت وعليها صوم)، وقيل: كان النذر بالصدقة. والله أعلم.
02
((باب الإشهاد في الوقف والصدقة))
أي: هذا باب في بيان حكم شهادة الإشهاد في الوقف والصدقة.
2672 حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني يعلى أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول أنبأنا ابن عباس أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم أخا بني ساعدة توفيت أمه وهو غائب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت به عنها قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها.
(انظر الحديث 6572 وطرفه).
مطابقته للترجمة التي هي قوله: والصدقة ظاهرة (صورة)، وكذلك يطابق قوله في الوقف معنى، لأن الصدقة عليها تكون بطريق الوقف، وقد تكلم الشراح فيه
بالتعسف ما لا يفيد.
والحديث مضى قبله بثلاثة أبواب، ومضى الكلام فيه.
قوله: (أخابني ساعدة) أي: واحدا منهم، والغرض أنه أيضا أنصاري ساعدي.
وفيه: مطلوبية الإشهاد، وإذا أمر بالإشهاد في البيع وهو خروج ملك من ملك بعوض، فالوقف أولى بذلك، لأن الخروج عنه بغير عوض. وقال ابن بطال الإشهاد واجب في الوقف، ولا يتم إلا به، وقال المهلب: إذا لم يبين الحدود في الوقف، إنما يجوز إذا كانت الأرض معلومة يقع عليها، ويتعين به كما كان بيرحاء وكالمخراف معينا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصح الترجمة، وأما إذا لم يكن الوقف معينا، وكانت له مخاريف وأموال كثيرة فلا يجوز الوقف إلا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف في هذا.
56

12
((باب قول الله تعالى: * (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانككوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 21، 31))
هذا الباب، وثلاثة أبواب بعده مترجمة بآيات من القرآن أدخلها بين أبواب الوقف المذكورة في كتاب الوصايا، وليس لذكرها فيها وجه كما ينبغي، ولكن من حيث إن الأمر في الأوقاف والنظر فيها جعل إلى من يليها، كما جعل أموال اليتامى إلى من يلي أمرهم وينظر فيهم، فالنظر في الأوقاف كالنظر لليتامى في رعاية المصالح، والمباشرة بالأمانات، وإباحة تناول الجعالة للنظار بالمعروف كإباحتها للأوصياء بالمعروف، وهذا مما فتح لي من القبض الإلهي زادنا الله بصيرة في الأمور الدينية والدنيوية. قوله: عز وجل * (وآتوا اليتامى) * (النساء: 21 31). أي: أعطوا أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة. قوله: * (ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) * (النساء: 21 31). أي: الحرام بالحلال، ولا تجعلوا الزيف بدل الجيد والمهزول بدل السمين، وقال سعيد بن جبير والزهري: لا تعط مهزولا ولا تأخذ سمينا. وقال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، يقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم. وقال سفيان الثوري، عن أبي صالح: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال. وقال سعيد بن جبير: لا تبدل الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم. قوله: * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * (النساء: 21 31). قال سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل بن حيان والسدي وسفيان بن حسين، أي: لا تخلطوها فتأكلوها جميعا. وقيل: إلى، بمعنى: مع، والأجود أن يكون موضعها، ويكون المعنى: ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم. قوله: إنه كان حوبا كبيرا) * (النساء: 21 31). قال ابن عباس أي: إثما كبيرا عظيما. وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك وآخرين، وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى ابن عيينة عن ابن سيرين عن ابن عباس أن أبا أيوب طلق امرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (يا أبا أيوب! إن طلاق أم أيوب كان حوبا). وقال ابن سيرين: الحوب الإثم. قوله: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا) * (النساء: 21 31). أي: إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى، فحذف لفظ: النكاح، وقال ابن عباس: كما خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فخافوا مثل ذلك في سائر النساء، وانكحوا ما طاب لكم منهن، وقيل: معناه: إذا كانت تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه، وقيل: كانت قريش في الجاهلية يكثرون التزويج بلا حصر، فإذا كثرت عليهم المؤن وقل ما بأيديهم أكلوا ما عندهم من أموال اليتامى، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلى الأربع. قوله: * (ما طاب لكم) * أي: من طاب لكم.
3672 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال كان عروة بن الزبير يحدث أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 21 31). قال هي لليتيمة في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها ويريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء قالت عائشة ثم استفتى الناس رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعد فأنزل الله عز وجل * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) * (النساء: 721). قالت فبين الله في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات جمال ومال رغبوا في نكاحها ولم يلحقوها بسنتها بإكمال الصداق فإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها الأوفى من الصداق ويعطوها حقها.
.
57

هذا السند بعين هؤلاء الرجال قد مر غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع.
والحديث مضى في: باب شركة اليتيم وأهل الميراث بأتم منه، ومضى الكلام فيه.
قوله: (بأدنى من سنة نسائها) أي: بأقل من مهر مثلها من قراباتها. قوله: (ثم استفتى الناس، رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد)، أي: بعد نزول قوله تعالى: * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 31). وقال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن عبد الحكم: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير، قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله: * (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب) * (النساء: 721). الآية. قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي
هي قول الله تعالى * (وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 721). قوله: (بإكمال الصداق) بيان للإلحاق بسنتها.
22
((باب قول الله تعالى * (وابتلوا اليتاماى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفاى بالله حسيبا للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا * (حسيبا يعني كافيا) * (النساء: 6 7))
في رواية الأصيلي وكريمة سبق من قوله: * (وابتلوا اليتامى) * إلى قوله: * (نصيبا مفروضا) * (النساء: 6 7). وفي رواية أبي ذر من قوله: * (فإن آنستم منهم رشدا..) * إلى آخرها، أعني: إلى قوله: * (نصيبا مفروضا) * (النساء: 6 7). قوله: * (وابتلوا اليتامى) * (النساء: 6 7). أي: اختبروهم. قاله ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي ومقاتل بن حيان. قوله: * (حتى إذا بلغوا النكاح) * (النساء: 31). قال مجاهد، يعني: الحلم، وقال الجمهور من العلماء: البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد، وقد روى أبو داود في (سننه) عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قال: حفظت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل أو يستكمل خمس عشرة سنة، وأخذوا ذلك من حديث عبد الله بن عمر: عرضت على النبي، صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة فأجازني. قوله: (رشدا) أي: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، كذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغير واحد من الأئمة. قوله: * (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا) * (النساء: 6 7). يعني: من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرة قبل بلوغهم، والخطاب للأولياء والأوصياء، فانتصاب: إسرافا وبدارا، على الحال، أي: مسرفين ومبادرين. قوله: * (أن يكبروا) * (النساء: 21 31). أي: حذرا من أن يكبروا، أي: يبلغوا ويلزموكم بالتسليم إليهم. قوله: * (فليستعفف) * (النساء: 21 31). أي: بماله عن مال اليتيم، يقال: استعفف وعف: إذا امتنع، ويقال: معناه من كان في غنية عن مال اليتيم فليتعفف عنه، وقال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم. قوله: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 21 31). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد ابن سعيد الأصبهاني حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن عائشة، قالت: أنزلت هذه الآية في والي اليتيم: * (من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 21 31). بقدر قيامه عليه، وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب حدثنا حسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلا سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: ليس لي مال ولي يتيم. (فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك، أو قال: تفدي مالك)، وفي كيفية الأكل بالمعروف أن يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يلبس من ذلك، قاله السدي. وقال النخعي: لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما يستر العورة ويأكل ما يسد الجوعة. وقيل: هو أن يأكل من ثمر نخله ولبن مواشيه، ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا، فإن أخذ منه شيئا فلا بد أن يرده عليه، قاله الحسن وجماعة. وقال القرطبي: إن كان غنيا فأجره على الله، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بد له منه، وقال عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: نزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة
58

مال اليتيم، فإن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا إيسرت قضيت. وقال الفقهاء: له أن يأكل أقل الأمرين أجرة مثله، أو قدر حاجته. واختلفوا: هل يرد إذا أيسر؟ على قولين، عند الشافعية: أحدهما: لا، لأنه أكل بأجرة عمله، وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح عندهم، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل، وقال ابن وهب: حدثني نافع بن أبي نعيم القاري: قال: سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله تعالى: * (ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) * (النساء: 6). قالا: ذلك في اليتيم إن كان فقيرا أنفق عليه بقدر فقره، ولم يكن للولي منه شيء، وذكر ابن الجوزي أن هذه الآية محكمة، وقيل: منسوخة بقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 881). ولا يصح ذلك، قلت: القائل بأنها منسوخة زيد بن أسلم. قوله: * (فأشهدوا عليهم) * (النساء: 6). يعني: بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد، والإشهاد من باب الندب خوف الإنكار منهم، وقيل: إن الإشهاد من باب الندب خوف الإنكار منهم، وقيل: إن الإشهاد منسوخ بقوله: * (وكفى بالله حسيبا) * (النساء: 6). أي: شهيدا أو كافيا من الشهود، وهذا قول أبي حنيفة: إن القول قول الوصي في الدفع، وقيل: معناه: عالما، وقيل: محاسبا، وقيل: مجازيا والباء في: كفى بالله، صلة، و: حسيبا، منصوب على الحال. وقيل: على التمييز. قوله: * (للرجال نصيب) * (النساء: 7). قال سعيد بن جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله: * (للرجال نصيب) * (النساء: 7). وفي (خلاصة البيان): مات أوس بن ثابت الأنصاري وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه، فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية، وكانوا يورثون الرجال ممن طاعن بالرمح وحاز الغنيمة، فأبطل الله ذلك، فأرسل النبي، صلى الله عليه وسلم إليهما، (وقال: لا تفرقا من مال أوس شيئا. فإن الله جعل لبناته نصيبا). ولم يبين كم هو: حتى أنظر ما ينزل فيهن، فأنزل الله تعالى: * (يوصيكم الله) * (النساء: 11). الآية، قال الذهبي: أم كجة زوجة أوس بن ثابت، فيها نزلت آية المواريث، وقال أيضا: قتل أوس يوم أحد، رضي الله تعالى عنه، قوله: * (مما قل منه أو كثر) * (النساء: 6). أي: الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة إن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل واحد منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجة أو ولاء، فإنه لحمة كلحمة النسب. قوله: (مفروضا) أي: مقدرا، قوله: (حسيبا) يعني: كافيا، كذا وقع في الأكثرين، وسقط لفظ: يعني، في رواية أبي ذر.
((باب وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم وما يأكل منه بقدر عمالته))
في بعض النسخ باب ما للوصي... إلى آخره، وفي رواية الأكثرين: وما للوصي، وفي رواية أبي ذر: وللوصي أن يعمل... إلى آخره، بدون كلمة: ما، ورواية أبي ذر تدل على أن: ما، غير نافية، لأن الوصي له البيع والشراء في مال اليتيم بمال يتغابن الناس في مثله، ولا يجوز بما لا يتغابن الناس، لأن الولاية نظرية ولا نظر فيه، ولا يتجر في مال اليتيم، لأن المفوض إليه الحفظ دون التجارة. قوله: (بقدر عمالته)، بضم العين المهملة وتخفيف الميم، وهي رزق العامل، أي: بقدر حق سعيه وأجر مثله.
4672 حدثنا هارون قال حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم وكان يقال له ثمغ وكان نخلا فقال عمر يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس فأردت أن أتصدق به فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولاكن ينفق ثمره فتصدق به عمر فصدقته ذالك في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل ولذي القرباى ولا جناح علي من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يوكل صديقه غير متمول به.
.
قيل: وجه مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن البخاري شبه الوصي بناظر الوقف، ووجه الشبه أن النظر للموقوف عليهم من الفقراء وغيرهم كالنظر لليتامى، ورد عليه بأن حديث ابن عمر هذا غير مطابق للترجمة، لأن عمر،
59

رضي الله تعالى عنه، هو المالك لمنافع وقفه، ولا كذلك الوصي على أولاده، فإنهم إنما يملكون المال بقسمة الله عز وجل، وتمليكه، ولا حق لمالكه فيه بعد موته، فلذلك كان المختار أن وصي اليتيم ليس له الأكل من ماله إلا أن يكون فقيرا فيأكل. واختلف في قضائه إذا أيسر. انتهى. وقال الكرماني: وجه مطابقة الحديث للترجمة من جهة أن المقصود جواز أخذ الأجر من مال اليتيم، لقول عمر: لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف. انتهى. قلت: هذا أوجه من غيره، والحديث قد مضى عن قريب في باب الشروط في الوقف، وهنا ذكره بأتم من ذاك.
وهارون هو ابن الأشعث، بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة: أبو عمر الهمداني، بسكون الميم، أصله من الكوفة ثم سكن بخارى، ولم يخرج عنه البخاري في هذا الكتاب سوى هذا الموضع، ووقع في رواية النسفي: حدثنا هارون، كذا بغير نسبة، ووقع عند أبي ذر وغيره: حدثنا هارون ابن الأشعث، وزعم ابن عدي أنه: هارون بن يحيى المكي الزبيري، ولم يعرف من حاله بشيء، قيل: العمدة على رواية أبي ذر وغيره منسوبا، وأبو سعيد هو: عبد الرحمن بن عبد الله الحافظ، مات سنة سبع وسبعين ومائة، وصخر، بفتح الصاد المهملة وسكون الخاء المعجمة: ابن جويرية مصغر جارية، بالجيم، وهو من الأعلام المشتركة البصري.
قوله: (ثمغ)، بفتح الثاء المثلثة وسكون الميم وبالغين المعجمة، وحكى المنذري فتح الميم. وقال أبو عبيد البكري: هي أرض تلقاء المدينة كانت لعمر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فصدقته ذلك) وفي رواية الكشميهني: فصدقته تلك، فوجه التأنيث ظاهر ووجه التذكير باعتبار المذكور. قوله: (أو يوكل صديقه)، بضم الياء وكسر الكاف، وصديقه، منصوب به. قوله: (غير متمول به)، حال، والضمير في: به، يرجع إلى المال الذي تصدق به عمر، ذكر المال وأراد به الأرض التي تسمى: (ثمغ).
5672 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قالت أنزلت في والي اليتيم أن يصيب من ماله إذا كان محتاجا بقدر ماله بالمعروف.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبيد مصغر عبد ابن إسماعيل، واسمه في الأصل: عبد الله، يكنى أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراد البخاري، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وقد مر غير مرة يروي عن هشام بن عروة وهشام يروي عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في آخر الكتاب.
قوله: (في والي اليتيم)، وفي رواية المستملي: (في والي مال اليتيم...) إلى آخره. قوله: (بقدر ماله)، أي: إذا كان وليا لليتامى يأخذ من كل واحد منهم بالقسط، وقال الكرماني: ويروى: ماله، بفتح اللام، أي: بقدر الذي له من العمالة. قوله: (بالمعروف)، بيان له.
32
((باب قول الله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (النساء: 01).))
أي: هذا باب في بيان حال أكلة أموال اليتامى في قوله تعالى: * (إن الذين يأكلون) * (النساء: 01). الآية، وهذا تهديد في أكل أموال اليتامى ظلما، والمعنى: الذين يأكلون أموال اليتامى من حيث الظلم إنما يأكلون في بطونهم نارا تتأجج فيها يوم القيامة، وتملأ بها بطونها عيانا. قال الداودي: وهذه الآية أشد ما في القرآن على المؤمنين، لأنها خبرا لا أن يريد: مستحلين بها، قوله: * (وسيصلون سعيرا) * (النساء: 01). مأخوذ من الصلا، والصلا والاصطلاء بالنار، وذلك التسخن بها، ثم استعمل في كل من باشر شدة أمر من الأمور من حرب أو قتال أو غير ذلك، وقراءة عامة أهل المدينة والعراق: سيصلون، على بناء المعلوم. وقرأ بعض الكوفيين وبعض المكيين على بناء المجهول، يعني: يحرقون من قولهم شاة مصلية يعني: مشوية، والسعير: شدة حر جهنم، وتقدير الكلام: وسيصلون نارا مسعورة
، أي: موقدة مشعلة شديدا حرها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبدة أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز ابن عبد الصمد العمي، حدثنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا: يا رسول الله! ما رأيت ليلة أسرى بك؟ قال:
60

انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير) رجال، كل رجل له مشفران كمشفر البعير، وهو موكل بهم رجال يفكون لحي أحدهم ثم يجاء بصخرة من نار، فيقذف في في أحدهم حتى يخرج من أسفله، وله جؤار وصراخ. قلت: يا جبرائيل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء: * (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما...) * (النساء: 01). الآية. وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم، يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم وعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: هذه لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم، ويأكلون أموالهم.
6672 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأكل مال اليتيم).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري الأوسي. الثاني: سليمان بن بلال أبو أيوب القرشي التيمي. الثالث: ثور، بلفظ الحيوان المشهور: ابن زيد الديلي. الرابع: أبو الغيث، مرادف المطر واسمه: سالم مولى أبي مطيع القرشي. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن رجاله كلهم مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الطب وفي المحاربين عن عبد العزيز المذكور. وأخرجه مسلم في الإيمان عن هارون ابن سعيد الأيلي. وأخرجه أبو داود في الوصايا عن أحمد بن سعيد الهمداني. وأخرجه النسائي فيه وفي التفسير عن الربيع بن سليمان.
ذكر معناه: قوله: (اجتنبوا)، أي: ابتعدوا، من الإجتناب من باب الافتعال من الجنب، وهو أبلغ من: أبعدوا واحذروا، ونحو ذلك. قوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا) * (الإسراء: 23). لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة. قوله: (الموبقات) أي: المهلكات، وهو جمع موبقة، من أوبق وثلاثية: وبق يبق وبوقا إذا هلك من، باب: ضرب يضرب، وجاء أيضا: وبق يوبق وبقا، من باب: علم يعلم، وجاء من باب: فعل يفعل بالكسر فيهما، قوله: (الشرك بالله)، أي: أحدها: الشرك بالله، الشرك جعل أحد شريكا لآخر، والمراد هنا: اتخاذ إله غير الله. قوله: (والسحر) أي: الثاني: السحر، وهو في اللغة: صرف الشيء عن وجهه، وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ورق فهو سحر، وقد سحره سحرا، والساحر العالم، وسحره أيضا بمعنى: خدعة، وذكر أبو عبد الله الرازي أنواع السحر ثمانية. الأول: سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة للعالم، وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بعث الله إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلا لمقالتهم، وردا لمذاهبهم. الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية. الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن، خلافا للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمين: مؤمنون وكفار، وهم الشياطين، وهذا النوع يحصل بأعمال من الرقي والدخن، وهذا النوع المسمى بالعزائم وعمل تسخير. الرابع: التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة، وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة. الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة. السادس: الاستعانة بخواص الأدوية، يعني: في الأطعمة والدهانات. السابع: تعلق القلب، وهو أن يدعى الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور. الثامن: من السحر: السعي بالنميمة بالتصريف من وجوه خفية لطيفة، وذلك شائع في الناس، وإنما أدخل كثير من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها، لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحرا). وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل، والسحر الرية، وهي محل الغداء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء
61

البدن. وغصونه. قوله: (وقتل النفس) أي: الثالث: من السبع الموبقات: قتل النفس. قوله: (وأكل الربا) أي: الرابع: أكل الربا، وهو فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال، كما عرف في الفقه. قوله: (وأكل مال اليتيم)، أي: الخامس: أكل مال اليتيم، وهو المنفرد في اللغة، وهو: من مات أبوه وهو ما دون البلوغ، وفي البهائم: ما ماتت أمه. قوله: (والتولي يوم الزحف) أي: السادس: الفرار عن القتال يوم ازدحام الطائفتين، ويقال: التولي الإعراض عن الحرب والفرار من الكفار إذا كان بإزاء كل مسلم كافران، وإن كان بإزاء كل مسلم أكثر من كافرين يجوز الفرار، والزحف الجماعة الذين يزحفون إلى العدو أي يمسون إليهم بمشقة، من زحف الصبي إذا دب على أسته. قوله: (وقذف المحصنات)، أي: السابع: قذف المحصنات، القذف الرمي البعيد، استعير للشتم والعيب والبهتان كما استعير للرمي، والمحصنات جمع محصنة، بفتح الصاد، اسم مفعول أي: التي أحصنها الله تعالى وحفظها من الزنا، وبكسرها، اسم فاعل أي: التي حفظت فرجها من الزنا. قوله: (المؤمنات)، احترز به عن قذف الكافرات فإن قذفهن ليس من الكبائر وإن كانت ذمية فقذفها من الصغائر لا يوجب الحد وفي قذفه الأمة المسلمة التعزير دون الحد. قوله: (الغافلات)، كناية عن البريئات لأن البرىء غافل عما بهت به من الزنا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: ذكر السبع، ولا ينافي أن لا تكون كبيرة إلا هذه، فقد ذكر في غير هذا الموضع: قول الزور، وزنا الرجل بحليلة جاره وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، واستحلال بيت الله، ومسك امرأة محصنة لمن يزني بها، ومسك مسلم لمن يقتله، ودل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته
ويسبون ويغنمون، والحكم بغير حق، والإصرار على الصغيرة. وقال الشافعي: وأكبرها بعد الإشراك: القتل، وادعى بعضهم أن الكبائر سبع، كأنه أخذ ذلك من هذا الحديث. وقال بعضهم: إحدى عشرة، وقال ابن عباس: إلى السبعين أقرب، وروى عنه أن سبعمائة، والتحقيق هنا أن التنصيص على عدد لا ينافي أكثر من ذلك، وأما تعيين السبع هنا فلاحتمال أن يكون أعلم الشارع بها في ذلك الوقت، ثم أوحى إليه بعد ذلك غيرها، أو يكون السبع هي التي دعت إليها الحاجة في ذلك الوقت، ثم أوحى إليه بعد ذلك غيرها، أو يكون السبع هي التي دعت إليها الحاجة في ذلك الوقت، وكذلك القول في كل حديث خص عددا من الكبائر. وفيه: أن الموبقات التي هي الكبائر لا بد في مقابلتها الصغائر، فلا بد من الفرق بينهما، فقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإذا نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليه فهي من الكبائر، فمن شتم الرب، عز وجل، أو رسوله، صلى الله عليه وسلم، أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمح الكعبة المشرفة بالعذرة أو ألقى المصحف في القاذورات فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بذكرها، وقال بعضهم: كل ذنب قرن به وبه لأعيد أو حد أو لعن فهو كبيرة، وروي هذا عن الحسن أيضا، وقيل: الكبيرة ما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه. وعن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: الكبائر جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله: * (إن تجتنبوا كباشر ما تنهون عنه) * (النساء:). وعن ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهي كبيرة، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وغيره، وعن عياض: هذا مذهب المحققين، لأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة. قال القرطبي: وما أظنه صحيحا عنه، أي: عن ابن عباس، يعني: عدم التفرقة بين الصغيرة والكبيرة، فإنه قد فرق بينهما في قوله: * (أن تجتنبوا كبائر) * (النساء: 13). * (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) * (النجم: 23). فجعل من المنهيات كبائر وصغائر، وفرق بينهما في الحكم لما جعل تكفير السيئات في الآية، مشروطا باجتناب الكبائر، واستثنى اللمم من الكبائر والفواحش، فكيف يخفي مثل هذا الفرق على حبر القرآن؟ فالرواية عنه لا تصح، أو: هي ضعيفة، والمشهور انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وادعى بعضهم أنها كلها كبائر. وفيه: السحر، والكلام فيه على أنواع:
الأول: إن السحر له حقيقة، وذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة في كتابه (الأشراف على مذاهب الأشراف): أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة. فإنه قال: لا حقيقة له. وقال القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة يخلق الله تعالى عنده ما شاء، خلافا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية، حيث قالوا: إنه تمويه وتخيل. قال: ومن السحر
62

ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي البريد لخفة سيره، وقال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاما يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك. وقال الرازي في (تفسيره) عن المعتزلة: إنهم أنكروا وجود السحر. قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده. قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، وأن يقلب الإنسان حمارا والحمار إنسانا، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم، فلا خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة. ثم استدل على وقوع السحر، وأنه بخلق الله بقوله تعالى: * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * (البقرة: 201). ومن الأخبار أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه.
النوع الثاني: هل يجوز تعلم السحر أم لا؟ فقال الرازي: إن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك، فإن العلم لذاته شريف، ولأنه لو لم يعلم ما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزا واجب، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا، كيف: يكون حراما وقبيحا، هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وفيه نظر من وجوه. الأول: قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح، إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون ذلك، وإن عنى ليس بقبيح شرعا ففي قوله تعالى: * (واتبعوا ما تتلوا الشياطين...) * (البقرة: 201). الآية تبشيع لتعلم السحر. وفي (الصحيح): (من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). وفي السنن: (من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر). الثاني: قوله: ولا محظورا، اتفق المحققون على ذلك، وكيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية والحديث، والمحققون هم علماء الشريعة، وأين نصوصهم على ذلك؟ الثالث: قوله: ولأنه لو لم يعلم... إلى آخره، كلام فاسد، لأن أعظم معجزات رسولنا صلى الله عليه وسلم: القران العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: * (تنزيل من حكيم حميد) * (فصلت: 24). الرابع: قوله: والعلم بكونه معجزا، وهذا العلم لا يتوقف على علم السحر أصلا، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والذي نص عليه العلماء والفقهاء أن تعلم السحر وتعليمه من الكبائر. وفي (التلويح): وقال بعض أصحاب الشافعي: تعلمه ليس بحرام، بل يجوز ليعرف ويرد على فاعله ويميز عن الكرامة للأولياء. قلت: الظاهر أن مراده من بعض أصحاب الشافعي الرازي، وقد ردينا عليه، ومنهم الغزالي.
النوع الثالث: اختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، وعن بعض الحنفية: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أن ينفعه، كفر وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي: إذا تعلم السحر، قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
النوع الرابع: في قتل الساحر. قال ابن هبيرة: هل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه الفعل أو
يقر بذلك في شخص معين، فإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي، فإنه قال: والحالة هذه قصاصا، وأما ساحر أهل الكتاب فإنه يقتل عند أبي حنيفة، كما يقتل الساحر المسلم. وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يقتل لقصة لبيد بن أعصم. واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة: أنها لا تقتل، ولكن تحبس. وقالت الثلاثة: حكمها حكم الرجل. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي، قال: قرىء على أبي عبد الله يعني: أحمد بن حنبل حدثنا عمر بن هارون حدثنا يونس عن الزهري، قال: يقتل ساحر المسلمين. ولا يقتل ساحر المشركين، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: أحدهما: يستتاب، فإن أسلم وإلا قتل، والثانية: أنه يقتل، وإن أسلم.
النوع الخامس: هل تقبل توبة الساحر؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشافعي وأحمد
63

في الرواية الأخرى: تقبل. وعن مالك: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته، كالزنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه، ولم نقتله فإن قتل بسحره قتل. وقال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية.
النوع السادس: هل يسأل الساحر حل سحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري. وفي (الصحيح) عن عائشة، قالت: يا رسول الله! هلا تنشرت؟ فقال: الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرا. وحكى القرطبي عن وهب، قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم يضرب بالماء، ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه، فإنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته. قلت: النشرة، بضم النون: ضرب من الرقية، والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مساس الجن، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال.
وفيه: التولي يوم الزحف، وهو حجة على الحسن البصري في قوله: كان الفرار كبيرة يوم بدر، لقوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * (الأنفال: 61). وفيه: قذف المحصنات، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: الإسلام والعفة والتزويج والحرية والنكاح. وقال أصحابنا: إحصان المقذوف بكونه مكلفا أي عاقلا بالغا حرا مسلما عفيفا عن زنا، فهذه خمس شرائط يدخل تحت قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4). فإذا فقد واحد منها لا يكون محصنا.
42
((باب قول الله تعالى: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم) * (البقرة: 022).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله تعالى: * (ويسألونك) * (البقرة: 022). وقال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا جرير عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: لما نزلت: * (لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وإن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما...) * (النساء: 01). الآية، انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامة من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: * (ويسألونك عن اليتامى؟ قل: إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 022). فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم، وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في (مستدركه) من طرق عن عطاء بن السائب به، وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود بمثله، وكذا رواه غير واحد في سبب نزول هذه الآية، كمجاهد وعطاء والشعبي وابن أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. قوله: * (قل إصلاح لهم خير) * (البقرة: 022). أي: على حدة: * (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * (البقرة: 022). أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم، لأنهم إخوانكم في الدين، ولهذا قال: * (والله يعلم المفسد من المصلح) * (البقرة: 022). أي: يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح. ويقال: وإن تخالطوهم أي: في الطعام والشراب والسكنى واستخدام العبيد فإخوانكم. وقالوا لرسول الله: بقيت الغنم لا راعي لها، والطعام ليس له صانع، فنزلت، ونسخ ذلك. قوله: * (ولو شاء الله لأعنتكم) * (البقرة: 022). أي: لو شاء لضيق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن، وفي (تفسير النسفي): وعلى هذا اجتماع الرفقة في السفر على خلط المال، ثم اتخاذ الأطعمة به، وتناول الكل منها مع وهم التفاوت، فرخص لهم استدلالا بهذه الآية.
لأعنتكم لأحرجكم وضيق عليكم. وعنت خضعت
هذا تفسير ابن عباس أخرجه ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وزاد بعد قوله: ضيق عليكم، ولكنه وسع ويسر. قوله: (لأعنتكم) من الإعنات، واشتقاقه من: العنت، بفتح العين المهملة والنون وفي آخره تاء مثناة من فوق والهمزة فيه للتعدية أي: لأوقعكم في العنت، وهو: المشقة، ويجيء بمعنى الفساد والهلاك والإثم والغلط والخطأ والزنا، كل ذلك قد جاء، ويستعمل كل واحد بحسب ما يقتضيه الكلام. قوله: (وعنت: خضعت)، ليس له دخل هنا، لأن التاء فيه للتأنيث، ومذكره
64

عنا، إذا خضع، وكل من ذل وخضع واستكان فقد عنا يعنو، وهو عان، والمرأة عانية، وجمعها: عوان، وكأنه ظن أن التاء في عنت أصلية، فلذلك ذكره هنا عقيب. قوله: (لأعنتكم)، وليس كذلك، لأن التاء في: لأعنتكم، أصلية، وقيل: لعله ذكره استطرادا، ولا يخلو عن تعسف.
7672 وقال لنا سليمان حدثنا حماد عن أيوب عن نافع قال ما رد ابن عمر علي على أحد وصية.
سليمان هو ابن حرب أبو أيوب الواشجي قاضي مكة، وهو من شيوخ البخاري، قال الكرماني: وإنما قال بلفظ: قال، لأنه لم يذكره على سبيل النقل والتحميل، وقال بعضهم: هو موصول، وجرت عادته الإتيان بهذه الصيغة في الموقوفات غالبا، وفي المتابعات نادرا، ولم يصب من قال: إنه لا يأتي بها إلا في المذاكرة، وأبعد من قال: إنها للإجازة. انتهى. قلت: كيف يقول: هو موصول وليس فيه لفظ من الألفاظ التي تدل على الاتصال؟ نحو: التحديث والإخبار والسماع والعنعنة؟ والذي قاله الكرماني هو الأظهر. قوله: (ما رد ابن عمر على أحد وصية) يعني: أنه كان يقبل وصية من يوصي إليه، وقال ابن التين: كأنه كان يبتغي الأجر بذلك، لحديث: (أنا وكافل اليتيم كهاتين...) الحديث.
وكان ابن سيرين أحب الأشياء إليه في مال اليتيم أن يجتمع إليه نصحاؤه وأولياؤه فينظروا الذي هو خير له
ابن سيرين هو محمد. قوله: (أحب الأشياء)، بالرفع على أنه مبتدأ وخبره هو قوله: (أن يجتمع)، و: كان، بمعنى: وجد، قوله: (أن يجتمع إليه)، ويروى أن يخرج إليه. قوله: (نصحاؤه)، بضم النون: جمع نصيح بمعنى ناصح. قوله: (فينظروا، ويروى: فينظرون، على الأصل.
وكان طاووس إذا سئل عن شيء من أمر اليتامى قرأ * (والله يعلم المفسد من المصلح) * (البقرة: 022).
طاووس بن كيسان اليماني، وهذا وصله سفيان بن عيينة في (تفسيره) عن هشام بن حجير، بحاء مهملة ثم جيم مصغر، عن طاووس أنه كان، إذا سئل عن مال اليتيم يقرأ: * (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لم خير، والله يعلم المفسد من المصلح) * (البقرة: 022).
وقال عطاء في يتامى الصغير والكبير ينفق الولي على كل إنسان بقدره من حصته
عطاء هو ابن أبي رباح، وهذا وصله ابن أبي شيبة من رواية عبد الملك بن سليمان، عنه أنه سئل عن الرجل يلي أموال أيتام وفيهم الصغير والكبير، وما لهم جميع لم يقسم. قال: ينفق على كل إنسان منهم من ماله على قدره، وهذا يفسر ما ذكره من قول عطاء. قوله: (في يتامى)، وفي بعض النسخ: في اليتامى، قوله: (الصغير والكبير) أي: الوضيع والشريف منهم. قوله: (بقدره)، أي: بقدر الإنسان، أي: اللائق حاله، ويروى: بقدر حصته.
52
((باب استخدام اليتيم في السفر والحضر إذا كان صلاحا له ونظر الأم أو زوجها لليتيم))
أي: هذا باب في بيان حكم استخدام اليتيم. قوله: (إذا كان صلاحا له) أي: إذا كان خيرا ونفعا لليتيم في السفر، قيل: هذا قيد للسفر، لأن السفر مشقة وقطعة من العذاب، وربما يتضرر اليتيم فيه، والظاهر أن هذا قيد للحضر والسفر جميعا، لأن اليتيم محل الرحمة، وفي خدمة الناس ما لا يصلح للكبير فضلا عن اليتيم. قوله: (ونظر الأم) بالجر عطفا على قوله: (استخدام اليتيم) وقال ابن التين: أكثر أصحاب مالك على أن الأم وغيرها لهم التصرف في مصالح من هم في كفالتهم، ويعقدون له وعليه وإن لم يكونوا أوصياء، ويكون حكمهم حكم الأوصياء، وقيل: حتى يكون بينه وبين الطفل قرابة، وقال ابن القاسم: لا يفعل ذلك إلا إن يكون وصيا، ووافقهم ابن القاسم في اللقيط. قوله: (أو زوجها) أي: أو نظر زوج الأم، يعني: له النظر في ربيبه إذا كان عنده.
65

8672 حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير قال حدثنا ابن علية قال حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك قال فخدمته في السفر والحضر ما قال لي لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا.
مطابقته لجميع أجزاء الترجمة ظاهرة. أما الجزء الأول: وهو قوله: (في السفر والحضر) ففي قوله: (فخدمته في السفر والحضر). وأما الجزء الثاني: وهو قوله: ونظر الأم. فلا شك أن أبا طلحة ما ودى أنسا إلى النبي، صلى الله عليه وسلم إلا بمشاورة أمه. وأما الجزء الثالث: وهو قوله: أو زوجها، ففي قوله: (فأخذ أبو طلحة بيدي) إلى آخره، ويعقوب بن إبراهيم بن كثير ضد القليل الدورقي، مر في الإيمان، وابن علية هو إسماعيل بن إبراهيم، وأمه علية مولاة لبني أسد، وقد تكرر ذكره، وعبد العزيز هو ابن صهيب أبو حمزة. وقال بعضهم: والإسناد كله بصريون. قلت: شهرة شيخه بالدورقي، وهو شيخ الجماعة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الديات عن عمرو بن زرارة. وأخرجه مسلم في فضائل النبي، صلى الله عليه وسلم عن أحمد بن حنبل وزهير بن حرب.
قوله: (أبو طلحة)، هو زوج أم سليم، والدة أنس، واسمه: زيد بن سهل الأنصاري. قوله: (غلام)، قال أنس: فخدمته وأنا ابن عشرة، وتوفي وأنا ابن عشرين، ومات أنس سنة ثلاث وتسعين أو اثنتين، وقد زاد على المائة وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة، وكان في كبره ضعف عن الصوم، وكان يفطر ويطعم. قوله: (كيس)، بفتح الكاف وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة وفي آخره سين مهملة، وهو ضد الأحمق وقال ابن الأثير: الكيس العاقل، وقد كأس يكيس كيسا، والكيس: العقل.
وفيه: السفر باليتيم إذا كان ذلك من الصلاح. وفيه: الثناء على المرء بحضرته إذا أمن عليه الفتنة. وفيه: جواز استخدام الحر الصغير الذي لا يجوز أمره. وفيه: أن خدمة الإمام والعالم واجبة على المسلمين. وأن ذلك شرف لمن خدمهم لما يرجى من بركة ذلك.
62
((باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز وكذلك الصدقة))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وقف شخص أرضا، والحال أنه لم يبين حدود تلك الأرض فهو جائز، وهذا غير مطلق بل المراد منه أن الأرض إذا كانت مشهورة لا يحتاج
إلى ذكر حدودها، وإلا فلا بد من التحديد لئلا يلتبس بحدود الغير فيحصل الضرر. قوله: (وكذلك الصدقة)، أي: وكذلك الوقف بلفظ الصدقة بأن جعل أرضها صدقة لله تعالى، وتعظم كما جعل أبو طلحة حائطه صدقة لله تعالى، ولم يذكر شيئا غير ذلك.
9672 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل وكان أحب ماله إليه بيرحاء مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة فقال يا رسول الله أن الله يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها حيث أراك الله فقال بخ ذلك مال رابح أو رايح شك ابن مسلمة وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين قال أبو طلحة أفعل ذلك يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه.
.
66

مطابقته للترجمة في قوله: وكذلك الصدقة ظاهرة، ومطابقته للجزء الأول من الترجمة من حيث إن لفظ الوقف ولفظ الصدقة في المعنى متقاربان، حكمهما واحد.
والحديث مضى في كتاب الزكاة في: باب الزكاة على الأقارب، ومضى الكلام فيه. قوله: (أكثر أنصاري)، رواية الكشميهني، وقال الكرماني: إذا أريد التفضيل أضيف إلى المفرد النكرة، أي: أكثر كل واحد واحد من الأنصار، وفي رواية غيره أكثر الأنصار. قوله: (مالا)، نصب على التمييز، وكلمة: من، في قوله: من نخل، للبيان، وتقدم الكلام في تفسير: بيرحاء، بوجوه. قوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها) وزاد في رواية عبد العزيز: ويستظل فيها. قوله: (شك ابن مسلمة)، هو القعنبي شيخ البخاري، وراوي الحديث عن مالك، والشك فيه بين الباء الموحدة والياء آخر الحروف. قوله: (أفعل)، على صيغة المتكلم من المضارع، والضمير فيه يرجع إلى أبي طلحة. قوله: (في أقاربه)، وهم أبي بن كعب وحسان بن ثابت وأخوه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه، فباع حسان حصته من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، وقد مر فيما مضى.
وقال إسماعيل وعبد الله بن يوسف ويحيى بن يحيى عن مالك رايح
هؤلاء الرواة عن مالك، وإسماعيل هو ابن أبي أويس، وعبد الله بن يوسف التينسي أصله من دمشق، ويحيى بن يحيى بن بكير أبو زكرياء التميمي الحنظلي، روى عنه البخاري في عمرة الحديبية يعني: روى هؤلاء الحديث المذكور بالإسناد المذكور عن مالك، بلفظ: رايح، بالياء آخر الحروف.
0772 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال أخبرنا روح بن عبادة قال زكرياء بن إسحاق قال حدثني عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمه توفيت أينفعها إن تصدقت عنها قال نعم قال فإن لي مخرافا وأشهدك أني قد تصدقت عنها.
(انظر الحديث 6572 وطرفه).
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديث السابق، ومحمد بن عبد الرحيم أبو يحيى الذي يقال له: صاعقة، وهو من مشايخ البخاري. وأفراده، وروح بفتح الراء، وعبادة، بضم العين. والحديث قد مر في: باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة، وفي: باب الإشهاد في الوقف.
72
((باب إذا أوقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وقف جماعة أرضا مشتركة مشاعا فهو جائز. قيل: احترز بقوله: جماعة، عما إذا وقف واحد مشاعا فإن مالكا لا يجيزه لئلا يدخل الضرر على شريكه، ورد عليه بأنه أراد أن وقف المشاع جائز مطلقا، وقد سبق بيان الخلاف فيه في: باب إذا تصدق، أو وقف، بعض ماله فهو جائز.
1772 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس رضي الله تعالى عنه قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن ظاهره أنهم تصدقوا بحائطهم لله عز وجل، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وهذا وقف المشاع من جماعة. فإن قلت: ذكر الواقدي أن أبا بكر، رضي الله تعالى عنه دفع ثمن الأرض لمالكها منهم، وقدره عشرة دنانير، فصار ملكا لأبي بكر وتصدق به أبو بكر، فلا يكون وقف مشاع. قلت: قال بعضهم: فإن ثبت ذلك كانت الحجة للترجمة من جهة تقرير النبي، صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر قولهم ذلك، فلو كان وقف المشاع لا يجوز لأنكر عليهم، وفيه نظر لأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ثامنوني بحائطكم)، قرروا ثمنه معي وبيعونيه بالثمن، فهذا يكون بيعا عند دفع الثمن، وقد دفعه أبو بكر، فصار بينه وبينهم
67

بيع الثمن الذي دفعه إليهم ثم إن الظاهر أن أبا بكر هو الذي تصدق به إلى الله تعالى، وليس فيه صورة وقف مشاع، وعبد الوارث هو ابن سعيد وأبو التياح، بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة واسمه يزيد بن حميد الضبيعي، ورجال الحديث كلهم بصريون، وقد مضى بهذا الإسناد مطولا في أوائل كتاب الصلاة في: باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ قوله: (لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) أي: لا نطلب ثمنه من أحد، لكنه مصروف إلى الله، فالاستثناء منقطع أو معناه: لا نطلب ثمنه مصروفا، إلا إلى الله، فالاستثناء متصل.
82
((باب الوقف كيف يكتب))
أي: هذا باب يذكر فيه الوقف كيف يكتب، فعلى هذا التقدير الوقف مرفوع بالابتداء مقطوع عما قبله، وخبره قوله: كيف يكتب، ويجوز بإضافة لفظ الباب إليه، فحينئذ يكون لفظ الوقف مجرورا بالإضافة.
2772 حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال أصاب عمر بخيبر أرضا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه فكيف تأمرني به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (إن شئت حبست أصلها...) إلى آخر الحديث، ويؤخذ من هذه الألفاظ شروط، وهي تكتب كلها في كتاب الوقف، وقد كتب عمر، رضي الله تعالى عنه، كتاب وقفه، كتبه معيقيب، وكان كاتبه، وشهد عبد الله بن الأرقم، وكان هذا في زمن خلافته، لأن معيقيبا كان يكتب له في خلافته، وقد وصفه بأمير المؤمنين، وكان وقفه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم على ما يشهد له حديث الباب، وقد روى أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا ما كتب عبد الله بن عمر في ثمغ، فقص من خبره نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالا، فما عفى عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم، وساق القصة، قال: فإن شاء: ولي ثمغ اشتري من ثمره رقيقا يعمله، وكتب معيقيب: وشهد عبد الله بن الأرقم.
وابن عون في السند هو عبد الله ابن عون، وقد تقدم في آخر الشروط: عن ابن عون أنبأني نافع، والإنباء بمعنى الإخبار عند المتقدمين، جزما، ووقع عند الطحاوي من وجه آخر: عن ابن عون أخبرني نافع. قوله: (عن ابن عمر قال: أصاب عمر)، كذا لأكثر الرواة عن نافع، ثم عن ابن عون جعلوه من مسند ابن عمر. لكن أخرجه مسلم والنسائي من رواية سفيان الثوري والنسائي من رواية أبي إسحاق الفزاري، كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن عمر، جعلوه من مسند عمر، رضي الله تعالى عنه، والمشهور الأول.
والحديث مضى في: باب الشروط في الوقف في آخر كتاب الشروط، ومضى أيضا في: باب قول الله تعالى: * (وابتلوا اليتامى) * (النساء: 6). ومضى قطعة منه في: باب إذا وقف شيئا فلم يدفعه إلى غيره، ومضى الكلام فيه مستوفى.
قوله: (أصاب عمر بخيبر أرضا) هي التي تدعى (ثمغ)، وقد مر بيانه. قوله: (وتصدق بها عمر) أي: تصدق بغلتها، وفي رواية الدارقطني بعد قوله: ولا يورث، من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع: (حبيس ما دامت السماوات والأرض)، وهذا يدل على أن التأبيد شرط. قوله: (أو يطعم)، وقد مر في الرواية الماضية: أن يوكل بضم الياء.
ومما يستفاد منه: ما رواه الطحاوي من طريق مالك عن ابن شهاب، قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: (لولا أني ذكرت، صدقني لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرددتها). واستدل به لأبي حنيفة وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، وأن الذي منع عمر من الرجوع كونه ذكره للنبي، صلى الله عليه وسلم، فكره أن يفارقه على أمر ثم يخالفه إلى غيره. وقال بعضهم: لا حجة فيما ذكره من وجهين. أحدهما: أنه منقطع لأن ابن شهاب لم يدرك عمر، رضي
68

الله تعالى عنه. ثانيهما: أنه يحتمل أن يكون عمر كان يرى بصحة الوقف ولزومه، إلا أن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع، انتهى. قلت: الجواب عن الأول: أن المنقطع في مثل رواية الزهري لا يضر، لأن الانقطاع إنما يمنع لنقصان في الراوي بفوات شرط من شرائطه المذكورة في موضعها، والزهري إمام جليل القدر لا يتهم في روايته، وقد روى عنه مثل الإمام مالك، في هذه، ولولا اعتماده عليه لما رواه عنه. وعن الثاني: بأن الاحتمال الناشئ عن غير دليل لا يعمل به، ولا يلتفت إليه.
92
((باب الوقف للغني والفقير والضيف))
أي: هذا باب في بيان جواز الوقف للغني والغقير والضيف.
3772 حدثنا أبو عاصم قال حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه وجد مالا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال إن شئت تصدقت بها فتصدق بها في الفقراء والمساكين وذي القربى والضيف.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ففي قوله: (للفقراء والمساكين) صريح، وكذا في قوله: (والضيف)، وأما المطابقة في الغني فتؤخذ من قوله: (وذوي القربى) لأنهم أعم من أن يكونوا أغنياء أو فقراء، أو بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، والحديث مضى عن قريب. وأبو عاصم الضحاك بن مخلد المعروف بالنبيل.
03
((باب وقف الأرض للمسجد))
أي: هذا باب في بيان جواز وقف الأرض لأجل أن يبنى عليه مسجد.
4772 حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الصمد قال سمعت أبي قال حدثنا أبو التياح قال حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أمر بالمسجد وقال يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا قالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث قد مر عن قريب. وإسحاق، هكذا وقع غير منسوب في رواية الأكثرين إلا في رواية الأصيلي. وقع منسوبا، فقال: حدثنا إسحاق بن منصور، وقال الكرماني: قال الكلاباذي: إسحاق إما الحنظلي وإما الكوسج. قلت: الحنظلي هو إسحاق بن راهويه، والكوسج هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، وعبد الصمد هو ابن عبد الوارث، وقد مر غير مرة.
قوله: (أمر بالمسجد)، ويروى أمر ببناء المسجد قيل: هو رواية الكشميهني.
13
((باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت))
أي: هذا باب في بيان وقف الدواب إلى آخره، وأشار بهذه الترجمة إلى جواز وقف المنقولات، والكراع بضم الكاف وتخفيف الراء اسم للخيل، وعطفه على الدواب من عطف الخاص على العام، والعروض، بضم العين: جمع عرض، بسكون الراء وهو المتاع لا نقد فيه، والصامت ضد الناطق، وأريد به النقد من المال.
قال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله ودفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها وجعل ربحه صدقة للمساكين والأقربين هل للرجل أن يأكل من ربح ذلك الألف شيئا وإن لم يكن جعل ربحها صدقة في المساكين قال ليس له أن يأكل منها
مطابقة هذا في الترجمة، لقوله: (والصامت)، وهذا التعليق عن الزهري أخرجه ابن وهب في (موطئه)
69

عن يونس عن الزهري. قوله: (ذلك الألف)، ويروى: (تلك الألف)، وجه التأنيث ظاهر، ووجه التذكير باعتبار اللفظ. قوله: (وإن لم يكن) شرط على سبيل المبالغة أي: هل له أن يأكل، وإن لم يجعل ربحها صدقة! فقال الزهري: ليس له وإن لم يجعل، ويقال: إنما لا يأكل منها إذا كان في غنى عنها، وإما إن احتاج، وافتقر فمباح له الأكل منها ويكون كأحد المساكين. وقال ابن حبيب: وهذا مذهب مالك وجميع أصحابنا يقولون: إنه ينفق على ولد الرجل وولد ولده من حبسه إذا احتاجوا، وإن لم يكن لهم في ذلك أسماء فإذا استغنوا فلا حق لهم، واستحسن مالك أن لا يوعبوها، إذا احتاجوا، وأن يكون سهم منها جاريا على الفقراء لئلا يدرس، قاله ربيعة ويحيى بن سعيد.
5772 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى قال حدثنا عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر حمل على فرس له في سبيل الله أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحمل عليها رجلا فأخبر عمر أنه قد وقفها يبيعها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعها فقال لا تبتعها ولا ترجعن في صدقتك.
مطابقته للترجمة في قوله: (حمل على فرس له في سبيل الله) ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وقد مر الحديث في كتاب الهبة في: باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته. قوله: (فأخبر عمر)، على صيغة المجهول. قوله: (أن يبتاعها)، أي: يشتريها. قوله: (ولا ترجعن)، بنون التأكيد الثقيلة.
23
((باب نفقة القيم للوقف))
أي: هذا باب في بيان نفقة القيم، أي: العامل على الوقف، ويدخل فيه الأجير والناظر والوكيل.
6772 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال لا يقتسم ورثتي دينارا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة.
مطابقته للترجمة في قوله: (ومؤونة عاملي)، والعامل هو القيم، وقال ابن بطال: أراد البخاري بتبويبه أن يبين أن المراد بقوله (مؤونة عاملي) أنه عامل أرضه التي أفاءها الله عليه من بني النضير، وفدك وسهمه من خيبر، وفي (التلويح): وفي حواشي (السنن) قيل: أراد حافر قبره، واستبعد لأنهم لم يكونوا يحفرون بأجرة، فكيف له، صلى الله عليه وسلم؟ وقيل: أراد الخليفة بعده، قال الكرماني: عاملي، أي: خليفتي، وأبو الزناد بالزاي والنون عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الفرائض عن إسماعيل. وأخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الخراج عن القعنبي كلهم عن مالك.
ذكر معناه: قوله: (ولا تقتسم)، قال ابن عبد البر: لا تقتسم، برفع الميم على الخبر، أي: ليس تقتسم. وقال الطبري في (التهذيب): لا تقتسم ورثتي، بمعنى النهي، لأنه لم يترك دينارا ولا درهما، فلا يجوز النهي عما لا سبيل إلى فعله، ومعنى الخبر: ليس تقتسم ورثتي. وقيل: يجوز بإسكان الميم على النهي. قلت: الضم أشهر، وبه يستقيم المعنى حتى لا عارض ما روي عن عائشة وغيرها: أنه لم يترك، صلى الله عليه وسلم، مالا يورث عنه. فإن قلت: ما وجه النهي؟ قلت: هو أنه لم يقطع بأنه لا يخلف شيئا، بل كان ذلك محتملا، فنهاهم عن قسمة ما يخلف إن اتفق أنه خلف. قوله: (ورثني)، سماهم ورثة باعتبار أنهم كذلك بالقوة، ولكن منعهم من الميراث الدليل الشرعي، وهو قوله: (ولا نورث ما تركناه صدقة) قوله: (دينارا)، وفي رواية يحيى بن يحيى الأندلسي (دنانير)، وتابعه ابن
كنانة، وسائر الرواة يقولون: دينارا؟ قال أبو عمر: هو الصواب، لأن الواحد هنا أعم عند أهل اللغة. قوله: (بعد نفقة نسائي)، قال الخطابي: بلغني عن ابن عيينة أنه كان يقول: أزواج سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات لأنهن لا يجوز لهن أن ينكحن أبدا، فجرت لهن النفقة تركت حجرهن لهن يسكنها.
70

7772 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر اشترط في وقفه أن يأكل من وليه ويوكل صديقه غير متمول مالا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (اشترط...) إلى آخره، والحديث مر عن قريب بأتم منه، وقد اعترض الإسماعيلي عليه بأن المحفوظ عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، وليس فيه: ابن عمر، ثم أورده كذلك من طريق سليمان بن حرب وغير واحد عن حماد عن أيوب عن نافع: وروي أيضا عن أبي يعلى عن أبي الربيع عن حماد عن أيوب: أن عمر، لم يذكر نافعا، ولا ابن عمر، ثم قال: وصله يزيد بن زريع وابن علية: حدثنا ابن صاعد حدثنا الحسين بن الحسن المروزي حدثنا ابن زريع حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: أصاب عمر أرضا... الحديث وقول الحميدي: لم أقف على طريق قتيبة في (صحيح البخاري) ذهول شديد منه، فإنه ثابت في جميع النسخ، والله أعلم.
33
((باب إذا وقف أرضا أو بئرا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا وقف شخص أرضا أو بئرا، قال الكرماني: وكلمة: أو، للإشعار بأن كل واحد منهما يصلح للترجمة، وإن كان بالواو فمعناه: إذا وقف بئرا واشترط، ومقصوده من هذه الترجمة الإشارة إلى جواز شرط الواقف لنفسه منفعة من وقفه. وقال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن من شرط لنفسه ولورثته نصيبا في وقفه أن ذلك جائز، وقد مضى هذا المعنى في: باب هل ينتفع الواقف بوقفه؟
وأوقف أنس دارا فكان إذا قدمها نزلها
أنس هو ابن مالك. قوله: (دارا)، أي: بالمدينة. قوله: (إذا قدمها) أي: المدينة نزلها، وهذا التعليق وصله البيهقي عن أبي عبد الرحمن السلمي: أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمود المروزي حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة عن أنس، أنه وقف دارا بالمدينة، فكان إذا حج مر بالمدينة فنزل داره.
وتصدق الزبير بدوره وقال للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها فإن استغنت بزوج فليس لها حق
الزبير هو ابن العوام، رضي الله تعالى عنه. قوله: (للمردودة) أي: المطلقة من بناته، ووقع في بعض النسخ: (من نسائه)، قيل: صوبه بعض المتأخرين فوهم، فإن الواقع خلافها. قلت: من أين علم أن الواقع خلافها؟ فلم لا يجوز أن يكون الواقع خلاف البنات؟ وهذا التعليق وصله الدارمي في (مسنده) من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن الزبير جعل دوره صدقة على بنيه لا تباع ولا توهب وللمردودة من بناته، فذكر نحوه، ووصله البيهقي أيضا. قوله: (أن تسكن) بفتح الهمزة، والتقدير: لأن تسكن. قوله: (غير مضرة)، بضم الميم وكسر الضاد: اسم فاعل للمؤنث من الضرر. قوله: (ولا مضر بها)، بضم الميم وفتح الضاد على صيغة اسم المفعول بالصلة.
وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله
أي: جعل عبد الله بن عمر الذي خصه من دار عمر، رضي الله تعالى عنه، سكنى لذوي الحاجة من آل عبد الله بن عمر، يعني: من كان محتاجا إلى السكنى من أهله يسكن فيما خصه من دار عمر التي تصدق بها وقال: لا تباع، ولا توهب، كذا ذكره ابن سعد.
8772 وقال عبدان أخبرني عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمان أن عثمان رضي الله تعالى عنه حيث حوصر أشرف عليهم وقال أنشدكم ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله
71

عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال من حفر رومة فله الجنة فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزتهم قال فصدقوه بما قال.
مطابقته للترجمة في قوله: (فحفرتها) أي: حفرت رومة، قال ابن بطال: ذكر الحفر وهم من بعض الرواة، والمعروف أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها. قلت: حفرها أو اشتراها، وهي صدقة عنه، فتطابق قوله: أو بئرا، وتمام دلالته على الترجمة من جهة تمام القصة، وهو أنه قال: دلوي فيها كدلاء المسلمين. قوله: (عبدان)، هو عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، وعبدان لقبه، يروي عن أبيه عثمان بن جبلة بن أبي رواد، واسمه: ميمون، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وأبو عبد الرحمن اسمه: عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي القاري، له ولأبيه صحبة.
وهذا التعليق وصله الدارقطني والإسماعيلي وغيرهما من طريق القاسم بن محمد المروزي عن عبدان بتمامه، وروى الترمذي: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن وعباس بن محمد الدوري وغير واحد، المعنى واحد، قالوا: حدثنا سعيد بن عامر، قال عبد الله: أخبرنا سعيد بن عامر عن يحيى بن أبي الحجاج المنقري عن أبي مسعود
الجريري عن ثمامة بن حزن القشيري، قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان. فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي، قال: فجيء بهما كأنهما جملان أو كأنهما حماران قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال: (من يشتري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ فقالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين؟) قالوا اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا اللهم نعم: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركضه برجله، فقال: إسكن ثبير، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان؟ قالوا: اللهم نعم. قال: الله أكبر شهدوا ورب الكعبة إني شهيد ثلاثة). هذا حديث حسن، ورواه النسائي أيضا وزاد من رواية الأحنف عن عثمان، فقال: (لأجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك)، وعن النسائي أيضا من رواية الأحنف: (أن عثمان اشتراها بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا، وزاد في جيش العسرة، فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما). وللترمذي من حديث عبد الرحمن بن حباب السلمي: أنه جهزهم بثلاثمائة بعير، وفي رواية أحمد من حديث عبد الرحمن بن سمرة: أنه جاء بألف دينار في ثوبه، فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حين جهز جيش العسرة، فقال: (ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)، وروى الدارقطني من طريق ثمامة بن حزن عن عثمان، قال: (هل تعلمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم زوجني إحدى ابنتيه واحدة بعد أخرى، رضي بي ورضي عني؟ قالوا: اللهم نعم).
قوله: (حيث حوصر)، وفي رواية الكشميهني: حين حوصر، وذلك حين حاصره المصريون الذين أنكروا عليه تولية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وقصته مشهورة. قوله: (أنشدكم)، يقال نشدت فلانا أنشده إذا قلت له: نشدتك الله، أي: سألتك بالله، كأنك ذكرته إياه. قوله: (من حفر رومة)، قد ذكرنا عن ابن بطال أنه قال ذكر الحفر وهم، والذي يعلم في الأخبار والسير أنه اشتراها، ولا يوجد: أن عثمان حفرها، إلا في حديث شعبة، وروى البغوي في (معجم الصحابة) من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه، قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تبيعنيها بعين في الجنة؟) فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان، رضي الله تعالى عنه، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم (فقال: أتجعل لي ما جعلته له؟) قال: نعم. قال: قد جعلتها للمسلمين. انتهى. وإذا كانت عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا، ويحتمل أن العين المذكورة كانت تجري إلى بئر فوسعها عثمان أو طواها، فنسب حفرها إليه. وقال الكرماني: رومة، بضم الراء وسكون الواو: كان ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها منه عثمان بعشرين ألف درهم، وذكر الكلبي: أنه كان يشتري منها قربة بدرهم قبل أن يشتريها عثمان، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فصدقوه بما قال) أي: بالذي قال عثمان، رضي الله تعالى عنه، وفي رواية
72

النسائي من طريق الأحنف بن قيس: (أن الذين صدقوه بذلك هم: علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنهم.
وقال عمر في وقفه لا جناح على من وليه أن يأكل
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله في وقفه، وكان وقفه أرضا، وقد مر عن قريب في: باب الوقف للغني والفقير.
وقد يليه الواقف وغيره فهو واسع لكل
هذا من كلام البخاري، وأشار بهذا إلى أن قوله: (على من وليه)، أعم من أن يكون الواقف أو غيره، وقال الداودي: استدلال البخاري من قول عمر قوله: (وقد يليه الواقف أو غيره)، غلط، لأن عمر جعل الولاية إلى غيره، فكيف يليه الواقف؟
43
((باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فهو جائز))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا قال الواقف... إلى آخره.
9772 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن أبي التياح عن أنس رضي الله تعالى عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم يا بني النجار ثامنوني بحائطكم قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.
.
الترجمة من نفس الحديث، وقد مر هذا غير مرة، غير أنه ذكره بهذا الإسناد بعينه عن قريب في: باب إذا أوقف جماعة أرضا مشاعا، وليس فيه زيادة فائدة غير تغيير الترجمة، قيل: فائدته أنه يشير به إلى أن الوقف يصح بأي لفظ دل عليه، إما بمجرده أو بقرينة.
53
((باب قول الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما
استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمي ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين) * (المائدة: 601، 701).))
أي: هذا باب في بيان سبب نزول قول الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا) * إلى قوله: * (الفاسقين) * (المائدة: 601، 701). وإنما قلنا كذلك لأن في حديث الباب صرح بقوله: وفيهم نزلت هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) * (المائدة: 601 701). على ما يجيء بيانه عن قريب، إن شاء الله تعالى، وسيقت هذه الآيات الثلاث في رواية الأصيلي وكريمة، وفي رواية أبي ذر سيق من أول * (يا أيها الذين آمنوا) * (المائدة: 601 701). إلى قوله: * (وآخران من غيركم) * (المائدة: 601 701). ثم قال: إلى قوله: * (والله لا يهدي القوم الفاسقين) * (المائدة: 601 701). قوله: * (شهادة بينكم) * (المائدة: 601 701). كلام إضافي مبتدأ وخبره قوله: * (اثنان) * (المائدة: 601 701). تقديره: شهادة بينكم شهادة، اثنين. وقال الزمخشري: أو على أن قوله: اثنان، فاعل شهادة بينكم على معنى: فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان، وقرأ الشعبي: * (شهادة بينكم) * وقرأ الحسن: * (شهادة) *، بالنصب، والتنوين على: ليقم شهادة، اثنان. قوله: * (ذوا عدل منكم) * وصف الاثنين بأن يكونا عدلين. قوله: * (إذا حضر) * ظرف للشهادة. قوله: (حين الوصية)، بدل منه، قال الزمخشري: وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن
73

يتهاون بها المسلم ويذهل عنها، وحضور الموت وظهور أمارات بلوغ الأجل: مشارفته. قوله: (منكم) أي: من أقاربكم قاله الزمخشري، وفي تفسير ابن كثير: * (منكم) * أي: من المسلمين، قاله الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله: (ذوا عدل) من المسلمين رواه ابن أبي حاتم، قال: وروى عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك، وقال ابن جرير: وقال آخرون: عنى بذلك (ذوا عدل منكم) من وحي الموصي، وذلك قول: روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما. قوله: (أو آخران من غيركم)، قال الزمخشري: من الأجانب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا سعيد بن عون حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس، في قوله: (أو آخران من غيركم) قال: من غير المسلمين يعني: أهل الكتاب، ثم قال: وروى عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك. قوله: (إن أنتم ضربتم في الأرض) قال الزمخشري: يعني: إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستشهدوا أجنبين على الوصية، وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت، وبما هو أصلح، وهم له أنصح، وفي (تفسير ابن كثير) قوله: (إن أنتم ضربتم في الأرض) أي: سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت، وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر، وأن يكون في وصية، كما صرح بذلك القاضي شريح. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو معاوية ووكيع قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في سفر، ولا تجوز في سفر إلا في وصية. وقد روى مثله عن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، وهذا من أفراده، وخالفه الثلاثة فقالوا: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو داود حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا في سفر إنما هي في المسلمين، وذكر الطحاوي حديث أبي داود: أن رجلا من المسلمين توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب نصرانيين، فقدما الكوفة على أبي موسى، فقال أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فأحلفهما بعد العصر: ما خانا ولا كذبا ولا بدلا، فأمضى شهادتهما. قال الطحاوي: فهذا يدل على أن الآية محكمة عند أبي موسى وابن عباس، ولا أعلم لهما مخالفا من الصحابة في ذلك، وعلى ذلك أكثر التابعين، وذكر النحاس: أن القائلين بأن الآية الكريمة منسوخة وأنه لا تجوز شهادة كافر بحال، كما لا تجوز شهادة فاسق، زيد بن أسلم والشافعي ومالك والنعمان، غير أنه أجاز شهادة الكفار بعضهم على بعض، وأما الزهري والحسن فزعما أن الآية كلها في المسلمين، وذهب غيرهما إلى أن الشهادة هنا بمعنى الحضور، وقال آخرون: الشهادة بمعنى اليمين، وتكلموا في معنى استحلاف الشاهدين هنا، فمنهم من قال: لأنهما ادعيا وصية من الموت، وهذا قول يحيى بن يعمر، قال النحاس: وهذا لا يعرف في حكم الإسلام أن يدعي رجل وصية فيحلف ويأخذها. ومنهم من قال: يحلفان إذا شهدا أن الميت أوصى بما لا يجوز أو بماله كله، وهذا أيضا لا يعرف في الأحكام. ومنهم من قال: يحلفان إذا اتهما، ثم ينقل اليمين عنهما إذا اطلع على الخيانة، وزعم ابن زيد أن ذلك كان في أول الإسلام، كان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض. وقال الخطابي: ذهبت عائشة، رضي الله تعالى عنها، إلى أن هذه الآية ثابتة غير منسوخة، وروي ذلك عن الحسن والنخعي، وهو قول الأوزاعي، قال: وكان تيم وعدي وصيين لا شاهدين، والشهود لا يحلفون، وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها في قبول الوصية. قوله: * (من بعد الصلاة) * اختلف فيها، فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة من بعد صلاة العصر، قال النحاس: ويروى عن ابن عباس: من بعد صلاة أهل دينهما، قال: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم تميما وعديا بعد العصر فاستحلفهما عند المنبر، وقال الزهري: يعني: صلاة المسلمين، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع فيها بحضرتهم * (فيقسمان بالله) * أي: فيحلفان بالله * (إن ارتبتم) * أي: ظهرت لكم ريبة منهما أنهما خانا أو غلا، فيحلفان حينئذ بالله: لا نشتري به، أي: بالقسم، ثمنا، أي: لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة. قوله: * (ولو كان ذا قربى) * أي: ولو كان المشهود عليه قريبا إلينا لا نحابيه ولا نكتم شهادة
74

الله، أضافها إلى الله تشريفا لها وتعظيما لأمرها. وقرأ بعضهم: ولا نكتم بشهادة الله، مجرورا على القسم، رواها ابن جرير عن الشعبي. قوله: * (إنا إذا لمن الآثمين) * أي: إن فعلنا شيئا من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية قوله: * (فإن عثر) * أي: فإن اطلع، وظهر، واشتهر وتحقق من
الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما، أو ظهر عليهما بذلك * (فآخران يقومان مقامهما) * أي: فشاهدان آخران من الذين استحق عليهم الإثم، ومعناه: من الذين جنى عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته. قوله: (الأوليان) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما وارتفاعهما على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هما الأوليان، كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: هما الأوليان. وقيل: هو بدل من الضمير في: يقومان، أو من: آخران. قال الزمخشري: ويجوز أن يرتفعا: باستحق، أو: من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة المال. وقرئ الأولين، على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرورا ومنصوب على المدح، ومعنى الأولية: التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها، وقرئ: الأوليين، بالتثنية، وانتصابه على المدح، وقرأ الحسن: الأولان، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي، وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون بذلك، فوجهه عندهم: أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما خانا فحلفا، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما، فأنكر الورثة، وكانت اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء. قوله: * (وما اعتدينا) * أي: فينل قلنا فيهما من الخيانة. * (إنا إذا لمن الظالمين) * أي: إن كنا قد كذبنا عليهما، فنحن حينئذ من الظالمين. قوله: * (ذلك) * أي: الذي تقدم من بيان الحكم * (أدنى) * أي: أقرب أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة * (بالشهادة على وجهها أو يخافوا إن ترد إيمان) * أي: تكرر إيمان بشهود آخرين بعد إيمانهم، فيفتضحوا بظهور كذبهم، واتقوا الله أن تحلفوا كاذبين أو تخونوا أمانة، وسامعوا الموعظة. قوله: * (والله لا يهدي القوم الفاسقين) * وعيد لهم بحرمان الهداية.
0872 وقال لي علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا من ذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا ابتعناه من تميم وعدي فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم قال وفيهم نزلت هذه الآية * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) * (المائدة: 601).
مطابقته للآيات المذكورة ظاهرة، لأنه يبين أنها نزلت فيمن ذكروا فيه.
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني: يحيى بن آدم بن سليمان المخزومي. الثالث: يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، واسمه: ميمون أبو سعيد الهمداني القاضي. الرابع: محمد بن أبي القاسم الذي يقال له الطويل، ولا يعرف اسم أبيه. الخامس: عبد الملك بن سعيد بن جبير. السادس: أبوه سعيد بن جبير. السابع: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده فيه: القول في أول الإسناد وفي آخره، أنه ذكر الحديث عن ابن المديني، كذا بغير سماع، فأما أن يكون أخذه مذاكرة أو عرضا، أو يكون محمد بن أبي القاسم ليس بمرضي عنده، وكأنه أشبه لأن محمد بن بحر ذكر عنه أنه قال ابن أبي القاسم: لا أعرفه كما أشتهي، قيل له: فرواه غيره؟ قال: لا، قال: وكان ابن المديني يستحسن هذا الحديث، حديث محمد بن أبي القاسم؟ قال: وقد رواه عنه أبو أسامة إلا أنه غير مشهور. وقيل: عادته أنه إذا كان في إسناد الحديث نظر أو كان موقوفا يعبر بقوله: قال لي: وفيه: أن شيخه بصري والبقية كوفيون. وفيه: محمد بن أبي القاسم، وقد أخرج له البخاري هنا مع أنه توقف فيه، ووثقه يحيى وأبو حاتم وليس له في البخاري ولا لشيخه عبد الملك بن سعيد غير هذا الحديث الواحد. وفيه: رواية الابن عن الأب.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود في القضايا عن الحسن بن علي. وأخرجه الترمذي في التفسير عن سفيان بن وكيع، كلاهما عن يحيى بن آدم به. وقال الترمذي: حديث غريب.
75

ذكر معناه: قوله: (خرج رج من بني سهم)، وهو: بزيل، بضم الباء الموحدة وفتح الزاي وسكون الياء آخر الحروف وآخره لام، كذا ضبطه ابن ماكولا، ووقع عند الترمذي والطبري: بديل، بدال مهملة عوض الزاي، وفي رواية ابن منده من طريق السدي عن الكلبي: بديل بن أبي مارية، وليس هذا بديل بن ورقاء، فإنه خزاعي، وهذا سهمي، ووهم من ضبطه بالذال المعجمة، ووقع في رواية ابن جريج أنه كان مسلما. قوله: (مع تميم الداري)، وهو الصحابي المشهور، ونسبته إلى الدار، وهم بطن من لخم، ويقال: الداري: للعطار، ولرب الغنم، وكان نصرانيا، وكانت قضيته قبل أن يسلم، وأسلم سنة تسع وسكن المدينة، وبعد قضية عثمان انتقل إلى الشام وكان يختم القرآن في ركعة، وروى الشعبي عن فاطمة بنت قيس أنها سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم في خطبة خطبها، وقد قال: حدثني تميم، فذكر خبر الجساسة في قصة الدجال. فإن قلت: إذا كانت قضية تميم قبل إسلامه يكون الحديث من مرسل الصحابي، لان ابن عباس لم يحضر هذه القضية. قلت: نعم، ولكن جاء في بعض الطرق: قد رواه عن تميم الداري. أخرجه الترمذي: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، قال: حدثنا محمد بن سلمة الحراني، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان، مولى أم هانىء عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) * (المائدة: 601). قال برئ الناس من هذه الآية غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام في تجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم... الحديث، فإذا كان كذلك تكون القصة قبل الإسلام، والتحاكم بعد إسلام الكل، فيحتمل أنه كان بمكة سنة الفتح. قوله: (وعدي)، بفتح العين وكسر الدال المهملتين وتشديد الياء: ابن بداء، بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال المهملة مع المد، قال الذهبي: عدي بن بداء، مذكور في تفسير: * (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) * (المائدة: 601). وفي رواية الترمذي: والصحيح أن عديا نصراني لم يبلغنا إسلامه، وفي كتاب القضاء للكرابيسي: سماه البداء بن عاصم. وأخرجه عن معلى بن منصور عن يحيى بن أبي زائدة، ووقع عند الواقدي: أن عدي بن بداء كان أخا تميم الداري، فإن ثبت فلعله أخوه لأمه، أو من الرضاعة. وفي تفسير مقاتل: خرج بديل بن أبي مارية، مولى العاص بن وائل، مسافرا في البحر إلى النجاشي، فمات بديل في السفينة، وكان كتب وصيته وجعلها في متاعه
، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه عدي، فأخذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب، فلما ردا بقية المتاع إلى ورثته ونظروا في الوصية فقدوا بعض متاعه، فكلموا تميما وعديا، فقالا: ما لنا به علم، وفيه: فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهمياني فحلفا، فاعترف تميم بالخيانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا تميم أسلم يتجاوز الله عنك ما كان في شركك). فأسلم وحسن إسلامه، ومات عدي بن بداء نصرانيا. وفي (تفسير الثعلبي): كان بديل بن أبي مارية وقيل: ابن أبي مريم ومولى عمرو ابن العاص، وكان بديل مسلما ومات بالشام. قوله: (جاما) بالجيم، قال بعضهم: قوله: (جاما) بالجيم، والتخفيف: إناء. قلت: هذا تفسير الخاص بالعام، وهذا لا يجوز لأن الإناء أعم من الجام، والجام هو الكأس. قوله: (مخوصا)، بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو المشددة وفي آخره صاد مهملة، قال ابن الجوزي: صيغت فيه صفائح مثل الخوص من الذهب، معناه: منقوشا فيه خطوط دقاق طوال كالخوص، وهو ورق النخل، ووقع في بعض نسخ أبي داود: (مخوضا)، بالضاد المعجمة أي: مموها، ووقع في رواية ابن جريج عن عكرمة: (إناء من فضة منقوش بذهب). قوله: (فقام رجلان من أوليائه)، أي: من أولياء السهمي المذكور الذي مات، والرجلان: عمرو بن العاص ورجل آخر منهم، كذا في رواية الكلبي وسمى الآخر مقاتل في تفسيره بأنه: المطلب بن أبي وداعة. قوله: (وفيهم نزلت هذه الآية) وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب والناس كفار، وكانوا يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها، رواه ابن جرير. وقال ابن التين: انتزع ابن شريح من هذه الآية الكريمة الشاهد واليمين، قال: قوله: * (فإن عثر) * (المائدة: 601). لا يخلو من أربعة أوجه، إماأن يقرأ، أو يشهد عليهما شاهدان أو شاهدا وامرأتان، أو شاهد واحد، قال: وأجمعنا أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالب، وكذلك مع الشاهدين، والشاهد
76

والمرأتين، فلم يبق إلا شاهد واحد، فلذلك استحق الطالبان بيمينهما مع الشاهد الواحد. انتهى. ورد عليه بأنه ليس في شيء من طرق الحديث أنه كان هناك شاهد أصلا، بل في رواية الكلبي: (وسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوا عديا بما يعظم على أهل دينه). والله أعلم.
63
((باب قضاء الوصي دين الميت بغير محضر من الورثة))
أي: هذا باب في بيان جواز قضاء الوصي دين الميت، وفي بعض النسخ: ديون الميت بغير حضور الورثة، ولا خلاف بين العلماء في جواز ذلك.
1872 حدثنا محمد بن سابق أو الفضل بن يعقوب عنه قال حدثنا شيبان أبو معاوية عن فراس قال قال الشعبي حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما أن أباه استشهد يوم أحد وترك ست بنات وترك عليه دينا فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك عليه دينا كثيرا وإني أحب أن يراك الغرماء قال اذهب فبيدر كل ثمر على ناحيته ففعلت ثم دعوت فلما نظروا إليه أغروا بي تلك الساعة فلما رأى ما يصنعون أطاف حول أعظمها بيدرا ثلاث مرات ثم جلس عليه ثم قال ادع أصحابك فما زال يكيل لهم حتى أدى الله أمانة والدي وأنا والله راض أن يؤدي الله أمانة والدي ولا أرجع إلى فسلم والله البيادر كلها أخواتي بتمرة حتى أني أنظر إلى البيدر الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه لم ينقص تمرة واحدة.
.
مطابقته للترجمة من حيث أن جابر بن عبد الله أوفى دين والده بغير حضور أخواته اللاتي هن من الورثة، ومحمد بن سابق أبو جعفر التميمي مولاهم البغدادي البزاز، وأصله فارسي، كان بالكوفة، روى عنه البخاري هنا فقط بلا واسطة، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وروى عنه بواسطة في الجهاد وفي المغازي والنكاح والأشربة، ومع هذا تردد البخاري هنا حيث قال: محمد بن سابق أو الفضل بن يعقوب الرخامي البغدادي، روى عنه البخاري في البيوع والتوحيد والجزية وعمرة الحديبية، وهو من أفراده، وشيبان هو ابن عبد الرحمن النحوي أبو معاوية، سكن الكوفة، أصله بصري، وفراس، بكسر الفاء وتخفيف الراء وبالسين المهملة: ابن يحيى الهمداني أبو يحيى الحارثي الكوفي المكتب، والشعبي هو عامر بن شراحبيل من شعب همدان الكوفي.
والحديث مضى في مواضع في الاستقراض والصلح والهبة وغيرها، وسيأتي أيضا، وقد مضى الكلام فيه غير مرة.
قوله: (حضر جداد النخل) بفتح الجيم وكسرها، وهو: صرام النخل، وهو قطع ثمرتها يقال: جد الثمرة يجدها جدا. قوله: (فبيدر)، بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الدال المهملة، أمر من: بيدر أي: اجعل كل صنف في بيدر، أي: جرين يخصه، والبيدر المكان الذي يداس فيه الطعام وهنا المكان الذي يجعل فيه التمر المجدود. قوله: (أغروا بي)، مشتق من الإغراء، وهو فعل ما لم يسم فاعله، أي: لهجوا، يقال: أغرى بكذا، إذا لهج به وأولع به، وقال ابن الأثير: وفي حديث جابر: (فلما رأوه أغروا بي تلك الساعة). أي: لجوا في مطالبتي، وألحوا. قوله: (ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة؟) كذا هو في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (تمرة)، بنزع الخافض.
قال أبو عبد الله أغروا بي يعني هيجوا بي فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، فسر معنى (أغروا بي) بقوله: يعني: هيجوا بي، والمعنى أن الإغراء هو التهييج، وقال أبو عبيدة في (المجاز) في قوله: * (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) * (المائدة: 41). الإغراء: التهييج والإفساد.
بسم الله الرحمان الرحيم
77

65
((كتاب الجهاد والسير))
أي: هذا كتاب في بيان أحكام الجهاد، ولم يقع لفظ: كتاب، لأكثر الرواة، وإنما هو في رواية ابن شبويه والنسفي، ولم تقع البسملة إلا في رواية النسفي مقدمة. والجهاد، بكسر الجيم، أصله في اللغة الجهد وهو المشقة، وفي الشرع بذل الجهد في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، والجهاد في الله بذل الجهد في أعمال النفس وتدليلها في سبيل الشرع، والحمل عليها مخالفة النفس من الركون إلى الدعة واللذات واتباع الشهوات، وهذا الكتاب مذكور هنا في جميع النسخ والشروح خلا ابن بطال فإنه ذكره عقيب الحج والصوم قبل البيوع، ولما وصل إلى هنا وصل بكتاب الأحكام.
1
((باب فضل الجهاد والسير))
أي: هذا باب في بيان فضل الجهاد وفي بيان السير، وهو بكسر السين المهملة وفتح الياء آخر الحروف: جمع سيرة، وهي الطريقة ومنه: سيرة القمرين، أي: طريقتهما، وذكر السير هنا لأنه يجمع سير النبي، صلى الله عليه وسلم وطرقه في مغازيه وسير أصحابه وما نقل عنهم في ذلك.
وقول الله تعالى: * (إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * (التوبة: 111). إلى قوله * (وبشر المؤمنين) * (التوبة: 211).
وقول الله، مجرور عطفا على فضل الجهاد، وهاتان آيتان من سورة براءة أولاهما هو قوله: * (إن الله اشترى) * إلى قوله: * (الفوز العظيم) * (التوبة: 111). والثانية هو قوله: * (التائبون العابدون) * إلى قوله: * (وبشر المؤمنين) * (التوبة: 211). والمذكور هنا هكذا في رواية النسفي وابن شبويه وفي رواية الأصيلي وكريمة الآيتان جميعا مذكورتان بتمامهما، وفي رواية أبي ذر المذكور إلى قوله: * (وعدا عليه حقا) * (التوبة: 111). من الآية الأولى ثم قال إلى قوله: * (والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) * (التوبة: 21). قوله: * (إن الله اشترى..) * (التوبة: 111). إلى آخره، قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة، رضي الله تعالى عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: اشترط لربي أن تصدقوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * (التوبة: 111). الآية، والمراد: أن الله أمرهم بالجهاد بأموالهم وأنفسهم ليجازيهم بالجنة، فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض ومعوض، ولما جوزوا بالجنة على ذلك عبر عنه بلفظ الشراء تجوزا، والباء في: بأن، للمقابلة والتقدير باستحقاقهم الجنة. قوله: * (يقاتلون في سبيل الله) * (التوبة: 111). قال الزمخشري: فيه معنى الأمر. كقوله: * (تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * (الصف: 11). قوله: * (فيقتلون ويقتلون) * (التوبة: 111). أي: سواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة. قوله: * (وعدا عليه حقا) * (التوبة: 111). وعدا: مصدر مؤكد أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت، وقد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن. قوله: * (ومن أوفى بعهده من الله) * (التوبة: 211). أي: لا أحد أعظم وفاء بما عاهد عليه من الله، فإنه لا يخلف الميعاد. قوله: * (فاستبشروا) * (التوبة: 111). أي: افرحوا بهذا البيع، أي: فليبشر من قام بمقتضى هذا العقد، ووفى هذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم. قوله: * (التائبون) * (التوبة: 211). رفع على المدح أي: هم التائبون، وهذا نعت للمؤمنين المذكورين، يعني: التائبون من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، * (العابدون) * (التوبة: 211). أي: القائمون بعبادة ربهم، وقيل: بطول الصلاة، وقيل: بطاعة الله. قوله: * (الحامدون) * (التوبة: 211). أي: على دين الإسلام. وقيل: على السراء والضراء. قوله: * (السائحون) * (التوبة: 211). أي: الصائمون، كذا قال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن عبد الله بن مسعود، وكذا قال الضحاك، وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، (قالت: سياحة هذه الأمة الصيام). وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك وسفيان بن عيينة وآخرون، (وقال الحسن البصري: السائحون الصائمون شهر رمضان).
78

وقال أبو عمرو العبدي: السائحون الذين يديمون الصيام من المؤمنين، وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، فقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ حدثنا حكيم بن حزام حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: السائحون: هم الصائمون، وروى أبو داود في (سننه) من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله! إئذن لي في السياحة. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). وعن عكرمة أنه قال: (هم طلبة العلم)، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المهاجرون رواهما ابن أبي حاتم، وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه من تعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين. قوله: * (الآمرون بالمعروف) * (التوبة: 211). وهو طاعة الله * (والناهون عن المنكر) * (التوبة: 211). وهو معصية الله، وإنما دخلت الواو فيها لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف الواو على السبعة، ذكره جماعة من المفسرين. وقيل: إن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده تبعا وضمنا، لا قصدا، فلو قال الناهون بغير: واو، لأشبه أن يريد النهي الذي هو تبع، فلما ذكر الواو بين أن المراد: الآمرون قصدا والناهون عن المنكر قصدا، ولذلك دخلت الواو أيضا. في * (والحافظون لحدود الله) * (التوبة: 211). إذ لو لم يذكر: الواو، لأوهم أن المعنى: يحفظون حدود الله من الأشياء التي تقدم ذكرها، فإن في كل شيء حدا لله، عز وجل، فقال: والحافظون، ليكون إخبارا لحفظهم الحدود في هذه الأشياء وغيرها.
قال ابن عباس الحدود الطاعة
هذا التعليق وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه، في قوله: * (تلك حدود الله) * (البقرة: 781، 922، 032، النساء: 312، الطلاق: 1). يعني: طاعة الله، وكأنه تفسير باللازم، لأن من أطاع الله وقف عند امتثال أمره واجتناب نهيه.
2872 حدثنا الحسن بن صباح قال حدثنا محمد بن سابق قال حدثنا مالك بن مغول قال سمعت الوليد بن العيزار ذكر عن أبي عمر و الشيباني قال قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أي العمل أفضل قال الصلاة على ميقاتها قلت ثم أي قال ثم بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (الجهاد في سبيل الله). والحديث مضى في أوائل: مواقيت الصلاة، فإنه أخرجه هناك عن أبي الوليد عن شعبة عن الوليد بن العيزار. أخبرني، قال: سمعت أبا عمرو الشيباني... إلى آخره، واسم أبي عمرو الشيباني سعد بن إياس وقد مر الكلام فيه هناك واختلاف الأحاديث في أفضل الأعمال لاختلاف السائلين واختلاف مقاصدهم، أو باختلاف الوقت أو بالنسبة إلى بعض الأشياء. وقال الطبري: إنما خص، صلى الله عليه وسلم، هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى خرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤونتها وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك.
3872 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا سفيان قال حدثني منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولكن جهاد ونية...) إلى آخره، وعلي بن عبد الله المعروف بابن المديني، و يحيى بن سعيد هو القطان
79

و سفيان هو الثوري.
والحديث مضى في كتاب الحج في: باب لا يحل القتال بمكة، فإنه أخرجه هناك بأتم منه: عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور... إلى آخره، ومضى الكلام فيه هناك، ولنتكلم أيضا بعض شيء.
فقوله: (لا هجرة)، يعني: من مكة، وأما الهجرة عن المواضع التي لا يتأتى فيها أمر الدين فهي واجبة اتفاقا، وقال الخطابي: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما: أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا، فأمروا بالهجرة إلى دار الإسلام ليسلم لهم دينهم ويزول الأذى عنهم، والآخر: الهجرة من مكة، لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلا ضعيفين، وكان الواجب على من أسلم أن يهاجروا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لكن إن حدث حادث استعان بهم في ذلك، فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك، إذ كان معظم الخوف من أهلها، فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد، مستعدين، لأن ينفروا إذا استنفروا. وقال الطيبي: كلمة: لكن، تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها، أي: أن المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت، لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نية خالصة لله، عز وجل. كطلب العلم والفرار لدينه. انتهى. وذكر غير واحد من العلماء أن أنواع الهجرة خمسة أقسام: الأول: الهجرة إلى أرض الحبشة. الثاني: الهجرة من مكة إلى المدينة. الثالث: هجرة القبائل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. الرابع: هجرة من أسلم من أهل مكة. الخامس: هجرة ما نهى الله عنه، وبقي من الهجرة ثلاثة أنواع أخر، وهي: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة، وهجرة من كان مقيما ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين، فتجب عليه الهجرة، والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن، على ما رواه أحمد في (مسنده) من رواية شهر قال: سمعت عبد الله بن عمر، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم، عليه الصلاة والسلام...) الحديث.
ولما روى الترمذي حديث ابن عباس هذا قال: وفي الباب عن أبي سعيد، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن حبشي. أما حديث أبي سعيد فأخرجه أحمد في (مسنده) من رواية أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت هذه الآية: * (إذا جاء نصر الله والفتح) * (الفتح: 1). قرأها رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. (وقال: الناس حيز، وأنا وأصحابي حيز. وقال: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية). قلت: الحيز، بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة، وفي آخره زاي، والمعنى: الناس في ناحية وأنا وأصحابي في ناحية. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البخاري على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأخرجه أبو داود والنسائي. وأما حديث عبد الله بن حبشي فأخرجه أبو داود والنسائي من رواية عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشي الخثعمي: أن النبي، صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (طول القنوت)، قيل: فأي صدقة أفضل؟ قال: (جهد المقل) قيل: فأي الهجرة أفضل؟) قال: (من هجر ما حرم الله عليه...) الحديث.
قلت: وفي الباب عن جماعة آخرين، وهم: عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وفضالة بن عبيد، وزيد ابن ثابت، ورافع بن خديج، ومجاشع بن مسعود، وغزية بنت الحارث وقيل: الحارث بن غزية وعبد الله بن وقدان السعدي، وجنادة بن أبي أمية، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وثوبان، ومحمد بن حبيب النصري، وفديك، وواثلة بن الأسقع، وصفوان بن أمية، ويعلى بن مرة، وعمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وابن مسعود، وأبو مالك الأشعري، وعائشة، وأبو
فاطمة رضي الله تعالى عنهم.
أما حديث عبد الرحمن بن عوف فأخرجه أحمد والطبراني من رواية مالك بن يخامر عن ابن السعدي: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل)، فقال معاوية وعبد الرحمن ابن عوف وعبد الله بن عمرو: إن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: (الهجرة خصلتان: إحداهما تهجر السيئات، والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة)، ورواه البزار مقتصرا على حديث عبد الرحمن بن عوف، ومعاوية وحده، رواه أبو داود والنسائي بلفظ: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها). وأما حديث فضالة بن عبيد فأخرجه ابن ماجة من رواية عمرو بن مالك عن فضالة بن عبيد عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر الخطايا والذنوب). وأما حديث زيد بن ثابت ورافع بن خديج فأخرجه أحمد في (مسنده) من رواية أبي البختري عن أبي سعيد عن النبي، صلى الله عليه وسلم بحديث فيه: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية). فقال له مروان: كذبت،
80

وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت، وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، فرفع عليه مروان الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق. وأما حديث مجاشع بن مسعود فأخرجه أحمد في (مسنده) من رواية يحيى بن إسحاق عن مجاشع بن مسعود: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بابن أخ له ليبايعه على الهجرة، (فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا بل على الإسلام، فإنه لا هجرة بعد الفتح). وأما حديث غزية بن الحارث فأخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية عبد الله ابن رافع عن غزية بن الحارث أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: (لا هجرة بعد الفتح، إنما هي ثلاث: الجهاد والنية والحشر). وأما حديث عبد الله بن وقدان السعدي فأخرجه النسائي من رواية بشر بن عبيد الله عن عبد الله بن وقدان السعدي، قال: وفدت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كلنا نطلب حاجة، وكنت آخرهم دخولا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني تركت من خلفي وهم يقولون: إن الهجرة قد انقطعت. قال: (لن تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار). وأما حديث جنادة بن أمية فأخرجه أحمد من رواية أبي الخيران جنادة بن أبي أمية، حدثه: أ رجلا من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم قال: قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت، فاختلفوا في ذلك قال: فانطلقت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن ناسا يقولون: إن الهجرة قد انقطعت! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد). وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه أحمد في (مسنده) في رواية شهر، قال: سمعت عبد الله بن عمر سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم، عليه الصلاة والسلام). وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه في مسنده عن حجاج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه وأما حديث ثوبان فأخرجه البزار في (مسنده) من رواية أبي الأشعث الصنعاني عن ابن عثمان عن ثوبان، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار، وأما حديث محمد بن حبيب النصري فأخرجه البزار أيضا من رواية أبي إدريس الخولاني عن ابن السعدي عن محمد بن حبيب النصري، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكره بلفظ الذي قبله. وأما حديث فديك فأخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية الزهري عن صالح بن بشير بن فديك: أن جده فديكا أتى النبي، صلى الله عليه وسلم فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: (أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت) وهذا مرسل، فإن صالح بن بشير لم يسنده إلى جده، وإنما روى القصة من عنده مرسلة. وأما حديث واثلة بن الأسقع فأخرجه الطبراني أيضا من رواية عمرو بن عبد الله الحضرمي عن واثلة بن الأسقع، قال: خرجت مهاجرا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم... الحديث، وفيه أن النبي، صلى الله عليه وسلم قال له: ما حاجتك؟ قلت: الإسلام. فقال: هو خير لك. قال: وتهاجر؟ قلت: نعم. قال: هجرة البادية أو هجرة الباتة؟ قلت: أيهما أفضل؟ قال: هجرة الباتة، وهجرة الباتة أن تثبت مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وهجرة البادية أن ترجع إلى باديتك... الحديث. وأما حديث صفوان بن أمية فأخرجه النسائي من رواية عبد الله بن طاووس عن أبيه عن صفوان بن أمية، قال: قلت: يا رسول الله! إنهم يقولون: إن الجنة لا يدخلها إلا من هاجر. قال: (لا هجرة بعد فتح مكة، لكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا). وأما حديث يعلى بن أمية فأخرجه النسائي أيضا من رواية عبد الرحمن بن أمية عن يعلى بن أمية. قال: جئت رسول الله، صلى الله عليه وسلم بأبي أمية، فقلت: يا رسول الله! بايع أبي على الهجرة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة). وأما حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه الأئمة الستة، وهو حديث: الأعمال بالنيات... الحديث. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني بإسناد رجاله ثقات. وأما حديث أبي مالك الأشعري فأخرجه الطبراني أيضا من رواية عطاء الخراساني عن أبي مالك الأشعري: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمرني أن آمركم بخمس كلمات: عليكم بالجهاد والسمع والطاعة والهجرة... الحديث. وأما حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فأخرجه مسلم من رواية عطاء عنها، قالت: سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن الهجرة. فقال: (لا هجرة بعد الفتح). وأما حديث أبي فاطمة، فأخرجه النسائي من رواية كثير بن مرة أن أبا فاطمة حدثه
81

أنه قال: يا رسول الله! حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله). قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها).
4872 حدثنا مسدد قال حدثنا خالد قال حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله ترى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ترى الجهاد أفضل العمل) من حيث أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يرد عليها أفضلية الجهاد من حيث هو جهاد، ولكنه جعل الحج المبرور من أفضل الجهاد، ومع هذا كون الحج أفضل الجهاد في حقهن (لقوله صلى الله عليه وسلم: جهادكن الحج)، وخالد هو ابن عبد الله الطحان، وحبيب ضد
العدو ابن أبي عمرة الأسدي القصاب. والحديث قد مضى في كتاب الحج في: باب فضل الحج المبرور، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الرحمن بن المبارك عن خالد... إلى آخره، والحج المبرور الذي لا إثم فيه، وقد مر الكلام فيه هناك.
5872 حدثنا إسحاق بن منصور قال أخبرنا عفان قال حدثنا همام قال حدثنا محمد بن جحادة قال أخبرني أبو حصين أن ذكوان قال حدثه أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه حدثه قال جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد قال لا أجده قال هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر قال ومن يستطيع ذلك. قال أبو هريرة إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات.
(الحديث مر سابقا).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: إسحاق بن منصور، وكذا وقع منسوبا إلى أبيه في رواية الأصيلي وابن عساكر، وفي رواية الأكثرين غير منسوب، وقال أبو علي الجياني: لم أره منسوبا لأحد، وهو إما إسحاق بن راهويه، وإما إسحاق ابن منصور. الثاني: عفان، بتشديد الفاء: ابن مسلم الصفار الأنصاري. الثالث: همام، بالتشديد: ابن يحيى بن دينار العوذي الأزدي الشيباني. الرابع: محمد بن جحادة، بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة الأيامي، ويقال: الأزدي. الخامس: أبو حصين، بفتح الحاء المهملة وكسر الصاد المهملة: واسمه عثمان بن عاصم الأسدي. السادس: ذكوان، بفتح الذال المعجمة: أبو صالح السمان الزيات. السابع: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه إن كان ابن راهويه فهو مروزي، وإن كان إسحاق ابن منصور فهو مروزي أيضا، وأن عفان وهمام بصريان. وأن عثمان ومحمد بن جحادة كوفيان، وأن ذكوان مدني.
والحديث أخرجه النسائي في الجهاد أيضا عن أبي قدامة السرخسي عن عفان.
ذكر معناه: قوله: (يعدل الجهاد) أي: يساويه ويماثله. قوله: (قال: لا أجده) كلام النبي، صلى الله عليه وسلم، أي: قال: لا أجد عملا يعدل الجهاد. قوله: (قال: هل تستطيع)، كلام مستأنف من النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال مسلم: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعوه، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: لا تستطيعوه، قال في الثالثة: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائل بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله). وحذف النون في: لا تستطيعونه، بغير جازم ولا ناصب لغة قوله: (فتقوم)، بالنصب عطف على: أن تدخل، قوله: (ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر)، كلها منصوبة. قوله: (قال: ومن يستطيع؟) كلام الرجل المذكور. قوله: (ليستن)، أي: ليمرح بنشاط، وأصله من الاستنان، وهو العدو. قال الجوهري: الاستنان أن يرفع رجليه ويطرحهما معا، ويقال: أن يلح في عدوه مقبلا أو مدبرا، ومن جملة الأمثال: استنت الفصال حتى القرعى،
82

يضرب لمن يتشبه بمن هو فوقه. قوله: (في طوله)، بكسر الطاء المهملة وفتح الواو، وهو: الحبل الذي تشد به الدابة. ويمسك طرفه ويرسل في المرعى. قوله: (فيكتب له حسنات) أي: يكتب له الاستنان حسنات، وحسنات منصوب على أنه مفعول ثان، وهذا القدر ذكره أبو حصين عن أبي صالح، موقوفا، وسيأتي في: باب الخيل ثلاثة من طريق زيد بن أسلم مرفوعا.
2
((باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله))
أي: هذا باب يذكر فيه أفضل الناس إلى آخره قوله: (مجاهد) صفة لقوله مؤمن وفي رواية الكشميهني يجاهد بلفظ المضارع.
وقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) * (الصف: 01).
وقوله، بالرفع عطف على قوله: أفضل الناس، لأنه مرفوع بالابتداء وخيره قوله: مؤمن، هاتان آيتان من سورة الصف فيهما إرشاد للمؤمنين إلى طريق المغفرة. قالوا: النداء بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا) * (الصف: 01). للمخلصين، وقيل: عام. قوله: * (هل أدلكم) * (الصف: 01). استفهام في اللفظ إيجاب في المعنى. قوله: * (تنجيكم) * (الصف: 01). أي: تخلصكم وتبعدكم * (من عذاب إليم) * (الصف: 01). قرأ ابن عامر بالتشديد من: التنجية، والباقون بالتخفيف من الإنجاء. قوله: * (تؤمنون) * (الصف: 01). استئناف كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فبين ما هي؟ فقال: تؤمنون، وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله: * (يغفر لكم) * (الصف: 01). قوله: * (وتجاهدون) * (الصف: 01). عطف على: تؤمنون، وإنما جيء على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، كأنها وجدت وحصلت. قوله: * (ذلكم) * (الصف: 01). أي: ما ذكر من الإيمان والجهاد * (خير لكم) * من أموالكم وأنفسكم * (إن كنتم تعلمون) * (الصف: 01). أنه خير لكم. قوله: * (يغفر لكم) * قيل: إنه جواب لقوله: * (هل أدلكم) * (الصف: 01). ووجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، وهي مفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ وعن ابن عباس: أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناها، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون: ليتنا نعلم ما هي؟ فدلهم الله بقوله: تؤمنون، وهذا يدل على أن: تؤمنون، كلام مستأنف. قوله: * (ويدخلكم) * (الصف:
01). عطف على * (يغفر لكم) * (الصف: 01).
6872 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عطاء بن يزيد الليثي أن أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه حدثه قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله قالوا ثم من قال مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره.
(الحديث 6872 طرفه في: 4946).
مطابقته للترجمة في قوله: (مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله).
ورجاله قد تكرر ذكرهم وأبو اليمان الحكم بن نافع الحمصي، وشعيب هو ابن أبي حمزة الحمصي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الرقاق. وأخرجه مسلم في الجهاد عن عبد الله بن عبد الرحمن وعن منصور بن أبي مزاحم وعن عبد بن حميد. وأخرجه أبو داود فيه عن أبي الوليد الطيالسي. وأخرجه الترمذي فيه عن أبي عمار الحسين بن حريث، وأخرجه النسائي فيه عن كثير بن عبيد. وأخرجه ابن ماجة في الفتن عن هشام بن عمار.
قوله: (مؤمن مجاهد) أي: أفضل الناس مؤمن مجاهد، قالوا: هذا عام مخصوص تقديره: هذا من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل، وكذا الصديقون، كما جاءت به الأحاديث، ويدل على ذلك أن في بعض طرق النسائي كحديث أبي سعيد: أن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر فرسه. قوله: (في شعب)، بكسر الشين المعجم وسكون العين المهملة، وفي آخره باء موحدة هو ما انفرج بين الجبلين، وهو خارج على سبيل المثال لا للقيد بنفس الشعب، وإنما
83

المراد العزلة والانفراد عن الناس، ولما كان الشعاب الغالب عليها حلوها عن الناس ذكرت مثلا، وهذا كقوله في الحديث الآخر: وليسعك بيتك.
وفيه: فضل العزلة والانفراد عند خوف الفتن على المخالطة، وأما عند عدم الفتن فقال النووي مذهب الشافعي وأكثر العلماء: أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل. قلت: يدل لقول الجمهور (قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، رواه الترمذي في أبواب الزهد، وابن ماجة.
7872 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالم مع أجر أو غنيمة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
والحديث أخرجه النسائي في الجهاد عن عمرو بن عثمان بن سعيد عن أبيه عن شعيب به.
قوله: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) وقع جملة معترضة يعني: الله أعلم بعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته، فذلك المجاهد في سبيل الله، وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر بها، فقد أشرك مع سبيل الله سبيل الدنيا، وفي (المستدرك) على شرطهما، أي: المؤمن أكمل إيمانا. قال: الذي يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه. قوله: (كمثل الصائم القائم) زاد النسائي من هذا الوجه: الخاشع الراكع الساجد، وفي (الموطأ) وابن حبان: كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع، وفي رواية أحمد والبزار من حديث النعمان بن بشير مرفوعا: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم نهاره القائم ليله، مثله بالصائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب واللذات، وكذلك المجاهد ممسك لنفسه على محاربة العدو وحابس نفسه على من يقاتله. قوله: (وتوكل الله)، أي: ضمن الله بملابسة التوفي الجنة وبملابسة عدم التوفي الرجع بالأجر أو الغنيمة. قال الكرماني: يعني: لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع جواز الاجتماع بينهما فهي قضية مانعة الخلو لا مانعة الجمع، ووقع في رواية مسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي..) وفي رواية لمسلم من طريق الأعرج، عنه بلفظ: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته، وكذلك أخرجه مالك في (الموطأ) عن أبي الزناد). وفي رواية الدارمي من وجه آخر عن أبي الزناد، بلفظ: لا يخرجه إلا الجهاد في سبيل الله وتصديق كلماته، ولفظ: الضمان والتكفل والتوكل والانتداب الذي وقع في الأحاديث كلها بمعنى: تحقيق الوعد على وجه الفضل منه، وعبر، صلى الله عليه وسلم، عن الله سبحانه وتعالى بتفضيله بالثواب بلفظ الضمان ونحوه بما جرت به العادة بين الناس بما تطمئن به النفوس، وتركن إليه القلوب. قوله: (بأن يتوفاه أن يدخله الجنة)، أي: بأن يدخله الجنة، و: أن، في الموضعين مصدرية، تقديره: ضمن الله بتوفيه بدخول الجنة، وفي رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان: إن توفاه، بالشرط والفعل الماضي أخرجه الطبراني. قوله: (أن يدخله الجنة) أي: بغير حساب ولا عذاب، أو، المراد: يدخله الجنة ساعة موته وقال ابن التين: إدخاله الجنة يحتمل أن يدخلها إثر وفاته تخصيصا للشهيد، أو بعد البعث، ويكون فائدة تخصيصه أن ذلك كفارة لجميع خطايا المجاهد، ولا توزن مع حسناته، قوله: (أو يرجعه)، بفتح الياء تقديره: أو أن يرجعه، بالنصب عطفا على أن يتوفاه. قوله: (سالما) حال من الضمير المنصوب في يرجعه. قوله: (مع أجر أو غنيمة)، إنما أدخل، وههنا قيل: لأنه قد يرجع مرة بغنيمة دون أجر، وليس كذلك على ما يجيء الآن، بل أبدا يرجع بالأجر كانت غنيمة أو لم تكن، قاله ابن بطال. وقال ابن التين والقرطبي: إن، أو، هنا بمعنى المواو الجامعة على مذهب الكوفيين، وقد سقطت في أبي داود وفي بعض روايات مسلم، وبه جزم ابن عبد البر، ورجحه التوربشتي شارح (المصابيح) والتقدير: أو يرجعه بأجر وغنيمة، وكذا وقع عند النسائي من طريق الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة، بالواو أيضا، وذهب بعضهم إلى أن: أو، على
بابها وليست بمعنى: الواو، أي: أجر لمن لم يغنم أو غنيمة ولا أجر، وهذا ليس بصحيح لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: (ما من غازية تغزو في سبيل الله
84

فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الأجرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم). فبهذا يدل على أنه لا يرجع أصلا بدون الأجر، ولكنه ينقص عند الغنيمة. فإن قلت: ضعف هذا الحديث لأن فيه حميد بن هانىء وهو غير مشهور. قلت: هذا كلام لا يلتفت إليه لأنه ثقة محتج به عند مسلم، وقد وثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد.
3
((باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء))
أي: هذا باب في بيان الدعاء بالجهاد بأن يقول: اللهم ارزقني الجهاد، أو اللهم اجعلني من المجاهدين. قوله: (والشهادة)، أي: الدعاء بالشهادة، بأن يقول: اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك. قوله: (للرجال والنساء)، متعلق بالدعاء، وأشار به إلى أن هذا غير مخصوص بالرجال، وإنما هم والنساء في ذلك سواء.
وقال عمر ارزقني شهادة في بلد رسولك
هذا التعليق مطابق للدعاء بالشهادة في الترجمة، وقد مضى هذا موصولا في آخر الحج بأتم منه، رواه عن يحيى ابن بكير عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر، رضي الله تعالى عنه، اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك. وأخرجه ابن سعد في (الطبقات الكبير) عن حفصة، رضي الله تعالى عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت أباها يقول: اللهم ارزقني قتلا في سبيلك، ووفاة في بلدة نبيك، قالت: قلت: وأنى ذاك؟ قال: إن الله يأتي بأمره أنى شاء.
9872 حدثنا عبد الله بن يوسف عن مالك عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سمعه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلي رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة شك إسحاق قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فدع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك فقلت وما يضحكك يا رسول الله قال ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله كما قال في الأول قالت فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
..
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن الحديث ليس فيه تمني الشهادة، وإنما فيه تمني الغزو. وأجيب: بأن الثمرة العظمى من الغزو هي الشهادة، وقيل: حاصل الدعاء بالشهادة أن يدعو الله أن يمكن منه كافرا يعصى الله فيقتله، واعترض بأن تمني معصية الله لا تجوز إلا له ولا لغيره، ووجه بعضهم بأن القصد من الدعاء نيل الدرجة المرفوعة المعدة. للشهداء، وأما قتل الكافر فليس مقصود الداعي، وإنما هو من ضروريات الوجود، لأن الله تعالى أجرى حكمه أن لا ينال تلك الدرجة إلا شهيد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الرؤيا عن عبد الله بن يوسف أيضا وفي الاستئذان عن إسماعيل. وأخرجه مسلم أيضا في الجهاد عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، وأخرجه
85

الترمذي فيه عن إسحاق بن موسى عن معن، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن عبد الرحمن بن القاسم ستتهم عن مالك به، وقال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج الترمذي أيضا هذا الحديث من مسند أم حرام من رواية عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة عن أنس عن أم حرم، وقد اختلف فيه على أنس فقيل: عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم وقيل: عن أنس عن أم حرام، واختلف فيه أيضا على أبي طوالة، فقال زائدة بن قدامة: عن أبي طوالة عن أنس عن أم حرام عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال إسماعيل بن جعفر: عن أبي طوالة عن أنس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو داود من رواية عطاء بن يسار عن أخت أم سليم الرميصاء قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم ذكر معناه، والحاصل أن الأئمة الستة، ما خلا الترمذي، أخرجوا هذا الحديث عن أم حرام من رواية محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك عن أم حرام، وهي خالة أنس، قالت: أتانا النبي، صلى الله عليه وسلم يوما... الحديث.
ذكر معناه: قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام)، حرام ضد حلال بنت ملحان، بكسر الميم وسكون اللام وبالحاء المهملة وفي آخره نون: ابن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، زوج عبادة بن الصامت وأخت أم سليم، وخالة أنس بن مالك، وقال أبو عمر: ولا أقف لها على اسم صحيح، وأظنها أرضعت النبي، صلى الله عليه وسلم وأم سليم أرضعته أيضا، إذ لا يشك مسلم أنها كانت منه بمحرم، وقد أنبأنا غير واحد من شيوخنا عن أبي محمد بن فطيس عن يحيى بن إبراهيم بن مزبن قال: إنما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفلي أم حرام رأسه لأنها كانت منه ذات محرم من قبل خالاته، لأن أم عبد المطلب كانت من بني النجار، وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لنا وهب: أم حرام إحدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، قال أبو عمر: فأي ذلك كان فأم حرم محرم منه. وقال ابن بطال: قال غيره: إنما كانت خالة لأبيه أو لجده، وذكر ابن العربي عن بعض العلماء أن هذا مخصوص بسيدنا رسول الله،
صلى الله عليه وسلم أو يحمل دخوله عليها: أنه كان قبل الحجاب، إلا أن قوله: تفلي رأسه، يضعف هذا. وزعم ابن الجوزي أنه سمع بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة من الرضاعة وقال الحافظ الدمياطي: ليس في الحديث ما يدل على الخلوة بها، فلعل ذاك كان مع ولد أو خادم أو زوج أو تابع، والعادة تقتضي المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم، سيما إذا كن مسنات، مع ما ثبت له عليه صلى الله عليه وسلم من العصمة، ولعل هذا كان قبل الحجاب، لأنه كان في سنة خمس، وقتل أخيها حرام الذي كان رحمها لأجله كان سنة أربع. وقال أبو عمر: حرام ابن ملحان قتل يوم بئر معونة، قتله عامر بن الطفيل. قوله: (تحت عبادة بن الصامت) أي: كانت امرأته، والصامت ابن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن الخزرج الأنصاري السالمي، يكنى: أبا الوليد، قال الأوزاعي: أول من ولي قضاء فلسطين عبادة بن الصامت، مات عبادة سنة أربع وثلاثين بالرملة، وقيل: ببيت المقدس، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. قوله: (تفلي رأسه)، بفتح التاء وإسكان الفاء وكسر اللام، يعني: تفتش القمل من رأسه وتقتله، من: فلى يفلي من باب ضرب يضرب، فليا مصدرة، والفلي أخذ القمل من الرأس. قوله: (وهو يضحك)، جملة وقعت حالا، وكذا قوله: (غزاة)، وهو جمع غازي، كقضاة جمع قاضي. قوله: (ثبج هذا البحر)، بفتح الثاء المثلثة والباء الموحدة بعدها جيم، قال الخطابي: ثبج البحر: متنه ومعظمه، وثبج كل شيء وسطه، وقيل: ثبج البحر ظهره، يوضحه بعض ما جاء في الروايات: يركبون ظهر هذا البحر، وقيل: ثبج البحر: هوله، والثبج ما بين الكتفين. قوله: (ملوكا)، نصب بنزع الخافض أي: مثل ملوك على الأسرة، وهو جمع سرير، قال أبو عمر: أراد أنه رأى الغزاة في البحر على الأسرة في الجنة، ورؤيا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وحي يشهد له قوله تعالى: * (على الأرائك متكئون) * (ي
1764; س: 65). وبه جزم ابن بطال حيث قال: إنما رآهم ملوكا على الأسرة في الجنة في رؤياه، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون خبرا عن حالهم في غزوهم أيضا. قوله: * (شك إسحاق) *، وهو إسحاق بن عبد الله الراوي عن أنس. قوله: (ثم وضع رأسه ثم استيقظ)، قيل: رؤياه الثانية كانت في شهداء البر، فوصف حال البر والبحر بأنهم ملوك على الأسرة، حكاه ابن التين وغيره، وقيل: يحتمل أن يكون حالتهم في الدنيا كالملوك على الأسرة، ولا يبالون بأحد. قوله: (أنت من الأولين)، خطاب لأم حرام، وأراد بالأولين: هم الذين عرضوا أولا، وهم الذين يركبون ثبج البحر. قوله: (في زمن معاوية بن أبي سفيان)، وكانت غزت مع زوجها في أول غزوة كانت إلى الروم في البحر مع معاوية زمن عثمان بن عفان
86

سنة ثمان وعشرين، وقال ابن زيد: سنة سبع وعشرين، وقيل: بل كان ذلك في خلافة معاوية على ظاهره، والأول أشهر، وهو ما ذكره أهل السير، وفيه: هلكت، وقال الكرماني، رحمه الله تعالى، واختلفوا في أنه متى جرت الغزوة التي توفيت فيها أم حرام؟ فقال البخاري ومسلم: في زمن معاوية، وقال القاضي: أكثر أهل السير أن ذلك كان في خلافة عثمان، رضي الله تعالى عنه، فعلى هذا يكون معنى قولها: في زمن معاوية، زمان، غزوة معاوية في البحر، لا زمان خلافته، وقال ابن عبد البر: إن معاوية غزا تلك الغزوة بنفسه. انتهى. قلت: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، قد منع المسلمين من الغزو في البحر شفقة عليهم، واستأذنه معاوية في ذلك فلم يأذن له، فلما ولي عثمان، رضي الله تعالى عنه، استأذنه فأذن له. وقال: لا تكره أحدا، من غزاه طائعا فاحمله، فسار في جماعة من الصحابة منهم أبو ذر وعبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام بنت ملحان وشداد بن أوس وأبو الدرداء في آخرين، وهو أول من غزا الجزائر في البحر، وصالحه أهل قبرس على مال، والأصح أنها فتحت عنوة، ولما أرادوا الخروج منها قدمت لأم حرام بغلة لتركبها فسقطت عنها، فماتت. هنالك، فقبرها هنالك يعظمونه ويستسقون به، ويقولون: قبر المرأة الصالحة. قوله: (حين خرجت من البحر)، أراد به حين خروجها من البحر إلى ناحية الجزيرة، لأنها دفنت هناك.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز دخول الرجل على محرمه وملامسته إياها والخلوة بها، والنوم عندها. وفيه: إباحة ما قدمته المرأة إلى ضيفها من مال زوجها، لأن الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، قال ابن بطال: ومن المعلوم أن عبادة وكل المسلمين يسرهم وجود سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بيته، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك من مال زوجها لعلمه أنه كان يسر بذلك، ويحتمل أن يكون من مالها، واعترضه القرطبي فقال: حين دخوله صلى الله عليه وسلم على أم حرام لم تكن زوجا لعبادة، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، إنما تزوجته بعد ذلك بمدة، كما جاء في رواية عند مسلم: فتزوجها عبادة بعد. وفيه: جواز فلي الرأس وقتل القمل، ويقال قتل القمل وغيره من المؤذيات مستحب. وفيه: نوم القائلة، لأنه يعين البدن لقيام الليل. وفيه: جواز الضحك عند الفرح، لأنه صلى الله عليه وسلم ضحك فرحا وسرورا بكون أمته تبقى بعده متظاهرين، وأمور الإسلام قائمة بالجهاد حتى في البحر. وفيه: دلالة على ركوب البحر للغزو، وقال سعيد بن المسيب: كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم يتجرون في البحر، منهم: طلحة وسعيد بن زيد، وهو قول جمهور العلماء إلا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنهما، فإنهما منعا من ركوبه مطلقا. ومنهم من حمله على ركوبه لطلب الدنيا لا للآخرة، وكره مالك ركوبه للنساء مطلقا، لما يخاف عليهن من أن يطلع منهن أم يطلعن على عورة، وخصه بعضهم بالسفن الصغار دون الكبار، والحديث يخدش فيه. فإن قلت: روى أبو داود من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لا يركب البحر إلا حاجا أو معتمرا أو غازيا، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا). قلت: هذا حديث ضعيف، ولما رواه الخلال في (علله) من حديث ليث عن مجاهد عن عبد الله بن عمر يرفعه، قال: قال ابن معين: هذا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، منكر. وفيه: إباحة الجهاد للنساء في البحر، وقد ترجم البخاري لذلك، على ما سيأتي. وفيه: أن الوكيل أو المؤتمن إذا علم أنه يسر صاحب المنزل فيما يفعله في ماله جاز له فعل ذلك، واختلف العلماء في عطية المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وقد مر هذا في الوكالة. وفيه: أن الجهاد تحت راية كل إمام جائز ماض إلى يوم القيامة. وفيه: تمني الغزو والشهادة حيث قالت أم حرام: أدع الله أن يجعلني منهم. وفيه: أنه من أعلام نبوته وذلك أنه أخبر فيه بضروب الغيب قبل وقوعها، منها: جهاد أمته في البحر، وضحكه دال على أن الله تعالى يفتح لهم ويغنمهم. ومنها الإخبار بصفة أحوالهم في جهادهم، وهو قوله: (يركبون ثبج هذا البحر)، ومنها قوله لأم حرام: أنت من الأولين، فكان كذلك.
ومنها: الإخبار ببقاء أمته من بعده، وأن يكون لهم شوكة، وأن أم حرام تبقى إلى ذلك الوقت، وكل ذلك لا يعلم إلا بوحي علي أوحي به إليه في نومه. وفيه: أن رؤيا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، حق. وفيه: الضحك المبشر إذا بشر بما يسر، كما فعل الشارع. قال المهلب: وفيه: فضل لمعاوية وأن الله قد بشر به نبيه صلى الله عليه وسلم في النوم، لأنه أول من غزا في البحر وجعل من غزا تحت رايته من الأولين. وفيه: أن الموت في سبيل الله شهادة، وقال ابن أبي (شيبة): حدثنا يزيد
87

ابن هارون حدثنا أنس بن عون عن ابن سيرين عن أبي العجفاء السلمي، قال: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: قال محمد صلى الله عليه وسلم من قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة. وفيه: دلالة على أن من مات في طريق الجهاد من غير مباشرة ومشاهدة، له من الأجر مثل ما للمباشر، وكانت النساء إذا غزون يسقين الماء ويداوين الكلمى ويصنعن لهم طعامهم وما يصلحهم، فهذه مباشرة. وفيه: أن الموت في سبيل الله والقتل سواء، أو قريبا من السواء في الفضل، قاله أبو عمر، قال: وإنما قلت: أو قريبا من السواء، لاختلاف الناس في ذلك، فمن أهل العلم من جعل الميت في سبيل الله والمقتول سواء، واحتج بقوله تعالى: * (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا) * (الحج: 85). وبقوله: * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * (النساء: 001). وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عتيك: (من خرج مجاهدا في سبيل الله فخر عن دابته أو لدغته حية أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله) وفي مسلم عن أبي هريرة، يرفعه: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، وروى أبو داود من حديث بقية عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن ابن غنم عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه، على أي حتف شاء الله، فهو شهيد، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، وذكر الحلواني في (كتاب المعرفة)، فقال: حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عبد الملك بن عمير، قال علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه: من حبسه السلطان، وهو ظالم له، ومات في محبسه ذلك فهو شهيد، ومن ضربه السلطان ظالما فمات من ضربه ذلك فهو شهيد، وكل موت يموت به المسلم فهو شهيد، غير أن الشهادة تتفاضل. وروى الحاكم من حديث كعب بن عجرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر يوم بدر، ورأى قتيلا: يا عمر! إن للشهداء سادة وأشرافا وملوكا، وإن هذا منهم. واختلفوا في شهيد البحر: أهو أفضل أم شهيد البر؟ فقال قوم: شهيد البر، وقال قوم: شهيد البحر، قال أبو عمر: ولا خلاف بين أهل العلم أن البحر إذا ارتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجه، في حين ارتجاجه، والذين رجحوا: شهيد البحر، احتجوا بما رواه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد عن الحسن ابن الصباح، حدثنا يحيى بن عباد حدثنا يحيى بن عبد العزيز عن عبد العزيز بن يحيى حدثنا سعيد بن صفوان عن عبد الله ابن المغيرة بن عبد الله بن أبي بردة: سمعت عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهادة تكفر كل شيء إلا الدين، والغزو في البحر يكفر ذلك كله. ومن حديث عبد الله بن صالح عن يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن يسار عن ابن عمرو مرفوعا: غزوة في البحر خير من عشر غزوات في البر، وروى أبو داود من حديث يعلى بن شداد عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المائدة في البحر الذي يصيبه القيء وله أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين. وروى ابن ماجة من حديث أبي الدرداء أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: غزوة في البحر مثل عشر غزوات في البر، والذي يسدر في البحر كالمتشحط في دمه في سبيل الله. وروى ابن ماجة أيضا من حديث سليم بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: شهيد البحر مثل شهيدين في البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدينا في طاعة الله تعالى، فإن الله وكل ملك لموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدين. قوله: المائد هو الذي يدار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج. قوله: (الغرق)، بكسر الراء: الذي يموت بالغرق، وقيل: هو الذي غلبه الماء ولم يغرق: فإذا غرق فهو غريق. قوله: (الغرق)، بكسر الراء: الذي يموت بالغرق، وقيل: هو الذي غلبه الماء ولم يغرق: فإذا غرق فهو غريق. قوله: (والذي يسدر)، من السدر، بالتحريك: كالدوار، وكثيرا ما يعرض لراكب البحر، يقال: سدر يسدر سدرا. قوله: (كالمتشحط في دمه)، وهو الذي يتمرغ ويضطرب ويتخبط في دمه.
4
((باب درجات المجاهدين في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان درجات المجاهدين في سبيل الله، والمجاهد في سبيل الله هو الذي يجاهد لإعلاء كلمة الله ونصرة الدين من غير التفات إلى الدنيا.
88

يقال هذه سبيلي وهاذا سبيلي
غرضه من هذا أن السبيل يذكر ويؤنث، وبذلك جزم القراء في قوله تعالى: * (ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) * (لقمان: 6). والضمير يعود إلى آيات القرآن، وإن شئت جعلته للسبيل لأنها قد تؤنث. قال الله تعالى: * (قل هذه سبيلي) * (يوسف: 801). وفي قراءة أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه: * (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوها سبيلا) * (الأعراف: 641). وقال ابن سيده: السبيل الطريق وما وضح منه، وسبيل الله طريق الهدى الذي دعا إليه، ويجمع على: سبل.
قال أبو عبد الله غزا واحدها غاز هم درجات لهم درجات
هذا وقع في رواية المستملي، وأبو عبد الله هو البخاري. قوله: (غزى)، بضم الغين وتشديد الزاي جمع غاز أصله غزى، كسبق جمع سابق، وجاء مثل: حاج وحجيج، وقاطن وقطين، وغزاء مثل فاسق وفساق. قوله: (هم درجات لهم درجات)، فسر قوله: هم درجات، بقوله: لهم درجات أي: لهم منازل، وقيل: تقديره ذووا درجات.
0972 حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها فقالوا يا رسول الله أفلا نبشر الناس قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلاى الجنة أراه قال وفوقه عرش الرحمان تفجر أنهار الجنة.
(الحديث 0972 طرفه في: 3247).
مطابقته للترجمة في قوله: (إن في الجنة مائة درجة) إلى قوله: (ما بين الدرجتين).
ويحيى بن صالح الوحاظي أبو زكرياء الشامي الدمشقي، ويقال: الحمصي، وهو من جملة الأئمة الحنفية أصحاب الإمام أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، وفليح، بضم الفاء وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة: ابن سليمان، وكان اسمه عبد الملك ولقبه فليح فغلب عليه واشتهر به، وهلال بن علي هو هلال بن أبي ميمونة، ويقال: هلال بن أبي هلال الفهري المدني، وعطاء بن يسار ضد اليمين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه به. وأخرجه الترمذي فقال: حدثنا قتيبة وأحمد بن عبدة الضبي، قالا: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وصلى الصلوات وحج البيت لا أدري أذكر الزكاة أم لا إلا كان حقا على الله أن يغفر له إن هاجر في سبيل الله أو مكث بأرضه التي ولد بها، قال معاذ: ألا أخبر بها الناس؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها، وفوق ذلك عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. قوله: (عن عطاء بن يسار) كذا وقع في رواية الأكثرين، وقال أبو عامر العقدي: عن فليح عن هلال عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، بدل: عطاء بن يسار، أخرجه أحمد وإسحاق في (مسنديهما) عنه، وهو وهم من فليح في حال تحديثه لأبي عامر، وعند فليح بهذا الإسناد حديث غير هذا، وهو في الباب الذي يليه حيث قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، الحديث على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأقام الصلاة وصام رمضان)، وقال ابن بطال: هذا الحديث كان قبل فرض الزكاة والحج، فلذلك لم يذكر فيه. وقال صاحب (التلويح): وفيه نظر من حيث إن الزكاة فرضت قبل خيبر، وهذا رواه أبو هريرة، ولم يأت للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا بخيبر. وقال الكرماني: لعل الزكاة والحج لم يكونا واجبين في ذلك الوقت، أو على التسامح. انتهى. قلت: هذا أيضا تبع ابن بطال، وقد ثبت
89

الحج في الترمذي في حديث معاذ بن جبل، وقال فيه: لا أدري أذكر الزكاة أم لا. قوله: أو على التسامح، يمكن أن يكون جوابا لعدم ذكر الزكاة والحج، لأن الزكاة لا تجب إلا على الغني بشرطه، والحج يجب في العمر مرة على التراخي. قوله: (كان حقا على الله) قال الكرماني: أي كالحق. قلت: معناه حق بطريق الفضل والكرم لا بطريق الوجوب. قوله: (أو جلس في أرضه)، وفي بعض النسخ: أو جلس في بيته، فيه تأنيس لمن حرم الجهاد في سبيل الله، فإن له من الإيمان بالله والتزام الفرائض ما يوصله إلى الجنة لأنها هي غاية الطالبين، ومن أجلها بذل النفوس في الجهاد خلافا لما يقوله بعض جهلة المتصوفة. وفي (صحيح مسلم) من حديث أنس يرفعه: (من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه)، وعند الحاكم (من سأل القتل صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد)، وعند النسائي بسند جيد عن معاذ يرفعه: من سأل الله من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد). قوله: (قالوا: يا رسول الله) قيل: الذي خاطبه بذلك معاذ بن جبل، كما في حديث الترمذي الذي مضى، أو أبو الدرداء، كما وقع عند الطبراني. قوله: (إن في الجنة مائة درجة)، قال الكرماني: قيل: لما سوى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين الجهاد في سبيل الله وعدمه في دخول الجنة، ورأى استبشار السامع بذلك لسقوط مشاق الجهاد عنه استدرك. بقوله: (إن في الجنة مائة درجة)، كذا وكذا، وأما الجواب فهو من الأسلوب الحكيم أي: بشرهم بدخول الجنة بالإيمان، ولا تكتف بذلك، بل زد عليها بشارة أخرى، وهو الفوز بدرجات الشهداء، وبل بشرهم أيضا بالفردوس. قلت: قوله: وأما الجواب... إلى آخره، من كلام الطيبي، واعترض عليه بعضهم بقوله: لو لم يرد الحديث إلا كما وقع هنا لكان ما قال متجها، لكن وردت في الحديث زيادة دلت على أن قوله: في الجنة مائة درجة، تعليل لترك البشارة المذكورة، فعند الترمذي من رواية معاذ المذكورة، قلت: يا رسول الله ألا أخبر الناس، قال: ذر الناس يعملون فإن في الجنة مائة درجة)، فظهر أن المراد: لا تبشر الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك، ولا يتجاوزه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد، وهذه هي النكتة في قوله: (أعدها للمجاهدين). انتهى. قلت: كلام الطيبي متجه، والاعتراض عليه غير وارد أصلا، لأن قوله: لكن وردت في الحديث زيادة... إلى آخره، غير مسلم لأن الزيادة المذكورة في حديث معاذ بن جبل وكلام الطيبي وغيره في حديث أبي هريرة، وكل واحد من الحديثين مستقل بذاته، والراوي مختلف فكيف يكون ما في حديث معاذ تعليلا لما في حديث أبي هريرة، على أن حديث معاذ هذا لا يعادل حديث أبي هريرة ولا يدانيه، فإن عطاء بن يسار لم يدرك معاذا، قال الترمذي: عطاء لم يدرك معاذ بن جبل، معاذ قديم الموت، مات في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه. قوله: (كما بين السماء والأرض)، وفي رواية الترمذي من رواية شريك عن محمد بن جحادة عن عطاء عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام. وقال: هذا حديث حسن غريب، وفي رواية الطبراني من هذا الوجه: خمسمائة عام، وروى الترمذي، قال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة مائة درجة لو
أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم. قال: هذا حديث غريب. قوله: (الفردوس)، قيل: هو البستان الذي يجمع ما في البساتين كلها من شجر وزهر ونبات. وقيل: هو متنزه أهل الجنة. وفي الترمذي: هو ربوة الجنة. وقيل: الذي فيه العنب، يقال: كرم مفردس، أي: معرش، وقيل: هو البستان بالرومية، فنقل إلى العربية، وهو مذكر وإنما أنث في قوله تعالى: * (يرثون الفردوس هم فيها خالدون) * (المؤمنون: 11). قال الجواليقي عن أهل اللغة: وقال الزجاج: الفردوس الأودية التي تنبت ضروبا من النبات وهو لفظ سرياني، وقيل: أصله بالنبطية فرداسا وقيل: الفردوس يعد بابا من أبواب الجنة. قوله: (أوسط الجنة)، أي: أفضلها كما في قوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 341). أي: خيارا. وقال ابن بطال: يحتمل أن يريد متوسط الجنة، والجنة قد حفت بها من كل جهة. قوله: (وأعلى الجنة) يعني: أرفعها، لأن الله مدح الجنان إذا كانت في علو، وقال: * (كمثل جنة بربوة) * (البقرة: 562). وقال ابن حبان: المراد بالأوسط السعة، وبالأعلى الفوقية، وقيل: الحكمة في الجمع بين الأعلى والأوسط أنه أراد بأحدهما الحسي وبالآخر المعنوي. وقال بعضهم: المراد بالأوسط هنا الأعدل، والأفضل كقوله تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 341). فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد. انتهى. قلت: سبحان الله، هذا كلام عجيب، وليت شعري هل أراد بالتأكيد التأكيد اللفظي أو التأكيد المعنوي، ولا يصح أن يراد أحدهما على المتأمل. قوله:
90

(أراه)، بضم الهمزة أي: أظنه، وهذا من كلام يحيى بن صالح شيخ البخاري، فيه وقد رواه غيره: عن فليح بغير شك منهم: يونس بن محمد عند الإسماعيلي وغيره. قوله: (ومنه) أي: من الفردوس، وقد وهم من أعاد الضمير إلى العرش. قوله: (تفجر) أصله: تتفجر بتاءين فحذفت إحداهما، أي: تتشقق.
قال محمد بن فليح عن أبيه وفوقه عرش الرحمان
أشار بهذا التعليق إلى أن محمد بن فليح روى هذا الحديث عن أبيه فليح بإسناده هذا، فلم يشك كما شك يحيى بن صالح، بقوله: أراه فوقه عرش الرحمن، وهذا التعليق وصله البخاري في التوحيد عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن أبيه، وقال الجياني في نسخة أبي الحسن القابسي: قال البخاري حدثنا محمد بن فليح وهو وهم لأن البخاري لم يدرك محمدا هذا إنما يروي عن أبي المنذر ومحمد بن بشار عنه، والصواب: قال محمد بن فليح معلق كما روته الجماعة.
1972 حدثنا موساى قال حدثنا جرير قال حدثنا أبو رجاء عن سمرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل لم أر قط أحسن منها قالا أما هذه الدار فدار الشهداء.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (هي أحسن وأفضل...) إلى آخره، و موسى هو ابن إسماعيل، و جرير، بفتح الجيم: هو ابن حازم، و أبو رجاء اسمه عمران بن ملحان العطاردي البصري أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وعمر أكثر من مائة وعشرين سنة، مات سنة خمس ومائة، وهذا الحديث قد مضى في كتاب الجنائز في: باب ما قيل في أولاد المشركين، مطولا بعين هذا الإسناد، وقد مضى الكلام فيه هناك.
5
((باب الغدوة والروحة في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل الغدوة، وهي من طلوع الشمس إلى الزوال، وهي بالفتح: المرة الواحدة من الغد، وهو الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه، والروحة من الزوال إلى الليل، وهو بالفتح. المرة الواحدة من الرواح، وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. قوله: (في سبيل الله)، وهو الجهاد.
وقاب قوس أحدكم من الجنة
وقاب، بالجر عطفا على الغدوة المجرور بالإضافة تقديره: وفي بيان فضل قدر قوس أحدكم في الجنة. قال صاحب (العين): قاب القوس قدر طولها، وقال الخطابي: هو ما بين السية والمقبض، وعن مجاهد: قدر ذراع، والقوس الذراع: بلغة أزدشنة، وقيل: القوس ذراع يقاس به. وقال الداودي: قاب القوس، ما بين الوتر والقوس، وفي (المخصص): القوس أنثى وتصغر بغير هاء، والجمع: أقواس، وقياس وقسي وقسى، ويقال: لكل قوس قابان، ويقال: الأشهر أن ألقاب قدر، وكذلك: القيب والقاد، والقيد، وعين ألقاب: واو.
2972 حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب قال حدثنا حميد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، ووهيب تصغير وهب هو ابن خالد البصري، وحميد، بضم الحاء: هو الطويل.
والحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه. وأخرجه ابن ماجة عن نصر بن علي ومحمد بن المثنى، كلاهما عن عبد الوهاب الثقفي عن حميد. وأخرجه مسلم عن القعنبي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس. وأخرجه الترمذي من رواية مقسم عن ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. وقال: هذا حديث حسن غريب. قلت: انفرد بإخراجه الترمذي. وأخرج مسلم والنسائي من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي، واسمه: عبد الله بن
91

يزيد، قال: سمعت أبا أيوب، رضي الله تعالى عنه، يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: غدوة في سبيل الله، أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس
وغربت. وأخرج البزار وأبو يعلى الموصلي في (مسنديهما) من رواية عمرو بن صفوان عن عروة بن الزبير عن أبيه قال قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها. وقال الذهبي: صفوان بن عمرو لا يعرف، وأخرج البزار في (مسنده) من رواية الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال... فذكره، وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف. وأخرجه أحمد في (مسنده) والطبراني في (الكبير) من حديث أبي أمامة، رضي الله تعالى عنه، مطولا، وفيه: والذي نفسي بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة. وإسناده ضعيف.
قوله: (لغدوة) مبتدأ تخصص بالصفة وهو قوله: (في سبيل الله)، والتقدير: لغدوة كائنة في سبيل الله. قوله: (أو روحة)، عطف عليه، وكلمة: أو، للتقسيم لا للشك. قوله: (خير)، خبر المبتدأ واللام في: لغدوة، لام التأكيد. وقال بعضهم: للقسم، وفيه نظر. وقال المهلب: معنى قوله: (خير من الدنيا) أن ثواب هذا الزمن القليل في الجنة خير من الدنيا كلها، وكذا قوله: لقاب قوس أحدكم، أي: موضع سوط في الجنة، يريد ما صغر في الجنة من المواضع كلها من بساتينها وأرضها، فأخبر أن قصير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا تزهيدا وتصغيرا لها وترغيبا في الجهاد إذا بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب فيه نفسه وأنفق ماله. وقال غيره: معنى (خير من الدنيا...) ثواب ذلك في الجنة خير من الدنيا، وقيل: خير من أن يتصدق بما في الدنيا إذا ملكها، وقيل: إذا ملك ما في الدنيا وأنفقها في وجوه البر والطاعة غير الجهاد، وقال القرطبي: أي الثواب الحاصل على مشية واحدة في الجهاد خير لصاحبه من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا حتى بكل غدوة أو روجة في طريقه إلى الغد، وقال النووي: وكذا غدوة ورواحه في موضع القتال، لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله.
3972 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا محمد بن فليح قال حدثني أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمان بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقاب قوس في الجنة خير مما تطله عليه الشمس وتغرب. وقال لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب.
.
مطابقته للجزء الأول من الترجمة في قوله: (لغدوة أو روحة في سبيل الله) وللجزء الثاني في قوله: (لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب)، ومضى الكلام في محمد بن فليح وأبيه هلال بن علي عن قريب في الباب السابق، و عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري النجاري قاضي أهل المدينة، واسم أبي عمرة: عمرو بن محصن، ورجال هذا الإسناد كلهم مدنيون.
قوله: (لقاب قوس)، مبتدأ. قوله: (في الجنة) صفة قوس. وقوله: (خير) خبر المبتدأ، واللام في: لقاب، للتأكيد، وكذلك في: لغدوة. قوله: (خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب)، هو معنى قوله: خير من الدنيا وما فيها، وهذا منه، صلى الله عليه وسلم، إنما هو على ما استقر في النفوس من تعظيم ملك الدنيا، وأما التحقيق: فلا تدخل الجنة مع الدنيا تحت أفعل إلا كما يقال: العسل أحلى من الخل.
4972 حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها.
(الحديث 3972 طرفه في: 3523).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقبيصة، بفتح القاف وكسر الباء الموحدة: ابن عقبة، وقد تكرر ذكره، وسفيان هو الثوري، وأبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي واسمه: سلمة بن دينار المدني، وأبو حازم الذي روى عن أبي هريرة: سلمان الكوفي.
والحديث أخرجه مسلم في الجهاد أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب. وأخرجه النسائي عن عبدة بن عبد الله
92

وأخرجه ابن ماجة من رواية زكرياء بن منصور عن أبي حازم.
قوله: (الروحة والغدوة)، وفي رواية مسلم: غدوة أو روحة، وفي رواية الطبراني من طريق أبي غسان عن أبي حازم: لروحة، بلام التأكيد قيل: الأفضل هو الأكثر ثوابا، فما معناه ههنا إذ لا ثواب في الدنيا؟ وأجيب: أي: أفضل من صرف ما في الدنيا كلها لو ملكها إنسان، لأنه زائل ونعيم الآخرة باق.
6
((باب الحور العين وصفتهن يحار فيها الطرف شديدة سواد العين شديدة بياض العين وزوجناهم أنكحناهم))
أي: هذا باب في بيان الحور العين وبيان صفتهن، ووقع في رواية أبي ذر: الحور العين، بغير لفظ: باب، فعلى هذا يكون الحور مرفوع بأنه مبتدأ خبره محذوف، تقديره: الحور العين وصفتهن ما نذكره، والعين: مرفوع أيضا على الوصفية. وقوله: (وصفتهن) أيضا مرفوع عطف على الحور، والحور بضم الحاء جمع الحوراء، وقال ابن سيده: الحور: أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها. وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حولها وقيل: الحور شدة سواد المقلة في شدة بياضها في شدة بياض الجسد، وقيل: الحور أن تسود العين كلها مثل الظباء والبقر، وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء: حور العيون لأنهن يشبهن بالظباء والبقر، وقال كراع: الحور أن يكون البياض محدقا بالسواد كله، وإنما يكون هذا في البقر والظباء ثم يستعار للناس. وقال الأصمعي: لا أدري ما الحور في العين، وقد حور حورا وأحور، وهو أحور، وامرأة حوراء، وعين حوراء، والجمع حور، والأعراب تسمي نساء الأمصار: حواريات، لبياضهن وتباعدهن عن قشف
الأعرابيات بنظافتهن. قوله: (العين)، بكسر العين وسكون الياء: جمع عيناء، وهي: الواسعة العين، والرجل أعين، وأصل الجمع بضم العين فكسرت لأجل الياء. قوله: (وصفتهن)، يأتي بيان بعض صفتهن في آخر حديث الباب. فإن قلت: ما وجه إدخال هذا الباب بين هذه الأبواب المذكورة هنا؟ قلت: لما ذكر درجات المجاهدين وذكر أن في الجنة مائة درجة، وذكر أيضا أن فيها امرأة لو اطلعت... إلى آخره، وهي من الحور العين، ترجم لها بابا بطريق الاستطراد. قوله: (يحار فيها الطرف)، كلام مستأنف، كأن قائلا يقول: ما من صفتهن؟ فقال: يحار فيها الطرف، أي: يتحير فيهن البصر لحسنها، وفي (المغرب): الطرف تحريك الجفن بالنظر، وقال الزمخشري: الطرف لا يثنى ولا يجمع لأنه في الأصل مصدر، وقيل: ظن البخاري أن اشتقاق الحور من الحيرة، حيث قال: يحار فيها الطرف، لأن أصله: يحير، نقلت حركة الياء إلى ما قبلها، ثم قلبت ألفا ومادته يائية، والحور من الحور ومادته واوية، وقال بعضهم: لعل البخاري لم يرد الاشتقاق الأصغر. قلت: لم يقل أحد الاشتقاق الأصغر، وإنما قالوا: الاشتقاق على ثلاثة أنواع: اشتقاق صغير، واشتقاق كبير، واشتقاق أكبر، ولا يصح أن يكون الحور مشتقا من الحيرة على نوع من الأنواع الثلاثة، ولا يخفى ذلك على من له بعض يد من علم الصرف. قوله: (شديدة سواد العين)، تفسير العين بالكسر في قوله: بالكسر في قوله: الحورالعين، وكذلك قوله: (شديدة بياض العين) والعين فيهما بالفتح. قوله: (وزوجناهم: أنكحناهم) أشار بهذا إلى قوله تعالى في سورة الدخن: * (كذلك وزوجناهم بحور عين) * (الدخان: 45). مناسبة للترجمة لأنها في الحور العين أي كما أكرمناهم بجنات وعيون ولباس كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم بحور عين وتفسيره بقوله: (أنكحناهم)، قول أبي عبيدة، وفي لفظ له: (زوجناهم: جعلناهم أزواجا) أي: اثنين اثنين، كما تقول: زوجت النعل بالنعل.
5972 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و قال حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى.
(الحديث 5972 طرفه في: 7182).
6972 قال وسمعت أنس بن مالك عن
93

النبي صلى الله عليه وسلم لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها.
(انظر الحديث 2972 وطرفه).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ولو أن امرأة...) إلى آخر الحديث، لأنه قال في الترجمة: الحور العين وصفتهن، والمذكور فيه صفتان عظيمتان من صفات الحور العين إحداهما. قوله: (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الدنيا لأضاءت) والأخرى قوله: (ولنصيفها...) إلى آخره.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي. الثاني: معاوية بن عمرو الأزدي البغدادي، وقد مر في الجمعة. الثالث: أبو إسحاق: اسمه: إبراهيم بن محمد الفزاري، سكن المصيصة من الشام. الرابع: حميد الطويل. الخامس: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن معاوية بن عمرو من شيوخ البخاري يروي عنه تارة بواسطة كما هنا وتارة بلا واسطة، فإنه روى عنه في كتاب الجمعة بلا واسطة، ومن اللطائف فيه أنه مشتمل على أربعة أحاديث الأول: قوله: ما من عبد يموت... إلى قوله: مرة أخرى. الثاني: قوله: وسمعت أنس بن مالك... إلى قوله: وما فيها. الثالث: قوله: ولقاب قوس أحدكم. الرابع: قوله: ولو أن امرأة إلى آخره.
ذكر معناه: قوله: (يموت)، جملة وقعت صفة لعبد، وكذلك قوله: (له عند الله خير) صفة أخرى. قوله: خير، أي: ثواب. قوله: (يسره) جملة وقعت صفة لقوله: خير، قوله: (أن يرجع) كلمة: أن، مصدرية، و: يرجع، لازم. قوله: (وأن له الدنيا)، بفتح الهمزة عطف على: أن يرجع، ويجوز الكسر على أن يكون جملة حالية. قوله: (إلا الشهيد)، مستثنى من قوله: (يسره أن يرجع) قوله: (لما يرى) بكسر اللام التعليلية. قوله: (فيقتل)، على صيغة المجهول بالنصب عطفا على: أن يرجع. قوله: (قال: وسمعت)، أي: قال حميد الراوي: سمعت. قوله: (لروحة). وقوله: (ولقاب قوس) قد مر تفسيرهما عن قريب. قوله: (أو موضع قيد) قال الكرماني: قال بعضهم: وقع في النسخ: قيد، بزيادة الياء، وإنما هو بكسر القاف وتشديد الدال لا غير، وهو السوط المتخذ من الجلد الذي لم يدبغ، ومن رواه: قيد، بزيادة الياء أي: مقداره فقد صحف. قلت: لا تصحيف، إذ معنى الكلام صحيح لا ضرورة إليه سلمنا أن المراد: القد، غاية ما في الباب أن يقال: قلبت إحدى الدالين ياء، وذكل كثير، وفي بعضها: قيد، بدون الإضافة إلى الضمير مع التنوين الذي هو عوض من المضاف إليه. انتهى كلامه. وقال بعضهم: قوله: يعني سوطه، تفسير للقيد غير معروف، ولهذا جزم بعضهم أنه تصحيف، وأن الصواب: قد، بكسر القاف وتشديد الدال وهو السوط المتخذ من الجلد. ثم قال: قلت: ودعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل، ولا سيما والقيد بمعنى ألقاب. انتهى. قلت: قول من قال: إن من رواه: قيد، بزيادة الياء أي: مقداره، فقد صحف هو الظاهر، ونفى الكرماني التصحيف بقوله: غاية ما في الباب أن يقال: قلبت إحدى الدالين ياء، وذلك كثير، نفيه غير صحيح، لأن تعليله لدعواه تعليل من ليس له، وقوف على علم الصرف، وذلك أن قلب أحد الحرفين المتماثلين ياء إنما يجوز إذا أمن اللبس، ولا لبس أشد من الذي يدعى أن فيه قلبا، فالقيد بالياء بعد القاف هو المقدار، والقد بالكسر والتشديد هو السوط المتخذ من الجلد، وبينهما بون عظيم، وأما قول بعضهم: دعوى الوهم في التفسير...
إلى آخره، فغير متجه، لأن الأمر بالعكس، أعني: دعوى التصحيف في الأصل أسهل من دعوى الوهم في التفسير، لأن التفسير مبني على صحة الأصل فافهم، فإن فيه دقة. قوله: (ولو أن امرأة من أهل الجنة)، ذكر العلماء أن الحور على أصناف مصنفة: صغار وكبار، وعلى ما اشتهت نفس أهل الجنة.
وذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: والذي لا إله إلا هو، لو أن امرأة من الحور أطلعت سوارا لها لأطفأ نور سوارها نور الشمس والقمر، فكيف المسور؟ وإن خلق الله شيئا يلبسه إلا عليه مثل ما عليها من ثياب وحلي. وقال أبو هريرة: (إن في الجنة حوراء يقال لها: العيناء، إذا مشت
94

مشى حولها سبعون ألف وصيفة عن يمينها وعن يسارها، كذلك، وهي تقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ وقال ابن عباس: (في الجنة حوراء يقال لها العيناء، لو بزقت في البحر لعذب ماؤه). وقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت ليلة الإسراء حوراء جبينها كالهلال، في رأسها مائة ضفيرة، ما بين الضفيرة والضفيرة سبعون ألف ذؤابة، والذوائب أضوء من البدر وخلخالها مكلل بالدر، وصنوف الجواهر وعلى جبينها سطران مكتوبان بالدر والجوهر، في الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، وفي الثاني: من أراد مثلي فليعمل بطاعة ربي. فقال لي جبريل: هذه وأمثالها لأمتك). وقال ابن مسعود: (إن الحوراء ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم، ومن تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب في الزجاج الأبيض). وروي أن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم سئل عن الحور: من أي شيء خلقن؟ فقال: (من ثلاثة أشياء: أسفلهن من المسك، وأوسطهن من العنبر، وأعلاهن من الكافور، وحواجبهن سواد خط في نور). وفي لفظ: سألت جبريل، عليه الصلاة والسلام، عن كيفية خلقهن، فقال: يخلقهن رب العالمين من قضبان العنبر والزعفران مضروبات عليهن الخيام، أول ما يخلق منهن نهد من مسك إذفر أبيض عليه يلتام البدن. وقال ابن عباس: خلقت الحوراء من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الإذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، وعنقها من الكافور الأبيض، تلبس سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أقبلت ترى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها... وهذه الأحاديث كلها نقلتها من (التلويح) وما وقفت على أصلها فيه.
قوله: (ريحا) أي: عطرا. قوله: (ولنصيفها)، بفتح اللام التي هي للتأكيد، وفتح النون وكسر الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء: وهو الخمار، بكسر الخاء المعجمة وتخفيف الميم.
7
((باب تمني الشهادة))
أي: هذا باب في بيان جواز تمني الشهادة.
7972 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، فإن فيه تمني الشهادة، وهذا السند بعينه قد مضى غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع. وهذا الحديث روي عن أبي هريرة من وجه ومضى في كتاب الإيمان في: باب الجهاد من الإيمان.
قوله: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم)، وفي رواية أبي زرعة وأبي صالح: (لولا أن أشق على أمتي)، ورواية الباب تفسر المراد بالمشقة المذكورة، وهي أن نفوسهم لا تطيب بالتخلف، ولا يقدرون على التأهب لعجزهم عن آلة السفر من مركوب وغيره، وتعذر وجوده عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح بذلك في رواية هما، ولفظه: (ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي). قوله: (عن سرية)، أي: قطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعه: السرايا، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس. قوله: (والذي نفسي بيده لوددت) ووقع في رواية أبي زرعة بلفظ: (ولددت أني أقتل)، بحذف القسم. قوله: (أني أقتل في سبيل الله)، استشكل بعضهم صدور هذا اليمين من النبي، صلى الله عليه وسلم، مع علمه بأنه لا يقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 76). واعترض عليه بأن نزول هذه الآية كان في أوائل ما قدم المدينة، وقد صرح أبو هريرة بسماعه من النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان قدومه في أوائل سنة سبع من
95

الهجرة. وأجاب بعضهم بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع. قلت: أو هو ورد على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه، وسيجئ عن أنس في الشهيد: (أنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)، وروى الحاكم بسند صحيح عن جابر: كان النبي، صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحاب أحد، قال: (والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بفحص الجبل)، وفحص الجبل ما بسط منه وكشف من نواحيه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمنى من أفعال الخير ما يعلم أنه لا يعطاه، حرصا منه على الوصول إلى أعلى درجات الشاكرين، وبذلا لنفسه في مرضاة ربه، وإعلاء كلمة دينه، ورغبته في الازدياد من ثواب ربه، ولتتأسي به أمته في ذلك، وقد يثاب المرء على نيته، وسيأتي في كتاب التمني ما يتمناه
الصالحون مما لا سبيل إلى كونه. وفيه: إباحة القسم بالله على كل ما يعتقده المرء بما يحتاج فيه إلى يمين وما لا يحتاج، وكذا ما كان يقول في كلامه: (لا ومقلب القلوب)، لأن في اليمين بالله توحيدا وتعظيما له تعالى، وإنما يكره تعمد الحنث. وفيه: أن الجهاد ليس بفرض معين على كل أحد، ولو كان معينا ما تخلف الشارع ولا أباح لغيره التخلف عنه، ولو شق على أمته إذا كانوا يطيقونه، هذا إذا كان العدو لم يفجأ المسلمين في دارهم ولا ظهر عليهم وإلا فهو فرض عين على كل من له قوة. وفيه: أن الإمام والعالم يجوز لهما ترك فعل الطاعة إذا لم يطق أصحابه ونصحاؤه على الإتيان بمثل ما يقدر عليه، هو منها إلى وقت قدرة الجميع عليها، وذلك من كرم الصحبة وآداب الأخلاق. وفيه: عظم فضل الشهادة.
8972 حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار قل حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له وقال ما يسرنا أنهم عندنا قال أيوب أو قال ما يسرهم أنهم عندنا وعيناه تذرفان.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ما يسرهم أنهم عندنا) وذلك أنهم لما رأوا من الكرامة بالشهادة فلا يعجبهم أن يعودوا إلى الدنيا، كما كانوا من غير أن يستشهدوا مرة أخرى، ويوسف بن يعقوب الصفار، بفتح الصاد المهملة وتشديد الفاء وبالراء: الكوفي، مات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين ولم يخرج له البخاري سوى هذا الحديث، وأيوب هو السختياني، وحميد بن بلال ابن هبيرة العدوي البصري.
وهذا الحديث قد مر في كتاب الجنائز في: باب الرجل ينعى إلى أهل الميت، ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (زيد)، هو زيد بن حارثة، وجعفر هو ابن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، بفتح الراء وتخفيف الواو وبالحاء المهملة. قوله: (عن غير إمرة) بكسر الهمزة، أي: بغير أن يجعله أحد أميرا لهم. قوله: (قال أيوب) هو الراوي المذكور. قوله: (أو قال)، شك من أيوب. قوله: (تذرفان)، أي: تسيلان دمعا، والجملة حالية.
8
((باب فضل من يصرع في سبيل الله فمات فهو منهم))
أي: هذا باب في بيان فضل من يصرع، وكلمة: من، موصولة تضمنت معنى الشرط فلذلك دخلت الفاء في جوابها، وهو قوله: فهو منهم، أي: من المجاهدين. قوله: (فمات)، عطف على قوله: يصرع، وعطف الماضي على المضارع قليل. وقوله: (فمات)، سقط من رواية النسفي.
وقول الله تعالى * (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) * (النساء: 001). وقع وجب
وقول الله، مجرور عطفا على قوله: فضل من يصرع، وقال أبو عمر: روى هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير، في قوله:
96

* (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * (النساء: 001). قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي، لما أمروا بالهجرة، وكان مريضا، فأمر أهله أن يفرشوا له على سرير ويحملوه إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ففعلوا، فأتاه الموت وهو بالتنعيم، فنزلت هذه الآية. وقد قيل في ضمرة هذا: أبو ضمرة بن العيص، قال أبو عمر: والصحيح أنه ضمرة لا أبو ضمرة، روينا عن زيد بن حكيم عن الحكم بن أبان قال: سمعت عكرمة يقول: اسم الذي خرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ضمرة بن العيص، قال عكرمة: طلبت اسمه أربع عشرة سنة حتى وقفت عليه. فإن قلت: ما المناسبة بين الترجمة والآية؟ قلت: يدركه الموت، أعم من أن يكون بقتل، أو وقوع من دابته أو غير ذلك. قوله: (وقع وجب)، لم يثبت هذا في رواية المستملي وثبت لغيره، وقد فسره أبو عبيدة هكذا في قوله تعالى: * (فقد وقع أجره على الله) * (النساء: 001). أي: وجب ثوابه.
0082 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثني الليث قال حدثنا يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي صلى الله عليه وسلم يوما قريبا مني ثم استيقظ يتبسم فقلت ما أضحكك قال أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة قالت فادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها ثم نام الثانية ففعل مثلها فقالت مثل قولها فأجابها مثلها فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام فقربت إليها دابة لتركبها فصرعتها فماتت.
مطابقته للترجمة في قوله: (فصرعتها فماتت)، لأنها صرعت في سبيل الله تعالى. ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، ومحمد بن يحيى ابن حبان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة، مر في الوضوء، وفي الإسناد تابعيان: يحيى ومحمد، وصحابيان: أنس وخالته، وقد مر الحديث عن قريب في: باب الدعاء بالجهاد، وروى ابن وهب من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: (من صرع عن دابته في سبيل الله فمات فهو شهيد)، ولما لم يكن هذا الحديث على شرطه أشار إليه في الترجمة ولم يخرجه. فإن قيل: قال في: باب العاء بالجهاد: فصرعت عن دابتها، أي: بعد الركوب، وهنا: فقربت دابة لتركبها فصرعتها، أي: قبل الركوب. أجيب: بأن الفاء فصيحة، أي: فركبتها فصرعتها. قوله: (فلما انصرفوا من غزوهم قافلين) أي: راجعين من غزوهم. قوله: (فنزلوا الشام) أي: متوجهين إلى ناحية الشام.
9
((باب من ينكب في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل من ينكب، وهو على المجهول من المضارع من النكبة، وهو أن يصيب العضو شيء فيدميه، كذا قال بعضهم. قلت: هذا التفسير غير صحيح، بل النكبة أعم من ذلك، قال ابن الأثير: النكبة ما يصيب الإنسان من الحوادث، وقال الجوهري: النكبة واحدة نكبات الدهر،، تقول: أصابته نكبة، وفي بعض النسخ: باب من تنكب، على وزن: تفعل من باب التفعل، وفي بعضها أيضا: أو يطعن، بعد قوله: في سبيل الله.
1082 حدثنا حفص بن عمر الحوضي قال حدثنا همام عن أسحاق عن أنس رضي الله تعالى عنه قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين رجلا فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبا فتقدم فأمنوه فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أومؤا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالو على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد
97

الجبل قال همام فأراه آخر معه فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم فكنا نقرأ * (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة في كون هذا البعث المذكور قد نكبوا في سبيل الله بالقتل.
وحفص بن عمر بن الحارث أبو عمر الحوضي، والحوضي: نسبة إلى حوض داود، وهي محلة ببغداد، وحفص من أفراد البخاري، وهمام، بالتشديد: ابن يحيى البصري، وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن موسى بن إسماعيل.
قوله: (من بني سليم)، قال الدمياطي: هو وهم، فإن بني سليم مبعوث إليهم، والمبعوث هم القراء، وهم من الأنصار. وقال الكرماني: بنو سليم، بضم المهملة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف، قيل: إنه وهم من المؤلف، إذ المبعوث إليهم هم من بني سليم لأن رعلا هو ابن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة، بضم الباء الموحدة وسكون الهاء وبالمثلثة: ابن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة، بالخاء المعجمة ثم الصاد المهملة والفاء المفتوحات. وذكوان هو ابن ثعلبة بن بهثة. وعصية هو ابن خفاف، بضم المعجمة وخفة الفاء الأولى: ابن امرئ القيس بن بهثة. وقال الجوهري: رعل وذكوان قبيلتان من بني سليم، وعصية بطن من بني سليم. وقال بعضهم: الوهم من حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي: عن موسى بن إسماعيل عن همام، فقال: بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل، وقال الكرماني: الطفيل هو ابن مالك بن خصفة، فهو إذن هو أبو سليم، وأما بنو عامر فهم أولاد عامر بن صعصعة، بالمهملات، ثم قال: إعلم أنه لا وهم في كلام البخاري، إذ يجوز أن يقال: إن أقواما، هو منصوب بإسقاط الخافض، أي: إلى أقوام من بني سليم منضمين إلى بني عامر. فإن قلت: أين مفعول بعث؟ قلت: اكتفى بصيغة المفعول عن المفعول أي بعث بعثا أو طائفة، في جملة سبعين أو كلمة: في، تكون زائدة، وسبعين هو المفعول، ومثله قوله:
* وفي الرحمن للضعفاء كاف
*
أي: الرحمن كاف وقال تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 12). وأهل المعاني يسمونها: بفي، التجريدية. وقد يجاب أيضا: بأن: من ليس بيانا بل ابتدائية، أي: بعث من جهتهم، أو بعث بعثا يساويهم بنو سليم. انتهى. قلت: هذا كله تعسف، أما النصب بنزع الخافض فهو خلاف الأصل، وإن كان موجودا في الكلام، وأما حذف المفعول فشائع ذائع، لكن لا بد من نكتة فيه، وأما القول بزيادة كلمة: في، فغير صحيح، والذي أجازه خصه بالضرورة ولا ضرورة ههنا، وأما تمثيله بقول الشاعر:
* وفي الرحمن للضعفاء كاف
*
فلا يتم، لأنه من باب الضرورة، على أنه يمكن أن يقال: إن كاف بمعني: كفاية، لأن وزن كاف في الأصل: فاعل، ويأتي بمعنى المصدر، كما في قوله تعالى: * (ليس لوقعتها كاذبة) * (الواقعة: 2). أي: تكذب، فإن كاذبة على وزن فاعلة، وهو بمعنى المصدر. قوله: (في سبعين رجلا)، قال التوربشتي: كانوا من أوراع الناس ينزلون الصفة يتعلمون القرآن، وكانوا ردأ للمسلمين إذا نزلت بهم نازلة، بعثهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجد ليدعوهم إلى الإسلام، فلما نزلوا بئر معونة، بفتح الميم وبالنون، قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سليم، وهم: رعل وذكوان وعصية، فقتلوهم. قلت: كانت سرية بئر معونة في صفر من سنة أربع من الهجرة، وأغرب محكول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق. وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم بعد أحد بقية شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، قال موسى بن عقبة. وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، ويقال: مرثد بن أبي مرثد. قوله: (خالي)، هو حرام ضد حلال ابن ملحان. قوله: (وإلا) أي: وإن لم يؤمنوا. قوله: (فبينما يحدثهم) أي: يحدث بني سليم. قوله: (إذ)، جواب: بينما. قوله: (أومؤا) أي: أشاروا. قوله: (فأنفذه)، بالفاء والذال المعجمة، من: نفذ السهم من الرمية. قوله: (إلا رجل أعرج)، ويروى: رجلا، بالنصب. وقال الكرماني وفي بعض الروايات: كتب، بدون الألف على اللغة الربيعية. قوله: (قال همام)، وهو من رواة الحديث المذكور في سنده. قوله: (فأراه
)، أي: أظنه و: يرى بالواو وأراه. قوله: (فكنا نقرأ: أن بلغوا...)
98

إلى آخره، أنزل الله تعالى على النبي، صلى الله عليه وسلم في حقهم هذا ثم نسخ بعد ذلك. قوله: (فدعا) أي: النبي، صلى الله عليه وسلم، عليهم أربعين صباحا في القنوت. قوله: (على رعل)، بدل من: عليهم، بإعادة العامل، كقوله تعالى: * (للذين استضعفوا لمن آمن منهم) * (الأعراف: 57). ورعل، بكسر الراء وسكون العين المهملة، وذكوان، بفتح الذال المعجمة وإسكان الكاف، وعصية، بضم العين المهملة وفتح الصاد المهملة وتشديد الياء آخر الحروف.
ومما يستفاد منه: جواز الدعاء على أهل الغدر وانتهاك المحارم، والإعلان بإسمهم والتصريح بذكرهم. وجاء من حديث أنس في باب قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) * (آل عمران: 961). أنه دعا عليهم ثلاثين صباحا، وهنا: فدعا عليهم أربعين صباحا، وفي (المستدرك): قنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم عشرين يوما.
2082 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس عن جندب ابن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد وقد دميت إصبعه فقال:
* هل أنت إلا إصبع دميت
* وفي سبيل الله ما لقيت
*
(الحديث 2082 طرفه في: 6416).
مطابقته للترجمة في قوله: (وقد دميت إصبعه)، لأنه نكب في إصبعه، وأبو عوانة، بفتح العين: الوضاح اليشكري، والأسود ابن قيس أخو علي بن قيس البجلي الكوفي، وجندب، بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها: ابن عبد الله بن سفيان البجلي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن أبي نعيم عن الثوري. وأخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى وقتيبة، كلاهما عن أبي عوانة وعن أبي بكر وإسحاق كلاهما عن ابن عيينة. وأخرجه الترمذي في التفسير وفي الشمائل عن ابن أبي عمر عن ابن عيينة وفي الشمائل عن محمد بن المثنى. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن قتيبة به وعن عمرو بن منصور.
قوله: (المشاهد)، أي: المغازي، وسميت بها لأنها مكان الشهادة. قوله: (وقد دميت أصبعه)، يقال: دمي الشيء يدمى دما، ودميا، فهو دم، مثل: فرق يفرق فرقا فهو فرق، والمعنى: أن إصبعه جرحت فظهر منها الدم. قوله: (هل أنت؟) معناه: ما أنت إلا إصبع دميت. قال النووي: الرواية المعروفة كسر التاء، وسكنها بعضهم، والإصبع فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الباء، والعاشرة: أصبوع. قوله: (دميت)، بفتح الدال: صفة للإصبغ، والمستثنى فيه أعم عام الصفة أي: ما أنت يا إصبع موصوفة بشيء إلا بأن دميت، كأنها لما توجعت خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة تسليا لها، أي: تثبتي فإنك ما ابتليت بشيء من الهلاك والقطع سوى أنك دميت، ولم يكن ذلك أيضا هدرا بل كان في سبيل الله ورضاه. قيل: كان ذلك في غزوة أحد. وفي (صحيح مسلم): كان النبي، صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه، وقال القاضي عياض: قال أبو الوليد: لعله غازيا فتصحف، كما قال في الرواية الأخرى: في بعض المشاهد، وكما جاء في رواية البخاري: يمشي إذا أصابه حجر، فقال القاضي: قد يراد بالغار الجمع والجيش لا الكهف، ومنه قول علي، رضي الله تعالى عنه: ما ظنك بامرىء جمع بين هذين الغارين؟ أي العسكرين قال الكرماني (فإن قلت) هذا شعر وقد نفى الله تعالى عنه أن يكون شاعر أفلت أجابوا عنه بوجوه بأنه رجز، والرجز ليس بشعر، كما هو مذهب الأخفش، وإنما يقال لصانعه: فلان الراجز، ولا يقال: الشاعر، إذ الشعر لا يكون إلا بيتا تاما مقفى على أحد أنواع العروض المشهورة. وبأن الشعر لا بد فيه من قصد ذلك، فما لم يكن مصدره عن نية له وروية فيه، وإنما هو على اتفاق كلام يقع موزونا بلا قصد إليه ليس منه كقوله: * (وجفان كالجواب وقدور راسيات) * (سبإ: 31). وكما يحكى عن السؤال: اختموا صلاتكم بالدعاء والصدقة، وعن بعض المرضى وهو يعالج الكي ويتضور: إذهبوا بي إلى الطبيب، وقولوا: قد اكتوى. وبأن البيت الواحد لا يسمى شعرا، وقال بعضهم: * (وما علمناه الشعر) * (يس: 96). هو رد على الكفار المشركين في قولهم: بل هو شاعر، وما يقع على سبيل الندرة لا يلزمه هذا الاسم، إنما الشاعر هو الذي ينشد الشعر ويشبب، ويمدح ويذم ويتصرف في الأفانين وقد برأ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وصان قدره عنه، فالحاصل أن المنفي هو صنعة الشاعرية لا غير، وفي (التوضيح): هل أنت إلا إصبع... إلى آخره، رجز موزون، وقد يقع على لسانه صلى الله عليه وسلم مقدار البيت من الشعر أو البيتين من الرجز كقوله:
* أنا النبي لا كذب
* أنا ابن عبد المطلب
*
99

فلو كان هذا شعرا لكان خلاف قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) * (يس: 96). والله يتعالى أن يقع شيء من خبره أن يوجد على خلاف ما أخبر به، ووقوع الكلام الموزون في النادر من غير قصد ليس بشعر، لأن ذلك غير ممتنع على أحد من العامة، والباعة، أن يقع له كلام موزون، فلا يكون بذلك شاعرا مثل قولهم:
* إسقني في الكوز ماء يا فلان
* واسرج البغل وجئني بالطعام
*
فهذا القدر ليس بشعر، والرجز ليس بشعر، قاله القاضي أبو بكر بن الطيب وغيره، وقال ابن التين: هذا الشعر لابن رواحة، وفيه نظر، وقيل: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للوليد بن الوليد، باع ماله بالطائف وهاجر على رجليه إلى المدينة، فقدمها وقد تقطعت رجلان وأصابعه، فقال:
* هل أنت إلا إصبع دميت
* وفي سبيل الله ما لقيت
*
* يا نفس إن لا تقتلي تموتي
*
ومات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: الوليد هذا أخو خالد بن الوليد، سيف الله، وقال أبو عمر: قال مصعب: شهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم عمرة القضية، وكتب إلى أخيه خالد، وكان خالد خرج من مكة فأرا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، كراهية للإسلام وأهله، فسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم الوليد، وقال: لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله سقط عليه الإسلام في غفلة، فكتب بذلك الوليد إلى أخيه خالد، فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان سبب هجرته.
01
((باب من يجرح في سبيل الله عز وجل))
أي: هذا باب في بيان فضل من يجرح في سبيل الله، ويجرح، على صيغة المجهول من المضارع.
3082 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك.
(انظر الحديث 732 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (لا يكلم أحد...) إلى آخره، لأن الكلم هو الجرخ على ما نذكره.
وهذا الإسناد بعينه قد مر غير مرة، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز، والحديث مضى في كتاب الطهارة في: باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، ولكن بغير هذا الوجه، والمعنى واحد.
قوله: (لا يكلم)، على صيغة المجهول من الكلم وهو الجرح. قوله: (في سبيل الله)، يريد به الجهاد ويدخل فيه كل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب، فهو مجاهد. قوله: (والله أعلم بمن يكلم في سبيله)، جملة معترضة أشار بها إلى التنبيه على شرطية الإخلاص في نيل هذا الثواب. قوله: (واللون)، الواو فيه للحال، وكذا في قوله: والريح.
وفيه: أن الشهيد يبعث في حالته وهيئته التي قبض عليها، والحكمة فيه أن يكون معه شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى. وفيه: أن الشهيد يدفن بدمائه وثيابه ولا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره ليجيء يوم القيامة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فيه نظر، لأنه لا يلزم من غسل الدم في الدنيا أن لا يبعث كذلك. قلت: في نظره نظر، لأن أحدا ما ادعى الملازمة، بل المراد أن لا تتغير هيئته التي مات عليها، وفيه: دلالة أن الشيء إذا حال عن حالة إلى غيرها كان الحكم إلى الذي حال إليه، ومنه الماء تحل به نجاسة، فغيرت أحد أوصافه يخرجه عن الماء المطلق، ومنه إذا استحالت الخمر إلى الخل أو بالعكس.
11
((باب قول الله تعالى: * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) * (التوبة: 25).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله تعالى، لأن فيه معنى: الحرب سجال، لأن المراد من إحدى الحسنيين إما الشهادة أو الظفر بالكفار، قاله ابن عباس ومجاهد وقادة وآخرون، وذلك أنا إذا قابلنا الكفار ووقع بيننا وبينهم حروب، فإن غلبنا وظفرنا بهم تكون لنا الغنيمة والأجر، وإن كان عكسه تكون لنا الشهادة، وهذا بعينه، كون الحرب سجالا. قوله: * (قل هل تربصون) * (التوبة: 25). أي: قل يا محمد! هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ وهما: الظفر أو الشهادة؟
100

والحرب سجال
مناسبته للآية ظاهرة لأنها تتضمن معناه كما ذكرناه، وسجال، بكسر السين، يعني: تارة لنا وتارة علينا، ففي غلبتنا يكون الفتح، وفي غلبتهم تكون الشهادة، وهذا مطابق لمعنى الآية، وكل فتح يقع إلى يوم القيامة أو غنيمة فإنه من إحدى الحسنيين، وكل قتيل يقتل في سبيل الله إلى يوم القيامة فهو من إحدى الحسنيين، وإنما يبتلي الله الأنبياء، عليهم السلام، ليعظم لهم الأجر والثواب، ولمن معهم، ولئلا تخرق العادة الجارية بين الخلق ولو أراد الله خرقها لأهلك الكفار كلهم بغير حرب، والسجال
جمع: سجل، في الأصل وهو الدلو إذا كان ملآن ماء، ولا تكون الفارغة سجلا، وسجال هنا من المساجلة، وهي: المناولة في الأمر، وهو أن يفعل كل من المتساجلين مثل صاحبه، فتارة له وتارة لصاحبه.
4082 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال حدثني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله ابن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره أن هرقل قال له سألتك كيف كان قتالكم إياه فزعمت أن الحرب سجال ودول فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فزعمت أن الحرب بينكم سجال)، وقد ذكرنا أن في معنى: إحدى الحسنيين معنى: الحرب سجال، وكل واحد منهما يتضمن معنى الآخر، فتحصل المطابقة، ولا يحتاج ههنا إلى تطويل الشراح الذي يشوش على ذهن الناظر فيه، وهذا الذي ذكره قطعة من حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وقد مر في أول الكتاب مطولا، ومر الكلام فيه مبسوطا. قوله: (ودول)، جمع دولة، ومعناه: رجوع الشيء إليك مرة وإلى صاحبك أخرى تتداولانه، وقال أبو عمر: وهي بالفتح الظفر في الحرب، وبالضم: ما يتداوله الناس من المال، وعن الكسائي بالضم مثل العارية، يقال: اتخذوه دولة يتداولونه، وبالفتح من دال عليهم الدهر دولة، ودالت الحرب بهم، وقيل: الدولة، بالضم: الاسم، وبالفتح: المصدر. وقال القزاز: العرب تقول: الأيام دول ودول ودول، ثلاث لغات، وفي (الباهر) لابن عديس عن الأحمر: جاء بالدولة والتؤلة، تهمز ولا تهمز، وفي (البارع) عن أبي زيد: دولة، بفتح الدال وسكون الواو، و: دول، بفتح الدال، والواو، وبعض العرب يقول: دول. قوله: (فكذلك تبتلى) أي: تختبر. قوله: (ثم تكون لهم العاقبة)، عاقبة الشيء آخر أمره.
21
((باب قول الله تعالى * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) * (الأحزاب: 32).))
أي: هذا باب في ذكر قول الله عز وجل، وإنما ذكر هذه الآية لأن المذكور في الحديث: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلا). والآية المذكورة نزلت فيهم على ما نذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى. قوله: * (من المؤمنين رجال) * (الأحزاب: 32). جملة اسمية من المبتدأ، أعني: رجال والخبر أعني من المؤمينين، وذكر الواحدي من حديث إسماعيل بن يحيى البغدادي عن أبي سنان عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قالوا له: حدثنا عن طلحة، فقال: ذاك امرؤ نزلت فيه آية من كتاب الله تعالى: * (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) * (الأحزاب: 32). طلحة ممن قضى نحبه لا حساب عليه فيما يستقبل. ومن حديث عيسى بن طلحة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر عليه طلحة فقال: هذا ممن قضى نحبه، وقال مقاتل في تفسيره: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * (الأحزاب: 32). ليلة العقبة، بمكة * (فمنهم من قضى نحبه) * (الأحزاب: 32). يعني: أجله فمات على الوفاء يعني: حمزة وأصحابه، رضي الله تعالى عنهم، المقتولين بأحد * (ومنهم من ينتظر) * يعني: من المؤمنين من ينتظر أجله، يعني: على الوفاء بالعهد * (وما بدلوا) * (الأحزاب: 32). كما بدل المنافقون. وفي (تفسير النفسي): والنحب يأتي على وجوه: النذر، أي: قضى نذره، والخطر إي: فرغ من خطر الحياة، لأن الحي على خطر ما عاش، والسير السريع أي: سار بسرعة إلى أجله، والنوبة، أي: قضى نوبته، و: النفس، أي: فرغ من أنفاسه، والنصب أي: فرغ من نصب العيش وجهده، وهذا كله يعود إلى معاني الموت وانقضاء
101

الحياة. وقال الزمخشري: قضاء النحب عبارة عن الموت، لأن كل حي لا بد له أن يموت، فكأنه نذر لازم في رقبته، فإذا مات فقد قضى نحبه، أي: نذره.
5082 حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي قال حدثنا عبد الأعلى عن حميد قال سألت أنسا حدثنا عمرو بن زرارة قال حدثنا زياد قال حدثني حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه قال غاب عمي أنس ابن النضر عن قتال بدر فقال يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال أللهم إني أعتذر إليك مما صنع هاؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هاؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا اخته ببنانه قال أنس كنا نرى أو نظن أن هاذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلى آخر الآية. وقال إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره.
.
مطابقته للآية التي هي ترجمة من حيث إنها نزلت في المذكورين فيه، وهو ظاهر.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: محمد ابن سعيد بن الوليد أبو بكر الخزاعي، بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وبالعين. الثاني: عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي، بالسين المهملة. الثالث: حميد الطويل. الرابع: عمرو بن زرارة، بضم الزاي وتخفيف الراءين بينهما ألف: ابن واقد الهلالي. الخامس: زياد، بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف: ابن عبد الله العامري البكائي، بفتح الباء الموحدة وتشديد الكاف وبالهمزة بعد الألف. قال ابن معين: لا بأس به في المغازي خاصة، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة. السادس: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السؤال. وفيه: القول في ثلاثة
مواضع، وفيه: أن شيخه محمد بن سعيد يلقب بمردويه وأنه من أفراده وليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في غزوة خيبر، وهو ومحمد بن سعيد وحميد وعبد الأعلى بصريون، وزياد كوفي وعمرو بن زرارة نيسابوري. وفيه: أن زيادا لم يذكر منسوبا في أكثر الروايات، وهو صاحب ابن إسحاق وراوي المغازي عنه، وليس له ذكر في البخاري غير هذا الموضع. وفيه: طريقان. الأول: فيه رواية عبد الأعلى: بتصريح حميد له بالسماع من أنس، فأمن من التدليس. الثاني: فيه سياق الحديث. والحديث رواه مسلم من رواية ثابت عن أنس قال أنس: غاب عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بدرا. قال: فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غبت عنه؟ وإن أراني الله مشهدا بعد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليريني الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها قال: فشهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
102

يوم أحد. قال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واها لريح الجنة أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية. قال: فقالت أخته، عمتي الربيع بنت النضر، فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية * (رجال صدقوا) * (الأحزاب: 32). الآية. قال: وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.
وأخرجه الترمذي والنسائي أيضا.
ذكر معناه: قوله: (غاب عمي أنس بن النضر)، قد مر في رواية مسلم: قال أنس: غاب عمي الذي سميت به، والنضر بالنون والضاد المعجمة. قوله: (أول قتال)، لأن غزوة بدر هي أول غزوة غزا فيها رسول الله، صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهي في السنة الثانية من الهجرة. قوله: (لئن الله أشهدني) أي: أحضرني، واللام في: لئن، مفتوحة دخلت على أن الشرطية لا جزاء له، لفظا، وحذف فعل الشرط فيه من الواجبات، والتقدير: لئن أشهدني الله... قوله: (قتال المشركين)، منصوب بقوله: أشهدني، قوله: (ليرين الله)، جواب القسم المقدر، لأن اللام للقسم ونون التأكيد فيه ثقيلة وما قبلها مفتوحة، وفي رواية مسلم: (ليريني الله) كما مر، وفي رواية: ليراني الله، بالألف. وفي (التلويج): وضبط أيضا بضم الياء وكسر الراء، ومعناه: ليرين الله الناس ما أصنع ويبرزه لهم. وقال القرطبي: كأنه ألزم نفسه إلزاما مؤكدا، ولم يظهره مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك، ويؤيده ما في مسلم فهاب أن يقول غيره، ولذلك سماه الله عهدا، بقوله: * (صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * (الأحزاب: 32). وفي رواية الترمذي كرواية البخاري. قوله: (ما أصنع)، قال بعضهم: أعربه النووي: بدلا من ضمير المتكلم. قلت: هذا لا يصح إلا في رواية مسلم، وأما في رواية البخاري فهو منصوب على المفعولية، وهذا القائل لم يميز بين الروايتين في الإعراب، فربما يضان الناظر في رواية البخاري أن ما قاله النووي فيها، وليس ذلك إلا في رواية مسلم. فافهم. قوله: (وانكشف المسلمون)، وفي رواية الإسماعيلي: وانهزم الناس. قوله: (أعتذر) أي: من فرار المسلمين. قوله: (وأبرأ)، أي: عن قتال المشركين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فاستقبله)، أي: فاستقبل أنس بن النضر سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان ثبت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يوم أحد. قوله: (الجنة)، بالنصب، أي: أريد الجنة، وبالرفع على تقدير هي مطلوبي. قوله: (ورب النضر)، أراد به والده النضر، قيل: يحتمل أن يريد به ابنه، فإنه كان له ابن يسمى النضر، وكان إذ ذاك صغيرا، وفي رواية عبد الوهاب: فوالله، وفي رواية عبد الله بن بكر عن حميد عند الحارث ابن أبي أسامة عنه: والذي نفسي بيده. قوله: (ريحها)، أي: ريح الجنة. قوله: (من دون أحد) أي: عند أحد. قال ابن بطال وغيره: يحتمل أن يكون على الحقيقة، وأنه وجد ريح الجنة حقيقة، أو وجد ريحا طيبة ذكره طيبها بطيب الجنة، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد، فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها. قوله: (قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع) قال ابن بطال: يريد ما استطعت أن أصف ما صنع من كثرة ما أبلى في المشركين. قوله: (فوجدنا به) وفي رواية عبد الله بن بكر، قال أنس: فوجدناه بين القتلى وبه. قوله: (أو طعنة) كلمة أو في الموضعين للتنويع. قوله: (وقد مثل) بتشديد الثاء المثلثة، من المثلة وهو قطع الأعضاء من أنف وأذن وغيرهما. قوله: (ببنانه) البنان الإصبع، وقيل: طرف الإصبع، وهو الأشهر. ووقع في رواية محمد بن طلحة بالشك: ببنانه أو بشامته، بالشين المعجمة والأولى أكثر، والثانية أوجه. قوله: (كنا نرى)، بضم النون وفتح الراء. قوله: (أو نظن) من الراوي وهما بمعنى واحد. وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون عن حميد: فكنا نقول، وفي رواية أحمد بن سنان عن يزيد: فكانوا يقولون، والتردد فيه من حميد، ووقع في رواية ثابت: وأنزلت هذه الآية بالجزم دون الشك. قوله: وقال: إن أخته، أي: أخت أنس بن النضر، وهي عمة أنس بن مالك. قوله: (الربيع) بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف، وقصة الربيع هذه مضت في كتاب الصلح في: باب الصلح في الدية. قوله: (لأبره) أي: لأبر قسمه، وهو ضد الحنث.
وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز بذل النفس في الجهاد وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وإن طلب الشهادة لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة. وفيه: فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر، وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع، وقوة اليقين.
103

7082 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني إسماعيل قال حدثني أخي عن سليمان أراه عن محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد أن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال نسخت الصحف في المصاحف ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين وهو قوله * (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * (الأحزاب: 32).
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرجه من طريقين: الأول عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم الزهري، وهذا السند بعينه قد مر غير مرة. والثاني: عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال عن محمد بن أبي عتيق ضد الجديد عن ابن شهاب هو الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن أبي اليمان عن شعيب، وفي فضائل القرآن عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه الترمذي في التفسير عن بندار عن ابن مهدي. وأخرجه النسائي فيه عن الهيثم بن أيوب.
قوله: (نسخت الصحف في المصاحف) الصحف، بضمتين جمع صحيفة، والصحيفة قطعة قرطاس مكتوب والمصحف الكراسة وحقيتها: مجمع الصحف، قوله: (فلم أجدها إلا مع خزيمة) لم يرد: أن حفظها قد ذهب عن جميع الناس فلم يكن عندهم، لأن زيد بن ثابت قد حفظها، ولهذا قال: كنت أسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فإن قلت: كيف جاز إثبات الآية في المصحف بقول واحد أو اثنين وشرط كونه قرانا التواتر؟ قلت: كان متواترا عندهم، ولهذا قال: كنت أسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (يقرأ بها)، لكنه لم يجدها مكتوبة في المصحف إلا عند خزيمة. ويقال: التواتر وعدمه، إنما يتصور أن فيما بعد أصحابه لأنهم إذا سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرآن، علموا قطعا قرآنيته. قلت: روي أن عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: أشهد لسمعتها من رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقد روي عن أبي بن كعب وهلال بن أمية مثله، فهؤلاء جماعة، وخزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عنان بن عامر ابن خطمة، واسمه: عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس أبو عمارة الخطمي الأنصاري، يعرف بذي الشهادتين، كانت معه راية بني خطمة يوم الفتح، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، وكان مع علي، رضي الله تعالى عنه، بصفين فلما قتل عمار جرد سيفه فقاتل حتى قتل، وكانت صفين سنة سبع وثلاثين. وقال أبو عمر: لما قتل عمار بصفين قال خزيمة: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: تقتل عمارا الفئة الباغية.
وسبب كون شهادته بشهادتين أنه صلى الله عليه وسلم كلم رجلا في شيء فأنكره، فقال خزيمة أنا أشهد، فقال صلى الله عليه وسلم أتشهد ولم تستشهد؟ فقال: نحن نصدقك على خبر السماء، فكيف بهذا؟ فأمضى شهادته وجعلها بشهادتين. وقال له: لا تعد، وهذا من خصائصه، رضي الله تعالى عنه.
31
((باب عمل صالح قبل القتال))
أي: هذا باب في بيان تقديم عمل صالح قبل القتال، هذا على تقدير إضافة الباب إلى عمل، ويجوز قطعه عن الإضافة، ويكون التقدير: هذا باب يذكر فيه عمل صالح قبل القتال، يعني: كون عمل صالح قبله.
وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم
أبو الدرداء اسمه عويمر بن مالك الخزرجي الأنصاري، وروى الدينوري هذا التعليق من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد أن أبا الدرداء قال: أيها الناس! عمل صالح قبل الغزو فإنما تقاتلون بأعمالكم، أي: متلبسين بأعمالكم. فإن قلت: ما وجه تقسيم البخاري هذا حيث جعل الشطر الأول ترجمة والشطر الثاني أصلا معلقا؟. قلت: نظر البخاري في هذا دقيق، وذلك أنه لما علم انقطاع الطريق في الشطر الأول بين ربيعة بن يزيد وأبي الدرداء جعله ترجمة، وعلم
104

اتصال الطريق في الشطر الثاني وعزاه إلى أبي الدرداء بالجزمم فإن قلت: ما وجه الاتصال؟ قلت: روى عبد الله بن المبارك في كتاب الجهاد عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن ابن حلبس عن أبي الدرداء. قال: إنما تقاتلون بأعمالكم، فاقتصر على هذا المقدار، بفتح الحاء المهملة وسكون اللام وفتح الباء وفي آخره سين مهملة. وقال ابن ماكولا، يزيد بن ميسرة بن حلبس، يروي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وأخوه يونس بن ميسرة بن حلبس، يروي عن معاوية ابن أبي سفيان وأبي إدريس الخولاني وغيرهما، وأخوهما أيوب بن ميسرة بن حلبس.
وقوله عز وجل * (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * (الصف: 2 4).
وقوله تعالى، يجوز بالرفع والجر بحسب عطفه على قوله: عمل صالح قبل القتال، قيل: لا مناسبة بين الترجمة والآية. ورد بأنها موجودة من حيث إن الله عاتب من قال بما لا يفعل، وأثنى على من وفى وثبت عند القتال، والثبات عنده من أصلح الأعمال. وقال الكرماني: والمقصود من ذكر هذه الآية ذكر: صفا أي: صافين أنفسهم، أو مصفوفين، إذ هو عمل صالح قبل القتال. وقيل: يجوز أن يراد استواء بنيانهم في البناء حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان. وقيل: مفهومه مدح الذين قالوا وعزموا وقاتلوا، والقول فيه والعزم عملان صالحان. قوله: * (يا أيها الذين) * (الصف: 2 4). إلى آخره. قال مقاتل في (تفسيره) قوله: * (يا أيها الذين آمنوا..) * (الصف: 2 4). إلى آخره: يعظهم بذلك، وذلك أن المؤمنين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا، فأنزل الله تعالى: * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله) * (الصف: 2 4). يعني: في طاعته * (صفا كأنهم بنيان مرصوص) * (الصف: 2 4). فأخبر الله تعالى بأحب الأعمال إليه بعد الإيمان، فكرهوا القتل فوعظهم الله وأدبهم فقال: * (لم تقولون ما لا تفعلون) * (الصف: 2 4). وفي (تفسير النسفي): قيل: إن الرجل كان يجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: فعلت كذا وكذا، وما فعل فنزلت: * (لم تقولون ما لا تفعلون) * (الصف: 2 4). وقال الضحاك: كان الرجل يقول: قاتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وصبرت ولم يصبر، فنزلت هذه الآية. وقال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وددنا لو أن الله تعالى دلنا على
أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبرهم الله تعالى: أن أفضل الأعمال الجهاد، وكره ذلك ناس منهم، وشق عليهم الجهاد وتباطؤا عنه، فنزلت هذه الآية. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين، كانوا يعدون المؤمنين النصر ويقولون: لو خرجتم خرجنا معكم ونصرناكم، فلما خرج النبي، صلى الله عليه وسلم نكصوا عنه، فنزلت هذه الآية. قوله: (لم؟) هي لام الإضافة داخلة على: ما، الاستفهامية، كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم وفيم وعم وإلام وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما، والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالها كثيرا في كلام المستفهم. وقال الحسن: إنما بدأهم بالإيمان تهكما بهم، لأن الآية نزلت في المنافقين وبإيمانهم. قوله: (كبر مقتا) هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه، قصد في كبر التعجب من غير لفظه، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند: كبر، إلى: أن تقولوا، ونصب: مقتا، على تفسيره، دلالة على أن قولهم: ما لا يفعلون)، مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ: المقت، لأنه أشد البغض وأبلغه. قوله: (صفا) أي: صافين أنفسهم أو مصفوفين. قوله: (مرصوص)، أي: كأنهم في تراصهم من غير فرجة بنيان رص بعضه إلى بعض.
8082 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا شبابة بن سوار الفزاري قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد فقال يا رسول الله أقاتل واسلم قال أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قليلا وأجر كثيرا.
مطابقته للترجمة في قوله: (أسلم ثم قاتل) فأسلم ثم قاتل وقد أتى بالعمل الصالح بل بأفضل الأعمال وأقواها صلاحا، وهو الإسلام، ثم قاتل بعد أن أسلم. ومحمد بن عبد الرحيم أبو يحيى كان يقال له: صاعقة.
وهو من أفراد البخاري، وشبابة بفتح
105

الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف باء أخرى: ابن سوار، بفتح السين المهملة وتشديد الواو بعد الألف راء: الفزاري، بفتح الفاء وتخفيف الزاي، وقد مر في كتاب الحيض، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وإسرائيل هذا يروي هنا عن جده أبي إسحاق. والحديث من أفراده.
قوله: (رجل) قال الكرماني: قيل: اسمه الأصرم بالمهملة عمرو بن ثابت الأشهلي وحاله من الغرائب لأنه دخل الجنة ولم يسجد لله سجدة قط. قلت: قال الذهبي في: باب الألف: أصرم. ويقال أصيرم بن ثابت بن وقش الأشهلي، استشهد يوم أحد وقال في باب العين: عمرو بن ثابت بن وقش الأوسي الأشهلي، ابن عم عباد بن بشر، استشهد بأحد. وقال أبو عمر: وفي باب الهمزة: أصرم الشقري، كان في النفر الذين أتوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم من بني شقرة، فقال له: ما اسمك؟ فقال: أصرم فقال: أنت زرعة. وقال في باب العين: عمرو بن ثابت بن وقش بن رغبة بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي استشهد يوم أحد، وهو الذي قيل: إنه دخل الجنة ولم يصل لله سجدة، فيما ذكره الطبري. وفيه نظر. قوله: (مقنع) على صيغة المفعول، أي: منشى بالحديد. قوله: (وأجر) على صيغة المجهول.
وفيه: أن الله تعالى يعطي الثواب الجزيل على العمل اليسير تفضلا منه على عباده، فاستحق بهذا نعيم الأبد في الجنة بإسلامه، وإن كان عمله قليلا، لأنه اعتقد أنه لو عاش لكن مؤمنا طول حياته، فنفعته نيته، وإن كان قد تقدمها قليل من العمل، وكذلك الكافر إذا مات ساعة كفره يجب عليه التخليد في النار، لأنه انضاف إلى كفره اعتقاد أنه يكون كافرا طول حياته لأن الأعمال بالنيات.
41
((باب من أتاه سهم غرب فقتله))
أي: هذا باب في ذكر من أتاه سهم غرب، بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفي آخره باء موحدة، وهو إما صفة لسهم أو مضاف إليه، ففيه أربعة أوجه. قاله الكرماني: وسكت عليه. وقال ابن الجوزي: روى لنا سهم بالتنوين وغرب، بتسكين الراء مع التنوين، وقال ابن قتيبة: كذا تقوله العامة والأجود: سهم غرب، بفتح الراء، وإضافة الغرب إلى السهم. وقال ابن السكيت: يقال: أصابه سهم غرب إذا لم يدر من أي جهة رمى به، وقد روى عن أبي زيد: إن جاء من حيث لا يعرف فهو سهم غرب، بسكون الراء، فإن رمى به إنسان فأصاب غيره فهو غرب، بفتح الراء، وذكره الأزهري بفتح الراء لا غير. وقال ابن سيده: يقال أصابه سهم غرب، وغرب إذا كان لا يدري من رماه. وفي (المنتهى): سهم غرب وغرب بتسكين الراء وفتحها يضاف ولا يضاف إذا أصابه سهم لا يعرف من رماه ومثله سهم عرض، فإن عرف فليس بغرب ولا عرض، وبنحوه ذكر القزاز وابن دريد، فعلى هذا لا يقال في السهم الذي أصاب حارثة: غرب، لأن راميه قد عرف. والله أعلم.
9082 حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثنا حسين بن محمد أبو أحمد قال حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك أن أم الربيع بن البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذالك اجتهدت عليه في البكاء قال يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن عبد الله، قال الكرماني: نسبه البخاري إلى جده وهو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي بضم الذال المعجمة، قلت: كذا جزم به الكلاباذي، ووقع في رواية أبي علي بن السكن: حدثنا محمد بن عبد الله ابن المبارك المخرمي، بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء. قلت: كلاهما من أفراد البخاري، وحسين بن محمد ابن بهرام التميمي المروزي، سكن بغداد ومات سنة أربع عشرة ومائتين، وشيبان، بفتح الشين المعجمة أبو معاوية النحوي، وقد مر.
106

ذكر معناه: قوله: (إن أم الربيع بنت البراء)، كذا وقع لجميع رواة البخاري، وهذا وهم نبه عليه غير واحد آخرهم الحافظ الدمياطي، والصواب أنها أم حارثة بن
سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار، والربيع بنت النضر أخت أنس بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي وهي عمة أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، وهي التي كسرت ثنية امرأة، وقد مر بيانه. قوله: (وهي أم حارثة بن سراقة)، وهذا هو المعتمد عليه. وقد روى الترمذي وابن خزيمة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فقال أنس: إن الربيع بنت النضر أتت النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان ابنها حارثة بن سراقة أصيب يوم بدر... الحديث، وقال ابن الأثير في (جامع الأصول): الذي وقع في كتب النسب والمغازي وأسماء الصحابة: أن أم حارثة هي الربيع بنت النضر، عمة أنس، رضي الله تعالى عنه. قلت: وكذا بينه الإسماعيلي في (مستخرجه) وأبو نعيم وغيرهما، وحارثة هو الذي قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا... الحديث، وفيه: يا رسول الله أدع لي بالشهادة. فجاء يوم بدر ليشرب من الحوض فرماه حبان، بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن عرقة، بفتح العين المهملة وكسر الراء لابعدها قاف، بسهم فأصاب حنجرته فقتله. وقال أبو موسى المديني: وكان خرج نظارا وهو غلام، وقول ابن منده: شهد بدرا واستشهد بأحد، رد عليه. وقد تصدى الكرماني للجواب عن قول من قال بالوهم، فقال:؛ لا وهم للبخاري، إذ ليس في رواية النسفي إلا هكذا، قال أنس: إن أم حارثة ابن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر، وكأنه كان في رواية الفربري حاشية غير صحيحة لبعض الرواة، فألحقت بالمتن، ثم إنه على تقدير وجوده وصحته عن البخاري يحتمل احتمالات أن يكون للربيع ولد يسمى بالربيع بالتخفيف من زوج آخر غير سراقة اسمه: البراء، وأن تكون بنت البراء خبرا، لأن، وضمير: هي، راجع إلى الربيع، وأن تكون: بنت، صفة لأم الربيع، وهي المخاطبة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاطلق الأم على الجدة تجوزا، وإن تكون إضافة الأم إلى الربيع للبيان أي: الأم التي هي الربيع، وبنت مصحف من عمه، إذ الربيع هي عمة البراء بن مالك وارتكاب بعض هذه التكلفات أولى من تخطئة العدول الثقات. انتهى. قلت: هذه تعسفات، والأنساب ما تعرف بالاحتمالات، والعدول الثقات غير معصومين من الخطأ، ودعوى الأولوية غير صحيحة. قوله: (اجتهدت عليه في البكاء)، قال الخطابي: أقرها النبي، صلى الله عليه وسلم على هذا، يعني: يؤخذ منه الجواز. وأجيب بأن هذا كان قبل تحريم النوح، فلا دلالة، فإن تحريمه كان عقيب غزوة أحد، وهذه القصة كانت عقيب غزوة بدر، ووقع في رواية سعيد بن أبي عروبة: (اجتهدت في الدعاء)، بدل قوله: (في البكاء) وهو خطأ. وفي رواية حميد الآتية في صفة الجنة من الرقاق: فإن كان في الجنة فلم أبك عليه. قوله: (إنها جنان في الجنة)، كذا هنا، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة: (إنها جنان في جنة) وفي رواية أبان عند أحمد: (إنها جنان كثيرة في جنة)، وفي رواية حميد: (إنها جنان كثيرة) فقط والضمير في: إنها، ضمير مبهم يفسره ما بعده كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء، ولما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأمه ما قال، رجعت وهي تضحك، وتقول: بخ، بخ لك يا حارثة، وهو أول من قتل من الأنصار يوم بدر، وعن أبي نعيم كان كثير البر بأمه. قال صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت حارثة لذلك البر، قيل: فيه نظر، لأن المقتول فيه هذا هو حارثة بن النعمان كما بينه أحمد في مسنده. قوله: (الفردوس)، هو البستان الذي يجمع ما في البساتين من شجر وزهر ونبات، وقيل: هو رومية معربة، والجنة البستان، ويقال: هي النخل الطوال. وقال الأزهري: كل شجر متكاثف يستر بعضه بعضا فهو جنة، مشتق من: جننته، إذا سترته.
51
((باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا))
أي: هذا باب في بيان فضل من قاتل... إلى آخره.
0182 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن عمر و عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل
107

للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وعمرو: هو ابن مرة، وأبو وائل هو شقيق ابن سلمة، وأبو موسى اسمه عبد الله بن قيس.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الخمس عن محمد بن كثير، وفي العلم عن عثمان بن أبي شيبة والحديث مضى في كتاب العلم في: باب من سأل وهو قائم عالما جالسا، وقد مضى الكلام فيه هناك.
قوله: (جاء رجل)، في رواية غندر: (جاء أعرابي)، قيل: هذا يدل على وهم ما وقع عند الطبراني من وجه آخر عن أبي موسى أنه قال: يا رسول الله... فذكره، فإن أبا موسى، وإن جاز أن يبهم نفسه، لكن لا يصفها بكونه أعرابيا، وقيل: إن هذا الأعرابي يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في الصحابة من طريق عفير بن معدان: سمعت لاحق ابن ضميرة الباهلي، قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر؟ فقال: لا شيء... له الحديث، وفي إسناده ضعف. قوله: (للذكر)، أي: بين الناس، يعني: الشهرة. قوله: (ليرى)، على صيغة المجهول. قوله: (مكانه)، أي: مرتبته في الشجاعة. قوله: (كلمة الله)، أي: التوحيد، فهو المقاتل في سبيل الله لا طالب الغنيمة والشهرة، ولا مظهر الشيء عنه.
61
((باب من اغبرت قدماه في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل من اغبرت قدماه واغبرار القدمين عبارة عن الاقتحام في المعارك لقتال الكفار، ولا شك أن الغبار يثور في المعركة حال مصادمة الرجال ويعم سائر الأعضاء، ولكن تخصيص القدمين بالذكر لكونهما عمدة في سائر الحركات.
وقول الله تعالى * (ما كان لأهل المدينة) * إلى قوله * (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) * (التوبة: 021).
وقول الله، بالجر عطفا على قوله: من اغبرت أي: وفي بيان قول الله عز وجل: * (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين) * وقال ابن بطال: مناسبة الآية للترجمة أنه سبحانه وتعالى قال في الآية): * (ولا يطأون موطأ يغيظ الكفار) * (التوبة: 021). وفي الآية: * (إلا كتب لهم به عمل صالح) * (التوبة: 021). قال: فسر النبي، صلى الله عليه وسلم العمل الصالح أن النار لا تمس من عمل بذلك. قال: والمراد بسبيل الله جميع طاعاته. وقيل: مطابقة الآية من جهة أن الله أثابهم بخطواتهم وإن لم يباشروا قتالا، وكذلك دل الحديث على: أن من اغبرت قدمه في سبيل الله حرمه الله على النار، سواء باشر قتالا أم لا. وفي (تفسير ابن كثير): عاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ونفى رغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر، لأنه لا يصيبهم ظمأ وهو العطش ولا نصب، وهو التعب ولا مخمصة وهي المجاعة، ولا يطأن موطئا يغيظ الكفار أي: لا ينزلون منزلا يرهب عدوهم، ولا ينالون منه ظفرا وغلبة عليه، إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا إن الله لا يضيع أجر المحسنين، كما قال تعالى: * (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) * (الكهف: 03). وفي تفسير الثعلبي ظاهر قوله: * (ما كان لأهل المدينة) * (الكهف: 03). خبر ومعناه أمر، والأعراب سكان البوادي: مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، أن يتخلفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا غزا، وقال ابن عباس: كتب لهم بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة. وقال قتادة: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة، فمن شاء أن يتخلف تخلف. وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي، وابن المبارك والفزاري وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنها لأول هذه الأمة وآخرها. وقال ابن زيد: كان هذا وأهل الإسلام قليل، فلما كثروا نسخها الله عز وجل، وأباح التخلف لمن شاء، فقال:
108

(وما كان المؤمنون لينفروا كافة)، وقال النحاس: ذهب غيره أنه ليس هنا ناسخ ولا منسوخ، وأن الآية الأولى توجب إذا نفر النبي، صلى الله عليه وسلم أو احتيج إلى المسلمين واستنفروا لم يسع أحد التخلف، وإذا بعث النبي، صلى الله عليه وسلم سرية خلفت طائفة.
1182 حدثنا إسحاق قال أخبرنا محمد بن المبارك قال حدثنا يحيى ابن حمزة قال حدثني يزيد بن أبي مريم قال أخبرنا عباية بن رافع بن خديج قال أخبرني أبو عبس هو عبد الرحمان بن جبر أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار.
(انظر الحديث 709).
مطابقته للترجمة ظاهرة. وقد مضى هذا الحديث في كتاب صلاة الجمعة في: باب المشي إلى الجمعة، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي مريم عن عبابة بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبس، وأنا أذهب إلى الجمعة فقال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار. وأبو عبس كنية: عبد الرحمن ابن جبر بن عمرو بن زيد الأنصاري، وقد مر الكلام فيه هناك. وإسحاق هو ابن منصور، قال الجياني: نسبه الأصيلي إلى ابن منصور، ويزيد بالياء آخر الحروف، وعباية، بفتح العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة، ورفاعة بكسر الراء وتخفيف الفاء ابن رافع بالفاء وبالعين المهملة وأبو عبس بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة وجبر بفتح الجيم وسكون البارء الموحدة. قوله: (من اغبرت)، كذا هو على الأصل في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي (ما اغبرتا)، وهي لغة.
71
((باب مسح الغبار عن الناس في السبيل))
أي: هذا باب في بيان عدم كراهة مسح الغبار عن رأس الناس حال كونه في سبيل الله، نحو الجهاد وغيره من أبواب الطاعة. ووقع في بعض النسخ: عن الناس، قيل: هذا تصحيف، والصواب: عن الرأس. قلت: لا وجه لدعوى التصحيف، لأنه إذا كره مسح الغبار عن رأس من كان في سبيل الله فكذلك في مسحه عن غير الرأس.
2182 حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد عن عكرمة أن ابن عباس قال له ولعلي بن عبد الله ائتيا أبا سعيد فاسمعا من حديثه فأتيناه وهو وأخوه في حائط لهما يسقيان فلما رآنا جاء فاحتبى وجلس فقال كنا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عن رأسه الغبار وقال ويح عمار تقتله الفئة الباغية عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار.
(انظر الحديث 344).
مطابقته للترجمة في قوله: (ومسح عن رأسه الغبار) وإبراهيم بن موسى بن يزيد أبو إسحاق الرازي، يعرف بالصغير وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وخالد هو الحذاء.
والحديث قد مر في كتاب الصلاة في: باب التعاون في بناء المسجد. قوله: (وهو وأخوه)، قال الحافظ الدمياطي: لم يكن لأبي سعيد أخ بالنسب إلا قتادة بن النعمان الظفري، فإنه كان أخاه لأمه، وقتادة مات زمن عمر، رضي الله تعالى عنه، وكان عمر أبي سعيد أيام بناء المسجد عشر سنين أو دونها. وقال الكرماني: إن صح ذلك فالمراد به أخوه من الرضاعة، ولا أقل من أخ في الإسلام: * (إنما المؤمنون أخوة) * (الحجرات: 01). قلت: بنى جوابه هذا على قوله: إن صح ذلك ولم يصح ذلك فلا يصح الجواب. قوله: (فاحتبى)، يقال: احتبى الرجل إذا جمع ظهره وساقيه بعمامته، وقد يحتبي بيده. قوله: (عن رأسه)، ويروى على رأسه، وهو متعلق بالغبار، أي: الغبار الذي على رأسه. قوله: (ويح)، كلمة رحمة منصوب بإضمار فعل. قوله: (يدعوهم إلى الله)، قال ابن بطال: يريد والله أعلم أهل مكة الذين أخرجوا عمارا من دياره وعذبوه في ذات الله، قال: ولا يمكن أن يتأول ذلك على المسلمين، لأنهم أجابوا دعوة الله عز وجل، وإنما يدعى إلى الله من
109

كان خارجا عن الإسلام. قوله: (ويدعونه إلى النار)، تأكيد للأول، لأن المشركين إذ ذاك طالبوه بالرجوع عن دينه، قال: فإن قيل: فتنة عمار كانت في أول الإسلام، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: يدعوهم، بلفظ المستقبل وما قبله لفظ الماضي، قيل له العرب تخبر بالفعل المستقبل عن الماضي، إذا عرف المعنى كما تخبر بالماضي عن المستقبل، فمعنى: يدعوهم دعاهم إلى الله فأشار صلى الله عليه وسلم إلى ذكر هذا لما تطابقت شدته في نقله لبنتين شدته في صبره، بمكة على العذاب تنبيها على فضيلته وثباته في أمر الله تعالى، وقال الكرماني: ويدعوهم، أي: في الزمان المستقبل، وقد وقع ذلك يوم صفين معجزة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم حيث دعا الفئة الباغية إلى الحق وكانوا يدعونه إلى الباطل البغي، انتهى. قلت: ظاهر الكلام يساعد الكرماني، ولكن ابن بطال تأدب حيث لم يتعرض إلى ذكر صفين إبعادا لأهلها عن نسبة البغي إليهم، والله أعلم.
81
((باب الغسل بعد الحرب والغبار))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من غسل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الحرب، وبيان كون الغبار على رأس جبريل، عليه الصلاة والسلام، في تلك الحرب، لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم الخندق من الحرب اغتسل وأتاه جبريل، وعلى رأسه الغبار، وأشار إليه أن يذهب إلى بني قريظة كما يجيء الآن بيانه في حديث الباب، والترجمة المذكورة مشتملة على شيئين: على الغسل وعلى الغبار، فلا يتضح معناها إلا بما ذكرنا، وبذلك يحصل التطابق أيضا بينها وبين حديث الباب.
3182 حدثنا محمد قال أخبرنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال وضعت السلاح فوالله ما وضعته فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأين قال هاهنا وأومأ إلي بني قريظة قالت فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
وجه المطابقة بين الترجمة والحديث قد مر الآن. قوله: (محمد)، كذا وقع في رواية الأكثرين بغير نسبة، وفي رواية أبي ذر: حدثنا محمد بن سلام، وعبدة ضد الحرة هو ابن سليمان. والحديث من أفراده.
قوله: (يوم الخندق)، هو خندق مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم حفره الصحابة لما تحزبت عليهم الأحزاب فيوم الخندق هو يوم الأحزاب، قال مالك: كانت غزوة الخندق في سنة أربع، وقيل: سنة خمس. قوله: (وقد عصب رأسه)، بفتح العين والصاد المهملتين جملة حالية أي: ركب رأسه الغبار وعلق به كالعصابة. قوله: (بني قريظة)، بضم القاف وفتح الراء وسكون التحتانية وبالظاء المعجمة: قبيلة من اليهود، وفيه قتال الملائكة بالسلاح ومصاحبتهم المجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنهم في عونهم ما استقاموا، فإن خانوا فارقتهم، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: مع كل قاض ملكان يسددانه ما أقام الحق، فإذا جاز تركاه. والمجاهد حاكم بأمر الله في أعوانه وأصحابه.
91
((باب فضل قول الله تعالى * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * (آل عمران: 971 181).))
أي: هذا باب في بيان فضل من ورد فيه قول الله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا) * (آل عمران: 971 181). الآية، ولا بد من هذا التقدير، لأن ظاهره غير مراد، ولهذا حذف الإسماعيلي لفظ: فضل، من الترجمة، ثم إن الآيتين ساقهما بتمامهما الأصيلي وكريمة، وفي رواية أبي ذر: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 971 181). إلى * (وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين) * (آل عمران: 971 181). واختلفوا في سبب نزول هذه الآيات، فقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو
110

ابن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من أثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 971). وما بعدها، ورواه أبو داود وابن جرير والحاكم في (مستدركه) وروى الحاكم أيضا في (مستدركه) من حديث أبي
إسحاق الفزاري عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه * (ولا تحسبن الذين قتلوا) * (آل عمران: 971). الآية، وكذا قال قتادة والربيع والضحاك، وقال أبو بكر بن مردويه، بإسناده عن علي بن عبد المديني عن موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشر بن الفاكه الأنصاري عن طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله، قال: نظر إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: يا جابر! مالي أراك مهتما؟ قال: قلت: يا رسول الله! استشهد أبي وترك عليه دينا وعيالا. قال: ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا. قال علي: الكفاح المواجهة، قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال الرب، عز وجل: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب، فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) * (آل عمران: 971). حتى أنفد الآية. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم النبي، صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة الحديث، مطولا. وفي آخره: قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه، ثم نسخت بعد ما قرأناه زمانا، وأنزل الله: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله...) * (آل عمران: 971). الآية، وقال مقاتل: نزلت في قتلى بدر، وكانوا أربعة عشر شهيدا. قوله: (فرحين)، بمعنى: فارحين، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في: يرزقون، وأن يكون صفة: لأحياء. قوله: (من فضله) أي: من رزقه. قوله: (ويستبشرون)، عطف على فرحين من الاستبشار، وهو السرور بالبشرة. قوله: * (بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) * (آل عمران: 081). أي: يفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم أحياء يرجون لهم الشهادة، يقولون إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل. وقال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بقدوم غائبهم. قوله: * (أن لا خوف عليهم) * (آل عمران: 081). بدل من الذي يعني: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، * (ولا هم يحزنون) * (آل عمران: 081). على ما خلفوا من أموالهم. وقيل: لا خوف فيما يقدمون عليه ولا يحزنون على مفارقة الدنيا. قوله: * (يستبشرون) * كلام مستأنف كرر للتوكيد والنعمة فضل من الله لا أنه واجب عليه. قوله: (وأن الله)، بالفتح عطفا على النعمة، والفضل، وبالكسر على الابتداء وعلى أن الجملة اعتراضية، وهي قراءة الكسائي. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم، وقل ما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثواب ما أعطاهم إلا ذكر ما أعطى المؤمنين من بعدهم.
4182 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين غداة على رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله قال أنس أنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآن قرأناه ثم نسخ بعد بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنها هي قوله تعالى: * (ولا تحسبن الذين قتلوا...) * (آل عمران: 971). إلى آخره، نزلت في حق أصحاب بئر معونة، كما ذكره ابن جرير أيضا، وقد مر عن قريب. وذكره البخاري هنا مختصرا، وسيأتي في المغازي عن يحيى بن بكير بأتم منه. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى.
قوله: (معونة)، بفتح الميم وضم العين المهملة وسكون الواو وبالنون:
111

وهي موضع من جهة نجد بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وكانت غزوتها سنة أربع. قوله: (على رعل)، بدل من الذين قتلوا بإعادة العامل. قوله: (ثم نسخ)، معناه سقط ذكره لتقادم عهده إلا أن يذكر بطريق الرواية، وليس معناه النسخ الذين بدل مكانه خلافه، لأن الخبر لا يدخله نسخ، والقرآن ربما نسخ لفظه، وبقي حكمه مثل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) ومعنى النسخ هنا أنه أسقط لفظه من التلاوة. قال السهيلي: هذا المذكور، أعني: ما نزل، نسخ وليس عليه رونق الإعجاز. قوله: (رضينا عنه)، وقد تقدم بلفظ أرضانا، والحال لا يخلو من أحدهما. وأجيب: بأن القرآن المنسوخ يجوز نقله بالمعنى. وقال المهلب: في الحديث دلالة على أن من قتل غدرا فهو شهيد، لأن أصحاب بئر معونة قتلوا غدرا.
واختلف الناس في كيفية حياة الشهيد، فقال ابن بطال: إن الأرواح ترزق، وكذا جاء الخبر في (صحيح ابن حبان): إنما نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة، قال أهل اللغة: يعني تأكل منها. قال ابن قرقول: بضم اللام، أي: تتناوله، وقيل: تشمه. وهذا الحديث عام وقد خصه القرآن العزيز باشتراط الشهادة. وقال الداودي: أرواح الشهداء في حواصل طير، وقال ابن التين: هذا لا يصح في العقل، ولا في الاعتبار، لأنها إن كانت هي أرواح الطير فكيف تكون في الحواصل دون سائر الجسد، وإن كان لها أرواح غيرها فكيف يكون لها روحان في جسد؟ وكيف تصل لهم الأرزاق التي ذكر الله عز وجل. انتهى. وفيه نظر، لأن مسلما أخرج في (صحيحه): عن محمد بن عبد الله بن نمير أخبرنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: * (ولا تحسبن الذين قتلوا...) * (آل عمران: 971). الآية، فقال: إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل... الحديث، وروى الحاكم على شرط مسلم من حديث، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم بأحد..) الحديث، ذكرناه عن قريب، وروى ابن أبي عاصم من حديث ابن مسعود: (أن الثمانية عشر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر)، وفي لفظ: (أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحت العرش). ومن حديث عطية عن أبي سعيد، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم:
أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ثم تكون مأواها قناديل معلقة بالعرش. ومن حديث موسى بن عبيدة الربذي عن عبيد الله بن يزيد عن أم قلابة، أظنها أم مبشر، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن أرواح المؤمنين طير خضر في حجر من الجنة، يأكلون من الجنة ويشربون من الجنة، وبسند صحيح إلى كعب بن مالك يرفعه أرواح الشهداء في طير خضر)، وعند مالك في (الموطأ): نسمة المؤمن طائر. وتأول بعض العلماء لفظ: في، في قوله: في جوف طير، بمعنى: على، فيكون المعنى: أرواحهم على جوف طير خضر، كما في قوله: * (ولأصلبنكم في جذوع النخل) * (طه: 17). أي: على جذوع النخل. وقال الطيبي، قوله: (أرواحهم في جوف طير خضر)، أي: يخلق لأرواحهم بعدما فارقت أبدانهم هياكل على تلك الهيئة تتعلق بها وتكون خلفا عن أبدانهم، فيتوسلون بها إلى نيل ما يشتهون من اللذات الحسية. وقال القاضي عياض: واختلفوا فيه، فقيل: ليست للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله أن يجعل الروح، إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد، في قناديل أو جوف طير أو حيث شاء كان ذلك، ووقع ولم يبعد، لا سيما على القول بأن الأرواح أجساد فغير مستحيل أن يصور جزء من الإنسان طائرا، أو يجعل في جوف طائر في قناديل تحت العرش. وقد اختلفوا في الروح. فقال كثير من أرباب علم المعاني وعلم الباطن والمتكلمين: لا نعرف حقيقته ولا يصح وصفه. وهو ما جهل العباد بعلمه، واستدلوا بقوله تعالى: * (قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 58). وقال كثيرون من شيوخنا: هو الحياة، وقال آخرون: هو أجسام لطيفة مشاكلة للجسم يحيى بحياته، أجرى الله العادة بموت الجسم عند فراقه، ولهذا وصف بالخروج والقبض وبلوغ الحلقوم، قال الشيخ: هذا هو المختار، وقد تعلق بهذا الحديث وأمثاله بعض القائلي بالتناسخ وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة، وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب، وهذا باطل مردود لإبطاله ما جاءت الشرائع من إثبات الحشر والنشر والجنة والنار.
112

5182 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عبد الله عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء فقيل لسفيان من آخر ذلك اليوم قال ليس هذا فيه.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (شهداء)، والخمر التي شربوها ذلك اليوم لم تضرهم لأنها كانت مباحة في وقت شربهم، ولهذا أثنى الله عليهم بعد موتهم، ورفع عنهم الخوف والحزن. وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار المكي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن صدقة بن الفضل وفي المغازي عن عبد الله بن محمد.
قوله: (اصطبح)، أي: شربوا الخمر صبوحا، والصبوح الشرب بالغداة، وهو خلاف الغبوق، واصطبح الرجل: شرب صبوحا. قوله: (فقيل لسفيان: من آخر ذلك اليوم)، يعني: في الحديث هذا اللفظ موجود، وهو قوله: من آخر ذلك اليوم. قال سفيان: ليس هذا فيه، أي: ليس هذا اللفظ مرويا في الحديث: فإن قلت: أخرج الإسماعيلي هذا الحديث من طريق القواريري عن سفيان بهذه الزيادة، ولكن بلفظ: اصطبح قوم الخمر أول النهار وقتلوا آخر النهار شهداء. قلت: لعل سفيان كان نسيه ثم تذكر، وقد أخرجه البخاري في المغازي عن عبد الله بن محمد عن سفيان، بدون الزيادة. وأخرجه في تفسير المائدة عن صدقة بن الفضل عن سفيان بإثباتها.
02
((باب ظل الملائكة على الشهيد))
أي: هذا باب في بيان ظل الملائكة على الشهيد.
6182 حدثنا صدقة بن الفضل قال أخبرنا ابن عيينة قال سمعت محمد بن المنكدر أنه سمع جابرا يقول جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثل به ووضع بين يديه فذهبت أكشف عن وجهه فنهاني قومي فسمع صوت صائحة فقيل ابنة عمر و أو أخت عمر و فقال لم تبكي أو لا تبكي ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها قلت لصدقة أفيه حتى رفع قال ربما قاله.
مطابقته للترجمة في قوله: (ما زالت الملائكة تظله)، وابن عيينة هو سفيان. والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجنائز، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (قلت لصدقة)، القائل هو البخاري، وصدقة بن الفضل شيخه فيه. قوله: (أفيه؟) الهمزة للاستفهام على وجه الاستخبار، أي أفي الحديث لفظ حتى رفع؟ قوله: (قال: ربما قاله) أي: قال سفيان: ربما قاله جابر ولم يجزم به، وجزم به في الجنائز حيث قال في آخر الحديث: حتى رفع، وكذلك رواه الحميدي وجماعة عن سفيان.
12
((باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا))
أي: هذا باب في بيان تمني المجاهد أن يرجع، كلمة: إن، مصدرية أي: تمنى المجاهد الذي جاهد في سبيل الله ثم قتل رجوعه إلى الدنيا لما يرى من الكرامات للشهداء.
7182 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة قال سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
(انظر الحديث 5972).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وغندر، بضم الغين المعجمة: هو محمد بن جعفر وقد تكرر ذكره.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في
113

الجهاد عن أبي موسى وبندار، كلاهما عن غندر وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر. وأخرجه الترمذي فيه عن بندار به.
قوله: (ما أحد) في رواية أبي خالد: ما من نفس. قوله: (يدخل الجنة)، في رواية أبي خالد لها: عند الله خير. قوله: (وله ما على الأرض من شيء)، وفي رواية أبي خالد، وأن لها الدنيا وما فيها. قوله: (لما يرى من الكرامة)، أي: لأجل ما يراه من الكرامة للشهداء، وفي رواية أبي خالد، لما يرى من فضل الشهادة، ولم يقل: عشر مرات. وقال ابن بطال: هذا الحديث أجل ما جاء في فضل الشهادة، والله أعلم.
22
((باب الجنة تحت بارقة السيوف))
أي: هذا باب ترجمته: الجنة تحت بارقة السيوف، وهذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، يقال: برق السيف بروقا إذا تلألأ. وقد تطلق البارقة، ويراد بها نفس السيوف، والإضافة بيانية، نحو: شجر الأراك، وقيل: كأن البخاري أراد بالترجمة أن السيوف لما كانت لها بارقة شعاع كان لها أيضا ظل تحتها، وترجم: ببارقة، يريد لمع السيوف من قولهم: ناقة بروق إذا لمعت بذنبها من غير لقاح، وهو مثل: الجنة تحت ظلال السيوف، وقال ابن بطال: هو من البريق، وهو معروف. وقال الخطابي: يقال: أبرق الرجل بسيفه إذا لمع به، وسمي السيف: إبريقا، وهو إفعيل من البريق. وأخرج الطبراني من حديث عمار بن ياسر بإسناد صحيح أنه قال يوم صفين: الجنة تحت الأبارقة. وقال بعضهم: الصواب البارقة، وهي: السيوف اللامعة. قلت: قال الخطابي: الأبارقة جمع إبريق، وسمي السيف إبريقا كما ذكرناه آنفا، وكذلك فسر ابن الأثير كلام عمار: الجنة تحت الأبارقة، أي: تحت السيوف، فلا وجه حينئذ لدعوى الصواب.
وقال المغيرة بن شعبة قال أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا قال من قتل منا صار إلى الجنة
وجه دخوله تحت الترجمة من حيث أن كون المقتول منهم إلى الجنة داخل بارقة السيوف، وهذا التعليق وصله في الجزية بتمامه. قوله: (عن رسالة ربنا)، ثبت في رواية الكشميهني وحده.
وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى
وجه هذا مثل وجه المعلق السابق، ووصله البخاري في المغازي من حديث سهل بن حنيف، رضي الله تعالى عنه، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
8182 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و حدثنا أبو إسحاق عن موساى ابن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبه قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن السيوف لما كانت لها بارقة شعاع كان لها أيضا ظل تحتها، وعبد الله بن محمد أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي، ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي البغدادي، وأصله كوفي، وروى عنه البخاري في الجمعة بلا واسطة. وأبو إسحاق، قال الكرماني: هو السبيعي، وهذا سهو، وليس إلا أبا إسحاق الفزاري، واسمه: إبراهيم بن محمد، سكن المصيصة من الشام، مات سنة ست وثمانين ومائة.
والحديث أخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد في الجهاد في موضعين. وأخرجه في الجهاد أيضا عن يوسف بن موسى. وأخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن رافع. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن أبي صالح محبوب ابن موسى.
قوله: (وكان كاتبه) أي: كان سالم كاتب عبد الله بن أبي أوفى، وقد سها الكرماني سهوا فاحشا حيث قال: وكان سالم كاتب عمر بن عبيد الله، وليس كذلك، بل الصواب ما ذكرناه. قوله: (كتب إليه) أي: إلى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وكان أميرا على حرب الخوارج. وقال صاحب (التلويح): هذا الحديث ليس من الكتابة في شيء لأنه لم يكتب لسالم، إنما
114

كانت الكتابة لعمر بن عبيد الله، فأخبر بالواقع فصار وجادة فيها شوب من الاتصال. قوله: (إن الجنة تحت ظلال السيوف) أي: إن ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله، وقال ابن الجوزي: المراد أن دخول الجنة يكون بالجهاد، والظلال جمع: ظل، فإذا دنى الشخص من الشخص صار تحت ظل سيفه، وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهما تحت ظل سيف الآخر، فالجنة تنال بهذا.
تابعه الأويسي عن ابن أبي الزناد عن موساى بن عقبة
يعني: الأويسي عبد العزيز بن عبد الله العامري تابع معاوية بن عمرو الذي رواه عن أبي إسحاق عن موسى بن عقبة، وهذه المتابعة رواها البخاري في خارج (الصحيح) عن الأويسي، ورواه عنه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد. قلت: نسبته إلى أويس، بضم الهمزة وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وكسر السين المهملة: نسبة إلى أويس بن سعد، أحد أجداد عبد العزيز المذكور.
32
((باب من طلب الولد للجهاد))
أي: هذا باب في بيان من نوى عند المجامعة مع أهله حصول الولد ليجاهد في سبيل الله فيحصل له بذلك أجر لأجل نيته وإن لم يحصل له ولد.
9182 وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمان بن هرمز قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه قل إن شاء الله فلم يقل إن شاء الله فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، كذا أخرجه البخاري معلقا. وأخرجه في ستة مواضع مسندة: منها في الأيمان والنذور: عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج من طريق الليث رواه أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير عن الليث، وكذلك أخرجه مسلم من حديثه.
قوله: (لأطوفن الليلة) ووقع في رواية: لأطيفن. وقال المبرد: كلاهما صحيح، قال القرطبي: الدوران حول الشيء، وهو ههنا كناية عن الجماع، واللام فيه للقسم، لأن هذه اللام هي التي تدخل على جواب القسم، وكثيرا ما تحذف معها العرب المقسم به اكتفاء بدلالتها على المقسم به، لكنها لا تدل على مقسم به معين. قوله: (أو تسع وتسعين)، شك من الراوي وفي لفظ: ستين امرأة، وفي رواية (سبعين)، وفي رواية: (مائة)، من غير شك وفي أخرى: (تسعة وتسعين)، من غير شك ولا منافاة بين هذه الروايات لأنه ليس في ذلك القليل نفي الكثير، وهو من مفهوم العدد، ولا يعمل به جمهور أهل الأصول. قوله: (بفارس)، وفي رواية: بغلام. قوله: (يجاهد)، جملة في محل الجر لأنها صفة فارس. قوله: (فقال له صاحبه)، قيل: يريد به وزيره من الإنس والجن. وقيل: الملك، كما ذكره في النكاح، وفي مسلم فقال له صاحبه أو الملك، وهو شك من أحد رواته، وفي رواية له: فقال له صاحبه، بالجزم من غير تردد، وقال القرطبي: فإن كان صاحبه فيعني به وزيره من الإنس أو من الجن، وإن كان الملك فهو الذي كان يأتيه بالوحي، قال: وقد أبعد من قال هو خاطره، وقال النووي: قيل: المراد بصاحبه هو الملك، وهو الظاهر من لفظه وقيل: القرين. وقيل: صاحب له آدمي. قلت: الصواب أنه هو الملك كما ذكره في النكاح كما ذكرناه. قوله: (فلم يقل: إن شاء الله)، فلم يقل سليمان صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله بلسانه، لا أنه غفل عن التفويض إلى الله تعالى بقلبه، فإنه لا يليق بمنصب النبوة، وإنما هذا كما اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الروح والخضر وذي القرنين، فوعدهم أن يأتي بالجواب غدا جازما بما عنده من معرفة الله تعالى وصدق وعده في تصديقه وإظهار كلمته، لكنه ذهل عن النطق بها، لا عن التفويض بقلبه
115

فاتفق أن يتأخر الوحي عنه، ورمي بما رمي به لأجل ذلك، ثم علمه الله بقوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 32). فكان بعد ذلك يستعمل هذه الكلمة حتى في الواجب. قوله: (فلم تحمل منهم)، أي: من مائة امرأة. قوله: (إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل) وفي رواية: بشق غلام، في أخرى: نصف إنسان، وفي أخرى: فلم تحمل شيئا إلا واحدا سقط أحدى شقيه. قوله: (فرسانا) حال، وهو جمع فارس. قوله: (أجمعون)، بالرفع لتأكيد ضمير الجمع الذي في قوله: لجاهدوا، ويجوز أجمعين بالنصب تأكيدا لقوله: فرسانا، إن صحت الرواية.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الحض على طلب الولد لنية الجهاد في سبيل الله، وقد يكون الولد بخلاف ما أمله فيه، ولكن له الأجر في نيته وعمله. وفيه: أن من قال: إن شاء الله، وتبرأ من مشيئته ولم يعط الحظ لنفسه في أعماله، فهو حري أن يبلغ أمله، ويعطى أمنيته، وليس كل من قال قولا ولم يستثن فيه المشيئة بواجب أن لا يبلغ أمله، بل منهم من شاء الله بإتمام أمله، ومنهم من يشاء أن لا يتمه، بما سبق في علمه، لكن هذه التي أخبر عنها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنها مما لو استثنى لتم أمله، فدل هذا على أن الأقدار في علم الله، عز وجل، على ضروب، فقد يقدر للإنسان الرزق والولد والمنزلة إن فعل كذا، أو قال أو دعا، فإن لم يفعل ولا قال لم يقدر ذلك الشيء. وأصل هذا في قصة يونس، عليه الصلاة والسلام، فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه، فبان بهذا أن تسبيحه كان سبب خروجه من بطن الحوت، ولو لم يسبح ما خرج منه. وفيه: أن الاستثناء ليمضي فيه القدر السابق كما سبق وفيه أن الاستثناء يكون بأثر القول، وإن كان فيه سكوت يسير لم ينقطع به دونه فصال الحائلة بينه وبين الاستثناء واليمين. وفيه: ما كان الله تعالى خص به الأنبياء من صحة البنية وكمال الرجولية مع ما كانوا فيه من المجاهدات في العبادة، والعادة في مثل هذا لغيرهم الضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم وأحوالهم، فحصل لسليمان،
116

عليه الصلاة والسلام، من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة امرأة ينزل في كل واحدة منهن ماء، وليس في الأخبار ما يحفظ فيه صريحا غير هذا، إلا ما ثبت عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا في الجماع. وفي (الطبقات): أربعين. وقال مجاهد: أعطي قوة أربعين رجلا، كل رجل من أهل الجنة. وهي قوة أكثر من قوة سليمان، عليه السلام، وكان إذا صلى الغداة دخل على نسائه فطاف عليهن بغسل واحد، ثم يبيت عند التي هي ليلتها، وذلك لأنه كان قادرا على توفية حقوق الأزواج، وليس يقدر على ذلك غيره مع قلة الأكل. فإن قلت: قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: يدخل على كل نسائه فيدنو من كل امرأة منهن يقبل ويلتمس من غير مسيس ولا مباشرة، رواه الدارقطني من حديث ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه. قلت: هذا ضعيف، وسمعت بعض المشايخ الكبار الثقات: أن كل نبي، عليه الصلاة والسلام، من الأنبياء، عليهم السلام، أعطي قوة أربعين رجلا، ونبينا، صلى الله عليه وسلم، أعطي قوة أربعين نبيا فيكون له قوة ألف وستمائة رجل، فاعتبر من هذا صبره وزهده كيف قنع بتسع نسوة. وفيه: أنه لو قال: إن شاء الله، لم يحنث. وفيه: دلالة على أنه أقسم على شيئين: الوطء والولادة، وفعل الوطء حقيقة والاستيلاد لم يتم، إذ لو تم لم يقل ذلك فيه. وفيه: أن هذا محمول على أن نبينا صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك، وهذا من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم في اطلاعه على أخبار الأنبياء السالفة والأمم. وفيه: دلالة على جواز قوله: لو ولولا، بعد وقوع المقدور، وقد جاء في القرآن كثير من ذلك، وفي كلام الصحابة والسلف، وسيأتي ترجمة البخاري: هذا باب ما يجوز من اللو، وأما النهي عن ذلك، وأنها تفتح عمل الشيطان فمحمول على من يقول ذلك معتمدا
على الأسباب معرضا عن المقدور أو متضجرا منه. وفيه: أنه، عليه الصلاة والسلام، نبه هنا على آفة التمني والإعراض عن التقويض والتسليم، ومن آفته نسيان سليمان، عليه الصلاة والسلام، الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، ولا يكفي فيه النية، وهو قول الأئمة الأربعة والعلماء كافة، وادعى بعضهم أن قياس قول مالك: إن اليمين تنعقد بالنية ويصح الاستثناء بها من غير لفظ ومنع ذلك. وفيه: جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على الظن، فإن هذا الإخبار راجع إلى ذلك. وقال بعض الشافعية: أجاز أصحابنا الحلف على الظن الماضي، وقالوا: يجوز أن يحلف على خط مورثه إذا وثق بخطه وأمانته، وجوزوا العمل به واعتماده. وفيه: استحباب التعبير باللفظ الحسن عن غيره، فإنه عبر عن الجماع بالطواف، نعم، لو دعت ضرورة شرعية إلى التصريح به لم يعدل عنه. فإن قلت: من أين لسليمان، عليه الصلاة والسلام، أن الله تعالى يخلق من مائة في تلك الليلة مائة غلام؟ لا جائز أن يكون بوحي، لأنه ما وقع ولا أن يكون الأمر في ذلك إليه، لأنه لا يكون إلا ما يريد. قلت: قال ابن الجوزي: إنه من جنس التمني على الله والسؤال له، عز وجل، أن يفعل، والقسم عليه كقول أنس بن النضر: والله لا تكسر ثنية الربيع، قيل: قول أنس ليس بتمن، ألا ترى أن الشارع سماه قسما، فقال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، فسماه قسما ولم يسمه تمنيا.
42
((باب الشجاعة في الحرب والجبن))
أي: هذا باب في بيان مدح الشجاعة في الحرب، وفي بيان ذم الجبن فيه، وهو بضم الجيم وسكون الباء الموحدة، وفي آخره نون: الخوف، وأما الجبن الذي يؤكل فهو بتشديد النون.
0282 حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس ولقد فزع أهل المدينة فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس وقال وجدناه بحرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأشجع الناس) أي: في الحرب، وفسر ذلك بقوله: ولقد فزع أهل المدينة... إلى آخره. وأحمد بن عبد الملك بن واقد، بالقاف وبالدال المهملة: الحراني، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبالنون. مر في كتاب الصلاة في: باب الخدم للمسجد، إلا أنه نسبه ثمة إلى جده.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن سليمان بن حرب وقتيبة فرقهما في الجهاد، وأخرجه أيضا في الأدب عن عمرو بن ميمون. وأخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن يحيى بن يحيى وسعيد وابن منصور وأبي الربيع وأبي كامل. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن قتيبة. وأخرجه النسائي في السير عن قتيبة وفي اليوم والليلة عن أبي صالح محمد بن زنبور المكي، وأخرجه ابن ماجة في الجهاد عن أحمد بن عبدة الضبي.
قوله: (فزع)، بكسر الزاي، يقال: فزع يفزع فزعا. أي: خاف أهل المدينة، وفي رواية ليلا. قوله: (سبقهم على فرس) يقال له مندوب، كان لأبي طلحة على ما يأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. قوله: (وجدناه بحرا)، أي: كالبحر واسع الجري.
وفيه: استعمال المجاز حيث شبه الفرس بالبحر، لأن الجري منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: استعارة الدواب للحرب وغيره، وركوب الدابة عريانا لاستعجال الحركة، ثم إنه ذكر في الحديث ثلاثة أشياء من صفات النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي: الأحسنية والأشجعية والأجودية. قال حكماء الإسلام: للإنسان قوى ثلاث: العقلية والغضبية والشهوية، وكمال القوة الغضبية الشجاعة، وكمال القوة الشهوية الجود، وكمال القوة العقلية الحكمة. والأحسن إشارة إليه لأن حسن الصورة تابع لاعتدال المزاج، واعتدال المزاج تابع لصفاة النفس الذي به جودة القريحة، وهذه الثلاث هي أمهات الأخلاق.
1282 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عمر بن محمد بن جبير ابن مطعم أن محمد بن جبير قال أخبرني جبير بن مطعم أنه بينما هو يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حنين فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال اعطوني ردائي لو كان لي عدد هاذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا.
(الحديث 1282 طرفه في: 8413).
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم لا تجدوني...) إلى آخره، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وعمر بن محمد بن جبير، بضم الجيم وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف: ابن مطعم، بلفظ اسم الفاعل من الإطعام النوفلي القرشي، قال الكرماني: وكثيرا يروي
117

الزهري عن محمد بدون واسطة عمر. قلت: لم يرو عن عمر بن محمد بن جبير غير الزهري، وقد وثقه النسائي، وفيه رد على من زعم أن شرط البخاري أن لا يروي الحديث الذي يخرجه أقل من اثنين، عن أقل من اثنني، فإن هذا الحديث ما رواه عن محمد بن جبير غير ولده، ثم ما رواه عن عمر غير الزهري، هذا مع تفرد الزهري بالرواية عن عمر مطلقا.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الخمس عن عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم.
قوله: (ومعه الناس)، أي: ومع النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (مقفله) أي: زمان قفوله، أي: رجوعه، وهو: بفتح الميم وسكون القاف وفتح الفاء. قوله: (من حنين)، هو واد بين مكة والطائف، وذلك في سنة ثمان. قوله: (فعلقه الناس)، بفتح العين المهملة وتخفيف اللام المكسورة بعدها قاف، أي: فتعلقوا به،
وفي رواية الكشميهني: فطفقت، وهو بمعناه. قوله: (يسألونه)، حال. قوله: (حتى اضطروه)، أي: ألجؤه إلى سمرة، وهي واحدة السمر، وهي شجر طوال متفرق الرؤوس قليل الظل صغار اورق قصار الشوك جيد الخشب وله نوار أصفر وصمغ أبيض قليل المنفعة، ويخرج من السمرة شيء يشبه الدم، يقال: حاضت السمرة، إذا خرج منها ذلك. قوله: (العضاه)، بكسر العين المهملة وتخفيف الضاد المعجمة وفي آخره هاء: يقرؤ في الوصل والوقف بالهاء، وهو كل شجر عظيم له شوك، وواحد العضاه: عضاهة وعضهة وعضة، حذفوا منها الأصلية كما حذفت في: شفة، ثم ردت في عضاه كما ردت في شفاه وتصغر على عضيهة وينسب إليها، فيقال: بعير عضهي للذي يرعاها، وبعير عضاهي وإبل عضاهية، وقال ابن التين: ويقرؤ بالهاء وقفا ووصلا، وهو شجر الشوك: كالطلح والعوسج والسدر. وقال الجوهري: هو على ضربين: خالص: كالعرف والطلح والسلم والسيال والسمر والقتاد والغرب، وغير خالص: كالشوحط والنبع والشريان والسراء والقشم. قوله: (نعما)، بفتح النون والعين وفي رواية أبي ذر: نعم، بالرفع، وجه الرفع أنه اسم: كان. وقوله: (في عدد) خبره، ووجه النصب أنه تمييز، و: كان، تكون تامة، والنعم الإبل خاصة. كذا قاله أكثر أهل التفسير. وقال أبو جعفر النحاس: قيل: النعم الإبل والبقر والغنم، وإن انفردت الإبل يقال لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم لا يقال لها نعم، واختلف في الأنعام فقيل: هي جمع: نعم، فيكون للإبل خاصة وقيل: إذا قلت: أنعام، دخل تحته البقر والغنم. وقال الجوهري: النعم واحد الأنعام، وهي المال الراعية، قال الفراء: هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم، وأراد، ويجمع على: نعمان، مثل: حمل وحملان، والأنعام تذكر وتؤنث، قال الله تعالى في موضع: مما في بطونه، وفي موضع: مما في بطونها، وجمع الجمع أناعيم. قوله: (ثم لا تجدوني)، ويروى: لا تجدونني، على الأصل فيه أنه لا بأس للرجل الفاضل أن يخبر عن نفسه بما فيه من الخلال الشريفة عندما يخاف سوء ظن أهل الجاهلية. قوله: (بخيلا)، قال الفراء: البخيل الشحيح، وقال ابن مسعود: البخيل أن لا يعطي شيئا. والشحيح أخذه مال أخيه بغير حق. وقال طاووس: البخيل أن يبخل مما في يده، والشحيح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيدي الناس بالحلال والحرام. وقيل: البخل في اللغة دون الشح، والشح أشد منه، يقال: بخل يبخل بخلا وبخلا، وقيل: البخل أن يضن الإنسان بماله أن يبذله في المكارم أو اللوازم. قوله: (ولا كذوبا) من كذب كذبا وكذبا، وهو خلاف الصدق، فهو كاذب وكذاب وكذوب وكيذبان
ومكذبان ومكذبانة وكذبة، مثال: همزة وكذبذب مخففا، وقد يشدد. قوله: (وجبانا) صفة مشبهة من الجبن، وهو ضد الشجاعة، لا يقال: لا يلزم من نفي الكذوبية نفي الكذب، ولا من نفي البخيلية نفي البخل، ولا من نفي الجبان نفي نفس الجبن لأنا نقول: قد تجيء هذه الأوزان بمعنى: ذي كذا، كما في قوله تعالى: * (وما ربك بظلام للعبيد) * (فصلت: 64). والتقدير: وما ربك بذي ظلم، لأن نفي الظلامية لا ينفي نفس الظلم وكذلك ههنا فيؤل المعنى إلى نفي هذه الأشياء بالكلية، ثم اقتران الكذب مع الجبان، مع أن مقتضى المقام نفي البخل فقط هو إشارة إلى أنه يقول: لا أكذب في نفي البخل عني، لأن نفي البخل عني ليس من خوفي منكم، وهذا من جوامع الكلم إذ أصول الأخلاق: الحكمة والكرم والشجاعة، وأشار بعدم الكذب إلى كمال القوة العقلية، أي: الحكمة وبعدم الجبن إلى كمال القوة الغضبية أي: الشجاعة وبعدم البخل إلى كمال القوة الشهوية أي: الجود، وهذه الثلاث هي أمهات فواضل الأخلاق، والأول هو مرتبة الصديقين، والثاني هو مرتبة الشهداء، والثالث هو مرتبة الصالحين اللهم اجعلنا منهم.
118

52
((باب ما يتعوذ من الجبن))
أي: هذا باب في بيان التعوذ من الجبن، وكلمة: ما، مصدرية.
2282 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة قال حدثنا عبد الملك بن عمير قال سمعت عمرو بن ميمون الأودي قال كان سعد يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة ويقول إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ منهن دبر الصلاة اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر فحدثت به مصعبا فصدقه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أعوذ بك من الجبن)، وأبو عوانة، بفتح العين: الوضاح اليشكري، وعمرو بن ميمون مر في الوضوء وهو الذي رأى قردة زنت فرجمتها القردة، والأودي، بفتح الهمزة وسكون الواو وبالدال المهملة: نسبة إلى أود بن معن، هذا في باهلة، وأود أيضا في مذحج، وهو أود بن صعب وسعد هو ابن أبي وقاص أحد العشرة.
والحديث أخرجه الترمذي في الدعوات عن عبد الله بن عبد الرحمن. وأخرجه النسائي في الاستعاذة وفي اليوم والليلة عن يحيى ابن محمد وفي اليوم والليلة عن القاسم بن زكرياء وتفسير الجبن قد مر، وإنما تعوذ منه لأنه يؤدي إلى عذاب الآخرة، لأنه يفر في الزحف فيدخل تحت وعيد الله فمن ولى فقد باء بغضب من الله، وربما يفتتن في دينه فيرتد لجبن أدركه وخوف على مهجته من الأسر والعبودية.
قوله: (أن أرد) أي: عن الرد، وكلمة: أن، مصدرية (وأرذل العمر)، هو الخرف، يعني: يعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية، ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم، ويقال: أرذل العمر: أردؤه، وهو حالة الهرم والضعف عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه فيما يتنظف فيه فيكون كلا على أهله ثقيلا بينهم، يتمنون موته فإن لم يكن له أهل فالمصيبة أعظم. قوله: (وفتنة الدنيا)، هو أن يبيع الآخرة بما يتعجله في الدنيا من حال ومال. قوله: (فحدثت به مصعبا) قائل هذا هو عبد الملك بن عمير، ومصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص. وقال الحافظ المزي في (الأطراف) وفي رواية عمرو ابن ميمون هذه عن سعد، لم يذكر البخاري مصعبا،
وهو غريب منه، لأن هذا ثابت عند البخاري في جميع الروايات فافهم.
3282 حدثنا مسدد قال حدثنا معتمر قال سمعت أبي قال سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من عذاب القبر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (والجبن) ومعتمر هو ابن سليمان التيمي البصري، وأبو سليمان بن طرحان البصري مولى لبني مرة، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.
والحديث أخرجه أيضا في الدعوات عن مسدد عن معتمر. وأخرجه مسلم في الدعوات عن يحيى بن أيوب وعن كامل وعن محمد بن عبد الأعلى وعن أبي كريب. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن مسدد به. وأخرجه النسائي في الاستعاذة عن محمد بن عبد الأعلى به.
قوله: (من العجز) هو ضد القدرة، وقال ابن بطال: اختلف في معنى العجز، فأهل الكلام يجعلونه مالا استطاعة لأحد على ما يعجز عنه، لأنها عندهم مع الفعل، وأما الفقهاء فيقولون: إنه هو ما يستطيع أن يعمله إذا أراد، لأنهم يقولون: إن الحج ليس على الفور، ولو كان على المهلة عند أهل الكلام لم يصح معناه، لأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، والذين يقولون بالمهملة يجعلون الاستطاعة قبل الفعل. قوله: (والكسل) هو ضعف الهمة وإيثار الراحة للبدن على التعب، وإنما استعيذ منه لأنه يبعد عن الأفعال الصالحة. قوله: (والهرم)، قال الكرماني ضد الشباب، وفي (المغرب): الهرم كبر السن الذي يؤدي إلى تماوت الأعضاء وتساقط القوى، وإنما استعاذ منه لكونه من الأدواء التي لا دواء لها. قوله: (من فتنة المحيى) المحيي والممات مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت، وفتنة المحيى أن يفتتن بالدنيا ويشتغل بها عن
119

الآخرة، وفتنة الممات أن يخاف عليه من سوء الخاتمة عند الموت، وعذاب القبر مما يعرض له عند مساءلة الملكين ومشاهدة أعماله السيئة في أقبح الصور، أعاذنا الله منه بمنه وكرمه.
62
((باب من حدث بمشاهده في الحرب))
أي: هذا باب في بيان من حدث بمشاهده، وهو جمع: مشهد، موضع الشهود، أي: الحضور في الحرب، أراد بهذا أن للرجل أن يحدث بما تقدم له من العناء في إظهار الإسلام وإعلاء كلمته ليتأسى بذلك المتأسي، ويقتدي به، وليرغب الناس في ذلك. وأما الذي يحدث لإظهار شجاعته والافتخار بما صنع فذلك لا يجوز.
قاله أبو عثمان عن سعد
أي: قال ذلك أبو عثمان عبد الرحمن النهدي، بفتح النون عن سعد بن أبي وقاص، وهذا تعليق ذكره موصولا في المغازي.
4282 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حاتم عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال صحبت طلحة بن عبيد الله وسعدا والمقداد بن الأسود وعبد الرحمان بن عوف رضي الله تعالى عنهم فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.
(الحديث 4282 طرفه في: 2604).
مطابقته للترجمة في قوله: (سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد).
وحاتم هو ابن إسماعيل الكوفي، سكن المدينة ومر في الوضوء، ومحمد بن يوسف بن عبد الله ابن أخت نمر، وأمه ابنة السائب بن يزيد، سمع جده السائب بن يزيد، والسائب هذا صحابي صغير ابن صحابيين حج به أبوه وأمه مع النبي، صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، ويقال: ابن عشر سنين، مر في جزاء الصيد وفيه ستة من الصحابة.
قوله: (وسعدا) أي: وصحبت سعدا، وهو سعد بن أبي وقاص. قوله: (فما سمعت أحدا منهم)، أي: هؤلاء الصحابة المذكورين (يحدث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم) قال ابن بطال وغيره: كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم خشية الزيادة والنقصان لئلا يدخلوا في قوله صلى الله عليه وسلم: من نقل عني ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، فاحتاطوا على أنفسهم أخذا بقول عمر، رضي الله تعالى عنه: أقلوا الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم. قوله: (إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد) يعني: ما سمعت طلحة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يحدث عن مشاهده يوم أحد، لأنه كان من أهل النجدة وثبات القدم في الحرب، وعن أبي عثمان النهدي: أنه لم يبق مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم تلك الأيام غير طلحة وسعد، ولهذا حدث طلحة عن مشاهده يوم أحد ليقتدي به، ويرغب الناس في مثل فعله.
72
((باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية))
أي: هذا باب في بيان وجوب النفير، بفتح النون وكسر الفاء، أي: الخروج إلى قتال الكفار، وأصل النفير مفارقة مكان إلى مكان لأمر حرك ذلك. قوله: (وما يجب من الجهاد)، أي: وفي بيان القدر الواجب من الجهاد. قوله: (والنية)، أي: وفي بيان مشروعية النية في ذلك.
وقوله * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة
وسيحلفون بالله) * (التوبة: 14) الآية.
وقوله، بالجر عطفا على قوله: (وجوب النفير)، أي: وقول الله تعالى، وفي بعض النسخ: وقول الله، عز وجل. وقال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح: هذه الآية: * (انفروا خفافا وثقالا) * (التوبة: 14). أول ما نزل من سورة براءة، وقال
120

أبو مالك الغفاري وابن الضحاك: هذه أول آية نزلت من براءة، ثم نزل أولها وآخرها، وفي التفسير، قال جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لما نزلت آية الجهاد منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل، فنزل قوله تعالى: * (انفروا خفافا ثقالا) * (التوبة: 14). ويقال: كان المقداد عظيما سمينا، جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم وشكى إليه، وسأل أن يأذن له، فنزلت انفروا... الآية، أمر الله بالنفير العام مع الرسول صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر، فقال: * (انفروا خفافا وثقالا) * (التوبة: 14). وعن أبي طلحة: كهولا وشبانا، ما سمع الله عذر أحد، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل، وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة والحسن البصري والشعبي ومقاتل ابن حيان وزيد بن أسلم. وقال مجاهد: شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين. وقال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل. وعن ابن عباس: انفروا نشاطا وغير نشاط. وكذا قال قتادة، وعن الحسن البصري: في العسر واليسر، وقيل: الخفاف أهل اليسرة، والثقال أهل العسرة. وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: مقلين من السلاح ومكثرين. وقيل: رجالا وركبانا، وقيل: عزبانا ومتأهلين. وقال السدي: لما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها، فنسخها الله تعالى فقال: * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا الله ورسوله) * (التوبة: 19). وخفافا، جمع خفيف، و: ثقالا، جمع ثقيل وانتصابهما على الحال من الضمير الذي في: انفروا. قوله: * (جاهدوا بأموالكم وأنفسكم) * (التوبة: 14). إيجاب للجهاد بهما إن إمكن، أو بأحدهما على حسب الحال. قوله: * (ذلكم خير لكم) * (التوبة: 14). يعني: في الدنيا والآخرة، لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة إن كنتم تعملون أن الله يريد الخير. قوله: * (لو كان عرضا قريبا...) * (التوبة: 14). الآية نزلت في المنافقين في غزوة تبوك، والمعنى: لو كان ما دعوا إليه غنيمة قريبة وسفرا قاصدا، أي: سهلا قريبا لاتبعوك طمعا في المال، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: السفر البعيد. وقرأ ابن عمير عبيد، بكسر الشين، وهي لغة قيس قوله: وسيحلفون بالله، أي: يحلفون بالله لكم إذا رجعتم إليهم: لو استطعنا لخرجنا معكم أي: لو قدرنا، وكان لنا سعة من المال لخرجنا معكم، وذلك كذب منهم ونفاق لأنهم كانوا مياسير ذوي أموال. قال الله تعالى: * (يهلكون أنفسهم والله يعلم أنهم لكاذبون) * (التوبة: 24). وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين، والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وبما يحلفون عليه من التخلف.
وقوله * (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل لله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * إلى قوله * (على كل شيء قدير) * (التوبة: 83).
وقوله، بالجر عطف على قوله الأول. هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ، فقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا...) * (التوبة: 83). الآية، قوله: إثاقلتم، أصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء فسكنت الأولى، فأتى بألف الوصل ليتوصل بها إلى النطق بالساكن، معناه: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار. قوله: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبة: 83). أي: بدل الآخرة، ثم قال تعالى: * (فما متاع الحياة الدنيا) * (التوبة: 83). هذا تزهيد من الله في الدنيا وترغيب في الآخرة بأن متاع الدنيا قليل بالنسبة إلى الجنة، لانقطاع ذلك ودوام هذا، ثم توعد على ترك الخروج فقال: ألا تنفروا: أي: ألا تخرجوا مع نبيكم إلى الجهاد يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم لنصرة نبيه وإقامة دينه. قوله: * (ولا تضروه شيئا) * أي: ولا تضروا الله تعالى بتوليتكم عن الجهاد ونكولكم وتثاقلكم عنه، والله على كل شيء قدير أي: قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
ويذكر عن ابن عباس انفروا ثبات سرايا متفرقين يقال أحد الثبات ثبة
هذا التعليق وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وذكره إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عنه، ومعناه: أخرجوا ثبات، يعني سرية بعد سرية، أو انفروا مجتمعين. قوله: (ثبات)، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة، وهو جمع: ثبة، وهي الجماعة، وجاء جمعها أيضا: ثبون وثبون وأثابي، وأصل: ثبة، ثبي، على وزن: فعل، بضم الفاء وفتح العين. وفي (التوضيح):
121

وعند أهل اللغة الثبات الجماعات في تفرقة، أي: حلقة حلقة كل جماعة ثبة، والثبة مشتقة من قولهم: ثبيت الرجل إذا أثنيت عليه في حياته، لأنك كأنك قد جمعت محاسنه. وقال أبو عمر: والتثبية: الثناء على الرجل في حياته. قوله: (ثبات سرايا متفرقين) أحوال، ووقع في رواية أبي ذر وأبي الحسن القابسي: ثباتا، بالنصب، وهو غير صحيح، لأنه جمع المؤنث السالم مثل: الهندات، والنصب والجر فيه سواء، والسرايا جمع: سرية، وهي من يدخل دار الحرب مستخفيا. قوله: (ويقال واحد الثبات: ثبة) لا طائل تحته، لأن هذا معلوم قطعا أن ثبات جمع ثبة، وأما الثبة التي بمعنى وسط الحوض فليس من باب ثبة الذي بمعنى الجماعة، لأن أصل هذه: ثوب، وهو أجوف واوي، فلما حذفت الواو عوض عنها الهاء وسمي: وسط الحوض بذلك، لأن الماء يثوب إليه أي: يرجع.
5282 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا سفيان قال حدثني منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولاكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولكن جهاد ونية)، وعمرو بن علي بحر بن يحيى بن كثير أبو حفص الباهلي البصري، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، والحديث مضى في: باب فضل الجهاد بهذا الإسناد، غير أن شيخه هناك: علي بن عبد الله، وهنا: عمرو بن علي، وقد مضى الكلام فيه هناك.
82
((باب الكافر يقتل المسلم ثم يسلم فيسدد بعد ويقتل))
أي: هذا باب في بيان حكم الكافر الذي يقتل المسلم ثم يسلم، بضم الياء أي: القاتل. قوله: (فيسدد) بالسين المهملة أي: يسدد دينه يعني: يستقيم. قوله: (بعد) بضم الدال أي: بعد قتله المسلم. قوله: (ويقتل) على صيغة المجهول، وفي رواية النسفي: أو يقتل، وعليها اقتصر ابن بطال والإسماعيلي، وقال الكرماني: أو ثم يصير مقتولا، والجواب فيه يفهم من الحديث، ولم يذكره اكتفاء به.
6282 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد.
مطابقته للترجمة من حيث إن الترجمة كالشرح لمعنى الحديث، وذلك أن المذكور فيها: فيسدد، وفي الحديث (فيستشهد) والشهادة إنما تعتبر على وجه التسديد، وهو الاستقامة فيها. وقال بعضهم: يظهر لي أن البخاري أشار في الترجمة إلى ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من طريق أخرى عن أبي هريرة مرفوعا: لا يجتمعان في النار مسلم قتل كافرا ثم سدد المسلم وقارب... الحديث. انتهى. قلت: الترجمة لا تكون إلا بما يدل على شيء من الحديث الذي وضعت الترجمة له، فكيف تكون الترجمة هنا والحديث في كتاب آخر أخرجه غيره؟ والإسناد المذكور بعين هؤلاء الرجال قد ذكر غير مرة، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
والحديث أخرجه النسائي فيه وفي النعوت عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم عن مالك به.
ذكر معناه: قوله: (يضحك الله)، الضحك وأمثاله إذا أطلقت على الله يراد بها لوازمها مجازا، ولازم الضحك الرضا. وقال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو يستفزهم الطرب غير جائز على الله، عز وجل وإنما هو مثل ضربه لهذا الصنع الذي هو مكان التعجب عند البشر، وفي صفة الله تعالى الإخبار عن الرضا بفعل أحد هذين والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة مع اختلاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما، ومعلوم أن الضحك يدل على
122

الرضا وقبول الوسيلة وإنجاح الطلبة، فمعناه: أن الله يجزل العطاء لهما لأنه هو مقتضى الضحك وموجبه، أو يكون معناه: تضحك ملائكة الله من صنيعهما، لأن الإيثار على النفس أمر نادر في العادة مستغرب في الطباع، وقال ابن حبان في (صحيحه): يريد: أضحك الله ملائكته من وجود ما قضى. وقال ابن فورك: أي: يبدي الله من فضله توفيقا لهذين الرجلين، كما تقول العرب: ضحكت الأرض من النبات إذا ظهر فيها، وكذلك قالوا للطلع إذا انفتق عنه: كفري الضحك، لأجل أن ذلك يبدو منه البياض الظاهر كبياض الثغر، وقال الداودي: أراد قبول أعمالهما ورحمتهما والرضا عنهما. قوله: (إلى رجلين)، عدى: بإلى، لتضمنه معنى الإقبال، يقال: ضحكت إلى فلان إذا توجهت إليه بوجه طلق، وأنت عنه راض. قلت: هذا يدل على أن المراد بالضحك هنا الإقبال بالوجه. قوله: (يدخلان الجنة) في محل الجر لأنها صفة للرجلين، وفي رواية مسلم من طريق همام عن أبي هريرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟. قوله: (يقاتل هذا)، جملة مستأنفة، يدل عليه رواية مسلم هذه، لأن المعنى: قالوا: يا رسول الله! كيف يدخلان الجنة؟ فقال: (يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل)، على صيغة المجهول، وزاد في رواية همام: (فيلج الجنة، ثم يتوب الله على القاتل)، أي: فيسلم. وفي رواية همام: (فيهديه الله إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد).
وقال أبو عمر: يستفاد من هذا الحديث أن كل من قتل في سبيل الله فهو في الجنة. وقال أيضا: معنى هذا الحديث عند أهل العلم: أن القاتل الأول كان كافرا. قيل: هو الذي استنبطه البخاري في ترجمته، ولكن لا مانع أن يكون مسلما، لعموم قوله: (ثم يتوب الله على القاتل) كما لو قتل مسلم مسلما عمدا بلا شبهة ثم تاب القاتل واستشهد في سبيل الله عز وجل.
7282 حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري قال أخبرني عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحوها فقلت يا رسول الله أسهم لي فقال بعض بني سعيد بن العاص لا تسهم له يا رسول الله فقال أبو هريرة هذا قاتل ابن قوقل فقال ابن سعيد بن العاص واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن ينعى علي قتل رجل مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهنيء على يديه قال فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له قال سفيان وحدثنيه السعيدي عن أبي هريرة قال أبو عبد الله السعيدي عمرو ابن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قول ابن سعيد بن العاص، وهو أبان بن سعيد: أكرمه الله بيدي)، وأراد بذلك أن ابن قوقل وهو النعمان استشهد بيد أبان فأكرمه الله بالشهادة، ولم يقتل أبان على كفره فيدخل النار، بل عاش حتى تاب وأسلم وكان إسلامه قبل خيبر وبعد الحديبية، وهذا هو عين الترجمة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: الحميدي، بضم الحاء المهملة: هو عبد الله بن الزبير أبو بكر، منسوب إلى أحد أجداده: حميد بن زهير وهو بطن من قريش. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: عنبسة، بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة وبالسين المهملة: ابن سعيد الأموي.
الخامس: أبو هريرة.
وفيه: أربعة أنفس أيضا. الأول: هو قوله: بعض بني سعيد بن العاص، هو أبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، قال الزبير: تأخر إسلامه بعد إسلام أخويه: خالد وعمرو، ثم أسلم أبان وحسن إسلامه. قال أبو عمر: وكان إسلام أبان بن سعيد بين الحديبية وخيبر، وقال ابن إسحاق: قتل أبان وعمرو ابنا سعيد بن العاص يوم اليرموك، ولم يتابع عليه ابن إسحاق، وكانت اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة في خلافة عمر، وقال موسى بن عقبة: قتل أبان يوم أجنادين، وكانت وقعة أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه. وقيل: إنه قتل أيام مرج الصفر، وكان في صدر خلافة عمر سنة أربع عشرة، وكان الأمير يوم مرج الصفر خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه. الثاني: ابن قوقل: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم، بالصاد
123

المهملة: ابن فهم بن ثعلبة بن غنم، بفتح الغين المعجمة وسكون النون بعدها ميم: ابن عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي، وقوقل لقب ثعلبة. وقيل: لقب أصرم، وقد ينسب النعمان إلى جده، فيقال له: النعمان بن قوقل، وقوقل بقافين على وزن: جعفر، شهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا، وروى البغوي في (الصحابة): أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد: أقسمت عليك يا رب أن لا تغيب الشمس حتى أطأ بعرجتي في الجنة، فاستشهد ذلك اليوم، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيته في الجنة) الثالث: السعيدي، وهو الذي أوضحه البخاري بقوله: هو عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، يكنى أبا أمية المكي. قال يحيى بن معين: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات. الرابع: سعيد بن عمرو بن سعيد القرشي أبو عثمان الأموي، روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسلا، وعن جماعة من الصحابة، روى عنه ابن ابنه عمرو بن يحيى المذكور، وقال أبو زرعة والنسائي ثقة، وقال أبو حاتم صدوق.
ذكر معناه: قوله: (وهو بخيبر) جملة حالية، وكان افتتاحها في سنة...
... قوله: (أسهم لي)، السائل بهذا هو أبو هريرة، وفي رواية أبي داود: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث أبان بن سعيد ابن العاص على سرية من المدينة، قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخيبر بعد أن فتحها، فقال أبان: إقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة: فقلت: لا تقسم له يا رسول الله! فقال أبان: أنت هنا يا وبر تحدر علينا من رأس ضال؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إجلس يا أبان، ولم يقسم لهم، وفي لفظ: فقال سعيد بن العاص: يا عجبا لوبر؟ قال أبو بكر الخطيب: كذا عند أبي داود، فقال سعيد: وإنما هو ابن سعيد، واسمه أبان، قال: والصحيح أن أبا هريرة هو السائل، كما هو في البخاري. انتهى. قلت: على تقدير صحة حديث أبي داود ومقاومته لحديث البخاري يحتمل أنهما سألا جميعا، وأن أحدهما جازى الآخر لما أسلفه من قوله: لا تقسم له. قوله: (بعض بني سعيد بن العاص)، هو أبان بن سعيد كما قلنا. قوله: (قاتل ابن قوقل)، هو النعمان بن مالك، كما ذكرناه الآن. قوله: (واعجبا) بالتنوين، ويروى بدونه، وكلمة: واهنا اسم لأعجب، وانتصاب عجبا به. قوله: (لوبر)، بفتح الواو وسكون الباء الموحدة بعدها راء، قال ابن قرقول: كذا لأكثر الرواة بسكون الباء الموحدة، وهي دويبة غبراء، ويقال: بيضاء على قدر السنور حسنة العينين من دواب الجبال، وإنما قال له ذلك احتقارا، وضبطها بعضهم بفتح الباء، وتأوله: جمع وبرة وهو شعر الإبل أي: إن شأنه كشأن الوبرة، لأنه لم يكن لأبي هريرة عشيرة. وقال الخطابي: أحسب أنها تؤكل، لأني وجدت بعض السلف يوجب فيها الفدية. وقال القزاز: هي ساكنة الباء: دويبة أصغر من السنور، طحلاء اللون، يعني: تشبه الطحال لا ذنب لها، وهي من دواب الغور، والجمع: وبار، وفي (المحكم (: على قدر السنور، والأنثى وبرة، والجمع؛ وبر ووبور ووبار ووبار وابارة. وفي (الصحاح)؛ ترحن في البيوت: أي: تقيم بها وتألفها. وقال أبو موسى المديني في كتاب (المغيث): يجب على المحرم في قتلها شاة لأنها تجتز كالشاة، وقيل؛ لأن لها كرشا كالشاة، وفي (مجمع الغرائب) عن مجاهد: في الوبر شاة، فذكر مثله. وفي (البارع): لأبي علي بن أبي حاتم: الطائيون يقولون لما يكون في الجبال من الحشرات: الوبر، وجمعها: الوبارة، ولغة أخرى الإبارة بالكسر والهمز، وقال ابن بطال: وإنما سكت أبو هريرة عن أبان في قوله هذا لأنه لم يرمه بشيء ينقص دينه، إنما ينقصه بقلة العشيرة والعدد أو لضعف المنة. قوله: (تدلى علينا)، أي: انحدر، ولا يخبر بهذا إلا عمن جاء من مكان عال. قال الطبري: هذا هو المشهور عند العرب. قوله: (من قدوم ضان)، قال ابن قرقول: هو بفتح القاف وتخفيف الدال: اسم موضع، وضم المروزي القاف والأول أكثر، وتأوله بعضهم قدوم ضان، أي: المتقدم منها، وهي رؤوسها، وهو وهم بين. وقال ابن بطال: يحتمل أن يكون جمع: قادم مثل: ركوع وراكع، وسجود وساجد، ويكون المعنى: تدلى علينا من جملة القادمين، أقام الصفة مقام الموصوف، ويكون: من، في قوله: من قدوم، تبيينا للجنس، كما لو قال: تدلى علينا من ساكني ضان، ولا تكون من مرتبطة بتدلي، كما هي مرتبطة بالفعل في قولك تدليت من الجبل لاستحالة تدليه من قوم، لأنه لا يقال: تدليت من بني فلان، قال: ويحتمل أن يكون قدوم مصدرا وصف به
124

الفاعلون، ويكون في الكلام حذف وتقديره: تدلى علينا من ذوي قدوم، فحذف الموصوف وأقام المصدر مقامه، كما لو قالوا: رجل صوم، أي: ذو صوم، و: من، على هذا التقدير أيضا تبيين للجنس، كما كانت في الوجه الأول. قال: ويحتمل أن يكون معناه: تدلى علينا من مكان قدوم ضأن، ثم حذف المكان وأقام القدوم مكانه، كما قالت العرب: ذهب به مذهب، وسلك به مسلك، يريد المكان الذي يسلك فيه ويذهب، ويشهد لهذا رواية: (من رأس ضان)، ويحتمل أن يكون إسما لمكان قدوم بفتح القاف دون الضم لقلة الضم في هذا البناء في الأسماء وكثرة الفتح، ويحتمل أن يكون قدوم ضأن بتشديد الدال وفتح القاف: لو ساعدته رواية، لأنه من بناء أسماء المواضع، وطرف القدوم موضع بالشام، وعن ابن دريد: قدوم ثنية بسراة أرض دوس، وقال أبو عبيد: رواه الناس عن البخاري، ضأن، بالنون إلا الهمداني فإنه رواه: (من قدوم ضال)، باللام وهو الصواب، إن شاء الله تعالى. والضال السدر البري، وأما إضافة هذه الثنية إلى الضأن فلا أعلم لها معنى. وقد مر عن أبي
داود أنه باللام، وقال ابن الجوزي: كذا هو في أكثر الروايات، وزعم أبو ذر الهروي أن: ضان، بالنون جبل بأرض دوس بلد أبي هريرة، وقيل: ثنية. قوله: (ينعي علي) من نعيت على الرجل فعله إذا عبته عليه. قوله: (قتل رجل)، بالنصب مفعول، ينعى: أي ينعي علي بأني قتلت رجلا أكرمه الله على يدي، حيث صار شهيدا بواسطتي، ولم يكن بالعكس، إذ لو صرت مقتولا بيده لصرت مهانا من أهل النار، إذا لم أكن حينئذ مسلما. قوله: (قال: فلا أدري أسهم له)، وهو من قول ابن عيينة أو من دونه، إلى شيخ البخاري، قاله ابن التين. قوله: (قال سفيان)، أي: سفيان بن عيينة، ووقع في رواية الحميدي في (مسنده): عن سفيان: وحدثنيه السعيدي أيضا، وفي رواية ابن أبي عمر: عن سفيان سمعت السعيدي. قوله: (وحدثنيه السعيدي)، معطوف على قوله: حدثنا الزهري، وهو موصول بالإسناد الأول. قوله: (قال أبو عبد الله)، هو البخاري نفسه، هذا وقع هكذا ولغير أبي ذر.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الرجل قد يوبخ بما قد سلف إلا أن يتوب فلا توبيخ عليه، ولا تثريب ألا يرى أن أبا هريرة لم يوبخ ابن سعيد بن العاص على قتل ابن قوقل، كيف رد عليه أقبح الرد، وصارت له عليه الحجة، كما صارت لآدم على موسى، عليهما السلام، من أجل أنه وبخه بعد التوبة من الذنب. وفيه: أن التوبة تمحو ما سلف قبلها من الذنوب: القتل وغيره، لقوله: أكرمه الله على يدي ولم يهنيء على يديه، لأن ابن قوقل وجبت له الجنة بقتل ابن سعيد له، ولم يجب لابن سعيد النار لأنه أسلم ومات. ويصحح، هذا سكوته صلى الله عليه وسلم على قوله: ولو كان غير صحيح لما لزمه السكوت، لأنه بعث للبيان. وفيه: قيل: حجة على الكوفيين في قولهم في المدد: يلحق بالجيش في أرض الحرب بعد الغنيمة أنهم شركاؤهم في الغنيمة وسائر العلماء إنما تجب الغنيمة عندهم لمن شهد الوقعة، واحتجوا بحديث أبي هريرة، وأن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يسهم لهم، وأبو حنيفة إنما يسهم لمن غاب عن الوقعة لشغل شغله به الإمام من أمور المسلمين، كما فعل بعثمان، رضي الله تعالى عنه، حين قسم له من غنائم بدر بسهم ولم يحضرها، لأنه كان غائبا في حاجة الله ورسوله، فكان كمن حضرها أو مثل أن يبعثه الإمام لقتال قوم آخرين فيصيب الإمام غنيمة بعد مفارقة الرجل إياه، أو يبعث رجلا، ممن معه في دار الحرب إلى دار الإسلام ليمده بسلاح ورجال فلا يعود ذلك الرجل إلى الإمام حتى يقسم غنيمه، فهو شريك فيها وهو كمن حضرها، وكذلك كل من أراد الغزو فرده الإمام وشغله بشيء من أمور المسلمين فهو كمن حضرها. وقال الطحاوي، رحمه الله: وأما حديث أبي هريرة فإنما ذلك والله أعلم لأنه وجه أبان لنجد قبل أن يتهيأ خروجه إلى خيبر، فتوجه أبان ثم حدث خروجه، صلى الله عليه وسلم، إلى خيبر فكان ما غاب فيه أبان ليس هو شغل شغل به عن حضورها بعد إرادته إياها، فيكون كمن حضرها.
92
((باب من اختار الغزو على الصوم))
أي: هذا باب من اختار الغزو على الصوم لئلا يضعف بدنه بالصوم عن القيام بأمور الغزو، وأيضا فالمجاهد يكتب له أجر الصائم القائم، وقد مثله صلى الله عليه وسلم بالصائم لا يفطر والقائم لا يفتر.
8282 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا ثابت البناني قال سمعت أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو فلما قبض
125

النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرا إلا يوم فطر أو أضحى.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وثابت، بالثاء المثلثة: ابن أسلم أبو محمد البصري البناني، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى وكسر الثانية: نسبة إلى بنانة، وهم ولد سعد بن لؤي، وبنانة زوجة سعد، وقيل: كانت أمة له.
والحديث من أفراده وأبو طلحة زوج أم أنس، واسمه زيد بن سهل الأنصاري، وكان أبو طلحة اعتمد على قوله صلى الله عليه وسلم: تقووا لعدوكم بالإفطار وكان فارس الحرب ومن له الاجتهاد فيها، فلذلك كان يفطر ليتقوى على العدو، وهذا يدل على فضل الجهاد على سائر أعمال التطوع، فلما مات، عليه الصلاة والسلام، وقوي الإسلام واشتدت وطأته على العدو، ورأى أنه في سعة عما كان عليه من الجهاد، رأى أن يأخذ بحظه من الصوم ليجمع له هاتان الطاعتان العظيمتان، وليدخل يوم القيامة من باب الريان.
قوله: (لم أره مفطرا) هذا من كلام أنس، أي: لم أر أبا طلحة يفطر (إلا يوم فطر أو أضحى) أي: أو يوم أضحى، وكان لا يصومهما للنهي الوارد فيه، ويدخل فيه صوم أيام التشريق. قالوا: هذا خلاف ما كان عليه الفقهاء. فإن قلت: روى الحاكم في (مستدركه) من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: أن أبا طلحة أقام بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم أربعين سنة لا يفطر إلا يوم فطر أو أضحى. قلت: هنا مأخذان على الحاكم. أحدهما: أن أصل الحديث في البخاري، فلا يصح الاستدراك. والآخر: أن هذا المقدار الذي ذكره في حياته بعد النبي، صلى الله عليه وسلم فيه نظر، لأنه لم يعش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثا أو أربعا وعشرين سنة، وصرح بعضهم بأن الزيادة في مقدار حياته بعد النبي صلى الله عليه وسلم غلط. قلت: التصريح بالغلط غلط، لأن أبا عمر، قال: قال أبو زرعة: عاش أبو طلحة بالشام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة يسرد الصوم، وقال أبو زرعة: سمعت أبا نعيم يذكر ذلك عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، أنه يعني: أن أبا طلحة سرد الصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة.
03
((باب الشهادة سبع سوى القتل))
أي: هذا باب يذكر فيه الشهادة سبع أي: سبعة أنواع، وكونها سبعا باعتبار الشهداء، ولهذا جاء في حديث جابر بن عتيك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الشهداء سبعة أنواع سوى القتل في سبيل الله تعالى: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب، شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد... الحديث... في (الموطأ). قوله: (بجمع)، بضم الجيم وسكون الميم وفي آخره عين مهلمة: بمعنى المجموع، كالذخر بمعنى المذخور، وهو أن تموت المرأة وفي بطنها ولد، وقيل: التي تموت بكرا، وكسر الكسائي الجيم. وفي حديث الباب: الشهداء خمسة على ما يأتي. وروى الحارث بن أبي أسامة من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الشهداء ثلاثة: رجل خرج بنفسه وماله صابرا محتسبا لا يريد أن يقتل ولا يقتل، فإن مات أو قتل غفرت له ذنوبه كلها، ويجار من عذاب القبر، ويؤمن من الفزع الأكبر، ويزوج من الحور العين، ويخلع عليه حلة الكرامة، ويوضع على رأسه تاج الخلد. والثاني: رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريد أن يقتل ولا يقتل، فإن مات أو قتل كانت ركبته وركبة إبراهيم الخليل، عليه الصلاة والسلام، بين يدي الله، عز وجل، في مقعد صدق. والثالث: رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريد أن يقتل أو يقتل، فإن مات أو قتل فإنه يجيء يوم القيامة شاهرا سيفه واضعه على عاتقه والناس جاثون على الركب، يقول: أفسحوا لنا فإنا قد بذلنا دماءنا لله، عز وجل، والذي نفسي بيده، لو قال ذلك لإبراهيم، عليه الصلاة والسلام، أو لنبي من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من حقهم، ولا يسأل الله شيئا إلا أعطاه، ولا يشفع في أحد إلا شفع فيه ويعطى في الجنة ما أحب... الحديث بطوله.
وروى الترمذي من حديث فضالة بن عبيد، يقول: سمعت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة، هكذا، ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، فما أدري أقلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن أتاه سهم غرب فقتله، فهو في الدرجة الثانية. ورجل مؤمن خلط عملا صالحا فصدق الله حتى قتل فذاك، في الدرجة الثالثة،
126

ورجل مؤمن أسرف على نفسه، لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وهذا كما رأيت في ترجمة الباب الشهادة سبع. وفي حديث جابر بن عتيك: سبعة، موافق للترجمة، وفي حديث الباب: خمسة، وفي حديث أنس بن مالك: ثلاثة، وفي حديث عمر بن الخطاب: أربعة.
وجاءت أحاديث أخرى في هذا الباب. منها: في (الصحيح): من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن وقصه فرسه أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله فهو شهيد، ومن حبسه السلطان ظالما له أو ضربه فمات فهو شهيد، وكل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد. وفي حديث ابن عباس: المرابط يموت في فراشه في سبيل الله فهو شهيد، والشرق شهيد، والذي يفترسه السبع شهيد. وعند ابن أبي عمر، من حديث ابن مسعود، ومن تردى من الجبال شهيد، وقال ابن العربي: وصاحب النظرة وهو المعين والغريب شهيدان، قال: وحديثهما حسن، ولما ذكر الدارقطني حديث ابن عمر: الغريب شهيد، صححه، وروى ابن ماجة من حديث أبي هريرة من مات مريضا مات شهيدا ووقي فتنة القبر، الحديث، وسنده جيد على رأى الحاكم. وروى البزار بسند صحيح عن عبادة بن الصامت، رضي الله تعالى عنه: من عشق وعف وكتم ومات مات شهيدا. وروى النسائي من حديث سويد بن مقرن: من قتل دون مظلمة فهو شهيد، وعند الترمذي، من حديث معقل بن يسار: من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، فإن مات من يومه مات شهيدا، وقال: حديث حسن غريب. وعند الثعلبي من حديث يزيد الرقاشي عن أنس، رضي الله تعالى عنه: (من قرأ آخر سورة الحشر فمات من ليلته مات شهيدا)، وعند الأجري: (يا أنس! إن استطعت أن تكون أبدا على وضوء فافعل، فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة). وعند أبي نعيم عن ابن عمر: (من صلى الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر ولم يترك الوتر كتب له أجر شهيد). وعن جابر: (من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة وعليه طابع الشهداء)، قال أبو نعيم: غريب من حديث جابر. وعند أبي موسى، من حديث عبد الملك بن هارون بن عنبرة عن أبيه عن جده، يرفعه، فذكر حديثا فيه: (والسل شهيد، والغريب شهيد). وفي كتاب (الأفراد والغرائب): للدارقطني، من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (المحموم شهيد). وفي (كتاب العلم) لأبي عمر: عن أبي ذر وأبي هريرة: (إذا جاء الموت طالب العلم وهو على حاله مات شهيدا). وفي (الجهاد) لابن أبي عاصم، من حديث أبي سلام عن ابن معانق الأشعري، عن أبي مالك الأشعري: مرفوعا: (من خرج به خراج في سبيل الله كان عليه طابع الشهداء) وفي (التمهيد): عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن فناء أمتي بالطعن والطاعون) قالت: يا رسول الله! أما الطعن فقد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: (غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط، من مات منها مات شهيدا). وفي ببعض الآثار: (المجنوب شهيد)، يريد صاحب ذات الجنب. وفي الحديث: (إنها نخسة من الشيطان).
وهذا كما رأيت ترتقي الشهداء إلى قريب من أربعين. فإن قلت: كيف التوفيق بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحا، والأحاديث الأخر أيضا. قلت: أما ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد، بل كل واحد من ذلك بحسب الحال وبحسب السؤال وبحسب ما تجدد العلم في ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، على أن التنصيص على العدد المعين لا ينافي الزيادة، ومع هذا: الشهيد الحقيقي هو قتيل المعركة وبه أثر. أو قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق، سواء كان القتل مباشرة أو تسببا أو قتله المسلمون ظلما ولم يجب بقتله دية، فالحكم فيه أن يكفن ويصلى عليه ولا يغسل ويدفن بدمه وثياب إلا ما ليس من جنس الكفن: كالفرو والحشو
والسلاح المعلق عليه، ويزاد وينقص، هذا كله عند أصحابنا الحنفية. وعند الشافعي: من مات في قتال أهل الحرب فهو شهيد، سواء كان به أثر أو لا، ومن قتل ظلما في غير قتال الكفار أو خرج في قتالهم ومات بعد انفصال القتال، وكان بحيث يقطع بموته ففيه قولان: في قول: لم يكن شهيدا، وبه قال مالك وأحمد، وفي (المغنى): إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل،
127

رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وابن المسيب فإنهما قالا: يغسل الشهيد ولا يعمل به، وأما ما عدا ما ذكرناهم الآن فهم شهداء حكما لا حقيقة، وهذا فضل من الله تعالى لهذه الأمة بأن جعل ما جرى عليهم تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجرهم بلغهم بها درجات الشهداء الحقيقية ومراتبهم، فلهذا يغسلون ويعمل بهم ما يعمل بسائر أموات المسلمين. وفي (التوضيح): الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار بسبب من الأسباب، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم من ذكروا آنفا. وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل في الغنيمة ومن قتل مدبرا أو ما في معناه.
9282 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله.
.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن الترجمة سبع، وفي الحديث: خمسة، وقال ابن بطال: هذا يدل على أن البخاري مات ولم يهذب كتاب. وأجيب: بأن البخاري أراد التنبيه على أن الشهادة لا تنحصر في القتل بل لها أسباب أخر، وتلك الأسباب اختلف الأحاديث فيها، ففي بعضها: خمسة، وهو الذي صح عند البخاري، ووافق شرطه، وفي بعضها سبع، لكن لم يوافق شرطه فنبه عليه في الترجمة إيذانا بأن الوارد في عددها من الخمسة أو السبعة ليس على معنى التحديد الذي لا يزيد ولا ينقص، بل هو إخبار عن خصوص فيما ذكر، والله أعلم بحصرها. وقال الكرماني: الجواب أن بعض الرواة نسي الباقي وتم كلامه. قلت: وفيه نظر لا يخفى. وقال بعضهم: هذه الترجمة لفظ حديث آخر أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك. قلت: قد ذكرنا حديثه عن قريب، وهذا ليس بجواب يجدي، لأن المطلوب وجود المطابقة بين الترجمة وبين حديث الباب، لا بينها وبين حديث آخر خارج عن الكتاب، والأوجه الأقرب ما ذكرنا بقولنا. وأجيب: بأن البخاري... إلى آخره.
وسمي، بضم السين وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف: أبو عبد الله، مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة القرشي المدني، وأبو صالح ذكوان الزيات السمان.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الصلاة وفي المرضى عن أبي عاصم. وأخرجه الترمذي في الجنائز عن قتيبة وعن إسحاق بن موسى. وأخرجه النسائي في الطب عن قتيبة.
قوله: (المطعون)، هو: الذي مات في الطاعون، وقال الجوهري: هو الموت من الوباء. قوله: (والمبطون)، أي: العليل بالبطن. قوله: (والغرق)، بفتح الغين المعجمة وكسر الراء، وهو الذي يموت بالغرق، وقيل: هو الذي غلبه الماء ولم يغرق، فإذا غرق فهو غريق. قوله: (وصاحب الهدم)، قال ابن الأثير: الهدم، بالتحريك: البناء المهدوم فعل بمعنى مفعول وبالسكون الفعل نفسه. قوله: (والشهيد في سبيل الله)، وقال الطيبي: يلزم منه حمل الشيء على نفسه، التحديث بصيغة الجمع في لأن قوله: (خمسة) خبر للمبتدأ، أو المعدود بعده بيان له، وأجاب بأنه من باب قول الشاعر:
* أنا أبو النجم وشعري شعري
*
فافهم...
0382 حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عاصم عن حفصة بنت سيرين عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطاعون شهادة لكل مسلم.
(الحديث 0382 طرفه في: 2375).
مطابقته للترجمة من حيث إن أحد السبعة التي هي الترجمة، واحد الخمسة التي في الحديث السابق. وبشر، بكسر الباء الموحدة: ابن محمد أبو محمد السختياني المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وحفصة بنت سيرين هي أخت محمد بن سيرين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطب عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الجهاد عن حامد بن عمر.
قوله: (الطاعون)، هو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان، وقيل: الطاعون هو الذي أصابه الطعن، وهو الوجع الغالب الذي ينطفي به الروح، كالذبحة ونحوها، وروى أسامة عن رسول الله،
128

صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم)، وإنما سمي طاعونا لعموم مصابه وسرعة قتله، فيدخل فيه مثله مما يصلح اللفظ له.
13
((باب قول الله تعالى * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين) * إلى قوله * (غفورا رحيما) * (النساء: 59).))
أي: هذا باب في بيان سبب نزول قوله تعالى: * (لا يستوي القاعدون) * (النساء: 59). الآية، والقاعدون جمع قاعد، وأراد بهم القاعدين عن الجهاد، وكلمة: من، للبيان والتبعيض، وأريد بالجهاد غزوة بدر، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: غزوة تبوك، والضرر مثل العمى والعرج والمرض. قوله: (والمجاهدون)، عطف على قوله: القاعدون. قوله: (وفضل الله المجاهدين)، هذه الجملة موضحة للجملة الأولى التي فيها عدم استواء القاعدين والمجاهدين، كأنه قيل: ما بالهم لا يستوون؟ فأجيب بقوله: فضل الله المجاهدين، قوله: (درجة)، نضب بنزع الخافض، وقيل: مصدر في معنى: تفضيلا، وقيل: حال، أي ذوي درجة. قوله: (وكلا)، أي: وكل فريق من القاعدين والمجاهدين. قوله: (وعد الله الحسنى)، أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة. قوله: (إلى قوله * (غفورا رحيما) * (النساء: 59)). أراد به تمام الآية وهو قوله: * (على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) * (النساء: 59). قال الزمخشري: أجرا انتصب بفضل لأنه في معنى آجرهم أجرا. قوله * (درجات) * أي: في الجنة. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب درجات، نصب درجة، كما نقول: ضربه أسواطا بمعنى: ضربات، كأنه قيل: وفضلهم تفضيلا. قوله: * (ومغفرة ورحمة) * بدل من أجرا * (وكان الله غفورا رحيما) * (النساء: 59). للفريقين. فإن قلت: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات؟ قلت: الأولى: لتفضيل المجاهدين على أولى الضرر. والثانية: للتفضيل على غيرهم. وقيل: الأولى درجة المدح والتعظيم، والثانية منازل الجنة.
1382 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول لما نزلت * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * (النساء: 59). دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت: * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) * (النساء: 59).
مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين سبب نزول قوله: * (لا يستوي القاعدون...) * (النساء: 59). إلى آخره، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن حفص بن عمر. وأخرجه مسلم في الجهاد عن أبي موسى وبندار.
قوله: ((زيدا)، هو زيد بن ثابت الأنصاري النجاري. قوله: (بكتف)، بفتح الكاف وكسر التاء: وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب، كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. قوله: (ابن أم مكتوم)، هو عمرو بن قيس العامري، واسم أمه عاتكة المخزومية. قوله: (ضرارته)، أي: ذهاب بصره.
وفيه: اتخاذ الكاتب، وتقييد العلم.
2382 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري قال حدثني صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) * * (والمجاهدون ي سبيل الله) * قال فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي فقال يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى
129

فأنزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله عز وجل * (غير أولى الضرر) * (النساء: 59).
(الحديث طرفه في: 2954).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، ومروان هو ابن الحكم، كان أمير المدينة زمن معاوية. والحديث من أفراده. ومن لطائف إسناده أن سهل بن سعد الصحابي يروي عن مروان وهو تابعي.
قوله: (يملها)، بضم الياء وكسر الميم وتشديد اللام أي: يمليها، والظاهر أن ياءه منقلبة عن إحدى اللامين، قوله: لو أستطيع الجهاد، أصله: لو استطعت، عدل إلى المضارع إما لقصد الاستمرار، أو لغرض الاستمرار. قوله: (وكان رجلا أعمى)، أي: كان ابن أم مكتوم. قوله: (وفخذه) الواو فيه للحال. قوله: (أن ترض) من الرض، بتشديد الضاد المعجمة، وهو الدق الجرش. قوله: (ثم سري عنه)، بالتخفيف والتشديد أي: كشف وأزيل، قيل: إن جبريل، عليه الصلاة والسلام، صعد وهبط في مقدار ألف سنة، قبل أن يجف القلم، أي: بسبب أولى الضرر، حكاه ابن التين، قال: وهذا يحتاج أن يكون جبريل، عليه الصلاة والسلام، يتناول ذلك من السماء، والأمر كذلك، لأن القرآن نزل جملة واحدة ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك متفرقا بحسب الحال.
وفيه: أن من حبسه العذر وغيره عن الجهاد وغيره من أعمال البر مع نية فيه فله أجر المجاهد والعامل، لأن نص الآية على المفاضلة بين المجاهد والقاعد، ثم استثنى من المفضولين أولي الضرر، وإذا استثناهم منها فقد ألحقهم بالفاضلين، وقد بين الشارع هذا المعنى، فقال: إن بالمدينة أقواما ما سلكنا واديا أو شعبا إلا وهم معنا، حبسهم العذر، وكذا جاء فيمن كان يعمل، وهو صحيح، وكذا من نام عن حزبه نوما غالبا كتب له أجر حزبه، وكان نومه صدقة عليه، وكذا المسافر يكتب له ما كان يعمل في الإقامة، وهذا معنى قوله عز وجل: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) * (النساء: 59). أي: غير مقطوع بزمانة، أو كبر أو ضعف إذ الإنسان يبلغ بنيته أجر العامل إذا كان لا يستطيع العمل الذي ينويه.
23
((باب الصبر عند القتال))
أي: هذا باب في بيان فضل الصبر عند القتال مع الكفار.
3382 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و قال حدثنا أبو إسحاق عن موساى بن عقبة عن سالم أبي النضر أن عبد الله بن أبي أوفى كتب فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا لقيتموهم فاصبروا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فاصبروا) يعني عند ملاقاة الكفار، وعبد الله بن محمد المعروف بالمسندي، ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي البغدادي، وأبو إسحاق هو الفزاري واسمه إبراهيم بن محمد، والحديث مضى بعين هذا الإسناد في: باب الجنة تحت بارقة السيوف، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: (فاصبروا)، يحتمل أن يراد به الصبر عند إرادة القتال. والشروع فيه، أو الصبر حال المقاتلة والثبات عليه.
((باب التحريض على القتال))
أي: هذا باب في بيان التحريض، أي: الحث على القتال.
وقوله تعالى * (حرض المؤمنين على القتال) * (الأنفال: 56).
وقوله، بالجر عطف على قوله: التحريض، وفي بعض النسخ: وقول الله تعالى، وأوله قوله تعالى: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) * (الأنفال: 56). قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا سفيان عن ابن شوذب عن الشعبي عن قوله: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * (الأنفال: 56). أي: حثهم عليه، ولهذا كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم
130

ومواجهة العدو، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض. الحديث، وقال محمد بن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية أعني قوله: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين) * (الأنفال: 56). الآية، ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفا، فخفف الله عنهم، فنسخها بالآية الأخرى فقال: * (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا...) * (الأنفال: 66). الآية فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغي لهم أن يفروا من عدوهم، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم، وجائز لهم أن يتحوزوا. وروي عن علي بن أبي طلحة العوفي عن ابن عباس، نحو ذلك، وقال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والضحاك نحو ذلك.
4382 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و قال حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه يقول خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النبب والجوع قال:
* أللهم إن العيش عيش الآخرة
* فاغفر للأنصار والمهاجرة
*
فقالوا مجيبين له:
* نحن الذين بايعوا محمدا
* على الجهاد ما بقينا أبدا
*
.
مطابقته للترجمة من حيث إن في قوله صلى الله عليه وسلم:
* اللهم إن العيش عيش الآخرة
*
تحريضهم على ما هم فيه لكونه من الجهاد، ورجاله قد ذكروا في إسناد الحديث السابق في الباب الذي قبله.
قوله: (خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى الخندق)، وكان في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: أنه قال: كانت الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذلك قال مالك بن أنس، وكان سبب ذلك أنه، صلى الله عليه وسلم، لما بلغه اجتماع الأحزاب وهي القبائل واتفاقهم على محاربته صلى الله عليه وسلم، ضرب الخندق على المدينة. قال ابن هشام: يقال إن الذي أشار به سلمان، رضي الله تعالى عنه. وقال الطبري والسهيلي: أول من حفر الخنادق منوجهر بن أيرج، وكان في زمن موسى، عليه الصلاة والسلام. قوله (فإذا) كلمة إذ المفاجأة قوله: (ما بهم)، أي
: الأمر الملتبس بهم. قوله: (من النصب)، أي: التعب. قوله: (والجوع...))
. قوله: (قال) أي: النبي، صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة..) إلى آخره، وقال الداودي: إنما قال ابن رواحة: لا هم، بلا ألف، ولا لام، فأتى به بعض الرواة على المعنى، وهذا موزون. وقال ابن التين: بالألف واللام... إلى آخره، فليس بموزون، ولا هو رجز. وقال ابن بطال: ليس هو من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بل هو من قول ابن رواحة، ولو كان من لفظه لم يكن بذلك شاعرا، ولا ممن ينبغي له الشعر، وإنما يسمي به من قصد صناعته وعلم السبب والوتد والشطر وجميع معانيه من ا لزحاف والخرم والقبض ونحو ذلك. قلت: فيه نظر، لأن شعراء العرب لم يكونوا يعلمون ما ذكره من ذلك. قوله: (إن العيش)، أي: العيش المعتبر، أو العيش الباقي. قوله: (فاغفر للأنصار) ويروى (للأنصار)، ويخرج به عن الوزن. قوله: (بايعوا)، ويروى: (بايعنا).
وفيه من الفوائد: أن للحفر في سبيل الله وتحصين الديار وسد الثغور منها أجر، كأجر القتال، والنفقة فيه محسوبة في نفقات المجاهدين إلى سبعمائة ضعف. وفيه: استعمال الرجز والشعر إذا كانت فيه إقامة النفوس وإثارة الأنفة والمعرة.
131

43
((باب حفر الخندق))
أي: هذا باب في ذكر حفر الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، الخندق حول المدينة.
5382 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله تعالى عنه قال جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم ويقولون:
* نحن الذين بايعوا محمدا
* على الإسلام ما بقينا أبدا
*
والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم ويقول:
* أللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة
* فبارك في الأنصار والمهاجره
*
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمرو المقعد البصري، وعبد الوارث بن سعيد البصري، وعبد العزيز بن صهيب البصري، وهؤلاء كلهم بصريون.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أبي معمر أيضا. وأخرجه النسائي في المناقب بتمامه وفي الرقايق مختصرا عن عمران بن موسى.
قوله: (على متونهم)، المتون جمع متن، ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم يذكر ويؤنث، والمتن من الأرض ما صلب وارتفع. قوله: (على الإسلام)، ويروى: على الجهاد، وهو الموزون، والأول غير موزون. قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم...) وفي الحديث الماضي في البيت السابق هم يجيبون له، لأنه كان تارة كذا وتارة كذا.
52 - (حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء رضي الله عنه يقول كان النبي
ينقل ويقول لولا أنت ما اهتدينا)
هذا الإسناد بعينه قد مضى عن قريب في أول باب قول الله تعالى * (لا يستوي القاعدون) * والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن حفص بن عمر وفي المغازي عن مسلم بن إبراهيم وفي التمني عن عبدان عن أبيه وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي موسى وبندار عن غندر وعن أبي موسى عن ابن مهدي وأخرجه النسائي في السير عن علي بن الحسين الدرهمي قوله ' لولا أنت ما اهتدينا ' كذا روى وهو بالله لولا أنت ما اهتدينا
53 - (حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال رأيت رسول الله
يوم الأحزاب ينقل التراب وقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول
* لولا أنت ما اهتدينا
* ولا تصدقنا ولا صلينا
*
* فأنزل السكينة علينا
* وثبت الأقدام إن لاقينا
*
* إن الألى قد بغوا علينا
* إذا أرادوا فتنة أبينا
*
هذا طريق آخر عن البراء بأتم من الطريق السابق قوله ' يوم الأحزاب ' سمي به لاجتماع القبائل واتفاقهم على محاربة النبي
وهو يوم الخندق والأحزاب جمع حزب بالكسر وهم الطوائف من الناس قوله ' فأنزلن ' بالنون المخففة قوله ' سكينة ' أي وقارا ويروى فنزل السكينة قوله ' إن لاقينا ' يعني مع الكافر قوله ' إن الأولى ' هو من ألفاظ الموصولات لا من أسماء الإشارات وهو جمع للمذكر قوله ' قد بغوا ' أي ظلموا من البغي قوله ' أبينا ' من الإباء
132

وهو الامتناع وقوله إن الأولى إلى آخره ليس يتزن وروي هكذا أن الأولى هم قد بغوا علينا وهو يتزن لأن وزنه مستفعلن مستفعلن فعولن وقال الداودي وفي رواية أن الأعادي بغوا علينا وهو أيضا لا يتزن إلا بزيادة هم أو قد * -
53
((باب من حبسه العذر عن الغزو))
أي: هذا باب في بيان حكم من حبسه العذر، وهو الوصف الطاريء على المكلف المناسب للتسهيل عليه، وجواب: من، محذوف تقديره: فله أجر الغازي.
8382 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا حميد أن أنسا حدثهم قال رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم ح.
9382 وحدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد هو ابن زيد عن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر.
(انظر الحديث 8382 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (وحبسهم العذر). وأخرجه من طريقين: الأول: عن أحمد بن يونس، هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، عن زهير بن معاوية أبي خيثمة الجعفي عن حميد الطويل عن أنس. الثاني: سليمان بن حرب إلى آخره. وهذا كما رأيت قرن رواية زهير برواية حماد بن زيد، ففي رواية زهير، فائدتان: أولاهما: التصريح بغزوة تبوك. والأخرى: بتصريح أنس بالتحديث.
قوله: (خلفنا)، بسكون اللام، أي: وراءنا، ويروى بتشديد اللام وسكون الفاء: من التخليف. قوله: (شعبا)، بكسر الشين المعجمة: الطريق في الجبل، ويسمى الحي العظيم أيضا شعبا: بالكسر، والشعب، بالفتح ما تفرق من قبائل العرب والعجم، والشعب أيضا القبيلة العظيمة. قوله: (إلا وهم معنا فيه) أي: في ثوابه، أي: هم شركاء في الثواب، وفي رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن حماد بن زيد: إلا وهم معكم فيه بالنية، وفي رواية ابن حبان وأبي عوانة، من حديث جابر: إلا شركوكم في الأجر، بدل قوله إلا كانوا معكم. قوله: (العذر)، لمرض، وعدم القدرة على السفر. وروى مسلم من حديث جابر بلفظ: حبسهم المرض، وهذا محمول على الأغلب.
وفيه: من حبسه العذر من أعمال البر مع نية فيها يكتب له أجر العامل بها، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن غلبه النوم عن صلاة الليل: إنه يكتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه.
وقال موساى حدثنا حماد عن حميد عن موساى بن أنس عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال موسى بن إسماعيل، هو شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة يروي عن حميد عن موسى بن أنس عن أبيه أنس، وهذا التعليق وصله الإسماعيلي: أخبرنا أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حميد عن موسى بن أنس عن أبيه أنس... فذكره.
قال أبو عبد الله الأول أصح
أبو عبد الله: هو البخاري. قوله: (الأول)، السند الأول الذي فيه حميد عن أنس بدون ذكر موسى بن أنس عندي أصح من الذي فيه موسى بن أنس، ورد عليه الإسماعيلي في هذا. وقال: حماد عالم بحديث حميد مقدم فيه على غيره، وكأنه قال: هذا تصريح حميد بحديث أنس له، ولكن يمكن أن يكون حميد سمع هذا من موسى عن أبيه ثم لقي أنسا فحدثه به، أو سمع من أنس فثبته فيه ابنه موسى، والله أعلم.
63
((باب فضل الصوم في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل الصوم في سبيل الله، أي: الجهاد، وقال القررطبي: سبيل الله: طاعة الله، والمراد به: الصوم مبتغيا وجه الله.
133

0482 حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني يحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح أنهما سمعا النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وإسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي النجاري، وكان ينزل بالمدينة بباب بني سعد، روى عنه البخاري في غير موضع من كتابه، مرة يقول: إسحاق بن نصر، فينسبه إلى جده، ومرة يقول: إسحاق بن إبراهيم بن نصر، فينسبه إلى أبيه، وعبد الرزاق بن همام، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسهيل بن أبي صالح لم يخرج له البخاري موصولا إلا هذا، ولم يحتج به، ولهذا قرنه بيحيى بن سعيد، وقد اختلف في إسناده على سهيل، فرواه الأكثرون عنه هكذا، وخالفهم شعبة فرواه: عنه عن صفوان بن يزيد عن أبي سعيد. أخرجه النسائي والنعمان بن أبي عياش، بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة: واسمه زيد بن الصلت، وقيل: زيد بن النعمان الزرقي الأنصاري، وعن يحيى: ثقة. وقال ابن حبان، كذلك، وأبو سعيد الخدري اسمه سعد بن مالك الأنصاري.
وأخرجه مسلم في الصوم عن إسحاق بن منصور وعبد الرحمن بن بشير وعن قتيبة وعن محمد بن رمح. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن سعيد بن عبد الرحمن وعن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي في الصوم عن مؤمل بن شهاب وعن الحسن بن قزعة وعن محمد بن عبد الله وعن عبد الله بن منير وعن أحمد بن حرب وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن رمح.
قوله: (بعد الله وجهه)، وأول النووي وغيره المباعدة من النار على المعافاة منها، دون أن يكون المراد البعد بهذه المسافة المذكورة في الحديث. قلت: لا مانع من الحقيقة على ما لا يخفى، ثم هذا يقتضي إبعاد النار عن وجه الصائم، وفي أكثر الطرق إبعاد الصائم نفسه، فإذا كان المراد من الوجه الذات، كما في قوله تعالى: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88). يكون معناهما واحدا، وإن كان المراد حقيقة الوجه يكون الإبعاد من الوجه فقط، وليس فيه أن يبقى الجسد أن يناله النار، إلا أن الوجه كان أبعد من النار من سائر جسده، وذلك لأن الصيام يحصل منه الظمإ ومحله الفم، لأن الري يحصل بالشرب في الفم. قوله: (سبعين خريفا) أي: سنة، لأن السنة تستلزم الخريف فهو من باب الكناية.
واختلفت الروايات في مقدار المباعدة من النار، ففي حديث عقبة بن عامر عن النبي، صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي: (من صام يوما في سبيل الله باعد الله منه جهنم مائة عام). وفي حديث عمرو بن عنبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الطبراني في (الكبير) كذلك مائة عام، وكذا في حديث عبد الله بن سفيان أخرجه الطبراني أيضا. وفي حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن عدي في (الكامل): (من صام يوما في سبيل الله تباعدت عنه جهنم مسيرة خمسمائة عام). وفي حديث أبي أمامة، أخرجه الترمذي وتفرد به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض)، وكذا رواه الطبراني في (الصغير) عن أبي الدرداء، وكذا رواه عن جابر، وفي رواية ابن عساكر: أبعده الله من النار مسيرة مائة سنة حضر الجواد. وفي حديث عتبة بن النذر أخرجه الطبراني أيضا قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من صام يوما في سبيل الله فريضة باعد الله منه جهنم كما بين السماوات والأرضين السبع، ومن صام يوما تطوعا باعد الله منه جهنم ما بين السماء والأرض) وفي حديث سلامة بن قيصر، أخرجه الطبراني أيضا في (الكبير) قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوما ابتغاء وجه الله بعده الله من جهنم بعد غراب طار، وهو فرخ حتى مات هرما. وفي حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي أنه قال: (من صام يوما في سبيل الله زحزحه الله عن النار سبعين خريفا، والآخر يقول: أربعين. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وفي حديث سهل بن معاذ عن أبيه، أخرجه أبو يعلى الموصلي: (من صام يوما في سبيل الله متطوعا في غير رمضان بعد من النار مائة عام سير المضمر المجيد. وفي حديث ابن عساكر عن ابن عمر:
134

(من صام يوما في سبيل الله متطوعا فهو بسبعمائة يوم).
فإن قلت: ما التوفيق بين هذه الروايات؟ قلت: الأصل أن يرجح ما طريقته صحيحة، وأصحها رواية: سبعين خريفا، فإنها متفق عليها من حديث أبي سعيد. وجواب آخر: أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أولا بأقل المسافاة في الأبعاد، ثم أعلمه بعد ذلك بالزيادة على التدريج في مراتب الزيادة، ويحتمل أن يكون ذلك بحسب اختلاف أحوال الصائمين في كمال الصوم ونقصانه، والله أعلم.
73
((باب فضل النفقة في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل الإنفاق في سبيل الله، المراد من سبيل الله: الجهاد، ولكن اللفظ أعم من هذا يتناول الجهاد وغيره.
1482 حدثني سعد بن حفص قال حدثنا شيبان عن يحياى عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم قال أبو بكر يا رسول الله ذااك الذي لا توى عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأرجو أن تكون منهم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وسعد بن حفص أبو محمد الطلحي الكوفي، يقال له: الضخم وهو من أفراده، وشيبان، بفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالباء الموحدة: ابن عبد الرحمن النحوي، و يحيى هو ابن كثير، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في بدء الخلق عن آدم. وأخرجه مسلم في الزكاة عن محمد ابن رافع وعن محمد بن حاتم.
قوله: (من أنفق زوجين)، أي: شيئين من أي نوع كان، مما ينفق. وقال الكرماني: والزوج خلاف الفرد، وكل واحد منهما يسمى أيضا زوجا. قلت: ينبغي أن
يطلق هنا على الواحد قطعا. وقال الخطابي: يريد بالزوجين أن يشفع إلى كل شيء ما يشفعه من شيء مثله، إن كان دراهم فبدرهمين، وإن كان دنانير فبدينارين، وإن كان سلاحا وغيره كذلك. وقال الداودي: يقع الزوج على الواحد والاثنين، وهنا على الواحد. واحتج بقوله: خلق الزوجين، واعترضه ابن التين، فقال: ليس قوله ببين. قلت: هذا بين فلا وجه لاعتراضه. قوله: (خزنة الجنة)، الخزنة جمع: خازن، وهو الذي يخزن تحت يده الأشياء. قوله: (كل خزنة باب)، قال بعضهم: كأنه من المقلوب. قلت: لا حاجة إلى قوله: كأنه، بل هو من المقلوب، إذ أصله: خزنة كل باب. قوله: (أي فل) كلمة: أي، حرف نداء. وقوله: (فل)، روي بضم اللام وفتحها، وأصله: فلان، فحذف منه الألف والنون بغير ترخيم، ولفظ: فلان، كناية عن اسم سمي به المحدث عنه. ويقال في النداء: يا فل، وإنما قلنا: بغير ترخيم، إذ لو كان ترخيما لقيل: يا فلا. قوله: (هلم)، معناه: تعال، يستوي فيه الواحد والجمع في اللغة الحجازية، وأهل نجد يقولون: هل هلما هلموا. قوله: (لا توى عليه) أي: لا ضياع عليه. وقيل: لا هلاك، من قولك: توى المال يتوي توى. وقال ابن فارس: التوى يمد ويقصر، وأكثرهم على أنه مقصور. وقال المهلب في هذا الحديث: إن الجهاد أفضل الأعمال، لأن المجاهد يعطى أجر المصلي والصائم والمتصدق، وإن لم يفعل ذلك، ولأن باب الريان للصائمين، وقد ذكر في هذا الحديث أن المجاهد يدعى من تلك الأبواب كلها بإنفاق قليل من المال في سبيل الله. انتهى. قلت: هذا الذي ذكره إنما يتمشى على القول بأن المراد بقوله: في سبيل الله: الجهاد، والأكثرون على أن المراد به ما هو أعم من الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث من زيادة أخرجها أحمد، وهي قوله، فيه: لكل أهل عمل باب يدعون بذلك العمل، والله أعلم.
2482 حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال إنما أخشاى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض ثم ذكر زهرة الدنيا فبدأ بإحداهما وثنى بالأخراى فقام
135

رجل فقال يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلنا يوحاى إليه وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير ثم إنه مسح عن وجهه الرحضاء فقال أين السائل آنفا أو خير هو ثلاثا إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإنه كلما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر كلما أكلت حتى إذاا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت وإن هذا المال خضرة حلوة ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه يجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين وابن السبيل ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع ويكون عليه شهيدا يوم القيامة.
مطابقته للترجمة في قوله: (فجعله في سبيل الله)، ومحمد بن سنان بكسر السين المهملة وتخفيف النون: أبو بكر العوفي الباهلي الأعمى، وهو من أفراده. وفليح بن سليمان، وهلال بن أبي ميمونة، ويقال: هلال بن أبي هلال، وهو هلال بن علي الفهري المديني والحديث قد مضى في كتاب الزكاة في باب الصدقة على اليتامى ومضى الكلام فيه هناك فلنذكر بعض شيء لبعد المسافة.
قوله: (فبدأ بإحداهما) أي: بالبركات. قوله: (وثنى بالأخرى) أي: بزهرة الدنيا. قوله: (أو يأتي الخير بالشر؟) أي: تصير النعمة عقوبة. قوله: (كأن على رؤوسهم الطير) قال الداودي: يعني: أن كل واحد صار كمن على رأسه طائر يريد صيده فلا يتحرك كيلا يطير. قوله: (الرحضاء)، بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبالمد: العراق الذي أدره عند نزول الوحي عليه، يقال: رحض الرجل إذا أضابه ذلك فهو مرحوض ورحيض. قوله: (أو خير هو؟) أي: المال هو خير؟ على سبيل الإنكار. قوله: (إن الخير لا يأتي إلا بالخير) أي: الخير الحقيقي لا يأتي إلا بالخير، لكن هذا ليس خيرا حقيقيا لما فيه من الفتنة والإشغال عن كمال الإقبال إلى آخره. قوله: () ينبت، بضم الياء، من: الإنبات. قوله: (حبطا) وقعت هذه اللفظة في الأصول، وذكر ابن التين أنه محذوف، وهو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والطاء المهملة، وهو انتفاخ البطن من داء يصيب الآكل من أكله، وانتصابه على التمييز. وقال ابن قرقول: حبطت الدابة إذا أكلت المرعى حتى ينتفخ جوفها فتموت. قوله: (أويلم)، بضم الياء، من: الإلمام أي: يقرب أن يقتل: قوله: (إلا آكلة الخضر)، أي: إلا الدابة التي تأكل الخضر فقط. قوله: (فثلطت)، أي: الناقة إذا ألقت بعرها رقيقا. قوله: (خضرة) تأنيثه إما باعتبار أنواعه، أو التاء للمبالغة: كالعلامة، أو معناه: أن كان المال كالبقلة الخضرة. قوله: (ونعم صاحب المسلم) المخصوص بالمدح المال. قوله: (ويكون عليه شهيدا)، وذلك بأن يأتيه في صورة من يشهد عليه بالخيانة، كما يأتي على صورة شجاع أقرع.
83
((باب فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير))
أي: هذا باب في بيان فضل من جهز غازيا بأن هيأ له أسباب سفره. قوله: (أو خلفه)، بفتح الخاء المعجمة وتخفيف اللام، يقال: خلف فلان فلانا إذا كان خليفته. ويقال: خلفه في قومه خلافة.
3482 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا الحسين قال حدثني يحيى قال حدثني أبو سلمة قال حدثني بسر بن سعيد قال حدثني زيد بن خالد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا.
مطابقته للترجمة ظاهرة. فقوله: (من جهز غازيا)، يطابق الجزء الأول للترجمة. وقوله: (ومن خلف غازيا)، يطابق الجزء الثاني لها، وأبو معمر عبد الله بن عمرو المقعد، وقد مر عن قريب، وعبد الوارث بن سعيد، وقد مر معه، والحسين هو ابن ذكوان المعلم، وهؤلاء كلهم بصريون، ويحيى هو ابن أبي كثير اليمامي الطائي، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، وبسر، بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة: ابن سعيد مولى الخضرمي من أهل المدينة، مات سنة مائة، وزيد بن خالد أبو عبد الرحمن الجهني.
وفيه: ثلاثة من التابعين على الولاء، وهم: يحيى وأبو سلمة وبسرة وأبو سلمة روى هنا عن زيد بن خالد بواسطة، وروى
136

عنه بلا واسطة أيضا عند أبي داود والترمذي.
والحديث أخرجه مسلم في الجهاد أيضا عن أبي الربيع الزهراني، وعن سعيد ابن منصور وأبي الطاهر بن السرح. وأخرجه أبو داود فيه عن أبي معمر به، وأخرجه الترمذي فيه عن أبي زكرياء بن درست. وأخرجه النسائي فيه عن سليمان بن داود والحارث بن مسكين وعن محمد بن المثنى.
وروي في الباب عن عمر، رضي الله تعالى عنه: أخرجه ابن ماجة من رواية الوليد عن عثمان بن عبد الله بن سراقة عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع). وعن معاذ، رضي الله تعالى عنه، أخرجه الطبراني من رواية رجل لم يسم عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيا أو خلفه في أهله بخير فإنه معنا). وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في (الأوسط) من رواية داود بن الجراح عن الأوزاعي عن يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازيا في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا). وداود مختلف في الاحتجاج به. وعن زيد بن ثابت، أخرجه الطبراني أيضا في (الأوسط) من حديث بسر بن سعيد عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من جهز غازيا في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازيا في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره. وعن أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني أيضا فيه من حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي سعيد قال، عام بني لحيان: (ليخرج من كل اثنين منكم رجل، وليخلف الغازي في أهله وماله وله مثل نصف أجره). وفيه ابن لهيعة وتفرد به. وعن سهل بن حنيف: أخرجه أحمد في (مسنده) والطبراني في (الكبير) من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن سهل بن حنيف عن أبيه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (من أعان مجاهدا في سبيل الله، أو غازيا في عسرته، أو مكاتبا في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). وعن جبلة بن حارثة أخرجه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) من رواية شريك عن أبي إسحاق عن جبلة بن حارثة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، (إذا لم يغز أعطى سلاحه عليا أو أسامة، رضي الله تعالى عنهما؟ وعن أبي أمامة أخرجه أبو داود وابن ماجة من رواية الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يغز أو يجهز غازيا في أهله بخير أصابه الله بقارعة)، زاد في رواية: (قبل يوم القيامة). وعن واثلة بن الأسقع أخرجه الطبراني في (الأوسط) من رواية مكحول عن واثلة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما من أهل بيت لا يغزو منهم غازيا أو يجهز غازيا بسلك أو بإبرة أو ما يعدلها من الورق أو يخلفه في أهله بخير إلا أصابهم الله بقارعة قبل يوم القيامة، وإسناده ضعيف.
ذكر معناه: قوله: (من جهز)، بتشديد الهاء: من التجهيز، وقد ذكرنا أن معناه: من هيأ أسباب سفره من شيء قليل أو كثير، ألا يرى في حديث واثلة المذكور آنفا قال: بسلك أو بإبرة؟ فإن قلت: ذكر في حديث ابن ماجة المذكور: (حتى يستقل)، والاستقلال لا يكون إلا بتمام التجهيز. قلت: حديث واثلة ضعيف، كما ذكرنا، ولئن سلمنا صحته فإنه وعيد في ترك التجهيز أصلا، ولا يعارض غيره. قوله: (فقد غزا)، قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الأجر، وإن لم يغز حقيقة. ثم أخرجه من وجه آخر عن بسر بن سعيد بلفظ: (كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء). وقال الطبري فيه: إن من أعان مؤمنا على عمل بر فللمعين عليه مثل أجر العامل، ومثله المعونة على معاصي الله، عز وجل، للمعين عليها من الوزر والإثم مثل ما على عاملها،، ولذلك نهى عن بيع السيوف في الفتنة، ولعن عاصر الخمر. وقال القرطبي: ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في الحديث وشبهه إنما هو بغير تضعيف، قال: لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر وأعمال من البر كثيرة لا يفعلها الدال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج). وقال: (لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما). قلت: هذا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، قال القرطبي: لا حجة في هذا الحديث لوجهين. أحدهما: أنا نقول بموجبه، وذلك أنه لم يتناول محل النزاع، فإن المطلوب إنما هو أن الناوي للخير المعوق عنه، هل له مثل أجر الفاعل من غير تضعيف؟ وهذا الحديث إنما اقتضى مشاركة ومشاطرة في المضاعف فانفصلا. وثانيهما: أن القائم على مال الغازي
137

وعلى أهله نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوة، إلا بأن يكفي ذلك العمل، فصار كأنه مباشر معه الغزو، فليس مقتصرا على النية فقط، بل هو عامل في الغزو، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملا وافرا مضاعفا، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفا له، وبهذا يجتمع معنى قوله: (من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا)، وبين معنى قوله في اللفظ الأول: (فله مثل نصف أجر الغازي)، ويبقى للغازي النصف، فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيصا لثوابه وإنما هذا كما قال: (من فطر صائما كان له مثل أجر الصائم لا ينقصه من أجره شيء)، والله أعلم. وعلى هذا، فقد صارت كلمة: نصف، مقحمة هنا بين: مثل، و: أجر، وكأنها زيادة ممن يسامح في إيراد اللفظ بدليل. قوله: (والأجر بينهما). ويشهد له ما ذكرناه، وأما من تحقق عجزه وصدقت نيته فلا ينبغي أن يختلف أن أجره يضاعف، كأجر العامل المباشر.
4482 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا همام عن إسحاق بن عبد الله عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت ام سليم إلا على أزواجه فقيل له فقال إني أرحمها قتل أخوها معي.
قيل: لا مطابقة لجزء الترجمة، وهو قوله: (أو خلفه بخير)، لأن ذلك أعم من أن يكون في حياته أو بعد موته، ففيه أنه صلى الله عليه وسلم خلفه في أهله بخير بعد وفاة أخي أم سليم، وذلك من حسن عهده صلى الله عليه وسلم. قلت: لا يخلو عن بعض التكلف، ولكن له وجه أقرب من هذا. وهو: أن تجهيز الغازي ونظره في
أهله من غاية الإكرام للغازي، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى إنه أكرمه بعد موته حيث كان يدخل بيت أم سليم لأجل قتل أخيها وهو غاز، فكأنه ينبه بهذا على أن إكرام أهل الغازي الميت مرغوب فيه مع الأجر، فإذا كان في إكرام أهل الغازي الميت هكذا، ففي إكرام الغازي الحي بطريق الأولى.
وموسى هو ابن إسماعيل، وهمام، بالتشديد: ابن يحيى الشيباني، وإسحاق هو ابن عبد الله بن أبي طلحة.
والحديث أخرجه مسلم في الفضائل عن حسن الحلواني عن عمرو بن عاصم.
ذكر معناه: قوله: (عن إسحاق بن عبد الله)، وفي رواية مسلم: عن همام أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. وعند الإسماعيلي من طريق حسان بن هلال: عن همام حدثنا إسحاق. قوله: (لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أم سليم) قال الحميدي: لعله أراد على الدوام، وإلا فقد تقدم أنه كان يدخل على أم حرام. وقال ابن التين: يريد أنه كان يكثر الدخول على أم سليم، وإلا فقد دخل على أختها أم حرام، ولعل أم سليم كانت شقيقة المقتول، أو وجدت عليه أكثر من أم حرام، وأم سليم هي أم أنس، وقد ذكرنا أن في اسمها اختلافا، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، ويقال: الغميصاء، والرميصاء، وأما أم حرام، فقد قال أبو عمر: لا أقف لها على اسم، صحيح. قوله: (إني أرحمها...) إلى آخره. قال الكرماني: كيف صار قتل الأخ سببا للدخول على الأجنية. قلت: لم تكن أجنبية، كانت خالة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم من الرضاع، وقيل: من النسب، فالمحرمية كانت سببا لجواز الدخول. وقال بعضهم: العلة المذكورة في الحديث أولى من غيره، وأشار به إلى ما قاله الكرماني قلت: لم يبين في وجه الأولوية ما هو. قوله: (قتل أخوها معي)، أخوها هو حرام بن ملحان، قتل يوم بئر معونة، والمراد بقوله معي، أي: مع عسكري، أو معي نصرة للدين، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يكن في غزوة بئر معونة، وستأتي قصتها في كتاب المغازي، إن شاء الله تعالى.
93
((باب التحنط عند القتال))
أي: هذا باب في بيان استعمال الحنوط عند القتال، وقد مر تفسير الحنوط في باب الجنائز، وهو عطر مركب من أنواع الطيب، يطيب به الميت.
5482 حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا ابن عون عن موسى بن أنس قال وذكر يوم اليمامة قال أتى أنس ثابت بن قيس وقد حسر عن فخذيه
138

وهو يتحنط فقال يا عم ما يحبسك أن لا تجيء قال الآن يا ابن أخي وجعل يتحنط يعني من الحنوط ثم جاء فجلس فذكر في الحديث انكشافا من الناس فقال هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما عودتم أقرانكم.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهو يتحنط)، و (جعل يتحنط يعني: من الحنوط).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: عبد الله بن عبد الوهاب أبو محمد الحجبي البصري. الثاني: خالد بن الحارث الهجيمي، بضم الهاء وفتح الجيم، مر في استقبال القبلة. الثالث: ابن عون، بفتح العين: وهو عبد الله بن عون، مر في العلم. الرابع: موسى بن أنس بن مالك. الخامس: أنس بن مالك. السادس: ثابت بن قيس بن شماس، بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم وفي آخره سين مهملة: الخزرجي خطيب الأنصار، قتل يوم اليمامة شهيدا في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون ما خلا ثابتا. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، وهما ابن عون وموسى، وابن عون رأى أنس بن مالك ولم يثبت له سماع منه. وفيه: اثنان من الصحابة وهما: أنس وثابت. وفيه: أتى أنس ثابت بن قيس، وفي رواية البرقاني من وجه آخر، فقال: عن موسى بن أنس عن أبيه، قال: أتيت ثابت بن قيس، وفي رواية ابن سعد في (الطبقات): حدثنا الأنصاري حدثناابن عون أخبرنا موسى بن أنس عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم اليمامة جئت إلى ثابت بن قيس بن شماس... فذكره، وهذا الحديث من أفراده.
ذكر معناه: قوله: (وذكر يوم اليمامة)، الواو فيه للحال، وفي رواية الحموي بلا واو، و: اليمامة، بفتح الياء آخر الحروف وتخفيف الميم: وهي مدينة من اليمين على مرحلتين من الطائف، سميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام. وقال الجوهري: اليمامة بلاد، وكان اسمها: الجو، فسميت باسم هذه المرأة لكثرة ما أضيف إليها. أو ذكر الجاحظ أن اليمامة كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت زرقاء، وقال المسعودي: هي يمامة بنت رباح بن مرة، ويوم اليمامة هو اليوم الذي كانت فيه الوقعة بين المسلمين وبين بني حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب، وكانت في ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة من الهجرة في خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه. وقيل: كانت في أواخر سنة إحدى عشرة، والجمع بين القولين: أن ابتداءها كان في السنة الحادية عشرة وانتهاءها في السنة الثانية عشرة، وقتل فيها جماعة من المسلمين وهم أربعمائة وخمسون من حملة القرآن ومن الصحابة، منهم: ثابت بن قيس ابن شماس، وكانت راية الأنصار مع ثابت هذا، وكان رأس العسكر خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، وكان بنو حنيفة نحوا من أربعين ألفا والمسلمون نحوا من...
... وقتل من بني حنيفة نحو من إحدى وعشرين ألفا، وفيهم مسيلمة الكذاب، قتله وحشي بن حرب قاتل حمزة، رضي الله تعالى عنه، رماه بحربة فأصابته وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن حرثة فضربه بالسيف فسقط. قوله: (أتى أنس ثابت بن قيس)، وارتفاع: أنس، بالفاعلية وانتصاب: ثابت، بالمفعولية. قوله: (وقد حسر)، الواو فيه للحال، وكذلك في قوله: (وهو يتحنط) وحسر، بمهملتين مفتوحتين معناه: كشف. قوله: (يا عم)، إنما دعاه بذلك
لأنه كان أسن منه، ولأنه من قبيلة الخزرج. قوله: (ما يحبسك؟) أي: ما يؤخرك. قوله: (أن لا تجيء؟)، بالنصب. قال الكرماني: لا، زائدة، وبالرفع وتخفيف اللام، وفي رواية الأنصاري: (فقلت: يا عم! ألا ترى ما يلقى الناس؟) وعند الإسماعيلي: ألا تجيء؟ وكذا في رواية خليفة في (تاريخه). وقال في جوابه: بلى يا ابن أخي الآن. قوله: (وجعل يتحنط)، أي: جعل يستعمل الحنوط. قوله: (يعني من الحنوط)، إنما فسر بهذا حتى لا يتصحف بما يشتق من الخياطة، أو من شيء آخر. وقال بعضهم: وكأن قائلها أراد دفع من يتوهم أنها من
139

الحنطة. قلت: هذا الوهم بعيد ولا معنى يفيد أن يتحنط من الحنطة، وهذه اللفظة لم تقع في رواية الأنصاري، ولكنها موجودة في الأصل.
وروى الطبراني عن علي بن عبد العزيز وأبي مسلم الكبشي، قالا: حدثنا حجاج بن منهال (ح) وحدثنا محمد بن العباس المؤدب حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن ثابت بن قيس بن شماس جاء يوم اليمامة وقد تحنظ ونشر أكفانه، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر مما صنع هؤلاء، فقيل: وكانت له درع فسرقت، فرآه رجل فيما يرى النائم، فقال: إن درعي في قدر تحت كانون في مكان كذا وكذا، وأوصاه بوصايا، فطلبوا الدرع فوجدوها وانفذوا الوصايا. وعند الترمذي: قال أنس: لما انكشف الناس يوم اليمامة، قلت لثابت... فذكر الحديث. وفيه: وكان عليه درع نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذوها. وفيه: لما رأى في المنام ودل على الدرع، قال: لا تقل هذا منام، فإذا جئت أبا بكر فأعلمه أن على من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيقي عتيق، وفلان... فأنفذ أبو بكر وصيته، ولا يعلم أحد أجيزت وصيته بعد موته سواه. وفي كتاب (الردة) للواقدي بإسناده عن بلال أنه رأى سالم مولى أبي حذيفة، وهو قافل إلى المدينة من غزوة اليمامة: أن درعي مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق تحت قدرهم، فإذا أصبحت فخذها وأدها إلى أهلي، وإن علي شيئا من الدين فمرهم أن يقضوه عني، فأخبرت أبا بكر بذلك، فقال: نصدق قولك ونقضي عنه دينه الذي ذكرته. وفيه: أن عبدي سعدا وسالما حران. وقال الكرماني: قال أنس: لما انكشف الناس يومئذ: ألا ترى يا عم؟ فقال: ما هكذا نقاتل مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بئسما عودتم أقرانكم. ثم قاتل حتى قتل، وكان عليه درع نفيسة، فمر به رجل من المسلمين فأخذها، فرآه بعض الصحابة في المنام، فقال: إني أوصيك بوصية فلا تضيعها، إني لما قتلت أخذ رجل درعي، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس، وقد كفا على الدرع برمة وفوق البرمة رحل، فأت خالدا، وكان أمير العسكر وقل له يأخذ درعي منه، فإذا قدمت المدينة فقل لخليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعني: أبا بكر، رضي الله تعالى عنه: إن علي من الدين كذا وكذا، وفلان من رقيق عتيق. فأتى الرجل خالدا، رضي الله تعالى عنه، فأخبره، فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر فأجاز وصيته، ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت، وهو من الغرائب.
قوله: (فذكر في الحديث انكشافا) أي: فذكر أنس في حديثه نوعا من الانهزام، أي: أشار إلى الفرج بين وجوه المسلمين والكافرين بحيث لا يبقى بيننا وبينهم أحد، وقدرنا على أن نضاربهم بلا حائل بيننا وبينم، فقال ثابت: ما كنا نفعل كذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان الصف الأول لا ينحرف عن موضعه، وكان الصف الثاني مساعدا لهم، وفي رواية ابن أبي زائدة: فجاء حتى جلس في الصف والناس منكشفون، أي: منهزمون. قوله: (بئس ما عودتم أقرانكم)، هكذا في رواية الأكثرين، ووقع في رواية المستملي: عودكم أقرانكم. قلت: فعلى الأول: أقرانكم، بالنصب، لأنه مفعول: عودتم، وعلى الثاني: بالرفع، لأنه فاعل: عودكم. والأقران: النظراء، وهو جمع قرن، بكسر القاف، وهو الذي يعادل الآخر في الشدة، والقرن، بفتح القاف: من يعادل في السن، وأراد ثابت، رضي الله تعالى عنه، بهذا الكلام توبيخ المنهزمين، أي: عودتم نظراءكم في القوة من عدوكم الفرار منهم حتى طمعوا فيكم؟ وفي رواية الأنصاري وابن أبي زائدة، ومعاذ بن معاذ: فتقدم فقاتل حتى قتل، رضي الله تعالى عنه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دلالة على الأخذ بالشدة في استهلاك النفس وغيرها في ذات الله، عز وجل، وترك الأخذ بالرخصة لمن قدر عليها. وفيه: أن التطيب للموت سنة من أجل مباشرة الملائكة للميت. وفيه: التداعي للقتال، لأن أنسا قال لعمه: ما يحبسك أن لا تجيء؟ وفيه: قوة ثابت بن قيس وصحة يقينه ونيته. وفيه: التوبيخ لمن نفر من الحرب. وفيه: الإشارة إلى ما كانت عليه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الشجاعة والثبات في الحرب.
رواه حماد عن ثابت عن أنس
أي: روى الحديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك، وهذا التعليق وصله البرقاني عن أبي العباس ابن حمدان بالإسناد عن قبيصة بن عقبة عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بلفظ: انكشفنا يوم اليمامة فجاء ثابت بن
140

قيس بن شماس، فقال: بئس ما عودتم أقرانكم منذ اليوم، وإني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء القوم، وأعوذ بك مما صنع هؤلاء، وخلوا بيننا وبين أقراننا ساعة، وقد كان تكفن وتحنيط، فقاتل حتى قتل. قال: وقتل يومئذ سبعون من الأنصار فكان أنس يقول: يا رب سبعين من الأنصار يوم أحد، سبعين يوم مؤتة، سبعين يوم بئر معونة، سبعين يوم اليمامة... وبالله المستعان.
04
((باب فضل الطليعة))
أي: هذا باب في بيان فضل الطليعة، بفتح الطاء وكسر اللام، وطليعة الجيش من بعث ليعلم العدو ويطلع على أحوالهم، ويجمع على طلائع، وقال ابن الأثير: الطلائع هو القوم الذين يبعثون ليطلعوا، طلع العدو كالجواسيس،. والطليعة تطلق على الواحد وعلى الجماعة، قلت: طلع العدو، بكسر الطاء وسكون اللام: اسم من اطلع على الشيء إذا علمه.
6482 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب قال الزبير أنا ثم قال من يأتيني بخبر القوم قال الزبير أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن قوله، صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) انتداب لأحد يأتيه بخبر العدو، فانتدب له الزبير، فاستحق الفضل بذلك.
وأبو نعيم الفضل بن دكين، وسفيان هو الثوري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن محمد بن كثير. وأخرجه مسلم في الفضائل عن أبي كريب وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن وكيع. وأخرجه الترمذي في المناقب عن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي فيه وفي السير عن قاسم بن زكريا. وأخرجه ابن ماجة في السنة عن علي ابن محمد عن وكيع.
ذكر معناه: قوله: (من يأتيني بخبر القوم؟). أراد بهم بني قريظة من اليهود، وعند النسائي قال وهب بن كيسان: أشهد لسمعت جابرا يقول: لما اشتد الأمر يوم بني قريظة من اليهود، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من يأتينا بخبرهم؟) فلم يذهب أحد، فذهب الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يأتينا بخبرهم؟ فلم يذهب أحد فذهب الزبير، فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواري. وإن الزبير حواري). وعند ابن أبي عاصم، من حديث وهب بن كيسان عن جابر: لما كان يوم الخندق واشتد الأمر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتي بني قريظة فيأتينا بخبرهم؟) فانطلق الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر فقال (ألا رجل ينطلق إلى بني قريظة؟) الحديث، وفي لفظ: ثلاث مرات، فلما رجع جمع له أبويه. قوله: (يوم الأحزاب)، هو يوم الخندق، والأحزاب كانوا من قريش وغيرهم، وكان بنو قريظة نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على حرب المسلمين. قوله: (حواريا) أي: أي خاصة من الصحابة وقال الترمذي والحواري ومنه الحواريون من أصحاب المسيح عليه السلام أي خلصاؤه وأنصاره، وأصله من التحوير وهو التبييض. وقيل: (إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها). ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد مرة. وقال الأزهري: الحواريون خلصاء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وقال عبد الرزاق: عن معمر عن قتادة: الحواري الوزير إذا أضيف الحواري إلى: يا، من المتكلم: بحذف الياء وحينئذ ضبطه جماعة بفتح الياء وأكثرهم بكسرها. قالوا: والقياس الكسر، لكنهم حين استثقلوا الكسرة وثلاث ياآت حذفوا ياء المتكلم وأبدلوا من الكسرة فتحة، وقد قرىء في الشواذ: إن ولي الله، بالفتح وفي (التوضيح): اعلم أنه وقع هنا ما ذكرناه، أراد به: من أن الذي توجه إلى كشف بني قريضة الزبير بن العوام، رضي الله تعالى عنه، والمشهور كما قاله شيخنا فتح الدين اليعمري: أن الذي توجه ليأتي بخبر القوم حذيفة بن اليمان، كما روينا عنه من طريق ابن إسحاق وغيره، قال: يعني: رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم: ثم يرجع) فشرط له رسول الله، صلى الله عليه وسلم الرجعة، أسأل الله أن يجعله رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من شدة الخوف والجزع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فقال: يا حذيفة إذهب وادخل في القوم... وذكر الحديث، وذكر ابن عيينة وغيره خروج حذيفة إلى المشركين ومشقة ذلك عليه إلى أن
141

قال، عليه الصلاة والسلام: (قم يحفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا)، فقام حذيفة مستبشرا بدعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كأنه احتمل احتمالا، فما شق عليه شيء مما كان فيه، والله أعلم بحقيقة الحال.
14
((باب هل يبعث الطليعة وحده))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يبعث الطليعة إلى كشف العدو منفردا وحده؟ وجواب: هل، الاستفهامية محذوف، والتقدير: يبعث أو يجوز بعثه وحده؟
7482 حدثنا صدقة قال أخبرنا ابن عيينة قال حدثنا ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس قال صدقة أظنه يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندب فانتدب الزبير ثم ندب الناس فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير بن العوام.
.
هذا هو الحديث الذي مضى في الباب السابق، غير أنه رواه هناك: عن أبي نعيم عن سفيان الثوري، وهنا رواه: عن صدقة ابن الفضل عن سفيان بن عيينة، وأيضا هنا ترجم عليه في جواز إرسال الطليعة وحده. قوله: (ندب الناس)، يقال: ندبه لأمر فانتدب له أي: دعاه له فأجابه. قوله: (أظنه)، أي: قال صدقة، شيخ البخاري: أظن أن الندب يوم الخندق، ورواه الحميدي عن ابن عيينة فقال فيه يوم الخندق من غير شك.
وفيه: شجاعة الزبير، وتقدمته وفضله. وقال الداودي: ولا أعلم رجلا جمع له النبي صلى الله عليه وسلم، أبويه إلا الزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، كان يقول له: (إرم فداك أبي وأمي). وإنما كان يقول لغيرهما: (إرم فداك أبي، أو فدتك أمي)، وهي كلمة تقال للتبجيل ليس على الدعاء ولا على الخبر، وقال ابن بطال: زعم بعض المعتزلة أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم الزبير وحده معارض لقوله، صلى الله عليه وسلم: (الراكب شيطان)، ونهى أيضا عن أن يسافر الرجل وحده، قال المهلب: وليس بينهما تعارض لاختلاف المعنى في الحديثين، وهو أن الذي يسافر وحده لا يأنس بأحد ولا يقطع طريقه بمحدث يهون عليه مؤونة السفر، كالشيطان الذي لا يأنس بأحد ويطلب الوحدة ليغويه. وأما سفر الزبير فليس كذلك، لأنه كان كالجاسوس يتجسس على قريش ما يريدون من حرب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يناسبه إلا الوحدة، على أنه خرج في مثل هذا الأمر الخطير لحماية الدين وإظهار طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل، كان عليه حفظ من الله تعالى
ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فأين هذا من ذلك؟ ألا يرى أن عمر، رضي الله تعالى عنه، لما بلغه أن سعدا بنى قصرا أرسل شخصا وحده ليهدمه؟ وذكر ابن أبي عاصم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عبد الله بن أنس سرية وحده؟ وبعث عمرو بن أمية وحده عينا؟ وذكر ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل سالم بن عمير سرية وحده، وحمل الطبري الحديث على جواز السفر للرجل الواحد إذا كان لا يهوله هول، وإلا فممنوع من السفر وحده خشية على عقله أو يموت فلا يدري خبره أحد ولا يشهده، كما قال عمر، رضي الله تعالى عنه: أرأيتم إذا سافر وحده فمات، من أسأل عنه؟ قال: ويحتمل أن يكون النهي عن السفر وحده نهي تأديب وإرشاد إلى ما هو الأولى. وقال ابن التين: وحمله الشيخ أبو محمد على السفر الذي يقصر فيه الصلاة.
24
((باب سفر الإثنين))
أي: هذا باب في بيان جواز سفر الرجلين معا وليس المراد سفر يوم الاثنين وزعم ابن التين أن الداودي فهم منه سفر يوم الاثنين، واعترض على البخاري بقوله: ليس في الحديث ذكر سفر يوم الاثنين، وهذا ليس بشيء، لأنه لم يرد به إلا سفر الرجلين، لأنه تقدم ذكر سفر الرجل وحده ثم أتبعه ببيان سفر الرجلين، ولو نظر متن الحديث لوضح له
142

بخلاف قوله، وسفر يوم الاثنين، إنما هو مذكور في حديث الثلاثة الذين تخلفوا عن تبوك، قال كعب: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يحب أن يسافر يوم الاثنين ويوم الخميس.
8482 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو شهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن مالك ابن الحويرث قال انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا أنا وصاحب لي أذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي، وأبو شهاب موسى بن نافع الأسدي الحناط الكوفي، وهو أبو شهاب الأكبر، وأبو قلابة، بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة: عبد الله بن زيد البصري. والحديث مضى في كتاب مواقيت الصلاة في: باب الأذان للمسافر. ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (أنا)، تأكيد أو بدل أو بيان أو خبر مبتدأ محذوف. قوله: (صاحب)، بالجر والرفع، عطف عليه.
34
((باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))
أي: هذا باب يذكر فيه الخيل... إلى آخره، وهذه الترجمة هي عين حديث الباب.
9482 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
(الحديث 9482 طرفه في: 4463).
الترجمة والحديث واحد. والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى عن مالك به.
قوله: (الخيل معقود في نواصيها)، وفي رواية (الموطأ) ليس فيه: معقود، ووقع بإثباتها عند الإسماعيلي من رواية عبد الله بن نافع عن نافع، وسيجئ في علامات النبوة من طريق عبد الله بن عمر عن نافع بإثباتها، وذلك في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، وعند ابن أبي عاصم: (الخيل في نواصيها الخير)، وليس فيه لفظ معقود، وروي أبو داود عن شيخ من بني سليم عن عتبة بن عبد السلمي، سمع النبي صلى الله عليه وسلم (يقول: لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها، فإن أذنابها مذابها، ومعارفها دفاؤها، ونواصيها معقود فيها الخير) وسمى أبو يعلى الموصلي الشيخ: نصر بن علقمة، وروى البزار عن سلمة بن نفيل: (الخيل معقود في نواصيها الخير، وأهلها معانون عليها)، وروى مسلم من حديث جرير: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه وهو يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة). وروى عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث عن الحارث بن يعقوب عن أبي الأسود الغفاري عن أبي ذر، قالوا: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).
ذكر معناه: قوله: (الخيل)، مبتدأ وقوله: (معقود)، مرفوع على أنه خبر المبتدأ المؤخر، وهو قوله: الخير، والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعنى قوله: معقود: ملازم لها كأنه معقود فيها، وهو من باب الاستعارة المكنية، لأن الخير ليس بمحسوس حتى تعقد عليه الناصية، ولكنهم يدخلون المعقول في جنس المحسوس ويحكمون عليه بما يحكم على المحسوس مبالغة في اللزوم، وذكر الناصية تجريد للاستعارة، والنواصي جمع: ناصية، وهي قصاص الشعر، وهو الشعر المسترسل على الجبهة. وخص النواصي بالذكر لأن العرب تقول غالبا: فلان مبارك الناصية، فيكنى بها عن الإنسان. وقوله: الخيل... إلى آخره لفظه عام، والمراد به الخصوص لأنه لم يرد إلا بعض الخيل بدليل قوله: الخيل لثلاثة، فبين أنه أراد الخيل الغازية في سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها، ذكره ابن المنذر، وقال غيره: الخير، هنا المال، قال: عز وجل: * (إن ترك خيرا) * (البقرة: 081). وقال أهل التفسير في قوله تعالى: * (إني أحببت حب الخير) * (ص: 23). إنه
أراد به الخيل.
وفيه: الحث على ارتباط الخيل في سبيل الله تعالى، يريد أن من ارتبطها كان له ثواب ذلك، فهو خير آجل، وهو ما يصيبه على ظهرها من الغنائم، وفي بطونها من النتاج خير عاجل.
143

0582 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن حصين وابن أبي السفر عن الشعبي عن عروة بن الجعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: حفص بن عمر بن الحارث، وقد تكرر ذكره. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: حصين بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين: ابن عبد الرحمن السلمي. الرابع: عبد الله بن أبي السفر، بفتح السين المهملة وفتح الفاء، واسمه سعيد. الخامس: عامر الشعبي. السادس: عروة بن الجعد، بفتح الجيم وسكون العين المهملة، ويقال: ابن أبي الجعد البارقي الأزدي.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وأنه بصري، وأن شعبة واسطي والبقية كوفيون. وفيه: عن الشعبي عن عروة، وفي رواية زكرياء عن الشعبي: حدثنا عروة، وسيأتي في الباب الذي بعده، ولما رواه ابن أبي عاصم عن غندر حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر عن الشعبي، قال: عن عروة البارقي، قال الحميدي، زاد البرقاني في حديث الشعبي من رواية عبد الله بن إدريس: عن حصين يرفعه: الإبل عز لأهلها، والغنم بركة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في (الجهاد)، عن أبي نعيم، (وفي الخمس) عن مسدد، وفي علامات النبوة عن علي بن عبد الله. وأخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن عبد الله بن نمير وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر وعن يحيى بن يحيى وخلف بن هشام وأبي بكر وعن أبي موسى وبندار وعن عبيد الله بن معاذ. وأخرجه الترمذي (في الجهاد) عن هناد. وأخرجه النسائي في الخيل عن أبي كريب وعن ابن المثنى وابن بشار عن عمرو بن علي. وأخرجه ابن ماجة في الجهاد عن أبي بكر بن أبي شيبة وفي التجارات عن محمد بن عبد الله بن نمير عن ابن إدريس به، وزاد في أوله: الإبل عز لأهلها والغنم بركة.
وقال سليمان عن شعبة عن عروة بن أبي الجعد
أي: قال سليمان بن حرب... إلى آخره، وأشار به إلى أن سليمان خالف حفص بن عمر في اسم والد عروة، فقال حفص: عروة بن الجعد، وقال سليمان: عروة بن أبي الجعد، بزيادة لفظ: الأب، واعلم أن قوله: عن شعبة عن عروة، ليس المراد منه أن شعبة يروي عن عروة، لأن شعبة لم يدرك عروة، وإنما المعنى: أن شعبة قال في روايته: هو عروة بن أبي الجعد، فافهم فإنه موضع التأمل، وتعليق سليمان رواه أبو نعيم الحافظ عن فاروق: حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر، وحصين عن الشعبي عن عروة بن أبي الجعد، فذكره.
تابعه مسدد عن هشيم عن حصين عن الشعبي عن عروة بن أبي الجعد
أي: تابع سليمان بن حرب في زيادة لفظ الأب في الجعد مسدد شيخ البخاري عن هشيم بن بشير عن حصين... إلى آخره.
1582 حدثنا مسدد قال حدثنا يحياى بن سعيد عن شعبة عن أبي التياح عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البركة في نواصي الخيل.
(الحديث 1582 طرفه في: 5463).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (البركة)، لأنها عين الخير. ويحيى: هو ابن سعيد القطان، وأبو التياح، بفتح التاء المثاة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف: واسمه يزيد بن حميد الضبعي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن قيس بن حفص. وأخرجه مسلم في المغازي عن عبيد الله بن معاذ وعن أبي موسى وعن يحيى بن حبيب وعن محمد بن الوليد. وأخرجه النسائي في الخيل عن إسحاق بن إبراهيم، وعن محمد بن بشار.
قوله: (في نواصي الخيل)، يتعلق بمحذوف تقديره:
144

البركة حاصلة أو نازلة في نواصي الخيل. وأخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة بلفظ (البركة تنزل في نواصي الخيل)، وقال عياض: إذا كان في نواصيها البركة فيبعد أن يكون فيها شوم. فإن قلت: جاء: إن كان الشوم ففي ثلاث: في الفرس الحديث. قلت: الشؤم في الفرس الذي يرتبط لغير الجهاد ويقتنى للفخر والخيلاء، والخيل التي أعدت للجهاد هي المخصوصة بالخير والبركة.
44
((باب الجهاد ماض على البر والفاجر))
أي: هذا باب يذكر فيه الجهاد... إلى آخره، وقال ابن التين: وقع في رواية أبي الحسن القابسي: الجهاد ماض على البر والفاجر. قال: ومعناه أنه يجب على كل أحد. وقال بعضهم: هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبو داود وأبو يعلى. مرفوعا وموقوفا عن أبي هريرة. قلت: قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح عن العلاء ابن الحارث عن مكحول عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر...) الحديث، ويقال: إنه لم يسمع من أبي هريرة.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة
وجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم لما أبقى الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، علم أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، وقد علم أن في أمته أئمة جور لا يعدلون ويستأثرون بالمغانم، ومع هذا فقد أوجب الجهاد معهم، ويقوي هذا المعنى أمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر. وقوله: (على البر والفاجر)، أعم من أن يكون: كل منهما أميرا أو مأمورا.
2582 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا زكرياء عن عامر قال حدثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (في نواصيها الخير...) إلى آخره. وأبو نعيم: الفضل بن دكين، وزكرياء هو ابن زائدة، وعامر هو الشعبي.
قوله: (البارقي)، بالباء الموحدة وكسر الراء بعدها قاف: نسبة إلى بارق، جبل باليمن، وقيل: ماء بالسراة. وقال الرشاطي: البارقي نسبة إلى ذي بارق، قبيلة من ذي رعين. قوله: (الأجر)، هو نفس الخير، أي: الثواب في الآخرة. والمغنم: أي: الغنيمة في الدنيا. وقال الطيبي: يجوز أن يكون الخير المفسر بالأجر، والغنيمة استعارة مكنية، شبهه لظهوره وملازمته بشيء محسوس معقود بحبل على مكان رفيع ليكون منظورا للناس ملازما لنظره، فنسب الخيل إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريدا للاستعارة.
وفيه: الترغيب في اتخاذ الخيل للجهاد.
وفيه: أن الجهاد لا ينقطع أبدا.
54
((باب من احتبس فرسا في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل من احتبس فرسا، يقال: حبسته واحتبسته، واحتبس أيضا بنفسه يتعدى ولا يتعدى، والمعنى يحبسه على نفسه لسد ما عسى أن يحدث في ثغر من الثغور من ثلمة، وليس في بعض النسخ. قوله: (في سبيل الله)، وفي بعض النسخ أيضا: (من احتبس فرسا في سبيل الله).
لقوله تعالى: * (ومن رباط الخيل) * (الأنفال: 06).
وأوله: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم...) * (الأنفال: 06). الآية، أمر الله تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلة الكفار حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة، فقال: * (وأعدوا لهم ما استطعتم) * (الأنفال: 06). أي: مهما أمكنكم من قوة أي: رمي. روى أحمد في (مسنده) من حديث عقبة بن عامر، يقول: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * (الأنفال: 06). ألا أن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي). ورواه مسلم عن هارون بن معروف، وأبو داود عن سعيد بن منصور، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى. وقيل: القوة كل ما يتقوى به على الحرب: كالسيف والرمح
145

والقوس. وقيل: ذكور الخيل، وقيل: اتفاق الكلمة، وقيل: الثقة بالله والرغبة إليه. قوله: * (ومن رباط الخيل) * (الأنفال: 06). يعني: ربطها واقتناءها للغزو، وهو عام للذكور والإناث في قول الجمهور. وعن عكرمة: الإناث. قوله: * (ترهبون به) * (الأنفال: 06). أي: تخوفون به، وقرئ مشددا ومخففا.
3582 حدثنا علي بن حفص قال حدثنا ابن المبارك قال أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعلي بن حفص المروزي نزل عسقلان، قال البخاري: لقيته بعسقلان سنة سبع عشرة ومائتين ولم يرو عنه إلا هذا الحديث، وآخر في مناقب الزبير موقوفا، وآخر في كتاب القدر مقرونا ببشير بن محمد، وابن المبارك هو عبد الله بن المبارك المروزي، وطلحة بن أبي سعيد المصري نزيل الإسكندرية، وكان أصله من المدينة. وليس له في البخاري سوى هذا الموضع. والحديث أخرجه النسائي في الخيل عن الحارث بن مسكين.
قوله: (من احتبس)، قد مضى معناه عن قريب. قوله: (إيمانا)، نصب على أنه مفعول له أي: ربطه خالصا لله تعالى امتثالا لأمره. قوله: (وتصديقا بوعده) عبارة عن الثواب المترتب على الاحتباس، ويقال: بوعده، أي: للثواب في القيامة. وقال الطيبي: تلخيصه أنه احتبس امتثالا واحتسابا، وذلك أن الله تعالى وعد الثواب على الاحتباس، فمن احتبس فكأنه قال: صدقت فيما وعدتني. قوله: (شبعه)، بكسر الشين أي: ما يشبه به. قوله: (وريه)، بكسر الراء وتشديد الياء آخر الحروف: من رويت من الماء، بالكسر أروي ريا وريا ورويا أيضا، مثل: رضي، ووقع في حديث أسماء بنت يزيد أخرجه أحمد: ومن ربطها رياء وسمعة... الحديث. وفيه: فإن شبعها وجوعها... إلى آخره، خسران في موازينه. قوله: (وروثه) أراد به ثواب ذلك، لا أن الأرواث توزن بعينها، وروى ابن بنت
منيع من حديث علي مرفوعا: من ارتبط فرسا في سبيل الله فعلفه وأثره في موازينه يوم القيامة. وروء ابن أبي عاصم من حديث المطعم بن المقدام عن الحسن عن سهل بن الحنظلية يرفعه: من ارتبط فرسا في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بصدقة لا يقبضها، وروى ابن ماجة من حديث محمد بن عقبة القاضي عن أبيه عن جده عن تميم الداري: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (من ارتبط فرسا في سبيل الله، فعالج علفه، كان له بكل حبة حسنة.
وفيه: أن النية يترتب عليها الأجر. وفيه: أن الأمثال تضرب لصحة المعاني. وقيل: يستفاد من هذا الحديث أن هذه الحسنات تقبل من صاحبها لتنصيص الشارع على أنها في ميزانه، بخلاف غيرها، فقد لا تقبل فلا تدخل الميزان.
64
((باب اسم الفرس والحمار))
أي: هذا باب في بيان تسمية الفرس الذي هو اسم جنس باسم يخصه ليتميز به عن غيره، وكذا في بيان تسمية الحمار الذي هو اسم جنش، كذلك. واقتصر في الترجمة على الفرس والحمار وغيرهما من الدواب، كذلك بيان ذلك: أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون فرسا، كل واحد منها كان مسمى باسم مخصوص معين، مثل: السكب والمرتجز واللحيف، وكان له حمار يسمى: يعفور، وغيره، وكان له بغلة تسمى: دلدل، وكانت له لقاح تسمى: الحناء والسمراء وغيره ذلك... وكانت له ناقة تسمى: القصوى، والأخرى: العضباء، وغيرهما.. وكانت له غنم منها سبعة أعنز كل واحدة منها مسماة باسم، وشاة تدعى: عيثة.
4582 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا فضيل بن سليمان عن أبي حازم عن عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فتخلف أبو قتادة مع أصحابه وهم محرمون وهو غير محرم فرأوا حمارا وحشيا قبل أن يراه فلما رأوه تركوه حتى رآه
146

أبو قتادة فركب فرسا له يقال له الجرادة فسألهم أن ينالوه سوطه فأبوا فتناوله فحمل فعقره ثم أكل فأكلوا فقدموا فلما أدركوه قال هل معكم منه شيء قال معنا رجله فأخذها النبي فأكلها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فركب فرسا له يقال له: الجرادة)، بفتح الجيم وتخفيف الراء، ووقع في (السيرة) لابن هشام: أن اسم فرس أبي قتادة الحزوة، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها واو، وقال بعضهم: إما أن يكون لها إسمان، وإما أن أحدهما تصحيف، والذي في (الصحيح) هو المعتمد. قلت: دعوى التصحيف غير صحيحة، ولا مانع أن يكون لها إسمان: ومحمد بن أبي بكر شيخ البخاري هو المقدمي، وهو الصواب، قال الجياني: وفي نسخة أبي زيد المروزي محمد بن بكر، وهو خطأ. قال: وليس في شيوخ البخاري محمد بن بكر، وأبو حازم، بالحاء المهملة والزاي: سلمة بن دينار، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي الأنصاري.
والحديث قد مر بمباحثه في كتاب الحج في أربعة أبواب متوالية، أولها باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم.
قوله: (خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم)، ويروى: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (حمارا وحشيا) ويروي حمار وحش. قوله: (يقال له: الجرادة)، ويروى: لها.
5582 حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر قال حدثنا معن بن عيسى قال حدثنا أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فرس يقال له اللحيف.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن قوله: فرس، (يقال له: اللحيف)، يطابق قوله في اسم الفرس، وعلي بن عبد الله بن جعفر هو الذي يقال له: ابن المديني، وهو من أفراده، ومعن، بفتح الميم وسكون العين المهملة وبالنون: ابن عيسى القزاز، بالقاف وتشديد الزاي الأولى: المدني، وأبي، بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف: ابن عباس، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة: ابن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري. قالوا: ليس لأبي في البخاري غير هذا الحديث. وهذا الحديث من أفراده.
قوله: (في حائطنا)، الحائط هو البستان من النحل إذا كان عليه جدار ويجمع علء حوائط والحائط الجدار أيضا قوله اللحيف بضم اللام وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره فاء، وقال ابن قرقول: هكذا ضبط عن عامة المشايخ، سمي بذلك لطول ذنبه، كأنه يلحف الأرض بجريه، يقال: لحفت الرجل باللحاف إذا طرحته عليه، وعن ابن سراج، بفتح اللام وكسر الحاء على وزن: رغيف، وقال ابن الجوزي، بنون وحاء مهملة، وفي (المغيث): بلام مفتوحة وجيم مكسورة. وقال أبو موسى: المحفوظ بالحاء، فإن روي بالجيم فيراد به السرعة، لأن اللجيف: سهم نصله عريض، قاله صاحب (التتمة).
قال أبو عبد الله وقال بعضهم اللخيف
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، يعني: قال بعضهم بالخاء المعجمة. وفي (التلويح): وصح عن البخاري أنه بالخاء المعجمة، وقال ابن الأثير: ولم يتحققه، والمشهور هو الأول يعني: بالحاء المهملة مصغرا، وبه جزم الهروي والدمياطي، وقيل: الذي قاله البخاري رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل أخو أبي بن عباس، ولفظه عند ابن أبي منده: كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم عند سعد بن سعد والد سهل ثلاثة أفراس، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسميهن: لزازا، يعني بكسر اللام وبزايين الأولى خفيفة، و: الظرب، بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وفي آخره باء موحدة. و: اللخيف، وحكى سبط ابن الجوزي: أن البخاري ضبطه
بالتصغير والخاء المعجمة، قال: وكذا حكاه ابن سعيد عن الواقدي، وقال: أهداه له ربيعة بن أبي البراء مالك بن عامر العامري، وأبوه الذي يعرف بملاعب الأسنة، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وقال ابن أبي خيثمة: أهداه له فروة بن عمرو الجذامي من أرض البلقاء.
147

6582 حدثني إسحاق بن إبراهيم أنه سمع يحيى بن آدم قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير فقال يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله قلت الله ورسوله أعلم قال فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله! أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (على حمار يقال له: عفير) فإن اسم الحمار اسم جنس سمي به عفير ليتميز به عن غيره، وإسحاق ابن إبراهيم هو الذي يعرف بابن راهويه المروزي، ويحيى ابن آدم بن سليمان القرشي المخزومي الكوفي، وأبو الأحوص اسمه سلام بن سليم الحنفي الكوفي، قبل أبو الأحوص هذا عمار بن زريق الضبي الكوفي. قلت: لا يصح هذا لأن عمارا هذا مما انفرد به مسلم ولم يخرج له البخاري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، وعمرو بن ميمون الأودي، بفتح الهمزة وسكون الواو: من كبار التابعين أدرك الجاهلية.
والحديث أخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن هناد بن السري بقصة الحمار حسب. وأخرجه الترمذي في الإيمان عن محمود بن غيلان ولم يذكر قصة الحمار. وأخرجه النسائي في العلم عن محمد بن عبد الله المخزومي ولم يذكر قصة الحمار.
ذكر معناه: قوله: (ردف النبي صلى الله عليه وسلم)، بكسر الراء وسكون الدال المهملة. قال الجوهري: الردف المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب، وأردفته أنا إذا أركبته معك، وذلك الموضع الذي يركبه رداف، وكل شيء تبع شيئا فهو ردفه، والردف يجمع على أرداف. قوله: (عفير)، بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء تصغير أعفر، أخرجوه عن بناء أصله كما قالوا: سويد في تصغير: أسود، مأخوذ من العفرة وهي حمرة يخالطها بياض، وزعم عياض أنه بغين معجمة ورد ذلك عليه، وقال ابن عبدوس، في (أسماء خيله ودوابه صلى الله عليه وسلم): كان أخضر من العفر وهو التراب. وفي (التلويح): وزعم شيخنا أبو محمد التوني أنه شبه في عدوه باليعفور وهو الظبي، أهداه لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم المقوقس، وأهدى له فروة بن عمرو حمارا يقال له: يعقور، وقال ابن عبدوس: هما واحد، ورد عليه الدمياطي فقال: عفير أهداه المقوقس، ويعفور أهداه فروة بن عمرو، وقيل بالعكس، ويعفور، بفتح الياء آخر الحروف وسكون العين المهملة وضم الفاء: وهو ولد الظبي، كأنه سمي بذلك لسرعته. وقال الواقدي: نعق يعفور منصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وقيل: طرح نفسه في بئر يوم مات صلى الله عليه وسلم، ذكره السهيلي. قوله: (أن يعبدوه)، وفي رواية الكشميهني: أن يعبدوا، بحذف المفعول. قوله: (فيتكلوا)، بتشديد الياء المثناة من فوق، وقد مر الكلام فيه في كتاب العلم في: باب من خص بالعلم قوما دون قوم.
وفيه: جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها غير أسماء أجناسها. وفيه: إرداف النبي صلى الله عليه وسلم أفاضل الصحابة، ومعاذ أحد الأربعة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو زيد الأنصاري. وفيه: جواز الإرداف على الدابة والحمل عليها ما أقلت ولم يضرها.
7582 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لنا يقال له مندوب فقال ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فرسا لنا يقال له: مندوب) فإنه خص باسم تميز به عن غيره، ومحمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة، وغندر، بضم الغين المعجمة: محمد بن جعفر.
والحديث مضى في كتاب الهبة في: باب من استعار من الناس الفرس، فإنه أخرجه هناك: عن آدم عن شعبة إلى آخره، وفيه فاستعار فرسا من أبي طلحة، وهو زوج أم أنس، فلذلك
148

قال هنا: فرسا لنا، لأن أنسا كان في حجر أبي طلحة، فمن هذه الحيثية قال أنس: لنا. والله أعلم.
74
((باب ما يذكر من شؤم الفرس))
أي: هذا باب في بيان ما يذكر في الأحاديث من شؤم الفرس، هل هو عام في جميع الخيل أو مخصوص ببعضها؟ وهل هو على ظاهره أو مؤول؟ وذكر في الباب حديث عمر وحديث سهل بن سعد يدل على أنه ليس على ظاهره كما سنبينه، إن شاء الله تعالى. ثم ذكره الباب الذي يلي هذا الباب يدل على خصوص الشؤم ببعض الخيل دون كلها كما سيأتي بيانه أن شاء الله تعالى والشؤم ضد اليمن، يقال: تشاء مت بالشيء وتيمنت به، والواو في: الشؤم، همزة ولكنها خففت فصارت واوا، وغلب عليها التخفيف حتى لم ينطق بها مهموزة. وقال الجوهري: يقال: رجل مشوم ومشؤم، ويقال ما أشأم فلانا، والعامة تقول ما أيشمه. قلت: العامة أيضا تقول: ميشوم، وهو من تصحيفاتهم.
8582 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
إنما الشؤم في ثلاثة في الفرس والمرأة والدار.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (في الفرس) وهذا السند بهؤلاء الرجال قد مر غير مرة. وأبو اليمان، بفتح الياء آخر الحروف: الحكم بن نافع الحمصي، وشعيب بن أبي حمرة الحمصي، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب.
والحديث أخرجه مسلم في الطب عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن أبي اليمان. وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن محمد بن خالد بن خلي عن بشر بن شعيب عن أبي حمزة عن أبيه به.
قوله: (أخبرني سالم)، كذا صرح شعيب عن الزهري بإخبار سالم له، لا وشذ ابن أبي ذئب فأدخل بين الزهري وسالم محمد بن زيد بن قنفذ، واقتصر شعيب على سالم، وتابعه ابن جريج عن ابن شهاب عند أبي عوانة، وكذا روى البخاري في كتاب الطب عن عبد الله بن محمد، أخبرنا عثمان بن عمر أخبرنا يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر... الحديث. ونقل الترمذي عن ابن المديني والحميدي أن سفيان كان يقول: لم يرو الزهري هذا الحديث إلا عن سالم. قلت: هذا ممنوع، وقد روى الطحاوي: حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس ومالك عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إنما الشوم في ثلاثة: في المرأة والدار والفرس). وأخرجه مسلم أيضا عن أبي الطاهر وحرملة عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (قال: لا عدوى ولا طيرة، وإنما الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار). وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو بكر بن إسحاق، قال: أخبرنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا سليمان بن بلال، قال: حدثنا عتبة ابن مسلم عن حمزة بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة). قوله: (إنما الشؤم في ثلاثة)، أي: كان في ثلاثة أشياء، وجاء في رواية مالك وسفيان، وسائر الرواة بحذف أداة الحصر، قال ابن العربي: الحصر فيها بالنسبة إلى العادة لا بالنسبة إلى الخلقة، وقيل: إنما خصت هذه الأشياء الثلاثة بالذكر لطول ملازمتها، لأن غالب أحوال الإنسان لا يستغني عن دار يسكنها، وزوجة يعاشرها، وفرس مرتبطة. واتفقت الطرق كلها على الاقتصار على الثلاثة المذكورة، ووقع عند إسحاق في رواية عبد الرزاق، قال معمر، قالت أم سلمة: والسيف. قال أبو عمر: رواه جويرية عن مالك عن الزهري عن بعض أهل أم سلمة عن أم سلمة، والمبهم المذكور هو أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة. وأخرجه ابن ماجة موصولا عن الزهري عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة: أنها حدثت بهذا الحديث، وزادت: فيهن السيف. وأبو عبيد المذكور هو ابن بنت أم سلمة، وأمه زينب بنت سلمة. قلت: التحقيق في هذا الموضع أن هذا الحصر ليس على ظاهره، وكان ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، يقول: إن كان الشؤم في شيء فهو فيما بين اللحيين مع اللسان، وما شيء أحوج إلى سجن
149

طويل من لسان، وإنما قلنا: إنه متروك الظاهر لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة)، وهي نكرة في سياق النفي، فتعم الأشياء التي يتطير بها، ولو خلينا الكلام على ظاهره لكانت هذه الأحاديث ينفي بعضها بعضا. وهذا محال أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الاختلاف من النفي والإثبات، في شيء واحد، ووقت واحد. والمعنى الصحيح في هذا الباب نفي الطيرة بأسرها بقوله: (لا طيرة)، فيكون قوله، عليه الصلاة والسلام: (إنما الشؤم في ثلاثة) بطريق الحكاية عن أهل الجاهلية لأنهم كانوا يعتقدون الشؤم في هذه الثلاثة، لا أن معناه: أن الشؤم حاصل في هذه الثلاثة في اعتقاد المسلمين، وكانت عائشة، رضي الله تعالى عنها، تنفي الطيرة ولا تعتقد منها شيئا حتى قالت لنسوة كن يكرهن الابتناء بأزواجهن في شوال: (ما تزوجني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا في شوال، ولا بنى بي إلا في شوال، فمن كان أحظى مني عنده؟ وكان يستحب أن يدخل على نسائه في شوال). وروى الطحاوي عن علي بن معبد، قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا همام ابن يحيى عن قتادة عن أبي حسان، قال: دخل رجلان من بني عامر على عائشة، فأخبراها أن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة في المرأة والدار والفرس)، فغضبت وطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم ما قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم قط، إنما قال: (إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك)، فأخبرت عائشة أن ذلك القول كان من النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن أهل الجاهلية، لا أنه عنده كذلك. وأخرجه أيضا ابن عبد البر عن أبي حسان المذكور وفي روايته: كذاب، والذي أنزل القرآن... وفي آخره، ثم قرأت عائشة: * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) * (الحديد: 22). الآية. قلت: أبو حسان الأعرج، ويقال الأجرد واسمه: مسلم بن عبد الله البصري، وثقه يحيى وابن حبان وروى له الجماعة والبخاري مستشهدا. قوله: طارت شقة، أي: قطعة، ورواه بعض المتأخرين: بالسين المهملة، وأراد به المبالغة في الغضب والغيظ. وقال أبو عمر: قول عائشة في أبي هريرة كذب، فإن العرب تقول: كذبت إذا أرادوا به التغليظ، ومعناه: أوهم وظن حقا ونحو هذا. وهنا جواب آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (الشوم في ثلاثة)، كان في أول الإسلام خبرا عما كان تعتقده العرب في جاهليتها على ما قالت عائشة، ثم نسخ ذلك وأبطله القرآن والسنن، وأخبار الآحاد لا تقطع على عينها، وإنما توجب العمل فقط. وقال تعالى: * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولينا) * (التوبة: 9). وقال * (ما أصاب من مصيبة في الأرض...) * (الحديد: 9). الآية، وما خط في اللوح المحفوظ لم يكن منه بد، وليست البقاع ولا الأنفس بصارفة من ذلك شيئا. وقد يقال: إن شؤم المرأة أن تكون سيئة الخلق، أو تكون غير قانعة، أو تكون سليطة، أو تكون غير ولود. وشؤم الفرس أن يكون شموسا. وقيل: (أن لا يكون يغزى عليها). وشؤم الدار أن تكون ضيقة، وقيل: (أن يكون جارها سوء) وروى الدمياطي بإسناد ضعيف في الخيل: إذا كان ضروبا فهو مشئوم، وإذا
حنت المرأة إلى زوجها الأول فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة من المسجد لا يسمع منها الأذان فهي مشؤمة. فإن قلت: روى مالك في (موطئة) عن يحيى ابن سعيد أنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! دار سكناها، فالعدد كثير والمال وافر، فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (دعوها ذميمة). قلت: إنما قال ذلك كذلك لما رأى منهم أنه رسخ في قلوبهم ما كانوا عليه في جاهليتهم، ثم بين لهم ولغيرهم ولسائر أمته الصحيح. بقوله: (لا طيرة ولا عدوى)، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون أمرهم بتركها والتحول عنها إبطالا لما وقع في قلوبهم منها من أن يكون المكروه إنما أصابهم بسبب الدار سكناها فإذا تحولوا منها انقطعت مادة ذلك الوهم، وقد أخرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: (لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس). قلت: في إسناده ضعف، وروى أبو نعيم في كتاب (الحلية) من حديث خبيب بن عبيد عن عائشة، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الشؤم سوء الخلق)، فإن قلت: ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء الذي منع من الخروج منه؟ قلت: ما لم يقع التأذي به ولا اطردت عادته به خاصة ولا عامة، ولا نادرة ولا متكررة لا يصغي إليه، وقد أنكر الشارع الالتفات إليه. كلقي غراب في بعض الأسفار، أو صراخ بومة في دار، ففي مثل هذا قال، صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة ولا تطير)، وأيضا إنه لا يفر منه لإمكان أن يكون قد وصل الضرر إلى الفار، فيكون سفره زيادة في محنته وتعجيلا لهلكته.
150

9582 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن.
(الحديث 9582 طرفه في: 5905).
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأبو حازم اسمه: سلمة، وقد مر عن قريب.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في النكاح عن عبد الله بن يوسف وفي الطب عن القعنبي. وأخرجه مسلم في الطب عن القعنبي. وأخرجه ابن ماجة في النكاح عن عبد السلام ابن عاصم الرازي.
قوله: (إن كان في شيء...)، إلى آخر هكذا هو في جميع النسخ، وكذا في (الموطأ) لكن زاد في آخره: يعني الشؤم، وكذا رواه مسلم: وهنا اسم: كان، مقدر تقديره: (إن كان الشؤم في شيء حاصلا فيكون في المرأة والفرس والمسكن. فقوله: (إن كان في شيء).. إلى آخره إخبار أنه ليس فيهن، فإذا لم يكن في هذه الثلاثة فلا يكون في شيء، والشؤم والطيرة واحد، والطيرة شرك لما روي أبو داود من حديث زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (الطيرة شرك الطيرة شرك، ثلاثا، وما منا إلا وفيه، ولكن الله، عز وجل، يذهبه بالتوكل). وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وقوله: الطيرة شرك خارج مخرج المبالغة والتغليظ قوله (وما منا إلا وفيه) فيه حذف تقديره: إلا وفيه الطيرة. أو: إلا قد يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهية، فيه، فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السامع، والدليل على أن الطيرة والشؤم واحد، قوله، صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة وإن كان في شيء ففي المرأة والفرس والدار). رواه أبو سعيد. وأخرجه عند الطحاوي.
84
((باب الخيل لثلاثة))
أي: هذا باب يذكر فيه الخيل لثلاثة، أي: الخيل تنقسم إلى ثلاثة أقسام عند اقتنائها لثلاثة أنفس على ما يجيء في الحديث، وهذه الترجمة صدر حديث الباب، وذكر هذا المقدار اكتفاء بما ذكر في حديث الباب، والخيل جمع لا واحد له وجمعه: خيول، كذا في (المخصص) وكان أبو عبيدة يقول: واحدها: خائل، لاختيالها، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن. وفي (المحكم) ليس هذا بمعروف، يعني: قول أبي عبيدة. قال: وقول ابن أبي ذؤيب.
* فتنازلا واتفقت خيلاهما
* وكلاهما بطل اللقاء مخدع
*
ثناه على قولهم: لقاحان أسودان وحمالان، والجمع أخيال عن ابن الأعرابي، والأول أشهر، وفي الاحتفال لأبي عبد الله بن رضوان، وقد جاء فيه الجمع أيضا على أخيل، وإذا صغرت الخيل أدخلت الهاء، فقلت: خييلة، ولو طرحت الهاء لكان وجها، والخولة بالفتح جماعة الخيل.
وقوله تعالى * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * (النحل: 8).
وقوله: (مرفوع)، عطفا على قوله: الخيل، وفي بعض النسخ، وقول الله تعالى قوله: (والخيل)، عطف على قوله: * (والأنعام خلقها لكم) * (النحل: 8). أي: وخلق الخيل والبغال والحمير، أي: وخلق هؤلاء للركوب والزينة، واللام في: لتركبوها، للتعليل. قوله: (وزينة)، مفعول له عطف على محل: لتركبوها، ولم يرد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد، لأن الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن، وهو الخالق وقرئ * (زينة) * (النحل: 8). بلا: واو، أي: وخلقها زينة لتركبوها، واحتج به أبو حنيفة ومالك على حرمة أكل الخيل لأنه علل خلقها بالركوب، والزينة ولم يذكر الأكل كما ذكره في الأنعام.
0682 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت
له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا
151

أو شرفين كانت أرواثها وآثارها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال ما أنزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * (الزلزلة: 7 8).
.
مطابقته للترجمة في قوله: (الخيل لثلاثة)، وقد ذكرنا أنها صدر حديث الباب.
والحديث مضى في كتاب الشرب في: باب شرب الناس والدواب من الأنهار، غير أنه لم يذكر فيه هنا القسم الثالث اختصارا. وهو قوله: (ورجل ربطها تغنيا) إلى آخر ما ذكره هناك، ومضى الكلام فيه مستوفى، ولنذكر بعض شيء لزيادة الفائدة.
قوله: (الخيل لثلاثة)، وفي رواية الكشميهني (الخيل ثلاثة)، قوله: (في مرج أو روضة)، شك من الراوي، والمرج موضع الكلأ، وأكثر ما يطلق على الموضع المطمئن والروضة أكثر ما يطلق على الموضع المرتفع. وقال ابن الأثير: المرج: الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرج فيها الدواب أي: تخلى تسرح مختلطة كيف شاءت، والروضة: الموضع الذي يستنقع فيه الماء. قوله: (طيلها)، بكسر الطاء المهملة وفتح الياء آخر الحروف بعدها لام: وهو الحبل الذي ترتبط به، ويطول لها الترعي، ويقال له: طول أيضا. قوله: (فاستنت)، من الاستنان، وهو العدو، والشرف: الشوط. قوله: (ونواء)، بكسر النون المناوأة وهي المعاداة، وحكى عياض عن الداودي أنه وقع عنده. ونوى، بفتح النون والقصر، قال: ولا يصح ذلك، وقيل: حكاه الإسماعيلي من رواية إسماعيل بن أبي أويس فإن ثبت فمعناه: وبعدا لأهل الإسلام، وقيل: الظاهر أن الواو في قوله: (ورياء ونواء)، بمعنى: أو، لأن هذه الأشياء قد تفترق في الأشخاص، وكل واحد منها مذموم على حدة. قوله: (الفاذة)، بالفاء وتشديد الذال المعجمة: أي المنفردة في معناها، يعني: منفردة في عموم الخير والشر.
94
((باب من ضرب دابة غيره في الغزو))
أي: هذا باب في بيان من ضرب دابة غيره التي وقفت من العي إعانة له ورفقا به.
1682 حدثنا مسلم قال حدثنا أبو عقيل قال حدثنا أبو المتوكل الناجي قال أتيت جابر ابن عبد الله الأنصاري فقلت له حدثني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سافرت معه في بعض أسفاره قال أبو عقيل لا أدري غزوة أو عمرة فلما أن أقبلنا قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب أن يتعجل إلى أهله فليعجل قال جابر فأقبلنا وأنا على جمل لي أرمك ليس فيه شية والناس خلفي فبينما أنا كذلك إذ قام علي فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا جابر استمسك فضربه بسوطه ضربة فوثب البعير مكانه فقال أتبيع الجمل قلت نعم فلما قدمنا المدينة ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد في طوائف أصحابه فدخلت إليه وعقلت الجمل في ناحية البلاط فقلت أهذا جملك فخرج فجعل يطيف بالجمل ويقول الجمل جملنا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أواق من ذهب فقال أعطوهاجابرا ثم قال استوفيت الثمن قلت نعم قال الثمن والجمل لك.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فضربه بسوطه ضربة) فالضارب رسول الله، صلى الله عليه وسلم والمضروب: دابة غيره، وهو جمل جابر، رضي الله تعالى عنه، ومسلم هو ابن إبراهيم القصاب البصري، وأبو عقيل، بفتح العين المهملة وكسر القاف: اسمه بشير ضد النذير بن عقبة الدورقي الأزدي الناجي، ويقال السامي البصري، وأبو المتوكل علي بن داود الناجي، بالنون والجيم منسوبا إلى بني ناجية بن سامة بن لؤي،
152

قبيلة كبيرة منهم، والحديث مضى بهذا الإسناد مختصرا في المظالم، ومضت مباحثه مستوفاة في الشروط.
قوله: (أو عمرة)، كذا في رواية الكشميهنيي وفي رواية غيره: أم عمرة. قوله: (فلما أن أقبلنا)، كلمة: أن، زائدة، قوله: (فليعجل)، وفي رواية الكشميهني: (فليتعجل)، فالأول من باب التفعيل، والثاني من باب التفعل. قوله: (أرمك) براء وكاف، على وزن: أحمر. قال الأصمعي: الأرمك لون يخالط حمرته سواده، ويقال: بعير أرمك وناقة رمكاء، وعن ابن دريد: الرمك كل شيء خالطت غيرته سوادا كدرا. وقيل: الرمكة الرماد. وقال ابن قرقول: ويقال: أربك، بالباء الموحدة أيضا، والميم أشهر. قوله: (ليس فيه شية)، بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف الخفيفة أي: ليس فيه لمعة من غير لونه، وعن قتادة في قوله: (لا شية)، أي: لا عيب، ويقال: الشية: كل لون يخالف معظم لون الحيوان. قوله: (والناس خلفي)، جملة حالية من قوله: (وأنا على جمل لي)، أراد أن جمله كان يسبق جمال الناس. قوله: (فبينا أنا كذلك)، أي: في حالة كان الناس خلفي. قوله: (إذا قام علي)، جواب بينا أنا كذلك، أي: إذ وقف الجمل، يقال: قامت الدابة إذا وقفت من الكلال. قوله: (البلاط)، بفتح الباء الموحدة، وهي الحجارة المفروشة، وقيل: هو موضع.
وقال ابن المنذر: اختلفوا في المكتري يضرب الدابة فتموت، فقال مالك: إذا ضربها ضربا لا يضرب مثله، أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، ويقال: إذا ضربها ضربا يضربها صاحبها مثله ولم يتعد فليس عليه شيء، واستحسن هذا القول أبو يوسف ومحمد. وقال الثوري وأبو حنيفة: ضامن إلا أن يكون أمره بضربها.
05
((باب الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل))
أي: هذا باب في بيان مشروعية الركوب على الدابة الصعبة إذا كان من أهل ذلك، والصعبة، بسكون العين: الشديدة والفحولة، بفتح الفاء والحاء المهملة: جمع فحل، وقال الكرماني: ولعل التاء فيه لتأكيد الجمع كما في: الملائكة.
وقال راشد بن سعد كان السلف يستحبون الفحولة لأنها أجرأ وأجسر
راشد بن سعد المقرئي، بضم الميم وفتحها وسكون القاف وفتح الراء بعدها همزة، نسبة إلى: مقرأ، قرية من قرى دمشق، وهو تابعي وروي عن ثوبان مولى سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأبي أمامة ومعاوية وغيرهم، مات سنة ثلاثة عشر ومائة، والصحيح أنه مات سنة ثمان ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الأثر الواحد. قوله: (السلف)، أي: من الصحابة ومن بعدهم. قوله: (لأنها أجرأ)، أفعل من الجراءة، ويكون أيضا من الجري لكن الأول بالهمز والثاني بدونه. قوله: (وأجسر) أفعل من الجسارة، بالجيم والسين المهملة، والمفضل عليه محذوف لدلالة القرينة عليه، تقديره: أجرأ وأجسر من الإناث، أو من المخصية.
وقال ابن بطال: فيه: أن ركوب الفحولة أفضل للركوب من الإناث لشدتها وجرأتها، ومعلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل ولم ينقل عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولا جملة أصحابه أنهم ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذلك إلا لفضلها إلا ما ذكر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أنه كان له فرس أنثى بلقاء، وذكر سيف في (الفتوح): أنها التي ركبها أبو محجن حين كان عند سعد مقيدا بالعراق، وذكر الدارقطني في (سننه) عن المقداد، قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر على فرس لي أنثى، وروى الوليد بن مسلم في الجهاد له من طريق عبادة بن نسي، بضم النون وفتح السين المهملة، أو ابن محيريز: أنهم كانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات، ولما خفي من أمور الحرب، ويستحبون الفحولة في الصفوف والحصون، ولما ظهر من أمور الحرب، وروي عن خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يقاتل إلا على أنثى، لأنها تدفع البول، وهي أقل صهيلا، والفحل يحبسه في جريه حتى ينفتق ويؤذي بصهيله، وروى أبو عبد الرحمن عن معاذ بن العلاء عن يحيى بن أبي كثير يرفعه: عليكم بإناث الخيل، فإن ظهورها عز وبطونها كنز، وفي لفظ: ظهورها حرز.
2682 حدثنا أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا شعبة عن قتادة قال سمعت
153

(أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة يقال له مندوب فركبه وقال ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (والفحولة من الخيل) وأحمد بن محمد، قال الدارقطني: هو أحمد بن محمد بن ثابت بن عصمان الخزاعي أبو الحسين بن شبويه، وذكر في (رجال الصحيحين): هو أحمد بن محمد بن موسى أبو العباس، يقال له: مردويه السمسار المروزي، وهو من أفراد البخاري، وعبد الله: هو ابن المبارك. والحديث مضى عن قريب في: باب اسم الفرس والحمار، ومضى الكلام فيه هناك.
15
((باب سهام الفرس))
أي: هذا باب في بيان كمية سهام فرس الغازي من الغنيمة، وإضافة السهام إلى الفرس باعتبار أن صاحبه يستحق من الغنيمة بسببه ثلاثة أسهم: سهمان للفرس وسهم للفارس.
3682 حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
(الحديث 3682 طرفه في: 8224).
مطابقته للترجمة من حيث إنه بين فيه سهام الفرس بقوله: (جعل للفرس سهمين) وفي الحقيقة أيضا: السهمان لصاحب الفرس، ولكن لما كانا له بسبب الفرس ومن جهته أضيفا إليه، واللام فيه للتعليل.
وعبيد مصغر عبد، ضد الحر ابن إسماعيل واسمه في الأصل: عبد الله، يكنى أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراده، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وعبيد الله ابن عمر العمري.
قوله: (ولصاحبه سهما)، أي: جعل لصاحب الفرس سهما غير سهمي الفرس، فيصير للفارس ثلاثة أسهم وقد فسره نافع كذلك، ولفظه: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، فإن لم يكن معه فرس فله سهم، وسيأتي هذا في غزوة خيبر، إن شاء الله تعالى.
وفي الباب أحاديث نحو حديث الباب. فروى أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: أخبرنا أبو معاوية حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهما له وسهمين لفرسه، وقال أبو داود أيضا: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الله بن يزيد، قال: حدثني المسعودي، قال: حدثني أبو عمرة عن أبيه، قال: أتينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهما، وأعطى الفرس سهمين
. وروى النسائي من حديث يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده، قال: ضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير أربعة أسهم: سهم للزبير وسهم لذي القربى لصفية بنت عبد المطلب أم الزبير وسهمين للفرس. وروى أحمد: من حديث مالك ابن أوس عن عمر، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، رضي الله تعالى عنهم، قالوا: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يسهم للفرسين سهمين. وروى الدارقطني: من حديث أبي رهم، قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان، فأعطانا ستة أسهم: أربعة لفرسينا وسهمين لنا. وروى أيضا من حديث أبي كبشة الأنماري، قال: لما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما، فمن أنقصهما أنقصه الله عز وجل. وروى أيضا من حديث ضباعة بنت الزبير عن المقداد، قال: أسهم لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم يوم بدر سهما ولفرسي سهمين. وروى أيضا من حديث عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قسم لكل فرس بخيبر سهمين سهمين. وروى أيضا من حديث هشام بن عروة عن أبي صالح عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم غزاة فأعطى الفارس منا ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما. وروى أيضا من حديث الواقدي حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده: أنه شهد حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسهم لفرسه سهمين وله سهما. وقال محمد بن عمرو: حدثنا أبو بكر بن يحيى بن النضر عن أبيه أنه سمع أبا هريرة، يقول: أسهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم للفرس سهمين ولصاحبه سهما.
واحتج بهذه الأحاديث جمهور العلماء: إن سهام الفارس ثلاثة: سهمان لفرسه وسهم له، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد ولفرسه سهم. واحتج في ذلك بما رواه الطبراني في (معجمه): حدثنا حجاج بن عمران السدوسي حدثنا سليمان بن داود الشاذكوني حدثنا
154

محمد بن عمر الواقدي حدثنا موسى بن يعقوب الربعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد ابن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب عن المقداد بن عمرو أنه: كان يوم بدر على فرس يقال له سبحة، فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم سهمين لفرسه سهم واحد وله سهم، وبما رواه الواقدي أيضا في المغازي: حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن جعفر بن خارجة، قال: قال الزبير بن العوام: شهدت بني قريظة فارسا فضرب لي بسهم ولفرسي بسهم. وبما رواه ابن مردويه في (تفسيره) في سورة الأنفال من حديث عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: أساب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سبايا بني المصطلق، فأخرج الخمس منها ثم قسم بين المسلمين، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما. وبما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا أبو أسامة وابن نمير، قالا: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل للفارس سهمين وللراجل سهما. وبما رواه الدارقطني في أول كتابه (المؤتلف والمختلف) من حديث عبد الرحمن بن أمين عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما. وفي (التوضيح): خالف أبو حنيفة عامة العلماء قديما وحديثا، وقال: لا يسهم للفارس إلا سهم واحد، وقال: أكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وخالفه أصحابه فبقي وحده، وقال ابن سحنون: انفرد أبو حنيفة بذلك دون فقهاء الأمصار. قلت: لم ينفرد أبو حنيفة بذلك، بل جاء مثل ذلك عن عمر وعلي وأبي موسى، رضي الله تعالى عنهم. فإن قلت: الواقدي فيه مقال. قلت: ما للواقدي؟ فقد قال إبراهيم الحربي: سمعت مصعبا الزبيري، وسئل عن الواقدي، فقال: ثقة مأمون، وكذلك قال المسيبي حين سئل عنه، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام الواقدي ثقة، وعن الداودي، قال: الواقدي أمير المؤمنين في الحديث، ولئن سلمنا أن فيه مقالا ففي أكثر أحاديث هؤلاء أيضا مقال. فحديث أبي داود الذي رواه عن أحمد فيه المسعودي فيه مقال، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود. وحديث أبي رهم فيه قيس بن الربيع، قال في (التنقيح): ضعفه بعض الأئمة، وأبو رهم مختلف في صحبته. وحديث أبي كبشة الأنماري فيه محمد بن عمران العبسي، قال النسائي: ليس بالقوي، وفيه عبد الله بن بشر، قال النسائي: ليس بثقة، وقال يحيى القطان: لا شيء، وقال أبو حاتم والدارقطني: ضعيف. وحديث مقداد فيه موسى بن يعقوب عن عمته قريبة فيه لين، وتفرد به عنها. فإن قلت: حديث الباب وما روي من (الصحاح) مثله حجة عليه. قلت: لا، لأن ظاهر قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنتم من شيء) * (الأنفال: 14). يقتضي المساواة بين الفارس والراجل، وهو خطاب لجميع الغانمين، وقد شملهم هذا الاسم، وحديث الباب ونحوه محمول على وجه التنفيل.
وقال مالك يسهم للخيل والبراذين منها
وفي بعض النسخ قوله: قال مالك إلى الباب الذي يليه ذكر مقدما على الحديث المذكور. قوله: (والبراذين)، جمع: برذون، بكسر الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الذال المعجمة وسكون الواو وفي آخره نون، وفي المغرب: البرذون التركي من الخيل وخلافها العراب، والأنثى برذونة، ويقال: البرذون يجلب من بلاد الروم، وله جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية، وهذا التعليق روي عن مالك بزيادة: والهجين، وهو ما يكون أحد أبويه عربيا والآخر غير عربي، وقيل: الهجين الذي أبوه فقط عربي، وأما الذي أمه فقط عربية فيسمى: المقرف، وعن أحمد: الهجين البرذون، ويقال: الهجين والبراذين خيل الروم والفرس، وقال ابن فارس: اشتقاق البرذون من برذن الرجل برذنة إذا ثقل.
لقوله تعالى * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) * (النحل: 8).
قال ابن بطال، رحمه الله: وجه الاحتجاج بالآية أن الله تعالى أمتن بركوب الخيل، وقد أسهم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم الخيل يقع على البرذون والهجين. قلت: وبقول مالك قال أبو حنيفة والثوري والشافعي وأبو ثور، وقال الليث: للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب، وقال ابن المناصف: أول من أسهم البرذون رجل من همدان يقال له المنذر الوداعي، فكتب بذلك إلى عمر، رضي الله تعالى عنه، فأعجبه فجرت سنة للخيل والبراذين، وفي
ذلك يقول شاعرهم:
155

* ومنا الذي قد سن في الخيل سنة
* وكانت سواء قبل ذاك سهامها
*
وعن محكول فيما رواه أبو داود في (المراسيل): (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هجن الهجين يوم خيبر وعرب العربي، للعربي سهمان وللهجين سهم). وقال الإشبيلي: وروي موصولا عن مكحول عن زياد بن حارثة عن حبيب بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمرسل أصح، وقال ابن المناصف، وروي أيضا عن الحسن وبه قال أحمد بن حنبل، وقال مكحول: ولا شيء للبراذين، وهو قول الأوزاعي، وقال ابن حزم: للراجل وراكب البغل والحمار والجمل سهم واحد فقط، وهو قول مالك والشافعي وأبي سليمان، وقال أحمد: للفارس ثلاثة أسهم ولراكب البعير سهمان.
ولا يسهم لأكثر من فرس
هو من بقية كلام مالك، وهو قول الجمهور، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن وأهل الظاهر. وقال الأوزاعي والثوري والليث وأحمد وأبو يوسف وإسحاق: يسهم لفرسين، وهو قول ابن وهب وابن الجهم من المالكية، وقال ابن أبي عاصم: وهو قول الحسن ومكحول وسعيد بن عثمان، وقال القرطبي: لم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى الأشدق، قال: يسهم لمن عنده أفراس: لكل فرس سهمان وهو شاذ. وعن مالك، فيما ذكره ابن المناصف: إذا كان المسلمون في سفن فلقوا العدو فغنموا أنه يضرب للخيل التي معهم في السفن بسهمهم، وهو قول الشافعي والأوزاعي وأبي ثور، وقال بعض الفقهاء: القياس أن لا يسهم لها.
واختلف في فرس يموت قبل حضور القتال، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يسهم، وأبو ثور: لا يسهم له إلا إذا حضر القتال. وقال مالك وابن القاسم وأشهب وعبد الملك بن الماجشون: بالإدراب يستحق الفرس الإسهام، وإليه ذهب ابن حبيب، قال: ومن حطم فرسه أو كسر بعد الإيجاف أسهم له. وقال مالك: ويسهم للرهيص من الخيل وإن لم يزل رهيصا من حين دخل إلى حين خرج بمنزلة الإنسان المريض. قاله ابن الماجشون وأشهب وأصبغ، وقال اللخمي، وروي عن مالك أنه: لا يسهم للمريض من الخيل. وقال الأوزاعي في رجل دخل دار الحرب بفرسه ثم باعه من رجل دخل دار الحرب راجلا، وقد غنم المسلمون غنائم قبل شرائه وبعده: أنه يسهم للفرس، فما غنموا قبل الشراء للبائع، وما غنموا بعد الشراء فسهمه للمشتري، فما اشتبه من ذلك قسم بينهما، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال ابن المنذر: وعلى هذا مذهب الشافعي إلا فيما اشتبه، فمذهبه أنه يوقف الذي أشكل من ذلك بينهما حتى يصطلحا. وقال أبو حنيفة: إذا دخل أرض العدو غازيا راجلا، ثم ابتاع فرسا يقاتل عليه وأحرزت الغنيمة وهو فارس أنه لا يضرب له إلا بسهم راجل.
25
((باب من قاد دابة غيره في الحرب))
أي: هذا باب في بيان من قاد... إلى آخره.
4682 حدثنا قتيبة قال حدثنا سهل بن يوسف عن شعبة عن أبي إسحاق قال رجل للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال لاكن رسول الله لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا بالسهام فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر فلقد رأيته وإنه لعلى بغلته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
* أنا النبي لا كذب
* أنا ابن عبد المطلب
*
مطابقته للترجمة في قوله: (وأبو سفيان آخذ بلجامها). وسهل بن يوسف الأنماطي البصري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله
156

السبيعي. وأخرجه مسلم أيضا.
قوله: (رجل للبراء) وفي رواية قال للبراء رجل من قيس. قوله: (أفررتم؟) الهمزة فيه للاستفهام على وجه الاستخبار. قوله: (يوم حنين)، قال الواقدي: حنين واد بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف، وقال البكري: بضعة عشر ميلا، والأغلب فيه التذكير لأنه اسم ماء، وربما أنثت العرب جعلته إسما للبقعة، وهو وراء عرفات سمي بحنين بن قانية بن مهلايل. وقال الزمخشري: هو إلى جنب ذي المجاز، وكانت سنة ثمان، وسببها أنه لما أجمع، صلى الله عليه وسلم، على الخروج إلى مكة لنصرة خزاعة، أتى الخبر إلى هوازن أنه يريدهم، فاستعدوا للحرب حتى أتوا سوق ذي المجاز، فسار صلى الله عليه وسلم حتى أشرف على وادي حنين مساء ليلة الأحد، ثم صالحهم يوم الأحد نصف شوال. قوله: (لكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يفر)، هذا هو المعلوم من حاله وحال الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لإقدامهم وشجاعتهم وثقتهم بوعد الله، عز وجل، ورغبتهم في الشهادة، وفي لقاء الله، عز وجل، ولم يثبت عن واحد منهم والعياذ بالله أنه فر، ومن قال ذلك قتل ولم يستتب لأنه صار بمنزلة من قال: إنه صلى الله عليه وسلم كان أسودا وأعجميا، لإنكاره ما علم من وصفه قطعا، وذلك كفر. قال القرطبي: وحكي
عن بعض أصحابنا الإجماع على قتل من أضاف إليه صلى الله عليه وسلم نقصا أو عيبا، وقيل: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. قال ابن بطال: لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله. وقال النووي: والذين فروا يومئذ إنما فتحه عليه من كان في قلبه مرض من مسلمة الفتح المؤلفة ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، والذين خرجوا الأجل الغنيمة، وإنما كانت هزيمتهم فجاءة. قوله: (إن هوازن)، هم قبيلة من قيس، فإن قلت: هذا الاستدراك مماذا؟ قلت: تقديره: نحن فررنا، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يفر، وحذف لقصدهم عدم التصريح بفرارهم، وكذلك التقدير في قوله: فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يفر، تقديره: أما نحن فقد فررنا، وأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يفر. قوله: (رماة)، جمع رام. قوله: (واستقبلونا) ويروى: فاستقبلونا، بالفاء. قوله: (على بغلته البيضاء)، واختلف في هذه البغلة، ففي مسلم: كانت بيضاء أهداها له فروة ابن نفاثة. وفي لفظ: كانت شهباء، وفي رواية ابن سعد: كان راكبا دلدل التي أهداها له المقوقس، فيحتمل أن يكون ركبهما يومئذ، نزل عن واحدة وركب الأخرى، وركوبه يومئذ البغلة هو النهاية في الشجاعة والثبات، لا سيما في نزوله عنها، ومما يدل على شجاعته تقدمه يركض على البغلة إلى جمع المشركين حين فر الناس، وليس معه غير اثني عشر نفرا، وكان العباس وأبو سفيان آخذين بلجام البغلة يكفانها عن الإسراع به إلى العدو، وأبو سفيان هو ابن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، قيل: اسمه كنيته، وقيل: اسمه المغيرة، وكان من فضلاء الصحابة، مات بالمدينة سنة عشرين. قوله: (والنبي يقول)، الواو فيه للحال. وقوله: (أنا النبي لا كذب)، زعم ابن التين أن بعض أهل العلم كان يرويه: لا كذب، بنصب الباء ليخرجه عن أن يكون موزونا، وفيه إثبات لنبوته صلى الله عليه وسلم كأنه قال: أنا ليس بكاذب فيما أقول، فيجوز على الانهزام، وانتسابه إلى جده لرؤيا كان عبد المطلب رآها دالة على نبوته مشهورة عند العرب وعبررها له سيف ابن ذي يزن، فيما ذكره ابن ظفر. قلت: قصته أن عبد المطلب لما وفد على سيف بن ذي يزن في جماعة من قريش أخبر سيف أن يكون في ولده نبي، وكان ذلك مما يناقله أهل اليمن كابرا عن كابر إلى أن بلغ سيفا. وقيل: لأن شهرة جده كانت أكثر من شهرة أبيه، لأنه توفي شابا في حياة أبيه.
وفيه: جواز الانتماء في الحرب، وإنما كره من ذلك ما كان على وجه الافتخار في غير الحرب، لأنه رخص في الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها. فإن قلت: الفرار من الزحف كبيرة، فكيف بمن انهزم هنا؟ قلت: قال الطبري: الفرار المتوعد عليه هو أن ينوي أن لا يعود إذا وجد قوة وأما من تحيز إلى فئة أو كان فراره لكثرة عدد العدو، ونوى العود إذا أمكنه، ليس داخلا في الوعيد، ولهذا قال، عز وجل، في حق هؤلاء * (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * (التوبة: 66). وفيه: جواز الأخذ بالشدة والتعرض للهلكة في سبيل الله، لأن الناس فروا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ولم يبق إلا اثني عشر رجلا، وهم: عتبة ومعتب ابني أبي لهب وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وعلي والفضل بن عباس وأسامة وقثم بن العباس وأيمن بن أم أيمن وقتل يومئذ، وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وأم سليم أم أنس بن مالك من النساء. وفيه: ركوب البغال في الحرب للإمام ليكون أثبت له، ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولي، وهو من باب السياسة لنفوس الاتباع لأنه إذا ثبت أتباعه، وإذا ريىء منه العزم على الثبات عزم عليه.
157

وفيه: خدمة السلطان في الحرب وسياسة دوابه لأشراف الناس من قرابته وغيرهم.
35
((باب الركاب والغرز للدابة))
أي: هذا باب في بيان الركاب والغرز الكائنين للدابة، فالركاب، بكسر الراء وتخفيف الكاف، قال الجوهري: ركاب السرج معروف، والركاب أيضا الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحدة لها من لفظها. قوله: (والغرز)، بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفي آخره زاي: وهو الركاب الذي يركب به الإبل إذا كان من جلد، والفرق بينهما أن الركاب يكون من الحديد أو الخشب، والغرز لا يكون إلا من الجلد، وقيل: هما مترادفان، والغرز للجمل والركاب للفرس.
5682 حدثني عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائمة أهل من عند مسجد ذي الحليفة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا أدخل ررجه في الغرز) فإن قلت: لفظ الركاب ليس في الحديث قلت ألحقه به لأنه في معناه، أو أشار به إلى أنهما واحد من الأسماء المترادفة. وعبيد بن إسماعيل قد مر عن قريب، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وعبيد الله بن عمر العمري. وهذا الإسناد بعينه قد مر في أول: باب سهام الفرس. قوله: (قائمة)، نصب على الحال، ومباحثه مرت في أوائل كتاب الحج.
45
((باب ركوب الفرس العري))
أي: هذا باب في ذكر ركوب الفرس العري، بضم العين المهملة وسكون الراء، وهو: أن لا يكون عليه سرج ولا أداة، ولا يقال في الآدميين إلا عريان، قاله ابن فارس، وهو من النوادر، وحكى ابن التين أنه ضبط في الحديث بكسر الراء وتشديد الياء.
55
((باب الفرس القطوف))
أي: هذا باب في ذكر الفرس القطوف، بفتح القاف وضم الطاء المهملة. وهو من الدواب: المقارب الخطو، وقيل: الضيق المشي، ويقال: قطفت الدابة تقطف قطافا وقطوفا بالضم، إذا بطأت السير مع تقارب الخطو، وقال الثعالبي: إن مشى وثبا فهو قطوف، وإن كان يرفع يديه ويقوم على رجليه فهو سبوت، وإن التوى براكبه فهو قموص، وإن منع ظهره فهو شموس.
7682 حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن أهل المدينة فزعوا مرة فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرسا
158

لأبي طلحة كان يقطف أو كان فيه قطاف فلما رجع قال وجدنا فرسكم هذا بحرا فكان بعد ذلك لا يجارى.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (كان يقطف أو كان فيه قطاف) وعبد الأعلى بن حماد بن نصر أصله بصري سكن بغداد، وسعيد هو ابن أبي عروبة. قوله: (يقطف)، بكسر الطاء وبضمها. قوله: (أو كان فيه قطاف)، شك من الراوي، والقطاف بالكسر مصدر، وقد مر الآن. قوله: (لا يجارى)، على صيغة المجهول، أي: لا يطيق فرس الجري معه.
وفيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لكونه ركب بطيئا فصار بعد ذلك لا يجارى، وقد مر الكلام فيه في: باب اسم الفرس والحمار.
65
((باب السبق بين الخيل))
أي: هذا باب في بيان مشروعية السبق بين الخيل، والسبق، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة: مصدر من سبق يسبق من باب ضرب يضرب، وبالتحريك: الرهن الذي يوضع لذلك.
8682 حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع وأجرى ما لم يضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق قال ابن عمر وكنت فيمن أجرى.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أجرى) في الموضعين، لأن الإجراء فيه معنى السبق، وقبيصة، بفتح القاف: ابن عقبة، قد تكرر ذكره، وسفيان هو الثوري، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. والحديث مضى في كتاب الصلاة في: باب هل يقال مسجد بني فلان؟ وقد مر الكلام فيه هناك.
قال عبد الله حدثنا سفيان قال حدثني عبيد الله قال سفيان بين الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة وبين ثنية إلى مسجد بني زريق ميل
عبد الله هو ابن الوليد العدني، وقال الكرماني: وما وقع في بعضها بدل عبد الله: أبو عبد الله، فهو سهو، وسفيان هو الثوري، وعبيد الله هو ابن عمر العمري، وأراد البخاري بهذا بيان تصريح الثوري عن شيخه بالتحديث، بخلاف الرواية الأولى، فإنها بالعنعنة.. قوله: (قال سفيان)، موصول بالإسناد المذكور.
75
((باب إضمار الخيل للسبق))
أي: هذا باب في بيان إضمار الخيل لأجل السبق، هل هو شرط أم لا؟ الإضمار والتضمير أن يظاهر على الخيل بالعلف حتى يسمن، ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف. وقيل: يشد عليها سروجها وتجلل بالإجلة حتى تعرق تحتها فيذهب رهلها، ويشتد لحمها، ويقال: تضمير الخيل أن تدخل في بيت وينقص من علفه ويجلل حتى يكثر عرقه فينقص لحمه فيكون أقوى لجريه، وقيل: ينقص علفه ويجلل بجل مبلول.
9682 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا الليث عن نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر وكان أمدها من الثنية إلى مسجد بني زريق وأن عبد الله بن عمر كان سابق بها.
.
هذا طريق آخر لحديث عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي عن الليث بن سعد، ومطابقته للترجمة غير ظاهرة، لأنه ترجم بإضمار الخيل، وذكر الخيل التي لم تضمر، ولكن قيل: المسابقة بالمضمرة لم تنكر عادة، وأما غير المضمرة فقد تنكر، ويعتقد
159

أنه لا يجوز لما فيه من مشقة سوقها، والخطر فيه، فبين بالحديث جوازه وإن الإضمار ليس بشرط في المسابقة، ووجه آخر وهو أنه: أراد حديث ابن عمر بطوله، وفيه السبق بالنوعين، فذكر طرفا منه للعلم بباقيه، وقال ابن بطال: إنما ترجم لطريق الليث بالإضمار وأورده بلفظ: سابق بين الخيل التي لم تضمر، ليشير بذلك إلى تمام الحديث.
والحديث أخرجه مسلم في المغاز عن يحيى بن يحيى وقتيبة ومحمد بن رمح. وأخرجه النسائي في الخيل عن قتيبة به.
قوله: (أمدها) الأمد: الغاية التي ينتهي إليها من موضع أو وقت.
قال أبو عبد الله أمدا غاية فطال عليهم الأمد
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، ووقع هذا في رواية المستملي وحده، والذي ذكره هو تفسير أبي عبيدة في (المجاز).
85
((باب غاية السبق للخيل المضمرة))
أي: هذا باب في بيان غاية السبق، وفي بعض النسخ: غاية السباق.
0782 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية قال حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد أضمرت فأرسلها من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع فقلت لموسى فكم كان بين ذلك قال ستة أميال أو سبعة وسابق بين الخيل التي لم تضمر فأرسلها من ثنية الوداع وكان أمدها مسجد بني زريق قلت فكم بين ذلك قال ميل أو نحوه وكان ابن عمر ممن سابق فيها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو طريق آخر لحديث ابن عمر عن عبد الله بن محمد المسندي عن معاوية بن عمرو الأزدي عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري عن موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي المديني.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج.
قوله: (فقلت لموسى)، القائل هو أبو إسحاق.
وفيه: مشروعية المسابقة وأنه ليس من العبث بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة بحسب الباعث على ذلك، وجعلها بعضهم سنة، وبعضهم إباحة. وقال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. انتهى. وقد خرج هذا من باب القمار بالسنة، وكذلك هو خارج من تعذيب البهائم، لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها. وفيه: تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك. وفيه: رياضة الخيل المعدة للجهاد. وفيه: أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمدها معلوما وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربة، وأن لا يسابق المضمر مع غيره، وهذا إجماع من العلماء، لأن صبر الفرس المضمر المجوع في الجري أكثر من صبر المعلوف، فلذلك جعلت غاية المضمرة ستة أميال أو سبعة، وجعلت غاية المعلوفة ميلا واحدا. وقال بعضهم: وفيه: نسبة الفعل إلى الآمر به، لأن قوله: (سابق) أي: أمر وأباح. قلت: ليت شعري ما وجه هذه النسبة، وقد صرح ابن عمر بأنه صلى الله عليه وسلم سابق وهو في الحقيقة إسناد السباق إلى نفسه، ولا معنى للعدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير داع ضروري، وقد صرح أحمد في (مسنده) من رواية عبد الله بن عمر المكبر عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سابق بين الخيل، وراهن. انتهى. ولم يتعرض هنا للمراهنة، وقد قال الترمذي: باب المراهنة على الخيل، ولعله أشار إلى الحديث الذي رواه أحمد. وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بلا عوض، لكن قصرها مالك والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء في كل شيء.
160

وأما المسابقة بعوض فإن كان المال شرطا من جانب واحد بأن يقول أحدهما لصاحبه: إن سبقتني فلك كذا وإن سبقتك فلا شيء لي، فهو جائز. وحكي عن مالك أنه: لا يجوز، لأنه قمار، ولو شرط المال من الجانبين حرم بالإجماع إلا إذا أدخلا ثالثا بينهما. وقالا للثالث: إن سبقتنا فالمالان لك، وإن سبقناك فلا شيء لك، وهو فيما بينهما أيهما سبق أخذا لجعل عن صاحبه، وسأل أشهب مالكا عن المحلل، قال: لا أحبه، ولنا ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (من أدخل فرسه بين فرسين وهو لا يأمن إن سبق فليس قمارا، وإن أمن إن يسبق فهو قمار). فلهذا يشترط أن يكون فرس المحلل أو بعيره مكافيا بفرسيهما، أو بعيريهما، وإن لم يكن مكافئا كان أحدهما بطيئا فهو قمار، وقال محمد: إدخال الثالث إنما يكون حيلة إذا توهم سبقه، كذا في (التتمة): ويشترط في المسابقة في الحيوان تحديد المسافة، وكذا في المناضلة بالرمي.
والمسابقة بالأقدام تجوز إذا كان المال مشروطا من جانب واحد، وبه قال الشافعي في قول، وقال في المنصوص: لا يجوز، وبه قال مالك وأحمد.
ولا تجوز المسابقة في البغال والحمير، وبه قال الشافعي في قول، ومالك وأحمد: إذا كان بجعل، وعن الشافعي، في قول: تجوز.
95
((باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان ذكر ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ: باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، القصواء والعضباء.
قال ابن عمر أردف النبي صلى الله عليه وسلم اسامة على القصواء
هذا التعليق رواه ابن منده في كتاب (الأرداف) من طريق عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه، فذكره من غير ذكر القصواء وقال ابن التين: ضبطت القصوى، بضم القاف والقصر، وهي عند أهل اللغة بالفتح والمد، وقال ابن قرقول: هي المقطوعة ربع الأذن، والقصر خطأ، وهي التي هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، عليها. ويقال لها: العضباء، ابتاعها أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، من نعم بني الحريش والجدعاء، وكانت شهباء، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحي غيرها، وتسمى أيضا: الحناء والسمراء والعريس والسعدية والبغوم واليسيرة والرياء وبردة والمروة والجعدة ومهرة والشقراء. وفي (المحكم): القصاء، حذف في طرف أذن الناقة
والشاة، وهو أن يقطع منها شيء قليل، وقد قصاها قصوا، وقصاها، وناقة قصواء ومقصوة، وجمل مقصو وأقصى، وأنكر بعضهم: أقصى. وقال اللحياني: بعير أقصى ومقصى ومقصو، وناقة قصواء ومقصاة ومقصوة: مقطوعة طرف الأذن، والقصية من الإبل: الكريمة التي لا تجهد في حل ولا حمل، وقيل: القصية من الإبل رذالتها. وقال الجوهري: كانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن مقطوعة الأذن، وجزم ابن بطال: بأن القصواء من النوق التي في أذنها حذف، يقال منه: ناقة قصواء وبعير مقصي، قال أبو عبيد: العضباء مشقوقة الأذن. وقال ابن فارس: العضباء لقب لها، وقال الكرماني: وأما ناقة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التي كانت تسمى العضباء، إنما كان ذلك لقبا لها ولم تكن أذنها مشقوقة. وقال صاحب (العين) ناقة عضباء مشقوقة الأذن، وشاة عضباء مكسورة القرن، والعضب: القطع، وقد عضبه يعضبه: إذا قطع.
وقال المسور قال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء
المسور، بكسر الميم: ابن مخرمة بن نوفل، له ولأبيه صحبة، وهذا التعليق ذكره البخاري مسندا في كتاب الشروط في: باب الشروط في الجهاد مطولا. قوله: (ما خلأت) أي: ما وقفت وبركت.
1782 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية قال حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه يقول كانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها العضباء.
161

المطابقة بينه وبين الترجمة من حيث إن ذكر الناقة يشمل العضباء وغيرها، وعبد الله بن محمد المعروف بالمسندي، ومعاوية هو ابن عمرو الأزدي وأبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الفزاري، وقد مضى رجال إسناده كلهم عن قريب.
2782 حدثنا مالك بن إسماعيل قال حدثنا زهير عن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق قال حميد أو لا تكاد تسبق فجاء أعرابي على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلميمن حتى عرفه فقال حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا ووضعه طوله موسى عن حماد عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة ما ذكرناه في الحديث الأول، ومالك بن إسماعيل بن زيدا النهدي الكوفي، وزهير هو ابن معاوية.
والحديث أخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن سليمان عن موسى بن داود عن زهير به.
قوله: (أو لا تكاد) شك من الراوي. قوله: (على قعود)، بفتح القاف. وهو ما استحق الركوب من الإبل، ويقال: القعود من الإبل، ما يعده الإنسان للركوب والحمل، وقال الأزهري عن الليث: القعود والقعودة من الإبل خاصة، ولم أسمع قعوده بالهاء لغير الليث، ولا يكون إلا للذكر، ولا يقال للأنثى: قعودة، قال: وأخبرني المنذري أنه قرأ بخط أبي الهيثم: ذكر الكسائي أنه سمع من يقول: قعودة، للقلوص وللذكر قعود، وجمع القعود قعدان، والقعادين جمع الجمع. وفي (المحكم): القعدة والقعودة والقعود من الإبل ما اتخذه الراعي للركوب. والجمع: أقعدة وقعد وقعائد. وقال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك إن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملا. قوله: (حتى عرفه)، أي: حتى عرفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم كونه شاقا عليهم، ويقال: عرف أثر المشقة، وسيجئ في الرقاق، فلما رأى ما في وجوههم، وقالوا: سبقت العضباء... الحديث. قوله: (أن لا يرتفع شيء من الدنيا)، وفي رواية موسى ابن إسماعيل: أن لا يرفع شيئا، وكذلك في الرقاق، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، وكذا في رواية أبي داود عن النفيلي عن زهير، وفي رواية النسائي من رواية شعبة عن حميد: أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا. قوله: (طوله موسى)، أي: رواه موسى بن إسماعيل التبوذكي مطولا عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس، رضي الله تعالى عنه، وهذا التعليق وقع في رواية المستملي وحده هنا.
وفيه: اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها. وفيه: التزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلا يتضع. وفيه: الحث على التواضع. وفيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وعظمته في صدور أصحابه.
06
((باب الغزو على الحمير))
أي: هذا باب في بيان الغزو على الحمير، وهو جمع حمار، ويجمع على أحمر أيضا، ويجمع الحمر على حمرات جمع صحة، وجاء على أحمرة أيضا، والأتان: حمارة. وهذا الباب وقع في رواية المستملي وحده بلا حديث، فكأنه وضع الترجمة وأخلى بياضا للحديث، فاستمر على ذلك، وضم النسفي هذه الترجمة للترجمة التي تليها، فقال: باب الغزو على الحمير وبغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء، ولم يتعرض إلى وجهه أحد من الشراح، وليس له وجه أصلا على ما لا يخفى.
16
((باب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء))
أي: هذا باب في ذكر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم البيضاء.
قاله أنس رضي الله تعالى عنه
أي: قال ذلك أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، وسيأتي هذا موصولا في غزوة حنين، أخرجه محمد بن بشار حدثنا معاذ حدثنا ابن عون عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن... الحديث، وفيه قالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، وهو على بغلة بيضاء... الحديث.
162

وقال أبو حميد أهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء
أبو حميد، بضم الحاء: هو عبد الرحمن بن سعد بن المنذر الساعدي الصحابي، مات في آخر خلافة معاوية. وأيلة، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح اللام وفي آخره هاء، إخر الحجاز وأول الشام، بينها وبين المدينة خمس عشرة مرحلة. وقال أبو عبيد: الأيلة، على وزن: فعلة، مدينة على شاطيء البحر في منصف ما بين مصر ومكة، واسم ملكها الذي أهدى البغلة للنبي صلى الله عليه وسلم (يوحنا بن روبة)، وفي رواية سليمان عند مسلم: وجاء اسم رسول بن العلماء صاحب إيلة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء. قلت: الظاهر أن علماء اسم أم يوحنا، واسم البغلة: دلدل، والصحيح أن دلدل أهداها له المقوقس، وقال مسلم: كانت البغلة التي أهداها صاحب أيلة بيضاء، ويقال لها: إيلية، وهذا التعليق أخرجه البخاري موصولا في كتاب الزكاة في: باب خرص التمر، ومر الكلام فيه مستوفى.
3782 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا سفيان قال حدثني أبو إسحاق قال سمعت عمرو بن الحارث قال ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا تركها صدقة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعمرو بن علي بن بحر بن كثير أبو حفص الباهلي البصري الصيرفي، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، وعمرو بن الحارث بن أبي ضرار المصطلقي الخزاعي أخو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن عمرو بن العباس وفي المغازي عن قتيبة وفي الوصايا عن إبراهيم بن الحارث وفي الخمس عن مسدد. وأخرجه الترمذي في الشمائل عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي في الأحباس عن قتيبة به وعن عمرو بن علي عن يحيى وعن عمرو بن علي عن أبي بكر الحنفي، وقد مر الكلام فيه في أول الوصايا. وقال الكرماني قوله: (وأرضا): نصف أرض فدك، وثلث أرض وادي القرى، وسهمه من خيبر، وحقه من بني النضير، والضمير في: تركها، راجع إلى كل الثلث لا إلى الأرض فقط. قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
4782 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان قال حدثني أبو إسحاق عن البراء رضي الله تعالى عنه قال له رجل يا أبا عمارة وليتم يوم حنين قال لا والله ما ولى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن ولى سرعان الناس فلقيهم هوازن بالنبل والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
* أنا النبي لا كذب
* إنا ابن عبد المطلب
*
.
مطابقته للترجمة في قوله: (والنبي، صلى الله عليه وسلم، على بغلته البيضاء) والحديث قد مر عن قريب في: باب من قاد دابة في الحرب، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
قوله: (يا أبا عمارة)، بضم العين المهملة وتخفيف الميم: كنية البراء. قوله: (وليتم)، أي: أدبرتم. قوله: (سرعان الناس)، قال ابن التين: ضبط بكسر السين وضمها، ويجوز فيه فتح السين مع فتح الراء وسكونها، وهم أوائل الناس، وفي (التوضيح): وهم الذين واجهوا العدو فلما ولى أولئك ضاقت عليهم الأرض والسبل. وقال الكرماني: سرعان، جمع: سريع. قوله: (بالنبل) ذكر في (مختصر كتاب العين): أن النبل لا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها: سهم، وقيل: النبل: السهام العربية.
26
((باب جهاد النساء))
أي: هذا باب في بيان جهاد النساء.
163

5782 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن معاوية بن إسحاق عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال جهادكن الحج.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه، صلى الله عليه وسلم، بين أن جهاد النساء الحج، وسفيان هو الثوري ومعاوية ابن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، سمع عمته عائشة بنت طلحة، وقد تقدم في أول الجهاد عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: (لكن أفضل
الجهاد حج مبرور). وقد مر الكلام فيه هناك.
وقال عبد الله بن الوليد: قال: حدثنا سفيان عن معاوية بهذا
عبد الله بن الوليد العدني، وسفيان هو الثوري، ومعاوية هو ابن إسحاق بن طلحة المذكور آنفا، وهذا التعليق موصول في (جامع) سفيان.
6782 حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن معاوية بهذا.
هذا إسناد آخر عن سفيان عن معاوية بهذا الحديث
وعن حبيب ابن أبي عمرة عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمننين عن النبي صلى الله عليه وسلم سأله نساؤه عن الجهاد فقال نعم الجهاد الحج..
رواية حبيب بن أبي عمرة هذه موصولة من رواية قبيصة المذكورة، وقال ابن بطال: هذا دال على أن النساء لا جهاد عليهن، وأنهن غير داخلات في قوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) * (التوبة: 14). وهو إجماع، وليس في قوله: (جهادكن الحج) أنه ليس لهن أن يتطوعن به، وإنما فيه أنه الأفضل لهن، وسببه أنهن لسن من أهل القتال للعدو، ولا قدرة لهن عليه ولا قيام به، وليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك مباشرة الرجال بغير قتال، فكيف في حال القتال التي هي أصعب؟ والحج يمكنهن فيه بمجانبة الرجال، والاستتار عنهن، فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد.
36
((باب غزو المرأة في البحر))
أي: هذا باب في بيان غزو المرأة في البحر.
8782 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا أبو إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمان الأنصاري قال سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه يقول دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنة ملحان فاتكأ عندها ثم ضحك فقالت لم تضحك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله مثلهم مثل الملوك على الأسرة فقالت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال اللهم اجعلها منهم ثم عاد فضحك فقالت له مثل أو مم ذلك فقال لها مثل ذلك فقالت ادع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين ولست من الآخرين قال قال أنس فتزوجت عبادة بن الصامت فركبت البحر مع بنت قرظة فلما قفلت ركبت دابتها فوقصت بها فسقطت عنها فماتت.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبد الله بن محمد هو المسندي، ومعاوية بن عمرو الأزدي، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد
164

ابن الحارث الفزاري، وقد تقدم الحديث عن قريب في: باب من يصرع في سبيل الله. وفي (التوضيح): سقط في البخاري هنا بين أبي إسحاق وعبد الله الأنصاري الراوي عن أنس زائدة بن قدامة الثقفي، نبه عليه أبو مسعود الدمشقي. وأجيب: بأن هذا تحكم بلا دليل، كيف وقد ثبت سماع أبي إسحاق من عبد الله بن عبد الرحمن.
قوله: (ابنة ملحان) هي أم حرام خالة أنس بن مالك. قوله: (قال: قال أنس) أي: قال عبد الله بن عبد الرحمن: قال أنس بن مالك. قوله: (فتزوجت)، أي: ابنة ملحان تزوجت عبادة بن الصامت، ظاهره أنها تزوجته بعد هذه المقالة، ووقع في رواية أبي إسحاق عن أنس في أول الجهاد لفظ: وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وظاهره هذا أنها كانت حينئذ زوجته، ووفق ابن التين بين الروايتين بأن يحمل على أنها كانت، زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك، وقيل: يحمل قوله في رواية أبي إسحاق: وكانت تحت عبادة، جملة معترضة أراد الراوي وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال وفيه تأمل. قوله: (فركبت البحر مع بنت قرظة)، بالقاف والراء والظاء المعجمة المفتوحات، واسمها: فاختة، بالفاء وكسر الخاء المعجمة وفتح التاء المثناة من فوق، وقيل: كنود، امرأة معاوية بن أبي سفيان، كان معاوية أخذها معه لما غزا قبرس في البحر سنة ثمان وعشرين، وكان معاوية أول من ركب البحر للغزاة في خلافة عثمان، رضي الله تعالى عنه. وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، صرح بذلك خليفة بن خياط في (تاريخه) وغيره، وقد وهم من قال: إنها بنت قرظة بن كعب الأنصاري، وذكر البلاذري في (تاريخه): أن قرظة بن عبد عمرو مات كافرا ولبنتها رؤية، وكذا لأخيها مسلم بن قرظة الذي قتل يوم الجمل مع عائشة، رضي الله تعالى عنها.
46
((باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه))
أي: هذا باب في ذكر حمل الرجل... إلى آخره، أراد أنه لما غزا أخذ معه من نسائه واحدة منهن، ولكن بعد القرعة بينهن، كما صرح به في حديث الباب.
9782 حدثنا حجاج بن منهال قال حدثنا عبد الله بن عمر النميري قال حدثنا يونس قال سمعت الزهري قال سمعت عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة كل حدثني طائفة من الحديث قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب.
.
قيل: لا مطابقة بين هذه الترجمة والحديث، لأن هذه الترجمة لا تصح، إلا بذكر القرعة فيها. قلت: ليس كذلك، لوجود المطابقة لأن الحديث يشمل الترجمة غاية ما
في الباب أنه ما ذكر القرعة اكتفاء بما فيه من ذكرها، ولا يلزم أن يذكر في الترجمة جميع ما في الحديث، وهذا الحديث قطعة من حديث الإفك، وقد مر بتمامه في كتاب الشهادات في: باب تعديل النساء بعضهن بعضا، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
56
((باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال))
أي: هذا باب في بيان غزو النساء، يعني: خروجهن إلى الغزاة مع الرجال.
0882 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز عن أنس رضي الله تعالى عنه قال لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب وقال غيره تنقلان
165

القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.
.
قيل: بوب البخاري على غزوهن وقتالهن، وليس في الحديث أنهن قاتلن، فأما أن يريد إن إعانتهن للغزاة غزو، وإما أن يريد أنهن ما ثبتن للمداواة ولسقي الجرحى إلا وهن يدافعن عن أنفسهن. وهو الغالب، فأضاف إليهن القتال لذلك. قلت: كلا الوجهين جيد. ويؤيد الوجه الأول ما رواه أبو داود في (سننه) من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه: أنها خرجت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في غزوة خيبر... الحديث، وفيه: فخرجن نعزل الشعر ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء الجرح وتناول السهام ونسقي السويق، فقال لهن خيرا حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال... الحديث، فهذا فيه: نناول السهام، يعني للغزاة، والمناول للغازي أجره مثل أجر الغازي، كما للمناول السهم للرامي في غير الغزاة، وأجر المناول في الغزاة بطريق الأولى. ويؤيد الوجه الثاني ما رواه مسلم من حديث أنس: أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين، فقالت: اتخذته إن دنى مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فهذه أم سليم اتخذت عدة لقتل المشركين وعزمت على ذلك، فصار حكمها حكم الرجال المقاتلين، وذكر بعضهم حديث أبي داود المذكور وغيره مثله، ثم قال: ولم أر في شيء من ذلك التصريح بأنهن قاتلن. انتهى. قلت: التلويح يغني عن التصريح فيحصل به المطابقة على الوجه الذي ذكرناه، ثم قال هذا القائل: يحتمل أن يكون غرض البخاري بالترجمة أن يبين أنهن لا يقاتلن وإن خرجن في الغزو فالتقدير بقوله: وقتالهن مع الرجال، أي: هل هو سائغ أو إذا خرجن مع الرجال في الغزو ويقتصرن على ما ذكر من مداواة الجرحى ونحو ذلك. انتهى. قلت: لم يكن غرض البخاري هذا الاحتمال البعيد أصلا ولا هذا التقدير الذي قدره، لأنه خلاف ما يقتضيه التركيب، فكيف يقول: هل هو سائغ؟ بل هو واجب عليها الدفع إذا دنى منها العدو، وكما في حديث أم سليم فافهم.
ذكر رجاله وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: اسمه عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد. الثاني: عبد الوارث بن سعيد. الثالث: عبد العزيز بن صهيب أبو حمزة. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في فضل أبي طلحة وفي المغازي. وأخرجه مسلم في المغازي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن أبي معمر به.
ذكر معناه: قوله: (وأم سليم)، هي أم أنس بن مالك. قوله: (المشمرتان)، من التشمير، يقال: شمر إزاره إذا رفعه، وشمر عن ساقه وشمر في أمره أي: خفف، وشمر للأمر، أي: تهيأ له. قوله: (خدم سوقهما)، الخدم بفتح الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة: الخلاخيل، الواحد: خدمة، وقال ابن قرقول: وقد سمي موضعها من الساقين خدمة، وجمعه: خدام، بالكسر ويقال: سمي الخلخال خدمة لأنه ربما كان من سيور مركب فيه الذهب والفضة، والخدمة في الأصل: السير، والمخدم موضع الخلخال من الساق، ويقال: أصله أن الخدمة سير عليها مثل الحلقة تشد في رسغ البعير ثم تشد إليها شرايح نعله، فسمي الخلخال: خدمة لذلك، وقيل: الخدمة مخرج الرجل من السراويل، والسوق، بالضم جمع: ساق. قوله: (تنقزان)، من النقز، بالنون والقاف والزاي، وهو الوثب، وقال الداودي: معناه: بسرعان المشي كالهرولة. وقال غيره: معناه الوثوب، ونحوه في حديث ابن مسعود أنه: كان يصلي الظهر والخلائق تنقز من الرمضاء، أي: تثب، يقال: نقز ينقز من باب نصر ينصر، وقال الجوهري: نقز الظبي في عدوه ينقز نقزا ونقزانا أي: وثب، والتنقيز التثويب، وقال الخطابي: أحسب الرواية: تزفران، بدل: تنقزان، والزفر حمل القرب الثقال. قلت: مادته زاي وفاء وراء، قال الجوهري: الزفر، مصدر قولك: زفر الحمل يزفره زفرا أي: حمله، وأزفره أيضا، والزفر بالكسر الجمل، والجمع أزفار، والزفر أيضا القربة، ومنه قيل للإماء اللواتي يحملن القرب: زوافر، وقيل: الزفر البحر الفياض، فعلى هذا كانت تملأ القرب حتى تفيض. قوله: (القرب)، بكسر القاف: جمع قربة، وفي (التلويح) ضبط الشيوخ القرب، بنصب الباء
166

وهو مشكل، لأن تنقزان لازم ووجهه أن يكون النصب بنزع الخافض، أي: تنقزان بالقرب، وأما على رواية: تزفران وتنقلان، فلا إشكال على ما لا يخفى. قيل: كان بعض الشيوخ يرفع القرب على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير: القرب على متونها، فتكون الجملة الإسمية في موضع الحال بلا واو، وقيل: وجد في بعض الأصول: تنقزان، بضم التاء، فعلى هذا يستقيم نصب القرب، أي: تحركان القرب بشدة عدوهما، فكانت القرب ترتفع وتنخفض مثل الوثب على ظهورهما. قوله: (وقال غيره)، أي: قال البخاري: قال غير أبي معمر عن عبد الوارث: تنقلان القرب من النقل، باللام دون الزاي، وهي رواية جعفر بن مهران عن عبد الوارث
أخرجها الإسماعيلي. قوله: (ثم تفرغانه)، من الإفراغ، بالغين المعجمة، يقال: فرغ الماء بالكسر يفرغ فراغا مثل سمع سماعا، أي: صب، وأفرغته أنا أي: صببته. فإن قلت: ما وجه قوله: أرى خدم سوقهما. قلت: قال النووي: الرؤية للخدم لم يكن فيها نهي، لأن يوم أحد كان قبل أمر النساء بالحجاب، أو لأنه لم يقصد النظر إلى بعض الساق، فهو محمول على أن تلك النظرة وقعت فجأة بغير قصد إليها، قيل: قد تمسك بظاهره من يرى أن تلك المواضع ليست بعورة من المرأة وليس بصحيح.
وفوائد: اختلف في المرأة: هل يسهم لها؟ قال الأوزاعي: يسهم للنساء، لأنه صلى الله عليه وسلم أسهم لهن بخيبر، وأخذ المسلمون بذلك وبه، قال ابن حبيب، وقال الثوري والكوفيون والليث والشافعي: لا يسهم لهن ولكن يرضخ لهن محتجين بقول ابن عباس في (صحيح مسلم) لنجدة: كن النساء يجدين من الغنيمة ولم يضرب لهم بسهم. وذكر الترمذي: أن بعض أهل العلم، قال: يسهم للذمي، إذا شهد القتال مع المسلمين، وروى عن الزهري أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه، قال ابن المنذر: وهو قول الزهري والأوزاعي وإسحاق. والمجنون المطبق لا يسهم له كالصبي، وقيل: يسهم له، والظاهر أنه لا يسهم له كالمفلوج اليابس.
واختلفوا في الأعمى والمقعد، وأقطع اليدين لاختلافهم، هل يتمكن لهم نوع من أنواع القتال كإدارة الرأي إن كانوا من أهله، وكقتال المقعد راكبا، والأعمى يناول النبل، ونحو ذلك، ويكثرون السواد فمن رأى لمثل ذلك أثرا في استحقاق الغنيمة أسهم لهم. وأما الذي يخرج وبه مرض فعند المالكية فيه خلاف: هل يسهم له أم لا؟ فإن مرض بعد الإدراب ففيه خلاف، الأكثرون يسهمون له، ولم يختلفوا أن من مرض بعد القتال يسهم له، وإن كان مرضه بعد حوز الغنيمة.
واختلف في التاجر والأجير على ثلاثة أقوال، قيل: يسهم لهما إذا شهدا القتال مع الناس، قاتلا أو لم يقاتلا، وقيل: لا يسهم لهما مطلقا، وقيل: إن قاتلا يسهم لهما وإلا فلا، وعن مالك: لا يسهم للأجير والتاجر إلا أن يقاتلا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وعن مالك: يسهم لكل حر قاتل، وهو قول أحمد، وقال الحسن بن حي: يسهم للأجير، وروي مثل ذلك عن ابن سيرين والحسن في التاجر والأجير: يسهم لهما إذا حضرا القتال قاتلا أولا، وقال الأوزاعي وإسحاق: لا يسهم للعبد ولا للأجير المستأجر على خدمة القوم.
66
((باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو))
أي: هذا باب في بيان مشروعية حمل النساء... إلى آخره.
1882 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال ثعلبة بن أبي مالك إن عمر بن الخطب رضي الله تعالى عنه قسم مروطا بين نساء من نساء المدينة فبقي مرط جيد فقال له بعض من عنده يا أمير المؤمنين أعط هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك يريدون أم كلثوم بنت علي فقال عمر أم سليط نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد.
(الحديث 1882 طرفه في: 1704).
مطابقته للترجمة في قوله: (فإنها كانت تزفر لنا القرب) أي: تحمل إليهم يوم أحد، وعبدان لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس هو ابن يزيد الأيلي، وابن شهاب محمد بن مسلم الزهري، وثعلبة بن أبي مالك قال الذهبي: ثعلبة بن أبي مالك أبو يحيى القرظي إمام بني قريظة، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رؤية، وطال عمره، روى عنه
167

ابنه أبو مالك وصفوان بن سليم، له حديثان مرسلان، وقال ابن سعد: قدم أبو مالك من اليمن وهو على دين اليهودية، فتزوج امرأة من بني قريظة فنسب إليهم وهو من كندة فأسلم. وثعلبة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة وروى عنه جماعة منهم الزهري، وقال أبو عمر: اسم أبي مالك عبد الله، والأثر المذكور من أفراده. وأخرجه أيضا في المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن الزهري به.
قوله: (مروطا) جمع مرط، وهو كساء من صوف أو خز يؤتزر به. قوله: (يريدون أم كلثوم)، بضم الكاف والثاء المثلثة: هي بنت فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولدت في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خطبها عمر إلى علي، رضي الله تعالى عنهم، فقال: أنا أبعثها إليك فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه ببرد وقال لها: قولي له هذا البرد الذي قلت لك، فقالت: ذلك لعمر، رضي الله تعالى عنه، فقال لها: قولي له قد رضيت، رضي الله تعالى عنك. ووضع يده على ساقها، فقالت: أتفعل هذا؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم جاءت أباها، فقالت: بعثتني إلى شيخ سوء، وأخبرته، فقال لها: يا بنية إنه زوجك. قوله: (أم سليط)، بفتح السين المهملة وكسر اللام، قال أبو عمر في (الاستيعاب): أم سليط امرأة من المبايعات حضرت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقال غيره: ولا يعرف اسمها، وليس في الصحابيات من يشاركها في هذه الكنية. قلت: ذكرها ابن سعد في (طبقات النساء)، وقال: هي أم قيس بنت عبيد بن زياد بن ثعلبة من بني مازن تزوجها أبو سليط بن أبي حارثة عمرو بن قيس من بني عدي بن النجار، فولدت له سليطا، وفاطمة فلذلك كان يقال لها: أم سليط، وذكر أنها شهدت خيبر وحنينا وغفل عن ذكر شهودها خيبر. قوله: (تزفر لنا القرب)، بفتح أوله وسكون الزاي وكسر الفاء: أي: تحمل لنا القرب، جمع: قربة الماء، وقد مر عن قريب ما جاء من هذه المادة.
وفيه: أن الأولى برسول الله، صلى الله عليه وسلم من أتباعه السابقة إليه والنصرة له والمعونة بالمال والنفس، ألا ترى أن عمر، رضي الله تعالى عنه، جعل أم سليط
أحق بالقسمة لها من المروط من حفيدة رسول الله، صلى الله عليه وسلم لتقدم أم سليط بالإسلام والنصرة والتأييد، وكذلك يجب أن لا يستحق الخلافة بعده ببنوة ولا قرابة، وإنما يستحق بما ذكر الله بالسابقة والإنفاق والمقاتلة. وفيه: الإشارة بالرأي على الإمام، وإنما ذلك للوزير والكاتب وأهل النصيحة والبطانة له، وليس ذلك لغيرهم إلا أن يكون من أهل العلم والبروز في الإمامة، فله الإشارة على الإمام وغيره.
قال أبو عبد الله تزفر تخيط
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، يعني: قال: إن معنى تزفر القرب أي تخيطها، وورد عليه بأن ذلك لا يعرف في اللغة، وهذا وقع في رواية المستملي وحده. قلت: وقال أبو صالح، كاتب الليث: تزفر تخرز، ويمكن أن يكون هذا مستند البخاري في تفسيره.
76
((باب مداواة النساء الجرحى في الغزو))
أي: هذا بيا في بيان ما جاء من مداواة النساء الجرحى من الرجال وغيرهم، والجرحى جمع جريح.
2882 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد مروا فيما مضى، فعلي بن عبد الله المسندي، مر مرارا، وبشر، بكسر الباء الموحدة: ابن المفضل مر في العلم، وخالد بن ذكوان مر في الصوم، والربيع، بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد الياء آخر الحروف المكسورة: بنت معوذ، بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الواو المشددة ثم الذال المعجمة: الأنصارية من المبايعات، وأبوها معوذ بن عفراء له صحبة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن مسدد وفي الطب عن قتيبة، وأخرجه النسائي في السير عن عمرو ابن علي.
قوله: (نسقي)، أي: أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (ونداوي الجرخى)، فيه مباشرة المرأة غير ذي محرم منها في المداواة وما شاكلها من ألطاف المرضى، ونقل الموتى. فإن قلت: كيف ساغ ذلك؟ قلت: جاز ذلك للمتجالات منهن، لأن موضع الجرح
168

لا يلتذ بمسه، بل تقشعر منه الجلود وتهابه الأنفس ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غيرهن فيعالجن بغير مباشرة منهن لهم، فيضعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، وقد يمكن أن يضعنه من غير مس شيء من جسده. ويدل على ذلك اتفاقهم أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها، أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس. بل يغسلها وراء حائل، في قول الحسن البصري والنخعي والزهري وقتادة وإسحاق، وعند سعيد بن المسيب ومالك والكوفيين وأحمد: تيمم بالصعيد، وهو أصح الأوجه عند الشافعية، وقال الأوزاعي: تدفن كما هي ولا تيمم، وقيل: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت، أن الغسل عبادة والدواء ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، والله أعلم.
86
((باب رد النساء الجرحى والقتلى))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من رد النساء الجرحى والقتلى، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: إلى المدينة، بعد قوله: القتلى، وقال ابن التين: كانوا يوم أحد يجمعون الرجلين والثلاثة من الشهداء على دابة وتردهن النساء إلى موضع قبورهم.
3882 حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن المفضل عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قالت كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، هذا طريق آخر من حديث الربيع، وهو طريق أوفى بالمقصود، وفي رواية الإسماعيلي من طريق آخر عن خالد بن ذكوان زيادة وهي قوله: ولا نقاتل.
96
((باب نزع السهم من البدن))
أي: هذا باب في بيان مشروعية نزع السهم من بدن المصاب، قيل: إنما ترجم بهذا لئلا يتخيل أن الشهيد لا ينزع عنه السهم بل يبقى فيه كما أمر بدفنه بدمائه حتى يبعث كذلك، فبين بهذه الترجمة أن هذا مشروع. انتهى. وفيه نظر، لأن حديث الباب يتعلق بمن أصابه ذلك وهو في الحياة بعد، وأحسن من ذلك ما قاله المهلب: إن فيه جواز نزع السهم من البدن، وإن كان في غبه الموت، وليس ذلك من الإلقاء إلى التهلكة إذا كان يرجو الانتفاع بذلك، قال: ومثله البط والكي. وغير ذلك من الأمور التي يتداوى بها.
4882 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال رمي أبو عامر في ركبته فانتهيت إليه قال انزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال أللهم اغفر لعبيد أبي عامر.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو أسامة بن حماد بن أسامة، وبريد، بضم الباء الموحدة ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وبريد هذا يروي عن جده أبي بردة، بضم الباء الموحدة وسكون الراء، وهو يروي عن أبيه أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس.
والحديث أخرجه البخاري مقطعا في الجهاد وفي المغازي وفي الدعوات عن أبي كريب محمد بن العلاء. وأخرجه مسلم في الفضائل عن عبد الله بن براد وأبي كريب. وأخرجه النسائي في السير عن موسى بن عبد الرحمن المسروقي..
قوله: (رمى أبو عامر)، واسمه عبيد، بضم العين: ابن وهب، وقيل: ابن سليم، بضم السين المهملة الأشعري، عم أبي موسى الأشعري، كان من كبار الصحابة، قتل يوم أوطاس، فلما أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم رفع يديه يدعو له، قوله: (فنزا)، بالزاي، أي: ظهر وارتفع وجرى ولم ينقطع، وقال ابن التين: النز و: الوثبان، معناه: خرج الماء. وقال صاحب (العين): نزا ينزو نزوا ونزوانا، وتنزى: إذا وثب، قوله: (اللهم اغفر لعبيد)، إنما دعا له صلى الله عليه وسلم لأنه علم أنه ميت من ذلك.
169

07
((باب الحراسة في الغزو في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل الحراسة في سبيل الله، والحراسة بكسر الحاء الحفظ.
5882 حدثنا إسماعيل بن خليل قال أخبرنا علي بن مسهر قال أخبرنا يحيى بن سعيد قال أخبرنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا فقال أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك ونام النبي صلى الله عليه وسلم.
(الحديث 0882 طرفه في: 1327).
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (يحرسني الليلة...) إلى آخره، الحديث، وإسماعيل بن خليل أبو عبد الله الخزاز الكوفي وعلي بن مسهر، بضم الميم: على صيغة اسم الفاعل من الإسهار، قد مر في مباشرة الحائض، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عامر بن ربيعة بن جحر بن سلامان القرشي العنزي، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: قتل سنة ست من الهجرة وحفظ عنه وهو صغير وتوفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين وأبوه عامر بن ربيعة من كبار الصحابة، وتوفي عبد الله بن عامر سنة خمس وثمانين، وقال أبو عمر: عبد الله بن عامر بن ربيعة هو الأصغر وعبد الله ابن عامر بن ربيعة العدوي هو الأكبر صحب هو وأبوه النبي صلى الله عليه وسلم، وآخر في الصحابة: عبد الله بن عامر بن كريز العبشمي القرشي، ابن خال عثمان بن عفان، وفي التابعين: عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة الدمشقي أبو عمران اليحصبي، ولي قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التمني عن خالد بن مخلد. وأخرجه مسلم في فضائل سعد بن أبي وقاص عن القعنبي وعن قتيبة ومحمد بن رمح وعن محمد بن المثنى، وأخرجه الترمذي في المناقب عن قتيبة به. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن يحيى وفي السير عن قتيبة به.
قوله: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم سهر) لم يبين فيه أن سهره في أي زمان كان، وظاهر الكلام يقتضي أن يكون سهره قبل قدومه المدينة على ما لا يخفى، ولكن ليس الأمر كذلك، بل إنما كان سهره بعد مقدمه المدينة، يدل عليه ما رواه مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عائشة قالت: سهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة، فقال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة؟ قالت: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ قال سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما جاء بك؟) فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله، صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله، صلى الله عليه وسلم ثم نام، وله في رواية أرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: ليت رجلا صالحا... الحديث، ولم يذكر فيه: مقدمه المدينة، ففي حديث مسلم التصريح بأن سهره وقوله: ليت رجلا... إلى آخره، كانا بعد مقدمه المدينة، وهو ظاهر لا يخفى، ومتن حديث البخاري ينزل على هذا، لأن الحديث واحد والمخرج متحد، ووقع في متن حديث البخاري تقديم وتأخير، فالأصل: سمعت عائشة تقول: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سهر ليلة، وقال: ليت رجلا... إلى آخره، وتؤكده رواية النسائي من طريق أبي إسحاق الفزاري عن يحيى بن سعيد بلفظ كان صلى الله عليه وسلم، أول ما قدم المدينة سهر من الليل...
واعلم أنه ليس المراد بقدومه المدينة أول قدومه إليها من الهجرة، لأن عائشة إذ ذاك لم تكن عنده، ولا كان سعد أيضا ممن سبق. فإن قلت: الترجمة: الحراسة في الغزو في سبيل الله، فعلى ما ذكر لم تقع الحراسة في الغزو في سبيل الله؟ قلت: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم، في سبيل الله سواء كان في السفر أو الحضر، ولم يزل حاله في الغزو كذلك. فإن قلت: قال الله تعالى: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 76). فما الحاجة إلى الحراسة؟ قلت: كان ذلك قبل نزول الآية، أو المراد العصمة من فتنة الناس واختلافهم، وقال القرطبي: ليس في الآية ما ينافي الحراسة، كما أن إعلام الله بنصر دينه وإظهاره ما يمنع الأمر بالقتال وإعداد العدد.
وفي الحديث: الأخذ بالحذر والاحتراس من العدو. وفيه: أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم خشية القتل.
170

وفيه: الثناء على من تبرع بالخير وتسميته صالحا. وفيه: أن التوكل لا ينافي تعاطي الأسباب، لأن التوكل عمل القلب، وهي عمل البدن، والله تعالى أعلم.
6882 حدثنا يحيى بن يوسف قال أخبرنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطى رضى وإن لم يعط لم يرض لم يرفعه إسرائيل عن أبي حصين.
7882 وزادنا عمر و قال أخبرنا عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع.
(انظر الحديث 6882 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة).
ذكر رجاله وهم عشرة أنفس: الأول: يحيى بن يوسف بن أبي كريمة، أبو يوسف. الثاني: أبو بكر بن عياش، بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة: ابن سالم الحناط بالنون المقبري، وقد اختلف في اسمه اختلافا كثيرا، والصحيح أن اسمه كنيته. الثالث: أبو حصين، بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، واسمه: عثمان بن عاصم الأسدي. الرابع: أبو صالح ذكوان السمان الزيات. الخامس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه. السادس: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. السابع: محمد بن جحادة، بضم الجيم وتخفيف الحاء المهملة: الأودي، ويقال: الأيامي. الثامن: عمرو، بفتح العين: ابن مرزوق الباهلي، بالباء الموحدة. التاسع: عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار مولى عبد الله بن عمر. العاشر: أبوه عبد الله بن دينار.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثمانية مواضع. وفيه: أن شيخه يحيى بن يوسف الزمي، نسبة إلى زم، بفتح الزاي وتشديد الميم، وهي بليدة بخراسان على نهر بلخ، وسكن بغداد، وهو من أفراده، وأبو بكر بن عياش وأبو حصين وإسرائيل ومحمد بن جحادة كوفيون، وأبو صالح وعبد الرحمن مدنيان، وعمرو بن مرزوق بصري وهو من أفراده. وفيه: تابعيان: عبد الله بن دينار وأبو صالح. وفيه: رواية الابن عن أبيه وهو عبد الرحمن يروي عن أبيه عبد الله.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الرقاق عن يحيى بن يوسف أيضا. وأخرجه ابن ماجة في الزهد عن يعقوب بن حميد بن كاسب.
ذكر معناه: قوله: (تعس)، بفتح التاء المثناة من فوق وكسر العين المهملة بعدها سين مهملة، قال ابن التين: التعس الكب، أي: عثر فسقط لوجهه، وذكره بعض أهل اللغة بفتح العين، وقال ابن الأنباري: التعس الشر، قال الله عز وجل: * (فتعسا لهم) * (محمد: 8). وذكر ابن التياني عن قطرب: تعس وتعس شقي، وعن علي بن حمزة بالكسر والفتح هلك، وفي (البارع): تعسه الله وأتعسه بمعنى نكسه، وفي (التهذيب): قال شمر: لا أعرف تعسه الله ولكن يقال: تعس بنفسه وأتعسه الله، وقيل: تعس إذا أخطأ حجته إن خاصم وبغيته إن طلب، وقيل: التعس أن يخر على وجهه والنكس أن يخر على رأسه، وقال الليث: التعس أن لا ينتعش من عثرته، وأن ينكس في سفال، وذكر الزجاج: أن التعس في اللغة الإنحطاط، وفي (المحكم): هو السقوط على أي وجه كان، وقيل: هو البعد. قوله: (عبد الدينار)، مجاز عن حرصه عليه، وتحمل الذلة لأجله، أي: طلب ذلك قد استعبده وصار عمله كله في طلبهما، كالعبادة لهما. قوله: (والقطيفة)، بفتح القاف وكسر الطاء: دثار مخمل، والجمع قطائف وقطف. قوله: (والخميصة)،
171

بفتح الخاء المعجمة وكسر الميم: كساء إسود مربع له علمان. قوله: (إن أعطي) على صيغة المجهول، قال ابن بطال: أي إن أعطى ماله عمل ورضي عن خالقه، وإن لم يعط لم يرض ويتسخط بما قدر له، فصح بهذا أنه عبد في طلب هذين فوجب الدعاء عليه بالتعس لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفاني وترك النعيم الباقي. قوله: (لم يرفعه إسرائيل)، أي: لم يرفع الحديث إسرائيل ابن يونس عن أبي حصين، بل وقفه عليه، وكذا محمد بن جحادة. قوله: (وزادنا عمرو)، وهو عمرو بن مرزوق أحد مشايخ البخاري، ويروى: وزاد لنا، والذي زاد له هو قوله: وانتكس... إلى آخره، وروى أبو نعيم الأصبهاني حديث عمرو هذا عن حبيب بن الحسن عن يوسف القاضي، حدثنا عمرو بن مرزوق أنبأنا عبد الرحمن بن عبد الله... فذكره. قوله: (وانتكس) بالسين المهملة، أي: عاوده المرض كما بدأ به، وقال الطيبي: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، لأن من انتكس فقد خاب وخسر. وقال صاحب (المطالع): ذكره بالشين المعجمة وفسره بالرجوع وجعله دعاء له لا عليه، والأول أوجه. قوله: (وإذا شيك)، بكسر الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف بعدها كاف، أي إذا أصابته شوكة لا قدر على إخراجها بالمنقاش، وهو معنى قوله: (انتقش) بالقاف والشين المعجمة، يقال: نقشت الشوكة إذا أخرجتها بالمنقاش، ويقال: انتقش الرجل إذا سل الشوكة من قدمه، وذكر ابن قتيبة أن بعضهم رواه بالعين المهملة بدل القاف، ومعناه صحيح، لكن مع ذكر الشوكة تقوى رواية القاف، ووقع في رواية الأصيلي عن أبي زيد المروزي: وإذا شئت، بتاء مثناة من فوق بدل الكاف، وهو خطأ فاحش، وإنما خص إنقاش الشوك بالذكر، لأن الإنقاش أسهل ما يتصور في المعاونة لمن أصابه مكروه، فإذا نفى ذلك الأهون فيكون ما فوق ذلك منفيا بالطريق الأولى. قوله: (طوبى لعبد)، طوبى على وزن: فعلى، من الطيب، فلما ضمت الطاء انقلبت الياء واوا، وطوبى: اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها، ويقال: طوبى لك، وطوباك، بالإضافة. قوله: (آخذ) اسم فاعل من الأخذ مجرور، لأنه صفة عبد، و: العنان، بكسر العين لجام الفرس. قوله: (أشعث) صفة لعبد بفتح الثاء، لأن جره بالفتحة لأنه غير منصرف. وقوله: (رأسه)، مرفوع لأنه فاعل ويجوز في أشعث الرفع، قاله الكرماني ولم يبين وجهه، وقال بعضهم: ويجوز في أشعث الرفع على أنه صفة الرأس، أي: رأسه أشعث. قلت: هذا الذي ذكره لا يصح عند المعربين، والرأس فاعل أشعث، وكيف يكون وصفته والموصوف لا يتقدم على الصفة والتقدير الذي قدره يؤدي إلى إلغاء قوله رأسه بعد قوله: أشعث، وقال الطيبي: أشعث رأسه مغبرة قدماه حالان
من قوله: لعبد، لأنه موصوف. قوله: (إن كان في الحراسة) أي: في حراسة العدو، خوفا من أن يهجم العدو عليهم وذلك يكون في مقدمة الجيش والساقة مؤخرة الجيش، والمعنى إيتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه بحال، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة، الأول عند دخولهم دار الحرب، والآخر عند خروجهم منها. فإن قلت: ما وجه اتحاد الشرط والجزاء؟ قلت: وجه ذلك أنه يدل على فخامة الجزاء وكماله نحو من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، أي: من كان في الساقة فهو في أمر عظيم، أو المراد منه لازمه، نحو: فعليه أن يأتي بلوازمه ويكون مشتغلا بخويصة عمله، أو قلة ثوابه. قوله: (إذا استأذن لم يؤذن له)، إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث يفنى بكليته في نفسه لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس، بل يكون عند الله وجيها، ولم يقبل الناس شفاعته، وعند الله يكون شفيعا مشفعا. قوله: (يشفع)، بفتح الفاء المشددة، أي: لم تقبل شفاعته.
قال أبو عبد الله لم يرفعه إسرائيل ومحمد بن جحادة عن أبي حصين
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، أي: لم يرفع الحديث المذكور إسرائيل بن يونس ومحمد بن جحادة عن أبي حصين عثمان بن عاصم بل، وقفاه عليه، وقد ذكرناه.
وقال تعسا كأنه يقول فأتعسهم الله
هكذا وقع في رواية المستملي، وجرت عادة البخاري في شرح اللفظ التي توافق ما في القرآن بتفسيرها، وهكذا فسر أهل التفسير قوله تعالى: * (فتعسا لهم) * (محمد: 8). كأنه يقول: فأتعسهم الله، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
172

طوبى فعلى من كل شيء طيب وهي ياء إلى الواو وهي من يطيب
هذا أيضا من كلام البخاري، فسر: طوبى، بهذا وقد ذكرنا الكلام فيه.
17
((باب فضل الخدمة في الغزو))
أي: هذا باب في بيان فضل الخدمة للغازي في الغزاة، سواء كانت من صغير لكبير، أو من كبير لصغير، أو لمن يساويه، وفي هذا الباب ثلاثة أحاديث كلها عن أنس: ففي الأول: خدمة الكبير للصغير، وفي الثاني: خدمة الصغير للكبير، وفي الثالث: توجد الخدمة لمن يساويه، على ما نذكره.
8882 حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن يونس بن عبيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال صحبت جرير بن عبد الله فكان يخدمني وهو أكبر من أنس قال جرير إني رأيت الأنصار يصنعون شيئا لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته.
قيل: هذا الحديث ليس في محله، وإنما محله المناقب، وحاصله نفي المطابقة.
قلت: هذا الحديث رواه مسلم من حديث محمد بن عرعرة: حدثنا شعبة عن يونس بن عبيد عن ثابت البناني عن أنس بن مالك، قال: خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر وكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، إني رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا آليت أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته، وفي آخره: وكان جرير أكبر من أنس. وقال ابن بشار: أسن من أنس، انتهى. فهذا يدل على أن معنى قوله: (صحبت جرير بن عبد الله)، يعني: في السفر. وهو أعم من أن يكون سفر الغزو أو غيره، فبهذا يقع الحديث في بابه، فتوجد المطابقة.
قوله: (وهو أكبر من أنس) فيه التفات أو تجريد، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: وهو أكبر مني قوله: (يصنعون شيئا)، أي: من خدمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم كما ينبغي ومن تعظيمهم إياه غاية ما يكون. قوله: (منهم)، أي: من الأنصار. وقوله في رواية مسلم: آليت، أي: حلفت.
وفيه: فضل الأنصار وفضل جرير وتواضعه ومحبته للرسول صلى الله عليه وسلم.
9882 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثنا محمد بن جعفر عن عمرو بن أبي عمر و مولى المطلب بن حنطب أنه سمع أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وبدا له أحد قال هاذا جبل يحبنا ونحبه ثم أشار بيده إلى المدينة قال أللهم إني احرم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة أللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (خرجت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه).
وعبد العزيز بن عبد الله ابن يحيى أبو القاسم القرشي العامري الأويسي المديني، وهو من أفراده، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري المديني وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب، بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الطاء المهملة، وقد مر في: باب الحرص على كتابة الحديث.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن القعنبي، وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف، وفي الاعتصام عن إسماعيل بن أبي إويس. وأخرجه مسلم في المناسك عن قتيبة ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر وعن قتيبة بن سعيد وسعيد بن منصور كلاهما عن يعقوب بن عبد الرحمن، وأخرجه الترمذي في المناقب عن الأنصاري وهو إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى وعن قتيبة، كلاهما عن مالك ببعضه طلع له أحد.
قوله: (إلى خيبر)، أي: إلى غزوة خيبر وكانت سنة ست، وقيل: سنة سبع. قوله: (أخدمه)، جملة وقعت حالا. قوله: (راجعا)، حال من النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وبدا له)، أي ظهر له جبل أحد. قوله: (يحبنا)، يمكن حمله على الحقيقة بأن يخلق الله فيه المحبة، والله
173

على كل شيء قدير. وقال الخطابي: الحب والبغض لا يجوزان على الجبل نفسه، وإنما هو كناية عن أهل الجبل وهم سكان المدينة، يريد به الثناء على الأنصار، والإخبار عن حبهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم وهو نحو: * (واسأل القرية) * (يوسف: 28). قوله: (لابتيها)، أي: لابتي المدينة وهي تثنية لابة بالباء الموحدة الخفيفة، وهي الحرة والمدينة بين الحرتين، والحرة، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء، وهي الأرض ذات الحجارة السود، ويجمع على حر وحرار وحرات وحرين واحرين وهو من الجموع النادرة، واللابة تجمع على لوب ولابات ما بين الثلاث إلى العشر فإذا كثرت جمعت على اللاب واللوب، وقد مر الكلام فيه في كتاب الحج في: باب لابتي المدينة. قوله: (كتحريم إبراهيم، عليه الصلاة والسلام) التشبيه في نفس الحرمة و في وجوب الجزاء ونحوه. قوله: (اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا) أي: بارك لنا في الطعام الذي يكال بالصيعان والأمداد ودعا لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم بالبركة في أقواتهم، ومر الكلام فيه أيضا في باب مجرد عن الترجمة في آخر كتاب الحج.
وفيه: جواز خدمة الصغير للكبير لشرف في نفسه أو في قومه أو لعلمه أو لصلاحه، ونحو ذلك.
0982 حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع عن إسماعيل بن زكرياء قال حدثنا عاصم عن مورق العجلي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوها وعالجوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر.
قيل: هذا الحديث من الأحاديث التي أوردها في غير مظانها لكونه لم يذكره في الصيام، واقتصر على إيراده هنا. قلت: يمكن أن يقال: إن له بعض مظنة هنا، وهو أن قوله: (فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا) عبارة عن الخدمة لأن معنى قوله: (بعثوا الركاب) أي: إلى الماء للسقي، والركاب، بالكسر الإبل التي يسار عليها، ومعنى قوله: (وامتهنوا) أي: خدموا، لأن الامتهان: الخدمة والابتذال، ومعنى قوله: (وعالجوا) أي: تناولوا الطبخ والسقي، وكل هذا عبارة عن الخدمة وهي أعم من أن يخدموا أنفسهم أو يخدموا غيرهم، أو يخدموا أنفسهم وغيرهم، بل هم خدموا الصائمين لأنهم سقطوا على ما يجيء من رواية مسلم، وكان ذلك في السفر، لأن في رواية مسلم عن مورق عن أنس، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم. في السفر... الحديث، فحينئذ يطابق الحديث الترجمة من هذا الوجه، وسليمان بن داود أبو الربيع العتكي الزهراني البصري وإسماعيل بن زكرياء أبو زياد الخلقاني الكوفي وعاصم هو ابن سليمان الأحول، ومورق بكسر الراء المشددة وبالقاف: العجلي وهما تابعيان في نسق، وقال بعضهم: والإسناد كله بصريون. قلت: ليس كذلك، وإسماعيل ومورق كوفيان.
والحديث أخرجه مسلم في الصوم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن أبي كريب، وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم.
قوله: (أكثرنا ظلا من يستظل بكسائه) يريد: لم يكن لهم أخبية، وذلك لما كانوا عليه من القلة، وفي رواية مسلم: فنزلنا منزلا في يوم حار أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، يعني: لعجزهم، وفي رواية مسلم: فسقط الصوامون. قوله: (وأما الذين أفطروا) إلى قوله: (وعالجوا) قد ذكرناه الآن، وفي رواية مسلم: وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب. قوله: (ذهب المفطرون) بالأجر، أي: بالأجر الأكمل الوافر، لأن نفع صوم الصائمين قاصر على أنفسهم وليس المراد نقص أجرهم، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم اشغالهم واشغال الصوام.
قيل: فيه: أن أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام. وفيه: أن التعاون في الجهاد وفي خدمة المجاهدين في حل وارتحال واجب على جميع المجاهدين. وفيه: جواز خدمة الرجل لمن يساويه، لأن الخدمة أعم كما ذكرنا.
27
((باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر))
أي: هذا باب في بيان فضل... إلى آخره، والمتاع في اللغة كل ما انتفع به.
174

1982 حدثني إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل سلامى عليه صدقة كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ودل الطريق صدقة.
(انظر الحديث 7072 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (يعين الرجل في دابته) إلى قوله: (والكلمة الطيبة). فإن قلت: ليس فيه ذكر السفر. قلت: إطلاق هذا الكلام يتناول حالة السفر بالطريق الأولى.
وإسحاق بن نصر هو إسحاق بن إبراهيم بن نضر السعدي النجاري، كان ينزل بالمدينة بباب بني سعد، فالبخاري تارة يقول: إسحاق بن إبراهيم بن نصر، وتارة يقول: إسحاق بن نصر، فينسبه إلى جده، وعبد الرزاق بن همام بن نافع الصنعاني اليماني، ومعمر بفتح الميمين: ابن راشد، وهمام هو ابن منبه الأنباري الصنعاني، وقد مر في الصلح في: باب فضل الإصلاح بين الناس، بهذا الإسناد بعض هذا الحديث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كل سلامي من الناس عليه صدقة، وفيه زيادة على حديث الباب. وهي قوله: كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين صدقة.
قوله: (كل سلامي)، بضم السين المهملة وتخفيف اللام وفتح الميم وبالألف: عظام الأصابع، وقد مر الكلام فيه في الباب المذكور. قوله: (كل يوم) نصب على الظرفية. قوله: (ويعين) مبتدأ على تقدير المصدر نحو: تسمع بالمعيدي. يعني: وأن تعين، و: أن، مصدرية تقديره: وإعانتك الرجل. وقوله: (صدقة) خبره.
قوله: (يحامله عليها) أي: يساعده في الركوب وفي الحمل على الدابة. قوله: (وكل خطوة) الخطوة، بفتح الخاء: المرة الواحدة، وبالضم: ما بين القدمين، وقال ابن التين: وضبط في البخاري بالضم. قوله: (ودل الطريق) بفتح الدال وتشديد اللام: بمعنى الدلالة لمن يحتاج إليه.
37
((باب فضل رباط يوم في سبيل الله))
أي: هذا باب في بيان فضل رباط يوم، الرباط بكسر الراء وبالباء الموحدة الخفيفة: ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم. قلت: الرباط هي المرابطة، وهي ملازمة ثغر العدو، وقال ابن قتيبة: أصل الرباط والمرابطة: أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر كل يعد لصاحبه، وقال ابن التين: بشرط أن يكون غير الوطن، قاله ابن حبيب عن مالك وفيه نظر لأنه قد يكون وطنه ينوي بالإقامة فيه دفع العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحو العدو وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين.
وقول الله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * (آل عمران: 02). إلى آخر الآية
وقوله، مجرور عطفا على قوله: فضل رباط، وتمام الآية: * (وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) * (آل عمران: 02). قال زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل على العدو، وعن الحسن وقتادة: اصبروا على طاعة الله وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله، وعن الحسن أيضا: اصبروا على المصائب وصابروا على الصلوات الخمس، وقال محمد ابن كعب: إصبروا على دينكم وصابروا لوعدي الذي وعدتكم عليه ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم واتقوني فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني. وفي (تفسير ابن كثير): قال الحسن البصري: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، ولا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يملون دينهم. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد أخبرنا موسى بن إسحاق أخبرنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي أخبرنا ابن أبي كريمة عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: أقبل أبو هريرة يوما فقال: يا ابن أخي! أتدري فيما أنزلت هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) * (آل عمران: 02). الآية؟ قلت: لا. قال:
175

أما أنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت: * (اصبروا) * (آل عمران: 02). أي على الصلوات الخمس * (وصابروا) * (آل عمران: 02). أنفسكم وهواكم * (ورابطوا) * (آل عمران: 02). في مساجدكم * (واتقوا الله) * فيما علمكم * (لعلكم تفلحون) * (آل عمران: 02). وهكذا روى الحاكم أيضا في (مستدركه).
2982 حدثنا عبد الله بن منير قال سمع أبا النضر قال حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله بن دينار عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبد الله بن منير، بضم الميم وكسر النون أبو عبد الرحمن المروزي، وهو من أفراده، وأبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة واسمه هاشم بن القاسم التميمي، ويقال: الليثي الكناني، خراساني سكن بغداد ومات بها يوم الأربعاء غرة ذي القعدة سنة سبع ومائتين، وأبو حازم الأعرج سلمة بن دينار، وسهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري.
والحديث أخرجه الترمذي فيه عن أبي بكر بن أبي النضر.
قوله: (سمع أبا النضر)، التقدير أنه سمع أبا النضر. قوله: (رباط يوم)، قد مر تفسير الرباط عن قريب. قوله: (وما عليها)، أي: على الدنيا وفائدة العدول عن قوله: وما فيها، هو أن معنى الاستعلاء أعم من الظرفية وأقوى فقصده زيادة المبالغة. قوله: (وموضع سوط أحدكم). إلى قوله: (عليها)، لأن الدنيا فانية وكل شيء في الجنة باق، وإن صغر في التمثيل لنا، وليس فيه صغير، فهو أدوم وأبقى من الدنيا الفانية المنقطعة فكان الدائم الباقي خيرا من المنقطع. قوله: (والروحة) إلى آخره، وتفسير الغدوة والروحة مر في أوائل كتاب الجهاد في: باب الغدوة والروحة، لأنه أخرج هناك عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها). فإن قلت: روى أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث عثمان، رضي الله تعالى عنه، (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل). قلت: لا تعارض، لأنه باختلاف العاملين أو باختلاف العمل بالنسبة إلى الكثرة والقلة.
106 - (حدثنا قتيبة قال حدثنا يعقوب عن عمرو عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي
قال لأبي طلحة التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله
إذا نزل فكنت أسمعه كثيرا يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال ثم قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله
لنفسه فخرج بها حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها ثم صنع حيسا في نطع صغير ثم قال رسول الله
آذن من حولك فكانت تلك وليمة رسول الله
على صفية ثم خرجنا إلى المدينة قال فرأيت رسول الله
يحوي لها وراءه
176

بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبتيه حتى تركب فسرنا حتى إذا أشرفنا على المدينة نظر إلى أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه ثم نظر إلى المدينة فقال اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله التمس لي غلاما إلى قوله فكنت أخدم رسول الله
ويعقوب هو ابن عبد الرحمن بن محمد القاري بالتشديد من القارة حليف بني زهرة أصله مدني سكن الإسكندرية وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب والحديث يشتمل على عدة أحاديث * الأول حديث التمس لي غلاما * الثاني حديث الاستعاذة أخرجه في الدعوات أيضا عن قتيبة * الثالث حديث صفية أخرجه أبو داود في البيوع وفي المغازي عن عبد الغفار بن داود وفي المغازي أيضا عن أحمد وأخرجه أبو داود في الخراج عن سعيد بن منصور عن يعقوب بن عبد الرحمن ببعضه * الرابع حديث أحد وحديث لابتي المدينة أخرجه أيضا في الجهاد عن عبد العزيز بن عبد الله وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن القعنبي وفي المغازي عن عبد الله بن يوسف وفي الاعتصام عن إسماعيل بن أبي أويس وأخرجه مسلم في المناسك عن قتيبة ويحيى بن أيوب وعلي بن حجر وعن قتيبة وسعيد بن منصور كلاهما عن يعقوب وأخرجه الترمذي في المناقب عن الأنصاري وهو إسحق بن موسى
(ذكر معناه) قوله ' لأبي طلحة ' زوج أم أنس واسمه زيد بن سهل الأنصاري وقد مر غير مرة قوله ' يخدمني ' بالجزم لأنه جواب الأمر ويجوز الرفع على تقدير هو يخدمني قوله ' مردفي ' من الإرداف والواو في قوله وأنا غلام للحال قوله ' راهقت الحلم ' أي قاربت البلوغ قوله ' من الهم والحزن ' قال الخطابي أكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن وهما على اختلافهما في الاسم يتقاربان في المعنى إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع والهم إنما هو فيما يتوقع ولم يكن بعد وقال القزاز الهم هو الغم والحزن تقول أهمني هذا الأمر وأحزنني ويحتمل أن يكون من همه المرض إذا أذابه وأنحله مأخوذ من هم الشحم إذا أذابه والشيء مهموم أي مذاب قوله ' وضلع الدين ' بفتح الضاد المعجمة واللام أي ثقل الدين وأمر مضلع أي مثقل قوله ' وغلبة الرجال ' قال الكرماني عبارة عن الهرج والمرج ويقال غلبة الرجال عبارة عن توحد الرجل في أمره وتغلب الرجال عليه قوله ' صفية بنت حيي ' بضم الحاء المهملة وفتح الياء آخر الحروف المخففة وتشديد الياء الأخيرة وأخطب بسكون الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة وشذ بالمهملتين وحديث صفية قد مر في كتاب البيوع في باب هل يسافر الرجل بالجارية قبل أن يستبرئها فإنه أخرجه هناك عن عبد الغفار بن داود عن يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك قال قدم النبي
خيبر الحديث إلى قوله حتى تركب وقد مر الكلام فيه هناك مستوفي قوله ' عروسا ' نعت يستوي فيه المذكر والمؤنث ما دام في تعريسهما أياما والأحسن أن يقال للرجل معرس لأنه قد أعرس أي اتخذ عرسا قوله ' سد الصهبا ' اسم موضع قوله ' حيسا ' بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة وهو طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن وقد يجعل عوض الأقط الدقيق أو الفتيت قوله ' في نطع ' بفتح النون وكسرها وسكون الطاء وفتحها أربع لغات قوله ' يحوي ' أي يجعل العباءة لها حوية يجعلها حول سنام البعير وفي العين الحوية مركب يهيأ للمرأة ويقال الحوية كساء محشو قوله ' هذا جبل يحبنا ' قد مر عن قريب في باب فضل الخدمة في الغزو وكذلك حديث لابتي المدينة قيل في صدر هذا الحديث إشكال قاله الداودي وغيره وهو أن الظاهر أن ابتداء خدمة أنس للنبي
من كان أول ما قدم المدينة وأنه صح عنه أنه قال خدمت النبي
تسع سنين وفي رواية عشر سنين وخيبر كانت سنة سبع فيلزم أن يكون إنما خدم أربع سنين وأجيب بأن معنى قوله لأبي طلحة التمس لي غلاما من غلمانك تعيين من خرج معه في تلك السفرة فعين له أبو طلحة أنسا فينحط الالتماس على الاستئذان في المسافرة به لا في أصل الخدمة فإنها
177

كانت متقدمة فيزول الإشكال بهذا الوجه فافهم * وفي الحديث جواز استخدام اليتيم بغير أجرة لأن أنسا كان يخدمه من غير اشتراط أجرة ولا نفقة فجائز على اليتيم أن تسلمه أمه أو وصيه وشبههما في الصناعة والمهنة وهو لازم له ومنعقد عليه وفي التوضيح وفيه جواز استخدام اليتامى بشبعهم وكسوتهم وجواز الاستخدام لهم بغير نفقة ولا كسوة إذا كان في خدمة عالم أو إمام في الدين لأنه لم يذكر في حديث أنس أن له أجر الخدمة وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند رسول الله
* وفيه جواز حمل الصبيان في الغزو كما بوب له والله أعلم * -
47
((باب من غزا بصبي للخدمة))
أي: هذا باب في بيان مشروعية خروج من غزا بصبي لأجل الخدمة بطريق التبعية، وإن كان لا يخاطب بالجهاد.
57
((باب ركوب البحر))
أي: هذا باب في بيان ركوب البحر، ولكنه أطلق وذكره في أبواب الجهاد، يشير إلى تخصيصه بالغزو للرجال والنساء، فإذا جاز ركوبه للجهاد فللحج أجوز، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الأظهر، وكره مالك للمرأة الحج في البحر لأنها لا تكاد تستتر من الرجال، ومنهم من منع ركوب البحر مطلقا، لأن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته، ولا حجة في ذلك، لأن السنة أباحته للرجال والنساء في الجهاد، وهو حديث الباب، وغيره. وأخرج أبو عبيدة في (غريب الحديث) من حديث عمران الجوني: عن زهير بن عبد الله يرفعه: من ركب البحر إذا ارتج فقد برئت منه الذمة، وفي رواية: يلومن
إلا نفسه، وزهير مختلف في صحبته. وقد أخرج البخاري حديثه في (تاريخه) فقال في روايته: عن زهير عن رجل من الصحابة، وإسناده حسن، وفيه تقييد المنع بالارتجاج، ومفهومه الجواز عند عدمه وهو المشهور من أقوال العلماء، فإذا غلبت السلامة فالبر والبحر سواء، قال الله تعالى: * (وهو الذي يسيركم في البر والبحر) * (يونس: 22). وقال أبو عبيدة: وأكبر ظني أنه قال: التج، باللام، فدل على أن ركوبه مباح في غير هذا الوقت في كل شيء، في التجارة وغيرها.
5982 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال حدثتني أم حرام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما في بيتها فاستيقظ وهو يضحك قالت يا رسول الله ما يضحكك قال عجبت من قوم من أمتي يركبون البحر كالملوك على الأسرة فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت معهم ثم نام فاستيقظ وهو يضحك فقال مثل ذلك مرتين أو ثلاثا قلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فيقول أنت من الأولين فتزوج بها عبادة بن الصامت فخرج بها إلى الغزو فلما رجعت قربت دابة لتركبها فوقعت فاندقت عنقها.
(انظر الحديثين 8872 و 9872 وطرافهما).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري القطان، ومحمد بن يحيى بن حبان، بفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة: ابن منقذ الأنصاري المدني. والحديث قد مضى عن قريب في: باب غزو المرأة في البحر، ومضى أيضا في: باب من يصرع في سبيل الله، وفي: باب الدعاء في الجهاد. قوله: (قال يوما) من القيلولة، وقد مر الكلام في هذه الأبواب مستقصى.
67
((باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب))
أي: هذا باب في بيان من استعان... إلى آخره، يعني: ببركتهم ودعائهم.
وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان قال قال لي قيصر سألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم
178

فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل
وجه ذكره عقيب الترجمة هو قوله: (فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل) وهو طرف من الحديث الطويل الذي في بدء الوحي في أول الكتاب، واسم أبي سفيان صخر بن حرب ضد الصلح ابن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي القرشي الأومي المكي، أسلم ليلة الفتح، نزل المدينة ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان، وهو والد معاوية. وقيصر لقب هرقل ملك إحدى وثلاثين سنة، ففي ملكه مات النبي صلى الله عليه وسلم.
6982 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا محمد بن طلحة عن طلحة عن مصعب بن سعد قال رأى سعد رضي الله تعالى عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم لا ينصرون إلا بالضعفاء والصالحين في كل شيء، عملا بإطلاق الكلام، ولكن أهم ذلك وأقواه أن يكون في الحرب يستعينون بدعائهم ويتبركون بهم.
ومحمد بن طلحة بن مصرف ابن عمرو اليامي. يروي عن أبيه طلحة بن مصرف، وهو يروي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص.
قوله: (رأى سعد) هو ابن أبي وقاص، وهو والد مصعب الراوي عنه، وصورة هذا مرسل لأن مصعبا لم يدرك زمان هذا القول. لكنه محمول على أنه سمع ذلك عن أبيه، وقد وقع التصريح بذلك في رواية النسائي مسعر: عن طلحة بن مصرف عن مصعب عن أبيه قوله: رأى، أي: ظن، وهي رواية النسائي. قوله: (أن له فضلا على من دونه) أي: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بسبب شجاعته ونحو ذلك من جهة الغنى وكثرة المال. قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تنصرون...؟) إلى آخره. وقال المهلب: إنما أراد صلى الله عليه وسلم بهذا القول لسعد الحض على التواضع، ونفي الكبر والزهو على قلوب المؤمنين، وأخبر، صلى الله عليه وسلم، أن بدعائهم ينصرون ويرزقون، لأن عبادتهم ودعاءهم أشد إخلاصا وأكثر خشوعا لخلو قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وزينتها، وصفاء ضمائرهم عما يقطعهم عن الله تعالى: جعلوا همهم واحدا. فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم. وفي رواية الإسماعيلي: إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائهم بدعواتهم وصلاتهم وإخلاصهم، وروى عبد الرزاق عن مكحول: أن سعدا قال: يا رسول الله! أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه، أن يكون نصيبه كنصيب من غيره؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا ابن سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم.
7982 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن عمر و أنه سمع جابرا عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي زمان يغزو فئام من الناس فيقال فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيفتح عليه ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيفتح ثم يأتي زمان فيقال فيكم من صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقال نعم فيفتح.
مطابقته للترجمة من حيث إن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن صحب أصحاب النبي، ومن صحب صاحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم ثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، حصلت بهم النصرة لكونهم ضعفاء فيما يتعلق بأمر الدنيا، أقوياء فيما يتعلق بأمر الآخرة.
وسفيان بن عيينة، وعمرو بن دينار، وجابر بن عبد الله الأنصاري والصحابي، وأبو سعيد الخدري اسمه: سعد بن مالك الأنصاري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن قتيبة، وفي فضائل الصحابة عن علي ابن عبد الله. وأخرجه مسلم في الفضائل عن زهير بن حرب وأحمد بن عبدة
، كلاهما عن سفيان به، وعن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه.
قوله: (فئام)، بكسر الفاء وفتح الهمزة، ويقال: فيام، بياء آخر الحروف مخففة، وفيه لغة أخرى وهي: فتح الفاء، ذكره
179

ابن عديس. وفي (التهذيب): العامة تقول: فيام، وهي الجماعة من الناس، قال صاحب (العين): ولا واحد له من لفظه، قوله: (فيكم من صحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم) وفي لفظ: هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدل: من صحب، وهو رد لقول جماعة من المتصوفة القائلين: إن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يره أحد في صورته، ذكره السمعاني، وقال ابن بطال: يشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
وفيه: معجزة لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وفضيلة لأصحابه وتابعيهم.
77
((باب لا يقول فلان شهيد))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يقال فلان شهيد، يعني: على سبيل القطع، إلا فيما ورد به الوحي.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بمن يجاهد في سبيل الله أعلم بمن يكلم في سبيله
هذا التعليق طرف من حديث مضى في أوائل الجهاد في: باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله، من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. قوله: (بمن يكلم)، على صيغة المجهول أي: بمن يجرح.
8982 حدثنا قتيبة قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمان عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فقال ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجز فلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أنك رسول الله قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم عند ذلك إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن الصحابة لما شهدوا برجحان هذا الرجل في أمر الجهاد كانوا يقولون: إنه شهيد لو قتل، ثم لما ظهر منه أنه لم يقاتل لله وأنه قتل نفسه، علم أنه لا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد قطعا، لاحتمال أن يكون مثل هذا، وإن كان يعطي له حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة.
و يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد، وقد مضى عن قريب، وأبو حازم، بالحاء المهملة والزاي: سلمة بن دينار الأعرج.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي. وأخرجه مسلم في الإيمان وفي القدر جميعا عن قتيبة.
قوله: (التقى هو والمشركون)، وكان ذلك في غزوة خيبر، وقد أعاد هذا الحديث بعين هؤلاء
180

الرجال وعين هذا المتن في: باب غزوة خيبر، وقال ابن الجوزي: كان في يوم أحد قوله: (وفي أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم رجل)، واسمه قزمان وهو معدود في المنافقين، وكان تخلف يوم أحد فعيره النساء وقلن له: ما أنت إلا امرأة، فخرج فكان أول من رمى بسهم ثم كسر جفن سيفه. ونادى: يا آل الأوس قاتلوا على الأحساب، فلما خرج مر به قتادة بن النعمان فقال له: هنيئا لك الشهادة، فقال: إني والله ما قاتلت على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ، ثم قتل نفسه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. قوله: (لا يدع لهم شاذة)، بشين وذال معجمتين، والفاذة، بالفاء وتشديد الذال المعجمة، قال الخطابي: الشاذة هي التي كانت في القوم ثم شذت منهم، والفاذة من لم يختلط معهم أصلا، فوصفه بأنه لا يبقي شيئا إلا أتى عليه، وقال الداودي: الشاذة والفاذة ما صغر وكبر ويركب كل صعب وذلول، ويقال: أنث الكلمتين على وجه المبالغة، كما قالوا: علامة ونسابة، وقيل: أنث الشاذة لأنها بمعنى النسمة. قوله: (ما أجرأ)، بجيم وزاي وهمزة، يعني: ما أغنى ولا كفى. وقال القرطبي: كذا صحت فيه روايتان رباعيا. وفي (الصحاح) أجزأني الشيء: كفاني، وجزا عني هذا الأمر، أي: قضى. قوله: (وذبابه) ذباب السيف طرفه الذي يضرب به، وقال ابن فارس: ذباب السيف حده. قوله: (بين ثدييه)، قال ابن فارس: الثدي للمرأة والجمع الثدي يذكر ويؤنث، وتندوة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم أوله، فإذا فتح لم يهمز، ويقال: هو طرف الثدي. قوله: (ثم تحامل)، أي: مال، يقال: تحاملت على الشيء إذا تكلفت الشيء على مشقته. قوله: (فيما يبدو) أي: فيما يظهر. قال الكرماني: فإن قلت: القتل هو معصية والعبد لا يكفر بالمعصية فهو من أهل الجنة لأنه مؤمن؟ قلت: لعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علم بالوحي أنه ليس مؤمنا، أو أنه سيرتد حيث يستحل قتل نفسه، أو المراد من كونه من أهل النار: أنه من العصاة الذين يدخلون النار ثم يخرجون منها. انتهى. قلت: لو اطلع الكرماني على أنه كان معدودا في المنافقين، أو على قوله: قاتلت على دين، لما تكلف بهذه الترديدات.
وفيه: صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به الشارع، وهو من علامات النبوة. وفيه: زيادة تطمين في قلوب المؤمنين، ألا ترى أن الرجل حين رأى أنه قتل نفسه، قال: حين أخبر به الرسول، صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك لرسول الله. وفيه: أن الاعتبار بالخواتيم وبالنيات.
وفيه: أن الله يؤيد دينه بالرجل الفاجر.
87
((باب التحريض على الرمي))
أي: هذا باب في بيان التحريض أي: الحث على الرمي بالسهام.
وقول الله تعالى * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * (الأنفال: 06).
(وقول الله)، بالجر عطفا على قوله: التحريض المجرور بالإضافة، وقد مر الكلام في هذه الآية في كتاب الجهاد في: باب من احتبس فرسا في سبيل الله، والمراد بالقوة الرمي. وقال القرطبي: إنما فسر القوة بالرمي وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب، لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مؤنة، لأنه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه.
9982 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد قال سمعت سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا مع بني فلان قال فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالكم لا ترمون قالوا كيف نرمي وأنت معهم قال النبي صلى الله عليه وسلم ارموا فأنا معكم كلكم.
181

مطابقته للترجمة في قوله: (ارموا بني إسماعيل) وفي قوله: (ارموا) في موضعين أيضا. وفيه تحريض على الرمي أيضا.
وحاتم بن إسماعيل أبو إسماعيل الكوفي؛ سكن المدينة، ويزيد من الزيادة ابن أبي عبيد مصغر عبد مولى سلمة بن الأكوع، والأكوع اسمه: سنان بن عبد الله الأسلمي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن قتيبة وفي مناقب قريش عن مسدد.
قوله: (من أسلم) أي: من بني أسلم، القبيلة المشهورة، وهي بلفظ: أفعل التفضيل من السلامة. قوله: (ينتضلون) بالضاد المعجمة أي يترامون، يقال: انتصل القوم إذا رموا للسبق والنضال. قوله: (ارموا بني إسماعيل) أي: يا بني إسماعيل، وحرف النداء محذوف، وفي كتاب ابن مطير من حديث أبي العالية عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنفر يرمون، فقال: (رميا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا). وفي (صحيح ابن حبان): عن أبي هريرة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم يرمون، فقال: إرموا بني إسماعيل فأن أباكم كان راميا، إرموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم قسيهم، قالوا: من كنت معه غلب، قال: إرموا وأنا معكم كلكم. انتهى. واسم ابن الأدرع: محجن، قاله ابن عبد البر، وحكى ابن منده: أن اسمه سلمة، قال: والأدرع لقب، واسمه ذكوان، والله أعلم. قوله: (فإن أباكم كان راميا)، وذكر ابن سعد من طريق ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم: أخبرني بكر بن سوادة سمع علي بن رباح، يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما الصلاة والسلام، وفي كتاب الزبير: حدثني إبراهيم الحزامي حدثني عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن صالح الحميري عن ثور عن مكحول قال صلى الله عليه وسلم: العرب كلها بنو إسماعيل إلا أربع قبائل: السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف، ورواه صاعد في كتاب (الفصوص) تأليفه، من حديث عبد العزيز ابن عمران عن معاوية: أخبرني مكحول عن مالك بن يخامر وله صحبة، فذكره. قوله: (وأنا مع بني فلان) قد مر في حديث أبي هريرة: وأنا مع ابن الأدرع، ووقع في رواية الطبراني: وأنا مع محجن بن الأدرع. قوله: (قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟) من القائلين هذا نضلة الأسلمي، ذكره ابن إسحاق في المغازي عن سفيان بن فروة الأسلمي عن أشياخ من قومه من الصحابة، قال: بينا محجن بن الأدرع يناضل رجلا من أسلم يقال له: نضلة... فذكر الحديث. وفيه، فقال نضلة، وألقى قوسه من يده: والله لا أرمي معه وأنت معه. قوله: (وأنا معكم كلكم) بكسر اللام، وسئل: كيف كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم مع الفريقين وأحدهما غالب والآخر مغلوب؟ وأجيب بأن المراد منه معية القصد إلى الخير وإصلاح النية والتدرب فيه للقتال.
وفي الحديث دلالة على رجحان قول من قال من أهل النسب: إن اليمن من ولد إسماعيل وأسلم من قحطان. وفيه: إطلاق الأب على الجد وإن علا. وفيه: أن السلطان يأمر رجاله بتعلم الفروسية ويحض عليها خصوصا الرمي بالسهام.
وقد وردت فيه أحاديث تدل على فضله والتحريض عليه. فمنها ما رواه الترمذي عن أبي نجيح، يعني عمرو بن عنبسة يرفعه: من رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر، وقال: حسن صحيح. ومنها: ما رواه النسائي عن كعب بن مرة: من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ العدو، أو لم يبلغ، كان له كعتق رقبة. ومنها: ما رواه ابن حبان عن كعب بن مرة: هذا، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: من بلغ العدو بسهم رفع الله له درجة، فقال له عبد الرحمن بن النحام، وما الدرجة يا رسول الله؟ قال: أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام. ومنها: ما ذكره في (الخلعيات) من حديث الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس: يدخل الله بالسهم الجنة ثلاثة: الرامي به وصانعه والمحتسب به. وفي لفظ: من اتخذ قوسا عربية وجفيره يعني: كنانته نفى الله عنه الفقر، وفي لفظ: أربعين سنة. قلت: ذكر الخطيب أن الخسن هذا هو ابن أبي الحسناء. ومنها: ما رواه أبو داود من حديث أبي راشد الحبراني عن علي، رضي الله تعالى عنه، رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم رجلا يرمي بقوس فارسية، فقال: إرم بها، ثم نظر إلى قوس عربية، فقال: عليكم بهذه وأمثالها فإن بهذه يمكن الله لكم في البلاد ويزيدكم في
النصر، وذكر البيهقي عن أبي عبد الرحمن بن عائشة، أنها قالت: قال قال أهل العلم، إنما نهى عن القوس الفارسية لأنها إذا انقطع وترها لم ينتفع بها صاحبها، والعربية إذا انقطع وترها كانت له عصا ينتفع بها.
182

0092 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد الرحمان بن الغسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا إذا أكتبوكم فعليكم بالنبل.
مطابقته للترجمة في قوله: (فعليكم بالنبل)، فإنه تحريض على الرمي بالسهام، وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وعبد الرحمن ابن الغسيل هو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب، وحنظلة هو غسيل الملائكة، مر في الجمعة في: باب من قال أما بعد، وحمزة، بالحاء المهملة وبالزاي: ابن أبي أسيد، بضم الهمزة وفتح السين وإسكان الياء آخر الحروف، وأبو أسيد اسمه مالك الساعدي الخزرجي مر في: باب من شكا إمامه.
قوله: (حين صففنا لقريش) قال الخطابي: وفي بعض النسخ: حين أففنا، مكان: صففنا، فإن كان محفوظا فمعناه القرب منهم والتدلي عليهم. كأن مكانهم الذي كانوا فيه أهبط من مصاف هؤلاء، ومنه قولهم: أسف الطائر في طيرانه إذا انحط إلى أن يقارب وجه الأرض، ثم يطير صاعدا. قوله: (إذا اكثبو)، بالثاء المثلثة والباء الموحدة، يقال: أكثبك الصيد إذا أمكنك أو قرب منك، والمعنى هنا: إذا دنوا منكم وقاربوكم، وفي (الغريبين): إذا كثبوكم من الكثب بفتحتين وهو القرب، وقد استشكل بأن الذي يليق بالدنو المطاعنة بالرمح والمضاربة بالسيف، وأما الذي يليق برمي النبل فالبعد، والجواب أنه لا إشكال فيه، والمعنى هو الذي مر ذكره، لأنهم إذا لم يقربوا ورموهم على بعد قد لا تصل إليهم وتذهب نبالهم ضياعا، ويؤيد هذا ما رواه أبو داود من حديث حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين اصطففنا يوم بدر: إذا غشوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم، وفي رواية له: إذا أكثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وقال الداودي: معنى أكثبوكم: كاثروكم، ورد عليه هذا التفسير بأنه لا يعرف. قوله: (فعليكم بالنبل)، أي: لازموها، والنبل جمع نبلة ويجمع على نبال أيضا، وهي: السهام العربية اللطاف.
97
((باب اللهو بالحراب ونحوها))
أي: هذا باب في بيان مشروعية اللهو بالحراب، بكسر الحاء: جمع الحربة. قوله: ونحوها، أي: نحو الحراب من آلات الحرب كالسيف والقوس والنبل.
1092 حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال بينا قال بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وسلم بحرابهم دخل عمر فأهوى إلى الحصى فحصبهم بها فقال دعهم يا عمر. وزاد علي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر في المسجد.
مطابقته للترجمة ظاهرة. فإن قلت: ليس في الحديث ذكر الحراب؟ قلت: ورد ذكره في بعض طرقه في حديث عائشة، وقد مر في كتاب الصلاة في: باب أصحاب الحراب في المسجد.
وإبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي، يعرف بالصغير، وهشام بن يوسف، ومعمر بن راشد، والزهري محمد بن مسلم، وابن المسيب سعيد.
والحديث أخرجه مسلم في العيد عن محمد بن رافع وعبد بن حميد.
قوله: (فأهوى)، أي: قصد، والحصى: جمع حصاة. قوله: (فحصبهم بها) أي: رماهم بالحصى. قوله: (دعهم أي: اتركهم. قوله: (وزاد علي)، أي: ابن المديني، والزيادة هي لفظة: في المسجد، وفي رواية الكشميهني: وزادنا علي، وفي (التوضيح): واللعب بالحراب سنة ليكون ذلك عدة للقاء العدو، وليتدرب الناس فيه. ولم يعلم عمر، رضي الله تعالى عنه، معنى ذلك حين حصبهم حتى قال له صلى الله عليه وسلم: دعهم.
وفيه: أن من تأول فأخط لا لوم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يوبخ عمر إذ كان متأولا، وقال ابن التين: حصب عمر الحبشة يحتمل أن يكون ظن أنه لم ير رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولم يعلم أنه رآهم أو يكون
183

ظن أنه استحيى منهم، وهذا أولى لقوله: يلعبون عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفيه: جواز مثل هذا اللعب في المسجد إذا كان فيما يشمل الناس لعبه.
08
((باب المجن ومن يتترس بترس صاحبه))
أي: هذا باب في ذكر المجن، وهو بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون، وهو الدرقة. وقال ابن الأثير: هو الترس لأنه يواري حامله أي يستره، والميم زائدة. قوله: (ومن يتترس) أي: وفي ذكر من يتترس أي: يستتر بترس صاحبه
2092 حدثنا أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا الأوزاعي عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان أبو طلحة يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد وكان أبو طلحة حسن الرمي فكان إذا رمى تشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نبله.
مطابقته للترجمة ظاهرة في المجن والتستر بترس صاحبه.
وأحمد بن محمد أبو حسن الخزاعي المروزي، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي، والأوزاعي: هو عبد الرحمن وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة واسمه: زيد بن سهل الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك، وسيأتي بأتم من هذا في غزوة أحد.
قوله: (يتترس مع النبي صلى الله عليه وسلم بترس واحد) لأن الرامي لا يمسك الترس لأنه يرمي بيديه جميعا فيستره رسول الله، صلى الله عليه وسلم لئلا يرمي، وكان حسن الرمي، وانكسر في يده قوسان أو ثلاثة، وفي رواية أنه كان يقول لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تنصرف فيصيبك العدو ونحري دون نحرك. وفي حديث سهل: لما أصيب سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم يوم أحد بما ذكر من كسر البيضة والرباعية، وهي السن التي بين الثنية والناب وأدمى وجهه عتبة بن أبي وقاص أخو سد، ورماه بان قميئة، وقال: خذنا وأنا ابن قميئة، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أقماك الله في النار). فدخل بعد ذلك في صبرة غنم فنطحه تيس منها وراءه فلم يوجد له مكان، وأراد أبي بن خلف أن يرميه فأراد أبو طلحة أن يحول بينه وبينه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كما أنت، ورمى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأصابه تحت سابغة الدرع في نحره فمات من يومه. قوله: (تشرف)، يقال تشرف الرجل إذا تطلع على شيء من فوق، ويروى (يشرف)، بضم الياء من الإشراف.
3092 حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمان عن أبي حازم عن سهل قال لما كسرت بيضة النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وأدمي وجهه وكسرت رباعيته وكان علي يختلف بالماء في المجن وكانت فاطمة تغسله فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرحه فرقأ الدم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (في المجن). ويعقوب وأبو حازم سلمة، وسهل بن سعد قد مضوا عن قريب.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطب عن قتيبة. وأخرجه مسلم في المغازي عن قتيبة، وقد مضى الكلام الآن في قوله: (لما كسرت بيضة النبي صلى الله عليه وسلم) إلى قوله: (وكان علي) والبيضة، بفتح الباء: الخودة.
قوله: (وكان علي) رضي الله تعالى عنه (يختلف بالماء) مرة بعد أخرى. قوله: (كثرة)، نصب على التمييز. قوله: (عمدت)، أي: قصدت. قوله: (فرقأ الدم)، بفتح الراء وبالهمز، أي: فسكن عن الجري. وقال صاحب (الأفعال): يقال: رقأ الدم والدمع إذا سكن بعد جريه.
وفيه: امتحان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وإبلاؤهم ليعظم بذلك أجرهم ويكون أسوة بمن ناله جرح وألم من أصحابه فلا يجدون في أنفسهم مما نالهم غضاضة، ولا يجد الشيطان السبيل إليهم بأن يقول لهم: تقتلون أنفسكم وتحملون الآلام في صون هذا، وإذا أصابه ما أصابهم فقدت هذه المكيدة من اللعين وتأسى الناس به وجدوا في مساواتهم له في جميع أحوالهم. وفيه: خدمة
184

الإمام وبذل السلاح. وفيه: دليل على أن ترسهم كان مقعرا ولم يكن منبسطا، فلذلك كان يمكن حمل الماء فيه. وفيه: أن النساء ألطف بمعالجة الرجال والجرحى.
4092 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمر و عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله تعالى عنه قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكان ينفق على أهله نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم يجعل ما بقي...) إلى آخره، لأن المجن من جملة آلات السلاح، وعلي بن عبد الله هو المسندي، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، والزهري محمد بن مسلم، ومالك بن أوس بن الحدثان، بالحاء والدال المهملتين وبالثاء المثلثة كلها بالفتح، مر في الزكاة. قيل: إن له صحبة.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن قتيبة ومحمد بن عباد وإسحاق بن إبراهيم وأبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه أبو داود في الجراح عن عثمان بن أبي شيبة وأحمد بن عبدة الضبي. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي في عشرة النساء عن سعيد بن عبد الرحمن وعن زياد بن أيوب، وفيه، وفيه في قسم الفيء عن عبيد الله بن سعيد وفي التفسير عن عبيد الله بن سعيد أيضا ويحيى بن موسى وهارون ابن عبد الله.
قوله: (بني النضير)، بفتح النون وكسر الضاد المعجمة: بنو النضير وبنو قريظة بطنان من اليهود من بني إسرائيل. قوله: (مما أفاء الله) من الفيء، وهو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. قوله: (مما لم يوجف) من الإيجاف، وهو الإسراع في السير، ويقال: وجف البعير يجف وجفا ووجيفا، وهو ضرب من سيره، وأوجفه صاحبه إذا سار به ذلك السير، وقال ابن فارس: أوجف أعنق في السير، والمعنى: لم يعملوا فيه سعيا لا بالخيل ولا بالركاب وهي الإبل، وكانت غزوة بني النضير في سنة أربع، وقا الزهري في سنة ثلاث. قوله: (فكانت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم خاصة)، أي: فكانت أموال بني النضير لرسول الله، صلى الله عليه وسلم على الخصوص لا يشاركه فيها أحد، وعن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فدخلت عليه فقال: إنه قد حضر أهل أبيان من قومك، وإنا قد أمرنا لهم يرضح فاقسمه بينهم. فقلت: يا أمير المؤمنين: مر بذلك غيري، قال إقبضه أيها المرء، فبينا أنا كذلك، إذ جاء برقاء مولاه فقال: عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وسعد يستأذنون، فقال: إيذن لهم، ثم مكث ساعة ثم جاء فقال: هذا علي والعباس يستأذنان، فقال: إيذن لهما، فلما دخل العباس، قال: إقض بيني وبين هذا الغادر الفاجر الخائن، وهما حينئذ يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير، فقال القوم: إقسم بينهما يا أمير المؤمين، فأرح كل واحد منهما من صاحبه فقد طالت خصومتهما، فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: قد قال ذلك، ثم قال لهما: أتعلمان أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالا: نعم، قال: فسأخبركم بهذا الفيء: أن الله تعالى خص نبيه بشيء لم يعطه غيره فقال: و * (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) * (الحشر
: 6). وكانت هذه لرسول الله، صلى الله عليه وسلم خاصة، فوالله ما اختارها دونكم ولا استأثرها دونكم ولقد قسمها عليكم حتى بقي منها هذا المال، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في مال الله، قوله: (والكراع)، وهو اسم للخيل. قوله: (عدة)، وهي الاستعداد، وما أعددته لحوادث الدهر من السلاح ونحوه.
5092 حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم قال حدثني عبد الله بن شداد قال سمعت عليا رضي الله تعالى عنه يقول ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفدي رجلا بعد سعد قال سمعته يقول ارم فداك أبي وأمي.
.
185

قيل: دخول هذا الحديث هنا لا وجه له، لأنه لا يطابق واحدا من جزئي الترجمة. وأجيب: بأنه أثبت أن شبويه قبل هذا الحديث لفظ: باب بغير ترجمة فعلى هذا يكون له وجه من حيث أن الرامي لا يستغني عن شيء بقي به نفسه من سهام من يقصده. قلت: هذا لا يخلو عن تعسف، والأوجه أن يقال: وجه المناسبة أن فيه ذكر الرمي، وكذلك الحديث المذكور في أول الباب فيه ذكر الرمي، فهذا القدر كاف في ذلك.
وقبيصة بفتح القاف هو ابن عقبة، قد تكرر ذكره، وزعم أبو نعيم في (مستخرجه) أن لفظ قبيصة هنا تصحيف من الكاتب، وأن الصواب: حدثنا قتيبة، وسفيان هو ابن عيينة. قلت: كأنه علل بأن المراد من سفيان هنا هو الثوري، وأن قتيبة لم يسمع من الثوري، ولكن لا مانع أن يكون لكل واحد من السفيانين هذا الحديث.
وقد أخرج البخاري في الأدب هذا الحديث من طريق يحيى القطان عن سفيان الثوري، وأخرجه في المغازي أيضا عن أبي نعيم وعن بسرة ابن صفوان، وأخرجه مسلم في الفضائل عن منصور بن أبي مزاحم وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن أبي كريب وإسحاق بن إبراهيم وعن ابن أبي عمر عن سفيان بن عيينة وعن ابن المثنى وابن بشار، وأخرجه الترمذي في المناقب عن محمود بن غيلان. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن بندار عن يحيى عن سفيان وعن محمد بن المثنى عن يحيى وعن إسحاق بن إبراهيم به مختصرا. وأخرجه ابن ماجة في السنة عن بندار عن غندر به. قوله: (يفدى)، مضارع فداه، إذا قال له: جعلت فداك، وكذا فداه بنفسه، وقال الجوهري: الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور يقال: قم فدى لك أبي. قوله: (بعد سعد) أي: سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرة، وقال الخطابي: التفدية من رسول الله، صلى الله عليه وسلم دعاء، وأدعيته خليق أن تكون مستجابة، وادعى المهلب أن هذا مما خص به سعد، وليس كذلك، ففي (الصحيحين)، أنه فدى الزبير بذلك، ولعل عليا، رضي الله تعالى عنه لم يسمعه، وقال النووي: وقد جمعهما لغيرهما، أيضا، والتفدية بذلك جائزة عند الجمهور، وكرهه عمر بن الخطاب والحسن البصري، وكرهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقا، لأنه ليس فيه حقيقة فداء، وإنما هو بر ولطف وإعلام بمحبته له، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقا. فإن قلت: روى أبو سلمة عن ابن المبارك عن الحسن: دخل الزبير، رضي الله تعالى عنه، على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو شاك، فقال: كيف تجدك جعلني الله فداك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما تركت أعرابيتك بعد، وقال الحسن: لا ينبغي أن يفدي أحد أحدا، ورواه المنكدر عن أبيه محمد بن المنكدر، قال: دخل الزبير... فذكره. قلت: هذا غير صحيح لأن الأول مرسل والثاني ضعيف، وقال الطبري، هذه أخبار واهية، لأن مراسيل الحسن أكثرها صحف غير سماع، وإذا وصل الأخبار فأكثر روايته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد بن المنكدر عند أهل النقل لا يعتمد على نقله، وعلى تقدير الصحة ليس فيه النهي عن ذلك، والمعروف من قول القائل إذا قال: فلان لم يترك أعرابيته، أنه نسبه إلى الجفاء لا إلى فعل ما لا يجوز، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطف وأرق منه دعاء. قوله: (فداك أبي وأمي) أي: مفدى لك أبي وأمي: فقوله: أبي، مبتدأ، وأمي عطف عليه، و: فداك، خبره مقدما، وقد يوهم هذا القول أن فيه إزراء بحق الوالدين، وإنما جاز ذلك لأنهما ماتا كافرين، وسعد مسلم ينصر الدين ويقاتل الكفار، فتفديته بكل كافر غير محذور، قاله الخطابي. قلت: القول بأنهما ماتا كافرين غير جيد، لما قيل: إن الله أحياهما لأجله، صلى الله عليه وسلم، بل الوجه في هذا أن هذا القول بالتفدية لأجل إظهار البر والمحبة، كما ذكرناه، وللأبوة حرمة كيف كانت، وعن مالك: من آذى مسلما في أبويه الكافرين عوقب وأدب لحرمتهما عليه.
18
((باب الدرق))
أي: هذا باب في بيان مشروعية اتخاذ الدرق، وهو جمع: درقه، وهي الحجفة، ويقال: هو الترس الذي يتخذ من الجلود.
6092 حدثنا إسماعيل قال حدثني ابن وهب قال عمر و حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها دخل علي رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث
186

فاضطجع على الفراش وحول جهه فدخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجنا. قالت وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال تشتهين تنظرين فقالت نعم فأقامني وراءه على خده ويقول دونكم بني أرفدة حتى ملمت قال حسبك قلت نعم قال فاذهبي.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (بالدرق). وإسماعيل هو ابن أبي أويس، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وعمرو هو ابن الحارث المصري، وأبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني، يتيم عروة، وكان أبوه أوصى به إلى عروة بن الزبير، فقيل له: يتيم عروة، لذلك. وهذا الحديث بعينه مضى في أبواب
العيدين في: باب الحراب والدرق يوم العيد، ومضى الكلام فيه هناك، و: الغناء، بالكسر والمد، و: بعاث، بضم الباء الموحدة وتخفيف العين المهملة وبالثاء المثلثة غير منصرف: يوم حرب كان بين الأوس والخزرج بالمدينة، وكان كل واحد من الفريقين ينشد الشعر ويذكر مفاخر نفسه، و: المزمار، بالهاء والمشهور بدونه. قوله: (فلما عمل) أي: اشتغل بعمل قوله: تنظرين، ويروى: تنظري، وذلك جائز. قوله: (دونكم) كلمة الإغراء. قوله: (بني أرفدة) أي: يا بني أرفدة، وأرفدة، بفتح الفاء وكسرها لقب جنس من الحبش يرقصون، وقيل: أرفدة اسم أبيهم الأقدم، وقال ابن بطال: نسبة إلى جدهم وكان يسمى أرفدة.
قال أبو عبد الله قال أحمد عن ابن وهب فلما غفل
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، وأحمد هو ابن أبي صالح المصري، يعني روى بلفظ غفل من الغفلة.
28
((باب الحمائل وتعليق السيف بالعنق))
أي: هذا باب في بيان حمائل السيف، وهي جمع حمالة بالكسر، وهي علاقة مثل السيف المحمل، هذا قول الخليل، وقال الأصمعي: حمائل من السيف لا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها: محمل، وقال بعضهم: الحمائل جمع حميلة، قلت: هذا ليس بصحيح، والحميلة ما حمله السيل من الغثاء. وقوله: (تعليق السيف)، أي: وفي جواز تعليق السيف بالعنق.
8092 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد استبرأ الخير وهو على فرس لأبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول لم تراعوا لم تراعوا ثم قال وجدناه بحرا أو قال إنه لبحر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وفي عنقه السيف) فإن قلت: ليس فيه ذكر الحمائل. قلت: الحمائل من جملة السيف، وذكر السيف يدل عليه. والحديث مر عن قريب في: باب ركوب الفرس العري، وفي: باب الشجاعة في الحرب، وفي غيرهما ومر الكلام فيه.
قوله: (وقد استبرأ) أي: حقق الخبر قوله: لم تراعوا، وقع في رواية الحموي والكشميهني مرتين، ومعناه: لا تخافوا والعرب تتكلم بهذه الكلمة واضعة كلمة: لم، موضع كلمة: لا. قوله: (وحدناه بحرا) أي: وجدنا هذا الفرس واسع الجري كماء البحر كأنه يسبح في جريه كما يسبح ماء البحر إذا ركب بعض أمواجه بعضا. قوله: (أو قال)، شك من الراوي أي: لو قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لبحجر، وهذا أبلغ من الأول في وصفه بالجري القوي.
187

38
((باب ما جاء في حلية السيوف))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في حلية السيوف من الجواز وعدمه والحلية والحلي اسم لكل ما يتزين به من مصاغ الذهب والفضة، وجمع الحلية: حلى مثل لحية ولحى وجمع الحلى: حلي، بالضم والكسر، وتطلق الحلية على الصفة أيضا.
9092 حدثنا أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا الأوزاعي قال سمعت سليمان بن حبيب قال سمعت أبا أمامة يقول لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنما كانت حليتهم العلابي والآنك والحديد.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أحمد بن محمد بن موسى أبو العباس، يقال له مردويه المروزي. الثاني: عبد الله الله بن المبارك المروزي. الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع: سليمان بن حبيب المحاربي، قاضي دمشق في زمن عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه. الخامس: أبو أسامة، صدى، بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وتشديد الياء آخر الحروف: ابن عجلان الباهلي الصحابي.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن سليمان المذكور ليس له في البخاري إلا هذا الحديث الواحد.
والحديث أخرجه ابن ماجة في الجهاد عن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم.
ذكر معناه: قوله: (العلابي)، بفتح العين المهملة وتخفيف اللام وكسر الباء الموحدة، قال الأوزاعي: العلابي الجلود التي ليست بمدبوغة، وقيل: هو العصب يؤخذ رطبه فيشد به جفوف السيوف يلوى عليها فيجف، وكذلك يلوى رطبه على ما يتصدع من الرماح، وقال الخطابي: هي عصب العنق، وهو أمتن ما يكون من عصب البعير. ويقال: هو جمع علباء. وفي (المنتهى) لأبي المعاني: العلباء العصبة الصفراء في عنق البعير، وهما علباوان بينهما منبت العرق، وإن شئت قلت: علباءان لأنها همزة ملحقة، وإن شئت شبهتها بالتأنيث الذي في حمراء وبالأصلية في كساء، والجمع: العلابي، وقال بعضهم: وزعم الداودي أن العلابي ضرب من الرصاص فأخطأ، وكأنه لما رآه قرن بالأنك ظنه ضربا منه. انتهى. قلت: ما أخطأ إلا من خطأه، وقد ذكر في (المنتهى): أن العلابي أيضا جنس من الرصاص، وقال الجوهري: هو الرصاص أو جنس منه، وغاية ما في الباب أن القزاز لما ذكر قول من قال: العلابي ضرب من الرصاص، قال: هذا ليس بمعروف، وكونه غير
معروف عنده لا يستلزم خطأ من قال: إنه ضرب من الرصاص. قوله: (والأنك)، بالمد وضم النون بعدها كاف: وهو الرصاص، وهو واحد لا جمع له، وقيل: هو من شاذ كلام العرب أن يكون واحد زنته أفعل. وقال في (الواعي): هو الأسرب: يعني القصدير، وفي (المغيث): جعله بعضهم الخالص منه، وقيل: الآنك اسم جنس، والقطعة منه: آنكة، وقيل: يحتمل أن يكون الآنك فاعلا، وليس بأفعل، ويكون أيضا شاذا. وذكر كراع أنه الرصاص القلعي، وهو بفتح اللام منسوب إلى القلعة، اسم موضع بالبادية ينسب ذلك إليه، وينسب إليه السيوف أيضا، فيقال: سيوف قلعية، وكأنه معدن يوجد فيه الحديد والرصاص. وقالالمهلب: إن الحلية المباحة من الذهب والفضة في السيوف إنما كانت ليرهب بها على العدو فاستغنى الصحابة بشدتهم على العدو، وبقلتهم وقوتهم في إيمانهم في الإيقاع بهم والنكاية لهم.
48
((باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة))
أي: هذا باب في ذكر ما علق سيفه... إلى آخره، والقائلة: الظهيرة، وقد يكون بمعنى النوم في الظهيرة.
0192 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي وأبو سلمة بن عبد الرحمان أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أخبر أنه غزا مع
188

رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال أن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال من يمنعك مني فقلت الله ثلاثا ولم يعاقبه وجلس.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فنزل تحت سمرة وعلق بها سيفه) وفائدة هذه الترجمة بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن توكله بالله وصدق يقينه وإظهار معجزته وبيان عفوه وصفحه عمن يقصده بسوء.
وأبو اليمان: هو الحكم بن نافع، وشعيب ابن أبي حمزة، والزهري هو محمد بن مسلم، وسنان: بكسر السين المهملة وتخفيف النون: ابن سنان، واسمه: يزيد بن أبي أمية الدؤلي، بضم الدال وفتح الهمزة: نسبة إلى الدئل من كنانة، ويقال: الدؤلي، بضم الدال وسكون الواو، وهو في قبائل في ربيعة وفي الأزد وفي الرباب، وقال الأخفش، فيما حكاه أبو حاتم السختياني: جاء حرف واحد شاذ على وزن: فعل، وهو: الدئل، بضم الدال وكسر الهمزة، وهو دويبة صغيرة تشبه ابن عرس، وقال سيبويه: ليس في كلام العرب في الأسماء ولا في الصفات بنية على وزن: فعل، وإنما ذلك من بنية الفعل.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أبي اليمان أيضا، وعن موسى بن إسماعيل وعن إسماعيل بن أبي أويس. وأخرجه مسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم عن محمد بن جعفر الوركاني وعن أبي بكر محمد بن إسحاق وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. وأخرجه النسائي في السير عن محمد بن إسماعيل وعن عمرو بن منصور عن أبي اليمان، هذا في ترجمة سنان.
وفي ترجمة أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أخرجه البخاري أيضا في الجهاد وفي المغازي عن محمود عن عبد الرزاق. وأخرجه مسلم أيضا في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد بن حميد وعن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (غزا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم قبل نجد)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي: ناحية نجد، وهي ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب، فالطائف من نجد والمدينة من نجد وأرض اليمامة والبحرين إلى عمان العروض. وقال ابن دريد: نجد بلد للعرب، وعند الإسماعيلي: قبل أحد، وذكر ابن إسحاق أن ذلك كان في غزوته إلى غطفان لثنتي عشرة مضت من صفر، وقيل: في ربيع الأول سنة اثنتين، وهي غزوة ذي أمر، بفتح الهمزة والميم، وهو موضع من ديار غطفان، وسماها الواقدي: غزوة أنمار، ويقال: كان ذلك في غزوة ذات الرقاع. قوله: (فلما قفل)، أي: رجع. قوله: (القائلة)، مر تفسيرها عن قريب. قوله: (العضاه)، بكسر العين على وزن: شياه، قال ابن الأثير: العضاه شجر أم غيلان، وكل شجر عظيم له شوك، الواحدة عضة بالتاء وأصلها: عضهة، وقيل: واحدتها عضاهة. قوله: (تحت سمرة)، السمرة، بفتح السين المهملة وضم الميم: واحدة السمر، وهو من شجر الطلح، وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: كنا إذا نزلنا طلبنا النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الشجر، قال: فنزلنا تحت سمرة، فجاء رجل وأخذ سيفه، وقال: يا محمد من يعصمك مني؟ فأنزل الله عز وجل * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 76). قوله: (وإذا عنده أعرابي) واسمه: غورث، بفتح الغين المعجمة وسكون الواو وفتح الراء وبالثاء المثلثة: ابن الحارث، وسماه الخطيب: غورك، بالكاف موضع الثاء، وقال الخطابي: غويرث بالتصغير، وذكر عياض أنه مضبوط عند بعض رواة البخاري بعين مهملة، قال: وصوابه المعجمة، قال الجيلاني: هو فوعل من الغوث وهو الجوع، وقال ابن إسحاق: لما نزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم تحت شجرة نزع ثوبيه ونشرهما على الشجرة ليجفا من مطر أصابه، واضطجع تحتها، فقال الكفار لدعثور، وكان سيدهم وكان شجاعا: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه صارم حتى قام على رأسه فقال: من يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: فدفع جبريل، عليه الصلاة والسلام، في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم
189

وقال: من يمنعك أنت مني اليوم؟ قل: لا أحد، فقال: قم فاذهب لشأنك، فلما ولى قال: أنت خير مني، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا أحق بذلك منك، ثم أسلم بعد
. وفي لفظ، قال: وأنا أشهد أن لا إلاه إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام. وفي رواية البيهقي: فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ. قال: فتسلم؟ قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس. قوله: (اخترط)، أي: سل، وأصله من خرطت العود أخرطه وأخرطه خرطا، قوله: (صلتا) روي بالنصب وبالرفع. فوجه النصب أن يكون على الحال، أي: مصلتا ووجه الرفع على أنه خبر المبتدأ، وهو قوله: سيف، وفي يده، متعلق به، وفي (التوضيح): المشهور فتح لام: صلت، وذكر القعنبي أنها تكسر في لغة، وقال ابن عديس: ضربه بالسيف صلتا وصلتا بالفتح والضم، أي مجردا، يقال: سيف صلت ومنصلت وأصلت: متجرد ماض، قوله: (فقال: من يمنعك مني؟) استفهام يتضمن النفي، كأنه قال: لا مانع لك مني. قوله: (الله)، أي: يمنعك الله، قاله ثلاث مرات، فلم يبال، صلى الله عليه وسلم، بقوله ولا عرج عليه ثقة بالله وتوكلا عليه، فلما شاهد هذا الرجل تلك القوة التي فارق بها عادة الناس في مثل تلك الحالة، تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه بضرر، وهذا من أعظم الخوارق للعادة، فإنه عدو متمكن بيده سيف مشهور وموت حاضر، ولا تغير له، صلى الله عليه وسلم، بحال ولا حصل له روع ولا جزع، وهذا من أعظم الكرامات، ومع اقتران التحدي يكون من أوضح المعجزات. قوله: (ولم يعاقبه) أي: ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المذكور. قوله: (وجلس)، حال من المفعول.
وفي الحديث تفرق الناس عن الإمام في القائلة وطلبهم الظل والراحة، ولكن ليس ذلك في غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالعصمة. وفيه: أن حراسة الإمام في القائلة وفي الليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ. وفيه: جواز نوم المسافر إذا أمن، وأن المجاهد أيضا إذا أمن نام ووضع سلاحه، وإن خاف استوفز. وفيه: دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصا. وفيه: ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده، إن شاء، وإن أحب العفو عفا. وفيه: صبر سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصفحه عن الجهال.
58
((باب لبس البيضة))
أي: هذا باب في بيان مشروعية لبس البيضة، قال بعضهم: البيضة ما يلبس في الرأس من آلات السلاح، قلت: من آلات السلاح: السيف والرمح وما يلبس في الرأس، والبيضة، بفتح الباء الموحدة: هي الخودة، وهي معروفة.
1192 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه فكانت فاطمة عليها السلام تغسل الدم وعلي يمسك فلما رأت أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت حصيرا فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألزقته فاستمسك الدم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهشمت البيضة على رأسه) وأبو حازم سلمة بن دينار، وسهل بن سعد، وقد مر الحديث عن قريب في: باب المجن، ون يتترس بترس صاحبه، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (وهشمت)، من الهشم، وهو كسر الشيء اليابس، وقد أمر الله تعالى باتخاذ آلات الحرب في قوله: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...) * (الأنفال: 06). الآية، فأخبر أن السلاح هنا إرهاب للعدو.
وفيه: أيضا تقوية لقلوب المؤمنين من أجل أن الله تعالى جبل القلوب على الضعف، وإن كان السلاح لا يمنع المنية لكن فيه تقوية للقلوب، وأنس لمتخذيه، وأما لبس النبي صلى الله عليه وسلم السلاح، وإن كان محفوظا من عند الله، فلإرشاد أمته لتتقوى قلوبهم عند الحرب وغير ذلك.
190

68
((باب من لم ير كسر السلاح عند الموت))
أي: هذا باب في ذكر من لم ير كسر السلاح عند موته، وأشار بهذه الترجمة إلى رد ما كان عليه أهل الجاهلية من كسر السلاح وعقر الدواب إذا مات ملككم أو رئيس من أكابرهم، وربما يوصي أحدهم بذلك، فخالف الشارع فعلهم وترك سلاحه وبغلته وأرضا جعلها صدقة، قال الكرماني: فإن قلت: كسر السلاح إذا مات تضييع للمال، فما الحاجة إلى ذكره لأن حرمته ظاهرة؟ قلت: المراد من الكسر البيع والحديث يدل عليه حيث كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين فلم يبع سلاحه لأجل الدين انتهى قلت: ليس المراد من وضع الترجمة هذا الذي ذكره، وإنما المراد ما ذكرناه الآن، وقوله: وحرمته ظاهرة، أي: عند المسلمين، وأهل الجاهلية ما كانوا يرون ذلك، بل كانوا يوصون به، فوقعت هذه الترجمة ردا عليهم. وأما الجهال من المسلمين، وإن فعلوا ذلك، فليسوا بمعتقدين حله. فافهم.
2192 حدثنا عمرو بن عباس قال حدثنا عبد الرحمان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن الحارث قال ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إلا سلاحه وبغلة بيضاء وأرضا جعلها صدقة.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم خالف ما فعله أهل الجاهلية من كسر سلاحهم وعقر دوابهم وترك ما ذكر في الحديث غير معهود فيه
بشيء إلا التصدق بالأرض، وعمرو بن عباس أبو عثمان البصري من أفراد البخاري، و عبد الرحمن هو ابن مهدي بن حسان العنبري البصري، و سفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي، و عمرو بن الحارث بن المصطلق الخزاعي ختن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أخو جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر الحديث في كتاب الوصايا في: باب الوصايا، في أول الكتاب، وقد مر الكلام فيه هناك.
78
((باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر))
أي: هذا باب في ذكر تفرق الناس عن الإمام.
3192 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثنا سنان بن أبي سنان وأبو سلمة أن جابرا أخبره. ح وحدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال أخبرنا ابن شهاب عن سنان بن أبي سنان الدؤلي أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أخبره أنه غزا مع النبي لله فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه يستظلون بالشجر فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ثم نام فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي فقال من يمنعك قلت الله فشام السيف فها هوذا جالس ثم لم يعاقبه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث مضى قبل هذا الباب ببابين، فإنه أخرجه هناك: عن أبي اليمان الحكم بن نافع... إلى آخره، وأخرجه هنا من طريقين الأول: عن أبي اليمان، والثاني: عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي... إلى آخره. قوله: (فشام)، بالشين المعجمة أي: غمد، ويجيء بمعنى: سل، فهو من الأضداد.
88
((باب ما قيل في الرماح))
أي: هذا باب في بيان ما قيل في الرماح من فضله، وهو جمع: رمح.
191

ويذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري
هذا التعليق ذكره الإشبيلي في (الجمع بين الصحيحين) من أن الوليد ببن مسلم رواه عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر. ومنيب، بضم الميم وكسر النون وسكون الياء آخر الحروف ثم باء موحدة: الجرشي، بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة، ولا يعرف اسم لأبي منيب. وأخرجه أحمد في (مسنده) بأتم منه. قوله: (جعل رزقي) أي: من الغنيمة. قوله: (والصغار) بفتح الصاد والغين المعجمة: هو بذل الجزية.
وفيه: فضل الرمح والإشارة إلى حل الغنائم لهذه الأمة، وإلى أن رزق النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيها لا في غيرها من المكاسب.
4192 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا فأخذه ثم شد على الحمار فقتله فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعض فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك قال إنما هي طعمة أطعمكموها الله.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فسألهم رمحه) وأبو النضر بالنون والضاد المعجمة، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، والحديث مضى في كتاب الحج في: باب لا يعين المحرم الحلال، وعقيبه: باب لا يشير المحرم إلى الصيد، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى. قوله: (محرمين)، صفة لقوله: أصحاب. قوله: (وهو غير محرم) جملة حالية.
وعن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي قتادة في الحمار الوحشي مثل حديث أبي النضر قال هل معكم من لحمه شيء
أخرج البخاري هذا موصولا في كتاب الذبائح في: باب ما جاء في الصيد، وقال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي قتادة مثله، إلا أنه قال: هل معكم منه شيء، وفي رواة: هل معكم من لحمه شيء.
98 باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب
أي: هذا باب في بيان ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم من أي شيء كانت؟ وقال ابن الأثير: الدرع الزردية، ويجمع على أدراع قوله: والقميص، أي: وفي بيان حكم القميص في الحرب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أما خالد فقد احتبس أدراعه في سبيل الله
هذا قطعة من حديث أخرجه البخاري في كتاب الزكاة في: باب قول الله تعالى * (وفي الرقاب) * (البقرة: 771، والتوبة: 06). عن الأعرج عن عن أبي هريرة ومضى الكلام فيه هناك.
126 (حدثني محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال النبي
وهو في قبة اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله فقد
192

ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)
مطابقته للترجمة في قوله وهو في الدرع وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي وخالد هو الحذاء والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي وفي التفسير عن محمد بن عبد الله بن حوشب وفي التفسير أيضا عن إسحاق عن خالد وعن محمد بن عفان وأخرجه النسائي في التفسير عن بندار عن الثقفي به قوله ' وهو في قبة ' جملة حالية وفي المغرب القبة الخركاهة وكذا كل بناء مدور والجمع قباب وقبة وقال ابن الأثير القبة من الخيام بيت صغير وهو من بيوت العرب قوله ' أنشدك ' أي أطلبك يقال نشدتك الله أي سألتك بالله كأنك ذكرته قوله ' عهدك ' نحو قوله تعالى * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) * قوله ' ووعدك ' نحو قوله تعالى * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم) * ويروى أن رسول الله
نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة فاستقبل القبلة ومد يديه وقال ' اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ' فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبيه والتزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدة ربك فإنه سينجز لك ما وعدك قوله ' حسبك ' أي يكفيك ما قلت قوله ' ألححت ' أي داومت الدعاء يقال ألح السحاب بالمطر دام ويقال معناه بالغت في الدعاء وأطلت فيه وقال الخطابي قد يشكل معنى هذا الحديث على كثير من الناس وذلك إذا رأوا نبي الله
يناشد ربه في استنجاز الوعد وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يسكن منه فيتوهمون أن حال أبي بكر بالثقة بربه والطمأنينة إلى وعده أرفع من حاله وهذا لا يجوز قطعا فالمعنى في مناشدته
وإلحاحه في الدعاء الشفقة على قلوب أصحابه وتقويتهم إذ كان ذلك أول مشهد شهدوه في لقاء العدو وكانوا في قلة من العدد والعدد فابتهل في الدعاء وألح ليسكن ذلك ما في نفوسهم إذا كانوا يعلمون أن وسيلته مقبولة ودعوته مستجابة فلما قال له أبو بكر مقالته كف عن الدعاء إذ علم أنه استجيب له بما وجده أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة حتى قال له هذا القول ويدل على صحة ما تأولناه تمثله على أثر ذلك بقوله * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) * * وفيه تأنيس من استبطأ كريم ما وعده الله به من النصر والبشرى لهم بهزم حزب الشيطان وتذكيرهم بما نبههم به من كتابه عز وجل والمراد من الجمع جمع كفار مكة يوم بدر فأخبر الله تعالى أنهم سيهزمون ويولون الدبر أي الإدبار فوحدوا لمراد الجمع قوله ' بل الساعة موعدهم ' أي موعد عذابهم قوله ' والساعة ' أي عذاب يوم القيامة ' أدهى ' أشد وأفظع والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدى له قوله ' وأمر ' أي أعظم بلية وأشد مرارة من الهزيمة والقتل يوم بدر
(وقال وهيب حدثنا خالد يوم بدر)
وهيب هو ابن خالد بن عجلان أبو بكر البصري وخالد هو الحذاء يعني قال وهيب حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن الذي قاله كان يوم بدر وهذا التعليق وصله البخاري في تفسير سورة القمر فقال حدثني محمد حدثنا عفان بن مسلم عن وهيب حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله
قال وهو في قبة يوم بدر الحديث (فإن قلت) من المعلوم أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن شهد هذا ولا كان في حين من يدركه قلت رواه عمن شهد هذا وأسقط الواسطة على عادته في أكثر رواياته وقد رواه مسلم من حديث سماك بن الوليد عن ابن عباس عن عمر رضي الله تعالى عنهم بزيادة قوله * (إذ تستغيثون ربكم) * الآية وروى البخاري أيضا في سورة القمر وقال حدثني إسحاق أخبرنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي
قال وهو في قبة يوم بدر الحديث فهذا البخاري روى الحديث المذكور أولا عن محمد عن عفان وثانيا عن إسحاق عن خالد أما محمد فقد قال الجياني كذا في روايتنا عن أبي محمد الأصيلي غير منسوب وكذا في رواية أبي ذر وأبي نصر قال وسقط ذكره جملة من نسخة أبي السكن قال ولعله
193

الذهلي (قلت) هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس الذهلي أبو عبد الله النيسابوري الإمام روى عنه البخاري في مواضع يدلسه فتارة يقول حدثنا محمد ولم يزد عليه وتارة ينسبه إلى جده فيقول حدثنا محمد بن عبد الله وأما إسحاق فهو ابن شاهين نص عليه غير واحد وإن كان إسحاق روى أيضا عن خالد الطحان لكن البخاري ما روى عنه في صحيحه وفي رواية البخاري حدثنا خالد عن خالد فخالد الأول هو الطحان والثاني هو الحذاء
6192 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ودرعه) وسفيان هو ابن عيينة، والأعمش هو سليمان، وإبراهيم هو النخعي، والأسود هو ابن يزيد خال إبراهيم. والحديث قد مر في كتاب الرهن في: باب من رهن درعه.
وقال يعلى: حدثنا الأعمش درع من حديد
يعلى على وزن يرضى ابن عبيد بن أبي عبيد أبو يوسف الطنافسي الحنفي الأيادي الكوفي، توفي بالكوفة يوم الأحد لخمس من شوال سنة تسع ومائتين، روى الحديث المذكور عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، وقد مر هذا التعليق موصولا في: باب الرهن في السلم.
وقال معلى حدثنا عبد الواحد قال حدثنا الأعمش وقال رهنه درعا من حديد
هذا تعليق آخر وصله البخاري في الاستقراض في أول الباب وقال: حدثنا معلى بن أسد حدثنا عبد الواحد... الحديث إلى آخره.
7192 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل البخيل والمتصدق مثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما فكلما هم المتصدق بصدقته اتسعت عليه حتى تعفي أثره وكلما هم البخيل بالصدقة انقبضت كل حلقة إلى صاحبتها وتقلصت عليه وانضمت يداه إلى تراقيه فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (عليهما جبتان) فإن كان جبتان بالباء الموحدة تثنية: جبة، فهي تناسب القميص في الترجمة، وإن كان بالنون تثنية: جنة، فهي تناسب الدرع، و موسى بن إسماعيل المنقري، و وهيب بالتصغير ابن خالد، و ابن طاووس عبد الله يروي عن أبيه.
والحديث مر في كتاب الزكاة في: باب مثل المتصدق والبخيل، رواه البخاري من طريقين. الأول: عن موسى بن إسماعيل مختصرا. والثاني: عن أبي اليمان، بأتم منه، ومر الكلام فيه هناك.
قوله: (قد اضطرت إيديهما إلى تراقيهما)، أي: ألجئت أيديهما إلى تراقيهما، وهو جمع: ترقوة، وهي العظم الكبير الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين، ووزنها: فعلوة، بالفتح وإنما ذكر التراقي لأنها عند الصدر وهو مسلك القلب، وهو يأمر المرء وينهاه. قوله: (تعفي)، أي: تمحو، وعفت الريح المنزل أي: درسته. قوله: (وتقلصت)، أي: انزوت وانضمت. قوله: (فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول)، أي: فسمع أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: مجموع الحديث سمعه أبو هريرة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما وجه اختصاصه بالكلمة الأخيرة؟ وأجيب: بأن لفظ، يقول، يدل على الاستمرار والتكرار، فلعله، صلى الله عليه وسلم، كررها دون أخواتها.
194

09
((باب الجبة في السفر والحرب))
أي: هذا باب في بيان لبس الجبة في السفر والحرب، يعني في الغزاة، وهو من عطف الخاص على العام. وفي (المطالع): الجبة ما قطع من الثياب مشمرا.
8192 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا الأعمش عن أبي الضحى مسلم هو ابن صبيح قال حدثني عن مسروق المغيرة بن شعبة قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم أقبل فلقيته بماء وعليه جبة شأمية فمضمض واستنشق وغسل وجهه فذهب يخرج يديه من كميه فكانا ضيقين فأخرجهما من تحت فغسلهما ومسح برأسه وعلى خفيه.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وعليه جبة شامية) وكان في السفر وكان في غزاة.
والحديث مضى في كتاب الصلاة في: باب الصلاة في الجبة الشامية، فإنه أخرجه هناك: عن يحيى عن أبي معاوية عن الأعمش إلى آخره.
وفيه: جواز إخراج اليدين من تحت الثوب. وفيه: خدمة العالم في السفر.
19
((باب الحرير في الحرب))
أي: هذا باب في بيان جواز استعمال الحرير في الحرب، بالحاء المهملة، وزعم بعضهم أنه بالجيم وفتح الراء، وليس لذلك وجه لأنه لا يبقى له مناسبة في أبواب الجهاد.
9192 حدثنا أحمد بن المقدام قال حدثنا خالد قال حدثنا سعيد عن قتادة أن أنسا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمان بن عوف والزبير في قميص من حرير من حكة كانت بهما.
.
قيل: ليس في الحديث لفظ الجرب، فلا مطابقة إلا إذا كان قوله: في الجرب، بالجيم، كما زعمه بعضهم. وأجيب: بأن ترخيصه صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن والزبير في قميص من حرير كان من حكة، وكان في الغزاة، ويشهد له بذلك حديث أنس الذي يأتي عقيب الحديث المذكور، وصرح فيه بقوله: ورأيته عليهما في غزاة، ولهذا ترجم الترمذي أيضا: باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب، ثم روى عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل في غزاة لهما فرخص لهما في قميص الحرير، قال: ورأيته عليهما. قال شيخنا زين الدين: كان الترمذي رأى تقييد ذلك بالحرب، وفهم ذلك من قوله: في غزاة لهما. ومنهم من لا يرى الترخيص بوجود الحكة أو القمل إلا بقيد ذلك في السفر، كما في رواية مسلم في السفر على ما يجيء، وقيل: التعليل ظاهر في ذكر الحكة والقمل، وأما كونه في سفر أو في غزاة فليس فيه ما يقتضي ترجيح كون ذلك سببا، وإنما ذكر فيه المكان الذي رخص لهما فيه، ولا يلزم منه كون ذلك سببا. قلت: بل هو سبب أيضا، لأن فيه إرهاب العدو كما أبيح الخيلاء فيه، فيجوز أن يكون كل واحد من السفر والغزو والحكة سببا مستقلا. وقال ابن العربي: قد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
أرخص في كل واحد منها مفردا، فإفرادها في رواية اقتضى أن يكون كل وجه له حكم، وجمعها يوجب أن يكون ثلاث علل اجتمعت فأثرت في الحكم على الاجتماع كما تقتضيه على الانفراد.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أحمد بن المقدام أبو الأشعث العجلي البصري. الثاني: خالد بن الحارث بن سليم الهجيمي، بضم الهاء وفتح الجيم، وقد مر في استقبال القبلة. الثالث: سعيد بن أبي عروبة، وفي بعض النسخ: شعبة، موضع: سعيد. الرابع: قتادة. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
وأخرجه مسلم في اللباس: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة
195

عن سعيد بن أبي عروبة حدثنا قتادة أن أنس بن مالك أنبأهم: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رخص لعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام في قمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما، وفي رواية له: فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما. وأخرجه أبو داود في اللباس أيضا عن النفيلي ولفظه: رخص رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قمص الحرير من حكة كانت بهما. وأخرجه النسائي في الزينة عن إسحاق بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجة في اللباس عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر ما يستفاد منه: قال النووي: هذا الحديث صريح الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذلك القمل، وما في معناهما. وقال مالك: لا يجوز، وكذا يجوز لبسه عند الضرورة كمن فاجأته الحرب، ولم يجد غيره وكمن خاف من حر أو برد، وقال الصحيح: عند أصحابنا أنه يجوز لبسه للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعا، وقال بعض أصحابنا، يختص بالسفر، وهو ضعيف حكاه الرافعي واستنكره، وقال القرطبي: يدل الحديث على جواز لبسه للضرورة، وبه قال بعض أصحاب مالك، وأما مالك فمنعه من الوجهين. والحديث واضح الحجة عليه إلا أن يدعي الخصوصية لهما ولا يصح، ولعل الحديث لم يبلغه.
وقال ابن العربي: اختلف العلماء في لباسه على عشرة أقوال: الأول: محرم بكل حال. الثاني: يحرم إلا في الحرب. الثالث: يحرم إلا في السفر. الرابع: يحرم إلا في المرض. الخامس: يحرم إلا في الغزو. السادس: يحرم إلا في العلم. السابع: يحرم على الرجال والنساء. الثامن: يحرم لبسه من فوق دون لبسه من أسفل وهو الفرش، قاله أبو حنيفة وابن الماجشون. التاسع: يباح بكل حال. العاشر: محرم، وإن خلط مع غيره كالخز.
وقال ابن بطال: اختلف الناس في لباسه فأجازته طائفة وكرهته أخرى: فممن كرهه: عمر بن الخطاب وابن سيرين وعكرمة وابن محيريز، وقالوا: الكراهة في الحرب أشد لما يرجون من الشهادة، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وممن أجازه في الحرب أنس، روى معمر عن ثابت قال: رأيت أنس بن مالك لبس الديباج في فزعة فزعها الناس، وقال أبو فرقد: رأيت على تجافيف أبي موسى الديباح والحرير، وقال عطاء: الديباج في الحرب سلاح، وأجازه محمد بن الحنفية وعروة والحسن البصري، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون: أنه استحب الحرير في الجهاد والصلاة به حينئذ للترهيب على العدو والمباهاة.
0292 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا همام عن قتادة عن أنس ح وحدثنا محمد بن سنان قال حدثنا همام عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن عبد الرحمان بن عوف والزبير شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني القمل فأرخص لهما في الحرير فرأيته عليهما في غزاة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (في غزاة) وهي للحرب، وهذان طريقان آخران في حديث أنس. الأول: عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي عن همام ابن يحيى عن قتادة. والثاني: عن محمد بن سنان أبي بكر العوفي الباهلي الأعمى، وهو من أفراده.
قوله: (شكوا)، كذا هو بالواو وهو لغة يقال: شكوت وشكيت بالواو والياء: وادعى ابن التين أنه وقع شكيا، ثم قال: وصوابه شكوا، لأن لام الفعل منه: واو، فهو مثل: * (دعوا الله ربهما) * (الأعراف: 981). قلت: ذكر الجوري: شكيا، أيضا، قوله: (يعني القمل) يعني: كانت شكواهما من القمل. فإن قلت: كان السبب في الحديث الماضي الحكة، حيث قال: من حكة كانت بهما، وهنا السبب: القمل؟ قلت: رجح ابن التين رواية الحكة، وقال: لعل أحد الرواة تأوله فأخطأ، ووفق الداودي بين الروايتين باحتمال أن يكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، وقال الكرماني: لا منافاة بينهما ولا منع لجمعهما، وقال بعضهم: يمكن الجمع بأن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب، وتارة إلى سبب السبب. قلت: علة كل منهما سبب مستقل فلا تعلق لأحديهما بالآخر، والحكم يثبت بسببين وأكثر، فالأحسن ما قاله الكرماني. قوله: (فرأيه)، الرائي هو أنس.
196

1292 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة قال أخبرني قتادة أن أنسا حدثهم قال رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمان بن عوف والزبير بن العوام في حرير.
.
هذا طريق آخر عن مسدد عن يحيى القطان عن شعبة... إلى آخره. قوله: (في حرير) أي: في لبس حرير، ولم يذكر فيه العلة والسبب وهي محمولة على الرواية التي بين فيها السبب المقتضي للترخيص.
2292 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس قال وخص أو رخص لحكة بهما.
.
هذا طريق آخر خامس في حديث أنس عن محمد بن بشار بالباء الموحدة عن غندر، بضم الغين وسكون النون، وهو محمد بن جعفر البصري عن شعبة بن الحجاج.
قوله: (رخص) على صيغة المعلوم أي: رخص رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو رخص)، على صيغة المجهول شك من الراوي. قوله: (لحكه)، أي: لأجل حكة. قوله: (بهما) أي: بعبد الرحمن ابن عوف، والزبير بن العوام.
29
((باب ما يذكر في السكين))
أي: هذا باب في بيان ما يذكر في أمر السكين من جواز استعماله.
3292 حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من كتف يحتز منها ثم دعي إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث لأن احتزازه صلى الله عليه وسلم من كتف الشاة كان بالسكين، ويشهد له الطريق الآخر الذي يأتي، وفيه فألقى السكين ووجه إدخال هذا الباب بين أبواب الجهاد من حيث إن السكين أيضا من أنواع السلاح.
وعبد العزيز ابن عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي الأويسي المدني، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري المدني كان على قضاء بغداد، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، وجعفر بن عمرو بن أمية الضمري المدني يروي عن أبيه عمرو بن أمية بن خويلد الضمري الصحابي، وهذا الإسناد كله مدنيون.
قوله: (من كتف)، من كتف شاة. قوله: (يحتز)، بالحاء المهملة وتشديد الزاي: من الحز، وهو القطع. والحديث مضى في كتاب الوضوء في: باب من لم يتوضأ من لحم الشاة، ومضى الكلام فيه هناك.
حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري وزاد فألفى السكين
هذا طريق آخر في حديث عمرو بن أمية عن أبي اليمان الحكم بن نافع... إلى آخره. قوله: (وزاد) يجوز أن يكون الفاعل فيه هو الزهري، ويجوز أن يكون جعفر ب عمرو، ويجوز أن يكون شيخ البخاري.
وفيه: استعمال السكين، وجواز قطع اللحم المطبوخ بالسكين وغير المطبوخ أيضا. فإن قلت: روى أبو داود النهي عن قطعه بها. قلت: هو منكر قال النسائي، وقيل: إنما يكره قطع الخبز بالسكين.
39
((باب ما قيل في قتال الروم))
أي: هذا باب في بيان ما قيل في قتال الروم من الفضل، والروم هم من ولد الروم بن عيصو، قاله الجوهري، وقال الرشاطي: الروم ابن لنطا بن يونان بن يافث بن نوح، عليه السلام، وهؤلاء الروم من اليونانيين، ويقال: إن الروم الثانية غلبت على هؤلاء، وهم منسوبون إلى جدهم، رومي بن لنطا من ولد عيصون إن إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم، عليهم السلام، ويقال له: روماس، وهو باني مدينة رومية.
197

4292 حدثني إسحاق بن يزيد الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة قال حدثني ثور ابن يزيد عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي: حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحل حمص وهو في بناء ل ومعه أم حرام قال عمير فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا قالت أم حرام قلت يا رسول الله أنا فيهم قال أنت فيهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم فقلت أنا فيهم يا رسول الله قال لا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يغزون البحر) لأن المراد من غزو البحر هو قتال الروم الساكنين من وراء البحر الملح. وفي قوله: (يغزون مدينة قيصر) لأن المراد بها القسطنطينية، والمشهور عندهم أنها تسمى: اصطنبول.
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: إسحاق بن يزيد من الزيادة وقد مر في أول الزكاة. الثاني: يحيى بن حمزة، بالحاء المهملة والزاي، الحضرمي أبو عبد الرحمن قاضي دمشق إلى أن مات بها سنة ثلاث وثمانين ومائة. الثالث: ثور بلفظ الحيوان المشهور ابن يزيد من الزيادة الحمصي. الرابع: خالد بن معدان، بفتح الميم وسكون العين المهملة، مر في البيع، كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة. الخامس: عمير بالتصغير ابن الأسود العنسي، بفتح العين المهملة وسكون النون، وقيل: بفتحها أيضا وبالسين لمهملة نسبة إلى عنس، وهو زيد بن مذحج بن أدد والعنسي الناقة الصلبة، وقال ابن بطال: بنو عنس، بالنون بالشام، وبنو عبس بالباء الموحدة بالكوفة، وبنو عيش بالياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة بالبصرة. السادس: عبادة بن الصامت. السابع: أم حرام بنت ملحان، زوج عبادة بن الصامت، وأخت أم سليم وخالة أنس بن مالك، قال أبو عمر: ولا أقف لها. على اسم صحيح.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الإفراد في أربعة مواضع وبصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في
موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده ونسبته إلى جده، لأنه إسحاق بن إبراهيم ابن يزيد أبو النضر. وفيه: أن الإسناد كله شاميون. وفيه: أن عمير بن الأسود ليس له في البخاري إلا هذا الحديث عند من يفرق بينه وبين أبي عياض عمرو بن الأسود والراجح التفرقة. وهذا الحديث رواه أنس عن أم حرام بأتم من هذا في أوائل الجهاد في: باب الدعاء بالجهاد، وهذا الحديث من مسند أم حرام.
ذكر معناه: قوله: (أول جيش من أمتي يغزون البحر) أراد به جيش معاوية، وقال المهلب: معاوية أول من غزا البحر، وقال ابن جرير: قال بعضهم: كان ذلك في سنة سبع وعشرين، وهي غزوة قبرص في زمن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، وقال الواقدي: كان ذلك في سنة ثمان وعشرين، وقال أبو معشر: غزاها في سنة ثلاث وثلاثين، وكانت أم حرام معهم، وقال ابن الجوزي في (جامع المسانيد): أنها غزت مع عبادة بن الصامت فوقصتها بغلة لها شهباء، فوقعت فماتت، وقال هشام ابن عمار: رأيت قبرها ووقفت عليه بالساحل بفاقيس. قوله: (قد أوجبوا)، قال بعضهم: أي: وجبت لهم الجنة. قلت: هذا الكلام لا يقتضي هذا المعنى، وإنما معناه: أوجبوا استحقاق الجنة، وقال الكرماني: قوله: أوجبوا أي: محبة لأنفسهم. قوله: (أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر)، أراد بها القسطنطينية كما ذكرناه، وذكر أن يزيد بن معاوية غزا بلاد الروم حتى بلغ قسنطينية، ومعه جماعة من سادات الصحابة منهم: ابن عمر، وابن عباس وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري، وكانت وفاة أبي أيوب الأنصاري هناك قريبا من سور القسطنطينية وقبره هناك تستسقي به الروم إذا قحطوا. وقال صاحب (المرآة): والأصح أن يزيد بن معاوية غزا القسنطينية في سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سير معاوية جيشا كثيفا مع سفيان بن عوف إلى القسطنطينية فأوغلوا في بلاد الروم، وكان في ذلك الجيش ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري وتوفي أبو أيوب في مدة الحصار. قلت: الأظهر أن هؤلاء السادات من الصحابة كانوا مع سفيان هذا ولم يكونوا مع يزيد بن معاوية، لأنه
198

لم يكن أهلا أن يكون هؤلاء السادات في خدمته. وقال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد، لأنه أول من غزا مدينة قيصر. انتهى. قلت: أي منقبة كانت ليزيد وحاله مشهور؟ فإن قلت: قال، صلى الله عليه وسلم، في حق هذا الجيش: مغفور لهم. قلت: لا يلزم، من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص، إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله، صلى الله عليه وسلم: مغفور لهم، مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم، وقيصر لقب هرقل ملك الروم، كما أن كسرى لقب من ملك الفرس، وخاقان من ملك الترك، والنجاشي من ملك الحبشة.
49
((باب قتال اليهود))
أي: هذا باب في بيان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال اليهود في مستقبل الزمان، وهو أيضا من معجزاته، صلى الله عليه وسلم، واليهود...
5292 حدثنا إسحاق بن محمد الفروي قال حدثنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تقاتلون اليهود حتى يختبيء أحدهم وراء الحجر فيقول يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله.
(الحديث 5292 طرفه في: 3953).
مطابقته للترجمة في قوله: (تقاتلون اليهود) وإسحاق بن محمد بن إسماعيل بن أبي فروة أبو يعقوب الفروي، بفتح الفاء وسكون الراء، فنسبته إلى جده المذكور، مات سنة ست وعشرين ومائتين.
قوله: (تقاتلون)، خطاب للحاضرين، والمراد غيرهم من أمته فإن هذا إنما يكون إذا نزل عيسى بن مريم، عليهما السلام، فإن المسلمين يكونون معه واليهود مع الدجال..
وفيه: إشارة إلى بقاء شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عيسى، عليه السلام، يكون على شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. وفيه: معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع عند نزول عيسى، عليه السلام، من تكلم الجماد والإخبار والأمر بقتل اليهود وإظهاره إياهم في مواضع اختفائهم. قوله: (فيقول يا عبد الله) أي: يقول الحجر: يا عبد الله، بأن ينطقه الله بذلك، وهو على كل شيء قدير، وقيل: يحتمل أن يكون مجازا، لأنه لا يبقى منهم أحد في ذلك الوقت، والأول أولى.
6292 حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يقول الحجر وراءه اليهودي يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وإسحاق بن إبراهيم الذي يعرف بابن راهويه، وجرير بن عبد الحميد، وعمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم: ابن القعقاع، وقد مر في: باب الجهاد من الإيمان، وأبو زرعة، بضم الزاي وسكون الراء وفتح العين المهملة: ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، وفي اسمه أقوال، وقد مر أيضا في: باب الجهاد من الإيمان.
59
((باب قتال الترك))
أي: هذا باب في بيان قتال المسلمين مع الترك الذي هو من أشراط الساعة. واختلفوا في أصل الترك، فقال الخطابي: الترك هم بنو قنطوراء، وهي اسم جارية كانت لإبراهيم، عليه السلام، ولدت أولادا جاءت من نسلهم الترك. وقال كراع: الترك هم الذين يقال لهم: الديلم، وقال ابن عبد البر: الترك هم ولد يافث، وهم أجناس كثيرة أصحاب مدن وحصون، ومنهم في رؤوس الجبال والبراري ليس لهم عمل سوى الصيد، ومن لم يصد ودج دابته وصيره في مصران يأكله، ويأكلون الرخم والغربان
199

وليس لهم دين، ومنهم من يتدين بدين المجوسية، وهم الأكثرون، ومنهم من يتهود وملكهم يلبس الحرير وتاج الذهب ويحتجب كثيرا وفيهم سحرة. وقال وهب بن منبه: الترك بنو عم يأجوج ومأجوج، وقيل: أصل الترك أو بعضهم من حمير، وقيل: إنهم بقايا قوم تبع، ومن هناك يسمون أولادهم بأسماء العرب العاربة، فهؤلاء من كان مثلهم يزعمون أنهم من العرب وألسنتهم عجمية وبلدانهم غير عربية، دخلوا إلى بلاد العجم واستعجموا. وقيل: الترك من ولد أفريدون بن سام بن نوح، عليه السلام، وسموا تركا لأن عبد شمس بن يشجب لما وطئ أرض بابل أتى بقوم من أحامرة ولد يافث، فاستنكر خلقهم ولم يحب أن يدخلهم في سبي بابل، فقال: اتركوهم، فسموا: الترك. وقال صاعد في (كتاب الطبقات): أما الترك فأمة كثيرة العدد فخمة المملكة، ومساكنهم ما بين مشارق خراسان من مملكة الإسلام وبين مغارب الصين وشمال الهند إلى أقصى المعمور في الشمال، وفضيلتهم التي برعوا فيها واحرزوا خصالها الحروف ومعالجة آلاتها. قلت: الترك والصين والصقالبة ويأجوج ومأجوج من ولد يافث بن نوح، عليه الصلاة والسلام، باتفاق النسابين، وكان ليافث سبعة أولاد منهم ابن يسمى: كور، فالترك كلهم من بني كومر، ويقال: الترك هو ابن يافث لصلبه وهم أجناس كثيرة ذكرناهم في (تاريخنا الكبير). وقال المسعودي في (مروج الذهب): في الترك استرخاء في المفاصل واعوجاج في سيقانهم ولين في عظامهم، حتى إن أحدهم ليرمي بالنشاب من خلفه كرميه من قدامه، فيصير قفاه كوجهه ووجهه كقفاه.
7292 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما ينتعلون نعال الشعر وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوما عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة.
(الحديث 7292 طرفه في: 2953).
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث، لأن قوله: (راض الوجوه...) إلى آخره صفة الترك.
وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وجرير بن حازم، بالحاء المهملة والزاي، والحسن هو البصري، وعمرو، بالفتح: ابن تغلب، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وبالباء الموحدة: العبدي، من عبد القيس، يقال: أنه من النمر بن قاسط يعد في أهل البصرة.
ورجال الإسناد كلهم بصريون.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن سليمان بن حرب. وأخرجه ابن ماجة في الفتن عن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (إن من أشراط الساعة)، أي: من علامات يوم القيامة، والأشراط جمع شرط، بفتح الراء. وقال أبو عبيد: وبه سميت شرط اللسان، لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يعرفون بها. قوله: (ينتعلون بنعال الشعر)، معناه: أنهم يصنعون من الشعر حبلا ويصنعون منها نعالا، ويقال: معناه أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذا أسدلوها كاللباس تصل إلى أرجلهم كالنعال، وإنما كانت نعالهم من الشعر، أو من جلود مشعرة لما في بلادهم من الثلج العظيم الذي لا يكون في غيرها، ويكون من جلد الذئب وغيره، وذكر البكري في (أخبار الترك): كان أعينهم حدق الجراد يتخذون الدرق يربطون خيولهم بالحبل، وفي لفظ: حتى يقاتل المسلمون الترك يلبسون الشعر. انتهى. وهذه إشارة إلى الشرابيش التي تدار عليها بالقندس، والقندس كلب الماء، وهو من ذوات الشعر، والنعال جمع نعل، والشعر بفتح العين وكسرها، وقال بعضهم: هذا الحديث والذي بعده ظاهر في أن الذين ينتعلون نعال الشعر غير الترك، وقد وقع في رواية الإسماعيلي من طريق محمد بن عباد، قال: بلغني أن أصحاب بابك كانت نعالهم الشعر. قلت: هذا الذي قاله غير صحيح، ولا احتجاج بهذه الرواية، لأن كون نعال أصحاب بابك من الشعر لا ينافي كونها للترك أيضا، ولا يفهم من ذلك الخصوصية بذلك لأصحاب بابك، على أنه يجوز أن يكون أصحاب بابك أيضا من الترك، لأن الترك أجناس كثيرة، وخبر البكري يصرح بالرد على هذا القائل، وأصرح من هذا ما رواه أبو داود من حديث بريدة: يقاتلكم قوم صغار الأعين، يعني الترك... الحديث، ومع هذا على ما ذكره لا تبقى مطابقة بين الترجمة والحديث أصلا، لأن الترجمة بلفظ الترك، وإذا كان الذين ينتعلون نعال الشعر غير الترك يكون بين الترجمة
200

والحديث بون عظيم، على أن الأوصاف المذكورة فيه وفي الحديث الذي بعده كلها أوصاف الترك، فإذا كان الترك أجناسا كثيرة لا يلزم أن ينتعل كلهم نعال الشعر، وأما بابك الذي ذكره فهو بباءين موحدتين مفتوحتين، وفي آخره كاف يقال له بابك الخرمي، بضم الخاء المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وكان قد أظهر الزندقة وتبعه طائفة فقويت شوكته في أيام المأمون وغلبوا على بلاد كثيرة من بلاد العجم إلى أن قتل في أيام المعتصم في سنة اثنتين وعشرين ومائتين، وكان خروجه في سنة إحدى ومائتين. قوله: (عراض الوجوه)، قال ابن قرقول: أي: سعتها. قوله: (المجان)، بفتح الميم وتشديد النون جمع: مجن، بكسر الميم وهو الترس. قوله: (المطرقة)، بضم الميم وسكون الطاء المهملة وفتح الراء. قال الخطابي: هي التي ألبست الأطرقة من الجلود، وهي الأعشية منها شبه عرض وجوههم ونتوء وجناتهم بظهور الترس، والأطرقة جمع طراق، وهو جلدة تقدر على قدر الدرقة وتلصق عليها. وقال القاضي البيضاوي: شبه وجوههم بالترس لبسطها وتدويرها، وبالمطرقة لغلظها وكثرة لحمها. وقال الهروي: المجان المطرقة هي التي أطرقت بالعصب أي ألبست به. وقيل: المطرقة هي التي ألبست الطراق وهو الجلد الذي يغشاه ويعمل هذا حتى يبقى كأنه ترس على ترس، وقال ابن قرقول: قال بعضهم الأصوب فيه المطرقة، بتشديد الراء، وهو ما ركب بعضه فوق بعض.
فإن قلت: هذا الخبر من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن أمر سيكون، فهل وقع هذا أم سيقع؟ قلت: قد وقع بضع ذلك على ما أخبر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم في سنة سبع عشرة وستمائة، وقد خرج جيش عظيم من الترك فقتلوا أهل ما وراء النهر وما دونه من جميع بلاد خراسان، ولم ينج منهم إلا من اختفى في المغارات والكهوف، فهتكوا في بلاد الإسلام إلى أن وصلوا إلى بلاد قهستان، فخربوا مدينة الري وقزوين وأبهر وزنجان وأردبيل ومراغة كرسي بلاد إذربيجان واستأصلوا شأفة من في هذه البلاد من سائر الطوائف، واستباحوا النساء وذبحوا الأولاد، ثم وصلوا إلى العراق الثاني، وأعظم مدنه مدينة أصفهان، وقتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى، وربطوا خيولهم إلى سواري المساجد والجوامع، كما جاء في الحديث.
وروى أبو داود الطيالسي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لينزلن طائفة من أمتي أرضا يقال لها البصرة، فيجيء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار العيون حتى ينزلوا على جسر لهم يقال له دجلة، فيفترق المسلمون ثلاث فرق: أما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل فتلحق بالبادية فهلكت، وأما فرقة فتأخذ على أنفسها فكفرت، فهذه وذلك سواء، وأما فرقة فيجعلون عيالاتهم خلف ظهورهم ويقاتلون، فقتلاهم شهيد، ويفتح الله على بقيتهم.
وروى البيهقي من حديث بريدة: إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه، كأن وجوههم الجحف، ثلاث مرات حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، قالوا: يا نبي الله! من هم؟ قال: الترك، والذي نفسي بيده ليربطن خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين.
8292 حدثنا سعيد بن محمد قال حدثنا يعقوب قال حدثنا أبي عن صالح عن الأعرج قال قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين حمر الوجوه ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر.
.
مطابقته للترجمة أظهر من مطابقة الحديث السابق، لأن فيه التصريح بلفظ الترك.
وسيد بن محمد أبو عبد الله الجرمي الكوفي المتشيع، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، أصله مدني سكن بالعراق، يروي عن أبيه إبراهيم المذكور، وصالح هو ابن كيسان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
قوله: (ذلف الأنوف)، بضم الذال المعجمة جمع: الأذلف، وهو صغر الأنف مستوى الأرنبة، وهو الفطس. وقيل: قصر الأنف وانبطاحه، ورواه بعضهم بدال مهملة، وقال ابن قرقول: وقيدناه بالوجهين، وبالمعجمة أكثر. وقيل: تشمير الأنف عن الشفة، وعن ابن فارس: الذلف الاستواء في طرف الأنف، والعرف تقول: أملح النساء الذلف، والأنوف جمع أنف مثل: فلس وفلوس، ويجمع على أنف وإناف. وفي (المخصص): هو جمع المنخر، وسمي أنفا لتقدمه.
201

69
((باب قتال الذين ينتعلون الشعر))
أي: هذا باب في بيان قتال القوم الذين ينتعلون الشعر، وهم أيضا من الترك، كما ذكرناه، ولكن لما روي الحديث المذكور في الباب السابق عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، من وجه آخر، عقد له هذه الترجمة، لأن لفظ أبي هريرة في الحديث الماضي: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر)، وقع في آخر الحديث، وهو في هذا الحديث وقع في صدره.
9292 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومعناه قد ذكر عن قريب. وروى الترمذي من حديث الصديق، رضي الله تعالى عنه: (أن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة). وقال: حسن غريب، وهذا يدل على أن خروج الترك على المسلمين يتكرر، وهكذا وقع كما ذكرنا، وسيقع أيضا عند ظهور الدجال، والله تعالى أعلم.
قال سفيان وزاد فيه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية صغار الأعين ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة
أي: قال سفيان بن عيينة: زاد في الحديث المذكور. أبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وقال بعضهم: هو موصول بالإسناد المذكور، وأخطأ من زعم أنه معلق. قلت: القائل بالتعليق هو صاحب (التلويح): فإنه قال: هذا التعليق رواه البخاري مسندا في علامات النبوة، ونسبته إلى الخطأ جزما خطأ، لأن ظاهر الكلام هو التعليق، والذي ادعاه هذا القائل احتمال قوله: رواية، بالنصب أي: زاد على سبيل الرواية، لا على طريق المذاكرة، أي قاله عند النقل والتحميل لا عند القال والقيل. قوله: (صغار الأعين)، بالنصب لأنه مفعول زاد.
79
((باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر))
أي: هذا باب في ذكر من صف أصحابه عند هزيمتهم وثبت هو ونزل عن دابته واستنصر الله تعالى، وهذا كان يوم حنين حيث انقلب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهزمين من عدوهم كما وصفهم الله تعالى: * (ثم وليتم مدبرين) * (التوبة: 52). وثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما خصه الله تعالى من الشجاعة
والنجدة، فنزل عن بغلته واستنصر، يعني دعا الله بالنصرة فنصره الله تعالى، إذ رماهم بالتراب كما يأتي بيانه مستقصى في المغازي، ونزوله كان بسبب الرجالة الباقين معه ليتأسوا به.
0392 حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء وسأله رجل أكنتم فررتم يا أبا عمارة يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس بسلاح فأتوا قوما رماة جمع هوازن وبني نصر ما يكاد يسقط لهم سهم فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هنالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل واستنصر ثم قال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صف أصحابه.
.
202

مطابقته للترجمة في قوله: (فنزل واستنصر).
وعمرو بن خالد بن فروخ الحراني الجزري سكن مصر وهو من أفراده، وزهير هو ابن معاوية، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله.
والحديث قد مضى في: باب من قاد دابة غيره فيكتاب الجهاد، فإنه أخرجه هناك: عن قتيبة عن سهل بن يوسف عن شعبة عن سهل بن أبي إسحاق... إلى آخره.
قوله: (يا أبا عمارة)، بضم العين وتخفيف الميم، كنية أبي الدرداء. قوله: (وأخفاؤهم)، وجمع خف بمعنى الخفيف، وهم الذين ليس معهم سلاح يثقلهم. قوله: (حسرا)، بضم الحاء وتشديد السين المهملتين وبالراء: جمع حاسر، وهو الذي لا سلاح معه، وقيل: هو الذي لا درع له ولا مغفر، وانتصابه على الحال من: شبان أصحابه. قوله: (ليس بسلاح)، اسم: ليس، مضمر، والتقدير: ليس أححدهم ملتبسا بسلاح، ويروى ليس سلاح، بدون الباء، وسلاح مرفوع على أنه اسم: ليس، والخبر محذوف، أي: ليس سلاح لهم. قوله: (رماة)، جمع رام، وانتصابه على أنه صفة: قوما، وانتصاب قوما على المفعولية. قوله: (جمع هوازن)، منصوب على أنه بدل من: قوما، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم جمع هوازن، وجمع بني نصر وهما قبيلتان. قال الجوهري: نصر أبو قبيلة من بني أسد وهو نصر بن قعين. قوله: (فرشقوهم)، الرشق الرمي، وقال الداودي: معناه يرمي الجميع سهامهم. قوله: (وابن عمه)، مبتدأ، والواو للحال، وخبره قوله: (يقود به).
89
((باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة))
أي: هذا باب في بيان دعاء الإمام على المشركين عند قيام الحرب بالهزيمة والزلزلة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والهزيمة من الهزم. وهو الكسر، والزلزلة من زلزلت الشيء إذا حركته تحريكا شديدا، ومنه: زلزلة الأرض، وهي اضطرابها.
1392 حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عيسى قال حدثنا هشام عن محمد عن عبيدة عن علي رضي الله تعالى عنه قال لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا شغلونا عن الصلاة الوسطاى حين غابت الشمس.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا) لأن في إحراق بيوتهم غاية التزلزل لأنفسهم..
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد الفراء أبو إسحاق الرازي، يعرف بالصغير. الثاني: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. الثالث: هشام، قال بعضهم: هو الدستوائي، قال: وزعم الأصيلي أنه هشام ابن حسان، ورام بذلك تضعيف الحديث، فأخطأ من وجهين، وتجاسر الكرماني فقال: المناسب أنه هشام بن عروة. قلت: هو الذي تجاسر حيث قال: إنه هشام الدستوائي، وليس هو بالدسوائي، وإنما هو هشام بن حسان مثل ما قال الأصيلي، وكذا نص عليه الحافظ المزي في (الأطراف) في موضعين، كما نذكره عن قريب، والكرماني أيضا قال: وهشام الظاهر أنه ابن حسان، ثم قال: لكن المناسب لما مر في: باب شهادة الأعمى، هشام بن عروة، ولم يظهر منه تجاسر لأنه لم يجزم أنه هشام ابن عروة، وإنما غرته رواية عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عروة في الباب المذكور، فظن أن ههنا أيضا كذلك. الرابع: محمد بن سيرين. الخامس: عبيدة، بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة: ابن عمرو السلماني أبو مسلم الكوفي. السادس: علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إسحاق وفي الدعوات عن محمد ابن المثنى، وفي التفسير عن عبد الله بن محمد، وعن عبد الرحمن بن بشر، قال الحافظ المزي: خمستهم عن هشام بن حسان عن محمد ابن سيرين. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن أبي بكر وعن إسحاق بن إبراهيم، وقال الحافظ المزي: ثلاثتهم عن هشام بن حسان، وعن محمد بن المثنى وبندار كلاهما عن غندر، وعن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي. وأخرجه أبو داود فيه عن عثمان بن أبي شيبة: وعن يزيد بن هارون. وأخرجه الترمذي في التفسير عن هناد بن السري، وأخرجه النسائي
203

في الصلاة عن محمد بن عبد الأعلى.
قوله: (ملأ الله بيوتهم) أي: أحياء. (وقبورهم) أي: أمواتا. قوله: (شغلونا) أي: الأحزاب بقتالهم مع المسلمين، فلما اشتد الأمر على المسلمين دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليهم فأجيبت دعوته فيهم، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم ويدعو لآخرين على حسب ما كانت ذنوبهم في نفسه، فكان يدعو على من
اشتد أذاه للمسلمين وكان يدعو لمن يرجو بر دعوته ورجوعه إليهم كما دعا لدوس حين قيل له: إن دوسا قد عصت، ولم يكن لهم نكاية ولا أذى، فقال: اللهم إهد دوسا وائت بهم. قوله: (حتى غابت الشمس) فيه دلالة على أن الصلاة الوسطى هي العصر، وهو الذي صحت به الأحاديث، وإن كان الشافعي نص على أنها الصبح، وفيه أقوال قد ذكرناها في كتاب الصلاة، فإن قلت: لم لم يصلوا صلاة الخوف؟ قلت: قالوا: إن هذا كان قبل نزول صلاة الخوف.
2392 حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن ابن ذكوان عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القنوت أللهم أنج سلمة بن هشام أللهم أنج الوليد ابن الوليد أللهم أنج عياش بن أبي ربيعة أللهم أنج المستضعفين من المؤمنين أللهم اشدد وطأتك على مضر أللهم سنين كسني يوسف.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (اللهم اشدد وطأتك...) إلى آخره، لأن شدة الوطأة أعم من أن تكون بالهزيمة والزلزلة أو بغير ذلك من الشدائد، مثل: الغلاء العظيم والموت الذريع ونحوهما.
وسفيان هو ابن عيينة، وابن ذكوان هو عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
والحديث مضى في أول كتاب الاستسقاء في: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: إجعلها كسني يوسف، فإنه أخرجه هناك: عن قتيبة عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة... إلى آخره.
ومعنى قوله: (اشدد وطأتك) بأسك وعقوبتك أو أخذتك الشديدة. قوله: (على مضر) بضم الميم، غير منصرف لأنه علم للقبيلة. قوله: (سنين) منصوب بتقدير: اشدد، أو: قدر، أو اجعل عليهم سنين أو نحو ذلك، وهو جمع: سنة، وهي: الغلاء، ويوسف هو ابن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن، صلوات الله عليهم أجمعين.
3392 حدثنا أحمد بن محمد قال أخرنا عبد الله قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما يقول دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب على المشركين فقال أللهم منزل الكتاب سريع الحساب أللهم اهزم الأحزاب أللهم اهزمهم وزلزلهم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (اللهم اهزمهم وزلزلهم). وأحمد بن موسى أبو العباس، يقال له مردويه السمسار الرازي، وعبد الله هو ابن المبارك الرازي، وإسماعيل بن أبي خالد الأحمسي البجلي الكوفي، واسم أبي خالد: سعد، ويقال: هرمز، ويقال: كثير، وعبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، وأبو أوفى اسمه علقمة بن خالد.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن قتيبة وفي الدعوات عن محمد بن سلام وفي المغازي عن محمد عن مروان بن معاوية. وأخرجه مسلم في المغازي عن سعيد ابن منصور وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وعن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي في السير وفي اليوم والليلة عن محمد بن منصور. وأخرجه ابن ماجة في الجهاد عن محمد بن عبد الله ابن نمير.
قوله: (اللهم)، يعني: يا الله يا منزل الكتاب، أي: القرآن. قوله: (سريع الحساب) يعني: يا سريع الحساب، إما أن يراد به أنه سريع حسابه بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب. قوله: (إهزمهم)، أي: إكسرهم وبدد شملهم، ويقال: قوله: إهزمهم وزلزلهم دعاء عليهم أن لا يسكنوا ولا يستقروا ولا يأخذهم قرار، وقال الداودي: أراد أن تطيش عقولهم وترعد أقدامهم عند اللقاء، فلا يثبتون. قيل: قد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن سجع كسجع الكهان. وأجيب: بأن تلك أسجاع متكلفة، وهذا اتفق اتفاقا بدون التكلف والقصد إليه.
204

4392 حدثنا عبد الله بن أبي شيبة قال حدثنا جعفر بن عون قال حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ظل الكعبة فقال أبو جهل وناس من قريش ونحرت جزور بناحية مكة فأرسلوا فجاؤوا من سلاها وطرحوه عليه فجاءت فاطمة فألقته عنه فقال أللهم عليك بقريش أللهم عليك بقريش أللهم عليك بقريش لأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد ابن عتبة وأبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط قال عبد الله فلقد رأيتهم في قليب بدر قتلى.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (اللهم عليك بقريش) ووجهه ظاهر.
وعبد الله بن أبي شيبة هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، واسمه إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي أبو بكر أخو عثمان. وجعفر بن عون، بفتح العين المهملة وسكون الواو وفي آخره نون: ابن جعفر بن عمرو بن حريث القرشي الكوفي، وسفيان هو الثوري، وأبو إسحاق عمرو السبيعي، وعمرو ابن ميمون الأزدي أبو عبد الله الكوفي أدرك الجاهلية وكان بالشام ثم سكن الكوفة، وهؤلاء كلهم كوفيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، وهو عبد الله بن مسعود.
والحديث قد مضى في كتاب الصلاة في: باب المرأة تطرح على المصلي شيئا من الأذى بأتم منه.
قوله: (قال أبو جهل)، اسمه عمرو. قوله: (وناس من قريش)، وهم الذين ذكرهم في الدعاء عليهم. فإن قلت: ما مقول أبي جهل؟ قلت: محذوف، تقديره: هاتوا من سلا الجزور التي نحرت. وقوله: (ونحرت جزور)، جملة معترضة حالية. قوله: (من سلاها)، السلا، بفتح السين المهملة وتخفيف اللام، مقصور، وهي الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي. واستدل به مالك على طهارة روث المأكول لحمه، ومن قال بنجاسته قال: لم يكن في ذلك الوقت تعبد به،
وأيضا ليس في السلا دم فهو كعضو منها. فإن قلت: هو ميتة. قلت: كان ذلك قبل تحريم ذبائح أهل الأوثان، كما كانت تجوز مناكحتهم، وروي أيضا أنه كان مع الفرث والدم، ولكنه كان قبل التعبد بتحريمه. قوله: (لأبي جهل)، اللام للبيان، نحو: هيت لك، أي: هذا الدعاء مختص به أو للتعليل أي: دعا، أو قال: لأجل أبي جهل. قوله: (قال عبد الله)، هو ابن مسعود. قوله: (في قليب بدر) القليب، بفتح القاف وكسر اللام: البئر قبل تطوى، تذكر وتؤنث، فإذا طويت فهي الطوى. قوله: (قتلى)، جمع قتيل نصب على أنه مفعول ثان لقوله: رأيتهم.
قال أبو إسحاق ونسيت السابع
أي: قال أبو إسحاق الراوي عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بالإسناد المذكور، وكأن أبا إسحاق لما حدث سفيان الثوري بهذا الحديث كان نسي السابع، وهو عمارة بن الوليد.
قال أبو عبد الله قال يوسف بن إسحاق عن أبي إسحاق أمية بن خلف وقال شعبة أمية أو أبي والصحيح أمية
أبو عبد الله هو البخاري، ويوسف بن إسحاق يروي عن جده أبي إسحاق عمرو السبيعي، وأراد البخاري أن أبا إسحاق حدث به مرة فقال: أبي بن خلف، وهكذا رواية سفيان الثوري عنه هنا، وحدث به أخرى فقال: أمية أو أبي، وهي رواية شعبة، فشك فيه، وقال البخاري: والصحيح أمية بن خلف لا أبي لأن أبي بن خلف قتله الشارع بيده يوم أحد بعد يوم بدر، وحديث يوسف بن إسحاق مضى موصولا في كتاب الطهارة في: باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر، وطريق شعبة وصلها البخاري أيضا في كتاب المبعث عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد... الحديث، وفيه: وأمية بن خلف أو أبي بن خلف، شعبة الشاك. فافهم.
205

5392 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن أيوب عن ابن مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك فلعنتهم فقال مالك قلت أولم تسمع ما قالوا قال فلم تسمعي ما قلت وعليكم.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (وعليكم) لأن معناه: وعليكم السام، أي: الموت، وهو دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث: يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا.
وحماد هو ابن زيد، وأيوب هو السختياني، وابن أبي مليكة بضم الميم اسمه عبد الله، واسم أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي الأحول المكي القاضي على عهد ابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن محمد بن سلام وفي الدعوات عن قتيبة وذكر في الاستيذان حديث ابن عمر وأنس رضي الله تعالى عنهم، وعند النسائي من حديث أبي بصرة. قال صلى الله عليه وسلم: إني راكب إلى اليهود فمن انطلق معي، فإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم. وعند ابن ماجة من حديث أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن الجهني، وصحبته مختلف فيها، مثله. وعند ابن حبان من حديث أنس قال: قال، صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما قال؟ قالوا: سلم. قال: لا، إنما قال: السام عليكم، أي: تسامون دينكم، فإذا سلم عليكم رجل من أهل الكتاب فقولوا: وعليك.
قوله: (السام عليك)، بتخفيف الميم، أي: الموت. قوله: فلعنتهم أي: قالت عائشة: فلعنت هؤلاء اليهود. قوله: (فقال مالك)، أي: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعائشة: أي شيء حصل لك حتى لعنت هؤلاء؟ فأجابت عائشة بقولها: قلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قال هؤلاء؟ فقال، صلى الله عليه وسلم: فلم تسمعي ما قلت؟ وعليكم. يعني: السام عليكم، فرديت عليهم ما قالوا. فإنما قلت يستجاب لي وما قالوا ألغوا يرد عليهم. ثم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رد عليهم ما قالوا وفي قوله: (وعليكم) قال الخطابي: رواية عامة المحدثين بإثبات الواو، وكان ابن عيينة يرويه بحذفها، وهو الصواب، وذلك أنه إذا حذفها صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودا عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه، لأن الواو حرف العطف والاجتماع بين الشيئين، وفي رواية يحيى عن مالك عن ابن دينار: عليك، بلفظ الواحد، وقال القرطبي: الواو هنا زائدة، وقيل: للاستئناف، وحذفها أحسن في المعنى، وإثباتها أصح رواية وأشهر. وقال أبو محمد المنذري: من فسر السام بالموت فلا يبعد الواو، ومن فسره بالسأمة فإسقاطها هو الوجه. قال ابن الجوزي: وكان قتادة يمد ألف السآمة.
فوائد: ذهب عامة السلف وجماعة الفقهاء أن أهل الكتاب لا يبدأون بالسلام، حاشى ابن عباس، وصدي ابن عجلان وابن محيريز فإنهم جوزوه ابتداء. وقال النووي: وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماوردي، ولكنه قال: يقول: عليك، ولا يقول: عليكم، بالجمع، وحكى أيضا أن بعض أصحابنا جوز أن يقول: وعليكم السلام، فقط ولا يقول: ورحمة الله وبركاته، وهو ضعيف مخالف للأحاديث. وذهب آخرون إلى جواز الابتداء للضرورة أو لحاجة تعن له إليه أو لذمام أو نسب، وروى ذلك عن إبراهيم وعلقمة، وقال الأوزاعي: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون، وتؤول لهم قولهم: لا تبتدؤهم بالسلام، أي: لا تبتدأوهم كصنيعكم بالمسلمين. واختلفوا في رد السلام عليهم فقالت طائفة: رد السلام فريضة على المسلمين والكفار، قالوا: وهذا تأويل قوله تعالى: * (فحيوا بأحسن منها وردوها) * (النساء: 68). قال ابن عباس وقتادة في آخرين: هي عامة في الرد على المسلمين والكفار. وقوله: * (أو ردوها) * (النساء: 68). يقول للكافر: وعليكم. قال ابن عباس: من سلم عليك من خلق الله تعالى فاردد عليه، وإن كان مجوسيا. وروى ابن عبد البر عن أبي أمامة الباهلي أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني إلا بدأه بالسلام. وعن ابن مسعود وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد أنهم كانوا يبدأون أهل الكتاب بالسلام، وكتب ابن عباس إلى كتابي: السلام عليك. وقال: لو قال لي فرعون خيرا لرددت عليه، وقيل لمحمد بن كعب: إن عمر بن عبد العزيز يرد عليهم ولا يبدأوهم، فقال ما أرى بإنسان يبدأهم بالسلام، لقول الله تعالى: *
(فاصفح عنهم وقل سلام) * (الزخرف: 98). وقالت طائفة: لا يرد السلام على الكتابي، والآية مخصوصة بالمسلمين، وهو قول الأكثرين، وعن ابن طاووس، يقول: علاك السلام، واختار بعضهم أن يرد
206

عليهم السلام بكسر السين، أي: الحجارة، وعن مالك: إن بدأت ذميا على أنه مسلم ثم عرفت أنه ذمي فلا نسترد منه السلام، وقال ابن العربي: وكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يسترده منه فيقول: أردد علي سلامي.
99
((باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يرشد المسلم أهل الكتاب، ومعنى إرشادهم ما قاله ابن بطال: إرشاد أهل الكتاب ودعاؤهم إلى الإسلام على الإمام، يعني: واجب عليه، هذا هو معناه لا ما قاله بعضهم: المراد بالكتاب الأول التوراة والإنجيل، وبالكتاب الثاني ما هو أعم منهما ومن القرآن وغير ذلك. انتهى. وهذا مستبعد من كل وجه، ولو تأمل هذا أن المعنى: هل يرشد المسلم أهل الكتاب إلى طريق الهدى ويعرفه بمحاسن الإسلام حتى يرجع إليه لما أقدم على ما قاله. قوله: (أو يعلمهم الكتاب)، أي: أو هل يعلمهم المسلم الكتاب أي القرآن، وفيه خلاف، فقال أبو حنيفة: لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والعلم والفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام، وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك: لا يعلمهم الكتاب ولا القرآن، وهو أحد قولي الشافعي، واحتج الطحاوي لأبي حنيفة بكتاب هرقل، وبقوله عز وجل: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6). وروى أسامة ابن زيد: مر النبي صلى الله عليه وسلم، على ابن أبي قبل أن يسلم، وفي المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود فقرأ عليهم القرآن.
6392 حدثنا إسحاق قال أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر وقال فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين.
(الحديث 6392 طرفه في: 0492).
مطابقته للترجمة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم، كتب إلى قيصر آية من القرآن وهي قوله تعالى: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 46). الآية بتمامها، ووجهه أن فيه مطابقة لكل واحد من جزئي الترجمة، أما مطابقته للجزء الأول فتؤخذ من قوله: (فإن توليت...) إلى آخره، لأن فيه إرشادا إلى طريق الهدى والحق، وأما مطابقته للجزء الثاني فتؤخذ من كتابه إليه على ما لا يخفى على المتأمل. وإسحاق شيخه هو ابن منصور بن كوسج أبو يعقوب المروزي، يعقوب ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، وابن أخي ابن شهاب هو محمد بن عبد الله ابن أخي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهذا الذي ذكره هنا قطعة من حديث طويل قد مر في أول الكتاب.
001
((باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم))
أي: هذا باب في بيان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، بأن الله يهديهم إلى دين الإسلام. قوله: (ليتألفهم) تعليل لدعائه بالهداية لهم، وذلك أنه يدعو لهم إذا رجا منهم الإلفة والرجوع إلى دين الإسلام، وقد ذكرنا أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على حالتين: إحداهما أنه يدعو لهم إذا أمن غائلتهم ورجا هدايتهم، والأخرى: أنه يدعو عليهم إذا اشتدت شوكتهم وكثر أذاهم ولم يأمن من شرهم على المسلمين.
7392 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمان قال قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها فقيل هلكت دوس قال أللهم اهد دوسا وات بهم.
207

مطابقته للترجمة في قوله: (اللهم اهد دوسا وائت بهم).
وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن أبي حمزة، وأبو الزناد عبد الله ابن ذكوان و عبد الرحمن هو ابن هرمز الأعرج.
قوله: (قدم طفيل بن عمر) وبضم الطاء، وفتح الفاء: ابن طريف بن العاصي بن ثعلبة ابن سليم بن غنم بن دوس الدوسي من دوس، أسلم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم رجع إلى بلاد قومه من أرض دوس فلم يزل مقيما بها حتى هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بمن تبعه من قومه، فلم يزل مقيما مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى قبض صلى الله عليه وسلم، ثم كان مع المسلمين حتى قتل باليمامة شهيدا، وروى إبراهيم بن سعد عن ابن عباس. قال: قتل الطفيل بن عمرو الدوسي عام اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، ذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) وقال أيضا: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يقال له: ذو النور ثم ذكر بإسناده إلى هشام الكلبي: أنه إنما سمي بذلك لأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن دوسا قد غلب عليهم الزنا، فادع الله عليهم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد دوسا، ثم قال: يا رسول الله ابعثني إليهم واجعل لي آية يهتدون بها، فقال: اللهم نور له، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا، مثلة فتحولت إلى طرف سوطه، فكانت تضيء في الليلة المظلمة، فسمي: ذو النور. وقوله: قدم الطفيل وأصحابه، هذا قدومه الثاني مع أصحابه، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخيبر كما ذكرنا، وكان أصحابه ثمانين أو تسعين، وهم الذين قدموا معه، وهم أهل بيت من دوس. قوله: (إن دوسا قد عصت) أي: على الله تعالى، ولم تسمع من كلام الطفيل حين دعاهم إلى
الإسلام وأبت من سماع كلامه، وقال الطفيل: يا رسول الله! غلب على دوس الزنا والربا، فادع الله عليهم بالهلاك، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم إهد دوسا وائت بهم، أي: مسلمين أو كناية عن الإسلام. وقال الكرماني: هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله، صلى الله عليه وسلم دعا لهم، وذلك من كمال خلقه العظيم ورحمته على العالمين. قلت: لا شك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ومع هذا، كان يحب دخول الناس في الإسلام، فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام، بل كان يدعو لمن يرجو منه الإنابة، ومن لا يرجوه، ويخشى ضرره وشوكته يدعو عليه كما دعا على قريش كما مر. ودوس هو ابن عدنان ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وينسب إليه الدوسي قال الرشاطي الدوسي في الأزد: ينسب إلى دوس فذكر نسبه مثل ما ذكرنا. فإن قلت: كيف انصرف دوس وفيه علتان: العلمية والتأنيث؟ قلت: قد علم أن سكون حشوه يقاوم أحد السببين فيبقى على علة واحدة كما في هند وعدد.
101
((باب دعوة اليهودي والنصراني وعلى ما يقاتلون عليه وما كتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال))
أي: هذا باب في بيان دعوة اليهودي والنصراني إلى الإسلام. قوله: (وعلى ما يقاتلون عليه)، أي: وفي بيان أي شيء يقاتلون عليه، ويقاتلون على صيغة المجهول. قوله: (وما كتب) أي: في بيان ما كتب النبي صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى وقيصر قد ذكرنا أن كل من ملك الفرس يقال له: كسرى، وقيصر لقب هرقل الذي أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابا ومعنى: قيصر، في لغتهم البقير، وذلك أن أمه لما أتاها الطلق به ماتت، فبقر بطنها عنه، فخرج حيا وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج. قوله: (والدعوة) أي: وفي بيان الدعوة قبل القتال، وهو بفتح الدال في (القتال) وبالضم في الوليمة، وبالكسر في النسب.
8392 حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه يقول لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل له إنهم لا يقرؤن كتابا إلا أن يكون مختوما فاتخذ خاتما من فضة فكأني أنظر إلى بياضه في يده ونقش فيه محمد رسول الله.
.
مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ منه لأن قول أنس، رضي الله تعالى عنه، لما أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم كتابا يدل على أنه قد كتب، وهو الذي ذكره ابن عباس في حديث طويل، وقد مر في أول الكتاب في بدء الوحي، ولا
208

يستبعد هذا، لأن هذا الحديث مذكور في الكتاب، وهذا أوجه وأقرب إلى القبول من قول بعضهم في بيان المطابقة في بعض المواضع بين الحديث والترجمة أنه أشار بهذا إلى حديث خرجه فلان ولم يذكره في كتابه، ووجه ذلك أن للترجمة أربعة أجزاء. الجزء الأول: هو قوله دعوة اليهودي والنصراني، ووجه المطابقة فيه أنه صلى الله عليه وسلم دعا هرقل إلى الإسلام، وهو على دين النصارى واليهودي، ملحق به. الجزء الثاني: هو قوله: على ما يقاتلون عليه، ووجه المطابقة فيه أنه صلى الله عليه وسلم أشار في كتاب أن مراده أن يكونوا مثلنا، وإلا يقاتلون عليه، كما في حديث علي، رضي الله تعالى عنه الآتي بعد هذا الباب، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. الجزء الثالث: هو قوله: وما كتب إلى كسرى وقيصر، وهذا ظاهر. الجزء الرابع: هو قوله: والدعوة قبل القتال، فإنه صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإيمان بالله، وتصديق رسوله ولم يكن بينه وبينهم قبل ذلك قتال، فافهم، فإنه فتح لي من الفيض الإلهي، ولم يسبقني إلى ذلك أحد.
ذكر معناه: قوله: (قيل له) أي: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (لا يقرأون كتابا إلا أن يكون مختوما)، وذلك لأنهم كانوا يكرهون أن يقرأ الكتاب لهم غيرهم، وقد قيل في قوله تعالى: كتاب كريم، إنه مختوم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كرامة الكتاب ختمه. وعن ابن المقنع من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه، فقد استخف به، قوله: (فاتخذ خاتما من فضة) وكان اتخاذه الخاتم سنة ست، وأيضا كان إرساله بكتاب إلى هرقل في سنة ست، وكان بعث صلى الله عليه وسلم ستة نفر إلى الملوك في يوم واحد، منهم: دحية بن خليفة أرسله إلى قيصر ملك الروم ومعه كتاب، قاله الواقدي، وذكر البيهقي أنه كان في سنة ثمان. قوله: (خاتما) فيه أربع لغات: بفتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام، والجمع: خواتيم. قوله: (من فضة)، يدل على أنه لا يجوز: من ذهب، لما روي من حديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب، ولما روى البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب: أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، وفيه: نهانا عن خواتيم الذهب أو عن أن نتختم بالذهب. فإن قلت: روى الطحاوي وأحمد في (مسنده) من حديث محمد بن مالك الأنصاري مولى البراء بن عازب قال رأيت على البراء خاتما من ذهب، فقيل له: قال: قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم غنيمة فألبسنيه. وقال: إلبس ما كساك الله ورسوله، فقال الطحاوي: فذهب إلى قوم إلى إباحة لبس خواتيم الذهب للرجال، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وأراد بالقوم هؤلاء: عكرمة والأعمش وأبا القاسم الأزدي، وروي ذلك عن البراء وحذيفة وسعد وجابر بن سمرة وأنس ابن مالك رضي الله تعالى عنهم. قلت: خالفهم في ذلك آخرون منهم: سعيد بن جبير والنخعي والثوري والأوزاعي وعلقمة ومكحول وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: يكره ذلك للرجال. واحتجوا في ذلك بحديث أبي هريرة المذكور، وبحديث علي، رضي الله تعالى عنه، أخرجه مسلم: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس القسي والمعصفر وعن تختم الذهب... الحديث. والحديث رواه أبو داود في كتاب الخاتم، والترمذي في اللباس، والنسائي في الزينة عن زيد بن الخباب عن عبد الله بن مسلم السلمي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه خاتم من حديد، (فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار) ثم جاء وعليه خاتم من شبه، فقال: (ما لي أجد منك رائحة الأصنام؟) فقال: يا رسول الله! من أي شيء اتخذه؟ قال: اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا، زاد الترمذي: ثم جاء وعليه خاتم من ذهب، فقال: (ما لي أرى
عليك حلية أهل الجنة؟) وقال: صفر، موضع شبه، وقال: حديث غريب. قلت: رواه أحمد والبزار وأبو يعلى الموصلي في (مسانيدهم) وأبو حبان في (صحيحه) فإن قلت: كيف التوفيق بين حديثي البراء وهما متعارضان ظاهرا؟ قلت: إذا خالف الراوي ما رواه يكون العمل بما رآه لا بما رواه، لأنه لا يخالف ما رواه إلا بدليل قام عنده، وكان فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، حبشيا. وقال ابن الأثير: قوله: (حبشيا)، يحتمل أنه أراد من الجدع أو العقيق، لأن معدتهما اليمن والحبشة، أو نوعا آخر ينسب إليه.
قوله: (إلى بياضه) أي: إلى بياض الخاتم في يد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان عقيقا. وفي (الصحيح) من رواية حميد عن أنس: كان فصه منه، ولا تعارض لأنه لا مانع أن يكون له خاتمان أو أكثر. قوله: (ونفش فيه محمد رسول الله)، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): وقال: حدثنا
209

ابن عيينة عن أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر، قال: اتخذ النبي، صلى الله عليه وسلم، خاتما من ورق ثم نقش عليه: محمد رسول الله، ثم قال: لا ينقش أحد على خاتمي هذا. وأخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة، وروى الترمذي من حديث أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم، صنع خاتما من ورق، فنقش فيه: محمد رسول الله، ثم قال: لا تنقشوا عليه. قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ومعناه أنه نهى أن ينقش أحد على خاتمه: محمد رسول الله، وروى الترمذي أيضا من حديث أنس: كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. وأخرجه البخاري أيضا على ما سيأتي، وقال شيخنا، رحمه الله: نهيه، صلى الله عليه وسلم، أن ينقش أحد على نقش خاتمه خاص بحياته، ويدل عليه لبس الخلفاء الخاتم بعده، ثم تجديد عثمان، رضي الله تعالى عنه، خاتما آخر بعد فقد ذلك الخاتم في بئر أريس، ونقش عليه ذلك النقش.
9392 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين يدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه خرقه فحسبت أن سعيد بن المسيب قال فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (بعث بكتابه إلى كسرى) ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعقيل، بضم العين وفتح القاف: ابن خالد الأيلي، وابن شهاب محمد بن مسلم الزهري. والحديث قد مر في كتاب العلم في: باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم، إلى البلدان، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (بعث بكتابه)، كان حامل الكتاب عبد الله ببن حذاقة السهمي. قوله: (عظيم البحرين)، كان من تحت يد كسرى والبحرين تثنية بحر، موضع بين البصرة وعمان. قوله: (خرقة)، بتشديد الراء من التحريق، (فدعا عليهم النبي أن يمزقوا) أي: بأن يمزقوا، من التمزيق، يقال: مزقت الثوب وغيره أمزقه تمزيقا: إذا قطعته خرقا، ومنه يقال: تمزق القوم: إذا افترقوا ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مات منهم أربعة عشر ملكا في سنة، لن حتى وليت أمرهم امرأة فقال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).
201
((باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم أربابا من دون الله))
أي: هذا باب في بيان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، الناس إلى الإسلام. قوله: والنبوة، أي وبالدعاء أيضا إلى الاعتراف بنبوته، صلى الله عليه وسلم. قوله: وأن لا يتخذ، أي: الدعاء أيضا بأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، يعني: لا يقولون عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، لأن كل واحد منهما بشر مثلكم فلا يصلحان أن يكونا في مسلك الربوبية.
وقوله تعالى * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله) * (آل عمران: 97). إلى آخر الآية
وقوله، بالجر عطف على قوله: دعاء، أي: في بيان قوله تعالى... إلى آخره.
0492 حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح ابن كيسان عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه إليه مع
210

دحية الكلبي وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه التمسوا لي هاهن أحدا من قومه لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشأم في رجال من قريش قدموا تجارا في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش قال أبو سفيان فوجدنا رسول قيصر ببعض الشأم فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج وإذا حوله عظماء الروم فقال لترجمانه سلهم أيهم أقرب نسبا إلى هاذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم إليه نسبا قال ما قرابة ما بينك وبينه فقلت هو ابن عمي وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري فقال قيصر أدنوه وأمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري عند كتفي ثم قال لترجمانه قل لأصحابه إني سائل هذا الرجل عن الذي يزعم أنه نبي فإن كذب فكذبوه قال أبو سفيان والله لولا الحياء يومئذ من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته ثم قال لترجمانه قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هاذا القول أحد منكم قبله قلت لا فقال كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال فهل
كان من آبائه من ملك قلت لا قال فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم قال فيزيدون أو ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه قلت لا قال فهل يغدر قلت لا ونحن الآن منه في مدة نحن نخاف أن يغدر قال أبو سفيان ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لا أخاف أن تؤثر عني غيرها قال فهل قاتلتموه أو قاتلكم قلت نعم قال فكيف كانت حربه وحربكم قلت كانت دولا وسجالا يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى قال فماذا يأمركم قال يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة فقال لترجمانه حين قلت ذالك له قل له إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فزعمت أن لا فقلت لو كان أحد منكم قال هذا قبله قلت رجل يأتم بقول قد قيل قبله وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله وسألتك هل كان من آبائه من ملك
211

فزعمت أن لا فقلت لو كان من آبائه ملك قلت يطلب ملك آبائه وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل وسألتك هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا فكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا وكذلك الرسل لا يغدرون وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه تكون دولا ويدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة وسألتك بماذا يأمركم فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال وهذه صفة النبي قد كنت أعلم أنه خارج ولاكن لم أظن أنه منكم وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه ولو كنت عنده لغسلت قدميه. قال أبو سفيان ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقريء فإذا فيه بسم الله الرحمان الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بداعية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فعليك إثم الأريسيين * (ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * (آل عمران: 46). قال أبو سفيان فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم فلا أدري ماذا قالوا وأمر بنا فأخرجنا فلما أن خرجت مع أصحابي وخلوت بهم قلت لهم لقد أمر أمر ابن أبي كبشة هذا ملك بني الأصفر يخافه. قال أبو سفيان والله ما زلت ذليلا مستيقنا بأن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة تؤخذ من ألفاظ الحديث. وإبراهيم بن حمزة، بالحاء المهملة والزاي: أبو إسحاق الزبيري الأسدي المديني، وهو من أفراده، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري القرشي المديني، كان على قضاء بغداد، والحديث بطوله قد تقدم في أول الكتاب في بدء الوحي ومضى الكلام فيه مستقصى، ولكن انظر واعتبر جدا. فإن بين الطريقين والمتنين اختلافا في الألفاظ كثيرا من زيادة ونقصان، فلنتكلم هنا على ما يقتضي الكلام.
فقوله: (لما أبلاه الله) قال القتيبي، يقال: من الخير: أبليته أبليه إبلاء، ومن الشر: بلوته بلاء، والمعروف أن الابتلاء يكون في
212

الخير والشر معا من غير فرق بين فعليهما. ومنه قوله تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) * (الأنبياء: 53). وإنما مشى قيصر شكرا لاندفاع فارس عنه، ومنه الحديث: من أبلى فذكر فقد شكر، والإيلاء الإنعام والإحسان، يقال: بلوت الرجل وأبليت عنده بلاء حسنا، والابتلاء في الأصل: الاختيار والامتحان، يقال: بلوته وابتليته وأبليته. قوله: (قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان) هكذا، ويروى أبو سفيان بن حرب. قوله: (فوجدنا)، بفتح الدال فعل ومفعول. وقوله: (رسول قيصر) بالرفع فاعله، وقيل: يروي بالعكس. قوله: (ببعض الشام)، قيل: غزة المدينة المشهورة. قوله: (فأدخلنا عليه)، على صيغة المجهول. قوله: (أدنوه)، بفتح الهمزة أمر من الأدناء أي قربوه قوله (عند كتفي) بتشديد الياء قوله (من أن يأمر بسكون الهمزة وضم الثاء المثلثة، معناه: من أن يروى ويحكى، وقال ابن فارس: أثرت الحديث إذا ذكرته عن غيرك. قوله: (فصدقته)، كذا بالضمير المنصوب، ويروى: (فصدقت)، بدون الضمير. قوله: (من ملك)، بكسر اللام ويروى: (من ملك)، بفتح اللام على صورة الفعل الماضي، وكلمة: من، حرف الجر في الأول، وفي الثاني: اسم موصول. قوله: (دولا) بضم الدال، وهو ما يتداول بينهم فتارة يكون لبعض وتارة يكون لآخرين. قوله: (وسجالا)، بكسر السين قد مر معناه مستقصى. قوله: (يدال علينا)، بضم الياء على صيغة المجهول. قوله: (وندال)، بضم النون على صيغة المجهول أيضا معناه يغلبنا مرة ونغلبه أخرى. قوله: (يأتم بقوله) أي: يقتدي به، وهناك يأتسي بقول، ويروى: (يتأسى). قوله: (لم يكن ليدع الكذب)، بكسر اللام أي: ليترك. قوله: (وكذلك الرسل تبتلى)، أي: تختبر بالغلبة عليهم ليعلم صبرهم. قوله: (فتكون لها العاقبة)، ويروى: (له)، والضمير في: له، يرجع إلى قوله: إلى هذا الرجل، فيما مضى، وكذلك الضمائر التي في قوله: منه، وقاتلتموه، وحربه، ونسبه، وأنه، وقبله، وتتهمونه، وآبائه، ويتبعونه، واتبعوه، ولدينه، وعليه، وأنه، وإليه، ولقيه، وعنده، وقدميه، ونخافه، وأمره، قوله: (فيوشك)، أي: يسرع في ذلك.
2492 حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه فقاموا يرجون لذلك أيهم يعطى فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى فقال أين علي فقيل يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء فقال نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدى بك
رجل واحد خير لك من حمر النعم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام). وعبد العزيز يروي عن أبيه أبي حازم سلمة بن دينار.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في فضل علي، رضي الله تعالى عنه، عن قتيبة. وأخرجه مسلم أيضا عن قتيبة في الفضائل.
قوله: (يوم خيبر)، ويوم خيبر كان في أول سنة سبع. وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث بالمدينة عشرين يوما، أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر وهي التي وعدها الله تعالى إياه، وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست، والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع. قوله: (لأعطين الراية)، أي: العلم، وقال ابن إسحاق عن عمرو بن الأكوع، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهدهم، ثم بعث الغد عمر، رضي الله تعالى عنه، فقاتل عمر ثم رجع ولم يكن فتح، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار، قال سلمة: فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال: خذ هذه الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك بها، فخرج وهو يهرول هرولة وأنا لخلفه
213

نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن، فقال من أنت. قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: يقول اليهودي: علوتم وما أنزل على موسى، أو كما قال، فما رجع حتى فتح الله على يديه. وقال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن سلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتلته. قوله: (فقاموا يرجون لذلك)، أي: قام أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم الذين معه حال كونهم راجين لإعطاء الراية له حتى يفتح الله على يديه. قوله: (أيهم يعطى) على صيغة المجهول. قوله: (فغدوا وكلهم يرجو)، أي: كل واحد منهم يرجو أن يعطى، وكلمة: أن، مصدرية، أي: يرجو إعطاء الراية له. قوله: (فقال) أي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: يشتكي عينيه، من اشتكى عضوا من أعضائه فاشتكى عينيه من الرمد. قوله: (فأمر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فدعي)، على صيغة المجهول أي: دعى علي، رضي الله تعالى عنه له، أي: للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فبصق)، بالصاد والسين والزاي. قوله: (فقال: فقاتلهم) القائل علي، رضي الله تعالى عنه. قوله: (حتى يكونوا مثلنا) أي: حتى يكونوا مسلمين مثلنا. قوله: (فقال: على رسلك)، أي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: على رسلك، بكسر الراء، يقال: إفعل هذا على رسلك، أي: اتئد فيه وكن فيه على الهينة. وقال ابن التين: ضبط بكسر الراء وفتحها. قوله: (لأن يهدي بك)، على صيغة المجهول. قوله: (خير لك من حمر النعم)، حمر النعم، بضم الحاء: أعزها وأحسنها، يريد خير لك من أن تكون فتتصدق بها، ولكون الحمرة أشرف الألوان عندهم، قال: حمر النعم والنعم، بفتحتين إذا أطلق يراد به الإبل وحدها، وإن كان غيرها من الإبل والبقر والغنم، دخل في الاسم معها.
3492 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و حدثنا أبو إسحاق عن حميد قال سمعت أنسا رضي الله تعالى عنه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح فنزلنا خيبر ليلا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (إذا سمع أذانا أمسك)، لأن الترجمة: الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، والأذان يبين حالهم، وعبد الله ابن محمد هو المسندي وأبو إسحاق هو الفزاري واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث. قوله: (لم يغر)، بضم الياء: من الإغارة وذلك لأنه إذا لم يعلم حال القوم هل بلغتهم الدعوة أم لا فينتظر بهم الصباح ليستبين حالهم بالأذان وغيره من شعائر الإسلام. قوله: (ليلا) نصب على الظرف أي: في الليل.
4492 حدثنا قتيبة قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا.
.
هذا طريق آخر لحديث أنس أخرجه عن قتيبة بن سعيد عن إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير عن حميد عن أنس، وبتمامه أخرجه البخاري عن قتيبة أيضا في الصلاة في: باب ما يحقن بالأذان من الدماء، وقال: حدثني قتيبة قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم... الحديث.
(وحدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي
خرج إلى خيبر فجاءها ليلا وكان إذا جاء قوما بليل لا يغير عليهم حتى يصبح فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا محمد والله محمد والخميس فقال النبي
الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)
هذا طريق آخر لحديث أنس أخرجه عن عبد الله بن مسلمة القعنبي إلى آخره والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن عبد الله بن يوسف وأخرجه الترمذي في السير عن إسحاق بن موسى وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة
214

والحارث بن مسكين قوله ' حتى يصبح ' المراد به دخول وقت الصبح وهو طلوع الفجر فإن قلت روى مسلم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال فأتيناهم حين
بزغت الشمس فما الجمع بين الحديثين قلت قال شيخنا الجواب أنهم صلوا الصبح بغلس قبل أن يدخلوا زقاق خيبر الذي أجرى فيه رسول الله
كما ثبت في الصحيحين وأنهم وصلوا إلى القرية حين بزغت الشمس قوله ' بمساحيهم ' بتخفيف الياء جمع مسحاة بكسر الميم والميم زائدة لأنه مأخوذ من سحوت الطين عن وجه الأرض وسحيته إذا جرفته وقال الجوهري المسحاة كالمجرفة إلا أنها من حديد والمكاتل جمع مكتل بكسر الميم والميم فيه أيضا زائدة وقال ابن عبد البر المكاتل القفاف وقال الجوهري المكتل شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا قوله ' محمد ' أي جاء محمد قوله ' والخميس ' عطف عليه وهو الجيش والسبب في تسميته بالخميس أنه خمس فرق المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساق قوله ' الله أكبر ' المشهور في الرواية التكبيرة مرة وفي رواية الطبراني من حديث أبي طلحة تكراره ثلاثا وهو حسن قوله ' خربت خيبر ' فيه سجع ولا بأس به إذا لم يكن في ذلك تكلف وقوله ' خربت خيبر ' يحتمل أن يكون
قاله بوحي من الله في أنه
يغلب عليها ويخربها ويحتمل أن يكون تفاؤلا بذلك على عادة العرب في جزمهم بالأمور والإخبار عن وقوعها بصيغة الماضي قبل وقوعها إذا كان ذلك متوقعا قريبا وقيل سبب تفاؤله
بذلك لما رأى من آلات الحراب معهم من المساحي والمكاتل قوله ' إنا إذا نزلنا ' إلى آخره فيه الاستشهاد بالقرآن فيما يحسن ويجمل * وفي هذا الحديث الحكم بالدليل لكونه كف عن القتال بمجرد سماع الأذان * -
6492 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثنا سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إلاه إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله.
مطابقته للترجمة من حيث إن في قتاله معهم إلى أن يقولوا: لا إلاه إلا الله، دعوته إياهم إلى الإسلام حتى إذا قالوا: لا إلاه إلا الله، يرفع القتال لكنه، صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث في حال قتاله لأهل الأوثان الذين كانوا لا يقرون بالتوحيد، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إلاه إلا الله يستكبرون) * (الصافات: 53). فدعاهم إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان في الظاهر داخلا في صفة الإسلام، وأما الآخرون من أهل الكفر الذين كانوا يوحدون الله تعالى غير أنهم ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلاه إلا الله ويشهدوا أن محمدا رسول الله، فإسلام هؤلاء الإقرار بما كانوا به جاحدين، كما كان إسلام أولئك إقرارهم بالله أنه واحد لا شريك له وعلى هذا تحمل الأحاديث، وقد مر الكلام فيه في حديث ابن عمر في كتاب الإيمان في: باب * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) * (التوبة: 5 و 11).
وأبو اليمان الحكم بن نافع، وهذا السند بعين هؤلاء الرجال قد مرغير مرة على نسق واحد.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الجهاد عن عمرو بن عثمان وعن أحمد بن محمد بن المغيرة.
قوله: (أمرت)، على صيغة المجهول، يدل على أن الله تعالى أمره، وإذا قال الصحابي ذلك فهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم أمره. قوله: (حتى يقولوا)، كلمة: حتى، للغاية، وقد جعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غاية المقاتلة القول بقول: لا إلاه إلا الله، وفي حديث ابن عمر بالشهادتين والتوفيق بينهما ما ذكرناه الآن. قوله: فقد عصم أي حفظ وحقن معنى العصم في اللغة وقال الجوهري والعصمة الحفظ قوله إلا بحقه أي إلا بحق لا إلاه إلا الله الذي هو الإسلام في حق المشركين عبدة الأوثان، وحقه ثلاثة أشياء: قتل النفس المحرمة، والزنا بعد الإحصان، والارتداد عن الدين. قوله: (وحسابه على الله)، أي: فيما يسر به من الكفر والمعاصي، والمعنى: إنا نحكم عليه بالإسلام، ونؤاخذه بحقوقه بحسب ما يقتضيه ظاهر حاله، والله سبحانه وتعالى يتولى حسابه فيثيب المخلص ويعاقب المنافق
215

ويجازي المصر بفسقه أو يعفو عنه.
رواه عمر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: روى مثل حديث أبي هريرة عبد الله بن عمر وأبوه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما، أما رواية ابن عمر فوصلها البخاري في الإيمان، وأما رواية عمر فوصلها في الزكاة.
301
((باب من أراد غزوة فورى بغيرها ومن أحب الخروج يوم الخميس))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من أمر من أراد غزوة فورى بغيرها، أي: بغير تلك الغزوة التي أرادها، يريد بذلك غيرة العدو، ولئلا تسبقه الجواسيس ويحذروهم، وأصله من الوردي هو جعل البيان وراءه وحاصل المعنى لأنه ألقي البيان وراء ظهره، كأنه قال: سأبينه، وأصحاب الحديث لا يضبطون الهمزة فيه، وقيده السيرافي في (شرح سيبويه) بالهمزة، وكان الذي لا يضبط فيه الهمزة سهلها. قوله: (ومن أحب) أي: وفي بيان أمر من أحب الخروج للسفر يوم الخميس، قال بعضهم: لعل الحكمة فيه ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: بورك لأمتي في بكورها يوم الخميس، وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني من حديث نبيط، بضم النون وفتح الباء الموحدة: ابن شريط، بفتح الشين المعجمة. قلت: طلب الحكمة في ذلك بالحديث الضعيف لا وجه له، والحكمة فيه تعلم من حديث الباب فإنه صرح فيه أنه كان يحب أن يخرج يوم الخميس، ومحبته صلى الله عليه وسلم إياه لا تخلو عن حكمة، فإن قلت: روى أنه خرج في بعض أسفاره يوم السبت. قلت: هذا لا ينافي ترك محبته الخروج يوم الخميس، فلعل خروجه يوم السبت كان لمانع من خروجه يوم الخميس، ولئن سلمنا عدم المانع فنقول: لعله كان يحب أيضا الخروج يوم السبت،
على ما روى: بارك الله في سبتها وخميسها، ولما لم يثبت عند البخاري إلا يوم الخميس، خصه بالذكر فافهم فإنه من الدقائق.
7492 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب رضي الله تعالى عنه وكان قائد كعب من بنيه قال سمعت كعب بن مالك حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، و عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي المديني، سمع جده كعبا وأباه وعمه عبد الله في توبة كعب، وروى عنه الزهري في مواضع، و عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي المديني سمع أباه عند الشيخين وابن عباس عند البخاري وكعب بن مالك بن أبي كعب، واسمه: عمرو السلمي المدني الشاعر صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وأنزل فيهم: * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * (التوبة: 811). وذكر صاحب (التلويح) بعد ذكر هذا الحديث والحديثين اللذين بعده: خرجه الستة، وخرجه البخاري مطولا ومختصرا في عشرة مواضع.
قوله: (وكان قائد كعب من بنيه)، أي: وكان عبد الله بن كعب قائد أبيه كعب بن مالك حين عمي. قوله: (من بنيه) وهم عبد الله هذا وعبيد الله وعبد الرحمن، وذكر البخاري في هذا الباب ثلاثة أحاديث كلها راجعة إلى كعب ابن مالك كما تراه.
8492 وحدثني أحمد بن محمد قال أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمان بن عبد الله بن كعب بن مالك قال سمعت كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه يقول كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها
216

رسول الله، صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل غزو عدو فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد.
.
هذا طريق آخر لحديث كعب أخرجه عن أحمد بن محمد بن موسى الذي يقال له: ابن السمسار مردويه المروزي عن عبد الله ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن محمد بن مسلم الزهري، وقال الدارقطني الرواية الأولى صواب، وحديث يونس مرسل، وقال الجياني: كذا هذا الإسناد عن ابن مردويه عن ابن المبارك في (الجامع) و (التاريخ الكبير)، وكذا رواه ابن السكن وأبو زيد ومشايخ أبي ذر الثلاثة، ولم يلتفت الدارقطني إلى قول عبد الرحمن بن عبد الله: سمعت كعبا، لأنه عنده وهم، قال أبو علي: وقد رواه معمر عن الزهري على نحو ما رواه ابن مردويه من الإرسال، قال: ومما يشهد لقول أبي الحسن ما ذكره الذهلي في (العلل): سمع الزهري من عبد الرحمن بن كعب ومن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، وسمع من أبيه عبد الله بن كعب، ولا أظن سمع عبد الرحمن بن عبد الله من جده شيئا، وإنما روايته عن أبيه وعمه، قال الجياني: والغرض من هذا كله الاستدراك على البخاري حيث خرجه على الاتصال، وهو مرسل، وقال الكرماني: لو كان بدل: ابن، كلمة: عن، لصح الاتصال يعني: لو قال أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن كعب بن مالك لأن عبد الرحمن سمع من أبيه عبد الله، وهو من كعب، قال: وكذا لو حذف عبد الله من البين. قلت: يحتمل أن يكون ذكر: ابن، موضع: عن تصحيفا من بعض الرواة.
قوله: (حتى كانت غزوة تبوك) وكانت في سنة تسع من الهجرة في رجب منها. قوله: (ومفازا)، المفازة المهلكة، سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والسلامة، كما قالوا: للديغ: سليم، وذكر ابن الأنباري عن ابن الأعرابي: أنها مأخوذة من قولهم قد فوز الرجل: إذا هلك، وقيل: لأن من قطعها فاز ونجا. قوله: (فجلى للمسلمين أمره)، بالجيم أي: أظهره ليتأهبوا لذلك، وهو مخفف اللام، يقال: جليت الشيء إذا كشفته وبينته وأوضحته، وفي (التلويح): ضبطه الدمياطي في حديث سعد في المغازي بالتشديد وهو خطأ.
9492 وعن يونس عن الزهري قال أخبرني عبد الرحمان بن كعب بن مالك أن كعب بن مالك رضي الله عنه كان يقول لقلما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس.
.
هذا موصول بالإسناد الأول عن عبد الله ابن المبارك عن يونس... إلى آخره. قوله: (لقلما)، اللام فيه للتأكيد، وقل، فعل ماض دخلت عليه كلمة: ما معناه: يكون خروجه صلى الله عليه وسلم في السفر قليلا في الأيام إلا يوم الخميس، فإن أكثر خروجه في السفر فيه، تقول: قل رجل يفعل كذا إلا زيد، معناه قليل من الناس يفعل هذا الفعل الأزيد.
0592 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
.
هذا طريق آخر عن عبد الله بن محمد المسندي عن هشام بن يوسف عن معمر بن راشد عن محمد بن مسلم الزهري إلى آخره.
والحديث أخرجه أبو داود في الجهاد أيضا عن سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك، قال: قلما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس، وأخرجه النسائي في السير عن سليمان بن داود عن ابن وهب عن يونس بن يزيد بإسناده. قال: قلما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر جهاد وغيره إلا يوم الخميس.
401
((باب الخروج بعد الظهر))
أي: هذا باب في بيان الخروج في السفر بعد الظهر.
217

1592 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثناحماد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم يصرخون بهما جميعا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وحماد هو ابن زيد، وأيوب هو السختياني، وأبو قلابة، بكسر القاف: عبد الله بن زيد الجرمي. والحديث مضى في كتاب الحج في: باب رفع الصوت بالإهلال، فإنه أخرجه هناك بهذا الإسناد بعينه، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: (يصرخون)، بفتح الراء وضمها أي: يلبون برفع الصوت. قوله: (بهما) أي: بالحج والعمرة.
501
((باب الخروج آخر الشهر))
أي: هذا باب في بيان جواز الخروج إلى السفر في آخر الشهر، وأراد بهذه الترجمة الرد على من كره ذلك. وقال ابن بطال: إن أهل الجاهلية كانوا يتحرون أوائل الشهور للأعمال ويكرهون التصرف في محاق القمر. قلت: المحاق من الشهر ثلاثة أيام من آخره.
وقال كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة لخمس بقين من ذي القعدة وقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة
هذا التعليق قطعة من حديث وصلها البخاري في كتاب الحج في: باب
. فإن قلت: روى أصحاب السنن وابن حبان في (صحيحه) عن صخر الغامدي بالغين المعجمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بورك لأمتي في بكورها). قلت: هذا لا يمنع جواز التصرف في غير وقت البكور، وإنما خص البكور بالبركة لكونه وقت النشاط. وقال الكرماني: قصد البخاري بهذا الحديث الرد على من كره ذلك عملا بقول المنجم، وقد استشكل هذا الحديث، وحديث عائشة أيضا الذي يأتي الآن، فقيل: إن كان سفره ذلك يوم السبت تبقى أربع من ذي القعدة، لأن الخميس كان أول ذي الحجة، كان أول ذي الحجة، وإن كان يوم الخميس فالباقي ست ولم يكن خروجه يوم الجمعة لقول أنس: صلى الظهر بالمدينة أربعا، والجواب أن الخروج يوم الجمعة. وقوله: (لخمس بقين)، أي: في أذهانهم حالة الخروج بتقدير تمامه، فاتفق إن كان الشهر ناقصا فأخبر بما كان في الأذهان يوم الخروج، لأن الأصل التمام.
2592 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمان أنها سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نري إلا الحج فلما دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل قالت عائشة فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا فقال نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه.
.
مطابقته للترجمة في قولها: (خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة) فإنها آخر الشهر، وهذا الحديث مضى في كتاب الحج في: باب ذبح الرجل البقر عن نسائه، فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن يحيى بن سعيد إلى آخره نحوه. قوله: (ولا نرى) أي: ولا نظن. قوله: (فدخل علينا)، بضم الدال على صيغة المجهول. قوله: (فقال نحر رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، ويروى: قالوا: وقد مضى الكلام فيه هناك.
قال يحيى فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه
218

يحيى هم ابن سعيد الأنصاري المذكور في سند الحديث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه. قوله: (أتتك) أي: عمرة بنت عبد الرحمن، والله أعلم.
601
((باب الخروج في رمضان))
أي: هذا باب في بيان جواز الخروج في السفر في شهر رمضان، وفيه رد على من يتوهك كراهة ذلك.
3592 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثني الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعلي بن عبد الله الذي يقال له: ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود الهذلي. والحديث مضى في كتاب الصوم في: باب من صام أياما من رمضان ثم سافر فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله ابن يوسف عن مالك عن ابن شهاب وهو الزهري... إلى آخره نحوه،
ومضى الكلام فيه هناك. و: (الكديد) بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى موضع قريب من مكة على نحو مرحلتين منها.
قال سفيان قال الزهري أخبرني عبيد الله عن ابن عباس وساق الحديث
أي: قال سفيان بن عيينة، قال محمد بن مسلم الزهري: أخبرني عبيد الله، وأشار بهذا إلى أن سفيان قال في الحديث المذكور: حدثني الزهري عن عبيد الله فروى عن الزهري بالتحديث وروى الزهري بالعنعنة عن عبيد الله، وهنا قال سفيان: قال الزهري، بلا تحديث ولا عنعنة، وقال الزهري: أخبرني عبيد الله... فروى عنه بصيغة الإخبار.
قال أبو عبد الله هذا قول الزهري وإنما يؤخذ بالآخر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا هكذا وقع في بعض النسخ وأبو عبد الله هو البخاري نفسه، وأشار بهذا إلى أن مذهب الزهري لعله أن طرو السفر في رمضان لا يبيح الإفطار لأنه شهد الشهر في أوله كطروه في أثناء اليوم، فقال البخاري: يؤخذ بالآخر من فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنه ناسخ للأول، وقد أفطر عند الكديد.
701
((باب التوديع))
أي: هذا باب في بيان مشروعية التوديع عند السفر، ولفظه بتناول توديع المسافر للمقيم ويتناول أيضا عكسه، وحديث الباب يشهد للأول ويؤخذ الثاني منه بطريق الأولى، بل هو الغالب في الوقوع.
4592 وقال ابن وهب أخبرني عمر و عن بكير عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث وقال لنا إن لقيتم فلانا وفلانا لرجلين من قريش سماهما فحرقوهما بالنار قال ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن أخذتموهما فاقتلوهما.
(الحديث 4592 طرفه في: 6103).
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم أتيناه نودعه) وهو توديع المسافر للمقيم في ظاهر الحديث، وقد مر الكلام فيه الآن، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، وعمرو، بفتح العين: هو ابن الحارث المصري، وبكير، بضم الباء الموحدة: تصغير بكر بن عبد الله بن الأشج، وسليمان بن يسار ضد اليمين.
وهذا الحديث أخرجه هنا معلقا، وأخرجه أيضا في كتاب الجهاد بعد عدة أبواب مسندا، وترجم بقوله: باب لا يعذب بعذاب الله، ثم قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن بكير عن سليمان عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، إلى آخره نحوه، وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا عن قتيبة وزاد أبو داود ويزيد بن خالد عن الليث. وأخرجه النسائي أيضا عن الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث
219

وزاد النسائي وذكر آخر، كلاهما عن بكير.
قوله: (عن بكير عن سليمان)، وفي رواية أحمد من حديث هاشم بن القاسم عن الليث حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج، وأوضح بنسبته وبالتحديث. قوله: (عن أبي هريرة) كذا وقع في جميع الطرق عن الليث ليس لين سليمان بن يسار وأبي هريرة أحد، وكذا وقع عند النسائي ورواه محمد بن إسحاق في السيرة وأدخل بين سليمان وأبي هريرة رجلا وهو أبو إسحاق الدوسي، وأخرجه الدارمي وابن السكن وابن حبان في (صحيحه) من طريق ابن إسحاق، وقال الترمذي: وقد ذكر محمد بن إسحاق بين سليمان بن يسار وبين أبي هريرة رجلا في هذا الحديث، وروى غير واحد مثل رواية الليث وحديث الليث بن سعد أشبه وأصح. انتهى. وسليمان بن يسار صح سماعه من أبي هريرة، وهذا الرجل ذكره أبو أحمد الحاكم في (الكنى) فيمن تكنى بأبي إسحاق ولم يقف له على اسم، ولم يذكر له راويا غير سليمان بن يسار، وقال: حديثه في أهل الحجاز، وذكره صاحب (الميزان) في الكنى، وقال: أبو إسحاق الدوسي عن أبي هريرة مجهول، وسماه ابن أبي شيبة في (مصنفه) إبراهيم في روايته هذا الحديث: عن عبد الرحمن بن سليمان عن أبي إسحاق بن يزيد بن حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج، فذكره. قوله: (في بعث)، أي: في جيش، وكان أمير هذا البعث حمزة بن عمرو الأسلمي، رواه أبو داود من رواية محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمره على سرية، قال: فخرجت فيها، وقال: إن وجدتم فلانا فاحرقوه بالنار، فوليت فناداني فرجعت إليه، فقال: إن وجدتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. وهذا كما رأيت ذكر فلانا بالإفراد، وفي رواية البخاري وغيره: فلانا وفلانا وهما: هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما سبق وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، من المدينة شرط عليه أن يجهز إليه ابنته زينب فجهزها، فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك، وفي رواية سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: أن هبار بن الأسود أصاب زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم بشيء وهي في خدرها، فأسقطت، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم سرية فقال: إن وجدتموه فاجعلوه بين حزمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار. ثم قال: إني لأستحيى من الله، لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله، فكان إفراد هبار هنا بالذكر لكونه كان الأصل في ذلك، والآخر كان تبعا له، وسماه ابن السكن في روايته من طريق ابن إسحاق: نافع بن عبد قيس، وكذا نص عليه ابن هشام في سيرته، وحكى السهيلي عن (مسند البزار) أنه: خالد بن عبد قيس، قيل: لعله تصحف عليه، وإنما هو نافع، كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار، وكذلك أورده ابن بشكوال من (مسند البزار) وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك، وأما هبار، فهو بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة وفي آخره راء: ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن
عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي، قال أبو عمر: ثم أسلم هبار بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر الزبير أنه لما أسلم وقدم مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: سب من سبك فانتهوا عنه. قوله: (وإن النار لا يعذب بها إلا الله) هو خبر بمعنى النهي، ووقع في رواية ابن لهيعة: وإنه لا ينبغي، وفي رواية ابن إسحاق: ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله، وقال المهلب: ليس نهيه عن التحريق بالنار على معنى التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع لله تعالى، والدليل على أنه ليس بحرام سمل أعين الرعاة بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة، وتحريق الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وروى ابن شاهين من حديث صالح بن حبان عن ابن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا إلى رجل كذب عليه...
. وفي امرأة واقعها فقال: إن وجدته حيا فاقتله، وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار، فوجده لدغ فمات فحرقه. وفي الحديث أن نبيا من الأنبياء، صلوات الله عليهم، قرصته نملة، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فقال الله له: هلا نملة واحدة؟ قال الحكيم في (نوادر الأصول): وهو إذن في إحراقها، لأنه إذا جاز إحراق واحدة جاز في غيرها، وقالوا: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العرنيين كانت قصاصا أو منسوخة، وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقا للظفر بالعدو،
220

ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان، وقيل: حديث الباب يرد هذا كله، لأن ظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم، سواء كان ذلك بوحي أو باجتهاد منه، صلى الله عليه وسلم. وقال ابن العربي في هذا نسخ الحكم قبل العمل به. ومنع منه المبتدعة والقدرية، وقال الحازمي: ذهبت طائفة إلى منع الإحراق في الحدود، قالوا: يقتل بالسيف، وإليه ذهب أهل الكوفة النخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ومن الحجازيين: عطاء، وذهبت طائفة في حق المرتد إلى مذهب علي، رضي الله تعالى عنه، وقالت طائفة: من حرق يحرق، وبه قال مالك وأهل المدينة والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق.
وفي الحديث: جواز الحكم احتهادا، ثم الرجوع عنه، واستحباب ذكر الدليل عند الحكم لرفع الإلباس. وفيه: نسخ السنة بالسنة وهو بالاتفاق. وفيه: جواز نسخ الحكم قبل العلم به، أو قبل التمكن من العمل به، وفي الأخير خلاف علم في موضعه. وفيه: مشروعية توديع المسافر لأكابر أهل بلده وتوديع أصحابه له أيضا.
801
((باب السمع والطاعة للإمام))
أي: هذا باب في بيان وجوب السمع والطاعة للإمام، زاد الكشميهني في روايته: ما لم يأمر بمعصية، وهذا القيد مراد وإن لم يذكر، ونص الحديث يدل عليه.
5592 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثني محمد بن صباح قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.
(الحديث 5592 طرفه في: 4417).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
وأخرجه من طريقين: الأول: عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن لخطاب عن نافع عن عبد الله بن عمر، وأخرجه البخاري أيضا في الأحكام، وأخرجه مسلم في المغازي عن زهير ابن حرب. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن مسدد به. الطريق الثاني: عن محمد بن صباح، بتشديد الباء الموحدة: عن إسماعيل ابن زكرياء الخلقاني عن عبيد الله... إلى آخره.
قوله: (السمع)، أي: إجابة قول الأمير، إذ طاعة أوامرهم واجبة ما لم يأمر بمعصية وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويأتي من حديث علي بلفظ: لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف.
وفي الباب عن عمران بن حصين أخرجه النسائي، والحكم بن عمر وأخرجه الطبراني وابن مسعود وغيرهم، وذكر عياض: أجمع العلماء على وجوب طاعة الإمام في غير معصية وتحريمها في المعصية، وقال ابن بطال: احتج بهذا الخوارج فرأوا الخروج على أئمة الجور والقيام عليهم عند ظهور جورهم، والذي عليه الجمهور: أنه لا يجب القيام عليهم عند ظهور جورهم ولا خلعهم إلا بكفرهم بعد إيمانهم، أو تركهم إقامة الصلوات، وأما دون ذلك من الجور فلا يجوز الخروج عليهم إذا استوطن أمرهم وأمر الناس معهم، لأن في ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفي القيام عليهم تفرق الكلمة، ولذلك لا يجوز القتال معهم لمن خرج عليهم عن ظلم ظهر منهم، وقال ابن التين: فأما ما يأمر به السلطان من العقوبات فهل يسع المأمور به أن يفعل ذلك من غير ثبت أو علم يكون عنده بوجوبها؟ قال مالك: إذا كان الإمام عدلا كعمر بن الخطاب أو عمر بن العزيز، رضي الله تعالى عنهما، لم تسمع مخالفته وإن لم يكن كذلك وثبت عنده الفعل جاز، وقال أبو حنيفة وصاحباه: ما أمر به الولاة من ذلك غيرهم يسعهم أن يفعلوه فيما كان ولايتهم إليه، وفي رواية عن محمد: لا يسع المأمور أن يفعله حتى يكون الآمر عدلا، وحتى يشهد بذلك عنده عدل سواء إلا في الزنا فلا بد من ثلاثة سواء، وروي نحو الأول عن الشعبي، رحمه الله.
221

901
((باب يقاتل من وراء الإمام ويتقى به))
أي: هذا باب يذكر فيه أن الإمام جنة يقاتل من ورائه، ويقاتل على صيغة المجهول، والمراد به المقاتلة للدفع عن الإمام سواء كان ذلك من خلفه أو قدامه، ولفظ: وراء، يطلق على المعنيين. قوله: (ويتقي به)، أيضا على صيغة المجهول عطف على: يقاتل، أي: يتقي بالإمام شر العدو وأهل الفساد والظلم، وكيف لا وإنه يمنع المسلمين من أيدي الأعداء ويحمي بيضة الإسلام ويتقي منه الناس ويخافون سطوته.
6592 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد أن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحن الآخرون السابقون. وبهذا الإسناد من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا وإن قال بغيره فإن عليه منه.
(الحديث 7592 طرفه في: 7317).
مطابقته للترجمة في قوله: (وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به) وسند هذا الحديث بهؤلاء الرجال قد مر غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
وأخرج النسائي بعض الحديث الإمام جنة في البيعة وفي السير.
قوله: (نحن الآخرون) أي: في الدنيا (السابقون) في الآخرة، وهذه القطعة مرت في كتاب الوضوء في: باب البول في الماء الدائم، فإنه أخرجه هناك، وقال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: أخبرنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: نحن الآخرون السابقون، ثم قال: وبإسناده قال: لا يبولن... الحديث. قوله: (بهذا الإسناد) أي: الإسناد المذكور، قال صلى الله عليه وسلم: من أطاعني... إلى آخره، قال الخطابي: كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا يطيعون غير رؤساء قبائلهم، فلما ولي في الإسلام الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، وإنما قال لهم صلى الله عليه وسلم هذا القول ليعلمهم أن طاعة الأمراء الذين كان يوليهم وجبت عليهم لطاعة رسول الله، صلى الله عليه وسلم وليس هذا الأمر خاصا بمن باشره الشارع بتولية الإمام به كما نبه عليه القرطبي، بل هو عام في كل أمير عدل للمسلمين ويلزم منه نقيض ذلك في المخالفة والمعصية. قوله: (وإنما الإمام جنة)، بضم الجيم وتشديد النون: أي: سترة، لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض، والجنة: الدرع، وسمي المجن مجنا، لأنه يستر به عند القتال، والإمام كالساتر، وقال الهروي: معنى الإمام جنة أن يفي الإمام الزلل والسهو كما يقي الترس صاحبه من وقع السلاح، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون أراد به جنة في القتال، وفيما يكون منه في أمره دون غيره. قوله: (يقاتل من ورائه) على صيغة المجهول كما ذكرناه آنفاف، أي: يقاتل معه الكفار والبغاة وسائر أهل الفساد، فإن لم يقاتل من ورائه وأتى عليه مرج أمر الناس وأكل القوي الضعيف وضعيت الحدود والفرائض، وتطاول أهل الحرب إلى المسلمين. قوله: (ويتقي به)، مجهول أيضا، وأصله: يوتقى به، التاء مبدلة من الواو، وبعد الإبدال تدغم التاء في التاء، لأن أصله من الوقاية. وقال المهلب: معنى يتقي به يرجع إليه في الرأي والعقل، وغير ذلك. قوله: (وإن قال بغيره) أي: وأن أمر بغير تقوى الله وعدله، والتعبير عن الأمر بالقول شائع، وقيل: معناه، وإن فعل بغيره، وقال بعضهم: هذا ليس بظاهر، فإنه قسيم قوله: فإن أمر، فيحمل على أن المراد: وإن أمر. قلت: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي: أخذ، وقال برجله، أي: مشى، وقال بالماء على يده، أي: قلب، وقال يثوبه أي: رفعه، فإذا كان كذلك لا ينكر استعمال: قال، هنا بمعنى: فعل، وقال الخطابي: قال هنا بمعنى: حكم، يقال: قال الرجل واقتال إذا حكم، ثم قيل: إنه هنا مشتق من القيل، بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف، وهو الملك الذي ينفذ حكمه، وهذا في لغة حمير. قوله: (فإن عليه منه) أي: فإن الوبال الحاصل عليه لا على المأمور، قال الكرماني: ويحتمل أن يكون بعضه عليه. قلت: هذا على تقدير أن تكون من للتبعيض، والظاهر أن المأمور أيضا لا يخلو عن
222

التبعة، على ما حكي أن الحسن البصري وعامر الشعبي حضرا مجلس عمر بن هبيرة، فقال لهما: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في أمور، فما تريان؟ فقال الشعبي: أصلح الله الأمير، أنت مأمور والتبعة على آمرك، فقال الحسن: إذا خرجت من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فإن الله تعالى ينجيك من الأمير، ولا ينجيك الأمير من الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
011
((باب البيعة في الحرب أن لا يفروا))
أي: هذا باب في بيان البيعة في الحرب على أن لا يفروا، أو في بعض النسخ لفظة: على موجودة وكلمة: أن، مصدرية، تقديره: بأن لا يفروا، أي: بعدم الفرار.
وقال بعضهم على الموت
أي: البيعة في الحرب على الموت، وقال بعضهم: كأنه أشار إلى أن لا تنافي بين الروايتين لاحتمال أن يكون ذلك في مقامين. قلت: عدم التنافي بينهما ليس من هذا الوجه، بل المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد.
لقول الله تعالى * (لقد رضي الله على المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * (الفتح: 81).
هذا تعليل لقوله، وقال بعضهم: على الموت، وجه الاستدلال به أن لفظ: يبايعونك، مطلق يتناول البيعة على أن لا يفروا وعلى الموت، ولكن المراد البيعة على الموت بدليل أن سلمة بن الأكوع، وهو ممن بايع تحت الشجرة، أخبر أنه بايع على الموت وأراد بالمؤمنين: هم الذين ذكرهم الله في قوله: * (إن الذين يبايعونك إنما
يبايعون الله..) * (الفتح: 01). الآية، وقيل: هذا عام في كل من بايع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والشجرة كانت سمرة، وقيل: سدرة، وروي أنها عميت عليهم من قابل فلم يدروا أين ذهبت، وكان هذا في غزوة الحديبية سنة ست في ذي القعدة بلا خلاف، وسميت هذه البيعة بيعة الرضوان.
8592 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا جويرية عن نافع قال قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجعنا من العام المقبل فما اجتم منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها كانت رحمة من الله فسألت نافعا على أي شيء بايعهم على الموت قال لا بل بايعهم على الصبر.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (بل بايعهم على الصبر) فإن المبايعة على الصبر هو عدم الفرار في الحرب، و موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، و جويرية تصغير جارية ابن أسماء الضبعي البصري. وهذا الحديث من أفراده.
قوله: (من العام المقبل) أي: الذي بعد صلح الحديبية. قوله: (فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها) أي: ما وافق منا رجلان على هذه الشجرة أنها هي التي بايعنا تحتها، بل خفي مكانها، وقيل: أشبهت عليهم. قوله: (كانت رحمة)، أي: كانت هذه الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه، قال تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) *. (الفتح: 81). وقال النووي: سبب خفائها أن لا يفتتن الناس بها لما جرى تحتها من الخير، ونزول الرضوان والسكينة وغير ذلك، فلو بقيت ظاهرة معلومة لخيف تعظيم الأعراب والجهال إياها وعبادتهم إياها، وكان خفاؤها رحمة من الله تعالى. قوله: (فسألت نافع ا) السائل هو جويرية الراوي. قوله: (على الموت)، أي: أعلى الموت؟ وهمزة الاستفهام مقدرة فيه. قوله: (قال: لا) أي: قال نافع: لم يكن مبايعتهم على الموت، بل كانت على الصبر، واعترض الإسماعيلي بأن هذا من قول نافع وليس بمسند، وقال بعضهم: وأجيب: بأن الظاهر أن نافعا إنما جزم بما أجاب به لما فهمه من مولاه ابن عمر، فيكون مسندا بهذه الطريقة، وفيه نظر لا يخفى.
9592 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه قال لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت فقال لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الحديث 9592 طرفه في: 7614).
223

مطابقته للترجمة يمكن أن تكون لقوله: (وقال بعضهم: على الموت لأنه من الترجمة، والمفهوم من كلام عبد الله بن زيد أنه بايع على الموت، ووهيب بالتصغير هو ابن خالد، وعمرو بن يحيى بن عمارة المازني الأنصاري المدني، وعباد بتشديد الباء الموحدة ابن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري، يروي عن عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري المازني المدني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن إساعيل عن أخيه أبي بكر. وأخرجه مسلم في المغازي عن إسحاق ابن إبراهيم.
قوله: (ولما كان زمن الحرة)، وهي الواقعة التي كانت بالمدينة في زمن يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، ووقعة الحرة حرة زهرة، قاله السهيلي. وقال الواقدي وأبو عبيد وآخرون: هي حرة وأقم، أطم شرقي المدينة، و: الحرة، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وهي في الأصل كل أرض كانت ذات حجارة سود محرقة والحرار في بلاد العرب كثيرة وأشهرها ثلاثة وعشرون حرة، قاله ياقوت. وسبب وقعة الحرة أن عبد الله بن حنظلة وغيره من أهل المدينة وفدوا إلى يزيد فرأوا منه ما لا يصلح، فرجعوا إلى المدينة فخلعوه وبايعوا عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، وأرسل إليهم يزيد مسلم بن عقبة الذي قيل فيه: مسرف بن عقبة، فأوقع بأهل المدينة وقعة عظيمة، قتل من وجوه الناس ألفا وسبعمائة، ومن أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان. قوله: (إن ابن حنظلة) وهو عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الذي يعرف أبوه بغسيل الملائكة، وذلك أن حنظلة قتل شهيدا يوم أحد، قتله أبو سفيان بن حرب، وقال: حنظلة بحنظلة، يعني بأبيه حنظلة المقتول ببدر، وأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة غسلته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة حنظلة: ما كان شأنه؟ قالت: كان جنبا وغسلت إحدى شقي رأسه، فلما سمع لهيعة خرج. فقتل. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رأيت الملائكة تغسله، وعلقت امرأته تلك الليلة بابنة عبد الله بن حنظلة، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وله سبع سنين، وقد حفظ عنه. وقال الكرماني: ابن حنظلة هو الذي كان يأخذ ليزيد واسمه عبد الله، أو المراد به نفس يزيد، لأن جده أبا سفيان كان يكنى أيضا بأبي حنظلة، لكن على هذا التقدير يكون لفظ الأب محذوفا بين الأب وحنظلة تخفيفا، كما أنه محذوف معنى، لأنه نسبة إلى الجد أو جعله منسوبا إلى العم استخفافا واستهجانا واستبشاعا لهذه الكلمة المرة. انتهى. قلت: الكرماني خبط ههنا خبط عشواء وتعسف في هذا الكلام من غير أصل، والصواب ما ذكرناه. قوله: (لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم) فيه إشارة إلى أنه بايع رسول الله، صلى الله عليه وسلم على الموت، ولكنه ليس بصريح، فلذلك ذكر البخاري عقيبه حديث سلمة بن الأكوع لتصريحه فيه بأنه بايعه على الموت.
0692 حدثنا المكي بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله تعالى عنه قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ثم عدلت إلى ظل الشجرة فلما خف الناس قال يا ابن الأكوع ألا تبايع قال قلت قد بايعت يا رسول الله قال وأيضا فبايعته الثانية فقلت له يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذ قال على الموت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: وقال بعضهم: على الموت، المكي، بتشديد الياء آخر الحروف هو اسمه وليس بنسبة، ويزيد من الزيادة ابن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، والأكوع اسمه سنان بن عبد الله.
وهذا الحديث من ثلاثيات البخاري الحادي عشر. وأخرجه أيضا في المغازي عن قتيبة وفي الأحكام عن القعنبي. وأخرجه مسلم في المغازي عن قتيبة به وعن إسحاق
ابن إبراهيم. وأخرجه الترمذي والنسائي في السير جميعا عن قتيبة.
قوله: (قال يا ابن الأكوع) أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن الأكوع! ألا تبايع؟ إنما قال ذلك مع أنه بايع مع الناس، لأنه أراد به تأكيد بيعته لشجاعته وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة. وقال أيضا: أي بايع أيضا، فبايعه مرة أخرى، وهو معنى قوله: فبايعته الثانية، أي: المرة الثانية. قوله: (فقلت له: يا با مسلم)، القائل هو يزيد بن أبي عبد الراوي عنه، وأبو مسلم كنية سلمة بن الأكوع. قوله: (على الموت)، قد ذكرنا أن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت البتة، والدليل عليه ما رواه الترمذي عن جابر بن
224

عبد الله في قوله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) * (الفتح: 81). قال جابر: (بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت)، وسيأتي عن عبادة، رضي الله تعالى عنه، بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وروي من حديث معقل بن يسار، قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم (يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ونحن أربع عشرة ومائة). وقال: لم نبايعه على الموت.
3692 حدثنا إسحاق بن إبراهيم سمع محمد بن فضيل عن عاصم عن أبي عثمان عن مجاشع رضي الله تعالى عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فقلت بايعنا على الهجرة فقال مضت الهجرة لأهلها فقلت علام تبايعنا قال على الإسلام والجهاد.
..
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (والجهاد) لأن مبايعتهم على الجهاد لم تكن إلا على أن لا يفروا، وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه، ومحمد بن فضيل، بضم الفاء مصغر فضل ابن غزوان أبو عبد الرحمن الضبي مولاهم الكوفي، وعاصم هو ابن سليمان الأحول، وأبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل النهدي، بالنون البصري، وقد مر غير مرة ومجاشع، بضم الميم وتخفيف الجيم وكسر الشين المعجمة وفي آخره عين مهملة: ابن مسعود السلمي، بضم السين، وفي بعض النسخ أبوه مسعود مذكور، ومجاشع هذا قتل يوم الجمل، وكان له فرس يسابق عليها، وقد أخذ في غاية واحدة خمسين ألف دينار.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن عمرو بن خالد وعن محمد بن أبي بكر وفي الجهاد أيضا عن إبراهيم بن موسى. وأخرجه مسلم في المغازي عن محمد بن الصباح وعن سويد بن سعيد وعن أبي بكر بن أبي شيبة.
قوله: (وأخي)، أخوه اسمه: مجالد بضم، الميم وتخفيف الجيم: ابن مسعود السلمي، قال أبو عمر: له صحبة ولا أعلم له رواية، كان إسلامه بعد إسلام أخيه، بعد الفتح، ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه: أن مجالد بن مسعود قتل يوم الجمل، وأنه روي عنه أبو عثمان النهدي وقال أبو عمر لم يقل في مجاشع أنه قتل يوم الحمل قولهم ولا شك أنه قتل يوم الجمل ولا تبعد رواية أبي عثمان عنهما، كذا قال في (الاستيعاب) قوله: (بايعنا)، بكسر الياء: أمر من بايع، يخاطب به مجاشع النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مضت الهجرة لأهلها)، وهم الذين هاجروا قبل الفتح، وحديث مجاشع كان بعد الفتح، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا هجرة بعد الفتح إنما هو جهاد ونية)، فكان من بايع قبل الفتح لزمه الجهاد أبدا ما عاش إلا لعذر يجوز له التخلف، وأما من أسلم بعد الفتح فله أن يجاهد وله أن يتخلف بنية صالحة. كما قال: (جهاد ونية)، إلا أن ينزل عدو أو ضرورة، فيلزم الجهاد كل أحد. قوله: (فقلت علام تبايعنا؟) أي: على أي شيء تبايعنا؟ وأصله: على ما، لأن: ما، الاستفهامية جرت فيجب حذف الألف عنها وإبقاء الفتحة دليلا عليها، نحو: فيم، وإلام، وعلام، وعلة حذف الألف الفرق بين الاستفهام والخبر، وأما قراءة عكرمة وعيسى * (عما يتساءلون) * (النبأ: 1). فنادر. وقال ابن التين: كان من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح من غير أهل مكة وبايعه على المقام بالمدينة كان عليه المقام بها حياته، صلى الله عليه وسلم، ومن لم يشترط المقام من غير أهل مكة بايع ورجع إلى موضعه، كفعل عمر بن
225

حريب ووفد عبد القيس وغيرهم، وكانت الهجرة فرضا على أهل مكة إلى الفتح، ثم زالت الهجرة التي توجب المقام مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى وفاته ثم يرجع المهاجر كما فعل صفوان. قوله: (قال: على الإسلام) أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبايعكم على الإسلام والجهاد إذا احتيج إليه، والله أعلم.
111
((باب عزم الإمام على الناس فيما يطيقون))
أي: هذا باب في بيان أن عزم الإمام على الناس إنما يكون فيما يطيقونه، يعني: وجوب طاعة الإمام إنما يكون عند الطاقة والعزم هو الأمر الجازم الذي لا تردد فيه.
4692 حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل قال قال عبد الله رضي الله تعالى عنه لقد أتاني اليوم رجل فسألني عن أمر ما دريت ما أرد عليه فقال أرأيت رجلا مؤديا نشيطا يخرج مع أمرائنا في المغازي فيعزم علينا في أشياء لا نحصيها فقلت له والله ما أدري ما أقول لك إلا أنا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعسى أن لا يعزم علينا في أمر إلا مرة حتى نفعله وإن أحدكم لن يزال بخير ما اتقى الله وإذا شك في نفسه شيء سأل رجلا فشناه منه وأوشك أن لا تجدوه والذي لا إله إلا هو ما أذكر ما غبر من الدنيا إلا كالثغب شرب صفوه وبقي كدره.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (في أشياء لا نحصيها) أي: لا نطيقها من قوله تعالى: * (علم أن لن تحصوه) * (المزمل: 02). وقال الداودي: ويحتمل أن يريد: لا ندري هل هو طاعة أم معصية؟ قلت: المعنى الأول هو الأوجه، لأن المطابقة للترجمة لا تحصل إلا به، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو وائل شقيق بن
سلمة، وعبد الله هو ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، ورجال هذا الإسناد كلهم كوفيون.
قوله: (رجل فاعل: أتاني، ولم يدر اسمه. قوله: (ما أرد عليه))، جملة في محل نصب على أنها مفعول قوله: ما دريت. قوله: (أرأيت) أي: أخبرني. قوله: (مؤديا) بضم الميم وسكون الهمزة وكسر الدال، يعني: ذا أداة للحرب كاملة، ولا يجوز حذف الهمزة منه حتى لا يتوهم أنه من: أودى، إذا هلك، وقال الكرماني: معناه: قويا متمكنا، وكذا فسره الداودي، والأول أظهر. قوله: (نشيطا) بفتح النون وكسر الشين المعجمة من: النشاط، وهو الأمر الذي تنشط له وتخف إليه وتؤثر فعله. قوله: (لا نحصيها)، قد مر تفسيره. قوله: (يخرج)، قال بعضهم: كذا في الرواية بالنون. قلت: مجرد الدعوى أن الرواية بالنون لا يسمع، بل يحتاج ذلك إلى البرهان، بل الظاهر أنه بالياء آخر الحروف، والضمير الذي فيه يعود إلى قوله: رجل، وأيضا فإن في رواية النون قلقا في التركيب على ما لا يخفى. فإن قلت: إذا كان يخرج الياء، كان مقتضى الكلام أن يقول: مع أمرائه، بلفظ الغائب ليوافق: رجلا. قلت: هذا من باب الالتفات، وهو نوع من أنواع البديع، وقال الكرماني: معنى رجلا أن أحدنا يخرج مع أمرائنا، والذي قلت: هو الأوجه، فلا حاجة إلى هذا التعسف. قوله: (فيعزم علينا)، أي: الأمير يشدد علينا في أشياء لا نطيقها. وقال الكرماني: فيعزم إن كان بلفظ المجهول فهو ظاهر، يعني: لا يحتاج إلى تقدير الفاعل ظاهرا هذا إن كان جاءت به رواية. قوله: (حتى نفعله)، غاية لقوله: لا يعزم، أو للعزم الذي يتعلق به المستثنى، وهو مرة، وحاصل السؤال أن قوله: أرأيت، بمعنى: أخبرني، كما ذكرنا، وفيه نوعان من التصرف: إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار، وإطلاق الاستفهام وإرادة الأمر، فكأنه قال: أخبرني عن حكم هذا الرجل: يجب عليه مطاوعة الأمير أم لا؟ فجوابه: وجوب المطاوعة، ويعلم ذلك من الاستثناء، إذ لولا صحته لما أوجبه الرسول عليهم، ويحتمل عزمه صلى الله عليه وسلم تلك المرة على ضرورة كانت باعثة له عليه. قوله: (وإذا شك في نفسه شيء) هو من باب القلب، وأصله: شك نفسه في شيء، أو شك بمعنى لصق. وقوله: شيء، أي: مما تردد فيه أنه جائز أو غير جائز. قوله: (فشفاه منه)، أي: أزال مرض التردد فيه، وأجاب له بالحق. قوله: (وأوشك)، أي: كاد أن لا يجدوا في الدنيا أحدا، يفتي بالحق ويشفي القلوب عن الشبه
226

والشكوك. قوله: (ما غبر)، بالغين المعجمة أي: ما بقي، والغبور من الأضداد: البقاء والمضي، وقال قوم: الماضي غابر والباقي غبر، وهو هنا يحتمل الأمرين، وقال ابن الجوزي: هو بالماضي هنا أشبه لقوله: ما أذكر. قوله: (إلا كالثغب)، بفتح الثاء المثلثة وسكون الغين المعجمة، ويجوز فتحها، وهو الماء المستنقع في الموضع المطمئن، والجمع ثغاب شبه بقاء الدنيا بباقي غدير ذهب صفوه، وبقي كدره، وإذا كان هذا في زمن ابن مسعود، وقد مات هو قبل مقتل عثمان، رضي الله تعالى عنه، ووجود تلك الفتن العظيمة فماذا يكون اعتقاده فيما جاء بعد ذلك، ثم بعد ذلك وهلم جرا؟ قال القزاز: ثغب وثغب والفتح أكثر من الإسكان، وفي (المنتهى): بالتحريك أفصح، وهو موضع الماء. وقيل: الغدير الذي يكون في غلظ من الأرض أو في ظل جبل لا يصيبه حر الشمس فيبرد ماؤه يريد عبد الله ما ذهب من خير الدنيا وبقي من شر أهلها، والجمع ثغبان وثغبان مثل حمل وحملان، ومن سكن قال: ثغاب. وفي (المحكم): الثغب بقية الماء العذب في الأرض، وقيل: هو أخدود يحتفره المائل من عل فإذا انحطت حفرت أمثال القبور، والديار فيمضي السيل عنها ويغادر الماء فيها فتصفقه الريح، فليس شيء أصغى منه ولا أبرد، فسمي الماء بذلك المكان، وقيل: كل غدير ثغب، والجمع أثغاب، وقال المهلب: هذا الحديث يدل على شدة لزوم الناس طاعة الإمام ومن يستعمله.
211
((باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس))
أي: هذا باب يذكر فيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم... إلى آخره، والحكمة فيه أن الشمس إذا زالت تهب رياح النصر ويتمكن من القتال بوقت الإبراد وهبوب الرياح، لأن الحرب كلما استحرت وحمي المقاتلون بحركتهم فيها وما حملوه من سلاحهم هبت أرواح العشي فبردت من حرهم ونشطتهم، وخففت أجسامهم بخلاف اشتداد الحر. وقد روى الترمذي من حديث النعمان بن مقرن قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا طلع الفجر إمسك حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس، فإذا زالت الشمس قاتل حتى العصر، ثم يمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل. وكان يقال: عند ذلك تهيج رياح النصر ويدعو المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم، وروى أحمد في (مسنده) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن ينهض إلى عدوه عند زوال الشمس. وروى الطبراني من حديث عتبة بن غزوان السلمي، قال: كنا نشهد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القتال فإذا زالت الشمس قال لنا: احملوا فحملنا. وروى أيضا من حديث ابن عباس: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يلق العدو أول النهار أخر حتى تهب الرياح، ويكون عند مواقيت الصلاة.
5692 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا معاوية بن عمر و قال حدثنا أبو إسحاق عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما فقرأته أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها انتظر حتى مالت الشمس. ثم قال في الناس قال أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال أللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (انتظر حتى مالت الشمس) أي: حتى زالت. وعبد الله بن محمد المسندي، ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي البغدادي، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري وموسى بن عقبة إلى آخره. وهذا السند بعين هؤلاء الرجال قد مر في الجهاد في: باب الصبر عند القتال، مع بعض الحديث، ومضى أيضا كذلك في: باب الجنة تحت بارقة السيوف، واقتصر فيه على قوله: واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وقد مر الكلام فيه هناك.
قوله: (منزل الكتاب) أي: يا منزل القرآن، وقد وقع السجع اتفاقا من غير قصد.
227

311
((باب استئذان الرجل الإمام))
أي: هذا باب في بيان حكم استيذان الرجل من الرعية، أي: طلبه الإذن من الإمام في الرجوع أو التخلف عن الخروج أو نحو ذلك.
لقوله عز وجل: * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك) * (النور: 26). إلى آخر الآية
هذه الآية الكريمة في سورة النور، وتمامها: * (أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فاذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم) * (النور: 26). والاحتجاج بها في قوله: * (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم) * (النور: 26). ووجه ذلك أن الله تعالى جعل ترك ذهابهم عن مجلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله، والإيمان برسوله وجعلهما كالتسبب له والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما، وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله: * (إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) * (النور: 26). والمراد بالأمر الجامع: الطاعة يجتمعون عليه نحو: الجمعة والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك. قوله: * (لم يذهبوا حتى يستأذنواه) * (النور: 26). قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر لم يخرج حتى يستأذن، أي: يقوم فيراه صلى الله عليه وسلم فيعرف أن له حاجة، فيأذن له، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، ولم يأمره الله تعالى بالإذن لكلهم، بل قال: * (فاذن لمن شئت) * (النور: 26). قال مقاتل: نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، استأذن في الرجوع إلى أهله في غزوة تبوك، فأذن له. وقال: انطلق ما أنت بمنافق، يريد بذلك تسميع المنافقين. وقال المهلب: هذه الآية أصل أن لا يبرح أحد من السلطان إذا جمع الناس لأمر من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم إلا بإذنه، فإن رأى أن يأذن له أذن وإلا لم يأذن له.
7692 حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال أخبرنا جرير عن المغيرة عن الشعبي عن جابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح لنا قد أعيا فلا يكاد يسير فقال لي ما لبعيرك قال قلت عيي قال فتخلف رسول الله فزجره ودعا له فما زال بين يدي الإبل قدامها يسير فقال لي كيف ترى بعيرك قال قلت بخير قد أصابته بركتك قال أفتبيعنيه قال فاستحييت ولم يكن لنا ناضح غيره قال فقلت نعم قال فبعنيه فبعته إياه على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة قال فقلت يا رسول الله أني عروس فاستأذنته فأذن لي فتقدمت الناس إلى المدينة حتى أتيت المدينة فلقيني خالي فسألني عن البعير فأخبرته بما صنعت فيه فلامني قال وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي حين استأذنته هل تزوجت بكرا أم ثيبا فقلت تزوجت ثيبا فقال هلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك قلت يا رسول الله توفي والدي أو استشهد ولي أخوات صغار فكرهت أن أتزوج مثلهن فلا تؤدبهن ولا تقوم عليهن فتزوجت ثيبا لتقوم عليهن وتؤدبهن قال فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت عليه بالبعير فأعطاني ثمنه ورده علي.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إني عروس فاستأذنته فأذن لي)، وإسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وجرير
228

هو بن عبد الحميد، والمغيرة هو مقسم الضبي أحد فقهاء الكوفة، والشعبي هو عامر.
والحديث قد مر مطولا ومختصرا في الاستقراض وفي الشروط، ومضى الكلام فيه مستقصى.
قوله: (ناضح) أي: بعير يستقى عليه الماء. قوله: (أعيى)، أي: تعب وعجز، وكذلك: عيى، كلاهما بمعنى. قوله: (فقار ظهره)، بكسر الفاء، وهي خرزات عظام الظهر، أي: على أن لي الركوب عليه إلى المدينة. قوله: (عروس)، يستوي فيه الرجل والمرأة. قوله: (لامني) أي: على بيع الناضح، إذ لم يكن له غيره. قوله: (ورده) أي: الجمل، فحصل له الثمن والمثمن كلاهما.
قال المغيرة هذا في قضائنا حسن لا نرى به بأسا
المغيرة هو المذكور في إسناد الحديث، وظاهره تعليق. قال بعضهم: هو موصول بالإسناد المذكور إلى المغيرة، وفيه نظر لا يخفى. قوله: هذا، أي: البيع بمثل هذا الشرط حسن في حكمنا به لا بأس بمثله، لأنه أمر معلوم لا خداع فيه ولا موجب للنزاع. وقال الداودي: مراده جواز زيادة الغريم على حقه تأسيا برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورد عليه ابن التين: بأنه لم يذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم قضاه وزاده.
411
((باب من غزا وهو حديث عهد بعرسه))
أي: هذا باب في ذكر من غزا، والحال أنه حديث عهد بعرسه، بكسر العين أي: بزوجته، ويجوز ضم العين أي: بزمان عرسه، وفي رواية الكشميهني: بعرس، بلا ضمير.
فيه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في هذا الباب حديث جابر، وأراد به الحديث المذكور فيما قبله، واكتفى بذكر هذا المقدار لتكرر هذا الحديث.
511
((باب من اختار الغزو بعد البناء))
أي: هذا باب في بيان أمر من اختار الغزو بعد بنائه بزوجته، أي: بعد دخوله عليها، كيف يكون حكمه؟ هل يمنع؟ كما دل عليه حديث أبي هريرة، أو لا يمنع؟ والحديث يدل على الأولوية، ويأتي حديث أبي هريرة الآن، واعترض الداودي على هذه الترجمة فقال: لو قال: باب من اختار البناء قبل الغزو، وكان أبين فإنما الحديث فيه، أي: في حديث أبي هريرة أنه اختار البناء قبل الغزو، ورد عليه أن الترجمة متضمنة معنى الاستفهام كما ذكرناه، وفيه يظهر الرد عليه أنه اختار البناء قبل الغزو، وسنذكر في النكاح: باب من أحب البناء بعد الغزو.
فيه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في هذا الباب المترجم حديث أبي هريرة، وهو الذي أورده في الخمس من طريق همام عنه، قال: غزا نبي من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فقال: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة، وهو يريد أن يبني بها، وقال الكرماني: إنما لم يذكر الحديث واكتفى بالإشارة إليه لأنه لعله لم يكن بشرطه، فأراد التنبيه عليه، ورد عليه بأنه لم يستحضر أنه أورده موصولا في مكان آخر، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، قريبا.
611
((باب مبادرة الإمام عند الفزع))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من مبادرة الإمام، أي: مسارعته بالركوب عند وقوع الفزع، والفزع في الأصل الخوف، فوضع موضع الإغاثة والنصر، لأن من شأنه الإغاثة والدفع عن الحريم مراقب حذر، قال ابن الأثير: ومنه حديث: لقد فزع أهل المدينة ليلا فركب فرسا لأبي طلحة، إن استغاثوا يقال: فزعت إليه فأفزعني، أي: استغثت إليه فأغاثني، وأفزعته إذا أغثته، وإذا خوفته.
229

8692 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيء عن شعبة قال حدثني قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان بالمدينة فزع فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة فقال ما رأينا من شيء وإن وجدناخ لبحرا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث. ويحيى هو ابن سعيد القطان، وقد مضى هذا الحديث مرارا في الهبة وفي الجهاد فيما مضى في موضعين، وسيأتي في الأدب عن مسدد عن يحيى أيضا. قوله: (فرسا لأبي طلحة)، اسم الفرس، مندوب، واسم أبي طلحة: زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (من شيء)، أي: مما يوجب الفزع. قوله: (وإن وجدناه)، أي: الفرس وكلمة: إن، مخففة من المثقلة، واللام في: لبحرا، للتأكيد.
711
((باب السرعة والركض في الفزع))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من سرعة الإمام والمبادرة إلى الركوب عند وقوع الفزع.
9692 حدثنا الفضل بن سهل قال حدثنا حسين بن محمد قال حدثنا جرير بن حازم عن محمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال فزع الناس فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا لأبي طلحة بطيئا ثم خرج يركض وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال لم تراعوا إنه لبحر فما سبق بعد ذلك اليوم.
.
هذا وجه آخر في حديث أنس المذكور، أخرجه عن الفضل بن سهل الأعرج البغدادي عن حسين بن محمد بن محمد بن بهرام التميمي المعلم عن جرير، بفتح الجيم: ابن حازم، بالحاء المهملة ابن زيد بن النضر الأزدي البصري عن محمد بن سيرين عن أنس، رضي الله تعالى عنه. قوله: (ثم خرج)، أي: من المدينة. قوله: (يركض)، حال. قوله: (وحده)، أي: بدون رفيق. قوله: (لم تراعوا)، أي: لا تراعوا، و: لم، بمعنى: لا. قوله: (إنه)، أي: إن الفرس المذكور: لبحر، شبهه بالبحر في سرعة الجري. قوله: قال: أي: قال أنس، فما سبق هذا الفرس، وهو على صيغة المجهول.
811
((باب الخروج في الفزع وحده))
أي: هذا باب فيما جاء من خروج الإمام في وقوع الفزع وحده منفردا، ثبتت هذه الترجمة بغير حديث، قال الكرماني: فإن قلت: ما فائدة هذه الترجمة حيث لم يأت فيها حديث ولا أثر؟ قلت: الإشعار بأنه لم يثبت فيه بشرطه شيء أو ترجم ليلحق به حديثا فلم يتفق له، أو اكتفى بالحديث الذي قبله، وقال بعضهم: قال الكرماني: ويحتمل أن يكون اكتفى بالإشارة إلى الحديث الذي قبله، وفيه بعد. قلت: سبحان الله! الكرماني ذكر ثلاثة أوجه كما ذكرناها الآن، فلم عين الوجه الثالث بقوله: وفيه بعد، لأجل الطعن فيه، وهلا ذكر الوجه الثاني، مع أنه ذكره بتغيير عبارته؟ وقال ابن بطال: جملة ما في هذه التراجم أن الإمام ينبغي له أن يشح بنفسه لما في ذلك من النظر للمسلمين، إلا أن يكون من أهل الغنى الشديد والثبات البالغ، فيحتمل أن يسوغ له ذلك، وكان في النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ليس في غيره مع ما
علم أن الله تعالى يعصمه وينصره.
911
((باب الجعائل والحملان في السبيل))
أي: هذا باب في بيان حكم الجعائل وهو جمع: جعيلة أو جعالة، بالفتح والجعل بالضم الاسم وبالفتح المصدر، يقال: جعلت لك جعلا وجعلا، وهو الأجرة على الشيء فعلا أو قولا. قوله: (والحملان)، بضم الحاء: الحمل، وقال ابن الأثير: الحملان مصدر كالحمل، يقال: حمل يحمل حملانا. قوله: (في السبيل) أي: في سبيل الله، وهو الجهاد.
230

وقال مجاهد قلت لابن عمر الغزو قال إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي قلت أوسع الله علي قال إن غناك لك وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه
هذا التعليق وصله البخاري في المغازي في غزوة الفتح بمعناه. قوله: (الغزو)، بالنصب تقديره: قال مجاهد لعبد الله بن عمر: أريد الغزو، حاصله أراد المجاهد أن يكون مجاهدا في سبيل الله. وقال بعضهم: هو بالنصب على الإغراء، والتقدير: عليك الغزو، قلت: هذا لا يستقيم ولا يصح معناه لأن مجاهدا يخبر عن نفسه أنه يريد أن يغزو، بدليل قول ابن عمر له: إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي، وليس معناه أن يقول لابن عمر: عليك الغزو، وفي رواية الكشميهني: أنغزو؟ بالنون على الاستفهام. قوله: (قلت) أي: قال المجاهد: وسع الله علي، وأراد به أن عنده ما يكفيه للجهاد وليس له حاجة إلى ذلك، وقول ابن عمر: إن غناك لك... إلى آخره، يدل على أن الرجل إذا أخرج من ماله شيئا يتطوع به في سبيل الله فلا بأس به، وكذلك إذا أعان الغازي بفرس يغزو عليه، ونحو ذلك وهذا لا خلاف فيه.
وإنما الاختلاف فيما إذا آجر نفسه أو فرسه في الغزو، فقال مالك: يكره ذلك. وقالت الحنفية: يكره في ذلك الجعائل إلا إذا كان بالمسلمين ضعف، وليس في بيت المال شيء، فعند ذلك إن أعان بعضهم بعضا لا يكره. وقال الشافعي: لا يجوز أن يغزو بجعل يأخذه، وأرده إن غزا به، وإنما أجيزه من السلطان دون غيره لأنه يغزو بشيء من حقه، واحتج فيه: بأن الجهاد فرض على الكفاية، فمن فعله وقع عن فرضه فلا يجوز أن يستحق على غيره عوضا.
وقال عمر إن ناسا يأخذون من هاذا المال ليجاهدوا ثم لا يجاهدون فمن فعله فنحن أحق بماله حتى نأخذ منه ما أخذ
هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق سليمان الشيباني عن عمرو بن أبي قرة، قال: جاءنا كتاب عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه أن ناسا... فذكر مثله. وأخرجه البخاري أيضا في (تاريخه). وقول عمر يدل على أن كل من أخذ مالا من بيت المال على عمل فإذا أهمل العمل يؤخذ منه ما أخذه قبل، وكذلك الأخذ منه على عمل لا يتأهل له ولا يلتفت إلى تخيل أن الأصل من مال بيت المال الإباحة للمسلمين قلت: يؤخذ من ذلك أن كل من يتولى وظيفة دينية، وهو ليس بأهل لذلك، يؤخذ منه ما يأخذه من مال تلك الوظيفة التي عين لإقامتها.
وقال طاوس ومجاهد إذا دفع إليك شيء تخرج به في سبيل الله فاصنع به ما شئت وضعه عند أهلك
هذا يدل على أن طاووسا ومجاهدا لا يكرهان أخذ شيء في الغزو. قوله: (دفع)، على صيغة المجهول، قوله: (ما شئت)، أي: مما يتعلق بسبيل الله، حتى الوضع عند الأهل فإنه أيضا من متعلقاته، وكان سعيد بن المسيب يقول: إذا أعطى الإنسان شيئاف في الغزو إذا بلغت رأس مغزاك فهو لك.
0792 حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال سمعت مالك بن أنس سأل زيد ابن أسلم فقال زيد سمعت أبي يقول قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حملت على فرس في سبيل الله فرأيته يباع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم آشتريه فقال لا تشتره ولا تعد في صدقتك.
.
231

مطابقته للترجمة من حيث إن الفرس الذي حمله عمر، رضي الله تعالى عنه، في سبيل الله أنه كان حملانا ولم يكن حبيسا، إذ لو كان حبيسا لم يكن يجوز بيعه. وقوله أيضا: (لا تعد في صدقتك) يدل على أنه لم يكن حبيسا، وإنما كان حملانا، والحميدي، بضم الحاء المهملة: عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله، ونسبته إلى حميد أحد أجداده، وقد تكرر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة، وزيد بن أسلم يروي عن أبيه أسلم مولى عمر بن الخطاب العدوي. والحديث مضى في الزكاة وفي الهبة، ومضى الكلام فيه.
1792 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يبتاعه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تبتعه ولا تعد في صدقتك.
.
هذا مثل الحديث الذي قبله، غير أن الرواة مختلفة والكلام فيه مضى. قوله: (يباع)، على صيغة المجهول في محل النصب على أنه المفعول الثاني. قوله: (أن يبتاعه) أي: أراد أن يشتريه. قوله: (لا تبتعه)، أي: لا تشتره.
2792 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال حدثنا أبو صالح قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية ولاكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه ويشق علي أن يتخلفوا عني ولوددت أني قاتلت في سبيل الله فقتلت ثم أحييت ثم قتلت ثم أحييت.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (ولا أجد ما أحملهم عليه) ويحيى بن سعيد الأول هو القطان، وأبو صالح ذكوان الزيات، والحديث تقدم في أوائل الجهاد في: باب تمني الشهادة، والحمولة التي يحمل عليها. قوله: (فقتلت) إلى آخره كله على صيغ المجهول.
121
((باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في بيان ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم اللواء، بكسر اللام وبالمد، قال ابن العربي: اللواء، ما يعقد في طرف الرمح ويلوى معه، وبذلك سمي لواء، والراية ثوب يجعل في طرف الرمح ويخلى بهيئته تصفقه الريح، ويقال: اللواء علم الجيش، قيل: هو دون الراية، وقيل: اللواء علامة كبكبة الأمير يدور معه حيث دار، والراية هي التي يتولاها صاحب الحرب. وقيل: اللواء العلم الضخم، والعلم علامة لمحل الأمير، كما مر. وفرق الترمذي بين اللواء والراية حيث ترجم أولا، وقال: باب الألوية، ثم روى من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض، ثم ترجم ثانيا وقال: باب في الرايات، ثم روى من حديث البراء، فقال حين سئل عن راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كانت سوداء مربعة من نمرة. وأخرجه أبو داود والنسائي أيضا، وروى أبو يعلى في (مسنده) والطبراني في (الكبير) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: كانت راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض، وروى الشيخ بن حيان من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: كان لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم أبيض، وروى أبو داود من رواية سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم، قال: رأيت راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صفراء، وروى ابن عدي من حديث ابن عباس، قال: كانت راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض مكتوب به: لا إلاه إلا الله محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وروى الطبراني في (الكبير) من حديث جابر: أن راية رسول الله، صلى الله عليه وسلم كانت سوداء. وروى ابن أبي عاصم في (كتاب الجهاد) من حديث كرز بن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عقد راية بني سليم حمراء، وروى أيضا من حديث مزيدة، يقول: كنت جالسا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعقد راية الأنصار وجعلها صفراء. قلت: مزيدة بفتح الميم وكسر الزاي: العبدي من
232

عبد القيس، هو جد هودة العصري العبدي. فإن قلت: ما وجه التوفيق في اختلاف هذه الروايات؟ قلت: وجه الاختلاف باختلاف الأوقات.
4792 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثني الليث قال أخبرني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن قيس ابن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الحج فرجل.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وثعلبة بن أبي مالك اسمه عبد الله له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم القرظي، ويقال: الكندي، وقيس ابن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي أبو عبد الله المديني، له ولأبيه صحبة.
وهذا الحديث موقوف، فلذلك اقتصر على هذا المقدار، لأن غرضه هو قوله: (وكان صاحب لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، وأخرجه الإسماعيلي بتمامه من طريق الليث، فقال بعد قوله: فرجل أحد شقي رأسه، فقام غلام له فقلد هديه، فنظر قيس هديه وقد قلد فأهل بالحج ولم يرجل شق رأسه الآخر. قوله: (أراد الحج)، خبر قوله: أن قيس بن سعد الأنصاري. وقوله: (وكان صاحب لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم) جملة معترضة بين اسم إن وخبرها. قوله: (فرجل)، بالجيم من الترجيل، وهو: تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه بالمشط، قال الكرماني: وفي بعض الرواية بالحاء، قيل: إنه خطأ، ومفعول: رجل، محذوف، أي: رجل رأسه، وفي بعض النسخ غير محذوف.
5792 حدثنا قتيبة قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال كان علي رضي الله تعالى عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكان به رمد فقال أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها في صباحها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية أو قال ليأخذن غدا رجل يحبه الله ورسوله أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا هذا علي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح الله عليه.
مطابقته للترجمة في قوله: (لأعطين الراية) وحاتم بن إسماعيل أبو إسماعيل الكوفي سكن المدينة، ويزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع، وقد مر عن قريب، وقد مضى نحوه عن سهل بن سعد في الجهاد في: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام.
وأخرج البخاري حديث الباب في فضل علي، رضي الله تعالى عنه، عن قتيبة أيضا، وفي المغازي أيضا عن القعنبي. وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة عن حاتم بن إسماعيل.
قوله: (تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: لأجل رمد عينيه، وذلك في غزوة خيبر. قوله: (أو قال)، شك من الراوي. قوله: (فإذا نحن بعلي) كلمة: إذا، للمفاجأة أي: فإذا نحن بعلي قد حضر. قوله: (وما نرجوه)، أي: ما كنا نرجو قدومه في ذلك الوقت للرمد الذي به.
وفيه: فضيلة علي، رضي الله تعالى عنه، على غاية ما يكون، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في إخباره بالغيب، وقد وقع كما أخبر.
6792 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن نافع ابن جبير قال سمعت العباس يقول للزبير رضي الله تعالى عنهما هاهنا أمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية.
(الحديث 6792 طرفه في: 0824).
مطابقته للترجمة إنما تتأتى على قول من قال: اللواء والراية واحدة، والصحيح الفرق بينهما، كما ذكرنا، فعلى هذا وجه المطابقة من حيث إلحاق الراية باللواء في كونهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال الرشاطي: الرايات إنما كانت بخيبر، وإنما كانت
233

الألوية قيل، قال ابن الأثير: ولا يمسك اللواء إلا صاحب الجيش، وأبو أسامة حماد بن أسامة، ونافع بن جبير بن مطعم، مر في الوضوء والعباس بن عبد المطلب، والزبير بن العوام. قوله: () ههنا، وأشار به إلى الحجون، بفتح الحاء المهملة وضم الجيم الخفيفة: وهو الجبل المشرف مما يلي شعب الجزارين بمكة، والحديث قطعة من حديث أورده البخاري في غزوة الفتح.
قال المهلب: فيه: أن الراية لا يركزها إلا بإذن الإمام لأنها ولاية عن الإمام ومكانه، فلا ينبغي أن يتصرف فيها إلا بأمره، ومما يدل على أنها ولاية. قوله، صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية، زيد فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد من غير أمر، ففتح له فهذا نص في ولايتها.
021
((باب الأجير))
أي: هذا باب في بيان حكم الأجير في الغزو هل يسهم له أم لا؟ ووقع هذا الباب في رواية بعضهم قبل: باب ما قيل في لواء النبي، صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن وابن سيرين يقسم للأجير من المغنم
أي: قال الحسن البصري ومحمد بن سيرين، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عنهما بلفظ: (يسهم للأجير)، ووصله ابن أبي شيبة عنهما بلفظ: العبد والأجير إذا شهدا القتال أعطيا من الغنيمة. وقال الثوري: لا يسهم للأجير إلا إذا قاتل، وإذا استؤجر ليقاتل لا يسهم له عند الحنفية والمالكية، وقال غيرهم: يسهم له، وقال أحمد: لو استأجر الإمام قوما على الغزو لم يسهم لهم غير الأجرة. وقال الشافعي: هذا فيمن لم يجب عليه الجهاد، وأما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له، ولا تجب الأجرة.
وأخذ عطية بن قيس فرسا على النصف فبلغ سهم الفرس أربعمائة دينار فأخذ مائتين وأعطى صاحبه مائتين
عطية بن قيس الكلاعي أبو يحيى الحمصي، ويقال: الدمشقي، وقال أبو مسهر: كان مولد عطية بن قيس في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم في سنة سبع، وغزا في خلافة معاوية وتوفي سنة عشر ومائة. وقيل: كان من التابعين، وكان لأبيه صحبة، وهذا الذي فعله عطية لا يجوز عند مالك وأبي حنيفة والشافعي، لأنها إجارة مجهولة، فإذا وقع مثل هذا كان لصاحب الدابة كراء مثلها، وما أصاب الراكب في المغنم فله، وأجاز الأوزاعي، وأحمد أن يعطى فرسه على النصف في الجهاد.
3792 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان قال حدثنا ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك فحملت على بكر فهو أوثق أعمالي في نفسي فاستأجرت أجيرا فقاتل رجلا فعض أحدهما الآخر فانتزع يده من فيه ونزع ثنيته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدرها فقال أيدفع يده إليك فتقضمها كما يقضم الفحل.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فاستأجرت أجيرا). وعبد الله بن محمد المسندي، وسفيان هو ابن عيينة، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وعطاء هو ابن أبي رباح، وصفوان بن يعلى بن أمية التميمي أو التيمي يروي عن أبيه يعلى، بفتح الياء آخر الحروف على وزن يرضى: ابن أمية، ويقال: ابن منية، وهي أمه، وكان عامل عمر، رضي الله تعالى عنه على نجران، عداده في أهل مكة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الإجارة في: باب الأجير في الغزو.
قوله: (فأهدرها) أي: أسقطها، ويقال: هدر السلطان دم فلان أي: أباحه، وأهدره أيضا. قوله: (يقضمها) أي: يمضغها كما يمضغ الفحل ما يأكله، يقال: قضمت الدابة بالكسر شعيرها تقضمه إذا أكلته، وقال الداودي: تقضمها تقطعها، قال: والفحل هنا الجمل.
234

221
((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب)، أي: بالخوف. قوله: (مسيرة شهر)، أي: مسافة شهر. ووقع في رواية الطبراني من حديث أبي أمامة: شهرا أو شهرين، ومن روايته أيضا من حديث السائب بن يزيد: (شهرا أمامي وشهرا خلفي)، وخص بالشهرين لأن الله تعالى خص نبينا صلى الله عليه وسلم بخصائص لم يشركها غيره، فكان الرعب في هذه المدة، وإن حصل لسليمان، عليه السلام، في الريح * (غدوها شهر ورواحها شهر) * (سبأ: 21). ونصر الله تعالى إياه بالرعب مما خصه الله به، وفضله ولم يؤته أحدا غيره. فإن قلت: لم اقتصر ههنا على الشهر؟ قلت: لأنه لم يكن بينه وبين الممالك الكبار أكثر من ذلك: كالشام والعراق ومصر واليمن، فإن بين المدينة النبوية وبين واحدة من هذه الممالك شهرا ودونه.
وقوله جل وعز * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله) * (آل عمران): 151).
وقوله، بالجر عطف على: قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معجزاته وخصائصه صلى الله عليه وسلم الرعب الذي ألقاه الله تعالى في قلوب الكفار بسبب ما أشركوا بالله، ولهذا جعل الله له الفيء بضعه حيث يشاء، لأنه وصل إليه من قبل الرعب الذي في قلوبهم منه، والفيء: كل مال لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهو ما خلا عنه أهله وتركوه من أجل الرعب، وكذا ما صالحوا عليه من جزية أو خراج من وجوه الأموال.
قال جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال جابر بن عبد الله حديث: (نصرت بالرعب)، وأشار به إلى ما أخرجه موصولا في أول كتاب التيمم من حديث يزيد الفقير، قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب، مسيرة شهر...) الحديث. قال الكرماني: فإن قلت: كثير من الناس يخافون من الملوك من مسافة شهر! قلت: هذا ليس بمجرد الخوف بل بالنصرة والظفر بالعدو.
7792 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعثت بجوامع الكلم ونصرت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي قال أبو هريرة وقد ذهب بالرعب فبينا أنا نائم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (نصرت بالرعب). ورجاله قد تكرر ذكرهم. والحديث أخرجه البخاري أيضا في التعبير عن سعيد ابن عفير.
قوله: (بجوامع الكلم)، قال ابن التين: جوامع الكلم القرآن لأنه يقع فيه المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وكذلك يقع في الأحاديث النبوية الكثير من ذلك. وقال الخطابي: معناه إيجاز الكلام في إشباع المعاني. قلت: الإضافة في: جوامع الكلم، من إضافة الصفة إلى الموصوف، هي: الكلمة الموجزة لفظا المتسعة معنى، يعني: يكون اللفظ قليلا والمعنى كثيرا. وقالوا: فيه الحث على استخراج تلك المعاني وتبيين تلك الدقائق المودعة فيها. وقال ابن شهاب، فيما ذكره الإسماعيلي: بلغني أن جوامع الكلم: أن الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد أو الأمرين أو نحو ذلك، قوله: (فبينا)، قد ذكرنا غير مرة أن أصله: بين، فأشبعت فتحة النون بالألف، وهي تضاف إلى الجملة: (وأتيت) جواب على صيغة المجهول. قوله: (بمفاتيح خزائن الأرض)، قال ابن التين: يحتمل أن يريد بهذا ما فتح الله لأمته بعده فغنموه واستباحوا خزائن الملوك المدخرة، وهو ما جزم به ابن بطال، وقال: يحتمل أن يريد الأرض التي فيها المعادن، ولا شك أن العرب كانت أقل الناس وأقل الأمم أموالا، فبشرهم بأن أموال كسرى وقيصر تصير إليهم وهم الذين يملكون الخزائن، وهكذا وقعت. قوله: (تنتثلونها)، بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون وفتح التاء الأخرى كذلك وكسر الثاء المثلثة، على وزن تفتعلونها من باب الافتعال ومعناه: تستخرجونها من مواضعها، وثلاثية من: تثلث البئر وانتلثها إذا استخرجت ترابها، وكذلك
235

نثلث كنانتي إذا استخرجت ما فيها من النبل، وقيل: النثل ترك شيء بمرة واحدة، وفي (التوضيح) وفي رواية: وأنتم ترغثونها أي: تستخرجون درها وترضعونها، ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذهب ولم ينل منها شيئا، بل قسم ما أدرك منها بينكم وآثركم بها، ثم أنتم تنتثلونها على حسب ما وعدكم.
8792 حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبره أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه وهم بإيلياء الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب فارتفعت ثم دعا بكتاب رسول الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إنه يخافه ملك بني الأصفر)، وقيل: مناسبة دخول حديث أبي سفيان في هذا الباب هذه اللفظة، لأن بين الحجاز والشام مسيرة شهر أو أكثر، وقد تقدم هذا الحديث بطوله في بدء الوحي في أول الكتاب.
321
((باب حمل الزاد في الغزو))
أي: هذا باب في بيان جواز حمل الزاد في الغزو، وهو لا ينافي التوكل.
وقول الله تعالى * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791).
وقول الله بالجر عطفا على قوله: (حمل الزاد)، روى النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كان ناس يحجون بغير زاد، فأنزل الله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791). وعن ابن عباس أيضا، قال: كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فأنزل الله تعالى: * (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * (البقرة: 791). ولما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة واستصحاب التقوى إليها.
9792 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام قال أخبرني أبي وحدثتني أيضا فاطمة عن أسماء رضي الله تعالى عنها قالت صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة قالت فلم تجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به فقلت لأبي بكر والله ماأجد به إلا نطاقي قال فشقيه باثنين فاربطيه بواحد السقاء وبالآخر السفرة ففعلت فلذلك سميت ذات النطاقين.
مطابقته للترجمة في قوله: (فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به) فإنه يدل على حمل الزاد لأجل السفر. فإن قلت: ليس فيه سفر الغزو، فأين المطابقة؟ قلت: قاس سفر الغزو عليه.
وعبيد، بضم العين مصغر عبد: ابن إسماعيل، واسمه في الأصل، عبد الله، يكنى: أبا محمد الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراده، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وهشام هو ابن عروة، يروي عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام، وفاطمة هي بنت المنذر زوجة هشام، وأسماء هي بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن أبي شيبة، وإنما قال هشام في روايته عن أبيه: أخبرني، وفي روايته عن زوجته فاطمة: حدثتني، لأنه سمع من فاطمة وقرأ على الوالد، أو للتفنن والاحتراز عن التكرار.
236

قوله: (سفرة)، بضم السين المهملة، قال ابن الأثير: السفرة طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فنقل اسم الطعام إلى الجلد وسمي به، كما سميت المزادة راوية، وغير ذلك من الأسماء المنقولة. قوله: (ولا لسقائه)، بكسر السين، وهو ظرف الماء من الجلد، ويجمع على: أسقية، والسقاية إناء يشرب فيه. قوله: (إلا نطاقي)، بكسر النون، وهو: شقة تلبسها المرأة. قال ابن الأثير: النطاق هو أن تلبس المرأة ثوبها ثم تشد وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل عند معاناة الأشغال، لئلا تعثر في ذيلها، وبه سميت أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، ذات النطاقين، وقيل: لأنها كانت تطارق نطاقا فوق نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وهما في الغار، وقيل: شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الآخر شدادا لزادهما. قوله: (فلذلك سميت)، على صيغة المجهول من الماضي، ويروى على صيغة المتكلم على صيغة المجهول أيضا.
0892 حدثنا علي بن عبد الله قال أخبرنا سفيان عن عمر و قال أخبرني عطاء قال سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (كنا نتزود) إلى آخره، وقد ذكرنا في مطابقة الحديث الماضي أنه قاس سفر الغزو عليه، وههنا كذلك.
وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، وعطاء هو ابن أبي رباح.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن علي بن عبد الله أيضا في الأضاحي وفي الأطعمة عن عبد الله بن محمد. وأخرجه مسلم في الأضاحي عن أبي بكر بن أبي شيبة. وأخرجه النسائي في الحج عن قتيبة عن سفيان به وعن محمد بن عبد الأعلى.
ويستفاد منه أشياء: الأول: فيه دليل على مشروعية التزود في السفر مطلقا. وفيه: رد على ما يدعيه أهل البطالة من الصوفية والمخرفة على الناس باسم التوكل وترك التزود. الثاني: فيه جواز التزود من لحوم الأضاحي، وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث، ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا. الثالث فيه: جواز الأكل من لحوم الأضاحي ولو كان المضحي غنيا، لأن التزود يستلزم الأكل عادة.
1892 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى قال أخبرني بشير ابن يسار أن سويد بن النعمان رضي الله تعالى عنه أخبره أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء وهي من خيبر وهي أدنى خيبر فصلوا العصر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالأطعمة فلم يؤت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بسويق فلكنا فأكلنا وشربنا ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم فمضمض ومضمضنا وصلينا.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من موضعين: الأول: من قوله: (فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالأطعمة) فهذا يدل على أنه كان معهم الزاد. والثاني: من قوله: (إلا بسويق) وهذا زاد كان معهم، وهم في الغزو، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبشير بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة: ابن يسار ضد اليمين والحديث مر في كتاب الوضوء في: باب من مضمض من السويق، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: (فلكنا) بضم اللام وسكون الكاف، يقال: لكت اللقمة ألوكها في فمي لوكا، والسويق: دقيق القمح المقلو أو الشعير أو الذرة أو الدخن.
2892 حدثنا بشر بن مرحوم قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله تعالى عنه قال خفت أزواد الناس وأملقوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر
237

إبلهم فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال ما بقاؤكم بعد إبلكم فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم فدعا وبرك عليه ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله.
(انظر الحديث 4842).
مطابقته للترجمة في قوله: (خفت أزواد الناس) وكذا في قوله: (بفضل أزوادهم) وبشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن مرحوم، بالحاء المهملة، وقد مر في البيع وهو من أفراده، و: خاتم، بالحاء المهملة وكسر التاء المثناة من فوق: ابن إسماعيل الكوفي، ويزيد من الزيادة مولى سلمة بن الأكوع، يروي عن
مولاه، وقد مضى الحديث في: باب الشركة في الطعام، بعين هذا الإساد والمتن، وفيه بعض زيادة.
قوله: (وأملقوا) أي: افتقروا، والمعنى هنا: فني زادهم. قوله: (في نحر إبلهم) أي: بسبب نحر إبلهم، وفيه حذف تقديره: فاستأذنوه في نحر إبلهم. قوله: (ما بقاؤهم بعد إبلهم) أي: بعد نحر إبلهم، يشير بذلك إلى غلبة الهلكة على الراجل. قوله: (يأتون) قال بعضهم: أي فهم يأتون، فلذلك رفعه. قلت: كونه حالا أوجه على ما لا يخفى. قوله: (وبرك)، بالتشديد أي: دعا بالبركة. قوله: (عليه)، أي: على الطعام، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: عليهم. قوله: (فاحتثى الناس)، من الاحتثاء من الحثي، بالحاء المهملة والثاء المثلثة: وهو الحفن باليد. قوله: (قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره إشارة إلى أن ظهور المعجزة مما يؤيد الرسالة، لأن المعجزات موجبات للشهادات على صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفيه: حسن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه وإجراؤهم على العادة البشرية في الاحتياج إلى الزاد في السفر. وفيه: منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، دالة على يقينه بإجابة دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعلى حسن نظره للمسلمين، وقال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام ما عنده من فاضل قوته أن يخرجه للبيع لما في ذلك من صلاح الناس.
421
((باب حمل الزاد على الرقاب))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من حمل الزاد على الرقاب عند تعذر حمله على الدواب.
3892 حدثني صدقة بن الفضل قال أخبرنا عبدة عن هشام عن وهب بن كيسان عن جابر رضي الله تعالى عنه قال خرجنا ونحن ثلثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففند زادنا حتى كان الرجل منا يأكل في كل يوم تمرة قال رجل يا أبا عبد الله وأين كانت التمرة تقع من الرجل قال لقد وجدنا فقدها حين فقدناها حتى أتينا البحر فإذا حوت قد قذفه البحر فأكلنا منها ثمانية عشر يوما ما أحببنا.
.
وجه المطابقة بين الحديث والترجمة في قوله: (ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا). وعبدة، بفتح العين وسكون الباء الموحدة: ابن سليمان، قد مر في الصلاة وهشام بن عروة، وجابر بن عبد الله الأنصاري وفي بعض النسخ: أبوه مذكور معه. والحديث مر في أول: باب الشركة، فإنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن وهب بن كيسان... إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك. قوله: (لقد وجدنا فقدها) أي: حزنا على فقدها يقال: وجد عليه يجد وجدا وموجدة: إذا حزن، ووجد الشيء يجده وجدانا: إذا لقيه. قوله: (ما أحببنا)، أي: ما اشتهينا.
238

521
((باب إرداف المرأة خلف أخيها))
أي: هذا باب فيما جاء من جواز إرداف المرأة خلف أخيها، يقال: أردفته إردافا: إذا أركبته معك، والردف، بكسر الراء، المرتدف: وهو الذي يركب خلف الراكب.
4892 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عثمان ابن الأسود قال حدثنا ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على الحج فقال لها اذهبي وليردفك عبد الرحمان فأمر عبد الرحمان أن يعمرها من التنعيم فانتظرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة حتى جاءت.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذهبي وليردفك عبد الرحمن)، وهو أخوها ابن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهم، وعمرو، بفتح العين: ابن علي بن بحر أبو حفص الباهلي البصري الصيرفي، وأبو عاصم النبيل، واسمه الضحاك وهو أحد مشايخ البخاري يروي عنه كثيرا بدون الواسطة، وعثمان بن الأسود الحجبي، مر في الشركة، وابن أبي مليكة، بضم الميم: هو عبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة، واسم أبي مليكة زهير، وقد تكرر ذكره، وقد مضى البحث فيه في: باب العمرة ليلة الحصبة، وفي: باب عمرة التنعيم، وفي كتاب الحيض أيضا.
قوله: (وليردفك)، بضم الياء: من الإرداف، وقد مر معناه. قوله: (أن يعمرها) أي: بأن يعمرها بضم الياء من الإعمار. قوله: (من التنعيم) بفتح التاء المثناة من فوق وسكون النون: موضع من جهة الشام على ثلاثة أميال من مكة شرفها الله، عز وجل.
5892 حدثني عبد الله قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قال أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أردف عائشة وأعرها من التنعيم.
(انظر الحديث 4771).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبد الله هو ابن محمد المعروف بالمسندي، وابن عيينة هو سفيان بن عيينة، وعمرو بن أوس، مضى في التهجد. والحديث أخرجه البخاري أيضا في الحج، وقد مضى شرحه هناك.
621
((باب الإرتداف في الغزو والحج))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من الارتداف في الغزو، أي: في سفرة الغزاة وسفرة الحج.
6892 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعا الحج والعمرة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ويقاس الغزو على الحج، وعبد الوهاب الثقفي وأيوب السختياني وأبو قلابة، بكسر القاف عبد الله بن زيد الجرمي. وحديث أنس هذا أخرجه البخاري في الحج مقطعا في مواضع. قوله: (ليصرخون) اللام فيه للتأكيد، ويصرخون أي: يرفعون أصواتهم بهما، أي: يرفعون أصواتهم بهما، أي: بالحج والعمرة جميعا. قوله: (الحج والعمرة) بالجر بدل من الضمير، ويجوز بالنصب على الاختصاص، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: أحدهما الحج والآخر العمرة.
721
((باب الردف على الحمار))
أي: هذا باب فيما جاء من الردف على الحمار، والردف بكسر الراء المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب.
7892 حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو صفوان عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة
239

عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف عليه قطيفة وأردف أسامة وراءه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو ركوب النبي صلى الله عليه وسلم، الحمار وإردافه أسامة وأبو صفوان عبد الله بن سعيد الأموي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في اللباس عن قتيبة عن أبي صفوان، وفي التفسير وفي الأدب عن أبي اليمان عن شعيب وفي الطب عن يحيى بن بكير عن إسماعيل بن أبي أويس وفي الاستئذان عن إبراهيم بن موسى. وأخرجه مسلم في المغازي عن إسحاق ومحمد بن رافع وعبد وعن محمد بن رافع، وأخرجه النسائي في الطب عن هشام بن عمار.
قوله: (على إكاف) بكسر الهمزة، ويقال فيه: وكاف، بدليل: أوكفت الدابة، ويجمع على: أكف. قوله: (قطيفة)، وهي دثار مخمل.
وفيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، من وجوه ركوبه الحمار وركوبه على قطيفة وإردافه الغلام. وفيه: البيان أنه النبي صلى الله عليه وسلم، مع محله من الله، عز وجل، منزلة لم يكن يرفع نفسه على الردف على الدابة، وكان يردف لنتأسى به في ذلك أمته، فلا يأنفوا مما لم يكن يأنف منه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا يستنكف منه مما لم يستنكف. وفيه: فضل أسامة.
8892 حدثني يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال يونس أخبرني نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد ومعه بلال ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ في المسجد فأمره أن يأتي بمفتاح البيت ففتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة وبلال وعثمان فمكث فيها نهارا طويلا ثم خرج فاستبق الناس وكان عبد الله بن عمر أول من دخل فوجد بلالا وراء الباب قائما فسأله أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلى المكان الذي صلى فيه. قال عبد الله فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (مردفا أسامة بن زيد) فإن قلت: الترجمة في الردف على الحمار، وهنا الردف على الراحلة؟ قلت: كلاهما في نفس الارتداف سواء، والفرق في الدابة وتواضعه صلى الله عليه وسلم في إردافه على الحمار أقوى وأعظم من إردافه على الراحلة، فيلحق هذا بذاك. ورجاله قد تكرر ذكرهم. والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي. وقال الليث: قوله: (من الحجبة؟)، جمع الحاجب، أي: حجبة الكعبة وسدنتها وبيدهم مفتاحها. قوله: (ففتح)، فيه حذف تقديره: فأتى بالمفتاح ففتح به الكعبة. قوله: (فاستبق الناس) أي: فتسابقوا. قوله: (أين صلى؟) قد سبق الكلام في الصلاة بين من أثبت ثلاته صلى الله عليه وسلم وبين من نفاها.
821
((باب من أخذ بالركاب ونحوه))
أي: هذا باب في بيان فضل من أخذ بالركاب أي: بركاب الراكب. قوله: (ونحوه)، مثل الإعانة على الركوب وتعديل قماشه ونحو ذلك، فإن هذه الأشياء من الفضائل، وقد أخذ ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهم، فقال له: لا تفعل يا ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد بن عباس فقبلها، فقال له: لا تفعل، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
240

9892 حدثني إسحاق قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سلامى من الناس عليه صدقة ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة.
(انظر الحديث 7072 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها)، فإن إعانة الرجل تتناول أخذه بالركاب وغيره.
وإسحاق هذا هو ابن منصور بن بهرام الكوسج أبو يعقوب المروزي، أو إسحاق بن نصر، وهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر النجاري، لأن هذا الإسناد بعينه قد مر في الموضعين. أحدهما: في كتاب الصلح في: باب فضل الإصلاح بين الناس حيث قال: حدثنا إسحاق أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (كل سلامي من الناس...) الحديث. والآخر: في الجهاد في: باب فضل من حمل متاع صاحبه في السفر، حيث قال: حدثني إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كل سلامي عليه صدقة...) الحديث. وعين هنا نسبة إسحاق حيث قال: حدثني إسحاق بن نصر، وهناك قال في أكثر النسخ: حدثنا إسحاق مجردا من غير نسبة، وفي بعض النسخ، قال: حدثنا إسحاق بن منصور، والذي يظهر من مغايرة المتون أن المراد بإسحاق هنا هو إسحاق بن منصور، وكل من إسحاقين هذين يروي عن عبد الرزاق، وقد مضى الكلام في هذا الحديث في الموضعين المذكورين، ونعيد الكلام هنا تكثيرا للفائدة.
فقوله: (كل سلامي)، كلام إضافي مبتدأ. وقوله: (عليه صدقة)، جملة من المبتدأ والخبر خبر للمبتدأ الأول. قوله: (عليه)، كان القياس فيه أن يقال: عليها، لأن السلامي مؤنثة، ولكن هنا جاء على وفق لفظ: كل، أو ضمن لفظ: سلامي، معنى العظم أو المفصل، فأعاد الضمير عليه لذلك، والسلامي، بضم السين وتخفيف اللام مقصور: وهو عظم الأصابع. قوله: (كل يوم)، نصب على الظرف. قوله: (يعدل)، أي: يصلح بالعدل، وهو مبتدأ تقديره: أن يعدل مثل قوله: وتسمع بالمعيدي خير من أن تراه. قوله: (أو يرفع عليها)، شك من الراوي أو للتنويع. قوله: (وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة)، أي: يرفع له بها درجة ويحط عنه خطيئة، ولهذا حث الشارع على كثرة الخطى إلى المساجد وترك الإسراع في السير إليه. قوله: (وتميط الأذى)، أي: تزيل، يقال: ماط الرجل الشيء يميطه ميطا وإماطة إذا أزاله، ويقال: أماط الله عنك الأذى إذا دعوت بزواله، قاله القزاز، وهو قول الكسائي، وأنكره الأصمعي، وقال: مطيته أنا وأمطيت غيري، فافهم.
921
((باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو))
أي: هذا باب في بيان كراهية السفر... إلى آخره، ولفظ كراهية غير موجودة إلا في رواية المستملي. وقال بعضهم: المستملي أثبت في روايته لفظ: كراهية، وبثبوتها يندفع الإشكال الآتي. قلت: أراد بالإشكال ما قاله ابن بطال: إن ترتيب هذا الكتاب وقع فيه غلط من الناسخ، وأن الصواب أن يقدم حديث مالك قبل قوله: وكذلك يروي عن محمد بن بشر إلى آخره انتهى. قلت: إنما قال ابن بطال ما قاله بناء على أن الترجمة: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، وكذلك هي عند أكثر الرواة. بيان وجه استشكاله أن قوله: كذلك يروى عن محمد بن بشر، يقتضي تقدم شيء حتى يشار إليه بقوله: كذلك، ولم يتقدم شيء وقال هذا القائل: وما ادعاه ابن بطال من الغلط مردود، لأنه أشار بقوله إلى لفظ الترجمة كما بينته من رواية المستملي. قلت: لم يكن ما قاله على ما وقع في رواية المستملي كما ذكرناه، ولأن التقدير على رواية الأكثرين: باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو وهل يكره أم لا؟ فلا يستقيم قوله: وكذلك، يروى عن محمد بن بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة، على ما لا يخفى على المتأمل.
وكذلك يروى عن محمد بن بشر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
241

وكذلك أي: كالمذكور في الترجمة من كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو يروى عن محمد بن بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن الفرافصة أبو عبد الله العبدي من عبد القيس الكوفي، وعبيد الله بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، ورواية محمد بن بشر هذه وصلها إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، ولفظه: كره رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وأراد بالقرآن المصحف، لأن القرآن المنزل على الرسول المكتوب في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا بلا شبهة، وهذا لا يمكن السفر به، فدل على أن المراد به المصحف المكتوب فيه القرآن.
وتابعه ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع محمد بن بشر محمد بن إسحاق صاحب (المغازي) عن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومتابعته إياه في كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو، وإنما ذكر المتابعة لأجل زيادة من زاد في الحديث: مخافة أن يناله العدو زاعما أنها مرفوعة لأنها لم تصح عنده ولا عند مالك مرفوعة، وقال المنذري: رواه بعضهم من حديث ابن مهدي والقعنبي عن مالك، فأدرج هذه الزيادة في الحديث، وقد اختلف عن القعنبي في هذه الزيادة فمرة بين أنها قول مالك، ومرة يدرجها في الحديث، ورواه يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك يذكر هذه الزيادة البتة، وقد رفع هذه الكلمات أيوب والليث والضحاك بن عثمان الحزامي عن نافع عن ابن عمر، وقال بعضهم: يحتمل أن مالكا شك: هل هي من قول سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فجعل بتحريه هذه الزيادة من كلامه على التفسير، وإلا فهي صحيحة من قول سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم من رواية غيره.
وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في أرض العدو وهم يعلمون القرآن
أراد البخاري بهذا الكلام أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه، وقد ذكرنا آنفا أن السفر بنفس القرآن لا يمكن، وإنما المراد بالقران المصحف، وقال الداودي: لا حجة فيما ذكره البخاري، وقد روى مفسرا نهي أن يسافر بالمصحف، رواه ابن مهدي عن مالك وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر. وقال الإسماعيلي: ما كان أغنى البخاري عن هذا الاستدلال، لم يقل أحد أن من يحسن القرآن لا يغزو العدو في داره، وقيل: الاستدلال بهذا على الترجمة ضعيف، لأنها واقعة عين، ولعلهم تعلمون تلقينا وهو الغالب حينئذ، فعلى هذا يقرأ: يعلمون، بالتشديد. وقال الكرماني. قوله: (يعلمون)، من العلم، وفي بعض الرواية من التعليم، وقال صاحب (التوضيح): لكن رأيته في أصل الدمياطي بفتح الياء، وأجاب المهلب: بأن فائدة ذلك أنه أراد أن يبين أن نهيه عن السفر به إليهم ليس على العموم ولا على كل الأحوال، وإنما هو في العساكر والسرايا التي ليست مأمونة، وأما إذا كان في العسكر العظيم فيجوز حمله إلى أرضهم، ولأن الصحابة كان بعضهم يعلم بعضا لأنهم لم يكونوا مستظهرين له، وقد يمكن أن يكون عند بعضهم صحف فيها قرآن يعلمون منها، فاستدل البخاري أنهم في تعلمهم كان فيهم من يتعلم بكتاب، فلما جاز تعلمه في أرض العدو بكتاب وبغير كتاب كان فيه إباحة لحمله إلى أرض العدو إذا كان عسكرا مأمونا، وهذا قول أبي حنيفة، ولم يفرق مالك بين العسكر الكبير والصغير في ذلك، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا. قلت: ليس كذلك، الأصح هو الأول: وقال ابن سحنون. قلت لأبي: أجاز بعض العراقيين الغزو بالمصاحف في الجيش الكبير بخلاف السرية، قال سحنون: لا يجوز ذلك لعموم النهي، وقد يناله العدو في غفلة.
0992 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن المراد بالقرآن المصحف كما ذكرناه.
والحديث أخرجه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، قال:
242

قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن، إلى أرض العدو. وفي رواية له عن الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ويخاف أن يناله العدو، وفي رواية له عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تسافروا بالقرآن، فإني لا أمن أن يناله العدو. وأخرجه أبو داود، وترجم أولا بقوله: باب في المصحف يسافر به إلى أرض العدو، ثم قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع: أن عبد الله بن عمر، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. وقال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو. وأخرجه ابن ماجة: حدثنا أحمد بن سنان وأبو عمر: قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. قال أبو عمر: قال يحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير وأكثر الرواة عن مالك، قال مالك: أراه مخافة أن يناله العدو، وجعلوا التعليل من كلامه ولم يرفعوه، وأشار إلى أن ابن وهب تفرد برفع هذه الزيادة. انتهى. قلت: رفع هذه الزيادة مسلم وابن ماجة، كما ذكرناه، فصح أن هذه الزيادة مرفوعة وليست بمدرجة، وأما نسبة هذه الزيادة إلى مالك في رواية أبي داود فإنها لا تعادل رواية مسلم من طريق الليث وأيوب بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولئن سلمنا التساوي فيحتمل أن مالكا كان يجزم بهذه الزيادة أولا، ثم لما شك في رفعها جعلها تفسيرا من عنده، والله أعلم.
031
((باب التكبير عند الحرب))
أي: هذا باب في بيان مشروعية التكبير عند الحرب.
1992 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال صبح النبي خيبر وقد خرجوا بالمساحي على أعناقهم فلما رأوا قالوا هذا محمد والخميس محمد والخميس فلجأوا إلى الحصن فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين وأصبنا حمرا فطبخناها فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فأكفئت القدور بما فيها.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (الله أكبر خربت خيبر) وعبد الله شيخه هو المسندي، وسفيان هو ابن عيينة، وأيوب هو السختياني ومحمد هو ابن سيرين، وقد مر صدر هذا الحديث قبل هذا بعدة أبواب في: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فإنه أخرجه هناك من حديث حميد عن أنس. وأما حديث محمد بن سيرين فإنه أخرجه أيضا في علامات النبوة عن علي بن عبد الله وفي المغازي عن صدقة بن الفضل، وأخرجه النسائي في الصيد عن محمد بن عبد الله بن يزيد. وأخرجه ابن ماجة في الذبائح عن محمد بن يحيى عن عبد الرزاق.
قوله: (وأصبنا حمرا) بضم الحاء والميم: جمع حمار. قوله: (فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره. الذي كان نادى بالنهي عن لحوم الحمر الأهلية هو أبو طلحة، كما هو المذكور عند مسلم، قال: حدثنا محمد بن المنهال الضرير، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك، قال: لما كان يوم خيبر جاء رجل فقال يا رسول الله أكلت الحمر ثم جاء آخر فقال يا رسول الله أفنيت الحمر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبا طلحة فنادى: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس أو نجس). قال: فأكفئت القدور بما فيها. قوله: (والخميس)، أي: الجيش، وقد ذكرناه. قوله: (محمد والخميس)، بالتكرار وهو صحيح. قوله: (فلجأوا إلى الحصن)، أي: تحصنوا بحصن خيبر، وقد روى سفيان عن أيوب في هذا الحديث: (حالوا إلى الحصن)، أي: تحولوا له، يقال: حلت عن المكان إذا تحولت عنه، ومثله أحلت عنه. قوله: (ينهيانكم)،
. قوله: (فأكفئت القدور بما فيها)،
243

أي: قلبت ونكست، وقال ابن الأثير: يقال: كفأت الإناء وأكفأته، إذا كببته وإذا أملته لتفرغ ما فيها.
ويستفاد من هذا الحديث: حرمة أكل لحم الحمر الأهلية. واختلفت الأحاديث في سبب النهي على خمسة أوجه. الأول: ما ذكره مسلم في حديث أنس: (فإنها رجس أو نجس). والثاني: كونها حمولة للناس على ما ذكر في حديث ابن مسعود: (نهى عنها لأنها كانت حمولة)، وهو وإن كان ضعيفا فهو مذكور في حديث ابن عباس المتفق عليه، لا أدري أنهى عنه من أجل أنها كانت حمولة للناس، فكره أن تذهب حمولتهم أو حرمه، وفي بعض طرقه في (المعجم الكبير) للطبراني: (حرمتها مخافة قلة الظهر)، وفي حديث ابن عمر عند مسلم: (وكان الناس احتاجوا إليها). والثالث: كونها لم تخمس، ففي حديث ابن أبي أوفى المتفق عليه، فقال فيه: (ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا). قال: فقال ناس: إنما نهى عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنها لم تخمس، وقال آخرون: (نهى عنها البتة). الرابع: كونها جلالة فروى ابن ماجة في حديث ابن أبي أوفى: (إنما حرمها رسول الله، صلى الله عليه وسلم البتة من أجل أنها كانت جلالة تأكل العذرة). وروى أبو داود في حديث غالب بن أبحر: (فإنما حرمتها من جوال القرية). والخامس: كونها انتهبت. ولم تقسم، فروى الطبراني بإسناد جيد من حديث ثعلبة بن الحكم، قال: فسمعته ينهى عن النهبة، فأمر بالقدود فاكقئت من لحوم الحمر الأهلية والتعليل بالنجاسة قاض على هذه العلل كلها فهيء مؤثرة بنفسها وذهب قوم، منهم عاصم بن عمر بن قتادة وعبيد بن الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى إلى إباحة أكل لحوم الحمر الأهلية. واحتجوا فيه بحديث أبحر أو ابن أبحر، أنه قال: يا رسول الله! إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعمه أهلي إلا حمر لي، قال: (فأطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لكم جوال القرية). رواه الطحاوي وأبو يعلى والطبراني، وقال جمهور العلماء من التابعين ومن بعدهم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: يحرم أكل لحوم الحمر الأهلية، واحتجوا في ذلك بحديث الباب، وما جاء به نحوه، وبه قالت الظاهرية، وحديث أبحر مختلف في إسناده اختلافا شديدا.
وقال البيهقي: هو معلول، وقال ابن حزم: هو بطرقه باطل لأنها كلها من طريق عبد الرحمن بن بشر، وهو مجهول، وعن عبد الله بن عمرو بن لؤيم، وهو مجهول ومن طريق شريك، وهو ضعيف.
تابعه علي عن سفيان رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه
يعني تابع عبد الله بن محمد المسندي علي بن عبد الله المعروف بابن المديني شيخ البخاري، وقد أسنده في علامات النبوة عنه عن سفيان، والله أعلم.
131
((باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير))
أي: هذا باب فيه بيان ما يكره وكلمة: من، بيانية.
2992 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن عاصم عن أبي عثمان عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من معنى الحديث لأن حاصل المعنى فيه أنه صلى الله عليه وسلم كره رفع الصوت بالذكر والدعاء.
ومحمد بن يوسف أبو أحمد البخاري البيكندي، وهو من أفراده، والأصح أنه محمد بن يوسف الفريابي، كما نص عليه أبو نعيم الحافظ، وسفيان هو ابن عيينة، وعاصم هو الأحول، وأبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل النهدي الكوفي، وأبو موسى عبد الله ابن قيس الأشعري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن موسى بن إسماعيل وفي الدعوات وفي التفسير عن سليمان بن حرب وفي الدعوات أيضا عن محمد بن مقاتل. وأخرجه مسلم في الدعوات عن ابن نمير وإسحاق بن إبراهيم
244

وأبي سعيد الأشج وعن أبي بكر وعن أبي كامل وعن محمد بن عبد الأعلى وعن خلف بن هشام وعن أبي الربيع الزهراني وعن إسحاق بن إبراهيم وعن إسحاق بن منصور. وأخرجه أبو داود فيه عن موسى بن إسماعيل وعن مسدد وعن أبي صالح محبوب بن موسى. وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن بشار. وأخرجه النسائي في النعوت عن أحمد بن حرب وعن محمد ابن بشار وعن محمد بن حاتم وفي السير وفي التفسير عن عمرو بن علي وبشر بن هلال وعن عبدة بن عبد الله وفي اليوم والليلة عن حميد بن مسعدة وعن محمد بن بشار وهلال بن بشر وعن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة في ثواب التسبيح عن محمد بن الصباح.
قوله: (إذا أشرفنا) من قولهم: أشرفت عليه إذا طلعت عليه. قوله: (ارتفعت أصواتنا) جملة فعلية وقعت حالا بتقدير: قد، كما في قوله تعالى: * (أو جاؤكم حصرت صدورهم) * (النساء: 09). أي: قد حصرت. قوله: (إربعوا) بكسر الهمزة وفتح الباء الموحدة أي: أرفقوا، وقال الأزهري عن يعقوب: ربع الرجل
يربع إذا وقع وانحبس، وقال الليث: يقال: أربع على نفسك وأربع عليك أي: انتظر. وقال الخطابي: يريد: أمسكوا عن الجهر، وقفوا عنه، وقال ابن قرقول: اعطفوا عليها بالرفق بها والكف عن الشدة، ويقال: أصل الكلمة من قولك: ربع الرجل بالمكان إذا وقف عن السير وأقام به. قوله: (إنه سميع) في مقابلة الأصم، قريب في مقابلة الغائب.
وفي الحديث: كراهة رفع الصوت بالدعاء، وروي من حديث هشام عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد: كان الصحابة يكرهون رفع الصوت عند الذكر، وعند القتال، وعند الجنائز، وفي لفظ: ورفع الأيدي عند الدعاء والقتال: وقال سعيد بن المسيب: ثلاث مما أحدث الناس: رفع الصوت عند الدعاء، ورفع الأيدي، واختصار السجود، ورأى مجاهد رجلا يرفع صوته بالدعاء فحصبه.
231
((باب التسبيح إذا هبط واديا))
أي: هذا باب في بيان ما يذكر من التسبيح إذا هبط المسافر في الغزو أو الحج أو غيرهما، وأضمر الفاعل فيه، والقرينة تدل عليه. قوله: (إذا هبط) أي: نزل (واديا) أي: في واد.
3992 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن حصين بن عبد الرحمان عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا.
(الحديث 3992 طرفه في: 4992).
مطابقته للترجمة في قوله: (وإذا نزلنا سبحنا) والنزول هو الهبوط، ومحمد بن يوسف الفريابي وسفيان هو ابن عيينة وحصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الباب الذي يليه. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن أبي كريب وعن أحمد بن حرب.
قوله: (كنا إذا صعدنا) يعني: إذا طلعنا موضعا عاليا مثل جبل وتل. قوله: (وإذا نزلنا)، يعني: إلى موضع منخفض نحو الوادي، ثم التكبير عند الإشراف على المواضع العالية استشعارا لكبرياء الله، عز وجل، عندما يقع عليه العين أنه أكبر من كل شيء، وأما التسبيح في المواضع المنخفضة فهو مستنبط من قضية يونس، عليه الصلاة والسلام، وتسبيحه في بطن الحوت، قال الله تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) * (الصافات: 441). فنجاه الله تعالى بذلك من الظلمات، فامتثل الشارع هذا التسبيح في بطون الأودية لينجيه الله منها ومن أن يدركه العدو.
331
((باب التكبير إذا علا شرفا
((
أي: هذا باب في بيان ما يذكر من التكبير إذا علا المسافر في الغزو أو الحج أو غيرهما. قوله: (شرفا)، أي: مكانا مشرفا مرتفعا.
331
((باب التكبير إذا علا شرفا
((
أي: هذا باب في بيان ما يذكر من التكبير إذا علا المسافر في الغزو أو الحج أو غيرهما. قوله: (شرفا)، أي: مكانا مشرفا مرتفعا.
4992 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن حصين عن سالم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا تصوبنا سبحنا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: إذا صعدنا كبرنا، لأن معناه: إذا علونا مكانا عاليا مرتفعا كبرنا، وابن أبي عدي هو: محمد بن أبي عدي
245

وأبو عدي اسمه: إبراهيم السلمي، وحصين قد مر في الحديث الماضي، وكذلك سالم هو ابن أبي الجعد. قوله: (وإذا تصوبنا)، أي: إذا انحدرنا، والتصويب النزول.
5992 حدثنا عبد الله قال حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة عن صالح بن كيسان عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الحج أو العمرة ولا أعلمه إلا قال الغزو يقول كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا ثم قال لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده قال صالح فقلت له ألم يقل عبد الله إن شاء الله قال لا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا) وعبد الله زعم أبو مسعود أنه عبد الله بن صالح، وقال الجياني: وقع في رواية ابن السكن عبد الله بن يوسف: وقال الحافظ المزي في (الأطراف): قال أبو مسعود: وهذا الحديث رواه الناس عن عبد الله بن صالح، وقد روى أيضا عبد الله بن رجاء البصري والله
أعلم أيهما هو.
والحديث أخرجه النسائي في الحج عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، وفي اليوم والليلة عن محمد بن منصور.
قوله: (إذا قفل) أي: إذا رجع. قوله: (ولا أعلمه إلا قال الغزو) وهذه الجملة كالإضراب عن الحج والعمرة. كأنه قال: إذا قفل من الغزو. قوله: (يقول كلما أوفى)، فاعل: يقول: هو عبد الله بن عمر، والضمير في: أوفى، يرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعنى: أوفى، أي: أشرف أو علا. قوله: (على ثنية)، بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف، وهي أعلى الجبل، وهو ما يرى منه على البعد. وقال ابن فارس: الثنية من الأرض كالمرتفع، وقال الداودي: هي الطريق التي في الجبال نظير الطريق بين الجبلين. قوله: (أوفدفد)، بفاءين بينهما دال مهملة، وهو: الأرض الغليظة ذات الحصى لا تزال الشمس تدف فيها، قاله القزاز، وقال ابن فارس: الأرض المستوية. وقال أبو عبيد: الفدفد المكان المرتفع فيه صلابة. قوله: (آيبون)، خبر مبتدأ محذوف أي: نحن آيبون، أي: راجعون إلى الله، من آب يؤب أوبا إذا رجع، وكذلك الكلام في: تائبون وعابدون وساجدون. قوله: (لربنا) يحتمل تعلقه بحامدون أو بساجدون أو بهما أو بالصفات الأربعة المتقدمة أو بالخمسة على سبيل التنازع. قوله: (الأحزاب)، اللام فيه للعهد، على طوائف العرب التي اجتمعوا على محاربة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (قال صالح) هو ابن كيسان الراوي. قوله: (فقلت له) أي: لسالم بن عبد الله بن عمر. قوله: (ألم يقل عبد الله؟) هو ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
431
((باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة))
أي: هذا باب يذكر فيه يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة إذا كان سفره في غير معصية.
6992 حدثنا مطر بن الفضل قال حدثنا يزيد بن هاارون قال حدثنا العوام قال حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة سمعت أبا موساى مرارا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا مرض العبد أو سافر...) إلى آخره.
ذكر رجاله وهم سبعة: الأول: مطر بن الفضل المروزي. الثاني: يزيد من الزيادة ابن هارون بن زادان الواسطي. الثالث: العوام، بفتح العين المهملة وتشديد الواو، ابن حوشب، بالحاء المهملة والشين المعجمة على وزن جعفر. الرابع: إبراهيم بن عبد الرحمن أبو إسماعيل السكسكي، بالسينين
246

المهملتين المفتوحتين بينهما كاف ساكنة، في كندة ينسب إلى السكاسك بن أشرس بن كندة. الخامس: أبو بردة، بضم الباء الموحدة، واسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته ابن أبي موسى الأشعري. السادس: يزيد من الزيادة ابن أبي كبشة، قال المنذري: شامي، وكان عريف السكاسك، ولي خراج الهند لسليمان بن عبد الملك، ومات في خلافته. وليس له في البخاري ذكر إلا في هذا الموضع، وأبوه أبو كبشة روى عن أبي الدرداء، ذكر فيمن لا يعرف اسمه، وقيل: اسمه حيويل، بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الواو بعدها ياء أخرى ساكنة وفي آخره لام. السابع: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري.
والحديث أخرجه أبو داود في الجنائز عن محمد بن عيسى ومسدد.
قوله: (واصطحب هو) أي: أبو بردة، ويزيد في سفر. قوله: (وكان يزيد يصوم في سفر)، وفي رواية الإسماعيلي: وكان يصوم الدهر. قوله: (مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا) فيه اللف والنشر المقلوب، فإن قوله: مقيما يقابل قوله أو سافر، وقوله: صحيحا، يقابل قوله: إذا مرض، هذا فيمن كان يعمل طاعة فمنع منها، وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها، وقد ورد ذلك صريحا عند أبي داود من طريق العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين، يقول: إذا كان العبد يعمل عملا صالحا فشغله عن ذلك مرض أو سفر كتب له كصالح ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم. وورد أيضا في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: أن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طلقا حتى أطلقه أو ألفته إلي، أخرجه عبد الرزاق وأحمد والحاكم وصححه. ولأحمد من حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، رفعه: إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده، قال الله: أكتب له عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه طهره وإن قبضه غفر له. وروى النسائي من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، ما من امرئ يكون له صلاة من الليل يغلبه عليها نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة.
531
((باب سير الرجل وحده بالليل))
أي: هذا باب في بيان حكم سير الرجل بالليل وحده أي: حال كونه وحده من غير رفيق معه، هل يكره ذلك أم لا؟ والجواب، يعلم من حديثي الباب، فالحديث الأول: يدل على عدم الكراهة، والثاني: يدل على الكراهة، فلذلك أبهم البخاري الترجمة، وفي نفس الأمر يرجع ما فيهما إلى معنى واحد، وهو ما قال المهلب: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوحدة في سير الليل إنما هو إشفاق على الواحد من الشياطين، لأنه وقت انتشارهم، وإذا هم بالتمثل لهم وما يفزعهم ويدخل في قلوبهم الوساوس، ولذلك أمر الناس أن يحبسوا صبيانهم عند فحمة الليل، ومع هذا إن الوحدة ليست بمحرمة، وإنما هي مكروهة، فمن أخذ بالأفضل من الصحبة فهو أولى، ومن أخذ
بالوحدة فلم يأت حراما.
7992 حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما يقول ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير قال النبي صلى الله عليه وسلم إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير.
.
مطابقته للترجمة من حيث انتداب الزبير وتوجهه وحده، وسيأتي في مناقبه من طريق عبد الله بن الزبير ما يدل على ذلك، ويرد بهذا اعتراض الإسماعيلي بقوله: لا أعلم هذا الحديث كيف يدخل في هذا الباب، وقد رأيت كيفية دخوله فيه، ويرد أيضا ما قاله بعضهم بأنه لا يلزم من كون الزبير انتدب أن لا يكون سار معه غيره متابعا. قلت: ولا يلزم أيضا كونه تابع معه وترجح جانب النفي بما ذكرنا.
والحميدي: هو عبد الله بن الزبير بن عيسى، وقد تكرر ذكره، وسفيان هو ابن عيينة.
والحديث مر في كتاب الجهاد قبل هذا بعدة أبواب، فإنه أخرجه هناك في بابين: أحدهما: في باب فضل الطليعة عن
247

أبي نعيم عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر، والآخر في: باب هل يبعث الطليعة وحده، عن صدقة عن ابن عيينة إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك.
قال سفيان الحواري الناصر
سفيان هو ابن عيينة أحد رواه الحديث، وقال بعضهم: هو موصول عن الحميدي عنه، وفيه نظر لا يخفى.
8992 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا عاصم بن محمد قال حدثني أبي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا أبو نعيم قال حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده.
مطابقته للترجمة من حيث إطلاقها لأنها مبهمة كما ذكرنا آنفا، وأخرجه من طريقين. الأول: عن أبي الوليد هشام ابن عبد الملك الطيالسي عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، يروي عن أبيه محمد بن زيد ومحمد يروي عن جده عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم... إلى آخره، وقال الحافظ المزي في (الأطراف) قال البخاري: حدثنا أبو الوليد عن عاصم بن محمد به، وقال بعده: وأبو نعيم عن عاصم، ولم يقل: حدثنا أبو نعيم، ولا في كتاب حماد بن شاكر: حدثنا أبو نعيم. وأجيب: عن ذلك بأن الذي وقع في جميع الروايات عن الفربري عن البخاري حدثنا أبو نعيم، وكذلك وقع في رواية النسفي عن البخاري، فقال: حدثنا أبو الوليد، فساق الإسناد ثم قال: وحدثنا أبو الوليد وأبو نعيم، قالا: حدثنا عاصم فذكره وبذلك جزم أبو نعيم الأصبهاني في (المستخرج) فقال، بعد أن أخرجه من طريق عمرو بن مرزوق عن عاصم بن محمد: أخرجه البخاري عن أبي نعيم وأبي الوليد. فإن قلت: ذكر الترمذي أن عاصم بن محمد تفرد برواية هذا الحديث؟ قلت: ليس كذلك، فإن أخاه عمرو بن محمد قد رواه معه عن أبيه أخرجه النسائي.
قوله: (ما في الوحدة)، قال ابن التين: الوحدة، ضبطت بفتح الواو وكسرها، وأنكر بعض أهل اللغة الكسر، وقال ابن قرقول: وحدك، منصوب بكل حال عند أهل الكوفة على الظرف، وعند البصريين على المصدر، أي: توحد وحده. قال: وكسرته العرب في ثلاثة مواضع: عيير وحده، وجحيش، وحده ونسيج وحده، وعن أبي علي: رجيل وحده، ووحد، بفتح الحاء وكسرها، ووحد ووحيد ومتوحد، وللأنثى وحدة ووحدة وحد بكسر الحاء وضمها وحادة ووحدة ووحدا وتوحد كله بقي وحده، وعن كراع: الوحد الذي ينزل وحده. قوله: (ما أعلم) أي: الذي أعلم، والجملة في محل النصب لأنها مفعول: لو يعلم. قوله: (راكب) هذا من قبيل الغالب وإلا فالراجل أيضا كذلك؟ فإن قلت: ذكر في الباب حديثين: أحدهما: في الجواز. والثاني: في المنع. قلت: تؤخذ الجواب عنه مما ذكرنا في أول الباب، وأيضا أن للسير في الليل حالتين: إحداهما: الحاجة إليه مع غلبة السلامة، كما في حديث الزبير. والأخرى: حالة الخوف، فحذر عنها الشارع، وأيضا إذا اقتضت المصلحة الانفراد كإرسال الجاسوس والطليعة، فلا كراهة وإلا فالكراهة، والله أعلم.
631
((باب السرعة في السير عند الرجوع إلى الوطن))
أي: هذا باب في بيان جواز السرعة في السير عند الرجوع إلى الوطن.
قال أبو حميد قال النبي صلى الله عليه وسلم إني متعجل إلى المدينة فمن أراد أن يتعجل معي فليتعجل
أبو حميد، بضم الحاء هو عبد الرحمن، وقيل غير ذلك: الساعدي الأنصاري، وهذا التعليق قطعة من حديث سبق في الزكاة مطولا في: باب خرص التمر. قوله: (فليتعجل)، ويروي: (فليعجل)، فالأول من باب: التفعل، والثاني من باب: التفعيل.
248

9992 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى عن هشام قال أخبرني أبي قال سئل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال كان يحيى يقول وأنا أسمع فسقط عني عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال فكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص والنص فوق العنق.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (نص) لأن النص هو السير الشديد. ويحيى هم ابن سعيد القطان، وهشام هو ابن عروة يروي عن أبيه عروة بن الزبير. والحديث مر في كتاب الحج في: باب السير إذا دفع من عرفة.
قوله: (كان يحيى)، أي: يحيى القطان، يقول: وأنا أسمع، فسقط عني، وهذه جملة معترضة بين قوله: سئل أسامة بن زيد، وبين قوله: عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم لأن عن مسير النبي متعلق بقوله: سئل، والتقدير قال البخاري، قال ابن المثنى، وكان يحيى يقول تعليقا عن عروة أو مسندا إليه، قال: سئل أسامة وأنا أسمع السؤال، فقال يحيى سقط عني هذا اللفظ وأنا أسمع عند رواية الحديث كأنه لم يذكرها أولا واستدركه آخرا وقال في كتاب الحج: سئل أسامة وأنا جالس. وفي (صحيح مسلم) قال هشام، عن أبيه: سئل أسامة وأنا شاهد: كيف كان مسير النبي صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة؟ قوله: (العنق)، بفتح العين المهملة والنون: وهو السير السهل. قوله: (فجوة)، بفتح الفاء وسكون الجيم، وهي الفرجة بين الشيئين. قال تعالى: * (وهم في فجوة منه) * (الكهف: 71). قوله: (نص) بالتشديد، فعل ماض من نص ينص نصا، وهو السير الشديد حتى يستخرج أقصى ما عنده.
0003 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد هو ابن أسلم عن أبيه قال كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما بطريق مكة فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق ثم نزل فصلى المغرب والعتمة يجمع بينهما وقال إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا جد به السير) والحديث مضى في أبواب العمرة في: باب المسافر إذا جد به السير تعجل إلى أهله، فإنه أخرجه هناك بعين هذا الإسناد والمتن، ومضى الكلام فيه هناك، وصفية بنت أبي عبيد الثقفية أخت المختار، أدركت النبي صلى الله عليه وسلم وسمعت منه، وكانت زوجة ابن عمر.
1003 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فليعجل إلى أهله) وهذا الحديث مضى في كتاب الحج في: باب السفر قطعة من العذاب، بعين هذا الإسناد والمتن جميعا، ومضى الكلام فيه هناك، وأبو صالح ذكوان الزيات. قوله: (نومه)، منصوب بنزع الخافض، أو مفعول ثان للمنع، لأنه يقتضي مفعولين كالإعطاء، والمراد بمنعه: كمالها ولذتها، لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد والخوف والسري ومفارقة الأهل والأوطان. قوله: (نهمته) بفتح النون: الحاجة والمقصود.
731
((باب إذا حمل على فرس فرآها تباع))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا حمل رجل على فرس أي: أركب غيره عليه في سبيل الله حسبة لله، عز وجل، ثم رآها تباع، هل له أن يشتريها أم لا؟ والجواب: يعلم من الحديث.
2003 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى
249

عنهما أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع فأراد أن يبتاعه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تبتعه ولا تعد في صدقتك.
.
3003 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول حملت على فرس في سبيل الله فابتاعه أو فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه بائعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تشتره وإن بدرهم فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة وفيه بيان ما أبهمه في الترجمة والحديث مضى في الزكاة في: باب هل يشتري صدقته؟ عن سالم عن أبيه أن عمر تصدق بفرس ذكره في هذا الباب عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم، وذكره ههنا عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن ابن عمر: أن عمر حمل على فرس... الحديث، ومضى في الهبة أيضا، ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (ابتاعه أو أضاعه) شك من الراوي، ولا معنى لقوله: ابتاعه إلا إذا كان بمعنى: باعه، ولعل الابتياع جاء بمعنى البيع، كما جاء: اشترى، بمعنى: باع، وقال الزمخشري في قوله: * (بئسما ما اشتروا به أنفسهم) * (البقرة: 201). ان اشتروا بمعني: باوا، وكأنه قال: اتخذ البيع لنفسه كما يقال في اكتسب ونحوه. وقيل: لعل الراوي صحفه وهو: أباعه؟ أي: عرضه للبيع. قوله: (وإن بدرهم) أي: وإن كان بدرهم، فحذف فعل الشرط، والحذف عند القرينة، جائز.
831
((باب الجهاد بإذن الأبوين))
أي: هذا باب في بيان أن الجهاد بإذن الأبوين، كذا أطلق، ولكن فيه خلاف وتفصيل، فلذلك أبهم فقال أكثر أهل العلم، منهم الأوزاعي والثوري ومالك والشافعي وأحمد: إنه لا يخرج إلى الغزو إلا بإذن والديه ما لم تقع ضرورة وقوة العدو، فإذا كان كذلك تعين الفرض على الجميع وزال الاختيار ووجب الجهاد على الكل، فلا حاجة إلى الإذن من والد وسيد. وقال ابن حزم في (مراتب الإجماع): إن كان أبواه يضيعان بخروجه ففرضه ساقط عنه إجماعا وإلا فالجمهور يوقفه على الاستيذان،
والأجداد كالآباء والجدات كالأمهات، وعند المنذري: هذا في التطوع، أما إذا وجب عليه فلا حاجة إلى إذنهما، وإن منعاه عصاهما، هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فلا سبيل لهما إلى منعه ولو نفلا، وطاعتهما حينئذ معصية. وعن الثوري: هما كالمسلمين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هذا كله بعد الفتح وسقوط فرض الهجرة والجهاد وظهور الدين، وأن يكون ذلك من الأعراب وغير من تجب عليه الهجرة، فرجح بر الوالدين على الجهاد. فإن قلت: هل يندرج في هذا المديان؟ قلت: قال الشافعي، فيما ذكره ابن المناصف: ليس له أن يغزو إلا بإذنه سواء كان مسلما أو غيره، وفرق مالك بين أن يجد قضاء وبين أن لا يجد، فإن كان عديما فلا يرى بجهاده بأسا، وإن لم يستأذن غريمه، فإن كان مليا وأوصى بدينه إذا حل أعطى دينه ولا يستأذنه. وقال الأوزاعي: لا يتوقف على الإذن مطلقا، والله أعلم.
4003 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال سمعت أبا العباس الشاعر وكان لا يتهم في حديثه قال سمعت عبد الله بن عمر و رضي الله تعالى عنهما يقول جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال أحر والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد.
(الحديث 4003 طرفه في: 2795).
قيل: لا مطابقة للترجمة لأنه ليس فيه استئذان ولا غيره. قلت: تؤخذ المطابقة من قوله: (ففيهما فجاهد)، بطريق الاستنباط لأن أمره بالمجاهدة فيهما يقتضي رضاهما عليه، ومن رضاهما الإذن له عند الاستئذان في الجهاد.
وحبيب بن أبي ثابت، واسمه قيس بن دينار أبو يحيى الأسدي الكوفي وقد مر في الصوم. وأبو العباس، بتشديد الباء الموحدة:
250

واسمه السائب بن فروخ الشاعر المكي الأعمى، وقد مر في التهجد، وإنما قال: وكان لا يتهم في حديثه لئلا يتوهم بسبب أنه شاعر أنه متهم في الحديث. وعبد الله بن عمرو بن العاص.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن محمد بن كثير عن سفيان وعن مسدد عن يحيى. وأخرجه مسلم في الأدب عن محمد بن المثنى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير ابن حرب وعن عبيد الله بن معاذ وعن محمد بن حاتم وعن القاسم بن زكرياء وعن أبي كريب. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن محمد بن كثير به، وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن بشار. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن المثنى.
قوله: (جاء رجل) قيل: يحتمل أن يكون هو جاهمة بن العباس بن مرداس، قال أبو عمر: جاهمة السلمي حجازي، ثم قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا ابن جريج عن محمد بن طاعة عن معاوية بن جاهمة عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد؟ فقال: (ألك والدة؟) قلت: نعم. قال: إذهب فأكرمها فإن الجنة تحت رجليها). ورواه النسائي وأحمد أيضا من طريق معاوية بن جاهمة، وروى ابن أبي عاصم بسند صحيح: بينا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة بين مكة والمدينة إذا جاء أعرابي من أخلق الرجال وأشدهم، فقال: يا رسول الله! إني أحب أن أكون معك وأجد بي قوة، وأحب أن أقاتل العدو معك وأقتل بين يديك. فقال: (هل لك من والدين؟ قال: نعم. قال: انطلق فالحق بهما وبرهما، واشكر لله ولهما، قال: إني أجد قوة ونشاطا لقتال العدو، قال: انطلق فالحق بهما). فأدبر، فجعلنا نتعجب من خلقه وجسمه. وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي، فقال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: إرجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما). وصححه ابن حبان. فإن قلت: روى ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو من طريق غير طريق حديث الباب: جاء رجل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال، فقال: (الصلاة، قال: ثم مه؟ قال: الجهاد. قال: فإن لي والدين! فقال: برك بوالديك خير، فقال: والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما. قال: فأنت أعلم). قلت: هذا يحمل على جهاد فرض العين توفيقا بينه وبين حديث الباب. قوله: (ففيهما) أي: ففي الوالدين فجاهد، الجار والمجرور متعلق بمقدر، وهو: جاهد، ولفظ: جاهد المذكور مفسر له، لأن ما بعد الفاء الجزائية لا يعمل فيما قبلها، ومعناه: خصصهما بالجهاد، وهذا كلام ليس ظاهره مرادا، لأن ظاهر الجهاد إيصال الضرر للغير، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد، وهو بذل المال وتعب البدن فيؤول المعنى إلى: إبذل مالك وأتعب بدنك في رضا والديك.
وفيه: بالتأكيد ببر الوالدين وتعظيم حقهما وكثرة الثواب على برهما، والله أعلم.
931
((باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل))
أي: هذا باب في بيان ما قيل في كراهة الجرس، وهو بفتح الجيم والراء وفي آخره سين مهملة، وهو معروف. وحكى عياض إسكان الراء والأصوب أن الذي بالفتح، ما علق في عنق الدابة وغيره فيصوت، والجرس بالإسكان: الصوت، يقال: أجرس إذا صوت، ويجمع على أجراس، قوله: (ونحوه) مثل القلائد من الأوتار كانوا يعلقونها على أعناق الإبل لدفع العين على ما نذكره قوله: (في أعناق الإبل) إنما خص الإبل بالذكر لورود الخبر فيها بخصوصها للغالب.
5003 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم أن أبا بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال أخبره أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال عبد الله حسبت أنه قال والناس في مبيتهم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت.
قيل: ليس في الحديث ما يدل على التبويب، لأنه لا ذكر فيه للجرس، وتمحل له بقول الخطابي: أمر بقطع القلائد لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس. قيل: لعل
البخاري استنبطه من هذا. وأجيب: بأن هذا ليس بشيء، لأن الحديث نفسه فيه ذكر الجرس.
251

والبخاري على عادته يحيل على أطراف الحديث في التبويب. بيانه ما في (الموطآت) للدارقطني من رواية عثمان بن عمر عن مالك عن عبد الله عن عباد عن أبي بشير الساعدي، وفيه: ولا جرس في عنق بعير إلا قطع. قلت: رد الوجه الأول ليس له وجه، لأن الذي رواه البخاري من رواية عبد الله بن يوسف عن مالك ليس فيه ذكر الجرس، وإنما ذكره في الطريق الذي رواه عثمان بن عمر عن مالك، وما قيل في وجه المطابقة بقول الخطابي أوجه، لأن الجرس لا يعلق في أعناق الإبل إلا بعلاقة، وهي الوتر ونحوه، فذكر البخاري الجرس الذي يعلق بالقلادة، فإذا ورد النهي عن تعليق القلائد في أعناق الإبل يدخل فيه النهي عن الجرس بالضرورة، والأصل هو النهي عن الجرس، ألا ترى أنه ورد: أن الملائكة لا تصحب رفقة فيها جرس؟ ولأنه يشبه الناقوس.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: عبد الله بن يوسف أبو محمد التنيسي، أصله من دمشق. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم. الرابع: عباد، بتشديد الباء الموحدة ابن تميم الأنصاري، مر في الوضوء. الخامس: أبو بشير، بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: الأنصاري، وذكره الحاكم أبو أحمد فيمن لا يعرف اسمه، وقيل: اسمه قيس بن عبد الحرير تصغير حرير بالحاء المهملة وبالراءين المهملتين، مات بعد الحرة، وهو من المعمرين. وقال الذهبي: أبو بشير الأنصاري المازني، وقيل: الساعدي، شهد بيعة الرضوان، وقال أبو عمر: أبو بشير الأنصاري قيل: المازني الأنصاري، وقيل: الساعدي الأنصاري، وقيل: الأنصاري الحارثي، لا يوقف له على اسم صحيح ولا سماه من يوثق به ويعتمد عليه، وقد قيل: اسمه قيس بن عبيد من بني النجار، ولا يصح. والله أعلم. وقيل: مات سنة أربعين، والأصح أنه مات بعد الحرة.
ذكر لطائف إسناده فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: ثلاثة مدنيون: مالك وشيخه وشيخ شيخه، وثلاثة أنصاريون وهم: عبد الله وعباد وأبو بشر. وفيه: تابعيان. وهما: عبد الله وعباد. وفيه: أنه ليس لأبي بشير في البخاري غير هذا الحديث الواحد.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في اللباس عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن القعنبي. وأخرجه النسائي في السير عن قتيبة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن رجل من الأنصار به، ولم يقل عن أبي بشير.
ذكر معناه: قوله: (في بعض أسفاره)، لم يعينه أحد من الشراح. قوله: (قال عبد الله)، هو عبد الله بن أبي بكر، الراوي، وكأنه شك في قوله: (أنه) قال: فلأجل هذا قال: حسبت. قوله: (فأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم) قال ابن عبد البر، في رواية روح بن عبادة عن مالك: أرسل مولاه زيدا. قال ابن عبد البر: هو زيد بن حارثة. قوله: (قلادة من وتر أو قلادة)، كذا وقع هنا بكلمة: أو، للشك أو للتنويع، ووقع في رواية أبي داود عن القعنبي بلفظ: (ولا قلادة)، وهو من عطف العام على الخاص، قوله: (وتر)، بالتاء المثناة من فوق في جميع الروايات، وقال ابن الجوزي: ربما صحف من لا علم له بالحديث فقال: وبر، بالباء الموحدة، وحكى ابن التين عن الداودي أنه جزم بذلك، وقال: وهو ما ينزع من الجمال يشبه الصوف. قال ابن التين: فصحف. وقال ابن الجوزي: وفي المراد بالأوتار ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يقلدون الإبل أوتار القسي لئلا تصيبها العين بزعمهم، فأمروا بقطعها إعلاما بأن الأوتار لا ترد من أمر الله تعالى شيئا. الثاني: لئلا تختنق الدابة بها عند الركض، ويحكى ذلك عن محمد بن الحسن من أصحابنا، وعن أبي عبيد ما يرجحه فإنه قال: نهى عن ذلك لأن الدواب تتأذى بذلك ويضيق عليها نفسها ورعيها، وربما تعلقت بشجرة فاختنقت أو تعوقت عن السير. الثالث: أنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، ويدل عليه تبويب البخاري كما ذكرناه، وقد حمل النضر بن شميل الأوتار في هذا الحديث على معنى: التار، فقال: معناه لا تطلبوا بها دخول الجاهلية. قال القرطبي: وهذا تأويل بعيد. وقال النووي: ضعيف ومال وكيع إلى قول النضر، فقال: المعنى لا تركبوا الخيل في الفتن فإن من ركبها لم يسلم أن يتعلق به وتر يطلب به. فإن قلت: الكراهة في الجرس لماذا؟ قلت: لما رواه مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه
252

عن أبي هريرة، رفعه: الجرس مزمار الشيطان، وهذا يدل على أن الكراهة فيه لصورته لأن فيه شبها بصوت الناقوس وشكله. فإن قلت: الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه؟ قلت: قال النووي وغيره: الجمهور على النهي كراهة تنزيه، وقيل: كراهة تحريم، وقيل: يمنع منه قبل الحاجة، ويجوز إذا وقعت الحاجة. وعن مالك: تختص الكراهة من القلائد بالوتر ويجوز بغيرها إذا لم يقصد دفع العين، هذا كله في تعليق التمائم وغيرها مما ليس فيه قرآن ونحوه، فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي عنه، فإنه إنما يجعل للتبرك له والتعوذ بأسمائه وذكره، وكذلك لا نهي عما يعلق لأجل الزينة ما لم يبلغ الخيلاء أو السرف.
واختلفوا في تعليق الجرس أيضا، فقيل: لا يجوز أصلا، وقيل: يجوز عند الحاجة والضرورة، وقيل: يجوز في الصغير دون الكبير. فإن قلت: تقليد الأوتار هل هو مخصوص بالإبل، على ما في الحديث، أم لا؟ قلت: قد ذكرنا أن تخصيص الإبل بالذكر فيه للغالب، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجياني رفعه: إربطوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار، فدل على أن لا اختصاص للإبل.
((باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له عذر هل يؤذن له))
أي هذا باب في بيان ما جاء من خبر من اكتتب في جيش واكتتب بلفظ المعلوم والمجهول يقال اكتتب فلان إذا كتب نفسه في ديوان السلطان قوله ' حاجة ' نصب على الحال قوله ' أو كان له عذر ' أي أو كان له عذر غير ذلك هل يؤذن له بالحج معها وجواب من يعلم من الحديث
210 - (حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي
يقول لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم فقام رجل فقال يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة قال اذهب فحج مع امرأتك)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله اذهب فحج مع امرأتك لأنه اكتتب في جيش وأرادت امرأته أن تحج الفرض فأذن له
أن يحج مع امرأته لأنه اجتمع له مع حج التطوع في حقه تحصيل حج الفرض لامرأته فكان اجتماع ذلك له أفضل من مجرد الجهاد الذي يحصل المقصود منه بغيره وسفيان هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار وأبو معبد بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الباء الموحدة اسمه نافذ بالنون والفاء والذال المعجمة مولى عبد الله بن عباس والحديث مضى في كتاب الحج في أواخر أبواب المحصر في باب حج النساء فإنه أخرجه هناك عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن عمرو عن أبي معبد إلى آخره ومضى الكلام فيه هنا قوله ' فحج ' ويروى فاحجج بفك الإدغام *
((باب الجاسوس))
أي هذا باب في بيان حكم الجاسوس إذا كان من جهة الكفار ومشروعيته إذا كان من جهة المسلمين والجاسوس على وزن فاعول من التجسس وهو التفتيش عن بواطن الأمور
(التجسس التبحث)
هكذا فسره أبو عبيدة والتبحث من باب التفعل من البحث وهو التفتيش ومنه بحث الفقيه لأنه يفتش عن أصل المسائل
(وقول الله تعالى * (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) *)
وقول الله بالجر عطفا على لفظ الجاسوس قال المفسرون نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقصته تأتي عن قريب ومناسبة ذكر هذه الآية هنا هي أنه ينتزع منها حكم جاسوس الكفار يعلم ذلك من قصة حاطب قوله ' عدوي ' أي عدو ديني وعدوكم
253

عطف عليه وأولياء مفعول ثان لقوله لا تتخذوا والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد
211 - (حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار سمعته منه مرتين قال أخبرني حسن بن محمد قال أخبرني عبيد الله بن أبي رافع قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول بعثني رسول الله
أنا والزبير والمقداد بن الأسود قال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله
فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله
فقال رسول الله
يا حاطب ما هذا قال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرءا ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله
لقد صدقكم قال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق قال إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم قال سفيان وأي إسناد هذا)
مطابقته للترجمة من حيث أن تلك الظعينة التي معها كتاب كان حكمها حكم الجاسوس واختلف العلماء في جواز قتل جاسوس الكفار.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني سفيان بن عيينة. الثالث عمرو بن دينار المكي. الرابع حسن بن محمد بن الحنفية أبو محمد الهاشمي المدني مات في زمن عبد الملك بن مروان. الخامس عبيد الله بضم العين ابن أبي رافع واسمه أسلم مولى رسول الله
. السادس علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن قتيبة وفي التفسير عن الحميدي وأخرجه مسلم في الفضائل عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وإسحق بن إبراهيم وابن أبي عمر وأخرجه أبو داود في الجهاد عن مسدد وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن منصور وعبيد الله بن سعد السرخسي رحمهم الله تعالى
(ذكر معناه) قوله ' روضة خاخ ' بخاءين معجمتين بينهما ألف وقال السهيلي كان هشيم يصحفها فيقول خاج بخاء وجيم وذكر البخاري أن أبا عوانة كان يقولها كما يقول هشيم وذكر ياقوت مائة وثلاثين روضة في بلاد العرب منها روضة خاخ وهو موضع بين مكة والمدينة قوله ' ظعينة ' بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وهي المرأة في الهودج ولا يقال ظعينة إلا وهي كذلك لأنها تظعن بارتحال الزوج وقيل أصلها الهودج وسميت به المرأة لأنها تكون فيه وقال ابن فارس الظعينة المرأة وهو من باب الاستعارة وأما الظعائن فالهوادج كانت فيها نساء أو لم تكن وكان اسمها سارة وقيل أم سارة وقيل كنود مولاة لقريش وقيل
254

لعمران بن صيفي وقيل كانت من مزينة من أهل العرج وفي الإكليل للحاكم وكانت مغنية نواحة تغني بهجاء رسول الله
فأمر بها يوم الفتح فقتلت وذكرها أبو نعيم وابن منده في جملة الصحابيات ووقع في كتاب الأحكام للقاضي إسماعيل في قصة حاطب قال للذين أرسلهم أن بها امرأة من
المسلمين معها كتاب إلى المشركين وأنهم لما أرادوا أن يخلعوا ثيابها قالت أولستم مسلمين انتهى وهذا مشكل لأن سيدنا رسول الله
لما دخل مكة ذكرها في المستثنين بالقتل وبما قال الحاكم أيضا ويؤيده ما ذكر أبو عبيد البكري فإن بها امرأة من المشركين وقال الواحدي قال جماعة المفسرين أن هذه الآية يعني قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله
إلى المدينة من مكة وهو يتجهز لفتح مكة فقال ما جاء بك قالت الحاجة قال فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فكساها وحملها وأتاها حاطب بن أبي بلتعة كتب معها كتابا إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكتب في الكتاب إلى أهل مكة أن رسول الله
يريدكم فخذوا حذركم فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بخبرها فبعث عليا وعمارا وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلهم فرسانا وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها * وفي تفسير النسفي أتت سارة رسول الله
من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله
يتجهز لفتح مكة فقال رسول الله
' أمسلمة جئت قالت لا قال أمهاجرة جئت قالت لا قال فما حاجتك قالت ذهب الموالي يعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فحث عليها رسول الله
بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة فأتاها حاطب فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله
يريدكم فخذوا حذركم وقال السهيلي الكتاب أما بعد فإن رسول الله
قد توجه إليكم في جيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم وأنجز له بوعده فيكم فإن الله وليه وناصره ' وفي تفسير ابن سلام ' أن فيه أن محمدا رسول الله
قد نفر إما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر ' وقيل كان فيه أنه
آذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم فقد أحببت أن يكون لي عندكم يد بكتابي إليكم قوله ' تعادى بنا خيلنا ' بلفظ الماضي أي تباعد وتجارى وبالمضارع بحذف إحدى التاءين قوله ' أو لتلقين الثياب ' قال ابن التين صوابه في العربية بحذف الياء (قلت) القياس ما قاله لكن صحت الرواية بالياء فتناول الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن وباب المشاكلة واسع فيجوز كسر الياء وفتحها فالفتحة بالحمل على المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة قال الكرماني ويروى بفتح القاف ورفع الثياب قوله ' فأخرجته ' أي الكتاب من عقاصها بكسر العين المهملة وبالقاف وبالصاد المهملة وهو الشعر المضفور ويقال هي التي تتخذ من شعرها مثل الوقاية وكل خصلة منه عقيصة والعقص لي خصلات الشعر بعضه على بعض وقال المنذري هو لي الشعر بعضه على بعض على الرأس ويدخل أطرافه في أصوله قال ويقال هي التي تتخذ من شعرها مثل الرمانة قال وقيل العقاص هو الخيط الذي يجمع فيه أطراف الذوائب وعقص الشعر ضفره ويقال العقاص السير الذي يجمع به شعرها على رأسها والعقص الضفر والضفر الفتل وقال ابن بطال وفي رواية أخرجته من حجزتها قوله ' فأتينا به ' أي بالكتاب ويروى بها أي بالصحيفة قال الكرماني أو بالمرأة قلت فيه نظر لأنا قد ذكرنا عن الواحدي أن في روايته معها كتاب إلى المشركين فخذوه فخلوا سبيلها قوله ' إلى أناس من المشركين ' قال الكرماني هو كلام الراوي وضع موضع إلى فلان وفلان المذكورين في الكتاب قلت لم يطلع الكرماني على أسماء المكتوب إليهم فلذلك قال هكذا والذين كتب إليهم هم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل قوله ' ملصقا في قريش ' أي مضافا إليهم ولست منهم وأصل ذلك من إلصاق الشيء بغيره ليس منه ولذلك قيل للدعي في القوم ملصق وقيل معناه حليفا ولم يكن من نفس قريش وأقربائهم قوله ' وكان معك ' كذا في الرواية الصحيحة
255

وعند مسلم ممن معك بزيادة من والصواب إسقاطها لأن من لا تزاد في الموجب عند البصريين وأجازه بعض الكوفيين قوله ' إذ فاتني ذلك ' كلمة إذ بمعنى حين وذلك إشارة إلى قوله لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأمولهم قوله ' أن أتخذ ' كلمة أن مصدرية في محل النصب لأنه مفعول أحببت قوله ' يدا ' أي نعمة ومنة عليهم قوله ' كفرا ' نصب على التمييز وما بعده عطف عليه قوله ' هذا المنافق ' إنما أطلق عمر رضي الله تعالى عنه اسم النفاق عليه لأنه والى كفار قريش وباطنهم وإنما فعل حاطب ذلك متأولا في غير ضرر لرسول الله
وعلم الله صدق نيته فنجاه من ذلك وقال الحافظ قال عمر دعني أضرب عنقه يعني كفر وقال الباقلاني في قضية هذا الكتاب هذه اللفظة ليست بمعروفة قيل يحتمل أن يكون المراد بها كفر النعمة وقال ابن التين يحتمل أن يكون قول عمر هذا قبل قوله
لقد صدقكم وقد أثبت الله له الإيمان في قوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم) * الآية وكانت أمه بمكة فأراد أن يحفظوها فيها وعن الطبري كان هذا من حاطب هفوة وقد قال
فيما روته عمرة عن عائشة أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم قال فإن ظن ظان أن صفحه عنه كان لما أعلم الله من صدقه فلا يجوز لمن بعد الرسول أن يعلم ذلك فإن ظن فقد ظن خطأ لأن أحكام الله عز وجل في عباده إنما تجري على ما ظهر منهم لا بما يظن قوله ' لعل الله ' كلمة لعل استعملت استعمال عسى قال النووي معنى الترجي فيها
راجع إلى عمر رضي الله تعالى عنه لأن وقوع هذا الأمر محقق عنده
وما يدريك على التحقيق بعثا له على التفكر والتأمل ومعناه أن الغفران لهم في الآخرة وإلا فلو توجه على أحد منهم حد استوفي منه قوله ' اعملوا ما شئتم ' ظاهره الاستقبال وقال ابن الجوزي ليس هو على الاستقبال وإنما هو للماضي تقديره اعملوا ما شئتم أي عمل كان لكم فقد غفر ويدل على هذا شيئا أحدهما أنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر والثاني أنه يكون إطلاقا في الذنوب ولا وجه لذلك وقال القرطبي هذا التأويل وإن كان حسنا لكن فيه بعد لأن اعملوا صيغة أمر وهي موضوعة للاستقبال ولم تضع العرب قط صيغة الأمر موضع الماضي لا بقرينة ولا بغير قرينة كذا نص عليه النحويون وصيغة الأمر إذا وردت بمعنى الإباحة إنما هي بمعنى الإنشاء والابتداء لا بمعنى الماضي فكان كقول القائل أنت وكيلي وقد جعلت لك التصرف كيف شئت فإنما يقتضي إطلاق التصرف من وقت التوكيل لا قبل ذلك قال وقد ظهر لي وجه وهو أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف يتضمن أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم لا أنهم نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة بل لهم صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء ما وجود ذلك الشيء إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت منه أهليتها وكذلك القضاء وغيره وعلى هذا فلا يأمن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع من الذنوب ثم أن الله عز وجل أظهر صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن توفوا ومن وقع منهم في أمر ما أو مخالفة لجأ إلى توبة ولازمها حتى لقي الله عليها يعلم ذلك قطعا من حالهم من طالع سيرهم وأخبارهم قوله ' قال سفيان ' وأي إسناد هذا أراد به سفيان بن عيينة تعظيم هذا الإسناد وصحته وقوته لأن رجاله هم الأكابر العدول الثقات الحفاظ
(ذكر ما يستفاد منه) فيه هتك سر الجاسوس رجلا كان أو امرأة إذا كانت في ذلك مصلحة أو كان في الستر مفسدة وقال الداودي الجاسوس يقتل وإنما نفى القتل عن حاطب لما علم النبي
منه ولكن مذهب الشافعي وطائفة أن الجاسوس المسلم يعزر ولا يجوز قتله وإن كان ذا هيئة عفي عنه لهذا الحديث * وعن أبي حنيفة والأوزاعي يوجع عقوبة ويطال حبسه وقال ابن وهب من المالكية يقتل إلا أن يتوب وعن بعضهم أنه يقتل إذا كانت عادته ذلك وبه قال ابن الماجشون وقال ابن القاسم يضرب عنقه لأنه لا تعرف توبته وبه قال سحنون ومن قال بقتله فقد خالف الحديث وأقوال المتقدمين وقال الأوزاعي فإن كان كافرا يكون ناقضا للعهد وقال أصبغ الجاسوس الحربي يقتل والمسلم والذمي
256

يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان وفيه كما قال الطبري إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عدوا من المشركين ينذره مما أسره المسلمون فيهم من عزم ولم يكن معروفا بالغش للإسلام وأهله وكان ذلك من فعله هفوة وزلة من غير أن يكون لها أخوات يجوز العفو عنه كما فعل رسول الله
بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما اطلع عليه من فعله * وفيه البيان عن بعض أعلام النبوة وذلك إعلام الله تعالى نبيه
بخبر المرأة الحاملة كتاب حاطب إلى قريش ومكانها الذي هي به وذلك كله بالوحي * وفيه هتك ستر المريب وكشف المرأة العاصية وفيه أن الجاسوس لا يخرجه تجسسه من الإيمان * وفيه الحجة لترك إنفاذ الوعيد من الله لمن شاء ذلك لقوله
لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم * وفيه جواز غفران ما تأخر من الذنوب قبل وقوعه * وفيه جواز تجريد العورة عن السترة عند الحاجة قاله ابن العربي * وفيه دلالة على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل قاله ابن الجوزي * وفيه أن من أتى محظورا وادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن خلافه *
((باب الكسوة للأسارى))
أي هذا باب في بيان ما جاء من الكسوة للأسارى قال ابن التين الكسوة بكسر الكاف وضمها وفي المغرب الكسوة اللباس والضم لغة وجمعه كسى بالضم يقال كسوته إذا ألبسته ثوبا والكاسي خلاف العاري وجمعه كساة كعراة جمع عار والأسارى جميع أسير
212 - (حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي
له قميصا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي
إياه فلذلك نزع النبي
قميصه الذي ألبسه. قال ابن عيينة كانت له عند النبي
يد فأحب أن يكافئه)
مطابقته للترجمة تأخذ من قوله فكساه النبي
إياه وذلك لأن العباس بن عبد المطلب عم النبي
كان في جملة الأسارى يوم بدر وكان عريانا فكساه النبي
وحديث جابر هذا قد مضى في أواخر كتاب الجنائز في باب هل يخرج الميت من القبر بأتم من هذا فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر إلى آخره ومضى الكلام فيه هناك قوله ' فنظر النبي
له ' أي للعباس قميصا أي نظر يطلب قميصا لأجله فوجدوا قميص عبد الله بن أبي بن سلول وكان العباس طوالا كأنه الفسطاط وكان أبوه عبد المطلب أطول منه وكان ابنه عبد الله إذا مشى مع الناس كأنه راكب والناس مشاة وكان العباس أطول منه فلم يجدوا قميصا قدره إلا قميص عبد الله بن أبي بن سلول وهو معنى قوله يقدر عليه بضم الدال من قدرت الثوب عليه قدرا فانقدر أي جاء على المقدار قوله ' إياه ' أي قميص عبد الله قوله ' فلذلك ' أي فلأجل ذلك نزع النبي
قميصه من بدنه فألبسه عبد الله بعد وفاته مكافأة على صنيعه وهو معنى قوله قال ابن عيينة أي سفيان بن عيينة كانت له أي لعبد الله عند النبي
يد أي نعمة فأحب النبي
أن يكافئه * وفيه أن المكافأة تكون في الحياة وبعد الممات * وفيه كسوة الأسارى والإحسان إليهم ولا يتركون عراة فتبدو عوراتهم ولا يجوز النظر إلى عورات المشركين * -
341
((باب فضل من أسلم على يديه رجل))
أي: هذا باب في بيان فضل من أسلم على يديه رجل.
257

9003 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله ابن عبد القاري عن أبي حازم قال أخبرني سهل رضي الله تعالى عنه يعني ابن سعد قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى فغدوا كلهم يرجوه فقال أين علي فقيل يشتكي عينيه فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال انفد على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (لأن يهدي الله بك...) إلى آخره، ويعقوب القاري، بالقاف والراء منسوب إلى: القارة، هم: بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وأبو حازم، بالحاء المهملة والزاي: سلمة بن دينار الأعرج. والحديث مضى في كتاب الجهاد، وأخرجه أيضا في المغازي عن قتيبة في الكل، وقد مضى الكلام فيه في: باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخرجه هناك من حديث سلمة بن الأكوع.
قوله: (أيهم يعطى)، بضم الياء في: يعطى، وفتح الطاء على صيغة المجهول، فعلى هذا: أيهم، بضم الياء ويروى: يعطي، على صيغة المعلوم وعلى هذا: أيهم، بالنصب. قوله: (يرجوه) ويروى: (يرجونه). قوله: (على رسلك) بكسر الراء وسكون السين أي: على هينتك. قوله: (لأن يهدي الله)، كلمة: أن، مصدرية في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله: (خير لك) قوله: (من حمر النعم)، بضم الحاء، أي: كرامها وأعلاها منزلة، قاله ابن الأنباري، وعن الأصمعي: بعير أحمر إذا لم يخالط حمرته بشيء، فإن خالطت حمرته فهو كميت، والمراد: بحمر النعم، الإبل خاصة، وهي أنفسها وخيارها. قال الهروي: يذكر ويؤنث، وأما الأنعام: فالإبل والبقر والغنم.
441
((باب الأساري في السلاسل))
أي: هذا باب في بيان كون الأسارى في السلاسل، وهو جمع سلسلة، وقال أبو داود: باب الأسير يوثق، وذكر فيه حديث ثمامة بن أثال، وحديث الحارث بن برصاء، وأنهما أوثقا وجئ بهما إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والإيثاق أعم من أن يكون بالسلسلة أو بالحبال.
0103 حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل.
(الحديث 0103 طرفه في: 7554).
قيل: إن كان المراد حقيقة وضع السلاسل في الأعناق فالترجمة مطابقة، وإن كان المراد المجاز عن الإكراه فليست بمطابقة. وقال المهلب: يعني أنهم يدخلون الجنة في الإسلام مكرهين، وسمى الإسلام باسم الجنة لأنه سببها، ومن دخله دخل الجنة. قلت: فعلى هذا يكون ذكر المسبب وإرادة السبب. قلت: هذا مجاز، وقيل: يحتمل أن يكون المراد المسلمين المأسورين في السلاسل عند أهل الكفر يموتون على ذلك أو يقتلون فيحشرون كذلك، وعبر عن الحشر بدخول الجنة لثبوت دخولهم فيها. قلت: هذا أيضا مجاز، ولكن لا مانع أن يكون المراد من الترجمة الحقيقة على تقدير أن يقال: يدخلون الجنة، وكانوا في الدنيا في السلاسل. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون المراد بالسلسلة الجذب الذي يجذبه الحق من خلص عباده من الضلالة إلى الهدى، ومن الهبوط في مهاوي الطبيعة إلى العروج للدرجات العلى. قلت: هذا أيضا مجاز.
وغندر، بضم الغين المعجمة وسكون النون: محمد بن جعفر البصري.
قوله: (عجب الله من قوم)، قد مر غير مرة أن المراد من إطلاق ما يستحيل على الله لازمه وغايته نحو الرضا والإثابة فيه. قوله: (يدخلون الجنة في السلاسل)، وفي رواية أبي داود من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن زياد بلفظ: يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
258

541
((باب فضل من أسلم من أهل الكتابين))
أي: هذا باب في بيان فضل من أسلم من أهل الكتابين وهما: التوراة والإنجيل وأهلهما: اليهود والنصاري.
1103 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا صالح بن حي أبو حسن قال سمعت الشعبي يقول حدثني أبو بردة أنه سمع أباه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها ويؤديها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران ومؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمنا ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فله أجران والعبد الذي يؤدي حق الله وينصح لسيده فله أجران.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ومؤمن من أهل الكتاب...) إلى قوله: (فله أجران) فإذا كان له أجران فله الفضل، والشعبي هو عامر، وأبو بردة، بضم الباء الموحدة: اسمه الحارث، ويقال: عامر، ويقال: اسمه كنيته، وقد مر غير مرة، وأبوه أبو موسى الأشعري واسمه عبد الله ابن قيس. والحديث مر في كتاب العلم في: باب تعليم الرجل أمته وأهله، فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن سلام عن المحاربي عن صالح بن حيان عن عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبيه، وحي لقب حيان، فلذلك ذكر هنا بصالح بن حيان وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
ثم قال الشعبي وأعطيتكها بغير شيء وقدح كان الرجل يرحل في أهون منها إلى المدينة
أي: قال عامر الشعبي يخاطب صالحا: أعطيتك هذه المسألة أو المقالة، ويروي: أعطيكها، بلفظ المستقبل. قوله: (بغير شيء)، أي: بغير أخذ مال منك على جهة الأجرة عليه. قوله: (وقد كان الرجل يرحل)، أي: يسافر في أهون منها، أي: من هذه المسألة (إلى المدينة) أي: مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، واللام فيها للعهد، وفي: باب تعليم الرجل أمته، قد كان يركب فيما دونها، ومراد الشعبي من هذا الكلام الحث على طلب العلم، ولا سيما إذا كان المعلم حاضرا، فافهم.
641
((باب أهل الدار يبيتون فيصاب الولدان والذراري))
أي: هذا باب في حكم أهل الدار، أي: أهل دار الحرب. قوله: (يبيتون)، على صيغة المجهول من التبييت، يقال: بيت العدو أي: أوقع بهم ليلا. قوله: (فيصاب الولدان)، أي: بسبب التبييت، والولدان جمع: الوليد، وهي الصبي. قوله: (والذراري)، بالرفع والتشديد عطفا على: الولدان، ويجوز بالسكون والتخفيف، وهو جمع: ذرية، وجواب المسألة محذوف تقديره: هل يجوز ذلك أم لا...؟ وحكمهما يعلم من الحديث.
بيانا ليلا
ليس من الترجمة، بل هو من القرآن، وقد جرت عادته أنه إذا وقع في الخبر لفظة توافق ما وقع في القرآن أورد تفسيرا للفظ الواقع في القرآن، وهذه اللفظة في آية في سورة الأعراف وهي قوله تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءنا بأسنا بياتا أو هم قائلون) * (الأعراف: 4). أهلكناها أي: أهلكنا أهلها بمخالفتهم رسلنا وتكذيبهم. قوله: * (بأسنا) * أي: نقمتنا. قوله: * (بياتا) * أي: ليلا * (أو هم قائلون) * من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار. وقال بعض الشراح، موضع بياتا، نياما، بنون وميم، من النوم، وجعل هذه اللفظة من الترجمة، فقال: والعجب لزيادته في الترجمة نياما، وما هو في الحديث إلا ضمنا، لأن الغالب أنهم إذا أوقع بهم في الليل لم يخلوا من نائم، وما الحاجة إلى كونهم نياما أو أيقاظا وهما سواء؟ إلا أن قتلهم نياما أدخل في الغيلة، فنبه على جوازها مثل هذا. انتهى. وقال صاحب (التلويح): هذا من قول البخاري ما لم يقله، والذي رأيت في عامة ما رأيت من نسخ (كتاب الصحيح): بياتا بباء موحدة وبعد الألف تاء مثناة من فوق، وكأن هذا القائل وقعت له نسخة مصحفة أو تصحف عليه: بياتا،
259

بنياما. انتهى. قلت: هذا القائل لا يستحق هذا المقدار من الحط عليه، وله أن يقول: رأيت عامة ما رأيت من نسخ كتاب (الصحيح): نياما بالنون والميم، وهذا محل نظر وتأمل، مع أنا وافقنا صاحب (التلويح) فيما قاله حيث قلنا آنفا، إن لفظ بياتا ليس من الترجمة بل هو من القرآن.
ليبيتنه ليلا يبيت ليلا
أكد صاحب (التلويح) كلامه الذي ذكرناه الآن بهاتين اللفظتين حيث قال: يوضحه، أي: يوضح ما ذكره في بعض النسخ من قول البخاري: لبيتنه ليلا يبيت ليلا، وقال بعضهم: هذه الزيادة وقعت عند غير أبي ذر. قلت: هذا كله ليس بوجه قوي في الرد على ذلك القائل، لأنه لا يلزم من ذكر هاتين اللفظتين في بعض النسخ أن يكون لفظ: بياتا، بالباء الموحدة، ويجوز أن يكون بالنون والميم، ويكون من الترجمة، ثم ذكر هاتين اللفظتين لكونهما من القرآن أما الأولى ففي سورة النمل في قوله تعالى: * (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله...) * (النمل: 94). الآية يعني: قالوا متقاسمين بالله لنبيتنه، قرأ حمزة والكسائي بضم التاء على الخطاب، وقرأ الباقون بالنون، وهو من البيات وهو مباغتة العدو ليلا. وأما الثانية ففي سورة النساء في قوله تعالى * (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) * (النساء: 18). وهي في السبعة، وهو من التبييت في الليل لأنه وقت البيتوتة، فإن ذلك الوقت أخلى للفكر. وقال أبو عبيدة: كل شيء قدر بليل تبييت.
2103 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة رضي الله تعالى عنهم قال مر بي النبي صلى الله عليه وسلم بالأبواء أو بودان وسئل عن أهل الدار يبيتون من المشركين فيصاب من نسائهم وذراريهم قال هم منهم وسمعته يقول لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وعن الزهري أنه سمع عبيد الله عن ابن عباس قال حدثنا الصعب في الذراري كان عمر و يحدثنا عن ابن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم فسمعناه من الزهري قال
أخبرني عبيد الله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الصعب قال هم منهم ولم يقل كم قال عمر و هم من آبائهم.
(انظر الحديث 0732).
مطابقته للترجمة في قوله: (وسئل عن أهل الدار) إلى قوله: (وسمعته). ورجاله كلهم قد ذكروا، وعبيد الله هو ابن عبد الله ابن عتبة بن مسعود، والصعب ضد السهل ابن جثامة، بفتح وتشديد الثاء المثلثة: ابن قيس بن ربيعة الليثي، مر في جزاء الصيد.
والحديث أخرجه بقية الستة، فمسلم أخرجه في المغازي، وأبو داود وابن ماجة في الجهاد، والترمذي والنسائي في السير.
ذكر معناه: قوله: (بالأبواء)، بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وبالمد: من عمل الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرين ميلا، سميت بذلك لتبوء السيول بها، وبه توفيت أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (أو بودان)، شك من الراوي، وهي: بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وبعد الألف نون، وهي قرية جامعة بينها وبين الأبواء ثمانية أميال قريب من الجحفة، وهي أيضا من عمل الفرع. قوله: (وسئل) على صيغة المجهول والواو فيه للحال، ويروى: فسئل، بالفاء. قوله: (عن أهل الدار)، أي: عن أهل دار الحرب، وفي رواية مسلم: سئل عن الذراري من المشركين يبيتون من نسائهم وذراريهم، فقال: هم منهم، رواه عن يحيى بن يحيى عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، وفي لفظ له عن الصعب، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين. قال: هم منهم، وفي لفظ له: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: لو أن خيلا غارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: هم من آبائهم، وترجم مسلم على هذا: باب ما أصيب من ذراري العدو في البيات، وقال النووي: هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا: سئل
260

عن الذراري، وفي بعضها: سئل عن ذراري المشركين، ونقل القاضي هذه عن رواية جمهور رواة (صحيح مسلم) قال: وهي الصواب، فأما الرواية الأولى فقال: ليست بشيء، بل هي تصحيف. قال: وما بعده يبين غلطه. وقال النووي: وليست باطلة كما ادعى القاضي، بل لها وجه، وتقديره: سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل، فقال: هم من آبائهم، أي: لا بأس بذلك، لأن أحكاما البلد جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات وغير ذلك، والمراد إذا لم يتعمد من غير ضرورة. قوله: (يبيتون)، على صيغة المجهول، وقعت حالا عن أهل الدار من التبييت، وهو أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف رجل من امرأة. قوله: (من المشركين)، بيان الدار. قوله: (فيصاب من نسائهم وذراريهم)، وفي رواية مسلم: إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، كما مر، وقال النووي: والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان. قلت: كيف يراد من الذراري النساء، وهذا كما رأيت في رواية البخاري عطف الذراري على النساء؟ قوله: (هم منهم) أي: النساء والذراري من أهل الدار من المشركين.
فإن قلت: هذا يخالف ما ذكره البخاري فيما بعد عن ابن عمر: نهى عن قتل النساء والصبيان، وما رواه مسلم عن بريدة: اغزوا فلا تقتلوا وليدا، وسيروا ولا تمثلوا. وما رواه الترمذي عن سمرة: اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شرخهم. وقال: حسن صحيح غريب، وما رواه النسائي عن ابن عباس: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم فلا يقتلهم بقوله لنجدة الحروري، وما رواه أبو داود والنسائي من حديث رياح بكسر الراء وبالياء آخر الحروف: ابن الربيع، وفيه: فقال الخالد، رضي الله تعالى عنه، لا تقتلن امرأة ولا عسيفا. وما رواه أحمد من حديث الأسود بن سريع، وفيه ألا لا تقتلوا ذرية ألا لا تقتلوا ذرية، وما رواه أحمد أيضا من حديث ابن عباس، وفيه: ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع، وما رواه الطبراني في (الأوسط) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، وقال: هما لمن غلب. وما رواه أيضا من حديث أبي ثعلبة الخشني، قال: نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان. وما رواه أبو داود من حديث أنس وفيه: لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة، وما رواه أبو يعلى الموصلي من حديث جرير بن عبد الله، وفيه: ولا تقتلوا الولدان. وما رواه البزار في (مسنده) من حديث ابن عمر، وفيه: لا تقتلوا وليدا. وما رواه أيضا من حديث عوف ابن مالك، وفيه: لا تقتلوا النساء. وما رواه أحمد في (مسنده) من حديث ثوبان مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم يقول: من قتل صغيرا أو كبيرا أو أحرق نخلا أو قطع شجرة مثمرة أو ذبح شاة لأهلها لم يرجع كفافا. وما رواه الطبراني من حديث كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والولدان.
قلت: قال الخطابي: قوله: (هم منهم) يريد في حكم الدين، فإن ولد الكافر محكوم له بالكفر، ولم يرد بهذا القول إباحة دمائهم تعمدا لها، وقصدا إليها، وإنما هو إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بهم، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بالآباء لم يكن عليهم في قتلهم شيء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان، فكان ذلك على القصد لا قتال فيهن، فإذا قاتلهن فقد ارتفع الحظر وأحل دماء الكفار إلا بشرط الحقن. ولما روى الترمذي حديث ابن عمر الذي فيه: نهى عن قتل النساء والصبيان، على ما يأتي، إن شاء الله تعالى، قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا قتل النساء والولدان، وهو قول الثوري والشافعي. ورخص بعض أهل العلم في البيات، وقتل النساء فيهم والولدان، وهو قول أحمد وإسحاق. وقال شيخنا: وما حكاه الترمذي عن الثوري والشافعي من كراهة قتل النساء والصبيان ظاهر في ترك القتل مطلقا في البيات وغيره، وليس كذلك. أما قتلهم في غير البيات فأجمعوا على تحريمه إذا لم يقاتلوا، كما حكاه النووي في (شرح مسلم)، فإن قاتلوا فقال في (شرح مسلم) حكاية عن جماهير العلماء: يقتلون، وقال الطحاوي، رحمه الله تعالى: باب ما نهى عن قتله من النساء والولدان في دار الحرب، ثم أخرج عن تسعة أنفس من الصحابة في النهي عن قتل الولدان والنسوان، وقد مرت أحاديث أكثرهم عن قريب، ثم قال: فذهب قوم إلى أنه لا يجوز قتل النساء والولدان في دار الحرب على كل حال، وأنه لا يحل أن يقصد إلى قتل غيرهم إذا كان لا يؤمن في ذلك تلفهم، من ذلك أن أهل الحرب إذا
تترسوا بصبيانهم وكان المسلمون لا يستطيعون رميهم إلا بإصابة صبيانهم فحرام عليهم رميهم في قول هؤلاء، وكذلك إن تحصنوا بحصن وجعلوا فيه الولدان، فحرام عليهم رمي ذلك الحصن عليهم إذا كنا نخاف في ذلك تلف نسائهم
261

وولدانهم، واحتجوا في ذلك بهذه الأحاديث التي رويناها. قلت: أراد بالقوم هؤلاء: الأوزاعي ومالكا والشافعي، في قول وأحمد في رواية.
وقال أبو عمر: اختلفوا في رمي الحصون بالمنجنيق إذا كان فيها أطفال المشركين أو أسارى المسلمين، فقال مالك: لا يرمى الحصن ولا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين: قال الأوزاعي: إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا ولا تحرق المركب الذي فيه أسارى المسلمين. وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي في (الصحيح) وأحمد وإسحاق: إذا كان لا يوصل إلى قتلهم إلا بتلف الصبيان والنساء فلا بأس به. وقال أبو عمر: قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيها أسارى من المسلمين وأطفالهم، أو أطفال المشركين، ولا بأس أن تحرق السفن ويقصد به المشركون، فإن أصابوا واحدا من المسلمين بذلك فلا دية ولا كفارة. وقال الثوري: إن أصابوه ففيه الكفارة ولا دية. قوله: (وسمعته يقول)، أي: قال الصعب بن جثامة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول.. ويروى: فيقول، وهي رواية أبي ذر، وبالواو أظهر. قوله: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، هذا حديث مستقل مضى في كتاب المساقاة في: باب لا حمى إلا لله ولرسوله، أخرجه عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة، قال: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم (لا حمى إلا لله ولرسوله) وقد مضى الكلام فيه هناك. فإن قلت: ما وجه ذكر هذا الحديث في أثناء حديث الباب؟ قلت: كانوا يحدثون بالأحاديث على نحو ما كانوا يسمعونها، وقيل: هذا يشبه أن يكون شبيها بما روي عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (نحن الآخرون السابقون)، ثم وصله بحديث آخر ليس فيه شيء من معناه كما ذكرناه. قوله: (وعن الزهري)، موصول بالإسناد الأول: حدثنا الصعب في الذراري... أشار بهذا إلى أن في هذه الرواية عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس. قوله: (حدثنا الصعب في الذراري)، أشار بهذا إلى أن في هذه الرواية عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: حدثنا الصعب في الذراري أي: سئل صلى الله عليه وسلم، عن الذراري، وكذا وقع في بعض النسخ لمسلم: سئل عن الذراري، وقد ذكرنا عن قريب عن النووي أنه قال: المراد بالذراري هنا النساء والصبيان. قوله: (كان عمرو)، يحدثنا أي: قال سفيان بن عيينة: كان عمرو بن دينار يحدثنا عن ابن شهاب، وهو الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلا، وقال بعضهم في سياق هذا الباب عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم: يوهم أن رواية عمرو بن دينار عن الزهري هكذا بطريق الإرسال، وبذلك جزم بعض الشراح، وليس كذلك، فقد أخرجه الإسماعيلي من طريق العباس بن يزيد حدثنا سفيان، قال: كان عمرو يحدثنا قبل أن يقدم الزهري عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، قال: فقدم علينا الزهري فسمعته يعيده ويبديه، فذكر الحديث. انتهى. قلت: أراد ببعض الشراح الكرماني، فإنه قال: إنه مرسل، والصواب معه، فإن صورة ما وقع هنا صورة الإرسال، ولا نزاع في ذلك بحسب الظاهر، ولا يندفع صورة الإرسال هنا بإخراج الإسماعيلي كما ذكره. قوله: (ولم يقل كما قال عمرو: هم من آبائهم)، بيان هذا الموضع هو: أن سفيان بن عيينة قال: كان عمرو بن دينار يحدثنا بهذا الحديث عن الزهري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: هم من آبائهم، فسمعناه بعد ذلك من الزهري أنه قال: أخبرني عبيد الله عن ابن عباس، عن الصعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: هم منهم، ولم يقل كما قال عمرو: من آبائهم. وقال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جثامة، قال: قلت: يا رسول الله! إن خيلنا وطئت من نساء المشركين وأولادهم؟ قال: (هم من آبائهم)، هذا حديث حسن صحيح، وقد أخرج ابن حبان في حديث الصعب زيادة في آخره، ثم نهى عنه يوم حنين، وأشار الزهري إلى نسخ حديث الصعب، وحكي الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهي وهو غريب. قلت: حديث رياح بن الربيع، الذي مر عن قريب، يدل على أن النهي كان متأخرا عن حديث الصعب، لأن خالدا، رضي الله تعالى عنه، إنما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، مقاتلا سنة ثمان. والله تعالى أعلم.
262

741
((باب قتل الصبيان في الحرب))
أي: هذا باب في بيان النهي عن قتل الصبيان في الحرب لقصورهم عن فعل الكفر، ولأن في استبقائهم انتفاعا بالرقبية أو بالفداء عند من يجوز أن يفادى بهم.
4103 حدثنا أحمد بن يونس قال أخبرنا الليث عن نافع أن عبد الله رضي الله تعالى عنه أخبره أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان.
(الحديث 4103 طرفه في: 5103).
مطابقته للترجمة في قوله: (والصبيان) أي: وقتل الصبيان في الحرب، وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي، والليث هو ابن سعد، وعبد الله هو ابن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما. والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن يحيى بن يحيى وقتيبة ومحمد بن رمح، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن يزيد بن خالد ابن وهب وقتيبة.
841
((باب قتل النساء في الحرب))
أي: هذا باب في بيان النهي عن قتل النساء في الحرب.
5103 حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال قلت ل أبي أسامة حدثكم عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
(انظر الحديث 4103).
مطابقته للترجمة في قوله: (عن قتل النساء) وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه، وأبو أسامة هو حماد بن أسامة، وعبيد الله هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب. والحديث أخرجه مسلم أيضا في المغازي عن أبي بكر.
قوله: (حدثكم عبيد الله)، هو سؤال إسحاق عن أبي أسامة عن تحديث هذا الحديث. وفيه أنه إذا قال لشيخه: حدثكم أو أخبركم فلان؟ فقال: نعم، أو سكت في جوابه مع قريبنة الإجابة جازت الرواية عنه، وهنا سكت. وإسحاق روى هذا الحديث في (مسنده) بهذا السياق، وزاد في آخره، فأقر به أبو أسامة، وقال: نعم، وقال بعضهم: وعلى هذا فلا حجة فيه لمن قال فيه: إن من قال لشيخه: حدثكم فلان؟ فسكت، جاز ذلك مع القرينة، لأنه تبين من هذه الطريقة الأخرى أنه لم يسكت. انتهى. قلت: قول أبي أسامة في هذا الطريق، نعم، لا يستلزم عدم سكوته في الطريقة الآخر، فإذا فاتت القرينة الدالة على الإجابة عند سكوت الشيخ، يكون حكمه حكم التصريح بقوله: نعم، وغرض هذا القائل بما ذكره الرد على الكرماني، فإنه جعل السكوت مع القرينة، كالتصريح على ما ذكرناه.
941
((باب لا يعذب بعذاب الله))
أي: هذا باب يذكر فيه: لا يعذب بعذاب الله، ولا يعذب: على صيغة المجهول.
6103 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن بكير عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال بعثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بعث فقال إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج إني أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموها فاقتلوهما.
(الحديث 4592 طرفه في: 5103).
263

مطابقته للترجمة في قوله: (وإن النار لا يعذب بها إلا الله)، وبكير، بضم الباء الموحدة: ابن عبد الله بن الأشج. والحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد معلقا في: باب التوديع، وقال ابن وهب: أخبرني عمرو عن بكير عن سليمان ابن يسار عن أبي هريرة... الحديث، وقد مضى الكلام فيه هناك. قوله: (حدثنا الليث عن بكير) وفي رواية أحمد عن هشام عن القاسم: عن الليث حدثني بكير بن عبد الله الأشج، فأفاد شيئين: * (أحدهما: التصريح بالتحديث، والآخر: نسبة بكير. قوله: (عن أبي هريرة) كذا في جميع الطرق عن الليث ليس بين سليمان بن يسار وأبي هريرة فيه أحد، وكذلك أخرجه النسائي من طريق عمرو ابن الحارث وغيره عن بكير، وخالفه محمد بن إسحاق فرواه في (السيرة): عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير، فأدخل بين سليمان ابن يسار وأبي هريرة: أخبرنا إسحاق الدوسي، وقد ذكرنا هناك أن ابن أبي شيبة سماه: إبراهيم.
7103 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله تعالى عنه حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه.
مطابقته للترجمة في قوله: (لا تعذبوا بعذاب الله). وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وأيوب هو السختياني، وعكرمة هو مولى ابن عباس.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في استتابة المرتدين عن أبي النعمان محمد بن الفضل. وأخرجه أبو داود في الحدود عن أحمد بن حنبل. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن عبدة الضبي. وأخرجه النسائي في المحاربة عن محمد بن عبد الله المخزومي وعن عمران بن موسى وعن محمود بن غيلان. وأخرجه ابن ماجة في الحدود عن محمد ابن الصباح.
قوله: (إن عليا حرق قوما) وفي رواية الحميدي أن عليا أحرق المرتدين، يعني: الزنادقة. وفي رواية ابن أبي عمر وعمر ابن عباد جميعا عن سفيان. قال: رأيت عمرو بن دينار وأيوب وعمار الدهني اجتمعوا فتذاكروا الذين أحرقهم علي، فقال أيوب: فذكر الحديث، قال: فقال عمار: لم يحرقهم ولكن حفر لهم حفائر وحرق بعضها إلى بعض ثم دخن عليهم، وقال عمرو بن دينار: أراد بذلك الرد على عمار الدهني في إنكاره أصل التحريق، وقال المهلب: ليس نهيه عن التحريق على التحريم، وإنما هو على سبيل التواضع، والدليل على أنه ليس بحرام سمل الشارع أعين الرعاة بالنار، وتحريق الصديق، رضي الله تعالى عنه. الفجاءة بالنار في مصلى المدينة بحضرة الصحابة، وتحريق علي، رضي الله تعالى عنه، الخوارج بالنار، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون على أهلها بالنار، وقول أكثرهم بتحريق المراكب، وهذا كله يدل على أن معنى الحديث على الندب، وممن كره رمي أهل الشرك بالنار: عمرو بن عباس وابن عبد العزيز، وهو قول مالك، وأجازه علي، وحرق خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، ناسا من أهل الردة، فقال عمر للصديق: إنزع هذا الذي يعذب بعذاب الله، فقال الصديق: لا أنزع سيفا سله الله على المشركين، وأجاز الثوري رمي الحصون بالنار. وقال الأوزاعي: لا بأس أن يدخن عليهم في المطمورة إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة ويحرقوا ويقتلوا كل قتال، ولو لقيناهم في البحر رميناهم بالنفط والقطران، وأجاز ابن القاسم رمي الحصن بالنار والمراكب إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة فقط. قوله: (لو كنت أنا)، خبره محذوف أي
: لو كنت أنا بدله، وكان ذلك من علي بالرأي والاجتهاد. قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله) هذا أصرح في النهي من الذي قبله. وأخرج أبو داود هذا الحديث عن أحمد بن حنبل وفي آخره: فبلغ ذلك عليا فقال: ويح ابن عباس: ورأيت في نسخة صحيحة: ويح أم ابن عباس. قوله: (من بدل دينه فاقتلوه)، هذا يدل على أن كل من بدل دينه يقتل ولا يحرق بالنارد، وبه احتج ابن الماجشون أن المرتد يقتل ولا يستتاب، وجمهور الفقهاء على استتابته، فإن تاب قبلت توبته، واحتج به الشافعي أيضا في قوله: من انتقل من كفر إلى كفر أنه يقتل إن لم يسلم، وهذا مثل اليهدوي إذا تنصر أو النصراني إذا تهود، وعند أبي حنيفة: لا يقتل لأن الكفر كله ملة واحدة، واحتج به الشافعي أيضا في قتل المرتدة، وعند أبي حنيفة: لا تقتل بل تحبس.
264

051
((باب * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 04).))
أي: هذا باب يذكر فيه التخيير بين المن والفداء في الأسرى. لقوله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * وأول هذا قوله تعالى: * (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) * (محمد: 04). قوله: * (فإذا لقيتم) * من اللقاء وهو الحرب. قوله: * (فضرب الرقاب) * (محمد: 04). أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب مناب الفعل مضافا إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، وضرب: عبارة عن القتل، لأن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء مع أن في هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، ولقد زاد في هذه الغلظة في قوله: فاضربوا فوق الأعناق. قوله: * (حتى إذا أثخنتموهم) * (محمد: 04). أي: أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من الشيء الثخين وهو الغليظ وقيل: أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض، وقيل: قهرتموهم وغلبتموهم. قوله: * (فشدوا الوثاق) * (محمد: 04). وهو بفتح الواو: اسم ما يوثق به. قوله: * (فإما منا) * منصوب بتقدير: فإما تمنون منا، وكذلك: وإما تفدون فداء، والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم، وقال الضحاك: قوله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 04). ناسخة لقوله تعالى: * (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5). ويروى مثله عن ابن عمر، قال: أليس الله بهذا أمرنا، قال: * (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 04). وهو قول عطاء والشعبي والحسن البصري، كرهوا قتل الأسير، وقالوا: يمن عليه أويفادوه، وبمثل هذا استدل الطحاوي، فقال: ظاهر الآية يقتضي المن أو الفداء ويمنع القتل.
فيه حديث ثمامة
أي: في هذا الباب حديث ثمامة، بضم الثاء المثلثة: ابن أثال، بضم الهمزة وبالثاء المثلثة المخففة، وقد مر حديثه في كتاب الصلاة في: باب دخول المشرك المسجد، ومر أيضا في: باب الملازمة والإشخاص في موضعين. أحدهما في: باب التوثق ممن يخشى معرته، والآخر في: باب الربط والحبس في الحرم، وسيأتي أيضا مطولا في أواخر كتاب المغازي في: باب وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة ابن أثال، وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم: بعث خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، ثم أطلقه، والله أعلم.
وقوله عز وجل * (ما كان لنبي أن تكون له أسرى) * (الأنفال: 76).
وتمام الآية: * (حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) * (الأنفال: 76). وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه والحاكم في (مستدركه) من حديث عبيد الله بن موسى: حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال لم أسر الأسارى يوم بدر: أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال: وقد أوعدته الأنصار إن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلموفيه: إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: فآتهم. قال: نعم، فأتى عمر الأنصار، فقال لهم: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم رضا؟ قالوا: فإن كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم رضا فخذه، فأخذه عمر، رضي الله تعالى عنه، فلما صار في يده قال له: يا عباس! أسلم فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك. قال: فاستشار رسول الله، صلى الله عليه وسلم أبا بكر، رضي الله تعالى عنه، فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم، فاستشار عمر، رضي الله تعالى عنه، فقال: ففاداهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) * (الأنفال: 76). الآية. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
واختلف العلماء في هذا الباب. منهم من قال: لا يحل قتل أسير صبرا، وإنما يمن عليه أو يفدى، وقالوا: إن قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) * (التوبة: 5). منسوخ بقوله: * (فإما منا وإما فداء) * (محمد: 4). وهو قول جماعة من التابعين، وقد ذكرناهم عن قريب. ومنهم من قال: لا يجوز في الأسرى من المشركين إلا القتل، وجعلوا قوله عز وجل: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * (التوبة: 5). ناسخا لقوله: * (فإما منا بعد
265

وإما فداء) * (محمد: 4). وهو قول مجاهد. وقال غيرهم: إن الآيتين جميعا محكمتان، وهو قول ابن زيد، وهو قول صحيح بين، لأن إحداها لا تنفي الأخرى، ينظر الإمام في ذلك مما يراه مصلحة، أما القتل وإما الفداء أو المن، وكذا قال أبو عبيد بن سلام، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور، قال: وقد فعل هذا كله سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في حروبه.
وقال الطحاوي اختلف قول أبي حنيفة في هذا، فروي عنه: أن الأسرى لا تفادى ولا يردون حربا، لأن في ذلك قوة لأهل الحرب، وإنما يفادون بالمال وما سواه مما لا قوة لهم فيه، وروي عنه: أنه لا بأس أن يفادى بالمشركين أسارى المسلمين، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ورأى أبو حنيفة أن المن منسوخ، وقيل: كان خاصا بسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال أبو عبيد: والقول في ذلك عندنا أن الآيات جميعا محكمات لا منسوخ فيهن، وذلك أنه عمل بالآيات كلها من القتل والأسر والفداء حتى توفاه الله تعالى على ذلك، فكان أول أحكامه فيهم يوم بدر، فعمل بها كلها يومئذ، بدأ بالقتل فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث في قفوله، ثم قدم المدينة فحكم في سائرهم بالفداء، ثم حكم يوم بني قريظة سعد بن معاذ، رضي الله تعالى عنه، فقتل المقاتلة وسبى الذرية، فنفذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأمضاه، ثم كانت غزاة بني المصطلق، رهط جويرية بنت الحارث، فاستحياهم جميعا وأعتقهم، ثم كان فتح مكة فأمر بقتل ابن خطل والقينتين وأطلق الباقين، ثم كانت حنين فسبى هوازن ومن عليهم وقتل أباغرة الجمحي يوم أحد وقد كان من عليه يوم بدر، وأطلق ثمامة بن أثال، فهذه كانت أحكامه، عليه الصلاة والسلام، بالمن والفداء والقتل، فليس شيء منها منسوخا، والأمر فيهم إلى الإمام وهو مخير بن القتل والمن والفداء، يفعل الأفضل في ذلك للإسلام وأهله، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. انتهى. وقال أصحابنا: لا يجوز مفاداة أسرى المشركين، قال الله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حين وجدتموهم) * (التوبة: 5). الآية. وقوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) * (التوبة: 92). وما ورد في أسرى بدر كله منسوخ، ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد، صلى الله عليه وسلم، فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها.
151
((باب: للأسير أن يقتل أو يخدع الذين أسروه حتى ينجو من الكفرة))
أي: هذا باب يذكر فيه هل للأسير في أيدي الكفار أن يقتل... إلخ، وإنما لم يذكر الجواب لمكان الاختلاف في، فقال الجمهور: إن ائتمنوه يفي لهم بالعهد، حتى قال مالك: لا يجوز أن يهرب منهم، وخالفه أشهب فقال: لو خرج به الكافر ليفادى به فله أن يقتله. وقال أبو حنيفة: إعطاؤه العهد على ذلك باطل، ويجوز له أن لا يفي لهم به، وبه قال الطبري. وقالت الشافعية: يجوز أن يهرب من أيديهم ولا يجوز أن يأخذ من أموالهم، قالوا: وإن لم يكن بينهم عهد جاز له أن يتخلص منهم بكل طريق، ولو بالقتل وأخذ المال وتحريق الدار وغير ذلك، وقال ابن المواز: إذا ألجؤه أن يحلف أن لا يهرب بطلاق أو عتاق أنه لا يلزمه ذلك لأنه مكروه، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم. وقال غيره: لا معنى لمن فرق بين يمينه ووعده، لأن حاله حال المكره حلف لهم أو وعدهم أو عاهدهم سواء أمنوه أو أخافوه، لأن الله تعالى فرض على المؤمن أن لا يبقى تحت أحكام الكفار، وأوجب عليه الهجرة من دارهم، فخروجه على كل وجه جائز، والحجة في ذلك خروج من أبي بصير، وتصويب النبي صلى الله عليه وسلم، فعله ورضاه.
فيه المسور عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في حكم هذا الباب حديث المسور بن مخرمة، وفيه قصة أبي بصير، وقد مر حديثه في كتاب الشروط في: باب الشروط في الجهاد، مطولا جدا، ومن أمره يؤخذ وجه المطابقة لما ترجم له.
251
((باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا أحرق المشرك الرجل المسلم، هل يحرق هذا المشرك جزاء بفعله؟ وأحرق يحرق من باب الأفعال، وفي بعض النسخ: إذا حرق، بتشديد الراء، من التحريق، وكذلك: يحرق، بالتشديد قيل: كان اللائق أن يذكر هذه
266

الترجمة قبل بابين، فلعل تأخيرها من تصرف النقلة. قلت: ذكر هذه الترجمة في ذلك الموضع ليس بأمر مهم فلا يحتاج نسبه ذلك إلى تصرف النقلة، ثم قال قائل هذا القول: ويؤيد ذلك أنهما أي: أن البابين المذكورين قبل هذا الباب سقطا جميعا للنسفي، وثبتت عنده ترجمة: إذا أحرق المشرك، تلو ترجمة: لا يعذب بعذاب الله. قلت: لا يلزم من سقوط هذين البابين عنده تأييد ما ذكره، لأن الساقط معدوم والمعدوم لا يؤيد ولا يؤكد.
8103 حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رهطا من عكل ثمانية قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة فقالوا يا رسول الله ابغنا رسلا قال ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فأتى الصريخ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب فما ترجل النهار حتى أتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا. قال أبو قلابة قتلوا وسرقو وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسعوا في الأرض فسادا.
.
قيل: ليس فيه مطابقة للترجمة لأنه ليس فيه أن هذا الرهط من عكل فعلوا ذلك براعي النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب الكرماني: بأنه، صلى الله عليه وسلم، فعل بهم مثل ما فعلوا بالراعي من سمل العين ونحوه، ويؤول: لا تعذبوا بعذاب الله، بما إذا لم يكن في مقابلة فعل الجاني، فالحديثان لموضع النهي والجزاء. وقال صاحب (التوضيح): وقد يخرج معنى الترجمة من هذا الحديث بالدليل، ولو لم يصح سمل العرنيين للرعاء، وذلك أنه، صلى الله عليه وسلم، لما سمل أعينهم، والسمل
التحريق بالنار، واستدل منه البخاري أنه لما جاز تحريق أعينهم بالنار، ولو كانوا لم يحرقوا أعين الرعاء، أنه أولى بالجواز في تحريق المشرك إذا أحرق المسلم. قلت: الأوجه ما قاله الكرماني: بأنه، صلى الله عليه وسلم، فعل بهم مثل ما فعلوا بالراعي من سمل العين، وقد ثبت ذلك فيما رواه مسلم من وجه آخر عن أنس، قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم، أعين العرنيين لأنهم سملوا أعين الرعاء، ولو اطلع صاحب (التوضيح): على هذا لما قال: لم يصح سمل العرنيين للرعاء.
قوله: (معلى)، بضم الميم وتشديد اللام المفتوحة: ابن أسد، كذا ثبت منسوبا في رواية الأصيلي وغيره، ووهيب بضم الواو وفتح الهاء: هو ابن خالد، وأيوب هو السختياني، وأبو قلابة، بكسر القاف: عبد الله بن زيد الجرمي.
والحديث قد مر في كتاب الوضوء في: باب أبوال الإبل والدواب، ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (عكل)، بضم العين المهملة وسكون الكاف: قبيلة معروفة. قوله: (ثمانية)، بالنصب، بدل من رهطا، أو بيان له. قوله: (فاجتووا) من الاجتواء، وهو كراهة الإقامة. قوله: (ابغنا) أي: أعنا، مشتق من الإبغاء يقال: أبغيتك الشيء إذا أعنتك على طلبه. قوله: (رسلا)، بكسر الراء وسكون السين المهملة: وهو الدر من اللبن. قوله: (بالذود)، بفتح الذال المعجمة: وهو من الإبل ما بين الثلاث إلى العشرة، قوله: (الصريخ) هو صوت المستغيث أو الصارخ. قوله: (فبعث الطلب) بفتح اللام جمع طالب.. قوله: (فما ترجل النهار)، أي: ما ارتفع النهار. (حتى أتي بهم)، أي: بالثمانية المذكورين. قوله: (فأحميت)، كذا وقع من الإحماء مزيد الثلاثي وهو الصواب في اللغة، فلا يقال: فحميت من الثلاثي. قوله: (بالحرة)، بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء موضع بالمدينة، وقد مر غير مرة. قوله: (قال أبو قلابة)، هو الراوي المذكور. قوله: (سرقوا)، لم يكن هذا سرقة إنما كان حرابة، وهذا ظاهر لا يخفى.
351
((باب))
كذا وقع بغير ترجمة، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وقد مر نحو هذا كثيرا، وهو غير معرب لأن الإعراب لا يكون إلا بالتركيب.
267

9103 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد ابن المسيب وأبي سلمة أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قرصت نملة نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله.
(الحديث 9103 طرفه في: 9133).
وجه مناسبته بما قبله من حيث إنه لا يجوز المجاوزة بالتحريق إلى من لا يستحق ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر فيه أن الله، عز وجل، عاتب هذا النبي صلى الله عليه وسلم بإحراقه تلك الأمة من النمل، ولم يكتف بإحراق النملة التي قرصته، فلو أحرقها وحدها لما عوتب عليه.
ورجاله قد ذكروا غير مرة. والحديث أخرجه مسلم في الحيوان عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الأدب عن أحمد بن صالح. وأخرجه النسائي في الصيد عن وهب بن بيان. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي الطاهر وأحمد بن عيسى وعن محمد بن يحيى.
قوله: (قرصت) بالقاف أي: لدغت. قوله: (نبيا) قال الكرماني: قيل: ذلك النبي كان موسى، عليه الصلاة والسلام. قوله: (بقرية النمل)، القرية: المجتمع. قوله: (أن قرصتك؟) بفتح الهمزة وبهمزة الاستفهام ملفوظة أو مقدرة، وقال الكرماني: كيف جاز إحراق النمل قصاصا وهو ليس بمكلف، ثم إن جزاء سيئة سيئة مثلها، ثم إن القارص نملة واحدة، ولا تزر وازرة وزر أخرى. قلت: لعله كان في شرعه جائزا، ويقال: المؤذي طبعا يقتل شرعا قياسا على الأفعى. فإن قلت: لو كان جائزا لما ذم عليه. قلت: يحتمل أن يذل على ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. انتهى. قلت: قوله: لعله كان في شرعه جائزا، فيه نظر، لأنه حكم بالتخمين، والأولى أن يقال: لعله لم يكن يعلم حينئذ أنه لا يجوز، وقوله: المؤذي طبعا، ليس النمل بمؤذ طبعا، لأن قرصها يحتمل أنه كان على سبيل الاتفاق. وقوله: يحتمل أن يذم على ترك الأولي، لا يقال في حق نبي أن الله ذمه على فعل بل يقال: عاتبه.
وفي الحديث: تسبيح النمل فيدل ذلك على أن جميع الحيوانات تسبح الله تعالى. كما قال في كتابه الكريم: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44). الآية، وقال ابن التين: وهو دليل لمن قال: لا يحرق النمل، وأجازه ابن حبيب، وأما إن أدت ضرورة إلى ذلك فجائز أن تحرق أو تغرق.
451
((باب حرق الدور والنخيل))
أي: هذا باب في بيان جواز إحراق دور المشركين ونخيلهم، قال بعضهم: كذا وقع في جميع النسخ: حرق الدور، وضبطوه بفتح أوله وإسكان الراء وفيه نظر، لأنه لا يقال في المصدر حرق، وإنما يقال: تحريق وإحراق، لأنه رباعي، فلعله كان بتشديد الراء بلفظ الفعل الماضي، وهو المطابق للفظ الحديث، والفاعل محذوف تقديره: النبي بفعله أو بإذنه، وعلى هذا فقوله: الدور، منصوب بالمفعولية، والنخيل كذلك نسقا عليه. انتهى. قلت: دعواه النظر في الضبط المذكور في جميع النسخ فيها نظر، لأنه لم يبين أن الذين ضبطوه هكذا هم النساخ أو المشايخ أصحاب هذا الفن، فإن كانوا هم النساخ فلا اعتبار لضبطهم، وإن كانوا المشايخ فهو صحيح لأنه يجوز أن يكون لفظ حرق بهذا الضبط إسما للإحراق، فلا يكون مصدرا حتى لا يرد ما ذكره، لأن الحرق بالضبط المذكور مصدر حرقت الشيء حرقا إذا بردته، وحككت بعضه ببعض، وأما الذي يستعمل في النار فلا يقال إلا أحرقته من الإحراق أو حرقته بالتشديد من التحريق. وقوله: لأنه رباعي غير مصطلح عند الصرفيين لأنه لا يقال: رباعي، عندهم إلا لما كان حروفه الأصلية على أربعة أحرف، وإنما يقال لمثل هذا: ثلاثي مزيد فيه. وقوله: فلعله كان... إلى آخره، فيه تعسف
وتكلف جدا، لأن فيه إضمارا قبل الذكر، ثم تقدير الفاعل، والفاعل لا يحذف.
0203 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس بن أبي حازم قال قال لي جرير قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم ألا تريحني من ذي الخلصة وكان بيت في خثعم
268

يسمى كعبة اليمانية قال فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحب خيل قال وكنت لا أثبت على الخيل فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا فانطلق إليها فكسرها وحرقها ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فقال رسول جرير والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجوف أو أجرب قال فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وحرقها) وهو ظاهر، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وإسماعيل هو ابن أبي خالد الأحمسي البجلي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الجهاد أيضا، وفي المغازي عن أبي موسى وفي المغازي أيضا عن يوسف بن موسى، وفي الدعوات عن علي بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الفضائل عن عبد الحميد بن بيان وعن إسحاق بن إبراهيم وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن محمد بن عباد المكي وعن ابن أبي عمرو وعن محمد بن رافع. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن الربيع بن نافع، وأخرجه النسائي في السير وفي اليوم والليلة عن محمد ابن منصور عن سفيان به وعن يوسف بن عيسى، وفي المناقب عن موسى بن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (ألا تريحني)، كلمة: ألا، بفتح الهمزة وتخفيف اللام، معناها هنا: العرض والتحضيض، وتختص بالجملة الفعلية. و: تريحني، من الإراحة، بالراء وبالحاء المهملة. قوله: (من ذي الخلصة)، بالخاء المعجمة وباللام وبالصاد المهملة المفتوحات، وقيل: بسكون اللام، وقيل: بضم الخاء وسكون اللام وهو اسم لذلك البيت، وقيده أبو الوليد الوقشي بفتح الخاء وإسكان اللام، وضبطه الدمياطي بخطه بفتحهما، وقال ابن الأثير: ذو الخلصة طاغية كانت لدوس يعبدونها، وقيل: هو بيت كان لخثعم يسمى الكعبة اليمانية، وهو الذي أخربه جرير بن عبد الله البجلي، بعثه إليه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي (صحيح مسلم) من حديث أبي هريرة مرفوعا: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة). وكانت صنما تعبدها دوس، وقال ابن دحية: قيل: هو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم، وقيل: هو صنم كان لعمرو بن لحي نصبه بأسفل مكة حين نصبت الأصنام، وكانوا يلبسونه القلائد ويعلقون عليه بيض النعام ويذبحون عنده. قوله: (يسمى كعبة اليمانية)، من إضافة الموصوف إلى الصفة، جوزه الكوفيون وقدر فيه البصريون حذفا أي: كعبة الجهة اليمانية والمشهور فيه تخفيف الياء آخر الحروف، لأن الألف بدل من إحدى يائي النسب، وقد جاء بالتشديد، وفي رواية: الكعبة اليمانية والكعبة الشامية، وفي بعض النسخ بغير واو بين اليمانية والكعبة الشامية لخثعم والشامية للكعبة الحرام المشرفة. قوله: (فانطلقت) وكان انطلاقه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بشهرين. قوله: (من أحمس) بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الميم وفي آخره سين مهملة: وأحمس هذا هو ابن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان. وخثعم، بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة وهو ابن أفتل، بفاء وتاء مثناة من فوق، وقيل: أقبل، بقاف وباء موحدة: ابن أنمار بن أراش بن عمرو... إلى آخر ما ذكرناه الآن. قوله: (فضرب في صدري) إنما ضربه في صدره لأن فيه القلب. قوله: (هاديا) إشارة إلى قوة التكميل ومهديا إلى قوة الكمال أي: اجعله كاملا مكملا: قال ابن بطال: هو من باب التقديم والتأخير لأنه لا يكون هاديا لغيره إلا بعد أن يهتدي هو فيكون مهديا، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: اللهم ثبته، ما سقط بعد ذلك من فرس. قوله: (وحرقها) بالتشديد. قوله: (ثم بعث)، أي: جرير. قوله: (يخبره)، من الأحوال المققدرة. قوله: (فقال رسول جرير)، جاء مبينا في بعض الروايات أنه أبو أرطأة حصين بن ربيعة، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، قال عياض: وروى حصن والصواب هو الأول، وقال أبو عمر حصين: ويقال حصن والأكثر حصين بن ربيعة الأحمسي أبو أرطأة، يقال: حصين بن ربيعة بن عامر بن الأزور، والأزور مالك الشاعر، وروي:
269

في خيل أحمس، وقد قيل في اسم أبي أرطأة، هذا ربيعة بن حصين، والصواب: حصين بن ربيعة، وكان مع جرير في هذا الجيش. قوله: (أجوف)، أي: مجوف، وهو ضد الصمت أي: خال عن كل ما يكون في البطن، ووجه الشبه بينهما عدم الانتفاع به، وكونه في معرض الفناء بالكلية لا بقاء ولا ثبات له، وقال الداودي: معنى أجوف أنها أحرقت فسقط السقف وبعض البناء وما كان فيها من كسوة، وبقيت خاوية على عروشها. قوله: (أو أجرب) شك من الراوي، قال الخطابي: مطلي بالقطران لما به من الجرب فصار أسود لذلك يعني: صار من الإحراق. وقال الداودي: شبهها حين ذهب سقفها وكسوتها فصارت سوداء بالجمل الذي زال شعره ونقص جلده من الجرب، وصار إلى الهزال. قوله: (فبارك) أي: دعا بالبركة، خمس مرات.
وفي الحديث: توجيه من يريح من النوازل وجواز هتك ما افتتن به الناس من بناء أو إنسان أو حيوان أو غيره. وفيه: قبول خبر الواحد. وفيه: الدعاء للجيش. وفيه: استحباب إرسال البشير بالفتوح. وفيه: النكاية بإزالة الباطل وآثاره والمبالغة في إزالته.
1203 حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال حرق النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وسفيان هو ابن عيينة. والحديث مضى في كتاب المزارعة في: باب قطع الشجر والنخيل، وقد اختصره هناك،
وهنأ، وسيأتي في المغازي بأتم منه، وقد مر الكلام فيه هناك، وذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، لجيوشه أن لا يفعلوا شيئا من ذلك. وأجيب عن ذلك: بأنه كان يعلم أن تلك البلاد ستفتح، فأراد إبقاءها على المسلمين، وقال الطبري: النهي محمول على القصد لذلك بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في خلال القتال، كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف. وقال غيره: أثر الصديق مرسل، والراوي سعيد بن المسيب، وقال الطحاوي سعيد بن المسيب لم يولد في أيام الصديق، ويقال: حديث ابن عمر دال على أن للمسلمين أن يكيدوا عدوهم من المشركين بكل ما فيه تضعيف شوكتهم وتوهين كيدهم وتسهيل الوصول إلى الظفر بهم من قطع ثمارها وتغوير مياههم والتضييق عليهم بالحصار. وممن أجاز ذلك الكوفيون، ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وابن القاسم. وقال الكوفيون: يحرق شجرهم وتخرب بلادهم وتذبح الأنعام وتعرقب إذا لم يمكن إخراجها، وقال مالك: يحرق النخل ولا تعرقب المواشي، وقال الشافعي: يحرق الشجر المثمر والبيوت وأكره حريق الزرع والكلأ، وقال الشافعي: لا يحل قتل المواشي ولا عقرها، ولكن تخلى.
551
((باب قتل النائم المشرك))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من قتل النائم المشرك، وفي بعض النسخ: قتل المشرك النائم.
2203 حدثنا علي بن مسلم قال حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة قال حدثني أبي عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع ليقتلوه فانطلق رجل منهم فدخل حصنهم قال فدخلت في مربط دواب لهم قال وأغلقوا باب الحصن ثم إنهم فقدوا حمارا لهم فخرجوا يطلبونه فخرجت فيمن خرج أريهم أنني أطلبه معهم فوجدوا الحمار فدخلوا ودخلت وأغلقوا باب الحصن ليلا فوضعوا المفاتيح في كوة حيث أراها فلما ناموا أخذت المفاتيح ففتحت باب الحصن ثم دخلت عليه فقلت
270

يا أبا رافع فأجابني فتعمدت الصوت فضربته فصاح فخرجت ثم جئت ثم رجعت كأني مغيث فقلت يا أبا رافع وغيرت صوتي فقال مالك لأمك الويل قلت ما شأنك قال لا أدري من دخل علي فضربني قال فوضعت سيفي في بطنه ثم تحاملت عليه حتى قرع العظم ثم خرجت وأنا دهش فأتيت سلما لهم لأنزل منه فوقعت فوثئت رجلي فخرجت إلى أصحابي فقلت ما أنا ببارح حتى أسمع الناعية فما برحت حتى سمعت نعايا أبي رافع تاجر أهل الحجاز قال فقمت وما بي قلبة حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه.
.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة إلا إذا أريد بالنائم المضطجع، وقيل: هذا قتل يقظان نبه من نومه، وقيل: هذا حكمه حكم النائم، لأنه لما أجاب الرجل كان في خيال النوم، ولهذا لم يتحرك من موضعه ولا قام من مضجعه، فكان حكمه حكم النائم، وهذا الوجه أقرب مع أنه جاء فيه، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته فقتله وهو نائم.
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: علي بن مسلم، بكسر اللام الخفيفة: ابن سعيد أبو الحسن الطوسي، سكن بغداد وهو من أفراده. الثاني: يحيى بن زكرياء ابن أبي زائدة، واسمه ميمون الهمداني الكوفي القاضي. الثالث: أبو زكرياء الهمداني الكوفي الأعمى. الرابع: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي. الخامس: البراء بن عازب الأنصاري الخزرجي الأوسي، رضي الله تعالى عنه.
والحديث أخرجه البخاري أيضا مختصرا هنا عن عبد الله بن محمد وفي المغازي أيضا عن إسحاق بن نصر.
ذكر معناه: قوله: (رهطا من الأنصار) الرهط الجماعة من الرجال ما بين الثلاثة إلى التسعة ولا يكون فيهم امرأة، وهم: عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة والأسود بن خزاعي ومسعود بن سنان وعبد الله ابن عقبة، وكان معهم أيضا أسعد بن حرام حليف بني سوادة. قال السهيلي: ولا نعرف أحدا ذكره غيره. قلت: ذكره الحاكم أيضا في (الإكليل) عن الزهري وعند الكلبي عبد الله بن أنيس هو ابن سعد بن حرام. قلت: ما كان الموجب لبعثه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرهط إلى أبي رافع ومتى كان هذا البعث؟ قلت: أما الموجب لذلك فما ذكره ابن إسحاق، فقال لما انقضى أمر الخندق وأمر بني قريظة، وكان أبو رافع ممن حزب من الأحزاب على رسول الله، صلى الله عليه وسلم استأذنت الخزرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم فخرجوا. وفي (طبقات ابن سعد) كان أبو رافع قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم من الجعل العظيم لحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين ذكرناهم. وأما وقت هذا البعث فقال ابن سعد: كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة، وقيل: في ذي الحجة سنة خمس، وفي (الإكليل): كان بعد بدر، وقيل: بعد غزوة السويق، وقال النيسابوري: قبل دومة الجندل، وقال ابن حبان: بعد بدر الموعب آخر سنة أربع، وقال أبو معشر: بعد غزوة ذات الرقاع، وقبل سرية عبد الله بن رواحة، وقال الزهري: هو بعد كعب بن الأشرف. قوله: (إلى أبي رافع)، واسمه عبد الله، ويقال: سلام بن أبي الحقيق، بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون الياء آخر الحروف: اليهودي. قوله: (فانطلق رجل منهم)، هو عبد الله بن عتيك، بفتح العين المهملة وكسر التاء المثناة من فوق: الأنصاري من بني عمرو بن عوف، استشهد يوم اليمامة. قال أبو عمر: وأظنه وأخاه جابر بن عتيك شهد بدرا، ولم يختلف أن عبد الله شهد أحدا، وقال ابن الكلبي وأبوه: إنه شهد صفين مع علي، رضي الله تعالى عنه، فإن كان هذا فلم يقتل يوم اليمامة. قوله: (فدخل حصنهم)، يقال إنه حصن بأرض الحجاز، والظاهر
أنه خيبر. قوله: (أريهم)، بضم الهمزة وكسر الراء: من الإراءة. قوله: (في كوة)، بضم الكاف وفتحها وهي: الثقب في جدار البيت. قوله: (ففتحت باب الحصن ثم دخلت)، فإن قيل: كان هو داخل الحصن فما معناه؟ أجيب: بأنه كان للحصن مغاليق وطبقات. قوله: (فتعمدت الصوت). أي: اعتمدت جهة الصوت إذ كان الموضع مظلما. قوله: (مالك؟) كلمة: ما، للاستفهام مبتدأ و: لك، خبره. قوله: (لأمك الويل) القياس أن يقال: على أمك الويل وإنما ذكر اللام لإرادة الاختصاص بهم. قوله: (تحاملت عليه)، أي: تكلفته على مشقة. قوله: (حتى قرع العظم)، أي: أصابه، ومنه: قرعته الداهية أي: أصابته، وأصل القرع: الضرب. قوله: (وأنا دهش)، جملة اسمية وقعت حالا
271

ودهش، بفتح الدال وكسر الهاء صفة مشبهة، أي: متحير مدهوش. قوله: (فوثئت)، بضم الواو وكسر الثاء المثلثة من الوثأ، وهو: أن يصيب العظم وصم لا يبلغ الكسر، وذكر ثعلب هذه المادة في باب المهموز من الفعل، يقال: وثئت يده فهي موثوءة ووثأتها أنا. وأما ابن فارس فقال: وقد يهمز، وقال الخطابي: والواو مضمومة على بناء الفعل لما لم يسم فاعله. قوله: (ما أنا ببارح) أي: بذاهب. قوله: (الناعية)، بالنون وكسر العين المهملة على وزن فاعلة: من النعي، وهو الإخبار، بالموت، ويروى: (الواعية)، أي: الصارخة التي تندب القتيل، والوعي الصوت. قال صاحب (العين): الوعي جلبة وأصوات الكلاب في الصيد، وقال: الداعية التي تدعو بالويل والثبور وهي النائحة. قوله: (سمعت نعايا أبا رافع) كذا الرواية، وصوابه: نعاي، بغير ألف، كذا تقوله النحاة، وقال الخطابي: هكذا يروى: (نعايا أبي رافع) وحقه أن يقال: نعاي أبي رافع أي: انعوا أبا رافع، كقولهم: دراك بمعنى: أدركوا، وزعم سيبويه أنه يطرد هذا الباب في الأفعال الثلاثية كلها أن يقال فيها: فعال، بمعنى: إفعل، نحو، حذار ومناع ونزال، كم تقول: أنزل واحذر وامنع، وقال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيهم ميت ركب راكب فرسا وجعل يسير في الناس، ويقول: نعاء فلانا، أي: أنعه وأظهر خبر وفاته، قال أبو نصر: وهي مبنية على الكسر، وقال الداودي: نعايا جمع ناعية، والأظهر أنه جمعي، مثل: صفايا جمع صفي، وفي (المطالع): نعايا أبي رافع هو جمع نعي أي: أصوات المنادين بنعيه من الرجال والنساء، وقد يحتمل أن تكون هذه الكلمة كما جاء في الخبر الآخر في حديث شداد بن أوس: نعايا العرب، كذا في الحديث، قال الأصمعي: إنما هو: يا نعاء العرب، أي: يا هؤلاء انعوا العرب، وقال الكرماني: يحتمل أن نعاء من أسماء الأفعال، وقد جمع على نحو خطايا شاذا. ويحتمل أن يكون جمع نعي أو ناعية. قلت: هو من أسماء الأفعال بلا احتمال، لأنه بمعنى: انعوا، كما ذكرنا، وقوله: أو ناعية، نقله من كلام الداودي، وفيه نظر لا يخفى. قوله: (وما بي قلبة) بالقاف واللام والباء الموحدة المفتوحات أي: ما بي علة، قال الفراء: أصله من القلاب، وهو داء يصيب الإبل، وزاد الأصمعي: تموت من يومها به، فقيل ذلك لكل سالم ليس به علة. وقال ابن الأعرابي: معناه ليست به علة يقلب لها فينظر إليه، وأصل ذلك في الدواب، وعن الأصمعي معناه: ما به داء، وهو من القلاب داء يأخذ الإبل في رؤوسها فيقلبها إلى فوق، وقال الفراء: ما به علة يخشى عليه فيها، وهو من قولهم: قلب الرجل إذا أصابه وجع في قلبه، وليس يكاد يفلت منه، وقال غيره: ما به شيء يقلقه فيقلب منه على فراشه، وقال النحاس: حكى عبد الله بن مسلم أن بعضهم يقول في هذا أي: ما به حول، ثم استعير من هذا الأصل لكل سالم ليست به آفة. قوله: (فأخبرناه) أي: أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، بموت أبي رافع.
ثم إن الذي يظهر من هذا الحديث أن الذي قتله هو عبد الله بن عتيك، وقال ابن سعد وغيره: لما ذهب الجماعة المذكورون إلى خيبر كمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى منزله فصعدوا درجة له وقدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية، واستفتح، وقال: جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه كأنه قبطية فعلوه بأسيافهم. قال ابن أنس: وكنت رجلا أعشى لا أبصر فأتكيء بسيفي على بطنه حتى سمعت حسه في الفراش وعرفت أنه قضى، وجعل القوم يضربونه جميعا، ثم نزلوا وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار واختبأ القوم في بعض مياه خيبر، وخرج الحارث أبو زينب في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران فلم يجدوهم فرجعوا، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب، ثم خرجوا إلى المدينة وكلهم يدعي قتله، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم أسيافهم فنظر إليها فإذا أثر الطعام في ذبابة سيف ابن أنيس، فقال: هذا قتله.
وفي كتاب (دلائل النبوة): قتله ابن عتيك ودفف عليه ابن أنيس.
وفي (الإكليل) عن ابن أنيس، قال: ظهرت أنا وابن عتيك وقعد أصحابنا في الحائط، فاستأذن ابن عتيك فقالت امرأة ابن أبي الحقيق: إن هذا لصوت ابن عتيك، فقال ابن أبي الحقيق: ثكلتك أمك
*، ابن عتيك بيثرب، أنى هو هذه الساعة؟ افتحي، فإن الكريم لا يرد على بابه هذه الساعة أحدا، ففتحت فدخلت أنا وابن عتيك، فقال لابن عتيك: دونك، فشهرت عليها السيف فأخذ ابن أبي الحقيق وسادة فاتقاني بها، فجعلت أريد أن أضربه فلا أستطيع، فوخزته بالسيف وخزا ثم خرجت إلى ابن أنيس، فقال: اقتله؟ قلت: نعم.
وقال الواقدي: كانت أم ابن عتيك التي أرضعته يهودية
272

بخيبر، فأرسل إليها يعملها بمكانه فخرجت إلينا بجراب مملوء تمرا لينا وخبزا، ثم قال لها: يا أماه! أما لو أمسينا لبتنا عندك فأدخلينا خيبر، فقالت: وكيف تطيق خيبر وفيها أربعة آلاف مقاتل؟ ومن تريد فيها؟ قال: أبا رافع. قالت: لا تقدر عليه، ثم قالت: إدخلوا علي ليلا لما نام أهل خيبر في حمر الناس، وأعلمتهم أن أهل خيبر لا يغلقوا عليهم أبوابهم فرقا أنم يتطرقهم ضيف، فلما هدأت الرجل، قالت: انطلقوا حتى تستفتحوا على أبي رافع، فقولوا: إنا جئنا له بهدية، فإنهم سيفتحون لكم، فلما انتهوا إليه استهموا عليه، فخرج سهم ابن أنيس.
ذكر ما يستفاد منه فيه: جواز الاغتيال على من أعان على رسول الله، صلى الله عليه وسلم بيد أو مال أو رأي، وكان أبو رافع يعادي رسول الله، صلى الله عليه وسلم
ويؤلب الناس عليه. وفيه: جوز التجسس على المشركين وطلب غرتهم. وفيه: الاغتيال بالحرب والإيهام بالقول. وفيه: الأخذ بالشدة في الحرب والتعرض لعدد كثير من المشركين. وفيه: الإلقاء إلى التهلكة باليد في سبيل الله، وأما الذي نهى عنه من ذلك فهو في الإنفاق في سبيل الله لئلا تخلى يده من المال فيموت جوعا وضياعا. وفيه: الحكم بالدليل المعروف والعلامة المعروفة على الشيء، كحكم هذا الرجل بالناعية.
3203 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن أبيه عن إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم.
.
هذا طريق آخر في الحديث المذكور أخرجه عن عبد الله بن محمد المسندي عن يحيى بن آدم بن سليمان القرشي المخزومي الكوفي صاحب الثوري عن يحيى بن أبي زائدة. وفيه التصرحي بأن ابن عتيك هو الذي قتل أبا رافع، وأنه قتله وهو نائم، ولا تطلب المطابقة بين الحديث والترجمة أكثر من هذا. قوله: (بيته)، بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، يعني: منزله، ويروى: بيته، بتشديد الياء من التبييت، وهو في محل النصب على الحال بتقدير: قد، كما في قوله تعالى: * (أوجاؤكم حصرت صدورهم) * (النساء: 09).
651
((باب لا تتمنوا لقاء العدو))
أي: هذا باب يذكر فيه لا تتمنوا لقاء العدو اللقاء الملاقاة.
4203 حدثنا يوسف بن موسى قال حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن موسى بن عقبة قال حدثني سالم أبو النضر قال كنت كاتبا لعمر بن عبيد الله فأتاه كتاب عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تمنوا لقاء العدو.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، فأن الترجمة هي متن الحديث، ويوسف بن موسى بن عيسى أبو يعقوب المروزي وأبو إسحاق هو إبراهيم بن محمد الفزاري، بفتح الفاء. والحديث مضى في كتاب الجهاد في: باب كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار، فإنه أخرجه هناك بأتم منه عن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن موسى بن عقبة... إلى آخره، ومضى الكلام فيه هناك.
6203 وقال أبو عامر حدثنا مغيرة بن عبد الرحمان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا.
أبو عامر هو عبد الملك بن عمرو بن قيس البصري العقدي، بفتحتين: بنسبة إلى العقد، قوم من قيس وهم صنف من الأزد، وقد ظن الكرماني أن أبا عامر هذا هو عبد الله بن براد، بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وفي آخره دال مهملة، وليس كذلك، لأنه ليس له رواية عن مغيرة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج
273

عبد الرحمن بن هرمز. وهذا التعليق وصله مسلم، وقال: حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو عامر العقدي عن المغيرة وهو أبو عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا).
وأخرجه النسائي أيضا.
وفي الحديث: نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من الإعجاب والاتكال على القوة، ولأن الناس يختلفون في الصبر على البلاء ألا يرى الذي أحرقته الجراح في بعض المغازي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقتل نفسه، وقال الصديق، رضي الله تعالى عنه: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر. وروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال لأبنه: يا بني! لا تدعون أحدا إلى المبارزة، ومن دعاك إليها فأخرج إليه، لأنه باغ والله تعالى قد ضمن نصر من بغى عليه وأما أقوال العلماء فيه فقد ذكر ابن المنذر أنه: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من العلماء على أن للمرء أن يبارز ويدعو إلى البراز بإذن الإمام غير الحسن البصري، فإنه كرهها، هذا قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق. وأباحته طائفة ولم يذكروا إذن الإمام ولا غيره، وهو قول مالك والشافعي، فإن طلبها كافر يستحب الخروج إليه، وإنما يحسن ممن جرب نفسه ويأذن الإمام، وسئل مالك عن الرجل يقول بين الصفين: من يبارز؟ قال: ذلك إلى نيته، إن كان يريد بذلك وجه الله تعالى فأرجو أن لا يكون به بأس، قد كان فعل ذلك من مضى، وقال أنس بن مالك: قد بارز البراء ابن مالك مرزبان فقتله، وقال أبو قتادة: بارزت رجلا يوم حنين فقتلته، فأعطاني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلبه وليس في خبره أنه استأذن فيه.
751
((باب الحرب خدعة))
أي: هذا باب يذكر فيه الحرب خدعة، بضم الخاء وفتحها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
7203 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هلك كسرى ثم لا
يكون كسرى بعده وقيصر ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده ولتقسمن كنوزهما في سبيل الله. وسمى الحرب خدعة.
(الحديث 8203 طرفه في: 9203).
مطابقته للترجمة ظاهرة، قد ذكروا غير مرة، والحديث أخرجه مسلم عن محمد بن رافع.
قوله: (كسرى)، بفتح الكاف وكسرها، لقب ملك الفرس، وذكره ثعلب بكسر الكاف، وقال الفراء: الكسر أكثر من الفتح، وأنكر أبو زيد الأنصاري الفتح، وقال ابن الأعرابي: الكسر أفصح وكان أبو حاتم يختار الكسر، وقال القزاز: الجمع كسور وأكاسرة وكياسرة والقياس أن يجمع كسرون، كما يجمع موسى موسون، وعن أبي إسحاق الزجاج أنه أنكر على أبي العباس قوله: كسرى، بكسر الكاف، قال: وإنما هو كسرى بالفتح وقال: ألا تراهم يقولون: كسروي، وقال ابن فارس: لا اعتبار بالنسبة، فقد يفتح في النسبة ما هو مكسور في الأصل أو مضموم فيقال في: ثعلبي بالفتح، ثعلبي بالكسر، وفي أموي بالضم، أموي بالفتح، ومع هذا فإنه معرب خسر، ومعناه واسع الملك. فكيف عربه المعرب، إذا لم يخرج عن بناء كلام العرب، فهو جائز، وفي (المجمل) قال أبو عمرو: ينسب إلى كسرى، بكسر الكاف: كسرى وكسروي، وذكر اللحياني أن معناه: شاهان شاه، وهو اسم لكل من ملك الفرس. قوله: (وقيصر)، مبتدأ، وقوله: (ليهلكن) خبره، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، ويروى: قيصر، بعد النفي بالتنوين لزوال العلمية بالتنكير، وكذا الكلام في كسرى، وإنما قال في كسرى، هلك بلفظ الماضي وفي قيصر بلفظ المضارع لأن كسرى الذي كان في عهده صلى الله عليه وسلم كان هالكا حينئذ، وأما قيصر فكان حيا إذ ذاك. فإن قلت: قد كان بعدهما غيرهما. قلت: ما قام لهم الناموس على الوجه الذي قبل ذلك. قلت: روى مسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتتنفقن كنوزهما في سبيل الله. وروى الترمذي من حديث الزهري أيضا عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده.. الحديث، وبين اللفظين
274

بون عظيم فلفظ مسلم يقتضي أن موت كسرى قد وقع فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يؤيد رواية البخاري: هلك كسرى، ولفظ الترمذي يدل على أن هلاكه سيقع لأن إذا للمستقبل، ولفظ مسلم: قد مات كسرى، بلفظ الماضي المؤكد بكلمة: قد، ولا يصح أن يقال في: قد مات، إذا مات. قلت: الجواب من وجهين أحدهما: أن يقال أن أبا هريرة سمع الحديث مرتين، فسمع أولا: إذا هلك كسرى، ثم سمع بعده: قد مات، في رواية مسلم، وهلك في رواية البخاري، ومعناهما واحد، وكان صلى الله عليه وسلم أخبر أولا قبل موت كسرى بموته لأنه علم أنه يموت ثم لما مات، قال: قد مات كسرى، والآخر: أن يفرق بين الموت والهلاك، فموته قد وقع في حياته صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك، وأما هلاك ملكه فلم يقع إلا بعد موته، صلى الله عليه وسلم، وموت أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وإنما هلك ملكه في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، وتمامه وتلاشيه في أيام عثمان، رضي الله تعالى عنه. قوله: (ولتقسمن)، على صيغة المجهول، وهكذا جرى، اقتسم المسلمون كنوزهما في سبيل الله، وهذه معجزة ظاهرة، والكنوز جمع: كنز، وهو المال المدفون والذي يجمع ويدخر. واعلم أن الهلاك في كسرى عام وفي قيصر خاص، لأن معنى الحديث: لا قيصر بعده في أرض الشام، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقيصر لما قرأ كتابه أن يثبت الله ملكه، فلم يذهب ملك الروم أصلا إلا من الجهة التي خلا منها. وأما كسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم فدعا عليه أن يمزق ملكه كل ممزق فانقطع إلى اليوم وإلى يوم القيامة. قوله: (وسمى) أي: رسول الله، صلى الله عليه وسلم (الحرب خدعة) وضبط الأصيلي: خدعة، بضم الخاء وسكون الدال، وعن يونس: ضم الخاء وفتح الدال، وعن عياض: فتحهما، وقال القزاز: فتح الخاء وسكون الدال لغة النبي صلى الله عليه وسلم ولغته أفصح اللغات، وقالوا: الخدعة المرة الواحدة من الخداع، فمعناه: أن من خدع فيها مرة واحدة عطب وهلك ولا عودة له.
وقال ابن سيده في (العويص): من قال خدعة أراد تخدع أهلها وفي (الواعي): أي: تمنيهم بالظفر والغلبة، ثم لا تفي لهم، وقال: ومن قال: خدعة، أراد هي أن تخدع، كما يقال: رجل لعنة يلعن كثيرا، وإذ خدع أحد الفريقين صاحبه في الحرب فكأنها خدعت هي، وقال قاسم بن ثابت في (كتابه الدلائل): كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى سموا الحرب خدعة، وحكى مكي ومحمد بن عبد الواحد: خدعة، بالكسر، وقال المطرزي: الأفصح بالفتح لأنه لغة قريش، وقال ابن درستويه: ليست بلغة قوم دون قوم، وإنما هي كلام الجميع لأنها المرة الواحدة من الخداع، فلذلك فتحت. وقال الأستاذ أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم كان يختار هذه البنية ويستعملها كثيرا لأنها بلفظها الوجيز تعطي معنى البنيتين الأخريين ويعطي أيضا معناها: استعمل الحيلة في الحرب ما أمكنك، فإذا أعيتك الحيل فقاتل، فكانت هذه اللغة على ما ذكرنا مختصرة اللفظ كثيرة المعنى، فلذلك كان سيدنا يختارها قال اللحياني: خدعت الرجل أخدعه خدعا وخدعا وخديعة وخدعة. إذ أظهرت له خلاف ما تخفي، وأصله: كل شيء كتمته فقد خدعته، ورجل خداع وخدوع وخدع وخديعة وخدعة: إذا أظهرت له خلاف ما تخفي، وأصله: كل شيء كتمته فقد خدعته، ورجل خداع وخدوع خدع وخدعة: إذا كان خبا. وفي (المحكم): الخدع والخديعة المصدر، والخدع والخداع الاسم، ورجل خيدع: كثير الخداع، وقال ابن العربي: الخديعة في الحرب تكون بالتورية وتكون بالكمين وتكون بخلف الوعد، وذلك من المستثنى الجائز المخصوص من المحرم.
والكذب حرام بالإجماع جائز في مواطن بالإجماع أصلها الحرب، أذن الله فيه وفي أمثاله رفقا بالعباد لضعفهم، وليس للعقل في تحريمه ولا في تحليله أثر، إنما هو إلى الشرع، ولو كان تحريم الكذب كما يقول المبتدعون عقلا، ويكون التحريم صفة نفسية كما يزعمون، ما انقلب حلالا أبدا، والمسألة ليست معقولة فتستحق جوابا، وخفي هذا على علمائنا. وقال الطبري: إنما يجوز في المعاريض دون حقيقة الكذب، فإنه لا يحل. وقال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب لكن الاقتصار على التعريض أفضل، وقال بعض أهل السير: قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يوم الأحزاب لنعيم بن مسعود، وعن المهلب: الخداع في الحرب جائز كيف ما يمكن إلا
بالأيمان والعهود والتصريح بالأيمان فلا يحل شيء من ذلك.
9203 حدثنا أبو بكر بن أصرم قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة.
.
275

هذا طريق آخر عن أبي هريرة أخرجه عن أبي بكر بن أصرم، واسمه: بور، بضم الباء الموحدة وسكون الواو، وفي آخره راء، وكنيته أبو بكر المروزي، قال البخاري: مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين وهو من أفراده، وليس له إلا هذا الحديث، وعبد الله هو ابن المبارك المروزي.
0303 حدثنا صدقة بن الفضل قال أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة.
مطابقته للترجمة ظاهرة وصدقة بن الفضل المروزي وهو من أفراده، وابن عيينة هو سفيان بن عيينة، وعمرو هو ابن دينار.
والحديث أخرجه مسلم في المغازي عن علي بن حجر وعمرو الناقد وزهير بن حرب. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن سعيد بن منصور. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع ونصر بن علي، وأخرجه النسائي في السير عن محمد بن منصور المكي والحارث بن مسكين، وفي الباب عن علي، أخرجه النسائي كذلك، وعن زيد بن ثابت أخرجه الطبراني كذلك، وعن ابن عباس أخرجه ابن ماجة كذلك. وعن كعب بن مالك أخرجه أبو داود كذلك. وعن أنس أخرجه أحمد في (مسنده) كذلك وعن عائشة أخرجه ابن ماجة، قال ذلك: وعن ابن عمر أخرجه البزار في (مسنده) قال ذلك. وعن الحسن بن علي أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال ذلك، وعن الحسين بن علي أخرجه البزار في (مسنده) قال ذلك. وعن عبد الله ابن سلام أخرجه أبو يعلى والطبراني في (الكبير) قال ذلك، وعن النواس ابن سمعان أخرجه الطبراني في (الكبير) قال ذلك. وعن عوف بن مالك أخرجه الطبراني في (الكبير) قال ذلك. وعن نعيم بن مسعود أخرجه الطبراني قال ذلك. وعن نبيط ابن شريط أخرجه الطبراني أيضا في (الأوسط) قال ذلك.
851
((باب الكذب في الحرب))
أي: هذا باب في بيان الكذب في الحرب هل يجوز أم لا؟ وإذا جاز يجوز بالتصريح أو بالتلويح؟ ويجيء بيانه الآن.
1303 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله قال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله يا رسول الله قال نعم قال فأتاه فقال إن هذا يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد عنانا وسألنا الصدقة قال وأيضا والله لتملنه قال فأنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى تنظر إلى ما يصير أمره قال فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله.
.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن الذي وقع من محمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا. وأجيب: بوجود المطابقة، فإن محمد بن مسلمة، قال: فأذن لي، فأقول؟ قال: قد فعلت فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحا وتلويحا. فإن قلت: ليس في حديث الباب هذا. قلت: هذه الزيادة ثابتة في حديث الباب الذي يليه، والحديث واحد في الأصل عن جابر على أنه قد جاء من ذلك صريحا فيما أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس. وقال النووي: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أولى.
والحديث قد مضى في كتاب الشركة في: باب رهن السلاح، فإنه أخرجه هناك: عن علي بن عبد الله عن سفيان عن عمرو عن جابر.
قوله: (من لكعب بن الأشرف؟) أي: من لقتله؟ و: من، مبتدأ، و: لكعب، خبره، وكعب بن الأشرف ضد الأخس اليهودي القرظي، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم ويؤذيه قوله (قال محمد بن مسلمة) بفتح الميم واللام الأنصاري الحارثي قوله (قد آذى الله) فيه حذف أي آذن رسول الله. وأذاه لرسول الله، صلى الله عليه وسلم هو أذى لله، لأنه لا يرضى به. قوله: (أتحب؟) الهمزة في للاستفهام، وكلمة: أن، في: (أن أقتله) مصدرية، والتقدير:
276

أتحب قتله؟ قوله: (قد عنانا)، بفتح النون المشددة أي: أتعبنا، وهذا من التعريض الجائز بل من المستحسن، لأن معناه في الباطن أدبنا بآداب الشريعة التي فيها تعب، لكنه تعب في مرضاة الله تعالى، والذي فهم المخاطب هو العناء الذي ليس بمحبوب، قوله: (وسألنا)، بفتح الهمزة وفتح اللام والضمير فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصدقة منصوب لأنه مفعول ثان. قوله: (وأيضا والله لتملنه) أي والله بعد ذلك تزيد ملالتكم عنه وتتضجرون عنه أكثر وأزيد من ذلك. فإن قلت: هذا غدر فكيف جاز؟ قلت: حاشا، لأنه نقض العهد بإيذائه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقال المازري: نقض عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهجاه وأعان المشركين على حربه. فإن قلت: أمنه محمد بن مسلمة؟ قلت: لم يصرح له بأمان في كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء والشكاية إليه والاستيناس به حتى تمكن من قتله، وقيل: في قتل محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف دلالة أن الدعوة ساقطة ممن قرب من دار الإسلام، وكانت قضية محمد بن مسلمة في رمضان، وقيل: في ربيع الأول الأول أشهر في السنة الثالثة من الهجرة. وقال ابن إسحاق: أتى كعب المدينة فنزلها، ولما جرى ببدر ما جرى، قال: ويحكم أحق هذا؟ وأن محمدا قتل أشراف العرب وملوكها؟ والله إن كان هذا حقا لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، فأكرمه المطلب فجعل
ينوح ويبكي على قتلى بدر ويحرض الناس على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنشد الأشعار في ذلك، وبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقال: من لكعب بن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري، أخو بني عبد الأشهل: أنا له يا رسول الله، وسرد في ذلك كلاما كثيرا، ثم قال إنه اجتمع به وسأله أن يسلفه سلفا وجرى بينهما ما يتعلق بالرهن إلى أن قال: نرهنك اللامة؟ يعني: السلاح. قال: نعم، فواعده أن يأتيه بالحارث بن أوس وأبي عبس جابر بن عتيك وعباد بن بشر، قال: فجاؤه فدعوه ليلا فنزل إليهم، فقالت له امرأته: إني لأسمع صوتا كأنه صوت دم، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، وإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب. وقال محمد: إني إذا جاء سأمد يدي، فإذا استمكنت منه فدونكم. قال: فنزل وهو متوشح فقال له: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، فقال محمد: أتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشم. فتناول فشم، ثم عاد فشم، فلما استمكن منه، قال: دونكم! فقتلوه ثم أتوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وحكى الطبري عن الواقدي قال: جاؤوا برأس كعب بن الأشرف إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب (شرف المصطفى): أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه في المخلاة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام. وقيل: بل رأس أبي غرة الجمحي الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فقتله واحتمل رأسه إلى المدينة في رمح، وأما أول مسلم حمل رأسه في الإسلام فعمرو بن الحمق، وله صحبة.
951
((باب الفتك بأهل الحرب))
أي: هذا باب في بيان جواز الفتك بأهل الحرب، والفتك، بفتح الفاء وسكون التاء المثناة من فوق بعدها كاف: وهو أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل فيشتد عليه فيقتله.
2303 حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لكعب بن الأشرف فقال محمد بن مسلمة أتحب أن أقتله قال نعم قال فأذن لي فأقول قال قد فعلت.
.
وجه المطابقة للترجمة يؤخذ من معناه، لأن محمد بن مسلمة غر كعبا فاستغفله، فشد عليه فقتله. وهو الفتك بعينه، وهذا طرف من حديث جابر الذي مضى قبله. قوله: (فأقول؟) أي: عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره ما لم يحق باطلا ولم يبطل حقا؟ قوله: (قال: قد فعلت) أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أذنت، ولفظ الفعل أعم الأفعال يعبر به عن ألفاظ كثيرة، وقد مر الكلام فيه غير مرة.
277

061
((باب ما يجوز من الاحتيال والحذر مع من يخشى معرته))
أي: هذا باب في بيان ما يجوز إلى آخره. قوله: (مع من يخشى)، على بناء المعلوم، ويجوز أن يكون على صيغة المجهول، فعلى الأول: معرفته، منصوب وعلي الثاني، مرفوع. والمعرة، بفتح الميم والعين المهملة وتشديد الراء: الشدة وما يكره من فساد.
3303 قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبي بن كعب قبل ابن صياد فحدث به في نخل فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وابن صياد في قطيفة له فيها رمرمة فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا صاف هذا محمد فوثب ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تركته بين.
.
مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: (طفق يتقي بجذوع النخل) لأن معناه: شرع يخفي نفسه بجذوع النخل حتى لا تراه أم ابن صياد، وهذا احتيال وحذر، لأن أم ابن صياد ممن يخشى معرته، ولم أر أحدا من الشراح ذكر هنا المطابقة بين الترجمة والحديث، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
والليث هو ابن سعد، وعقيل، بضم العين: ابن خالد، وهذا التعليق وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح، كلاهما عن الليث، وقد مضى قصة ابن صياد مطولة في كتاب الجنائز في: باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟.
قوله: (قبل ابن صياد)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ناحيته وجهته، قوله: (فحدث به)، على صيغة المجهول، والضمير في: به، يرجع إلى ابن صياد. قوله: (في نخل)، حال من الضمير المجرور، والمعنى: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بابن صياد، والحال أنه في نخل. قوله: (طفق يتقي)، قد مر تفسيره الآن. قوله: (في قطيفة)، وهي: الكساء المخمل. قوله: (له فيها)، أي: لابن صياد في القطيفة (رمرمة) براءين، وهو الصوت، ويروى بالزايين. قوله: (يا صاف)، صاف اسم ابن صياد، بضم الفاء وكسرها. قوله: (لو تركته بين)، أي: لو تركته أمه بحيث لا تعرف قدوم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يندهش منه، بين لكم باختلاف كلامه ما يهون عليكم أمره، وقد سبقت مباحثه مستقصاة في كتاب الجنائز في الباب المذكور.
161
((باب الرجز في الحرب ورفع الصوت في حفر الخندق))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من إنشاء الرجز في الحرب، والرجز، بفتح الراء والجيم وفي آخره زاي: وهو بحر من بحور الشعر، وهو معروف، ونوع من أنواع
الشعر يكون كل مصراع منه مفردا، وتسمى قصائده أراجيز، واحدتها أرجوزة، فهو كهيئة السجع إلا أنه في وزن الشعر، ويسمى قائله: راجزا، كما يسمى قائل بحور الشعر: شاعرا، ولم يعده الخليل شعرا. وقال ابن الأثير: والرجز ليس بشعر عند أكثرهم. قوله: (ورفع)، مجرور عطفا على لفظ: الرجز، أي: وفي بيان ما جاء من رفع الصوت في حفر الخندق، وهو الذي حفره الصحابة من المهاجرين والأنصار يوم الأحزاب، وكانوا ينقلون التراب على ظهورهم وينشدون الأراجيز، على ما مر في كتاب الجهاد في: باب حفر الخندق، وكانت عادة العرب باستعمال الأراجيز في الحروب لأنها تزيد النشاط وتهيج الهمم.
فيه سهل وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: مما جاء في هذا الباب، روى سهل بن سعد الأنصاري الساعدي، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم ووصل البخاري حديثه في غزوة الخندق وفيه:
* اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
*
قوله: (وأنس)، بالرفع عطف على سهل، وحديثه مضى في: باب حفر الخندق، ووصله عن أبي معمر عن عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس، رضي الله تعالى عنه.
وفيه:
278

* اللهم لا خير إلا خير الآخرة
*
وقد مر الكلام فيه هناك.
وفيه يزيد عن سلمة
أي: وفي الباب أيضا روى يزيد من الزيادة ابن أبي عبيد، مولى سلمة بن الأكوع عن مولاه سلمة بن الأكوع، رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في غزوة خيبر، إن شاء الله تعالى.
4303 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء رضي الله تعالى عنه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره وكان رجلا كثير الشعر وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة.
* أللهم لولا أنت ما اهتدينا
* ولا تصدقنا ولا صلينا
*
* فأنزلن سكينة علينا
* وثبت الأقدام إن لاقينا
*
* إن الأعداء قد بغوا علينا
* إذا أرادوا فتنة أبينا
*
يرفع بها صوته.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وهو يرتجز برجز عبد الله)، وفي قوله: (يرفع بها صوته) وأبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي. والحديث مضى في: باب حفر الخندق، فإنه أخرجه هناك: عن حفص ابن عمر عن شعبة عن أبي إسحاق... إلى آخره. وفيه: وقد وارى التراب بياض بطنه، وهنا زيادة، وهي قوله: وكان رجلا كثير الشعر. وفيه أيضا هنا: وهو يرتجز برجز عبد الله، وهو عبد الله بن رواحة الأنصاري الحارثي البدري، النقيب الشاعر وهنا: إن الأعداء، وهناك: إن الأولى، وقد مر الكلام فيه هناك. قوله: (وهو ينقل)، الواو فيه للحال، وكذا الواو في قوله: (وهو يرتجز) قوله: (بغوا)، من البغي، وهو الاستطالة والظلم. قوله: (أبينا)، من الإباء وهو الامتناع. قوله: (يرفع بها صوته) جملة وقعت حالا من قوله: (وهو يرتجز).
261
((باب من لا يثبت على الخيل))
أي: هذا باب في بيان ذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء في حق من لا يثبت على الخيل، وقال بعضهم: باب من لا يصبت على الخيل، أي: ينبغي لأهل الخير أن يدعو له بالثبات. قلت: ما أبعد هذا التفسير من معنى الترجمة على ما لا يخفى على المتأمل، بل ينبغي أن يفسر مثل ما فسرنا، ثم يقال: وينبغي لأهل الخير أن يدعو له بالثبات تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث دعا لجرير حين شكا إليه من عدم ثباته على الخيل.
5303 حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا ابن إدريس عن إسماعيل عن قيس عن جرير رضي الله تعالى عنه قال ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي. ولقد شكوت إليه أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال أللهم ثبته واجعله هاديا مهديا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا أثبت على الخيل) وابن إدريس هو عبد الله بن إدريس بن يزيد، مات سنة ثنتين وتسعين ومائة، وإسماعيل هو ابن أبي خالد الأحمسي البجلي الكوفي، وقيس بن أبي حازم.
والحديث أخرجه البخاري في الأدب أيضا عن محمد ابن عبد الله بن نمير أيضا، وفي فضل جرير عن إسحاق الواسطي، وأخرجه مسلم في الفضائل عن عبد الحميد بن بيان ويحيى بن يحيى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن ابن نمير، وأخرجه الترمذي في المناقب عن أحمد بن منيع، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة.
279

وأخرجه ابن ماجة في السنة عن ابن نمير به.
قوله: (ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت)، أي: ما منعني مما التمست منه أو من دخول الدار، ولا يلزم منه النظر إلى أمهات المؤمنين. قوله: (في وجهي)، هذا هكذا في رواية السرخسي والكشميهني، وفي رواية غيرهما: في وجهه، وفي التفات من التكلم إلى الغيبة. قوله: (ولقد شكوت...) إلى آخره، مضى في: باب حرق الدور والنخيل عن قريب.
وفيه: أن الرجل الوجيه في قومه له حرمة ومكانة على من هو دونه، لأن جريرا كان سيد قومه. وفيه: أن لقاء الناس بالتبسم وطلاقة الوجه من أخلاق النبوة، وهو مناف للتكبر وجالب للمودة. وفيه: فضل الفروسية وأحكام ركوب الخيل، فإن ذلك مما ينبغي أن يتعلمه الرجل الشريف والرئيس. وفيه: أنه لا بأس للإمام أو للعالم إذا أشار إليه إنسان في مخاطبة أو غيرها أن يضع عليه يده ويضرب بعض جسده، وذلك من التواضع واستماله النفوس. وفيه: بركة دعوته، صلى الله عليه وسلم، لأنه جاء في الحديث أنه ما سقط بعد ذلك من الخيل.
361
((باب دواء الجرح بإحراق الحصير وغسل المرأة عن أبيها الدم عن وجهه وحمل الماء في الترس))
أي: هذا باب في بيان ما جاء من دواء الجرح إلى آخره. قوله: (وحمل الماء)، معطوف على قوله: (دواء الجرح) أي وفي بيان ما جاء من حمل الرجل الماء في الترس لأجل غسل الدم، وهذه الترجمة مأخوذة من معنى حديث الباب، لأن المراد من المرأة هي فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنها هي التي داوت جرح النبي صلى الله عليه وسلم، بالحصير المحرق بالنار بعد غسلها الدم عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لإزدياد الدم بالغسل بالماء وعدم انقطاعه. وأما حمل الماء فكان من علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.
7303 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا أبو حازم قال سألوا سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه بأي شيء دووي جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما بقي من الناس أحد أعلم به مني كان علي يجيء بالماء في ترسه وكانت يعني فاطمة تغسل الدم عن وجهه وأخذ حصير فأحرق ثم حشي به جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو: ابن عيينة، وأبو حازم سلمة بن دينار الأعرج. والحديث بعينه مضى في كتاب الطهارة في: غسل المرأة أباها الدم عن وجهه، غير أنه هناك أخرجه عن محمد عن سفيان... إلى آخره، ومضى الكلام فيه هناك. قوله: (جرح النبي صلى الله عليه وسلم) أي: الذي وقع يوم أحد من شج رأسه المبارك. قوله: (ما بقي)، لأنه آخر من مات من الصحابة بالمدينة.
461
((باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصي إمامه))
أي: هذ باب في بيان ما يكره إلى آخره. قوله: (في الحرب)، أي: من المقاتلة في أحوال الحرب. قوله: (وعقوبة)، أي: وفي بيان عقوبة من عصى إمامه، يعني: بالهزيمة وحرمان الغنيمة، وفي (التوضيح): التنازع هو الاختلاف. قلت: ليس كذلك، لأنه يلزم عطف الشيء على نفسه في الترجمة، ولا يقال: إنه عطف بيان لأن التنازع معلوم فلا يحتاج إلى البيان، والتنازع هو التخاصم والتجادل، والاختلاف أن يذهب كل واحد منهم إلى رأي، والاختلاف سبب الهلاك في الدنيا والآخرة، لأن الله عز وجل قد عبر في كتابه بالخلاف الذي قضى به على عباده عن الهلاك في قوله: * (ولو شاء الله ما اختلفوا) * (الأنفال: 64). ثم قال: ولذلك خلقهم، يعني: ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، من أجل اختلافهم.
وقال الله تعالى * (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) * (الأنفال: 64).
أول الآية: * (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) * (الأنفال: 64). وقبلها، خاطب المؤمنين بقوله: * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
280

واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) * (الأنفال: 54). فأمروا بالثبات عند ملاقاتهم الأعداء، والصبر على مبارزتهم، ثم أمرهم بذكره في تلك الحال ولا ينسونه بل يستعينون به ويوكلون عليه ويسألونه النصر عليهم، ثم أمرهم بإطاعة الله ورسوله في حالهم ذلك، فما أمرهم به ايتمروا وما نهاهم عنه انزجروا، ولا يتنازعون فيما بينهم فيفشلون، من الفشل: وهو الفزع والجبن والضعف. قوله: * (وتذهب ريحكم) * (الأنفال: 64). أي: قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال * (واصبروا إن الله مع الصابرين) * (الأنفال: 64). قوله: (يعني الحرب)، هكذا وقع في رواية الكشميهني وحده.
وقال قتادة الريح الحرب
هذا هو الذي وقع في هذا الموضع في رواية الأصيلي، قال قتادة: الريح الحرب، وهذا وصله عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة به، وقال مجاهد: الريح النصر، وقيل: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له.
8303 حدثنا يحيى قال حدثنا وكيع عن شعبة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن قال يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولا تختلفا).
ذكر رجاله وهم ستة: الأول: يحيى، قيل: هو يحيى بن جعفر بن أعين أبو زكرياء البخاري البيكندي، وقيل: يحيى بن موسى بن عبد ربه أبو زكرياء السختياني البلخي، يقال له: خت، بفتح الخاء المعجمة وبالتاء المثناة من فوق، وكل منهما سمع وكيعا. وقال الكرماني في يحيى بن جعفر البلخي: وليس إلا البخاري، وقال في يحيى بن موسى الختي بالنسبة إلى خت، وليس كذلك، فإن خت لقبه وما هو بمنسوب إليه. الثاني: وكيع، وقد تكرر ذكره. الثالث: شعبة، كذلك. الرابع: سعيد بن أبي بردة، بضم الباء الموحدة: واسمه عامر. الخامس: أبو عامر. السادس: جده أبو موسى الأشعري، واسمه عبد الله بن قيس، والضمير في: جده، راجع إلى سعيد لا إلى الأب، يعني: روى سعيد عن عامر عن عبد الله.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن إسحاق، وفي الأحكام عن محمد بن بشار، وفي المغازي عن مسلم بن إبراهيم وعن إسحاق بن شاهين أيضا. وأخرجه مسلم في الأشربة عن قتيبة وإسحاق وعن محمد بن عباد وعن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن أحمد وعن زيد بن أبي أنيسة وفي المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن عباد وعن إسحق بن إبراهيم وابن أبي خلف. وأخرجه أبو داود في الحدود في قصة اليهودي الذي أسلم. ثم ارتد. وأخرجه النسائي في الأشربة وفي الوليمة عن أحمد بن عبد الله وعبد الله بن الهيثم. وأخرجه ابن ماجة في الأشربة عن محمد بن بشار.
ذكر معناه: قوله: (يسرا)، بالياء آخر الحروف والسين المهملة معناه: خذا بما فيه التيسير. قوله: (ولا تعسرا)، من التعسير وهو التشديد والتعصيب. قوله: (وبشرا)، بالباء الموحدة والشين المعجمة: من التبشير، وهو إدخال السرور من بشرت الرجل أبشره بشرا وبشورا من البشرى. قوله: (ولا تنفرا)، من التنفير، يعني: لا تذكرا شيئا يهربون منه، ولا تقصدا إلى ما فيه الشدة. قوله: (وتطاوعا) أي: تحابا. قوله: (ولا تختلفا)، فإن الاختلاف يورث الاختلال.
9303 حدثنا عمرو بن خالد قال حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما يحدث قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطاناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا وال له
281

رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله ابن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان أفي القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات ثم قال أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم أخذ يرتجز أعل هبل أعل هبل قال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوا له قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل قال إن لنا العزى ولا عزي لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوا قال قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أصحاب عبد الله بن جبير) فإن الهزيمة وقعت بسبب مخالفتهم.
وعمرو بن خالد بن فروخ الحراني الجزري وهو من أفراده، وزهير بن معاوية، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي وفي التفسير عن عمرو بن خالد أيضا. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن عبد الله بن محمد النفيلي. وأخرجه النسائي في
السير عن زياد بن يحيى وعمرو بن يزيد وفي التفسير عن هلال بن العلاء.
ذكر معناه: قوله: (يحدث)، جملة في محل النصب على الحال من البراء، لأن الصحيح أن: سمعت، لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. قوله: (على الرجالة)، بفتح الراء وتشديد الجيم: جمع راجل، على خلاف القياس. قوله: (يوم أحد)، نصب على الظرف، وكان يوم أحد يوم السبت في منتصف شوال من سنة ثلاث من الهجرة، وكان السبب في غزوة أحد ما قاله ابن إسحاق: لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة، مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر وكلموا أبا سفيان بن حرب أن يخرج بهم لعلهم يدركوا آثارهم، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، فخرجوا وأبو سفيان قائدهم ومعه زوجته هند بنت عتبة بن ربيعة، ومنهم ظعائن التماس الحفيظة، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فارس قد جنبوها، فعلى الميمنة خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل بن هشام، وعلى الخيل صفوان بن أمية، وقيل: عمرو بن العاص، وعلى الرماء عبد الله بن ربيعة، وكانوا مائة وفيهم سبعمائة دارع، والظعن خمسة عشر، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ألف من أصحابه ونزل على أحد ورجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة، فبقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سبعمائة. وقال الواقدي: وكان في أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين: فرس لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة، وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على الرماة يومئذ عبد الله بن جبير، وهو قول البراء: جعل النبي صلى الله عليه وسلم، على الرجالة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير، وهو منصوب بقوله: جعل،
282

وعبد الله بن جبير، بضم الجيم وفتح الباء الموحدة: ابن النعمان بن أمية بن أمرىء القيس، واسمه: البرك بن ثعلبة بن عمرو ابن عوف الأنصاري، شهد العقبة ثم شهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، وقال أبو عمر: لا أعلم له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (تخطفنا الطير) من خطف يخطب من باب نصر ينصر، ويقال من باب ضرب يضرب، وهو قليل، ومصدره خطف وهو: استلاب الشيء وأخذه سرعة. وقال الخطابي: هذا مثل يريد به الهزيمة يقول صلى الله عليه وسلم: (إن رأيتمونا قد زلنا عن مكاننا وولينا منهزمين فلا تبرحوا أنتم وهذا كقولهم: فلان ساكن الطير، إذا كان هاديا وقورا وليس هناك طير، وأيضا فالطير لا يقع إلا على الشيء الساكن، ويقال للرجل إذا أسرع وخف: قد طار طيره، وقال الداودي: معناه إن قتلنا وأكلت الطير لحومنا فلا تبرحوا مكناكم. قوله: (وأوطأناهم) قال ابن التين: يريد مشينا عليهم وهم قتلى على الأرض، وقال الكرماني: الهمزة في (أوطأناهم) للتعريض أي: جعلناهم في معرض الدوس بالقدم. قوله: (قال: فإنا والله) أي: قال البراء. قوله: (يشتددن) أي: على الكفار، يقال: شد عليه في الحرب أي: حمل عليه، ويقال: معناه يعدون، والاشتداد العدو، ويروى: يسندن، قال ابن التين: هي رواية أبي الحسن، ومعناه: يمشين في سند الجبل يردن أن يرقين الجبل. قوله: (قد بدت)، جملة حالية أي: قد ظهرت. قوله: (وأسوقهن)، جمع ساق. قوله: (رافعات)، حال من الضمير الذي في: يشتددن. وقوله: (ثيابهن)، منصوب به. قوله: (الغنيمة)، نصب على الإغراء. قوله: (أي قوم)، يعني: يا قوم، وهو منادى. قوله: (ظهر)، أي: غلب. قوله: (أنسيتم؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار. قوله: (صرفت وجوههم)، يعني: قلبت وحولت إلى موضع جاؤوا منه، وذلك عقوبة لعصيانهم قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (منهزمين)، حال من الضمير الذي في: أقبلوا. قوله: (فذاك إذ يدعوهم) أي: حين يقول لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إلى يا عباد الله إلي يا عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة). قوله: (في أخراهم) أي: في جماعتهم المتأخرة. قوله: (فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر)، وكذا قال مقاتل، وقال ابن سعد: وثبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم وما زال يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، وثبت معه عصابة من أصحابه أربعة عشر رجلا: سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، وسبعة من الأنصار، حتى تحاجزوا. وقال الواقدي وابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهم: لما انهزم المسلمون بقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في نفر يسير. وقال هشام: كانوا تسعة: سبعة من الأنصار ورجلين من المهاجرين. وقال البلاذري: ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله تعالى عنهم، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وأسيد ابن حضير وسعد بن معاذ. وقيل: وسهل بن حنيف. قوله: (فأصابوا منا سبعين)، وذكر ابن إسحاق: أنهم خمسة وسون، واستدرك علية ابن هشام خمسة أخرى فصاروا على قوله: سبعين، وهو رواية البخاري أيضا.
قال ابن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من المهاجرين أربعة نفر وهم: حمزة بن عبد المطلب، قتله وحشي غلام جبير بن مطعم. وعبد الله بن جحش. ومصعب بن عمير، قتله ابن قمئة. وشماس بن عثمان ومن الأنصار: عمرو بن معاذ. والحارث بن أنس. وعمارة بن زياد. وسلمة بن ثابت بن وقش. وعمر بن ثابت بن وقش. وثابت أبوهما. ورفاعة بن وقش. وحسيل بن جابر أبو حذيفة. وصيفي بن قيظي. وخباب بن قيظي. وعباد بن سهل. والحارث بن أوس بن معاذ. وإياس بن أوس. وعبيد ابن التيهان. وحبيب بن زيد، ويزيد بن حاطب. وأبو سفيان بن الحارث. وحنظلة بن أبي عامر. وأنيس بن قتادة. وأبو حية ابن عمرو بن ثابت. وعبد الله بن جبير، أمير الرماة. وخيثمة أبو سعد. وعبد الله بن مسلمة. وسبيع بن حاطب. وعمرو بن قيس. وأبوه قيس بن عمرو. وثابت بن عمرو. وعامر بن مخلد. وأبو هبيرة بن الحارث. وعمرو بن مطرف. وأوس بن ثابت أخو حسان بن ثابت. وأنس بن النضر. وقيس بن مخلد. وكيسان، عبد بني مازن. وسليم بن الحارث. ونعمان بن عبد عمرو. وخارجة بن زيد. وسعد بن الربيع. وأوس بن الأرقم. ومالك بن سنان، أبو أبي سعيد الخدري. وسعيد بن سويد. وعتبة ابن ربيع. وثعلبة بن سعد. وثقف بن فروة. وعبد الله بن عمرو بن وهب. وضمرة، حليف بني طريف. ونوفل بن عبد الله
283

وعباس بن عبادة. ونعمان بن مالك. والمجدر بن زياد. وعبادة بن الحسحاس. ورفاعة بن عمرو. وعبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام. وخلاد بن عمرو بن الجموح. وأبو أيمن، مولى عمرو بن الجموح. وسليم بن عمرو. ومولاه عنترة. وسهل بن قيس. وذكوان بن عبد قيس. وعبيد بن المعلى. فهؤلاء الذين ذكرهم ابن إسحاق.
وأما الذين استدرك عليهم ابن هشام فهم: مالك بن نميلة. والحارث بن عدي ومالك بن إياس. وإياس بن عدي. وعمرو بن إياس.
قوله: (أفي القوم محمد؟) الهمزة للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه) أي: بأن يجيبوا أبا سفيان، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن إجابة أبي سفيان تصاونا عن الخوض فيما لا فائدة فيه. قوله: (ابن أبي قحافة) هو: أبو بكر الصديق، وأبو قحافة اسمه: عثمان. قوله: (فما ملك عمر، رضي الله تعالى عنه، نفسه فقال: كذبت يا عدو الله) وكانت إجابته بعد النهي حماية للظن برسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه قتل، وأن بأصحابه الوهن. وقال ابن بطال: وليس فيه عصيان لسيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، وإن كان عصيانا في الظاهر، فهو مما يؤجر به. قوله: (وقد بقي لك ما يسوءك) يعني: يوم الفتح. قوله: (قال: يوم بيوم بدر) أي: قال أبو سفيان: هذا يوم في مقابلة يوم بدر، لأن المسلمين قتلوا يوم بدر سبعين رجلا والأسارى كذلك، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب. قوله: (والحرب سجال)، أي: دول مرة لهؤلاء ومرة لهؤلاء، وأصله أن المستقين بالسجل وهو الداو يكون لكل واحد منهم بسجال. قوله: (مثلة)، بضم الميم وسكون الثاء المثلثة: اسم من مثل به، ومثله أي: خدعه. قوله: (لم آمر بها) أي: بالمثلة، قال الداودي: معناه أنه لا يأمر بالأفعال الخبيثة التي ترد على فاعلها نقصا. قوله: (ولم تسؤني)، يريد لأنكم عدوي، وقد كانوا قتلوا ابنه يوم بدر وخرجوا لينالوا العيرة التي كانوا بها، فوقعوا في كفار قريش وسلمت العير. قوله: (أعل هبل)، وفي رواية: إرق، مكان: أعل. و: هبل، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة: اسم صنم كان في الكعبة، ومعنى: إرق مكان أعل، يعني: ارق في الجبل على حزبك، أي: علوت حتى صرت كالجبل العالي، وقال الداودي: يحتمل أن يريد بذلك تعيير المسلمين حين انحازوا إلى الجبل. قوله: (قال: لا تجيبوا له؟) أي: قال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوا لأبي سفيان؟ وقوله: ألا تجيبوا، بحذف النون بغير الناصب والجازم، وهي لغة فصيحة، ويروى: ألا تجيبونه؟ قوله: (العزى)، تأنيث الأعز، اسم صنم كان لقريش، قاله الضحاك وأبو عبيد. وفي (التلويح): العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونها، وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى ليقطعها. قوله: (الله مولانا ولا مولى لكم)، يعني: الله ناصرنا، والمولى يأتي لمعان كثيرة، والمولى في قوله تعالى: * (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * (الأنعام: 26). يعني: المالك. وقال ابن الجوزي: المولى هنا بمعنى الولي، والله، عز وجل، يتولى المؤمنين بالنصر والإعانة ويخذل الكافرين.
561
((باب إذا فزعوا بالليل))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا فزع العسكر بالليل أو أهل بلدة، والفزع هو الخوف في الأصل، لكنه وضع موضع الإغاثة والنصر، وجواب: إذا، محذوف تقديره: ينبغي لإمامهم أن يكشف الخبر بنفسه أو بمن يندبه لذلك.
0403 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس قال وقد فزع أهل المدينة ليلة سمعوا صوتا قال فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم على فرس لأبي طلحة عري وهو متقلد سيفه فقال لم تراعوا لم تراعوا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته بحرا يعني الفرس.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومضى هذا الحديث في كتاب الجهاد مرارا، وفي آخر كتاب الهبة، ومضى الكلام فيه. قوله: (عري)، بضم العين وسكون الراء، أي: مجرد من السرج، واسم الفرس: مندوب، ومعنى: (لم تراعوا): لا تراعوا أي: لا تخافوا.
661
((باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس))
284

أي: هذا باب في بيان أمر من رأى العدو قد أقبل فنادي بأعلى صوته: يا صباحاه، يعني: أغير عليكم في الصباح، أو قد أصبحتم فخذوا حذركم، وقال القرطبي: معناه الإعلام بهذا الأمر المهم الذي دهمهم في الصباح، قيل: لأنهم كانوا يغيرون وقت الصباح، وكأنه قيل: جاءت وقت الصباح فتأهبوا للقاء، فإن الأعداء يتراجعون عن القتال في الليل، فإذا جاء النهار عاودوه، والهاء فيه للندبة تسقط في الوصل، والرواية إثباتها، فتقف على الهاء، وهو منادى مستغاث، والألف فيه للاستغاثة، وقيل: الهاء فيه للسكت، كأنه نادى الناس استغاثة بهم في وقت الصباح، أي: وقت الغارة، والحاصل أنها كلمة يقولها المستغيث. قوله: حتى يسمع، أي: حتى إن يسمع، بضم الياء من الإسماع و: الناس، بالنصب مفعوله.
1403 حدثنا المكي بن إبراهيم قال أخبرنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة أنه أخبره قال خرجت من المدينة ذاهبا نحو الغابة حتى إذا كنت بثنية الغابة لقيني غلام لعبد الرحمان بن عوف قلت ويحك ما بك قال أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قلت من أخذها قال غطفان وفزارة فصرخت ثلاث صرخات أسمعت ما بين لابتيها يا صباحاه يا صباحاه ثم اندفعت حتى ألقاهم وقد أخذوها فجعلت أرميهم وأقول أنا ابن الأكوع. واليوم يوم الرضع فاستنقذتها منهم قبل أن يشربوا فأقبلت بها أسوقها فلقيني النبي صلى
الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن القوم عطاش وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم فابعث في إثرهم فقال يا ابن الأكوع ملكت فأسجع إن القوم يقرون في قومهم.
(الحديث 1403 طرفه في: 4914).
مطابقته للترجمة ظاهرة. والمكي، بتشديد الكاف والياء: ابن إبراهيم بن بشير بن فرقد البرجمي التميمي الحنظلي البلخي، ويزيد بن أبي عبيد مولى سلمة بن الأكوع.
وهذا الحديث من ثلاثيات البخاري الثاني عشر. وأخرجه أيضا في المغازي عن قتيبة. وأخرجه مسلم في المغازي والنسائي في اليوم والليلة جميعا عن قتيبة به. وهذا الحديث بأتم من هذا يأتي في غزوة ذي قرد، بفتح القاف والراء وبالدال المهملة، ويقال: بضمتين. وقال السهيلي: كذا لقيته مقيدا عن أبي علي، والقرد في اللغة الصوف الرديء، وهو على نحو يوم من المدينة.
قوله: (ذاهبا) حال. قوله: (نحو الغابة)، بالغين المعجمة وبعد الألف باء موحدة، وهي على بريد من المدينة في طريق الشام، وهي في الأصل: الأجمة والثنية في الجبل كالعقبة فيه. قوله: (أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم)، اللقاح: بكسر اللام: الإبل والواحدة: لقوح، وهي: الحلوب. وقال ابن سعد: كانت لقاح سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم عشرين لقحة ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها. قوله: (غطفان وفزارة)، بفتح الفاء: وهما قبيلتان من العرب وكان رأس القوم الذين أغاروا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان في خيل من غطفان. قوله: (ما بين لابتيها) أي: لابتي المدينة، واللابة: الحرة، وقد مر غير مرة. قوله: (ثم اندفعت)، أي: أسرعت في السير. قوله: (أنا ابن الأكوع): الأكوع لقب، واسمه: سنان بن عبد الله. قوله: (يوم الرضع)، بضم الراء وتشديد الضاد المعجمة بعدها عين مهملة، قال ابن الأنباري: هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه، أي: غذى به، وقيل: هو الذي يرضع ما بين أسنانه مستكثرا من الجشع بذلك، والجشع أشد الحرص. وقالت امرأة من العرب تذم رجلا: إنه لأكلة يكله يأكل من جشعه خلله. أي: ما يتخلل بين أسنانه. وقال أبو عمر: وهو الذي يرضع الشاة أو الناقة قبل أن يحلبها من شدة الشره، وقال قوم: الراضع الراعي لا يمسك معه محلبا، فإذا جاءه إنسان فسأله أن يسقيه احتج أنه لا محلب معه، وإذا أراد هو أن يشرب رضع الناقة أو الشاة. وقيل: هو رجل كان يرضع الغنم ولا يحلبها لئلا يسمع صوت الحلب فيطلب منه. وفي (الموعب): رضع الرجل رضاعة مثال كرم وهو رضيع وراضع: لئيم، وجمعه: راضعون. وقال ابن دريد: أصل الحديث أن رجلا من العمالقة طرقه ضيف ليلا فمص ضرع شاة لئلا يسمع الضيف صوت الشخب، فكثر حتى صار كل لئيم راضعا، فعل ذلك أو لم يفعل. وقيل: هو الذي يرضع طرف الخلال التي يخلل بها أسنانه ويمص ما يتعلق به، وقال السهيلي: اليوم يوم الرضع، برفعهما، وبنصب الأول ورفع الثاني: قلت: وجه رفعهما على كونهما مبتدأ وخبر، أو وجه
285

النصب على الظرفية، ويكون: يوم الرضع، مبتدأ وخبره الظرف فيما يتعلق قبله، تقديره: وفي هذا اليوم يوم الرضع، يعني: يوم هلاك اللئام. قوله: (فاستنقذتها) أي: استخلصتها منهم. قوله: (قبل أن يشربوا) أي: الماء، بدليل قوله: إن القوم عطاش. قوله: (فأقبلت بها) أي: باللقاح. قوله: (أسوقها) أي: حال كوني أسوق اللقاح التي أخذها غطفان وفزارة. قوله: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم) وكان ذلك عشاء. ومع النبي صلى الله عليه وسلم ناس، وتوضيح ذلك: أن عيينة بن حصن الفزاري لما أغار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم في خيل من غطفان أربعين فارسا، وكان ذلك ليلة أربعاء، جاء الصريخ فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها، فركب رسول الله، صلى الله عليه وسلم وخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعا، فوقف فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لواء في رمحه، وقال: إمض حتى تلحقك الخيول وأنا على إثرك، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، قال المقداد: فأدركت أخريات العدو وقد قتل أبو قتادة مسعدة، وقتل عكاشة أبان بن عمرو، وقتل المقداد حبيب بن عيينة وفرقد بن مالك بن حذيفة ابن بدر، وأدرك سلمة بن الأكوع القوم وهو على رجليه، فجعل يراميهم بالنبل، ويقول: خذها وأنا بن أكوع اليوم يوم الرضع، حتى انتهى بهم إلى ذي قرد، قال سلمة: فلحقنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس عشاء وهذا معنى قوله: (فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش) وهو جمع عطشان. قوله: (وإني أعجلتهم قبل أن يشربوا سقيهم)، بكسر السين وسكون القاف، وهو: الحظ من الشرب، و: أن يشربوا، مفعول له أي: كراهة شربهم. قوله: (فابعث في إثرهم) أي: قال سلمة: يا رسول الله! ابعث في إثرهم، وفي رواية ابن سعد قال سلمة: فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بأيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يا ابن الأكوع ملكت) من المملكة وهي أن يغلب عليهم ويستعبدهم، وهم في الأصل أحرار. قوله: (فاسجح)، بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الجيم وفي آخره حاء مهملة: من الإسجاح، وهو حسن العفو، أي: إرفق ولا تأخذ بالشدة، وهذا مثل من أمثال العرب. قوله: (إن القوم يقرون) أي: يضافون، يعني: أنهم وصلوا إلى غطفان وهم يضيفونهم ويساعدونهم فلا فائدة في الحال في البعث لأنهم لحقوا بأصحابهم، ويقرون هنا من القري وهو الضيافة، فراعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لهم رجاء توبتهم وإنابتهم. وقال ابن الجوزي: يقرون، بضم الياء والراء، وفسره بأنهم: يجمعون بين الماء واللبن، وقيل: يغزون، بغين معجمة وزاي، وهو تصحيف وفي كتاب (الدلائل) للبيهقي: إنهم ليغبقون الآن في غطفان، فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غيرة فتركوها وخرجوا هرابا. انتهى.
وتمام القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لقي سلمة لم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم حتى انتهوا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقائح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام بها يوما وليلة. وفي (الإكليل) للحاكم: باب غزوة ذي قرد، قال أبو عبد الله: هذه الغزوة هي الثالثة لذي قرد، فإن الأولى: سرية زيد بن حارثة في جمادي الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة. والثانية: خرج فيها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى فزارة، وهي على رأس تسعة وأربعين شهرا من الهجرة. وهذه الثالثة: التي أغار فيها
عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم فخرج أبو قتادة وابن الأكوع في طلبها، وذلك في سنة ست من الهجرة، وقال ابن إسحاق في غزوة ذي قرد: إنه كان أول ما بدر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس له، وكان يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه، ثم خرج يشد في آثار القوم، وكان مثل السبع حتى لحق بالقوم، فجعل يرميهم بالنبل، ويقول إذا رماها: خذها وأنا ابن الأكوع اليوم يوم الرضع. قال ابن إسحاق: وبلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع، فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع، فترامت الخيول إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن الأسود وجماعة آخرون، ذكرهم ابن إسحاق قال: وسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به الناس فأقام عليه يوما وليلة. وقال له سلمة بن الأكوع: يا رسول الله! لو سرحتني في مائة رجل
286

لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الآن ليغبقون في غطفان، وقسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم في كل مائة رجل جزورا، وأقاموا عليها ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة. انتهى. وقيل: كانت غيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم خمس ليال انتهى.
وفي الحديث: جواز الأخذ بالشدة، ولقاء الواحد أكثر من المثلين، لأن سلمة كان وحده وألقى، رضي الله تعالى عنه، بنفسه إلى التهلكة. وفيه: تعريف الإنسان بنفسه في الحرب بشجاعته وتقدمه. وفيه: فضل الرمي، على ما لا يخفى.
761
((باب من قال: خذها وأنا ابن فلان))
أي: هذا باب في بيان ذكر من قال عند ملاقاته العدو وهو يرمي: خذها، أي: الرمية، وتنوه باسمه، بقوله: وأنا ابن فلان، وقال ابن التين: وهي كلمة يقولها الرامي عندما يصيب فرحا، وكان ابن عمر إذا رمى فأصاب يقول: خذها وأنا أبو عبد الرحمن. ورمى بين الهدفين. وقال: أنا بها، وكان راميا يرمي الطير على سنام البعير فلا يخشى أن يصيب السنام، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا ابن العواتك.
وقال سلمة خذها وأنا ابن الأكوع
هذا مطابق للترجمة، وبيان لها وقطعة من الحديث المذكور قبله من حيث المعنى، وقيل: موقع هذا من الأحكام أنه خارج عن الافتخار المنهي عنه، لأن الحال يقتضي ذلك، وقال ابن بطال: معنى خذها وأنا ابن الأكوع، أنا ابن الأكوع المشهور في الرمي بالإصابة عن القوس، وهذا على سبيل الفخر، لأن العرب تقول: أنا ابن نجدتها، أي: القائم بالأمر، وأنا ابن جلا، يريد: المنكشف الأمر الواضح الجلي، ولا يقول مثل هذا إلا الشجاع البطل، والعادة عند العرب أن يعلم الشجاع نفسه بعلامة في الحرب يتميز بها من غيره ليقصده من يدعي الشجاعة.
2403 حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي إسحاق قال سأل رجل البراء رضي الله تعالى عنه فقال يا أبا عمارة أوليتم يوم حنين قال البراء وأنا أسمع أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول يومئذ كان أبو سفيان بن الحارث آخذا بعنان بغلته فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
* أنا النبي لا كذب
* أنا ابن عبد المطلب
*
قال فما رئي من الناس يومئذ أشد منه.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (أنا النبي لا كذب) لأن فيه تنويها بشجاعته وثباته في الحرب، وهذا أقوى من قول القائل: خذها وأنا ابن فلان.
وعبيد الله هو ابن موسى بن باذام أبو محمد العبسي الكوفي، وإسرائيل هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي جد إسرائيل المذكور.
والحديث مر في الجهاد في: باب من قاد دابة غيره في الحرب، ومر الكلام فيه هناك.
قوله: (يابا عمارة)، هو كنية البراء. قوله: (وأنا أسمع) من كلام أبي إسحاق والواو فيه للحال. قوله: (لم يول)، ويروى: فلم يول، على الأصل بالفاء، وقال ابن مالك: حذف الفاء جائز نظما ونثرا، يعني: لا يختص بالضرورة. قوله: (فلما غشيه المشركون)، أي: أحاطوا به (نزل) عن بغلته. قوله: (فما رئي)، بضم الراء وكسر الهمزة وفتح الياء. قوله: (منه) أي: من الرسول.
وقال الطبري: اختلف السلف: هل يعلم الرجل الشجاع نفسه عند لقاء العدو؟ فقال بعضهم: ذلك جائز على ما دل عليه هذا الحديث، وقد أعلم حمزة بن عبد المطلب، رضي الله تعالى عنه، نفسه يوم بدر بريشة نعامة في صدره، وأعلم نفسه أبو دجانة بعصابة بمحضر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان الزبير، رضي الله تعالى عنه، يوم بدر معمما بعمامة صفراء، فنزلت الملائكة معتمين بعمائم صفر. وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في قوله تعالى: * (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) *. انهم أتوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، مسومين بالصوف، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
وكره آخرون التسويم والأعلام في الحرب، وقالوا: فعل ذلك من الشهرة، ولا ينبغي
287

للمسلم أن يشهر نفسه في الخير ولا في الشر، قالوا: وإنما ينبغي للمؤمن إذا فعل شيئا لله تعالى أن يخفيه عن الناس: * (إن الله لا يخفى عليه شيء) * (آل عمران: 5). روي هذا عن بريدة الأسلمي.
والصواب مع الفريق الأول: أنه لا بأس بالتسويم والأعلام في الحرب إذا فعله من هو من أهل البأس والشدة والنجدة، وهو قاصد بذلك حث الناس على الثبات والصبر للعدو في الملاقاة، وفيه ترهيب العدو إذا عرفوا مكانه، وأما إذا لم يقصد ذلك بل قصد به الافتخار فهو مكروه، لأنه ليس ممن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإنما يقاتل للذكر.
861
((باب إذا نزل العدو على حكم رجل))
أي: هذا باب في بيان ما إذا نزل العدو من المشركين على حكم رجل من المسلمين، وجواب: إذا، محذوف، تقديره: ينفذ إذا أجازه الإمام.
3403 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة هو ابن سهل بن حنيف عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد هو ابن معاذ بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم وكان قريبا منه فجاء على حمار فلما دنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم فجاء فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إن هؤلاء نزلوا على حكمك قال فإني أحكم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى الذرية قال لقد حكمت فيهم بحكم الملك.
.
مطابقته للترجمة تفهم من معنى الحديث. وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي المدني، وأبو أمامة، بضم الهمزة وبالميمين: اسمه أسعد بن سهل بن حنيف، يروي عن أبي سعيد الخدري واسمه: سعد بن مالك بن سنان الأنصاري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في فضل سعد عن محمد بن عرعرة وفي الاستئذان عن أبي الوليد وفي المغازي عن بندار عن غندر. وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي موسى وبندار وعن زهير بن حرب. وأخرجه أبو داود في الأدب عن بندار به وعن حفص بن عمر. وأخرجه النسائي في المناقب عن عمرو بن علي عن غندر به وفي السير وفي الفضائل عن إسماعيل بن مسعود.
ذكر معناه: قوله: (بنو قريظة)، بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالظاء المعجمة، وهم قبيلة من اليهود كانوا في قلعة فنزلوا على حكم سعد بن معاذ. قوله: (بعث)، جواب: لما، أي: بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم يطلبه. قوله: (أن تقتل المقاتلة)، أي: الطائفة المقاتلة منهم، أي: البالغون (والذرية): النساء والصبيان. قوله: (بحكم الملك)، بكسر اللام وهو: الله تعالى، وفي بعض الروايات: بحكم الله تعالى، وقال القاضي عياض، ضبط بعضهم في (صحيح البخاري) كسرها وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد به جبريل، عليه الصلاة والسلام، وتقديره: بالحكم الذي جاء به الملك عن الله تعالى، ورد هذا عن ابن الجوزي من وجهين: أحدهما: ما نقل أن ملكا نزل من السماء في شأنهم بشيء، ولو نزل بشيء أتبع وترك اجتهاد سعد. والثاني: في بعض ألفاظ الصحيح، كما سيأتي في موضعه: قضيت بحكم الله، وقال ابن التين: المعنى كله واحد على الكسر والفتح، وقيل: في الوجه الأول نظر، لأن في غير رواية البخاري: قال في حكم سعد بذلك: طرقني الملك سحرا.
ذكر ما يستفاد منه فيه: لزوم حكم المحكم برضى الخصمين، سواء كان في أمور الحرب أو غيرها، وهو رد على الخوارج الذين أنكروا التحكيم على علي، رضي الله تعالى عنه. وفيه: أن النزول على حكم الإمام أو غيره جائز، ولهم الرجوع عنه ما لم يحكم، فإذا حكم فلا رجوع، ولهم أن ينقلوا من حكم رجل إلى غيره. وفيه: أن التحاكم إلى رجل معلوم الصلاح والخير لازم للمتحاكمين، فكيف بيننا وبين عدونا في الدين والمال أخف مؤونة من النفس والأهل؟ وفيه: أمر السلطان والحاكم
288

بإكرام السيد من المسلمين وإكرام أهل الفضل في مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه وسادة أتباعه، وإلزام الناس كافة بالقيام إلى سيدهم، ولا يعارض هذا حديث معاوية: من سره أن يتمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار، لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أو يسخط أن لا يقام له، وقال القرطبي: إنما المكروه القيام للمرء وهو جالس، قال: وتأول بعض أصحابنا. قوله: (قوموا إلى سيدكم) على أن ذلك مخصوص بسعد، وقال بعضهم: أمرهم بالقيام لينزلوه عن الحمار لمرضه، وفيه بعد، وقال السهيلي: وقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لصفوان بن أمية ولعدي بن حاتم حين قدما عليه وقام لمولاه زيد بن حارثة ولغيره أيضا، وكان يقوم لابنته فاطمة، رضي الله تعالى عنها، إذا دخلت عليه، وتقوم له إذا قدم عليها، وقام لجعفر ابن عمه. وفيه: جواز قول الرجل للآخر: يا سيدي، إذا علم منه خيرا أو فضلا، وإنما جاءت الكراهة في تسويد الرجل الفاجر. وفيه: أن للإمام إذا ظهر من قوم من أهل الحرب الذي بينه وبينهم هدنة على خيانة وغدر أن ينبد إليهم على سواء، وأن يحاربهم، وذلك أن بني قريظة كانوا أهل موادعة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الخندق، فلما كان يوم الأحزاب ظاهروا قريشا وأبا سفيان على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وراسلوهم: إنا معكم فاثبتوا مكانكم، فأحل الله بذلك من فعلهم قتالهم ومنابذتهم على سواء، وفيهم أنزلت: * (وإما نخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء..) * (الأنفال: 85). الآية، فحاصرهم والمسلمون معه حتى نزلوا على حكم سعد، رضي الله تعالى عنه.
961
((باب قتل الأسير صبرا وقتل الصبر))
أي: هذا باب في بيان حكم قتل الأسير صبرا، أي: من حيث الصبر، والصبر في اللغة: الحبس، ويقال للرجل، إذا شدت يداه ورجلاه ورجل يمسكه حتى يضرب عنقه: قتل صبرا، وفي الحديث أنه نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا، هو أن يمسك من ذوات الروح شيء حيا ثم يرمي بشيء حتى يموت، وهو معنى قوله: وقتل الصبر، وفي رواية الكشميهني: باب قتل الأصير صبرا، وليس في روايته: وقتل الصبر، وهذا اللفظ زائد لا طائل تحته.
4403 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عبد الله بن خطل صبرا، و ه حاد الله ورسوله وارتد عن الإسلام وقتل مسلما كان يخدمه، وكان يهجو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين. والحديث قد مر بعينه في أواخر كتاب الحج في: باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام، ومر الكلام فيه مستوفى، والمغفر، بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء وفي آخره راء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة.
071
((باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأثر ومن ركع ركعتين عند القتل))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يستأسر الرجل؟ أي: هل يطلب أن يجعل نفسه أسيرا؟ يعني: هل يسلم نفسه للأسر أم لا؟ وهذه الترجمة مشتملة على ثلاثة أشياء: الأول: هو قوله: (هل يستأسر الرجل؟). والثاني: هو قوله: (ومن لم يستأسر)، أي: وفي بيان من لم يسلم نفسه للأسر. والثالث: هو قوله: (من ركع ركعتين عند القتل) أي: وفي بيان من صلى ركعتين عند القتل.
5403 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي وهو حليف لبني زهرة وكان من أصحاب أبي هريرة أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن
289

ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقالوا لهم انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا قال عاصم بن ثابت أمير السرية أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر أللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي في هؤلاء لأسوة يريد القتلى فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي فقال تخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذالك والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين ثم قال لولا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها أللهم أحصهم عددا
* ما أبالي حين أقتل مسلما
* على أي شق كان لله مصرعي
*
* وذالك في ذات الإلاه وإن يشأ
* يبارك على أوصال شلو ممزع
*
فقتله ابن الحارث فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرىء مسلم قتل صبرا فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا.
.
المطابقة من الحديث للجزى الأول وهو قوله: هل يستأسر الرجل في قوله: (فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق) وللجزء الثاني، وهو قوله: ومن لم يستأسر، في قوله: (قال عاصم بن ثابت أمير السيرة: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم
290

في ذمة كافر)، وللجزء الثالث، وهو قوله: ومن صلى ركعتين عند القتل. في قوله: (قال لهم خبيب: ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين).
ذكر رجاله وهم خمسة: الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع. الثاني: شعيب بن أبي حمزة. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: عمرو، بفتح العين المهملة، وقال بعض أصحاب الزهري: عمر، بضم العين، وقال يونس من رواية أبي صالح عن الليث عن يونس وابن أخي الزهري وإبراهيم بن سعد، عمر، بضم العين، غير أن إبراهيم نسبه إلى جده، فقال: عمر بن أسيد. قال البخاري في (تاريخه): الصحيح: عمرو بن أبي سفيان بن أسيد، بفتح الهمزة وكسر السين المهملة: ابن جارية بالجيم الثقفي حليف لبني زهرة، بضم الزاي وسكون الهاء. الخامس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن أبي اليمان أيضا وفي المغازي عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل وعن محمد بن عوف عن أبي اليمان، وأخرجه النسائي في السير عن عمران بن بكار، وفيه الشعر دون الدعاء.
ذكر معناه: قوله: (عشرة رهط)، الرهط من الرجال ما دون العشرة، وقيل: إلى أربعين، ولا يكون فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه. وقال محمد بن إسحاق: حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة. قال: (قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رهط من عضل والقارة، وقالوا: يا رسول الله! إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نفرا ستة من أصحابه، وهم: مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب وهو أمير القوم، وخالد بن بكير الليثي حليف بني عدي أخو بني حججبي، وثابت بن أبي الأفلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، والأصح ما قاله البخاري: عشرة رهط وأميرهم عاصم بن ثابت، على ما مر. قوله: (سرية)، نصب على البيان، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعها السرايا: سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السري النفيس، وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية وليس بوجه، لأن لام السر: راء، وهذه: ياء، وهذه السرية تسمى: سرية الرجيع، وهي غزوة الرجيع. قال ابن سعد: كانت في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا، وذكرها ابن إسحاق: في صفر سنة أربع من الهجرة، والرجيع على ثمانية أميال من عسفان. وقال الواقدي: سبعة أميال. وقال البكري: الرجيع، بفتح أوله وبالعين المهملة في آخره: ماء لهذيل لبني لحيان منهم بين مكة وعسفان بناحية الحجاز، وعسفان قرية جامعة منها إلى كراع الغميم ثمانية أميال، والغميم، بالغين المعجمة: واد، والكراع: جبل أسود عن يسار الطريق شبيه بالكراع، ومن كراع الغميم إلى بطن مر خمسة عشر ميلا، ومن مر إلى سرف سبعة أميال، ومن سرف إلى مكة ستة أميال. قوله: (عينا)، أي: جاسوسا، وانتصابه على أنه بدل من: سرية. قوله: (وأمر)، بتشديد الميم من التأمير، أي: جعل عاصم بن ثابت أميرا على الرهط المذكور، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، واسمه قيس بن عصمة بن النعمان بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن مالك، بن عوف ابن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، يكنى أبا سليمان شهد بدرا، وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب لأمه، لأن أم عاصم جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح، أخت عاصم بن ثابت، وكان اسمها: عاصية، فسماها رسول الله، صلى الله عليه وسلم جميلة، وقيل: هو خاله لا جده. قوله: (بالهداة)، بفتح الهاء وسكون الدال المهملة وفتح الهمزة، وهو: موضع بين عسفان ومكة. قوله: (ذكروا)، على صيغة المجهول. قوله: (من هذيل)، هو ابن مدركة بن الياس بن مضر، قال ابن دريد: من الهذل، وهو الاضطراب. قوله: (بنو لحيان)، بكسر اللام، وحكى صاحب (المطالع) فتحها، ولحيان من هذيل، وقال الرشاطي: إنهم من بقايا جرهم دخلوا في هذيل، وعن ابن دريد: اشتقاقه من اللحى، واللحي من قولهم: لحيت العود ولحوته: إذا قشرته. قوله: (فنفروا لهم)، بتشديد الفاء أي: استنجدوا لأجلهم قريبا من مائتي رجل. وفي رواية: (فنفر إليهم قريب من مائة رجل)، بتخفيف الفاء أي: خرج إليهم، فكأنه قال: نفروا مائتي رجل، ولكن ما تبعهم إلا مائة. وفي رواية أخرى: (فنفذوا)، بالذال المعجمة.
291

قوله: (فاقتصوا آثارهم)، أي: اتبعوها، وقال ابن التين: ويجوز بالسين. قوله: (مأكلهم) اسم مكان منصوب بتقدير الجار، وذلك جائز، نحو: رميت مرمى زيد. قوله: (تزودوه)، جملة في محل النصب على أنها صفة لتمر. قوله: (فلما رآهم عاصم) كذا هو في (الصحيح) و (شرح ابن بطال) وذكره بعض الشراح بلفظ: فلما أحس بهم، ثم قال: أي: علم. قال تعالى: * (هل تحس منهم من أحد) * (مريم: 89). وفي (سنن أبي داود): حس بغير ألف. قوله: (لجأوا) أي: استندوا (إلى فدفد) بفاءين مفتوحتين بينهما دال مهملة ساكنة، وهو الموضع المرتفع الذي فيه غلظ وارتفاع، وقال ابن فارس: إنه الأرض المستوية، وظاهر الحديث أنه مكان مشرف تحصنوا فيه، وفي رواية أبي داود): (إلى قردد)، بقاف مفتوحة وراء ساكنة ثم بدالين مهملتين وهما سواء. قوله: (العهد)، أي: الذمة. قوله: (بالنبل)، أي: السهام العربية. قوله: (في سبعة)، أي: في جملة سبعة، والحاصل أن السبعة من العشرة قتلوا، وعن ابن إسحاق: الذين قتلوا ثلاثة، لأنا قد ذكرنا عنه عن قريب أن الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ستة، وقد ذكرناهم، وقال ابن إسحاق: غدروا بهم على الرجيع فاستصرخوا عليهم هذيلا فل يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم وقاتلهم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقتل منهم ثلاثة وأسر منهم ثلاثة، وهم: زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق، وعند البخاري: القتلى سبعة، والذين أسروا ثلاثة، وهو قوله: (فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد) أي: بالذمة. قوله: (ومنهم) أي: من هؤلاء (خبيب) بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف بعدها باء موحدة أخرى: ابن عدي الأنصاري الأوسي من بني حججبي بن كلفة بن عمرو بن عوف من البدريين. قوله: (وابن الدثنة)، وهو زيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وسكونها والنون: ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي، شهد بدرا وأحدا. قوله: (ورجل آخر)، هو عبد الله بن طارق بينه ابن إسحاق في روايته وهو عبد الله بن طارق بن عمرو بن مالك البلوي حليف لبني ظفر من الأنصار، شهد بدرا وأحدا. قوله: (فقال الرجل الثالث): هو عبد الله بن طارق. قوله: (هذا أول الغدر)، ويروى: هذا أوان الغدر. قوله: (فجروه)، ويروى: فجروه، بالفاء، ويروى بالواو. قوله: (فأبى)، أي: فامتنع من الرواح معهم فقتلوه، وقبره بم الظهران.
قال أبو عمر: لما أسروا الثلاثة خرجوا بهم إلى مكة حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من الوثاق وأخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة فقتلوه. قوله: (فابتاع)، أي: اشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر. قوله: (وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر)، وقال ابن إسحاق: ابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليفا لهم، وكان جحير أخا الحارث بن عامر لأمه فابتاعه لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه، وقيل: اشترك في ابتياعه أبو إهاب بن عزيز، وعكرمة بن أبي جهل، والأخنس بن أبي شريق، وعبيدة بن حكيم بن الأوقص، وأمية بن أبي عتبة، وبنو الحضرمي، وصفوان بن أمية، وهم أبناء من قتل من المشركين ببدر، ودفعوه إلى عقبة فسجنه حتى انقضت الأشهر الحرم فصلبوه بالتنعيم، فأخبرني عبيد الله بن عياض: القائل بهذا هو ابن شهاب الزهري، وعبيد الله، بضم العين مصغر ابن عياض، بكسر العين المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف وفي آخره ضاض معجمة: ابن عمرو القاري، من القارة، حجازي، وسمع عبيد الله هذا عن عائشة وغيرها، قاله المنذري ولم يذكره أحد في رجال البخاري، كما ادعاه الدمياطي، نعم ذكره المزي، وهو والد محمد. قوله: (إن بنت الحارث أخبرته) قال ابن إسحاق: اسمها مارية، وقيل: ماوية، وهي مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت زوج عقبة بن الحارث وسماها ابن بطال: جويرة، وفي (معجم البغوي): مارية بنت حجير بن أبي إهاب. وقال الواقدي: هي مولاة بني عبد مناف. وقال الحميدي في (جمعه) رواية عبيد الله عنها هنا إلى قوله: فلما خرجوا من الحرم. قوله: (استعار منها موسى)، وجاز صرفه لأنه مفعل، وعدم صرفه لأنه على خلاف بين الصرفيين. قوله: (يستحد بها)، من الاستحداد، وهو حلق شعر العانة، وهو استفعال من الحديد، استعمل على طريق الكناية والتورية، وذلك لئلا يظهر شعر عانته عند قتله. قوله: (فأخذ إبنا لي) أي: فأخذ خبيب ابنا لي، والحال أنا غافلة حين أتاه، ويروى: حتى أتاه، واسم الابن: أبو الحسين ابن الحارث بن عامر بن نوفل، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي حسين المكي شيخ مالك رضي الله تعالى عنه. قوله: (فوجدته)، أي: وجدت خبيبا (مجلسه) أي: مجلس ابني، بضم الميم وسكون
292

الجيم وكسر اللام: من الإجلاس، والواو وفي: (الموسى بيده) للحال. قوله: (ففزعت فزعة) أي: خفت خوفا. قوله: (من قطف عنب)، بكسر القاف وهو العنقود. قوله: (وإنه لموثق) أي: المربوط في الحديد، والواو فيه للحال، وكذا الواو في: قوله: (وما بمكة من ثمر) بالثاء المثلثة وفتح الميم. قوله: (ذروني)، أي: اتركوني. قوله: (فركع ركعتين) أي: صلى ركعتين، وهو أول من صلى ركعتين عند القتل. قوله: (جزع)، بفتح الجيم والزاي، وهو نقيض الصبر. قوله: (اللهم إحصهم عددا) دعاء عليهم بالهلاك استئصالا أي: لا تبق منهم أحدا، ويروى بعده: واقتلهم بددا، بفتح الباء الموحدة، والبدد: التفرق. قال السهيلي: ومن رواه بكسر الباء فهو جمع بدة، وهي: الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد، ونصبه على الحال من المدعو، وبالفتح مصدر. قوله: (ما أبالي) إلى آخره. بيتان أنشدهما بعد الفراغ من دعائه عليهم، وهما من بحر الطويل، والصحيح: ولست أبالي، وعلى الرواية الأولى فيه: وهما من قصيدة أولها هو قوله:
* لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا
* قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
*
* وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
* وقربت من جزع طويل ممنع
*
* وكلهم يبدي العداوة جاهدا
* علي لأني في وثاق بمضيع
*
* إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
* وما جمع الأحزاب لي عند مصرع
*
* يذا العرش صبرني على ما أصابني
* وقد بضعوا لحمي وقد قل مطمع
*
* وذلك في ذات الإله وإن يشأ
* يبارك على أوصال شلو ممزع
*
* وقد عرضوا بالكفر والموت دونه
* وقد ذرفت عيناي من غير مدمع
*
* وما بي حذار الموت، إني لميت
* ولكن حذاري حر نار تلفع
*
* فلست بمبد للعدو تخشعا
* ولا جزعا إني إلى الله مرجع
*
* ولست أبالي حين أقتل مسلما
* على أي شق كان لله مضجع
*
وقال ابن هشام: أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها له. قوله: الأحزاب، الجمع من طوائف مخلفة. قوله: وألبوا، أي: جمعوا قبائلهم، قال الجوهري: ألبت الجيش: إذا جمعته، وتألبوا تجمعوا. قوله: بمضيع، موضع الضياع أي: الهلاك. قوله: يذا العرش، أصله: يا ذا العرش، حذفت الألف للضرورة. قوله: (بضعوا)، أي: قطعوا قطعا قطعا. قوله: (في ذات الإله)، أي: في وجه الله وطلب ثوابه. قوله: (أوصال)، جمع وصل. قوله: شلو، بكسر الشين المعجمة وسكون اللام: العضو. قوله: ممزع، أي: مقطع والمزعة: القطعة. قوله: تلفع، من لفعته النار إذ شملته من نواحيه وأصابه لهيبها. قوله: فلست بمبد: أي: بمظهر. قوله: ولا جزعا: الجزع قلة الصبر. قوله: (فقتله ابن الحارث) وهو: عقبة بن الحارث، وقيل: أخوه، وكلاهما أسلم بعد ذلك، وقال أبو عمر: روى سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر أنه سمعه يقول: الذي قتل خبيبا أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل، وكان القتل بالتنعيم، وأبو سروعة، بكسر السين المهملة، وقيل: بفتحها وفتح الراء، وقيل: بفتح السين وضم الراء. قوله: (حين حدثوا)، على صيغة المجهول، أي: حين أخبروا بقتل عاصم بن ثابت. قوله: (ليؤتوا)، على صيغة المجهول. قوله: (بشيء منه)، أي: من عاصم، يعني بقطعة منه يعرف بها. قوله: (وكان قد قتل)، أي: وكان عاصم قد قتل رجلا من عظمائهم، أي: من أشرافهم وأكابرهم يوم بدر، وهو عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أبي أمية بن عبد شمس، وكان عاصم قتل يوم أحد فتبين من عبد الدار أخوين أمهما سلاقة بنت سعد بن شهيد، وهي التي نذرت إن قدرت على قحف عاصم لتشربن فيه الخمر. قوله: (مثل الظلة)، بضم الظاء المعجمة وتشديد اللام: وهي السحابة المظلة كهيئة الصفة. قوله: (من الدبر)، بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة وفي آخره راء، وهي: ذكور النحل، وقال القزاز: الدبر الزنابير واحدها: دبرة، وقال ابن فارس: هي النحل جمعه: دبور، وقال ابن بطال: الدبر جماعة النحل لا واحد لها. قوله: (فحمته)، أي: حفظته، ويقال: حمته، أي: عصمته، ولهذا سمي عاصم محمي الدبر، فعيل بمعنى مفعول، ويقال: لما عجزوا قالوا: إن الدبر يذهب بالليل، فلما جاء الليل أرسل الله سيلا فاحتمله فلم يجدوه، وقيل: إن الأرض
293

ابتلعته، والحكمة فيه: أن الله حماه من قطع شيء من جسده، وما حماه من القتل، إذا القتل موجب للشهادة، ولا ثواب في القطع مع ما فيه من هتك حرمته.
ذكر ما يستفاد منه: في نزول خبيب وصاحبه جواز أن يستأسر الرجل، قال المهلب: إذا أراد أن يأخذ بالرخصة في إحياء نفسه فعل كفعل هؤلاء، وعن الحسن: لا بأس أن يستأسر الرجل إذا خاف أن يغلب. وقال الثوري: أكره للأسير المسلم أن يمكن من نفسه إلا مجبورا، وعن الأوزاعي: لا بأس للأسير المسلم أن يأبى أن يمكن من نفسه، بل يأخذ بالشدة والإباء من الأسر والأنفة من أن يجري عليه ملك كافر، كما فعل عاصم. وفيه: استيثار الاستحداد لمن أسر ولمن يقتل، والتنظيف لمن يصنع بعد القتل لئلا يطلع منه على قبح عورة. وفيه: أداء الأمانة إلى المشرك وغيره. وفيه: التورع من قتل أطفال المشركين رجاء أن يكونوا مؤمنين. وفيه: الامتداح بالشعر حين ينزل بالمرء هو أن في دين أو ذلة القتل يرغم بذلك أنف عدوه ويحدد في نفسه صبرا وأنفة. وفيه: كرامة كبيرة لخبيب في أكله من قطف عنب في غير أوانه، وقال ابن بطال: هذا ممكن أن يكون آية لله على الكفار وتصحيحا لرسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، عند الكفار من أجل ما كانوا عليه من تكذيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وفيه: علامة من علامات نبوته بإجابة دعوة عاصم بأن أخبر الله نبيه محمدا، صلى الله عليه وسلم، بالخبر قبل بلوغه على ألسنة المخلوقين.
261
((باب فكاك الأسير))
أي: هذا باب في بيان وجوب فكاك الأسير من أيدي العدو بمال أو غيره، والفكاك، بفتح الفاء أي التخليص، ويجوز بالكسر.
فيه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في الباب: روى عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري. وأخرج البخاري حديثه هنا عن قتيبة، وفي الأطعمة وفي النكاح وفي الأحكام: عن مسدد، وفي الطب: عن قتيبة أيضا. وأخرجه أبو داود في الجنائز عن محمد بن كثير. وأخرجه النسائي في السير وفي الطب عن قتيبة وفي الطب أيضا عن محمود بن غيلان.
6403 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكوا العاني يعني
الأسير وأطعموا الجائع وعودوا المريض.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فكوا العاني) وهو: الأسير، وجرير بن عبد الحميد، ومنصور بن المعتمر، وأبو وائل شقيق بن سلمة.
قوله: (العاني)، بالعين المهملة وبالنون: مثل القاضي، من: عنا يعنو فهو عان، والجمع: عناة، والمرأة عانية، والجمع: عوان، وقال ابن الأثير: والعاني الأسير وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا، وقد فسره، إما قتيبة أو جرير، بقوله: يعني الأسير، وفكاك الأسير فرض على الكفاية، قال ابن بطال: على هذا كافة العلماء، وعن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فكاك أسرى المسلمين من بيت المال، وبه قال إسحاق، وعن الحسن بن علي: هو على أهل الأرض التي يقاتل عليها، وعن أحمد يفادون بالرؤوس، وأما بالمال فلا أعرفه. والحديث عام، فلا معنى لقول أحمد: وقد قال عمر بن عبد العزيز، إذا خرج الذمي بالأسير من المسلمين فلا يحل للمسلمين أن يردوه إلى الكفر فيفادوه بما استطاعوا. قوله: (وأطعموا الجائع)، عام يتناول كل جائع من بني آدم وغيرهم، وإطعام الجائع فرض على الكفاية، فلو أن رجلا يموت جوعا وعند آخر ما يحييه به بحيث لا يكون في ذلك الموضع أحد غيره، ففرض عليه إحياء نفسه وإذا ارتفعت حالة الضرورة كان ذلك ندبا. قوله: (وعودوا المريض)، و: عودوا، أمر من العيادة، وعيادة المريض فرض كفاية أيضا، وقيل: سنة مؤكدة.
294

7403 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا مطرف أن عامرا حدثهم عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال قلت لعلي رضي الله تعالى عنه هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وفكاك الأسير). وأحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله التميمي اليربوعي الكوفي، وزهير هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي، سكن الجزيرة، ومطرف، بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء وبالفاء: ابن طريف الحارثي أبو بكر الكوفي، وعامر هو الشعبي، وأبو جحيفة، بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الفاء: واسمه وهب بن عبد الله السوائي.
والحديث مر في كتاب العلم في: باب كتابة العلم فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن سلام عن وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي جحيفة... إلى آخره نحوه، ومضى الكلام فيه هناك.
قوله: (والذي فلق الحبة)، من أيمان العرب، ومعنى: فلق الحبة: شقها في الأرض حتى تنبث ثم أثمرت، فكان منها حب كثير، وكل شيء شققته فقد فلقته. قوله: (وبرأ) أي: خلق. (والنسمة) الإنسان والنفس. قوله: (فهما)، بسكون الهاء وفتحها. قوله: (العقل) الدية.
271
((باب فداء المشركين))
أي: هذا باب في بيان فداء المشركين بمال يؤخذ منهم.
8403 حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ابن عقبة عن موسى ابن عقبة عن ابن شهاب قال حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول لله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن فلنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال لا تدعون منه درهما.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (إيذن لنا..) إلى آخر الحديث. والحديث مضى في كتاب العتق في: باب إذا أسر أخو الرجل، وقال الإسماعيلي: لم يسمع موسى بن عقبة من ابن شهاب، قلت: الإثبات أولى من النفي. قوله: (لا تدعون)، أي: لا تتركون، ويروى: لا تدعوا على صيغة الأمر. قوله: (منه)، ويروى: منها.
9403 وقال إبراهيم عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فجاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال خذ فأعطاه في ثوبه.
(انظر الحديث 124 وأطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إنه في ذكر الفداء، وهذا تعليق أورده مختصرا، وذكره معلقا أيضا بأتم منه في الصلاة في أبواب المساجد في: باب القسمة وتعليق القنو في المسجد، وإبراهيم هو ابن طهمان، صرح بذكره هناك، وهنا ذكره مجردا ولم ينسبه، ومضى الكلام فيه هناك.
0503 حدثني محمود قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن محمد ابن جبير عن أبيه وكان جاء في أساري بدر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور.
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان جاء في أسارى بدر) أي: جاء في طلب فداء أسارى بدر، ومحمود هو ابن غيلان المروزي
295

وجبير مصغر ضد كسير ابن مطعم، بلفظ اسم الفاعل من الإطعام، كان من سادات قريش، أسلم يوم الفتح، وكان حين جاء في فداء أسارى بدر وفكاكهم كافرا، قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر، فوافيته وهو يصلي بأصحابه المغرب، فسمعته وهو يقرأ، وقد خرج صوته من المسجد: * (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) * (الطور: 7 8). قال: فكأنما صدع قلبي، فلما فرغ من صلاته كلمته في الأسارى، فقال: لو كان أبوك حيا فأتانا فيهم لقبلنا شفاعته. وذلك أنه كانت له عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم يد. قوله: (يقرأ في المغرب بالطور) أي: يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، وقد مضى هذا في كتاب الصلاة، في: باب الجهر في المغرب، ومضى الكلام فيه.
371
((باب الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان))
أي: هذا باب في بيان حكم الحربي من أهل دار الحرب إذا دخل دار الإسلام بغير أمان ما يكون أمره؟ هل يجوز قتله أم لا؟ لم يذكر الجواب لأجل الاختلاف فيه، فقال مالك: يتخير فيه الإمام وحكمه حكم أهل الحرب. وقال الأوزاعي والشافعي: إن ادعى أنه رسول قبل منه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد: لا يقبل ذلك منه، وهو فيء للمسلمين. وقال محمد: هو لمن وجده.
1503 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا أبو العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس عند أصحابه يتحدث ثم انفتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم اطلبوه واقتلوه فقتله فنفله سلبه.
قيل: لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن الحديث في عين المشركين وهو جاسوسهم، والترجمة في الحربي المطلق الذي يدخل بغير أمان. وأجيب: بأن العين المذكورة في الحديث أوهم أنه ممن له أمان، فلما قضى حاجته من التجسس انفتل مسرعا، فعلموا أنه حربي دخل بغير أمان، فلهذا قتل.
وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو العميس، بضم العين المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة: واسمه عتبة، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق: ابن عبد الله الهلالي مر في كتاب الإيمان، وإياس، بكسر الهمزة وتخفيف الياء آخر الحروف وبالسين المهملة: ابن سلمة، بفتح اللام: ابن الأكوع.
والحديث أخرجه أبو داود في الجهاد أيضا عن الحسن بن علي عن أبي نعيم. وأخرجه النسائي في السير عن أحمد بن سليمان.
قوله: (عين)، أي: جاسوس. قوله: (في سفر)، بينه مسلم فإنه أخرج الحديث في المغازي عن زهير بن حرب عن عمر ابن يونس عن عكرمة بن عمار عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه: غزونا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم هوازن يعني: حنينا فبينا نحن نتضحى مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ثم انتزع طلقا من جعبته فقيد به الجمل، ثم تقدم فتغدى مع القوم، وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة من الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم قعد عليه فاشتد به الجمل، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء، قال سلمة: وخرجت اشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبتيه على الأرض ضربت رأسه، فبدر ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله، صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع. قال: له سلبه أجمع. وعند الإسماعيلي فقال صلى الله عليه وسلم: علي بالرجل، اقتلوه، فابتدره القوم، وفي رواية: قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه عين من المشركين، فقال: من قتله فله سلبه. قوله: (ثم انفتل) أي: ثم انصرف. قوله: (اطلبوه واقتلوه) وفي رواية أبي نعيم في (المستخرج) من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس: أدركوه فإنه عين، وفي رواية أبي داود: فسبقتهم إليه فقتلته، وفاعل: اسبقتهم، سلمة بن الأكوع، وكذلك فاعل: فقتلته. قوله: (فقتله)، أي: فقتله سلمة. وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب، والقياس: فقتلته، بالإخبار عن نفسه كما في رواية أبي داود، وهكذا روى أيضا هنا. قوله: (فنفله)، أي: فنفل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سلب هذا العين سلمة، وفيه التفات أيضا، والقياس فقتلته ونفلني سلبه، أي: أعطاه ما سلب منه، وأما النفل في اصطلاح الفقهاء ما شرطه الأمير لمتعاطي خطر، والسلب
296

بفتح اللام: مركب المقتول وثيابه وسلاحه وما معه على الدابة من ماله في حقيبته أو في وسطه، وما عدا ذلك فليس بسلب، وكذلك ما كان مع غلامه على دابة أخرى.
وفيه: قتل الجاسوس الحربي، وعليه الإجماع. وأما الجاسوس المعاهد أو الذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضا للعهد، فإن رأى الإمام استرقاقه أرقه، ويجوز قتله، وعند الجمهور: لا ينتقض عهده بذلك إلا أن يشترط عليه انتقاضه به، وأما الجاسوس المسلم فعند أبي حنيفة والشافعي وبعض المالكية: يعزر بما يراه الإمام إلا القتل. وقال مالك: يجتهد فيه الإمام. وقال عياض: قال كبار أصحابه: يقتل. واختلفوا في تركه بالتوبة، فقال ابن الماجشون: إن عرف بذلك قتل، وإلا عزر، والله أعلم.
471
((باب يقاتل عن أهل الذمة ولا يسترقون))
أي: هذا باب يذكر فيه يقاتل عن أهل الذمة أي: عن أهل الكتاب لأنهم إنما بذلوا الجزية على أن يأمنوا في أنفسهم وأموالهم وأهليهم فيقاتل عنهم، كما يقاتل عن المسلمين. قوله: (ولا يسترقون)، على صيغة المجهول، وفي (التوضيح): وما ذكر من الاسترقاق فليس في الخبر. قلت: هذا من كلام ابن التين: وأجيب: بأنه أخذه من قوله في الحديث: (وأوصيه بذمة الله) فإن مقتضى الوصية بالإشفاق أن لا يدخلوا في الاسترقاق. قلت: يحتمل أنه ذكره لمكان الخلاف فيه، فإن مذهب ابن القاسم: أنهم يسترقون إذا نقضوا العهد، وخالفه أشهب، وقيل: أغرب ابن قدامة فحكى الإجماع، فكأنه لم يطلع على خلاف ابن القاسم. قلت: يحتمل أنه أراد به إجماع الأئمة
الأربعة.
2503 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن حصين عن عمرو بن ميمون عن عمر رضي الله تعالى عنه قال وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأن يقاتل من ورائهم)، وأبو عوانة، الوضاح اليشكري، وحصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين: ابن عبد الرحمن السلمي. والحديث قد مر مطولا في كتاب الجنائز في: باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (بذمة الله) أي: عهد الله. قوله: (وأن يقاتل من ورائهم) أراد به دفع الكافر الحربي، ونحوه عنهم. قوله: (ولا يكلفوا)، على صيغة المجهول من التكليف، ومعناه: أن لا يزيدوا على مقدار الجزية.
571
((باب جوائز الوفد))
671
((باب هل يستشفع إلى أهل الذمة ومعاملتهم))
أقول: هكذا وقع هذان البابان، وليس بينهما شيء في جميع النسخ من طريق الفربري، إلا أن في رواية أبي علي بن بن شبويه عن الفربري وقع: باب جوائز الوفد، بعد: باب هل يستشفع، وكذا وقع عند الإسماعيلي، وهذا أصوب لأن حديث الباب مطابق لترجمة جوائز الوفد، لقوله فيه: وأجيزوا الوفد، بخلاف الترجمة الأخرى، وكان البخاري وضع هاتين الترجمتين وأخلى بينهما بياضا ليجد حديثا يناسبهما، فلم يتفق ذلك، ثم إن النساخ أبطلوا البياض وقرنوا بينهما، وليس في رواية النسفي: باب جوائز الوفد، بل الذي وقع عنده: باب هل يستشفع إلى أهل الذمة، وأورد فيه حديث ابن عباس، وفي طلب المطابقة بينهما تعسف، ولقد تكلف بعضهم في توجيه المطابقة، فقال: ولعله من جهة أن الإخراج يعني في قوله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، يقتضي رفع الاستشفاع، والحض على إجازة الوفد يقتضي حسن المعاملة. أو لعل: إلى، في الترجمة بمعنى: اللام، أي: هل يستشفع لهم عند الإمام وهل يعاملون...؟ انتهى. قلت: قوله يقتضي رفع الاستشفاع، يقتضي العمل برفع الاستشفاع والعمل بالاقتضاء يكون عند الضرورة ولا ضرورة ههنا، والإخراج معناه معلوم وليس فيه معنى الاقتضاء.
297

والوفد أعم من أن يكون من المسلمين أو من المشركين، والمواضع التي تذكر فيها أن إلى بمعنى اللام إنما معنى: إلى، فيها على أصلها بمعنى الانتهاء، فافهم، وههنا لا يتأتي هذا المعنى، ثم التقدير في: باب جوائز الوفد، أي: هذا باب في بيان جوائز الوفد؟ والجوائز جمع جائزة، وهي العطية، يقال: أجازه يجيزه إذا أعطاه، والوفد: هم القوم يجتمعون ويردون البلاد، واحدهم وافد. وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك، يقال: وفد يفد فهو وافد، وأوفدته فوفد وأوفد على الشيء فهو موفد إذا أشرف، والتقدير في: باب هل يستشفع، أي: هذا باب يذكر فيه هل يستشفع. قوله: (ومعاملتهم)، بالجر عطفا على المضاف إليها لفظ الباب.
3503 حدثنا قبيصة قال حدثنا ابن عيينة عن سليمان الأحول عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة.
.
وجه المطابقة قد ذكر الآن، وقبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة: ابن عقبة، قال الجياني: لا أحفظ لقبيصة عن ابن عيينة شيئا في (الجامع)، ورواية ابن السكن: قتيبة، بدل: قبيصة. قلت: وقع هكذا: قبيصة حدثنا ابن عيينة عند أكثر الرواة عن الفربري، وكذا في رواية النسفي، ولم يقع في البخاري لقبيصة رواية عن سفيان بن عيينة إلا هذه الرواية، وروايته فيه عن سفيان الثوري كثيرة جدا. وقيل: لعل البخاري سمع هذا الحديث منهما، غير أنه لا يحفظ لقبيصة عن ابن عيينة شيء في (الجامع) ولا ذكره أبو نصر فيمن روى في (الجامع) عن غير الثوري.
والحديث أخرجه البخاري في المغازي عن قتيبة وفي الجزية عن محمد. وأخرجه مسلم في الوصايا عن سعيد بن منصور وقتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، الكل عن ابن عيينة. وأخرجه أبو داود في الخراج عن سعيد بن منصور ببعضه. وأخرجه النسائي في العلم عن محمد بن منصور عن سفيان مثل الأول.
قوله: (يوم الخميس)، خبر المبتدأ المحذوف، أو بالعكس نحو: يوم الخميس يوم الخميس، نحو: أنا أنا، والغرض منه تفخيم أمره في الشدة والمكروه. قوله: (وما يوم الخميس؟) أي: أي يوم يوم الخميس؟ وهذا أيضا لتعظيم أمره في الذي وقع فيه. قوله: (حتى خضب)، أي: رطب وبلل. قوله: (فتنازعوا)، وقد مر في كتاب العلم في: باب كتابة العلم بعض هذا الحديث عن ابن عباس.. وفيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغظ، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع...) الحديث وهذا يوضح معنى قوله: فتنازعوا. قوله: (
ولا ينبغي عند نبي تنازع)، قال الكرماني: لفظ: ولا ينبغي، إما قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم وإما قول ابن عباس، والسياق يحتملهما، والموافق لسائر الروايات الأولى. قلت: لا حاجة إلى هذا الترديد لأنه صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الذي سبق في كتاب العلم بقوله: (ولا ينبغي عندي التنازع)، والعجب منه ذلك مع أنه قال: ومر شرح الحديث في: باب كتابة العلم. قوله: (أهجر)، ويروى: هجر، بدون الهمزة، أطلق بلفظ الماضي، لما رأوا فيه من علامات الهجرة عن دار الفناء، وقال ابن بطال: قالوا: هجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أي: اختلط، وأهجر إذا أفحش. وقال ابن التين: يقال: هجر العليل إذا هذى يهجر هجرا بالفتح، والهجر بالضم الإفحاش. وقال ابن دريد: يقال: هجر الرجل في المنطق إذا تكلم بما لا معنى له، وأهجر إذا أفحش. قلت: هذه العبارات كلها فيها ترك الأدب والذكر بما لا يليق بحق النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أفحش من أتى بهذه العبارة، فانظر إلى ما قال النووي: أهجر؟ بهمزة الاستفهام الإنكاري، أي: أنكروا على من قال: لا تكتبوا، أي: لا تجعلوه كأمر من هذي في كلامه، وإن صح بدون الهمزة فهو أنه لما أصابته الحيرة والدهشة لعظم ما شاهد من هذه الحالة الدالة
298

على وفاته وعظم المصيبة، أجرى الهجر مجرى شدة الوجع، وقال الكرماني: وأقول: هو مجاز لأن الهذيان الذي للمريض مستلزم لشدة وجعه، فأطلق الملزوم وأريد اللازم. قلت: لو كان بتحسين العبارة لكان أولى. قوله: (دعوني)، أي: اتركوني ولا تنازعوا عندي، فإن الذي أن فيه من المراقبة والتأهب للقاء الله تعالى والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما تدعوني إليه من الكتابة ونحوها. قوله: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)، أخرجوا: أمر من الإخراج، ولم يتفرغ أبو بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه لذلك، فأجلاهم عمر، رضي الله تعالى عنه قيل: كانوا أربعين ألفا ولم ينقل عن أحد من الخلفاء أنه أجلاهم من اليمن، مع أنها من جزيرة العرب.
وروى أحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله تعالى عنه: (أخرجوا يهود الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب)، وإنما أخرج أهل نجران من الجزيرة، وإن لم تكن من الحجاز، لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم على أن لا يأكلوا الربا فأكلوه، رواه أبو داود من طريق ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما. وقال أحمد بن المعدل: حدثني يعقوب بن محمد بن عيسى عن الزهري قال: قال مالك بن أنس: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمامة واليمن، وفي رواية ابن وهب عنه: مكة والمدينة واليمن، وعن المغيرة بن عبد الرحمن: مكة والمدينة واليمن وقرياتها، وعن الأصمعي: هي ما لم يبلغه ملك فارس من أقصى عدن إلى أطراف الشام، هذا الطول والعرض من جدة إلى ريف العراق. وفي رواية أبي عبيد عنه: الطول من أقصى عدن إلى ريف العراق طولا، وعرضها من جزيرة جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، وقال الشعبي: هي ما بين قادسية الكوفة إلى حضرموت، وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى بطوارة من أرض العراق إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فما بين رمل بيرين إلى منقطع السماوة. وقال أبو عبيد البكري: قال الخليل: سميت جزيرة العرب لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها. وقال أبو إسحاق الحربي: أخبرني عبد الله بن شبيب عن زبير عن محمد بن فضالة: إنما سميت جزيرة لإحاطة البحر بها والأنهار من أقطارها وأطرافها، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم فظهر بناحية قنسرين ثم انحط عن الجزيرة وهي ما بين الفرات ودجلة وعن سواد العراق حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة، وامتد البحر من ذلك الموضع مغربا مطبقا ببلاد العرب منقطعا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة ونفذ إلى القطيف وهجروا أسياف عمان والشحر، وسال منه عنق إلى حضرموت إلى أبين وعدن ودهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهايم اليمن بلاد حكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة ساحل مكة، وإلى الجاد ساحل المدينة وإلى ساحل تيما وإيلة حتى بلغ إلى قلزم مصر وخالط بلادها، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين ومر بعسقلان وسواحلها وأتى على صور بساحل الأردن وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سوار العراق، فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها على خمسة أقسام: تهامة، والحجاز، ونجد والعروض، واليمن.
قوله: (وأجيزوا الوفد)، وأجيزوا من الإجازة، يقال: أجازه بجوائز أي: أعطاه عطايا، قد مر تفسير الجائزة، والوفد، ويقال: الجائزة قدر ما يجوز به المسافر من منهل إلى منهل، وجائزته يوم وليلة. قوله: (ونسيت الثالثة)، قال ابن التين: ورد في رواية أنها القرآن، وقال المهلب: هي تجهيز جيش أسامة بن زيد، وقال ابن بطال: كان المسلمون اختلفوا في ذلك على الصديق فأعلمهم أنه صلى الله عليه وسلم، عهذ بذلك عند موته، وقال عياض: يحتمل أنها قوله: لا تتخذوا قبري وثنا، فقد ذكر مالك معناه مع إجلاء اليهود.
وههنا فرع ذكره في (التوضيح): وهو يمنع كل كافر عندنا وعند مالك من استيطان الحجاز، ولا يمنعون من ركوب بحره ولو دخل بغير إذن الإمام أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع، فإن استأذن في دخوله أذن الإمام أو نائبه فيه إن كان مصلحة للمسلمين، كرسالة وحمل ما يحتاج إليه. وعن أبي حنيفة: جواز سكناهم في الحرم ويمنع دخول حرم مكة. قال تعالى: * (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) * (التوبة: 82). والمراد به هنا جميع الحرم. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان إيس أن يعبد في جزيرة العرب، فلو دخله ومات لم يدفن فيه، وإن مات في غير الحرم من الحجاز
299

وتعذر نقله دفن هناك، وحرم المدينة لا يلحق بحرم مكة فيما ذكر، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه. قلت: مذهب أبي حنيفة: أنه لا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار، رواه أبو داود، والآية محمولة على منعهم أن يدخلوها مستولين عليها ومستعلين على أهل الإسلام من حيث التدبير والقيام بعمارة المسجد، فإن قبل الفتح كانت الولاية والاستعلاء لهم ولم يبق ذلك لهم بعد الفتح. أو
هي محمولة على كونهم طائفين الكعبة حال كونهم عراة، كما كانت عادتهم في الجاهلية.
وقال يعقوب بن محمد سألت المغيرة بن عبد الرحمان عن جزيرة العرب فقال مكة والمدينة واليمامة واليمن وقال يعقوب والعرج أول تهامة
يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري، والمغيرة بن عبد الرحمن، وهذا الأثر المعلق وصله إسماعيل القاضي في كتاب (أحكام القرآن): عن أحمد بن المعدل عن يعقوب بن محمد عن مالك بن أنس مثله. قوله: (والعرج)، بفتح العين المهملة وسكون الراء وفي آخره جيم: وهو منزل بين طريق مكة وتهامة، وهي بكسر التاء المثناة من فوق: اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز، وقال البكري: العرج قرية جامعة على طريق مكة من المدينة، بينها وبين الرويثة أربعة عشر ميلا، وبينها وبين المدينة أحد وعشرون فرسخا.
771
((باب التجمل للوفود))
أي: هذا باب في بيان التجمل باللبس لأجل الوفود، وهو جمع وفد، وقد مر تفسيره عن قريب.
4503 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عمر رضي الله تعالى عنهما قال وجد عمر حلة إستبرق تباع في السوق فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ابتع هاذه الحلة فتجمل بها للعيد وللوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هاذه لباس من لا خلاق له أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له فلبث ما شاء الله ثم أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج فأقبل بها عمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قلت إنما هاذه لباس من لا خلاق له أو إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم أرسلت إلي بهاذه فقال تبيعها أو تصيب بها بعض حاجتك.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ابتع هذه الحلة فتجمل بها للعيد وللوفود). وأخرج البخاري نحوه في كتاب الجمعة في: باب يلبس أحسن ما يجد، عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن: عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، رأى حلة سيراء عند باب المسجد... الحديث، وفي آخره: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إني لم أكسكها لتلبسها، فكساها عمر بن الخطاب أخا له بمكة مشركا.
قوله: (إستبرق)، هو معرب استبر، فزيدت عليه: القاف. وقال ابن الأثير: الإستبرق، ما غلظ من الحرير، وهي لفظة أعجمية معربة أصلها: استبره، وقد ذكرها الجوهري في فصل الباء من القاف، على أن الهمزة والسين والتاء زوائد، وذكرها الأزهري في خماسي القاف، على أن همزتها وحدها زائدة. قوله: (ابتع)، أمر من الإبتياع أي: شتر، والحلة واحدة الحلل، ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد. قوله: (فتجمل)، أمر من: التجمل، وهو التزين. قوله: (من لا خلاق له)، أي: من لا نصيب له. قوله: (ديباج)، وهي الثياب المتخذة من الإبريسم، فارسي معرب، وقد تفتح داله ويجمع على دباييج ودبابيج بالباء والياء، لأن أصله دباج، بالتشديد قوله: (أو إنما) شك من الراوي، وقد مرت الأبحاث فيه في كتاب الجمعة.
300

871
((باب كيف يعرض الإسلام على الصبي))
أي: هذا باب يذكر فيه كيف يعرض الإسلام على الصبي.
5503 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه أخبره أن عمر انطلق في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة وقد قارب يومئذ ابن صياد يحتلم فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ظهره بيده ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه ابن صياد فقال أشهد أنك رسول الأميين فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم أتشهد أني رسول الله قال له النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بالله ورسله قال النبي صلى الله عليه وسلم ماذا ترى قال ابن صياد يأتيني صادق وكاذب قال النبي صلى الله عليه وسلم خلط عليك الأمر قال النبي صلى الله عليه وسلم إني قد خبأت لك خبيئا قال ابن صياد هو الدخ قال النبي صلى الله عليه وسلم اخسأ فلن تعدو قدرك قال عمر يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه قال النبي صلى الله عليه وسلم إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله. قال ابن عمر انطلق النبي وأبي بن كعب يأتيان النخل الذي فيه ابن صياد حتى إذا دخل النخل طفق النبي صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة له فيها رمزة فرأت أم ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لإبن صياد أي صاف وهو اسمه فثار ابن صياد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو تركته بين.
وقال سالم قال ابن عمر ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال إني أنذركموه وما من نبي إلا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولاكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أتشهد أني رسول الله؟) وهو عرض الإسلام على الصبي، لأن ابن صياد إذ ذاك لم يحتمل، وقد ترجم في كتاب الجنائز: باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه؟ وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ وذكر فيه حديث ابن صياد، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى، ولنذكر هنا بعض شيء. وفي هذا
الحديث ثلاث قصص ذكرها البخاري بتمامها في الجنائز من طريق يونس، وذكر هنا من طريق معمر بن راشد عن محمد بن مسلم الزهري عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وذكر في الأدب من طريق شعيب، واقتصر في الشهادات على الثانية، وذكرها أيضا فيما مضى من الجهاد من وجه آخر، واقتصر في الفتن على الثالثة.
قوله: (قبل ابن صياد)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ناحيته وجهته. قوله: (عند أطم بني مغالة)، بضم الهمزة، وهو البناء المرتفع، ويجمع على: آطام، وآطام المدينة: أبنيتها المرتفعة كالحصون، (ومغالة): بفتح الميم وتخفيف الغين المعجمة وباللام، قال النووي: كذا في بعض النسخ: بني مغالة، وفي بعضها: ابن مغالة، والأول هو المشهور. وذكره مسلم في رواية الحسن الحلواني أنه أطم بني معاوية، بضم الميم وبالعين المهملة، قال العلماء: المشهور
301

المعروف هو الأول، وقد ذكرنا في كتاب الجنائز أن بني مغالة بطن من الأنصار، وقيل: حي من قضاعة. قوله: (الأميين)، أي: العرب. وما ذكره، وإن كان حقا من جهة المنطوق، باطل من جهة المفهوم، وهو أنه ليس مبعوثا إلى العجم كما زعمه اليهود. قوله: (آمنت بالله ورسله)، وفي رواية المستملي: (ورسوله)، بالإفراد، وفي حديث أبي سعيد: (آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قيل: كيف طابق: آمنت بالله ورسله الاستفهام؟ وأجيب: بأنه لما أراد أن يظهر للقوم حاله أرخى العنان حتى يبينه عند المغتر به، فلهذا قال آخرا: إخسأ. وقيل: إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم، الإسلام على ابن صياد بناء على أنه ليس الدجال المحذر منه، ورد بأن أمره كان محتملا فأراد اختباره بذلك. وقال القرطبي: كان ابن صياد على طريق الكهنة يخبر بالخبر فيصح تارة ويفسد أخرى، ولم ينزل في شأنه وحي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم، سلوك طريقته يختبر بها حاله، وهذا هو السبب أيضا في انطلاقه إليه، وقد روى أحمد من حديث جابر. قال: (ولدت امرأة من اليهود غلاما ممسوحة إحدى عينيه، والأخرى طالعة ناتئة، فأشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الدجال. قوله: (ماذا ترى؟) قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد. قال: لقي رسول الله، صلى الله عليه وسلم ابن صياد في بعض طرق المدينة، فاحتبسه وهو غلام يهودي وله ذؤابة ومعه أبو بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تشهد أني رسول الله؟) فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى؟ قال: أرى عرشا فوق الماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ترى عرش إبليس فوق البحر، قال: ما ترى؟ قال: أرى صادقا وكاذبين، أو صادقين وكاذبا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس عليه فدعاه...). انتهى. قوله: (فدعاه) أي: اتركاه، يخاطب أبا بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما. وكذا رواه مسلم، وفي آخره: (فدعوه)، بصيغة الجمع: وفي رواية أحمد: أرى عرشا على الماء وحوله الحيتان. قوله: (خلط عليك الأمر)، بضم الخاء وكسر اللام المخففة، ومعناه: لبس، وكذا هو في رواية، بضم اللام وكسر الباء الموحدة المخففة بعدها سين مهملة. وفي حديث أبي الطفيل عند أحمد، فقال: (تعوذوا بالله من شر هذا). قوله: (إني خبأت)، أي: ضمرت (لك خبيئا)، بفتح الخاء المعجمة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف ثم همزة، ويروى: (خبأ) بكسر الخاء وسكون الباء وبالهمزة، يعني: أضمرت لك اسم الدخان، وقيل: آية الدخان، وهي * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). قوله: (هو الدخ)، بضم الدال المهملة وبالخاء المعجمة، وحكى صاحب (المحكم) الفتح، ووقع عند الحاكم: الزخ، بفتح الزاي بدل الدال، وفسره: بالجماع، واتفق الأئمة على تغليطه في ذلك، ويرده ما وقع في حديث أبي ذر وأخرجه أحمد والبزار، فأراد أن يقول: الدخان فلم يستطع، فقال: الدخ، وفي رواية البزار والطبراني في (الأوسط) من حديث زيد بن حارثة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم خبأ له سورة الدخان، وكأنه أطلق السورة وأراد بعضها، والدليل عليه أن أحمد روى عن عبد الرزاق في حديث الباب، وخبأ له: * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). وأما جواب ابن صياد: بالدخ، فإنه اندهش ولم يقع من لفظ الدخان إلا على بعضه، وحكى الخطابي: أن الآية كانت حينئذ مكتوبة في يد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يهتد ابن صياد منها إلا لهذا القدر الناقص على طريق الكهنة، ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تعدو قدرك) أي: قدر مثلك من الكهان الذي يحفظون من إلقاء شياطينهم ما يختطفونه مختلطا صدقه بكذبه، وحكى أبو موسى المديني: أن السر في امتحان النبي صلى الله عليه وسلم، له بهذه الآية. الإشارة إلى أن عيسى بن مريم، عليهما الصلاة والسلام، يقتل الدجال بجبل الدخان، فأراد التعريض لابن صياد بذلك. قوله: (إخسأ)، كلمة زجر واستهانة، أي: اسكت صاغرا ذليلا. قوله: (فلن تعدو قدرك)، قد مر تفسيره الآن ويروى بحذف الواو، وقال ابن مالك: الجزم، بلن، لغة حكاها الكسائي. قوله: (إن يكنه)، القياس: إن يكن إياه لأن المختار في خبر: كان الانفصال، ولكن يقع المرفوع المنفصل موضع المنصوب، ويحتمل أن يكون تأكيدا للمتصل، وكان تلامة، أو الخبر محذوف، أي: إن يكن هو هذا وإن يكون ضمير فصل، والدجال المحذوف خبره وإنما لم يأذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم يضرب عنقه لأنه كان غير بالغ، أو هو من أهل مهادنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم معهم. قوله: (فلن تسلط عليه)، وفي حديث جابر: فلست بصاحبه، وإنما صاحبه عيسى بن مريم، عليهما السلام. قوله: (فلا خير لك في قتله)، وفي
302

مرسل عروة: فلا يحل لك قتله. قوله: (قال ابن عمر)، هذا موصول بالإسناد الأول، وشروع في القصة الثانية، وفي حديث جابر: ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ونفر من المهاجرين والأنصار وأنا معهم. قوله: (طفق النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: جعل، قوله: (ويتقي)، أي: يستر. قوله: (ويختل) أي: يسمع في خفية وفي حديث جابر: رجاء أن يسمع من كلامه شيئا ليعلم أنه صادق أم كاذب، ويقال: يختل بسكون الخاء المعجمة وكسر التاء المثناة من فوق، أي: يخدعه ليعلم الصحابة حاله في أنه كاهن حيث يسمعون منه شيئا يدل على كهانته. قوله: (رمزة)، بفتح الراء وسكون الميم وفتح الزاي، وفي (المطالع) قوله: (فيها رمرمة)، أو رمزة، كذا في البخاري في كتاب الشهادات بغير خلاف، وفي الجنائز مثله في الأول، وفي الآخر: رمزة لأبي ذر خاصة، وعند النسفي
: وقال عقيل: رمزة، وفي كتاب (كيف يعرض الإسلام على الصبي): رمزة، وعند البخاري في حديث أبي اليمان عن شعيب. رمرمة أو زمزمة، وكذا للنسفي في الجنائز، قال: ومعنى هذه الألفاظ كلها متقارب، و: الزمزمة، بالزايين: تحريك الشفتين بالكلام، قاله الخطابي، وقال غيره: هو كلام العلوج، وهو سكوت بصوت يدار من الخواشيم والحلق لا يتحرك فيه السان ولا الشفتان، و: الرمرمة، بالراءين: صوت خفي بتحريك الشفتين بكلام لا يفهم، وأما الزمرة بتقديم الزاي من داخل الفم. قوله: (أي: صاف)، بالصاد المهملة والفاء وزاد في رواية يونس: أي صاف! هذا محمد، وفي حديث جابر، فقالت: يا عبد الله! هذا أبو القاسم قد جاء، وكان الراوي عبر باسمه الذي يسمى به في الإسلام، وأما اسمه الأول فهو: صاف. قوله: (لو تركته) أي: لو تركت أم ابن صياد ابنها بين هو، أي: أظهر لنا من حاله ما نطلع به على حقيقة حاله. قوله: (وقال سالم)، أي: ابن عمر، هذا أيضا موصول بالإسناد الأول وشروع في القصة الثالثة، والله أعلم.
971
((باب قول النبي لله لليهود أسلموا تسلموا))
أي: هذا باب فيما ذكر من قول النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: أسلموا، بفتح الهمزة من الإسلام. قوله: (تسلموا)، بفتح التاء من السلامة أي: تسلموا في الدنيا من القتل والجزية، وفي الآخرة من العقاب والخلود في النار.
قاله المقبري عن أبي هريرة
هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، بفتح الميم وسكون القاف وضم الباء الموحدة نسبة إلى المقبرة، واشتهر بها سعيد بن أبي سعيد المقبري لسكناه بالقرب من المقبرة، وأبو سعيد اسمه كيسن، وسيأتي حديثه في الجزية، إن شاء الله تعالى.
081
((باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم))
أي: هذا باب يذكر فيه إذ أسلم قوم من أهل الحرب في دار الحرب، والحال أن لهم مالا وأرضين، فهي لهم، يعني: إذا غلب المسلمون عليها فهو أحق بماله وأرضه، وفيه خلاف، فقال الشافعي وأشهب وسحنون: إن الذي أسلم في دار الحرب وبقي فيها ماله وولده، ثم خرج إلينا مسلما، ثم غزا مع المسلمين بلده أنه قد يحرز ماله وعقاره حيث كان وولده الصغار لأنهم تبع له في الإسلام. وقال مالك والليث: أهله وماله وولده فيها فيء على حكم البلد، وفرق أبو حنيفة بين حكمها إذا أسلم في بلده ثم خرج إلينا فأولاده الصغار أحرار مسلمون، وما أودعه مسلما أو ذميا فهو له، وما أودعه حربيا، فهو وسائر عقاره هنالك فيء، وإذا أسلم في بلد الإسلام ثم ظهر المسلمون على بلده فكل ما له فيه فيء لاختلاف حكم الدارين عنده، ولم يفرق مالك والشافعي بين إسلامه في داره أو في دار الإسلام.
8503 حدثنا محمود أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله الله أين تنزل غدا في حجته قال وهل ترك لنا عقيل منزلا ثم قال نحن نازلونع غدا بخيف بني كنانة المحصب حيث قاسمت قريش على الكفر وذلك أن بني كنانة حالفت قريشا على بني هاشم أن لا يبايعوهم ولا
303

يؤووهم قال الزهري والخيف الوادي.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعقيل: تصرفه قبل إسلامه فما بعد الإسلام بالطريق الأولى، ومحمود هو ابن غيلان، بالغين المعجمة المفتوحة، ومحمود بن عبد الرزاق هو رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر: حدثنا محمود حدثنا عبد الله هو ابن المبارك، وعلي بن الحسين بن علي زين العابدين، رضي الله تعالى عنهم، وعمرو بن عثمان بن عفان القرشي الأموي المدني.
والحديث مر في كتاب الحج في: باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها.
قوله: (عقيل)، بفتح العين: ابن أبي طالب. قوله: (بخيف بني كنانة)، الخيف ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يسمى: مسجد الخيف، لأنه في سفح جبلها، وقد فسر الزهري الخيف بالوادي. قوله: (المحصب) بلفظ المفعول من التحصيب، عطف بيان أو بدل من الخيف. قوله: (حيث قاسمت)، أي: حيث حالفت قريش. قوله: (ذلك أن بني كنانة..) إلى آخره هكذا وقع هذا القدر معطوفا على حديث أسامة، وذكر الخطيب: أن هذا مدرج في رواية الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة، وإنما هو عند الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وذلك أن ابن وهب رواه عن يونس عن الزهري، ففصل بين الحديثين، وروى عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري الحديث الأول فقط، وروى شعيب والنعمان بن راشد وإبراهيم بن سعد والأوزاعي عن الزهري الحديث الثاني فقط، لكن عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وأجيب: إن أحاديث الجمع عنه وطريق ابن وهب عنده لحديث أسامة في الحج، ولحديث أبي هريرة في التوحيد، وأخرجهما مسلم معا في الحج.
9503 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى فقال يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبالك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب
والورق وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا.
مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: (إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام)، وذلك لأن أهل المدينة أسلموا لو لم يكونوا من أهل العنوة، فهم أحق، ومن أسلم من أهل العنوة فارضه فيء للمسلمين، وإسماعيل هو ابن أويس، واسمه عبد الله وهو ابن أخت مالك، وأسلم مولى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
وهذا الأثر تفرد به البخاري عن الجماعة. وقال الدارقطني، فيه: غريب صحيح.
قوله: (هنيا) بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف، وقد يهمز: أدرك أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يذكره أحد في الصحابة، وروى عن أبي بكر وعمر وعمرو بن العاص، وروى عنه ابنه عمير وشيخ من الأنصار وغيرهما، وشهد صفين مع معاوية، ولما قتل عمار تحول إلى علي، رضي الله تعالى عنه، ولولا هو من أهل الفضل والثقة لما ولاه عمر على موضع. قوله: (على الحمى)، بكسر الحاء المهملة وفتح الميم مقصورا، وهو موضع يعينه الإمام لأجل نعم الصدقة ممنوعا عن الغير، وبين ابن سعد من طريق عمير بن علي عن أبيه: أنه كان على حمى الربذة. قوله: (أضمم جناحك)، ضم الجناح كناية عن الرحمة والشفقة، وحاصل المعنى: كف يدك عن ظلم المسلمين، وفي رواية معن بن عيسى عن مالك عند الدارقطني في (الغرائب): (أضمم جناحك للناس)، وفي (التلويح): (اضمم جناحك على المسلمين) يريد استرهم بجناحك، وفي بعض الروايات: (على المسلمين)، أي: لا تحمل ثقلك عليهم، وكف يدك عن ظلمهم. قوله: (واتق دعوة المظلوم)، هكذا في رواية الإسماعيلي
304

والدارقطني وأبي نعيم، ويروى: (واتق دعوة المسلمين). قوله: (وأدخل)، بفتح الهمزة وكسر الخاء المعجمة: أمر من الإدخال، يعني: أدخل في المرعى رب الصريمة، بضم الصاد المهملة وفتح الراء مصغر الصرمة وهي القطيعة من الإبل بقدر الثلاثين، والغنيمة مصغر الغنم والمعنى: صاحب القطيعة القليلة من الإبل والغنم، ولهذا صغر اللفظين. قوله: (وإياي)، وكان القياس أن يقول: وإياك، لأن هذه اللفظة للتحذير، وتحذير المتكلم نفسه شاذ عند النحاة، ولكنه بالغ فيه من حيث إنه حذر نفسه، ومراده تحذير المخاطب، وهو أبلغ، لأنه ينهى نفسه، ومراده نهي من يخاطبه، قوله: (نعم ابن عوف)، وهو عبد الرحمن ابن عوف، ونعم ابن عفان، وهو عثمان بن عفان، وإنما خصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما، لأنهما كانا من مياسير الصحابة، ولم يرد بذلك منعهما البتة، وإنما أراد أنه إذا لم يسع المرعى إلا نعم الفريقين فنعم المقلين أولى، فنهاه عن إيثارهما على غيرهما، وتقديمهما على غيرهما، وقد بين وجه ذلك في الحديث. بقوله: (فإنهما) أي: فإن ابن عوف وابن عفان (إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع أراد أن ماشيتهما إذا هلكت كان لهما عوض ذلك من أموالها من النخل والزرع وغيرهما يعيشان فيها ومن ليس له إلا الصريمة القليلة أو الغنيمة القليلة إن تهلك ماشيتهما يستغيث عمر ويقول انفق علي وعلى بني من بيت المال، وهو معنى قوله: (يأتني ببنيه)، أي: بأولاده، فيقول: يا أمير المؤمنين: نحن فقراء محتاجون، وهذا في رواية الكشميهني هكذا ببنيه، جمع ابن، وفي رواية غيره: (ببيته)، بلفظ:؛ البيت الذي هو عبارة عن زوجته. قوله: (يا أمير المؤمنين!) هكذا هو بالتكرار. قوله: (أفتاركهم أنا؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الإنكار، والمعنى: أنا لا أتركهم محتاجين، ولا أجوز ذلك فلا بد لي من إعطاء الذهب والفضة إياهم بدل الماء والكلأ. قوله: (لا أبالك)، هو حقيقة في الدعاء عليه، لكن الحقيقة مهجورة، وهي بلا تنوين، لأنه صار شبيها بالمضاف، وإلا فالأصل لا أب لك. قوله: (وأيم الله) من ألفاظ القسم كقولك: لعمر الله وعهد الله، وفيه لغات كثيرة، وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزة وصل، وقد تقطع. وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنها جمع يمين، وغيرهم يقول: هو اسم موضوع للقسم. قوله: (إنهم ليرون)، بضم الياء أي: ليظنون (أني قد ظلمتهم) ويجوز بفتح الياء أي: ليعتقدون. قوله: (قد ظلمتهم)، قال ابن التين: يريد أرباب المواضي الكثيرة، والظاهر أنه أراد أرباب المواشي القليلة، لأنهم الأكثرون، وهم أهل تلك البلاد من بوادي المدينة، يدل عليه قوله: (إنها) أي: إن هذه الأراضي (لبلادهم، فقاتلوا عليها في الجاهلية) والمراد عموم أهل المدينة، ولم يدخل في ذلك ابن عوف ولا ابن عفان. قوله: (لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله) أي: من الإبل التي كان يحمل عليها من لا يجد ما يركب، وجاء عن مالك: أن عدة ما كان في الحمى في زمن عمر، رضي الله تعالى عنه، بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل وغيرهما.
وفيه: دليل على أن مشارع القرى وعوامرها التي ترعى فيها مواشي أهلها من حقوق أهل القرية وليس للسلطان بيعه إلا إذا فضل منه فضلة. فإن قلت: قد مضى: (لا حمى إلا لله ولرسوله)، قلت: معناه: لا حمى لأحد يخص به نفسه، وإنما هو لله ولرسوله ولمن ورث ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من الخلفاء للمصلحة الشاملة للمسلمين، وما يحتاجون إلى حمايته.
181
((باب كتابة الإمام للناس))
أي: هذا باب في بيان كتابة الإمام لأجل الناس من المقاتلة وغيرهم. قوله: (كتابة الإمام)، أعم من كتابته بنفسه أو بأمره، وفي بعض النسخ: كتابة الإمام الناس، بنصب الناس على أنه مفعول للمصدر المضاف إلى فاعله، وفي الأول يكون المفعول محذوفا. فافهم.
0603 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل فقلنا نخاف ونحن ألف وخمسمائة فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف.
305

مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن يوسف هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، والأعمش هو سليمان، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة.
والحديث أخرجه البخاري أيضا عن عبدان عن أبي حمزة في هذا الباب. وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر وابن نمير، وأبي كريب. وأخرجه النسائي في السير عن هناد. وأخرجه ابن ماجة في الفتن عن ابن نمير. وعلي بن محمد. قوله: (أكتبوا) وفي رواية مسلم: احصوا، بدل: أكتبوا، وهي أعم من: أكتبوا، وقد يفسر: احصوا باكتبوا، وقال المهلب كتابة الإمام الناس سنة عند الحاجة إلى الدفع عن المسلمين حينئذ فرض الجهاد على كل إنسان يطبق المدافعة إذا أنزل: بأهل ذلك البلد مخافة. قوله: (فقلنا نخاف؟) تقديره: هل نخاف، وهو استفهام تعجب، يعني: كيف نخاف ونحن ألف وخمسمائة رجل؟ وكان هذا القول عند حفر الخندق، جزم بذلك ابن التين، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك عند خروجهم إلى د، وعن الداودي: بالحديبية. قوله: (فلقد رأينا) بضم التاء التاء التي للمتكلم أي: فلقد رأيت نفسنا، ويروى: فلقد رأينا. قوله: (ابتلينا) على صيغة المجهول من الابتلاء، وحاصل الكلام: يقول حذيفة: كنا نتعجب من خوفنا والحال أنا نحن ألف وخمسمائة رجل، فصار أمرنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم إلى أن الرجل يصلي وحده وهو خائف مع كثرة المسلمين، وقال النووي: لعله أراد أنه كان في بعض الفتن التي جرت بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرا يخاف من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحرب.
حدثنا عبدان عن أبي حمزة عن الأعمش فوجدناهم خمسمائة قال أبو معاوية ما بين ستمائة إلى سبعمائة
عبد الله هو عبد الله بن عثمان بن جبلة، وعبدان لقبه، وقد مر غير مرة. وأبو حمزة، بالحاء المهملة والزاي: هو محمد بن ميمون اليشكري، وأبو معاوية محمد بن خازم، بالخاء المعجمة. وأشار البخاري بهذا إلى أن كل واحد من أبي حمزة وأبي معاوية خالف سفيان الثوري المذكور في السند الذي قبله في روايته عن سليمان الأعمش. أما أبو حمزة فإنه روى عن الأعمش خمسمائة ولم يذكر الألف وقد كان سفيان روي عن الأعمش ألفا وهمسامائة أما أبو معاوية فإنه روى عن الأعمش: ما بين ستمائة إلى سبعمائة، فالبخاري اعتمد على رواية سفيان لكونه أحفظهم مطلقا، وزاد على أبي حمزة وأبي معاوية، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة مقدمة، وإن كان أبو معاوية أحفظ أصحاب الأعمش بخصوصه. فإن قلت: طريق أبي معاوية وصله مسلم فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب، واللفظ لأبي بكر، قالوا: حدثنا معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة، قال: كنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: إحصوا لي كم من تلفظ بالإسلام؟ قال: فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا. قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا. قلت: إنما اختار مسلم طريق أبي معاوية لما ذكرنا أنه كان أحفظ أصحاب الأعمش بخصوصه، والبخاري رجح رواية الثوري عن الأعمش لكون الثوري أحفظ من الكل مطلقا. فإن قلت: ما وجه التوفيق بين الروايات؟ قلت: قال الداودي: لعلهم كتبوا مرات في مواطن، وقيل: المراد بالألف والخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة: الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلة خاصة، قال النووي: قالوا: وجه الجمع بين هذه الروايات الثلاث، فذكر ما ذكرناه، وقيل: المراد بالألف... إلى آخره، ثم قال: وهذا باطل، للتصريح بأن الكل رجال في الرواية الأخرى، حيث قال: فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، بل الصحيح ما بين الستمائة إلى السبعمائة رجل من المدينة خاصة، وبالألف والخمسمائة هم مع المسلمين الذين حولهم. قلت: الحكم ببطلان الوجه المذكور لا يخلو عن نظر، لأن العبيد والصبيان يدخلون في لفظ: الرجل، فتأمل، والله أعلم.
1603 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني كتبت
306

في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال ارجع فحج مع امرأتك.
مطابقته للترجمة في قوله: (إني كتبت في غزوة كذا وكذا) وأبو نعيم الفضل بن دكين، وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وأبو معبد، بفتح الميم والباء الموحدة: واسمه نافذ، بالنون والفاء وفي آخره ذال معجمة. والحديث قد مر فيما قبل في: باب، من اكتتب في جيش، فإنه أخرجه هناك: عن قتيبة عن سفيان عن عمرو عن أبي معبد عن ابن عباس إلى آخره، وفيه زيادة على هذا.
281
((باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر))
أي: هذا باب يذكر فيه أن الله... إلى آخره، والفاجر من الفجور، وهو الانبعاث في المعاصي والمحارم، ويأتي بمعنى: الذنب، كما في قولهم: العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، أي: الذنوب، وبمعنى العصيان كما في قوله: ونترك من يفجرك، وقال الجوهري: فجر فجورا، أي: فسق، وفجر، أي: كذب وأصله: الميل، والفاجر: المائل.
2603 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري ح وحدثني محمود بن غيلان قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل ممن يدعي الإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الذي قلت إنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى النار قال فكان بعض الناس أراد أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل إنه لم يمت ولكن به جراحا شديدا فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالا فنادى بالناس إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.
.
مطابقته للترجمة في آخر الحديث، ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه من طريقين: أحدهما: عن أبي اليمان الحكم ابن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم الزهري. والآخر: عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق بن همام عن معمر ابن راشد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، والحديث أخرجه البخاري أيضا في القدر عن حبان عن ابن المبارك، وأخرجه مسلم في الإيمان عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، ونظير هذا الحديث عن سهل بن سعد الساعدي قد مر فيما قبل في: باب لا يقال فلان شهيد.
قوله: (شهدنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم)، لم يعين المشهد، فزعم ابن إسحاق والواقدي وآخرون: أن هذا كان بأحد، واسم الرجل: قزمان، وهو معدود في جملة المنافقين، وكان تخلف عن أحد فعيرته النساء، فلما احفضنه خرج وقتل سبعة ثم جرح فقتل نفسه، ورد عليهم بأن قصة قزمان كانت بأحد، وقد سلف ذكرها فيما قبل. وأما حديث أبي هريرة هذا فكان بخيبر، كما ذكره البخاري، ولهذا ذكر في بعض النسخ: شهدنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل... إلى آخره، وهذا هو الصحيح، لأنهما قصتان. قوله: (فلما حضر القتال) قال الكرماني: بالرفع والنصب. قلت: وجه الرفع على أنه فاعل حضر، ووجه النصب على المفعولية على التوسع، وفي: حضر، ضمير يرجع إلى الرجل، وهو فاعله. قوله: (الذي قلت: إنه من أهل النار) ويروى الذي قلت له: إنه، أي: الذي قلت فيه، واللام بمعنى: في قوله: (فكأن بعض الناس أراد) ويروى: فكاد بعض الناس، من أفعال المقاربة. قوله: (أن يرتاب) كذا في الأصل بإثبات: أن، وإثباتها مع: كاد، قليل. قال الكرماني: ويرتاب أي: يشك في صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم أي: يرتد عن دينه. قوله: (فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم) على صيغة المجهول. قوله: (إلا نفس مسلمة) يدل على أن الرجل قد ارتاب وشك حين أصابته الجراحة، وقيل: هذا رجل ظاهر الإسلام قتل نفسه، وظاهر النداء عليه يدل على أنه
307

كان ليس مسلما، والمسلم لا يخرجه قتل نفسه عن كونه مسلما فلا يحكم بكفره، ويصلى عليه. وأجيب: عن ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم اطلع من أمره على سره: فعلم بكفره لأن الوحي عنده عتيد. قوله: * (إن الله ليؤيد) * (آل عمران: 31). ويروى: يأيد، بدون: اللام، ويجوز في: إن، هذه الفتح والكسر وقد قرىء في السبعة: * (إن الله يبشرك) * (آل عمران: 93 و 54). فإن قلت: يعارض هذا قوله، صلى الله عليه وسلم: إنا لا نستعين بمشرك، رواه مسلم. قلت: لا تعارض، لأن المشرك غير المسلم الفاجر، روي هذا أيضا عن الشافعي، أو يقال: إنه خاص بذلك الوقت، وقد استعان، صلى الله عليه وسلم، بصفوان بن أمية في هوازن، واستعار منه مائة درع بأداتها، وخرج معه صفوان حتى قالت له هوازن: تقاتل مع محمد ولست على دينه؟ فقال: رب من قريش خير من رب من هوازن، وقال الطحاوي: قتال صفوان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، باختياره فلا يعارض قوله: (إنا لا نستعين بمشرك) وقال بعضهم: هي تفرقة لا دليل عليها، ولا أثر. قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم، قد علم بالوحي أنه لا بد من إسلامه، ولهذا أعطى له من الغنائم يوم حنين شيئا كثيرا، ثم أسلم والله أعلم. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليؤيد... الحديث، استحسن العلماء الدعاء للسلاطين بالتأييد، وشبهه من أهل الخير من حيث تأييدهم للدين لا من أحوالهم الخارجة.
381
((باب من تأمر في الحرب من غير إمرة إذا خاف العدو))
أي: هذا باب في بيان حكم من تأمر، أي: جعل نفسه أميرا على قوم في الحرب من غير تأمير الإمام أو نائبه، وجواب: من، محذوف أي: جاز ذلك.
3603 حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن أيوب عن حميد بن هلال عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذها جعفر فأصيب ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح عليه وما يسرني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا وقال وإن عينيه لتذرفان.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم أخدها خالد بن الوليد من غير إمرة). ويعقوب ابن إبراهيم بن كثير الدورقي وابن علية، بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف، هو إسماعيل بن إبراهيم البصري، وعلية أمه مولاة لبني أسد، وأيوب هو السختياني، ومضى هذا الحديث في أوائل الجهاد في: باب تمني الشهادة.
وهذا الحديث في غزوة مؤتة، وسيأتي بأتم منه في المغازي، وكانت في السنة الثامنة من الهجرة في جمادي الأوى. وكان السبب في ذلك ما قاله الواقدي عن الزهري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من الشام، وهو موضع على ليلة من البلقاء، وقيل: موضع من وراء وادي القرى، فوجدوا جمعا كثيرا من بني قضاعة فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا أورشقوهم بالنبل، فلما رآهم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال، فقتلوا، فأفلت منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأخبر بذلك، وبعث سرية عليها زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء لأجل هؤلاء الذين قتلوا، وقال: إن أصيب زيد فجعفر على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فخرجوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام والقين وبهرام وبلي مائة ألف منهم، عليهم رجل من بلي، ثم أحد أراشه يقال له: مالك بن نافلة، فلما بلغ ذلك لمسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له، قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم إن
الذي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوة ولا نقاتل إلا لهذا الدين، فانطلقوا فإحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، فصدقوه فمضوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال
308

لها: مشارف، ولما دناالعدو انحاز المسلمون، إلى قرية يقال لها: مؤتة، فتلاقوا عندها فاقتتلوا، فقتل زيد بن حارثة، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل بها حتى قتل. قال ابن هشام: إن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذها بشماله فقطعت، فاحتضنها بعضديه حتى قتل، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذها ثابت بن أقرم فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت! قال ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، قال الواقدي: لما أخذ خالد الراية قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الآن حمى الوطيس، فهزم الله العدو وظهر المسلمون، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. قوله: (خطب رسول الله، صلى الله عليه وسلم) قال الواقدي: حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معركتهم، فقال: أخذ الراية زيد، وهو زيد بن حارثة ابن شراحيل بن كعب الكلبي القضاعي، مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قوله: (فأصيب) أي قتل. قوله: (ثم أخذها)، أي: الراية جعفر، وهو ابن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ثم أخذها عبد الله بن رواحة)، بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي. قوله: (من غير إمرة)، بلفظ المصدر النوعي، أي: صار أميرا بنفسه من غير أن يفوض إليه الإمام. قوله: (ففتح عليه)، أي: على خالد. قوله: (وما يسرني)، أو قال: ما يسرهم أنهم عندنا لأن حالهم فيما هم فيه أفضل مما لو كانوا عندنا. قوله: (قال) أي: قال أنس: وإن عينيه لتذرفان، بكسر الراء، يعني: تسيلان دمعا. وقال الداودي: أي: تدفعان وقيل: تدمعان الدمع.
481
((باب العون بالمدد))
أي: هذا باب في بيان عون الجيش بالمدد، وهو في اللغة ما يمد به الشيء، أي: يزاد ويكثر، ومنه أمد الجيش بمدد إذا أرسل إليه زيادة، ويجمع على أمداد. وقال ابن الأثير: هم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد.
4603 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا واستمدوه على قومهم فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار قال أنس كنا نسميهم القراء يحطبون بالنهار ويصلون بالليل فانطلقوا بهم حتى بلغوا بئر معونة غدروا بهم وقتلوهم فقنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وبني لحيان قال قتادة وحدثنا أنس أنهم قرؤوا بهم قرآنا ألا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم رفع ذلك بعد.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (واستمدوه على قومهم فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار) وابن أبي عدي: هو محمد بن إبراهيم أبو عمرو السلمي البصري، وسهل بن يوسف أبو عبد الله الأنماطي البصري، وسعيد هو بن أبي عروبة البصري.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الطب وفي المغازي عن عبد الأعلى بن حماد. وأخرجه مسلم في الحدود عن أبي موسى. وأخرجه النسائي في الطهارة وفي الحدود وفي الطب عن محمد بن عبد الأعلى وفي المحاربة عن أبي موسى به.
قوله: (رعل)، بكسر الراء وسكون العين المهملة: ابن خالد بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم قال ابن دريد: رعل من الرعلة وهي النخلة الطويلة، والجمع: رعال (وذكوان) بفتح الذال المعجمة: ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم. (وعصية): بضم العين المهملة مصغر عصا: ابن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، وهؤلاء الثلاثة قبائل في سليم. قوله: (وبنو لحيان) بكسر اللام: حي من هذيل، وقال الحافظ الدمياطي: قوله في هذه الطريق: أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان، وهم: لأن هؤلاء
309

ليسوا أصحاب بئر معونة، وإنما هم أصحاب الرجيع الذين قتلوا عاصم بن أبي الأفلح وأصحابه، وأسروا خبيبا وابن الدثنة، وإنما الذي أتاه أبو براء من بني كلاب، وأجار أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم فأخفر جواره عامر بن الطفيل وجمع عليه هذه القبائل من سليم. قوله: (واستمدوه) أي: طلبوا منه المدد. قوله: (بسبعين من الأنصار)، قال موسى بن عقبة: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، ويقال: مرثد بن أبي مرثد. قوله: (كنا نسميهم القراء) جمع القارئ، وسموا بذلك لكثرة قراءتهم. قوله: (يحطبون)، أي: يجمعون الحطب. قوله: (بئر معونة) بفتح الميم وضم العين المهملة وبالنون، وهو بين مكة وعسفان وأرض هذيل حيث قتل القراء، وكانت سرية بئر معونة في صفر من السنة الرابعة من الهجرة، وأغرب مكحول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق، وقال ابن إسحاق: كانت في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد. قوله: (ثم رفع بعد ذلك) أي: نسخت تلاوته.
وفي (التوضيح): وفيه: أنه يجوز النسخ في الإخبار على صفة ولا يكون نسخه تكذيبا، إنما يكون نسخه رفع تلاوته فقط، كما أن نسخ الأحكام ترك العمل بها، فربما عوض من المنسوخ من الأحكام حكم غيره، وربما لم يعوض عنه، وكذلك الإخبار نسخها من القرآن رفع ذكرها وترك تلاوتها، لا أن تكذب بخبر آخر مضاد لها، ومثله مما نسخ من الأخبار ما كان يقرؤ في القرآن: لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا.
581
((باب من غلب العدو فأقام على عرصتها ثلاثا))
أي: هذا باب في ذكر من غلب على العدو، فأقام على عرصتها، بفتح العين المهملة وسكون الراء وفتح الصاد المهملة: وهي البقعة الواسعة بغير بناء من دار وغيرها.
5603 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا سعيد عن قتادة قال ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.
(الحديث 5603 طرفه في: 7693).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمد بن عبد الرحيم أبو يحيى الذي يقال له: صاعقة، وروح، بفتح الراء: ابن عبادة، بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة، وسعيد هو ابن أبي عروبة. والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي في غزوة بدر عن شيخ آخر عن روح بأتم من هذا السياق.
قوله: (إذا ظهر) أي: إذا غلب. قوله: (ثلاث ليال) وقال ابن الجوزي: كانت إقامته ليظهر تأثير الغلبة وتنفيذ الأحكام وترتيب الثواب ولقلة احتفاله بهم، كأنه يقول: نحن مقيمون، فإن كانت لكم قوة فهلموا إلينا، وقال غيره: كان هذا منه لأن الثلاث أكثر ما يريح المسافر، لأن الأربعة إقامة، لحديث: لا يبقين متأخر بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث، ولأن الغنيمة فيما تقسم، ولأن الظهر أيضا يستريح، هذا كله إذا كان في أمن من عدوه.
تابعه معاذ وعبد الأعلى قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم
معاذ هو ابن عبد الأعلى العنبري، أخرج متابعته الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاذ بن معاذ العنبري وعبد الأعلى، قالا: حدثنا سعيد عن قتادة، فذكره، وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي، بالسين المهملة، ومتابعتهما أخرجها مسلم عن يوسف بن حماد عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس، وعن محمد بن حاتم عن روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة، قال: لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله... الحديث، وقال في آخره: يعني: حديث أنس، وحديث أنس هو الذي رواه قبله، ولفظه: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ترك قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم... الحديث، معناه: أنه، صلى الله عليه وسلم، لما ظهر على المشركين يوم بدر أقام هناك ثلاث ليال ثم أتاهم.
310

((باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره))
أي: هذا باب في ذكر من قسم الغنيمة. قال بعضهم: أشار بذلك إلى الرد على قول الكوفيين: إن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، واعتلو بأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء ولا يتم الاستيلاء إلا بإحرازها في دار الإسلام. قلت: هذا الرد مردود، لأن الباب فيه حديثان، وليس واحد منهما يدل على أن قسمة الغنيمة كانت في دار الحرب، أما حديث رافع فيدل على أنها كانت بذي الحليفة، وأما حديث أنس فيدل على أنها كانت في الجعرانة، وكل من ذي الحليفة والجعرانة من دار الإسلام، ففي الحقيقة: الحديثان حجة للكوفيين، لأنه لم يقسم إلا في دار الإسلام.
وقال رافع كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصبنا غنما وإبلا فعدل عشرة من الغنم ببعير
هو رافع بن خديج، ومطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا التعليق مضى مسندا مطولا في كتاب الشركة في: باب قسمة الغنم، وقال المهلب: هذا إلى نظر الإمام واجتهاده يقسم حيث رأى الحاجة ويؤخر إذا رأى في المسلمين قوة. وومن أجاز قسمة الغنائم في دار الحرب: مالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه: لا تقسم حتى يخرجها إلى دار الإسلام، لما ذكرنا في أول الباب في قول الكوفيين، على أنهم قالوا: روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب، والبيع في معنى القسمة، فكما لا يجوز البيع كذلك لا تجوز القسمة.
6603 حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا همام عن قتادة أن أنسا أخبره قال اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين.
.
مطابقة هذا أيضا ظاهرة، وهدبة، بضم الهاء وسكون الدال المهملة وفتح الباء الموحدة: ابن خالد بن الأسود القيسي البصري، ويقال: هداب، وهمام، بتشديد الميم: ابن يحيى الشيباني البصري، وقد مضى الحديث في الحج في: باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم.
311