الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: ٧
الوفاة: ٨٥٥
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:

41
((كتاب الوتر))
1
((أبواب الوتر))
أي: هذه أبواب الوتر: أي: في بيان أحكامها، هكذا هو عند المستملي، وعند الباقين: باب ما جاء في الوتر، وسقطت البسملة عند ابن شيبويه والأصيلية وكريمة، وفي بعض النسخ: كتاب الوتر. والمناسبة بين أبواب الوتر وأبواب العيد كون كل واحد من صلاة العيدين والوتر واجبا ثبوتهما بالسنة. والوتر بالكسر الفرد، والوتر بالفتح الدخل، هذه لغة أهل العالية. وأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم، وأما تميم فبالكسر فيهما، وقرأ الكوفيون غير عاصم * (والشفع والوتر) * (الفجر: 3). بكسر الواو، وقال يونس في كتاب (اللغات): وترت الصلاة، مثل: أوترتها.
099 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (توتر له ما قد صلى)، ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن ابن القاسم، ثلاثتهم عن مالك عن نافع وعبد الله بن دينار، وكلاهما عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر معناه: قوله: (أن رجلا)، وقع في (معجم الطبراني) هو: ابن عمر، لكن يعكر عليه رواية عبد الله بن شقيق: (عن ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأنا بينه وبين السائل)، فذكر الحديث، وذكر محمد بن نصر في كتاب (أحكام الوتر) من رواية عطية: عن ابن عمر أن أعرابيا سأل؟ قلت: إذا حمل الأمر على تعدد السائل لا اعتراض فيه، ويجوز أن يكون ابن عمر عبر عن السائل تارة برجلا، وتارة بأعرابيا، ويجوز أن يكون هو السائل مع سؤال الرجل. قوله: (عن صلاة الليل) أي: عن عددها، لأن جوابه بقوله: (مثنى) يدل على ذلك، لأن من شأن الجواب أن يكون مطابقا للسؤال. قوله: (مثنى) مرفوع بأنه خبر مبتدأ، وهو قوله: (صلاة الليل) وهو بدون التنوين لأنه غير منصرف لتكرر العدل فيه، قاله الزمخشري، وقال غيره: للعدل والوصف، والتكرير للتأكيد لأنه في معنى: اثنين اثنين اثنين اثنين، أربع مرات، وقد فسره ابن عمر راوي الحديث، فقال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عقبة بن حريث قال: (سمعت ابن عمر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا رأيت الصبح يدركك فأوتر بواحدة
2

فقيل لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تسلم في كل ركعتين)، وقال بعضهم: فيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى: اثنين، أن يتشهد بين كل ركعتين، لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسره هو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلا، أنها: مثنى. قلت: زعم هذا الحنفي بما ذكر لا يستلزم نفي السلام، ومقصوده أن لا بد من التشهد بين كل ركعتين، وأما أنه يسلم أو لا يسلم فهو بحث آخر. ويجوز أن يقال في الرباعية: مثنى مثنى، بالنظر إلى أن كل ركعتين منها مثنى، مع قطع النظر عن السلام، قوله: (فإذا خشي أحدكم الصبح) أي: فوات صلاة الصبح. قوله: (توتر له) على صيغة المجهول أسند إلى ما فيما قد صلى، والمعنى: تصير به تلك الركعة الواحدة وترا. وبه احتج الشافعي، على أن الإيتار بركعة واحدة جائز، وسنتكلم فيه مبسوطا إن شاء الله تعالى.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه الأول: احتج به أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وأحمد: أن صلاة الليل مثنى مثنى، وهو أن يسلم في آخر كل ركعتين، وأما صلاة النهار فأربع عندهما، وعند أبي حنيفة: أربع في الليل والنهار، وعند الشافعي فيهما. مثنى مثنى، واحتج بما رواه الأربعة من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، وبما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، وبما رواه الحافظ أبو نعيم في (تاريخ أصبهان): عن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). ولأبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، في الليل ما رواه أبو داود في (سننه) من حديث زرارة بن أوفى، (عن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل، فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه...) الحديث، وقال أبو داود: في سماع زرارة عن عائشة نظر، ثم أخرجه عن زرارة عن سعيد بن هشام عن عائشة، قال: وهذه الرواية هي المحفوظة عندي. وروى أحمد في (مسنده): عن عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات وأوتر بسجدة، ثم نام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل). فإن قلت: أخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، (عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في بيتي..) الحديث، وفيه: (ويصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيتي ويصلي ركعتين)، فهذا مخالف لحديثها المتقدم. قلت: قد وقع عن عائشة اختلاف كثير في أعداد الركعات في صلاته صلى الله عليه وسلم في الليل، فهذا إما من الرواة عنها، وإما منها باعتبار أنها أخبرت عن حالات، منها ما هو الأغلب من فعله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو نادر، ومنها ما هو بحسب اتساع الوقت وضيقه، ولأبي حنيفة في النهار ما رواه مسلم من حديث معاذة أنها سألت عائشة، رضي الله تعالى عنها: (كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: أربع ركعات يزيد ما شاء). وفي رواية: (ويزيد ما شاء)، وروى أبو يعلى في (مسنده)
من حديث عمرة (عن عائشة قالت: سمعت أم المؤمنين عائشة تقول: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي الضحى أربع ركعات لا يفصل بينهن بكلام). (والجواب): من حديث الأربعة الذي فيه ذكر النهار إن الترمذي لما رواه سكت عنه إلا أنه قال: اختلف أصحاب شعبة فيه، فرفعه بعضهم، ووقفه بعضهم، ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه صلاة النهار، وقال النسائي: هذا الحديث عندي خطأ. وقال في (سننه الكبرى): إسناده جيد إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فيه، فلم يذكروا فيه النهار، منهم: سالم ونافع وطاووس، والحديث في (الصحيحين) من حديث جماعة عن ابن عمر، وليس فيه ذكر النهار، وقال الدارقطني: في رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن ابن عمر مرفوعا (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) غير محفوظ، وإنما تعرف صلاة النهار عن يعلى بن عطاء عن علي البارقي عن ابن عمر، وقد خالفه نافع وهو أحفظ منه فذكر إن صلاة الليل مثنى مثنى والنهار أربعا. فإن قلت: قال البيهقي: سئل أبو عبد الله البخاري عن حديث البارقي هذا: أصحيح هو؟ قال: نعم. وقال ابن الجوزي: هذه زيادة من ثقة فهي مقبولة. قلت: لو كان هذا صحيحا لخرجه البخاري هنا، وقال يحيى: كان شعبة ينفي هذا الحديث، وربما لم يرفعه، وروى إبراهيم الحنيني عن مالك والنمري عن نافع عن ابن عمر، يرفعه: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). وقال ابن عبد البر: رواية الحنيني خطأ، ولم يتابعه عن مالك أحد.
الوجه الثاني: أن الشافعي احتج به على أن الإيتار بركعة واحدة جائز، واحتج أيضا بحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها،
3

قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويسجد بسجدتي الفجر، فذلك ثلاث عشرة ركعة). رواه أبو داود وغيره، وقال النووي: وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط، والأحاديث الصحيحة ترد عليه قلت: معناه يوتر بسجدة أي: بركعة وركعتين قبله فيصير وتره ثلاثا ونفله ثمانيا، والركعتان للفجر، ولأبي حنيفة أيضا أحاديث صحيحة ترد عليه. منها: ما رواه النسائي في (سننه) بإسناده إلى عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلم في ركعتي الوتر)، ومنها: ما رواه في (مستدركه) بإسناده إلى عائشة، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن). وقال: إنه صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه. ومنها: ما رواه الدارقطني. ثم البيهقي عن يحيى بن زكريا عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن ابن يزيد النخعي عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب). فإن قلت: قال الدارقطني: لم يروه عن الأعمش مرفوعا غير يحيى بن زكريا وهو ضعيف، وقال البيهقي: ورواه الثوري وعبد الله بن نمير وغيرهما عن الأعمش فوقفوه. قلت: لا يضرنا كونه موقوفا على ما عرف، مع أن الدارقطني أخرج عن عائشة أيضا نحوه مرفوعا. وأخرج النسائي من حديث ابن عمر، قال: حدثنا قتيبة عن الفضيل بن عياض عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن ابن عمر، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (صلاة المغرب وتر صلاة النهار فأوتروا صلاة الليل). وهذا السند على شرط الشيخين. وروى الطحاوي: حدثنا روح بن الفرج حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة (عن عقبة بن مسلم، قال: سألت عبد الله بن عمر عن الوتر، فقال: أتعرف وتر النهار؟ فقلت: نعم صلاة المغرب، قال: صدقت وأحسنت). وقال الطحاوي: وعليه يحمل حديث ابن عمر (أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل) إلى آخر حديث الباب، قال: معناه: صل ركعة في ثنتين قبلها وتتفق بذلك الأخبار. حدثنا أبو بكرة حدثنا أبو داود حدثنا أبو خالد: سألت أبا العالية عن الوتر. فقال: علمنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوتر مثل صلاة المغرب، هذا وتر الليل، وهذا وتر النهار. وروى الطحاوي عن أنس قال: الوتر ثلاث ركعات. وروى أيضا عن المسور بن مخرمة، قال: دفنا أبا بكر ليلا فقال عمر، رضي الله تعالى عنه: إني لم أوتر، فقام وصففنا وراءه فصلى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن. وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا حفص بن عمر عن الحسن، قال: أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاثة لا يسلم إلا في آخرهن. وقال الكرخي: أجمع المسلمون... إلى آخره، نحوه، ثم قال: وأوتر سعد بن أبي وقاص بركعة فأنكر عليه ابن مسعود، وقال: ما هذه البتيراء التي لا نعرفها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وعن عبد الله بن قيس، قال: (قلت لعائشة: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأقل من سبع ولا بأكثر من عشرة). رواه أبو داود، فقد نصت على الوتر بثلاثة ولم تذكر الوتر بواحدة، فدل على أنه لا اعتبار للركعة البتيراء. وقال النووي: وقال أصحابنا: لم يقل أحد من العلماء: إن الركعة الواحدة لا يصح الإيتار بها إلا أبو حنيفة والثوري ومن تابعهما قلت: عجبا للنووي كيف ينقل هذا النقل الخطأ ولا يرده مع علمه بخطئه، وقد ذكرنا عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن الإيتار بثلاث، ولا تجزى الركعة الواحدة. وروى الطحاوي: عن عمر بن عبد العزيز أنه أثبت الوتر بالمدينة بقول الفقهاء: ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، واتفاق الفقهاء بالمدينة على اشتراط الثلاث بتسليمة واحدة يبين لك خطأ نقل الناقل اختصاص ذلك بأبي حنيفة والثوري وأصحابهما. فإن قلت: ما تقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة؟) قلت: معناه متصلة بما قبلها، ولذلك قال: (توتر لك ما قبلها)، ومن يقتصر على ركعة واحدة كيف توتر له ما قبلها وليس قبلها شيء؟ فإن قلت: روي أنه قال: (من شاء أوتر بركعة، ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس) قلت: هو هو محمول على أنه كان قبل استقرارها، لأن الصلاة المستقرة لا يخير في أعداد ركعاتها، وكذا قول عائشة: (كان يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة)، يعارضه ما روى ابن ماجة عن أم سلمة، رضي الله تعالى عنها: أنه كان يوتر بسبع أو بخمس لا يفصل بينهن بتسليم ولا كلام، فيحمل على أنه كان قبل استقرار الوتر، ومما يدل على ما ذهبنا إليه حديث النهي عن البتيراء: أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها. أخرجه ابن عبد البر في (التمهيد) عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء، وممن قال: يوتر بثلاث لا يفصل بينهن: عمر وعلى وابن مسعود وحذيفة وأبي بن كعب وابن عباس وأنس وأبو أمامة
4

وعمر بن عبد العزيز والفقهاء السبعة وأهل الكوفة، وقال الترمذي: ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إليه. وعند النسائي بسند صحيح (عن أبي بن كعب: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوتر: بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد ولا يسلم إلا في آخرهن). وعند الترمذي من حديث الحارث: (عن علي رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوتر بثلاث).
الوجه الثالث: في وقت الوتر، ووقته وقت العشاء، فإذا خرج وقته لا يسقط عنه بل يقضيه. وفي (شرح المهذب): جمهور العلماء على أن وقت الوتر يخرج بطلوع الفجر، وقيل: إنه يمتد بعد الفجر إلى أن يصلى الفجر. قال ابن بزيزة: ومشهور مذهب مالك أن يصليه بعد طلوع الفجر ما لم يصل الصبح، والشاذ من مذهبه إنه لا يصلي بعد طلوع الفجر. قال: وبالمشهور من مذهبه قال أحمد والشافعي، ومن السلف: ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبو الدرداء وعائشة. وقال طاووس: يصلي الوتر بعد صلاة الصبح، وقال أبو ثور والأوزاعي والحسن والليث: يصلي ولو طلعت الشمس، وقال سعيد بن جبير: يوتر من القابلة، وفي (المصنف): عن الحسن قال: لا وتر بعد الغداة، وفي لفظ: (إذا طلعت الشمس فلا وتر)، وقال الشعبي: من صلى الغداة ولم يوتر فلا وتر عليه، وكذا قاله مكحول وسعيد بن جبير.
199 وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته.
قال بعضهم: وهو معطوف على الإسناد الأول، وليس كذلك، وإنما هو معلق، ولو كان مسندا لم يفرقه، وإنما فرقه لأمرين: أحدهما: أنه كان سمع كلا منهما مفترقا عن الآخر. والآخر: أنه أراد الفرق بين الحديث والأثر، وهذا ما رواه مالك عن نافع أن ابن عمر... إلى آخره، وأخرجه الطحاوي أيضا عن يونس بن عبد الأعلى عن أبي وهب عن مالك، وأخرجه أيضا عن صالح بن عبد الرحمن عن سعيد بن منصور: حدثنا هشيم عن منصور (عن بكر بن عبد الله، قال: صلى عمر ركعتين، ثم قال: يا غلام أرحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة). قال الطحاوي: ففي هذه الآثار أنه كان يوتر بثلاث، ولكن يفصل بين الواحدة والاثنتين. فإن قلت: هذا يؤيد مذهب من قال: إن الوتر ركعة واحدة. قلنا: إن ابن عمر لما سأله عقبة بن مسلم عن الوتر فقال: أتعرف وتر النهار؟ فقال: نعم، صلاة المغرب. قال: صدقت، أو أحسنت، فهذا ينادي بأعلى صوته أن الوتر كان عند ابن عمر ثلاث ركعات كصلاة المغرب، فالذي روى عنه مما ذكرنا فعله، وهذا قوله والأخذ بالقول أولى لأنه أقوى، وقد قلنا: إن الحسن البصري حكى إجماع المسلمين على الثلاث بدون الفصل.
299 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة وهي خالته فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام حتى انتصف الليل أو قريبا منه فاستيقظ يمسح النوم عن وجهه ثم قرأ عشر آيات من آل عمران ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ألى شن معلقة فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قام يصلي فصنعت مثله فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني يفتلها ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح.
.
إنما ذكر هذا الحديث ههنا بعد أن ذكره في عدة مواضع في: العلم والطهارة والأمانة والمساجد وغيرها، لأن فيه تعلقا بالوتر، وهو قوله: (ثم أوتر)، وقد مر الكلام فيه مستوفى، ولنذكر ههنا ما لم نذكره. قوله: (أنه بات عند ميمونة)، وزاد شريك بن أبي نمر: (عن كريب عند مسلم فرقبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يصلي). وزاد أبو عوانة في (صحيحه)
5

من هذا الوجه: بالليل، ولمسلم من طريق عطاء عن ابن عباس، قال: (بعثني العباس إلى النبي، صلى الله عليه وسلم..) وزاد النسائي من طريق حبيب بن أبي ثابت (عن كريب: في إبل أعطاه إياها من الصدقة). ولأبي عوانة من طريق علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه: (أن العباس بعثه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فوجده جالسا في المسجد، فلم أستطع أن أكلمه، فلما صلى المغرب قام فركع حتى أذن المؤذن بصلاة العشاء)، ولابن خزيمة من طريق طلحة بن نافع عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد العباس ذودا من الإبل، فبعثني إليه بعد العشاء وكان في بيت ميمونة). فإن قلت: هذا يخالف ما قبله؟ قلت: يحتمل على أنه لما لم يكلمه في المسجد أعاده إليه بعد العشاء. ولمحمد بن نصر في (كتاب قيام الليل) من طريق محمد بن الوليد بن نويفع، (عن كريب من الزيادة، فقال لي: يا بني، بت الليلة عندنا). وفي رواية حبيب بن أبي ثابت: (فقلت: لا أنام حتى أنظر إلى ما يصنع)، أي في صلاة الليل، وفي رواية مسلم من طريق الضحاك بن عثمان عن مخرمة (فقلت لميمونة: إذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأيقظيني). قوله: (في عرض الوسادة)، وفي رواية محمد بن الوليد المذكورة: (وسادة من أدم حشوها ليف)، وفي رواية طلحة ابن نافع المذكور: (ثم دخل مع امرأته في فراشها)، وزاد: (أنها كانت ليلتئذ حائضا)، وفي رواية شريك بن أبي نمر عن كريب في (التفسير): (فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة). وقال ابن الأثير: الوسادة المخدة والجمع الوسائد، وفي (المطالع: وقد قالوا: إساد ووساد، والوساد ما يتوسد إليه للنوم. وقال أبو الوليد: والظاهر أنه لم يكن عندهما فراش غيره، فلذلك باتوا جميعا فيه. والعرض، بفتح العين ضد الطول، وفي (المطالع): وبعضهم يضمها والفتح أشهر، وهو الناحية والجانب. وقال ابن عبد البر: وهي الفراش وشبهه. قال: وكان والله أعلم مضطجعا عند رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند رأسه. قوله: (حتى انتصف الليل أو قريبا منه) وجزم شريك بن أبي نمر في روايته المذكورة: بثلث الليل الأخير. فإن قلت: ما التوفيق بينهما؟ قلت: يحمل على أن الاستيقاظ وقع مرتين، ففي الأول: نظر إلى السماء ثم تلا الآيات ثم عاد لمضجعه فنام، وفي الثانية: أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وفي رواية الثوري: عن سلمة بن كهيل عن كريب في (الصحيحين): (فقام من الليل فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه ثم قام فأتى القربة..) الحديث. وفي رواية سعيد بن مسروق عن سلمة عند مسلم: (ثم قام قومة أخرى)، وعنده من رواية شعبة عن سلمة: (فبال)، بدل: (فأتى حاجته). فإن قلت: قريبا منصوب بماذا؟ قلت:
بعامل مقدر نحو: صار الليل قريبا من الانتصاف. قوله: (من آل عمران) أي: من خاتمتها وهي * (إن في خلق السماوات والأرض) * (آل عمران: 091). إي آخرها. قوله: (ثم قام إلى شن، زاد محمد بن الوليد: (ثم استفرغ من الشن في إناء ثم توضأ). قوله: (معلقة) إنما أنثها باعتبار أن الشن في معنى القربة. قوله: (فأحسن الوضوء)، وفي رواية محمد بن الوليد وطلحة بن نافع جميعا: (فأسبغ الوضوء)، وفي رواية عمرو بن دينار عن كريب: (فتوضأ وضوءا خفيفا)، ولمسلم من طريق عياض عن مخرمة: (فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلا، وزاد فيها: (فتسوك)، وفي رواية شريك عن كريب: (فاستن). قوله: (ثم قام يصلي)، وفي رواية محمد بن الوليد: (ثم أخذ بردا له حضرميا فتوشحه، ثم دخل البيت فقام يصلي). قوله: (فأخذ بأذني) زاد محمد بن الوليد في روايته: (فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل). وفي رواية الضحاك بن عثمان: (فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني). قوله: (فصلى ركعتين ثم ركعتين)، وفي رواية هذا الباب ذكر الركعتين ست مرات، ثم قال: (ثم أوتر)، وذلك يقتضي أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، وصرح بذلك في رواية سلمة الآتية في الدعوات، حيث قال: (فتتامت)، ولمسلم: (فتكاملت صلاته ثلاث عشرة ركعة). وظاهر هذا أنه فصل بين كل ركعتين، ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع حيث قال فيها: (يسلم بين كل ركعتين)، ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضا، وقد ورد عن ابن عباس في هذا الباب أحاديث كثيرة بروايات مختلفة، وكذلك عن عائشة، رضي الله تعالى عنها. وقال الطحاوي: إذا جمعت معاني هذه الأحاديث تذل على أن وتره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث ركعات. قوله: (ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين)، قال القاضي: فيه أن الاضطجاع كان قبل ركعتي الفجر، وفيه رد على الشافعي في قوله: إنه كان بعد ركعتي الفجر، وذهب مالك والجمهور إلى أنه بدعة. قوله: (ثم خرج) أي: إلى المسجد فصلى الصبح بالجماعة.
6

399 حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال أخبرني عمر و أن عبد الرحمان ابن القاسم حدثه عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت.
.
قد مضى هذا الحديث عن قريب في باب ما جاء في الوتر: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع وعبد الله بن دينار كلاهما عن ابن عمر، وههنا أخرجه عن يحيى بن سليمان أبي سعيد الجعفي الكوفي نزيل مصر، وهو من أفراده، يروى عن عبد الله بن وهب المصري عن عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
قال القاسم: ورأينا أناسا منذ أدركنا يوترون بثلاث وإن كلا لواسع أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس
القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر المذكور آنفا في الحديث. قال بعضهم: هو بالإسناد المذكور كذلك أخرجه أبو نعيم في (مستخرجه) ووهم من زعم أنه معلق. قلت: الصواب مع من ادعى التعليق لأنه فصله عما قبله، فجعله ابتداء كلام، ولا يلزم من استخراج أبي نعيم إياه موصولا أن يكون هذا موصولا. قوله: (منذ أدركنا) أي: منذ زمان بلوغنا العقل والحلم. قوله: (يوترون بثلاث)، أي: بثلاث ركعات. قوله: (وإن كلا) أي: وإن كل واحد من الركعة والثلاث واسع، يعني: لا حرج في فعل أيهما شاء. وقال الكرماني: من الركعة والثلاث والخمس والسبع والتسع والإحدى عشرة لجائز. قلت: الكلام في الوتر الذي هو ركعة واحدة أم ثلاث ركعات وما فوق الثلاث من الأوتار ليس فيه خلاف، وقال بعضهم: فيه ما يقتضي أن القاسم فهم من قوله: (فاركع ركعة) أي: منفردة منفصلة، ودل ذلك على أنه لا فرق عنده بين الوصل والفصل في الوتر. قلت: القاسم صاحب لسان وفهم وعلم، كيف ينسب إليه ما لا يدل عليه اللفظ؟ فإن قوله: (فاركع ركعة) يعني: ركعة واحدة، وهو أعم من أن تكون متصلة أو منفصلة، ولكن قوله: (توتر لك ما صليت)، يدل على أنه يوصلها بالركعتين اللتين قبلها حتى يكون ما صلاه وترا ثلاث ركعات، لأن المراد من قوله: (ما صليت)، هو الذي صلاه قبل هذه الركعة، ولا يكون هذا وترا إلا إذا انضمت إليه هذه الركعة الواحدة من غير فصل، فإذا فصل لا يكون الوتر إلا هذه الركعة وهي واحدة، والواحدة بتيراء، وقد نهى عنها على ما ذكرنا فيما مضى.
499 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري عن عروة أن عائشة إخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل فيسجد السجدة من ذالك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة.
.
هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في: باب طول السجود في قيام الليل، بهذا الإسناد والمتن بعينهما، وأبو اليمان الحكم ابن نافع، وشعيب بن أبي حمزة الحمصي، والزهري هو محمد بن مسلم. قوله: (كان يصلي إحدى عشرة ركعة)، وروي عن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، خلاف ما رواه الزهري عنه، وهو ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين) أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك. وأخرجه الطحاوي عن يونس بن عبد على عن ابن وهب عن مالك نحوه، وروى أبو داود أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم، قالا: حدثنا أبان عن يحيى عن أبي سلمة (عن عائشة عن نبي الله صلى الله عليه وسلم
1764;: كان
7

يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، كان يصلي ثماني ركعات ويوتر بركعة، ثم يصلي. قال مسلم: بعد الوتر ركعتين وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي بين أذان الفجر والإقامة ركعتين). وأخرجه مسلم والنسائي أيضا. وأخرجه أبو داود أيضا من حديث القاسم بن محمد عن عائشة، قالت: (وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة، ويسجد سجدتي الفجر، فذلك ثلاث عشرة ركعة). وأخرج أيضا من حديث الأسود بن يزيد: (أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالليل فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه يصلي إحدى عشرة ركعة ويترك ركعتين، ثم قبض حين قبض وهو يصلي من الليل تسع ركعات آخر صلاته من الليل الوتر). وروى أيضا من حديث سعد بن هشام في حديث طويل: أنه سأل عائشة قال: (قلت حدثيني عن قيام الليل! فأخبرت به ثم قال: حدثيني عن وتر النبي، صلى الله عليه وسلم، قالت: كان يوتر بثمان ركعات لا يجلس إلا في الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك إحدى عشرة ركعة، يا بني، فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فتلك تسع ركعات يا بني). إعلم أن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أطلقت على جميع صلاته، صلى الله عليه وسلم، في الليل التي كان فيها الوتر: وترا، فجملتها إحدى عشرة ركعة، وهذا كان قبل أن يبدن ويأخذ اللحم، فلما بدن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات، وههنا أيضا أطلقت على الجميع: وترا، والوتر منها ثلاث ركعات، أربع قبله من النفل وبعده ركعتان، فالجميع تسع ركعات. فإن قلت: قد صرحت في الصورة الأولى بقولها: (لا يجلس إلا في الثامنة ولا يسلم إلا في التاسعة)، وصرحت في الصورة الثانية بقولها: (لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة). قلت: هذا اقتصار منها على بيان جلوس الوتر وسلامه، لأن السائل إنما سأل عن حقيقة الوتر ولم يسأل عن غيره، فأجابت مبينة بما في الوتر من الجلوس على الثانية بدون سلام، والجلوس أيضا على الثالثة بسلام وهذا عين مذهب أبي حنيفة، وسكت عن جلوس الركعات التي قبلها وعن السلام فيها، كما أن السؤال لم يقع عنها، فجوابها قد طابق سؤال السائل، غير أنها أطلقت على الجميع: وترا في الصورتين لكون الوتر فيها، ويؤيد ما ذكرناه ما روى الطحاوي: من حديث يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن (عن عائشة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما: بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، ويقرأ في الوتر: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس). وأخرج من حديث عمران بن حصين: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى: بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية: قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة: قل هو الله أحد). وقد وقع الاختلاف في أعداد ركعات صلاته، صلى الله عليه وسلم، بالليل من سبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة إلى سبع عشرة ركعة، وقدر عدد ركعات الفرض في اليوم والليلة. فإن قلت: ما تقول في هذا الاختلاف؟ قلت: كل واحد من الرواة مثل عائشة وابن عباس وزيد بن خالد وغيرهم أخبر بما شاهده، وأما الاختلاف عن عائشة فقيل: هو من الرواة عنها، وقيل: هو منها: ويحتمل أنها أخبرت عن حالات: منها: ما هو الأغلب من فعله، صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما هو نادر: ومنها: ما هو اتفق من اتساع الوقت وضيقه على ما ذكرناه.
2
((باب ساعات الوتر))
أي: هذا باب في بيان ساعات الوتر، أي: أوقاته.
قال أبو هريرة أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بالوتر قبل النوم
مطابقته هذا التعليق للترجمة من حيث إن قبل النوم ساعة من ساعات الوتر، وساعات الوتر هو الليل كله، غير أن أوله من مغيب الشفق على الاختلاف، ولكن لا يجوز تقديمه على صلاة العشاء. وقد استقصينا الكلام فيه في الباب الذي قبله، وهذا التعليق طرف من حديث أورده البخاري من طريق أبي عثمان عن أبي هريرة بلفظ: (وأن أوتر قبل أن نام). ووجه أمره صلى الله عليه وسلم بالوتر لأبي هريرة قبل النوم خشية أن يستولي عليه النوم، فأمره بالأخذ بالثقة، وبهذا وردت الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم منها: حديث
8

عائشة: (من خاف أن لا يستيقظ آخر الليل فليوتر أول الليل، ومن علم أن يستيقظ آخر الليل فإن صلاته آخر الليل محضورة، وذلك أفضل).
599 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا أنس بن سيرين قال قلت لابن عمر أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة نطيل فيهما القراءة فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى ويوتر بركعة ويصلي الركعتين قبل صلاة الغداة وكان الأذان بأذنيه قال حماد أي سرعة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يصلي من الليل)، فإن قوله: (من الليل) مجموع الليل لأنه مبهم يصلح لجميع أجزاء الليل حيث لم يعين بعضا منه، وهو ساعات الوتر، وعن هذا قال ابن بطال: ليس للوتر وقت معين لا يجوز في غيره، لأنه صلى الله عليه وسلم أوتر كل الليل.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي: الثاني: حماد بن زيد. الثالث: أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين أبو حمزة، مات بعد أخيه محمد، ومات محمد سنة عشر ومائة. الرابع: عب الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: أن شيخه مذكور بكنيته.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة: عن خلف بن هشام وأبي كامل الجحدري عن غندر عن شعبة عنه به، وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة عن حماد بن زيد به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أحمد بن عبدة عن حماد به.
ذكر معناه: قوله: (أريت؟) بهمزة الاستفهام معناه: أخبرني. قوله: (نطيل)، بنون الجمع من: أطال يطيل إذا طول، وهكذا رواية الأكثرين، وفي رواية
الكشميهني: (أطيل)، بهمزة المتكلم وحده. وقال الكرماني: (أطيل) بلفظ مجهول الماضي ومعروف المضارع. قلت: لا أدري مجهول الماضي رواية أم لا؟ قوله: (وكان)، بتشديد النون. قوله: (بأذنيه) بضم الهمزة وسكون الذال وضمها تثنية أذن، ويروى: (بإذنه) بالإفراد وقوله: (وكأن الأذان بأذنه) عبارة عن سرعته بركعتي الفجر، والمراد من الأذان الإقامة، والحاصل أنه: كان يخفف القراءة في ركعتي الفجر مثل من كان يسمع إقامة الصلاة ويسرع خشية فوات الوقت عنه. وقال المهلب: وكأن الأذان بإذنه يريد الإقامة من أجل التغليس بالصلاة. قوله: قال حماد)، وهو ابن زيد الراوي. قيل: وهو بالإسناد المذكور قلت: وفيه نظر. قوله: (بسرعة) بالباء الموحدة في رواية أبي ذر وأبي الوقت وابن شبويه، وفي رواية غيرهم (سرعة) بغير الباء وهو تفسير من الراوي لقوله: (كأن الأذان بأذنيه).
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: أن صلاة الليل مثنى مثنى، وقد مر الكلام فيه. الثاني: استدل به الشافعي على أن الوتر ركعة واحدة، وقد ذكرنا الجواب عنه مستقصى في الباب الذي قبله. الثالث: فيه الصلاة بركعتين قبل صلاة الصبح. الرابع: تخفيف القراءة فيهما.
699 حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثني مسلم عن مسروق عن عائشة قالت كل الليل أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهى وتره إلى السحر.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه يدل على أن كل الليل ساعات الوتر، وأولها من بعد صلاة العشاء، وآخرها إلى طلوع الفجر الصادق. وقد روى أبو داود من حديث خارجة: أن وقته ما بين العشاء وطلوع الفجر، واستغربه الترمذي.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عمر بن حفص النخعي الكوفي، وقد تكرر ذكره. الثاني: أبوه حفص بن غياث بن طلق بن معاوية أبو عمرو النخعي الكوفي، قاضيها. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: مسلم بن صبيح أبو الضحى الكوفي. الخامس: مسروق بن عبد الرحمن، ويقال: ابن الأجدع، وهو لقب عبد الرحمن الكوفي. السادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
9

ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون. وفيه: ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش ومسلم ومسروق.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية عن الأعمش به وعن علي بن حجر وعن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش عن الأعمش به.
ذكر معناه: قوله: (كل الليل)، يجوز في: كل، الرفع والنصب. أما الرفع فعلى أنه مبتدأ والجملة بعده خبره، وأما النصب فعلى الظرفية لقوله: (أوتر)، والمراد منه أنه أوتر في جميع الليل أو في جميع ساعات الليل، يعني: إما أن يراد به جزئيات الليل أو أجزاؤه. وفي رواية مسلم عن مسروق، (عن عائشة قالت: من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر). وله عن عائشة: (من كل الليل، قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أول الليل وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر)، وله في رواية أخرى قالت: (كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى آخر الليل). وفي رواية أبي داود عن مسروق قال: قلت لعائشة: متى كان يوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كل ذلك قد فعل: أوتر أول الليل وأوسطه وآخره، ولكن انتهى وتره حين مات إلى السحر). انتهى. قلت: قد يكون أوتر من أوله لشكوى حصلت، وفي وسطه لاستيقاظه إذ ذاك وآخره غاية له، ومعنى قوله: وانتهى وتره إلى السحر أي: كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم أنه أخر الوتر إلى آخر الليل، ويقال: فعله صلى الله عليه وسلم أول الليل وأوسطه، بيان للجواز، وتأخيره إلى آخر الليل تنبيه على الأفضل لمن يثق بالانتباه، وكان بعض السلف يوترون أول الليل، منهم: أبو بكر وعثمان وأبو هريرة ورافع بن خديج، رضي الله تعالى عنهم، وبعضهم يوترون آخر الليل منهم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وغيرهم من التابعين، وأما أمره صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بالوتر قبل النوم فهو اختيار منه له حين خشي عليه من استيلاء النوم، فأمره بالأخذ بالثقة، والترغيب في الوتر في آخر الليل هو لمن قوي عليه، ولم تكن عادته أن تغلبه عيناه، وعند ابن خزيمة من حديث أبي قتادة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر، متى توتر؟ قال: قبل أن أنام. وقال لعمر: متى توتر؟ فقال: أنام ثم أوتر. فقال لأبي بكر أخذت بالحزم أو بالوثيقة، وقال لعمر: أخذت بالقوة، وقال الخطابي: حدثنا محمد بن هشام حدثنا الديري عن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن شهاب عن ابن المسيب: (أن أبا بكر وعمر تذاكرا الوتر عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أما أنا فإني أنام على وتر فإن استيقظت صليت شفعا حتى الصباح. وقال عمر: لكن أنام على شفع ثم أوتر في السحر. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: حذر هذا، ولعمر: قوي هذا). وفي فوائد سمويه من حديث ابن عقيل (عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: أي حين توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة). وقد ذكرنا الاختلاف في أول وقت الوتر، وآخره في الباب الذي قبله.
3
((باب إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم أهله بالوتر))
أي: هذا باب في بيان إيقاظ النبي، صلى الله عليه وسلم، والإيقاظ مصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: (أهله) بالنصب مفعوله، قوله: (بالوتر) بالباء الموحدة، وفي رواية الكشميهني: (للوتر)، باللام.
799 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى قال حدثنا هشام قال حدثني أبي عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وفائدة وضع هذه الترجمة الإشارة إلى أن المستحب لكل أحد أن يوقظ امرأته لأجل صلاة الوتر إذا نامت قبل الإيتار. وفيه تأكيد لأمر الوتر والامتثال لقوله تعالى: * (وأمر أهلك بالصلاة) * (طه: 231). وفيه مشروعية الوتر في حق النساء.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويحيى هو القطان، وهشام هو ابن عروة، وعروة هو ابن الزبير بن العوام، وقد ذكر
10

البخاري هذا الحديث بعين هذا الإسناد والمتن جميعا في: باب الصلاة خلف النائم، وقد استقصينا الكلام فيه هناك.
قوله: (فأوترت) الفاء فيه تسمى: فاء الفصيحة، فتقديره: فقمت وتوضأت فأوترت.
4
((باب ليجعل آخر صلاته وترا))
أي: هذا باب ترجمته ليجعل إلى آخره أي: ليجعل المصلي آخر صلاته بالليل صلاة الوتر.
899 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثني نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن الترجمة مأخوذة منه. ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبيد الله ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل، وفي روايته بعد قوله: (وترا، فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يأمر بذلك).
ويستفاد منه حكمان: الأول: استحباب تأخير الوتر، وقد مر الكلام فيه. والثاني: فيه الدلالة على وجوب الوتر.
واختلف العلماء فيه، فقال القاضي أبو الطيب: إن العلماء كافة قالت: إنه سنة، حتى أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وحده: هو واجب وليس بفرض. وقال أبو حامد في تعليقه: الوتر سنة مؤكدة ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأئمة كلها إلا أبا حنيفة. وقال بعضهم: وقد استدل بهذا الحديث بعض من قال بوجوبه، وتعقب بأن صلاة الليل ليست واجبة... إلى آخره، وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله. وقال الكرماني أيضا ما يشبه هذا. قلت: هذا كله من آثار التعصب، فكيف يقول القاضي أبو الطيب وأبو حامد، وهما إمامان مشهوران، بهذا الكلام الذي ليس بصحيح ولا قريب من الصحة؟ وأبو حنيفة لم ينفرد بذلك، هذا القاضي أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه، وحكى ابن حزم أن مالكا قال: من تركه أدب، وكانت جرحه في شهادته، وحكاه ابن قدامة في (المغني) عن أحمد، وفي (المصنف) عن مجاهد بسند صحيح: هو واجب ولم يكتب، وعن ابن عمر بسند صحيح: ما أحب أني تركت الوتر وأن لي حمر النعم، وحكى ابن بطال وجوبه عن أهل القرآن عن ابن مسعود وحذيفة وإبراهيم النخعي، وعن يوسف بب خالد السمتي شيخ الشافعي وجوبه، وحكاه ابن أبي شيبة أيضا عن سعيد بن المسيب وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضحاك. انتهى.
فإذا كان الأمر كذلك، كيف يجوز لأبي الطيب ولأبي حامد أن يدعيا هذه الدعوى الباطلة؟ فهذا يدل على عدم اطلاعهما، فيما ذكرنا، فجهل الشخص بالشيء لا ينفي علم غيره به.
وقول من ادعى التعقب بأن: صلاة الليل ليست بواجبة.. إلى آخره، قول واه لأن الدلائل قامت على وجوب الوتر. منها: ما رواه أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو إسحاق الطالقاني حدثنا الفضل بن موسى عن عبيد الله بن عبد الله العتكي (عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا). وهذا حديث صحيح، ولهذا أخرجه الحاكم في (مستدركه) وصححه. فإن قلت: في إسناده أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله، وقد تكلم فيه البخاري وغيره. قلت: قال الحاكم: وثقه ابن معين، وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو صالح الحديث، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء، فهذا ابن معين إمام هذا الشأن وكفى به حجة في توثيقه إياه. فإن قلت: قال الخطابي: قد دلت الأخبار الصحيحة على أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي لا يسع غيره. منها: خبر عبادة بن الصامت لما بلغه أن أبا محمد، رجلا من الأنصار، يقول: (الوتر حق، فقال: كذب أبو محمد، ثم روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في عدد الصلوات الخمس. ومنها: خبر طلحة بن عبيد الله في سؤال الأعرابي. ومنها: خبر أنس بن مالك في فرض الصلوات ليلة الإسراء قلت: سبحان الله ما أقرب هذا الكلام، إلى السقوط، فمنه يشم أثر التعصب، وكيف لا يكون واجبا والشارع يقول الوتر حق، أي: واجب ثابت، والدليل على هذا المعنى. قوله: (فمن لم يوتر فليس منا؟) وهذا وعيد شديد، ولا يقال مثل هذا إلا في حق تارك فرض أو واجب، ولا سيما وقد تأكد ذلك بالتكرار ثلاث مرات، ومثل هذا الكلام بهذه التأكيدات لم يأت في حق السنين، فسقط بذلك ما قاله الخطابي
11

وسقط أيضا قوله: الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليله، فهذا القائل وقف على دليله ولكن اتبع هواه لغيره، فالحق أحق أن يتبع، والجواب عن خبر عبادة أنه إنما كذب الرجل في قوله كوجوب الصلاة، ولم يقل أحد: أن الوتر واجب كوجوب الصلاة. فإن قلت: قال النجم النسفي صاحب المنظومة.
* والوتر فرض وبدا بذكره
* في فجره فساد فرض فجره
*
قلت: معناه: فرض عملا، سنة سببا واجب علما. وأما خبر طلحة بن عبيد الله فكأنه قبل وجوب الوتر بدليل أنه لم يذكر فيه الحج، فدل على أنه متقدم على وجوب الحج، ولفظة: (زادكم صلاة) مشعرة بتأخر وجوب الوتر، وأما خبر أنس فلا نزاع فيه أنه كان قبل الوجوب، ومن الدليل على وجوبه ما رواه أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى عن زكريا عن أبي إسحاق عن عاصم وعن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر)، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن وقوله: (أوتروا) أمر، وهو للوجوب. فإن قلت: قال الخطابي: تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام. قلت: أهل القرآن بحسب اللغة يتناول كل من معه شيء من القرآن ولو كان آية، فيدخل فيه الحفاظ وغيرهم، على أن القرآن كان في زمنه، صلى الله عليه وسلم، مفرقا بين الصحابة: وبهذا التأويل الفاسد لا يبطل مقتضى الأمر الدال على الوجوب، ولا سيما تأكد الأمر بالوتر بمحبة الله إياه بقوله: (فإن الله وتر يحب الوتر).
ومنها: ما أخرجه الطحاوي قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثنا ابن لهيعة والليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن عبد الله بن راشد عن عبد الله بن أبي مرة: عن خارجة بن حذافة العدوي، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الوتر الوتر، مرتين) وهذا سند صحيح. فإن قلت: كيف تقول: صحيح، وفيه ابن لهيعة وفيه مقال؟ قلت: ذكر ابن لهيعة في هذا وعدم ذكره سواء، والعمدة على الليث بن سعد، ولهذا أخرجه الترمذي ولم يذكر ابن لهيعة، فقال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن راشد الزرقي (عن خارجة بن حذافة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر). وقال أبو عيسى: حديث خارجة بن حذافة حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث، فقال عبد الله بن راشد الزرقي: وهو وهم. وأخرجه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه لتفرد التابعي من الصحابي قلت: كأنه يشير إلى أن خارجه تفرد عنه ابن أبي مرة، وليس كذلك، فإن أبا عبيد الله محمد بن الربيع الجيزي في (كتاب الصحابة) تأليفه، روى عنه أيضا عبد الرحمن بن جبير، قال: ولم يرو عنه غير أهل مصر، وقال أبو زيد في (كتاب الأسرار): هو حديث مشهور، ولما أخرجه أبو داود سكت عنه، ومن عادته إذا سكت عن حديث أخرجه يدل على صحته عنده ورضاه به، فإن قلت: أعل ابن الجوزي في التحقيق هذا الحديث بعبد الله بن راشد، ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه، وقال البخاري: لا نعرف لإسناد هذا الحديث سماع بعضهم من بعض. قلت: عبد الله بن راشد وثقه ابن حبان والحاكم، والدارقطني أخرج حديثه هذا ولم يتعرض إليه بشيء، وإنما تعرض للحديث الذي أخرجه عن ابن عباس، فقال: حدثنا الحسين بن إسماعيل حدثنا محمد بن خلف حدثنا أبو يحيى الحماني عبد الحميد حدثنا النضر أبو عمر عن عكرمة (عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يرى البشر والسرور في وجهه، فقال: إن الله أمدكم بصلاة وهي الوتر). النضر أبو عمر الخراز ضعيف، وهذا الحديث مما يقوي حديث خارجة المذكور ويزيده قوة في صحته. فإن قلت: قال الخطابي. قوله: (أمدكم بصلاة)، يدل على أنها غير لازمة لهم، ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام، فيقول: ألزمكم، أو: فرض عليكم أو نحو ذلك وقد روى أيضا في الحديث: (إن الله قد زادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل ذلك على تلك الصورة والهيئة وهي الوتر). قلت: لا نسلم أن قوله: (أمدكم بصلاة)، يدل على أنها غير لازمة، بل يدل على أنها لازمة، وذلك لأنه، صلى الله عليه وسلم، نسب ذلك إلى الله تعالى، فلا يكون ذلك إلا واجبا. وتعيين العبارة ليس بشرط في الوجوب قوله: ومعناه
12

الزيادة في النوافل غير صحيح، لأن الزيادة عن الله تعالى لا تكون نفلا، وإنما يكون ذلك إذا كان من النبي، صلى الله عليه وسلم، بشرط عدم المواظبة.
ومنها حديث أبي بصرة، بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة، واسمه: حميل بن بصرة، بضم الحاء المهملة وفتح الميم، وقيل: جميل، بفتح الجيم وكسر الميم، قال الترمذي: لا يصح. قال الطحاوي: حدثنا علي بن شيبة، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا ابن لهيعة أن أبا تميم عبد الله بن مالك الجيشاني أخبره أنه سمع عمرو بن العاص يقول: أخبرني رجل من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر، ألا وإنه أبو بصرة الغفاري، قال أبو تميم: فكنت أنا وأبو ذر قاعدين..) الحديث، وأخرج الطبراني أيضا في (الكبير: نحوه، وعبد الله بن لهيعة ثقة عند أحمد والطحاوي.
ومنها: حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في (مسنده) من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يوتر فليس منا). ومنها: حديث عبد الله بن عمر وأخرجه أحمد أيضا من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زادكم صلاة فحافظوا عليها وهي الوتر)، فقال عمرو بن شعيب: نرى أن يعاد الوتر ولو بعد شهر.
ومنها حديث بريدة أخرجه أبو داوود وقد ذكرناه ومنها حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني بإسناده عنه وقد ذكرناه.
ومنها: حديث عائشة أخرجه أبو زيد الدبوسي في (كتاب الأسرار) أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتروا يا أهل القرآن، فمن لم يوتر فليس منا). ومنها: حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الحاكم في (مستدركه) بإسناده إلى أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن وتر أو نسيه فليصله إذا
أصبح أو ذكره). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ونقل تصحيحه ابن الحصار أيضا عن شيخه، وأخرجه الترمذي. ومنها: حديث عبد الله بن مسعود أخرجه ابن ماجة من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن، فقال أعرابي: ما تقول؟ فقال: ليس لك ولأصحابك). وأخرجه أبو داود أيضا. ومنها: حديث معاذ بن جبل أخرجه أحمد في (مسنده) من رواية عبيد الله بن زحر عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي أفريقية أن معاذ بن جبل قدم الشام وأهل الشام لا يوترون، فقال: وواجب ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (زادني ربي، عز وجل، صلاة وهي الوتر فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر). قلت: عبيد الله بن زحر ضعيف جدا، ومعاوية لم يتأمر في حياة معاذ، رضي الله تعالى عنه، ومنها: حديث أبي برزة أخرجه أبو عمر في (الاستذكار) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا). ومنها: حديث أبي أيوب الأنصاري أخرجه الدارقطني في (سننه): بإسناده إليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق واجب) الحديث. ومنها: حديث سليمان بن صرد أخرجه الطبراني في (الأوسط) بإسناده إليه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استاكوا وتنظفوا وأوتروا فإن الله وتر يحب الوتر). وفي سنده إسماعيل بن عمرو، وثقه ابن حبان وضعفه الدارقطني. حديث عقبة بن عامر وعمرو بن العاص فأخرجهما الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) بإسناده إليهما عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر، وهي فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر). ومنها: حديث عبد الله ابن أبي أوفى أخرجه البيهقي في (الخلافيات) من رواية أحمد بن مصعب: حدثنا الفضل بن موسى حدثنا أبو حنيفة عن أبي يعفور عن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله زادكم صلاة وهي الوتر).
5
((باب الوتر على الدابة))
أي: هذا باب في بيان حكم الوتر على الدابة، ولم يلزم ببيان حكمه اكتفاء بما في الحديث، والمراد من الدابة هنا دابة يركب عليها.
999 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمان بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب عن سعيد بن يسار أنه قال كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فقال سعيد فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم لحقته فقال عبد الله بن عمر أين كنت
13

فقلت خشيت الصبح فنزلت فأوترت فقال عبد الله أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقلت بلى والله قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي في قوله: (كان يوتر على البعير)، وهو بين حكم الترجمة لأنها كانت مبهمة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي إويس، واسم أبي أويس عبد الله وهو ابن أخت مالك بن أنس، وقد مر غير مرة. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: أبو بكر بن عمر، لا يعرف اسمه، وقال ابن حبان: ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به لا يسمى. الرابع: سعيد بن يسار ضد اليمين أبو الحباب، بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الأولى، من علماء المدينة، مات سنة سبع عشرة ومائة. الخامس: عبد الله ابن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون. وفيه: أن أبا بكر ليس له في البخاري غير هذا الحديث، وكذلك في (صحيح مسلم) وفيه: أن أبا بكر قيل فيه إنه ابن عباس بن عبد الرحمن بإسقاط عمر بينهما، والصحيح إثباته.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه الترمذي والنسائي جميعا فيه عن قتيبة، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أحمد بن سنان عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك.
ذكر معناه: قوله: (خشيت الصبح)، أي: طلوعه. قوله: (أسوة) بكسر الهمزة وضمها، معناه: الاقتداء. قوله: (حسنة) بالرفع صفة للأسوة. قوله: (بلى والله) تأكيد للأمر الذي أراده. قوله: (على البعير) البعير: الجمل الباذل، وقيل: الجذع، وقد تكون للأنثى. وحكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعير لي. وفي (الجامع): البعير بمنزلة الإنسان يجمع المذكر والمؤنث من الناس إذا رأيت جملا على البعد قلت: هذا بعير، فإذا استثبته قلت: جمل أو ناقة. وتجمع على أبعرة وأباعرة. وأباعير وبعران وبعران فإن قلت: الترجمة بالدابة، وفي الحديث لفظ: البعير قلت: ترجم بها تنبيها على أن لا فرق بينها وبين البعير في الحكم، والجامع بينهما أن الفرض لا يجزئ على واحدة منهما.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به عطاء وابن أبي رباح والحسن البصري وسالم بن عبد الله ونافع مولى ابن عمر ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: على أن للمسافر أن يصلي الوتر على دابته. وقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أنه صلى على راحلته فأوتر عليها، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته، ويروى ذلك عن علي وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وكان مالك يقول: لا يصلي على الراحلة إلا في سفر يقصر فيه الصلاة، وقال الأوزاعي والشافعي: قصير السفر وطويله في ذلك سواء، يصلي على راحلته. وقال ابن حزم في (المحلى): ويوتر المرء قائما وقاعدا لغير عذر إن شاء، وعلى دابته. وقال محمد بن سيرين: عن عروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يجوز الوتر إلا على الأرض، كما في الفرائض
، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في رواية ذكرها ابن أبي شيبة في (مصنفه). وقال الثوري: صل الفرض والوتر بالأرض، وإن أوترت على راحلتك فلا بأس، واحتج أهل المقالة الثانية بما رواه الطحاوي: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان عن نافع (عن ابن عمر: أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل). وهذا إسناد صحيح وهو خلاف حديث الباب، وروى الطحاوي أيضا عن أبي بكرة، بكار القاضي، عن عثمان بن عمر وبكر بن بكار، كلاهما عن عمر بن ذر (عن مجاهد: أن ابن عمر كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه به، فإذا كان في السفر نزل فأوتر). رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا هشيم، قال: حدثنا حصين (عن مجاهد، قال: صحبت ابن عمر من المدينة إلى مكة فكان يصلي على دابته حيث توجهت به، فإذا كانت الفريضة نزل فصلى). وأخرجه أحمد في (مسنده) من حديث سعيد بن جبير (أن ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعا، فإذا أراد أن يوتر نزل فأوتر على الأرض). وحديث حنظلة بن أبي سفيان يدل على شيئين: أحدهما فعل ابن عمر إنه كان يوتر بالأرض، والآخر أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل كذلك، وحديث الباب كذلك يدل على الشيئين المذكورين فلا يتم الاستدلال للطائفتين بهذين الحديثين غير أن لأهل المقالة الثانية أن يقولوا: إن ابن عمر
14

يحتمل أنه كان لا يرى بوجوب الوتر، وكان الوتر عنده كسائر التطوعات، فيجوز فعله على الدابة وعلى الأرض، لأن صلاته إياه على الأرض لا ينفي أن يكون له أن يصلي على الراحلة. وأما إيتاره، صلى الله عليه وسلم، على الراحلة فيجوز أن يكون ذلك قبل أن يلفظ امر الوتر ثم أحكم من بعد ولم يرخص في تركه، فالتحق بالواجبات في هذا الأمر بالأحاديث التي ذكرناها عن جماعة من الصحابة في الباب السابق، ووجه النظر والقياس أيضا يقتضي عدم جوازه على الراحلة، بيان ذلك أن الأصل المتفق عدم جواز صلاة الرجل وتره على الأرض قاعدا، وهو يقدر على القيام، فالنظر على ذلك أن لا يصليه في السفر على راحلته وهو يطيق النزول. قال الطحاوي: فمن هذه الجهة عندي ثبت نسخ الوتر على الراحلة. فإن قلت: ما حقيقة النسخ في ذلك وما وجهه؟ قلت: وجه ذلك أن يكون بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين موجبا للمنع والآخر موجبا للإباحة، فإن التعارض بين الحديثين المذكورين ظاهر، ثم ينتفي ذلك بدلالة التاريخ، وهو أن يكون النص الموجب للمنع متأخرا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى وأحق. فإن قلت: كيف يكون النسخ بما ذكرت وقد صح عن ابن عمر أنه كان يوتر على راحلته بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، ويقول: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يفعل ذلك؟ قلت: قد قلنا: إنه كان يجوز أن يكون الوتر عنده كالتطوع، فحينئذ يكون له الخيار في الصلاة على الراحلة وعلى الأرض كما في التطوع، على أن مجاهدا قد روى عنه أنه كان ينزل للوتر، على ما ذكرنا، فعلى هذا يجوز أن يكون ما فعله من وتره على الراحلة قبل علمه بالنسخ، ثم لما علمه رجع إليه وترك الوتر على الراحلة، وبهذا التقرير الذي ذكرناه بطل ما قاله ابن بطال: هذا الحديث أي: حديث الباب حجة على أبي حنيفة في إيجابه الوتر، لأنه لا خلاف أنه لا يجوز أن يصلي الواجب راكبا في غير حال العذر، ولو كان الوتر واجبا ما صلاه راكبا، وكذلك بطل ما قاله الكرماني. فإن قيل: روى مجاهد أن ابن عمر نزل فأوتر قلنا: نزل طلبا للأفضل، لا أن ذلك كان واجبا، وبطل أيضا ما قاله بعضهم: إن هذا الحديث يدل على كون الوتر نفلا، فيا للعجب من هؤلاء كيف تركوا الأحاديث الدالة على وجوب الوتر، وتركوا الإنصاف، وسلكوا طريق التعسف لترويج ما ذهبوا إليه من غير برهان قاطع.
6
((باب الوتر في السفر))
أي: هذا باب في بيان حكم الوتر في السفر، قيل: إنه أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال: إن الوتر لا يسن في السفر. وقال ابن بطال: الوتر سنة مؤكدة في السفر والحضر، وهذا رد على الضحاك فيما قال: إن المسافر لا وتر عليه.
0001 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا جويرة بن أسماء عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومىء إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ويوتر على راحلته).
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي. الثاني: جويرية تصغير جارية بالجيم ابن أسماء، بفتح الهمزة وبالمد على وزن: حمراء، مر في كتاب الغسل في: باب الجنب يتوضأ. الثالث: نافع مولى ابن عمر. الرابع: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بصري وشيخ شيخه أيضا والثالث مدني، وهو من الرباعيات، وهو من أفراد البخاري.
ذكر معناه: قوله: (على راحلته) الراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، ويقال: الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، قاله الجوهري. وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر،
15

فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت. قوله: (يومىء) جملة فعلية مضارعية وقعت حالا، (وإيماء) منصوب على المصدرية. قوله: (صلاة الليل) منصوب لأنه مفعول لقوله: (يصلي) قوله: (إلا الفرائض) استثناء منقطع أي: لكن الفرائض لم تكن تصلى على الراحلة، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متصلا لأنه ليس المراد
استثناء فريضة الليل فقط، إذ لا تصلى فريضة أصلا على الراحلة ليلية أو نهارية. قوله: (ويوتر) عطف على قوله: (يصلي)، أراد أنه بعد فراغه من صلاة الليل يوتر على راحلته.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: احتج به قوم على جواز صلاة الوتر على الراحلة في السفر، ومنعه آخرون، وقد مر الكلام فيه مستقصى في الباب السابق. الثاني: تجوز صلاة النفل على الراحلة بالإيماء في السفر حيث توجهت به دابته، وفي (التلويح): واختلفوا في الصلاة على الدابة في السفر الذي لا تقصر في مثله الصلاة، فقال جماعة: يصلي في قصير السفر وطويلة، وعن مالك: لا يصلي أحد على دابته في سفر لا تقصر في مثله الصلاة. وقال القدوري: ومن كان خارج المصر يتنفل على دابته. وقال صاحب (الهداية): والتقييد بخارج المصر ينفي اشتراط السفر، لأنه أعم من أن يكون سفرا أو غير سفر، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن جواز التطوع على الدابة، للمسافر خاصة، والصحيح أن المسافر وغيره سواء بعد أن يكون خارج المصر، واختلفوا في مقدار البعد عن المصر، والمذكور في الأصل مقدار فرسخين أو ثلاثة، وقدر بعضهم بالميل ومنع الجواز في أقل منه، وعند الشافعي: يجوز في طويل السفر وقصيره. الثالث: لا تجوز صلاة الفرض على الدابة بلا ضرورة، وفي (خلاصة الفتاوي): أما صلاة الفرض على الدابة بالعذر فجائزة، ومن الأعذار: المطر، عن محمد: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء فلم يجد مكانا يابسا ينزل للصلاة فإنه يقف على الدابة مستقبل القبلة ويصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة، فإن لم يمكنه يصلي مستدبر القبلة، وهذا إذا كان الطين بحال يغيب وجهه فيه، وإلا صلى هناك. ومن الأعذار: اللص والمرض وكونه شيخا كبيرا لا يجد من يركبه إذا نزل، والخوف من السبع. وفي (المحيط): تجوز الصلاة على الدابة في هذه الأحوال ولا تلزمه الإعادة بعد زوال العذر، وحكم السنن الرواتب كحكم التطوع، وعن أبي حنيفة: أنه ينزل لسنة الفجر، ولهذا لا يجوز فعلها قاعدا عنده لكونها واجبة عنده في رواية، وعن الشافعي وأحمد أنها آكد من الوتر. الرابع: قال بعضهم: واستدل بحديث الباب على أن الوتر ليس بفرض، وعلى أنه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الوتر عليه قلت: نحن أيضا نقول: إنه ليس بفرض، ولكنه واجب للدلائل التي ذكرناها، ومن لم يفرق بين الفرض والواجب فقد صادم اللغة، والمعنى اللغوي مراعى في المعنى الشرعي، وقد مر في حديث أبي قتادة التصريح بالوجوب، وفي (موطأ مالك): أنه بلغه أن ابن عمر سئل عن الوتر أواجب هو؟ فقال عبد الله: قد أوتر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وفيه دلالة ظاهرة على وجوبه، إذ كلامه يدل على أنه صار سبيلا للمسلمين، فمن تركه فقد دخل في قوله تعالى: * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * (النساء: 51). وقول هذا القائل: وعلى أنه ليس من خصائص النبي، صلى الله عليه وسلم، وجوب الوتر عليه، معناه: واستدل أيضا على أن الوتر ليس من خصائص النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن عقيل: صح أنه كان واجبا عليه، وقول القرافي في (الذخيرة): الوتر في السفر ليس واجبا عليه، وصلاته إياه على الراحلة كانت في السفر قول بغير استناد إلى سنة صحيحة ولا ضعيفة. وقال ابن الجوزي: لا نعلم في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم، بالوجوب حديثا صحيحا. قلت: عدم علمه لا يستلزم نفي علم غيره، ولكن نقول: الحديث الذي ورد به من رواية الحاكم، في مسنده أبو جناب يحيى بن أبي حية، وهو ضعيف مدلس. قلت: أبو جناب، بفتح الجيم والنون وبعد الألف باء موحدة، وأبو حية، بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف: الكلبي الكوفي، يروي عن ابن عمر، روى عنه ابنه يحيى بن أبي حية.
7
((باب القنوت قبل الركوع وبعده))
أي: هذا باب في بيان القنوت قبل الركوع بعد فراغه من القراءة وبعد الركوع أيضا، وأشار به إلى أنه ورد في الحالين جميعا، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وأشار بهذه الترجمة أيضا إلى مشروعية القنوت، ردا على من قال: إنه بدعة، كابن عمر. وفي (المنتقى) لأبي عمر: عن ابن عمر وطاووس: القنوت في الفجر بدعة، وبه قال الليث ويحيى بن سعيد الأنصاري ويحيى بن يحيى الأندلسي.
16

وفي (الموطأ): عن ابن عمر أنه لا يقنت في شيء من الصلوات، والقنوت ورد لمعان كثيرة، والمراد ههنا الدعاء إما مطلقا وإما مقيدا بالأذكار المشهورة نحو: اللهم اهدنا فيمن هديت..
1001 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد قال سئل أنس أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح قال نعم فقيل له أوقنت قبل الركوع قال قنت بعد الركوع يسيرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (بعد الركوع يسيرا)، وهو الجزء الثاني للترجمة.
ورجاله كلهم قد ذكروا غير مرة، وأيوب هو السختياني، وفي بعض النسخ: عن أيوب عن ابن سيرين.
قوله: (سئل أنس) وفي رواية الإسماعيلي: عن أيوب عند مسلم (قلت لأنس). قوله: (أقنت؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (فقيل له: أوقنت؟) وفي رواية الكشميهني بغير واو، وفي رواية الإسماعيل: (هل قنت؟). قوله: (بعد الركوع يسيرا) قال الكرماني أي: زمانا يسيرا، أي: قليلا، وهو بعد الاعتدال التام. وقال الطرقي: أراد يسيرا من الزمان لا يسيرا من القنوت، لأن أدنى القيام يسمى قنوتا، فاستحال أن يوصف بالحقارة. وقال بعضهم: قد بين عاصم في روايته مقدار هذا اليسير حيث قال فيها: إنما قنت بعد الركوع شهرا. قلت: رواية عاصم رواها البخاري على ما يجيء عن قريب، ورواها أيضا مسلم في (صحيحه): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن عاصم (عن أنس، قال: سألت عن القنوت بعد الركوع أو قبل الركوع؟ فقال: قبل
الركوع. قال: قلت: فإن ناسا يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع؟ فقال: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على أناس قتلوا أناسا من أصحابه يقال لهم: القراء). انتهى. فهذا صريح بأن المراد من قوله: (يسيرا) يعني شهرا، وهو يرد على الكرماني فيما قاله. ثم إعلم أن هذا الحديث روي عن أنس من وجوه خلاف ذلك، فروى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عنه أنه قال: (قنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثلاثين صباحا يدعو على رعل وذكوان وعصية). وروى قتادة عنه نحوا من ذلك، وروى عنه حميد: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إنما قنت عشرين يوما. وروى عنه عاصم: أنه قنت شهرا وأنه قبل الركوع، وقد ذكرناه الأن عن مسلم، فهؤلاء كلهم أخبروا عن أنس خلاف ما رواه محمد بن سيرين عنه، فلم يجز لأحد أن يحتج في حديث أنس بأحد الوجهين بما روي عنه، لأن لخصمه أن يحتج عليه بما روي عنه مما يخالف ذلك. وأصرح من ذلك كله ما رواه أبو داود عن أنس فقال: حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة (عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قنت شهرا ثم تركه). فقوله: (ثم تركه)، يدل على أن القنوت في الفرائض كان ثم نسخ. فإن قلت: قال الخطابي معنى قوله: (ثم تركه) أي: ترك الدعاء على هؤلاء القبائل وهي: رعل وذكوان وعصية، أو ترك القنوت في الصلوات وأربع ولم يتركه في صلاة الصبح. قلت: هذا كلام متحكم متعصب بلا توجيه ولا دليل، فإن الضمير في: تركه، يرجع إلى القنوت الذي يدل عليه لفظ قنت، وهو عام يتناول جميع القنوت الذي كان في الصلوات، وتخصيص الفجر من بينهما بلا دليل من اللفظ يدل عليه باطل، وقوله: أي ترك الدعاء، غير صحيح لأن الدعاء لم يمض ذكره، ولئن سلمنا فالدعاء هو عين القنوت وما ثم شيء غيره، فيكون قد ترك القنوت، والترك بعد العمل نسخ، وقد اختلف العلماء هل القنوت قبل الركوع أو بعده؟ فمذهب أبي حنيفة أنه قبل الركوع، وحكاه ابن المنذر عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى الأشعري والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وابن أبي ليلى، وبه قال: مالك وإسحاق وابن المبارك، وصحيح مذهب الشافعي: بعد الركوع، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي في قول، وحكى أيضا التخيير. قبل الركوع وبعده، عن أنس وأيوب بن أبي تميمة وأحمد بن حنبل.
2001 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد قال حدثنا عاصم قال سألت أنس بن مالك عن القنوت فال قد كان القنوت قلت قبل الركوع أو بعده قال قبله قال فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع فقال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا أراه كان
17

بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين دون اولئك وكان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم.
.
مطابقته للجزء الأول للترجمة، وهو في قوله: (قال: قبله) أي: قبل الركوع.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: مسدد. الثاني: عبد الواحد بن زياد، مر في: باب * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * (الإسراء: 58). الثالث: عاصم بن سليمان الأحول. الرابع: أنس ابن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السؤال. وفيه: القول في تسعة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون، وهو من الرباعيات.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن موسى بن إسماعيل، وفي الجنائز عن عمرو بن علي، وفي الجزية عن أبي النعمان محمد بن الفضل وفي الدعوات عن الحسن بن الربيع عن أبي الأحوص. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية وعن ابن أبي عمر عن ابن عيينة.
ذكر معناه: قوله: (سألت أنس بن مالك عن القنوت) مراده من هذا السؤال أن يبين له محل القنوت، ولهذا قال: (قلت: قبل الركوع أو بعده) أي: بعد الركوع، فظن أنس أنه كان يسأل عن مشروعية القنوت، فلذلك قال: قد كان القنوت، يعني: كان مشروعا. قوله: (قلت: فإن فلانا) ويروى: (قال: فإن فلانا) لم يعلم من هو هذا الفلان، قيل: يحتمل أن يكون محمد بن سيرين، لأن في الحديث السابق: سأل محمد بن سيرين أنسا، فقال: أوقنت قبل الركوع؟. قوله: (قال: كذب)، أي: قال أنس: كذب فلان. قال الكرماني: فإن قلت: فما قول الشافعية حيث يقنتون بعد الركوع متمسكين بحديث أنس المذكور؟ وقد قال الأصوليون: إذا كذب الأصل الفرع لا يعمل بذلك الحديث ولا يحتج به؟ قلت: لم يكذب أنس محمد بن سيرين، بل كذب فلانا الذي ذكره عاصم، ولعله غير محمد. انتهى. قلت: قد تعسف الكرماني في هذا التصرف، بل معنى قوله: (كذب): أي: أخطأ، وهي لغة أهل الحجاز، يطلقون الكذب على ما هو الأعم من العمد والخطأ، وقال ابن الأثير في (النهاية): ومنه حديث (صلاة الوتر: كذب أبو محمد) أي: أخطأ، سماه كذبا لأنه يشبهه في كونه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق وإن افترقا من حيث النية والقصد، لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب والمخطىء لا يعلم، وهذا الرجل ليس بمخبر، وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب، والاجتهاد لا يدخله الكذب، وإنما يدخله الخطأ، وأبو محمد صحابي، واسمه مسعود بن زيد، وقال الذهبي: مسعود بن زيد ابن سبيع اسم أبي محمد الأنصاري القائل بوجوب الوتر. قوله: (إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا) كلمة: إنما، للحصر، ويستفاد منه أن قنوته بعد الركوع كان محصورا على الشهر، والمفهوم منه أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا ثم تركه، وتعسف الكرماني لتمشية مذهبه، وأخرج الكلام عن معناه الحقيقي حيث قال: معناه أنه لم يقنت إلا شهرا في جميع الصلوات بعد الركوع، بل في الصبح فقط، حتى لا يلزم التناقض بين كلاميه، ويكون جمعا بينهما. انتهى. قلت: لا نسلم التناقض لأن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الركوع
شهرا كان على قوم من المشركين، على ما يجيء إن شاء الله، ثم تركه، والترك يدل على النسخ. قوله: (أراه كان؟) أي: قال أنس، رضي الله تعالى عنه: أظن أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان بعث قوما يقال لهم القراء، وهم طائفة كانوا من أوزاع الناس، نزلوا صفة يتعلمون القرآن، بعثهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى أهل نجد ليدعوهم إلى الإسلام وليقرأوا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء، وهم: رعل وذكوان وعصية، وقاتلوهم فقتلوهم ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد الأنصاري، وكان ذلك في السنة الرابعة من الهجرة، وأغرب مكحول حيث قال: إنها كانت بعد الخندق، وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعني: بعد أحد بقية شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، قال موسى بن عقبة: وكان أمير القوم المنذر بن عمرو، ويقال: مرثد بن أبي مرثد، وقال ابن سعد: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر الكلابي ملاعب الأسنة، وفي شعر لبيد: ملاعب الرماح، فأهدى للنبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل منه، وعرض عليه الإسلام ولم يسلم ولم يبعد من
18

الإسلام. وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك؟ فقال، صلى الله عليه وسلم، إني أخشى عليهم أهل نجد، قال: أنا لهم جار إن تعرض لهم أحد، فبعث معهم القراء وهم سبعون رجلا. وفي مسند السراج: أربعون. وفي المعجم: ثلاثون، ستة وعشرون من الأنصار، وأربعة من المهاجرين، وكانوا يسمون القراء، يصلون بالليل حتى إذا تقارب الصبح احتطبوا الحطب واستعذبوا الماء فوضعوه على أبواب حجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعثهم جميعا وأمر عليهم المنذر بن عمر وأخا بني ساعدة المعروف: بالمعتق ليموت أي: يقدم على الموت، فسارعوا حتى نزلوا بئر معونة، بالنون، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم اجتمع عليه قبائل من سليم عصية وذكوان ورعل، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قتل يوم الخندق، شهيدا، وكان في القوم عمرو بن أمية الضمري، فأخذ أسيرا فلما، أخبرهم أنهم من مضر أخذه عامر بن الطفيل فجز ناصيته وأعتقه، فبلغ ذلك أبا براء، فشق عليه ذلك، فحمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه بالرمح فوقع في فخذه ووقع عن فرسه. قوله: (زهاء)، بضم الزاء وتخفيف الهاء وبالمد: أي: مقدار سبعين رجلا. قوله: (دون أولئك) يعني: غير الذين دعا عليهم، وكان بين المدعو عليهم وبينه عهد فغدروا وقتلوا القراء فدعا عليهم. قوله: (شهرا) أي: في شهر، فافهم.
ذكر ما يستفاد منه: في: التصريح عن أنس، رضي الله تعالى عنه، أن القنوت قبل الركوع، وأنه حين سأله عاصم قال: قبل الركوع، وأنكر على من نقل عنه أنه بعد الركوع ونسبه إلى الكذب، وقال: لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا في شهر واحد يدعو على قتلة القراء المذكورين. فإن قلت: حديث أنس المذكور في الباب في مطلق الصلاة، ويدل عليه ما روى عاصم أيضا، عن أنس أنه قال: سألت أنسا عن القنوت في الصلاة؟ أي: مطلق الصلاة، والمراد منه جميع الصلوات الفرض، ويدل عليه حديث ابن عباس أنه قال: قنت رسول الله ت شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده، في الركعة الأخيرة). رواه أبو داود في (سننه) والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط البخاري، وليس في حديث أنس ما يدل على أنه قنت في الوتر. قلت: روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي ابن كعب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع) وروى الترمذي من حديث أبي الحوراء، بالحاء المهملة: واسمه ربيعة بن شيبان، قال: (قال الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنهما: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت). وقال الترمذي: لا نعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئا أحسن من هذا، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة أيضا، وروى الدارقطني من رواية سويد بن غفلة (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الوتر). فإن قلت: وفي إسناده عمرو بن شمر الجعفي، أحد الكذابين الوضاعين؟ قلت: قال الترمذي: وفي الباب عن علي، رضي الله تعالى عنه، ولم يرد هذا، وإنما أراد والله أعلم ما رواه هو في الدعوات، وبقية أصحاب السنن من رواية عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن علي بن أبي طالب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك...) ورواه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح الإسناد، وروى النسائي كما روى ابن ماجة من حديث أبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر فيقنت قبل الركوع، وروى ابن أبي شيبة في مضفة من حديث ابن مسعود.
(عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقنت في الوتر قبل الركوع). ورواه الدارقطني، بلفظ: (بت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت في وتره، فقنت قبل الركوع، ثم بعثت أمي، أم عبد، فقلت: بيتي مع نسائه فانظري كيف يقنت في وتره، فأتتني فأخبرتني أنه قنت قبل الركوع). وروى محمد بن نصر المروزي بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من الوتر: بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة بقل هو الله أحد ويقنت). قال محمد بن نصر، في رواية أخرى زاد بعد قوله: (ويقنت قبل الركوع..) والحديث عند النسائي من طرق وليس
19

في شيء من طرقه ذكر القنوت، وقال الترمذي: واختلف أهل العلم في القنوت في الوتر، فرأى عبد الله بن مسعود القنوت في الوتر في السنة كلها، واختار القنوت قبل الركوع، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. انتهى. وروى ابن أبي شيبة في (المصنف) من رواية الأسود عنه أنه:
كان يختار القنوت في الوتر في السنة كلها قبل الركوع، وروى أيضا من رواية علقمة أن ابن مسعود وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقنتون في الوتر قبل الركوع، ورواه محمد بن نصر عن ابن مسعود وعمر أيضا من رواية عبد الرحمن بن أبزي، ورواه أيضا ابن أبي شيبة ومحمد بن نصر من رواية الأسود عن عمر، وحكاه ابن المنذر عنهما وعن علي وأبي موسى الأشعري والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وعبد الرحمن بن أبي ليلى، رضي الله تعالى عنهم. وروى السراج: حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن العلاء بن صالح حدثنا زيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سأله عن القنوت في الوتر؟ فقال: حدثنا البراء بن عازب قال: سنة ماضية. وفي (المصنف) وقال إبراهيم: كانوا يقولون: القنوت بعد ما فرغ من القراءة في الوتر، وكان سعيد بن جبير يفعله حدثنا وكيع عن هارون بن أبي إبراهيم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه كان يقول في قنوت الوتر: لك الحمد ملء السماوات السبع وحدثنا وكيع عن الحسن بن صالح عن منصور عن شيخ يكنى أبا محمد أن الحسين بن علي، رضي الله تعالى عنهما، كان يقول في قنوت الوتر: اللهم إنك ترى ولا ترى، وأنت بالمنظر الأعلى وأن إليك الرجعى، وأن لك الآخرة والأولى، اللهم إنا نعوذ بك من أن نذل ونخزى، وهذا الذي ذكرناه كله يدل على أن لا قنوت في شيء من الصلوات المكتوبة، إنما القنوت في الوتر قبل الركوع.
3001 حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زائدة عن التيمي عن أبي مجلز عن أنس قال قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على رعل وذكوان.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه مشروعية القنوت، كما في الحديث السابق، وهو في نفس الأمر من ذلك الحديث.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أحمد بن يونس هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي. الثاني: زائدة بن قدامة أبو الصلت الكوفي. الثالث: سليمان بن طرخان التيمي البصري. الرابع: أبو مجلز، بكسر الميم. وقيل: بفتحها وسكون الجيم وفتح اللام، وفي آخره زاي: واسمه لاحق بن حميد السدوسي البصري. الخامس: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه منسوب إلى جده. وفيه: أن أحد الرواة مذكور بنسبته. وفيه: رواية التابعي عن التابعي وهما: سليمان ولاحق، وسليمان أيضا يروي عن أنس بلا واسطة، وهنا روى عنه بواسطة. وفيه: أن الاثنان الأولان من الرواة كوفيان والاثنان الآخران بصريان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن محمد هو ابن مقاتل عن ابن المبارك. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عبيد الله بن معاذ وأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن عبد الأعلى، أربعتهم عن معتمر بن سليمان، ثلاثتهم عن سليمان التيمي عنه به. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير بن عبد الحميد عن سليمان التيمي نحوه.
ذكر معناه: قوله: (على رعل)، ورعل ورعلة جميعا قبيلة باليمن، وقيل: هم من سليم، قاله ابن سيده. وفي (الصحاح) رعل، بالكسر، وذكوان، قبيلتان من سليم، وقال ابن دريد: رعل من الرعلة وهي: النخلة الطويلة، والجمع: رعال، وهو رد لما قاله ابن التين، ضبط بفتح الراء، والمعروف أنه بكسرها، وهو في ضبط أهل اللغة بفتحها، وقال الرشاطي: هو رعل بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان بن مضر. وقال ابن دحية في (الولد): ولا أعلم في رعل وعصية صاحبا له رواية صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعصية هو: ابن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، ذكره أبو علي الهجري في (نوادره) وذكوان، بفتح الذال المعجمة وسكون الكاف وبعد الألف نون، وقد ذكرنا أنه قبيلة من سليم بضم السين المهملة، وقال الرشاطي: ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم، منهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
20

أبو عمر وصفوان بن المعطل بن وبيصة بن المؤمل بن خزاعي بن محارب بن هلال بن فالج بن ذكوان السلمي الذكواني، كذا نسبه ابن الكلبي، وعصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، منهم: بدر بن عمار بن مالك بن يقظة بن عصية، والنسب إلى عصية: عصوي.
ومما يستفاد منه: أن قنوته، صلى الله عليه وسلم، في غير الوتر كان دعاء على المشركين، وأنه إنما قنت شهرا ثم تركه.
4001 حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا خالد عن أبي قلابة عن أنس قال كان القنوت في المغرب والفجر.
(انظر الحديث 897).
مطابقته للترجمة مثل مطابقة الحديثين السابقين.
ذكر رجاله: وهم خمسة كلهم قد ذكروا غير مرة، وإسماعيل هو ابن علية، وخالد هو الحذاء، وأبو قلابة، بكسر القاف: هو عبد الله بن زيد الجرمي.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: ثلاثة مذكورون بغير نسبة وواحد بكنيته. وفيه: أن شيخه بصري، وشيخ شيخه واسطي، والثالث بصري والرابع شامي.
وأخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن أبي الأسود عن ابن علية، واحتج الشافعي بهذا الحديث فيما ذهب إليه من القنوت في صلاة الفجر، واحتج أيضا بما رواه أبو داود من حديث البراء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الصبح، زاد ابن معاذ: وصلاة المغرب. وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي مشتملا على الصلاتين واحتج أيضا بما رواه عبد الرزاق في (مصنفه): أخبرنا أبو جعفر الراوي عن الربيع بن أنس (عن أنس بن مالك، قال: ما زال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا). ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في (سننه) وإسحاق بن راهويه في (مسنده) ولفظه: (عن الربيع بن أنس قال: قال رجل لأنس بن مالك: أقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على حي من أحياء العرب؟ قال: فزجره أنس، وقال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى فارق الدنيا). وفي (الخلاصة) للنووي: صححه الحاكم في (مستدركه). وقال صاحب (التنقيح): على التحقيق هذا الحديث أجود أحاديثهم، وذكر جماعة وثقوا أبا جعفر الرازي وله طرق في كتاب القنوت لأبي موسى المديني. قال: وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل، أو على أنه ما زال يطول في الصلاة، فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك، قال الله تعالى: * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) * (النحل: 21). وقال: * (أم من هو قانت آناء الليل) * (الزمر: 9). وقال: * (ومن يقنت منكن لله) * (الأحزاب: 13). وقال: * (يا مريم اقنتي) * (آل عمران: 34). وقال: * (وقوموا لله قانتين) * (البقرة: 832). وقال: * (كل له قانتون) * (البقرة: 611 والروم: 62). وفي الحديث: (أفضل الصلاة طول القنوت)، انتهى. وقد ذكر ابن العربي أن للقنوت عشرة معان. وقال شيخنا زين الدين: وقد نظمتها في بيتين بقولي:
* ولفظ القنوت أعدد معانيه تجده
* مزيدا على عشر معاني مرضية
*
* دعاء خشوع، والعبادة طاعة
* إقامتها إقرارنا بالعبودية
*
* سكوت صلاة، والقيام، وطوله
* كذاك دوام الطاعة الرابح القنية
*
وابن الجوزي ضعف هذا الحديث، وقال في (العلل المتناهية: هذا حديث لا يصح، فإن أبا جعفر الرازي اسمه عيسى بن ماهان. وقال ابن المديني: كان يخلط. وقال يحيى: كان يخطئ. وقال أحمد: ليس بالقوي في الحديث. وقال أبو زرعة: كان يهيم كثيرا. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، ورواه الطحاوي في (شرح الآثار)، وسكت عنه، إلا أنه قال: وهو معارض بما روي عن أنس، أنه، صلى الله عليه وسلم، إنما قنت شهرا على أحياء من العرب، ثم تركه. انتهى. قلت: ويعارضه أيضا ما رواه الطبراني من حديث غالب بن فرقد الطحان، قال: كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة، وما رواه محمد بن الحسن في كتابه (الآثار): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: لم ير النبي، صلى الله عليه وسلم، قانتا في الفجر حتى فارق الدنيا، وقال ابن الجوزي في (التحقيق): أحاديث الشافعية على أربعة أقسام، منها ما هو مطلق، وأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قنت. وهذا لا نزاع فيه، لأنه ثبت أنه قنت. والثاني: مقيد بأنه قنت في صلاة الصبح فيحمل
21

على فعله شهرا بأدلتنا. والثالث: ما روي عن البراء بن عازب، وقد ذكرناه. وقال أحمد: لا يروى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قنت في المغرب إلا في هذا الحديث. والرابع: ما هو صريح في حجتهم نحو ما رواه عبد الرزاق في (مصنفه)، وقد ذكرناه، انتهى. قلت: كيف تستدل الشافعية بهذا الحديث وهم لا يرون القنوت في المغرب، فيعملون ببعض الحديث ويتركون بعضه، وهذا تحكم.
وقد أورد الخطيب في كتابه الذي صنفه في (القنوت) أحاديث أظهر فيها تعصبه. فمنها: ما أخرجه عن دينار بن عبد الله خادم أنس بن مالك (عن أنس، قال: ما زال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقنت في صلاة الصبح حتى مات). قال ابن الجوزي: وسكوته عن القدح في هذا الحديث واحتجاحه به وقاحة عظيمة وعصبية باردة وقلة دين، لأنه يعلم أنه باطل. وقال ابن حبان: دينار يروي عن أنس أشياء موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب إلا على سبيل القدح فيها، فواعجبا للخطيب، أما سمع في الصحيح: (من حدث عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين؟) وهل مثله إلا مثل من أنفق بهرجا ودلسه فإن أكثر الناس لا يعرفون الصحيح من السقيم، وإنما يظهر ذلك للنقاد، فإذا أورد الحديث محدث واحتج به حافظ لم يقع في النفوس إلا أنه صحيح؟ ولكن عصبيته حملته على هذا، ومن نظر في كتابه الذي صنفه في (القنوت)، وكتابه الذي صنفه في (الجهر بالبسملة) ومسألة العتم، واحتجاجه بالأحاديث التي يعلم بطلانها، اطلع على فرط عصبيته وقلة دينه، ثم ذكر له أحاديث أخرى كلها عن أنس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يزل يقنت في الصبح حتى مات، وطعن في أسانيدها.
وقال الكرماني: فإن قلت: كيف حكم القنوت في المغرب؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، تارة يقنت في جميع الصلوات وتارة في طرفي النهار، لزيادة شرف وقتهما حرصا على إجابة الدعاء حتى نزل: * (ليس لك من الأمر شيء) * (آل عمران: 821). فترك إلا في الصبح، كما روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم، لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا. انتهى. قلت: قال الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود حدثنا المقدمي حدثنا أبو معشر حدثنا أبو حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، قال: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على عصبة وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت، وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته). ثم قال: فهذا ابن مسعود يخبر أن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إنما كان من أجل من كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك، فصار
القنوت منسوخا فلم يكن هو من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت، وكان أحد من روى أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر، ثم أخبرهم أن الله عز وجل نسخ ذلك حين أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (ليس لك من الأمر شيء) * (آل عمران: 821). الآية، فصار ذلك عن ابن عمر منسوخا أيضا، فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينكر على من كان يقنت، وكان أحد من روى عنه القنوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فأخبر في حديثه بأن ما كان يقنت به رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء على من كان يدعو عليه، وأن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله: * (ليس لك من الأمر شيء) * (آل عمران: 821). الآية، ففي ذلك أيضا وجوب ترك القنوت في الفجر. انتهى. فإذا كان الأمر كذلك، فمن أين للكرماني حيث يقول: إلا في الصبح؟ والحديث الذي استدل به على ذلك لا يفيده؟ لأنا قد ذكرنا أن القنوت يأتي لمعان كثيرة منها: الطول في الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت). فإن قلت: قد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت في الصبح بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون الآية ناسخة لجملة القنوت؟ وكذا أنكر البيهقي ذلك، فبسط فيه كلاما في (كتاب المعرفة) فقال: وأبو هريرة أسلم في غزوة خيبر وهو بعد نزول الآية بكثير، لأنها نزلت في أحد، وكان أبو هريرة يقنت في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته؟ قلت: يحتمل أن أبا هريرة لم يكن علم نزول هذه الآية، فكان يعمل على ما علم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقنوته إلى أن مات، لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، ألا ترى أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم، لما علما بنزول الآية وعلما كونها ناسخة لما كان صلى الله عليه وسلم يفعله تركا القنوت؟ وعن إبراهيم بسند صحيح: أنه لا يقنت في صلاة الصبح، وعن عمرو بن ميمون والأسود أن عمر بن الخطاب لم يقنت في الفجر، وكان ابن عباس وابن عمر لا يقنتان فيه، وكذلك ابن الزبير وجده أبو بكر الصديق وسعيد بن جبير وإبراهيم. وقال الشعبي: إنما جاء القنوت في الفجر من قبل الشام، وعن ابن عمر وطاووس: القنوت في الفجر بدعة، وقد ذكرناه فيما مضى، وبه قالت جماعة، وروى الترمذي (عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عمر، قال: صليت خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يقنت، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فلم يقنتوا، يا بني إنه محدث). وزاد ابن منده في (كتاب القنوت): رواه جماعة من الثقات عن أبي مالك، واسم أبي مالك
22

الأشجعي: سعد بن طارق بن أشيم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، والحديث أخرجه النسائي وابن ماجة أيضا. وروى الدارقطني ثم البيهقي عن ابن عباس أنه قاس: القنوت في صلاة الصبح بدعة، وفي سنده أبو ليلى عبد الله بن ميسرة. قال البيهقي: متروك، وروى الطبراني في (الكبير) من رواية بشر بن حرب، قال: سمعت ابن عمر يقول: أرأيت قيامهم عند فراغ القارئ من السورة بهذا القنوت؟ إنها لبدعة ما فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه البيهقي، وقال بشر بن حرب: ضعيف. قلت: وثقه أيوب، ومشاه ابن عدي، وروى الطبراني في (الأوسط) من حديث إبراهيم عن علقمة والأسود (عن عبد الله ابن مسعود، قال: ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من صلاته إلا في الوتر، وإنه كان إذا حارب يقنت في الصلوات كلهن يدعو على المشركين، ولا قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان حتى ماتوا، ولا قنت علي، رضي الله تعالى عنه، حتى حارب أهل الشام، وكان يقنت في الصلوات كلهن، وكان معاوية يدعو عليه أيضا، يدعو كل واحد منهما على الآخر). وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: ابن مسعود لم يدرك محاربة علي أهل الشام، ولا موت عثمان، فإنه مات في زمن عثمان. قلت: يحتمل أن يكون قوله: ولا عثمان إلى آخره من كلام إبراهيم أو من علقمة أو من الأسود، وروى ابن ماجة من حديث أم سلمة، قالت: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت في الفجر). وقد ذكرنا أن الطحاوي قد روى حديث ابن مسعود، وذكر فيه أن ما روي من القنوت في الصلوات منسوخ، وكذلك رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو بكر البزار، والطبراني في (الكبير) والبيهقي من رواية شريك عن أبي حمزة الأعور عن إبراهيم (عن علقمة عن عبد الله، قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على عصية وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت). وقال البزار في روايته: (لم يقنت النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرا واحدا، لم يقنت قبله ولا بعده). وقال: لا نعلم روى هذا الكلام عن أبي حمزة إلا شريك. قلت: بل قد رواه عنه أيضا أبو معشر يوسف بن يزيد باللفظ الأول رواه أبو معين أيضا، وقال الشيخ زين الدين: وأبو معشر البراء، وإن احتج به الشيخان، فقد ضعفه ابن معين، وأبو داود، وأبو حمزة الأعور القصاب اسمه: ميمون، ضعيف. انتهى. قلت: ما انصف الشيخ ههنا حيث أشار بكلامه إلى تضعيف الحديث المذكور لأجل مذهبه، فإذا ضعف هذا الحديث بأبي معشر الذي احتج به الشيخان لا يبقى في (الصحيحين) حديث متفق على صحته إلا شيء يسير، وكم من حديث فيهما ضعف ابن معين أحد رواته، وكذلك غير ابن معين، ومع هذا لم يلتفتوا إلى ذلك، فكذلك هذا. وأبو حمزة قد روى عن التابعين الكبار مثل: الحسن وسعيد بن المسيب والشعبي وإبراهيم وغيرهم، وروى عنه مثل: الثوري والحمادان ومنصور بن المعتمر، وهو من أقرانه، وروى له الترمذي. وقال: تكلم فيه من قبل حفظه، وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه، وكذلك طعن الشيخ في حديث أم سلمة الذي ذكرناه عن قريب. قال: ورواه الدارقطني وضعفه، لأن ابن ماجة رواه من رواية محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن أم سلمة، قال الدارقطني: هؤلاء ضعفاء ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة. قلت: محمد بن يعلى وثقه أبو كريب، ولما رواه الطبراني في (الأوسط) قال: لا يروى عن أم سلمة إلا بهذا الإسناد تفرد به محمد بن يعلى، وأما أم سلمة، رضي الله تعالى عنهما، فإنها ماتت في شوال سنة تسع وخمسين، ونافع مات سنة ست عشرة ومائة، حكاه النسائي عن هارون بن حاتم. وقال الشيخ أيضا: قال أكثر السلف ومن بعدهم أو كثير منهم استحباب القنوت في صلاة الصبح، سواء نزلت نازلة أم لم تنزل، ثم عد منهم: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وأبا موسى الأشعري وأبا هريرة وابن عباس والبراء بن عازب، وعد من التابعين: الحسن البصري وحميد الطويل والربيع بن خيثم وزياد بن عثمان وسعيد بن المسيب وسويد بن غفلة وطاووسا وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبيدة السلماني وعبيد بن عمير وعروة بن الزبير وأبا عثمان النهدي، وعد من الأئمة: مالكا والشافعي وعبد الرحمن بن مهدي والأوزاعي وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وسعيد بن عبد العزيز، فقيه أهل الشام، ومحمد بن
جرير الطبري وداود. قلت: قد ذكرنا فيما مضى أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ابن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وأبا مالك الأشجعي لم يكونوا يقنتون ولا رأوا القنوت في الصلوات، وقد ذكرنا عن ابن عمر وابن عباس: أن القنوت في الصبح بدعة، وقد ذكرنا أن ابن عمر كان ينكر على من يقنت، وقد ذكرنا من التابعين الذين لا يرون القنوت: عمرو بن ميمون والأسود والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وطاووسا حتى قال طاووس: القنوت في الفجر بدعة، وحكي عن الزهري أيضا، ومن الأئمة الذين
23

لا يرون به الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق والليث بن سعد. فإن قلت: فيما ذكرت إثبات ونفي، فإذا تعارضا قدم المثبت على النافي؟ قلت: نحن لا نقول: إن ههنا تعارضا حتى نعمل بالمثبت، بل ندعي النسخ كما ذكرنا وجهه، وممن قال بالنسخ ههنا الزهري، والله تعالى أعلم.
51
((كتاب الاستسقاء))
أي: هذه أبواب في بيان أحكام الاستسقاء، وهو طلب السقيا، بضم السين: وهو المطر. وقال ابن الأثير: هو استفعال من طلب السقيا، أي: إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم السقيا، بالضم، واستسقيت فلانا طلبت منه أن يسقيك. وفي (المطالع): يقال: سقى وأسقى وأسقى بمعنى واحد. وقرئ: * (نسقيكم مما في بطونها) * (المؤمنون: 12). بالوجهين، وكذا ذكره الخليل وابن القوطية: سقى الله الأرض وأسقاها. وقال آخرون: سقيته ناولته يشرب، وأسقيته جعلت له سقيا يشرب منه، والاستسقاء الدعاء لطلب السقيا.
1
((باب الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء))
لما قال أولا: أبواب الاستسقاء، شرع يبين هذه الأبواب بابا بابا، فقال: باب الاستسقاء أي: هذا باب في بيان الاستسقاء وخروج النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والنسخ ههنا مختلفة، فوقع للمستملي: باب الاستسقاء، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم بدون البسملة، وفي رواية الحموي والكشميهني سقط ما قبل باب، وثبتت البسملة في رواية ابن شبويه.
5001 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي وحول رداءه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها صيغت من نفس الحديث.
ذكر رجاله: وهم خمسة: لأول: أبو نعيم، بضم النون وهو الفضل بن دكين، وقد تكرر ذكره. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، قاضي المدينة. الرابع: عباد، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني. الخامس: عمه عبد الله ابن زيد بن عاصم بن كعب بن عمر وأبو محمد الأنصاري البخاري المازني.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه كوفي وشيخ شيخه أيضا كوفي والبقية مدنيون. وفيه: رواية الرجل عن عمه. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، فإن عبد الله بن أبي بكر روى عن أنس رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في مواضع في الاستسقاء عن آدم وأبي اليمان وعلى ابن عبد الله وعبد الله بن محمد وقتيبة وإسحاق عن وهب ومحمد عن عبد الوهاب، وأخرجه أيضا في الدعوات عن موسى ابن إسماعيل، وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك وعن يحيى بن يحيى عن سليمان بن بلال وعن أبي الطاهر ابن السرح وحرملة بن يحيى، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك به وعنه عن سليمان بن بلال به وعن أبي الطاهر ابن السرح وسليمان بن داود وعن أحمد بن محمد وعن محمد بن عوف وعن قتيبة عن مالك به، وعنه عن سفيان بن عيينة به، وعنه عن الدراوردي به وعن محمد بن بشار وعمرو بن علي وعن الحارث بن مسكين وعن عمرو بن عثمان وعن محمد بن رافع وعن هشام بن عبد الملك وعن محمد بن منصور. وأخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن محمد بن ثابت عن عبد الرزاق، وأخرجوه أيضا خلا ابن ماجة، من رواية الزهري عن عباد بن تميم. وأخرجوه، خلا الترمذي، من رواية أبي بكر بن محمد كما ذكرنا. وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي من رواية عمارة بن غزية عن عباد بن تميم وأخرجه الترمذي عن يحيى بن موسى عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عباد.
ذكر معناه: قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم) أي: إلى المصلى. قوله: (يستسقي) جملة فعلية وقعت حالا، والتقدير: خرج
24

إلى الصحراء حال كونه مريدا الاستسقاء. قوله: (وحول رداءه)، عطف على: (خرج)، قال الخطابي: اختلفوا في صفة التحويل، فقال الشافعي: بنكس أعلاه أسفله وأسفله أعلاه، ويتوخى أن يجعل ما على شقه الأيمن على الشمال، ويجعل الشمال على اليمين، وكذلك قال إسحاق، وقال الخطابي: إذا كان الرداء مربعا يجعل أعلاه أسفله وإن كان طيلسانا مدورا قلبه ولم ينكسه، وقال أصحابنا: إن كان مربعا يجعل أعلاه أسفله، وإن كان مدورا يجعل جانب الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. وقال ابن بزيزة: ذكر أهل الآثار أن رداءه صلى الله عليه وسلم كان طوله أربعة أذرع وشبرا في عرض ذراعين وشبر، وقال الواقدي: كان طوله ستة أذرع في ثلاثة أذرع وشبر، وإزاره من نسج عمان طوله أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر، كان يلبسهما يوم الجمعة والعيد، ثم يطويان. والحكمة في التحويل
التفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه. قال ابن العربي: قال محمد بن علي: حول رداءه ليتحول القحط. قال القاضي أبو بكر: هذه أمارة بينه وبين ربه لا على طريق الفأل، فإن من شرط الفأل إن لا يكون يقصد، وإنما قيل له: حول رداءك فيتحول حالك. فإن قلت: لعل رداءه سقط فرده، وكان ذلك اتفاقا قلت: الراوي المشاهد للحال أعرف، وقد قرنه بالصلاة والخطبة والدعاء، فدل أنه من السنة، ويشهد لذلك ما رواه الحاكم في (المستدرك) على شرط مسلم، من حديث ابن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها فثقلت عليه فقلبها عليه الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. قلت: هذا يرشح قول أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر ما يستفاد منه: وهو وجوه: الأول: أنه احتج به أبو حنيفة على أن الاستسقاء استغفار ودعاء وليس فيه صلاة مسنونة في جماعة، فإن الحديث لم يذكر فيه الصلاة. وقال صاحب (الهداية): فإن صلى الناس وحدانا جاز، وعند أبي يوسف ومحمد: السنة أن يصلي الإمام ركعتين بجماعة كهيئة صلاة العيد، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وذكر في (المحيط) قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وقال النووي لم يقل أحد غير أبي حنيفة هذا القول. قلت: هذا ليس بصحيح، لأن إبراهيم النخعي قال مثل قول أبي حنيفة، فروى ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه خرج مع المغيرة بن عبد الله الثقفي يستسقي، قال: فصلى المغيرة فرجع إبراهيم حيث رآه يصلي، وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن عيسى بن حفص عن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر ابن الخطاب يستسقي فما زاد على الاستغفار.
الوجه الثاني: أنه يدل على أصل الاستسقاء وأنه مشروع.
الثالث: يدل على أن تحويل الرداء فيه سنة. وقال صاحب (التوضيح): تحويل الرداء سنة عند الجمهور، وانفرد أبو حنيفة وأنكره ووافقه ابن سلام. من قدماء العلماء بالأندلس والسنة قاضية عليه. قلت: أبو حنيفة لم ينكر التحويل الوارد في الأحاديث إنما أنكر كونه من السنة لأن تحويله صلى الله عليه وسلم كان لأجل التفاؤل لينقلب حالهم من الجدب إلى الخصب، فلم يكن لبيان السنة، وما ذكرناه من حديث ابن زيد الذي رواه الحاكم يقوي ما ذهب إليه أبو حنيفة، ووقت التحويل عندنا عند مضي صدر الخطبة، وبه قال ابن الماجشون، وفي رواية ابن القاسم: بعد تمامها، وقيل: بين الخطبتين، والمشهور عن مالك: بعد تمامها، وبه قال الشافعي، ولا يقلب القوم أرديتهم عندنا، وهو قول سعيد بن المسيب وعروة والثوري والليث بن سعد وابن عبد الحكيم وابن وهب وعند مالك والشافعي وأحمد: القوم كالإمام، يعني يقلبون أرديتهم، واستثنى ابن الماجشون النساء، وفي هذا الباب وجوه كثيرة يأتي بيان ذلك عن قريب، إن شاء الله تعالى.
2
((باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف))
أي: هذا باب في بيان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت على الكافرين بقوله: (إجعلها) أي: اجعل تلك المدة التي تقع فيها الشدة، وهي التي قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اشدد وطأتك على مضر)، وهذا الضمير هو المفعول الأول لقوله: (اجعل)، وقوله: (سنين)، بالنصب هو المفعول الثاني، وسنين جمع: سنة، وفيه شذوذان: أحدهما: تغيير مفرده من الفتحة إلى الكسرة. والآخر: كونه جمعا لغير ذوي العقول، وحكمه أيضا مخالف لسائر الجموع في أنه يجوز فيه ثلاثة أوجه. الأول: أن يعرب كإعراب مسلمين. والثاني: أن تجعل نونه متعقب الإعراب منونا. والثالث: أن يكون منونا وغير منون، منصرفا وغير منصرف.
25

قوله: (كسني يوسف) بإضافة سنين إلى يوسف، فلذلك سقطت نون الجمع، والمراد به ما وقع في زمان يوسف، عليه الصلاة والسلام، من القحط في السنين السبع، كما وقع في القرآن. فإن قلت: ما وجه إدخال هذا الباب في أبواب الاستسقاء؟ قلت: للتنبيه على أنه كما شرع الدعاء في الاستسقاء للمؤمنين، كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين، لأن فيه إضعافهم وهو نفع للمسلمين.
6001 حدثنا قتيبة قال حدثنا مغيرة بن عبد الرحمان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج سلمة بن هشام أللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها كسني يوسف وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال غفار غفر الله لها وأسلم سالمها الله.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها صيغت من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعلها سنين كسني يوسف)، وقد مضى حديث أبي هريرة هذا مطولا في: باب يهوي بالتكبير حين يسجد، أخرجه البخاري، هناك: عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن وأبي سلمة: أن أبا هريرة كان يكثر الحديث، وفي آخره قال أبو هريرة: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ويدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم. فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة ابن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له. انتهى. وههنا أخرج بزيادة قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره عن قتيبة ابن سعيد عن ال مغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي: المدني عن أبي الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وقد فسرنا هناك معنى الحديث مستوفى.
قوله: (المستضعفين) عام بعد خاص، والوطأة، بفتح الواو وهو: الدوس بالقدم، وسمى بها الإهلاك لأن من يطأ على شيء برجله فقد استقصى في إهلاكه، والمعنى
: خذهم أخذا شديدا. والضمير في: (اجعلها)، يرجع إلى الوطأة. قوله: (كسني يوسف) وجه الشبه غاية الشدة، وأشار به إلى قوله تعالى: * (ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد) * (يوسف: 84). وقوله: * (تزرعون سبع سنين) * (يوسف: 74). وسنين جمع سنة بالفتح وهو القحط والجدب قال الله تعالى: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * (الأعراف: 031). قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم...) إلى آخره حديث آخر، وهو عند البخاري بالإسناد المذكور، فكأنه سمعه هكذا، فأورده كما سمعه. وقد أخرجه أحمد كما أخرجه البخاري، وروى مسلم من حديث خيثم بن عراك عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها ولكن قالها الله). وروى أيضا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله). وروى أيضا عن خفاف بن أيماء الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة: (اللهم العن بني لحيان ورعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله، وغفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله). وروى عن جابر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها). وروى أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن علي ابن يزيد عن المغيرة بن أبي برزة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله)، ورواه أبو يعلى الموصلي نحوه، وزاد في آخره: (ما أنا قلته ولكن الله، عز وجل، قاله) وغفار، بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء وبالراء: أبو قبيلة من كنانة، وهي: غفار بن مليك بن ضمرة بن بكر بن مناة بن كنانة، قال ابن دريد: هو من غفر إذا ستر، منهم أبو ذر الغفاري. وأسلم، بالهمزة واللام المفتوحتين قبيلة أيضا من خزاعة وهي: أسلم بن أقصى، وهو خزاعة بن حارثة ابن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، منهم: سلمة الأكوع، وفي مدحج: أسلم بن أوس الله بن سعد العشيرة بن مذحج، وفي بجيلة: أسلم بطن، هو: أسلم بن عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم بن أخمس بن الغوث بن بجيلة، ذكره ابن الكلبي.
26

وقال ابن الأثير: (غفار غفر الله لها)، يحتمل أن يكون دعاء لها بالمغفرة، أو إخبارا بأن الله تعالى قد غفر لها، وكذلك معنى: (أسلم سالمها الله)، يحتمل أن يكون دعاء لها إن يسالمها الله تعالى، ولا يأمر بحربها، أو يكون إخبارا بأن الله قد سالمها ومنع من حربها، وإنما خصت هاتان القبيلتان بالدعاء لأن غفارا أسلموا قديما، وأسلم سالموا النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: الدعاء بما يشتق من الاسم، كما يقال لأحمد: أحمد الله عاقبتك، ولعلي أعلاك الله وهو من جناس الاشتقاق وفيه الدعاء على الظالم بالهلاك والدعاء للمؤمنين بالنجاة وقال بعضهم: إن كانوا منتهكين لحرمة الدين يدعى عليهم بالهلاك، وإلا يدعى لهم بالتوبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد دوسا وأت بهم). وروي أن أبا بكر وزوجته، رضي الله تعالى عنهما، كانا يدعوان على عبد الرحمن ابنهما يوم بدر بالهلاك إذا حمل على المسلمين، وإذا أدبر يدعوان له بالتوبة.
قال ابن أبي الزناد عن أبيه هاذا كله في الصبح
أي: قال عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان: هذا الحديث كله في صلاة الصبح، يعني أنه روى عن أبيه هذا الحديث بهذا الإسناد، فبين أن الدعاء المذكور كان في صلاة الصبح، ويدل على هذا قوله: (في الركعة الآخرة من الصبح)، وقيل: كان ذلك في العشاء، وقيل: في الظهر والعشاء، وعلى كل حال قد بينا أنه منسوخ.
7001 حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق قال كنا عند عبد الله فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم قال الله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). إلى قوله عائدون * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * (الدخان: 61). فالبطشة يوم بدر وقد مضت الدخان والبطشة واللزام وآية الروم.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (اللهم سبعا كسبع يوسف).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عثمان بن أبي شيبة هو عثمان ابن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي، مولاهم أبو الحسن الكوفي أخو أبي بكر بن أبي شيبة والقاسم بن أبي شيبة، وكان أكبر من أبي بكر، مات سنة تسع وثلاثين ومائتين. الثاني: جرير بن عبد الحميد، وقد مر غير مرة. الثالث: منصور بن المعتمر أبو عباس الكوفي. الرابع: أبو الضحى، بضم الضاد المعجمة، واسمه: مسلم بن صبيح، بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة الهمداني الكوفي العطار. الخامس: مسروق بن الأجدع الهمداني أبو عائشة الكوفي. السادس: عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته كوفيون ما خلا جريرا فإنه رازي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الاستسقاء أيضا عن الحميدي، وعن سليمان بن حرب وعن يحيى عن أبي معاوية وعن يحيى عن وكيع وعن محمد بن كثير عن سفيان، وفي التفسير أيضا عن بشر بن خالد، وأخرجه مسلم في التوبة عن إسحاق عن جرير وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن أبي سعيد الأشج وعن عثمان عن جرير وعن يحيى ابن يحيى وأبي كريب، وأخرجه الترمذي في التفسير عن محمود بن غيلان، وأخرجه النسائي عن بشر بن خالد به وعن أبي كريب به وعن محمود بن غيلان.
ذكر معناه: قوله: (عند عبد الله) يعني ابن مسعود. قوله: (لما رأى من الناس) أي: قريش، واللام للعهد. قوله: (إدبارا) أي: عن الإسلام، وفي تفسير الدخان: (أن قريشا لما أبطأوا عن الإسلام). قوله: (سبعا) منصوب بفعل مقدر
27

أي: اجعل سنيهم سبعا، أو ليكن سبعا، ويروى سبع بالرفع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: البلاء المطلوب عليهم سبع سنين، كالسنين السبع التي كانت في زمن يوسف، وهي السبع الشداد التي أصابهم فيها القحط، أو يكون المعنى: المدعو عليهم قحط كقحط يوسف، ويجوز أن يكون ارتفاعه على أنه اسم كان التامة، تقديره: ليكن سبع. وفي الوجه الأول: كان، ناقصة. وجاء في رواية (لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، قوله: (سنة)، بالفتح: القحط والجدب. قال الله تعالى: * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * (الأعراف: 031). قوله: (حصت كل شيء)، بحاء وصاد مهملتين مشددة الصاد أي: استأصلت وأذهبت النبات، فانكشفت الأرض، وفي (المحكم): سنة حصاء: جدبة قليلة النبات. وقيل: هي التي لا نبات فيها. قوله: (حتى أكلوا)، كذا هو في رواية المستملي والحموي وعند غيرهما: (حتى أكلنا)، والأول أشبه. قوله: (والجيف)، بكسر الجيم وفتح الياء آخر الحروف: جمع الجيفة، وهي جثة الميت وقد أراح، فهي أخص من الميت لأنها ما لم تلحقه ذكاة. قوله: (وينظر أحدكم)، ويروى: (أحدهم)، وهو الأوجه. قوله: (فأتاه أبو سفيان) يعني: صخر بن حرب، ودل هذا على أن القصة كانت قبل الهجرة. قوله: (قال الله تعالى: فارتقب) يعني: لما قال أبو سفيان: إن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قرأ النبي، صلى الله عليه وسلم: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). وكذا في: باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط، فإن البخاري أخرج حديث الباب أيضا هناك: عن محمد بن كثير عن سفيان عن منصور عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق. قال: أتيت ابن مسعود.. الحديث. وفيه: (فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد تأمر بصلة الرحم وأن قومك قد هلكوا؟ فادع الله عز وجل فقرأ: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 0)..
وأخرج في تفسير سورة الدخان، حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى (عن مسروق، قال: دخلت على عبد الله، فقال: إن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، إن الله قال لنبيه، صلى الله عليه وسلم: * (قل لا أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) * (ص
1764;: 68). إن قريشا لما غلبوا النبي، صلى الله عليه وسلم، واستعصوا عليه، قال: اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع، قال: * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * (الدخان: 21). فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه فكشف عنهم. فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان) * (الدخان: 01). إلى قوله، جل ذكره: * (إنا منتقمون) * (الدخان: 61). وأخرج مسلم (عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه، يفسر هذه الآية: * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 21). قال: يأتي الناس دخان يوم القيامة فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله؛ من علم علما فليقل به، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل إن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، إنما كان هذا أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، حتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله استغفر الله لمضر فإنهم قد هلكوا. فقال لمضر: إنك لجريء، قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * (الدخان: 51). قال: فمطروا، فلما أصابهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) * (الدخان: 01، 11). يعني: يوم بدر. انتهى. وقد علمت أن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، وذلك أن أبا سفيان لما قال: ادع الله لهم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). كما في رواية البخاري عن محمد بن كثير الذي ذكرناه، وصرح في رواية مسلم أنه لما دعا الله لها أنزل الله تعالى: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * (الدخان: 51). فقبل الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فمطروا، فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه فأنزل الله تعالى: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). المعني: فانتظر يا محمد عذابهم. ومفعول ارتقب، محذوف وهو: عذابهم.
قوله: (يغشى الناس) صفة للدخان في محل الجر يعني: يشملهم ويلبسهم. وقيل: * (يوم تأتي السماء) * (الدخان: 01). مفعول * (فارتقب) * (الدخان: 01). قوله: * (هذا عذاب أليم) * (الدخان: 11). يعني: يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره. وقوله: * (هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * (الدخان: 21). كل ذلك منصوب المحل بفعل مضمر، وهو: يقولون، ويقولون
28

منصوب على الحال، أي: قائلين ذلك. قوله: * (إنا مؤمنون) * (الدخان: 21). موعدة بالإيمان إن كشف عنهم العذاب. قال الله تعالى: * (أنى لهم الذكرى) * (الدخان: 31). أي: من أين لهم التذكر والاتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب؟ (و) الحال أنه: * (قد جاءهم رسول) * (الدخان: 31). بما هو أعظم من ذلك وأدخل في وجوب الأذكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا، وتولوا عنه وبهتوه بأن عداسا، غلاما أعجميا لبعض ثقيف، هو الذي علمه، ونسبوه إلى الجنون، وهو معنى قوله: * (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) * (الدخان: 41). ثم قال: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * (الدخان: 51). إلى (كفركم) ثم قال: * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * (الدخان
: 61). وهو يوم بدر، كما في متن حديث الباب، وعن الحسن: البطشة الكبرى: يوم القيامة.
قوله: (فقد مضت...) إلى آخره من كلام ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن دحية: الذي يقتضيه النظر الصحيح حمل أمر الدخان على قضيتين: إحداهما: وقعت وكانت، والأخرى: ستقع قلت: فعلى هذا هما دخانان: أحدهما: الذي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة، وهو كهيئة الدخان، وهيئة الدخان غير الدخان الحقيقي. والآخر: هو الدخان الذي يكون عند ظهور الآيات والعلامات، ويقال: هو من آثار جهنم يوم القيامة، ولا يمتنع إذا ظهرت تلك العلامات أن يقولوا: * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * (الدخان: 21). قوله: (واللزام)، اختلف فيه، فذكر ابن أبي حاتم في تفسره: أنه القتل الذي أصابهم ببدر، روى ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب ومجاهد وقتادة والضحاك. قال القرطبي: فعلى هذا تكون البطشة واللزام واحدا. وعن الحسن: اللزام يوم القيامة، وعنه أنه: الموت. وقيل: يكون ذنبكم عذابا لازما لكم. وفي (المحكم): اللزام الحساب. وفي (الصحيح): عن مسروق عن عبد الله قال: (خمس قد مضين: الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر). قوله: (وآية الروم)، وهو أن المسلمين حين اقتتلت فارس والروم كانوا يحبون ظهور الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وكل كفار قريش يحبون ظهور فارس لأنهم مجوس، وكفار قريش عبدة أوثان، فتخاطر أبو بكر وأبو جهل في ذلك، أي: أخرجا شيئا وجعلوا بينهم مدة بضع سنين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن البضع قد يكون إلى تسع، أو قال: إلى سبع فزده في المدة أو في الخطار). ففعل، فغلبت الروم فقال تعالى: * (آلم غلبت الروم) * (الروم: 1 و 2). يعني: المدة الأولى، قبل الخطاب ثم قال: * (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) * (الروم: 3 و 4). إلى قوله: * (يفرح المؤمنون بنصر الله) * (الروم: 4 و 5). يعني: بغلبة الروم فارسا، وربما أخذوا من الخطار، وقال الشعبي: كان القمار في ذلك الوقت حلالا، والله تعالى أعلم.
3
((باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا))
أي: هذا باب في بيان سؤال الناس الإمام. فقوله: (سؤال الناس)، مصدر مضاف إلى فاعله، وقوله: (الإمام)، بالنصب مفعوله، و (الاستسقاء) بالنصب مفعول آخر. فإن قلت: الفعل من غير أفعال القلوب لا يجيء له مفعولان صريحان، بل يجيء إذا كان أحدهما غير صريح، وكيف هو ههنا؟ قلت: الذي قلته هو الأكثر، وقد يجيء مطلقا، أو نقول: انتصاب الاستسقاء بنزع الخافض أي: عن الاستسثقاء، يقال: سألته الشيء وسألته عن الشيء. قوله: (إذا قحطوا)، على صيغة المعلوم، بفتح القاف والحاء، وبلفظ المجهول يقال: قحط المطر قحوطا إذا احتبس. وحكى الفراء: قحط بالكسر، وجاء: قحط القوم، على صيغة المجهول. قحطا وقال الكرماني: ما معنى المعروف إذ المطر هو المحتبس لا الناس؟ وأجاب: بأنه من باب القلب، أو إذا كان هو محتبسا عنهم فهم محتبسون عنه. قيل: لو أدخل البخاري حديث ابن مسعود المذكور في الباب الذي قبله لكان أنسب وأوضح. وأجيب: بأن الذي سأل قد يكون مشركا، وقد يكون مسلما، وقد يكون من الفريقين، والسائل في حديث ابن مسعود كان مشركا حينئذ، فناسب أن يذكر في الذي بعده من يشمل الفريقين، فلذلك ذكر في الترجمة ما يشملهما، وهو لفظ الناس.
8001 حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو قتيبة قال حدثنا عبد الرحمان بن عبد الله ابن دينار عن أبيه قال سمعت ابن عمر يتمثل بشعر أبي طالب:
* وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
* ثمال اليتامى عصمة للأرامل
*
(الحديث 8001 طرفه في: 9001).
29

مناسبة هذا للترجمة تؤخذ من قوله: (يستسقى الغمام) لأن فاعله محذوف، لأن تقديره: يستسقى الناس بالغمام، واعترض بأنه لا يلزم من كون الناس فاعلا ليستسقى أن يكونوا سألوا الإمام أن يستسقى لهم، فلا يطابق الترجمة، ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قول أبي طالب هذا في الحقيقة توسل إلى الله عز وجل بنبيه، لأنه حضر استسقاء عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم معه، فيكون استسقاء الناس الغمام في ذلك الوقت ببركة وجهه الكريم، وإن لم يكن في الظاهر أن أحدا سأله، وكانوا مستشفعين به، وهو في معنى السؤال عنه. على أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، ما أراد مجرد ما دل عليه شعر أبي طالب، وإنما أشار إلى قصة وقعت في الإسلام حضرها.
قوله: (حدثني عمرو بن علي) وفي بعض النسخ: حدثنا، بصيغة الجمع، وعمرو بن علي بن بحر أبو حفص الباهلي البصري الصيرفي، وأبو قتيبة سلم، بفتح السين المهملة وسكون اللام: ابن قتيبة الخراساني البصري، مات بعد المائتين، وهذا البيت من قصيدة قالها أبو طالب، وهي قصيدة طنانة لامية من بحر الطويل، وهي مائة بيت وعشر أبيات، أولها قوله:
* خليلي ما أذني لأول عاذل
* بصفواء في حق ولا عند باطل
*
وآخرها قوله:
* ولا شك أن الله رافع أمره
* ومعليه في الدنيا ويوم التجادل
*
* كما قد رأى في اليوم والأمس جده
* ووالده رؤياهم غير آفل
*
يذكر فيها أشياء كثيرة من عداوة قريش إياه بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه نفسه ونسبه وذكر سيادته وحمايته للنبي صلى الله عليه وسلم، والتعرض لبني أمية، وغير ذلك، يعرفها من يقف عليها. وقد تمثل عبد الله بن عمر بالبيت المذكور، ومعنى التمثل: إنشاد شعر غيره. قوله: (وأبيض)، بفتح الضاد وضمها، وجه الفتح أن يكون معطوفا على قوله: (سيدا) في البيت الذي قبله، وهو قوله:
* وما ترك قوم لا أبا لك سيدا
* يحوط الذمار غير ذرب مؤاكل
*
و: الذمار، بكسر الذال المعجمة: وهو ما لزمك حفظه مما وراءك، وتعلق به قوله: (غير ذرب) أراد به: ذرب اللسان بالشر، وأصله من: ذرب المعدة، وهو فسادها، والمؤاكل، بضم الميم: الذي يستأكل، ويجوز أن يكون مفتوحا في موضع الجر برب المقدرة، والوجه الأول أوجه، ووجه الضم هو الرفع إن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو أبيض. قوله: (يستسقي الغمام بوجهه) جملة وقعت صفة لأبيض، ومحلها من الإعراب النصب أو الرفع على التقديرين. قوله: (ثمال اليتامى) كلام إضافي يجوز فيه الرفع والنصب على التقديرين المذكورين، والثمال، بكسر الثاء المثلثة: قال ابن الأنباري: معناه مطعم لليتامى، يقال: ثملهم يثملهم إذا كان يطعمهم وفي (مجمع الغرائب): يقال: هو ثمال قومه إذا كان يقوم بأمرهم، وفي (المحكم): فلان ثمال بني فلان، أي: عمادهم. وقال ابن التين: أي المطعم عند الشدة. قوله: (عصمة للأرامل)، كذلك بالوجهين في الإعراب، والأرامل جمع أرمل، وهو الذي نفد زاده، وقال ابن سيده: رجل أرمل وامرأة أرملة وهي المحتاجة والأرامل والأراملة، كسروه تكسير الأسماء لغلبته، وكل جماعة من رجال ونساء أو رجال دون نساء أو نساء دون رجال أرامل بعد أن يكونوا محتاجين. وفي (الجامع): قالوا: ولا يقال رجل أرمل لأنه لا يكاد يذهب زاده بذهاب امرأته، إذ لم تكن قيمة عليه بالمعيشة، بخلاف المرأة، وقد زعم قوم أنه يقال: رجل أرمل إذا ماتت امرأته، قال الحطيئة:
* هذي الأرامل قد قضيت حاجتها
* فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
*
قال السهيلي، رحمه الله تعالى. فإن قيل: كيف قال أبو طالب: يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، إنما كان ذاك من بعد الهجرة؟ وأجاب: بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبي صلى الله عليه وسلم معه وهو غلام، قيل: يحتمل أن يكون أو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخائل ذلك فيه، وإن لم يشاهد وقوعه، وقال ابن التين: إن في شعر أبي طالب هذا دلالة على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيراء وغيره من شأنه. قيل: فيه نظر، لأن ابن إسحاق زعم أن أبا طالب أنشأ هذا الشعر بعد البعث. قلت: في هذا النظر نظر، لأنه لما علم أنه نبي بأخبار بحيراء وغيره أنشد هذا الشعر بناء على ما علمه من ذلك قبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم.
30

9001 وقال عمر بن حمزة حدثنا سالم عن أبيه ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب
* وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
* ثمال اليتامى عصمة للأرامل
*
وهو قول أبي طالب.
(أنظر الحديث 8001).
مناسبة هذا التعليق للترجمة تؤخذ من قوله: (يستسقى) لأن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يخبر عن استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ينظر إلى وجهه الكريم، ولم يكن استسقاؤه في ذلك إلا عن سؤال عنه صلى الله عليه وسلم، ويوضح ذلك ما رواه البيهي في (الدلائل) قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم حدثنا جعفر بن عنبسة حدثنا عبادة ابن زياد الأزدي عن سعيد بن خيثم عن مسلم الملائي عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، والله لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثم أنشد:
* أتيناك والعذراء يدمى لبانها
* وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
*
* وألقى بكفيه الصبي استكانة
* من الجوع ضعفا ما يمر وما يحلى
*
* ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
* سوى الحنظل العاهي والعلهز الفسل
*
* وليس لنا إلا إليك فرارنا
* وأين فرار الناس إلا إلى الرسل؟
*
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم اسقنا..) الحديث، وفيه: (فجاء أهل البطانة يصيحون: الغرق الغرق، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: لله در أبي طالب لو كان حاضرا لقرت عيناه، من ينشدنا شعره؟ فقال علي: يا رسول الله كأنك أردت قوله:
* وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
*
فذكر أبياتا منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، فقام رجل من بني كنانة فأنشد أبياتا:
* لك الحمد والحمد ممن شكر
* سقينا بوجه النبي المطر
*
* دعا الله خالقه دعوة
* وأشخص معها إليه البصر
*
* فلم يك إلا كالف الردا
* وأسرع حتى رأينا الدرر
*
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن يكن شاعر أحسن فقد أحسنت). ثم هذا التعليق الذي أورده البخاري عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، رواه ابن ماجة موصولا في (سننه): حدثنا أحمد بن الأزهر عن ابن النضر هاشم بن القاسم عن أبي عقيل، يعني عبيد الله بن عقيل الثقفي، حدثنا عمر بن حمزة حدثنا سالم عن أبيه، قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المنبر، فما نزل حتى جيش كل ميزاب بالمدينة، فذكر قول الشاعر:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
إلى آخره، وعمر بن حمزة هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ابن أخي سالم بن عبد الله ابن عمر، أخرج له البخاري في (الأدب) أيضا، وتكلم فيه أحمد والنسائي، ووثقه ابن حبان، وقال: كان يخطئ. وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه، وروى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة. فإن قلت: عمر بن حمزة هذا متكلم فيه، وكذلك عبد الرحمن ابن عبد الله بن دينار مختلف في الاحتجاج به، المذكور في الطريق الموصولة، فكيف أوردهما البخاري في (صحيحه)؟ قلت: أجيب بأن إحدى الطريقين اعتضدت بالأخرى، وهو من أمثلة أحد قسمي (الصحيح) كما تقرر في موضعه، وفيه نظر، لا يخفى. قوله: (وأنا أنظر) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (يستسقى)، جملة فعلية وقعت حالا، كذلك. قوله: (حتى يجيش) بالجيم والشين المعجمة، من: جاش البحر إذا هاج، وجاش القدر جيشانا إذا غلت، وجاش الوادي إذا زهر وامتد جدا، وجاش الشيء إذا تحرك، وهو هنا كناية عن كثرة المطر، و (الميزاب) بكسر الميم وبالزاي معروف، وهو ما يسيل منه الماء من موضع عال، ووقع في رواية الحموي: (حتى يجيش لك)، بتقديم اللام على الكاف، وهو تصحيف.
قوله: (يئط) أي: يحن، ويصيح، يريد: ما لنا
31

بعير أصلا، لأن البعير لا بد أن يئط. قوله: (ولا صبي يغط)، من الغطيط، يقال: غط يغط غطا وغطيطا إذا صاح. قوله: (والعذراء) وهي الجارية التي لم يمسها رجل، وهي البكر. قوله: (يدمي لبانها)، بفتح اللام، وهو الصدر، وأصل اللبان في الفرس موضع اللبن ثم استعير للناس، ومعنى: يدمي لبانها يعني يدمي صدرها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تغطيه من تخدمها من الجدب وشدة الزمان. وقوله: (استكانة) أي: خضوعا، وذلة. قوله: (ما يمر)، بضم الياء آخر الحروف وكسر الميم وتشديد الراء. قوله: (ولا يحلى)، بضم الياء أيضا. وسكون الحاء المهملة وكسر اللام، والمعنى: ما ينطق بخير ولا شر من الجوع والضعف، واشتقاق الأول: من المرارة، والثاني: من الحلاوة، فالأول كناية عن الشر، والثاني: عن الخير. قوله: (سوى الحنظل العاهي)، الحنظل: معروف، والعاهي: فاعل من العاهة وهي: الآفة. قوله: (والعلهز)، بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء وفي آخره زاي: وهو شيء يتخذونه في سني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار، ويأكلونه، وقيل: كانوا يخلطون فيه القردان، ويقال: القراد الضخم العلهز، وقيل: العلهز شيء ينبت ببلاد بني سليم له أصل كأصل البرذي، قال ابن الأثير: ومنه حديث الاستسقاء، وأنشد الأبيات المذكورة. قوله: (الفسل)، بفتح الفاء وسكون السين المهملة، وهو الشيء الرديء الرذل، يقال: فسله وأفسله. قاله ابن الأثير، ويروى بالشين المعجمة، وقال في باب الشين: الفشل والفزع والخوف والضعف، ومنه حديث الاستسقاء:
سوى الحنظل العاهي والعلهز الفشل
أي: الضعيف يعني الفشل مدخره، وأكله فصرف الوصف إلى العلهز، وهو في الحقيقة لآكله. قوله: (الدرر)، بكسر الدال وفتح الراء الأولى، جمع درة، بكسر الدال وتشديد الراء، يقال: للسحاب درة، أي: صب واندفاق.
0101 حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون.
(الحديث 0101 طرفه في: 0173).
مطابقته للترجمة في قول عمر: (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا..) إلى آخره، بيانه أنهم كانوا إذا استسقوا كانوا يستسقون بالنبي، صلى الله عليه وسلم، في حياته، وبعده استسقى عمر بمن معه بالعباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، فجعلوه كالإمام الذي يسأل فيه، لأنه كان أمس الناس بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأقربهم إليه رحما فأراد عمر أن يصلها ليتصل بها إلى من كان يأمر بصلة الأرحام، صلى الله عليه وسلم، وعن كعب الأحبار أن بني إسرائيل كانوا إذا قحطوا استسقوا بأهل بيت نبيهم، وزعم ابن قدامة أن ذلك كان عام الرمادة، وذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، وكان ابتداؤه مصدر الحاج منها ودام تسعة أشهر، والرمادة، بفتح الراء وتخفيف الميم: سمي العام بها لما حصل من شدة الجدب، فاغبرت الأرض من عدم المطر، وذكر سيف في (كتاب الردة): (عن أبي سلمة: كان أبو بكر الصديق إذا بعث جندا إلى أهل الردة خرج ليشيعهم، وخرج بالعباس معه، قال: يا عباس استنصر وأنا أؤمن، فإني أرجو أن لا يخيب دعوتك لمكانك من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الإمام أبو القاسم ابن عساكر في (كتاب الاستسقاء) من حديث إبراهيم بن محمد عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس: أن العباس قال ذلك اليوم: اللهم إن عندك سحابا وإن عندك ماء فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء، ثم أنزله علينا واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدر به الضرع، اللهم شفعنا إليك عمن لا منطق له من بهايمنا وأنعامنا. اللهم إسقنا سقيا وادعة بالغة طبقا مجيبا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللهم إنا نشكوا أليك سغب كل ساغب وعدم كل عادم وجوع كل جائع وعري كل عار وخوف كل خائف..) وفي حديث أبي صالح: (فلما صعد عمر ومعه العباس المنبر، قال عمر، رضي الله تعالى عنه: اللهم إنا توجهنا إليك بعم نبيك وصنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ثم قال: قل يا أبا الفضل، فقال العباس: اللهم لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني
32

من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث. قال: فأرخت السماء شآبيب مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني. الثاني: محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله ابن أنس بن مالك الأنصاري، قاضي البصرة، مات سنة خمس عشرة ومائتين. الثالث: أبوه عبد الله بن المثنى المذكور. الرابع: ثمامة، بضم الثاء المثلثة وتخفيف الميم: تقدم في: باب من أعاد.. الحديث. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: رواية البخاري عن شيخه بوجهين أحدهما التحديث بصيغة الجمع والآخر بصيغة الإفراد. وفيه: التحديث أيضا بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري أيضا يروي عنه أيضا كثيرا بلا واسطة، وههنا روى عنه بواسطة. وفيه: رواية الابن عن الأب وهي: رواية محمد بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن المثنى، وينبغي أن يقرأ عبد الله بالرفع في قوله: (حدثنا أبي عبد الله) لأنه يشتبه بالكنية، وهو عطف بيان، ومحل تيقظ. وفيه: رواية الرجل عن عمه، وهي: رواية عبد الله بن المثنى عن عمه ثمامة بن عبد الله. وفيه: أن عبد الله بن المثنى من أفراده. وفيه: رواية الرجل عن جده، وهي: رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس جده.
وهذا الحديث تفرد به البخاري عن الستة.
ذكر معناه: قوله: (إذا قحطوا)، بضم القاف وكسر الحاء المهملة أي: أصابهم القحط. قوله: (استسقى بالعباس) أي: متوسلا به حيث قال: (اللهم إنا كنا..) إلى آخره، وصفة ما دعا به العباس قد ذكرناها عن قريب.
وفيه من الفوائد: استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة. وفيه: فضل العباس وفضل عمر، رضي الله تعالى عنهما، لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه. قال ابن بطال: وفيه: أن الخروج إلى الاستسقاء والاجتماع لا يكون إلا بإذن الإمام لما في الخروج والاجتماع من الآفات الداخلة على السلطان، وهذه سنن الأمم السالفة قال تعالى: * (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) * (الأعراف: 061).
4
((باب تحويل الرداء في الاستسقاء))
أي: هذا باب في بيان تحويل الرداء في الاستسقاء.
1101 حدثنا إسحاق قال حدثنا وهب قال أخبرنا شعبة عن محمد بن أبي بكر عن عباد ابن تميم عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فقلب رداءه.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ولا يقال: الترجمة بلفظ التحويل، وفي الحديث: (فقلب رداءه) لأن التحويل والقلب بمعنى واحد، مع أن لفظ الحديث في الطريق الأولى. (وحول)، على أنه في الطريق الثانية في رواية أبي ذر: (حول)، بدل (قلب)، وقال بعضهم: ترجم لمشروعيته خلافا لمن نفاه، ثم ترجم بعد ذلك لكيفيته. قلت: علم مشروعيته من الحديث الذي أخرجه في أول كتاب الاستسقاء، رواه عن أبي نعيم عن سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه وهو عبد الله بن زيد، وههنا أخرجه عن إسحاق عن وهب عن محمد بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد، والحديث واحد، وفي سنده مغايرة، وإنما أعاد هذا الحديث لأمور ثلاثة: الأول: أنه ترجم له ههنا في تحويل الرداء، وهناك في خروجه صلى الله عليه وسلم للاستسقاء. الثاني: ليشيرا إلى تغاير السند وبعض الاختلاف في المتن. والثالث: صرح ههنا بعبد الله بن زيد وهناك أبهم اسمه ولم يذكره إلا بلفظ العم، وإسحاق: هو ابن إبراهيم الحنظلي، ومحمد: ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو أخو عبد الله بن أبي بكر المذكور في السند الأول، وقد ذكرنا ما يتعلق بالحديث هناك مستوفى.
2101 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الله بن أبي بكر أنه سمع
33

عباد بن تميم يحدث أباه عن عمه عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين.
.
هذه طريقة أخرى في الحديث المذكور قبله أخرجه عن علي بن عبد الله بن جعفر الذي يقال له: ابن المديني: عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عباد بن تميم، إلى آخره. قوله: (عن سفيان عن عبد الله)، كذا هو في رواية الحموي والمستملي أعني: بلفظ: (عن عبد الله) ووقع في رواية الآخرين، قال: (حدثنا سفيان قال عبد الله بن أبي بكر)، أي: قال: قال عبد الله، وجرت عادتهم بحذف إحداهما من الخط. قوله: (يحدث أباه) الضمير في قوله: (أباه) يعود على عبد الله بن أبي بكر، لا على: عباد، وقال الكرماني: موضع: أباه، أراه أي: أظنه، ثم قال: وفي بعضها: أباه أي: أبا عبد الله، يعني: أبا بكر وقال بعضهم: ولم أر في شيء من الروايات التي اتصلت لنا. انتهى. قلت: لا يستلزم عدم رؤيته لذلك عدم رؤية غيره، والنسخة التي اطلع عليها الكرماني أوضح وأظهر.
وهذا الحديث يشتمل على أحكام: الأول: فيه خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحراء للاستسقاء لأنه أبلغ في التواضع، وأوسع للناس، وذكر ابن حبان: كان خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. الثاني: فيه مشروعية الاستسقاء. الثالث: فيه استقبال القبلة وتحويل الرداء، وقد ذكرنا حكمه مستقصى. الرابع: فيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين.
ويحتاج في بيان هذا إلى أمور:
الأول: فيه الدلالة على أن الخطبة فيه قبل الصلاة، وصرح يحيى بن سعيد في باب كيف يحول ظهره، ثم صلى لنا ركعتين، وهو مقتضى حديث عائشة الذي رواه أبو داود في (سننه) عنها، قالت: (شكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عليكم، وقد أمركم الله تعالى أن تدعوه، ووعدكم أن الله يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: أشهد أن الله على كل شيء قدير وإني عبد الله ورسوله). والمفهوم من هذا الحديث أن الخطبة قبل الصلاة، ولكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، والجمع بينهما أنه محمول على الجواز، والمستحب تقديم الصلاة لأحاديث أخر.
الأمر الثاني: أن صلاة الاستسقاء ركعتان، وروى أبو داود عن ابن عباس حديثا. وفيه: (ولم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد). وقال الخطابي: وفيه دلالة على أنه يكبر كما يكبر في العيدين، وإليه ذهب الشافعي، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد
العزيز ومكحول ومحمد بن جرير الطبري، وهو رواية عن أحمد، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يكبر فيهما كسائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأحمد في المشهور عنه وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة وقال داود: إن شاء كبر كما يكبر في العيدين، وإن شاء كبر تكبيرة واحدة للاستفتاح كسائر الصلوات. والجواب عن حديث ابن عباس: أن المراد من قوله: (كما يصلي في العيدين)، يعني في العدد والجهر بالقراءة، وفي كون الركعتين قبل الخطبة. فإن قلت: قد روى الحاكم في (مستدركه) والدارقطني ثم البيهقي في (السنن): عن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه (عن طلحة، قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس اسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية: هل أتاك حديث الغاشية، وكبر فيها خمس تكبيرات). قال الحاكم: صحيح الإسناد
34

ولم يخرجاه. قلت: أجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنه ضعيف، فإن محمد بن عبد العزيز قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث ليس له حديث مستقيم، وقال ابن حبان في (كتاب الضعفاء): يروي عن الثقات المعضلات، وينفرد بالطامات عن الأثبات حتى سقط الاحتجاج به، وقال ابن قطان في كتابه: هو أحد ثلاثة أخوة كلهم ضعفاء: محمد وعبد الله وعمران، بنو عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، وأبوهم عبد العزيز مجهول الحال، فاعتل الحديث بهما. والثاني: أنه معارض بحديث رواه الطبراني في (الأوسط) بإسناده (عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، استسقى فخطب قبل الصلاة، واستقبل القبلة وحول رداءه، ثم نزل فصلى ركعتين لم يكبر فيهما إلا تكبيرة).
الأمر الثالث: في أن وقت صلاة الاستسقاء كوقت صلاة العيدين، كما دل عليه حديث ابن عباس، وقد اختلف في ذلك. فذهب مالك والشافعي وأبو ثور: إلى أنه يخرج لها كالخروج إلى صلاة العيدين، وحكى ابن المنذر وابن عبد البر عن الشافعي هذا، ونقل ابن الصباغ في (الشامل) وصاحب (جمع الجوامع) عن نص الشافعي: أنها لا تختص بوقت، وبه قطع المتولي والماوردي وابن الصباغ، وصححه الرافعي في المحرر، ونقل النووي القطع به عن الأكثرين، وأنه صححه المحققون وأما وقتها كوقت العيد، فقال إمام الحرمين: إنه لم يرو لغير الشيخ أبي علي. قلت: لم ينفرد به الشيخ أبو علي، بل قاله أيضا الشيخ أبو حامد والمحاملي البغوي في (التهذيب)
[/ ح.
الأمر الرابع: في أنه يقرأ في صلاة الاستسقاء بعد الفاتحة ما يقرأ في العيدين، أما سورة ق واقتربت، أو سبح اسم ربك الأعلى والغاشية، وهو قول الشافعي استدلالا بما في حديث ابن عباس المذكور: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيدين). وقال الشافعي في (الأم): ويصلي ركعتين لا يخالف صلاة العيد بشيء، ونأمره أن يقرأ فيها ما يقرأ في صلاة العيد. قال: وما قرأ به مع أم القرآن أجزأه، وإن اقتصر على أم القرآن في كل ركعة أجزأه، وصدر الرافعي كلامه بأنه يقرأ في الأولى ق، وفي الثانية: اقتربت، ثم حكى عن بعض الأصحاب أنه يقرأ في الأولى: ق، وفي الثانية: إنا أرسلنا نوحا. وعند أصحابنا: ليس في صلاة، أي صلاة كانت، قراءة مؤقتة، وذكر في (البدائع) و (التحفة): الأفضل أن يقرأ فيهما: سبح اسم ربك الأعلى في الأولى، وفي الثانية: هل أتاك حديث الغاشية..
الأمر الخامس: أنه يجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، لما روى الترمذي من حديث (عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي، فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما..) الحديث. وعن أبي يوسف: أحسن ما سمعنا فيه أن يصلي الإمام ركعتين جاهرا بالقراءة مستقبلا بوجهه قائما على الأرض دون المنبر، متكئا على قوس يخطب بعد الصلاة خطبتين، وعن أبي يوسف: خطبة واحدة، لأن المقصود منها الدعاء فلا يقطعها بالجلسة، وعند محمد: يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، وبه قال الشافعي.
ثم إعلم أن أبا حنيفة قال: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحدانا جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، لقوله تعالى: * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا) * (نوح: 01 و 11). علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكأن الأصل فيه الدعاء والتضرع دون الصلاة، ويشهد لذلك أحاديث: منها: الحديث المذكور، لأنه لم يذكر فيه الصلاة. ومنها: حديث أنس، على ما يأتي في الباب الآتي. ومنها: حديث كعب بن مرة، رواه ابن ماجة من رواية شرحبيل بن السمط، أنه قال لكعب: يا كعب بن مرة (حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحذر! قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، استسق الله، عز وجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إسقنا غيثا مريعا طبقا عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار، قال: فاجتمعوا حتى أجيبوا. قال: فاتوه فشكوا إليه المطر، فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، فقال رسول الله: اللهم حوالينا ولا علينا. قال: فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا). ومنها: حديث جابر، رواه أبو داود من رواية يزيد الفقير (عن جابر بن عبد الله قال: أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بواك، فقال: اللهم إسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل، قال: فأطبقت عليهم السماء)، انتهى. قوله: (بواك)، جمع باكية. وقال الخطابي: بواكي، بضم الياء آخر الحروف، قال: معناه التحامل. قوله: (مريعا)، بفتح
35

الميم وكسر الراء: أي مخصبا ناجعا من: مرع الوادي مراعة، ويروى بضم الميم من أمرع المكان إذا أخصب، ويروى بالباء الموحدة من: أربع الغيث إذا أنبت الربيع، ويروى بالتاء المثناة من فوق أي: ينبت لله فيه ما ترتع فيه المواشي. ومنها: حديث أبي أمامة، رضي الله تعالى عنه، رواه الطبراني من رواية عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم (عن أبي أمامة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ضحى. فكبر ثلاث تكبيرات ثم قال: اللهم اسقنا، ثلاثا، اللهم
ارزقنا سمنا ولبنا وشحما ولحما، وما نرى في السماء سحابا، فثارت ريح وغيرة ثم اجتمع سحاب فصبت السماء، فصاح أهل الأسواق وثاروا إلى سقائف المسجد إلى بيوتهم..) الحديث. ومنها: حديث عبد الله بن جراد رواه البيهقي في (سننه) من رواية يعلى قال: (حدثنا عبد الله ابن جراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: اللهم غيثا مغيثا مريئا توسع به لعبادك تغزر به الضرع وتحيي به الزرع). ومنها: حديث عبد الله بن عمر رواه أبو داود من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استسقى قال: اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك واحيي بلدك الميت). ومنها: حديث عمير مولى أبي اللحم رواه أبو داود من رواية ابن الهاد: عن محمد بن إبراهيم (عن عمير مولى أبي اللحم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي عند أحجار الزيت). ومنها: حديث أبي الدرداء رواه البزار والطبراني عنه، قال: (قحط المطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لنا فاستسقى..) الحديث. ومنها: حديث أبي لبابة رواه الطبراني في (الصغير) من رواية عبد الله بن حرملة عن سعيد بن المسيب عن أبي لبابة بن عبد المنذر قال: (استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو لبابة بن عبد المنذر: إن التمر في المرابد يا رسول الله، فقال: اللهم إسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا ويسد مثقب مربده بإزاره، وما نرى في السماء سحابا فأمطرت، فاجتمعوا إلى أبي لبابة فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم عريانا وتسد مثقب مربدك بإزارك، ففعل فأصحت). ومنها: حديث ابن عباس رواه أبو عوانة أنه قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقد جئتك من عند قوم ما يتزود لهم راع ولا يخطر لهم فحل، فصعد المنبر، فحمد الله ثم قال: اللهم اسقنا..) الحديث. ومنها: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه رواه أبو عوانة أيضا: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل واديا لا ماء فيه، وسبقه المشركون إلى الماء، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لاستسقى لقومه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبسط يديه وقال: اللهم جللنا سحابا كثيفا قصيفا دلوتا مخلوفا زبرحاء تمطرنا منه رذاذا قطقطا سجلا بعاقا يا ذا الجلال والإكرام، فما رد يديه من دعائه حتى أظلتنا السحاب التي وصف). وعنده أيضا: عن عامر بن خارجة بن سعد عن جده (أن قوما شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فقال: إجثوا على الركب، ثم قولوا: يا رب يا رب، قال: ففعلوا فسقوا حتى أحبوا أن ينكشف عنهم).
ومنها: حديث السفا رواه الطبراني في (الكبير) من رواية خالد بن إلياس عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن الشفاء بنت خلف (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى يوم الجمعة في المسجد ورفع يديه وقال: إستغفروا ربكم إنه كان غفارا، وحول رداءه). وخالد بن إلياس ضعيف، ومن حديث الواقدي عن مشايخه قال: (قدم وفد بني مرة بن قيس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فشكو إليه السنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقهم الغيث..) الحديث. وقال الواقدي: ولما قدم وفد سلامان سنة عشر فشكوا إليه الجدب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه: اللهم إسقهم الغيث في دارهم..) الحديث. وفي (دلائل النبوة) للبيهقي (عن أبي وجرة: أتى وفد فزارة بعد تبوك فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة، فصعد المنبر ورفع يديه وكان لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء، قال: فوالله ما رأوا الشمس سبتا، فقام الرجل الذي سأل الاستسقاء. فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل..) الحديث. وفي (سنن سعيد بن منصور) بسند جيد إلى الشعبي قال: (خرج عمر، رضي الله تعالى عنه، يستسقي فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد طلبت الغيث بمجاريح السماء الذي يستنزل به المطر، ثم قرأ: * (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * (هود: 3، 25 و 09). الآية.. وفي (مراسيل أبي داود) من حديث شريك: (عن عطاء بن يسار أن رجلا من نجد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أجدبنا وهلكنا فادع الله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم...) الحديث.
فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن الاستسقاء استغفار ودعاء، وأجيب عن الأحاديث التي فيها الصلاة أنه صلى الله عليه وسلم فعلها مرة وتركها أخرى، وذا لا يدل على السنة، وإنما يدل على الجواز.
36

قال أبو عبد الله كان ابن عيينة يقول هو صاحب الأذان ولاكنه وهم لأن هاذا عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري
أبو عبد الله: هو البخاري نفسه. قوله: (كان ابن عيينة) أي: سفيان بن عيينة يقول هو أي: راوي حديث الاستسقاء صاحب الأذان، هذا يحتمل أن يكون تعليقا، ويحتمل أن يكون البخاري سمع ذلك من شيخه علي بن عبد الله المذكور، وعلى كلا التقديرين وهم ابن عيينة في قوله في عبد الله بن زيد المذكور في الحديث: أنه صاحب الأذان، يعني الذي أري النداء، وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج، وراوي حديث الاستسقاء هو: عبد الله ابن عاصم بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن، وهو معنى قوله: لأن هذا، أي: راوي حديث الاستسقاء عبد الله بن زيد بن عاصم، ولم يذكر البخاري مقابله حيث لم يقل: وذاك عبد الله بن زيد بن عبد ربه، كأنه اكتفى بالذي ذكره، وقد اتفق كلاهما في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم إلى الخزرج والصحبة والرواية، وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج، لأن حفيد عاصم بن مازن، وحفيد عبد ربه من بلحارث بن الخزرج. قوله: (المازني الأنصاري) وفي بعض النسخ: عبد الله بن زيد بن عاصم مازن الأنصاري، واحترز به عن مازن تميم وغيره، والموازن كثيرة: مازن في قيس غيلان وهو مازن بن المنصور بن الحارث بن حفصة بن قيس غيلان، وفي قيس غيلان أيضا: مازن بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن قيس غيلان، ومازن في فزارة وهو: مازن بن فزارة، ومازن في ضبة وهو: مازن بن كعب بن ربيعة بن ثعلبة بن سعد بن ضبة. ومازن في مدحج وهو: مازن بن ربيعة بن زيد بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج، ومازن في الأنصار وهو: مازن بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، ومازن في تميم وهو: مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، ومازن في شيبان وهو: مازن بن ذهل بن ثعلبة بن شيبان، ومازن في خذيل وهو: مازن بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل، ومازن في الأزد وهو: مازن بن الأزد. وقال الرشاطي: مازن في القبائل كثير، وقال ابن دريد: المازن بيض النمل، ووقع في (مسند الطيالسي) وغيره مثل ما قال سفيان بن عيينة، وهو غلط.
((باب انتقام الرب عز وجل من خلقه بالقحط إذا انتهك محارمه))
أي: هذا باب في بيان انتقام الله، عز وجل، من عباده بإيقاع القحط فيهم إذا انتهك محارم الله، الانتهاك: للمبالغة في خرق محارم الشرع وإتيانها، وقعت هذه الترجمة هكذا في رواية الحموي وحده خالية من حديث وأثر، قيل: كأنها كانت في رقعة مفردة أهملها الباقون، والظاهر أنه وضعها ليذكر فيها أحاديث مطابقة لها، فعاقه عن ذلك عائق، والله تعالى أعلم.
6
((باب الاستسقاء في المسجد الجامع))
أي: هذا باب في بيان جواز الاستسقاء في المسجد الجامع، وأشار بذلك إلى أن الخروج إلى المصلى ليس بشرط في الاستسقاء، لأن المقصود في الخروج إلى الصحراء تكثير الناس، وذلك يحصل في الجوامع، وإنما كانوا يخرجون إلى الصحراء لعدم تعدد الجوامع بخلاف هذا الزمان.
3101 حدثنا محمد قال أخبرنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال حدثنا شريك بن عبد الله ابن أبي نمر أنه سمع مالك يذكر أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال اللهم اسقنا اللهم اسقنا اللهم اسقنا قال أنس ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا وما بيننا
37

وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت قال والله ما رأينا الشمس ستا ثم دخل رجل من ذالك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر. قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك فسألت أنسا أهو الرجل الأول قال لا أدري.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب)، وفي قوله: (فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال اللهم اسقنا) ففي الأول: ذكر الجامع، وفي الثاني: استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو على المنبر.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: محمد بن سلام البخاري البيكندي. الثاني: أبو ضمرة، بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم وبالراء: وهو أنس بن عياض، بكسر العين المهملة، مر في: باب التبرز في البيوت. الثالث: شريك بن عبد الله بن أبي نمر، بفتح النون وكسر الميم، مر في: باب القراءة على المحدث. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار كذلك في موضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أنه مذكور بغير نسبة. وفيه: من هو مذكور بكنيته وباسمه، وهو من الرباعيات.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء: عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر وعن القعنبي وإسماعيل بن أبي أويس وعبد الله بن يوسف، فرقهم، ثلاثتهم عن مالك. وأخرجه مسلم في الاستسقاء عن يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر، أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر. وأخرجه أبو داود فيه عن عيسى ابن حماد عن الليث عن سعيد. وأخرجه النسائي فيه أيضا عن عيسى بن حماد وعن علي بن حجر به وعن قتيبة عن مالك به.
ذكر معناه: قوله: (أن رجلا)، لم يدر اسمه. قيل: روى الإمام أحمد من حديث كعب بن مرة ما يمكن أن يفسر هذا المبهم بأنه: كعب، المذكور قلت: حديث كعب بن مرة رواه ابن ماجة، وقد ذكرناه عن قريب، فانظر فيه هل ترى ما قاله مما يمكن من حيث التركيب؟ فإن أراد الإمكان العقلي فلا دخل له ههنا، وقيل: إنه أبو سفيان بن حرب. قلت: هذا غير صحيح لأن قوله في الحديث: (فقال: يا رسول الله) يدل على أن السائل كان مسلما، وأبو سفيان إذ ذاك لم يكن مسلما. قوله: (وجاء المنبر)، بكسر الواو وضمها أي: مواجهه. وقال صاحب (التلويح) ناقلا عن ابن التين، وجاه المنبر يعني مستدبر القبلة، ثم قال: إن كان يريد بالمستدبر المنبر، فصحيح، ولكن لا معنى لذكره، وإن كان أراد الباب فلا يتجه لباب يواجه المنبر أن يستدبر القبلة، ووقع في رواية إسماعيل بن جعفر: من باب كان نحو دار القضاء، وهي دار عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وسميت: دار القضاء، لأنها بيعت في قضاء دينه فكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، ثم لما طال ذلك قيل لها: دار القضاء، وقد صارت إلى مروان بعد ذلك وهو أمير المدينة. وقال عياض: كان أمير المؤمنين أنفق من بيت المال وكتبه على نفسه، وأوصى ابنه عبد الله أن يباع فيه ماله، فإن عجز ماله استعان ببني عدي ثم بقريش، فباع عبد الله هذه الدار لمعاوية، رضي الله تعالى عنه، وقضى دينه، وكان: ثمانية وعشرين ألفا، انتهى. وفي قوله: ثمانية وعشرين ألفا، غرابة، والذي في (الصحيح) وغيره من كتب المؤرخين: كان ستة وثمانين ألفا. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم)، جملة اسمية وقعت حالا. وقوله: (يخطب)، جملة فعلية حالية أيضا، أما حال مترادفة أو متداخلة. قوله: (هلكت المواشي)، هكذا هو في رواية كريمة وأبي ذر جميعا عن الكشميهني، وفي رواية غيرهم: (هلكت الأموال)، والمراد بالأموال: المواشي أيضا لا الصامت، وتقدم في كتاب الجمعة بلفظ: (قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال)، قيل: وقد تقدم في كتاب الجمعة بلفظ: (هلك الكراع)، وهو بضم الكاف: يطلق على الخيل وغيرها، وفي رواية يحيى بن سعيد
38

الآتية: (هلكت المواشي هلك العيال هلك الناس)، وهو من قبيل ذكر العام بعد الخاص، والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. قوله: (وانقطعت السبل)، وفي رواية الأصيلي: (وتقطعت)، بالتاء المثناة من فوق وتشديد الطاء، فالأول من باب الانفعال، والثاني من باب التفعل، والمراد من السبل: الطرق، وهو بضم السين والباء جمع: سبيل، واختلف في معناه فقيل: ضعفت الإبل لقلة الكلأ أن يسافر بها، وقيل: إنها لا تجد في سفرها من الكلأ ما يبلغها، وقيل: إن الناس أمسكوا ما عندهم من الطعام ولم يجلبوه إلى الأسواق، وقيل: نفاد ما عندهم من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يحملونه إلى الأسواق، ووقع في رواية قتادة الآتية عن أنس: (قحط المطر)، أي: قل أو لم ينزل أصلا. وفي رواية ثابت الآتية عن أنس: (واحمرت الشجر)، واحمرارها كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتشاره، فيصير الشجر أعوادا بغير ورق، وقال أحمد في رواية قتادة: (وانحلت الأرض). فإن قلت: ما وجه هذا الاختلاف؟ قلت: يحتمل أن يكون السائل قال ذلك كله، ويحتمل أن يكون بعض الرواة روى شيئا مما قاله بالمعنى، فإنها متقاربة. قوله: (فادع الله أن يغيثنا) هكذا هو في رواية أبي ذر وفي رواية الأكثرين (فادع الله يغيثنا)، ووجهه أن كلمة: أن، مقدرة قبل، أي: فهو يغيثنا، وفيه بعد. وفي رواية إسماعيل ابن جعفر الآتية للكشميهني: (يغثنا)، بالجزم، وهذا هو الأوجه لأنه جواب الأمر.
ثم إعلم أن لفظ: يغيثنا، بضم الياء في جميع النسخ، و: اللهم أغثنا، بالألف من باب أغاث يغيث إغاثة من مزيد الثلاثي، والمشهور في كتب اللغة أنه يقال في المطر: غاث الله الناس والأرض يغيثهم، بفتح الياء. قال عياض: قال بعضهم: هذا المذكور في الحديث من الإغاثة بمعنى المعونة وليس من طلب الغيث، وإنما يقال في طلب الغيث: اللهم أغثنا. قال أبو الفهل: ويحتمل أن يكون من طلب الغيث، أي: هب لنا غيثا أو ارزقنا غيثا، كما يقال: سقاه وأسقاه، أي: جعل له سقيا على لغة من فرق بينهما. وقيل: يحتمل أن يكون معنى قوله: (اللهم أغثنا) أي: فرج عنا وأدركنا، فعلى هذا يجوز ما وقع في عامة النسخ. وقال أبو المعاني في (المنتهى): يقال أغاثه الله يغيثه، والغياث ما أغاثك الله به اسم من أغاث واستغاثني فأغثته. وقال القزاز: غاثه يغوثه غوثا وأغاثه يغيثه إغاثة، فأميت: غاث، واستعمل: أغات. ويقول الواقع في بلية: اللهم أغثني، أي: فرج عني. وقال الفراء: الغيث والغوث متقاربان في المعنى، والأصل، وفي (كتاب النبات) لأبي حنيفة: وقد غيثت الأرض فهي مغيثة ومغيوثة. وقال أبو الحسن اللحياني: أرض مغيثة ومغيوثة أي مسقية ومغيرة ومغيورة، والاسم الغيرة والغيث. وقال الفراء: الغيث يغورنا ويغيرنا، وقد غارنا الله بخير: أغاثنا.
قوله: (فرفع يديه) وفي رواية النسائي عن شريك: (فرفع يديه حذاء وجهه)، وتقدم في الجمعة بلفظ: (فمد يديه ودعا)، وزاد في رواية قتادة في الأدب: (فنظر إلى السماء). قوله: (فقال: اللهم اسقنا ثلاث مرات)، ووقع في هذه الرواية: (اللهم اسقنا ثلاث مرات)، ووقع في رواية ثابت الآتية عن أنس: (اللهم إسقنا مرتين). قوله: (فلا والله)، بالفاء في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (لا والله) بالواو، وفي رواية ثابت الآتية: (وأيم الله)، والتقدير: فلا نرى والله، فحذف الفعل منه لدلالة المذكور عليه. قوله: (من سحاب) أي: من سحاب مجتمع ولا قزعة أي من سحاب متفرق، وهو بفتح القاف والزاي والعين المهملة. وفي (التلويح): القزعة، مثال شجرة قطعة من السحاب رقيقة كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثير. وقال أبو حاتم: القزع: السحاب المتفرق. وقال يعقوب عن الباهلي: يقال: ما على السحاب قزعة أي: شيء من غيم، ذكره في (الموعب) وفي (تهذيب الأزهري): كل شيء متفرق فهو قزع. وفي (المحكم): أكثر ما يكون ذلك في الخريف. قوله: (ولا شيئا) بالنصب تقديره أي: ولا نرى شيئا من الكدورة التي تكون مظنة للمطر. قوله: (وبين سلع)، بفتح السين المهملة وسكون اللام، وفي آخره عين مهملة: وهو جبل معروف بالمدينة، ووقع عند ابن سهل، بفتح اللام وسكونها: وقيل: بغين معجمة، وكله خطأ. وفي (المحكم) و (الجامع): سلع موضع، وقيل: جبل. وقال البكري: هو جبل متصل بالمدينة، وزعم الهروي أن سلعا معرفة لا يجوز إدخال اللام عليه. قلت: وفي (دلائل النبوة) للبيهقي، وكتاب أبي نعيم الأصبهاني، وأبي سعيد الواعظ و (الإكليل) للحاكم: (فطلعت سحابة من وراء السلع). قوله: (من بيت ولا دار) أي: تحجبنا عن رؤيته، وأراد بذلك أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره، ووقع في رواية ثابت في (علامات النبوة): (وإن السماء لفي مثل الزجاجة أي لشدة صفائها وذلك أيضا مشعر بقدم السحاب أصلا قوله (فطلعت) أي: ظهرت من ورائه أي من وراء سلع. قوله: (مثل
39

الترس)، أي: مستديرة، والتشبيه في الاستدارة لا في القدر يدل عليه ما وقع في رواية أبي عوانة: (فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا أنظر إليها). فهذا يشعر بأنها كانت صغيرة، وفي رواية ثابت: (فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع)، وفي رواية قتادة في الأدب: (فنشأ السحاب بعضه إلى بعض)، وفي رواية إسحاق الآتية: (حتى ثار السحاب أمثال الجبال) أي: لكثرته وفيه: (ثم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته)، وهذا يدل على أن السقف وكف لكونه كان من جريد النخل. قوله: (فلما توسطت السماء) أي: بلغت إلى وسط السماء وهي على هيئة مستديرة ثم انتشرت. قوله: (ثم أمطرت)، قد مضى الكلام فيه في: باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة. قوله: (ما رأينا الشمس سبتا)، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة، وأراد به اليوم الذي بعد الجمعة، ولكن المراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه، كما يقال: جمعة، وهكذا وقع في رواية الأكثرين. فإن قلت: كيف عبر أنس بالسبت؟ قلت: لأنه كان من الأنصار، وكانوا قد جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الأسبوع سبتا لأنه أعظم الأيام عندهم، كما أن الجمعة أعظم الأيام عند المسلمين، ووقع في رواية الداودي: ستا، بكسر السين وتشديد التاء المثناة من فوق، وأراد به: ستة أيام، قال النووي: وهو تصحيف، ورد عليه بأن الداودي لم ينفرد به، فقد وقع في رواية الحموي والمستملي كذا، يعني: ستا، وكذا رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن شريك، ووافقه أحمد من رواية ثابت عن أنس. فإن قلت: وجه التصحيف أنه مستبعد لرواية إسماعيل بن جعفر الآتية: سبعا. قلت: لا استبعاد في ذلك، لأن من روى سبعا أضاف إلى السبت يوما ملفقا من الجمعتين، ووقع في رواية إسحاق
الآتية: (فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى)، ووقع في رواية مالك عن شريك: (فمطرنا من جمعة إلى جمعة)، وفي رواية قتادة الآتية: (فمطرنا فما كدنا نصل إلى منازلنا)، أي: من كثرة المطر، وقد تقدم في كتاب الجمعة من وجه آخر: (فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا)، ولمسلم في رواية ثابت: (فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله)، ولابن خزيمة في رواية حميد: (حتى أهم الشباب القريب الدار الرجوع إلى أهله)، وللبخاري في (الأدب) من طريق قتادة: (حتى سالت مثاعب المدينة)، المثاعب: جمع مثعب، بالثاء المثلثة وفي آخره باء موحدة: مسيل الماء. قوله: (ثم دخل رجل من ذلك الباب) الظاهر: أن هذا غير ذاك الرجل الأول، لأن النكرة إذا أعيدت نكرة تكون غيره، وفي رواية إسحاق عن أنس: (فقام ذلك الرجل أو غيره)، وهذا يقتضي أن يكون هذا هو الرجل الأول، ولكنه شك فيه بقوله: (أو غيره)، أي: أو غير ذلك الرجل، وسيأتي في رواية يحيى بن سعيد: (فأتى الرجل فقال: يا رسول الله)، وهذا يقتضي أن هذا هو الأول، وفي رواية أبي عوانة من طريق حفص عن أنس بلفظ: (فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى)، وهذا أيضا كذلك. قوله: (ورسول الله قائم)، جملة اسمية حالية، قوله: (فاستقبله قائما) انتصاب: قائما، على أنه حال من الضمير المرفوع الذي في: استقبل، لا من الضمير المنصوب. قوله: (هلكت الأموال وانقطعت السبل)، يعني: بسبب كثرة المياة، لأنه انقطع المرعى فهلكت المواشي من عدم الرعي، أو لعدم ما يكنها من المطر، ويدل على ذلك قوله في رواية سعيد عن شريك أخرجها النسائي: (من كثرة الماء)، وفي رواية حميد عند ابن خزيمة: (واحتبس الركبان)، وفي رواية مالك عن شريك: (تهدمت البيوت)، وفي رواية إسحاق الآتية: (هدم البناء وغرق المال). قوله: (فادع الله أن يمسكها) هذه رواية الكشميهني. وفي رواية غيره: (فادع الله يمسكها)، بدون كلمة: إن، ويجوز فيه الرفع والنصب والجزم إما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، وأما النصب فبكلمة: إن، المقدرة، وأما الجزم فعلى أنه جواب الأمر، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى الأمطار التي يدل عليه. قوله: (ثم أمطرت)، أو إلى السحابة، ووقع في رواية سعيد عن شريك: (أن يمسك عنا الماء)، وفي رواية أحمد من طريق ثابت: (أن يرفعها عنا)، وفي رواية قتادة في الأدب: (فادع ربك أن يحبسها عنا، فضحك). وفي رواية ثابت: (فتبسم)، وزاد حميد: (لسرعة ملال ابن آدم). قوله: (حوالينا) وفي رواية مسلم: (حولنا)، وكلاهما صحيح، والحول والحوال بمعنى الجانب، والذي في رواية البخاري: تثنية، حوال، وهو ظرف يتعلق بمحذوف، تقديره: اللهم أنزل أو أمطر حوالينا ولا تنزل علينا. فإن قلت: إذا أمطرت حول المدينة فالطريق تكون ممتنعة، وإذن لم يزل شكواهم؟ قلت: أراد بقوله: (حوالينا): الآكام والظراب، وشبههما كما في الحديث، فتبقى الطريق على هذا مسلوكة، كما سألوا. وأيضا أخرج الطرق بقوله:
40

(ولا علينا) وقال الطيبي في إدخال: الواو، ههنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستسقيا للأكام وما معها فقط، ودخول: الواو، يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست: الواو، مخلصة للعطف، ولكنها: للتعليل. وهو كقولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، فإن الجوع ليس مقصودا لعينه، ولكن لكونه مانعا من الرضاع بأجرة، إذ كانوا يكرهون ذلك. قوله: (على الأكام)، فيه بيان للمراد بقوله: (حوالينا)، روي: (الإكام)، بكسر الهمزة وفتحها، ممدودة وهو جمع: أكمة بفتحات، قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع. وقال الداودي: أكبر من الكدية. وقال القزاز: هي التي من حجر واحد. وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة. وقيل: الجبل الصغير. وقيل: ما ارتفع من الأرض. قوله: (والظراب) بكسر الظاء المعجمة وفي آخره باء موحدة: جمع ظرب، بسكون الراء. قاله القزاز، وقال: هو جبل منبسط على الأرض، وقيل بكسر الراء، ويقال: ظراب وظرب، كما يقال: كتاب وكتب. ويقال: ظرب، بتسكين الراء. قالوا: أصل الظراب ما كان من الحجارة أصله ثابت في جبل أو أرض حزنة، وكان أصله الثاني محدودا، وإذا كانت خلقة الجبل كذلك سمي ظربا. وفي (المحكم): الظرب كل ما كان نتأ من الحجارة وحد طرفه. وقيل: هو الجبل الصغير. وفي (المنتهى) للبرمكي: الظراب: الروابي الصغار دون الجبل، وفي (الغريبين): الأظراب جمع ظرب. قوله: (والأودية) جمع واد وفي رواية مالك: (بطون الأودية)، والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولم يسمع أفعلة جمع فاعل إلا أودية جمع واد، وزاد مالك في روايته: (ورؤوس الجبال). قوله: (ومنابت الشجر) أراد بالشجر: المرعى ومنابته التي تنبت الزرع والكلأ. قوله: (فانقطعت) أي: السماء، ويروى: (فأقلعت)، ويروى: (فانقلعت)، والكل بمعنى واحد، وفي رواية مالك: (فانجابت عن المدينة انجياب الثوب)، أي: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه، وفي رواية سعيد عن شريك: (فما هو إلا أن تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تمزق السحاب حتى ما نرى منه شيئا)، والمراد بقوله: (ما نرى شيئا)، أي: في المدينة، ولمسلم من رواية حفص: (فلقد رأيت السحاب يتمزق كأنه الملا حين يطوى)، والملا، بضم مقصور وقد يمد جمع: ملاءة، وهو ثوب معروف. وفي رواية قتادة عند البخاري: (فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا يمطرون) أي: أهل النواحي ولا يمطرون أهل المدينة، وله في الأدب: (فجعل الله السحاب يتصدع عن المدينة)، وزاد فيه: (يريهم الله كرامة نبيه وإجابة دعوته). وله في رواية ثابت عن أنس: (فتكشطت)، أي: تكشفت، (فجعلت تمطر حول المدينة ولا تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل). وفي مسند أحمد من هذا الوجه: (فتقور ما فوق رؤوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل)، وهو بكسر الهمزة: التاج، وفي رواية إسحاق عن أنس: (فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة)، والجوبة، بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الباء الموحدة: هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها ههنا الفرجة في السحاب، وقال الخطابي: الجوبة هنا الترس، وضبط بعضهم: الجونة بالنون ثم فسره: بالشمس إذا ظهرت في خلل السحاب. وقال عياض: فقد صحف من قال بالنون. وفي رواية إسحاق من الزيادة أيضا: (وسال الوادي وادي قناة شهرا)، وقد فسرنا هذا في كتاب الجمعة في: باب الاستسقاء في الخطبة في الجمعة، وأكثر ما ذكرنا هنا ذكرناه هناك، وإن كان مكررا لزيادة الإيضاح ولسرعة وقوف الطالب للمعاني. قوله: (فسألت أنسا أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري) وفي موضع آخر
: (فأتى الرجل فقال: يا رسول الله)، وفي لفظ: (جاء رجل فقال: ادع الله يغثنا، ثم جاء فقال:) وفي لفظ في الأول: (قام أعرابي)، ثم قال في آخره: (فقام ذلك الأعرابي)، قال ابن التين: لعل أنسا تذكر بعد أو نسي بعد ذكره إن كان هذا الحديث قبل قوله: (لا أدري أهو الأول أم لا؟).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة. وفيه: القيام للخطبة، وأنها لا تنقطع بالكلام ولا تقطع بالمطر وفيه: قيام الواحد بأمر الجماعة. وفيه: سؤال الدعاء من أهل الخير ومن يرجى منه القبول وإجابتهم لذلك. وفيه: تكرار الدعاء ثلاثا. وفيه: إدخال دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء على المنبر. وفيه: لا تحويل ولا استقبال. وفيه: الاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء. وفيه: امتثال الصحابة بمجرد الإشارة. وفيه: الأدب في الدعاء حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الاحتياج إلى استمراره، فاحترز فيه ما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع. وفيه: أن الدعاء بدفع الضرر لا ينافي
41

التوكل. وفيه: اليمين لتأكيد الكلام. وفيه: أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل، وإن كان مقام الأفضل التفويض. وقال ابن بطال استدل على الاكتفاء بدعاء الإمام في الاستسقاء قيل: فيه نظر لأنه جاء في رواية يحيى بن سعيد: (ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون). وفيه: حجة واضحة لأبي حنيفة أن الاستسقاء دعاء واستغفار ولا صلاة فيه، قيل: مجرد الدعاء لا ينافي مشروعية الصلاة فيه. قلت: أبو حنيفة لم يقل: إن الصلاة فيه غير مشروعة، بل يقول: إنها ليست بسنة، وما ورد في أحاديث الصلاة فلبيان الجواز، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
7
((باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة))
أي: هذا باب في بيان حكم الاستسقاء في خطبة الجمعة حال كون الخطيب غير مستقبل القبلة.
4101 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس بن مالك أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم أغثنا اللهم أغثنا أللهم أغثنا قال أنس ولا والله ما نري في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت فلا والله ما رأينا الشمس ستا ثم دخل رجل من ذالك الباب في الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس قال شريك سألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول فقال ما أدري.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأعاد حديث أنس المذكور لأجل هذه الترجمة ولبيان اختلاف سنده فإنه روى أولا: عن محمد بن سلام عن أبي ضمرة عن شريك بن عبد الله، وهذا رواه: عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر أبي إبراهيم الأنصاري المدني عن شريك المذكور عن أنس، وهو أيضا من الرباعيات. قوله: (يوم الجمعة) بالألف واللام في رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة بالتنكير. قوله: (قائما) حال من الضمير الذي في: (استقبل). قوله: (يغيثنا)، بضم الياء وقد مر بيانه. قوله: (فأقلعت)، بفتح الهمزة من الإقلاع، والإقلاع عن الأمر: الكف عنه والإمساك، يقال: فلان أقلع عما كان عليه، ووجه تأنيثها باعتبار السحابة.
8
((باب الاستسقاء على المنبر))
أي: هذا باب حكم الاستسقاء على المنبر.
5101 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال يا رسول الله قحط المطر فادع الله أن يسقينا فدعا فمطرنا فما كدنا أن نصل إلى منازلنا فما زلنا نمطر إلى الجمعة المقبلة قال فقام ذالك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله ادع الله أن يصرفه عنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم حوالينا ولا علينا. قال
42

فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا لا يمطرون ولا يمطر أهل المدينة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأعاده لأجل هذه الترجمة وللمغايرة فيمن أخرجه، لأنه رواه هنا: عن مسدد عن أبي عوانة، بفتح العين المهملة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن قتادة عن أنس. قوله: (بينما)، قد مر الكلام فيه غير مرة إذ أصله: بين زيدت فيه الألف والميم، ويضاف إلى الجملة. وقوله: (إذا جاء)، جوابه. قوله: (قحط) بكسر الحاء وفتحها. قوله: (فمطرنا) بضم الميم وكسر الطاء. قوله: (فما كدنا أن نصل) كلمة: أن نصل، خبر: لكاد مع أن، لأن بينه وبين عسى معاوضة في دخول أن وعدمها، وأراد به أنه كثر المطر بحيث تعذر الوصول إلى منازلنا. قوله: (نمطر) بضم النون وسكون الميم وفتح الطاء. قوله: (يتقطع) من باب التفعل. قوله: (يمطرون) أي: أهل اليمين وأهل الشمال، ومحلها من الإعراب الرفع لأنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هم يمطرون، ويجوز أن يكون حالا، أي: السحاب يتقطع حال كون أهل اليمين والشمال يمطرون.
9
((باب من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء))
أي: هذا باب في بيان حكم من اكتفى بصلاة الجمعة في حال الاستسقاء.
6101 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن شريك بن عبد الله عن أنس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت المواشي وتقطعت السبل فدعا فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة ثم جاء فقال تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فادع الله يمسكها فقام صلى الله عليه وسلم فقال اللهم على الآكام والظراب والأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
.
أعاد هذا الحديث أيضا لما ذكرنا من الوجهين. فإن قلت: ليس فيه التصريح بأن السائل المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سأله وهو على المنبر يخطب يوم الجمعة؟ قلت: هذه الأحاديث كلها في الأصل واحد، ويفسر بعضها بعضا. قوله: (فدعا فمطرنا) وفي رواية الأصيلي: (فادع الله) بدل (فدعا)، أي: قال الرجل: ادع الله فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: (هلكت المواشي) أي: من قلة الماء والنبات (وتقطعت السبل) أيضا من قلتهما أيضا. وأما الهلاك والتقطع ثانيا فمن كثرة الماء. قوله: (فانجابت)، بالجيم وبالباء الموحدة أي: انكشفت، وقد مر الكلام فيه.
وفيه: ما يدل على أن الرجل الثاني فيه هو الرجل الأول، لأن الضمير في قوله: (ثم جاء)، يرجع إلى قوله: (جاء رجل)، فافهم، والله أعلم.
01
((باب الدعاء إذا تقطعت السبل من كثرة المطر))
أي: هذا باب في بيان الدعاء إذا انقطعت السبل لأجل كثرة المطر، وفي بعض النسخ: إذا انقطعت.
7101 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمطروا من جمعة إلى جمعة فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم على رؤوس الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
.
أعاد هذا الحديث أيضا لما ذكرنا، وإسماعيل بن أبي أويس ابن أخت مالك بن أنس. وفيه: ما يدل على أن الرجل الثاني غير الرجل الأول، وهذا ظاهر. قوله: (انجياب الثوب) أي: كانجياب الثوب.
43

11
((باب ما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحول رداءه في الاستسقاء يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان ما قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم... إلى آخره. فإن قلت: خبر التحويل صحيح، فكيف قال بقوله: باب ما قيل؟ قلت: لأن قوله في الحديث: (ولم يذكر أنه حول رداءه) يحتمل أن يكون القائل به هو الراوي عن أنس، أو يكون من دونه، فلأجل هذا التردد ذكر بهذه الصيغة.
8101 حدثنا الحسن بن بشر قال حدثنا معافى بن عمران عن الأوزاعي عن إسحاق ابن عبد الله عن أنس بن مالك أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم هلاك المال وجهد العيال فدعا الله يستسقي ولم يذكر أنه حول رداءه ولا استقبل القبلة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولم يذكر أنه حول رداءه). فإن قلت: كيف المطابقة وليس في الحديث ذكر يوم الجمعة؟ قلت: هذا الحديث برواية إسحاق عن أنس مختصر من حديث مطول يأتي ذكره بعد أبواب، إن شاء الله تعالى، وفيه ذكر يوم الجمعة على ما تقف عليه، وشيخ البخاري: الحسن بن بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: أبو علي البجلي، بالباء الموحدة والجيم المفتوحتين: الكوفي، مات سنة إحدى وعشرين ومائة، وهو من أفراد البخاري، والمعافى، بضم الميم وبالعين المهملة وفتح الفاء: وهو اسم مفعول من المعافاة، ابن عمران أبو مسعود الموصلي، قال الثوري: هو ياقوتة العلماء، مات سنة خمس وثمانين ومائة، والأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة واسمه: زيد بن سهل الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك، يكنى أبا يحيى.
وأخرج البخاري هذا الحديث أيضا في الاستئذان عن محمد بن مقاتل، وفي الاستسقاء أيضا عن إبراهيم بن المنذر. وأخرجه مسلم في الصلاة عن داود بن رشيد. وأخرجه النسائي عن محمود بن خالد.
قوله: (هلاك المال) أي: من قلة الماء. قوله: (وجهد العيال)، أي: من القحط، والجهد، بفتح الجيم وضمها: الطاقة، لكن الرواية بالفتح، وقال الفراء، بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة. قوله: (ولم يذكر) أي: الراوي عن أنس، أو من دونه، كما قلنا، وقال الكرماني: ولم يذكر أي أنس وفيه شيئان: أحدهما: عدم التحويل، والآخر: عدم استقبال القبلة، وقال الكرماني: عدم التحويل والاستقبال متفق عليهما إذا كان الاستسقاء في غير الصحراء، وإنما الخلاف فيها؟ قلت: عدم التحويل كيف يكون متفقا عليه وفيه خلاف أبي حنيفة، فإنه يحتج بهذا الحديث على عدم سنية التحويل مطلقا، والله تعالى أعلم.
21
((باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم ولم يردهم))
أي: هذا باب ترجمته: إذا استشفعوا... إلى آخره، أي: إذا استشفع الناس أو القوم إلى الإمام يستسقي لأجلهم، وقوله: يستسقي يجوز أن يكون من الأحوال المنتظرة، وفي بعض النسخ: ليستسقي، بلام التعليل، والواو في (ولم يردهم) للعطف، ويصلح أن يكون للحال. فإن قلت: قد ذكر في باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، فما فائدة هذا الباب؟ قلت: ذلك لبيان ما على الناس أن يفعلوا إذا احتاجوا إلى الاستسقاء، وهذا الباب لبيان ما على الإمام من إجابة سؤالهم.
9101 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله فدعا الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب.
.
أعاد حديث شريك أيضا لأجل هذه الترجمة، ولبيان مغايرة شيخه وشيخ شيخه. قوله: (اللهم على ظهور الجبال) أي:
44

يا الله أنزل المطر على ظهور الجبال. قوله: (منابت الشجر) المنابت جمع منبت على وزن مفعل بكسر العين، قال الكرماني: كيف يمكن وقوع المطر عليها؟ ثم أجاب: بأن المراد ما حولها أو ما يصلح أن يكون منبتا.
وقال ابن بطال: فيه: دليل على أن للإمام إذا سئل الخروج إلى الاستسقاء أن يجيب إليه لما فيه من الضراعة إلى الله تعالى، في إصلاح أحول عباده، وكذا في كل ما فيه صلاح الرعية أن يجيبهم إلى ذلك، لأن الإمام راع ومسؤول عن رعيته فيلزمه حياطتهم.
31
((باب إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط))
أي: هذا باب ترجمته: إذا استشفع... إلى آخره، ولم يذكر جواب: إذا، اكتفاء بما وقع في الحديث، لأن فيه أن أبا سفيان استشفع بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يدعو الله ليرفع عنهم ما ابتلاهم به من القحط، وأبو سفيان إذ ذاك كان كافرا. فإن قلت: ليس في الحديث التصريح بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم منه حكم الباب، فكيف الاكتفاء به؟ قلت: سيأتي هذا الحديث في تفسير سورة ص بلفظ: (فاستسقى لهم فسقوا)، والحديث واحد وأيضا صرح بذلك في زيادة أسباط على ما يأتي الآن، لا يقال كان استشفاعه عقيب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، لأنا نقول: هذا لا يضر بالمقصود، لأن المراد منه استشفاع الكافر بالمؤمن مطلقا، وقد وجد في الحديث ذلك على أنه لا فرق بين الوجهين، لأن فيه إظهار التضرع والخضوع منهم ووقوعهم في الذلة، وفيه عزة للمؤمنين. وقال بعضهم: لا دلالة فيما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية على مشروعية ذلك لغير النبي صلى الله عليه وسلم إذ الظاهر أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأطلاعه على المصلحة في ذلك، بخلاف من بعده من الأئمة انتهى. قلت: لا دليل هنا على الخصوصية، وهي لا تثبت بالاحتمال على أن ابن بطال قال: استشفاع المشركين بالمسلمين جائز إذا رجى رجوعهم إلى الحق، وكانت هذه القضية بمكة قبل الهجرة.
0201 حدثنا محمد بن كثير عن سفيان. قال حدثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال أتيت ابن مسعود فقال إن قريشا أبطؤا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام فجاءه أبو سفيان فقال يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله تعالى فقرأ: * (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) * (الدخان: 01). ثم عادوا إلى كفرهم فذالك قوله تعالى: * (يوم نبطش البطشة الكبرى) *. (الدخان: 01). يوم بدر.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد سلف هذا الحديث في: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (إجعلها سنين كسني يوسف)، فإنه أخرج هناك: عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق، وههنا أخرجه: عن محمد بن كثير العبدي البصري عن سفيان الثوري عن منصور والأعمش، كلاهما عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء.
قوله: (أتيت ابن مسعود) أي: عبد الله بن مسعود. قوله: (أبطؤوا) أي: تأخروا عن الإسلام ولم يبادروا إليه. قوله: (سنة)، بفتح السين. أي: جدب وقحط. قوله: (فجاءه أبو سفيان)، يعني: والد معاوية، واسم أبي سفيان صخر بن حرب الأموي، وكان مجيئه قبل الهجرة، لقول ابن مسعود: ثم عادوا، فذلك قوله: * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * (الدخان: 61). يوم بدر ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. قوله: (جئت تأمر بصلة الرحم) يعني: الذين هلكوا بدعائك من ذوي رحمك، فينبغي أن تصل رحمهم بالدعاء لهم، ولم يقع دعاؤه لهم بالتصريح في هذا السياق. قوله: (* (بدخان مبين..) *) (الدخان: 01). الآية ليس في رواية أبي ذر ذكر لفظ: الآية. قوله: * (يوم نبطش البطشة الكبرى) * (الدخان: 61). زاد الأصيلي، في روايته بقية الآية. قوله: (ثم عادوا)، يعني: لما كشف الله تعالى عنهم عادوا إلى كفرهم فابتلاهم الله بيوم البطشة، أي: يوم بدر.
قال وزاد أسباط عن منصور فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا وشكا الناس كثرة المطر. فقال اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت
السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم
45

هذا تعليق يعني: زاد أسباط عن منصور بإسناده المذكور قبله إلى ابن مسعود، وقد وصله البيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق (عن ابن مسعود قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارا...) فذكر نحو الذي قبله، وزاد: (فجاءه أبو سفيان وأناس من أهل مكة، فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وأن قومك هلكوا فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث...) الحديث، وأسباط، بفتح الهمزة وسكون السين المهملة بعدها الباء الموحدة وفي آخره طاء مهملة، قال صاحب (التوضيح): أسباط هذا هو ابن محمد بن عبد الرحمن القاص أبو محمد القرشي مولاهم الكوفي، ضعفه الكوفيون. وقال النسائي: ليس به بأس، ووثقه ابن معين، مات في المحرم سنة مائتين قلت: ذكر في رواية البيهقي أنه أسباط بن نصر، وهو الصحيح، وهو أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفي، وثقه ابن معين، وتوقف فيه أحمد، وقال النسائي: ليس بالقوي، واعترض على البخاري بزيادة أسباط هذا، فقال الداودي: أدخل قصة المدينة في قصة قريش وهو غلط، وقال أبو عبد الملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط لأنه ركب سند عبد الله ابن مسعود على متن حديث أنس بن مالك، وهو قوله: (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث...) إلى آخره، وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي، وقال: وحديث عبد الله بن مسعود كان بمكة وليس فيه هذا، والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفا لما رواه الثقات، وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرتين وفيه نظر لا يخفى، وقال الكرماني: فإن قلت: قصة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكة لا في المدينة؟ قلت: القصة مكية إلا القدر الذي زاد أسباط، فإنه وقع في المدينة. قوله: (فسقوا)، بضم السين والقاف على صيغة المجهول، وأصله: سقيوا، استثقلت الضمة على الياء بعد سلب حركة ما قبلها فصار: سقوا، على وزن فعوا. قوله: (الغيث)، منصوب لأنه مفعول ثان. قوله: (فسقوا الناس حولهم) الكلام في: سقوا، قد مر الآن، و: الناس، منصوب على الاختصاص أي: أعني الناس الذين حول المدينة وأهلها، وفي رواية البيهقي: (فاسقى الناس حولهم)، وزاد بعد هذا: قال يعني ابن مسعود لقد مرت آية الدخان.
41
((باب الدعاء إذا كثر المطر حوالينا ولا علينا))
أي: هذا باب في بيان الدعاء عند كثرة المطر بقوله: (اللهم حوالينا ولا علينا) هذا إذا أضيف الباب إلى الدعاء، ويجوز قطع الإضافة، فحينئذ يكون الدعاء مرفوعا بالابتداء. وقوله: (حوالينا) خبره، ويكون التقدير: هذا باب ترجمته الدعاء إذا كثر المطر حوالينا، يعني بلفظ: حوالينا. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الدعاء عاملا في: حوالينا، وإن كان عمل المصدر المعرف باللام قليلا، لكن بشرط كون الدعاء مجرورا بإضافة الباب إليه، إذ لو كان مبتدأ: و (إذا كثر المطر) خبره، لزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، هو الخبر، وأن يكون، حوالينا، بيانا للدعاء أو بدلا.
1201 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا معتمر عن عبيد الله عن ثابت عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم جمعة فقام الناس فصاحوا فقالوا يا رسول الله قحط المطر واحمرت الشجر وهلكت البهائم فادع الله يسقينا فقال اللهم اسقنا مرتين وايم الله ما نرى في السماء قزعة من سحاب فنشأت سحابة وأمطرت ونزل عن المنبر فصلى فلما انصرف لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب صاحوا إليه تهدمت البيوت وانقطعت السبخل فادع الله يحبسها عنا فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا فكشطت المدينة فجعلت تمطر حولها ولا تمطر بالمدينة قطرة فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأعاد حديث أنس أيضا من طريق ثابت عنه لأجل هذه الترجمة، ولأجل مغايرة الرواة،
46

وإنما وضع رواية ثابت هنا لقوله: (وما تمطر بالمدينة قطرة) لأن ذلك أبلغ في انكشاف المطر، وهذه اللفظة لم تقع إلا في هذه الرواية. قوله: (احمرت الشجر) يعني: تغير لونها عن الخضرة إلى الحمرة من اليبس، وأنث الفعل باعتبار جنس الشجر. قوله: (وهلكت البهائم)، ويروى: (المواشي)، وهي: الدواب والأنعام. قوله: (مرتين) ظرف للقول لا للسقي. قوله: (وأيم الله)، الهمزة فيه همزة الوصل، وقد مر الكلام فيه فيما مضى. قوله: (قزعة من سحاب) أي: قطعة منه. قوله: (لم يزل المطر) ويروى: (لم تزل تمطر)، قوله: (تكشطت) أي تكشفت يقال: كشطت الجل عن ظهر الفرس، والغطاء عن الشيء: إذا كشفته عنه، وفي رواية كريمة: (فكشطت)، على صيغة المجهول. قوله: (الإكليل)، بكسر الهمزة، وهو شيء مثل عصابة تزين بالجواهر، ويسمى التاج إكليلا.
51
((باب الدعاء في الاستسقاء قائما))
أي: هذا باب في بيان الدعاء في الاستسقاء حال كونه قائما في الخطبة وغيرها، لأنه أقرب إلى الخشوع والتواضع، وقيل: ليراه الناس فيقتدوا به فيما صنع.
2201 وقال لنا أبو نعيم عن زهير عن أبي إسحاق خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهم فاستسقى فقام بهم على رجليه على غير منبر فاستغفر ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال أبو إسحاق ورأى عبد الله ابن يزيد النبي صلى الله عليه وسلم.
مطابقته للترجمة في قوله: (فقام لهم على رجليه من غير منبر).
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو نعيم، بضم النون: وهو الفضل بن دكين، وقد تكرر ذكره. الثاني: زهير بن معاوية الكوفي. الثالث: أبو إسحاق السبيعي، واسمه: عمرو بن عبد الله الكوفي. الرابع: عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين بن عمرو الأوسي الخطمي أبو موسى، قال الذهبي: شهد الحديبية ومات قبل ابن الزبير. وقال أبو عمر: وشهد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان أميرا على الكوفة، وشهد مع علي، رضي الله تعالى عنه، صفين والجمل والنهروان، وذكره ابن طاهر أيضا في الصحابة الذين خرج لهم في (الصحيحين)، وقال: كان صغيرا على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان أمير ا على الكوفة على عهد ابن الزبير. قال الواقدي: مات في زمن ابن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، وقال أبو عبيد الأجري: قلت لأبي داود: عبد الله بن يزيد الخطمي له صحبة؟ قال: يقولون: له رؤية، سمعت يحيى بن معين يقول، هذا، وقال أبو داود: سمعت مصعبا الزبيري يقول: ليس له صحبة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: قال البخاري قال لنا أبو نعيم، قال الكرماني: والفرق بين قال لنا، وحدثنا: أن القول يستعمل إذا سمع من شيخه في مقام المذاكرة والمحاورة، والتحديث إذا سمع في مقام التحميل والنقل. قيل: ليس استعمال البخاري لذلك منحصرا في المذاكرة، فإنه يستعمله فيما يكون ظاهره الوقف، وفيما يصلح للمتابعات. وفيه: العنعنة في موضعين.
والحديث أخرجه مسلم أيضا في المغازي عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي إسحاق به في حديث لزيد بن أرقم.
ذكر معناه: قوله: (خرج عبد الله بن يزيد) يعني: خرج إلى الصحراء، وذلك لما كان أميرا على الكوفة من جهة عبد الله بن الزبير في سنة أربع وستين قبل غلبة المختار بن أبي عبيد عليها، ذكره ابن سعد وغيره. قوله: (فقام)، أي: عبد الله بن يزيد. قوله: (لهم)، ويروى (بهم)، قوله: (فاستغفر) هذه رواية أبي الوقت، وفي رواية غيره: (فاستسقى)، قوله: (ثم صلى ركعتين) ظاهره أنه أخر الصلاة عن الخطبة، وقد ذكرنا الخلاف فيه. قوله: (يجهر)، في موضع النصب على الحال. قوله: (ولم يؤذن ولم يقم)، قال ابن بطال: أجمعوا على أن لا أذان ولا إقامة للاستسقاء. قوله: (قال أبو إسحاق) هو: أبو إسحاق المذكور في السند. قوله: (روى عبد الله بن يزيد عن النبي، صلى الله عليه وسلم) ويروى: (ورأى عبد الله بن يزيد)، قال
47

الكرماني: وعلى تقدير الرواية إن أراد رواية ما صدر عنه من الصلاة والجهر فيهما وغيرهما صار مرفوعا، وإن أراد الرواية في الجملة فهو موقوف عليه. قلت: رأى عبد الله بن يزيد رواية الأكثرين، ورواية الحموي وحده: وروى عبد الله، وقد أخرج يعقوب بن سفيان في (تاريخه) هذا الحديث من رواية قبيصة عن الثوري: (عن أبي إسحاق قال: بعث ابن الزبير إلى عبد الله بن يزيد الخطمي: أن استسق بالناس، فخرج وخرج الناس معه، وفيهم زيد بن أرقم والبراء بن عازب)، وخالفه عبد الرزاق عن الثوري فقال فيه: (ان ابن الزبير خرج يستسقي بالناس..) الحديث. وقوله: (إن ابن الزبير هو الذي فعل ذلك) وهم، وإنما الذي فعله هو عبد الله بن يزيد بأمر ابن الزبير، وفي (سنن الكجي) ما يدل على أن الذي صلى بهم ذلك اليوم هو زيد بن أرقم.
3201 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عباد بن تميم أن عمه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالناس يستسقي لهم فقام فدعا الله قائما ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه فأسقوا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فقام فدعا الله قائما)، وقد مضى هذا الحديث في: باب تحويل الرداء في الاستسقاء، أخرجه هنا: عن أبي اليمان الحكم بن نافع الحمصي عن شعيب بن أبي حمزة الحمصي عن محمد بن مسلم الزهري عن عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد، رضي الله تعالى عنه. قوله: (قبل القبلة)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي: جهة القبلة. قوله: (فاسقوا)، بضم الهمزة والقاف على بناء المجهول، وأصله: اسقيوا، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها بعد حذف حركتها، فصار: اسقوا، على وزن: افعوا. ويروى: (فسقوا)، على بناء المجهول أيضا وإعلاله مثل إعلال: اسقوا، لكن الأول من المزيد وهو: الاستسقاء، والثاني من المجرد وهو: السقي.
61
((باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء))
أي: هذا باب في بيان الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء.
4201 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي فتوجه إلى القبلة يدعو وحول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يجهر فيهما بالقراءة)، وقد مضى هذا الحديث في: باب تحويل الرداء في الاستسقاء، غير أن هنا زاد قوله: (ويجهر فيهما بالقراءة). قوله: (يجهر) في محل النصب على الحال ورواية كريمة هكذا: (يجهر) بلفظ المضارع، ورواية الأصيلي (جهر)، بلفظ الماضي.
وأبو نعيم الفضل بن دكين، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب.
وفيه: الدلالة على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة لأن: ثم، للترتيب وهو قول عمر بن عبد العزيز والليث بن سعد، وروي ذلك عن عمر وابن الزبير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم. وقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد: الصلاة قبل الخطبة. وقال الطحاوي: وفي حديث أبي هريرة أنه خطب بعد الصلاة، فوجدنا الجمعة
فيها خطبة وهي قبل الصلاة، ورأينا العيدين فيهما الخطبة وهي بعد الصلاة، وكذلك كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يفعل فينظر في خطبة الاستسقاء بأي الخطبتين أشبه فنعطف حكمها على حكمها، فالجمعة فرض وكذلك خطبتها، وخطبة العيد ليست كذلك، لأنها تجوز بغير الخطبة، وكذلك صلاة الاستسقاء تجوز وإن لم يخطب، غير أنه إذا تركها أساء، فكانت بخطبة العيدين أشبه منها بخطبة الجمعة، فدل ذلك أنها بعد الصلاة. ومن فوائد الحديث: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء، وهو مما أجمع عليه الفقهاء، وقد مر غير مرة.
48

71
((باب كيف حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس))
أي: هذا باب ترجمته كيف حول إلى آخره.
5201 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقي قال فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة.
.
أعاد حديث عبد الله بن زيد المذكور لأجل الترجمة المذكورة، ولأجل مغايرة شيوخه واختلاف بعض المتن. فإن قلت: أين مطابقة الحديث للترجمة، لأنها في كيفية التحويل، والحديث في وقوعه فقط؟ قلت: قال الكرماني: معناه حوله حال كونه داعيا. قلت: أشار بهذا إلى أن الحال من الكيفيات، وقيل: كي، هنا استفهامية لأنه، لما كان التحويل المذكور لم يتبين كونه من ناحية اليمين أو اليسار احتاج إلى الاستفهام. قلت: يمكن أن تؤخذ الكيفية من حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعجبه التيمن في شأنه كله، وكان المفهوم من: حول، وقوعه ومن: حاله، كيفيته، وهو كونه من اليمين لأن المعهود منه التيمن في كل حاله، فافهم، وآدم شيخه هو ابن أبي إياس، وابن أبي ذئب هو عبد الرحمن، وقد مر في الباب السابق، ومحل التحويل بعد فراغ الموعظة وإرادة الدعاء.
81
((باب صلاة الاستسقاء ركعتين))
أي: هذا باب في بيان صلاة الاستسقاء، وأراد به بيان كميتها، وأشار إليها بقوله: (ركعتين) على طريق عطف البيان، لأن لفظ: الاستسقاء، مجرور بالإضافة. وقيل: مجرور على البدل، ولا يصح ذلك، لأن المبدل منه في حكم السقوط فيصير التقدير: باب صلاة ركعتين، فليس بصحيح.
6201 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى ركعتين وقلب رداءه.
.
أعاد الحديث المذكور في الباب الذي قبله لأجل وضع الترجمة، ولأجل مغايرة شيوخه على ما لا يخفى، ومطابقته للترجمة ظاهرة.
قوله: (عن عمه)، هو عبد الله بن زيد، وفي رواية أبي الوقت: (عن عمه سمع النبي صلى الله عليه وسلم). قوله: (وقلب رداءه) عطف على: (فصلى ركعتين)، بالواو. وقوله: (فصلى) عطف على: استسقى، بالفاء، فيه دليل على أن الصلاة وقلب الرداء وقعا معا، ولكن يحتمل أن يكون القلب قبل الصلاة، على ما في حديث الباب السابق، ويحتمل أن يكون بعد الصلاة، لأن: الواو، لا تدل على الترتيب، بل لمطلق الجمع كما عرف في موضعه.
91
((باب الاستسقاء في المصلى))
أي: هذا باب في بيان الاستسقاء في المصلى الذي في الصحراء، وأشار به إلى أن المستحب أن يصلي صلاة الاستسقاء في الجبانة. وقال بعضهم: هذه الترجمة أخص من الترجمة المتقدمة أول الأبواب، وهي: باب الخروج إلى الاستسقاء، ووقع في هذا الباب تعيين الخروج إلى المصلى، فناسب كل رواية ترجمتها قلت: لا نسلم الأخصية بل كلاهما سواء، لأن معنى الخروج إلى الاستسقاء هو الخروج إلى المصلى، لأن هذا القائل فسر قوله: (خرج يستسقي)، بقوله: (أي: إلى المصلى).
7201 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي بكر سمع عباد ابن تميم عن عمه قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي واستقبل القبلة فصلى ركعتين وقلب رداءه. قال سفيان فأخبرني المسعودي عن أبي بكر قال جعل اليمين على الشمال.
.
49

مطابقته للترجمة ظاهرة، وعبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالمسندي، وهو من أفراد البخاري وسفيان هو ابن عيينة، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد هو عمرو بن حزم.
قوله: (يستسقي) من الأحوال المقدرة. قوله: (واستقبل)، عطف على قوله: (خرج). قوله: (قال سفيان وأخبرني المسعودي)، هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، مات سنة ستين ومائة. قوله: (عن أبي بكر) يعني: يروي عن أبي بكر والد عبد الله المذكور فيه، قال الحافظ المزي: هذا معلق، وقال ابن القطان: لا يدري عمن أخذه البخاري، ولهذا لا يعد أحد المسعودي في رجاله. وأجيب عن هذا بأن: الظاهر أنه أخذه عن شيخه عبد الله بن محمد، ولا يلزم
من عدم عد المسعودي في رجاله أن لا يكون وصل هذا الموضع عنه. قلت: فيه نظر لأن الظاهر ما قاله المزي، وإنما يصح الجواب المذكور أن لو قال: وقال سفيان، بواو العطف، ليكون عطفا على الإسناد الأول، وإنما قطعه عن الأول بالفصل فلا يفهم منه الاتصال. وقال ابن بطال: حديث أبي بكر هذا يدل على تقديم الصلاة على الخطبة، لأنه ذكر أنه صلى قبل قلب الرداء، وهو أضبط للقصة من ابنه عبد الله الذي ذكر الخطبة قبل الصلاة. قلنا: لا نزاع في جواز الأمرين، وإنما النزاع في الأفضل. وقال ابن بطال أيضا: فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس الرداء على حسب لباس أهل الأندلس ومصر وبغداد، وهو غير الاشتمال به، لأنه حول ما على يمينه على يساره، ولو كان لباسه اشتمالا لقيل: قلب أسفله أعلاه، أو: حل رداءه فقلبه.
((باب استقبال القبلة في الاستسقاء))
أي هذا باب في بيان استقبال القبلة في الدعاء في الاستسقاء
69 - (حدثنا محمد قال أخبرنا عبد الوهاب قال حدثنا يحيى بن سعيد قال أخبرني أبو بكر بن محمد أن عباد بن تميم أخبره أن عبد الله بن زيد الأنصاري أخبره أن النبي
خرج إلى المصلى يصلي وأنه لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه)
مطابقته للترجمة في قوله ' أو أراد أن يدعو استقبل القبلة ' وأعاد أيضا حديث عبد الله بن زيد لما ذكرنا من المعان فيما قبل قوله ' محمد بن سلام ' كذا وقع في رواية أبي ذر بنسبة محمد إلى أبيه وفي رواية غيره حدثنا محمد بذكره مجردا عن النسبة وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي قوله ' خرج إلى المصلى يدعو ' هذه رواية المستملي وفي رواية غيره ' خرج إلى المصلى يصلي ' قوله ' أو أراد أن يدعو ' شك من الراوي قيل يحتمل أن يكون الشك من يحيى بن سعيد فقد رواه السراج من طريق ابن أيوب عنه بالشك أيضا ورواه مسلم من رواية سليمان بن بلال فلم يشك وقال ابن بطال سنة من خطب الناس معلما لهم وواعظا لهم أن يستقبلهم لكن عند دعاء الاستسقاء يستقبل القبلة لأن الدعاء مستقبل القبلة أفضل وقال النووي يلحق بالدعاء الوضوء والغسل والأذكار والقراءة وسائر الطاعات إلا ما خرج بالدليل كالخطبة
(قال أبو عبد الله. ابن زيد هذا مازني والأول كوفي هو ابن يزيد)
أبو عبد الله هو البخاري نفسه أشار بقوله هذا إلى عبد الله بن زيد الأنصاري هو عم عباد بن مازن وإليه أشار بقوله ' مازني ' وقد استقصينا الكلام فيه في باب تحويل الرداء في الاستسقاء قوله ' والأول هو عبد الله بن يزيد ' بالياء آخر الحروف في أوله كوفي وفسره بقوله ' هو ابن يزيد ' وهذا أعني قوله ' قال أبو عبد الله ' إلى آخره في رواية الكشميهني وحده وليس في رواية غيره قيل كان اللائق أن يذكر هذا في باب الدعاء في الاستسقاء قائما لأن كليهما مذكوران فيه وكان الأولى بيان تغايرهما هناك وليس ههنا ذكر عبد الله بن يزيد *
50

((باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء))
أي هذا باب في بيان أن الناس يرفعون أيديهم عند رفع الإمام يديه وكأنه أراد به الرد على من زعم أنه يكتفى بدعاء الإمام
(وقال أيوب بن سليمان حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن هلال. قال يحيى بن سعيد سمعت أنس بن مالك قال أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله
يوم الجمعة فقال يا رسول الله هلكت الماشية هلك العيال هلك الناس فرفع رسول الله
يديه يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون. قال فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى فأتى الرجل إلى نبي الله
فقال يا رسول الله بشق المسافر ومنع الطريق بشق أي مل)
مطابقته للترجمة ظاهرة هذا تعليق ذكره البخاري عن شيخه أيوب بن سليمان بن هلال ووصله أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد حدثنا موسى بن العباس وإسحق الحربي قالا حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب عن سليمان حدثنا أبو بكر فذكره وقال ذكره البخاري فقال وقال أيوب بن سليمان بلا رواية وقال الإسماعيلي أخبرنا موسى بن العباس حدثنا أبو إسماعيل حدثنا أيوب بن سليمان وعنده ' حبس المسافر وانقطع الطريق ' وقال البيهقي أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق المؤذن أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن خنب البخاري أخبرنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب عن سليمان وفيه ' فأتى الرجل إلى رسول الله
فقال يا رسول الله بشق المسافر ومنع الطريق ' الحديث قوله ' أبو بكر بن أبي أويس ' هو أبو بكر عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله ابن أبي أويس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني وهو أخو إسماعيل ابن أبي أويس قوله ' عن سليمان ' هو أبو أيوب المذكور ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري وأبو سعيد المدني القاضي قوله ' يدعو ' من الأحوال المقدرة وكذلك قوله ' يدعون ' قوله ' مطرنا ' بضم الميم على صيغة المجهول قوله ' فأتى الرجل ' أي المذكور إذ اللام في مثله للعهد عن النكرة السابقة قال الكرماني (فإن قلت) قد مر أن أنسا قال ' لا أدري أهو الرجل الأول أو غيره ' (قلت) لا منافاة إذ ربما نسي ثم تذكر أو كان ذاكرا ثم نسي قوله ' بشق المسافر ' بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة وفي آخره قاف وفسره البخاري بقوله ' بشق أي مل ' وقال الخطابي بشق ليس بشيء إنما هو لثق المسافر من اللثق بالثاء المثلثة وهو الوحل يقال لثق الثوب إذا أصابه ندى المطر ولطخ الطين ويحتمل أن يكون مشق بالميم فحسبه السامع بشق لتقارب مخرجي الباء والميم يريد أن الطرق صارت مزلة زلقا ومنه مشق الخط وقال ابن بطال وذكر الرواة في هذا الحديث بشق المسافر بالباء الموحدة ولم أجد له في اللغة معنى ووجدت في نوادر اللحياني نشق بالنون وكسر الشين بمعنى نشب وعلى هذا يصح المعنى في قوله ' ومنع الطريق ' قال صاحب التلويح وفيه نظر لما ذكره أبو محمد في الكتاب الواعي في الحديث بشق المسافر ورواه المستملي في صحيح البخاري كذا يعني بالباء الموحدة ومعنى بشق مل قال وفي المنضد لكراع بشق تأخر ولم يتقدم قال فمعنى بشق المسافر ضعف عن السفر وعجز منه لكثرة المطر كضعف الباشق وعجزه عن التصيد لأنه ينفر الصيد ولا يصيد وقال صاحب المجمل بشق الظبي في الحبالة علق ورجل بشق يقع في الأمر لا يكاد يتخلص
منه * قالوا رفع اليد مستحب في الاستسقاء لأنه خضوع وتضرع إلى الله تعالى روي أن النبي
قال ' إن الله حيي يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفرا ' وكان مالك يرى رفع اليدين في الاستسقاء وبطونهما إلى الأرض وذلك العمل عند الاستكانة والخوف وهو الرهب وأما عند الرغبة والسؤال فبسط الأيدي وهو الرغب وهو معنى قوله تعالى * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * وقال النووي قال جماعة من أصحابنا وغيرهم السنة في كل دعاء لدفع بلاء كالقحط أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء فإذا دعا
51

لسؤال شيء وتحصله جعل بطون كفيه إلى السماء
(وقال الأويسي حدثني محمد بن جعفر عن يحيى بن سعيد وشريك سمعا أنسا عن النبي
أنه رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه)
الأويسي بضم الهمزة وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وبالسين المهملة هو عبد العزيز بن عبد الله وقد تقدم ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني أخو إسماعيل وقد تقدم وشريك بن عبد الله وقد تقدم وهذا التعليق هنا ثابت في رواية المستملي وثبت لأبي الوقت وكريمة في آخر الباب الذي بعده وسقط بالكلية عند البقية وهو مذكور عند الجميع في كتاب الدعوات ووصل أبو نعيم في المستخرج هذا التعليق وسيأتي هناك إن شاء الله تعالى *
((باب رفع الإمام يده في الاستسقاء))
أي هذا باب في بيان رفع الإمام يده هذه الترجمة ثبتت في رواية الحموي والمستملي قيل ذكر هذه الترجمة وإن كانت الترجمة التي قبلها تتضمنها الفائدة أخرى وهي أنه
لم يفعل ذلك إلا في الاستسقاء وقيل الأولى لبيان اتباع المأمومين الإمام في رفع اليدين والثانية لإثبات رفع اليدين للإمام في الاستسقاء (قلت) الأولى تتضمن الثانية فلا وجه لهذا وقيل قد قصد بالثانية كيفية رفع الإمام يده لقوله ' حتى يرى بياض إبطيه '
70 - (حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا يحيى وابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال كان النبي
لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه)
مطابقته للترجمة ظاهرة ويحيى بن سعيد القطان وابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم وأبو عدي كنية إبراهيم وسعيد هو ابن أبي عروبة. والحديث أخرجه البخاري أيضا في صفة النبي
عن عبد الأعلى بن حماد وأخرجه مسلم في الاستسقاء عن أبي موسى وعن عبد الأعلى بن عبد الأعلى ويحيى بن سعيد وأخرجه النسائي فيه عن شعيب بن يوسف عن يحيى بن سعيد وعن حميد بن مسعدة وأخرجه ابن ماجة فيه عن نصر بن علي به قوله ' أبطيه ' بسكون الباء قال النووي هذا الحديث ظاهره يوهم أنه لم يرفع
يديه إلا في الاستسقاء وليس الأمر كذلك بل قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن غير الاستسقاء وهي أكثر من أن تحصى فيتؤول هذا الحديث على أنه لم يرفع الرفع البليغ بحيث يرى بياض أبطيه إلا في الاستسقاء أو أن المراد لم أره يرفع وقد رآه غيره فتقدم رواية المثبتين فيه *
((باب ما يقال إذا مطرت))
أي هذا باب في بيان ما يقال إذا مطرت أي السماء وفي بعض النسخ إذا مطرت السماء بإظهار الفاعل وقال الكرماني كلمة ما موصولة أو موصوفة أو استفهامية وأخذه بعضهم في شرحه ولم يبين واحد منهما حقيقة هذا الكلام فنقول إذا كانت موصولة يكون التقدير باب في بيان الذي يقال عند المطر وأما إذا كانت موصوفة فيكون التقدير باب في بيان شيء يقال إذا مطرت فيكون ما الذي بمعنى شيء قد اتصف بقوله يقال إذا مطرت وذلك كما في قول الشاعر
* ربما تكره النفوس من الأمر
* له فرجة كحل العقال
*
أي رب شيء تكرره النفوس وأما الاستفهامية فيكون التقدير باب في بيان أي شيء يقال إذا مطرت قوله ' مطرت ' بلا ألف من الثلاثي المجرد رواية أبي ذر وعند البقية ' إذا أمطرت ' بالألف من الثلاثي المزيد فيه يقال مطرت السماء تمطر ومطرتهم تمطرهم مطرا وأمطرتهم أصابتهم بالمطر وأمطرهم الله في العذاب خاصة ذكره ابن سيده قال الفراء مطرت السماء تمطر مطرا أو مطرا فالمطر المصدر والمطر الاسم وناس يقولون مطرت السماء وأمطرت بمعنى *
52

(وقال ابن عباس كصيب المطر)
أي قال ابن عباس الصيب المذكور في القرآن في قوله تعالى * (أو كصيب من السماء) * المراد منه المطر وإنما ذكر البخاري هذا لمناسبته لقوله
' صيبا نافعا ' وهذا تعليق وصله أبو جعفر الطبري قال حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو صالح حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس قال الصيب المطر وعن قتادة ومجاهد وعطاء والربيع بن أنس الصيب المطر وقال عبد الرحمن بن زيد * (أو كصيب من السماء) * قال أو كغيث من السماء وفي تفسير الضحاك الصيب الرزق وقال سفيان الصيب الذي فيه المطر
(وقال غيره صاب وأصاب يصوب)
أي قال غير ابن عباس كأنه يشير به إلى أن اشتقاقه من الأجوف الواوي ولكن لا يقال أصاب يصوب وإنما يقال صاب يصوب وأصاب يصيب وقال بعضهم لعله كان في
الأصل صاب وانصاب كما حكاه صاحب المحكم فسقطت النون (قلت) لا يزول بهذا الإشكال بل زاد الإشكال إشكالا لأنه لا يقال انصاب يصوب بل يقال انصاب ينصاب انصبابا والظاهر أن النساخ قدموا لفظة أصاب على لفظة يصوب وما كان إلا صاب يصوب وأصاب وأشار به إلى الثلاثي المجرد والمزيد فيه وقد قلنا أنه أجوف واوي وأصل صاب صوب قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ويصوب أصله يصوب بسكون الصاد وضم الواو فاستثقلت الضمة على الواو فنقلت إلى ما قبلها فصار يصوب وأصل صيب صيوب اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء كسيد وميت ويقال مطر صيب وصيوب وصوب
71 - (حدثنا محمد هو ابن مقاتل أبو الحسن المروزي قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا عبيد الله عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله
كان إذا رأى المطر قال اللهم صيبا نافعا)
مطابقته للترجمة من حيث أن فيه ما يقال عند رؤية المطر.
(ذكر رجاله) وهم ستة الأول محمد بن مقاتل أبو الحسن المروزي وقد مر ذكره. الثاني عبد الله هو ابن المبارك. الثالث عبيد الله بن عمر العمري. الرابع نافع مولى ابن عمر. الخامس القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. السادس أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وفيه الإخبار كذلك في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه أن شيخه من أفراده وفيه أنه بينه بقوله هو ابن مقاتل وفيه عبد الله بالتكبير وعبيد الله بالتصغير وفيه أن نافعا من جملة من روى عن عائشة وفيه نزل عنها وفيه عبيد الله من جملة من سمع عن القاسم وفيه نزل عنه مع أن معمرا قد رواه عن عبيد الله بن عمر عن القاسم نفسه بإسقاط نافع من السند أخرجه عبد الرزاق عنه وفيه أن شيخه وشيخ شيخه رازيان والثلاثة البقية مدنيون وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه النسائي في اليوم والليلة عن محمود بن خالد وعن إبراهيم بن يعقوب وعن عبدة بن عبد الرحيم وعن عمرو بن علي وأخرجه ابن ماجة في الدعاء عن هشام بن عمار
(ذكر معناه) قوله ' اللهم صيبا نافعا ' كذا في رواية المستملي وفي رواية ليست لفظة اللهم وصيبا منصوب بفعل مقدر تقديره يا الله اجعل صيبا نافعا ونافعا صفة صيبا وقال الكرماني وفي بعض الروايات ' صبا نافعا ' من الصب أي اصببه صبا نافعا واحترز بقوله ' نافعا ' عن الصيب الضار وقال ابن قرقول ضبطه القابسي صيبا بالتخفيف وفي رواية أبي داود ' كان النبي
إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول اللهم إني أعوذ بك من شرها فإن مطرنا قال اللهم صيبا هنيئا ' وعند النسائي ' كان إذا مطروا قال اللهم اجعله سيبا نافعا ' وعند ابن ماجة ' إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول اللهم إنا نعوذ بك من شر من أرسل به فإن أمطر قال اللهم سيبا نافعا مرتين أو ثلاثا
53

وإن كشفه الله تعالى ولم يمطروا حمد الله على ذلك ' وقال الخطابي السيب العطاء والسيب مجرى الماء والجمع سيوب وقد ساب يسوب إذا جرى
(تابعه القاسم بن يحيى عن عبيد الله ورواه الأوزاعي وعقيل عن نافع)
القاسم بن يحيى بن عطاء بن مقدم أبو محمد الهلالي الواسطي مات سنة سبع وتسعين ومائة وهو من أفراد البخاري وعبيد الله هو ابن عمر المذكور وقال صاحب التلويح هذه المتابعة ذكرها الدارقطني في الغرائب عن المحاملي حدثنا حفص بن عمر أخبرنا يحيى عن عبيد الله ولفظه ' صيبا هنيئا ' انتهى (قلت) لم يظهر لي وجه هذه المتابعة قوله ' ورواه الأوزاعي ' أي روى الحديث المذكور عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن نافع وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة عن محمود بن خالد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن نافع ولفظه ' هنيئا ' بدل ' نافعا ' (فإن قلت) الوليد مدلس (قلت) روي في الغيلانيات من طريق دحيم عن الوليد وشعيب بن إسحاق قالا حدثنا الأوزاعي حدثني نافع وأمن بهذا عن تدليس الوليد واستبعد صحة سماع الأوزاعي من نافع خلافا لمن نفاه قوله ' وعقيل ' بالرفع عطف على الأوزاعي أي ورواه أيضا عقيل بن خالد عن نافع وذكره الدارقطني وذكر فيه اختلافا كثيرا فمرة ذكر رواية الأوزاعي عن نافع ومرة عن رجل عنه ومرة عن محمد بن الوليد عن نافع وذكره مرة عن عقيل عن نافع وقال الكرماني (فإن قلت) لم قال أولا تابعه وثانيا رواه وما فائدة تغيير الأسلوب (قلت) إما لإرادة التعميم لأن الرواية أعم من أن تكون على سبيل المتابعة أم لا وإما لأنهما لم يرويا عن نافع بواسطة عبيد الله بخلاف القاسم فلا يصح عطفهما عليه والله المتعال سبحانه هو يعلم بحقيقة الحال *
((باب من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته))
أي هذا باب في بيان من تمطر إلى آخره قوله ' تمطر ' بتشديد الطاء على وزن تفعل وباب تفعل يأتي لمعان للتكلف كتشجع لأن معناه كلف نفسه الشجاعة وللاتخاذ نحو توسدت التراب أي أخذته وسادة وللتجنب نحو تأثم أي جانب الإثم وللعمل يعني فيدل على أن أصل الفعل حصل مرة بعد مرة نحو تجرعته أي شربته جرعة بعد جرعة وقال بعضهم أليق المعاني هنا أنه بمعنى مواصلة العمل في مهلة نحو تفكر ولعله أشار إلى ما أخرجه مسلم من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت ' عن أنس قال حسر رسول الله
ثوبه حتى أصابه المطر ' وقال لأنه حديث عهد بربه قال العلماء معناه قريب العهد بتكوين ربه فكأن المصنف أراد أن يبين أن تحادر المطر على لحيته
لم يكن اتفاقا وإنما كان قصدا فلذلك ترجم بقوله ' من تمطر ' أي قصد نزول المطر عليه لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته انتهى (قلت) الذي ذكره أهل الصرف في معاني تفعل هو الذي ذكرناه والذي ذكره هذا القائل يقرب من المعنى الرابع
ولكن لا يدل على هذا شيء مما في حديث الباب وقوله ولعله أشار إلى أن ما أخرجه مسلم لا يساعده لأن حديث مسلم لا يدل على مواصلة العمل في مهلة وإنما الذي يدل هو أنه
كشف ثوبه ليصيبه المطر لما ذكره من المعنى وهذا لا يدل على أنه واصل ذلك وتمادى فيه حتى يطلق عليه أنه تمطر وقصد هذا المعنى في الحديث غير صحيح ولا وضع الترجمة المذكورة على هذا المعنى وقوله ' تحادر المطر على لحيته
' لم يكن اتفاقا وإنما كان قصدا غيره مسلم من وجهين أحدهما أن الذي تحادر على لحيته
لم يكن إلا من الماء النازل من وكف السقف وإن كان هو من المطر في الأصل ولم يكن في المطر الذي أصاب ثوبه
في حديث مسلم حاجز بينه وبين الموضع الذي وصل إليه والآخر أن قوله إنما كان قصدا دعوى بلا برهان وليس في الحديث ما يدل على ذلك واستدلاله على ما ادعاه بقوله لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر إلى آخره لا يساعده لأن لقائل أن يقول عدم نزوله من المنبر إنما كان لئلا تنقطع الخطبة
72 - (حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا الأوزاعي قال حدثنا إسحاق بن
54

عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري قال حدثني أنس بن مالك قال أصابت الناس سنة على عهد رسول الله
فبينا رسول الله
يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله
يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته قال فمطرنا يومنا ذلك وفي الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق الماء فادع الله لنا فرفع رسول الله
يديه وقال اللهم حوالينا ولا علينا. قال فما جعل يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا تفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجوبة حتى سال الوادي وادي قناة شهرا قال فلم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود)
مطابقته للترجمة في قوله ' حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته ' ولكنها غير ظاهرة لأن هذا الكلام لا يدل على التمطر الذي هو من التفعل الدال على التكلف وقد مر هذا الحديث في كتاب الجمعة وكتاب الاستسقاء مطولا ومختصرا برواة مختلفة ومتون متغايرة بزيادة ونقصان وقد استقصينا الكلام في تفسيره بجميع ما يتعلق به قوله ' بالجود ' بفتح الجيم وسكون الواو المطر الكثير *
((باب إذا هبت الريح))
أي هذا باب ترجمته إذا هبت الريح وجواب إذا مقدر تقديره إذا هبت الريح ما يصنع من قول أو فعل ووجه دخول هذا الباب في أبواب الاستسقاء أن المراد من الاستسقاء نزول المطر والريح في الغالب يأتي به لأن الرياح على أقسام منها الريح الذي يسوق السحب الممطرة
72 - (حدثنا سعيد بن أبي مريم قال أخبرنا محمد بن جعفر قال أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي
)
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة قوله ' عرف ذلك ' أي هبوبها أي أثره يعني تغير وجهه وظهر فيه علامة الخوف. والحاصل أنه أطلق السبب وأراد المسبب إذ الهبوب سبب الخوف من أن يكون عذابا سلطه الله على أمته قيل كان النبي
يخشى أن تصيبهم عقوبة ذنوب العامة كما أصاب الذين قالوا * (هذا عارض ممطرنا) * وروى أبو يعلى بإسناد صحيح عن قتادة ' عن أنس أن النبي
كان إذا هاجت ريح شديدة قال اللهم إني أسألك من خير ما أمرت به وأعوذ بك من شر ما أمرت به ' وهذه زيادة على رواية حميد يجب قبولها لثقة رواتها وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهم. أما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود في سننه أنه قال ' سمعت رسول الله
يقول الريح من روح الله قال سلمة فروح الله عز وجل تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها '. وأما حديث ابن عباس فرواه الطبراني قال ' كان رسول الله
إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثى على ركبتيه وقال اللهم إني أسألك من خير هذه وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا '. وأما حديث عائشة فرواه مسلم أنها قالت ' كان النبي
إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به قالت فإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت
55

سرى عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد * (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) *. وأما حديث أبي بن كعب رضي الله تعنه فرواه. وأما حديث عثمان بن العاص فرواه الطبراني قال ' كان رسول الله
إذا اشتدت الريح الشمال قال اللهم إني أعوذ بك من شر ما أرسلت به '.
(ومن فوائد حديث الباب) الاستعداد بالمراقبة لله عز وجل والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف بسببه والله أعلم بحقيقة الحال.
((باب قول النبي
نصرت بالصبا))
أي هذا باب قول النبي
نصرت بالصبا وذكر أبو حنيفة في كتاب الأنواء أن خالد بن صفوان قال الرياح أربع الصبا ومهبها فيما بين مطلع الشرطين إلى القطب ومهب الشمال فيما بين القطب إلى مسقط الشرطين وما بين مسقط الشرطين إلى القطب الأسفل مهب الدبور وما بين القطب الأسفل إلى مطلع الشرطين مهب الجنوب وحكي عن جعفر بن سعد بن سمرة أنه قال الرياح ست القبول وهي الصبا مخرجها ما بين المشرقين وما بين المغربين الدبور وزاد النكباء ومحوة وقال الجوهري الصبا ريح مهبها المستوى موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار والدبور الريح الذي يقابل الصبا ويقال الصبا مقصورة الريح الشرقية والدبور بفتح الدال الريح الغربية ويقال الصبا التي تجيء من ظهرك إذا استقبلت القبلة والدبور التي تجيء من قبل وجهك إذا استقبلتها وعن ابن الأعرابي أنه قال مهب الصبا من مطلع الثريا إلى بنات نعش ومهب الدبور من مسقط النسر الطائر إلى سهيل والصبا ريح البرد والدبور ريح الصيف وعن أبي عبيدة الصبا للإلذاذ والدبور للبلاء وأهونه أن يكون غبارا عاصفا يقذي الأعين وهي أقلهن هبوبا وفي التفسير ريح الصبا هي التي حملت ريح يوسف عليه الصلاة والسلام قبل البشير إليه فإليها يستريح كل محزون والدبور هي الريح العقيم يقال صبا وصبيان وصبوات وأصباء وكتابتها بالألف لقولهم صبت الريح تصبو أصبا إذا هبت وقال أبو علي الصبا والدبور يكونان اسما وصفة والدبور يجمع على دبر وأدبار ودبائر ويجمع قبول على قبائل يقال قبلت الريح تقبل قبولا ودبرت تدبر دبورا ويقال أقبلنا من القبول وأصبينا من الصبا وأدبرنا من الدبور فنحن مصبون ومدبرون فإذا أردت أنها أصابتنا قلت قبلنا فنحن مقبولون وصبينا فنحن مصبون ومصبيون ودبرنا فنحن مدبرون * -
5301 حدثنا مسلم قال حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة، ومسلم هو ابن إبراهيم، والحكم بفتحتين هو ابن عتيبة.
وأخرجه البخاري أيضا في بدء الخلق عن آدم وفي أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن محمد بن عرعرة وفي المغازي عن مسدد عن يحيى. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي موسى وبندار، ثلاثتهم عن غندر. وأخرجه النسائي في التفسير عن محمد بن إبراهيم.
قوله: (نصرت بالصبا)، ونصرته صلى الله عليه وسلم بالصبا كان يوم الخندق، بعث الله الصبا ريحا باردة على المشركين في ليالي شاتية شديدة البرد، فأطفأت النيران وقطعت الأوتاد والأطناب وألقت المضارب والأخبية، فانهزموا بغير قتال ليلا، قال الله تعالى: * (إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * (الأحزاب: 9). وأما عاد فإنه: ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح، عليه الصلاة والسلام، فتفرعت أولاده، فكانوا ثلاث عشرة قبيلة ينزلون الأحقاف وبلادها، وكانت ديارهم بالدهناء وعالج وبثرين ووبار إلى حضرموت، وكانت أخصب البلاد، فلما سخط الله تعالى عليهم جعلها مفاوز، فأرسل الله عليهم الدبور فأهلكتهم، وكانت * (عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) * (الحاقة: 7). أي: متتابعة ابتدأت غدوة الأربعاء وسكنت في آخر الثامن، واعتزل هود نبي الله، عليه السلام، ومن معه من المؤمنين في حظيرة لا يصيبهم منها إلا ما يلين الجلود وتلذ الأعين، وقال مجاهذ: وكان قد آمن معه أربعة آلاف، فذلك
56

قوله تعالى: * (فلما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه) * (هود: 85). وكانت الريح تقلع الشجر وتهدم البيوت، ومن لم يكن في بيته منهم أهلكته في البراري والجبال، وكانت ترفع الظعينة بين السماء والأرض حتى ترى كأنها جرادة، وترميهم بالحجارة فتدق أعناقهم. وقال ابن عباس: دخلوا البيوت وأغلقوا أبوابها فجاءت الريح ففتحت الأبواب وسفت عليهم الرمل فبقوا تحته سبع ليال وثمانية أيام، وكان يسمع أنينهم تحت الرمل، وماتوا. وقال ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: لم تجر الرياح قط بمكيال إلا في قصة عاد، فإنها عصت عل الخزان فغلبتهم فلم يعلموا مقدار مكيالها، فذلك قوله تعالى: * (فأهلكوا بريح صرصر عاتية) * (الحاقة: 6). والصرصر ذات الصوت الشديد * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) * (الحاقة: 7). منقعرا من أصله.
وقال ابن بطال: في هذا الحديث تفضيل المخلوقات بعضها على بعض. وفيه: إخبار المرء عن نفسه بما فضله الله به على جهة التحديث بنعمة الله والشكر له لا على الفخر. وفيه: الإخبار عن الأمم الماضية وإهلاكها.
72
((باب ما قيل في الزلازل والآيات))
أي: هذا باب في بيان ما قيل في الزلازل، وهو جمع الزلزلة، والآيات جمع آية، وهي العلامة وأراد بها: علامات القيامة أو علامات قدرة الله تعالى، وإنما ذكر هذا الباب في أبواب الاستسقاء، لأن وجود الزلزلة ونحوها يقع غالبا مع نزول المطر.
6301 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال أخبرنا أبو الزناد عن عبد الرحمان الأعرج عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد تكرر ذكرهم، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب ابن أبي حمزة أبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، وعبد الرحمن بن
هرمز الأعرج، وقد ذكر هذا الحديث مطولا في كتاب الفتن، وذكر منه قطعا هنا وفي الزكاة وفي الرقاق.
قوله: (لا تقوم الساعة) أراد بها يوم القيامة. قوله: (حتى يقبض العلم)، وذلك بموت العلماء وكثرة الجهلاء، وقال السفاقسي: يعني أكثرهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله). قوله: (وتكثر الزلازل)، قال المهلب: ظهور الزلازل والآيات وعيد من الله تعالى لأهل الأرض، قال الله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * (الإسراء: 95). والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة والإعلان بالمعاصي، ألا ترى أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، حين زلزلت المدينة في أيامه، قال: يا أهل المدينة ما أسرع ما أحدثتم، والله لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم، فخشي أن تصيبه العقوبة معهم، كما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث، ويبعث الله الصالحين على نياتهم). قوله: (ويتقارب الزمان). قال ابن الجوزي: فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه قرب القيامة، ثم المعنى: إذا قربت القيامة كان من شرطها الشح والهرج. والثاني: أنه قصر مدة الأزمنة عما جرت به العادة، كما جاء: حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم. قيل: واليوم كالساعة، والساعة كالضرمة بالنار. والثالث: أنه قصر الأعمار بقلة البركة فيها. والرابع: تقارب أحوال الناس في غلبة الفساد عليهم، ويكون المعنى: ويتقارب أهل الزمان، أي تتقارب صفاتهم في القبائح، ولهذا ذكر على أثره الهرج والشح. وقال ابن التين: معنى ذلك قرب الآيات بعضها من بعض، وفي (حواشي المنذري) قيل: معناه تطيب تلك الأيام حتى لا تكاد تستطال، بل تقصر، قال: وقيل: على ظاهره من قصر مددها. وقيل: تقارب أحوال أهله في قلة الدين حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر لغلبة الفسق وظهور أهله. قال الطحاوي: وقد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصة. وقيل: يتقارب الليل والنهار في عدم ازدياد الساعات وانتقاصها بأن يتساويا طولا وقصرا. قال أهل الهيئة: تنطبق دائرة منطقة البروج على دائرة معدل النهار، فحينئذ يلزم تساويهما ضرورة، وقال النووي: حتى يقرب الزمان من القيامة. وقال الكرماني: حاصل تفسيره أنه لا تكون القيامة حتى تقرب، وهذا كلام مهمل لا طائل تحته. قلت: هذه جرأة من غير طريقة، وليس هذا الذي ذكره حاصل تفسيره، بل معنى كلامه:
57

يقرب الزمان العام بين الخلق من القيامة التي هي الزمان الخاص، وقال البيضاوي: أو يراد أن تتسارع الدول إلى الانقضاء فتقارب أيام الملوك. قوله: (ويكثر الهرج)، بفتح الهاء وسكون الراء وفي آخره جيم: وهو القتال، والاختلاط، ورأيتهم يتهارجون أي: يتسافدون، قاله صاحب (العين). وقال يعقوب: الهرج القتل. وقال ابن دريد: الهرج الفتنة في آخر الزمان. قال: وروي: (أمام الساعة هرج). وأصله الإكثار من الشيء. وفي (المحكم): الهرج شدة القتل وكثرته، كثرة الكذب وكثرة النوم، والهرج شيء تراه في النوم وليس بصادق. قوله: (حتى يكثر)، وذلك لقلة الرجال وقلة الرغبات ولقصر الآمال لعلمهم بقرب الساعة. قال الكرماني: فإن قلت: لم ترك: الواو، ولم يعطف على ما قبله؟ يعني: لم يقل: وحتى يكثر؟ قلت: لأنه لا غاية لكثرة الهرج، ويحتمل أن يكون معطوفا على ما قبله، والواو محذوفة، وحذف الواو جائز في اللغة. قوله: (فيفيض) بفتح حرف المضارعة، ويجوز في الضاد الرفع والنصب: أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فهو يفيض، وأما النصب فعلى أنه عطف على: أن يكثر، يقال: فاض الماء يفيض إذا كثر حتى سال على ضفة الوادي أي جانبه، ويقال: أفاض الرجل إناءه أي ملأه حتى فاض، ويقال: فيض المال كثرته حتى يفضل منه بأيدي ملاكه ما لا حاجة لهم به، وقيل: بل ينتشر في الناس ويعمهم، وهو الأظهر.
7301 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا حسين بن الحسن قال حدثنا ابن عون عن نافع عن ابن عمر قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال قالوا وفي نجدنا قال قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال قالوا وفي نجدنا قال قال هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان.
(الحديث 7301 طرفه في: 4907).
مطابقته للترجمة في قوله: (هنالك الزلازل والفتن).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن المثنى بن عبيد أبو موسى، يعرف بالزمن العنبري من أهل البصرة. الثاني: حسين بن الحسن بن يسار من آل مالك بن يسار ضد اليمين البصري مات سنة ثمان وثمانين ومائة. الثالث: عبد الله بن عون بن أرطبان، بفتح الهمزة: البصري. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته بصريون ما خلا نافعا. وفيه: أن هذا موقوف على ابن عمر، قال الحميدي: اختلف على ابن عون فيه، فروى عنه مسندا، وروى عنه موقوفا على ابن عمر من قوله، والخلاف إنما وقع من حسين بن الحسن فإنه هو الذي روى الوقف، وأما أزهر السمان وعبيد الله بن عبد الله بن عون فروياه عن ابن عون فروياه عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم.. فذكره، وفي رواية: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث. وقال ابن التين: قال الشيخ أبو الحسن: سقط من سنده ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مثل هذا لا يدري بالرأي وقال النسفي: قال أبو عبد الله: هذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن عون كان يوقفه.
وأخرجه البخاري في الفتن عن علي بن عبد الله عن أزهر بن سعد مصرحا فيه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي في المناقب عن بشر بن آدم بن بنت أزهر السمان عن جده أزهر مرفوعا، وقال: حديث حسن صحيح، وخرجه الإسماعيلي مسندا، وفيه: فلما كان في الثالثة أو الرابعة قال: أظنه قال: وفي نجدنا. قال الداودي: وإنما لم يقل: في نجدنا، لأنه لا يدعو بما سبق في علم الله تعالى خلافه.
ذكر معناه: قوله: (في شامنا)، قال ابن هشام في (التيجان) هو اسم أعجمي من لغة بني حام، وتفسيره بالعربي: خير طيب، وذكر الكلبي في (كتاب البلدان) عن الشرفي: إنما سميت بسام بن نوح لأنه أول من نزلها. قال الكلبي: ولم ينزلها سام قط، قال: ولما أخرج الناس من بابل أخذ بعضهم يمنة فسميت اليمن، وتشاءم آخرون فسميت الشام. وكانت الشام يقال لها: أرض كنعان، قال: وكان فالخ بن عامر هو الذي قسم الأرض بين بني نوح، عليه السلام، وقال أبو القاسم الزجاجي في كلامه على الزاهر: سميت بذلك لكثرة قراها وتداني بعضها من بعض، فشبهت بالشامات، وقال أهل الأثر: سميت بذلك لأن قوما من كنعان بن حام خرجوا عند التفرق فتشأموا إليها: أي أخذوا ذات الشمال، وقال ابن عساكر في (تاريخ دمشق):
58

قال ابن المقفع: سميت الشام بسام بن نوح، عليه السلام، وسام اسمه بالسريانية: شام، وبالعبرانية: شيم. قال ابن عساكر. وقيل: سميت شاما لأنها عن شمال الأرض. وقال بعض الرواة: إن اسم الشام أولا سورية، وككانت أرض بني إسرائيل، قسمت على اثني عشر سهما، فصار لسهم منهم مدينة شامرين، وهي من أرض فلسطين، فصار إليها متجر العرب في ذلك، ومنها كانت ميرتهم فسموا الشام بشامرين، ثم حذفوا فقالوا: الشام. وقال البكري: الشأم، مهموز الألف، وقد لا يهمز، وقال الفراء: فيها لغتان: شام وشأم، والنسب إليها شأمي وشامي، وشام على الحذف. قال الجوهري: يذكر ويؤنث، ولا يقال: شأم، وما جاء في ضرورة الشعر فمحمول على أنه اقتصر من النسبة على ذكر البلد، والقوم أشأموا، أي: أتوا الشام أو ذهبوا إليها. وقال أبو الحسين بن سراج مهموز ممدود، وأباء أكثرهم إلا في النسب أعني: فتح الهمزة، كما اختلف في إثبات الياء مع الهمزة الممدودة، فأجازه سيبويه ومنعه غيره. ويقال: قوله: (في شامنا ويمننا) أي: الإقليمين المشهورين، ويحتمل أن يراد بهما: البلاد التي في يميننا ويسارنا أعم منهما، يقال: نظرت يمنة وشامة أي: يمينا ويسارا، ونجد هو خلاف الغور. والغور هو تهامة، وكل ما ارتفع عن تهامة إلى أرض العراق فهو نجد، وإنما ترك الدعاء لأهل المشرق ليضعفوا عن الشر الذي هو موضوع في جهتهم لاستيلاء الشيطان بلفتن عليها. قوله: (وبها) أي: وبنجد يطلع قرن الشيطان، أي: أمته وحزبه. وقال كعب، رضي الله تعالى عنه: يخرج الدجال من العراق.
82
((باب قول الله تعالى * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 28).))
أي: هذا باب في بيان قول الله عز وجل... إلى آخره، وجه إدخال هذه الترجمة في أبواب الاستسقاء لأن هذه الآية فيمن قالوا: الاستسقاء بالأنواء، على ما روى عبد بن حميد الكشي في تفسيره: حدثني يحيى بن عبد الحميد عن ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 28). قالا: الاستسقاء بالأنواء، أخبرنا إبراهيم عن أبيه عن عكرمة عن مولاه * (وتجعلون رزقكم) * (الواقعة: 28). قال: تجعلون شكركم، وفي تفسير ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: جمع إسماعيل بن أبي زياد الشامي، وروايته عن الضحاك عنه: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 28). قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل وهو يستسقي بقدح له ويصبه في قربة من ماء السماء، وهو يقول: سقينا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 28). يعني: المطر، حيث يقولون سقينا بنوء كذا وكذا. وفي (صحيح مسلم) من حديث ابن عباس: (قال مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكرا ومنهم كافرا، قالوا: هذه رحمة وضعها الله تعالى، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * (الواقعة: 28). وذكر أبو العباس في (مقامات التنزيل) عن الكلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم عطش أصحابه فاستسقوه، قال: إن سقيتم قلتم سقينا بنوء كذا وكذا. قالوا: والله ما هو بحين الأنواء، فدعا الله تعالى فمطروا، فمر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يغرف من قدح ويقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، فنزلت. وروى الحكم عن السدي، قال: أصابت قريشا سنة شديدة، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقي، فدعا فأمطروا. فقال بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، فنزلت الآية. قال السدي: وحدثني عبد خير عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقرؤها: وتجعلون شكركم، وقال عبد بن حميد: حدثنا عمر ابن سعد وقبيصة عن سفيان عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن، قال: كان علي يقرأ: * (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) * وروى سعيد بن المنصور عن هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: * (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) *، ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه في (التفسير المسند). وفي (المعاني) للزجاج: وقرئت: * (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) *، ولا ينبغي أن يقرأ بها بخلاف المصحف. وقيل: في القراءة المشهورة حذف، تقديره: وتجعلون شكر رزقكم. وقال الطبري: المعنى، وتجعلون الرز الذي وجب عليكم به الشكر تكذيبكم به، وقيل: بل الرزق بمعنى الشكر في لغة أزد شنوءة، نقله الطبري عن الهيثم بن عدي: وفي (تفسير أبي القاسم الجوزي): وتجعلون نصيبكم من القرآن أنكم تكذبون.
قال ابن عباس شكركم
59

هذا التعليق ذكره عبد بن حميد في تفسيره، وقد ذكرناه آنفا: أطلق الرزق وأراد به لازمه وهو الشكر، فهو مجاز، أو أراد شكر رزقكم، فهو من باب الإضمار.
8301 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب.
مطابقته للترجمة من حيث إنهم كانوا ينسبون الأفعال إلى غير الله، فيظنون أن النجم يمطرهم ويرزقهم، فهذا تكذيبهم، فنهاهم الله عن نسبة الغيوث التي جعلها الله حياة
لعباده وبلاده إلى الأنواء، وأمرهم أن يضيفوا ذلك إليه لأنه من نعمته عليهم، وأن يفردوه بالشكر على ذلك.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وإسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك بن أنس.
قوله: (عن زيد بن خالد)، هكذا يقول صالح بن كيسان: لم يختلف عليه في ذلك، وخالفه الزهري فرواه عن شيخهما عبيد الله فقال: عن أبي هريرة، أخرجه مسلم عقب رواية صالح، وصحح الطريقين، لأن عبيد الله سمع من زيد بن خالد وأبي هريرة جميعا عدة أحاديث، فلعله سمع هذا منهما، فحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا، وإنما لم يجمعهما لاختلاف لفظهما، وقد صرح صالح سماعه له من عبيد الله عند أبي عوانة، وروى صالح عن عبيد الله بواسطة الزهري عدة أحاديث.
وحديث الباب أخرجه البخاري في: باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم: عن عبد الله بن مسلمة عن مالك إلى آخره ونحوه، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به من الأشياء، والله أعلم بحقيقة الحال.
92
((باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله))
أي: هذا باب ترجمته لا يدري وقت مجيء المطر إلا الله، ولما كان الباب السابق يتضمن أن المطر إنما ينزل بقضاء الله تعالى، وأنه لا تأثير للكواكب في نزوله ذكر هذا الباب بهذه الترجمة ليبين أن أحدا لا يعلم متى يجيء، ولا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، لأن نزوله إذا كان بقضائه ولا يعلمه أحد غيره فكذلك لا يعلم أحد إبان مجيئه.
وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس لا يعلمهن إلا الله
هذا قطعة من حديث وصله البخاري في الإيمان، وفي تفسير لقمان من طريق أبي زرعة عن أبي هريرة في سؤال جبريل، عليه الصلاة والسلام، عن الإيمان والإسلام، لكن لفظه: في خمس لا يعلمهن إلا الله، ووقع في بعض الروايات في التفسير بلفظ: وخمس، وروى ابن مردويه في التفسير من طريق يحيى بن أيوب البجلي عن جده عن أبي زرعة عن أبي هريرة رفعه: (خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله: * (إن الله عنده علم الساعة...) * (لقمان: 43). إلى آخره الآية.
9301 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة، ومحمد بن يوسف هو الفريابي، وسفيان هو الثوري، وقد رواه البخاري مطولا في: باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والاسلام، ولفظه فيه: (في خمس لا يعلمهن إلا الله ثم
60

تلا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عنده علم الساعة) الآية.
قوله: (مفتاح الغيب) وفي رواية الكشميهني (مفاتح الغيب)، ذكر الطبراني أن: المفاتيح جمع مفتاح، والمفاتح جمع مفتح، وهما في الأصل كل ما يتوسل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، وهو إما استعارة مكنية بأن يجعل الغيب كالمخزن المستوثق بالإغلاق فيضاف إليه ما هو من خواص المخزن المذكور، وهو المفتاح وهو الاستعارة الترشيحية، ويجوز أن يكون استعارة مصرحة بأن يجعل ما يتوصل به إلى معرفة الغيب للمخزون، ويكون لفظ الغيب قرينة له، والغيب ما غاب عن الخلق، وسواء كان محصلا في القلوب أو غير محصل، ولا غيب عند الله عز وجل.
وههنا أسئلة: الأول: أن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله كثيرة، ولا يعلم مبلغها إلا الله تعالى، وقال الله تعالى: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 13). فما وجه التخصيص بالخمس؟ وأجيب: بأوجه.. الأول: أن التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، والثاني: أن ذكر هذا العدد في مقابلة ما كان القوم يعتقدون أنهم يعرفون من الغيب هذه الخمس. والثالث: لأنهم كانوا يسألونه عن هذه الخمس. والرابع: أن أمهات الأمور هذه، لأنها إما أن تتعلق بالآخرة وهو علم الساعة، وإما بالدنيا، وذلك إما متعلق بالجماد أو بالحيوان. والثاني إما بحسب مبدأ وجوده أو بحسب معاده أو بحسب معاشه.
السؤال الثاني: من أين يعلم منه علم الساعة، وقد ذكر الله الخمسة حيث قال: * (إن الله عنده علم الساعة) * (لقمان: 43). وأجيب: بأن الأول من هذه إشارة إليه إذ يحتمل وقوع أشراط الساعة في الغد.
السؤال الثالث: أنه قال في الموضعين نفس، وفي ثلاثة مواضع: أحد وأجيب: بأن النفس هي الكاسبة وهي المائتة، قال تعالى: * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (المدثر: 83). وقال تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 24). فلو قيل بدلها لفظ أحد، فيها لاحتمل أن يفهم منه لا يعلم أحد ماذا تكسب نفسه أو بأي أرض تموت نفسه. فتفوت المبالغة المقصودة، وهي: أن النفس لا تعرف حال نفسها لا حالا ومآلا وإذ لم يكن لها طريق إلى معرفتها فكان إلى عدم معرفة ما عداها أولى.
السؤال الرابع: ما الفرق بين العلم والدراية؟ وأجيب: بأن الدراية أخص لأنها علم باحتيال، أي أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها.
السؤال الخامس: لم عدل عن لفظ: القرآن، وهو يدري إلى لفظ: يعلم فيماذا تكسب غدا؟ وأجيب: لإرادة زيادة المبالغة، إذ نفي العام مستلزم لنفي الخاص بدون العكس، فكأنه قال: لا تعلم أصلا سواء احتالت أم لا. وقال ابن بطال: وهذا يبطل خرص المنجمين في تعاطيهم علم الغيب، فمن ادعى علم ما أخبر الله ورسوله، وأن الله منفرد بعلمه فقد كذب الله ورسوله، وذلك كفر من قائله، وقال الزجاج: من ادعى أنه يعلم شيئا من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
61
((كتاب الكسوف))
أي: هذه أبواب في بيان أمور الكسوف، وفي بعض النسخ: كتاب الكسوف، والكتاب يجمع الأبواب، وأصله: من كسفت حاله أي: تغيرت، وهو نقصان الضوء، والأشهر في ألسن الفقهاء تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر، وادعى الجوهري أنه الأفصح، وقيل: هما يستعملان فيهما، وبوب له البخاري بابا كما سيأتي. وقيل: الكسوف للقمر والخسوف للشمس، وهو مردود. وقيل: الكسوف أوله، والخسوف آخره، وقال الليث بن سعد: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض. وقد مر الكلام فيه مستقصى فيما تقدم.
1
((باب الصلاة في كسوف الشمس))
أي: هذا باب في بيان مشروعية صلاة كسوف الشمس، والكلام فيه على أنواع: الأول: أنه لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * (الإسراء: 95). والكسوف آية من آيات الله المخوفة، والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعة الله التي فيها فوزهم. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم شيئا من هذه الأفزاع فافزعوا إلى الصلاة). وأما الإجماع، فإن الأمة قد اجتمعت عليها من غير إنكار أحد. الثاني: أن سبب مشروعيتها هو الكسوف، فإنها تضاف إليه وتتكرر بتكرره. الثالث: أن شرط جوازها هو ما يشترط بسائر الصلوات. الرابع: أنها سنة وليست بواجبة، وهو الأصح. وقال بعض مشايخنا: إنها واجبة للأمر بها. ونص في (الأسرار) على وجوبها، وصرح أبو عوانة أيضا بوجوبها، وعن مالك أنه: أجراها مجرى الجمعة، وقيل: إنها فرض كفاية
61

واستبعد ذلك. الخامس: أنها تصلى في المسجد الجامع أو في مصلى العيد. السادس: أن وقتها هو الوقت الذي يستحب فيه سائر الصلوات دون الأوقات المكروهة، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا يكره في الأوقات المكروهة. السابع: في كمية عدد ركعاتها، فعند الليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وأبي ثور: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجودان، فتكون الجملة أربع ركوعات وأربع سجدات في ركعتين، وعند طاووس وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك بن جريج: ركعتان في كل ركعة أربع ركوعات وسجدتان، فتكون الجملة ثمان ركوعات وأربع سجدات، ويحكى هذا عن علي وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم. وعند قتادة وعطاء بن أبي رباح وإسحاق وابن المنذر: ركعتان في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان، فتكون الجملة ست ركوعات وأربع سجدات، وعند سعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه في رواية، ومحمد بن جرير الطبري وبعض الشافعية: لا توقيت فيها، بل يطيل أبدا ويسجد إلى أن تنجلي الشمس. وقال عياض: وقال بعض أهل العلم: إنما ذلك بحسب مكث الكسوف، فما طال مكثه زاد تكرير الركوع فيه، وما قصر اقتصر فيه، وما توسط اقتصد فيه قال: وإلى هذا نحا الخطابي ويحيى وغيرهما. وقد يعترض عليه بأن طولها ودوامها لا يعلم من أول الحال ولا من الركعة الأولى، وعند إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد هي: ركعتان كسائر صلاة التطوع في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ويروى ذلك عن ابن عمر وأبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمرو وقبيصة الهلالي والنعمان بن بشير وعبد الرحمن ابن سمرة وعبد الله بن الزبير، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس. وفي (المحيط): عن أبي حنيفة: إن شاؤوا صلوها ركعتين وإن شاؤوا أربعا. وفي (البدائع): وإن شاؤوا أكثر من ذلك، هكذا رواه الحسن عن أبي حنيفة، وعند الظاهرية: يصلي لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوعها إلى أن يصلى الظهر ركعتين، وإن كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر، والعصر وفي كسوف القمر خاصة: إن كسف بعد صلاة المغرب إلى أن يصلي العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وإن كسفت بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعا كصلاة العتمة، واحتجوا في ذلك بحديث النعمان بن بشير: (إذا خسفت الشمس والقمر فصلوا كأحدث صلاة صليتموها).
0401 حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا خالد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى دخل المسجد فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عند كسوف الشمس.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عمرو، بفتح العين: ابن عون، مر في: باب ما جاء في القبلة. الثاني: خالد بن عبد الله الطحان الواسطي. الثالث: يونس بن عبيد. الرابع: الحسن البصري. الخامس: أبو بكرة، نفيع بن الحارث، وقد تقدم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: أن الإسناد كله بصريون غير خالد. وفيه: أن رواية الحسن عن أبي بكرة متصلة عند البخاري، وهو من أفراد البخاري،، وقال الدارقطني: هو مرسل، وقال أبو الوليد في (كتاب الجرح والتعديل): أخرج البخاري حديثا فيه الحسن: سمعت أبا بكرة، فتأوله الدارقطني وغيره من الحفاظ على أنه: الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، لأن البصري لم يسمع عندهم من أبي
بكرة، والصحيح أن الحسن في هذا الحديث هو الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهما، وكذا قاله الداودي فيما ذكره ابن بطال،
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في صلاة الكسوف عن قتيبة عن حماد بن زيد وعن أبي معمر عن عبد الوارث وفي اللباس عن محمد عن عبد الأعلى، وأخرجه النسائي في الصلاة عن عمران بن موسى عن عبد الوارث نحوه، وفي التفسير عن عمرو بن علي عن يزيد مقطعا وعن عمرو بن علي ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن
62

خالد وفيه وفي التفسير أيضا عن قتيبة ببعضه وعن محمد بن كامل.
ذكر معناه: قوله: (فانكسفت) يقال: كسفت الشمس، بفتح الكاف، وانكسفت بمعنى، وأنكر القزاز: انكسفت، والحديث يرد عليه. قوله: (يجر رداءه)، جملة وقعت حالا، وزاد في اللباس من وجه آخر عن يونس: مستعجلا. وللنسائي في رواية يزيد ابن زريع عن يونس: من العجلة، قوله: (فإذا رأيتموها)، بتوحيد الضمير، وفي رواية كريمة: (فإذا رأيتموهما)، بتثنية الضمير، وجه الأول أن الضمير يرجع إلى الكسفة التي يدل عليها قوله: (لا يكسفان). أو الآية، لأن الكسفة آية من الآيات، ووجه الثاني ظاهر، لأن المذكور الشمس والقمر.
ذكر استنباط الأحكام: وهو على وجوه: الأول: استدل به أصحابنا على أن صلاة الكسوف ركعتان، لأنه مصرح فيه بقوله: (فصلى ركعتينن)، وكذلك روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة الكسوف ركعتان. منهم: ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه ابن خزيمة في (صحيحه) عنه: (انكسفت الشمس فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم، عليه السلام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين). ومنهم: عبد الرحمن بن سمرة، رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه مسلم: (انخسفت الشمس فانطلقت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يسبح ويكبر ويدعو، حتى انجلت الشمس، وقرأ سورتين وركع ركعتين). وأخرجه الحاكم، ولفظه: (وقرأ سورتين في ركعتين). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.، وأخرجه النسائي ولفظه: (فصلى ركعتين وأربع سجدات). ومنهم: سمرة بن جندب، أخرج حديثه الأربعة أصحاب السنن، وفيه: (فصلى فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، قال: ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتا، قال: ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. ومنهم: النعمان بن بشير، أخرج حديثه الطحاوي: حدثنا إبراهيم بن محمد الصيرفي البصري قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير، رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس كما تصلون ركعة وسجدتين). وقال البيهقي: أبو قلابة لم يسمع من النعمان، والحديث مرسل قلت: صرح في (الكمال) بسماعه عن النعمان، وقال ابن حزم: أبو قلابة أدرك النعمان وروى هذا الخبر عنه، وصرح ابن عبد البر بصحة هذا الحديث، وقال: من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة عن النعمان، وأبو قلابة أحد الأعلام، واسمه: عبد الله بن زيد الجرمي، والحديث أخرجه أبو داود والنسائي أيضا. ومنهم: عبد الله بن عمرو ابن العاص، رضي الله تعالى عنهما، أخرج حديثه الطحاوي: حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، وقال: كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقام بالناس فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع، وفعل في الثانية مثل ذلك، فرفع رأسه وقد امحصت الشمس). وأخرجه الحاكم وقال: صحيح ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب. قلت: قد أخرج البخاري لعطاء هذا حديثا مقرونا بأبي بشر، وقال أيوب: هو ثقة، وأخرجه أبو داود أيضا وأحمد في (مسنده) والبيهقي في (سننه). ومنهم: قبيصة الهلالي، رضي الله تعالى عنه أخرج حديثه أبو داود، قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة فصلى ركعتين) الحديث، وفيه: (فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث
63

صلاة صليتموها من المكتوبة). وأخرجه النسائي أيضا وأخرجه الطحاوي من طريقين، ففي طريقه الأولى: عن قبيصة البجلي، وفي الثانية: عن قبيصة الهلالي وغيره، وكل منهما صحابي على ما ذكره البعض، وذكر أبو القاسم البغوي في (معجم الصحابة) أولا قبيصة الهلالي فقال: سكن البصرة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، ثم ذكر قبيصة آخر، فقال: قبيصة يقال: إنه البجلي، ويقال: الهلالي: سكن البصرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا. حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن قبيصة قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس، فصلى بهم ركعتين، فأطال فيهما حتى انجلت الشمس، فقال: إن هذه الآية تخويف يخوف الله بها عباده فإذا رأيتم ذلك: فصلوا كأخف صلاة صليتموها من المكتوبة). وقال أبو نعيم: ذكر بعض المتأخرين قبيصة البجلي وهو عندي قبيصة بن مخارق الهلالي، والبجلي وهم قلت: رواية الطحاوي وكلام البغوي يدلان على أنهما اثنان. قوله: (كأحدث صلاة)، يعني: كأقرب صلاة. قال بعضهم: معناه إن آية من هذه الآيات إذا وقعت مثلا بعد الصبح يصلى ويكون في كل ركعة ركوعان، وإن كانت بعد المغرب يكون في كل ركعة ثلاث ركوعات، وإن كانت بعد الرباعية يكون في كل ركعة أربع ركوعات. وقال بعضهم: معناه أن آية من هذه الآيات إذا وقعت عقيب صلاة جهرية يصلى ويجهر فيها بالقراءة، وإن وقعت عقيب صلاة سرية يصلى ويخافت فيها بالقراءة. قلت: رواية البغوي: كأخف صلاة، تدل على أن المراد كما وقع في صلاة من المكتوبة في الخفة، وهي صلاة الصبح، وأراد به أنه يصلي ركعتين كصلاة الصبح بركوعين وأربع سجدات. فافهم. ومنهم: علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه أحمد من رواية حنش عنه قال: (كسفت الشمس فصلى علي، رضي الله تعالى عنه، للناس فقرأ يس أو نحوها، ثم ركع نحوا من قدر سورة، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ثم سجد ثم قام إلى الركعة الثانية، ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انجلت الشمس، ثم حدثهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كذلك فعل). وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح (عن السائب بن مالك، والد عطاء: أن النبي، صلى الله عليه وسلم،
صلى في كسوف القمر ركعتين). وفي (علل ابن أبي حاتم): السائب ليست له صحبة، والصحيح إرساله، ورواه بعضهم عن أبي إسحاق عن السائب بن مالك عن ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وروى ابن أبي شيبة أيضا بسند صحيح (عن إبراهيم: كانوا يقولون: إذا كان ذلك فصلوا كصلاتكم حتى تنجلي). وحدثنا وكيع حدثنا إسحاق بن عثمان الكلابي (عن أبي أيوب الهجري، قال: انكسفت الشمس بالبصرة وابن عباس أمير عليها، فقام يصلي بالناس فقرأ فأطال القراءة. ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه ثم سجد، ثم فعل مثل ذلك في الثانية، فلما فرغ قال: هكذا صلاة الآيات! قال: فقلت: بأي شيء قرأ فيهما؟ قال: بالبقرة وآل عمران). وحدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن الحسن (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف ركعتين، فقرأ في إحداهما بالنجم) وفي (المحلى) أخذ بهذا طائفة من السلف، منهم عبد الله بن الزبير صلى في الكسوف ركعتين كسائر الصلوات. فإن قيل: قد خطأه في ذلك أخوه عروة. قلنا: عروة أحق بالخطأ من عبد الله الصاحب الذي عمل بعلم، وعروة أنكر ما لم يعلم، وذهب ابن حزم إلى العمل بما صح من الأحاديث فيها، ونحا نحوه ابن عبد البر، فقال: وإنما يصير كل عالم إلى ما روى عن شيوخه، ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة. قال البيهقي: وبه قال ابن راهويه وابن خزيمة وأبو بكر بن إسحاق والخطابي، واستحسنه ابن المنذر، وقال ابن قدامة: مقتضى مذهب أحمد أنه يجوز أن تصلى صلاة الكسوف على كل صفة، وقال ابن عبد البر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف مرارا، فحكى كل ما رأى، وكلهم صادق كالنجوم، من اقتدى بهم اهتدى، وذهب البيهقي إلى أن الأحاديث المروية في هذا الباب كلها ترجع إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس يوم مات إبراهيم. وقد روى في حديث كل واحد منهم ما يدل على ذلك، والذي ذهب إليه أولئك الأئمة توفيق بين الأحاديث، وإذا عمل بما قاله البيهقي حصل بينها خلاف يلزم منه سقوط بعضها وإطراحه، وإنما يدل على وهن قوله ما روته عائشة، رضي الله تعالى عنها، عند النسائي بسند صحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف في صفة زمزم يعني بمكة، وأكثر الأحاديث كانت بالمدينة، فدل ذلك على التعدد، وكانت وفاة إبراهيم يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، ودفن بالبقيع، والحاصل في ذلك أن أصحابنا تعلقوا بأحاديث من ذكرناهم من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، ورأوها أولى من رواية غيرهم، نحو حديث عائشة وابن عباس وغيرهما، لموافقتها القياس في أبواب الصلاة،
وقد نص في حديث أبي بكرة على ركعتين صريحا. بقوله: (فصلى ركعتين)، وفي رواية النسائي: (كما تصلون)، وحمل ابن حبان والبيهقي على أن المعنى: كما تصلون في الكسوف، بعيد وظاهر الكلام يرده. فإن قلت: خاطب أبو بكرة بذلك أهل البصرة، وقد كان ابن عباس علمهم أن صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ركوعان. قلت: حديث أبي بكرة إخبار عن الذي شاهده من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيه خطاب أصلا، ولئن سلمنا أنه خاطب بذلك من الخارج، فليس معناه كما حمله ابن حبان والبيهقي، لأن المعنى: كما كانت عبادتكم فيما إذا صليتم ركعتين بركوعين وأربع سجدات، على ما تقرر شأن الصلوات على هذا. وقال بعضهم: وظهر أن رواية أبي بكرة مجملة ورواية جابر: أن في كل ركعة ركوعين، مبينة، فالأخذ بالمبين أولى قلت: ليت شعري أين الإجمال في حديث أبي بكرة؟ هل هو إجمال لغوي أو إجمال اصطلاحي؟ وليس ههنا أثر من ذلك؟ ولو قال هذا القائل: الأخذ بحديث
64

جابر أولى لأن فيه زيادة، والأخذ بالزيادة في روايات الثقات أولى وأجدر. فنقول: وإن كان الأمر هذا، ولكن الأخذ بما يوافق الأصول أولى. وأعجب من هذا أن هذا القائل ادعى اتحاد القصة، وقد أبطلنا ذلك عن قريب.
الثاني من الوجوه: الاستدلال بقوله: (حتى انجلت)، على إطالة الصلاة، حتى يقع الانجلاء، ولا تكون الإطالة إلا بتكرار الركعات والركوعات وعدم قطعها إلى الانجلاء، وأجاب الطحاوي عن ذلك بأنه قد قال في بعض الأحاديث: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف). ثم روى بإسناده، حديثا عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد أراه قال: ولا لحياته فإذا رأيتم مثل ذلك فعليكم بذكر الله والصلاة). فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد منهم مجرد الصلاة، بل أراد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك، نحو: الصدقة والعتاقة. وقال بعضهم بعد أن نقل بعض كلام الطحاوي في هذا: وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين، ولا يلزم من ذلك أن يكون غاية لكل منهما على انفراده. فجاز أن يكون الدعاء ممتدا إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة، فيصير غاية للمجموع ولا يلزم منه تطويل الصلاة ولا تكريرها. قلت: في الحديث أعني حديث أبي بكرة: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)، فقد ذكر الصلاة والدعاء بواو الجمع، فاقتضى أن يجمع بينهما إلى وقت الانجلاء قبل الخروج من الصلاة، وذلك لا يكون إلا بإطالة الركوع والسجود بالذكر فيهما وبإطالة القراءة أما إطالة الركوع والسجزد فقد وردت في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، في رواية مسلم: (ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه). وفي رواية البخاري أيضا: (ثم سجد سجودا طويلا). وقال أيضا (فصلى بأطول قيام وركوع وسجود). وأما إطالة القراءة ففي حديث عائشة: (فأطال القراءة)، وفي حديث ابن عباس: (فقام قياما طويلا قدر نحو سورة البقرة)، ولا يشك أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن في طول قيامه ساكتا، بل كان مشتغلا بالقراءة وبالدعاء، وإذا مد الدعاء بعد خروجه من الصلاة لا يكون جامعا بين الصلاة والدعاء في وقت واحد، لأن خروجه من الصلاة يكون قاطعا للجمع، ولا شك أن الواو تدل على الجمع، وقد وقع في رواية النسائي من حديث النعمان بن بشير، قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت). فهذا يدل على أن إطالته صلى الله عليه وسلم كانت بتعداد الركعات، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون معنى قوله: (ركعتين) أي: ركوعين وأن يكون السؤال وقع بالإشارة فلا يلزم التكرار قلت: مراد هذا القائل الرد على الحنفية في قولهم أن صلاة الكسوف كسائر الصلوات بلا تكرار الركوع، لما ذكرنا وجه ذلك، ولا يساعده ما يذكره لأن تأويله: ركعتين بركوعين، تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل، وهو مردود. فإن قلت: فعلى ما ذكرت فقد دل الحديث على أنه يصلي للكسوف ركعتان بعد ركعتين، ويزاد أيضا إلى وقت الانجلاء، فأنتم ما تقولون به؟ قلت: لا
نسلم ذلك، وقد روى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاؤوا صلوا ركعتين، وإن شاؤوا صلوا أربعا، وإن شاؤوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في (المحيط) وغيره، فدل ذلك على أن الصلاة إن كانت بركعتين يطول ذلك بالقراءة والدعاء في الركوع والسجود إلى وقت الانجلاء، وإن كانت أكثر من ركعتين فالتطويل يكون بتكرار الركعات دون الركوعات، وقول القائل المذكور، وإن يكون السؤال وقع بالإشارة؟ قلت: يرد هذا ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي قلابة أنه صلى الله عليه وسلم كلما ركع ركعة أرسل رجلا لينظر: هل انجلت؟ قلت: فهذا يدل على أن السؤال في حديث النعمان كان بالإرسال لا بالإشارة، وأنه كلما كان يصلي ركعتين على العادة يرسل رجلا يكشف عن الانجلاء. فإن قلت: قوله: (ركع ركعة)، يدل على تكرار الركوع قلت: لا نسلم ذلك، بل المراد كلما ركع ركعتين من باب إطلاق الجزء على الكل، وهو كثير فلا يقدر المعترض على رده.
الثالث: في هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وقال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله تعالى، ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.
الرابع: فيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته وشدة الخوف من آية الله تعالى، عز وجل. الخامس: فيه ما يدل على أن جر الثوب لا يذم إلا من قصد به الخيلاء، كما صرح بذلك في غير هذا الحديث. السادس: فيه المبادرة إلى طاعة الله تعالى، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كيف قام، وهو يجر رداءه مشتغلا بما نزل؟ السابع: قالوا: وفيه دلالة على أنه يجمع في
65

خسوف القمر كما يجمع في كسوف الشمس، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأهل الحديث، وذهب أبو حنيفة وأحمد ومالك إلى أن: ليس في خسوف القمر جماعة. قلت: أبو حنيفة لم ينف الجماعة فيه، وإنما قال: الجماعة فيه غير سنة، بل هي جائزة وذلك لتعذر اجتماع الناس من أطراف البلد بالليل، وكيف وقد ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)؟ وقال مالك: لم يبلغنا، ولا أهل بلدنا، أنه صلى الله عليه وسلم جمع لكسوف القمر، ولا نقل عن أحد من الأئمة بعده أنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه. ونقل ابن قدامة في (المغني) عن مالك: ليس في كسوف القمر سنة ولا صلاة، وقال المهلب: يمكن أن يكون تركه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، رحمة للمؤمنين لئلا تخلو بيوتهم بالليل فيخطفهم الناس ويسرقون، يدل على ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ليلة نزول التوبة على كعب بن مالك وصاحبيه: (قلت له: ألا أبشر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أخشى أن يخطفهم الناس). وفي حديث آخر: (أخشى أن يمنع الناس نومهم). وقال تعالى: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه) * (القصص: 37). فجعل السكون في الليل من النعم التي عددها الله تعالى على عباده، وقد سمى ذلك رحمة، وقد قال ابن القصار: خسوف القمر يتفق ليلا فيشق الاجتماع له، وربما أدرك الناس نياما فيثقل عليهم الخروج لها، ولا ينبغي أن يقاس على كسوف الشمس، لأنه يدرك الناس مستيقظين متصرفين، ولا يشق اجتماعهم كالعيدين والجمعة والاستسقاء. فإن قلت: روي عن الحسن البصري، قال: خسف القمر وابن عباس بالبصرة، فصلى بنا ركعتين في كل ركعة ركعتان، فلما فرغ خطبنا: وقال: صليت بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. رواه الشافعي في (مسنده) وذكره ابن التين بلفظ: (أنه صلى في خسوف القمر ثم خطب، وقال: يا أيها الناس إني لم ابتدع هذه الصلاة بدعة، وإنما فعلت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل). وقد علمنا أنه صلاها في جماعة لقوله: (خطب) لأن المنفرد لا يخطب، وروى الدارقطني عن عروة عن عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في خسوف الشمس أربع ركعات وأربع سجدات ويقرأ في الأولى بالعنكبوت أو الروم وفي الثانية بيس). قلت: أما رواية الحسن فرواها الشافعي عن إبراهيم بن محمد وهو ضعيف، وقول الحسن: خطبنا، لا يصح، فإن الحسن لم يكن بالبصرة لما كان ابن عباس بها. وقيل: إن هذا من تدليساته. وأما حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، فمستغرب. فإن قلت: روى الدارقطني أيضا من طريق حبيب: (عن طاووس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كسوف الشمس والقمر ثمان ركعات في أربع سجدات). قلت: في إسناده نظر، والحديث في مسلم وليس فيه ذكر: القمر، والعجب من شيخنا زين الدين العراقي، رحمه الله، يقول: لم تثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لخسوف القمر بإسناد متصل، ثم ذكر حديث عائشة وحديث ابن عباس اللذين رواهما الدارقطني، وقال: ورجال إسنادهما ثقات، ولكن كون رجالهما ثقات لا يستلزم اتصال الإسناد. ولا نفي المدرج,.
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل: ما الحكمة في الكسوف؟ والجواب:: ما قاله أبو الفرج: فيه سبع فوائد. الأول: ظهور التصرف في الشمس والقمر. الثاني: تبيين قبح شأن من يعبدهما. الثالث: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة عن مسكن الذهول. الرابع: ليرى الناس نموذج ما سيجري في القيامة من قوله: * (وجمع الشمس والقمر) * (القيامة: 9). الخامس: أنهما يوجدان على حال التمام فيركسان، ثم يلطف بهما فيعادان إلى ما كانا عليه، فيشار بذلك إلى خوف المكر ورجاء العفو. السادس: أن يفعل بهما صورة عقاب لمن لا ذنب له. السابع: أن الصلوات المفروضات عند كثير من الخلق عادة لا انزعاج لهم فيها ولا وجود هيبة، فأتى بهذه الآية وسنت لهما الصلاة ليفعلوا صلاة على انزعاج وهيبة.
ومنها ما قيل: أليس في رؤية الأهلة وحدوث الحر والبرد وكل ما جرت العادة بحدوثه من آيات الله تعالى فما معنى قوله في الكسوفين: (أنهما آيتان)؟ وأجيب: بأن: هذه الحوادث آيات دالة على وجوده، عز وجل، وقدرته. وخص الكسوفين لإخباره صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أن القيامة تقوم وهما منكوسان وذاهبا النور، فلما أعلمهم بذلك أمرهم عند رؤية الكسوف بالصلاة والتوبة خوفا من أن يكون الكسوف لقيام الساعة ليعتدوا لها. وقال المهلب: يحتمل أن يكون هذا قبل أن يعلمه الله تعالى بأشراط الساعة.
ومنها ما قيل: ما الكسوف؟ وأجيب: بأنه تغير يخلقه الله تعالى فيهما لأمر يشاؤه ولا يدري ما هو، أو يكون تخويفا للاعتبار بهما مع عظم خلقهما، وكونهما عرضة للحوادث، فكيف بابن آدم الضعيف الخلق؟ وقيل: يحتمل أن يكون الخسوف فيهما عند تجلي الله سبحانه لهما، وفي حديث قبيصة الهلالي عند أبي داود والنسائي الإشارة إلى ذلك، فقال فيه: (أن
66

الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد، ولكنهما خلقان من خلقه فإن الله عز وجل يحدث في خلقه ما يشاء، وإن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له) الحديث: ويؤيده قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) * (الأعراف: 341). ولأهل الحساب فيه كلام كثير، أكثره خباط. يقولون: أما كسوف الشمس فإن القمر يحول بينها وبين النظر، وأما كسوف القمر فإن الشمس تخلع نورها عليه، فإذا وقع في ظل الأرض لم يكن له نور بحسب ما تكون له المقابلة، ويكون الدخول في ظل الأرض يكون الكسوف من كل أو بعض. قالوا: وهذا أمر يدل عليه الحساب ويصدق فيه البرهان، ورد عليهم بأنهم قالوا بالبرهان: إن الشمس أضعاف القمر في الجرمية بالعقل، فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله ولا يأخذ منه عشرة؟ وأيضا إن الشمس إذا كانت تعطيه نورها، فكيف يحجب نورها ونوره من نورها؟ هذا خباط، وأيضا: قلتم: إن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفا أو نحوها، وقلتم: إن القمر أكبر منها بأقل من ذلك، فكيف يقع الأعظم في ظل الأصغر، وكيف تحجب الأرض نور الشمس، وهي في زاوية منها. وأيضا فالشمس لها فلك ومجرى، ولا خلاف أن كل واحد منهما محدود ومعلوم لا يعدو مجراه، كل يوم إلى مثله من العام، فيجتمعان ويتقابلان، فلو كان الكسوف لوقوعه في ظل الأرض في وقت لكان ذلك الوقت محدودا معلوما، لأن المجرى منهما محدود معلوم، فلما كان تأتي الأوقات المختلفة والجري واحدا والحساب واحدا علم قطعا فساد قولهم.
1401 حدثنا شهاب بن عباد قال حدثنا إبراهيم بن حميد عن اسماعيل عن قيس قال سمعت أبا مسعود يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولاكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: شهاب بن عباد، بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة: العبدي الكوفي، من شيوخ مسلم أيضا. ولهم شيخ آخر يقال له: شهاب بن عباد العبدي، لكنه بصري، وهو أقدم من الكوفي في طبقة شيوخ شيوخه، روى له البخاري وحده في (الأدب المفرد). الثاني: إبراهيم بن حميد، بضم الحاء: الرواسي، بضم الراء وبالسين المهملة: الكوفي، مات سنة ثمان وسبعين ومائة. الثالث: إسماعيل بن أبي خالد، وقد مر. الرابع: قيس بن أبي حازم، وقد مر. الخامس: أبو مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي البدري، لأنه من ماء بدر ولم يشهد بدرا وسكن الكوفة، مات أيام علي بن أبي طالب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: إن رواته كلهم كوفيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الكسوف عن مسدد عن يحيى وفي بدء الخلق عن أبي موسى عن يحيى، وأخرجه مسلم في الخسوف عن يحيى بن يحيى وعن عبيد الله بن معاذ وعن يحيى بن حبيب وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير.
ذكر معناه: قوله: (آيتان) أي: علامتان من آيات الله الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته أو: آيتان على تخويف عباده من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * أو آيتان لقرب القيامة أو لعذاب الله تعالى، أو لكونهما مسخرين لقدرة الله وتحت حكمه، وأصل آية: أويه، بالتحريك، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقال سيبويه: موضع العين من الآية: واو، لأن ما كان موضع العين واللام: ياء، أكثر مما موضع العين واللام فيه ياءان، والنسبة إليه: أووي، قال الفراء: هي من الفعل فاعلة، وإنما ذهب منه اللام، ولو جاءت تامة لجاءت آيية، ولكنها خففت، وجمع الآية: آي وأيائي وآيات. قوله: (فإذا رأيتموهما)، بتثنية الضمير رواية الكشميهني، وكذا في رواية الإسماعيلي، وفي رواية غيرهما: (فإذا رأيتموها)، بتوحيد الضمير الذي يرجع إلى الآية التي يدل عليها، قوله: (آيتان)، أو الآيات، والمعنى على الأول: إذا رأيتم كسوف كل منهما، لاستحالة وقوع ذلك فيهما معا في حالة واحدة عادة، وإن كان جائزا في القدرة الإلهية. قوله: (فقوموا فصلوا): أمر
67

النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالصلاة، قال أبو بكر بن العربي: ذكر ستة أشياء عامة وخاصة، اذكروا الله ادعوا كبروا صلوا تصدقوا أعتقوا، أما ذكر الله ففي (الصحيحين) من حديث ابن عباس: (فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله)، وأما التكبير ففي حديث عائشة في (الصحيح) (فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله عز وجل وكبروا). وأما الصلاة ففي الحديث المذكور، وأما الصدقة ففي حديث عائشة المذكور. وفيه: (وتصدقوا)، وأماالعتق ففي البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في صلاة الكسوف. وقوله: (صلوا) مجمل وبينه صلى الله عليه وسلم بفعله في الأحاديث المذكورة.
2401 حدثنا أصبغ قال أخبرني ابن وهب قال أخبرني عمر و عن عبد الرحمان بن القاسم حدثه عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولاكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا.
(الحديث 2401 طرفه في: 1023).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: أصبغ، بفتح الهمزة: ابن الفرج أبو عبد الله المصري. الثاني: عبد الله ابن وهب المصري. الثالث: عمرو بن الحارث المصري. الرابع: عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهم. الخامس: أبوه القاسم. السادس: عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: من الرواة الثلاثة الأول مصريون والبقية مدنيون.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في بدء الخلق عن يحيى بن سليمان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن هارون بن سعيد الأيلي. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة.
ذكر معناه: قوله: (لا يخسفان)، بفتح أوله ويجوز الضم، وحكى ابن الصلاح منعه ولم يبين وجه المنع. قوله: (ولا لحياته) أي: ولا يخسفان لحياة أحد. فإن قلت: الحديث ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن خزيمة والبزار من طريق نافع (عن ابن عمر قال: خسفت الشمس يوم مات إبراهيم)، الحديث فإذا كان السياق إنما هو في موت إبراهيم فما فائدة قوله: (ولا لحياته) إذا لم يقل أحد بأن الانكساف لحياة أحد؟ قلت: فائدته دفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سببا للفقدان أن لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع النفي أي ليس سببه لا الموت ولا الحياة، بل سببه قدرة الله تعالى.
3401 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا شيبان بن معاوية عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله عز وجل.
(3401 طرفان في: 0601، 9916).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر البخاري المعروف بالمسندي. الثاني: هاشم بن القاسم أبو النضر الليثي الكناني، خراساني سكن بغداد وتوفي بها غرة ذي القعدة سنة سبع ومائتين. الثالث: شيبان بن معاوية النحوي، مر في كتاب العلم. الرابع: زياد، بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف: ابن علاقة، بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالقاف، مر في آخر كتاب الإيمان. الخامس: المغيرة بن شعبة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن أحد رواته بخاري ويلقب بالمسندي لأنه كان وقت الطلب يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل. والثاني: خراساني بغدادي، والثالث بصري كوفي، والرابع كوفي.
ذكر تعدد
68

موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في (الأدب) عن أبي الوليد الطيالسي عن زائدة. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر ومحمد بن عبد الله بن نمير.
ذكر معناه: قوله: (يوم مات إبراهيم) يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، قيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان. وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشره، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكان بالمدينة بلا خلاف فلعلها كانت في آخر الشهر. فإن قلت: الكسوف في الشمس إنما يكون في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين من آخر الشهر العربي، فكيف تكون وفاته في العاشر؟ قلت: هذا التاريخ يحكي عن الواقدي، وهو ذكر ذلك بغير إسناد، فقد تكلموا فيما يسنده الواقدي، فكيف فيما يرسله؟ وقال البيهقي: في باب ما يحول على جواز الاجتماع للعيد وللخسوف لجواز وقوع الخسوف في العاشر، ثم روي عن الواقدي ما ذكرناه عن تاريخ وفاة إبراهيم. وقال الذهبي، في (مختصر السنن): لم يقع ذلك ولن يقع، والله قادر على كل شيء، لكن امتناع وقوع ذلك كامتناع رؤية الهلال ليلة الثامن والعشرين من الشهر، وأم إبراهيم مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان، وتوفي وعمره ثمانية عشر شهرا، هذا هو الأشهر. وقيل: ستة عشر شهرا. وقيل: سبعة عشر شهرا وثمانية أيام. وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام، ودفن بالبقيع. قوله: (فإذا رأيتم)، مفعوله محذوف تقديره إذا رأيتم شيئا من ذلك، وفي رواية الإسماعيلي: فإذا رأيتم ذلك.
2
((باب الصدقة في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان الصدقة في حالة الكسوف، ذكر البخاري فيما قبل هذا الباب أربعة أحاديث في ثلاثة منها الأمر بمجرد الصلاة من غير بيان هيئتها، وذكر الحديث الواحد الذي رواه أبو بكرة مبينا بركعتين، ثم ذكر في هذا الباب هيئة لصلاة الكسوف غير هيئة ذاك، والظاهر أن تقديمه حديث أبي بكرة على غيره لميله إليه لموافقته القياس.
4401 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فقام فأطال القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم سجد فأطال السجود ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى ثم انصرف وقد انجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذالك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا ثم قال يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وتصدقوا)، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأخرجه مسلم والنسائي جميعا في الصلاة عن قتيبة عن مالك. وأخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك مختصرا على قوله: (الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعو الله عز وجل وكبروا وتصدقوا) واعلم أن صلاة الكسوف رويت على أوجه كثيرة ذكر أبو داود منها جملة، وذكر البخاري ومسلم جملة. وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة كذلك.
وقال الخطابي: اختلفت الروايات في هذا الباب، فروي أنه: ركع ركعتين في أربع ركوعات وأربع سجدات، وروي أنه: ركعهما في ركعتين وأربع سجدات، وروي
69

أنه: ركع ركعتين في ست ركوعات وأربع سجدات، وروي إنه ركع ركعتين في عشر ركوعات وأربع سجدات، وقد ذكر أبو داود أنواعا منها، ويشبه أن يكون المعنى في ذلك أنه صلاها مرات وكرات، وكان إذا طالت مدة الكسوف مد في صلاته، وزاد في عدد الركوع، وإذا قصرت نقص من ذلك وحذا بالصلاة حذوها، وكل ذلك جائز يصلي على حسب الحال ومقدار الحاجة فيه.
ذكر ما فيه من المعنى واستنباط الأحكام: قوله: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في زمنه. قوله: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) استدل به بعضهم على أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الوضوء، فلهذا لم يحتج إلى الوضوء في تلك الحال. وقال بعضهم: فيه نظر لأن السياق حذفا لأن في رواية ابن شهاب (خسفت فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه). وفي رواية عمرة: (فخسفت فرجع ضحى فمر بين الحجر ثم قام يصلي). قلت: هذا الذي ذكره لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان على الوضوء أو لم يكن، ولكن حاله يقتضي وجلالة قدره تستدعي كونه على محافظة الوضوء. قوله: (فأطال القيام) أي: يطول القراءة فيه، والدليل عليه رواية ابن شهاب: (فاقترأ قراءة طويلة)، ومن وجه آخر عنه: (فقرأ سورة طويلة)، وفي حديث ابن عباس على ما سيأتي: (فقرأ نحوا من سورة البقرة في الركعة الأولى)، ونحوه لأبي داود من طريق سليمان بن يسار عن عروة، وزاد أنه قرأ في القيام الأول من الركعة الثانية نحوا من آل عمران، وعند الشافعية يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثانية بأم القرآن، وأما الثالثة والرابعة فيقرأ بها أيضا عندهم، وعند مالك يقرأ السورة، وفي الفاتحة قولان: قال مالك: نعم، وقال ابن مسلمة: لا. قوله: (ثم قام فأطال القيام) وفي رواية ابن شهاب: (ثم قال: سمع الله لمن حمده)، وزاد من وجه آخر: (ربنا ولك الحمد)، وقيل: استدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى وقال بعضهم: واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه. قلت: هذا المستشكل هو صاحب المهمات، وقوله بدليل اتفاق العلماء فيه نظر، لأن محمد بن مسلمة من المالكية ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة، ولم يقل بقراءة الفاتحة كما قلنا عن قريب. وأجاب عن ذلك شيخنا الحافظ زين الدين العراقي، رحمه الله بقوله: ففي استشكاله نظر لصحة الحديث فيه، بل لو زاد الشارع عليه ذكرا آخر لما كان مستشكلا. قوله: (وهو دون القيام الأول) أراد به أن القيام الأول أطول من الثاني في الركعة الأولى، وأراد أن القيام في الثانية دون القيام الأول في الأولى، والركوع الأول فيها دون الركوع الأول في الأولى. وأراد بقوله: في القيام الثاني في الثانية أنه دون القيام الأول فيها، وكذلك ركوعه الثاني فيها دون ركوعه الأول فيها. وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني والركوع الثاني من الأولى أقصر من القيام الأول والركوع، وكذا القيام الثاني والركوع الثاني من الثانية أقصر من الأول منهما من الثانية. واختلفوا في القيام الأول والركوع الأول من الثانية، هل هما أقصر من القيام الثاني والركوع الثاني من الركعة الأولى؟ ويكون هذا معنى قوله: وهو دون القيام الأول، ودون الركوع الأول، أم يكونان سواء ويكون قوله: دون القيام أو الركوع الأول أي أول قيام وأول ركوع؟ قوله: (ثم ركع فأطال الركوع) يعني أنه خالف به عادته في سائر الصلوات كما في القيام وقال مالك: ويكون ركوعه نحوا من قيامه وقراءته. قوله: (ثم سجد فأطال السجود)، وهو ظاهر في تطويله، قال أبو عمر عن مالك: لم أسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف، وهو مذهب الشافعي، ورأت فرقة من أهل الحديث تطويل السجود في ذلك. قلت: حكى الترمذي عن الشافعي أنه يقيم في كل سجدة من الركعة الأولى نحوا مما قام في ركوعه، وقال في الركعة الثانية: ثم سجد سجدتين ولم يصف مقدار إقامته فيهما، فيحتمل أن يريد مثل ما تقدم في سجود الركعة الأولى، ويحتمل أنه كسجود سائر الصلوات، وقال الرافعي: وهل يطول السجود في هذه الصلاة؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أظهرهما: لا، كما لا يزيد في التشهد ولا يطول القعدة بين السجدتين، والثاني: وبه قال ابن شريح: نعم، ويحكى عن البويطي: وقد صحح النووي خلافه في (الروضة) فقال: الصحيح المختار أنه يطول، وكذا صححه في (شرح المهذب) وفي (المنهاج) من زياداته، واقتصر في (تصحيح التنبيه على المختار) قال شيخنا الحافظ زين الدين،: إن قلنا بتطويل السجود في صلاة الكسوف فما مقدار الإقامة فيه؟ فالذي ذكره الترمذي عن الشافعي أنه قال: ثم سجد سجدتين تامتين، ويقيم في كل سجدة نحوا مماأقام في ركوعه، وهي رواية البويطي عن الشافعي أيضا إلا أنه زاد بعد. قوله: (تامتين
70

طويلتين) وهو الذي جزم به النووي في المنهاج. قوله: (ثم انصرف) أي: من الصلاة. قوله: (وقد تجلت الشمس) أي: انكشفت، وفي رواية ابن شهاب، (وقد
انجلت الشمس قبل أن ينصرف)، وفي رواية: (ثم تشهد وسلم). قوله: (فخطب الناس) صريح في استحبابها، وبه قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وتكون بعد الصلاة. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة، ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، ولأنها صلاة كان يفعلها المنفرد في بيته فلم يشرع لها خطبة، وإنما خطب صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها وكأنه مختص به، وقيل: خطب بعدها لا لها، بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم، كما في الحديث. وقال بعضهم: والعجب أن مالكا روى حديث هشام هذا، وفيه التصريح بالخطبة، ولم يقل به أصحابه؟ قلت: ليس بعجب ذلك، فإن مالكا وإن كان قد رواها فيه وعللها بما قلنا فلم يقل بها، وتبعه أصحابه فيها. قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي في حديث سمرة: (ويشهد أنه عبد الله ورسوله). قوله: (فادعوا الله) رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (فاذكروا الله). قوله: (أغير) أفعل التفضيل من الغيرة، وهي تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين، وكل ذلك مخال على الله عز وجل، وهو مجاز محمول على غاية إظهار غضبه على الزاني. قيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجرهم من يقصدهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده، فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى: ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله تعالى. وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين: إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد من الغيرة شدة المنع والحماية، وقيل: معناه ليس أحدا منع من المعاصي من الله ولا أشد كراهة لها منه. قلت: يجوز أن يكون هذا استعارة مصرحة تبعية قد شبه حال ما يفعل الله مع عبده الزاني من الانتقام وحلول العقاب بحالة ما يفعله العبد لعبده الزاني من الزجر والتعزير. فإن قلت: كيف إعراب: أغير؟ قلت: بالنصب خبر: ما، النافية، ويجوز الرفع على أن يكون خبرا للمبتدأ، أعني قوله: (أحد). وكلمة: من، زائدة لتأكيد العموم. وقوله: (أن يزني) يتعلق بأغير، وحذف الجار وهي: في، أو: على فإن قلت: ما وجه تخصيص العبد والأمة بالذكر؟ قلت: رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن تعلق بهم الغيرة غالبا. فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله من قوله: (فاذكروا الله) إلى آخره؟ قلت: قال الطيبي: المناسبة من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا في إثارة النفوس وغلبة الغضب، ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها. قوله: (يا أمة محمد) قيل: فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الوالد ولده، إذا أشفق عليه بقوله: (يا بني) قلت: ليس هذا مثل المثال الذي ذكره، فلو كان قال: يا أمتي، بالنسبة إليه لكان من هذا الباب، وإنما هذا يشبه أن يكون من باب التجريد، كأنه أبعدهم عنه فخاطبهم بهذا الخطاب، لأن المقام مقام التخويف والتحذير. قوله: (والله لو تعلمون) أي: من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وأحوالها كما علمته لما ضحكتم أصلا، إذ القليل بمعنى العديم على ما يقتضيه السياق، فإن قلت: لا يرتاب في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فلم صدر كلامه بقوله (والله) في الموضعين؟ قلت: لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يشك فيه، لأن المقام مقام الإنكار عما يليق فعله فيقتضي التأكيد. وقيل: معنى هذا الكلام: لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه ولطفه وكرمه ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. وقيل: إنما خص نفسه صلى الله عليه وسلم بعلم لا يعلمه غيره لأنه لعله أن يكون ما رآه في عرض الحائط من النار، ورأى فيها منظرا شديدا لو علمت أمته من ذلك ما علم صلى الله عليه وسلم لكان ضحكهم قليلا وبكاؤهم كثيرا، إشفاقا وخوفا. وقد حكى ابن بطال عن المهلب: أن سبب ذلك ما كان عليه الأنصار من محبة اللهو والغناء، وأطنب فيه ورد عليه ذلك بأنه قول بلا دليل ولا حجة في تخصيصهم بذلك والقضية كانت في أواخر زمنه صلى الله عليه وسلم مع كثرة الأصناف من الخلائق في المدينة يومئذ.
71

وفي الحديث فوائد أخرى: فيه: المبادرة بالصلاة والذكر والتكبير والصدقة عند وقوع كسوف وخسوف ونحوهما من زلزلة وظلمة شديدة وريح عاصف، ونحو ذلك من الأهوال. وفيه: الزجر عن كثرة الضحك والتحريض على كثرة البكاء. وفيه: الرد على من زعم أن للكواكب تأثيرا في حوادث الأرض، على ما ذكرنا. وفيه: اهتمام الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، بنقل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي به فيها. وفيه: الأمر بالدعاء والتضرع في سؤاله. وفيه: التحريض على فعل الخيرات ولا سيما الصدقة التي نفعها متعد. وفيه: عظة الإمام عند الآيات وأمرهم بأعمال البر. وفيه: أن صلاة الكسوف ركعتان ولكن على هيئة مخصوصة من تطويل زائد في القيام وغيره على العادة من زيادة ركوع في كل ركعة، وقال بعضهم: الأخذ بهذا أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وافق عائشة على ذلك عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، ومثله عن أسماء بنت أبي بكر وعن جابر عند مسلم، وعن علي عند أحمد، وعن أبي هريرة عند النسائي، وعن ابن عمر عند البزار، وعن أم سفيان عند الطبراني. قلت: لم سكت هذا القائل عن: حديث: أبي بكرة الذي صدره البخاري في هذا الباب ورواه النسائي؟ وحديث ابن مسعود الذي رواه ابن خزيمة في (صحيحه)، وحديث عبد الرحمن بن سمرة عند مسلم، وحديث سمرة بن جندب عند الأربعة، وحديث النعمان بن بشير عند الطحاوي، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عنده أيضا وعند أبي داود وأحمد، وحديث قبيصة الهلالي عند أبي داود، وقد ذكرنا جميع ذلك مستقصى،؟ فأحاديث هؤلاء كلها تدل على أن: صلاة الكسوف ركعتان كهيئة النافلة من غير الزيادة على ركوعين. فإن قلت: أحاديث هؤلاء غاية ما في الباب أنها تدل على أن صلاة الكسوف ركعتان، والخصم قائل به، وليس فيها ما ينفي ما ذهب إليه الخصم من الزيادة؟ قلت: في أحاديثهم نص على الركعتين مطلقا، والمطلق ينصرف إلى الكامل وهي الصلاة المعهودة من غير الزيادة المذكورة، مع أنهم لم يقولوا بإلغاء تلك الزيادة، وإنما اختاروا ما ذهبوا إليه لموافقته القياس، ويؤيد ذلك ما رواه الطحاوي (عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: فرض النبي صلى الله عليه وسلم أربع صلوات: صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الكسوف ركعتين، وصلاة المناسك ركعتين). وقد قرنت صلاة الكسوف بصلاة السفر وصلاة المناسك، وفي ركعة كل واحدة منهما ركوع واحد بلا خلاف، فكذلك صلاة الكسوف، ولا سيما
على قول من يقول: إن القرآن في النظم يوجب القرآن في الحكم، فإن قالوا: الزيادة المذكورة ثبتت في رواية الحفاظ الثقات فوجب قبولها والعمل بها. قلنا: قد ثبت عند مسلم عن عائشة وجابر، رضي الله تعالى عنهما، أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده عن ابن عباس: أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعند أبي داود عن أبي بن كعب وعند البزار عن علي: أن في كل ركعة خمس ركوعات، فما كان جوابهم في هذه فهو جوابنا في تلك، ثم إن هذا القائل نقل عن صاحب (الهدى) أنه نقل عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم: كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة. قلت: ينبغي أن لا يؤاخذ بهذا لأنه ثبت في (صحيح مسلم) ثلاث ركوعات وأربع ركوعات، كما ذكرناه الآن.
3
((باب النداء بالصلاة جامعة في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان قول المنادي لصلاة الكسوف: الصلاة جامعة، بالنصب فيهما على الحكاية في لفظ الصلاة، وحروف الجر لا يظهر عملها في باب الحكاية، ومعمولها محذوف، تقديره: باب النداء بقوله الصلاة جامعة، أي: حال كونها جامعة. وقال بعضهم: أي أحضروا الصلاة في كونها جماعة. قلت: لا يصح هذا، لأن الصلاة ليست بجماعة، وإنما هي جامعة للجماعة، ويقدر: أحضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعة، وهو من الأحوال المقدرة، ويجوز أن يرفع بالصلاة، وجامعة أيضا فالصلاة على الابتداء وجامعة على الخبر، على تقدير: جامعة للجماعة، وقال بعضهم: وقيل جامعة، صفة والخبر محذوف أي: احضروا. قلت: هذا أيضا لا يصح، لأن الصلاة معرفة، وجامعة نكرة، فلا تقع صفة للمعرفة لاشتراط التطابق بين الصفة والموصوف.
72

5401 حدثنا إسحاق قال أخبرنا يحيى بن صالح قال حدثنا معاوية بن سلام بن أبي سلام الحبشي الدمشقي قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الراحمان بن عوف الزهري عن عبد الله بن عمر و رضي الله تعالى عنهما. قال لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي إن الصلاة جامعة.
(الحديث 5401 طرفه في: 1501).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: إسحاق هو: إسحاق بن منصور على زعم أبي علي الجياني وقيل: إنه إسحاق بن راهويه على زعم أبي نعيم. الثاني: يحيى بن صالح الوحاظي. الثالث: معاوية بن سلام بن أبي سلام، بتشديد اللام فيهما، مات سنة أربع وستين ومائة. الرابع: يحيى بن أبي كثير، وقد مر غير مرة. الخامس: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. السادس: عبد الله بن عمرو بن العاص.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع وبصيغة الإفراد عن شيخه إسحاق. وفيه: التحديث بصيغة الجمع عن يحيى بن صالح. وفيه: التحديث بصيغة الإفراد عن معاوية وعن يحيى بن أبي كثير. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد عن أبي سلمة وفي رواية حجاج الصواف عن يحيى: حدثنا أبو سلمة حدثني عبد الله، أخرجه ابن خزيمة، وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في خمسة موضع. وفيه: أن شيخه قد ذكره من غير نسبة. وفيه: أن يحيى بن صالح شيخه أيضا روى عنه بلا واسطة في: باب ما إذا كان الثوب ضيقا، وههنا روى عنه بواسطة إسحاق. وفيه: أن معاوية ذكر بنسبتين: أحداهما: بقوله: الحبشي، بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة المفتوحة: منسوب إلى بلاد الحبش، وقال ابن معين: الحبش حي من حمير، وقال الأصيلي: هو بضم الحاء وسكون الباء، وهو كما يقال: عجم بفتحتين وعجم بضم العين وإسكان الجيم، والأخرى: نسبة إلى دمشق، بكسر الدال وهي دمشق الشام. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الكسوف عن أبي نعيم عن شيبان. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن رافع وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. وأخرجه النسائي فيه عن محمود بن خالد عن مروان بن محمد عن معاوية بن سلام.
ذكر معناه: قوله: (نودي: إن الصلاة)، بتخفيف إن المفسرة، ويروى بالتشديد، ويكون خبرها محذوفا تقديره: إن الصلاة حاضرة، أو نحو ذلك، وجامعة، نصب على الحال كما ذكرنا عن قريب، فإن صحت الرواية برفع جامعة يكون هو خبرا لأن، وقيل: يجوز فيه رفع الكلمتين أيضا ورفع الأول ونصب الثاني وبالعكس.
وفيه: أن صلاة الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامة وإنما ينادى لها بهذه الجملة، وفي رواية الكشميهني: (نودي: الصلاة جامعة)، بدون: أن، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن صلاة الكسوف ليس فيها أذان ولا إقامة إلا أن الشافعي قال: لو نادى مناد: الصلاة جامعة، ليخرج الناس بذلك إلى المسجد لم يكن بذلك بأس.
4
((باب خطبة الإمام في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان خطبة الإمام في كسوف الشمس.
وقالت عائشة وأسماء خطب النبي صلى الله عليه وسلم
أي: خطب في الكسوف، أما تعليق عائشة فقد أخرجه في باب الصدقة في الكسوف، وقد مضى عن قريب، وفيه: وقد تجلت الشمس وخطب الناس، وأما تعليق أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، أخت عائشة لأبيها، فسيأتي بعد أحد عشر بابا في: باب قول الإمام في خطبة الكسوف: أما بعد.
6401 حدثنا يحيى بن بكر قال حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب ح وحدثني
73

أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة قال حدثنا يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله
عليه وسلم فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر فركع ركوعا طويلا ثم قال سمع الله لمن حمده فقام ولم يسجد وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر وركع ركوعا طويلا وهو أدنى من الركوع ثم الأول قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم سجد ثم قال في الركعة الآخرة مثل ذالك فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ثم قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال هما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: ثم قام فأثنى على الله بما هو أهله)، لأن القيام والثناء على الله فيه هو الخطبة.
ذكر رجاله: وهم تسعة، لأنه رواه من طريقين: الأول: يحيى بن بكير، هو يحيى بن عبد الله بن بكير، بضم الباء الموحدة أبو زكريا المخزومي المصري. الثاني: الليث بن سعد المصري. الثالث: عقيل، بضم العين: ابن خالد المصري. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: أحمد بن صالح أبو جعفر المصري. السادس: عنبسة، بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الباء الموحدة بعدها سين مهملة مفتوحة: ابن خالد بن يزيد الأيلي، مات سنة سبع وتسعين ومائة. السابع: يونس بن يزيد بن مسكان أبو يزيد الأيلي، مات سنة بضع وخمسين ومائة. الثامن: عروة بن الزبير. التاسع: عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد كذلك في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن أحمد بن صالح من أفراد البخاري. وفيه: أن رواته مصريون ما خلا ابن شهاب وعروة، فإنهما مدنيان. وفيه: رواية الشخص عن عمه، وهو: عنبسة عن يونس.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن محمد بن مقاتل عن عبد الله بن المبارك. وأخرجه مسلم في الكسوف عن حرملة بن يحيى وأبي الطاهر بن السرح ومحمد بن سلمة، ثلاثتهم عن ابن وهب عن يونس به. وأخرجه أبو داود فيه عن أبي الطاهر وابن سلمة به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة، وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي الطاهر به.
ذكر معناه: قوله: (فصف الناس) برفع الناس لأنه فاعل صف، يقال: صف القوم إذا صاروا صفا، ويجوز نصب الناس والفاعل محذوف أي: فصف النبي، صلى الله عليه وسلم، الناس وراءه. قوله: (ثم قال في الركعة الأخيرة) أي: فعل، وهو إطلاق القول على الفعل، والعرب تفعل هذا كثيرا. قوله: (ثم قام فأثنى على الله تعالى) يعني: قام لأجل الخطبة فخطب. قوله: (فافزعوا)، بفتح الزاي، أي: التجئوا وتوجهوا إليها. أو: استعينوا بها على دفع الأمر الحادث من: باب: فزع بالكسر يفزع بالفتح فزعا، والفزع في الأصل: الخوف، فوضع موضع الإغاثة والنصر لأن من شأنه الإغاثة والدفع. قوله: (إلى الصلاة) قال بعضهم: أي المعهودة الحاصل، وهي التي تقدم فعلها منه، صلى الله عليه وسلم، قبل الخطبة، ولم يصب من استدل به على مطلق الصلاة. قلت: الذي استدل به على مطلق الصلاة هو المسيب لأن المذكور هو الصلاة فإذا ذكرت مطلقة ينصرف إلى الصلاة المعهودة فيما بينهم التي يصلونها على الصفة المعهودة، ولا تذهب أذهان الناس إلا إلى ذلك، والعجب من غير المصيب يرد كلام المصيب.
ذكر ما يستنبط منه: وقد مر أكثر ذلك. فيه: فعل صلاة الكسوف في المسجد دون الصحراء وإن كان يجوز فعلها في الصحراء، ولعل كونها في المسجد ههنا لخوف الفوت بالانجلاء، وقال القدوري: كان أبو حنيفة يرى صلاة الكسوف في المسجد والأفضل في الجامع. وفي (شرح الطحاوي): صلاة الكسوف في المسجد الجامع أو في مصلى العيد، وعند مالك: تصلى فيه دون
74

الصحراء. وقال ابن حبيب: هو مخير، وحكي عن أصبغ: وصوب بعض أهل العلم المسجد في المصر الكبير للمشقة، وخوف الفوت دون الصغير. وفيه: الخطبة، وقد مر الكلام فيها مستقصى. وفيه: تقديم الإمام على المأموم، وهو من قوله: (فصف الناس وراءه)، وفيه: المبادرة إلى المأمور به والمسارعة إلى فعله. وفيه: الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار لأنه سبب لمحو ما فرط منه من العصيان. وفيه: أن الذنوب سبب لوقوع البلايا والعقوبات العاجلة والآجلة.
وكان يحدث كثير بن عباس أن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يحدث يوم خسفت الشمس بمثل حديث عروة عن عائشة فقلت لعروة إن أخاك يوم خسفت الشمس بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل الصبح قال أجل لأنه أخطأ السنة
قوله: (كان يحدث كثير بن عباس) وهو مقول الزهري عطفا على قوله: (حدثني عروة). وقوله: (كثير)، بالرفع: اسم كان وخبره. قوله: (يحدث)، مقدما، وقد وقع صريحا في رواية مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري بلفظ (قال: كثير ابن العباس يحدث أن ابن عباس كان يحدث عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كسفت الشمس، مثل ما حدث عروة عن عائشة). وحديث عروة عن عائشة هو ما روى عروة عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته، فصلى أربع ركوعات في ركعتين وأربع سجدات). قال الزهري: وأخبرني كثير بن عباس عن ابن عباس (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربع ركوعات في ركعتين وأربع سجدات..) إلى هنا لفظ مسلم. قوله: (فقلت) القائل هو الزهري. قوله: (أن أخاك) يعني: عبد الله بن الزبير. قوله: (مثل الصبح)، أي: مثل صلاة الصبح في العدد والهيئة. قوله: (قال: أجل) أي: قال عروة: نعم صلى كذلك، وفي رواية ابن حبان، فقال: أجل كذلك صنع (لأنه إخطأ السنة) أي: لأن عبد الله بن الزبير أخطأ السنة، لأن السنة هي أن تصلي في كل ركعة ركوعان. وقال: بعضهم: وتعقب بأن عروة تابعي وعبد الله صحابي فالأخذ بفعله أولى. ثم أجاب: بما حاصله: إن ما صنعه عبد الله يتأدى به أصل السنة، وإن كان فيه تقصير بالنسبة إلى كمال السنة، ويحتمل أن يكون عبد الله أخطأ السنة من
غير قصد لأنها لم تبلغه. قلت: وقد قلنا في أول أبواب الكسوف: إن عروة أحق بالخطأ من عبد الله الصاحب الذي عمل بما علم، وعروة أنكر ما لا يعلم، ولا نسلم أنها لم تبلغه لاحتمال أنه بلغه من أبي بكرة أو من غيره مع بلوغ حديث عائشة إياه، فاختار حديث أبي بكرة لموافقته القياس، فإذا لا يقال فيه: إنه أخطأ السنة. والله أعلم بالصواب.
5
((باب هل يقول كسفت الشمس أو خسفت؟))
أي: هذا باب يقال فيه: هل يقول القائل: كسفت الشمس؟ أو يقول: خسفت الشمس؟ قيل: أتى البخاري بلفظ الاستفهام إشعارا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء، وقال بعضهم: ولعله أشار إلى ما رواه ابن عيينة عن الزهري (عن عروة: لا تقولوا كسفت الشمس، ولكن قولوا: خسفت) وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه. قلت: ترتيب البخاري يدل على أن الخسوف يقال في الشمس والقمر جميعا لأنه ذكر الآية وفيها نسبة الخسوف إلى القمر ثم ذكر الحديث وفيه نسبة الخسوف إلى الشمس وكذلك يقال بالكسوف فيهما جميعا، لأن في حديث الباب (فقال في كسوف الشمس والقمر: إنهما آيتان). وبهذا يرد على عروة فيما روى الزهري عنه. وبما روى في أحاديث كثيرة: كسفت الشمس، منها: حديث المغيرة بن شعبة الذي مضى في أول الأبواب، (قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث، وفيه: أيضا: (أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد) الحديث واستعمال الكسوف للشمس والخسوف للقمر اصطلاح الفقهاء واختاره ثعلب أيضا قال في الفضيح إن كسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلامين، وذكر الجوهري: أنه أفصح، وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغلطه لثبوته بالخاء في القرآن، وفي الحقيقة في معناهما فرق، فقيل: الكسوف أن يكشف ببعضهما، والخسوف: أن يخسف بكلهما، قال الله تعالى: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * وقال شمر: الكسوف في الوجه الصفرة والتغير، وقال ابن حبيب في (شرح الموطأ): الكسوف تغير اللون والخسوف انخسافهما، وكذلك تقول في عين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين، وذهب نورها وضياؤها.
75

وقال الله تعالى وخسف القمر
إيراد البخاري هذه الآية إشارة إلى أن الأجود أن يقال: خسف القمر، وإن كان يجوز أن يقال: كسف القمر، لا كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون أراد أن يقال: خسف القمر، كما جاء في القرآن، ولا يقال: كسف، وكيف لا يقال كسف وقد أسند الكسف إليه كما أسند الشمس؟ كما في حديث المغيرة بن شعبة المذكور في أول الأبواب وفي غيره، وكذلك في حديث الباب.
7401 حدثنا سعيد بن عفير قال حدثنا الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم خسفت الشمس فقام فكبر فقرأ قراءة طويلة ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه فقال سمع الله لمن حمده وقام كما هو ثم قرأ قراءة طويلة وهي أدنى من القراءة الأولى ثم ركع ركوعا طويلا وهي أدنى من الركعة الأولى ثم سجد سجودا طويلا ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذالك ثم سلم وقد تجلت الشمس فخطب الناس فقال في كسوف الشمس والقمر إنهما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة.
.
مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: (فقال في كسوف الشمس والقمر)، وقوله: (لا يخسفان) لأن كل واحد من الكسوف والخسوف استعمل في كل واحد من الشمس والقمر، وإيراده الآية المذكورة وهذا الحديث يدلان على هذا ويدل أيضا على أن الاستفهام في الترجمة ليس للنفي والإنكار. فافهم، وسعيد بن عفير، بضم العين المهملة وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء، وقد مر في: باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، في كتاب العلم، وبقية الكلام فيما يتعلق به قد مضت مستقصاة.
6
((باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يخوف الله عباده بالكسوف قاله أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم))
أي: هذا باب في ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الأشعري: (يخوف الله، عز وجل، عباده بالكسوف)، وسيأتي حديث أبي موسى هذا في: باب الذكر الكسوف.
8401 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد بن زيد عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولاكن الله تعالى يخوف بها عباده.
.
قد مضى الكلام في حديث أبي بكرة في أول أبواب الكسوف، ومطابقته للترجمة ظاهرة.
قوله: (ولكن الله يخوف بهما)، وفي رواية الكشميهني: (ولكن الله يخوف). قوله: (يخوف)، فيه رد على أهل الهيئة حيث يزعمون أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، فلو كان كذلك لم يكن فيه تخويف، فيصير بمنزلة الجزر والمد في البحر، وقد جاء في حديث أبي موسى، على ما يأتي: (فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة)، فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة والذكر معنى، وقد رددنا عليهم فيما مضى، ويرد عليهم أيضا بما جاء
في رواية أحمد والنسائي وغيرهما: (إن الشمس والقمر لا ينكسفا لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خضع له). وقال الغزالي: هذه الزيادة لم تثبت فيجب تكذيب ناقلها، ولو صحت لكان أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم الشريعة، ورد عليه بأنه: كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة مع أنها مبنية على أن العالم
76

كري الشكل وظاهر الشرع خلاف ذلك؟ والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة، وفعل الفاعل المختار فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتراب، وكيف يرد الحديث المذكور وقد أثبته جماعة من العلماء وصححه ابن خزيمة والحاكم؟ ولئن سلمنا أن ما ذكره أهل الحساب صحيح في نفس الأمر، فإنه لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى.
وقال أبو عبيه الله لم يذكر عبد الوارث وشعبة وخالد بن عبد الله وحماد بن سلمة عن يونس يخوف بهما عباده
أشار بهذا الكلام إلى أن عبد الوارث بن سعيد التنوري وشعبة بن الحجاج وخالد بن عبد الله الطحان الواسطي وحماد بن سلمة، بفتح اللام، لم يذكروا في روايتهم عن يونس بن عبيد المذكور عن قريب لفظ: (يخوف الله بهما عباده) في روايته عن الحسن البصري عن أبي بكرة. أما رواية عبد الوارث فذكرها البخاري بعد عشرة أبواب في باب الصلاة في كسوف القمر، وليس فيها هذا اللفظ، على ما ستقف عليها، ولكن ثبت ذلك عن عبد الوارث من وجه آخر رواه النسائي عن عمران بن موسى عن عبد الوارث، قال: حدثنا يونس عن الحسن عن أبي بكرة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى انتهى إلى المسجد وثاب إليه الناس، فصلى بنا ركعتين، فلما انكشفت قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يكسف ما بكم، وذلك أن ابنا له مات يقال له: إبراهيم، فقال ناس في ذلك). وأما رواية شعبة فأخرجها البخاري في: باب كسوف القمر، حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا سعيد بن عامر، قال: حدثنا شعبة عن يونس عن الحسن (عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين). وأما رواية خالد بن عبد الله فقد مضت في أول أبواب الكسوف. وأما رواية حماد بن سلمة فأخرجها الطبراني في (المعجم الكبير): عن علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن يونس فذكره، وأخرجها البيهقي أيضا من طريق أبي زكريا السيلحيني عن حماد بن سلمة عن يونس فذكره.
وتابعه موسى عن مبارك عن الحسن قال أخبرني أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يخوف بهما عباده
أي: تابع يونس في روايته عن الحسن موسى عن مبارك، واختلف في المراد بموسى، فقيل: هو موسى بن إسماعيل التبوذكي وجزم به الحافظ المزي، وقيل: هو موسى بن داود الضبي، ومال إليه الحافظ الدمياطي وجماعة. قيل: الأول أرجح لكون موسى بن إسماعيل معروفا في رجال البخاري، ومبارك هو: ابن فضالة بن أبي أمية القرشي العدوي البصري، وفيه مقال، وأراد به البخاري تنصيص الحسن على سماعه من أبي بكرة، فإن ابن خيثمة ذكر في (تاريخه الكبير) عن يحيى أنه لم يسمع منه، وذكر هذه المتابعة للرد عليه، فإنه صرح فيها أن الحسن قال: أخبرني أبو بكرة، وقد علم أن المثبت يرجح على النافي. قوله: (يخوف الله بهما) أي: بكسوف الشمس وكسوف القمر، ويروى: (بها)، أي: بالآية، فإن كسوفهما آية من الآيات، وفي رواية غير أبي ذر: (إن الله يخوف).
وتابعه أشعث عن الحسن
يعني: تابع مبارك بن فضالة أشعث بن عبد الملك الحمراني عن الحسن كذلك، لكن بلا ذكر التخويف، رواه النسائي كذلك عن الفلاس عن خالد بن الحارث عن أشعث عن الحسن (عن أبي بكرة، قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فكسفت الشمس فوثب يجر ثوبه فصلى ركعتين حتى انجلت الشمس). وقال بعضهم: وقع قوله: (تابعه أشعث)، في بعض
77

الروايات عقيب متابعة موسى، والصواب تقديمه لخلو رواية أشعث عن ذكر التخويف. قلت: لا يلزم من متابعة أشعث لمبارك بن فضالة في الرواية عن الحسن أن يكون فيه ذكر التخويف، لأن مجرد المتابعة تكفي في الرواية، وقد ذهل صاحب (التلويح) هنا حيث قال: في قوله: (تابعه أشعث عن الحسن) يعني: تابع مبارك بن فضالة عن الحسن بذكر التخويف رواه النسائي إلى آخره، وليس في رواية النسائي عن الأشعث ذكر التخويف، والله أعلم بحقيقة الحال.
7
((باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان التعوذ من عذاب القبر في حالة الكسوف، سواء كان في الصلاة حين يدعو فيها أو بعد الفراغ منها.
والمناسبة في ذلك من حيث كون كل واحد من الكسوف والقبر مشتملا على الظلمة، فيحصل الخوف من هذا كما يحصل من هذا، فإذا تعوذ بالله تعالى ربما يحصل له الاتعاظ في العمل بما ينجيه من عاقبة الأمر.
9401 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الراحمان عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذالك.
.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فخسفت الشمس فرجع ضحى فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحجر ثم قام يصلي وقام الناس وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع مقام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر).
ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك. وأخرجه مسلم فيه عن القعنبي وعن محمد بن المثنى وعن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي وعن محمد بن سلمة.
ذكر معناه: قوله: (أن يهودية) أي: امرأة يهودية، وفي (مسند السراج) من حديث أشعث بن الشعشاء عن أبيه عن مسروق، قال: (دخلت يهودية على عائشة فقالت لها: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شيئا في عذاب القبر؟ فقالت عائشة: لا، وما عذاب القبر؟ قالت: فسليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة عن عذاب القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: عذاب القبر حق. قالت عائشة: فما صلى بعد ذلك صلاة إلا سمعته يتعوذ من عذاب القبر). وفي حديث منصور عن أبي وائل (عن مسروق عنها، قالت: دخل على عجوزتان من عجائز اليهود، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتهما ولم أصدقهما، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: دخل علي عجوزتان من عجز اليهود فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائر). وفي هذا دليل على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر، إما سمعت ذلك من التوراة أو في كتاب من كتبهم. قوله: (أيعذب الناس؟) الهمزة فيه للاستفهام (ويعذب)، على صيغة المجهول فيه دليل على أن عائشة لم تكن قبل ذلك علمت بعذاب القبر، لأنها كانت تعلم أن العذاب والثواب إنما يكونان بعد البعث. قوله: (عائذا بالله) على وزن: فاعل، مصدر لأن المصدر قد يجيء على هذا الوزن كما في قولهم: عافاه الله عافية، فعلى هذا انتصابه على المصدرية
78

تقديره: أعوذ عائذا بالله، أي: أعوذ عياذا بالله، ويجوز أن يكون: عائذا، على بابه، ويكون منصوبا على الحال، وذو الحال محذوف تقديره: أعوذ حال كوني عائذا بالله. وروي: (عائذ بالله)، بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: أنا عائذ بالله. قوله: (من ذلك) أي: من عذاب القبر. قوله: (ذات غداة)، لفظة: (ذات)، زائدة. وقال الداودي: لفظة (ذات) بمعنى: في، أي: في غداة ورد عليه ابن التين: بأنه غير صحيح، بل تقديره: في ذات غداة. قلت: الصواب معه لأنه لم يقل أحد: إن ذات بمعنى: في، ويجوز أن يكون من باب إضافة المسمى إلى اسمه. قوله: (ضحى) بضم الضاد مقصور، فوق الضحوة وهي ارتفاع أول النهار. قوله: (بين ظهراني الحجر)، أي: في ظهري الحجر، الألف والنون زائدتان، ويقال: الكلمة كلها زائدة، والحجر، بضم الحاء المهملة وفتح الجيم: جمع حجرة والمراد بها بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يستنبط منه: أنه: يدل على أن عذاب القبر حق، وأهل السنة مجمعون على الإيمان به والتصديق، ولا ينكره إلا مبتدع. وإن من لا علم له بذلك لا يأثم، وأن من سمع بذلك وجب عليه أن يسأله أهل العلم ليعلم صحته. وفيه: ما يدل على أن حال عذاب القبر عظيم، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بالتعوذ منه. وفيه: أن وقت صلاة الكسوف وقت الضحى على ما صلى صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بحسب حصول الكسوف فيه، والعلماء اختلفوا فيه، فقال ابن التين: أول وقته وقت جواز النافلة، وأما آخره فقال مالك: إنها إنما تصلى ضحوة النهار ولا تصلى بعد الزوال، فجعلها كالعيدين، وهي رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب: تصلى في وقت صلاة النافلة وإن زالت الشمس، وعنه: لا تصلى بعد العصر، ولكن يجتمع الناس فيه فيدعون ويتصدقون ويرغبون. وقال الكوفيون: لا يصلون في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لورود النهي بذلك، وتصلى في سائر الأوقات، وهو قول ابن أبي مليكة وعطاء وجماعة. وقال الشافعي: تصلى في كل وقت، نصف النهار وبعد العصر والصبح، وهو قول أبي ثور وابن الجلاب المالكي: وقال أصحابنا الحنفية: وقتها المستحب كسائر الصلوات، ولا تصلى في الأوقات المكروهة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب وإسماعيل بن علية وأحمد، وقال إسحاق: يصلون بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد صلاة الصبح ولو كسفت في الغروب لم تصل أجماعا، ولو طلعت مكسوفة لم تصل حتى تحل النافلة، وبه قال مالك وأحمد وآخرون، وقال ابن المنذر: وبه أقول، خلافا للشافعي.
9401 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الراحمان عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذالك.
.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فخسفت الشمس فرجع ضحى فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحجر ثم قام يصلي وقام الناس وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع مقام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام فقام
قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد وانصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر).
ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك. وأخرجه مسلم فيه عن القعنبي وعن محمد بن المثنى وعن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي وعن محمد بن سلمة.
ذكر معناه: قوله: (أن يهودية) أي: امرأة يهودية، وفي (مسند السراج) من حديث أشعث بن الشعشاء عن أبيه عن مسروق، قال: (دخلت يهودية على عائشة فقالت لها: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شيئا في عذاب القبر؟ فقالت عائشة: لا، وما عذاب القبر؟ قالت: فسليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة عن عذاب القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: عذاب القبر حق. قالت عائشة: فما صلى بعد ذلك صلاة إلا سمعته يتعوذ من عذاب القبر). وفي حديث منصور عن أبي وائل (عن مسروق عنها، قالت: دخل على عجوزتان من عجائز اليهود، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتهما ولم أصدقهما، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: دخل علي عجوزتان من عجز اليهود فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائر). وفي هذا دليل على أن اليهودية كانت تعلم عذاب القبر، إما سمعت ذلك من التوراة أو في كتاب من كتبهم. قوله: (أيعذب الناس؟) الهمزة فيه للاستفهام (ويعذب)، على صيغة المجهول فيه دليل على أن عائشة لم تكن قبل ذلك علمت بعذاب القبر، لأنها كانت تعلم أن العذاب والثواب إنما يكونان بعد البعث. قوله: (عائذا بالله) على وزن: فاعل، مصدر لأن المصدر قد يجيء على هذا الوزن كما في قولهم: عافاه الله عافية، فعلى هذا انتصابه على المصدرية تقديره: أعوذ عائذا بالله، أي: أعوذ عياذا بالله، ويجوز أن يكون: عائذا، على بابه، ويكون منصوبا على الحال، وذو الحال محذوف تقديره: أعوذ حال كوني عائذا بالله. وروي: (عائذ بالله)، بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: أنا عائذ بالله. قوله: (من ذلك) أي: من عذاب القبر. قوله: (ذات غداة)، لفظة: (ذات)، زائدة. وقال الداودي: لفظة (ذات) بمعنى: في، أي: في غداة ورد عليه ابن التين: بأنه غير صحيح، بل تقديره: في ذات غداة. قلت: الصواب معه لأنه لم يقل أحد: إن ذات بمعنى: في، ويجوز أن يكون من باب إضافة المسمى إلى اسمه. قوله: (ضحى) بضم الضاد مقصور، فوق الضحوة وهي ارتفاع أول النهار. قوله: (بين ظهراني الحجر)، أي: في ظهري الحجر، الألف والنون زائدتان، ويقال: الكلمة كلها زائدة، والحجر، بضم الحاء المهملة وفتح الجيم: جمع حجرة والمراد بها بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يستنبط منه: أنه: يدل على أن عذاب القبر حق، وأهل السنة مجمعون على الإيمان به والتصديق، ولا ينكره إلا مبتدع. وإن من لا علم له بذلك لا يأثم، وأن من سمع بذلك وجب عليه أن يسأله أهل العلم ليعلم صحته. وفيه: ما يدل على أن حال عذاب القبر عظيم، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بالتعوذ منه. وفيه: أن وقت صلاة الكسوف وقت الضحى على ما صلى صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت بحسب حصول الكسوف فيه، والعلماء اختلفوا فيه، فقال ابن التين: أول وقته وقت جواز النافلة، وأما آخره فقال مالك: إنها إنما تصلى ضحوة النهار ولا تصلى بعد الزوال، فجعلها كالعيدين، وهي رواية ابن القاسم، وروى عنه ابن وهب: تصلى في وقت صلاة النافلة وإن زالت الشمس، وعنه: لا تصلى بعد العصر، ولكن يجتمع الناس فيه فيدعون ويتصدقون ويرغبون. وقال الكوفيون: لا يصلون في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها لورود النهي بذلك، وتصلى في سائر الأوقات، وهو قول ابن أبي مليكة وعطاء وجماعة. وقال الشافعي: تصلى في كل وقت، نصف النهار وبعد العصر والصبح، وهو قول أبي ثور وابن الجلاب المالكي: وقال أصحابنا الحنفية: وقتها المستحب كسائر الصلوات، ولا تصلى في الأوقات المكروهة، وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وعمرو بن شعيب وقتادة وأيوب وإسماعيل بن علية وأحمد، وقال إسحاق: يصلون بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد صلاة الصبح ولو كسفت في الغروب لم تصل أجماعا، ولو طلعت مكسوفة لم تصل حتى تحل النافلة، وبه قال مالك وأحمد وآخرون، وقال ابن المنذر: وبه أقول، خلافا للشافعي.
8
((باب طول السجود في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان طول السجود في صلاة الكسوف، وأشار بهذا إلى الرد على من أنكر طول السجود فيه، وهو قول بعض المالكية، فإنهم قالوا إن الذي شرع فيه التطويل شرع تكراره كالقيام والركوع، ولم تشرع الزيادة في السجود فلا يشرع التطويل فيه، وقد ذكرنا فيما مضى أن الرافعي قال: هل يطول السجود في هذه الصلاة؟ فيه قولان، ويقال: وجهان: أظهرهما: لا، والثاني: نعم، وبه قال ابن شريح، لأنه منقول في بعض الروايات: مع تطويل الركوع، أورده مسلم في (الصحيح). قلت: لم ينفرد به مسلم، بل حديث الباب يدل عليه أيضا ويرد بهذا على من يقول: إن التطويل في القيام والركوع لإمكان رؤية انجلاء الشمس، بخلاف السجود، وعلى من يقول: إن في تطويل السجود استرخاء المفاصل المفضي إلى النوم المفضي إلى خروج شيء.
1501 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو أنه قال لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي إن الصلاة
جامعة فركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلس ثم جلي عن الشمس قال وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ما سجدت سجودا قط كان أطول منها.
(أنظر الحديث 5401).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي قول عائشة في آخر الحديث.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن التميمي، أصله من البصرة وسكن الكوفة. الثالث: يحيى بن أبي كثير اليمامي
79

الطائي من أهل البصرة سكن اليمامة. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس: عبد الله بن عمرو، بفتح العين وفي آخره واو، ووقع في رواية الكشميهني: عبد الله بن عمر، بضم العين وفتح الميم بلا واو، قيل: إنه وهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ويمامي ومدني. وفيه: راويان بكنية وراويان بلا نسبة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الكسوف عن إسحاق عن يحيى بن صالح عن معاوية بن سلام عن يحيى ببه مختصرا، كما هنا، وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن رافع وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأخرجه النسائي فيه عن محمود بن خالد.
ذكر معناه: قوله: (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: على زمنه. قوله: (نودي)، على صيغة المجهول من النداء وهو الإعلام. وقوله: (إن الصلاة جامعة)، قد مر الكلام فيه عن قريب. قوله: (في سجدة) أي: في ركعة، وقد يعبر بالسجدة عن الركعة من باب إطلاق الجزء على الكل. قوله: (ثم جلى)، بضم الجيم وتشديد اللام على صيغة المجهول: من التجلية، وهو الانكشاف. قوله: (قال: وقالت) أي: قال أبو سلمة: (قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: ما سجدت سجودا قط). وفي رواية مسلم: (ما ركعت ركوعا قط ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه)، ويحتمل أن يكون فاعل: قال، هو عبد الله بن عمرو، فيكون فيه رواية صحابي عن صحابية. فإن قلت: ما وجه رواية البخاري: أطول منها بتأنيث الضمير والسجود مذكر؟ قلت: وقع في رواية مسلم وغيره منه بتذكير الضمير، وهو الأصل، ويؤول في رواية البخاري السجود بالسجدة، فتأنيث الضمير بهذا الاعتبار.
وإطالة السجود وردت في أحاديث كثيرة. منها: ما تقدم في رواية عروة عن عائشة بلفظ: (ثم سجد فأطال السجود). ومنها: ما تقدم في أوائل صفة الصلاة من حديث أسماء بنت أبي بكر مثله. ومنها: ما رواه النسائي عن عبد الله ابن عمرو: (ثم رفع رأسه وسجدها فأطال السجود)، ونحوه ما رواه النسائي أيضا عن أبي هريرة. ومنها: ما رواه الشيخان من حديث أبي موسى (بأطول قيام وركوع وسجود). ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي من حديث سمرة: (كأطول ما سجد بنا في صلاة)، وقال بعض المالكية: لا يلزم من كونه أطال السجود أن يكون بلغ به حد الإطالة في الركوع، ورد عليهم بما رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: (وسجوده نحو من ركوعه)، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو أحد قولي الشافعي، وادعى صاحب (المهذب): أنه لم يقل به الشافعي، ورد عليه بأن الشافعي نص عليه في البويطي، ولفظه: (ثم سجد سجدتين طويلتين يقيم في كل سجدة نحوا مما قام له في ركوعه)، وحديث جابر الذي رواه مسلم يدل على تطويل الاعتدال الذي يليه السجود، ولفظه: (فأطال القيام حتى جعلوا يخرجون، ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال ثم ركع فأطال ثم رفع فأطال ثم سجد سجدتين)، الحديث. وأنكر النووي هذه الرواية، وقال: هذه رواية شاذة مخالفة فلا يعمل بها، أو المراد: زيادة الطمأنينة في الاعتدال، ورد عليه بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو، ففيه: (ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد ثم سجد)، فهذا يدل على تطويل الجلوس بين السجدتين، وبهذا يرد على الغزالي في نقله الاتفاق على ترك إطالته، أللهم إلا إذا أراد به: بالاتفاق من أهل المذهب. والله أعلم.
9
((باب صلاة الكسوف جماعة))
أي: هذا باب في بيان صلاة الكسوف بالجماعة، أشار بهذا إلى أن صلاة الكسوف بالجماعة سنة. وقال صاحب (الذخيرة: من أصحابنا: الجماعة فيها سنة، ويصلي بهم الإمام الذي يصلي الجمعة والعيدين، وفي (المرغيناني): يؤمهم فيها إمام حيهم بإذن السلطان، لأن اجتماع الناس ربما أوجب فتنة وخللا، ولا يصلون في مساجدهم بل يصلون جماعة واحدة، ولو لم يقمها الإمام صلى الناس فرادى. وفي (مبسوط) بكر، عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول: لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعة في مسجده، وكذا في (المحيط). وقال الإسبيجابي: لكن بإذن الإمام الأعظم، وقال بعضهم: باب صلاة الكسوف جماعة، أي: وإن لم يحضر الإمام. قلت:
80

إذا لم يكن الإمام حاضرا كيف يصلون جماعة؟ ولا تكون الصلاة بالجماعة إلا إذا كان فيهم إمام؟ فإن لم يكن إمام وصلوا فرادى لا يقال صلوا بجماعة، وإن كانوا جماعات؟ فإن قلت: بم انتصب جماعة؟ قلت: يجوز أن يكون بنزع الخافض، كما قدرناه، فإن قلت: هل يجوز أن يكون حالا؟ قلت: يجوز إذا قدر هكذا: باب صلاة القوم الكسوف حال كونهم جماعة، فطوى ذكر الفاعل للعلم به.
وصلى ابن عباس لهم في صفة زمزم
أي: صلى للقوم عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما، في صفة زمزم، والصفة، بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء، قال ابن التين: صفة زمزم، قيل: كانت أبنية يصلي فيها ابن عباس، والصفة موضع مظلل يجعل في دار أو في حوش. وقال ابن الأثير، في ذكر أهل الصفة: هم فقراء المهاجرين، ولم يكن لواحد منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونة. وقال الكرماني: صفة، بضم المهملة وفي بعضها بالمعجمة وهي بالكسر والفتح: جانب الوادي، وصفتاه جانباه، وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن غندر: حدثنا ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاووس: أن الشمس انكسفت على عهد ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، وصلى على صفة زمزم ركعتين في كل ركعة أربعة سجدات، ورواه الشافعي وسعيد بن منصور جميعا: عن سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول (سمعت طاووسا يقول: كسفت الشمس فصلى بنا ابن عباس في صفة زمزم ست ركوعات في أربع سجدات، وبين الروايتين مخالفة. وقال البيهقي: روى عبد الله بن أبي بكر عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: رأيت ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، صلى على ظهر زمزم في كسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ركوعان. وقال الشافعي: إذا كان عطاء وعمرو وصفوان والحسن يروون عن ابن عباس خلاف سليمان الأحول كانت رواية ثلاثة أولى أن تقبل، ولو ثبت عن ابن عباس أشبه أن يكون ابن عباس فرق بين خسوف الشمس والقمر وبين الزلزلة، فقد روي أنه صلى في زلزلة ثلاث ركوعات في ركعة، فقال: ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرض، أي: رعدة؟ قال الجوهري: الأرض: النفضة والرعدة ثم نقل قول ابن عباس، هذا، قال أبو عمر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح: أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة، وأول ما جاءت في الإسلام على عهد عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وفي (المعرفة) للبيهقي: صلى علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، في زلزلة ست ركوعات في أربع سجدات وخمس ركعات وسجدتين في ركعة وركعة، وسجدتين في ركعة، وقال الشافعي: لو ثبت هذا الخبر عن علي، رضي الله تعالى عنه، لقلنا به، وهم يثبتونه ولا يقولون به.
وجمع علي بن عبد، الله بن عباس وصلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهم.
أي: جمع الناس علي بن عبد الله لصلاة الكسوف، وعلي بن عبد الله تابعي ثقة، روى له مسلم والأربعة، وروى له البخاري في (الأدب) وكان أصغر ولد أبيه سنا، وكان يدعى: السجاد، وكان يسجد كل يوم ألف سجدة، ولدليلة قتل علي بن أبي طالب في شهر رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه وكني بكنيته: أبا الحسن، وفي ولده الخلافة، مات سنة أربع عشرة ومائة، وعن يحيى بن معين: مات سنة ثمان عشرة ومائة بالحميمة من أرض البلقاء في أرض الشام وهو ابن ثمان أو تسع وسبعين سنة، قوله: (وصلى ابن عمر) يعني: صلاة الكسوف بالناس، وأخرج ابن أبي شيبة قريبا من معناه: حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم بن عبيد الله، قال: رأيت ابن عمر يهرول إلى المسجد في كسوف ومعه نعلاه، يعني لأجل الجماعة، وأشار البخاري بهذين الأثرين إلى أن صلاة الكسوف بالجماعة، وهذا هو المطابقة بينهما وبين الترجمة.
2501 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام قياما نحوا من قراءة سورة البقرة ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو
81

دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذالك فاذكروا الله قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك ثم رأيناك كعكعت قال صلى الله عليه وسلم إني رأيت الجنة فتناولت عنقودا ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا وأريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء قالوا بم يا رسول الله قال بكفرهن قيل يكفرن بالله قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط.
.
مطابقته للترجمة تأتي بمحذوف مقدر في قوله: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: صلى بالجماعة، وهذا لا يشك فيه، ولكن الراوي طوى ذكره إما اختصارا وإما اعتمادا على القرينة الحالية، لأنه لم ينقل عنه أنه صلى صلاة الكسوف وحده.
ورجاله تكرر ذكرهم. قوله: (عن عطاء بن يسار عن ابن عباس) كذا في (الموطأ) وجميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية اللؤلؤي في (سنن أبي داود): عن أبي هريرة بدل ابن عباس قيل: هو غلط نبه عليه ابن عساكر، وقال المزي: هو وهم.
وأخرجه البخاري في الصلاة وفي صلاة الخسوف وفي الإيمان عن القعنبي وفي النكاح عن عبد الله بن يوسف وفي بدء الخلق عن إسماعيل بن أبي أويس. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن رافع عن سويد بن سعيد. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي. وأخرجه النسائي عن محمد بن سلمة.
ذكر معناه: قوله: (نحوا من قراءة سورة البقرة) وفي لفظ: (نحوا من قيام سورة البقرة)، وعند مسلم: (قدر سورة البقرة)، وهذا يدل على أن القراءة كانت سرا، وكذا في بعض طرق حديث عائشة. (فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة). وقيل: إن ابن عباس كان صغيرا فمقامه آخر الصفوف فلم يسمع القراءة فحزر المدة، ورد على هذا بأن في بعض طرقه: (قمت إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فما سمعت منه حرفا)، ذكره أبو عمر. قوله: (رأيناك تناولت شيئا)، كذا في رواية الأكثرين: (تناولت)، بصيغة الماضي، وفي رواية الكشميهني: (تناول شيئا)، بالخطاب من المضارع، وأصله: تتناول، بتاءين لأنه من باب التفاعل فحذفت منه إحدى التاءين، ويروى: (تتناول) على الأصل. قوله: (كعكعت) قد مر الكلام فيه في: باب رفع البصر إلى الأمام، لأنه أخرج هذا الحديث فيه
مختصرا. وفيه: تكعكعت)، وهو رواية الكشميهني بزيادة التاء في أوله، وفي رواية غيره: كعكعت، ومعناهما: تأخرت. وقال ابن عبد البر: معناه تقهقرت، وهو الرجوع إلى ورائه. وقال أبو عبيد: كعكعته فتكعكع. قلت: هذا يدل على أن: كعكع، متعد: وتكعكع لازم، فإن قلت: فعلى هذا قوله: (كعكعت) يقتضي مفعولا فما هو؟ قلت: على هذا معناه: رأيناك كعكعت نفسك، وأما رواية: تكعكعت فظاهرة. فإن قلت: هذا من الرباعي الأصل أو من المزيد؟ قلت: نقل أهل اللغة هذه المادة يدل على أنه جاء من البابين، فقول أبي عبيد يدل على أنه رباعي مجرد، وقول الجوهري وغيره يدل على أنه ثلاثي مزيد فيه، لأنه نقل عن يونس: كع يكع، بالضم. وقال سيبويه: يكع، بالكسر أجود، وأصله: كعع، فأسكنت العين الأولى وأدرجت في الثانية: كمد وفر، وفي (الموعب) لابن التياني، كععت وكععت بالكسر والفتح أكع وأكع بالكسر والفتح كعا وكعاعة بالفتح، وقال صاحب (العين): كع كعوعا وهو الذي لا يمضي في عزم، وفي (المحكم): كع كعوعا
82

وكعاعة وكيعوعة وكعكعه عن الورد: نحاه. ويقال: أكعه الفرق إكعاعا إذا حبسه عن وجهه، ويقال: أصل كعكعت كععت، ففرق بينهما بحرف مكرر للاستثقال. قلت: هذا تصرف من غير التصريف، ووقع في رواية مسلم: (رأيناك كففت)، من الكف، وهو المنع. قوله: (إني رأيت الجنة)، ظاهره من رؤية العين: كشف الله تعالى الحجب التي بينه وبين الجنة وطوى المسافة التي بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها عنقودا، والذي يؤيد هذا حديث أسماء الذي مضى في أوائل صفة الصلاة بلفظ: (دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها)، ومن العلماء من حمل هذا على أن الجنة مثلت له في الحائط كما ترى الصورة في المرآة. فرأى جميع ما فيها. واستدلوا على هذا بحديث أنس على ما سيأتي في التوحيد: (لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي)، وفي رواية: (لقد مثلت، وفي رواية مسلم: (لقد صورت) فإن قلت: انطباع الصورة إنما يكون في الأجسام الصقيلة؟ قلت: هذا من حيث العادة فلا يمتنع خرق العادة لا سيما في حق هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، ومع هذا هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، وتلك في صلاة الكسوف، ولا مانع أن ترى الجنة والنار مرتين وأكثر على صور مختلفة، وقال القرطبي: ليس من المحال إبقاء هذه الأمور على ظواهره، لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار وقد خلقتا وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكا خاصا به أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما، ومنهم من تأول الرؤية هنا بالعلم، وقد أبعد لعدم المانع من الأخذ بالحقيقة والعدول عن الأصل من غير ضرورة. قوله: (عنقودا) بضم العين. قوله: (ولو أصبته) في رواية مسلم: (ولو أخذته). قوله: (ما بقيت الدنيا) أي: مدة بقاء الدنيا، لأن طعام الجنة لا ينفذ وثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحكى ابن العربي عن بعض شيوخه: إن معنى قوله: (لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)، أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل: دائما بحيث لا يغيب عن ذوقه، وقد رد عليه بأن هذا رأي فلسفي مبني على أن دار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا تقطع ولا تمنع، فإذا قطعت خلقت في الحال فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، وفيه بحث، لأن كلام هذا القائل لا يستلزم نفي حقيقة دار الآخرة، لأن ما قاله في حال الدنيا والفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة ظاهر. فإن قلت: بين قوله: (ولو أصبته)، أو: (لو أخذته). وبين قوله: (رأيناك تناولت شيئا)، منافاة ظاهرا؟ قلت: يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ. قلت: لا يحتاج إلى هذا التأويل بالتكلف لعدم ورود السؤال المذكور، لأن قوله: (تناولت) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم منهم، وقوله: (ولو أصبته) إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه، ولا منافاة بين الإخبارين، فكأنهم تخيلوا التناول من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في نفس الأمر حقيقة التناول موجودة يدل عليه معنى. قوله: (وتناولت عنقودا) د، يعني تناولته حقيقة في الجنة، ولكن لم يؤذن لي بقطفه وهو معنى قوله: (ولو أصبته)، يعني: لو أذن لي بقطفه لأصبته، وأخرجته منها إليكم، ولكن لم يقدر لي لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية، فلا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى، لأنه يلزم من أكل ما لا يفنى أن لا يفنى آكله، وهو محال في الدنيا.
فإن قلت: كيف يقول: معناه تناولته حقيقة في الجنة ولكن لم يؤذن لي بقطفه؟ وقد وقع في حديث عقبة بن عامر، رضي الله تعالى عنه عن ابن خزيمة: (أهوى بيده ليتناول شيئا)، وفي رواية البخاري في حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة: (حتى لو اجترأت عليها؟) وكأن لم يؤذن له في ذلك، فلم يجترىء عليه، وفي حديث جابر عند مسلم: (ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمارها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل)؟ وفي حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، عند البخاري: (لقد رأيت أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني، جعلت أتقدم)، ووقع لعبد الرزاق من طريق مرسلة: (أردت أن آخذ منها قطفا لأريكموه فلم يقدر)؟ قلت: كل هذه الروايات لا تنافي ما قلنا. أما في حديث عقبة فلا يلزم من قوله: (أهوى بيده ليتناول شيئا) عدم تناوله حقيقة، لرؤيتهم صورة التناول وعدم رؤيتهم حقيقته. وأما في حديث أسماء فلأن عدم اجترائه على إخراجه من الجنة لأنه لم يؤذن له بذلك، فلا يمنع ذلك حقيقة التناول. وأما في حديث جابر فلأن صورة التناول لأجل إخراجه إليهم لم يكن، لأن نظرهم إليه وهو يتناول في الجنة لا يتصور في حقهم لعدم قدرتهم على ذلك، فهذا لا ينافي حقيقة التناول في الجنة، ولكن لم يؤذن له بالإخراج لما قلنا. وأما في حديث عائشة فلأنهم لو رأوه أخذ منها قطفا حقيقة لكان إيمانهم بالشهادة ولم يكن بالغيب، والإيمان بالغيب هو المعتبر، وهو أيضا لا ينافي حقيقة التناول في حقه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وأريت النار) أريت، بضم الهمزة وكسر الراء على صيغة المجهول، وأقيم المفعول الذي هو الرائي في
83

الحقيقة مقام الفاعل، وانتصاب النار على أنه مفعول ثان، لأن: أريت، من الإراءة، وهو يقتضي مفعولين، وهذه رواية أبي ذر. وفي رواية غيره: (رأيت النار)، وكانت رؤية النار قبل رؤية الجنة لما وقع في رواية عبد الرزاق: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذ رجع عرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه). وروى مسلم من حديث جابر، قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث بطوله، وفيه: (ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها)،
وفيه: (ثم جيء بالجنة، وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي..) الحديث وجاء من حديث سمرة، أخرجه ابن خزيمة: (لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم). فإن قلت: رؤياه النار من أي باب كان من أبواب النيران؟ فإن قلت: قيل: من الباب الذي يدخل منه العصاة من المسلمين. قلت: يحتاج هذا إلى دليل مع أن قوله صلى الله عليه وسلم: (ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حتى رأيتموني تأخرت، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سبب السائبة). رواه مسلم، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى النيران كلها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من حشائش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمر بن مالك يجر قصبة في النار). قوله: (فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع). وفي رواية المستملي والحموي: (فلم أنظر كاليوم أفظع). قوله: (منظرا) منصوب بقوله: (لم أر). و (أفظع)، أفعل التفضيل منصوب لأنه صفة المنظر. وقوله: (كاليوم قط) معترض بين الصفة والموصوف، والكاف فيه بمعنى المثل، والمراد من اليوم الوقت الذي فيه وتقدير الكلام: لم أر منظرا أفظع مثل اليوم، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، ومعنى أفظع: أبشع وأقبح. وقال ابن سيده: فظع الأمر فظاعة وهو فظيع وأفظع وأشد وأفظع افظاعا وهو مفظع، والاسم الفظاعة وأفظعني هذا الأمر وأفظعته وأفظع هو، وفي (الصحاح) أفظع الرجل، على ما لم يسم فاعله: إذا نزل به أمر عظيم. قوله: (ورأيت أكثر أهلها) أي: أهل النار النساء. فإن قلت: كيف يلتئم هذا مع ما رواه أبو هريرة: (إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا)، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة؟ قلت: يحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وقيل: خرج هذا مخرج التغليظ والتخويف، وفيه نظر، لأنه أخبر بالرؤية الحاصلة. وقيل: لعله مخصوص ببعض النساء دون بعض. قوله: (بم يا رسول الله؟) أصله: بما، لأنها كلمة الاستفهام، فحذفت الألف تخفيفا. قوله: (أيكفرن بالله؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (قال: يكفرن العشير)، كذا وقع للجمهور عن مالك بدون الواو، وقيل: ويكفرن، وكذا وقع في رواية مسلم. قال: حدثنا حفص بن ميسرة، قال: حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس، قال: (انكسفت الشمس..) الحديث بطوله، وفيه: (ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير...) الحديث، وروى يحيى بن يحيى عن مالك في (موطئه) قال: ويكفرن العشير، بزيادة الواو، قيل: زيادة الواو غلط. قلت: ليس كذلك، لأنه لا فساد فيه من جهة المعنى لأنه أجاب مطابقا للسؤال،. وزاد، وقال بعضهم: إن كان المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك. قلت: ليس كذلك، لأن المخالفة للرواة إنما تعد غلطا إذا فسد المعنى، ولا فساد. كما ذكرنا. فإن قلت: كفر يتعدى بالباء، وقوله: (أيكفرن بالله؟) على الأصل، وقوله: (يكفرن العشير) بلا باء؟ قلت: لأن الذي تعدى بالباء يتضمن معنى الاعتراف، وكفر العشير لا يتضمن ذلك. قوله: (ويكفرن الإحسان) يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله: (يكفرن العشير)، لأن المقصود كفر إحسان العشير لا كفر ذاته، والعشير هو الزوج، وقد مر الكلام فيه مستقصى في كتاب الإيمان، والمراد من كفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره كما يدل عليه آخر الحديث. قوله: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله)، بيان لمعنى: كفر الإحسان وكلمة: لو، شرطية ويحتمل أن تكون امتناعية بأن يكون الحكم ثابتا على النقيضين، ويكون الطرف المسكوت عنه أولى من المذكور، و: الدهر، منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون المراد منه: مدة عمر الرجل، وأن يكون الزمان كله مبالغة، وليس المراد من قوله: (أحسنت)، خطاب رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطبا، كما في قوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون) * (السجدة: 21). لأن المراد منه
84

كل من تتأتى منه الرؤية، فهو خطاب خاص لفظا وعام معنى. قوله: (شيئا) التنوين فيه للتقليل: أي: شيئا قليلا لا يوافق غرضها من أي نوع كان.
ومما يستفاد منه غير ما ذكر فيما مضى: المبادرة إلى طاعة الله، عز وجل، عند حصول ما يخاف منه وما يحذر عنه، وطلب دفع البلاء بذكر الله تعالى وتمجيده وأنواع طاعته. وفيه: معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من نصح أمته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم عما يضرهم. وفيه: مراجعة المتعلم للعالم فيما لا يدركه فهمه. وفيه: جواز الاستفهام عن علة الحكم وبيان العالم ما يحتاج إليه تلميذه. وفيه: تحريم كفران الإحسان. وفيه: وجوب شكر المنعم. وفيه: إطلاق الكفر على جحود النعمة. وفيه: بيان تعذيب أهل التوحيد لأجل المعاصي. وفيه: جواز العمل اليسير في الصلاة.
01
((باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان صلاة النساء مع الرجال في صلاة الكسوف، وقال بعضهم: أشار بهذه الترجمة إلى رد قول من منع ذلك، وقال: يصلين فرادى، وهو منقول عن الثوري والكوفيين. قلت: إن أراد بالكوفيين أبا حنيفة وأصحابه فليس كذلك، لأن أبا حنيفة يرى بخروج العجائز فيها، غير أنهن يقفن وراء صفوف الرجال، وعند أبي يوسف ومحمد: يخرجن في جميع الصلوات لعموم المصيبة، فلا يختص ذلك بالرجال، وروى القرطبي عن مالك: إن الكسوف يخاطب به من يخاطب بالجمعة، وفي (التوضيح): ورخص مالك والكوفيون للعجائز وكرهوا للشابة. وقال الشافعي: لا أكره لمن لا هيئة له بارعة من النساء ولا للصبية شهود صلاة الكسوف مع الإمام، بل أحب لهن ونحب لهن ونحب لذات الهيئة أن تصليها في بيتها، ورأى إسحاق أن يخرجن، شبابا كن أو عجائز، ولو كن حيضا، وتعتزل الحيض المسجد ولا يقربن منه.
3501 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها قالت أتيت عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة فقلت ما للناس فأشارت بيدها إلى السماء وقالت سبحان الله فقلت آية فأشارت أي نعم قالت فقمت حتى تجلاني الغشي فجعلت أصب فوق رأسي الماء فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال ما
من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هاذا حتى الجنة والنار ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال لا أدري أيتهما قالت أسماء يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهاذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن لا أدري أي ذالك قالت أسماء فيقول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فاجبنا وآمنا واتبعنا فيقال له نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا وأما المنافق أو المرتاب لا أدري أيتهما قالت أسماء فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
[/ نه
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فإذا الناس قيام يصلون (وإذا هي قائمة تصلي)، وقد مر هذا الحديث في: باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، في كتاب العلم. وأخرجه هناك عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن هشام عن فاطمة عن أسماء، وقد ذكرنا هناك أن البخاري أخرجه في مواضع. وأخرجه مسلم أيضا في الكسوف، وقد ذكرنا ما يتعلق به هناك مستقصى، وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، هي جدة فاطمة وهشام لأبويهما.
قوله: (فأشارت أي نعم) وفي رواية الكشميهني: (أن نعم)، بالنون بدل الياء آخر الحروف. والله أعلم.
85

11
((باب من أحب العتاقة في كسوف الشمس))
أي: هذا باب في بيان من أحب العتق في حالة كسوف الشمس، والعتاقة بفتح العين: الحرية: أي: من أحب عتق الرقيق سواء صدر الإعتاق منه أو من غيره. فإن قلت: ما فائدة تقييد حب العتاقة في الكسوف، وهو عمل محبوب في كل حال؟ قلت: لأن أسماء بنت أبي بكر هي التي روت قصة كسوف الشمس، وهذا قطعة منه، أما أن يكون هشام بن عروة حدث به هكذا، فسمعه منه زائدة بن قدامة، أو يكون زائدة اختصره.
4501 حدثنا ربيع بن يحيى قال حدثنا زائدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء قالت لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعتاقة في كسوف الشمس.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أمر بالعتاقة في الكسوف، وكل ما أمر به فهو محبوب.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: ربيع بن يحيى أبو الفضل البصري، مات سنة أربع وعشرين ومائتين، ويجوز فيه اللام وتركه كما في الحسن. الثاني: زائدة بن قدامة، وقد مر. الثالث: هشام بن عروة بن الزبير. الرابع: فاطمة بنت المنذر بن الزبير وهي زوجة هشام. الخامس: أسماء بنت أبي بكر الصديق، جدة فاطمة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن أول الرواة بصري والثاني كوفي والثالث مدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعية عن الصحابية. وفيه: رواية الرجل عن امرأته، ورواية المرأة عن جدتها.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الكسوف عن موسى بن مسعود وفي العتق عن محمد بن أبي بكر المقدمي. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن زهير بن حرب عن معاوية عن زائدة.
قوله: (لقد أمر) وفي رواية أبي داود: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر)، وفي رواية الإسماعيلي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم)، والظاهر أن الأمر للاستحباب ترغيبا للناس في فعل البر.
21
((باب صلاة الكسوف في المسجد))
أي: هذا باب في بيان صلاة الكسوف في المسجد.
5501 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن يهودية جاءت تسألها فقالت أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذالك. ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فكسفت الشمس فرجع ضحى فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الحجر ثم قام فصلى وقام الناس وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد سجودا طويلا ثم قام فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم سجد وهو دون السجود الأول ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دون الركوع الأول ثم سجد وهو دون السجود الأول ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني في المسجد، وقد صرح مسلم بذكر
86

المسجد في روايته هذا الحديث، وفيه: (فخرجت في نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان
يصلي فيه)، والأحاديث يفسر بعضها بعضا. وقد ذكر البخاري هذا الحديث في: باب التعوذ من عذاب القبر، قبل هذا الباب بأربعة أبواب، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى. والمركب الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه بسبب موت ابنه إبراهيم، عليه السلام، والله أعلم.
31
((باب لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته))
أي: هذا باب يذكر فيه لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته.
رواه أبو بكرة والمغيرة وأبو موساى وابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم
أي: روى الكلام المذكور وهو قوله: (لا تنكسف الشمس لموت أحد ولا لحياته)، هؤلاء الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وهم أبو بكرة نفيع بن الحارث، والمغيرة بن شعبة، وأبو موسى عبد الله بن قيس، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر. أما حديث أبي بكرة فقد رواه في أول أبواب الكسوف. وأما حديث المغيرة، فمضى في أول أبواب الكسوف، وعن قريب يأتي في: باب الدعاء في الكسوف أيضا. وأما حديث أبي موسى الأشعري فكذلك يأتي في: باب الذكر في الكسوف. وأما حديث ابن عباس فقد مضى في باب صلاة الكسوف جماعة. وأما حديث ابن عمر فقد مضى في أول أبواب الكسوف، وقد ذكر البخاري أيضا في هذا الباب حديث ابن مسعود، وحديث عائشة. وفي الباب مما لم يذكره عن جابر عند مسلم وعن عبد الله بن عمرو والنعمان بن بشير وقبيصة وأبي هريرة، كلها عند النسائي وغيره، وعن ابن مسعود وسمرة ابن جندب ومحمود بن لبيد عند أحمد، وغيره، وعن عقبة بن عمرو وبلال عند الطبراني وغيره، فهذه كلها تكذب من زعم أن الكسوف لموت أحد أو لحياة أحد.
7501 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل قال حدثني قيس عن أبي مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولاكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا.
(أنظر الحديث 1401 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: مسدد وقد تكرر ذكره. الثاني: يحيى بن سعيد القطان البصري الأحول. الثالث: إسماعيل بن أبي خالد الأخمسي الكوفي. الرابع: قيس بن أبي حازم الكوفي. الخامس: أبو مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع، وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن النصف الأول من الرواة بصري والنصف الثاني كوفي. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي. وفيه: أن الرواة الأربعة ذكروا بلا نسبة، والخامس ذكر بكنيته.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الكسوف عن شهاب بن عباد وفي بدء الخلق عن أبي موسى عن يحيى. وأخرجه مسلم في الخسوف عن يحيى بن يحيى وعن عبيد الله بن معاذ وعن يحيى بن حبيب وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن ابن أبي عمر. وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى القطان به، وأخرجه ابن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه به.
8501 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر عن الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فأطال القراءة ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه فأطال القراءة وهي دون قراءته الأولى ثم ركع فأطال الركوع دون ركوعه الأول ثم رفع رأسه فسجد سجدتين ثم
87

قام فصنع في الركعة الثانية مثل ذالك ثم قام فقال إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولاكنهما آيتان من آيات الله يريهما عباده فإذا رأيتم ذالك فافزعوا إلى الصلاة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وهشام هو ابن يوسف الصنعاني معمر بن راشد. قوله: (وهشام ابن عروة)، بالجر عطفا على الزهري.
41
((باب الذكر في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان الذكر عند كسوف الشمس.
رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
أي: روى الذكر في الكسوف عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في حديثه في: باب صلاة الكسوف جماعة، وفيه: (فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله).
9501 حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى ا. قال خسفت الشمس فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعا يخشى أن
تكون الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله وقال هاذه الآيات التي يرسل الله عز وجل لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولاكن يخوف الله به عباده فإذا رأيتم شيئا من ذالك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره.
مطابقته للترجمة في قوله: (فافزعوا إلى ذكر الله).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي. الثاني: أبو أسامة حماد بن زيد القرشي الكوفي. الثالث: بريد، بضم الباء الموحدة وفتح الراء: ابن عبد الله ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي. الرابع: جده أبو بردة اسمه الحارث بن أبي موسى، ويقال: عامر بن أبي موسى، ويقال: اسمه كنيته. الخامس: عبد الله بن قيس الأشعري.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رجال إسناده كوفيون. وفيه: ثلاثة مكيون، وفيه: رواية الرجل عن جده وجده عن أبيه.
والحديث أخرجه مسلم أيضا عن عبد الله بن براد وأبي كريب، وأخرجه النسائي عن موسى بن عبد الرحمن.
ذكر معناه: قوله: (فزعا) بكسر الزاي صفة مشبهة، ويجوز أن يكون بفتح الزاي ويكون مصدرا بمعنى الصفة. قوله: (يخشى) جملة في محل النصب على الحال. قوله: (أن يكون)، في محل النصب على أنه مفعول: يخشى. قوله: (الساعة)، بالنصب والرفع، أما النصب فعلى أن يكون خبر: يكون ناقصة، والضمير الذي فيه يرجع إلى الخسف الذي يدل عليه: (خسفت)، وأما الرفع فعلى أن يكون تكون تامة، قال الكرماني، وهذا تمثيل من الراوي كأنه قال: فزعا كالخاشي، أن تكون القيامة، وإلا فكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بأن الساعة لا تقوم، وهو بين أظهرهم، وقد وعده الله إعلاء دينه على الأديان كلها، ولم يبلغ الكتاب أجله. وقال النووي: قد يستشكل هذا من حديث أن الساعة لها مقدمات كثيرة لا بد من وقوعها: كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة والدجال وغيرها، وكيف الخشية من قيامها حينئذ، ويجاب بأنه: لعل هذا الكسوف كان قبل إعلامه صلى الله عليه وسلم بهذه العلامات، أو لعله خشي أن تكون بعض مقدماتها أو أن الراوي ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون صلى الله عليه وسلم خشي حقيقة، بل ربما خاف وقوع عذاب الأمة، فظن الراوي ذلك. قلت: كل واحد من هذه الأجوبة لا يخلو عن نظر، إذا تأمله الناظر، والأوجه في ذلك ما قاله الكرماني، أو أنه
88

صلى الله عليه وسلم جعل ما سيقع كالواقع إظهارا لتعظيم شأن الكسوف وتنبيها لأمته أنه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك ويفزعون إلى ذكر الله والصلاة والصدقة، لأن ذلك مما يدفع الله به البلاء. قوله: (رأيته قط يفعله) كلمة: قط، لا تقع إلا بعد الماضي المنفي، وهنا وقعت بدون كلمة: ما، مع أن في كثير من النسخ وقعت على الأصل، وهو: (ما رأيته قط يفعله)، ووجه ذلك: إما أن يقدر حرف النفي، كما في قوله تعالى: * (تالله تفتؤ تذكر يوسف) * (يوسف: 58). وإما أن لفظ: أطول، فيه معنى عدم المساواة أي: بما لم يساو قط قياما رأيته يفعله، وإما أن يكون قط بمعنى: حسب، أي: صلى في ذلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله، أو يكون بمعنى: أبدا، وينبغي أن تكون لفظة: قط، في النسخة التي ما تقدمها حرف النفي بفتح القاف، وسكون الطاء، لأنه حينئذ يكون بمعنى: حسب، فلا يقتضي حرف النفي. وأما إذا كان على بابه فهو بفتح القاف وضمها وتشديد الطاء وتخفيفها، وبفتحها وكسر الطاء المخففة. قوله: (هذه الآيات) أشار بها إلى الآيات التي تقع مثل: الكسوف والخسوف والزلزلة وهبوب الريح الشديدة ونحوها، ففي كل واحدة منها تخويف الله تعالى لعباده، كما في قوله تعالى: * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * (الإسراء: 95). ويفهم من هذا أن المبادرة والذكر والدعاء لا يختص بالكسوفين، وبه قال أصحابنا، وحكى ذلك عن أبي موسى، وقال بعضهم: لم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية. قلت: لم تنحصر الحجة بهذه الرواية بل في قوله: (افزعوا إلى ذكر الله) حجة لمن قال ذلك، لأن الصلاة يطلق عليها: ذكر الله، لأن فيها أنواعا من ذكر الله تعالى، وقد ورد ذلك في (صحيح مسلم): (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
51
((باب الدعاء في الخسوف))
أي: هذا باب في بيان الدعاء في الكسوف، وفي رواية كريمة وأبي الوقت: باب الدعاء في الخسوف.
قاله أبو موسى وعائشة رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أي: قال ما ذكر من الدعاء في الكسوف أبو موسى الأشعري، وهو في حديثه المذكور قبل هذا الباب، وهو قوله: (فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)، وأما حديث عائشة فقد تقدم في الباب الثاني، وهو: باب الصدقة في الكسوف، ولفظها: (فإذا رأيتم ذلك فادعو الله).
0601 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا زياد بن علاقة قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم فقال الناس انكسفت لموت إبراهيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي.
(أنظر الحديث 3401 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد تقدم في الباب الأول، أخرجه عن عبد الله بن محمد عن هاشم بن القاسم عن شيبان بن معاوية عن زياد بن علاقة عن المغيرة، وهذا من الخماسيات، والذي في هذا الباب من الرباعيات، وهناك: عن زياد عن المغيرة، وهنا: التصريح بسماعه من المغيرة، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي.
قوله: (رأيتموها) أي: الآية ويروى (رأيتموهما) بتثنية الضمير، يرجع إلى الشمس والقمر باعتبار كسوفهما. قوله: (حتى تنجلي) ويروى بالتذكير، والتأنيث، ووجههما ظاهر.
61
((باب قول الإمام في خطبة الكسوف أما بعد))
1601 وقال أبو أسامة حدثنا هشام قال أخبرتني فاطمة بنت المنذر عن أسماء قالت فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس فخطب فحمد الله بما هو أهله ثم قال أما بعد.
.
مطابقة هذا للترجمة ظاهرة، وقد ذكره في: باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد، في كتاب الجمعة. وقال محمود: حدثنا
89

أبو أسامة، قال: حدثنا هشام بن عروة، قال: أخبرتني فاطمة بنت المنذر (عن أسماء بنت أبي بكر الصديق، قالت: دخلت على عائشة والناس يصلون...) الحديث بطوله، وفيه: (وقد تجلت الشمس..) إلى أن قال: (أما بعد)، وقال مسلم: (عن أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وأبي كريب عن أبي أسامة فذكره، وقال أبو علي الجياني: وقع في رواية ابن السكن في إسناد هذا الحديث وهم، وذلك أنه زاد في الإسناد رجلا أدخل بين هشام وفاطمة عروة بن الزبير، والصواب: هشام عن فاطمة، والله أعلم، وقد تكلمنا فيه هناك بما فيه الكفاية.
71
((باب الصلاة في كسوف القمر))
أي: هذا باب في بيان الصلاة في كسوف القمر.
2601 حدثنا محمود قال حدثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين.
.
هذا طريق آخر في حديث أبي بكرة، وقد ذكرنا الكلام فيه مستقصى، ومطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: (فإذا كان ذلك) أي: الخسف في الشمس والقمر، وأبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن المنقري المقعد البصري، وعبد الوارث ابن سعيد. قوله: (وثاب إليه الناس) بالثاء المثلثة أي: اجتمع، وحديث أبي بكرة هذا بطرقه حجة للحنفية كما ذكرنا في أول أبواب الكسوف.
((باب صب المرأة على رأسها الماء إذا أطال الإمام القيام في الركعة الأولى))
90

قيل: وقعت هذه الترجمة للمستملي وليس فيه حديث مطابق لها، وقال صاحب (التوضيح): لم يذكر البخاري فيه حديثا فكأنه اكتفى بحديث أسماء الذي مضى في: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف. قلت: ما أبعد هذا عن القبول والأوجه ما قيل فيه: إن المصنف ترجم بها، وأخلى بياضا ليذكر لها حديثا أو طريقا كما جرت عادته فلم يحصل غرضه، وكان الأليق بهذه الترجمة حديث أسماء المذكور قبل سبعة أبواب فإنه نص فيه، ووقع في رواية أبي علي بن شبويه عن الفربري هكذا: باب صب المرأة إلى آخره: وقال في الحاشية: ليس فيه حديث، ثم ذكر.
81
((باب الركعة الأولى في الكسوف أطول))
أي: هذا باب في بيان أن الركعة الأولى في صلاة الكسوف أطول من الركعة الثانية، وهذه الترجمة هكذا وقعت للكشميهني والحموي، وليس في غالب نسخ البخاري الترجمة الأولى موجودة.
4601 حدثنا محمود قال حدثنا أبو أحمد قال حدثنا سفيان عن يحيى عن عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس أربع ركعات في سجدتين الأول أطول من الثاني.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومحمود هو: ابن غيلان المذكور عن قريب، وأبو أحمد هو: محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي وليس من ولد الزبير بن العوام، قال بندار: ما رأينا مثله أحفظ منه. وقال غيره: كان يصوم الدهر، مات سنة ثلاث ومائتين، وسفيان هو الثوري ويحيى هو ابن سعيد الأنصاري، وهذا الحديث قطعة من الحديث الطويل الذي في: باب صلاة الكسوف في المسجد، وكأنه مختصر منه بالمعنى، فإنه قال فيه: (ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول). وقال في هذا: (أربع ركعات في سجدتين الأولى أطول)، وأراد بقوله: (أربع ركعات أربع ركوعات)، وأراد بقوله: (في سجدتين)، يعني: ركعتين، وأطلق على الركعة سجدة من باب إطلاق الجزء على الكل، وهذا كما جاء في قوله: صلى الله عليه وسلم (من أدرك من الصلاة سجدة فقد أدركها) أي: ركعة. قوله: (فالأولى)، ويروى: (الأولى)، بدون الفاء أي: الركعة الأولى أطول، أي: من الركعة التالية، ويروى (الأول أطول من الثاني) أي: الركوع الأول أطول من الركوع الثاني
. وقال صاحب (التوضيح): وهذا كله حجة على أبي حنيفة في أن صلاة الكسوف ركعتان كسائر النوافل. قلت: ليت شعري لم لا يذكر حديث أبي بكرة الذي هو حجة عليه، على أنه لا خلاف بين أبي حنيفة والشافعي في أن صلاة الكسوف ركعتان، وإنما الخلاف في تكرار الركوع، كما مر تحقيقه فيما مضى، وفي مثل هذا لا يقال: هذا حجة على فلان وذاك على فلان، وإنما هذا اختيار، فأبو حنيفة اختار حديث أبي بكرة وغيره من الأحاديث التي ذكرناها عند الاحتجاج له، والشافعي اختار حديث عائشة وما أشبهه من الأحاديث الأخر، فأبو حنيفة لم يقل إذا كرر الركوع أن صلاته تفسد، والشافعي: لم يقل أنه إذا ترك التكرار تفسد، ولكن حمية العصبية توقع بعضهم في أكثر من هذا.
91
((باب الجهر بالقراءة في الكسوف))
أي: هذا باب في بيان الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، سواء كان الكسوف للشمس أو للقمر.
5601 حدثنا محمد بن مهران قال حدثنا الوليد قال أخبرنا ابن نمر سمع بن مسلم بن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته فإذا فرغ من قراءته كبر فركع وإذا رفع من الركعة قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات.
.
91

مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن مهران، بكسر الميم: أبو جعفر الجمال الرازي، قال البخاري: مات أول سنة تسع وثلاثين ومائتين أو قريبا منه. الثاني: الوليد بن مسلم القرشي الأموي مولاهم الدمشقي، مات سنة أربع وتسعين ومائة راجعا من مكة قبل أن يصل إلى دمشق. الثالث: عبد الرحمن بن نمر، بفتح النون وكسر الميم الدمشقي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب. الخامس: عروة بن الزبير بن العوام. السادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع في موضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: رواية التابعي عن التابعية عن الصحابية. وفيه: ابن نمر المذكور وليس له في (الصحيحين) غير هذا الحديث، وضعفه ابن معين، لكن تابعه الأوزاعي وغيره.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الكسوف عن محمد بن مهران مختصرا. وأخرجه أبو داود فيه: عن عمرو بن عثمان عن الوليد به مختصرا. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن عثمان بطوله وهو أتم الروايات وعن إسحاق بن إبراهيم عن الوليد به مختصرا. وأخرجه الترمذي عن محمد بن أبان عن إبراهيم بن صدقة عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة (عن عائشة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها). قال: هذا حديث حسن صحيح، واحتج بهذا الحديث مالك وأحمد وإسحاق في أن صلاة الكسوف يجهر فيها بالقراءة، حكى الترمذي ذلك عنهم، ثم حكى عن الشافعي مثل ذلك. وقال النووي في (شرح مسلم): إن مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والليث بن سعد وجمهور الفقهاء أنه: يسر في كسوف الشمس ويجهر في خسوف القمر، قال: وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق: يجهر فيهما وحكى الرافعي عن الصيدلاني أن مثله يروى عن أبي حنيفة، وقال محمد بن جرير الطبري: الجهر والإسرار سواء، وما حكاه النووي عن مالك هو المشهور عنه بخلاف ما حكاه الترمذي، فقد حكي عن مالك الإسرار، كقول الشافعي ابن المنذر في (الأشراف) وابن عبد البر في (الاستذكار). وقال أبو عبد الله المازري أن ما حكاه الترمذي عن مالك من الجهر بالقراءة رواية شاذة ما وقفت عليها في غير كتابه. قال: وذكرها ابن شعبان عن الواقدي عن مالك، وقال القاضي عياض في (الإكمال) والقرطبي في (المفهم): أن معن بن عيسى والواقدي رويا عن مالك الجهر، قالا: ومشهور قول مالك الإسرار فيها، وقال ابن العربي: روى المصريون أنه يسر، وروى المدنيون: أنه يجهر، قال: والجهر عندي أولى؟ فإن قلت: الحديث المذكور لا يدل على أن الخسوف للشمس، ولذلك من لم ير بالجهر حمله على كسوف القمر. قلت: قد روى الإسماعيلي هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ: (كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث، وروى إسحاق بن راهويه أيضا عن الوليد بن مسلم بإسناده إلى عائشة، رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في كسوف الشمس وجهر بالقراءة)، وقد احتج من قال: إنه يسر بالقراءة فيها بحديث سمرة بن جندب، قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس لا نسمع له صوتا)، رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة، والطحاوي: أخرجه من أربع طرق صحاح، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس قال: (ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف حرفا)، رواه الطحاوي والبيهقي، وأجاب من قال بالجهر بأنه، يجوز أن يكون ابن عباس وسمرة لم يسمعا من النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته تلك حرفا، والحال أنه صلى الله عليه وسلم قد جهر فيهما، ولكنهما لم يسمعا ذلك لبعدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فحكيا على ما شاهداه من ذلك، فإذا كان كذلك فهذا لا ينافي جهره صلى الله عليه وسلم بالقراءة فيهما، وكيف وقد ثبت الجهر عنه صلى الله عليه وسلم فيهما؟ فإن قلت: روى الشافعي (عن ابن عباس أنه قال: قمت إلى جنب النبي، صلى الله عليه وسلم، في خسوف الشمس فما سمعت منه حرفا). قلت: روى البيهقي هذا من ثلاث طرق كلها ضعيفة فرواه من رواية ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عكرمة (عن ابن عباس، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف فلم أسمع منه حرفا)، ورواه من رواية الواقدي عن عبد الحميد ابن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب، فذكر نحوه، قال: وبمعناه رواه الحكم بن أبان عن
عكرمة، ثم قال: وابن لهيعة، وإن كان غير محتج به في الرواية، وكذلك الواقدي والحكم بن أبان، فهم عدد. قال: وإنما روي الجهر عن الزهري فقط، وهو وإن كان حافظا فيشبه أن يكون العدد أولى بالحفظ من الواحد. قلت: ليس في الطرق التي ذكرها البيهقي أن ابن عباس قال
92

أنه كان إلى جنب النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يصح ذلك عن ابن عباس، ولو صح يحمل على فعله في وقت دون وقت، وروايات الجهر أصح.
6601 وقال الأوزاعي وغيره سمعت الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا بالصلاة جامعة فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات.
.
قال الكرماني: (وقال الأوزاعي)، عطف على: حدثنا ابن نمر، لأنه مقول الوليد. قلت: لأنه يشير بذلك إلى أنه موصول، وقد وصله مسلم: حدثنا محمد بن مهران الرازي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: قال الأوزاعي بن عمرو وغيره: سمعت ابن شهاب الزهري يخبر عن عروة (عن عائشة: أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مناديا ينادي: الصلاة جامعة، فاجتمعوا وتقدم فكبر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات). قوله: (وأربع سجدات) بالنصب على (أربع ركعات) قيل: لا يستدل برواية عبد الرحمن بن نمر في الجهر لأنه ضعيف، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وإن كان تابعه فإنه لم يذكر في روايته الجهر. وأجيب: بأن من ذكر حجة على من لم يذكره، ولا سيما الذي لم يذكره يتعرض لنفيه، وقد ثبت الجهر في رواية الأوزاعي عند أبي داود، قال: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي أخبرنا الأوزاعي أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير (عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة، فجهر بها) يعني في صلاة الكسوف.
قال الوليد وأخبرني عبد الرحمان بن نمر سمع ابن شهاب مثله
أعاد البخاري الإسناد المذكور إلى الوليد بن مسلم، وأدخل الواو فيه ليعطف على ما سبق منه، كأنه قال، الوليد: أخبرني عبد الرحمن بن نمر كذا، وأخبرني أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري مثله، أي: مثل الحديث الأول.
قال الزهري فقلت ما صنع أخوك ذالك عبد الله بن الزبير ما صلى إلا ركعتين مثل الصبح إذ صلى بالمدينة قال أجل إنه أخطأ السنة
أي: قال الزهري، وهو يخاطب عروة بن الزبير: ما صنع أخوك ذلك، وأشار به إلى ما فعله أخوه في صلاة الكسوف حيث صلى ركعتين مثل صلاة الصبح بلا تكرار الركوع، وقد مر هذا مستقصى في: باب خطبة الإمام في الكسوف.
قوله: (عبد الله بن الزبير) بالرفع عطف بيان لقوله: (أخوك)، وهو مرفوع لأنه فاعل: (صنع). قوله: (إذا صلى) أي: حين صلى عبد الله بالمدينة النبوية بركعتين مثل الصبح. قوله: (قال: أجل) أي: قال عروة: نعم إنه صلى كذا، لكنه أخطأ السنة. وفي رواية الكشميهني: (من أجل أنه أخطأ السنة)، فعلى هذه الرواية بفتح همزة أنه للإضافة، وعلى رواية غيره بكسر الهمزة، لأنه ابتداء كلام.
تابعه سفيان بن حسين وسليمن بن كثير عن الزهري في الجهر
أي: تابع عبد الرحمن بن نمر في روايته عن الزهري سليمان بن كثير ضد قليل العبدي، بالباء الموحدة. وأخرج هذه المتابعة موصولة أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث عنه بلفظ: (خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكبر فكبر الناس ثم قرأ فجهر بالقراءة). الحديث: قوله: (وسفيان) بالرفع عطفا على سليمان، أي: تابع عبد الرحمن بن نمر أيضا سفيان بن حسين عن الزهري، وقد انفرد الواسطي في روايته عن الزهري، وأخرج هذه المتابعة موصولة الترمذي: حدثنا أبو بكر محمد بن أبان حدثنا إبراهيم بن صدقة عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة (عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف وجهر بالقراءة فيها). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقال شيخنا زين
93

الدين: حديث عائشة له طرق، ولكن الذي ذكر فيه الجهر بالقراءة ثلاث طرق: رواية سفيان بن حسين عن الزهري، وقد انفرد الترمذي بوصلها وذكرها البخاري تعليقا، ورواية عبد الرحمن بن نمر عن الزهري، وقد اتفق على إخراجها البخاري ومسلم، ورواية الأوزاعي عن الزهري وقد انفرد بها أبو داود. قلت: له طرق أربعة أخرجها الطحاوي: عن عقيل بن خالد الأيلي قال: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا ابن لهيعة عن عقيل بن شهاب عن عروة (عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في كسوف الشمس)، وله طريق خامسة أخرجها الدارقطني عن إسحاق بن راشد عن الزهري، وهذه طرق متعاضدة يحصل بها الجزم في ذلك، فحينئذ لا يلتفت إلى تعليل من أعله بسفيان بن حسين وغيره، فلو لم تكن في ذلك إلا رواية الأوزاعي لكانت كافية، وقد روي الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، رواه الطحاوي: حدثنا علي بن شيبة حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان عن الشيباني عن الحكم (عن حنش: أن عليا، رضي الله تعالى عنه، جهر بالقراءة في كسوف الشمس). وأخرجه ابن خزيمة أيضا، وقال الطحاوي: وقد صلى علي، رضي الله تعالى عنه، فيما رويناه عن فهد بن سليمان عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن زهير عن الحسن بن الحر، قال: (وحدثنا الحكم عن رجل يدعى حنشا عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه صلى بالناس في كسوف الشمس كذلك، ثم حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل)، ولو لم يجهر النبي، صلى الله عليه وسلم، حين صلى علي معه لما جهر علي أيضا، لأنه علم أن السنة فلم يترك الجهر، والله أعلم.
71
((كتاب سجود القرآن))
1
((أبواب سجود القرآن))
أي: هذه أبواب في سجود القرآن، هكذا وقع في رواية المستملي، وفي رواية غيره: (باب ما جاء في سجود القرآن وسنتها) أي: سنة سجدة التلاوة، ووقع للأصيلي: (وسنته)، بتذكير الضمير أي: سنة السجود، وليس في رواية أبي ذر ذكر البسملة.
7601 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت الأسود عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة سجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال يكفيني هاذا فرأيته بعد ذالك قتل كافرا.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن الترجمة فيما جاء في سجود القرآن وهذه السورة أعني سورة النجم مما جاءت فيها السجدة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة: الملقب ببندار البصري وقد تكرر ذكره. الثاني: غندر، بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة على الأصح وبالراء: وهو لقب محمد ابن جعفر، مر في: باب ظلم دون ظلم. الثالث: شعبة بن الحجاج. الرابع: أبو إسحاق السبيعي، واسمه: عمرو بن عبد الله الكوفي. الخامس: الأسود بن زيد النخعي. السادس: عبد الله بن مسعود.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بصري وغندر بصري أيضا وشعبة واسطي وأبو إسحاق والأسود كوفيان. وفيه: غندر مذكور بلقبه، وأبو إسحاق بكنيته، وشعبة والأسود مذكوران بغير نسبة، وكذلك عبد الله. وفيه: من يروي عن زوج أمه وهو: غندر، لأنه ابن امرأة شعبة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في هذا الباب عن حفص بن عمر الحوضي، وفي مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عن سليمان بن حرب، وفي المغازي عن عبد الله عن أبيه، وفي التفسير عن نصر بن علي، وأخرجه مسلم
94

في الصلاة عن محمد بن المثنى وبندار، كلاهما عن غندر به. وأخرجه أبو داود فيه عن الحوضي به. وأخرجه النسائي فيه وفي التفسير عن إسماعيل بن مسعود عن خالد عن شعبة به مختصرا قرأ النجم فسجد فيها.
ذكر معناه: قوله: (قرأ النجم) أي: سورة والنجم. قوله: (بمكة) أي: في مكة، ومحلها النصب على الحال. قوله: (وسجد من معه) أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة: من، موصولة بمعنى: الذي. قوله: (غير شيخ) سماه في تفسير سورة النجم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق أمية بن خلف، ووقع في سير ابن إسحاق أنه الوليد بن المغيرة، وفيه نظر، لأنه لم يقتل، وقيل: عتبة بن ربيعة، وقيل: أبو أحيجة سعيد بن العاص، وفي النسائي: (عن المطلب بن أبي وداعة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد الناس معه، قال المطلب فلم أسجد معهم وهو يومئذ مشرك)، وفي لفظ: (فأبيت أن أسجد معهم، ولم يكن يومئذ أسلم، فلما أسلم قال: لا أدع السجود فيها أبدا). وقال ابن بزيزة: كان منافقا، وفيه نظر، لأن السورة مكية وإنما المنافقون في المدينة، وفي (المصنف) بسند صحيح (عن أبي هريرة، قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في النجم إلا رجلين من قريش، أراد بذلك الشهرة). قوله: (فرأيته) الرائي هو عبد الله بن مسعود، أي: رأيت الشيخ المذكور (بعد ذلك قتل كافرا) ببدر، ويروى: (فرأيته بعد قتل كافرا) بضم الدال، أي: بعد ذلك.
ذكر ما يتعلق بحكم هذا الباب: وهو على وجوه: الأول: في أن سبب وجوب سجدة التلاوة، التلاوة في حق التالي والسماع في حق السامع، وقال بعض أصحابنا: لا خلاف في كون التلاوة سببا، وإنما الاختلاف في سببية السماع، فقال بعضهم: هو سبب لقولهم السجدة على من سمعها، وهو اختيار شيخ الإسلام خواهر زاده، وقال بعضهم: ليس السماع بسبب، وقال الوبري: سبب وجوب سجدة التلاوة ثلاثة: التلاوة والسماع والاقتداء بالإمام وإن لم يسمعها ولم يقرأها، وللشافعية ثلاثة أوجه: الأول: أنه في حق السامع من غير قصد يستحب، وهو الصحيح المنصوص في البويطي وغيره، ولا يتأكد في حقه. الوجه الثاني: هو كالمستمع. والثالث: لا يسن له، وبه قطع أبو حامد والبندنيجي.
الثاني: أن سجدة التلاوة أسنة أم واجبة؟ فذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع، سواء قصد سماع القرآن، أو لم يقصد، واستدل صاحب (الهداية) على الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم: (السجدة على من سمعها، السجدة على من تلاها). ثم قال كلمة: على، للإيجاب، والحديث غير مقيد بالقصد. قلت: هذا غريب لم يثبت، وإنما روى ابن أبي شيبة في (مصنفه) (عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: السجدة على من سمعها). وفي البخاري (قال عثمان: إنما السجود على من استمع). واستدل أيضا بالآيات: * (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) * (الانشقاق: 02، 12). * (فاسجدوا لله واعبدوا) * (النجم: 26). واسجد واقترب) * (العلق: 91). وقالوا: الذم لا يتعلق إلا بترك واجب، والأمر في الآيتين للوجوب، وروى ابن أبي شيبة (عن حفص عن حجاج عن إبراهيم ونافع وسعيد ابن جبير: أنهم قالوا: من سمع السجدة فعليه أن يسجد). وعن إبراهيم بسند صحيح: (إذا سمع الرجل السجدة وهو يصلي فليسجد)، وعن الشعبي: (كان أصحاب عبد الله إذا سمعوا السجدة سجدوا، في صلاة كانوا أو غيرهآ). وقال شعبة: (سألت حمادا عن الرجل يصلي فيسمع السجدة؟ قال: يسجد). وقال الحكم مثل ذلك، وحدثنا هشيم: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول في الجنب: (إذا سمع السجدة يغتسل، ثم يقرؤها فيسجدها، فإن كان لا
يحسنها قرأ غيرها ثم يسجد). وحدثنا حفص (عن حجاج عن فضيل عن إبراهيم وعن حماد وسعيد بن جبير قالوا: إذا سمع الجنب السجدة اغتسل ثم سجد). وحدثنا عبيد الله ابن موسى عن أبان العطار عن قتادة عن سعيد بن المسيب (عن عثمان في الحائض تسمع السجدة؟ قال: تومىء برأسها، وتقول: اللهم لك سجدت). (وعن الحسن في رجل نسي السجدة من أول صلاته فلم يذكرها حتى كان في آخر ركعة من صلاته، قال: يسجد فيها ثلاث سجدات، فإن لم يذكرها حتى يقضي صلاته غير أنه لم يسلم معه، قال: يسجد سجدة واحدة ما لم يتكلم، فإن تكلم استأنف الصلاة). وعن إبراهيم: (إذا نسي السجدة فليسجدها متى ما ذكرها في صلاته)، وسئل مجاهد في رجل شك في سجدة وهو جالس لا يدري سجدها أم لا؟ قال مجاهد: إن شئت فاسجدها، فإذا قضيت صلاتك فاسجد سجدتين وأنت جالس، وإن شئت فلا تسجدها واسجد سجدتين وأنت جالس في آخر صلاتك). وذهب الشافعي ومالك في أحد قوليه وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود إلى: أنها سنة، وهو قول عمر وسلمان وابن عباس وعمران بن الحصين، وبه قال الليث وداود. وفي (التوضيح): وعند المالكية خلاف في كونها سنة أو فضيلة، واحتجوا بحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، الآتي:
95

(إن الله لم يكتب علينا السجود إلا أن نشاء)، وهذا ينفي الوجوب. قالوا: قال عمر هذا القول والصحابة حاضرون، والإجماع السكوتي حجة عندهم، واحتجوا أيضا بحديث زيد بن ثابت الآتي، (قال: قرىء على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها). وبحديث الأعرابي: (هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع). أخرجه البخاري ومسلم، وبحديث سلمان، رضي الله تعالى عنه؛ (أنه دخل المسجد وفيه قوم يقرأون فقرأوا السجدة، فسجدوا فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم؟ فقال ما لهذا غدونا). رواه ابن أبي شيبة.
واستدلوا بالمعقول من وجوه: الأول: أنها لو كانت واجبة لما جازت بالركوع كالصلبية. الثاني: أنها لو كانت واجبة لما تداخلت. الثالث: لما أديت بالإيماء من راكب يقدر على النزول. الرابع: أنها تجوز على الراحلة، فصار كالتأمين. الخامس: لو كانت واجبة لبطلت الصلاة بتركها كالصلبية.
الجواب عن حديث زيد بن ثابت أن معناه: أنه لم يسجد على الفور، ولا يلزم منه أنه ليس في النجم سجدة، ولا فيه نفي الوجوب. وعن حديث الأعرابي: أنه في الفرائض، ونحن لم نقل: إن سجدة التلاوة فرض، وما روي عن سلمان وعمر، رضي الله تعالى عنهما، فموقوف وهو ليس بحجة عندهم.
والجواب: عن دليلهم العقلي. أما عن الأول: فلان أداءها في ضمن شيء لا ينافي وجوبها في نفسها، كالسعي إلى الجمعة يتأدى بالسعي إلى الجمعة يتأدى بالسعي إلى التجارة. وعن الثاني: إنما جاز التداخل لأن المقصود منها إظهار الخضوع والخشوع، وذلك يحصل بمرة واحدة. وعن الثالث: لأنه أداها كما وجبت، فإن تلاوتها على الدابة مشروعة فكان كالشروع على الدابة في التطوع. وعن الرابع: كانت تلاوتها مشروعة على الراحلة فلا ينافي الوجوب. وعن الخامس: أن القياس على الصلبية فاسد، لأنها جزء في الصلاة، وسجدة التلاوة ليست بجزء الصلاة.
الثالث: في أنهم اختلفوا في عدد سجود القرآن على اثني عشر قولا: الأول: مذهبنا أنها: أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى في الحج، والفرقان، والنمل، وآلم تنزيل، وص، وحم السجدة، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. الثاني: إحدى عشرة، بإسقاط الثلاث من المفصل، وبه قال الحسن وابن المسيب وابن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء وطاووس ومالك في ظاهر الرواية، والشافعي في القديم، وروي عن ابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. الثالث: خمس عشرة، وبه قال المدنيون عن مالك، فكملتها: ثانية الحج، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله والليث وإسحاق وابن المنذر، ورواية عن أحمد، واختاره المروزي وابن شريح الشافعيان. الرابع: أربع عشرة، بإسقاط ص وهو أصح قولي الشافعي وأحمد. الخامس: أربع عشرة بإسقاط سجدة النجم، وهو قول أبي ثور. السادس: ثنتا عشرة، بإسقاط: ثانية الحج، وص، والانشقاق، وهو قول مسروق، رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عنه. السابع: ثلاث عشرة، بإسقاط ثانية الحج والانشقاق، وهو قول عطاء الخراساني. الثامن: أن عزائم السجود خمس: الأعراف، وبنو إسرائيل، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، وهو قول ابن مسعود رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عنه. التاسع: عزائمه أربع: آلم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، وهو مروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، رواه ابن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عباس عنه. العاشر: ثلاث، قاله سعيد بن جبير، وهي: آلم تنزيل، وحم تنزيل، والنجم، واقرأ باسم ربك، رواه ابن أبي شيبة عن داود يعني ابن أبي إياس عن جعفر عنه. الحادي عشر: عزائم السجود: آلم تنزيل، والأعراف، وحم تنزيل، وبنو إسرائيل، وهو مذهب عبد بن عمير. الثاني عشر: عشر سجدات، قالته جماعة. قال ابن أبي شيبة: حدثنا أسامة حدثنا ثابت بن عمارة عن أبي تميمة الهجيمي أن أشياخا من الهجيم بعثوا رسولا لهم إلى المدينة وإلى مكة يسأل لهم عن سجود القرآن، فأخبرهم أنهم أجمعوا على عشر سجدات، وذهب ابن حزم إلى أنها تسجد للقبلة ولغير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة، قال: وثانية الحج لا نقول بها أصلا في الصلاة، وتبطل الصلاة بها، يعني: إذا سجدت. قال لأنها لم تصح بها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع عليها، وإنما جاء فيها أثر مرسل. قلت: الظاهر أنه غفل وذهل، بل فيها حديث صحيح رواه الحاكم، (عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن العظيم، منها ثلاثة في المفصل. الرابع: السجدة في آخر الأعراف: * (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) * (الأعراف: 602). وفي الرعد عند: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو
96

والآصال) * (الرعد: 51). وفي النحل عند قوله: * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 94). وفي بني إسرائيل عند قوله: * (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) * (الإسراء: 901). وفي مريم عند قوله:
* (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) * (مريم: 85). وفي الأولى في الحج عند قوله: * (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض) * إلى قوله: * (إن الله يفعل ما يشاء) * (الحج: 08). وفي الفرقان عند قوله: * (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن) * إلى قوله: * (نفورا) * (الفرقان: 06). وفي النمل عند قوله: * (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) * (النمل: 52). وقال الشافعي ومالك عند قوله: * (رب العرش العظيم) * (النمل: 62). وفي آلم تنزيل عند قوله: * (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا) * إلى * (لا يستكبرون) * (السجدة: 51). وفي ص عند قوله: * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * (ص: 42). وبه قال الشافعي ومالك، وروى عن مالك عند قوله: * (وحسن مآب (ص: 52). وفي حم السجدة عند قوله: * (فإن استكبروا فالذين عند ربك) * إلى * (وهم لا يسأمون) * (فصلت: 83). وبه قال الشافعي في الجديد، وأحمد، وقال في القديم عند قوله: * (إن كنتم إياه تعبدون) * (فصلت: 73). وبه قال مالك. وفي النجم عند قوله: * (فاسجدوا لله) * (النجم: 26). وفي * (إذا السماء انشقت) * (الانشقاق: 1). عند قوله: * (فما لهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون) * (الانشقاق: 12). وعند ابن حبيب المالكي في آخر السورة وفي: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1). عند قوله: * (واسجد واقترب) * (العلق: 91). وفي مختصر البحر لو قرأ: * (واسجد) * (العلق: 91). وسكت، ولم يقل: * (واقترب) * (العلق: 91). تلزمه السجدة.
2
((باب سجدة تنزيل السجدة))
أي: هذا باب في بيان سجدة ألم تنزيل السجدة.
8601 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان.
(أنظر الحديث 198).
مطابقته للترجمة غير ظاهرة لأن الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر في يوم الجمعة هاتين السورتين، ولكن لا يفهم منه أنه كان يسجد فيها أو لا، مع أنه ذكر هذا الحديث في: باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، ورواه عن أبي نعيم عن سفيان إلى آخره نحوه، وسفيان هو الثوري و عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
قوله: (ألم تنزيل السجدة) وفي رواية الإسماعيلي * (ألم تنزيل) * و * (هل أتاك) *، وقال زاد الحسن حديث الغاشية، وقال: لم يذكر السجدة.
3
((باب سجدة ص
1764;))
أي: هذا باب في بيان سجدة سورة ص
1764;.
9601 حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان قالا حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال ص ليس من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
(الحديث 9601 طرفه في: 2243).
مطابقته للترجمة ظاهرة تؤخذ من قوله: (وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأل: سليمان بن حرب، بفتح الحاء المهملة وسكون الراء وفي آخره باء موحدة، وقد تقدم. الثاني: أبو النعمان، بضم النون: محمد بن الفضل السدوسي، وقد تقدم. الثالث: حماد بن زيد، وقد تقدم غير مرة. الرابع: أيوب السختياني. الخامس: عكرمة مولى ابن عباس. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أخبار الصحابي بالرؤية. وفيه: رواية البخاري عن اثنين من مشايخه. وفيه: أحدهما مذكور بكنيته. وفيه: أحد الرواة مفسر بنسبته. وفيه: اثنان بلا نسبة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري
97

أيضا في أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن موسى بن إسماعيل عن وهيب. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن موسى ابن إسماعيل به، وأخرجه الترمذي فيه عن ابن أبي عمر عن سفيان، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في التفسير عن عتبة بن عبد الله عن سفيان بمعناه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في ص * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 09)
[/ ح.
ذكر معناه: قوله: (ليس من عزائم السجود)، العزائم جمع عزيمة، وهي التي أكدت على فعلها مثل صيغة الأمر، مثلا قاله بعضهم، ولكن التمثيل بصيغة الأمر على
الإطلاق لا يصح لأن الأمر في نفسه يختلف، فتارة يدل على الوجوب وتارة على الاستحباب، وغير ذلك كما عرف في موضعه، بل معناه: ليس حق من حقوق السجود ولا واجب من واجباته، وقال الكرماني: عزائم السجود يعني ليس من السجدات المأمور بها، والعزيمة في الأصل عقد القلب على الشيء، ثم استعمل لكل أمر محتوم، وفي الاصطلاح ضد الرخصة التي هي ما ثبت على خلاف الدليل لعذر. قلت: لا يقال في الاصطلاح ضد الرخصة بل إنما يقال ذلك في اللغة.
ذكر ما يستنبط منه: لا خلاف بين الحنفية والشافعية في أن ص فيها سجدة تفعل وهو أيضا مذهب سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق غير أن الخلاف في كونها من العزائم أم لا، فعند الشافعي ليست من العزائم وإنما هي سجدة شكر تستحب في غير الصلاة، وتحرم فيها في الأصح، وهذا هو المنصوص عنده، وبه قطع جمهور الشافعية، وعند أبي حنيفة وأصحابه هي من العزائم، وبه قال ابن شريح وأبو إسحاق المروزي، وهو قول مالك أيضا. وعن أحمد كالمذهبين والمشهور منهما كقول الشافعي، ومثله قال أبو داود عن ابن مسعود لا سجود فيها، وقال: هي توبة نبي، وروى مثله عن عطاء وعلقمة، واحتج الشافعي ومن معه بحديث ابن عباس، هذا ولابن عباس حديث آخر في سجوده في ص أخرجه النسائي من رواية عمر بن أبي ذر عن أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص فقال: سجدها داود عليه السلام توبة، ونسجدها شكرا). وله حديث آخر أخرجه البخاري على ما يأتي، والنسائي أيضا في (الكبير) في التفسير عن عتبة بن عبد الله عن سفيان ولفظه: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ص * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 09). قلنا: هذا كله حجة لنا والعمل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من العمل بقول ابن عباس، وكونها توبة لا ينافي كونها عزيمة، وسجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا لما أنعم الله على داود، عليه السلام بالغفران والوعد بالزلفى وحسن مآب، ولهذا لا يسجد عندنا عقيب. قوله: * (وأناب) * (ص: 42). بل عقيب قوله: * (وحسن مآب) * وهذه نعمة عظيمة في حقنا، فكانت سجدة تلاوة لأن سجدة التلاوة ما كان سبب وجوبها إلا التلاوة، وسبب وجوب هذه السجدة تلاوة هذه الآية التي فيها الإخبار عن هذه النعم على داود، عليه السلام، وإطماعنا في نيل مثله، وروى أبو داود من حديث ابن سعيد قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد). وروى الطبراني في (الأوسط) من حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص) وروى الدارقطني أيضا كذلك، وفي (المصنف) قال ابن عمر: في ص سجدة، وقال الزهري: كنت لا أسجد في ص حتى حدثني السائب أن عثمان سجد فيها، وعن سعيد بن جبير أن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان يسجد في ص، وكان طاووس يسجد في، وسجد فيها الحسن والنعمان بن بشير، ومسروق وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن قيس (وعن أبي الدرداء قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم في ص) وعن عقبة بن عامر فيها السجود.
4
((باب سجدة النجم))
أي: هذا باب في بيان السجدة التي في سورة النجم.
قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: رواه أو حكاه عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن في سورة النجم سجدة، وتذكير الضمير المنصوب باعتبار السجود، وحديث ابن عباس يأتي في الباب الذي عقيب هذا الباب.
0701 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله
98

رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل من القوم كفا من حصي أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال يكفيني هاذا فلقد رأيته بعد قتل كافرا.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة والحديث مر في أول أبواب سجود القرآن رواه هناك عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة إلى آخره، وههنا رواه عن حفص بن عمر عن شعبة إلى آخره، وهناك عن أبي إسحاق قال: سمعت الأسود، وهنا: عن الأسود، وإسناد الذي هناك سداسي لأن فيه غندرا، وهو محمد بن جعفر بين ابن بشار وشعبة، وإسناد هذا خماسي وهناك: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم بمكة، وهنا لم يذكر بمكة، وهنا زاد (فما بقي أحد من القوم إلا سجد) أي: من القوم الحاضرين وسجوده صلى الله عليه وسلم في قراءة النجم كان بمكة، كما بينه البخاري مفسرا في حديث ابن مسعود، وفي حديث مخرمة بن نوفل قال: (لما أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أسلم أهل مكة كلهم، وذلك قبل أن تفرض الصلاة حتى إن كان ليقرأ السجدة فيسجدون، حتى ما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء من قريش، الوليد بن المغيرة وأبو جعل بن هشام وغيرهما وكانوا بالطائف في أرضهم فقالوا: تدعون دين آبائكم؟) هكذا رواه الطبراني في (المعجم الكبير): قال شيخنا زين الدين: ولا يصح ففي إسناده عبد الله بن لهيعة.
5
((باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء))
أي: هذا باب في بيان سجود المسلمين مع المشركين. قوله: (والمشرك نجس)، أي: والحال أن المشرك نجس. بكسر الجيم وفتحها، وقال ابن التين: ضبطناه بالفتح، وقال: القزاز إذا قالوه مع الرجس اتبعوه إياه، قالوا: رجس نجس، بكسر النون وسكون الجيم، والنجس، في اللغة: كل مستقذر
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسجد على غير وضوء
هكذا وقع في رواية الأكثرين، وفي رواية الأصيلي، بحذف: غير، وهذا هو اللائق بحاله لأنه لم يوافق ابن عمر أحد على جواز السجود بغير وضوء إلا الشعبي، ولكن الأصح: على غير وضوء، لما روى ابن أبي شيبة من طريق عبيد بن الحسن عن رجل زعم أنه كنفسه عن سعيد بن جبير، قال: (كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء ثم يركب فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ)، وذكر ابن أبي شيبة عن وكيع عن زكريا (عن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء، فكان يسجد). وروى أيضا: حدثنا أبو خالد الأحمر عن الأعمش عن عطاء (عن أبي عبد الرحمن، قال: كان يقرأ السجدة وهو على غير وضوء، وهو على غير القبلة، وهو يمشي فيومىء برأسه إيماء ثم يسلم). فإن قلت: روى البيهقي بإسناد صحيح عن الليث عن نافع (عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر). قلت: وفق بينهما بأن حمل قوله: (طاهر)، على الطهارة الكبرى، أو يكون هذا على حالة الاختيار، وذلك على حالة الضرورة، وقال ابن بطال معترضا على البخاري في هذه الترجمة: إن أراد الاحتجاج على قول ابن عمر بسجود المشركين فلا حجة فيه، لأن سجودهم لم يكن على وجه العبادة لله تعالى، وإنما كان لما ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهم ترتجى، بعد قوله تعالى: * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 91 و 02). فسجدوا لما سمعوا من تعظيم آلهتهم، فلما علم صلى الله عليه وسلم ما ألقى على لسانه حزن له فأنزل الله تسلية عما عرض له (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) أي إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، فلا يستنبط من سجودهم جواز السجود على غير الوضوء، لأن المشرك نجس لا يصح له الوضوء ولا السجود إلا بعد عقد الإسلام، وإن أراد الرد على ابن عمر. بقوله: (والمشرك نجس)، ليس له وضوء فهو أشبه بالصواب، وأجاب ابن رشيد بأن مقصود البخاري تأكيد مشروعية السجود بأن المشرك قد أقر على السجود، وسمى الصحابي فعله
99

سجودا مع عدم أهليته، فالمتأهل لذلك أحرى بأن يسجد على كل حال ويؤيده ما في حديث ابن مسعود أن الذي ما سجد عوقب بأن قتل كافرا، فلعل جميع من وفق للسجود يومئذ ختم له بالحسنى، فأسلم ببركة السجود. انتهى.
قلت: فيه بحث من وجوه:
الأول: أن تقريرهم على السجود لم يكن لاعتبار سجودهم، وإنما كان طمعا لإسلامهم.
الثاني: أن تسمية الصحابي فعلهم سجودا بالنظر إلى الصورة مع علمه بأن سجودهم كلا سجود، لأن السجود طاعة والطاعة موقوفة على الإيمان.
الثالث: أن قوله: ولعل جميع من وفق إلى آخره ظن وتخمين، فلا يبتنى عليه حكم، ثم الذي قاله ابن بطال: إنما كان لما ألقى الشيطان على لسانه صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره، موجود في كثير من التفاسير، ذكروا أنه لما قرأ سورة النجم، ووقع في السورة ذكر آلهتهم في قوله تعالى: * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 91 و 02). وسمعوا ذكر آلهتهم في القرآن فربما ظنوه أو بعضهم أن ذلك مدح لها، وقيل: إنهم سمعوا بعد ذكر آلهتهم: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى، فقيل: إن بعضهم هو القائل لها، أي: بعض المشركين، لما ذكر آلهتهم خشوا أن يذمها، فبدر بعضهم فقال ذلك، سمعه من سمعه وظنوا أو بعضهم أن ذلك من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن إبليس لعنه الله هو الذي قال ذلك حين وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه اللآية فظنوا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي قال ذلك وقيل: إن إبليس أجرى ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل قطعا. وما كان الله ليسلطه على نبيه وقد عصمه منه ومن غيره، وكذلك كون إبليس قالها وشبه صوته بصوت النبي صلى الله عليه وسلم باطل أيضا، وإذا كان لا يستطيع أن يتشبه به في النوم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح، وهو قوله: (من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي ولا يتمثل بي). فإذا كان لا يقدر على التشبه به في المنام من الرائي له، والنائم ليس في محل التكليف والضبط، فكيف يتشبه به في حالة استيقاظ من يسمع قراءته؟ هذا من المحال الذي لا يقبله قلب مؤمن، وهذا الحديث الذي ذكر فيه ذكر ذلك أكثر طرقه منقطعة معلولة، ولم يوجد لها إسناد صحيح ولا متصل إلا من ثلاثة طرق. أحدها: ما رواه البزار في مسنده قال: حدثنا يوسف بن حماد حدثنا أمية بن خالد حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب، أشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان بمكة فقرأ سورة النجم حتى انتهى إلى * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 91 و 02). فجرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى الشفاعة منهم ترتجى، قال: فسمع ذلك مشركو أهل مكة فسروا بذلك، فاشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنزل الله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته) * (الحج: 25). ثم قال البزار: ولا نعلمه يروى بإسناد متصل يجوز ذكره، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، قال: وإنما يعرف هذا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وفي تفسير أبي بكر بن مردويه عن سعيد بن جبير: لا أعلمه إلا عن ابن عباس أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قرأ النجم فلما بلغ: * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 91 و 02). ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وشفاعتها ترتجى، فلما بلغ آخرها سجد وسجد معه المسلمون والمشركون، فأنزل الله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * (الحج: 25). إلى قوله: * (عذاب يوم عقيم) * (الحج: 55). قال يوم بدر. والطريق الثاني رواية محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والطريق الثالث: ما رواه ابن مردويه في (تفسيره) قال: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا محمد بن سعيد حدثني أبي حدثنا عمي حدثنا أبي عن أبيه (عن ابن عباس قوله: * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 91 و 02). قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أنزلت عليه آلهة العرب، فسمع المشركون يتلوها، وقالوا إنه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا فبينما هو يتلوها ألقى الشيطان: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى، فعلق
يتلوها، فنزل جبريل، عليه السلام، فنسخها ثم قال: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي..) * (الحج: 25). الآية، وظاهر هذه الرواية الثالثة أن الآية أنزلت عليه في الصلاة، وأنه تلا ما أنزل عليه، وأن الشيطان ألقى عليه هذه الزيادة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم علق يتلوها يظن أنها أنزلت وأنه اشتبه عليه ما ألقاه الشيطان بوحي الملك إليه، وهذا أيضا ممتنع في حقه أن يدخل عليه فيما حقه البلاغ، وكيف يشتبه عليه مزج الذم بالمدح، فآخر الكلام وهو قوله: * (ألكم الذكر وله الأنثى) * (النجم: 12). الآيات رد لما ألقاه الشيطان على زعمهم، وجميع هذه المسانيد الثلاثة لا يحتج بشيء منها: أما الإسناد الأول: وإن كان رجاله ثقات فإن الراوي شك فيه كما أخبر عن نفسه، فإما شك
100

في رفعه، فيكون موقوفا. وفي وصله فيكون مرسلا، وكلاهما ليس بحجة خصوصا فيما فيه قدح في حق الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، بل لو جزم الثقة برفعه ووصله حملناه على الغلط والوهم، وأما الإسناد الثاني: فإن محمد بن السائب الكلبي ضعيف بالاتفاق، منسوب إلى الكذب، وقد فسر الكلبي في روايته الغرانقة العلى: بالملائكة، لا بآلهة المشركين، كما يقولون: إن الملائكة بنات الله، وكذبوا على الله فرد الله ذلك عليهم بقوله: * (ألكم الذكر وله الأنثى) * (النجم: 12). فعلى هذا فلعله كان قرآنا ثم نسخ لتوهم المشركين بذلك مدح آلهتهم. وأما الإسناد الثالث: فإن محمد بن سعد هو العوفي، وهو ابن سعد بن محمد بن الحسن ابن عطية العوفي، تكلم فيه الخطيب، فقال: كان لينا في الحديث، وأبوه سعد بن محمد بن الحسن بن عطية، قال فيه أحمد: لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعا لذلك، وعم أبيه: هو الحسين بن الحسن بن عطية، ضعفه ابن معين والنسائي وابن حبان وغيرهم، والحسن بن عطية ضعفه البخاري وأبو حاتم، وهذه سلسلة ضعفاء، ولعل عطية العوفي سمعه من الكلبي فإنه كان يروي عنه ويكنيه بأبي سعيد لضعفه، ويوهم أنه: أبو سعيد الخدري. وقال عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة. ولا رواة ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون، والمؤرخون المولعون بكل قريب، المتلقنون من الصحف كل صحيح وسقيم. قلت: الأمر كذلك، فإن غالب هؤلاء مثل الطرقية والقصاص وليس عندهم تمييز، يخبطون خبط عشواء، ويمشون في ظلمة ظلماء، وكيف يقال مثل هذا والإجماع منعقد على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة؟ ولو وقعت هذه القصة لوجدت قريش على المسلمين بها الصولة، ولأقامت عليهم اليهود بها الحجة، كما علم من عادة المنافقين وعناد المشركين، كما وقع في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة.
1701 حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
(الحديث 1701 طرفه في: 2684).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد تقدموا غير مرة، وعبد الوارث بن سعيد وأيوب السختياني. وأخرجه البخاري أيضا في التفسير عن أبي معمر، وأخرجه الترمذي في الصلاة عن هارون بن عبد الله بن البزار عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه به، وقال: حسن صحيح.
قوله: (سجد بالنجم) زاد الطبراني في (الأوسط) من هذا الوجه: بمكة، ويستفاد من ذلك أن قصة ابن عباس وابن مسعود متحدة. قوله: (وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس) قال النووي: إنه محمول على من كان حاضرا. قلت: يعكر عليه أن الألف واللام في المسلمين والمشركين أبطلت الجمعية، صارت لاستغراق الجنس وكذلك الألف واللام في: الجن والأنس، للاستغراق، فيشمل الحاضر والغائب، حتى روى البزار: (عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنده سورة النجم،. فلما بلغ السجدة سجد وسجدنا معه، وسجدت الدواة والقلم)، وإسناده صحيح. وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بآخر النجم والجن والإنس والشجر) فإن قلت: من أين علم الراوي أن الجن سجدوا؟ قلت: قال الكرماني: إما بإخبار النبي
* صلى الله عليه وسلم له، وإما بإزالة الله تعالى الحجاب. قلت: قال شيخنا زين الدين: الظاهر أن الحديث من مراسيل ابن عباس عن الصحابة، فإنه لم يشهد تلك القصة، خصوصا إن كانت قبل فرض الصلاة، كما تقدم في حديث مخرمة، ومراسيل الصحابة مقبولة على الصحيح، والظاهر أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يحدث به، وقال الكرماني: لفظ الإنس مكرر، بل لفظ الجن أيضا لأنه إجمال بعد تفصيل نحو: * (تلك عشرة كاملة) * (البقرة: 691). وقال أيضا: فإن قلت: لم سجد المشركون وهم لا يعتقدون القرآن (قلت) قيل لأنهم سمعوا أسماء أصنامهم حيث قال * (أفرأيتم اللات والعزى قال القاضي عياض كان سبب سجودهم فيما قال ابن مسعود، أنها أول سجدة نزلت قلت: استشكل هذا بأن: إقرأ باسم ربك، أول السور نزولا، وفيها أيضا سجدة، فهي سابقة على النجم. وأجيب: بأن السابق من إقرأ أولها، وأما بقيتها فنزلت بعد ذلك، بدليل قصة أبي جهل في نهيه للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، أو المراد: أول سورة استعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم، وهكذا رواه ابن مردويه في تفسيره.
101

ذكر ما يستنبط منه: احتج بهذا الحديث أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الله بن وهب وابن حبيب المالكي على أن سورة النجم فيها سجدة، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعكرمة وطاووس ومالك: ليس في سورة النجم سجدة، واحتجوا بحديث زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، الآتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وسنذكر الجواب عند ذكره، وروي في هذا الباب عن جماعة من الصحابة. منهم: أبو هريرة رواه عنه أحمد وقال: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في النجم إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة). ورجال إسناده ثقات. ومنهم: أبو الدرداء أخرج حديثه الترمذي من رواية أم الدرداء عنه. قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة، منها التي في النجم. ومنهم: عبد الله بن عمر، أخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية مصعب بن ثابت عن نافع (عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: والنجم، بمكة فسجد وسجد الناس معه حتى إن الرجل ليرفع إلى جبينه شيئا من الأرض فيسجد عليه،
وحتى يسجد على الرجل)، ومصعب بن ثابت مختلف فيه، ضعفه أحمد وابن معين ووثقه ابن أبي حبان، وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط. ومنهم: المطلب بن أبي وداعة، أخرج النسائي حديثه بإسناد صحيح من رواية ابنه جعفر بن المطلب عنه، قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد)، ولم يكن يومئذ أسلم المطلب. ومنهم: عمرو بن العاص، أخرج حديثه أبو داود وابن ماجة من رواية عبد الله بن نمير عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل). ومنهم: عائشة، رضي الله تعالى عنها: أخرج حديثها الطبراني في (الأوسط) من رواية عبد الرحمن بن بشير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة (عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنجم، فلما بلغ السجدة سجد). وعبد الرحمن بن بشير منكر الحديث. ومنهم: عمرو الجني، أخرج حديثه الطبراني أيضا من رواية عثمان بن صالح، قال: حدثني عمرو الجني قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النجم فسجد فيها). قال شيخنا زين الدين: وعثمان بن أبي صالح شيخ البخاري لم يدرك أحدا من الصحابة، فإنه توفي سنة تسع عشرة ومائتين، إلا أنه ذكر أن عمرا هذا من الجن، وقد نسبه أبو موسى في (ذيله): من الصحابة عمرو بن طلق، وقال الذهبي: عمرو الجني، قيل: هو ابن طلق، أورده أبو موسى، وقال: والعجب أنهم يذكرون الجن من الصحابة ولا يذكرون جبريل وميكائيل؟ قلت: لأن الجن آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مرسل إليهم، والملائكة ينزلون بالرسالة إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم.
ومما يستنبط منه: أن رؤية الإنس للجن لا تنكر، وأنكرت المعتزلة رؤية الإنس للجن، واستدل بعضهم بقوله تعالى: * (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) * (الأعراف: 72). مع قوله: * (إلا إبليس كان من الجن) * (فصلت: 05). وأجاب أهل السنة بأن هذا خرج مخرج الغالب في عدم رؤية الإنس الجن أو الشياطين، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان الذي أراد أن يقطع عليه صلاته، وأنه خنقه حتى وجد برد لسانه، وأنه قال: (لولا دعوة سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد...) الحديث، وثبت في الصحيح رؤية أبي هريرة له لما دخل ليسرق تمر الصدقة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: (تدري من تخاطب منذ ثلاث؟) وقال فيه: (صدقك وهو كذوب)، لكن أبا هريرة رآه في صورة مسكين على هيئة الإنس، وهو دال على أن الشياطين والجن يتشكلون في غير صورهم، كما تتشكل الملائكة في هيئة الآدميين، وقد نص الله في كتابه على عمل الجن لسليمان، عليه الصلاة والسلام، ومخاطبتهم له في قوله تعالى: * (قال عفريت من الجن: أنا آتيك به.) * (النمل: 93). الآية، ومثل هذا لا ينكر مع تصريح القرآن بذلك وثبوت الأحاديث الصحيحة.
ورواه ابن طهمان عن أيوب
أي: روى هذا الحديث إبراهيم بن طهمان، بفتح الطاء وسكون الهاء وبالنون، وقد مر في: باب تعليق القنديل في المسجد، رواه عن أيوب السختياني، وأخرج الإسماعيلي متابعته من حديث حفص عنه.
102

6
((باب من قرأ السجدة ولم يسجد))
أي: هذا باب في بيان من قرأ السجدة، أي: آية السجدة، والحال أنه لم يسجد. فإن قلت: ما الألف واللام في السجدة؟ قلت: لا يجوز أن تكون للجنس، لأنه صلى الله عليه وسلم سجد في كثير من آيات السجدة على ما ورد، والظاهر أنها للعهد، يرجع إلى السجدة التي في النجم. يعني: قرأ سجدة النجم ولم يسجد، والحديث فيه، فافهم.
2701 حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع قال حدثنا إسماعيل بن جعفر قال أخبرنا يزيد بن خصيفة عن ابن قسيط عن عطاء بن يسار أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه فزعم أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها.
(الحديث 2701 طرفه في: 3701).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني البصري، وقد تقدم في: باب علامات المنافق. الثاني: إسماعيل بن جعفر أبو إبراهيم الأنصاري المدني. الثالث: يزيد من الزيادة ابن عبد الله بن خصيفة، بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الفاء، مر في: باب رفع الصوت في المساجد. الرابع: ابن قسيط، بضم القاف وفتح السين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وبالطاء المهملة: وهو يزيد بن عبد الله بن قسيط، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة. الخامس: عطاء بن يسار، وقد تقدم غير مرة. السادس: زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع واحد، وبصيغة الإفراد في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السؤال. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون ما خلا شيخ البخاري. وفيه: أن شيخه ذكره مكنى، وفيه: من ذكر بأنه ابن فلان. وفيه: من نسب إلى جده وهو: يزيد بن خصيفة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في سجود القرآن عن آدم عن ابن أبي ذئب. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر. أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر به، وأخرجه أبو داود فيه عن هناد عن وكيع عن ابن أبي ذئب به. وأخرجه الترمذي فيه عن يحيى بن موسى
عن وكيع به، وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي فيه عن علي بن حجر به.
ذكر معناه: قوله: (سأل (زيد بن ثابت)، فيه المسؤول عنه محذوف، والظاهر أنه هو السجود في النجم، وأجاب بقوله: (أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد فيها). وقال بعضهم: وظاهر السياق يوهم أن المسؤول عنه السجود في النجم وليس كذلك، وقد بينه مسلم عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر بهذا الإسناد، وقال: (سألت زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنه قرأ النجم..) الحديث فحذف المصنف الموقوف لأنه ليس من غرضه في هذا المكان، ولأنه يخالف زيد بن ثابت في ترك القراءة خلف الإمام. قلت: هذا مردود من وجوه: الأول: قوله: يوهم، ليس كذلك، بل تحقق أن المسؤول عنه السجود في النجم، وذلك لأن حسن تركيب الكلام أن يكون بعضه ملتئما بالبعض، ورواية البخاري هكذا تقتضي ذلك. الثاني: قوله: فحذف المصنف الموقوف، لأنه ليس من غرضه في هذا المكان، كلام واه لأنه يقتضي أن يكون البخاري يتصرف في متن الحديث بالزيادة والنقصان لأجل غرضه وهو بريء من ذلك وإنما البخاري روى هذا الحديث عن أبي الربيع سليمان وسلم روى عن أربعة أنفس يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر، وهم وسليمان اتفقوا على روايتهم عن إسماعيل بن جعفر، فسليمان روى عنه بالسياق المذكور، والأربعة رووا عنه بالزيادة المذكورة، وما الداعي للبخاري أن يحذف تلك الزيادة لأجل غرضه؟ فلا ينسب ذلك إلى البخاري وحاشاه من ذلك. الثالث: قوله: ولأنه يخالف زيد بن ثابت، كلام مردود أيضا، لأن مخالفته لزيد بن ثابت في ترك القراءة
103

خلف الإمام لا يستدعي حذف ما قاله زيد، لأن هذا الموضع ليس في بيان موضع قراءة المقتدي خلف الإمام، وإنما الكلام والترجمة في السجدة في سورة النجم، وليس من الأدب أن يقال: يخالف البخاري مثل زيد بن ثابت، كذا في التصريح حتى لو سئل البخاري: أنت تخالف زيد بن ثابت في قوله هذا؟ لكان يقول: زيد بن ثابت ذهب إلى شيء لما ظهر عنده، وأنا ذهبت إلى شيء لما ظهر عندي، وكان يراعي الأدب ولا يصرح بالمخالفة، وأما متن حديث مسلم فهكذا: حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وابن حجر، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن ابن قسيط عن عطاء بن يسار أنه أخبره أنه سأل زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، عن القراءة مع الإمام، فقال: لا قراءة مع الإمام في شيء، وزعم أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم * (والنجم إذا هوى) * فلم يسجد، ففي رواية مسلم أجاب زيد بن ثابت عما سأله عطاء بن يسار، وأفاد بفائدة أخرى زائدة على ما سأله، ورواية البخاري إما وقعت مختصرة أو كان سؤال عطاء ابتداء عن سجدة النجم، فأجاب عن ذلك مقتصرا عليه، وكلا الوجهين جائزان فلا يتكلف في تصرف الكلام بالعسف. قوله: (فزعم)، هو يطلق على القول المحقق وعلى المشكوك فيه، والأول هو المراد هناك. قوله: (فلم يسجد فيها) أي: لم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم في سجدة النجم.
ذكر ما يستنبط منه: وهو على وجوه: الأول: احتج به مالك في المشهور عنه، والشافعي في القديم، وأبو ثور على: أنه لا يسجد للتلاوة في آخر النجم. وهو قول عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعكرمة وطاووس، ويحكى ذلك عن ابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأجاب الطحاوي عن ذلك فقال: ليس في الحديث دليل على أن لا سجود فيها لأنه قد يحتمل أن يكون ترك النبي صلى الله عليه وسلم السجود فيها حينئذ لأنه كان على غير وضوء فلم يسجد لذلك، ويحتمل أن يكون تركه لأنه كان وقتا لا يحل فيه السجود، ويحتمل أن يكون تركه لأن الحكم عنده بالخيار إن شاء سجد وإن شاء ترك، ويحتمل أن يكون تركه لأنه لا سجود فيها، فلما احتمل تركه السجود هذه الاحتمالات يحتاج إلى شيء آخر من الأحاديث نلتمس فيه حكم هذه السورة، هل فيها سجود أم لا؟ فوجدنا فيها حديث عبد الله بن مسعود الذي مضى فيما قبل فيه تحقيق السجود فيها، فالأخذ بهذا أولى، كان تركه في حديث زيد لمعنى من المعاني التي ذكرنا. وأجيب أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم: لم يسجد على الفور، ولا يلزم منه أن لا يكون فيه سجدة، ولا فيه نفي الوجوب.
الثاني: استدل به بعضهم على أن المستمع لا يسجد إلا إذا سجد القارئ لآية السجدة، وبه قال أحمد، وإليه ذهب القفال. وقال الشيخ أبو حامد والبغداديون: يسجد المستمع وإن لم يسجد القارئ، وبه قالت المالكية، وعند أصحابنا: يجب على القارئ والسامع جميعا، ولا يسقط عن أحدهما بترك الآخر.
الثالث: استدل به البيهقي وغيره على: أن السامع لا يسجد ما لم يكن مستمعا، قال: وهو أصح الوجهين، واختاره إمام الحرمين، وهو قول المالكية والحنابلة. وقال الشافعي في (مختصر البويطي): لا أؤكده عليه كما أؤكده على المستمع، وإن سجد فحسن، ومذهب أبي حنيفة: وجوبه على السامع والمستمع والقارىء، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن ابن عمر أنه قال: السجدة على من سمعها. ومن تعليقات البخاري قال عثمان: إنما السجود على من استمع.
3701 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها.
(أنظر الحديث 2701).
هذا طريق آخر في حديث زيد بن ثابت فإنه رواه من طريقين: الأول: عن سليمان عن إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة عن ابن قسيط. الثاني: هذا: عن آدم بن أبي إياس، واسمه: عبد الرحمن من أفراد البخاري عن إسماعيل بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، وبين متنيهما بعض تفاوت على ما لا يخفى.
104

7
((باب سجدة إذا السماء انشقت))
أي: هذا باب في بيان حكم سجدة سورة إذا السماء انشقت.
4701 حدثنا مسلم بن إبراهيم ومعاذ بن فضالة قالا أخبرنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة قال رأيت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قرأ إذا السماء انشقت فسجد بها فقلت يا أبا هريرة ألم أرك تسجد قال لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجد لم أسجد.
مطابقته للترجمة من حيث إن الحديث يبين أن هذه السورة فيها السجدة، والترجمة في بيان هذه السجدة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب البصري. الثاني: معاذ بن فضالة أبو زيد الزهراني البصري. الثالث: هشام بن أبي عبد الله الدستوائي. الرابع: يحيى بن أبي كثير. الخامس: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. السادس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: الرؤية. وفيه: أنه روى عن شيخين. وفيه: أن الثلاثة الأول من الرواة بصريون والرابع يمامي والخامس مدني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن المثني عن ابن أبي عدي عن هشام، وروي حديث أبي هريرة من طرق كثيرة، فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من رواية بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع واسمه نفيع، قال: (صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: إذا السماء انشقت، فسجد فيها. فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه). وأخرجه مسلم والنسائي من رواية عبد الله بن يزيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم وأصحاب السنن من رواية سعيد بن مينا: (عن أبي هريرة، قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ باسم ربك) * وأخرج مسلم من رواية صفوان بن سليم وعبيد الله بن أبي جعفر عن عبد الرحمن الأعرج، وروى في هذا الباب عن غير أبي هريرة، فأخرج البزار وأبو يعلى في (مسنديهما) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه: (عبد الرحمن بن عوف، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد في * (إذا السماء انشقت) * واختلف فيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأختلف في سماع أبي سلمة عن أبيه، وروى الطبراني في (الكبير) من رواية ذر بن حبيش (عن صفوان بن عسال أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في * (إذا السماء انشقت) *. وإسناده ضعيف.
ذكر معناه: قوله: (قرأ: * (إذا السماء انشقت) *) أي: قرأ سورة: * (إذا السماء انشقت) *. قوله: (فسجد بها) أي: سجد فيها، والباء للظرفية، وفي رواية الكشميهني: (فسجد فيها). قوله: (لم أرك تسجد) استفهام استخبار لا استفهام إنكار، كما قاله البعض، وهو غير صحيح.
ذكر ما يستنبط منه: احتج بهذا الحديث أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد والقاضي عبد الوهاب المالكي على أن في سورة * (إذا السماء انشقت) * سجدة تلاوة. فإن قلت: روى أبو داود: حدثنا محمد بن رافع حدثنا أزهر بن القاسم قال محمد: رأيته بمكة، حدثنا أبو قدامة عن مطر الوراق عن عكرمة (عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة)، وذهب إليه مجاهد والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض الشافعية. فقالوا: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في المفصل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة ترك ذلك، واحتجوا بهذا الحديث. قلت: قال الطحاوي: وهذا ضعيف، ولو ثبت لكان فاسدا، وذلك أن أبا هريرة قد روينا عنه، وأشار إلى الحديث المذكور في هذا الباب، وغيره مما ذكرناه عن قريب، وهو قوله: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في * (إذا السماء انشقت) * و * (اقرأ باسم ربك) *) وإسلام أبي هريرة ولقاؤه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان بالمدينة قبل وفاته بثلاث سنين، فدل ذلك على فساد ما ذهب إليه أهل تلك المقالة. وقال عبد الحق في أحكامه: إسناد حديث ابن عباس هذا ليس بقوي، ويروى مرسلا، والصحيح حديث أبي هريرة. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منكر، وأبو قدامة ليس بشيء. وقال ابن القطان في كتابه: وأبو قدامة الحارث بن عبيد قال فيه
105

ابن حنبل: مضطرب الحديث، وضعفه ابن معين، وقال الساجي: صدوق وعنده مناكير، وقال أبو حاتم: كان شيخا صالحا وكثر وهمه، ومطر الوراق كان سيىء الحفظ حتى كان يشبه في سوء الحفظ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه.
8
((باب من سجد لسجود القارىء))
أي: هذا باب في بيان حكم من سجد للتلاوة لأجل سجود القارئ، وحكمه أنه ينبغي أن يسجد لسجود القارئ حتى قال ابن بطال: أجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد، كذا أطلق، ولكن فيه خلاف، وقد ذكرنا فيما مضى أنهم اختلفوا في السامع الذي ليس بمستمع، وهو الذي لم يقصد الاستماع، ولم يجلس له فقال الشافعي في (مختصر البويطي): لا أؤكده وإن سجد فحسن، وعند الحنفية: يجب على القارئ والسامع والمستمع، وقد ذكرنا دلائلهم عن قريب، وقال بعضهم: في الترجمة إشارة إلى أن القارئ إذا لم يسجد لم يسجد السامع. قلت: ليس كذلك، لأن تعلق السجدة بالسامع، سواء كان من حيث الوجوب أو من حيث السنية، لا يتعلق بسجدة القارئ، بل بسماعه يجب عليه أو يسن على الخلاف، وسواء في ذلك سجود القارئ وعدمه.
وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة فقال إسجد فإنك إمامنا فيها
تميم، بفتح التاء المثناة من فوق، وحذلم، بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح اللام: أبو سلمة الضبي وهو تابعي روى عنه ابنه أبو الخير، وفي (تذهيب التهذيب): تميم بن حذلم الضبي أبو سلمة، أدرك أبا بكر وعمر وصحب ابن مسعود وروى عنه إبراهيم النخعي وسماك بن سلمة الضبي والعلاء بن بدر وآخرون، وروى له البخاري في (كتاب الأدب)، وهذا التعليق وصله سعيد بن منصور من رواية مغيرة (عن إبراهيم قال: قال تميم بن حذلم: قرأت القرآن على عبد الله وأنا غلام فمررت بسجدة فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها). وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) نحوه حدثنا ابن فضيل عن الأعمش عن أبي إسحاق (عن سليم ابن حنظلة،
قال: قرأت على عبد الله بن مسعود سورة بني إسرائيل، فلما بلغت السجدة قال عبد الله: إقرأها فإنك إمامنا فيها). وقال البيهقي: حدثنا علي بن محمد بن بشران أخبرنا أبو جعفر الرازي حدثنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال: قرأت السجدة عند ابن مسعود، فنظر إلي فقال: أنت إمامنا فاسجد نسجد معك، وفي (سنن سعيد بن منصور) من حديث إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي هريرة: (قرأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم سجدة فلم يسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت قرأت، ولو سجدت سجدنا معك). وروى البيهقي من حديث عطاء بن يسار قال: (بلغني أن رجلا قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن فيها سجدة، فسجد الرجل وسجد النبي صلى الله عليه وسلم معه، ثم قرأ آخر آية فيها سجدة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فانتظر الرجل أن يسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد، فقال الرجل: يا رسول الله قرأت السجدة فلم تسجد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنت إمامنا فيها، فلو سجدت سجدنا معك). قوله: (وهو غلام) جملة حالية. قوله: (فقال) أي: في السجدة، ومعنى قوله: (إمامنا) أي: متبوعنا، لتعلق السجدة بنا من جهتك أسجد أنت نسجد نحن أيضا، وليس معناه: إن لم تسجد لا نسجد، وذلك لأن السجدة كما تتعلق بالتالي تتعلق بالسامع، فإن لم يسجد التالي لا تسقط عن السامع، وهذا مذهب أصحابنا. وقالت المالكية: يسجد المستمع من دون السامع. وقالت الحنابلة: لا يسجد المستمع إلا إذا سجد القارئ، وقال البيهقي في (الخلافيات): إذا لم يسجد التالي فلا يسجد السامع في أصح الوجهين، فإن كان القارئ لها في الصلاة يسجد إن كان منفردا أو إماما ويسجد السامع له إن كان مأموما معه وسجد إمامه، فإن لم يسجد إمامه لم يسجد بلا خلاف، فإن سجد بطلت صلاته عندهم. وعند أبي حنيفة: يسجد بعد فراغه من الصلاة بناء على أصله، فإن سجدها في الصلاة لا تبطل، ولم تجزه عن الوجوب
106

وعليه إعادتها خارج الصلاة. وقال صاحب (الهداية): وفي (النوادر): أنه تفسد صلاته بالسجود فيها في هذه الحال. قال): وقيل: هو قول محمد بن الحسن. وقالت المالكية: يسجد المنفرد لقراءة نفسه في النافلة، وكذا إذا كان إماما فيها دون الفريضة.
5701 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا موضع جبهته.
مطابقته للترجمة ظاهرة وهي سجود القوم لسجدة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحيى هو ابن سعيد القطان وعبد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
أخرجه البخاري أيضا عن صدقة بن الفضل. وأخرجه مسلم في الصلاة عن زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد ومحمد بن المثنى، وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل.
قوله: (حتى ما يجد أحدنا) أي: بعضنا، وليس المراد منه كل واحد ولا واحدا معينا.
ويستفاد منه: أن السجدة واجبة عند قراءة آية السجدة، وسواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة على القارئ والسامع، وقال ابن بطال: فيه: الحرص على فعل الخير والمسابقة إليه. وفيه: لزوم متابعة أفعاله صلى الله عليه وسلم.
9
((باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة))
أي: هذا باب في بيان ازدحام الناس... إلى آخره، وذلك لضيق المقام وكثرة الناس.
6701 حدثنا بشر بن آدم قال حدثنا علي بن مسهر قال أخبرنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السجدة ونحن عنده فيسجد ونسجد معه فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعا يسجد عليه.
.
هذا طريق آخر في الحديث المذكور في الباب السابق ذكره لأجل هذه الترجمة، و: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن آدم الضرير أبو عبد الله البغدادي، بصري الأصل وليس له في البخاري إلا هذا الموضع الواحد، وفي طبقته: بشر بن آدم بن يزيد بصري أيضا وهو ابن بنت أزهر السمان، وفي كل منهما مقال. ومسهر، بضم الميم: من الإسهار، وعبيد الله هو ابن عمر المذكور في الباب الذي قبله. قوله: (ونحن عنده)، جملة حالية. قوله: (فيسجد) أي: النبي صلى الله عليه وسلم ونسجد نحن معه. قوله: (يسجد عليه)، جملة في محل النصب لأنها وقعت صفة لقوله: (موضعا). وقال ابن بطال: كان عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، يقول: من لا يقدر على السجود على الأرض من الزحام في صلاة الفريضة يسجد على ظهر أخيه وبه قال الثوري والكوفيون والشعبي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال نافع، مولى ابن عمر: يومىء إيماء. وقال عطاء والزهري: يمسك عن السجود فإذا رفعوا سجد هو، وهو قول مالك وجميع أصحابه، وقال مالك: إن سجد على ظهر أخيه يعيد الصلاة، وذكر ابن شعبان في (مختصره) عن مالك قال: يعيد في الوقت وبعده. وقال أشهب: يعيد في الوقت. وقال عمر، رضي الله تعالى عنه: أسجد ولو على ظهر أخيك، فعلى قول من أجاز السجود في صلاة الفريضة من الزحام على ظهر أخيه فهو أجوز عنده في سجود القرآن، لأن السجود في الصلاة فرض بخلافه، وعلى قول عطاء والزهري ومالك: يحتمل أن تجوز عندهم سجدة التلاوة على ظهر رجل، وأما على غير الأرض فكقول الجمهور، ويحتمل خلافهم، واحتمال وفاقهم أشبه لحديث ابن عمر.
01
((باب من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود))
أي: هذا باب في بيان حكم من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، وكأن من رأى ذلك يحمل الأمر في قوله:
107

(اسجدوا). وقوله: (واسجد) على الندب، أو على أن المراد به سجود الصلاة أو في الصلاة المكتوبة على الوجوب، وفي سجدة التلاوة على الندب؟ قلت: الأمر إذا جرد عن القرائن يدل على الوجوب لتجرده عن القرينة الصارفة عن الوجوب، وحمله على سجود الصلاة يحتاج إلى دليل، واستعماله في الصلاة المكتوبة على الوجوب وفي سجدة التلاوة على الندب استعمال لمفهومين مختلفين في حالة واحدة، وهو ممتنع.
وقيل لعمران بن حصين الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها قال أرأيت لو قعد لها كأنه لا يوجبه عليه
هذا وما بعده من أثر سليمان، ومن كلام الزهري وفعل السائب بن يزيد داخلة في الترجمة، ولهذا عطفه بالواو، وأثر عمران الذي علقه وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) بمعناه قال: حدثنا عبد الأعلى عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرف قال: وسألته عن الرجل يتمادى في السجدة أسمعها أو لم يسمعها؟ قال: وسمعها فماذا؟ ثم قال مطرف: سألت عمران بن حصين عن الرجل لا يدري أسمع السجدة أم لا؟ قال: وسمعها فماذا؟
قوله: (ولم يجلس لها) أي: لقراءة السجدة قال أي عمران أرأيت أي أخبرني قوله (الوقعة لها) أي للسجدة وجواب لو محذوف يعني لا يجب عليه شيء قوله كأنه لا يوجبه عليه من كلام البخاري، أي: كأن عمران لا يوجب السجود على الذي قعد لها للاستماع، فإذا لم يوجب على المستمع فعدمه على السامع بالطريق الأولى. قلت: يعارض هذا أثر ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: السجدة على من سمعها. رواه ابن أبي شيبة، وكلمة: على للإيجاب مطلق عن قيد القصد، فتجب على كل سامع سواء كان قاصدا للسماع أو لم يكن.
وقال سلمان ما لهاذا غدونا
سلمان هذا هو الفارسي، هو قطعة من أثره علقه البخاري ووصله ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن، قال: دخل سلمان الفارسي المسجد وفيه قوم يقرأون فقرأوا سجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لو أتينا هؤلاء؟ قال: ما لهذا غدونا). وأخرجه البيهقي أيضا. وأخرجه عبد الرزاق من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال: (مر سلمان على قوم قعود فقرأوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا). قوله: (ما لهذا غدونا) أي: ما غدونا لأجل السماع، فكأنه أراد بيان إنا لم نسجد لأنا ما كنا قاصدين السماع.
وقال عثمان رضي الله تعالى عنه إنما السجدة على من استمعها
هذا التعليق وصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عثمان مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن ابن المسيب عن عثمان، قال: إنما السجدة على من جلس لها.
قوله: (على من استمعها) يعني: لا على السامع. قال الكرماني: والفرق بينهما أن المستمع من كان قاصدا للسماع مصغيا إليه، والسامع من اتفق سماعه من غير قصد إليه. قلت: هذه الآثار الثلاثة لا تدل على نفي وجوب السجدة على التالي، والترجمة تدل على العموم، فلا مطابقة بينهما من هذا الوجه، ورواية ابن أبي شيبة تدل على وجوب السجدة عند عثمان على الجالس لها، سواء قصد السماع أو لم يقصده.
وقال الزهري لا تسجد إلا أن
108

تكون طاهرا فإذا سجدت وأنت في حضر فاستقبل القبلة فإن كنت راكبا فلا عليك حيث كان وجهك
الزهري: هو محمد بن مسلم بن شهاب، وصل هذا عبد الله بن وهب عن يونس عنه بتمامه. قوله: (لا تسجد إلا أن تكون طاهرا) يدل على أن الطهارة شرط لأداء سجدة التلاوة، وفيه خلاف ابن عمر والشعبي، وقد ذكرناه. قال بعضهم: قيل: قوله: (لا تسجد إلا أن تكون طاهرا)، ليس بدال على عدم الوجوب، لأن المدعي يقول: علق على شرط وهو وجود الطهارة، فحيث وجد الشرط لزم. قلت: هذا كلام واه، كيف ينقله من له وجه إدرك؟ لأن أحدا هل قال: يلزم من وجوب الشرط وجود المشروط، والشرط خارج عن الماهية والوجوب، وعدم الوجوب يتعلق بالماهية لا بالشرط، وغايته أنه إذا ثبت وجوبه يشترط له الطهارة للأداء، والجواب: إن موضع الترجمة من هذا الأثر قوله: (فإن كنت راكبا فلا عليك حيث كان وجهك)، لأن هذا دليل النفل، إذ الفرض لا يؤدى على الدابة في الأمن. قلت: كيف يطابق هذا الجواب لقول هذا القائل المذكور وبينهما بعد عظيم؟ يظهر بالتأمل على أن الحنفي لا يقول بفرضيته، حتى يقال: الفرض لا يؤدى على الدابة قوله: (وإن كنت راكبا)، قال الكرماني: أي: في السفر بقرينة كونه قسيما لقوله: (في حضر)، والركوب كناية عن السفر، لأن السفر مستلزم له. قلت: لا نسلم تقييد الراكب بالسفر، لأنه أعم من أن يكون راكبا في الحضر أو السفر. وقوله: والركوب كناية، فيه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة، وقوله: لأن السفر مستلزم له، أي: للركوب، غير صحيح، لأنه يكون بالمشي أيضا. قوله: (لا عليك) أي: لا بأس عليك أن لا تستقبل القبلة عند السجود.
وكان السائب بن يزيد لا يسجد لسجود القاص
السائب بن يزيد من الزيادة ابن أخت نمر الكندي، ويقال: الليثي، ويقال الأزدي، ويقال: الهذلي أبو يزيد الصحابي المشهور، مات سنة إحدى وتسعين، وقد مر ذكره في: باب استعمال فضل وضوء الناس، والقاص، بالقاف وتشديد الصاد المهملة: الذي يقص الناس الأخبار والمواعظ. قال الكرماني: ولعل سببه أنه ليس قاصدا
لقراءة القرآن قلت: لعل سببه أن لا يكون قصده السماع، أو كان سمعه ولم يكن يستمع له، أو كان لم يجلس له فلا يسجد.
7701 حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة عن عثمان بن عبد الرحمان التيمي عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي قال أبو بكر وكان ربيعة من خيار الناس عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر رضي الله تعالى عنه.
مطابقته للترجمة غير تامة لأن فيه: (نزل فسجد)، فهذا يدل على أنه كان يرى السجدة مطلقا سواء كان على سبيل الوجوب أو السنية. وقوله أيضا: (وسجد الناس)، يدل على ذلك، إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك لمنعهم. فإن قلت: قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، يدل على نفي الوجوب. قلت: لا نسلم، لأنه يحتمل أنه ليس على الفور فلا يأثم بتأخيره، فلا يلزم من ذلك عدم الوجوب. فإن قلت: قوله: (ولم يسجد عمر) يدل على خلاف ما قلت قلت: لا نسلم لاحتمال إنه لم يسجد في ذلك الوقت لعارض، مثل انتقاض الوضوء، أو يكون ذلك منه إشارة إلى أنه ليس على الفور. فإن قلت: ما ذكرت من الاحتمالات ينفي ما قلت. قلت: لا نسلم، لأنه روي عن عمر ما يؤكد ما ذهبنا إليه، وهو ما رواه الطحاوي: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو داود وروح، قالا: حدثنا شعبة، قال: (أنبأني سعد بن إبراهيم قال: سمعت ابن أخت لنا، يقال له عبد الله بن ثعلبة، قال: صلى بنا عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، الصبح فيما أعلم، ثم قال سعد: صلى بنا الصبح فقرأ بالحج وسجد فيها سجدتين). وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن غندر وعن شعبة إلى آخره نحوه، ومما يؤكد ما قلنا. قوله: (فمن سجد فقد أصاب السنة)، والسنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالسجدة في مواضع السجود في القرآن، فدل هذا كله أنه سنة مؤكدة، ولا فرق بينها وبين الواجب، فسقط بهذا قول من قال: وأقوى الأدلة على نفي الوجوب حديث
109

عمر المذكور في هذا الباب. فافهم.
ذكر رجال الأثر المذكور وهم سبعة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد التميمي الفراء أبو إسحاق الرازي يعرف بالصغير. الثاني: هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني اليماني قاضيها، مات سنة سبع وتسعين ومائة باليمن. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبو الوليد المكي. الرابع: أبو بكر بن أبي مليكة، بضم الميم وفتح اللام: واسمه عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله أبو محمد الأحول كان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له، مر في: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله. الخامس: عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي القرشي. السادس: ربيعة بن عبد الله بن الهدير، بضم الهاء وفتح الدال: أبو عثمان التيمي القرشي المدني. السابع: عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: توثيق أحد الرواة شيخ شيخه الذي روى عنه. وفيه: أن أبا بكر بن أبي مليكة ليس له في البخاري غير هذا الحديث، ولأبيه صحبة ورواية، وكذلك ربيعة ليس له في البخاري غير هذا الحديث. وقال ابن سعد: ولد ربيعة في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وفيه: رواية ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض، وهم: أبو بكر وعثمان وربيعة. وفيه: أن عثمان بن عبد الرحمن من أفراد البخاري، رضي الله تعالى عنه.
ذكر معناه: قوله: (عما حضر ربيعة من عمر، رضي الله تعالى عنه) يتعلق بقوله: (أخبرني). فإن قلت: (عن عثمان) يتعلق به، فإذا تعلق به: عما حضر، يكون حرفا جر يتعلقان بفعل واحد، وهو لا يجوز. قلت: يتعلق الأول بمحذوف تقديره: أخبرني أبو بكر راويا عن عثمان عن حضورة مجلس عمر، رضي الله تعالى عنه. وكلمة: ما، في عما مصدرية، و: ربيعة، بالرفع فاعل: حضر. قوله: (قرأ) أي: أنه قرأ يوم الجمعة. قوله: (بها) أي: بسورة النحل. قوله: (إنما نمر)، رواية الكشميهني، ورواية غيره (إنا نمر) بدون الميم. قوله: (السجود) أي: بآية السجود. قوله: (فلا إثم عليه). قالوا: هذا دليل صريح في عدم الوجوب، وقال الكرماني: وهذا كان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه، وكان إجماعا سكوتيا على ذلك. قلت: هذه إشارة إلى أنه لا إثم عليه في تأخيره من ذلك الوقت.
ذكر من أخرجه: هو من أفراد البخاري، ورواه أبو نعيم من حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج من طريقين. وأخرجه سعيد بن منصور أيضا وإسماعيل من طريق ابن جريج أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة أن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أخبره عن ربيعة بن عبد الله أنه حضر عمر، فذكره. وقوله: عبد الرحمن بن عثمان، مقلوب والصحيح: عثمان بن عبد الرحمن.
وزادع نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء
قال الكرماني: (وزاد نافع)، أي: قال ابن جريج: وزاد، وهذا موقوف لا مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحميدي: هذا معلق، وكذا علم عليه الحافظ المزي علامة التعليق. وقال بعضهم: (زاد نافع) مقول ابن جريج، والخبر متصل بالإسناد الأول، وقد بين ذلك عبد الرزاق فقال في مصنفه: عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة، فذكره. وقال في آخره: قال ابن جريج: وزادني نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: لم يفرض علينا السجود، إلا أن نشاء، وكذلك رواه الإسماعيلي والبيهقي وغيرهما من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج، فذكر الإسناد الأول. قال: وقال حجاج: قال ابن جريج: وزاد نافع، فذكره، ثم قال هذا القائل: وفي هذا رد على الحميدي في زعمه أن هذا معلق، ولذا علم عليه المزي علامة التعليق، وهو وهم قلت: هذا القائل هو الذي يرد عليه، وهو الذي
وهم، لأن الذي زعمه لا تقتضيه رواية عبد الرزاق لأنها تشعر بخلاف ما قاله، لأن ابن جريج يقول: زادني نافع عن ابن عمر، معناه: أنه زادني على روايتي عن أبي بكر عن عثمان عن ربيعة عن عمر بن الخطاب رواية نافع عن عبد الله بن عمر: أن الله تعالى لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، والمزيد هو قول ابن عمر، وهو قوله: إن الله، عز وجل.. إلى آخره. وهذا ينادي بصوت عال: إنه موقوف، مثل ما قال الكرماني، ومعلق مثل ما قال الحافظان الكبيران: الحميدي والمزي، فبمثل هذا التصرف يتعسف بالرد عليهما، وأبعد من ذلك وأحق بالرد عليه ما قاله عقيب هذا، قوله في رواية
110

عبد الرزاق: أنه قال، الضمير يعود على عمر، رضي الله تعالى عنه، جزم بذلك الترمذي في (جامعه) حيث نسب ذلك إلى عمر في هذه القضية. قلت: لم يجزم الترمذي بذلك أصلا، ولا ذكر ما زاده نافع لابن جريج، وإنما لفظ الترمذي في (جامعه) في: باب من لم يسجد فيه، أي: في النجم، بعد روايته حديث زيد بن ثابت، وقال بعض أهل العلم: إنما السجدة على من أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها، واحتجوا بالحديث المرفوع، ثم قال: واحتجوا بحديث عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قرأ سجدة على المنبر فنزل فسجد ثم قرأها في الجمعة الثانية فتهيأ الناس للسجود فقال: إنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء، فلم يسجد ولم يسجدوا، انتهى. فهذا لفظ الترمذي، فلينظر من له بصيرة وذوق من دقائق تركيب الكلام، هل تعرض الترمذي في ذلك إلى زيادة نافع عن ابن عمر؟ أو ذكر أن الضمير في قوله: قال، يعود على عمر؟ ولو قال: مثل ما روى نافع عن ابن عمر ذكر الترمذي عن عمر مثله لكان له وجه ثم قال هذا القائل: واستدل بقوله: لم يفرض علينا، على عدم وجوب سجدة التلاوة. وأجاب بعض الحنفية على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب، وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما، ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه.
قلت: أما الجواب عن قوله: لم تفرض علينا، فنحن أيضا نقول: لم يفرض علينا، ولكنه واجب، ونفي الفرض لا يستلزم نفي الواجب، وأما قوله: وتعقب.. إلى آخره، فلا نسلم أنه اصطلاح حادث، وأهل اللغة فرقوا بين الفرض والواجب، ومنكر هذا معاند ومكابر، والأحكام الشرعية إنما تؤخذ من الألفاظ اللغوية. وأما قوله: وما كان الصحابة يفرقون بينهما، دعوى بلا برهان، والصحابة هم كانوا أهل اللغة والتصرف في الألفاظ العربية، وهذا القول فيه نسبة الصحابة إلى عدم المعرفة بلغات لسانهم. وأما قوله: ويغني عن هذا قول عمر ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فقد أجبنا فيما مضى عن هذا بأنه: لا إثم عليه في تأخيره عن وقت السماع. فإن قلت: روى البيهقي من طريق ابن بكير: حدثنا مالك عن (هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجدوا معه، ثم قرأ يوم الجمعة الأخرى فتهيأوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، وقرأها ولم يسجد ومنعهم). قال صاحب (التوضيح): ترك عمر، رضي الله تعالى عنه، مع من حضر السجود ومنعه لهم دليل على عدم الوجوب، ولا إنكار ولا مخالف، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) قلت: عروة لم يدرك عمر، رضي الله تعالى عنه، قال خليفة بن خياط: وفي آخر خلافة عمر بن الخطاب، يقال في سنة ثلاث وعشرين، ولد عروة بن الزبير، وعن مصعب بن الزبير: ولد عروة لست سنين خلت من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، فيكون منقطعا، وهو غير حجة. وأما ترك عمر السجود فقد ذكرنا أنه لمعنى من المعاني التي ذكرناها فيما مضى عن الطحاوي. وأما منعه لهم عن السجود على تقدير تسليم صحته، فيحتمل أنه كان يرى أن التالي إذا لم يسجد لا يسجد السامع أيضا، فيكون معنى المنع: إذا ما سجدت فلا تسجدوا أنتم أيضا. وروي عن مالك أنه قال: إن ذلك مما لم يتبع عليه عمر، ولا عمل به أحد بعده، وقال القائل المذكور أيضا: واستدل بقوله: (إلا أن نشاء)، على أن المرء مخير في السجود، فيكون ليس بواجب، وأجاب من أوجبه: بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب، ولا يخفى بعده، ويرده تصريح عمر، رضي الله تعالى عنه، بقوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختارا يدل على عدم وجوبه. قلت: لا شك أن مفعول: نشاء، محذوف، فيحتمل أن يكون ذلك: السجدة، يعني: إلا أن نشاء السجدة، ويحتمل أن تكون: القراءة، يعني: إلا أن نشاء قراءة السجدة، فلا يترجح أحد الاحتمالين إلا بمرجح، والأحاديث الواردة في هذا الباب تنفي التخيير، فيترجح المعنى الآخر، والجواب عن قوله: ويرده تصريح عمر.. إلى آخره، قد ذكرناه. وقال هذا القائل أيضا: واستدل به على من شرع في السجود وجب عليه إتمامه، وأجيب بأنه استثناء منقطع، والمعنى: لكن ذلك موكول إلى مشيئة المرء بدليل إطلاقه، ومن لم يسجد فلا إثم عليه.
11
((باب من قرأ السجدة في الصلاة فسجد بها))
أي: هذا باب في بيان حكم من قرأ سجدة التلاوة في الصلاة فسجد بها، أي: بتلك السجدة، وحكمه أن لا تكره قراءة
111

السجدة في الصلاة، خلافا لمالك على ما نذكره. وقال بعضهم: في الصلاة المفروضة. قلت: إطلاق البخاري يتناول الفريضة والنافلة.
8701 حدثنا مسدد قال حدثنا معتمر قال سمعت أبي قال حدثني بكر عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد قلت ما هاذه قال سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: مسدد، تكرر ذكره. الثاني: معتمر بن سليمان التيمي. الثالث: أبوه سليمان بن طرخان التيمي. الرابع: بكر بن عبد الله المزني. الخامس: أبو رافع نفيع، بضم النون وفتح الفاء. السادس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه:
أن الرواة كلهم بصريون. وفيه: رواية الابن عن أبيه. وفيه: راويان بلا نسبة وراو بكنيته.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الصلاة عن أبي النعمان وعن مسدد عن يزيد بن زريع عن سليمان التيمي. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عبيد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن معتمر بن سليمان به وعن أبي كامل الجحدري عن يزيد بن زريع به، وعن عمر الناقد عن عيسى بن يونس وعن أحمد بن عبدة عن سليم بن أخضر، كلاهما عن سليمان التيمي به. وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد عن معتمر به. وأخرجه النسائي فيه عن حميد بن مسعدة عن سليم بن أخضر به.
ذكر معناه: قوله: (العتمة) أي: صلاة العشاء. قوله: (ما هذه؟) أي: ما هذه السجدة التي سجدت بها في الصلاة؟ قوله: (حتى ألقاه)، بالقاف أي: حتى أموت، لأن المراد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يكون إلا بالموت.
ذكر ما يستنبط منه: احتج به الثوري ومالك والشافعي أنه: من قرأ سجدة في صلاته المكتوبة أنه لا بأس أن يسجد فيها، وكره مالك ذلك في الفريضة الجهرية والسرية. وقال ابن حبيب: لا يقرأ الإمام السجدة فيما يسر به، ويقرؤها فيما يجهر فيه، وذكر الطبري عن أبي مجلز أنه كان لا يرى السجود في الفريضة، وزعم أن ذلك زيادة في الصلاة، ورأى أن السجود فيها غير الصلاة، وحديث الباب يرد عليه، وعمل السلف من الصحابة وعلماء الأمة. وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الصبح فقرأ: والنجم، فسجد فيها، وقرأ مرة في الصبح فسجد فيها سجدتين. وقال ابن مسعود، في السورة يكون آخرها سجدة: إن شئت سجدت بها ثم قمت وقرأت فركعت، وإن شئت ركعت بها. وقال الطحاوي: وإنما قرأ الشارع السجدة في العتمة والصبح، وهذا فيما يجهر فيه، وإذا سجد في قراءة السرية لم يدر أسجد للتلاوة أم لغيرها. وقال صاحب (الهداية) وإذا قرأ الإمام آية السجدة سجدها وسجد المأموم معه، وإذا تلا المأموم وسمعها الإمام والقوم لم يسجد الإمام ولا المأموم في الصلاة بالاتفاق، ولا بعد الفراغ من الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يسجدونها بعد الفراغ. انتهى. ومما يستدل بسجوده صلى الله عليه وسلم في الصلاة لسجدة التلاوة على التسوية بين الفريضة والنافلة، وبه قال الشافعي وأحمد، وفرق المالكية بين صلاة الفرض والنافلة، فإن كان في النافلة فيسجد لقراءة نفسه سواء كان منفردا أو إماما لأمن التخليط عليهم، فإن لم يأمن التخليط عليهم أيضا سجد على المنصوص عليه عندهم، فأما الفريضة فالمشهور عندهم أنه لا يسجد فيها سواء كانت سرية أو جهرية، وسواء كان منفردا أو في جماعة. وقال البيهقي في (الخلافيات): وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يسجد للتلاوة في الصلاة السرية. وقال شيخنا زين الدين: هذا مشكل مع قول الحنفية بوجوب سجود التلاوة، فإن كان يقول: إنه لا يسجد لقرائتها، كما حكاه البيهقي عنه، فهو مشكل. وإن قال: إنه لا يقرأ آية السجدة، كما حكاه ابن العربي عنه، فهو أقرب، إلا أن الحنفية قالوا: إنه يكره أن يقرأ السورة التي فيها السجدة، ولا يسجد فيها في صلاة كان أو في غيرها، لأنه كالاستنكاف عن السجود، فعلى هذا فالاحتياط على قولهم: إنه لا يقرأ في الصلاة السرية سورة فيها سجدة. قلت: وفي (الهداية) قال: لا بأس أن يقرأ آية السجدة ويدع ما سواها. قال محمد: وأحب إلي أن يقرأ قبلها آية أو آيتين دفعا لوهم التفضيل، واستحسن المشايخ إخفاءها شفقة على السامعين وفي (المحيط): إذا كان التالي وحده يقرأ كيف شاء جهرا أو إخفاء، وإن كان معه جماعة
112

قال مشايخنا: إن كانوا متهيئين للسجود ووقع في قلبه أنه لا يشق عليهم أداؤها ينبغي أن يجهر حتى يسجد القوم معه، وإن كانوا محدثين أو يظن أنهم لا يسجدون أو يشق عليهم أداؤها ينبغي أن يقرأها في نفسه ولا يجهر تحرزا عن تأثيم المسلم. قلت كل هذا مبني على وجوب سجدة التلاوة، ومما استدل بأحاديث السجود للتلاوة على أنه لا يقوم الركوع مقام سجود التلاوة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقوم الركوع مقام السجود، للتلاوة استحسانا لقوله تعالى: * (خر راكعا وأناب) * (ص
1764;: 42). وفي (الينابيع): إن كانت السجدة في آخر السورة فالأفضل أن يركع بها، وإن كانت في وسطها فالأفضل أن يسجد ثم يقوم فيختم السورة، ثم يركع، وإن كانت في آخر السورة وبعدها آيتان أو ثلاث فإن شاء أتم السورة وركع، وإن شاء سجد ثم قام فأتم السورة، فإن ركع بها يحتاج إلى النية عند الركوع بها، فإن لم توجد منه النية عند الركوع بها لا يجزيه عن السجدة، ولو نوى في ركوعه، فقيل: يجزيه، وقيل: لا يجزيه، واستدل أيضا بأحاديث سجود المستمع لآية السجدة على أنه لا فرق بين أن يسمعها ممن هو أهل للإمامة أو لا، كما لو سمعها من امرأة أو صبي أو خنثى مشكل أو كافر أو محدث، وهذا قول أبي حنيفة، وعند الشافعية كذلك على ما ذكره النووي في (الروضة): وقال: هو الأصح، وليس في عبارة الرافعي تصريح بالتصحيح له، ولكنه لما ذكر عبارة الغزالي في (الوجيز) قال: ظاهر اللفظ يشمل قراءة المحدث والصبي والكافر، ويقتضي شرعية السجود للمستمع إلى قراءته، وحكى الرافعي قبل هذا عن صاحب (البيان): أنه لا يسجد المستمع لقراءة المحدث، ثم ذكر بعد ذلك عن الطبري في العدة: أنه لا يسجد المستمع لقراءة الكافر والصبي، وحكى ابن قدامة في (المغني)؛ عن الشافعي وأحمد وإسحاق: أنه لا يسجد لقراءة المرأة والخنثى المشكل، ورواية واحدة عن أحمد، وحكى عنه وجهان فيما إذا كان صبيا، وذهبت المالكية أيضا إلى أنه: لا يسجد لاستماع قراءة من ليس أهلا للإمامة، وقال الثوري: إذا سمع آية السجدة من امرأة تلاها السامع وسجد، وقال الليث: إذا سمعها من غلام سجد، وقال شيخنا زين الدين: ذكر بعض أصحابنا أن القارئ إن كان ممن تمتنع عليه القراءة كالجنب والسكران لم يسجد المستمع لقراءته، وبه جزم القاضي حسين في فتواه.
21
((باب من لم يجد موضعا للسجود من الزحام))
أي: هذا باب يذكر فيه حكم من لم يجد.. إلى آخره، وأشار البخاري بهذه الترجمة إلى أنه يرى أنه يسجد بقدر استطاعته، ولو كان على ظهر غيره.
9701 حدثنا صدقة قال أخبرنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته.
(أنظر الحديث 5701 وطرفه).
مر هذا الحديث عن قريب في: باب ازدحام الناس إذا قرأ الإمام السجدة، فإنه رواه هناك: عن بشر بن آدم عن علي بن مسهر عن عبيد الله عن نافع إلى آخره، وههنا أخرجه: عن صدقة بن الفضل، مضى ذكره في: باب العلم والعظة بالليل، عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة)، وزاد علي بن مسهر في روايته عن عبيد الله: (ونحن عنده). قوله: (فيسجد) أي: النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ونسجد)، بنون المتكلم، أي: ونحن نسجد، وفي رواية الكشميهني: (ونسجد معه)، قوله: (لموضع جبهته)، يعني من الزحام وكثرة الخلق. وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع (عن ابن عمر، قال: ربما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فيمر بالسجدة فيسجد بنا حتى ازدحمنا عنده حتى ما يجد أحدنا مكانا يسجد فيه في غير صلاة)، ورواية مسلم هذه دلت على أن هذه القضية كانت في غير وقت صلاة، وأفادت رواية الطبراني من طريق مصعب بن ثابت عن نافع في هذا الحديث أن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم النجم، وزاد فيه: (حتى يسجد الرجل على ظهر الرجل).
113

81
((كتاب تقصير الصلاة))
أي: هذه أبواب التقصير في الصلاة، هكذا وقعت هذه الترجمة في رواية المستملي، وفي رواية أبي الوقت: أبواب تقصير الصلاة، ولم تثبت في روايتهما البسملة، وثبتت في رواية كريمة والأصيلي، وفي بعض النسخ: كتاب التقصير، والتقصير مصدر من قصر بالتشديد، يقال: قصرت الصلاة بفتحتين قصرا وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، والأول أشهر في الاستعمال وأفصح، وهو لغة القرآن.
1
((باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر))
أي: هذا باب حكم تقصير الصلاة أي: جعل الرباعية على ركعتين، والإجماع على أن لا تقصير في المغرب والصبح. قوله: (وكم يقيم حتى يقصر)، إعلم أن الشراح تصرفوا في هذا التركيب بالرطب واليابس، وحل هذا موقوف على معرفة لفظة: كم، ولفظة: حتى، ولفظة: يقيم، ليفهم معناه بحيث يكون حديث الباب مطابقا له، وإلا يحصل الخلف بينهما، فتكون الترجمة في ناحية وحديث الباب في ناحية فنقول: لفظة: كم، هنا استفهامية بمعنى: أي عدد؟ ولا يكون تمييزه إلا مفردا، خلافا للكوفيين، ويكون منصوبا ولا يجوز جره مطلقا كما عرف في موضعه، ولفظة: حتى هنا، للتعليل لأنها تأتي في كلام العرب لأحد ثلاثة معان: لانتهاء الغاية وهو الغالب، والتعليل، وبمعنى: إلا في الاستثناء، وهذا أقلها، ولفظة: يقيم، معناها: يمكث، وليس المراد منه ضد السفر بالمعنى الشرعي، فإذا كان كذلك يكون معنى قوله: (وكم يقيم حتى يقصر؟) وكم يوما يمكث المسافر لأجل قصر الصلاة، وجوابه مثلا: تسعة عشر يوما، كما في حديث الباب، فإن فيه: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يقصر)، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يوما قصرنا، وإن زدنا أتممنا، فيكون مكث المسافر في سفره تسعة عشر يوما سببا لجواز قصر الصلاة، فإذا زاد على ذلك لا يجوز له القصر، لأن المسبب ينتفي بانتفاء السبب، فإذا عرفت هذا عرفت أن الكرماني تكلف في حل هذا التركيب حيث قال أولا: لا يصح كون الإقامة سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، ثم قال: عدد الأيام سبب، أي: سبب معرفة لجواز القصر أي الإقامة إلى تسعة عشر يوما سبب لجوازه لا الزيادة عليها، وهذا كما ترى تعسف جدا، وكذا بعضهم تصرف فيه تصرفات عجيبة. منها: ما نقل عن غيره بأن المعنى: وكم إقامته المغياة بالقصر، وهذا التقدير لا يصح أصلا، لأن: كم، الاستفهامية على هذا تلتبس بالخبرية، ثم قوله: من عنده، وحاصله كم يقيم مقصرا، غير صحيح، لأن هذا الذي قاله غير حاصل، ذاك الذي نقله على أن فيه إلغاء معنى: حتى. ومنها: ما نقله عن غيره أيضا بقوله، وقيل: المراد كم يقصر حتى يقيم، أي: حتى يسمى مقيما فانقلب اللفظ، وهذا أيضا غير صحيح، لأن المراد منه ليس كذلك، لأنه خلاف ما يقتضيه التركيب، على أن فيه نسبة التركيب إلى الخطأ. ومنها: ما قاله من عنده، وهو قوله: أو حتى هنا بمعنى: حين، أي: كم يقيم حين يقصر، وهذا أيضا غير صحيح لأنه لم ينقل عن أحد من أهل اللسان إن حتى تجيء بمعنى حين.
0801 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا.
مطابقته للترجمة من حيث الوجه الذي قررناه.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي، وقد تكرر ذكره. الثاني: أبو عوانة اسمه الوضاح اليشكري. الثالث: عاصم بن سليمان الأحول، مر في كتاب الوضوء، الرابع: حصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين: ابن عبد الرحمن السلمي. الخامس: عكرمة. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين.
114

وفيه: أن شيخه بصري. والثاني واسطي والثالث بصري والرابع كوفي. والخامس مدني. وفيه: واحد بكنيته وثلاثة بلا نسبة، وفيه: أبو عاصم يروي عن اثنين. وفيه: ثلاثة من التابعين وهم عاصم وحصين وعكرمة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي: عن عبدان عن عبد الله وعن أحمد بن يونس عن ابن شهاب كلاهما عن عاصم وحده. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن أبي معاوية. وقال: حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن عبد الملك.
ذكر معناه: قوله: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كانت إقامته بمكة، على ما رواه البخاري في المغازي من وجه آخر عن عاصم. قوله: (تسعة عشر) أي: يوما بليلته. قوله: (يقصر) جملة حالية. قوله: (تسعة عشر) أي: يوما. قوله: (قصرنا) أي: الصلاة الرباعية. قوله: (وإن زدنا) أي: على تسعة عشر يوما (أتممنا) الصلاة أربعا.
ذكر الأحاديث المختلفة في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة، والجمع بينها، ففي حديث أنس رواه الستة أنه أقام بها عشرا، وفي حديث ابن عباس المذكور أنه قام بها تسعة عشر يوما بتقديم التاء المثناة من فوق على السين وفي رواية لأبي داوود من حديث ابن عباس سبعة عشر يوما، بتقديم السين على الباء الموحدة، وإسناده صحيح، وفي رواية لأبي داود والنسائي وابن ماجة: خمسة عشر يوما. وفي حديث ابن عباس أيضا، وفي حديث عمران بن حصين أخرجه أبو داود: ثماني عشرة ليلة، والجمع بينها: أن حديث أنس في خجة الوداع. ولم تكن إقامته للعشرة بنفس مكة، وإنما المراد إقامته بها مع إقامته بمنى إلى حين رجوعه، فإنه دخلها صبح رابعة، كما ثبت في (الصحيح) في حديث جابر: (فأقام بها ثلاثة أيام)، غير يومي الدخول والخروج منها إلى منى يوم الثامن، فأقام بمنى ثلاثة أيام الرمي الثلاثة وأخرها الثالث عشر، وأما حديث ابن عباس وعمران بن حصين فالمراد بهما: دخوله في فتح مكة، وقد جمع بينهما البيهقي بأن من روى: تسعة عشر عد يومي الدخول والخروج. ومن روى سبعة عشر تركهما، ومن روى ثمانية عشر عد أحدهما، وأما رواية خمسة عشر، فقال النووي في (الخلاصة): إنها ضعيفة مرسلة. قلت: ليس كذلك، لأن رواتها ثقات، رواه أبو داود وابن ماجة من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس، فإن قال النووي: تضعيفه لأجل ابن إسحاق فابن إسحاق لم ينفرد به، بل رواه النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، وهذا إسناد جيد، ومن حفظ زيادة على ذلك قبل منه لأنه زيادة ثقة، والله تعالى أعلم.
ذكر الاختلاف عن عكرمة: روى عنه عاصم وحصين عن ابن عباس: تسعة أشهر كما في حديث الباب، وكذا أخرجه ابن ماجة. وأخرجه الترمذي بلفظ: (سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين)، ورواه عباد ابن منصور (عن عكرمة قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح تسع عشرة ليلة يصلي ركعتين ركعتين)، أخرجه البيهقي، واختلف على عاصم عن عكرمة فرواه ابن المبارك وابن شهاب وأبو عوانة في إحدى الروايتين تسع عشرة، ورواه خلف بن هشام وحفص بن غياث، فقالا: سبع عشرة، واختلف على أبي معاوية عن عاصم، وأكثر الروايات عنه تسع عشرة رواها عنه أبو خيثمة وغيره، ورواه عثمان بن أبي شيبة عن أبي معاوية، فقال: سبع عشرة. واختلف على أبي عوانة، فرواه جماعات عنه عنهما، فقال: تسع عشرة، ورواه لوين عن أبي عوانة عنهما، فقال: سبع عشرة، ورواه المعلى بن أسد عن أبي عوانة عن عاصم، فقال: سبع عشرة، قال البيهقي: وأصح الروايات عندي: تسع عشرة، وهي التي أوردها البخاري، وعبد الله ابن المبارك أحفظ من رواه عن عاصم، ورواه عبد الرحمن الأصبهاني عن عكرمة (عن ابن عباس: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أقام سبع عشرة بمكة يقصر).
ذكر اختلاف الأقوال: في المدة التي إذا نوى المسافر الإقامة فيها لزمه الإتمام، وهو على اثنين وعشرين قولا: الأول: ذكر ابن حزم عن سعيد بن جبير أنه قال: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم، وهو في (المصنف): عن عائشة وطاووس بسند صحيح، قال: وحدثنا عبد الأعلى عن داود عن أبي العالية، قال: (إذا اطمأن صلى أربعا)، يعني: نزل. وعن ابن عباس بسند صحيح مثله. الثاني: إقامة يوم وليلة، حكاه ابن عبد البر عن ربيعة. الثالث: ثلاثة أيام، قاله ابن المسيب، في مثله. الرابع:
115

أربعة أيام، روي عن الشافعي وأحمد، وروى مالك عن عطاء الخراساني أنه سمع سعيد بن المسيب قال: من أجمع على إقامة أربع ليال وهو مسافر أتم الصلاة، قال مالك: وذلك أحب ما سمعت إلي. وقال الشافعي: لا يحسب يوم ظعنه ولا يوم نزوله. وحكى إمام الحرمين عن الشافعي: أربعة أيام ولحظة. الخامس: أكثر من أربعة أيام، ذكره ابن رشد في القواعد عن أحمد وداود. السادس: أن ينوي إقامة اثنين وعشرين صلاة، قال ابن قدامة في (المغني): هو مذهب أحمد. السابع: عشرة أيام، روي عن علي بن أبي طالب: من حديث محمد بن علي بن حسين عنه، والحسن بن صالح وأحمد بن علي بن حسين، رواه ابن أبي شيبة. الثامن: اثني عشر يوما، قال أبو عمر: روى مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه كان يقول: أفل، صلاة المسافر، ما لم يجمع مكثا اثنتي عشرة ليلة، قال: وروى عن الأوزاعي مثله، ذكره الترمذي في (جامعه). التاسع: ثلاثة عشر يوما. قال أبو عمر: روي ذلك عن الأوزاعي. العاشر: خمسة عشر يوما، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري والليث بن سعد، وحكاه ابن أبي شيبة عن ابن المسيب بسند صحيح، قال: وحدثنا عمر بن ذر عن مجاهد: كان ابن عمر إذا أجمع على إقامة خمس عشرة يوما صلى أربعا. الحادي عشر: ستة عشر يوما، وروي عن الليث أيضا. الثاني عشر: سبعة عشر يوما، وهو قول الشافعي أيضا. الثالث عشر: ثمانية عشر يوما، وهو قول الشافعي أيضا. الرابع عشر: تسعة عشر يوما، قاله إسحاق بن إبراهيم، فيما ذكره الطوسي عنه. الخامس عشر: عشرون يوما، قاله ابن حزم
. السادس عشر: يقصر حتى يأتي مصرا من الأمصار، قال أبو عمر: قاله الحسن بن أبي الحسن: قال: ولا أعلم أحدا قاله غيره. السابع عشر: إحدى وعشرون صلاة، ذكره ابن المنذر عن الإمام أحمد. الثامن عشر: يقصر مطلقا، ذكره أبو محمد البصري. التاسع عشر: قال ابن أبي شيبة: حدثنا جرير عن مغيرة عن سماك بن سلمة عن ابن عباس، قال: إن قمت في بلد خمسة أشهر فقصر الصلاة. العشرون: قال أبو بكر: حدثنا مسعر وسفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن قال: أقمنا مع سعد بن مالك شهرين بعمان يقصر الصلاة، ونحن نتم، فقلنا له، فقال نحن أعلم. والحادي والعشرون، قال: حدثنا وكيع حدثنا شعبة حدثنا أبو التياح عن أبي المنهال، رجل من غزة. قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سفر. قال: صل ركعتين. الثاني والعشرون: عند أبي بكر بسند صحيح قال سعيد بن جبير، رضي الله تعالى عنه: إذا أراد أن يقيم أكثر من خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
ذكر بيان مشروعية القصر وبيان سببه: ذكر الضحاك في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حدة الإسلام الظهر ركعتين والعصر ركعتين والمغرب ثلاثا والعشاء ركعتين والغداء ركعتين، فلما نزلت آية القبلة تحول للكعبة وكان قد صلى هذه الصلوات نحو بيت المقدس، فوجهه جبريل، عليه السلام، بعدما صلى ركعتين من الظهر نحو الكعبة، وأومأ إليه بأن صل ركعتين، وأمره أن يصلي العصر أربعا والعشاء أربعا، والغداة ركعتين. وقال: يا محمد أما الفريضة الأولى فهي للمسافرين من أمتك، والغزاة، وروى الطبراني: حدثنا المثنى حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن هاشم أخبرنا سيف عن أبي روق عن أبي أيوب (عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله: إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101). ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101). وحدثنا ابن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة (عن سليمان اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم أنزل أو: أي يوم هو؟ فقال: انطلقنا نتلقى عيرا لقريش آتية من الشام، حتى إذا كنا بنخل، فنزلت آية القصر). وفي (شرح المسند) لابن الأثير: كان قصر الصلاة في السنة الرابعة من الهجرة، وفي (تفسير الثعلبي) قال ابن عباس: أول صلاة قصرت صلاة العصر، قصرها النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان في غزوة ذي أنمار.
1801 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال
116

سمعت أنسا يقول خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت أقمتم بمكة شيئا قال أقمنا بها عشرا.
(الحديث 1801 طرفه في: 7924).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمر المنقري المقعد. الثاني: عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة. الثالث: يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، مات سنة ست وثلاثين ومائة. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون. وفيه: أنه من رباعيات البخاري.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في المغازي عن أبي نعيم وقبيصة، كلاهما عن سفيان الثوري. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وعن أبي كريب وعن عبيد الله بن معاذ وعن محمد ابن عبد الله بن نمير. وأخرجه أبو داود فيه عن موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم كلاهما عن وهيب. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وعن حميد بن مسعدة وفي الحج عن زياد بن أيوب. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن نصر بن علي الجهضمي وعبد الأعلى بن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (خرجنا من المدينة)، وفي رواية شعبة عن يحيى بن إسحاق عند مسلم: (إلى الحج)، قوله: (من المدينة إلى مكة)، دخل مكة يوم الأحد صبيحة رابعة ذي الحجة، وبات بالمحصب ليلة الأربعاء وفي تلك الليلة اعتمرت عائشة، رضي الله تعالى عنها، وخرج من مكة صبيحتها وهو الرابع عشر. قوله: (فكان يصلي ركعتين ركعتين)، أي: الظهر والعصر والعشاء والفجر إلا المغرب، فإنه يصليها ثلاثا على حالها، وروى البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس: إلا المغرب. قوله: (قلت)، قائله يحيى. قوله: (أقمتم بمكة شيئا)؟ همزة الاستفهام فيه محذوفة أي: أقمتم. قوله: (عشرا) أي: عشرة أيام، وإنما حذفت التاء من العشر مع أن اليوم مذكر لأن المميز إذا لم يكن مذكورا جاز في العدد التذكير والتأنيث. قالوا: معناه أنه أقام بمكة وحواليها لا في مكة فقط، إذ كان ذلك في حجة الوداع، ولهذا قلنا: إن حديث أنس لا يعارض حديث ابن عباس، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وخرج من مكة صبيح الرابع عشر فتكون مدة إقامته بمكة وحواليها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر بمنى. وقال ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس، لأن إقامته عشرة داخلة في إقامته تسع عشرة، وأراد من ذلك أن الأخذ بالزائد متعين، ولا يتهيأ له ذلك لاختلاف القضيتين، وإنما يجيء ما قاله لو كانت القضيتان متحدتين. فافهم.
ذكر ما يستنبط منه: احتج به الشافعي، رحمه الله، أن المسافر إذا أقام ببلدة أربعة أيام قصر، لأن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كانت أربعة أيام، كما ذكرنا. وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور، وقال الرافعي والنووي: الأصح أن المراد بالأربعة غير يوم الدخول ويوم الخروج، وعن الشافعي في قوله: إذا أقام أكثر من أربعة أيام كان مقيما وإن لم ينو الإقامة وقال الطحاوي: ما قاله الشافعي خلاف الإجماع لأنه لم ينقل عن أحد قبله بأن يصير مقيما بنية أربعة أيام، وعند أصحابنا: إن نوى أقل
من خمسة عشر يوما قصر صلاته، لأن المدة خمسة عشر يوما كمدة الطهر، لما روى (عن ابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة بها، وإن كنت لا تدري متى تظعن فأقصرها). رواه الطحاوي، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): (حدثنا وكيع حدثنا عمر بن ذر عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة) وروى هشيم عن داود بن أبي هند عن ابن المسيب أنه قال: إذا أقام المسافر خمس عشرة ليلة أتم الصلاة وما كان دون ذلك فليقصر. ثم إعلم أنا قلنا: إنما يصير مقيما بنية الإقامة إذا سار ثلاثة أيام، فأما إذا لم يسر ثلاثة أيام فعزم على الرجوع أو نوى الإقامة يصير مقيما، وإن كان في المفازة، كذا ذكره فخر الإسلام وفي (المجتبى): لا يبطل السفر إلا بنية الإقامة أو دخول الوطن أو الرجوع إليه قبل الثلاث، وبه قال الشافعي في الأظهر. ونية الإقامة إنما تؤثر بخمس شرائط. أحدها: ترك السير حتى لو نوى الإقامة وهو يسير لم يصح. وثانيها: صلاحية الموضع
117

حتى لو نوى الإقامة في بر أو بحر أو جزيرة لم يصح اتحاد الموضع. رابعها: المدة. خامسها: الاستقلال بالرأي. حتى لو نوى من كان تبعا لغيره كالجندي والزوجة والرقيق والأجير والتلميذ مع أستاذه والغريم المفلس مع صاحب الدين لا تصح نيته إلا إذا نوى متبوعه، ولو نوى المتبوع الإقامة ولم يعلم بها التابع فهو مسافر، كالوكيل إذا عزل، وهو الأصح، وعن بعض أصحابنا: يصيرون مقيمين ويعيدون ما أدوا في مدة عدم العلم.
2
((باب الصلاة بمنى))
أي: هذا باب في بيان الصلاة بمنى، يعني: في أيام الرمي، وإنما لم يذكر حكم المسألة بل قال: باب الصلاة بمنى على الإطلاق لقوة الخلاف فيها، وإنما خص منى بالذكر لأنها المحل الذي وقع في ذلك قديما، ومنى يذكر ويؤنث بحسب قصد الموضع والبقعة. قيل: فإذا ذكر صرف وكتب بالألف، وإذا أنث لم يصرف وكتب بالياء، وذكر الكلبي: إنما سميت منى، لأنها مني بها الكبش الذي فدى به إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، من: المنية. ويقال: إن جبريل، عليه الصلاة والسلام، لما أتى آدم بمنى قال له: تمن. قال البكري: هو جبل بمكة معروف. وقال أبو علي الفارسي: لامه ياء، من منيت الشيء إذا قدرته. وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير. وقال الحازمي: إن منى صقع قرب مكة، وهو أيضا هضبة قرب قرية من ديار غني بن أعصر، وقد امتنى القوم إذا أتوا منى، قاله يونس. وقال ابن الأعرابي: أمني القوم.
2801 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها.
(الحديث 2801 طرفه في: 5561).
مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين الإطلاق الذي فيها، فإن الإطلاق فيها يتناول الصلاة ركعتين ويتناولها أربعا أيضا، فصارت المطابقة من جهة التفصيل بعد الإجمال، أو من جهة التقييد بعد الإطلاق، ولكن حكم المسألة كما ينبغي لا يفهم منه، وهو أن المقيم بمنى هل يقصر أو يتم، فلذلك لم يذكر حكمها في الترجمة، وسنبينها إن شاء الله تعالى.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويحيى هو ابن سعيد القطان، وعبيد الله بن عمر.
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن المثنى وعبيد الله ابن سعيد. وأخرجه النسائي فيه عن عبيد الله بن سعيد.
قوله: (بمنى) في رواية مسلم عن سالم عن أبيه: (بمنى وغيره)، قوله: (صدرا) أي: أول خلافته وهي ست سنين أو ثمان سنين على خلاف فيه. قوله: (من إمارته)، بكسر الهمزة، وهي خلافته. قوله: (ثم أتمها) أي: بعد ذلك، لأن القصر والإتمام جائزان، ورأى ترجيح طرف الإتمام لأن فيه زيادة مشقة، وفي رواية أبي أسامة عن عبيد الله عند مسلم: (ثم إن عثمان صلى أربعا فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين). وفي رواية لمسلم عن حفص بن عاصم (عن ابن عمر، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان ثمان سنين أو ست سنين). وروى أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن زمعة عن سالم (عن ابن عمر، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة السفر ركعتين، ثم صلى أبو بكر ركعتين، ثم صلى بعده عمر ركعتين، ثم صلى بعده عثمان ركعتين، ثم إن عثمان أتم بعد).
ذكر ما يستنبط منه: قال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الحاج القادم مكة يقصر الصلاة بها وبمنى، وبسائر المشاهد لأنه عندهم في سفر، لأن مكة ليست دار أربعة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم ينو رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقامة بها ولا بمنى، قال: واختلف العلماء في صلاة المكي بمنى، فقال مالك: يتم بمكة ويقصر بمنى، وكذلك أهل منى، يتمون بمنى ويقصرون بمكة، وعرفات. قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصر بعرفة لم يميز من وراءه، ولا قال لأهل مكة: أتموا، وهذا موضع بيان. وممن روي عنه أن المكي يقصر بمنى ابن عمر وسالم والقاسم وطاووس، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقالوا: إن القصر سنة الموضع، وإنما يتم بمنى وعرفات من
118

كان مقيما فيها. وقال أكثر أهل العلم، منهم عطاء والزهري والثوري والكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد وأبو ثور: لا يقصر الصلاة أهل مكة بمنى وعرفات لانتفاء مسافة القصر. وقال الطحاوي: وليس الحج موجبا للقصر لأن أهل منى وعرفات إذا كانوا حجاجا أتموا، وليس هو متعلقا بالموضع، وإنما هو متعلق
بالسفر، وأهل مكة مقيمون هناك لا يقصرون، ولما كان المقيم لا يقصر لو خرج إلى منى كذلك الحاج.
ذكر المسافة التي تقصر فيها الصلاة: اختلف العلماء فيها، فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثلاثة أيام ولياليهن بسير الإبل ومشي الأقدام. وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة ورواية ابن سماعة عن محمد ولم يريدوا به السير ليلا ونهارا لأنهم جعلوا النهار للسير والليل للاستراحة، ولو سلك طريقا هي مسيرة ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليها في يوم من طريق أخرى قصر، ثم قدروا ذلك بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخا، وقيل: ثمانية عشر، وعليه الفتوي، وقيل: خمسة عشر فرسخا، وإلى ثلاثة أيام ذهب عثمان بن عفان وابن مسعود وسويد بن غفلة والشعبي والنخعي والثوري وابن حيي وأبو قلابة وشريك بن عبد الله وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن عبد الله بن عمر. وعن مالك: لا يقصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي، وذلك ستة عشر فرسخا، وهو قول أحمد، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وذلك يومان، وهو أربعة برد، هذا هو المشهور عنه. كأنه احتج بما رواه الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء بن أبي رباح (عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان). وعبد الوهاب ضعيف، ومنهم من يكذبه، وعنه أيضا: خمسة وأربعون ميلا، وللشافعي: سبعة نصوص في المسافة التي تقصر فيها الصلاة: ثمانية وأربعون ميلا، ستة وأربعون، أكثر من أربعين، أربعون، يومان وليلتان، يوم وليلة، وهذا الآخر قال به الأوزاعي. قال أبو عمر: قال الأوزاعي: عامة الفقهاء يقولون به. قال أبو عمرو عن داود: يقصر في طويل السفر وقصيره، زاد ابن حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصر، وزعم أبو محمد أنه لا يقصر عندهم في أقل من ميل، وروي الميل أيضا عن ابن عمر، روي عنه أنه قال: لو خرجت ميلا لقصرت. وعنه: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وعنه: ثلاثة أميال، وعن ابن مسعود: أربعة أميال، وفي (المصنف): حدثنا هشيم عن أبي هارون (عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة). وحدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك (عن النزال أن عليا، رضي الله تعالى عنه، خرج إلى النحيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه. قال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم). وكان حذيفة يصلي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن، وعن ابن عباس: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة. وعن ابن عمر وسويد بن غفلة وعمر بن الخطاب: ثلاثة أميال.. وعن أنس (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ. شعبة الشاك قصر)، رواه مسلم. قال أبو عمر: هذا عن يحيى بن يزيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج... إلى آخره، ويحيى شيخ بصري ليس لمثله أن يروي مثل هذا الذي خالف فيه جمهور الصحابة والتابعين، ولا هو ممن يوثق به في مثل ضبط هذا الأمر، وقد يحتمل أن يكون أراد سفرا بعيدا، ثم أراد ابتداء قصر الصلاة إذا خرج ومشى ثلاثة أميال، فيتفق حضور صلاة فيقصر. وعن الحسن: يقصر لمسيرة ليلتين. وعند أبي الشعشاء: ستة أميال. وعند مسلم (عن جبير بن نفير، قال: خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشرة أو ثمانية عشر ميلا، فصلى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر، رضي الله تعالى عنه، صلى بذي الحليفة ركعتين، فقلت له، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر السبب في إتمام عثمان الصلاة بمنى للعلماء في ذلك أقوال: منها: أنه أتمها بمنى خاصة. قال أبو عمر، قال قوم: أخذ بالمباح في ذلك، إذ للمسافر أن يقصر ويتم، كما له أن يصوم ويفطر، وقال الزهري: إنما صلى بمنى أربعا لأن الأعراب كانوا كثيرين في ذلك العام، فأحبب أن يخبرهم بأن الصلاة أربع، وروى معمر عن الزهري أن عثمان صلى بمنى أربعا لأنه أجمع الإقامة بعد الحج، وروى يونس عنه: لما اتخذ عثمان الأموال بالطائف، وأراد أن يقيم بها صلى أربعا، وروى مغيرة عن إبراهيم، قال: صلى أربعا لأنه كان اتخذها وطنا. وقال البيهقي: وذلك مدخول لأنه لو كان إتمامه لهذا المعنى لما خفي ذلك
119

على سائر الصحابة ولما أنكروا عليه ترك السنة، ولما صلى ابن مسعود في منزله، وقال ابن بطال: الوجوه التي ذكرت عن الزهري كلها ليست بشيء. أما الوجه الأول فقد قال الطحاوي: الأعراب كانوا بأحكام الصلاة أجهل في زمن الشارع فلم يتم بهم لتلك العلة، ولم يكن عثمان ليخاف عليهم ما لم يخفه الشارع، لأنه بهم رؤوف رحيم، ألا ترى أن الجمعة لما كان فرضها ركعتين لم يعدل عنها، وكان يحضرها الغوغاء والوفود، وقد تجوزوا أن صلاة الجمعة في كل يوم ركعتان؟ وأما الوجه الثاني: فلأن المهاجرين فرض عليهم ترك المقام بمكة، وصح عن عثمان أنه كان لا يودع النساء إلا على ظهر الرواحل، ويسرع الخروج من مكة خشية أن يرجع في هجرته التي هاجر لله تعالى، وقال ابن التين: لا يمتنع ذلك إذا كان له أمر أوجب ذلك الضرورة، وقد قال مالك في (العتبية) فيمن يقيم بمنى ليخف الناس: يتم، في أحد قوليه. وأما الوجه الثالث ففيه بعد، إذ لم يقل أحد إن المسافر إذا مر بما يملكه من الأرض ولم يكن له فيها أهل أن حكمه حكم المقيم، وقيل: إنما كان عثمان أتم لأن أهله كانوا معه بمكة، ويرد هذا أن الشارع كان يسافر بزوجاته وكن معه بمكة، ومع ذلك كان يقصر. فإن قلت: روى عبد الله ابن الحارث بن أبي ذئاب عن أبيه، وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب، قال: صلى بنا عثمان أربعا، فلما سلم أقبل على الناس فقال: إني تأهلت بمكة، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من تأهل ببلدة فهو من أهلها، فليصل أربعا، وعزاه ابن التين إلى رواية ابن شخير: أن عثمان صلى بمنى أربعا، فأنكروا عليه، فقال: يا أيها الناس، إني لما قدمت تأهلت بها، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فليصل بها صلاة المقيم. قلت: هذا منقطع أخرجه البيهقي من حديث عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف عن ابن أبي ذئاب عن أبيه قال: صلى عثمان، وقال ابن حزم: إن عثمان كان أمير المؤمنين، فحيث كان في بلد فهو عمله، وللإمام تأثير في حكم الإتمام كما له تأثير في إقامة الجمعة إذا مر بقوم أنه يجمع بهم الجمعة، غير أن عثمان سار مع الشارع إلى مكة وغيرها، وكان مع ذلك يقصر، ورد بأن الشارع كان أولى بذلك، ومع ذلك لم يفعله، وصح عنه أنه كان يصلي في السفر ركعتين إلى أن قبضه الله تعالى. وقال ابن بطال: والوجه الصحيح في ذلك، والله أعلم، أن عثمان
وعائشة، رضي الله تعالى عنهما، إنما أتما في السفر لأنهما اعتقدا في قصره، صلى الله عليه وسلم، أنه لما خير بين القصر والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، وقد قالت عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار إيسرهما ما لم يكن إثما، فأخذت هي وعثمان في أنفسهما بالشدة وتركا الرخصة، إذ كان ذلك مباحا لهما في حكم التخيير فيما أذن الله تعالى فيه، ويدل على ذلك إنكار ابن مسعود الإتمام على عثمان، ثم صلى خلفه وأتم، فكلم في ذلك فقال: الخلاف شر.
[/ شر
3801 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق قال سمعت حارثة بن وهب قال صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.
(الحديث 3081 طرفه في: 6561).
وجه المطابقة بين الترجمة وهذا هو الذي ذكرناه في أول الباب.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، وقد تكرر ذكره. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي. الرابع: حارثة، بالحاء المهملة: ابن وهب الخزاعي أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه، وأمهما بنت عثمان بن مظعون، سمع النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإنباء في موضع واحد وهو بمعنى الإخبار والتحديث. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه مذكور بكنيته وهو بصري وشعبة واسطي وأبو إسحاق كوفي، وهو أيضا مذكور بكنيته. وفيه: لفظ الإنباء ولم يذكر فيما قبل هذا اللفظ. وفيه: أن حارثة ابن وهب مذكور في موضعين ليس إلا.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الحج عن آدم عن شعبة. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعن أحمد بن يونس، وأخرجه أبو داود في الحج عن عبد الله بن محمد النفيلي. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة به. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به، وعن عمرو بن علي.
ذكر معناه: قوله: (سمعت حارثة بن وهب) وفي رواية البرقاني في (مستخرجه) (رجلا من خزاعة)، أخرجه
120

من طريق أبي الوليد شيخ البخاري فيه قوله: (آمن) أفعل التفضيل من الأمن. قوله: (ما كان) في رواية الكشميهني والحموي: (ما كانت)، وكلمة: ما، مصدرية، ومعناه: الجمع لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعا، والمعنى: صلى بنا والحال أن أكثر أكواننا في سائر الأوقات أمن. ولفظ مسلم: (عن حارثة بن وهب قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، آمن ما كان الناس وأكثره، ركعتين). وفي رواية له: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس أكثر ما كانوا فصلى ركعتين). قوله: (بمنى) الباء فيه ظرفية تتعلق بقوله: (صلى). قوله: (ركعتين)، مفعول: (صلى).
ذكر ما يستنبط منه: مذهب الجمهور أنه يجوز القصر من غير خوف لدلالة حديث حارثة على ذلك، لأن معناه أنه صلى الله عليه وسلم قصر من غير خوف. وفيه: رد على من زعم أن القصر مختص بالخوف أو الحرب، ذكر أبو جعفر في (تفسيره) بإسناده (عن عائشة، تقول في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟) وفي لفظ: (كانت تصلي في السفر أربعا). واحتج هؤلاء الزاعمون أيضا بقوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101). وأجيب بأن الشرط في الآية خرج مخرج الغالب، وقيل: هو من الأشياء التي شرع الحكم فيها بسبب ثم زال السبب وبقي الحكم، كالرمل في الطواف، وقد أوضح هذا ما في (صحيح مسلم) (عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101). فقد أمن الناس، فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). وفي (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم: حدثنا سليمان حدثنا محمد بن سهل الرباطي حدثنا سهل بن عثمان عن شريك عن قيس بن وهب عن أبي الكنود، (سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان نزلت من السماء، فإن شئتم فردوها) وأما الحديث الذي رواه أبو جعفر فإن حديث حارثة بن وهب يرده، وقال الطيبي: فيه: أي في حديث الباب: تعظيم شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أطلق ما قيده الله تعالى، ووسع على عباده تعالى، ونسب فعله إلى الله عز وجل.
4801 حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد الواحد عن الأعمش قال حدثنا إبراهيم قال سمعت عبد الرحمان بن يزيد يقول صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذالك لعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فاسترجع ثم قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
(الحديث 4801 طرفه في: 7561).
مطابقته للترجمة ظاهرة من الوجه الذي ذكرناه.
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: قتيبة، وقد تكرر ذكره، الثاني: عبد الواحد بن زياد من الزيادة العبدي أبو عبيدة. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: إبراهيم النخعي لا التيمي. الخامس: عبد الرحمن بن يزيد من الزيادة النخعي الأسود بن يزيد، مات سنة ثلاث وتسعين. السادس: عثمان بن عفان. السابع: عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن
شيخه بلخي وعبد الواحد بصري والبقية كوفيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الحج عن قبيصة عن سفيان، وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة عن عبد الواحد وعن عثمان بن أبي شيبة عن جرير وعن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية وعن إسحاق بن إبراهيم وعلي بن حشرم. وأخرجه أبو داود في الحج عن مسدد. وأخرجه النسائي فيه عن علي بن حشرم به، وعن محمود بن غيلان وعن قتيبة ولم يذكر فعل عثمان.
ذكر معناه: قوله: (صلى بنا عثمان)، كان ذلك بعد رجوعه من أعمال الحج في حال إقامته بمنى للرمي. قوله: (فقيل
121

في ذلك)، هذه رواية الأصيلي، وفي رواية أبي ذر: (فقيل ذلك)، أي: فيما ذكر من صلاة عثمان أربع ركعات. قوله: (فاسترجع) أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كراهة مخالفته الأفضل. قوله: (ومع عمر ركعتين) زاد الثوري عن الأعمش: (ثم تفرقت بكم الطرق) أخرجه البخاري في الحج من طريقه. قوله: (فليت حظي من أربع ركعات ركعتان)، وليس في رواية الأصيلي (ركعات). قوله: (حظي) أي: نصيبي، وكلمة: من في: (من أربع) للبدل كما في قوله تعالى: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبة: 83). وقال الداودي معناه: إن صليت أربعا وتكلفتها فليتها تتقبل كما تتقبل الركعتان.
ذكر ما يستنبط منه: قال بعضهم: هذا الحديث يدل على أن ابن مسعود كان يرى الإتمام جائزا وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها، فإنها تكون فاسدة كلها، وإنما استرجع لما وقع عنه من مخالفته الأولى، ويؤيده ما روى أبو داود أن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، صلى أربعا، فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ فقال: الخلاف شر. ورواية البيهقي إني لأكره الخلاف، ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول، وهذا يدل على أنه لم يكن يعتقد أن القصر واجب، كما قال الحنفية، ووافقهم القاضي إسماعيل من المالكية وأحمد. وقال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار، والقصر عنده أفضل، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. قلت: هذا القائل تكلم بما يوافق غرضه، أما قوله هذا يدل على أن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، كان يرى الإتمام جائزا، فيرده ما قاله الداودي: إن ابن مسعود كان يرى القصر فرضا، ذكره صاحب (التوضيح) وغيره، ويؤيده ما قاله عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه: الصلاة في السفر ركعتان لا يصح غيرهما، وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو. وقال الحسن بن حي: إذا صلى أربعا متعمدا أعادها، وكذا قال ابن أبي سليمان، وأما قوله: ويؤيده ما روى أبو داود أن ابن مسعود صلى أربعا، فإنه أجاب عن هذا بقوله: الخلاف شر، فلو لم يكن القصر عنده واجبا لما استرجع، ولما أنكر بقوله: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين...) إلى آخر الحديث، وأما قوله المشهور عن أحمد: إنه على الاختيار، فيعارضه ما قاله الأثرم. قلت لأحمد: للرجل أن يصلي أربعا في السفر؟ قال: لا ما يعجبني. وحكى ابن المنذر في (الأشراف): أن أحمد قال: أنا أحب العافية عن هذه المسألة. وقال البغوي: هذا قول أكثر العلماء. وقال الخطابي: الأولى القصر، ليخرج عن الخلاف. وقال الترمذي، رحمه الله تعالى: العمل على ما فعله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، وهو القصر، وهو قول محمد بن سحنون ورواية عن مالك وأحمد، وهو قول الثوري وحماد، وهو المنقول عن عمر وعلي وجابر وابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، وبهذا يرد على هذا القائل في قوله: وهو قول جمهور الصحابة والتابعين. وقال هذا القائل: واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلى أربعا باتفاقهم، ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم، والجواب عن هذا: أن صلاة المسافر كانت أربعا عند اقتدائه بالمقيم لالتزامه المتابعة، فيتغير فرضه للتبعية ولا يتغير في الركعتين الأخريين، لأنه ما كان فرضا لا بد من إتيانه كله، وليس له خيار في تركه. وإيراد ابن بطال بأنا وجدنا واجبا يتخير بين الإتيان بجميعه أو ببعضه، وهو لإقامة بمنى غير وارد، لأن الإقامة بمنى اختياره وليس هو مما نحن فيه، لا يقال: إن اقتداء المسافر بالمقيم باختياره، لأنا نقول: نعم باختياره، ولكن عند الاقتداء يزول اختياره لضرورة التزام التبعية. فافهم. فإذا احتج الخصم بقوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101). بأن لفظة: * (لا جناح) * يدل على الإباحة لا على الوجوب، فدل على أن القصر مباح، أجبنا عنه: بأن المراد من القصر المذكور هو القصر في الأوصاف من ترك القيام إلى القعود، أو ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لخوف العدو، بدليل أنه علق ذلك بالخوف، إذ قصر الأصل غير متعلق بالخوف بالإجماع، بل متعلق بالسفر، وعندنا قصر الأوصاف عند الخوف مباح لا واجب، مع أن رفع الجناح في النص لدفع توهم النقصان في صلاتهم بسبب دوامهم على الإتمام في الحضر، وذلك مظنة توهم النقصان، فرفع ذلك عنهم، وإن احتج بما رواه مسلم والأربعة (عن يعلى بن أمية، قال: قلت لعمر، رضي الله تعالى عنه..) الحديث، وقد مضى عن قريب ووجه التعلق به أنه علق القصر بالقبول وسماه صدقة، والمتصدق عليه مخير في
122

قبول الصدقة، فلا يلزمه القبول حتما، أجبنا عنه بأنه دليل لنا، لأنه أمر بالقبول والأمر للوجوب، ولأن هذه صدقة واجبة في الذمة فليس له حكم المال، فيكون إسقاطا محضا، ولا يرتد بالرد كالصدقة بالقصاص والطلاق والعتاق، يكون إسقاطا لا يرتد بالرد، فكذا هذا.
ولنا أحاديث: منها: حديث عائشة (قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر)، رواه البخاري ومسلم. ومنها: حديث ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة)، رواه مسلم، ورواه الطبراني: (افترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا. ومنها: حديث عمر قال: (صلاة السفر ركعتان وصلاة الضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم)، رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في (صحيحه). ومنها: حديث ابن عمر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن صلال يعلمنا، فكان فيما علمنا أن الله، عز وجل، أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر..)، رواه النسائي. ومنها: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المتمم الصلاة في السفر كالمقصر في الحضر)، رواه الدارقطني في (سننه).
3
((باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجته))
أي: هذا باب يذكر فيه كم من يوم أقام النبي صلى الله عليه وسلم في حجه.
5801 حدثنا موساى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب قال حدثنا أيوب عن أبي العالية البراء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي.
.
مطابقته للترجمة غير تامة، وإنما في الحديث بيان قدومه صلى الله عليه وسلم برابعة ذي الحجة، وليس فيه: كم من يوم أقام النبي، ولكنه من المعلوم أن حجه هو حجة الوداع، وكان في مكة وحواليها إلى الرابع عشر من ذي الحجة، فهذه الإقامة عشرة أيام، كما في حديث أنس الذي مضى في أول الأبواب، وبينا ذلك مستقصى.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل أبو سلمة، وقد تكرر ذكره. الثاني: وهيب بن خالد أبو بكر، وقد مر في: باب من أجاب الفتيا في العلم. الثالث: أيوب السختياني. الرابع: أبو العالية اسمه زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف: ابن فيروز، وقيل غير ذلك، وهو غير أبي العالية الرياحي، واسمه رفيع، بضم الراء وفتح الفاء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره عين مهملة، وكلاهما بصريان تابعيان يرويان عن ابن عباس: ويتميز أبو العالية زياد بالبراء، بفتح الباء الموحدة وتشديد الراء، وكان يبري النبل، وقيل: القصب. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته كلم بصريون. وفيه: أحدهم مذكور بالتصغير والآخر بلا نسبة والآخر بالكنية والنسبة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الحج عن نصر بن علي وعن إبراهم بن دينار وعن أبي داود المبارك وعن محمد بن المثنى وعن هارون بن عبد الله وعن عبد بن حميد، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن بشار وعن محمد بن معمر البحراني.
ذكر معناه: قوله: (الصبح رابعة) أي: اليوم الرابع من ذي الحجة. قوله: (يلبون بالحج) جملة حالية أي: محرمين، وذكر التلبية وإرادة الإحرام من طريق الكناية. قوله: (أن يجعلوها) أي: يجعلوا حجتهم عمرة، وليس هذا بإضمار قبل الذكر، لأن قوله: بالحج، يدل على أن الحجة كما في قوله تعالى: * (إعدلوا هو أقرب للتقوى) * (المائدة: 8). أي العدل. قوله: (هدي) بفتح الهاء وسكون الدال وخفة الياء، وبكسر الدال وتشديد الياء، هو ما يهدى إلى الحرم من النعم تقربا إلى الله تعالى، وإنما استثنى صاحب الهدي لأنه لا يجوز له التحلل حتى يبلغ الهدي محله.
123

ذكر ما يستنبط منه: قد مضى في حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، أن مقامه بمكة في حجته كان عشرة أيام، وبين في هذا الحديث أنه قدم مكة رابعة ذي الحجة، وكان يوم الأحد، فصلى الصبح بذي طوى واستهل ذو الحجة في ذلك العام ليلة الخميس، فأقام بمكة يوم الأحد إلى ليلة الخميس ثم نهض ضحوة يوم الخميس إلى منى، فأقام بها باقي نهاره وليلة الجمعة، ثم نهض يوم الجمعة إلى عرفات أي: بعد الزوال، وخطب بنمرة بقرب عرفات، وبقي بها إلى الغروب، ثم أفاض ليلة السبت إلى المزدلفة فأقام بها إلى أن صلى الصبح، ثم أفاض منها إلى طلوع الشمس يوم السبت وهو يوم الأضحى والنفر إلى منى، فرمى جمرة العقبة ضحوة ثم نهض إلى مكة ذلك اليوم، فطاف بالبيت قبل الزوال، ثم رجع في يومه إلى منى فأقام بها باقي يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ثم أفاض بعد ظهر الثلاثاء، وهور آخر أيام التشريق إلى المحصب، فصلى به الظهر وبات فيه ليلة الأربعاء وفي تلك الليلة أعمر عائشة من التنعيم، ثم طاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح من يوم الأربعاء وهو صبيحة رابع عشرة، وأقام عشرة أيام كما ذكر في حديث أنس، ثم نهض إلى المدينة، فكان خروجه من المدينة إلى مكة لأربع بقين من ذي القعدة، وصلى الظهر بذي الحليفة وأحرم بأثرها، وهذا كله مستنبط من قوله: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة من ذي الحجة..) ومن الحديث الذي جاء أن يوم عرفة كان يوم جمعة، وفيه نزلت: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (المائدة: 3).
ومما يستفاد منه: أن أحمد وداود وأصحابه على جواز فسخ الحج في العمرة، وهو مذهب ابن عباس أيضا لأنه روى أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يجعلوا حجتهم عمرة إلا من كان ساق الهدي، ولا يجوز ذلك عند جمهور العلماء من الصحابة وغيرهم. قال ابن عبد البر: ما أعلم من الصحابة من يجيز ذلك إلا ابن عباس، وتابعه أحمد وداود، وأجاب الجمهور: أن ذلك خص به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز اليوم، والدليل على أن ذلك خاص للصحابة الذين حجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم ما رواه أبو داود: حدثنا النفيلي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، قال: أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن (عن الحارث ابن بلال بن الحارث عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا؟ قال: بل لكم خاصة). وأخرجه ابن ماجة والطحاوي أيضا، وروى الطحاوي أيضا: حدثنا ابن أبي عمران قال: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا عيسى بن يونس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن المرقع بن صيفي (عن أبي ذر، قال: إنما كان فسخ الحج للركب الذي كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم). وأخرج الطحاوي هذا من سبع طرق، وأخرجه ابن حزم من طريق المرقع، وقال: المرقع مجهول، وقد خالفه ابن عباس وأبو موسى فلم يريا ذلك خاصة، ولا يجوز أن يقال في سنة ثابتة: إنها خاصة لقوم دون قوم إلا بنص قرآن أو سنة صحيحة، قلنا: هذا مردود بأن سائر الصحابة ما وافقوه على هذا، والمرقع معروف غير مجهول، وقد روى عنه مثل يحيى بن سعيد الأنصاري ويونس بن أبي إسحاق وموسى بن عقبة وعبد الله بن ذكوان، ووثقه ابن حبان، واحتج به أبو داود والنسائي وابن ماجة، وعن أحمد: حديث أبي ذر من أن فسخ الحج في العمرة خاصة للصحابة صحيح،
والمرقع، بضم الميم وفتح الراء وتشديد القاف المكسورة وفي آخره عين مهملة.
تابعه عطاء عن جابر رضي الله تعالى عنه
أي: تابع أبو العالية عطاء بن أبي رباح في روايته عن جابر بن عبد الله، وأخرج البخاري هذه المتابعة مسندة في باب التمتع والإقران والإفراد في كتاب الحج، وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى.
4
((باب في كم يقصر الصلاة))
أي: هذا باب في بيان كم مدة يقصر الإنسان الصلاة فيها إذا قصد الوصول إليها بحيث لا يجوز له القصر إذا كان قصده أقل من تلك المدة؟ ولفظة: كم، استفهامية، ومميزها هو الذي قدرناه. قوله: (يقصر الصلاة) يجوز في: يقصر، أن يكون على بناء الفاعل، وأن يكون على بناء المفعول، فعلى الأول لفظ الصلاة منصوب، وعلى الثاني مرفوع.
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة
124

أشار بهذا إلى أن اختياره أن أقل المسافة التي يجوز فيها القصر يوم وليلة، حاصله أن من خرج من منزله وقصد موضعا إن كان بينه وبين مقصده ذلك مسيرة يوم وليلة يجوز له أن يقصر صلاته الرباعية، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز، وهذه العبارة رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا، وإطلاق السفر على يوم وليلة تجوز، وكذا إطلاق يوم وليلة على السفر، وهذا أنسب. يقال: سميت فلانا زيدا، وقد ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث: اثنان منها عن ابن عمر والآخر عن أبي هريرة، وفي حديث أبي هريرة: أقل مدة السفر التي لا يحل للمرأة أن تسافر فيها بدون زوج أو محرم يوم وليلة كما يأتي ذكره. وأشار إلى هذا بقوله: (وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة). وقال بعضهم: وتعقب بأن في بعض طرقه: ثلاثة أيام، كما في حديث ابن عمر، وفي بعضها: يوم وليلة، وفي بعضها: يوم، وفي بعضها: ليلة، وفي بعضها: بريد. قلت: ليس فيه تعقب لأن المحكي في هذا الباب نحو من عشرين قولا، وقد ذكرنا في هذا الباب الصلاة بمنى، وأشار بهذا إلى أن أقل المسافة التي اختارها من هذه الأقوال، يوم وليلة، ولا يقال المذكور في بعضها يوم فقط بدون ليلة، لأنا نقول: إذا ذكر اليوم مطلقا يراد به الكامل، وهو اليوم بليلته، وكذا إذا أطلقت الليلة بدون ذكر اليوم.
وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا
هذا التعليق أسنده البيهقي، فقال: أخبرنا ابن حامد الحافظ أخبرنا زاهر بن أحمد حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم حدثنا حجاج حدثني ليث حدثنا يزيد بن أبي حبيب (عن عطاء بن أبي رباح: أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة برد، فما فوق ذلك). قال أبو عمر: هذا عن ابن عباس معروف من نقل الثقات متصل الإسناد عنه من وجوه. منها ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عنه، وقال ابن أبي شيبة أخبرنا ابن عيينة عن عمر وأخبرني عطاء عنه، وحدثنا وكيع حدثنا هشام بن الغاز عن ربيعة الجرشي عن عطاء عنه، وقد اختلف عن ابن عمر في تحديد ذلك اختلافا كثيرا، فروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة فيه مال له بخيبر، وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلا، وروى وكيع من وجه آخر عن ابن عمر أنه قال: يقصر من المدينة إلى السويداء، وبينهما اثنان وسبعون ميلا، وروى عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة. قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلا من المدينة، وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر عن محارب: سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة، وإسناد كل من هذه الآثار صحيح، وقد اختلف في ذلك على ابن عمر، وأصح ما روي عنه ما رواه ابنه سالم ونافع أنه: كان لا يقصر إلا في اليوم التام أربعة برد، وفي (الموطأ) عن ابن شهاب عن مالك عن سالم عن أبيه: أنه كان يقصر في مسيرة اليوم التام، وقال بعضهم: على هذا في تمسك الحنفية بحديث ابن عمر، على أن: أقل مسافة القصر ثلاثة أيام إشكال، لا سيما على قاعدتهم بأن الاعتبار بما رأى الصحابي لا بما روى. قلت: ليس فيه إشكال، لأن هذا لا يشبه أن يكون رأيا، إنما يشبه أن يكون توقيفا على أن أصحابنا أيضا اختلفوا في هذا الباب اختلافا كثيرا، فالذي ذكره صاحب (الهداية): السفر الذي تتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشي الأقدام، وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن سماعة عن محمد، وقال المرغيناني وعامة المشايخ: قدروها بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخا، وقيل: ثمانية عشر فرسخا. قال المرغيناني: وعليه الفتوى. وقيل خمسة عشر فرسخا. وما ذكره صاحب (الهداية) هو مذهب عثمان وابن مسعود وسويد بن غفلة وفي (التمهيد): وحذيفة بن اليمان وأبو قلابة وشريك بن عبد الله وابن جبير وابن سيرين والشعبي والنخعي والثوري والحسن بن حي، وقد استقصينا الكلام فيه في: باب الصلاة بمنى. قوله: (وهو ستة عشر فرسخا) من كلام البخاري أي: البرد ستة عشر فرسخا، والبرد، بضم الباء الموحدة: جمع بريد، وقال ابن سيده: البريد فرسخان. وقيل: ما بين كل منزلين بريد، وقال صاحب (الجامع): البريد أميال معروفة، يقال: هو أربعة فراسخ. والفراسخ ثلاثة أميال. وفي (الواعي): البريد سكة من السكك، كل اثني عشر ميلا بريد، وكذا
125

ذكره في (الصحاح) وغيره. وفي (الجمهرة): البريد معروف عربي، والفرسخ، قال ابن سيده: هو ثلاثة أميال أو ستة، سمي بذلك لأن صاحبه إذا مشى وقعد واستراح، كأنه سكن، والفرسخ: السكون. وفي (الجامع): قيل: إنما سمي فرسخا من السعة. وقيل: المكان إذا لم يكن فيه فرجة فهو فرسخ. وقيل: الفرسخ
الطويل. وفي (مجمع الغرائب): فراسخ الليل والنهار ساعاتهما وأوقاتهما. وفي (الصحاح): هو فارسي معرب، والميل من الأرض معروف، وهو قدر مد البصر، وقيل: ليس له حد معلوم، وقيل: هو ثلاثة آلاف ذراع، وعن يعقوب: منتهى مد البصر، ويقال: الميل عشر غلوات، والغلوة طلق الفرس، وهو مائتا ذراع وفي (المغرب) للمطرزي الغلوة ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة. وقيل: هو قدر رمية سهم. وقال ابن عبد البر: أصح ما في الميل أنه ثلاثة آلاف ذراع وخمسمائة. وقيل: أربعة آلاف ذراع، وقيل: ألف خطوة بخطوة الجمل. وقيل: هو أن ينظر إلى الشخص فلا يعلم أهو آت أو ذاهب أو رجل هو أو امرأة. وقال عياض: وقيل: إثنا عشر ألف قدم، وعن الحربي قال أبو نصر: هو قطعة من الأرض ما بين العلمين.
6801 حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال قلت ل أبي أسامة حدثكم عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم.
(الحديث 6801 طرفه في: 7801).
مطابقته للترجمة من حيث إنه يبين الإبهام الذي في الترجمة ففسره أولا بقوله: (وسمى النبي صلى الله عليه وسلم السفر يوما وليلة). وثانيا بقوله: (وكان ابن عمر..) إلى آخره، وثالثا بهذا الحديث الذي رواه عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، لأن إبهام الترجمة وإطلاقه يتناول الكل.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: إسحاق، قال أبو علي الجياني: حيث قال البخاري: حدثنا إسحاق، فهو ابن راهويه. وإما ابن نصر السعدي. وإما ابن منصور الكوسج لأن الثلاثة أخرج عنهم البخاري عن أبي أسامة. قال الكرماني: إسحاق هو الحنظلي. قلت: هو إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم، يعرف بابن راهويه الحنظلي المروزي، والصواب معه، لأنه ساق هذا الحديث في مسنده بهذه العبارة. الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة الليثي، وقد مر غير مرة. الثالث: عبيد الله بن عمر العمري، وقد مر عن قريب. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله ابن عمر.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع، وفيه: قال وقلت. وفيه: أن شيخه مروزي وأبو أسامة كوفي وعبيد الله ونافع مدنيان. وفيه: دليل لمن قال: إنه لا يشترط في صحة الناقل قول الشيخ: نعم، في جواب من قال له: حدثكم فلان، بكذا، قال بعضهم: فيه نظر، لأن مسند إسحاق في آخره وأقر به أبو أسامة وقال: نعم. قلت: فيه نظر، لأن هذا المستدل إنما استدل بظاهر عبارة البخاري التي تساعده فيه على ما لا يخفى. وفيه: أن شيخه مذكور بغير نسبة، ويحتمل وجه ذلك أنه روى هذا الحديث من هؤلاء الثلاثة المسمى كل منهم بإسحاق ولم ينسبه ليتناول الثلاثة، لأنه أخرج عن الثلاثة عن أبي أسامة.
والحديث أخرجه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة وأخرجه مسلم أيضا من طريق الضحاك بن عثمان عن نافع مسيرة ثلاث ليال، والتوفيق بين الروايتين أن المراد: ثلاثة أيام بلياليها وثلاث ليال بأيامها.
ذكر ما يستنبط منه: احتج به أبو حنيفة وأصحابه وفقهاء أصحاب الحديث على أن المحرم شرط في وجوب الحج على المرأة إذا كانت بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، وبه قال النخعي والحسن البصري والثوري والأعمش. فإن قلت: الحج لم يدخل في السفر الذي نهى عنه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنه محمول على الأسفار غير الواجبة، والحج فرض، فلا يدخل في هذا النهي؟ قلت: النهي عام في كل سفر، ويؤيده ما رواه البخاري ومسلم. فقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، كلاهما عن سفيان، قال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عمرو بن دنار (عن أبي معبد قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك). ولفظ البخاري يجيء في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأخرجه ابن ماجة والطحاوي أيضا، ولفظ الطحاوي: (أردت أن أحج بامرأتي، فقال
126

رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحجج مع امرأتك). فدل ذلك على أنها لا ينبغي لها أن تحج إلا به، ولولا ذلك لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما حاجتها إليك لأنها تخرج مع المسلمين، وأنت فامض لوجهك فيما اكتتبت، ففي ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمره بذلك وأمره أن يحج معها دليل على أنها لا يصلح لها الحج إلا به. وروى ابن حزم حديث ابن عباس هذا في (المحلى) بسنده، كما مر، غير أن في لفظه: (إني نذرت أن أخرج في جيش كذا)، عوض قوله: (إني اكتتبت في غزوة كذا). ثم قال: ولم يقل صلى الله عليه وسلم: لا تخرج إلى الحج إلا معك، ولا نهاها عن الحج، بل ألزمه ترك نذره في الجهاد وألزمه الحج معها، فالفرض في ذلك عليه لا عليها. قلت: إنما قال ذلك توجيها لمذهبه في أن المرأة تحج من غير زوج ومحرم، فإن كان لها زوج ففرض عليه أن يحج معها وليس كما فهمه، بل الحديث في نفس الأمر حجة عليه، لأنه لما قال له: (فأخرج معها)، وأمر بالخروج معها فدل على عدم جواز سفرها إلا به أو بمحرم، وإنما ألزمه بترك نذره لتعلق جواز سفرها به. فإن قلت: ظاهر الحديث يدل على أن الزوج أو المحرم إذا امتنع عن الخروج معها في الحج أنه يجبر على ذلك، ومع هذا فأنتم تقولون: إذا امتنع الزوج أو المحرم لا يجبر عليه. قلت: فليكن كذلك فلا يضرنا هذا، وإنما قصدنا إثبات شرطية الزوج أو المحرم مع المرأة إذا أرادت الحج، على أن هذا الأمر ليس بأمر إلزام، وإنما نبه بذلك على أن المرأة لا تسافر إلا بزوجها، ومذهب الشافعي ومالك أن المرأة تسافر للحج الفرض بلا زوج ولا محرم، وإن كان بينها وبين مكة سفرا ولم يكن وخصا النهي الوارد عن ذلك بالأسفار غير الواجبة، ومذهب عطاء وسعيد بن كيسان وطائفة من الظاهرية: أنه يجوز سفر المرأة فيما دون البريد، فإذا كان بريدا فصاعدا فليس لها أن تسافر إلا بمحرم، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي، قال: حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا أبو عمر الضرير عن حماد بن سلمة، قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة
بريدا، إلا مع زوج أو ذي محرم). وأخرجه البيهقي أيضا، ولفظه: (لا تسافر المرأة بريدا إلا مع ذي محرم)، وأخرجه أبو داود نحوه.
وذهب الشعبي وطاووس وقوم من الظاهرية إلى أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر مطلقا سواء كان السفر قريبا أو بعيدا، إلا ومعها ذو محرم لها، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي. قال حدثنا روح بن الفرج، قال: حدثنا حامد بن يحيى، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم). قال الطحاوي: اتفقت الآثار التي فيها مدة الثلاث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم السفر ثلاثة أيام على المرأة بغير محرم، واختلف فيما دون الثلاث، فنظرنا في ذلك فوجدنا النهي عن السفر بلا محرم مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا ثابتا بهذه الآثار كلها، وكان توقيته ثلاثة أيام في ذلك إباحة السفر دون الثلاث لها بغير محرم، ولولا ذلك لما كان لذكره الثلاث معنى، ولنهى نهيا مطلقا. ولم يتكلم بكلام يكون فصلا، ولكن ذكر الثلاث ليعلم أن ما دونها بخلافها، ثم ما روي عنه في منعها من السفر دون الثلاث من اليوم واليومين والبريد، فكل واحد من تلك الآثار، ومن الأثر المروي في الثلاث متى كان بعد الذي خالفه شيخه إن كان على سفر اليوم بلا محرم بعد النهي عن سفر الثلاث بلا محرم فهو ناسخ، وإن كان خبر الثلاث هو المتأخر عنه فهو ناسخ، فقد ثبت أن أحد المعاني دون الثلاث ناسخة للثلاث، أو الثلاث ناسخة لها، فلم يخل خبر الثلاث من أحد وجهين: إما أن يكون هو المتقدم، أو يكون هو المتأخر، فإن كان هو المتقدم فقد أباح السفر بأقل من ثلاث بلا محرم، ثم جاء بعده النهي عن سفر ما هو دون الثلاث بغير محرم، فحرم ما حرم الحديث الأول وزاد عليه حرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث، فوجب استعمال الثلاث على ما أوجبه الأثر المذكور فيه، وإن كان هو المتأخر وغيره المتقدم فهو ناسخ لما تقدمه، والذي تقدمه غير واجب العمل به، فحديث الثلاث واجب استعماله على الأحوال كلها، وما خالفه فقد يجب استعماله إن كان هو المتأخر، ولا يجب إن كان هو المتقدم، فالذي قد وجب علينا استعماله والأخذ به في كلا الوجهين أولى مما يجب استعماله في حال وتركه في حال. انتهى.
وقال القاضي عياض: وقوله في الرواية الواحدة عن أبي سعيد: ثلاث ليال، وفي الأخرى: يومين، وفي الأخرى: أكثر من ثلاث، وفي حديث ابن عمر: ثلاث، وفي حديث أبي هريرة: مسيرة ليلة، وفي الأخرى عنه: يوم وليلة، وفي الأخرى عنه: ثلاث، وهذا كله ليس يتنافر ولا يختلف،
127

فيكون صلى الله عليه وسلم منع من ثلاث ومن يومين ومن يوم أو يوم وليلة، وهوأقلها، وقد يكون قوله صلى الله عليه وسلم هذا في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة، فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده، وإن حدث بها واحد فحدث بها مرات على اختلاف ما سمعها، وبحسب اختلاف هذه الروايات اختلف الفقهاء في تقصير المسافر وأقل السفر. فإن قلت: حديث الباب الذي رواه عمر الذي فيه تعيين ثلاثة أيام، وأنه ممنوع إلا بذي محرم، وقد روي عنه من قوله خلاف ذلك، قال الطحاوي: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا بكر بن مضر عن عمرو بن الحارث (عن بكير أن نافعا حدثه أنه: كان يسافر مع ابن عمر مواليات له ليس معهن ذو محرم). قلت: قد يجوز أن يكون سفرهن بغير محرم هو السفرالذي لم يدخل فيها نهي عنه صلى الله عليه وسلم. قوله: (مواليات)، بضم الميم، أي: نساء مواليات من الموالاة، وعقد الموالاة أن يسلك رجل على يد آخر فيواليه، فيقول: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني إذا جنيت، فهذا عقد صحيح. وكذا لو أسلم على يد رجل ووالى غيره. فإن قلت: روي عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنها كانت تسافر بغير محرم، فأخذ به جماعة وجوزوا سفرها بغير محرم. قلت: كان الناس لعائشة محرما لأنها أم المؤمنين، فمع أيهم سافرت فقد سافرت بمحرم، وليس الناس لغيرها من النساء كذلك، وهذا الجواب من أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه.
7801 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم.
(أنظر الحديث 6801).
هذا طريق آخر لحديث ابن عمر عن مسدد عن يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع إلى آخره. قوله: (إلا معها ذو محرم) رواية الأصيلي وأبي ذر وفي رواية غيرهما: (إلا مع ذي محرم)، والمحرم، بفتح الميم: من لا يحل له نكاحها، ووقع في رواية أبي سعيد عند مسلم وأبي داود: (إلا ومعها أبوها وأخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها). واختلف في المحرم، فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب: كأبيها وأخيها وابن أختها وابن أخيها وخالها وعمها، ومع محرمها بالرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه، ونحوهم، ومع محرمها من المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها، ولا كراهة في شيء من ذلك إلا أن مالكا كره سفرها مع ابن زوجها لفساد الناس بعد العصر الأول، وكذلك يجوز لهؤلاء الخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة، ولكن لا يحل النظر بشهوة.
تابعه أحمد عن ابن المبارك عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع عبيد الله أحمد حيث رواه عن عبد الله بن المبارك عن عبيد الله العمري عن نافع عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، أي: مرفوعا نحوه، وذكر البخاري متابعته إياه دفعا لمن قال: إنه موقوف، وفي (علل الدارقطني) قال يحيى بن سعيد القطان: ما أنكرت على عبيد الله بن عمر إلا هذا الحديث. وقال: رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر موقوفا. قال صاحب (التلويح): رواه ابن أبي شيبة في (مسنده) عن ابن نمير وعن أبي أسامة عن عبيد الله، فذكره مرفوعا، قال: رأيت حاشية بخط قديم جدا: هذا الحديث غلط، غلط، فيه عبيد الله عن نافع، ولم ينكر عليه القطان غيره. قال: وفيه نظر لجلالة عبيد الله، ولأن يحيى نفسه رواه عنه فلو كان منكرا ما رواه عنه وإذا رواه عنه فلا يحدث، ثم قال: وقد وجدنا لعبيد الله متابعا على رفعه، رواه مسلم في (صحيحه) عن محمد بن رافع: حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، فذكره بلفظ: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم). وأما أحمد المذكور فقال الكرماني: هو أحمد بن محمد بن موسى المروزي، يكنى أبا العباس، ويلقب بمردويه. قلت: هكذا ذكر الحاكم أبو عبد الله أنه أحمد بن محمد بن موسى
مردويه، وزعم الدارقطني أنه: أحمد بن محمد بن ثابت شبويه، وقال أحمد بن عدي: لا يعرف. قيل: إنه أحمد بن حنبل، وهو غير صحيح، لأنه لم يسمع عن عبد الله بن المبارك.
8801 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه
128

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة.
مطابقته للترجمة ما ذكرناه في أول حديث الباب.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا غير مرة، وآدم ابن إياس من أفراد البخاري وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، واسم أبي ذئب: هشام العامري المدني، وسعيد ابن أبي سعيد المدني، وكنيته أبو سعيد، وأبوه سعيد واسمه: كيسان المقبري، بضم الباء الموحدة: نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان أبو سعيد مجاورا لها.
والحديث أخرجه مسلم في الحج، وقال: حدثني زهير بن حرب، قال): حدثنا يحيى ابن سعيد عن ابن أبي ذئب، قال: حدثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم).
ذكر الاختلاف فيه في المتن والسند: أما الاختلاف في المتن: فإن رواية البخاري: (مسيرة يوم وليلة)، وفي رواية مسلم: (مسيرة يوم)، والتوفيق بينهما بأن يقال: المراد بيوم في رواية مسلم هو اليوم بليلته. وفي رواية البخاري: (أن تسافر) وفي رواية مسلم: (تسافر) بدون ذكر: أن، وهذا ليس باختلاف على الحقيقة، لأن: أن، مقدرة في رواية مسلم، وفي رواية البخاري: (ليس معها حرمة) وفي رواية مسلم: (إلا مع ذي محرم)، وهذا الاختلاف في الصورة وفي المعنى كلاهما سواء.
وأما الاختلاف في السند: فإن البخاري ومسلما اتفقا في هذه الرواية عن سعيد المقبري عن أبيه، وروى مسلم أيضا بدون ذكر أبيه، فقال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة أن تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها). وكذلك اختلف فيه على مالك، ففي رواية مسلم عند ذكر أبيه، حيث قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها). وقال أبو داود: أخبرنا عبد الله بن مسلمة والنفيلي عن مالك، قال: وحدثنا الحسن بن علي، قال: حدثنا بشر بن عمر، قال: حدثني مالك عن سعيد بن أبي سعيد، قال الحسن في حديثه عن أبيه: ثم اتفقوا على أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة). قال أبو داود: لم يذكر النفيلي والقعنبي عن أبيه. وقال أبو داود، رواه ابن وهب وعثمان بن عمر عن مالك، كما قال القعنبي، وقال الدارقطني في (الغرائب): رواه بشر بن عمر وإسحاق الفروي عن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وعند الإسماعيلي من حديث الوليد بن مسلم عن مالك مثل حديث بشر بن عمر، وقال أبو عمر: روى شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وقال الدارقطني في (استدراكه) على الشيخين: كونهما أخرجاه من حديث أبي ذئب عن سعيد عن أبيه، وقال: الصواب: سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه، واحتج بأن مالكا ويحيى بن أبي كثير وسهيلا قالوا: عن سعيد عن أبي هريرة، فهذا الدارقطني رجح رواية إسحاق عن أبيه، ولكن في رواية الشيخين: عن أبيه، زيادة من الثقة، وهي مقبولة، وقد وافق ابن أبي ذئب على قوله: عن أبيه، الليث بن سعد في رواية أبي داود عنه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا سعيد، قال: حدثنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها)، والليث وابن أبي ذئب من أثبت الناس في سعيد، وذكرنا عن مسلم عن قريب بعين الإسناد والمتن، ولكن ليس فيه عن أبيه، كذا رأيته في بعض النسخ، وفي بعضها: عن أبيه، فإن صحت الروايتان يكون على الليث أيضا اختلاف ينظر فيه.
ذكر معناه: قوله: (لا يحل)، فعل مضارع وفاعله قوله: (أن تسافر)، و: أن، مصدرية تقديره: لا يحل لامرأة مسافرتها مسيرة يوم. وقال صاحب (التلويح): الهاء في: مسيرة يوم، للمرة الواحدة، التقدير: أن تسافر مرة واحدة سفرة واحدة مخصوصة بيوم وليلة، وتبعه على هذا صاحب (التوضيح) وهذا تصرف عجيب، ولفظ: (مسيرة) مصدر ميمي بمعنى: السير، كالمعيشة بمعنى العيش، وليست التاء فيه للمرة، وما كل تاء تدخل المصدر تدل على الوحدة. قوله: (تؤمن بالله واليوم
129

الآخر) ظاهره أن هذا قيد يخرج الكافرات، كما ذهب إليه البعض، وليس كذلك، بل هو وصف لتأكيد التحريم لأنه تعريض أنها إذا سافرت بغير محرم فإنها تخالف شرط الإيمان بالله واليوم الآخر، لأن التعرض إلى وصفها بذلك إشارة إلى إلزام الوقوف عندما نهيت عنه، وأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقضي لها بذلك. قوله: (ليس معها حرمة) جملة حالية، أي: ليس معها رجل ذو حرمة منها، كما في رواية مسلم، كذلك، وقد مر عن قريب. واستدل بهذا الحديث الأوزاعي والليث على: أن المرأة ليس لها أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا بذي محرم، ولها أن تسافر في أقل من ذلك، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
تابعه يحيى بن أبي كثير وسهيل ومالك عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
أي: تابع ابن أبي ذئب عن أبي هريرة يحيى وسهيل ومالك، فهذه المتابعة في متن الحديث لا في الإسناد، لأنهم لم يقولوا عن أبيه. وقال المزني: يعني تابعه في قوله: (مسيرة يوم وليلة) قلت: أشار بهذا إلى أن متابعة هؤلاء ابن أبي ذئب عن سعيد في لفظ المتن لا في ذكر سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، ولكن لم يختلف على يحيى
في روايته عن أبي سعيد عن أبيه، لأن الطحاوي روى هذا الحديث من طريق يحيى، وفيه: عن أبيه، حيث قال: حدثنا أبو أمية، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سعيد عن أبيه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تسافر يوما فما فوقه ألا ومعها ذو حرمة). وأخرجه أحمد في مسنده: حدثنا حسن حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سعيد أن أباه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تسافر يوما فما فوقه إلا ومعها ذو حرمة).
واختلف في ذلك على سهيل ومالك. أما الاختلاف على سهيل فقال أبو داود: حدثنا يوسف بن موسى عن جرير عن سهيل عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة.. الحديث، وفيه: أن تسافر بريدا. وأخرجه الطحاوي: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا أبو عمر الضرير عن حماد بن سلمة، قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة بريدا إلا مع زوج أو ذي محرم). وأخرجه البيهقي أيضا نحوه، فهذه ليس فيها ذكر: عن أبيه، وروى مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري، قال حدثنا بشر، يعني ابن المفضل، قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثا إلا ومعها ذو محرم عليها)، فهذا في روايته أبدل سعيدا بأبي صالح، وخالف في اللفظ أيضا فقال: (أن تسافر ثلاثا)، ويحتمل أن يكون الحديثان معا عند سهيل، ولذلك صحح ابن حبان الطريقين عنه، وقال ابن عبد البر: رواية سهيل مضطربة في الإسناد والمتن.
وأما الاختلاف على مالك فقد ذكرناه عن قريب، وقد رأيت الاختلاف الظاهر بين الحفاظ في ذكر أبيه، فلعله سمع من أبيه عن أبي هريرة، ثم سمع عن أبي هريرة نفسه، فرواه تارة كذا وتارة كذا، وسماعه عن أبي هريرة صحيح.
5
((باب يقصر إذا خرج من موضعه))
أي: هذا باب يذكر فيه أن الإنسان يقصر صلاته الرباعية إذا خرج من موضعه قاصدا سفرا تقصر في مثله الصلاة.
وخرج علي عليه السلام فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هاذه الكوفة قال لا حتى ندخلها
مطابقته للترجمة ظاهرة، والكلام فيه على أنواع:
الأول: في معناه فقوله: (وخرج علي) أي: من الكوفة. لأن قوله: (هذه الكوفة) يدل عليه. قوله: (فقصر) أي: الصلاة الرباعية. قوله: (وهو يرى البيوت) جملة حالية أي: والحال أنه يرى بيوت الكوفة. قوله: (فلما رجع) أي: من سفره هذا. قوله: (هذه الكوفة) يعني: هل نتم الصلاة؟ قال: لا، أي: لا نتم حتى ندخلها.
النوع الثاني: إن هذا التعليق أخرجه الحاكم موصولا من رواية الثوري عن وقاء بن إياس (عن علي بن ربيعة، قال: خرجنا مع علي، رضي الله تعالى عنه، فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت، ثم رجعنا فقصرنا الصلاة ونحن نرى البيوت).
130

وأخرجه البيهقي من طريق يزيد بن هارون (عن وقاء بن إياس: خرجنا مع علي، رضي الله تعالى عنه، متوجهين ههنا، وأشار بيده إلى الشام، فصلى ركعتين ركعتين حتى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة حضرت الصلاة، قالوا: يا أمير المؤمنين هذه الكوفة، أنتم الصلاة؟ قال: لا، حتى ندخلها). ووقاء، بكسر الواو وبعدها قاف ثم مدة: ابن إياس، بكسر الهمزة وتخفيف الياء آخر الحروف. قال صاحب (التلويح): فيه كلام. وقال أبو عمر: روي مثل هذا عن علي من وجوه شتى. قلت: روى ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا عباد بن العوام عن داود بن أبي هند (عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي أن عليا، رضي الله تعالى عنه، خرج من البصرة فصلى الظهر أربعا، ثم قال: إنا لو جاوزنا هذا الخص لصلينا ركعتين). ورواه عبد الرزاق في (مصنفه): أخبرنا سفيان الثوري عن داود بن أبي هند (عن أبي حرب بن أبي الأسود: أن عليا لما خرج من البصرة رأى خصا، فقال: لولا هذا الخص لصلينا ركعتين، فقلت: وما الخص؟ قال: بيت من القصب). قلت: هو بضم الخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة. قال أبو عمر: روى سفيان بن عيينة وغيره عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: (خرجت مع علي بن أبي طالب إلى صفين، فلما كان بين الجسر والقنطرة صلى ركعتين)، قال: وسنده صحيح.
النوع الثالث: في اختلاف العلماء في هذا الباب، فعندنا إذا فارق المسافر بيوت المصر يقصر، وفي (المبسوط): يقصر حين يخلف عمران المصر، وفي (الذخيرة): إن كانت لها محلة منتبذة من المصر وكانت قبل ذلك متصلة بها فإنه لا يقصر ما لم يجاوزها، ويخلف دورها بخلاف القرية التي تكون بفناء المصر، فإنه يقصر وإن لم يحاوزها. وفي (التحفة): المقيم إذا نوى السفر ومشى أو ركب لا يصير مسافرا ما لم يخرج من عمران المصر، لأن بنية العمل لا يصير عاملا ما لم يعمل، لأن الصائم إذا نوى الفطر لا يصير مفطرا. وفي (المحيط): والصحيح أنه تعتبر مجاوزة عمران المصر إلا إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض المصر، فحينئذ تعتبر مجاوزة القرى. وقال الشافعي: في البلد يشترط مجاوزة السور لا مجاوزة الأبنية المتصلة بالسور خارجة، وحكى الرافعي وجها: أن المعتبر مجاوزة الدور، ورجح الرافعي هذا الوجه في (المجرد)، والأول في الشرح وإن لم يكن في جهة خروجه سور، أو كان في قرية يشترط مفارقة العمران. وفي (المغني) لابن قدامة: ليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت مصره أو قريته، ويخلفها وراء ظهره. قال: وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو ثور. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على هذا، وعن عطاء وسليمان بن موسى: إنهما كانا يبيحان القصر في البلد لمن نوى السفر، وعن الحارث بن
أبي ربيعة: إنه أراد سفرا فصلى بالجماعة في منزله ركعتين، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله، وعن عطاء أنه قال: إذا دخل عليه وقت صلاة بعد خروجه من منزله قبل أن يفارق بيوت المصر يباح له القصر، وقال مجاهد: إذا ابتدأ السفر بالنهار لا يقصر حتى يدخل الليل، وإذا ابتدأ بالليل لا يقصر حتى يدخل النهار.
9801 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن أنسا يخبر في حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر صلاته بعدما خرج من المدينة، والترجمة هكذا. والمناسبة بينه وبين أثر علي، رضي الله تعالى عنه، المذكور من حيث إن أثر علي يدل على أن القصر يشرع بفراق الحضر، وحديث أنس كذلك، لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما قصر حتى فارق المدينة، وكان قصره في ذي الحليفة، لأنه كان أول منزل نزله ولم تحضر قبله صلاة، ولا يصح استدلال من استدل به على إباحة القصر في السفر القصير لكون بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، لأن ذا الحليفة لم تكن منتهى سفر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما خرج إليها يريد مكة، فاتفق نزوله بها وكانت صلاة العصر أول صلاة حضرت بها فقصرها، واستمر على ذلك إلى أن رجع.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين. الثاني: سفيان الثوري، نص عليه المزي في (الأطراف). الثالث: محمد بن المنكدر، بلفظ اسم الفاعل من الانكدار، ابن عبد الله القرشي التيمي المدني، مات سنة ثلاثين ومائة، قاله الواقدي. الرابع: إبراهيم بن ميسرة ضد الميمنة الطائفي المكي. الخامس: أنس بن مالك.
ذكر لطائف
131

إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: تابعيان يرويان عن صحابي. وفيه: أن شيخه كوفي وشيخ شيحه كذلك والثالث مدني والرابع مكي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن محمد بن المنكدر في الحج أيضا عن عبد الله بن محمد ابن هشام بن يوسف. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن أحمد بن حنبل، وهنا أخرجه البخاري: عن إبراهيم بن ميسرة عن أنس. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن سعيد بن منصور. وأخرجه أبو داود فيه عن زهير بن حرب. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة. وكذلك أخرجه النسائي لكن ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة.
ذكر معناه: قوله: (أربعا) أي: أربع ركعات، هذا الذي على هذه الصورة رواية الكشميهني وفي رواية غيره: (صليت الظهر مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين). قال ابن حزم، والمراد بركعتين: هي العصر، كما جاء مبينا في رواية أخرى. قال: وكان ذلك يوم الخميس لست ليال بقين من ذي القعدة. وابن سعيد يقول: يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة. وفي (صحيح مسلم): لخمس بقين من ذي القعدة، وذلك لستة عشر للحج. قوله: (والعصر) بالنصب أي: صلاة العصر. قوله: (بذي الحليفة)، ذو الحليفة ماء لبني جشم، قال عياض: على سبعة أميال من المدينة. قال ابن قرقول: ستة، وقال البكري: هي تصغير حلفة، وهي ميقات أهل المدينة.
ذكر ما يستنبط منه: وفي (التوضيح): أورد الشافعي هذا الحديث مستدلا على أن من أراد سفرا وصلى قبل خروجه فإنه يتم، كما فعله الشارع في الظهر بالمدينة، وقد نوى السفر، ثم صلى العصر بذي الحليفة ركعتين، والحاصل أن من نوى السفر فلا يقصر حتى يفارق بيوت مصره، وقد ذكرنا الخلاف فيه عن قريب مستقصى. وفيه: حجة على من يقول: يقصر إذا أراد السفر، ولو في بيته، وعلى مجاهد في قوله: لا يقصر حتى يدخل الليل.
0901 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تتم قال تأولت ما تأول عثمان رضي الله تعالى عنه.
(أنظر الحديث 053 وطرفه).
مطابقته للترجمة تأتي بتوجيهه، وإن كان فيه بعض التعسف، وهو أن ذكر السفر يصدق على المسافر فيدل على أنه إذا خرج من موضعه يقصر عند وجود شرط القصر. فافهم.
ورجاله ذكروا غير مرة، وعبد الله بن محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالمسندي، وسفيان هو ابن عيينة، والزهري هو محمد بن مسلم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية. وفيه: أن شيخه بخاري وسفيان مكي والزهري وعروة مدنيان.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن علي بن خشرم. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن سفيان، وقد مر هذا الحديث في أول كتاب الصلاة،. أخرجه عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة، وقد مضى الكلام فيه مستوفى. ونتكلم فيه بما لم يذكر هناك.
قوله: (أول) بالرفع على أنه بدل من الصلاة، أو: مبتدأ ثان وخبره. قوله: (ركعتان) والجملة خبر المبتدأ الأول، ويجوز نصب: أول، على الظرفية أي: في
أول. فإن قلت: في رواية كريمة: (ركعتين ركعتين) فأين الخبر على هذا؟ قلت: على هذه الرواية تكون الركعتين منصوبا على الحال، وقد سد مسد الخبر. قوله: (فرضت) قال أبو عمر: كل من رواه عن عائشة قال فيه: فرضت الصلاة إلا ما حدث به أبو إسحاق الحربي، قال: حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا ابن المبارك حدثنا ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة (عن عائشة قالت: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين)، الحديث. انتهى كلامه. قلت: في مسند عبد الله بن وهب بسند صحيح، (عن عروة عنها: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين..) الحديث. وعند السراج، بسند صحيح:
132

(فرض الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما فرضها ركعتين) (ح) وفي لفظ: (كان أول ما افترض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب)، وسنده صحيح. وعند البيهقي من حديث داود بن أبي هند عن عامر (عن عائشة، قالت: افترض الله الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ركعتين ركعتين إلا المغرب، فلما هاجر إلى المدينة زاد إلى كل ركعتين ركعتين إلا صلاة الغداة). وقال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم بشهر، وأقرت صلاة السفر ركعتين، وقال المهلب: إلا المغرب فرضت وحدها ثلاثا، وما عداها ركعتين ركعتين. وقال الأصيلي: أول ما فرضت الصلاة أربعا على هيئتها اليوم، وأنكر قول من قال: فرضت ركعتين، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد. وأنكر حديث عائشة. وقال أبو عمر بن عبد البر: رواه مالك عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة، وقال: حديث صحيح الإسناد عند جماعة أهل النقل، لا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده إلا أن الأوزاعي قال فيه: عن الزهري عن عروة عن عائشة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة،. ولم يروه مالك عن ابن شهاب ولا عن هشام إلا أن شيخا يسمى محمد بن يحيى بن عباد بن هانىء رواه عن مالك وابن أخي الزهري جميعا عن الزهري عن عروة عن عائشة، وهذا لا يصح عن مالك، والصحيح في إسناده عن مالك في (الموطأ) وطرقه عن عائشة متواترة، وهو عنها صحيح ليس في إسناده مقال.
إلا أن أهل العلم اختلفوا في معناه. فذهب جماعة منهم إلى ظاهره وعمومه وما يوجبه لفظه، فأوجبوا القصر في السفر فرضا. وقالوا: لا يجوز لأحد أن يصلي في السفر إلا ركعتين ركعتين في الرباعيات، وحديث عائشة واضح في أن الركعتين للمسافر فرض، لأن الفرض الواجب لا يجوز خلافه، ولا الزيادة عليه ألا ترى أن المصلي في الحضر لا يجوز له أن يزيد في صلاة من الخمس، ولو زاد لفسدت، فكذلك المسافر لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعا، لأن فرضه فيه ركعتان. وممن ذهب إلى هذا عمر بن عبد العزيز، إن صح عنه. وعنه: الصلاة في السفر ركعتان لا يصح غيرهما، ذكره ابن حزم محتجا به، وحماد بن أبي سليمان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وقول بعض أصحاب مالك، وروى عن مالك أيضا وهو المشهور عنه، أنه قال: من أتم في السفر أعاد في الوقت، واستدلوا بحديث عمر بن الخطاب: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم)، رواه النسائي بسند صحيح، وبما رواه ابن عباس عند مسلم: (إن الله فرض الصلاة على نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين). وفي (التمهيد) من حديث أبي قلابة: (عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة)، وعن أنس بن مالك القشيري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وعند ابن حزم صحيحا عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة السفر ركعتان من ترك السنة كفر)، وعن ابن عباس: من صلى في السفر أربعا كمن صلى في الحضر ركعتين، وفي (مسند السراج) بسند جيد: عن عمرو بن أمية الضمري يرفعه: (إن الله تعالى وضع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة)، وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وجابر وابن عباس وابن عمر والثوري، رضي الله تعالى عنهم، وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة ألغاها وسجد للسهو. وقال الحسن بن حي: إذا صلى أربعا متعمدا أعادها إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإن طال ذلك منه وكثر في سفره لم يعد، وقال الحسن البصري: من صلى أربعا عمدا بئس ما صنع، وقضيت عنه. ثم قال: لا أبا لك، أترى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تركوها لأنها ثقلت عليهم؟ وقال الأثرم: قلت لأحمد: الرجل يصلي أربعا في السفر؟ قال: لا، ما يعجبني. وقال البغوي: قال الشافعي: هذا قول أكثر العلماء. وقال الخطابي: الأولى القصر ليخرج من الخلاف. وقال الترمذي: العمل على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الكرماني: فإن قلت: هذا الحديث دليل صريح للحنفية في وجوب القصر؟ قلت: لا دلالة لهم فيه، لأنه لو كان الحديث مجرى على ظاهرة لما جاز لعائشة إتمامها، ثم إنه خبر واحد لا يعارض لفظ القرآن وهو: * (أن تقصروا من الصلاة) * (النساء: 101). الصريح في أنها كانت في الأصل زائدة عليه، إذ القصر معناه التنقيص، ثم إن الحديث عام مخصوص بالمغرب وبالصبح، وحجية العام المخصص مختلف فيها، ثم إن راوية الحديث عائشة قد خالفت روايتها، وإذا خالف الراوي روايته لا يجب العمل بروايته عندهم قلت: لا نسلم أنه لا دلالة لنا فيه لأنه ينبئ بأن صلاة المسافر التي هي الركعتان فرضت في الأصل هكذا، والزيادة عليهما طارئة، ولم تستقر الزيادة إلا في الحضر، وبقيت صلاة المسافر فرضا على أصلها، وهو الركعتان، فكما لا تجوز الزيادة في الحضر بالإجماع، فكذا المسافر لا تجوز له
133

الزيادة، ولفظ: فرضت، وإن كان على صيغة المجهول، لكن يدل على أن الله هو الذي فرض، كما مر صريحا في الأحاديث المذكورة آنفا. وقوله: لأنه لو كان الحديث مجرى على ظاهره لما جاز لعائشة إتمامها، جوابه في نفس الحديث، وهو قول عروة: تأولت ما تأول عثمان، لأن الزهري لما روى هذا الحديث عن عروة عن عائشة ظهر له أن الركعتين هو الفرض في حق المسافر، لكن أشكل عليه إتمام عائشة من حيث إنها أخبرت بفرضية الركعتين في حق المسافر، ثم إنها كيف أتمت؟ فسأل عروة بقوله: ما بال عائشة تتم؟ فأجاب عروة بقوله: (تأولت ما تأول عثمان، رضي الله تعالى عنه، وقد ذكرنا الوجوه التي ذكرت في تأول عثمان، وقد ذكر بعضهم الوجوه المذكورة، ثم قال: والمنقول في ذلك أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم، والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد الله ابن الزبير، قال: لما قدم علينا معاوية حاجا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة، ثم انصرف
إلى دار الندوة، فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا: لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة، قال: وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة يصلي بها الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة انتهى. قلت: هذا الذي ذكره يؤيد ما ذهبنا إليه من وجوب القصر، لأنه قال: كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا، وظاهره أنه كان يرى القصر واجبا للمسافر، وكان يرى حكم المقيم لمن أقام، ونحن أيضا نرى ذلك، غير أن المسافر متى يكون مقيما فيه: فيه خلاف قد ذكرناه، فلا يضرنا هذا الخلاف، ودعوانا في وجوب القصر في حق المسافر، ثم إن هذا القائل ادعى أن إسناد حديث أحمد حسن، ولم يذكر رواته حتى ينظر فيهم، وقول الكرماني: ثم إنه خبر واحد لا يعارض لفظ القرآن.. إلى آخره، قلنا: لا نسلم ذلك على الوجه الذي ذكرتم، لأن نفي الجناح في القصر إنما هو في الزيادة على الركعتين، لأن الصلاة فرضت بمكة: ركعتين ركعتين، وزيدت عليهما: ركعتان في المدينة، والآية مدنية نزلت في إباحة القصر للضاربين في الأرض وهم: المسافرون، فدل على أن إباحة القصر في الزيادة لا في الأصل، لأن الإجماع منعقد على أن المسافر لا يصلي في سفره أقل من ركعتين إلا ما شذ، قول من قال: إن المسافر يصلي ركعة عند الخوف، فلا يعتد بهذا القول، على أنا نقول أيضا: جاء في الحديث المشهور أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بأهل مكة في حجة الوداع ركعتين، ثم أمر مناديا ينادي: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. ولو كان فرض المسافر أربعا لم يحرمهم فضيلة الجماعة معه، وعند مسلم في رواية: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى صلاة المسافر، وأبو بكر وعمر وعثمان ثماني سنين، أو قال ست سنين). وفي رواية له: (صلى في السفر)، ولم يقل: بمنى، وفي رواية له: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين، وصحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله). وهكذا لفظ رواية أبي داود. وفي رواية ابن ماجة: (صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى).
فإن قلت: روى النسائي من رواية العلاء بن زهير عن عبد الرحمن ابن الأسود (عن عائشة أنها، اعتمرت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي: قصرت فأتممت، وأفطرت فصمت، قال: أحسنت يا عائشة، وما عاب علي). انتهى. قال البيهقي: وهو إسناد صحيح موصول، فهذا يدل على أن القصر غير واجب، إذ لو كان واجبا لأنكر النبي، صلى الله عليه وسلم، على عائشة في إتمامها. قلت: قد اختلف فيه على العلاء بن زهير، فرواه أبو نعيم عنه هكذا، ورواه محمد بن يوسف الفريابي عن العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة، فعلى هذا الإسناد غير موصول. وقال النووي في (الخلاصة): هذه اللفظة مشكلة، فإن المعروف أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يعتمر إلا أربع عمر، كلهن في ذي القعدة. فإن قلت: روى البزار من رواية المغيرة بن زياد عن عائشة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يسافر فيتم الصلاة ويقصر، ورواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح، ووافقه البيهقي على صحة إسناده. قلت: كيف يحكم بصحته وقد قال أحمد: المغيرة بن زياد منكر الحديث أحاديثه مناكير؟ وقال أبو حاتم وأبو زرعة: شيخ لا يحتج بحديثه؟ وأدخله البخاري في كتاب الضعفاء، وعادة البيهقي التصحيح عند الاحتجاج لإمامه والتضعيف عند الاحتجاج لغيره.
وقول الكرماني: ثم إن الحديث عام مخصوص بالمغرب والصبح غير سديد، لأن المراد من قولها: فرضت الصلاة، هي الصلاة المعهودة
134

في الشرع، وهي الصلوات الخمس، ومسماها معلوم، فكيف يصدق عليه حد العام وهو ما ينتظم جمعا من المسميات؟ وكيف يقول: مخصوص بالمغرب والصبح، وهو غير صحيح؟ لأن الخصوص إخراج بعض ما يتناوله العام، فكيف يخرج المغرب التي هي ثلاث ركعات من أصل الفرض الذي هو ركعتان؟ وأما الصبح فعلى الأصل فلا يتصور فيه صورة الإخراج؟ وقوله: وحجية العام المخصص مختلف فيها، غير وارد علينا لأنا لم نقر لا بالعموم ولا بالخصوص، فكيف يرد علينا ما قاله؟ ولئن سلمنا العموم فلا نسلم الخصوص على الوجه الذي ذكره، ولئن سلمنا العموم والخصوص فلا نسلم ترك الاحتجاج بالعام المخصوص مطلقا؟ وقوله: ثم إن راوية الحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها.. إلى آخره، غير وارد علينا لأنا لا نقول: إن عائشة خالفت ما روته، بل نقول: إنها أولت، كما قال عروة، ومما يؤيد ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام ابن عروة عن أبيه: (أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا بن أختي لا تشق علي)، فهذا يدل على أنها تأولت القصر ولم تنكره، وتأويلها إياه لا ينافي وجوبه في نفس الأمر، مع أن الإنكار لم ينقل عنها صريحا.
وبعد كل ذلك، فنحن ما اكتفينا في الاحتجاج فيما ذهبنا إليه بهذا الحديث وحده، ولنا في ذلك دلائل أخرى قد ذكرناها فيما مضى، وقال أبو عمر وغيره: اضطربت الآثار عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، في هذا الباب قلت: فلذلك ما اكتفى أصحابنا في الاحتجاج، ومما يؤيد ما ذهب إليه أصحابنا ما رواه عبد الرزاق في (مصنفه): عن معمر عن قتادة عن مورق العجلي، قال: (سئل ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن الصلاة في السفر؟ فقال: ركعتين ركعتين، من خالف السنة كفر). ورواه الطحاوي أيضا: حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبو التياح (عن مورق، قال: سأل صفوان بن محرز ابن عمر عن الصلاة في السفر؟ فقال: أخشى أن تكذب علي: ركعتان من خالف السنة كفر). وأخرجه البيهقي أيضا نحوه من حديث أبي التياح، واسم أبي التياح يزيد بن حميد الضبعي.
6
((باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر))
أي: هذا باب يذكر فيه أن المسافر يصلي صلاة المغرب ثلاث ركعات كما في الحضر وإنها لا يدخل فيها القصر وروى أحمد في مسنده من طريق ثمامة بن شراحيل قال خرجت إلى ابن عمر فقلت ما صلاة المسافر قال ركعتين ركعتين إلا المغرب.
1901 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير.
.
2901 وزاد الليث قال حدثني يونس عن ابن شهاب قال سالم كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة. قال سالم وأخر ابن عمر المغرب وكان استصرخ على امرأته صفية بنت أبي عبيد فقلت له الصلاة فقال سر فقلت له الصلاة فقال سر حتى سار ميلين أو ثلاثة ثم نزل فصلى ثم قال هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إذا أعجله السير. وقال عبد الله رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير يقيم المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بعد العشاء حتى يقوم من جوف الليل.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يقيم المغرب فيصليها ثلاثا).
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: أبو اليمان الحكم ابن نافع البهراني. الثاني: شعيب بن أبي حمزة. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: سالم بن عبد الله بن عمر.
135

الخامس: الليث بن سعد. السادس: يونس بن يزيد. السابع: عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: حدثنا أبو اليمان، وفي بعض النسخ: أخبرنا. وفيه: الإخبار أيضا بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: التحديث بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: القول في ثمانية مواضع. وفيه: الرؤية في موضعين. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه حمصيان، والزهري وسالم مدنيان، والليث مصري ويونس أيلي.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في موضعين: في تقصير الصلاة عن أبي اليمان. وأخرجه النسائي في الصلاة عن عمرو بن عثمان ابن سعيد بن كثير وعن أحمد لابن محمد بن مغيرة.
ذكر معناه: قوله: (كان إذا أعجله السير في السفر)، قيد السفر يخرج ما إذا كان خارج البلد في بستانه أو كرمه مثلا. قوله: (يؤخر المغرب) أي: يؤخر صلاة المغرب إلى وقت العشاء. قوله: (يفعله) أي: يفعل تأخير المغرب إلى وقت العشاء إذا كان يعجله السير في السفر. قوله: (وزاد الليث) أي: الليث بن سعد، وقد وصل الإسماعيلي فقال: أخبرني القاسم ابن زكريا حدثنا ابن زنجويه وحدثني إبراهيم بن هانىء حدثنا الرمادي، حدثنا أبو صالح حدثنا الليث بهذا، وقال الإسماعيلي: رأى البخاري أول الإرسال من الليث أقوى من روايته عن أبي صالح عن الليث، ولم يستخبر أن يروي عنه. قلت: هذا الوجه الذي ذكره فيه نظر، لأن البخاري روى عن أبي صالح في (صحيحه) على الصحيح، ولكنه يدلسه فيقول: حدثنا عبد الله، ولا ينسبه، وهو هو، نعم قد علق البخاري حديثا فقال فيه، قال الليث بن سعد حدثني جعفر بن ربيعة، ثم قال في آخر الحديث: حدثني عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث، فذكره. ولكن هذا عند ابن حمويه السرخسي دون صاحبيه، وقال في (تذهيب التهذيب): وقد صرح ابن حمويه عن الفربري عن البخاري بروايته عن عبد الله بن صالح عن الليث في حديث رواه البخاري أولا تعليقا، فلما فرغ من المتن قال: حدثني عبد الله بن صالح عن الليث به. ثم إعلم أن ظاهر سياق البخاري يدل على أن جميع ما بعد قوله: (زاد الليث)، ليس داخلا في رواية شعيب عن الزهري، وليس كذلك، فإن رواية شعيب عنه تأتي بعد ثمانية أبواب في: باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء، وإنما الزيادة في قصة صفية، وفعل ابن عمر خاصة، وفي (التصريح) بقوله: (قال عبد الله رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقط. قوله: (استصرخ) بضم التاء على صيغة المجهول، أي: أخبر بموت زوجته صفية بنت أبي عبيد، هي أخت المختار الثقفي. وهو من الصراخ، بالخاء المعجمة، وأصله الاستغاثة بصوت مرتفع، وكان هذا بطريق مكة بين ذلك في كتاب الجهاد من رواية أسلم مولى عمر، رضي الله تعالى عنه، على ما يجيء في كتاب الجهاد في: باب السرعة في السير. قوله: (الصلاة) بالنصب على الإغراء، ويجوز الرفع على الابتداء أي: الصلاة حضرت، ويجوز الرفع على الخبرية أي: هذه الصلاة، أي: وقت الصلاة. قوله: (فقال: سر) أي: فقال عبد الله لسالم: سر، وهو أمر من سار يسير. قوله: (ميلين) قد مضى أن الميل ثلث فرسخ، وهو أربعة آلاف خطوة. قوله: (ثم قال) أي: عبد الله بن عمر. قوله: (يقيم المغرب) من الإقامة، هكذا في رواية الأكثرين، وللحموي أيضا، وفي رواية المستملي والكشميهني: (يعتم، بضم الياء وسكون العين وكسر التاء المثناة من فوق: أي يدخل في العتمة وفي رواية كريمة: (يؤخر المغرب). قوله: (فيصليها ثلاثا) أي: فيصلي المغرب ثلاث ركعات. قوله: (وقلما يلبث) كلمة: ما، مصدرية أي: قل لبثه. قوله: (ولا يسبح) أي: لا يصلي من السبحة، وهو صلاة الليل.
ذكر ما يستنبط منه: فيه: الجمع بين المغرب والعشاء، وقال الكرماني: وهو حجة للشافعي في جواز الجمع بين المغربين بتأخير الأولى إلى الثانية. قلنا: ليس المراد منه أن يصليهما في وقت العشاء، ولكن المراد أن يؤخر المغرب إلى آخر وقتها، ثم يصليها ثم يصلي العشاء، وهو جمع بينهما صورة لا وقتا، وسيجئ تحقيق الكلام في بابه إن شاء الله تعالى. قال الكرماني: وهو عام في جميع الأسفار إلا سفر المعصية، فإنها رخصة، والرخص لا تناط بالمعاصي. قلنا: ينافي عموم نص القرآن فلا يجوز، وسيجئ الكلام فيه مستقصى.
وفيه: تأكيد قيام الليل لأنه صلى الله عليه وسلم لا يتركه في السفر، فالحضر أولى بذلك، وقال بعضهم: وفي قوله: (سر) جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
قلت: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن كان وقت الخطاب
136

وقت الحاجة فلا يجوز، وهذا إذا وقع في كلام الشارع ليس في غيره على ما عرف في موضعه.
وفيه: أن صلاة المغرب لا تقصر في السفر، وترجمة الباب عليه.
وقد روي عن جماعة من الصحابة في ذلك أحاديث: منها: ما رواه عبد الله بن عمر وهو المذكور في الباب. ومنها: ما رواه البزار عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، من رواية الحارث عنه، قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ركعتين إلا المغرب ثلاثا، وصليت معه في السفر ركعتين إلا المغرب ثلاثا). ومنها: ما رواه أحمد (عن عمران بن حصين من رواية أبي نضرة أن فتى من أسلم سأل عمران بن حصين عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صلى ركعتين إلا المغرب). ومنها: ما رواه الطبراني في (الأوسط) من رواية (عبد الله ابن يزيد عن خزيمة بن ثابت، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يجمع المغرب والعشاء ثلاثا واثنتين بإقامة واحدة). وقال ابن بطال: لم تقصر المغرب في السفر عما كانت عليه في أصل الفريضة، لأنها وتر صلاة النهار، قال: وهذا تمام في كل سفر، فمن ادعى أن ذلك في بعض الأسفار فعليه الدليل. وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: بلغني إن الملك الكامل سأل الحافظ أبا الخطاب بن دحية عن المغرب: هل تقصر في السفر؟ فأجابه بأنها تقصر إلى ركعين، فأنكر عليه ذلك. فروى حديثا بسنده فيه قصر المغرب إلى ركعتين، ونسب إلى أنه اختلقه، فالله أعلم هل يصح وقوعه في ذلك؟ وما أظنه يقع في مثل هذا، إلا أنه اتهم. قال الضياء المقدسي: لم يعجبني حاله، كان كثير الوقيعة في الأئمة، قال ابن واصل، قاضي حمان.. كان ابن دحية مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير له متهما بالمجازفة في النقل، وقال ابن نقطة: كان موصوفا بالمعرفة والفضل إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها. وذكره الذهبي في (الميزان) فقال: متهم في نقله، مع أنه كان من أوعية العلم، دخل فيما لا يعنيه. فإن قلت: ما وجه تسمية صلاة المغرب بوتر النهار وهي صلاة ليلية جهرية اتفاقا؟ قلت: أجيب بأنها لما كانت عقيب آخر النهار، وندب إلى تعجيلها عقيب الغروب أطلق عليها وتر النهار لقربها منه، لتميز عن الوتر المشروع في الليل، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة). وعيد الفطر إنما هو من شوال، ولكن لما كان عقيب رمضان سمي رمضان: شهر عيد لقربه منه.
7
((باب صلاة التطوع على الدواب حيثما توجهت به))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة التطوع على الدابة، ولفظ: الدابة، بالإفراد رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة وأبي الوقت على الدواب، بصيغة الجمع. فإن قلت: في حديثي الباب، وهما حديث عامر بن ربيعة وحديث عبد الله بن عمر لفظ: الراحلة. وفي الترجمة لفظ: الدابة؟ قلت: لفظ الدابة أعم من لفظ الراحلة، وفي الباب حديث جابر أيضا، ولفظه: (وهو راكب في غير القبلة)، وهذا اللفظ يتناول الدابة والراحلة فاختار في الترجمة لفظا أعم ليتناول اللفظين المذكورين، وهذا أوجه من الذي قاله ابن رشيد، وأورد فيه الصلاة على الراحلة لتكون ترجمته بأعم ليلحق الحكم بالقياس.
3901 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عامر عن أبيه. قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته حيث توجهت به.
مطابقته للترجمة من حيث إن الدابة تشمل الراحلة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني، وقد مر غير مرة. الثاني: عبد الأعلى بن عبد الأعلى أبو محمد الشامي، مر في: باب المسلم من سلم المسلمون. الثالث: معمر، بفتح الميمين، ابن راشد، وقد مر. الرابع: محمد بن مسلم الزهري. الخامس: عبد الله بن عامر رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، مات سنة خمس وثلاثين. السادس: أبوه عامر بن ربيعة العنزي، بفتح العين المهملة والنون وبالزاي: حليف آل عمر بن الخطاب، كان من المهاجرين الأولين، وشهد بدرا، مات بعيد مقتل عثمان، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: الرؤية.. وفيه: أن شيخه مديني وعبد الأعلى بصري والزهري مدني. وفيه: رواية التابعي عن الصحابي ورواية الصحابي عن الصحابي، قال الذهبي: لعبد الله ولأبيه صحبة، واستشهد عبد الله يوم الطائف. وفيه: رواية الابن عن الأب، وليس لعامر بن ربيعة
137

في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر في الجنائز، وآخر علقه في الصيام.
وأخرجه البخاري أيضا في تقصير الصلاة عن يحيى بن بكير عن ليث عن عقيل عن الزهري، وأخرجه مسلم في الصلاة عن عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى، كلاهما عن ابن وهب عن يونس عن الزهري.
ذكر معناه وما يستنبط منه: قوله: (على راحلته) وهي: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، ويقال: الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى، قاله الجوهري. وقال ابن الأثير: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة. قوله: (حيث توجهت به) أي: توجهت الدابة، يعني: إلى قبل القبلة أو غيرها. وقال الترمذي: والعمل عليه عند عامة أهل العلم، لا نعلم بينهم اختلافا، لا يرون بأسا أن يصلي الرجل على راحلته تطوعا حيث ما كان وجهه إلى القبلة أو غيرها قلت: هذا بالإجماع في السفر، واختلفوا في الحضر: فجوزه أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري من الشافعية وأهل
الظاهر، وعن بعض الشافعية: يجوز التنفل على الدابة في الحضر لكن مع استقبال القبلة في جميع الصلاة، وفي وجه آخر: يجوز للراكب دون الماشي، واستدل أبو يوسف ومن ذكرنا معه من جواز التنفل على الدابة في الحضر بعموم حديث الباب، لأنه لم يصرح فيه بذكر السفر، ومنع أبو حنيفة ومحمد من ذلك في الحضر، واحتجا على ذلك بحديث ابن عمر الآتي في: باب الإيماء على الدابة، عقيب هذا الباب، لأن السفر فيه مذكور، وفي إحدى روايات مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه).
ومما يستنبط منه: أنه يجوز ذلك للراكب دون الماشي، لأن ذلك رخصة، والرخص لا يقاس عليها، وجزم أصحاب الشافعي ترخيص الماشي في السفر بالتنفل إلى جهة مقصده إلا أن مذهبهم اشتراط استقبال القبلة في تحرمه وعند الركوع والسجود، ويشترط كونهما على الأرض، ولا يشترط استقباله في السلام على الأصح. ومما يستنبط من قوله: (على الراحلة): أن راكب السفينة ليس كراكب الدابة لتمكنه من الاستقبال، وسواء كانت السفينة واقفة أو سائرة. وقال الرافعي: وقيل: يجوز للملاح، وحكاه عن صاحب (العدة) وزاد النووي في (زيادات الروضة) وفي (شرح المهذب) حكايته عن الماوردي وغيره، وفي (التحقيق) للنووي: الجواز للملاح في حال تسييرها. وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: المعتبر توجه الراكب إلى جهة مقصده لا توجه الدابة حتى لو كانت الدابة متوجهة إلى جهة مقصده وركبها هو معترضا أو مقلوبا، فإنه لا يصح إلا أن يكون ما استقبله هو جهة القبلة، فيصح على الصحيح. وقيل: لا يصح لأن قبلته جهة مقصده.
4901 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمان أن جابر ابن عبد الله أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: لأول: أبو نعيم الفضل بن دكين. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن النحوي. الثالث: يحيى بن أبي كثير، وقد مر غير مرة. الرابع: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، بفتح الثاء المثلثة: العامري المدني. الخامس: جابر بن عبد الله.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين، وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيبان كوفي سكن البصرة ويحيى يماني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
وأخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن مسلم بن إبراهيم، وفي تقصير الصلاة عن معاذ بن فضالة.
قوله: (وهو راكب) وفي الرواية الآتية: (على راحلته نحو المشرق)، وزاد (وإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة)، وبين في المغازي من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة عن جابر، أن ذلك كان في غزوة أنمار، وكانت أرضهم قبل المشرق لمن يخرج من المدينة، فتكون القبلة على سائر المقاصد إليهم. وروى الترمذي عن محمود ابن غيلان: حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، قال: حدثنا سفيان عن أبي الزبير (عن جابر: قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، السجود أخفض من الركوع). وروى أحمد في (مسنده) من رواية ابن أبي
138

ليلى عن عطاء أو عطية (عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في التطوع حيث ما توجهت به يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع).
5901 حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا وهيب قال حدثنا موساى بن عقبة عن نافع قال وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي على راحلته ويوتر عليها ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يصلي على راحلته)، وقد ذكرنا أن لفظ. الدابة، في الترجمة يتناول الراحلة وغيرها، وعبد الأعلى ابن حماد مر في الغسل في: باب الجنب يخرج من المغتسل، ووهيب، بضم الواو: ابن خالد البصري وقد مر في كتاب العلم، وموسى ابن عقبة مر في إسباغ الوضوء.
قوله: (يصلي على راحلته) يعني، في السفر، وصرح به في الحديث الذي يأتي في الباب الذي بعده. قوله: (ويوتر على راحلته)، وقد احتج عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وسالم بن عبد الله ونافع مولى بن عمر بهذا الحديث وأمثاله على أن المسافر يجوز له أن يصلي الوتر على راحلته، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق، ويروى ذلك عن علي وابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، وكان مالك يقول: لا يصلي على الراحلة إلا في سفر تقصر فيه الصلاة. وقال الأوزاعي والشافعي: قصير السفر وطويله سواء في ذلك، يصلي على راحلته. وقال ابن حزم: يوتر المرء قائما وقاعدا لغير عذر إن شاء وعلى دابته، وقال أصحابنا: لا يجوز الوتر على الراحلة، ولا يجوز إلا على الأرض كما في الفرائض، وبه قال محمد بن سيرين وعروة ابن الزبير وإبراهيم النخعي، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله في رواية، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي: حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم: قال: حدثنا حنظلة بن أبي سفيان عن نافع (عن ابن عمر: أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل) وإسناده صحيح، ويزيد بن سنان شيخ النسائي أيضا، وأبو عاصم النبيل شيخ البخاري، وحنظلة روى له الجماعة، فهذا يعارض حديث الباب وأمثاله، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر من غير هذا الوجه من فعله، رواه الطحاوي: حدثما أبو بكرة قال حدثنا عثمان بن عمر وبكر بن بكار، قالا: حدثنا عمر بن ذر (عن مجاهد: أن ابن عمر كان يصلي في السفر على بعيره أينما توجه به، فإذا كان في السحر نزل فأوتر)، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد أيضا في (مسنده) من حديث سعيد بن جبير: (ان ابن عمر كان يصلي على راحلته تطوعا، فإذا أراد أن يوتر
نزل فأوتر على الأرض..)، فإذا كان الأمر كذلك لا يبقى لأهل المقالة الأولى حجة، ولا سيما الراوي، إذا فعل بخلاف ما روى، فإنه يدل على سقوط ما روى. فإن قلت: صلاة ابن عمر الوتر على الأرض لا تستلزم عدم جوازه عنده على الراحلة. لأنه يجوز له أن يفعل ذلك، وله أن يوتر على الراحلة. قلت: يجوز أن يكون ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من وتره على الراحلة قبل أن يحكم أمر الوتر ويغلظ شأنه، لأنه كان أولا كسائر التطوعات، ثم أكد بعد ذلك فنسخ. قال الطحاوي: فمن هذه الجهة ثبت نسخ الوتر على الراحلة، وكان ما فعله ابن عمر من وتره على الراحلة قبل علمه بالنسخ، ثم لما علمه رجع إليه وترك الوتر على الراحلة، ويجوز أن يكون الوتر عنده كالتطوع، فله أن يصلي على الراحلة وعلى الأرض. فإن قلت: ما وجه هذا النسخ؟ قلت: بدلالة التاريخ، وهو أن يكون أحد النصين معارضا للآخر بأن يكون أحدهما موجبا للحظر والآخر للإباحة، وينتفي هذا التعارض بالمصير إلى دلالة التاريخ، وهو أن النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للإباحة، فكان الأخذ به أولى وأحق. وقال الكرماني: فإن قيل: فمذهبكم أنه واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: الوتر؟ قلنا: وإن كان واجبا عليه، فقد صح فعله على الراحلة، ولو كان واجبا على العموم لم يصح على الراحلة كالظهر. فإن قالوا: الظهر فرض والوتر واجب، وبينهما فرق؟ قلنا: هذا الفرق اصطلاح لكم لا يسلمه الجمهور ولا يقتضيه الشرع ولا اللغة، ولو سلم لم يحصل غرضكم ههنا. انتهى. قلت: الحديث رواه ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، إنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث هن على فرائض وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وركعتا الفجر)، رواه أحمد في (مسنده) والحاكم في (مستدركه) والدارقطني والطبراني والبيهقي، ولفظ البيهقي: (ركعتا الضحى) بدل: (ركعتي
139

الفجر) وفي إسناده أبو جناب الكلبي، واسمه: يحيى بن أبي حية، وهو ضعيف. ولما رواه الحاكم سكت عليه، ولئن سلمنا صحته وخصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بوجوبه فالواجب لا يؤدى على الراحلة، ويحتمل أن يكون فعله على الراحلة من باب الخصوصية أيضا، وقوله: لا يسلمه الجمهور، وكلام لا طائل تحته، لأن الاصطلاح لا ينازع فيه، وقوله: ولا يقتضيه الشرع، أبعد من ذلك، لأنه لم يبين ما المراد من اقتضاء الشرع، وعدم اقتضائه. وقوله: ولا اللغة، كلام واه، لأن اللغة فرقت بين الفرض والواجب، ففي أي كتاب من كتب اللغة المعتبرة نص على أن الفرض والواجب واحد، وهذه مكابرة وعناد. وقوله: ولو سلم لم يحصل غرضكم ههنا، فنقول لو اطلع هذا على ما ورد من الأحاديث الدالة على وجوب الوتر وما ورد من الصحابة لما حصل له غرضه من هذه المناقشة بلا وجه.
8
((باب الإيماء على الدابة))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة بالإيماء على الدابة، مراده: أن من لم يتمكن من الركوع والسجود يومىء بهما.
6901 حدثنا موساى قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم قال حدثنا عبد الله بن دينار قال كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي في السفر على راحلته أينما توجهت يومىء. وذكر عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مضى هذا الحديث في أبواب الوتر في: باب الوتر في السفر، فإنه أخرجه هناك: عن موسى ابن إسماعيل عن جويرية بن أسماء عن نافع (عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومىء إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته). فانظر التفاوت بينهما في الإسناد والمتن، وكان لموسى بن إسماعيل المذكور شيخان هناك: جويرية، وههنا: عبد العزيز بن مسلم أبو زيد القسملي المروزي: سكن البصرة، مات سنة سبع وستين ومائة. قوله: (كان يفعله) أي: كان يفعل الإيماء الذي يدل عليه قوله: (يومىء).
9
((باب ينزل للمكتوبة))
أي: هذا باب يذكر فيه أن راكب الداية ينزل عنها لأجل صلاة الفرض.
7901 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عامر بن ربيعة أخبره قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الراحلة يومىء برأسه قبل أي وجه توجه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذالك في الصلاة المكتوبة.
(أنظر الحديث 3901 وطرفه).
8901 وقال الليث حدثني ينس عن ابن شهاب قال قال سالم كان عبد الله يصلي على دابته من الليل وهو مسافر ما يبالي حيث كان وجهه. قال ابن عمر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة)، وفي قوله: (غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة) وهذا الحديث قد تقدم قبل بابين في: باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر، فانظر التفاوت بينهما في السند والمتن.
وعقيل، بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري، ويونس هو ابن يزيد الأيلي.
قوله: (وهو على الراحلة) جملة حالية وكذلك، قوله: (يسبح)، حال من النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: يصلي صلاة النفل. وقال بعضهم: التسبيح حقيقة في
قوله: سبخان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل. قلت: ليس الأمر كذلك
140

وإنما التسبيح في الحقيقة التنزيه من النقائص، ثم يطلق على غيره من أنواع الذكر مجازا: كالتحميد والتمجيد، وغيرهما، وقد يطلق على صلاة التطوع فيقال: سبحة، وهو من أنواع المجاز من قبيل إطلاق الجزء على الكل، وقال هذا القائل أيضا: أو لأن المصلي منزه لله سبحانه وتعالى بإخلاص العبادة، والتسبيح التنزيه، فيكون من باب الملازمة. قلت: ليت شعري ما مراده من الملازمة، فإن كانت اصطلاحية فهي تستدعي اللازم والملزوم، فما اللازم هنا وما الملزوم؟ وإن أراد غير ذلك فعليه بيانه، وهذا الوجه أيضا يقتضي أن لا يختص بالنافلة، والحال أن إطلاق هذا مخصوص بالنافلة حيث قال: وأما اختصاص ذلك بالنافلة فهو عرف شرعي، وتحرير ذلك ما قاله ابن الأثير: وإنما خصت النافلة بالسبحة وإن شاركتها الفريضة في معنى التسبيح، لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة: سبحة لأنها نافلة كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة. قوله: (قبل) أي: وجه، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي: مقابل أي جهة. قوله: (وقال الليث) قد ذكرنا في باب يصلي في السفر، أن الإسماعيلي وصله.
9901 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمان ابن ثوبان قال حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل االقبلة.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث تقدم في: باب صلاة التطوع على الدابة، عن قريب فإنه أخرجه هناك: عن أبي نعيم عن شيبان عن يحيى إلى آخره. وههنا: عن معاذ، بضم الميم: ابن فضالة أبو زيد الزهراني، وهو من أفراد البخاري عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير.. إلى آخره.
قوله: (نحو المشرق) وفي رواية جابر السالفة: (وهو راكب في غير القبلة)، وبهذا أخذ جماهير العلماء، فهذا ونحوه من الأحاديث يخصص قوله تعالى: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 441 و 051). ويبين أن قوله تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 511). في النافلة لأن الله تعالى من لطفه وكرمه جعل باب النفل أوسع، وقد ذكرنا فيما مضى أقاويل العلماء في هذا الباب، وقال بعضهم: واستدل به على أن الوتر غير واجب عليه صلى الله عليه وسلم لإيقاعه إياه على الراحلة. قلت: قد ذكر عن قريب (عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثلاث هن علي فرائض وهو لكم تطوع: الوتر والنحر وركعتا الفجر). وقد ذكرنا أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ما هو فرض على الراحلة إذا شاء.
01
((باب صلاة التطوع على الحمار))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة التطوع على حمار، إنما أفرد هذا الباب بالذكر، وإن كان داخلا في: باب صلاة التطوع على الدابة، وفي: باب الإيماء على الدابة، إشارة أنه لا يشترط أن تكون الدابة طاهرة الفضلات، لكن يشترط أن لا يماس الراكب ما كان غير طاهر منها، وتنبيها على طهارة عرق الحمار، وكان الأصل أن يكون عرقه كلحمه لأنه متولد منه، ولكن خص بطهارته لركوب النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وعن هذا قال أصحابنا: كان ينبغي أن يكون عرق الحمار مشكوكا لأن عرق كل شيء يعتبر بسؤره، لكن لما ركبه النبي صلى الله عليه وسلم معروريا، والحر حر الحجاز، والثقل ثقل النبوة حكم بطهارته.
0011 حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا حبان قال حدثنا همام قال حدثنا أنس بن سيرين. قال استقبلنا أنسا حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب يعني عن يسار القبلة فقلت رأيتك تصلي لغير القبلة فقال لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله لم أفعله.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أحمد بن سعيد بن صخر بن سليمان بن سعيد بن قيس ابن عبد الله أبو جعفر الدارمي المروزي مات بنيسابور سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وروى عنه مسلم أيضا، وفي شرح
141

الكرماني: أحمد بن يوسف أبو حفص الدارمي، وهذا غلط، والظاهر أنه من الناسخ وليس في مشايخ البخاري في هذا الكتاب أحمد بن يوسف. الثاني: حبان، بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة وبالنون: أبو حبيب ضد العدو ابن هلال الباهلي، مر في: باب فضل صلاة الفجر. الثالث: همام، على وزن فعال بالتشديد: ابن يحيى العوادي، بفتح العين المهملة، وقد تقدم. الرابع: أنس بن سيرين أخو محمد بن سيرين. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن شيخه مروزي والبقية بصريون.
والحديث أخرجه مسلم، قال: حدثني محمد بن حاتم، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا همام قال: (حدثنا أنس بن سيرين، قال: تلقينا أنس بن مالك حين قدم من الشام فتلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه ذلك الجانب، وأومأ همام عن يسار القبلة، فقلت له: تصلي لغير القبلة، قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله).
ذكر معناه: قوله: (استقبلنا)، بسكون اللام، وهي جملة من الفعل والفاعل. وقوله: (أنس بن مالك) بالنصب مفعوله. قوله: (حين قدم من الشام) وكان أنس سافر إلى الشام يشكو من الحجاج الثقفي إلى عبد الملك بن مروان، قيل: وقع في رواية مسلم: حين قدم الشام، وغلطوه لأن أنس بن سيرين إنما تلقاه لما رجع من الشام، فخرج ابن سيرين من البصرة ليلقاه. قلت: وجدت في نسخ صحيحة لمسلم، من الشام، فعلى هذا نقلته آنفا، ولئن سلمنا أنه وقع حين قدم الشام بدون ذكر كلمة: من، فلا نسلم أنه غلط، لأن معناه: تلقيناه في رجوعه حين قدم الشام، وهكذا قاله النووي. قوله: (بعين التمر) بالتاء المثناة من فوق، قال البكري في (معجم ما
استعجم): عين التمر على لفظ جمع تمرة، موضع مذكور في تحديد العراق، وبكنيسة عين التمر وجد خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، الغلمة من العرب الذين كانوا رهنا في يد كسرى، وهم متفرقون بالشام والعراق، منهم: جد الكلبي العالم النسابة، وجد أبي إسحاق الحضرمي النحوي، وجد محمد بن إسحاق صاحب (المغازي) ومن سبي عين التمر: الحسن بن أبي الحسن البصري ومحمد بن سيرين موليا جميلة بنت أبي قطبة الأنصارية. انتهى. قال بعضهم: كانت بعين التمر وقعة مشهورة في أول خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، بين خالد بن الوليد والأعاجم. قلت: هذا غلط، لأن وقعة عين التمر كانت في السنة الثانية عشر من الهجرة في خلافة أبي بكر الصديق. وكانت خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، يوم مات أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، واختلف في وقت وفاته، فقيل: يوم الجمعة، وقيل: ليلة الجمعة، وقيل: ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء الآخرة لثمان ليال بقين من جمادي الآخرة من سنة ثلاث عشرة من الهجرة، ولما فرغ خالد، رضي الله تعالى عنه، من وقعة اليمامة أرسله أبو بكر إلى العراق ففتح في العراق فتوحات منها: الحيرة والأيلة والأنبار وغيرها، ولما انتقل خالد بالأنبار استناب عليها الزبرقان بن بدر وقصد هو عين التمر، وبها يومئذ مهران بن بهرام في جمع عظيم من العرب، وعليهم عفة بن أبي عفة، فتلقى خالدا فكسره خالد وانهزم جيش عفة من غير قتال، ولما بلغ ذلك مهران نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت قلال نصارى الأعراب إلى الحصن فدخلوه واحتموا به، فجاءهم خالد فأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، فآخر الأمر سألوا الصلح فأبى خالد إلا أن ينزلوا على حكمه، فنزلوا على حكمه فجعلهم في السلاسل وتسلم الحصن، فضرب عنق عفة ومن كان أسر معه والذين نزلوا على حكمه أيضا أجمعين، وغنم جميع ما كان في الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرقهم في الأمراء فكان فيهم: حمران، صار إلى عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، ومنهم: سيرين والد محمد بن سيرين أخذه أنس بن مالك وجماعة آخرون من الموالي إلى آخرين من المشاهير أراد الله بهم وبذراريهم خيرا. قوله: (ووجهه من ذا الجانب) أي: من هذا الجانب، ولم يبين في هذه الرواية كيفية صلاة أنس، وذكره في (الموطأ) (عن يحيى بن سعيد قال: رأيت أنسا وهو يصلي على حمار وهو متوجه إلى غير القبلة يركع ويسجد إيماء من غير أن يضع جبهته على شيء). قوله: (رأيتك تصلي لغير القبلة؟) فيه أنه لم ينكر على أنس صلاته على الحمار ولا غير ذلك من هيئة أنس، وإنما أنكر عليه تركه استقبال القبلة فقط، وأجاب عنه أنس بقوله: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله). قوله: (يفعله) جملة حالية، أي: حال كونه يفعل من صلاته على الحمار ووجهه من يسار القبلة. قوله: (لم أفعله) أي: لم أفعل ما فعلته من ترك استقبال القبلة، وقال
142

الإسماعيلي خبر أنس إنما هو في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم راكبا تطوعا لغير القبلة، فأفرد البخاري الترجمة في الحمار من جهة السنة لا وجه له عندي. قلت: ليس هذا من محل المناقشة، بل لا وجه لما قاله، لأن أنسا يقول: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله لم أفعله)، وكانت رؤيته إياه صلى الله عليه وسلم حين كان يفعله راكبا على حمار، يشهد بذلك كون أنس في هذه الصلاة على حمار، ويؤيد ذلك ما رواه السراج من طريق يحيى بن سعيد عن أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر، وإسناده حسن، ويشهد لهذا ما رواه مسلم من طريق عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار (عن ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر)، وقال ابن بطال: لا فرق بين التنفل في السفر على الحمار والبغل وغيرهما، ويجوز له إمساك عنانها وتحريك رجليه، إلا أنه لا يتكلم ولا يلتفت ولا يسجد على قربوس سرجه، بل يكون السجود أخفض من الركوع، وهذا رحمة من الله تعالى على عباده ورفق بهم.
رواه ابن طهمان عن حجاج عن أنس بن سيرين عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: روى الحديث المذكور إبراهيم بن طهمان الهروي أبو سعيد عن حجاج بن حجاج الباهلي البصري الأحول الأسود الملقب بزق العسل، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. وفي هذا الباب عن جماعة من الصحابة منهم: أبو سعيد، أخرج حديثه أحمد من رواية ابن أبي ليلى (عن عطاء أو عطية عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته في التطوع حيث ما توجهت به يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع). ومنهم: سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه، أخرج حديثه البزار من رواية ضرار بن صرد أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة على راحلته حيث ما توجهت به، ولا يفعل ذلك في المكتوبة، وضرار ضعيف. ومنهم: شقران، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج حديثه أحمد من طريق مسلم بن خالد أنه قال: (رأيت يعني النبي صلى الله عليه وسلم متوجها إلى خيبر على حمار يصلي عليه)، ومسلم بن خالد شيخ الشافعي ضعفه غير واحد. ومنهم: الهرماس بن زياد أخرج حديثه أحمد أيضا، قال: حدثنا عبد الله بن واقد حدثنا عكرمة بن عمار عن الهرماس بن زياد وقال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعير نحو الشام وعن عبد الله بن واقد مختلف فيه. ومنهم: أبو موسى أخرج حديثه أحمد أيضا قال: حدثنا أبو عاصم حدثني يونس بن الحارث حدثني أبو بردة عن أبي موسى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، الصلاة على ظهر الدابة في السفر، هكذا وهكذا وهكذا، ويونس بن الحارث وثقه ابن معين، وضعفه أحمد وغيره.
11
((باب من لم يتطوع في السفر دبر الصلاة وقبلها))
أي: هذا باب في بيان حكم من لم يتطوع في السفر عقيب الصلوات، والدبر، بضمتين وبإسكان الباء أيضا، وفي رواية الحموي: (دبر الصلوات وقبلها)، ويروى: (دبر الصلاة) بصيغة الإفراد.
1011 حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال حدثني عمر بن محمد أن حفص بن عاصم حدثه قال سافر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال صحبت النبي
صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر. وقال الله جل ذكره لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
(الحديث 1011 طرفه في: 2011).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: يحيى بن سليمان بن يحيى أبو سعيد الجعفي الكوفي، سكن مصر ومات بها سنة ثمان، ويقال: سنة سبع وثلاثين ومائتين، وقد مر ذكره في كتاب العلم. الثاني: عبد الله بن وهب، وقد مر غير مرة. الثالث: عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العسقلاني، كان ثقة جليلا مرابطا من أطول الرجال، مات بعد سنة خمس وأربعين ومائة. الرابع: حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، مر في: باب الصلاة بعد الفجر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: السؤال. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو كوفي وابن وهب مصري وعمر بن محمد مدني نزل
143

عسقلان، وحفص بن عاصم أيضا مدني، رحمه الله.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن مسدد عن يحيى بن سعيد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن القعنبي عن عيسى بن حفص وعن قتيبة عن يزيد بن زريع عن عمر بن محمد به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به، وأخرجه النسائي فيه عن نوح بن حبيب عن يحيى بن سعيد به. وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن خلاد عن أبي عامر العقدي عن عيسى به، يزيد بعضهم على بعض.
ذكر معناه وما يستنبط منه: قوله: (فلم أره يسبح) أي: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه يسبح، أي يتنفل بالنوافل الرواتب التي قبل الفرائض وبعدها، وقال الترمذي: اختلف أهل العلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم تر طائفة من أهل العلم أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى: من لم يتطوع في السفر، قبول الرخصة، ومن تطوع فله في ذلك فضل كثير، وقول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر. وقال السرخسي في (المبسوط) والمرغيناني: لا قصر في السنن، وتكلموا في الأفضل، قيل: الترك ترخصا، وقيل: الفعل تقربا، وقال الهندواني: الفعل أفضل في حال النزول والترك في حال السير، قال هشام: رأيت محمدا كثيرا لا يتطوع في السفر قبل الظهر ولا بعدها ولا يدع ركعتي الفجر والمغرب، وما رأيته يتطوع قبل العصر ولا قبل العشاء ويصلي العشاء ثم يوتر.
2011 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عيساى بن حفص بن عاصم قال حدثني أبي أنه سمع ابن عمر يقول صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذالك رضي الله تعالى عنهم.
(أنظر الحديث 1011).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ويحيى شيخ مسدد هو القطان، و عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب مات سنة خمس أو سبع وخمسين ومائة.
قوله: (وأبا بكر) عطف على قوله: (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: وصحبت أبا بكر وصحبت عمر وصحبت عثمان كذلك، أي: كما صحبت النبي صلى الله عليه وسلم في السفر صحبتهم، وكانوا لا يزيدون في السفر على ركعتين. فإن قلت: كان عثمان، رضي الله تعالى عنه، في آخر أمره يتم الصلاة فكيف قال ابن عمر: إن عثمان لا يزيد في السفر على ركعتين؟ قلت: يحمل قوله على الغالب، أو كان عثمان لا يتنفل في أول أمره ولا في آخره وإن كان يتم. فإن قلت: قال الترمذي: حدثنا علي بن حجر حدثنا حفص بن غياث عن الحجاج عن عطية (عن ابن عمر، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين)، وقال: هذا حديث حسن، وقال: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي أبو يعلى الكوفي حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن عطية وعن نافع. (عن ابن عمر، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص في الحضر ولا في السفر، وهي وتر النهار، وبعدها ركعتين). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، سمعت محمدا يقول: ما روى ابن أبي ليلى، حديثا أعجب إلي من هذا، فما التوفيق بين هذا وبين حديث الباب؟ قلت: هذان الحديثان تفرد بإخراجهما الترمذي، أما وجه التوفيق فقد قال شيخنا زين الدين، رحمه الله: الجواب أن النفل المطلق وصلاة الليل لم يمنعهما ابن عمر ولا غيره، فأما السنن الرواتب فيحمل حديثه المتقدم، يعني حديث الباب، على الغالب من أحواله في أنه لا يصلي الرواتب، وحديثه في هذا الباب أي: الذي رواه الترمذي، على أنه فعله في بعض الأوقات لبيان استحبابها في السفر، وإن لم يتأكد فعلها فيه كتأكده في الحضر، أو أنه كان نازلا في وقت الصلاة ولا شغل له يشتغل به عن ذلك، أو سائرا وهو على راحلته، ولفظه في الحديث المتقدم: يعني حديث الباب، هو بلفظ: كان، وهي لا تقتضي الدوام بل ولا التكرار على الصحيح، فلا تعارض بين حديثيه. فإن قيل: الذهاب إلى ترجيح تعارضهما. قلنا: الترجيح بحديث الباب أصح لكونه في الصحيح. فإن قلت: روى الترمذي أيضا: حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن صفوان ابن سليم عن أبي بشر الغفاري (عن البراء بن عازب، قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر) ورواه أبو داود أيضا عن قتيبة. قلت: هذا لا يعارض حديث ابن عمر الذي روي
144

عنه في هذا الباب، لأنه لا يلزم من كون البراء ما رآه ترك أن لا يكون ابن عمر، رضي الله تعالى عنه، أيضا كذلك ما ترك، وجواب آخر: لا نسلم أن هاتين
الركعتين من السنن الرواتب، وإنما هي سنة الزوال الواردة في حديث أبي أيوب الأنصاري، رضي الله تعالى عنه.
21
((باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلوات وقبلها))
أي: هذا باب في بيان حكم تطوع في السفر في غير عقيب الصلوات والفرق بين هذا الباب والباب الذي قبله أن هذا أعم من الذي قبله، لأن ذاك مقيد بالدبر.
وركع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر في السفر
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر صلاة في غير دبر صلاة، وهذا في (صحيح مسلم): من حديث أبي قتادة في قصة النوم عن صلاة الصبح، ففيه: (صلى ركعتين قبل الصبح ثم صلى الصبح كما كان يصلي)، وعند أبي داود (فصلوا ركعتي الفجر ثم صلوا الفجر).
3011 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن عمر و عن ابن أبي ليلى. قال ما أنبأ أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى غير أم هانىء ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أغتسل في بيتها فصلى ثمان ركعات فما رأيته صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود.
مطابقته للترجمة من حيث إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى كانت نافلة في السفر، وأنه صلاها على الأرض ولم يكن في دبر صلاة من الصلوات فافهم.
ورجاله قد ذكروا، وعمرو بن مرة، بضم الميم وتشديد الراء، قد مر في: باب تسوية الصفوف، وعبد الرحمن بن أبي ليلى قد مر في: باب حد إتمام الركوع، وأم هانىء، بالنون ثم الهمزة، قد مر ذكرها في: باب التستر في الغسل، واسمها: فاخته. وقيل: هند بنت أبي طالب، أخت علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن آدم، وأخرجه في المغازي عن أبي الوليد، وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر عن شعبة، وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر به. وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن المثنى به، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن يزيد عن بهز عن شعبة به وعن إبراهيم بن محمد التيمي عن يحيى عن سفيان عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى نحوه.
ذكر معناه: قوله: (ما أخبرنا أحد..) إلى آخره. قال ابن بطال: لا حجة في قول ابن أبي ليلى هذا، ويرد عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى وأمر بصلاتها من طرق جمة. منها: حديث أبي هريرة الآتي في: باب صلاة الضحى في الحضر، قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر). ومنها: حديث أبي ذر عند مسلم قال (أصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث فذكر ركعتي الضحى) ومنها حديث أبي ذر عن مسلم أيضا عنه (عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة، بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى). ومنها: حديث ابن عمر عند البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي من الضحى إلا يومين: يوم يقدم مكة) وسيأتي. ومنها: حديث ابن أبي أوفى عند الحاكم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الضحى ركعتين حين بشر برأس أبي جهل، وبالفتح). ومنها: حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، عند الترمذي من حديث ثمامة بنم أنس بن مالك عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة). وأخرجه ابن ماجة أيضا. ومنها:
145

حديث عقبة بن عامر عند أحمد وأبي يعلى (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله، عز وجل، يقول: يا ابن آدم: اكفني أول النهار بأربع ركعات أكفك من آخر يومك). هذا لفظ أحمد، ولفظ أبي يعلى: (أتعجر ابن آدم أن تصلي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخر يومك؟) وفي (التلويح): (وعن عقبة بن عامر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها، والضحى). ومنها: حديث عائشة عند الحاكم: (سئلت: كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: أربعا ويزيد ما شاء الله)، وأخرجه مسلم والنسائي في (الكبرى) وابن ماجة والترمذي في (الشمائل) من رواية معاذة العدوية، قالت: (قلت لعائشة: أكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يصلي الضحى؟ قالت: نعم أربعا ويزيد ما شاء الله). وعند أحمد من حديث أم ذرة: (قالت: رأيت عائشة تصلي الضحى وتقول: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلا أربع ركعات). ومنها: حديث نعيم بن همار عند أبي داود من رواية كثير بن مرة عنه، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله، عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) وهما، بفتح الهاء وتشديد الميم وفي آخره راء، ويقال: ابن هبار، بالباء الموحدة موضع الميم. ويقال: ابن هدار، بالدال المهملة، ويقال: ابن همام، بميمين، ويقال: ابن خمار، بالخاء المعجمة، ويقال: ابن حمار، بكسر الحاء المهملة وفي آخره راء: الغطفاني الشامي. قوله: (لا تعجزني) بضم التاء، وهذا مجاز كناية عن تسويف العبد عمله لله تعالى، والمعنى: لا تسوف صلاة أربع ركعات لي من أول نهارك أكفك آخر النهار من كل شيء من الهموم والبلايا ونحوهما. قوله: (أكفك)، مجزوم لأنه جواب النهي. ومنها: حديث أبي أمامة عند الطبراني في (الكبير) من رواية القاسم عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: يا ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره). والقاسم بن عبد الرحمن وثقه الجمهور وضعفه بعضهم. ومنها: حديث بريدة عند ابن خزيمة في (صحيحه): سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منه بصدقة). فذكر حديثا فيه: (فإن لم تجد فركعتا
الضحى تكفيك). ومنها: حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، عند الطبراني في (الأوسط) قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عليه بعيرا لي فرأيته صلى الضحى ست ركعات). ومنها: حديث ابن عباس عند الطبراني في (الأوسط) من رواية قيس بن سعد عن طاووس عن ابن عباس، رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل سلامي من بني آدم في كل يوم صدقة، ويجزىء من ذلك كله ركعتا الضحى). ومنها: حديث علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، عند النسائي في (سننه الكبرى) وعند أحمد وأبي يعلى من رواية أبي إسحاق: سمع عاصم بن ضمرة، (عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى) وإسناده جيد. ومنها: حديث زيد بن أرقم عند مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الضحى) وإسناده جيد. ومنها: حديث زيد بن أرقم عند مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أهل قباء وهم يصلون الضحى بعدما أشرقت الشمس. فقال: إن صلاة الأوابين كانت إذا رمضت الفصال). ومنها: حديث أم سلمة عند الحاكم، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الضحى ثنتي عشرة ركعة)، وفي (شرح المهذب): هو حديث ضعيف. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: إنه لا يدعها، ويدعها حتى نقول: إنه لا يصليها). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قلت: تفرد به الترمذي. ومنها: حديث عتبة بن عبد عند الطبراني في (الكبير) من رواية الأحوص بن حكيم عن عبد الله بن غابر أن أبا أمامة وعتبة بن عبد حدثناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح في جماعة، ثم ثبت حتى يسبح الله سبحة الضحى كان له أجر حاج ومعتمر)، ورواه ابن زنجويه في (كتاب الفضائل) عن عتبة بن عبد عن أبي أمامة، وقال: عتبة صحابي. ومنها: حديث معاذ بن أنس عند أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). قال صاحب (التلويح) في سنده كلام. وقال شيخنا زين الدين: إسناده ضعيف قلت: لأن في إسناده زبان بن فائد، ضعفه ابن معين، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، ولكن أبو داود لما رواه سكت عليه، وسكوته دليل رضاه به. وقال أبو حاتم: زبان صالح. ومنها: حديث حذيفة عن ابن أبي شيبة بإسناده عنه قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية، فصلى الضحى ثمان ركعات طول فيهن). ومنها: حديث أبي مرة الطائفي عند
146

أحمد من رواية مكحول عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره)، قال شيخنا زين الدين، رحمه الله هكذا وقع في (المسند)، فإما أن يكون سقط بعد: أبي مرة، ذكر الصحابي وإما أن يكون مكحول لم يسمع من أبي مرة، فإنه يقال: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أبي أمامة فأما أبو مرة فذكره ابن عبد البر في (الاستيعاب) وقال: قيل إنه ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صحبة له، وأبوه عروة بن مسعود الثقفي من كبار الصحابة، وقد وقع في المسند: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كما تقدم. والله أعلم. ومنها: حديث أبي موسى عند الطبراني في (الأوسط) من رواية عبد الله بن عياش عن أبي بردة عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى أربعا وقبل الأولى أربعا بنى له بيت في الجنة)، وعياش، بتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره شين معجمة. ومنها: حديث عتبان بن مالك عند أحمد من رواية محمود بن ربيع (عن عتبان بن مالك: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى في بيته سبحة الضحى)، وقصة عتبان بن مالك في صلاة النبي، صلى الله عليه وسلم، في بيته في (الصحيح) لكن ليس فيها ذكر سبحة الضحى، وإنما ذكره البخاري في الترجمة تعليقا، فقال: باب صلاة الضحى في الحضر، قاله عتبان عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: حديث النواس بن سمعان عند الطبراني في (الكبير) من رواية أبي إدريس الخولاني قال: سمعت النواس بن سمعان: (سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: قال الله، عز وجل: ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره) وإسناده صحيح. ومنها: حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عنه قال: (بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم سرية فغنموا وأسرعوا الرجعة فتحدث الناس بقرب مغزاهم زكثرة غنيمتهم وسرعة رجعتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أقرب منه مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة من توضأ ثم خرج إلى المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب منهم مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة). رواه الطبراني أيضا في (الكبير) وفيه: (ثم صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى)، لفظ أحمد، وقال الطبراني: (ثم صلى بهم صلاة الضحى). ومنها: حديث أبي بكرة عند ابن عدي في (الكامل) من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن (عن أبي بكرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى الضحى فجاء الحسن وهو غلام، فلما سجد ركب ظهره). الحديث وعمرو بن عبيد متروك. ومنها: حديث جبير بن مطعم عند الطبراني في (الكبير) من رواية عثمان بن عاصم، قال: (حدثني نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى) وفي إسناده يحيى الحماني تكلم فيه. ومنها: حديث أم حبيبة عند مسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد مسلم يصلي في كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا من غير فريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة)، ذكر ضياء الدين المقدسي صلاة الضحى بإثنتي عشرة ركعة، ثم ذكر هذا الحديث، وقد وردت أحاديث ظاهرها يعارض هذه الأخبار وسنتكلم فيها في: باب صلاة الضحى في السفر، إن شاء الله تعالى. قوله: (غير أم هانىء) برفع: غير، لأنه بدل من قوله: (أحد). قوله: (يوم فتح مكة) قوله: (فصلى ثمان ركعات) هو في الأصل منسوب إلى الثمن لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية فهو ثمنها، وفتحوا أوله لأنهم يغيرون في النسب، وحذفوا منها إحدى يائي النسبة وعوضوا عنها الألف، وقد تحذف منه الياء ويكتفي بكسرة النون، أو تفتح تخفيفا. قوله: (أخف منها) أي: من هذه الثمان قوله (غير أنه) أي: غير أن النبي صلى الله عليه وسلم (يتم الركوع والسجود) وهذا لدفع وهم من يظن أن إطلاق لفظ: إخف، ربما يقتضي التنقيص في الركوع والسجود، فدفعت أم هانىء ذلك بقولها: (يتم الركوع والسجود).
4011 وقال الليث حدثني يونس عن ابن شهاب قال حدثني عبد الله بن عامر أن أباه أخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت به.
(أنظر الحديث 391 وطرفه).
147

أي: قال الليث بن سعيد: حدثني يونس أي: ابن أبي يزيد الأيلي عن ابن شهاب، هو محمد بن مسلم الزهري، حدثني عبد الله بن عامر بن ربيعة أن أباه هو عامر بن ربيعة العنزي، وهذا تقدم موصولا في أول: باب ينزل للمكتوبة، حيث قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب، غير أن الليث روى هناك: عن عقيل عن ابن شهاب، وههنا روى: عن يونس عن ابن شهاب، ورواية يونس هذه وصلها الذهلي في (الزهريات) عن أبي صالح عنه.
5011 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومىء برأسه وكان ابن عمر يفعله.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على دابته بالإيماء وليس فيه أنه في دبر صلاة من الصلوات، وأبو اليمان الحكم بن نافع وشعيب بن حمزة وكلهم قد ذكروا غير مرة، ورواية الزهري هذه عن سالم عن ابن عمر ذكرها في: باب الإيماء على الدابة، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر موقوفا، ثم ذكر عقيبة مرفوعا، وههنا ذكره مرفوعا ثم ذكر عقيبه موقوفا، وهو قوله: (وكان ابن عمر يفعله)، فكأنه أشار بذلك إلى أن العمل به مستمر لم يلحقه معارض ولا ناسخ ولا راجح.
قوله: (كان يسبح)، أي: يتنفل على ظهر راحلته بالإيماء. فإن قلت: ذكر في: باب من لم يتطوع في السفر، عن ابن عمر أنه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر، وههنا قال: كان يسبح؟ قلت: معنى: لم أره يسبح في السفر، يعني: على الأرض، وههنا معناه: كان يسبح راكبا، ويكون تركه صلى الله عليه وسلم التنفل في السفر على الأرض تحريا منه إعلام أمته أنهم في أسفارهم بالخيار في التنفل. وقال ابن بطال: وليس قول ابن عمر: لم أره يسبح، حجة على من رآه، لأن من نفى شيئا فليس بشاهد. قوله: (يومىء برأسه) جملة حالية وتفسير لقوله: (يسبح)، لأن السبحة على ظهر الدابة هو الذي يكون بالإيماء للركوع والسجود.
وقال الكرماني: وفيه: دليل على جواز التنفل على الأرض، لأنه لما جاز له التنفل على الراحلة كان في الأرض أجوز. قلت: هذا كلام عجيب، لأن الحكم هنا بالقياس لا يحتاج إليه، والأرض مسجد لسائر الصلوات كما في النص.
31
((باب الجمع في السفر بين المغرب والعشاء))
أي: هذا باب في بيان حكم الجمع في السفر بين صلاتي المغرب والعشاء، وإنما ذكر لفظ: الجمع، مطلقا ليتناول جميع أقسامه، لأن في الباب ثلاثة أحاديث عن ابن عمر وابن عباس وأنس، رضي الله تعالى عنهم، فحديث ابن عمر وابن عباس بصورة التقييد، وحديث أنس بصورة الإطلاق، ولا يخفى ذلك على المتأمل.
6011 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري عن سالم عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد ذكرنا وجه إطلاق الترجمة مع كون الحديث مقيدا.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وعلي هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة والزهري هو محمد بن مسلم وسالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وقتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن منصور، والخمسة عن سفيان به.
قوله: (إذا جد به السير) أي: اشتد، قال في (المحكم) وقال ابن الأثير: أي إذا اهتم به وأسرع فيه، يقال: جد يجد ويجد، بالضم والكسر، وجد به الأمر وأجد وجد فيه: إذا اجتهد، والكلام في هذا الباب على نوعين.
الأول: فيمن روى الجمع بين الصلاتين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. منهم: علي بن أبي طالب، أخرج حديثه أبو داود بسند لا بأس به، (كان إذا سافر بعدما تغرب الشمس حتى تكاد أن تظلم، ثم ينزل فيصلي المغرب، ثم يتعشى ثم
148

يصلي العشاء ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع). وروى ابن أبي شيبة في (المصنف): عن أبي أسامة عن عبد الله ابن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده (أن عليا، رضي الله تعالى عنه، كان يصلي المغرب في السفر ثم يتعشى ثم يصلي العشاء على إثرها ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع)، وطريق آخر رواه الدارقطني، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد حدثنا المنذر بن محمد حدثنا أبي حدثنا محمد بن الحسين بن علي بن الحسين حدثني أبي عن أبيه عن جده (عن علي: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل حين تزول الشمس جمع الظهر والعصر، فإذا جد له السير أخر العصر وعجل الظهر ثم جمع بينهما)، ولا يصح إسناده، شيخ الدارقطني هو أبو العباس بن عقدة أحد الحفاظ لكنه شيعي، وقد تكلم فيه الدارقطني وحمزة السهمي وغيرهما، وشيخه المنذر بن محمد بن المنذر ليس بالقوي أيضا، قاله الدارقطني أيضا، وأبوه وجده يحتاج إلى معرفتهما. ومنهم: أنس بن مالك، أخرج حديثه البخاري وسيأتي، إن شاء
الله تعالى. ومنهم: عبد الله بن عمرو، أخرج حديثه ابن أبي شيبة في (مصنفه) وأحمد في (مسنده) من رواية حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في غزوة بني المصطلق)، وقال أحمد: يوم غزا بني المصطلق، وفي رواية: (جمع بين الصلاتين في السفر)، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة مختلف في الاحتجاج به. ومنهم: عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخرج حديثها ابن أبي شيبة في (المصنف) وأحمد في (مسنده) كلاهما عن وكيع: حدثنا مغيرة بن زياد عن عطاء (عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء في السفر)، ومغيرة بن زياد ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وأبو زرعة. ومنهم: ابن عباس أخرج حديثه مسلم من رواية أبي الزبير، قال: حدثنا سعيد بن جبير، قال: (حدثنا ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء جميعا، قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته). وقد روى مسلم أيضا بهذا الإسناد قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر)، وفي رواية له: (صلى الظهر والعصر جميعا بالمدينة من غير خوف ولا سفر). ومنهم: أسامة بن زيد، أخرج حديثه الترمذي في (كتاب العلل) قال: حدثنا أبو السائب عن الجريري عن أبي عثمان (عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء)، ثم قال: سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: الصحيح هو موقوف عن أسامة بن زيد، ولأسامة حديث آخر في جمعه بعرفة ومزدلفة، أخرجه البخاري، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومنهم: جابر، أخرج حديثه أبو داود والنسائي من طريق مالك عن أبي الزبير (عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف)، وروى أحمد في (مسنده) من رواية ابن لهيعة (عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا: هل جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء؟ قال: نعم، عام غزونا بني المصطلق). وروى مسلم وأبو داود وابن ماجة في حديث جابر الطويل في صفة حجه صلى الله عليه وسلم من رواية محمد بن علي بن الحسين (عن جابر، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة)، وفيه: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا). وفيه: (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا). ومنهم: خزيمة بن ثابت، أخرج حديثه الطبراني عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد (عن خزيمة ابن ثابت قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يجمع المغرب والعشاء ثلاثا واثنتين بإقامة واحدة). ومنهم: ابن مسعود، أخرج حديثه ابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية ابن أبي ليلى عن هذيل (عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في السفر) ورواه الطبراني في (الكبير) بلفظ: (كان يجمع بين المغرب والعشاء يؤخر هذه في آخر وقتها ويعجل هذه في أول وقتها). ومنهم: أبو أيوب، أخرج حديثه البخاري، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومنهم: أبو سعيد الخدري، أخرج حديثه الطبراني في (الأوسط) عن أبي نضرة عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في السفر). ومنهم: أبو هريرة، أخرج حديثه البزار عن عطاء بن يسار عنه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الصلاتين في السفر).
149

النوع الثاني: في بيان مذاهب الأئمة في هذا الباب، فذهب قوم إلى ظاهر هذه الأحاديث وأجازوا الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في السفر في وقت أحدهما، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال ابن بطال: قال الجمهور: المسافر يجوز له الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقا. وقال شيخنا زين الدين. وفي المسألة ستة أقوال: أحدها: جواز الجمع مثل ما قاله ابن بطال، وروى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأسامة بن زيد ومعاذ بن جبل وأبو موسى وابن عمر وابن عباس، وبه قال جماعة من التابعين، منهم: عطاء بن أبي رباح وطاووس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد وربيعة الرأي وأبو الزناد ومحمد بن المنكدر وصفوان بن سليم، وبه قال جماعة من الأئمة منهم: سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر، ومن المالكية: أشهب، وحكاه ابن قدامة عن مالك أيضا، والمشهور عن مالك: تخصيص الجمع بجد السير. والقول الثاني: إنما يجوز الجمع إذا جد به السير، روي ذلك عن أسامة بن زيد وابن عمر وهو قول مالك في المشهور عنه. القول الثالث: إنه تجوز إذا أراد قطع الطريق، وهو قول ابن حبيب من المالكية، وقال ابن العربي: وأما قول ابن حبيب فهو قول الشافعي، لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق. والقول الرابع: أن الجمع مكروه، وقال ابن العربي: إنها رواية المصريين عن مالك. والقول الخامس: أنه يجوز جمع التأخير لا جمع التقديم، وهو اختيار ابن حزم. والقول السادس: أنه لا يجوز مطلقا بسبب السفر، وإنما يجوز بعرفة والمزدلفة، وهو قول الحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي والأسود وأبي حنيفة وأصحابه، وهو رواية ابن القاسم عن مالك، واختاره في (التلويح): وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى منع الجمع في غير هذين المكانين، وهو قول ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص فيما ذكره ابن شداد في كتابه (دلائل الأحكام) وابن عمر في رواية أبي داود وابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وعمرو بن دينار والثوري والأسود وأصحابه وعمر بن عبد العزيز وسالم والليث بن سعد، وقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا وكيع حدثنا أبو هلال عن حنظلة السدوسي عن أبي موسى أنه قال: الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر، قال صاحب (التلويح): وأما قول النووي: إن أبا يوسف ومحمدا خالفا شيخهما، وإن قولهما كقول الشافعي وأحمد فقد رده عليه صاحب (الغاية في شرح الهداية) بأن هذا لا أصل له عنهما. قلت: الأمر كما قاله، وأصحابنا أعلم بحال أئمتنا الثلاثة، رحمهم الله. واستدل أصحابنا بما رواه البخاري ومسلم (عن عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع فإنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى صلاة الصبح في الغد قبل وقتها)، وبما رواه مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى).
والجواب عن هذه الأحاديث التي فيها الجمع في غير عرفة، وجمع، ما قاله الطحاوي في (شرح معاني الآثار): أنه صلى الأولى في آخر وقتها، والانية في أول
وقتها،، لا أنه صلاهما في وقت واحد، ويؤيد هذا المعنى حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر). رواه مسلم وفي لفظ قال (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. قال: ولم يقل أحد منا ولا منهم بجواز الجمع في الحضر، فدل على أن معنى الجمع ما ذكرناه من تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها. فإن قلت: لفظ مسلم في حديث الباب: (أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء). وهذا صريح في الجمع في وقت إحدى الصلاتين. وقال النووي: وفيه إبطال تأويل الحنفية في قولهم: إن المراد بالجمع تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية في أول وقتها؟ قلت: الشفق نوعان: أحمر وأبيض، كما اختلف فيه الصحابة والعلماء، فيحتمل أنه جمع بينهما بعد غياب الأحمر فتكون المغرب في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأبيض، وكذلك العشاء تكون في وقتها على قول من يقول: الشفق هو الأحمر، ويطلق عليه أنه جمع بينهما بعد غياب الشفق، والحال أن كل واحدة منهما وقعت في وقتها على اختلاف القولين في الشفق، فهذا يسمى جمعا: صورة لا وقتا. فإن قلت: لفظ النسائي في حديث ابن عمر: (جمع بين الظهر والعصر حين كان بين الصلاتين،
150

وبين المغرب والعشاء حين اشتبكت النجوم). قلت: أول وقت العصر مختلف فيه، وهو إما بصيرورة ظل كل شيء مثله أو مثليه فيحتمل أنه أخر الظهر إلى أن صار ظل كل شيء مثله، ثم صلاها وصلى عقبها العصر، فيكون قد صلى الظهر في وقتها على قول من يرى أن آخر وقت الظهر بصيرورة ظل كل شيء مثله، ويكون قد صلى العصر في وقتها على قول من يرى: إن أول وقتها بصيرورة ظل كل شيء مثليه، ويصدق على من فعل هذا أنه جمع بينهما والنجوم تشتبك بعد غياب الحمرة، وهو وقت المغرب على قول من يقول: الشفق هو البياض.
فإن قلت: قد ذكر البيهقي في: باب الجمع بين الصلاتين في السفر، عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه: سار حتى غاب الشفق. إلى آخره، ثم قال: ورواه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث: (أخر المغرب بعد ذهاب الشفق حتى ذهب هوي من الليل، ثم نزل فصلى المغرب والعشاء) قلت: لم يذكر سنده لينظر فيه، وقد أخرجه النسائي بخلاف هذا، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن موسى بن عقبة (عن نافع عن ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به أمر أوجد به السير جمع بين المغرب والعشاء). فإن قلت: قد قال البيهقي: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع، فذكر أنه سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى قلت: أنه أسنده في (الخلافيات) من حديث يزيد بن هارون بسنده المذكور، ولفظه: (فسرنا أميالا ثم نزل فصلى)، فلفظه مضطرب كما ترى على وجهين، فاقتصر البيهقي في (السنن) على ما يوافق مقصوده.
فإن قلت: روى الترمذي فقال: حدثنا هناد حدثنا عبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع (عن ابن عمر أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير وأخر المغرب حتى غاب الشفق، ثم نزل فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يفعل ذلك إذا جد به السير). وقال: هذا حديث حسن صحيح، وعند أبي داود: (حتى غربت الشمس وبدت النجوم)، وفي حديث سفيان بن سعيد عن يحيى بن سعيد: (أخرها إلى ربع الليل)،، وفي لفظ: (حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام العشاء وقد توارى الشفق)، وفي لفظ: (حتى إذا كان قبل غيوب الشفق نزل فصلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق وصلى العشاء). وفي لفظ: (عند ذهاب الشفق نزل فجمع بينهما)، وعند ابن خزيمة: (فسرنا حتى كان نصف الليل أو قريبا من نصفه، نزل فصلى) قلت: الكلام في الشفق قد مر، وأما رواية ابن خزيمة ففيها مخالفة للحفاظ من أصحاب نافع فلا يمكن الجمع بينهما فيترك ما فيها لمخالفته للحفاظ، ويؤخذ برواية الحفاظ، وروى أبو داود عن قتيبة، حدثنا عبد الله بن نافع عن أبي داود عن سليمان بن أبي يحيى عن ابن عمر قال: (ما جمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين المغرب والعشاء قط في سفر إلا مرة). وقال أبو داود هذا يروى عن أيوب عن نافع موقوفا على ابن عمر أنه: لم ير ابن عمر جمع بينهما قط إلا تلك الليلة، يعني ليلة استصرخ على صفية، وروى من حديث مكحول عن نافع أنه رأى ابن عمر فعل ذلك مرة أو مرتين. فإن قلت: روى أبو داود: حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله الرملي الهمداني حدثنا المفضل بن فضالة والليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل (عن معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غاب الشفق قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن يغيب الشفق أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما). قال أبو داود: رواه هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث المفضل والليث قلت: حكي عن أبي داود أنه أنكر هذا الحديث، وحكي عنه أيضا أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم، وحسين بن عبد الله هذا لا يحتج بحديثه، قال ابن المديني: تركت حديثه. وقال أبو جعفر العقيلي: وله غير حديث لا يتابع عليه، وقال أحمد بن حنبل: له أشياء منكرة، وقال ابن معين: ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد ويرفع المسانيد.
وقال الخطابي في الرد على تأويل أصحابنا: إن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة، وقال ابن قدامة: أن حمل الجمع بين الصلاتين على الجمع الصوري فاسد لوجهين: أحدهما: أنه جاء الخبر صريحا في أنه كان يجمعهما في وقت
151

إحداهما، والثاني: أن الجمع رخصة، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، قال: ولو كان الجمع هكذا لجاز الجمع
بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح. قال: ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك. قال: والعمل بالخبر على الوجه السابق منه إلى الفهم أولى من هذا التكلف الذي يصان كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حمله عليه. قلت: سلمنا أن الجمع رخصة، ولكن حملناه على الجمع الصوري حتى لا يعارض الخبر الواحد الآية القطعية، وهو قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات) * (البقرة: 832). أي: أدوها في أوقاتها، وقال الله تعالى: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) * (النساء: 301). أي: فرضا موقوتا، وما قلناه هو العمل بالآية والخبر، وما قالوه يؤدي إلى ترك العمل بالآية ويلزمهم على ما قالوا من الجمع المعنوي رخصة أن يجمعوا لعذر المطر أو الخوف في الحضر، ومع هذا لم يجوزوا ذلك، وأولوا حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر)، الحديث، بتأويلات مردودة، وفيما ذهبنا إليه العمل بالكتاب، وبكل حديث جاء في هذا الباب من غير حاجة إلى تأويلات، وأما قول الخطابي: لأن أوائل الأوقات.. إلى آخره، غير مسلم، لأن الصلاة من أعظم أمور الدين فالمسلم الكامل كيف يخفى عليه أمور ما يتعلق بأعظم أمور دينه؟ ويرد على ابن قدامة أيضا بما ذكرنا، وقياسه على الجمع بين العصر والمغرب، وبين العشاء والصبح باطل لا وجه له أصلا لعدم وجود الملازمة، وليس فيما قلنا ترك صون كلام الرسول، بل فيما قلنا صون كلامه صلى الله عليه وسلم لأجل ما رواه ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، وللتوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها يتعارض، فافهم.
7011 وقال إبراهيم بن طهمان عن الحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء.
هذا التعليق وصله البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأخبرنا أبو علي الحافظ أحمد بن محمد بن عبدوس حدثنا أحمد بن حفص بن راشد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم، فذكره قوله: (المعلم)، صفة للحسين ابن ذكوان العودي من أهل البصرة، مر في آخر كتاب الغسل، والمعلم بلفظ اسم الفاعل من التعليم. قوله: (على ظهر سير) بإضافة: ظهر، إلى: سير، في رواية الأكثرين، ولفظ: (ظهر) مقحم كما في قوله: (الصدقة عن ظهر غنى)، والظهر قد يزاد في مثله إشباعا للكلام وتوكيدا كأن سيره صلى الله عليه وسلم مستند إلى ظهر قوي من الراحلة ونحوها، وقيل: جعل للسير ظهر لأن الراكب ما دام سائرا فكأنه راكب ظهر، وفي رواية الكشميهني: (على ظهر يسير)، فظهر بالتنوين، ويسير بلفظ المضارع، من: سار يسير سيرا، والمراد من الظهر المركوب، وعلى هذا الوجه أن يكون محل: يسير، نصبا على الحال.
8011 وعن حسين عن يحيى بن أبي كثير عن حفص بن عبيد الله بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر.
(الحديث 8011 طرفه في: 0111).
يجوز أن يكون هذا عطفا على ما قبله، والتقدير: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين عن يحيى، ويجوز أن يكون تعليقا عن حسين لا بكونه من رواية إبراهيم بن طهمان عنه، ووصله الإسماعيلي في كتابه (مجموع حديث يحيى بن أبي كثير): أخبرنا أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي حدثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن حفص ابن عبد الله (عن أنس: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في السفر).
وتابعه علي بن المبارك وحرب عن يحيى عن حفص عن أنس جمع النبي صلى الله عليه وسلم
152

أي: تابع حسينا علي بن المبارك الهنائي البصري، وتابعه أيضا حرب بن شداد اليشكري القطان البصري، ويحيى هو ابن أبي كثير، أما متابعة علي بن المبارك فأخرجها الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عثمان ابن عمر حدثنا علي يعني ابن المبارك عن يحيى عن حفص (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين المغرب والعشاء في سفره). وقال أبو نعيم في (المستخرج): حدثنا أبو أحمد حدثنا الحسن بن سفيان فذكره. وأما متابعة حرب بن شداد فأخرجها البخاري في آخر الباب الذي بعده، وقد تابعهم معمر عن أحمد وأبان بن يزيد عند الطحاوي، كلاهما عن يحيى ابن أبي كثير عنه.
41
((باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء))
أي: هذا باب يذكر فيه: هل يؤذن المصلي المسافر إذا جمع بين صلاتي المغرب والعشاء؟ فإن قلت: ما في حديث ابن عمر ذكر الأذان ولا في حديث أنس ذكر الأذان ولا ذكر الإقامة، فكيف وجه هذه الترجمة؟ قلت: قال الكرماني ما حاصله: إن من إطلاق لفظ الصلاتين يستفاد أن المراد هما الصلاتان بأركانهما وشروطهما وسننهما من الأذان والإقامة وغيرهما، لأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقال ابن بطال: قوله: يقيم، يعني في حديث ابن عمر، يحتمل أن يكون معناه: بما تقام به الصلوات في أوقاتها من الأذان والإقامة، ويحتمل أن يريد الإقامة وحدها، ويقال: لم يرد بقوله: يقيم نفس الأداء، وإنما أراد يقيم للمغرب يعني يأتي بالإقامة لها، فعلى هذا كان مراده بالترجمة: هل يؤذن أو يقتصر على الإقامة؟ وقال بعضهم: ولعل المصنف أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرق حديث ابن عمر، ففي الدارقطني من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع (عن ابن عمر في قصة جمعه بين المغرب والعشاء، فنزل فأقام الصلاة، وكان لا ينادي بشيء من الصلاة في السفر، فقام فجمع بين المغرب والعشاء)، ثم رفع الحديث قلت: هذا كلام بعيد، لأنه كيف يضع ترجمة وحديث بابها لا يدل عليه صريحا ويشير بذلك إلى حديث ليس في كتابه.
9011 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله
السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء قال سالم وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير ويقيم المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم ثم قلما يلبث حتى يقيم العشاء فيصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا بعد لعشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل.
.
مطابقته للترجمة تستأنس مما ذكرناه آنفا، وهذا الإسناد بعينه مع صدر الحديث قد ذكره في أول: باب يصلي المغرب ثلاثا في السفر فإنه قال هناك: حدثنا أبو اليمان وهو الحكم بن نافع عن شعيب بن حمزة عن الزهري وهو محمد بن مسلم، قال: أخبرني سالم.. إلى قوله: وزاد الليث نحوه. قوله: (يؤخر صلاة المغرب)، لم يبين إلى متى يؤخر، وقد بينه مسلم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بأنه بعد أن يغيب الشفق، وقد ذكرنا اختلاف الألفاظ فيه، وبينا أن الشفق على نوعين وما يترتب عليهما. قوله: (ثم قلما يلبث) كلمة: ما، للمدة أي: ثم قل مدة لبثه، وذلك اللبث لقضاء بعض حوائجه مما هو ضروري. قوله: (ولا يسبح بينهما) أي: ولا يتنفل بين المغرب والعشاء بركعة، وأراد بها الركعتين من باب إطلاق الجزء على الكل. قوله: (ولا بعد العشاء) أي: ولا يسبح أيضا بعد صلاة العشاء بسجدة أي: بركعتين من باب إطلاق الجزء على الكل. كما في قوله: (بركعة). قوله: (حتى يقوم) أي: إلى أن يقوم (من جوف الليل)، ففيه كان يسبح أي: يتنفل، والحاصل أن ابن عمر ما كان يتطوع في السفر لا قبل الصلاة ولا بعدها، وكان يصلي في جوف الليل، كما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن هشيم عن عبيد الله بن عمر عن نافع (عن ابن عمر: أنه كان لا يتطوع في السفر قبل الصلاة ولا بعدها وكان يصلي من الليل). وقال الترمذي: وروي
153

عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطوع في السفر قبل الصلاة ولا بعدها)، وروي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتطوع في السفر ثم اختلف أهل العلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطوع الرجل في السفر، وبه يقول أحمد وإسحاق، ولم تر طائفة من أهل العلم أن يصلي قبلها ولا بعدها، ومعنى: من لم يتطوع قبول الرخصة، ومن تطوع فله في ذلك فضل كثير، وهو قول أكثر أهل العلم يختارون التطوع في السفر.
0111 حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الصمد قال حدثنا حرب قال حدثنا يحيى قال حدثني حفص بن عبيد الله بن أنس أن أنسا رضي الله تعالى عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر يعني المغرب والعشاء.
(أنظر الحديث 8011).
مطابقته للترجمة من حيث إنه مفسر بحديث ابن عمر السابق، لأن في حديث أنس إجمالا كما تراه، والمفسر، بالفتح تابع للمفسر بالكسر، وقد ذكرنا وجه التطابق في حديث ابن عمر، فحصل في حديث أنس أيضا من حيث التبعية لا غير، وهذا القدر كاف في ذلك.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: إسحاق ذكره غير منسوب، ويحتمل أن يكون إسحاق بن منصور الكوسج لأنه قال في: باب مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وفي كتاب الديات: حدثنا إسحاق بن منصور، قال: حدثنا عبد الصمد، ويحتمل أن يكون إسحاق بن راهويه، لأن كلا من الإسحاقين يرويان عن عبد الصمد، والبخاري يروي عن كل منهما: وقيل: جزم أبو نعيم في (المستخرج) أنه إسحاق بن راهويه لأن كلا من الإسحاقيين يرويان عن عبد الصمد والبخاري يروي عن كل منهما وقيل جزم أبو نعيم في المستخرج أنه إسحاق بن راهويه الثاني: عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري، وقد مر. الثالث: حرب ضد الصلح ابن شداد أبو الخطاب اليشكري، وقد مر عن قريب. الرابع: يحيى بن أبي كثير، وقد مر غير مرة. الخامس: حفص بن عبيد الله ابن أنس. السادس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: اثنان بصريان وهما: عبد الصمد وحرب، ويحيى يمامي، وحفص بصري وإسحاق مروزي، سواء كان ابن راهويه أو ابن منصور الكوسج. وفيه: ثلاثة مذكورون بغير نسبة.
والحديث قد مر في الباب الذي قبله: عن حسين عن يحيى ابن أبي كثير عن حفص بن عبيد الله.. إلى آخره، والله تعالى أعلم.
51
((باب يؤخر الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس))
أي: هذا باب يذكر فيه أن المسافر إذا أراد الجمع بين الظهر والعصر يؤخر الظهر إذا ارتحل قبل أن تزيع الشمس، أي: قبل أن تميل، وذلك إذا قام الفيء يقال: زاغ عن الطريق يزيغ إذا عدل عنه.
فيه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: في تأخير الظهر إلى العصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وكريب (عن ابن عباس، قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، قلنا: بلى، قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا كانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر). وأخرجه الترمذي أيضا من رواية أحمد بن عبد الله بن داود التاجر المروزي عنه من رواية حسين بن عبد الله نحوه، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس، ذكره في (الأطراف) ولم يذكر ابن عساكر، وقد ذكرنا ما قاله أئمة الشأن في حسين هذا قبل هذا الباب.
1111 حدثنا حسان الواسطي قال حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر
154

الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب.
(الحديث 1111 طرفه في: 2111).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: حسان، على وزن فعال بالتشديد: ابن عبد الله بن سهل الكندي المصري، كان أبوه واسطيا فقدم مصر فولد بها حسان المذكور واستمر بها إلى أن مات سنة ثنتين وعشرين ومائتين. الثاني: المفضل، بلفظ اسم المفعول من التفضيل بالفاء والضاد المعجمة: ابن فضالة، بفتح الفاء وتخفيف الضاد المعجمة: أبو معاوية القتباني، بكسر القاف وسكون التاء المثناة من فوق وبالباء الموحدة وبالنون، قاضي مصر إمام مجاب الدعوة، مات سنة إحدى وثمانين ومائة. الثالث: عقيل، بضم العين: ابن خالد، وقد مر غير مرة. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده وفي الرواة حسان الواسطي آخر يروى عن شعبة وغيره، ضعفه الدارقطني، ومن زعم أن البخاري روى عنه عن المصريين فقد وهم، لأنه لا رواية له عن المصريين. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه مصريان، وعقيل أيلي وابن شهاب مدني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة عن المفضل وعن عمرو الناقد وعن أبي الطاهر بن السرح وعن عمرو بن سواد. وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة ويزيد بن خالد، كلاهما عن المفضل به. وعن سليمان بن داود عن ابن وهب به، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به وعن عمرو بن مراد به.
ذكر معناه: قوله: (قبل أن تزيغ) أي: قبل أن تميل. قوله: (فإذا زاغت) أي: الشمس قبل أن يرتحل لا بد من تقييده بهذا القيد، كما في الرواية التي تأتي، قال الكرماني: (فإذا زاغت) بالفاء التعقيبية فيكون الزيغ قبل الارتحال ضرورة. قلت: الفاء قد تكون لتعقيب الأخبار بهذه الجملة على الجملة التي قبلها، أو الفاء بمعنى الواو، واستدل من يرى الجمع بهذا الحديث على أن من كان نازلا في وقت الأولى، فالأفضل أن يجمع بينهما، بضم العصر إلى الظهر، وأنه إذا كان سائرا فالأفضل تأخير الأولى بنية جمعها مع العصر إذا وثق بنزوله. ووقت العصر باق. وأما إذا كان سائرا في وقتهما جميعا فله أن يجمع على ما يراه من التقديم أو التأخير، ولكن الأفضل أن الأولى إلى الثانية للخروج من خلاف من خالف في التقديم من الأئمة وقال ابن بطال: اختلفوا في وقت الجمع، فقال الجمهور: إن شاء جمع بينهما في وقت الأولى، وإن شاء جمع في وقت الآخرة، ثم نقل قول أبي حنيفة ثم قال: وهذا قول بخلاف الآثار. قلنا: قد ذكرنا أن في هذا الباب ستة أقوال قد بيناها، وأبو حنيفة قط ما خالف الآثار، فإنه احتج فيما ذهب إليه بالكتاب والسنة والقياس، وحمل أحاديث الجمع على الجمع المعنوي. ففيما قاله عمل بجميع الآثار، وفيما قاله ابن بطال ومن رأى الجمع الصوري إهمال للبعض، مع أنه فيما نقل عن الجمهور مخالفة للحديث المذكور، وهو ظاهر.
61
((باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا ارتحل المسافر بعدما مالت الشمس وقام الفيء صلى صلاة الظهر ثم ركب، ولم يذكر فيه العصر لأن في حديث الباب كذلك، والآن نذكر وجه ذلك، ويفهم من هذه الترجمة ومن التي قبلها أن البخاري يذهب إلى أن جمع التأخير يختص بمن ارتحل قبل أن يدخل وقت الظهر.
2111 حدثنا قتيبة قال حدثنا المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس ابن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركي.
(أنظر الحديث 1111).
155

مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو بعينه الحديث المذكور فيما قبل هذا الباب، غير أنه أخرج هناك: عن حسان الواسطي عن المفضل بن فضالة، وهنا: عن قتيبة بن سعيد عن المفضل.. إلى آخره نحوه، ولم يذكر في الطريقين العصر، والمحفوظ عن عقيل الراوي في الكتب المشهورة هكذا بدون ذكر العصر، وقال بعضهم: ومقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما، وبه احتج من منع جمع التقديم. انتهى. قلت: لا نسلم أن مقتضى الحديث ما ذكره، بل مقتضاه الذي يقتضيه التركيب أنه لا يجمع إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس، بل يصلي الظهر في وقته ثم يركب، ولا يصلي العصر عقيب الظهر، بل يصلي العصر بعد ذلك في وقته، لأن الأصول تقتضي ذلك، كذلك، وعن هذا حكي عن أبي داود أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. فإن قلت: روى إسحاق بن راهويه هذا الحديث عن شبابة بن سوار عن الليث عن عقيل عن الزهري (عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل). قال النووي: وإسناده صحيح. قلت: أبو داود أنكره على إسحاق وأخرجه الإسماعيلي وأعله بتفرد إسحاق عن شبابة، وشبابة وإن كان من رجال الجماعة ولكنه يدعو إلى الإرجاء، قاله زكريا بن يحيى الساجي. وقال محمد بن سعد: كان ثقة صالح الأمر في الحديث وكان مرجئا. وقال بعضهم: وهذا ليس بقادح، يعني تفرد إسحاق عن شبابة، فإنه إمام حافظ، وقد وقع نظيره في (الأربعين) للحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصاغاني عن حسان بن عبد الله عن المفضل بن فضالة عن عقيل عن ابن شهاب (عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن
زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب) قلت: في ثبوت هذه الزيادة نظر، ألا ترى أن الحاكم لم يورده في (مستدركه) مع شهرته في تساهله في التصحيح، والبخاري مع تتبعه في أشياء على الحنفية، لم يذكر هذه الزيادة؟ فإن قلت: له طريق آخر رواه الطبراني في (الأوسط): حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن سندر الأصبهاني حدثنا هارون ابن عبد الله الجمال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعدان حدثنا ابن عجلان عن عبد الله بن الفضل (عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا كان في سفر فزاغت الشمس قبل أن يرتجل صلى الظهر والعصر جميعا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس جمع بينهما في أول العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء)، وقال: تفرد به يعقوب بن مجمد؟ قلت: قال أحمد: يعقوب بن محمد ليس يسوى شيئا. وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال صالح: حزره عن ابن معين أحاديثه تشبه أحاديث الواقدي. فإن قلت: في الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد ولفظه: (كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب..) الحديث، ورواه الشافعي والبيهقي أيضا قلت: في سنده: حسين بن عبد الله وهو ضعيف جدا، وقد ذكرناه. وقال بعضهم: والمشهور في جمع التقديم ما أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان من طريق الليث عن يزيد أبي حبيب عن أبي الطفيل عن مغاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه (قلت) لفظ أبي داوود حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبد الله الرملي الهمداني حدثنا المفضل بن فضالة والليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل (عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غاب الشفق قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم جمع بينهما) قلت: أنكر أبو داود هذا الحديث، وهشام بن سعد ضعفه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال أحمد: لم يكن بالحافظ، وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس، وأبو الطفيل اسمه: عامر بن واثلة. فإن قلت: روى أبو داود أيضا، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، (عن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب، قلت: قال أبو داود: لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، يعني: تفرد به، ولهذا قال الترمذي: حديث حسن غريب
156

تفرد به قتيبة، لا يعرف أحد رواه عن الليث غيره، وذكر أن المعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير. وقال أبو سعيد بن يونس الحافظ: لم يحدث به إلا قتيبة، ويقال إنه غلط، وإن موضع يزيد بن أبي حبيب أبو الزبير، وذكر الحاكم أن الحديث موضوع، وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون، وحكى عن البخاري أنه قال: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، فقال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ، انتهى. وخالد المدائني هذا هو أبو الهيثم خالد بن القاسم المدائني، متروك الحديث. وقال ابن عدي: له عن الليث بن سعد غير حديث منكر، والليث بريء من رواية خالد عنه تلك الأحاديث.
71
((باب صلاة القاعد))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة القاعد، وإنما أطلق الترجمة لتتناول صلاة المتنفل قاعدا لعذر ولغير عذر، وصلاة المفترض عند العجز، وسواء كان المصلي، إماما أو مأموما أو منفردا.
3111 حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث بهذا الإسناد قد مر في: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، غير أنه أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وههنا: عن قتيبة بن سعيد عن مالك، وهناك بعد قوله: (فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون.
قوله: (وهو شاك)، جملة حالية أي: وهو مريض كأنه يشكو عن مزاجه أنه انحرف عن الاعتدال، ولفظ: شاك، بالتنوين أصله: شاكي، فأعل إعلال: قاض، وقد استوفينا الكلام هناك.
4111 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا ابن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرس فخدش أو فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى قاعدا فصلينا قعودا وقال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو نعيم الفضل بن دكين وابن عيينة هو سفيان، والزهري هو محمد بن مسلم. وأخرج البخاري هذا الحديث أيضا في: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن أنس، وقد مر الكلام فيه مستقصى. قوله: (فخدش)، بضم الخاء المعجمة وفي آخره شين. قوله: (أو فجحش)، شك من الراوي بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وفي آخره شين معجمة، ومعناهما واحد. قال ابن الأثير: فجحش، أي: انخدش جلده، وانسجح
وخدش الجلد قشره بعود، خدشه يخدشه خدشا وخدوشا.
5111 حدثنا إسحاق بن منصور قال أخبرنا روح بن عبادة قال أخبرنا حسين عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه أنه سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم (ح) أخبرنا إسحاق قال أخبرنا عبد الصمد. قال سمعت أبي قال حدثنا الحسين عن ابن بريدة قال حدثني عمران بن حصين وكان مبسورا قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا فقال إن صلى
157

قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ثمانية: الأول: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج أبو يعقوب. الثاني: روح، بفتح الراء: ابن عبادة، بضم العين وتخفيف الباء الموحدة، مر في: باب اتباع الجنائز من الإيمان. الثالث: حسين ابن ذكوان المعلم. الرابع: عبد الله بن بريدة، بضم الباء الموحدة: ابن حصيب، مر في آخر كتاب الحيض. الخامس: إسحاق بن إبراهيم، نص عليه الكلاباذي والمزي في (الأطراف) وليس هذا بإسحاق بن منصور الذي مر في أول الإسناد كما زعمه بعضهم. السادس: عبد الصمد بن عبد الوارث. السابع: أبوه عبد الوارث بن سعيد التنوري. الثامن: عمران بن حصين.
ذكر لطائف إسناده في طريقي الحديث فيه: التحديث بصيغة الجمع في خمسة مواضع والإخبار كذلك في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: السؤال في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: أن شيخه مروزي ثم انتقل إلى نيسابور وابن بريدة أيضا مروزي وهو قاضي مرو. وفيه: البقية بصريون. وفيه: إسحاقان أحدهما مذكور بنسبته إلى أبيه والآخر، بلا نسبة. وفيه: حسين بلا نسبة في الموضعين، ذكر الأول بدون الألف واللام، والثاني بالألف واللام، وهما للمح الوصفية كما في العباس، لأن الأعلام لا يدخل فيها الألف واللام. وفيه: رواية الابن عن الأب.
وفي الطريق الثاني: وحدثنا إسحاق: أخبرنا عبد الصمد، هكذا هو رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: وزاد إسحاق أخبرنا عبد الصمد. وفيه: حدثنا عمران بن حصين. وفيه: التصريح بسماع عبد الله بن بريدة عن عمران. وفيه: استغناء عن تكلف ابن حبان فيه حيث قال في (صحيحه): هذا إسناد قد توهم من لم يحكم صناعة الأخبار ولا تفقه في صحيح الآثار أنه منفصل غير متصل، وليس كذلك، فإن عبد الله بن بريدة ولد في السنة الثالثة من خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، فلما وقعت فتنة عثمان، رضي الله تعالى عنه، خرج بريدة بابنيه وهما: عبد الله وسليمان، وسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين وسمرة بن جندب فسمع منهما.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرج البخاري هذا الحديث في هذا الباب عن إسحاق بن منصور، وفي الباب الذي يليه عن أبي معمر، وفي الباب الذي يلي الباب الثاني: عن عبدان. وأخرجه أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريد (عن عمران بن حصين: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا؟ فقال: (صلاته قائما أفضل من صلاته قاعدا، وصلاته قاعدا على النصف من صلاته قائما، وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا). حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن ابن بريدة (عن عمران بن حصين قال: كان بي الباسور، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى الجنب). وأخرجه الترمذي: حدثنا علي بن حجر أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الحسين المعلم عن عبد الله بن بريدة (عن عمران بن حصين قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد؟ قال: من صلاها قائما فهو أفضل، ومن صلاها قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلاها نائما فله نصف أجر القاعد). قال الترمذي: وقد روى هذا الحديث عن إبراهيم بن طهمان بهذا الإسناد، إلا أنه يقول: (عن عمران بن حصين، رضي الله تعالى عنه، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض؟ فقال: صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب). حدثنا بذلك هناد حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم بهذا الحديث. وأخرجه النسائي: حدثنا حميد بن مسعدة عن سفيان وهو ابن حبيب عن حسين بن ذكوان المعلم عن عبد الله ابن بريدة (عن عمران بن حصين، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذي يصلي قاعدا؟ فقال: من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد). وأخرجه ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن ابن بريدة (عن عمران بن الحصين، قال: كان بي الباسور فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى الجنب).
ذكر معناه: قوله: (وحدثنا إسحاق)، هكذا في هو رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: وزاد إسحاق أخبرنا عبد الصمد. قوله: (حدثنا عمران)، يصرح بسماع عبد الله بن بريدة عن عمران، وفيه اكتفاء عن تكلف ابن حبان في إقامة
158

الدليل على أن عبد الله بن بريدة عاصر عمران، كما ذكرناه عن قريب. قوله: (وكان ميسورا)، بسكون الباء الموحدة بعدها سين مهملة، أي: كان معلولا بالباسور، وهو علة تحدث في المقعدة. وفي (التلويح): الباسور، بالباء الموحدة مثل: الناسور بالنون، وهو الجرح الفاذ، أعجمي، يقال: تنسر الجرح تنفض وانتشرت مدته، ويقال: ناسور وناصور عربيان، وهو القرحة الفاسدة الباطن التي لا تقبل البرء ما دام فيها ذلك الفساد، حيث كانت في البدن، فأما الباسور بالباء الموحدة فهو ورم المقعدة وباطن الأنف. قلت: الباسور واحد البواسير، وهو في عرف الأطباء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل منها كل وقت مادة. قوله: (قاعدا) في الموضعين، (وقائما) و (نائما): أحوال. قوله: (ومن صلى نائما) بالنون من النوم أي: مضطجعا على هيئة النائم، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تستطع فعلى جنب)، وترجم له النسائي: باب صلاة النائم، ويدل عليه أيضا ما رواه أحمد في (مسنده): حدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن حسين المعلم، قال: وقد
سمعته عن حسين عن عبد الله ابن بريدة (عن عمران بن حصين، قال: كنت رجلا ذا أسقام كثيرة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاتي قاعدا؟ فقال: صلاتك قاعدا على النصف من صلاتك قائما، وصلاة الرجل مضطجعا على النصف من صلاته قاعدا) انتهى. هذا يفسر أن معنى قوله: (نائما) بالنون يعني: مضطجعا، وأنه في حق من به سقم بدلالة قوله: (كنت رجلا ذا أسقام كثيرة)، وأن ثواب من يصلي قاعدا نصف ثواب من يصلي قائما، وثواب من يصلي مضطجعا نصف ثواب من يصلي قاعدا. وقال الخطابي: وأما قوله: (ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد)، فإني لا أعلم أني سمعته إلا في هذا الحديث، ولا أحفظ من أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع نائما، كما رخصوا فيها قاعدا، فإن صحت هذه اللفظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من كلام بعض الرواة أدرجه في الحديث وقاسه على صلاة القاعد أو اعتبره بصلاة المريض نائما إذا لم يقدر على القعود، فإن التطوع مضطجعا للقادر على القعود جائز، كما يجوز أيضا للمسافر إذا تطوع على راحلته، فأما من جهة القياس فلا يجوز له أن يصلي مضطجعا، كما يجوز له أن يصلي قاعدا، لأن القعود شكل من أشكال الصلاة وليس الاضطجاع في شيء من أشكال الصلاة، وادعى ابن بطال أن الرواية: (من صلى بإيماء)، على أنه جار ومجرور وأن المجرور مصدر: أومأ، قال: وقد غلط النسائي في حديث عمران بن حصين وصحفه وترجم له: باب صلاة النائم، فظن أن قوله، صلى الله عليه وسلم: (من صلى بإيماء)، إنما هو من صلى نائما. قال: والغلط فيه ظاهر لأنه قد ثبت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه أمر المصلي إذا غلبه النوم أن يقطع الصلاة ثم بين صلى الله عليه وسلم معنى ذلك، فقال: (لعله لم يستغفر فيسب نفسه)، فكيف يأمره بقطع الصلاة وهي مباحة له؟ وله عليها نصف أجر القاعد؟ قال: والصلاة لها ثلاثة أحوال: أولها القيام، فإن عجز عنه فالقعود، ثم إن عجز عنه فالإيماء، وليس النوم من أحوال الصلاة. انتهى.
وقال شيخنا زين الدين: أما نفي الخطابي وابن بطال للخلاف في صحة التطوع مضطجعا للقادر فمردود، فإن في مذهبنا وجهين: الأصح منهما الصحة، وعند المالكية فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي عياض في (الإكمال): أحدها الجواز مطلقا في الاضطراار، والاختيار للصحيح والمريض لظاهر الحديث، وهو الذي صدر به القاضي كلامه. والثاني: منعه مطلقا لهما، إذ ليس في هيئة الصلاة. والثالث: إجازته لعدم قوة المريض فقط، وقد روى الترمذي بإسناده عن الحسن البصري جوازه حيث قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن أشعث بن عبد الملك (عن الحسن، قال: إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما أو جالسا أو مضطجعا) فكيف يدعي مع هذا الخلاف القديم والحديث الاتفاق؟ وأما ما ادعاه ابن بطال عن النسائي من أنه صحفه فقال: نائما، وإنما الرواية: بإيماء، على الجار والمجرور، فلعل التصحيف من ابن بطال: وإنما ألجأه إلى ذلك حمل قوله: (نائما) على النوم حقيقة الذي أمر المصلي إذا وجده أن يقطع الصلاة، وليس المراد ههنا إلا الاضطجاع لمشابهته لهيئة النائم، وحكى القاضي عياض في الإكمال): أن في بعض الروايات: مضطجعا، مكان: نائما، وبه فسره أحمد بن خالد الوهبي، فقال: نائما، يعني: مضطجعا. وقال شيخنا: وبه فسره البخاري في (صحيحه) فقال، بعد إيراده للحديث: قال أبو عبد الله: نائما عندي مضطجعا، وقال أيضا: وقد بوب عليه النسائي: فضل صلاة القاعد على النائم، ولم أر فيه: باب صلاة النائم، كما نقله ابن بطال.
ذكر ما يستنبط منه: قال الترمذي: هذا الحديث محمول عند بعض أهل العلم على صلاة التطوع قلت: كذلك
159

حمله أصحابنا على صلاة النفل حتى استدلوا به في جواز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، وقال صاحب (الهداية): وتصلي النافلة قاعدا مع القدرة على القيام لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم)، وحكي عن الباجي من أئمة المالكية أنه حمله على المصلي فريضة لعذر أو نافلة لعذر أو لغير عذر، وقيل: في حديث عمران حجة على أبي حنيفة من أنه إذا عجز عن القعود سقطت الصلاة، حكاه الغزالي عن أبي حنيفة في (الوسيط) قلت: هذا لم يصح ولم ينقل هذا أحد من أصحابنا عن أبي حنيفة، ولهذا قال لرافعي: لكن هذا النقل لا يكاد يلفي في كتبهم ولا في كتب أصحابنا، وإنما الثابت عن أبي حنيفة إسقاط الصلاة إذا عجز عن الإيماء بالرأس، واستدل بحديث عمران من قال: لا ينتقل المريض بعد العجز عن الصلاة على الجنب والإيماء بالرأس إلى فرض آخر من الإيماء بالطرف، وحكي ذلك عن أبي حنيفة ومالك إلا أنهما اختلفا، فأبو حنيفة يقول: يقضي بعد البرء، ومالك يقول: لا قضاء عليه. وحكى صاحب (البيان) عن بعض الشافعية وجها مثل مذهب أبي حنيفة وقال جمهور الشافعية: إن عجز عن الإشارة بالرأس أومأ بطرفه، فإن لم يقدر على تحريك الأجفان أجرى أفعال الصلاة على لسانه، فإن اعتقل لسانه أجرى القرآن والأذكار على قلبه، وما دام عاقلا لا تسقط عنه الصلاة، وقال الترمذي: وقال سفيان الثوري في هذا الحديث: (من صلى جالسا فله نصف أجر القائم). قال: هذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره فصلى جالسا فله مثل أجر القائم، وقال النووي: إذا صلى قاعدا صلاة النفل مع القدرة على القيام فهذا له نصف ثواب القائم، وأما إذا صلى النفل قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه، بل يكون ثوابه كثوابه قائما، وأما الفرض فإن صلاته قاعدا مع القدرة على القيام لا تصح، فضلا عن الثواب. وإن صلى قاعدا لعجزه عن القيام أو مضطجعا لعجزه عن القعود، فثوابه كثوابه قائما لا ينقص. وفي (شرح الترمذي) رحمه الله تعالى: إذا صلى الفرض قاعدا مع قدرته على القيام لا يصح، وقال أصحابنا وفيه: وإن استحله يكفر، وجرت عليه أحكام المرتدين، كما لو استحل الزنا أو الربا أو غيره من المحرمات الشائعة التحريم، والله المتعال وإليه المآل.
81
((باب صلاة القاعد بالإيماء))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة القاعد بالإيماء.
6111 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة أن عمران بن حصين وكان رجلا ميسورا. وقال أبو معمر مرة عن عمران.
قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد.
(أنظر الحديث 5111 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إن النائم لا يقدر على الإتيان بالأفعال، فلا بد فيها من الإشارة إليها فالنوم بمعنى الاضطجاع كناية عنها. وقال الإسماعيلي: ترجم البخاري بصلاة القاعد بالإيماء ولم يقع في الحديث إلا ذكر النوم، فكأنه صحف نائما من النوم، فظنه بإيماء الذي هو مصدر أومأ، ورد عليه بأنه لم يصحف لأنه وقع في رواية كريمة وغيرها عقيب حديث الباب.
قال أبو عبد الله نائما عندي مضطجعا هاهنا
قال أبو عبد الله يعني: البخاري نفسه. قوله: (نائما عندي) أي: (مضطجعا) وزعم ابن التين أن في رواية الأصيلي (ومن صلى بإيماء)، فلذلك بوب البخاري: باب صلاة القاعد بالإيماء. قلت: إن صحت هذه الرواية فالمطابقة بين الحديث والترجمة ظاهرة جدا فلا يحتاج إلى التكلف المذكور، والكلام فيه قد مر. قوله: (وهو قاعد)، جملة اسمية وقعت حالا، وقائما ونائما أحوال.
160

91
((باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا لم يطق المصلي أن يصلي قاعدا صلى على جنب.
وقال عطاء إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إن العاجز عن أداء فرض ينتقل إلى فرض دونه، ولا يترك، بيان ذلك أن الترجمة تدل على أن المصلي إذا عجز عن الصلاة قاعدا يصلي على جنبه، والأثر يدل على أنه إذا عجز عن التحول إلى القبلة يصلي إلى أي جهة كان وجهه، وأثر عطاء بن أبي رباح هذا وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه بمعناه، وقال بعضهم: فيه حجة على من زعم أن العاجز عن القعود في الصلاة سقطت عنه الصلاة، وقد حكاه الغزالي عن أبي حنيفة قلت: ليس هذا بأول ما قال الغزالي في أبي حنيفة، وهو غير صحيح، ولا هو منقول عن أبي حنيفة، وقد مر هذا عن قريب.
7111 حدثنا عبدان عن عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن طهمان قال حدثني الحسين المكتب عن ابن بريدة عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب.
(أنظر الحديث 5111 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو الطريق الثالث لحديث عمران، كما ذكرنا، وهو من أفراد البخاري، وعبدان لقب عبد الله ابن عثمان المروزي.
قوله: (عن عبد الله بن المبارك)، قد مر غير مرة وليس في رواية أبي زيد المروزي. وذكر ابن المبارك، والمذكور هو: عبد الله بلا نسبة. قوله: (المكتب)، اسم فاعل من التكتيب، وهو صفة الحسين بن ذكوان، وقد مر ذكره في الباب الذي قبله، ولكن المذكور هناك: حسين المعلم، لأنه مشهور بالمكتب، والمعلم وابن بريدة هو عبد الله، وقد مر. قوله: (عن الصلاة) أي: عن صلاة الذي به علة، وفي رواية وكيع: (عن إبراهيم بن طهمان، سألت عن صلاة المريض؟) أخرجه الترمذي وغيره. قوله: (فعلى جنب)، أي: فعلى جنبك، لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب لعمران بقوله: (فإن لم تستطع) وقال أولا في جوابه: (صل قائما)، ولكن لم يبين فيه على أي جنب، وهو بظاهره يتناول الجنب الأيمن والأيسر، وبه جزم الرافعي، وقال: إلا أنه لو اضطجع على جنبه الأيسر ترك السنة، وكأنه أشار بهذا إلى ما رواه الدارقطني من حديث علي، رضي الله تعالى عنه، (عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه)، الحديث، واستدل بعضهم على استحباب كونه على الجنب الأيمن بالحديث الصحيح المتفق عليه من حديث البراء بن عازب، رضي الله تعالى عنه، قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك..) الحديث. وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله، وفي قوله: (فإن لم يستطع فعلى جنبه) حجة لأصح الوجهين لأصحابنا أو القولين للشافعي أنه: يضطجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، وهو قول أحمد بن حنبل، كما يوجه الميت في اللحد، لقوله صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث البيت الحرام: (قبلتكم أحياء وأمواتا). والوجه الثاني: أنه يستلقي على ظهره ويجعل رجليه إلى القبلة ويومىء بالركوع والسجود إلى القبلة، وهو قول أبي حنيفة. وفي المسألة. وجه ثالث، حكاه الرافعي وضعفه، وصفته: أنه يضطجع على جنبه الأيمن وأخمصاه إلى القبلة. قلت: اختلفت الروايات عن أصحابنا في القعود إذا عجز عن القيام كيف يقعد؟ فروى محمد عن أبي حنيفة أنه إذا افتتح الصلاة يجلس كيف ما شاء، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يتربع، وإذا ركع يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها، وعن أبي يوسف أنه يتربع في جميع صلاته، وعن زفر أنه يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته، والصحيح رواية محمد لأن عذر المرض يسقط الأركان عنه، فلأن يسقط عنه الهيئات أولى، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، ولا يرفع إلى وجهه شيئا يسجد عليه، وإن فعل ذلك وهو يخفض رأسه أجزأه، ويكون مسيئا. وفي (الينابيع): إن وجد منه تحريك رأسه يجوز وإلا لا، ثم اختلفوا: هل يعد هذا سجودا أو إيماء؟ قيل: هو إيماء وهو الأصح، وإن لم يستطع القعود
161

استلقى على ظهره وجعل رجليه إلى القبلة، وأومأ بالركوع والسجود. وقال الشيخ حميد الدين الضريري، رحمه الله: توضع وسادة تحت رأسه حتى يكون شبه القاعد
ليتمكن من الإيماء بالركوع والسجود. إذ حقيقة الاستلقاء تمنع الأصحاء عن الإيماء، فكيف المرضى؟ واختلفت الروايات عن أصحابنا في كيفية الاستلقاء، ففي ظاهر الرواية يصلي مستلقيا على قفاه ورجلاه إلى القبلة، وروى ابن كأس عنهم أنه: يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة، فإن عجز عن ذلك استلقى على قفاه وهو قول الشافعي، وقول مالك وأحمد كظاهر الرواية المذكورة.
02
((باب إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد خفة تمم ما بقي))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا صلى شخص قاعدا لأجل عجزه عن القيام ثم صح في أثناء صلاته بأن حصلت له عافية أو وجد خفة في مرضه بحيث إنه قدر على القيام، تمم صلاته ولا يستأنف في الوجهين، وهذه الترجمة بهذين الوجهين أعم، من أن تكون في الفريضة أو النفل، لا كما قاله البعض: إن قوله: ثم صح، يتعلق بالفريضة، وقوله: أو وجد خفة يتعلق بالنافلة، لأن هذه دعوى بلا برهان، لأن الذي حمله على هذا لا يخلو إما أن يكون لبيان أن حكم الفرض في هذا خلاف حكم النفل، وإما لأجل المطابقة بين الترجمة وبين حديثي الباب، فإن كان الوجه الأول فليس فيه خلاف عند الجمهور، منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو يوسف أن المريض إذا صلى قاعدا ثم صح أو وجد قوة مقدار ما يقوم بها على القيام فإنه يتم صلاته قائما، خلافا لمحمد بن الحسن فإنه قال: يستأنف صلاته. فإن قلت: أليس هذا بناء القوي على الضعيف؟ قلت: لا، لأن تحريمته لم تنعقد للقيام لعدم القدرة عليه وقت الشروع في الصلاة، وإن كان الوجه الثاني فلا يحتاج فيه إلى التفرقة لبيان وجه المطابقة بأن يقال: إن الشق الثاني من الترجمة يطابق حديث الباب، لأنه في النفل، ويؤخذ ما يتعلق بالشق الأول بالقياس عليه، وهذا كله تعسف، وما أوقع الشراح في هذه التعسفات إلا قول ابن بطال: إن هذه الترجمة تتعلق بالفريضة، وحديث عائشة يتعلق بالنافلة، وتقييد ابن بطال المطلق بلا دليل تحكم، بل الترجمة على عمومها، وإن كان حديث الباب في النفل، لأنا قد ذكرنا غير مرة أن أدنى شيء يلائم بين الترجمة والحديث كاف، بيان ذلك أن القيام في حق المتنفل غير متأكد، وله أن يتركه من غير عذر، والدليل عليه ما روته عائشة، رضي الله تعالى عنها: (أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلة طويلة قاعدا)، رواه مسلم والأربعة، وفي حق المريض العاجز عن القيام يكون كذلك لأن تحريمته لا تنعقد لذلك، كما ذكرنا، فيكون المتنفل والمفترض العاجز سواء في ذلك، فتتناولهما الترجمة من هذه الحيثية.
وقال الحسن إن شاء المريض صلى ركعتين قاعدا وركعتين قائما
الحسن هو البصري، قال بعضهم: وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بمعناه قلت: الذي ذكره ابن أبي شيبة ليس بمعناه ولا قريبا منه لأنه قال: حدثنا هشيم عن مغيرة وعن يونس عن الحسن (أنهما قالا: يصلي المريض على الحالة التي هو عليها) انتهى. ومعناه: إن كان عاجزا عن القيام يصلي قاعدا، وإن كان عاجزا عن القعود يصلي على جنبه، كما في الحديث الذي روي عن عمران، وحالته لا تخلو عن ذلك، والذي ذكره البخاري عنه هو، أن: يصلي المريض إن شاء ركعتين قاعدا وركعتين قائما، فالذي يظهر منه أنه إذا صلى ركعتين قاعدا لعجزه عن القيام، ثم قدر على القيام يصلي الركعتين اللتين بقيتا قائما، ولا يستأنف صلاته. فحينئذ تظهر المطابقة بين الترجمة وبين هذا الأثر. وقال صاحب (التلويح): هذا التعليق، يعني الذي ذكره عن الحسن، رواه الترمذي في (جامعه): عن محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن أشعث بن عبد الملك عن الحسن: إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع قائما وجالسا ومضطجعا. انتهى. قلت: هذا أيضا غير قريب مما ذكره البخاري، ولا يخفى ذلك على المتأمل.
8111 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها أخبرته أنها لم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل قاعدا قط
162

حتى أسن فكان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع.
.
وجه المطابقة بين الترجمة، والحديث قد ذكرناه، والحديث أخرجه أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا هشام بن عروة عن عروة (عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا قط، حتى دخل في السن، فكان يجلس فيقرأ حتى إذا بقي أربعون أو ثلاثون آية قام فقرأها ثم سجد). وقد روي عن عائشة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في التطوع جماعة آخرون من التابعين. منهم: الأسود بن يزيد، أخرج حديثه النسائي من رواية عمر بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن الأسود (عن عائشة، قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من وجهي وهو صائم، وما مات حتى كان أكثر صلاته قاعدا). وروى مسلم من رواية عبد الله بن عروة عن أبيه (عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل كان أكثر صلاته جالسا). ومنهم: علقمة بن وقاص، أخرج حديثه مسلم بلفظ: قلت لعائشة: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في الركعتين وهو جالس؟ قالت: كان يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع). ومنهم: عمرة، أخرج حديثها مسلم والنسائي وابن ماجة من رواية أبي بكر بن محمد عن عمر (عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام قدر ما يقرأ الإنسان أربعين آية). قوله: (صلاة الليل)، قيدت عائشة بها لتخرج الفريضة. قوله: (حتى أسن) أي: حتى دخل في السن، وقال ابن التين: إنما قيدت بقولها: (حتى أسن) ليعلم إنه إنما فعل ذلك إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة، وأفادت أنه كان يديم القيام، وإنه كان لا يجلس عما يطيقه من ذلك. قوله: (أو أربعين) يحتمل أن يكون هذا شكا من الراوي، وأن عائشة قالت أحد الأمرين: ويحتمل أن عائشة، رضي الله تعالى
عنها، ذكرت الأمرين معا من الثلاثين والأربعين بحسب وقوع ذلك منه، مرة كذا ومرة كذا، أو بحسب طول الآيات وقصرها.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء، وسواء في ذلك: قام ثم قعد أو قعد ثم قام، ومنعه بعض السلف وهو غلط، ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور، وجوزه من المالكية: ابن القاسم، ومنعه أشهب. ومنها: تطويل القراءة في صلاة الليل، والأصح عند الشافعية أن تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود مع تقصير القراءة، وكذا عندنا: تطويل القراءة أفضل من كثرة الركوع والسجود، وقال أبو يوسف: إن كان له ورد من الليل فالأفضل أن يكثر عدد الركعات، وإلا فطول القيام أفضل، وقال محمد: كثرة الركوع والسجود أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: (عليك بكثرة السجود). ومنها: جواز صلاة النافلة قاعدا مع القدرة على القيام، وهو مجمع عليه.
9111 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الله بن يزيد وأبي النضر مولى عمعر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الراحمان عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا فيقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته نحو من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم ثم ركع ثم سجد يفعل في الركعة الثانية مثل ذالك فإذا قضى صلاته نظر فإن كنت يقظى تحدث معي وإن كنت نائمة اضطجع.
.
هذا طريق آخر من حديث عائشة وعبد الله بن يزيد من الزيادة المخزومي المدني الأعور، وأبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: اسمه سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، مر في باب المسح على الخفين.
والحديث أخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، كلاهما عن مالك، وأخرجه
163

الترمذي فيه عن إسحاق بن موسى الأنصاري عن معن عن مالك عن أبي النضر وحده به، وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة المرادي المصري عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك به. وقال الترمذي: عن أحمد وإسحاق من أن حديثي عائشة معمول بهما، وهو قول الجمهور وبقية الأئمة الأربعة وغيرهم خلافا لمن منع الانتقال من القيام إلى القعود عند عدم الضرورة لذلك، وهو غلط، كما تقدم وروى الترمذي أيضا وقال: حدثنا أحمد بن منيع أخبرنا خالد وهو الحذاء عن عبد الله ابن شقيق (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قال: سألتها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عن تطوعه؟ قالت: كان يصلي ليلا طويلا قائما وليلا طويلا قاعدا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس ركع وسجد وهو جالس). قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه بقية الستة خلا البخاري، فرواه مسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن أحمد بن حنبل، وفي بعض النسخ عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم، ورواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي الأشعث، كلاهما عن يزيد بن زريع عن خالد الحذاء، ورواه ابن ماجة من رواية حميد الطويل، وروى الترمذي أيضا من حديث حفصة، رضي الله تعالى عنها، قال: حدثنا الأنصاري حدثنا معن حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المطلب بن أبي وداعة السهمي (عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا حتى كان قبل وفاته بعام، فإنه كان يصلي في سبحته قاعدا ويقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطول من أطول منها). وقال: حديث حسن صحيح. فإن قلت: بين حديثي حفصة وعائشة منافاة ظاهرا؟ قلت: لا، لأن قول عائشة: كان يصلي جالسا، لا يلزم منه أن يكون صلى جالسا قبل وفاته بأكثر من عام، فإن كان لا يقتضي الدوام بل ولا التكرار على أحد قولي الأصوليين، وعلى تقدير أن يكون صلى في تطوعه جالسا قبل وفاته بأكثر من عام فلا ينافي حديث حفصة، لأنها إنما نفت رؤيتها، لا وقوع ذلك جملة وفي الباب عن أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، أخرج حديثها النسائي وابن ماجة من رواية أبي إسحاق السبيعي (عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت: والذي نفسي بيده، ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صلاته قاعدا إلا المكتوبة). وعن أنس أخرج حديثه أبو يعلى قال: حدثنا محمد بن بكار حدثنا حفص بن عمر قاضي حلب حدثنا مختار بن فلفل (عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على الأرض في المكتوبة قاعدا، وقعد في التسبيح في الأرض فأومأ إيماء) وحفص بن عمر ضعيف، وعن جابر ابن سمرة أخرج حديثه مسلم من رواية حسن بن صالح عن سماك بن حرب (عن جابر بن سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى صلى قاعدا). قال شيخنا زين الدين: هكذا أدخله غير واحد من المصنفين في: باب الرخصة في صلاة التطوع جالسا، وليس صريحا في ذلك، فلعل جابرا أخبر عن صلاته وهو قاعد للمرض، وعن عبد الله بن الشخير أخرج حديثه الطبراني في (الكبير) من رواية زيد بن الحباب عن شداد بن سعيد عن غيلان بن جرير (عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قائما وقاعدا وهو يقرأ * (ألهاكم التكاثر) * حتى ختمها.
ليست البسملة مذكور في رواية أبي ذر.
91
((كتاب التهجد))
1
((باب التهجد بالليل))
أي: هذا باب في بيان التهجد بالليل، وفي رواية الكشميهني من الليل وهو أوفق للفظ القرآن، وفي بعض النسخ: كتاب التهجد بالليل.
وقوله عز وجل ومن الليل فتهجد به نافلة لك
وقوله: بالجر عطف على ما قبله، داخل في الترجمة، وزاد أبو ذر في رواية: أسهر به، وحكاه الطبري كذلك، وفي كتاب (المجاز) لأبي عبيدة * (فتهجد به) * (الإسراء: 97). أي: إسهر بصلاة، يقال: تهجدت أي سهرت، وهجدت أي: نمت وفي (الموعب) لابن التياني عن صاحب (العين): هجد القوم هجودا: ناموا، وتهجدوا أي: استيقظوا للصلاة أو لأمر، قال تعالى: * (فتهجد به) * (الإسراء: 97). أي: انتبه بعد النوم، واقرأ القرآن، وقال قطرب: التهجد، القيام، وقال كراع: التهجد صلاة الليل خاصة، وعن الأصمعي: هجد يهجد هجودا: نام،
164

وبات متهجدا، أي: ساهرا. وفي (معاني القرآن) للزجاج: هجدته إذا نومته، وفي (المحكم): هجد يهجد هجوا وأهجد نام والهاجد والهجود المصلي بالليل، والجمع: هجود وهجد، وفي (الجامع): الهاجد النائم وقد يكون الساهر من الأضداد، فأما التهجد فأكثر ما يكون يستعمل في السهر، وأكثر الناس على أن هجد: نام. قوله: (نافلة لك) (الإسراء: 97). النافلة الزيادة، وذكر ابن بطال عن البعض: إنما خص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها كانت فريضة عليه، ولغيره تطوع، ومنهم من قال: بأن صلاة الليل كانت واجبة، ثم نسخت فصارت نافلة، أي: تطوعا. وذكر في كونها نافلة أن الله تعالى غفر له من ذنوبه ما تقدم وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في كثرة الثواب فلهذا سمي نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في حق غيره، وأما الذين قالوا: إن صلاة الليل كانت واجبة عليه قالوا: معنى كونها نافلة على التخصيص أي: أنها فريضة لك زائدة على الصلوات الخمس، خصصت بها من بين أمتك وذكر بعض السلف أنه يجب على الأمة قيام الليل ما يقع عليه الاسم، ولو قدر حلب شاة، وقال النووي: وهذا غلط ومردود، وقيام الليل أمر مندوب إليه وسنة متأكدة. قال أبو هريرة في (صحيح مسلم): (أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، فإن قسمت الليل نصفين فالنصف الآخر أفضل. وإن قسمته أثلاثا. فالأوسط أفضلها). وأفضل منه صلاة السدس الرابع والخامس لحديث ابن عمرو في صلاة داود صلى الله عليه وسلم، ويكره أن يقوم كل الليل لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (بلغني أنك تقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصلي وأنام، فمن رغب عن سنتي فليس مني). فإن قيل: ما الفرق بينه وبين صوم الدهر غير أيام النهي فإنه لا يكره عند الشافعية؟ قيل له: صلاة كل الليل تضر بالعين وسائر البدن بخلاف الصوم فإنه يستوفي في الليل ما فاته من أكل النهار، ولا يمكنه نوم النهار إذا صلى الليل كله لما فيه من تفويت مصالح دنياه وعياله، وأما بعض الليالي فلا يكره إحياؤها مثل العشر الأواخر من رمضان وليلتي العيد.
0211 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاووس سمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد نور السماوات والأرض ولك الحمد ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أو لا إلاه غيرك.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه من جملة التهجد بالليل.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: سليمان بن أبي مسلم المكي الأحول عبد الله خال ابن أبي نجيح، وأبو مسلم يقال اسمه: عبد الله. الرابع: طاووس بن كيسان اليماني. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع.، وفيه: أن شيخه بصري وسفيان وسليمان مكيان وطاووس يماني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن عبد الله بن محمد، وفي التوحيد عن ثابت بن محمد مرتين وعن قبيصة بن عقبة كلاهما عن سفيان الثوري وعن محمود عن عبد الرزاق، كلاهما عن ابن جريج عنه به. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عمرو الناقد ومحمد بن عبد الله بن نمير وابن أبي عمر ثلاثتهم عن ابن عيينة به وعن محمد
165

ابن رافع عن عبد الرزاق به. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وفي (النعوت) عن محمد بن منصور كلاهما عن ابن عيينة به، وفي (النعوت) أيضا عن محمود بن غيلان وعبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، كلاهما عن يحيى بن آدم عن الثوري به. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن هشام بن عمار وأبي بكر بن خلاف فرقهما، كلاهما عن ابن عيينة به.
ذكر معناه: قوله: (إذا قام من الليل يتهجد)، وفي رواية مالك عن أبي الزبير عن طاووس: (إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يتهجد)، وظاهر الكلام أنه كان يدعو بهذا الدعاء أول ما يقول إلى الصلاة، ويخلص الثناء على الله تعالى بما هو أهله والإقرار بوعده ووعيده، وفي رواية ابن عباس حين بات عند ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم لما استيقظ تلا العشر الآيات من آخر آل عمران، فبلغ ما شهده أو بلغه، وقد يكون كله في وقت واحد، وسكت هو عنه أو نسيه الناقل. قوله: (اللهم) أصله: يا الله، قوله: (أنت قيم السماوات والأرض)، وفي بعض النسخ: (اللهم لك الحمد قيم السماوات والأرض)، بدون لفظة: أنت، ولكنه مقدر في صورة الحذف، لأن قيم السماوات والأرض مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو: أنت، وفي رواية أبي الزبير المذكور: (أنت قيام السماوات والأرض)، والقيم والقيام والقيوم بمعنى واحد، وهو الدائم القيام بتدبير الخلق المعطي له ما به قوامه، أو القائم بنفسه المقيم لغيره، وقال الزمخشري: وقرئ القيام والقيم، وقيل: قرأ
بهما عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عباس: القيوم هو الذي لا يزول وقيل هو القائم على كل نفس، ومعناه مدبر أمرها، وقيل: قيام على المبالغة من قام بالشيء إذا هيأ له جميع ما يحتاج إليه، وقيل: قيم السماوات والأرض خالقهما وممسكهما أن تزولا، وقرأ علقمة * (الحي القيم) * وأصله: قيوم، على وزن: فيعل، مثل: صيب أصله: صيوب، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، وقال ابن الأنباري: أصل القيوم القيووم، فلما اجتمعت الياء والواو، والسابق ساكن جعلتا: ياء، مشددة وأصل: القيام القوام، قال الفراء وأهل الحجاز: يصرفون الفعال إلى الفيعال، يقولون للصواغ: صياغ. قاله الأنباري في (الكتاب الزاهر)، وقال قتادة: معنى القيم القائم على خلقه بآجالهم وأعمالهم وأرزاقهم، وقال الكلبي:) هو الذي لا بديل له، وقال أبو عبيدة: القيوم القائم على الأشياء. قوله: (أنت نور السماوات والأرض) أي: منورهما وقرئ * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 53). على صيغة الماضي من التنوير، وقال ابن عباس: هادىء أهلهما. وقيل: منزه في السماوات والأرض من كل عيب ومبرأ من كل ريبة، وقيل: هو اسم مدح، يقال: فلان نور البلد وشمس الزمان. وقال أبو العالية: مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والأولياء. وقال ابن بطال: (أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن)، أي: بنورك يهتدي من في السماوات والأرض. وقيل: معناه ذو نور السماوات والأرض. قوله: (أنت ملك السماوات والأرض) كذا في رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني: (لك ملك السماوات والأرض). قوله: (أنت الحق)، معناه: المتحقق وجوده، وكل شيء صح وجوده وتحقق فهو حق، ومنه قوله تعالى: * (الحاقة) * (الحاقة: 01). أي: الكائنة حقا بغير شك، وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة والخصوصية ولا ينبغي لغيره، وقال ابن التين: يحتمل أن يكون معناه: أنت الحق بالنسبة إلى من يدعي فيه أنه إله، أو بمعنى: أن من سماك إل
1764; ها فقد قال الحق، وإنما عرف الحق في الموضعين، وهما: (أنت الحق ووعدك الحق)، ونكر في البواقي لأن المسافة بين المعرف باللام الجنسية والنكرة قريبة: بل صرحوا بأن مؤداهما واحد لا فرق إلا بأن في المعرفة إشارة إلى أن الماهية التي دخل عليها اللام معلومة للسامع، وفي النكرة لا إشارة إليه، وقال الطيبي: عرفهما للحصر لأن الله هو الحق الثابت الباقي وما سواه في معرض الزوال، وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره، والتنكير في البواقي للتعظيم. قوله: (ووعدك الحق) الوعد يطلق ويراد به الخير والشر كلاهما، والخير أو الشر خاصة. قال الله تعالى: * (الشيطان يعدكم الفقر) * (البقرة: 862). وليس في وعد الله خلف، فلا يخلف الميعاد * (ويجزي الذين أساؤا بما عملوا) * (النجم: 13). إلا ما تجاوز عنه: * (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 13). وقيل في قوله: * (إن الله وعدكم وعد الحق) * (إبراهيم: 22). أي: وعد الجنة من أطاعه ووعد النار من كفر به، ويحتمل أن يريد: أن وعده حق بمعنى إثبات أنه قد وعد بالخق بالبعث والحشر والثواب والعقاب إنكارا لقول من أنكر وعده بذلك، وكذب الرسل فيما بلغوه من وعده ووعيده. قوله: (ولقاؤك حق) اللقاء البعث أو رؤية الله تعالى، وقيل: الموت، وفيه ضعف ورده النووي. قوله: (وقولك حق) أي: صدق وعدل. وقال الكرماني: فإن قلت: القول يوصف بالصدق والكذب، يقال: قول صدق أو كذب، ولهذا قيل: الصدق هو بالنظر إلى القول المطابق
166

للواقع، والحق بالنظر إلى الواقع المطابق للقول. قلت: قد يقال أيضا: قول ثابت ثم إنهما متلازمان. قوله: (والجنة حق والنار حق) فيه الإقرار بهما وبالأنبياء، وقال ابن التين: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن خبره بذلك لا يدخله كذب ولا تغيير. ثانيها: أن خبر من أخبر عنه بذلك وبلغه حق. ثالثها: أنهما قد خلقتا. قوله: (والنبيون حق)، بأنهم من عند الله. قوله: (ومحمد حق)، إنما خص محمدا من النبيين، وإن كان داخلا فيهم، وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير، وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به، فإن تغير الوصف ينزل منزلة تغيير الذات، ثم جرده عن ذاته كأنه غيره، فوجب عليه الإيمان به وتصديقه، وهذا مبالغة في إثبات نبوته، كما في التشهد. قوله: (والساعة حق) أي: يوم القيامة، وأصل الساعة: القطعة من الزمان، ثم أطلق على يوم القيامة فصار اسما لها، وتأتي الوجوه المذكورة فيها، ووجه ذلك أنه لما لم يكن هناك شمس ولا قمر ولا كواكب يقدر بها الزمان وسميت بالساعة فإن قلت: ما وجه إطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور؟ وما وجه تكرار لفظ الحق؟ قلت: أما وجه الإطلاق فللإيذان بأنه لا بد من كونها، وأنها مما يجب أن يصدق بها، وأما وجه التكرار فللمبالغة في التأكيد، والتكرير يستدعي التقرير. قوله: (اللهم لك أسلمت) أي: انقدت وخضعت لأمرك ونهيك، واستسلمت لجميع ما أمرت به ونهيت عنه. قوله: (وبك آمنت) أي: صدقت بك وبما أنزت من أخبار وأمر ونهي، فظاهره أن الإيمان ليس بحقيقة الإسلام وإنما الإيمان التصديق. وقال القاضي أبو بكر: الإيمان المعرفة بالله، والأول أشهر في كلام العرب. قال الله تعالى: * (وما أنت بمؤمن لنا) * (يوسف: 71). أي: بمصدق إلا أن الإسلام إذا كان بمعنى الانقياد والطاعة فقد ينقاد المكلف بالإيمان فيكون مؤمنا مسلما وقد يكون مصدقا في بعض الأحوال دون بعض فيكون مسلما لامؤمنا وقال الخطابي المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال دون بعض، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. قلت: البحث فيه دقيق وقد استوفيناه في كتاب الإيمان. قوله: (وعليك توكلت) أي: فوضت الأمر إليك قاطعا للنظر عن الأسباب العادية، ويقال: أي: تبرأت من الحول والقوة وصرفت أمري إليك، وأيقنت أنه لن يصيبني إلا ما كتب لي وعلي، ففوضت أمري إليك، ونعم المفوض إليه. قال الفراء: الوكيل الكافي. قوله: (وإليك أنبت) أي: رجعت إليك في تدبير أمري، والإنابة الرجوع أي: رجعت إليك مقبلا بالقلب عليك، ومعناه: رجعت إلى عبادتك. قوله: (وبك خاصمت) أي: وبما أعطيتني من البرهان والسنان خاصمت المعاند وقمعته بالحجة والسيف. قوله: (وإليك حاكمت) أي: كل من جحد الحق حاكمته إليك وجعلتك الحاكم بيني وبينه، لا غيرك مما كانت تحاكم إليه الجاهلية من صنم وكاهن ونار ونحو ذلك، والمحاكمة: رفع القضية إلى الحاكم. وقيل: ظاهره أن لا يحاكمهم إلا الله ولا يرضى إلا بحكمه. قال الله تعالى: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) * (الأعراف: 98). وقال: * (أفغير الله ابتغى حكما) * (الأنعما: 411). ثم من قوله: (لك أسلمت) إلى قوله: (وإليك حاكمت) قدم صلاة الأفعال المذكورة فيه للإشعار بالتخصيص وإفادة الحصر، وكذلك
في قوله: (ولك الحمد) في أربعة مواضع فافهم. قوله: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت) إنما قال ذلك، صلى الله عليه وسلم، مع أنه مغفور له لوجهين: أحدهما: للتواضع وهضم النفس والإجلال لله تعالى والتعظيم له عز وجل. الثاني: للتعليم لأمته ليقتدوا به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع والرغبة والرهبة، والمغفرة: تغطية الذنب وكل ما غطى فقد غفر ومنه: المغفر. قوله: (وما قدمت) أي: قبل هذا الوقت (وما أخرت)، عنه أمر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، بالإشفاق والدعاء إلى الله تعالى والرغبة إليه أن يغفر ما يكون من غفلة تعتري البشر، وما قدم: ما مضى، وما أخر: ما يستقبل، وذلك مثل قوله تعالى: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (الفتح: 2). وقال أهل التفسير: الغفران في حقه يتناول من أفعاله الماضي والمستقبل. قوله: (وما أسررت) أي: وما أخفيت. (وما أعلنت) أي: وما أظهرت أو المعنى: ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني، وفي (التوحيد) زاد من طريق ابن جريج عن سلمان: (وما أنت أعلم به مني)، وهو من عطف العام بعد الخاص. قوله: (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال ابن التين: أنت الأول وأنت الآخر. وقال ابن بطال يعني: أنه قدم في البعص إلى الناس على غيره صلى الله عليه وسلم بقوله: (نحن الآخرون السابقون)، ثم قدمه عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضله به على سائر الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فسبق بذلك الرسل.
وقال الكرماني: هذا الحديث من جوامع الكلم، إذ لفظ: القيم إشارة إلى أن وجود الجوهر وقوامه منه والنور إلى أن الإعراض منه، والملك لما أنه
167

حاكم فيها إيجادا وإعداما يفعل ما يشاء، وكل هذه نعم من الله تعالى على عباده، فلهذا قرن كلا منها بالحمد. وخص الحمد به، ثم قوله: (أنت الحق) إشارة إلى المبدأ والقول، ونحوه إلى المعاش والساعة إلى المعاد.
وفيه: إشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا. وفيه: وجوب الإيمان والإسلام والتوكل والإنابة والتضرع إلى الله تعالى والاستغفار وغيره انتهى. ويقال: وفيه: زيادة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه وعظم قدرته ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه، والاعتراف لله بحقوقه والإقرار بصدق وعده ووعيده. وفيه: استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان وزاد عبد الكريم أبو أمية ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال سفيان قال سليمان بن أبي مسلم سمعه طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
سفيان هو ابن عيينة المذكور في سند الحديث، وقيل: هذا موصول بالإسناد الأول، ووضع المزي على هذا علامة التعليق، وأبو أمية كنية عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، وأبو المخارق اسمه: قيس، وقال الحافظ المنذري: قد استشهد البخاري بابن أبي المخارق هذا في: باب التهجد بالليل، فقال: وقال سفيان يعني ابن عيينة، وزاد عبد الكريم أبو أمية: (ولا حول ولا قوة إلا بالله). وقال المقدسي في كتاب (رجال الصحيحين): فيمن اسمه عبد الكريم بن أبي المخارق: سمع مجاهدا في الحج، روى عن سفيان بن عيينة، وهو حديث واحد عندهما عن مجاهد عن ابن أبي ليلي (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجازر منها، وقال: نحن نعطيه من عندنا). فهذا كما رأيت كلام المنذري يقوي ما مال إليه المزي من أنه معلق، وأن عبد الكريم استشهد به البخاري، وكلام المقدسي يصرح بأنه من رجال البخاري، وبهذا يرد ما قاله بعضهم: وليس لعبد الكريم هذا في (صحيح البخاري) إلا هذا الموضع، ولم يقصد البخاري التخريج له، فلأجل ذلك لا يعدونه من رجاله، وإنما وقعت عنه زيادة في الخبر غير مقصودة بذاتها. قلت: بين كلامه هذا وبين قوله فيما مضى: هذا موصول بالإسناد الأول، تناقض لا يخفى. قوله: (قال سفيان) هو ابن عيينة أيضا. قال سليمان بن أبي مسلم... إلى آخره، وأراد سفيان بذلك بيان سماع سليمان له من طاووس لأنه أولا أورده بالعنعنة، وصرح بذلك أيضا الحميدي في (مسنده): عن سفيان قال: حدثنا سليمان الأحول خال ابن أبي نجيح: سمعت طاووسا.. فذكر الحديث، وقال في آخره: قال سفيان، وزاد في رخره عبد الكريم: (ولا حول ولا قوة إلا بك)، فيه لم يقلها سليمان، وفي (التلويح): وفي نسخة سمعته من طاووس وعلي بن خشرم، ولم يذكره أحد من رجال البخاري، رحمه الله، وإنما ذكر في رجال مسلم، والله تعالى أعلم.
2
((باب فضل قيام الليل))
أي: هذا باب في بيان قيام الليل، وهو الصلاة في الليل.
1211 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر (ح) وحدثني محمود قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأي رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت غلاما شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار. قال فلقينا ملك آخر فقال لي لم ترع.
. فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله
فقال نعم الرجل عبد الله
168

لو كان يصلي من الليل فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا)
مطابقته للترجمة في قوله ' نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل ' وذلك أن الرجل إذا كان يصلي بالليل يستحق أن يوصف بنعم الرجل هذا واستحقاقه لذلك بسبب
مباشرته صلاة الليل ولو لم يكن لصلاة الليل فضل لما استحق فاعلها الثناء الجميل وفي رواية نافع عن ابن عمر في التعبير ' أن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل ' وهذا أصرح في المدح وأبين في المقصود
(ذكر رجاله) وهم ثمانية. الأول عبد الله بن محمد الجعفي المسندي. الثاني هشام بن يوسف الصنعاني. الثالث معمر بفتح الميمين ابن راشد. الرابع محمود بن غيلان بفتح الغين المعجمة المروزي. الخامس عبد الرزاق بن همام. السادس محمد بن مسلم الزهري السابع سالم بن عبد الله. الثامن أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في ثلاثة مواضع وجعل خلف هذا الحديث في مسند ابن عمر وجعل بعضه في مسند حفصة وأورده ابن عساكر في مسند ابن عمر والحميدي في مسند حفصة وذكر في رواية نافع عن ابن عمر أنهما من مسند ابن عمر وقال إذ لا ذكر فيها لحفصة فحاصله أنهم جعلوا رواية سالم من مسند حفصة ورواية نافع من مسند ابن عمر
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في باب نوم الرجال في المسجد فيما مضى وأخرجه فيما يأتي في باب فضل من تعار من الليل في مناقب ابن عمر وأخرجه مسلم في فضائل عبد الله بن عمر حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن حميد واللفظ لعبد قالا أخبرنا عبد الرزاق ' حدثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان الرجل في حياة رسول الله
إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله
فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي
قال وكنت غلاما شابا عزبا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله
فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ' الحديث
(ذكر معناه) قوله ' كان الرجل ' الألف واللام فيه لا تصلح أن تكون للعهد على ما لا يخفى بل هي للجنس قوله ' رؤيا ' على وزن فعلى بالضم بلا تنوين وهو يختص بالمنام كما أن الرأي يختص بالقلب والرؤية تختص بالعين قوله ' قصها ' من قصصت الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها وأقصها قصا والقص البيان قوله ' فتمنيت أن أرى ' وفي رواية الكشميهني ' إني أرى ' وزاد في التعبير من وجه آخر ' فقلت في نفسي لو كان فيك خير لرأيت مثل ما يرى هؤلاء ' ويؤخذ منه أن الرؤيا الصالحة تدل على خير رائيها قوله ' فإذا هي مطوية ' كلمة إذا للمفاجأة ومعنى مطوية مبنية الجوانب فإن لم تبن فهي القليب قوله ' فإذا لها قرنان ' أي جانبان وقرنا الرأس جانباه ويقال القرنان منارتان عن جانبي البئر تجعل عليهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة قال الكرماني أو ضفيرتان وفي بعضها قرنين (فإن قلت) فما وجهه إذ هو مشكل (قلت) إما أن يقال تقديره فإذا لها مثل قرنين فحذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه وهو كقراءة * (والله يريد الآخرة) * بجر الآخرة أي عرض الآخرة وإما أن يقال إذا المفاجأة تتضمن معنى الوجدان فكأنه قال فإذا وجدت لها قرنين كما يقول الكوفيون في قولهم كنت أظن العقرب أشد لسعا من الزنبور فإذا هو إياها أن معناه فإذا وجدته هو إياها قوله ' لم ترع ' بضم التاء المثناة من فوق وفتح الراء وسكون العين المهملة معناه لم تخف قال الجوهري يقال لا ترع معناه لا تخف ولا يلحقك خوف وفي رواية الكشميهني ' لن تراع ' وزاد فيه ' إنك رجل صالح ' وقال القرطبي إنما فسر الشارع من رؤيا عبد الله بما هو ممدوح لأنه عرض على النار ثم عوفي منها وقيل له لا روع عليك وذلك لصلاحه غير أنه لم يكن يقوم من الليل فحصل لعبد الله من ذلك تنبيه على أن قيام الليل مما يتقي به النار والدنو
169

منها فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك وقال المهلب السر في ذلك كون عبد الله كان ينام في المسجد ومن حق المسجد أن يتعبد فيه فنبه على ذلك بالتخويف بالنار قوله ' لو كان يصلي ' كلمة لو للتمني لا للشرط ولذلك لم يذكر لها جواب.
(ذكر ما يستفاد منه) فيه قص الرؤيا على النبي
لأنها من الوحي وهي جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة كما نطق به
. وفيه تمني الرؤيا الصالحة ليعرف صاحبها ما له عند الله وتمني الخير والعلم والحرص عليه. وفيه جواز النوم في المسجد ولا كراهة فيه عند الشافعي وقال الترمذي وقد رخص قوم من أهل العلم فيه وقال ابن عباس لا تتخذه ميتا ولا مقيلا وذهب إليه قوم من أهل العلم وقال ابن العربي وذلك لمن كان له مأوى فأما الغريب فهو داره والمعتكف فهو بيته ويجوز للمريض أن يجعله الإمام في المسجد إذا أراد افتقاده كما كانت المرأة صاحبة الوشاح ساكنة في المسجد وكما ضرب الشارع قبة لسعد رضي الله تعالى عنه في المسجد حين سال الدم من جرحه ومالك وابن القاسم يكرهان المبيت فيه للحاضر القوي وجوزه ابن القاسم للضعيف الحاضر. وفيه رؤية الملائكة في المنام وتحذيرهم للرائي لقوله ' فرأيت ملكين أخذاني '. وفيه الانطلاق بالصالح إليها في المنام تخويفا. وفيه الستر على مسلم وترك غيبته وذلك قوله ' وإذا فيها أناس قد عرفتهم ' إنما أخبر بهم على الإجمال ليزدجروا وسكت عن بيانهم لئلا يغتابهم إن كانوا مسلمين وليس ذلك مما يختم عليهم بالنار وإما أن يكون ذلك تحذيرا كما حذر ابن عمر رضي الله عنهما وفيه القص على المرأة وفيه تبليغ حفصة وفيه قبول خبر المرأة. وفيه استحياء ابن عمر عن قصه على النبي
بنفسه. وفيه فضيلة قيام الليل وعليه بوب البخاري هذا الباب. وفيه أن قيام الليل منج من النار. وفيه فضل عبادة الشاب. وفيه مدح لابن عمر. وفيه تنبيه على صلاحه. وفيه كراهة كثرة النوم بالليل وروى سعيد عن يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا ' قالت أم سليمان لسليمان يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرا يوم القيامة ' والله أعلم بحقيقة الحال * -
3
((باب طول السجود في قيام الليل))
أي: هذا باب في بيان فضل طول السجود في صلاة الليل.
3211 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها أخبرته أن رسول الله كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته يسجد السجدة من ذالك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المنادي للصلاة.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه)، فإن هذا المقدار من القراءة في السجدة يدل على طول السجدة، والحديث أخرجه في: باب ما جاء في الوتر، بعين هذا الإسناد عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم الزهري إلى آخره، نحوه، غير أن لفظه هناك: (حتى يأتيه المؤذن)، وقد مر الكلام فيه مستوفى. قوله: (تلك) أي: أحد عشرة، والتعريف في السجدة للجنس، فيحتمل تناوله لكل سجدات تلك الصلاة، والتاء التي فيها لا تنافيها. قوله: (قدر)، منصوب بنزع الخافض أي: بقدر. قوله: (للصلاة) أي: لصلاة الصبح. وقال ابن بطال: ما طول سجوده صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فذلك لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فإن ذلك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إليه، وكان ذلك شكرا على ما أنعم الله به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيه الأسوة الحسنة، وكان السلف يفعلون ذلك، وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير، رحمه الله تعالى، يسجد حتى تنزل العصافير على ظهره كأنه حائط.
170

4
((باب ترك القيام للمريض))
أي: هذا باب في بيان ترك قيام الليل للمريض.
4211 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن الأسود قال سمعت جندبا يقول اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: الفضل بن دكين. الثاني: سفيان الثوري، وكذلك في إسناد الحديث الآتي، سفيان هو الثوري، نص عليه المزي في (الأطراف) وصرح في رواية الترمذي: سفيان بن عيينة. الثالث: الأسود بن قيس. الرابع: جندب، بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها وبالباء الموحدة: ابن عبد الله، وقد تقدم في: باب النحر في المصلى، في كتاب العيد، ووقع في رواية البخاري في كتاب التفسير في * (والضحى) * جندب بن أبي سفيان وهو جندب بن عبد الله بن أبي سفيان إلا أنه تارة ينسب إلى أبيه وتارة إلى جده، ولا يظن أن جندب ابن أبي سفيان غير جندب ابن عبد الله فافهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رجاله كوفيون. والحديث من الرباعيات.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في قيام الليل عن محمد بن كثير وفي فضائل القرآن عن أبي نعيم أيضا وفي التفسير عن أحمد بن يونس وعن بندار عن غندر، وأخرجه مسلم في المغازي عن إسحاق عن سفيان بن عيينة وعن إسحاق ومحمد بن رافع وعن أبي بكر وأبي موسى وبندار، ثلاثتهم عن غندر وعن إسحاق عن الملائي. وأخرجه الترمذي في التفسير عن ابن أبي عمر عن سفيان ابن عيينة وأخرجه النسائي فيه عن إسماعيل بن مسعود.
ذكر معناه: قوله: (اشتكى النبي، صلى الله عليه وسلم)، أي: مرض، وكذلك: تشكى، قال الجوهري: اشتكى عضوا من أعضائه وتشكى بمعنى، وأصله من الشكو، قال ابن الأثير: الشكو والشكوى والشكاة والشكاية: المرض. وفي (الصحاح): شكوت فلانا أشكوه شكوى وشكاية وشكية وشكاة إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مشكو ومشكي، والاسم: الشكوى. قوله: (فلم يقم)، من القيام، وانتصاب ليلة على الظرفية، وهكذا وقع مختصرا ههنا، وقد ساقه في فضائل القرآن تاما من شيخه أبي نعيم أيضا، قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان (عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندبا يقول: اشتكى النبي، صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؟ فأنزل الله، عز وجل: * (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) * (والضحى: 1 3). ورواه أيضا في كتاب التفسير في * (والضحى) *: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس قال: سمعت جندب بن سفيان (قال: اشتكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك؟ لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا؟ فأنزل الله عز وجل: * (والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) * (والضحى: 3). ورواه أيضا في * (والضحى) *: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا غندر حدثنا شعبة (عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبا البجلي.. قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ عنك؟ فنزلت: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (والضحى: 3). ورواه أيضا عن محمد بن كثير، ويأتي عن قريب في هذا الباب، وروى مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سفيان (عن الأسود بن قيس أنه سمع جندبا يقول: أبطأ جبريل، عليه الصلاة والسلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تعالى: *
(والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى) * (والضحى: 1 3). وروى مسلم أيضا من رواية زهير (عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندب بن سفيان يقول: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثا..) الحديث، مثل رواية البخاري عن أحمد بن يونس، وروى الترمذي وقال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة (عن الأسود بن قيس عن جندب البجلي، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في أنمار، فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت، قال: وأبطأ جبريل، عليه الصلاة والسلام،
171

فقال المشركون: قد ودع محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) * (الضحى: 3). وروى الواحدي من حديث هشام ابن عروة عن أبيه: (أبطأ جبريل على النبي، صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة، رضي الله تعالى عنها: قد قلاك ربك لما يرى من جزعك، فنزلت السورة). وروى الحاكم من حديث عبد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق (عن زيد بن أرقم: لما نزلت * (تبت) * جاءت امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد على ما تهجوني؟ فقال: ما هجوتك، ما هجاك إلا الله، ومكث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أياما لا ينزل عليه وحي، فأتته فقالت: يا محمد ما أرى صاحبك إلا قد قلاك؟ فنزلت السورة). وفي (تفسير ابن عباس) رواية إسماعيل بن أبي زياد الشامي: (أبطأ الوحي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف: قد أطفأ الله نور محمد وانقطع الوحي عنه، فهبط جبريل، عليه الصلاة والسلام، بعد الأربعين يوما فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ما أبطأك عني فنزلت: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 46). وأنزل سورة الضحى وتكذيبا لكعب: * (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) * (الصف: 8). وفي (المعاني) للفراء و (الإيضاح) تفسير القرآن لأبي القاسم إسماعيل بن محمد الجوزي: قيل (سبب نزولها أن الوحي كان تأخر خمسة عشر يوما فتكلم الكفار) الحديث. وزعم ابن إسحاق أن سبب تأخير جبريل، عليه الصلاة والسلام، أن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين والروح وعدهم بالجواب إلى غد، ولم يستثن، فنزل عليه بعد بطئه سورة الضحى، وبجواب سؤاله. قوله: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 32). قال الواحدي: وعن خولة خادمة النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جروا دخل تحت السرير، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ما حدث في بيتي؟ جبريل لا يأتيني؟ قالت خولة: فقلت لو هيأت البيت وكنسته، قالت: فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا شيء ثقيل، فإذا هو جرو ميت، فألقيته خلف الجدار. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعد فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله تعالى: * (والضحى والليل) * (الضحى: 1 و 2). زاد ابن إسحاق: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل، عليه الصلاة والسلام: ما أخرك؟ فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة؟ وفي (تفسير النسفي) قال ابن جرير: قال المشركون: أن محمدا ودعه ربه وقلاه، ولو كان امره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وقال المسلمون: يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي؟ فقال: وكيف ينزل علي الوحي وأنتم لا تنتقون براجمكم ولا تقلمون أظافركم؟ فأنزل الله تعالى، جبريل، عليه الصلاة والسلام، بهذه السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك! فقال جبريل، عليه الصلاة والسلام: وأنا كنت أشد شوقا، ولكني عبد مأمور * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 46)
[/ ح.
ثم الكلام في هذا الباب على أنواع. الأول: أن اشتكاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في شيء من طرق هذا الحديث، قيل: وظن بعض الشراح أن الذي وقع في رواية الترمذي من طريق ابن عيينة من الحديث، وقد ذكرناه عن قريب: هو بيان للشكاية المجملة في الصحيح، وليس كما ظن، فءن في طريق عبد الله بن شداد التي يأتي التنبيه عليها أن نزول هذه السورة كان في أوائل البعثة، وجندب لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا متأخرا، حكاه البغوي في (معجم الصحابة) عن الإمام أحمد، ويقال: يحتمل أن يكون سبب الشكاية بطء الوحي.
الثاني: أن هذه المرأة المذكورة في الأحاديث المذكورة مختلف فيها، ففي رواية الحاكم: امرأة أبي لهب، وهي أم جميل العوراء بنت حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وقيل: امرأة من أهله أو من قومه. قلت: لا شك أن أم جميلة من قومه لأنها من بني عبد مناف، وفي رواية سنيد بن داود: إنها عائشة، وقد غلط سنيد فيه، وفي رواية الطبري عن أبي كريب عن وكيع، فقال فيه: قالت خديجة. وكذلك أخرجه ابن أبي حاتم، وقد أنكر ذلك، لأن خديجة قوية الإيمان فلا يليق نسبة هذا القول إليها وإن كان رواه إسماعيل القاضي في (أحكامه) بإسناد صحيح، وكذلك رواه الطبري في (تفسيره) وأبو داود في (أعلام النبوة) له، كلهم من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد، ومع هذا ليس في رواية واحد منهم أنها عبرت بقولها: شيطانك، وهذه لفظة مستنكرة جدا، وزعم أبو عبد الله محمد بن علي بن عسكر أن القائلة ذاك إحدى عماته صلى الله عليه وسلم، ثم الظاهر أن المرأة التي قالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك؟ ير المرأة التي قالت: ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك؟ لأن هذه قالت: يا رسول الله، وتلك قالت: يا محمد، والتي قالت: شيطانك قالت تهكما وشماتة، والتي قالت: صاحبك، قالت تأسفا وتوجعا.
الثالث: أن مدة بطء الوحي اختلف فيها، فقيل: أربعون يوما، كما ذكر
172

في رواية إسماعيل بن أبي زياد، وقيل: خمسة عشر يوما، كما ذكر في (كتاب المعاني) للفراء، وقيل: خمسة وعشرون يوما وعن ابن جريج: اثني عشر يوما.
5211 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن الأسود بن قيس عن جندب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه. قال احتبس جبريل صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت امرأة من قريش أبطأ عليه شيطانه فنزلت والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى.
.
مطابقته للترجمة من حيث أن هذا من تتمة الحديث السابق، ويدفع بهذا ما قاله ابن التين: ذكر احتباس جبريل، عليه الصلاة والسلام، في هذا الباب ليس في موضعه، وذلك لأن الحديث واحد لاتحاد مخرجه، وإن كان السبب مختلفا، وسفيان فيه هو الثوري، كما في الحديث الأول، وقد ذكرنا أن في رواية الترمذي سفيان بن عيينة، وكذلك في رواية مسلم، ولا يضر هذا لأن الظاهر أن الأسود حدث به على الوجهين، فحمل عنه كل واحد ما لم يحمله الآخر، وحمل عنه الثوري الأمرين، فحدث به مرة كما في هذا الحديث الأول، ومرة كما في هذا الحديث.
قوله: (شيطانه)، برفع النون لأنه فاعل: أبطأ. قوله: (فنزلت والضحى) أي: نزلت سورة والضحى إلى آخرها، وفي (تفسير النسفي) و * (الضحى) * قيل: أراد النهار كله، ودليله قوله تعالى: * (والليل إذا سجى) * (الضحى: 2). فقابله بالليل، وقال قتادة ومقاتل: أراد وقت الضحى، وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، ويعتدل النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف، وقيل: هي الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى، عليه الصلاة والسلام، والساعة التي ألقى فيها السحرة سجدا بيانه * (وان يحشر الناس ضحى) * (طه: 95). وقيل فيه وفي أمثاله إضمار: رب، أي: ورب الضحى. قوله: (والليل إذا سجى) أي: أقبل بظلامه، وقال الضحاك: غطى كل شيء، وقال مجاهد وقتادة: سكن بالخلق واستقر ظلامه، يقال: ليل ساج وبحر ساج إذا كان ساكنا. وقال الطبري: أولى اوقوال عندي هذا، وقال الراجز:
* يا حبذا القمراء والليل الساج
* وطرق مثل ملاء النساج
*
وعن الحسن: سجى جاء، وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: سجى بمعنى ذهب. قوله: (ما ودعك) جواب القسم أي: ما قطعك ربك قطع المودع، وقال ابن التين: معنى التشديد ما هو آخر عهدك بالوحي، ومعنى التخفيف ما تركك، والمعنى واحد. وقال الإسماعيلي: خبر أبي نعيم عن سفيان وجه القراءة فيه بالتخفيف، ووجه القراءة في رواية وكيع عن سفيان: ودعك بالتشديد، وقال الزمخشري: التوديع مبالغة في الودع، لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك. قلت: قراءة التخفيف شاذة، والعرب أماتوا ماضي: يدع، ويورد قراءة التخفيف ويجاب بالشذوذ. قوله: (وما قلى) أي: وما قلاك، أي: وما بغضك من: القلى، بكسر القاف وتخفيف اللام وهو: البغض. فإن فتحت القاف مددت تقول: قلاه يقليه قلى وقلاء ويقلاه، لغة طي، وتقلى أي: تبغض، وإنما حذف المفعول حيث لم يقل: وما قلاك، رعاية للفواصل.
5
((باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب))
أي: هذا باب في بيان تحريض النبي صلى الله عليه وسلم أمته أو المؤمنين على قيام الليل، أي: على صلاة الليل، وكذا في رواية الأصيلي وكريمة على صلاة الليل، وهذا الباب يشتمل على أربعة أحاديث: الأول: لأم سلمة. والثاني: لعلي بن أبي طالب. والثالث والرابع: لأم المؤمنين عائشة، قيل: اشتملت الترجمة على أمرين: التحريض ونفي الإيجاب، فحديث أم سلمة وعلي للأول، وحديثا عائشة للثاني، وقال بعضهم: بل يؤخذ من الأحاديث الأربعة نفي الإيجاب، ويؤخذ التحريض من حديث عائشة من قولها: (كان يدع العمل وهو يحبه)، لأن كل شيء أحبه استلزم التحريض عليه لولا ما عارضه من خشية الافتراض. انتهى. قلت: لا نسلم أن حديث أم سلمة يدل على نفي الإيجاب، بل ظاهره يوهم الإيجاب على ما لا يخفى على المتأمل، ولكنه ساكت عنه، وظاهره التحريض، ولا نسلم أيضا استلزام التحريض في شيء أحبه، وكذلك ظاهر حديث علي يوهم الإيجاب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم حين ولي: * (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) * (الكهف: 45). ولكن ظاهره التحريض. قوله: (والنوافل) جمع نافلة عطف
173

على: قيام الليل، أي: والتحريض على النوافل، فإن كان المراد من قيام الليل الصلاة فقط، يكون من عطف العام على الخاص، وإن كان المراد من قيام اليل أعم من الصلاة والقرآن والذكر والتفكر في الملكوت العلوية والسفلية وغير ذلك، يكون من عطف الخاص على العام.
وطرق النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا عليهما السلام ليلة للصلاة
هذا التعليق ذكره عقيب هذا بقوله: حدثنا أبو اليمان... إلى آخره. قوله: (طرق)، من الطروق، وهو الإتيان بالليل، يعني: أتاهما بالليل للتحريض على القيام للصلاة.
6211 حدثنا ابن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا معمر عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتنة ماذا أنزل من الخزائن من يوقظ صواحب الحجرات يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إن فيه تحريضا على قيام الليل، والحديث قد مر في كتاب العلم في: باب العلم والعظة بالليل، قال: حدثنا صدقة، قال: أخبرنا ابن عيينة عن معمر عن الزهري إلى آخره، وقد مر الكلام هناك مستقصى. وعبد الله ههنا: هو ابن المبارك.
قوله: (يا رب) المنادى محذوف أي: يا قوم رب كاسية. قوله: (عارية) بالجر صفة (كاسية) والحديث، وإن صدر في حق أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولكن
العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، والتقدير: رب نفس كاسية، وفيه أنه أعلمه الله أنه يفتح على أمته من الخزائن، وأن الفتن مقرونة بها، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى خوف فتنة المال، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى كما استعاذ من فتنة الفقر.
7211 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني علي بن حسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال ألا تصليان فقلت يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلنا ذالك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم طرق عليا وفاطمة ليلة وحرضهما على قيام الليل بقوله: (ألا تصليان؟).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع، الثاني: شعيب بن أبي حمزة. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المشهور بزين العابدين، تقدم في: باب من قال في الخطبة أما بعد في الجمعة. الخامس: أبوه الحسين بن علي. السادس: جده علي بن أبي طالب.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الإخبار بصيغة الجمع كذلك في موضع وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه حمصيان والبقية مدنيون. وفيه: إن إسناد زين العابدين من أصح الأسانيد وأشرفها الواردة فيمن روى عن أبيه عن جده. وقال الدارقطني: رواه الليث عن عقيل عن الزهري عن علي بن الحسين عن الحسن بن علي، وكذا وقع في رواية حجاج بن أبي منيع عن جده عن الزهري في (تفسير ابن مردويه) وليس كذلك، والصواب عن الحسين بتصغير اللفظ. وفيه: رواية التابعي عن الصحابي، ورواية الصحابي عن الصحابي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن أبي اليمان في الاعتصام وفي التوحيد أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس،
174

وأخرجه أيضا في التفسير عن علي بن عبد الله، وفي الاعتصام أيضا عن محمد بن سلام، وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة عن ليث. وأخرجه النسائي أيضا فيه عن قتيبة به وعن عبيد الله بن سعيد وأعاده في التفسير عن قتيبة.
ذكر معناه: قوله: (طرقه) أي: أتاه ليلا. قوله: (وفاطمة) بالنصب عطفا على الضمير المنصور في: طرقه. قوله: (ليلة)، أي: ليلة من الليالي فإن قلت: ما فائدة ذكر ليلة والطروق هو الإتيان بالليل؟ قلت: يكون للتأكيد، وذكر ابن فارس ان معنى: طرق أتى من غير تقييد بشيء، فعلى هذا تكون ليلة لبيان وقت المجيء، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد بقوله: ليلة، أي: مرة واحدة. قلت: هذا غير موجه لأن أحدا لم يقل: إن التنوين فيه للمرة، فظن أن كون ليلة على وزن فعلة يدل على المرة وليس كذلك، والمعنى ما ذكرناه. قوله: (ألا تصليان؟) كلمة: ألا، للحث والتحريض والخطاب لعلي وفاطمة، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (أنفسنا بيد الله) اقتباس من قوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * (الزمر: 24). كذا قيل، وفيه نظر. قوله: (بعثنا)، بفتح الثاء المثلثة جملة من الفعل والفاعل والمفعول، أي: لو شاء الله أن يوقظنا أيقظنا، وأصل البعث إثارة الشيء من موضعه. قوله: (فانصرف) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (حين قلت)، وفي رواية كريمة: (حين قلنا) قوله: (ذلك) إشارة إلى قوله: (أنفسنا بيد الله). قوله: (ولم يرجع إلي شيئا)، بفتح الياء معناه: لم يجبني، ورجع يأتي لازما ومتعديا. قوله: (وهو مول) جملة اسمية وقعت حالا أي: معرض عنا مدبرا. وكذا قوله: (يضرب فخذه)، جملة حالية، ويفعل ذلك عند التوجع والتأسف. قوله: (وهو يقول كذلك) جملة حالية، وإنما قال ذلك تعجبا من سرعة جوابة، وقيل: إنما قاله تسليما لعذره وأنه لا عتب عليه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن السكوت يكون جوابا. وفيه: جواز ضرب الفخذ عند التأسف. وفيه: جواز الانتزاع من القرآن. وفيه: ترجيح قول من قال: إن اللام في قوله: (وكان الإنسان) للعموم لا لخصوص الكفار. وفيه: منقبة لعلي، رضي الله تعالى عنه، حيث نقل ما فيه عليه أدنى غضاضة، فقدم مصلحة نشر العلم وتبليغه على كتمه. وفيه: ما نقل ابن بطال عن المهلب أنه: ليس للإمام أن يشدد في النوافل حيث قنع صلى الله عليه وسلم بقول علي، رضي الله تعالى عنه: (أنفسنا بيد الله)، لأنه كلام صحيح في العذر عن التنفل، ولو كان فرضا ما أعذره. وفيه: إشارة إلى أن نفس النائم ممسكة بيد الله تعالى.
8211 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحاى قط وإني لأسبحها.
(الحديث 8211 طرفه في: 7711).
مطابقته للترجمة من حيث إن العمل الذي كان للنبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يعمل به لا يخلو عن تحريض أمته عليه، غير أنه كان يتركه خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم، ويحتمل أن تكون المطابقة للجزء الثاني للترجمة، وهو قوله: (والنوافل) فإنها أعم من أن تكون بالليل أو بالنهار، فيكون محل المطابقة للترجمة في قوله: (وإني لأسبحها)، وفيه تحريض على ذلك، وقد تكرر ذكر رجاله.
وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، أربعتهم عن مالك عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
قوله: (أن كان)، كلمة: إن، بكسر الهمزة مخففة عن الثقيلة، وأصله: إنه كان، فحذف ضمير الشان وخففت النون. قوله: (ليدع)، بفتح اللام التي للتأكيد، أي
: ليترك. قوله: (خشية) بالنصب أي: لأجل خشية أن يعمل به الناس، وهو متعلق بقوله: (ليدع). قوله: (فيفرض)، بالنصب عطفا على: (أن يعمل. قوله: (وما سبح) أي: وما تفل، وأراد بسبحة الضحى: صلاة الضحى. قوله: (وإني لأسبحها) أي: أصليها، ويروى لاستحبها من الاستحباب، وقال الخطابي: هذا من عائشة إخبار عما علمته دون ما لم تعلم، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الضحى يوم الفتح، وأوصى أبا ذر وأبا هريرة، وقال ابن عبد البر: أما قولها: ما سبح سبحة الضحى قط، فهو أن من علم من السنن علما خاصا يأخذ عنه بعض أهل العلم دون بعض، فليس لأحد من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره، والإحاطة
175

ممتنعة، وإنما حصل المتأخرون علم ذلك منذ صار العلم في الكتب، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإما مسافر أو حاضر في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه، ومتى يأتي يومها بعد تسعة فيصح قولها: ما رأيته يصليها، وتكون قد علمت بخبره أو بخبر غيره أنه صلاها، أو المراد بما يصليها؛ ما يداوم عليها. فيكون نفيا للمداومة لا لأصلها. وقال ابن الجوزي، رحمه الله قوله: (فيفرض عليهم)، يحتمل على وجهين: أحدهما: فيفرضه الله تعالى. والثاني: فيعملوا به اعتقادا أنه مفروض. وقال ابن بطال: يحتمل حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، معنيين: أحدهما: أنه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقت فرض عليه قيام الليل دون أمته، لقوله في الحديث الآخر: (لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل على أنه كان فرضا عليه وحده، فيكون معنى قول عائشة: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل) أنه كان يدع عمله لأمته ودعاءهم إلى فعلهم معه، لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلا، وقد فرضه الله عليه، أو ندبه إليه لأنه كان أتقى أمته وأشدهم اجتهادا. ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم؟ ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة في بيته، فخشي إن خرج إليهم والتزموا معه صلاة الليل أن يسوي الله، عز وجل، بينه وبينهم في حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيه سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة. الثاني: أن يكون خشي من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تركها عاصيا لله في مخالفته لنبيه وترك أتباعه متوعدا بالعقاب على ذلك، لأن الله تعالى فرض اتباعه، فقال: * (واتبعوه لعلكم تهتدون) * (الأعراف: 851). وقال فيترك أتباعه * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور: 36). فخشي على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه، لأن طاعة الرسول كطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم رفيقا بالمؤمنين رحيما بهم. فإن قيل: كيف يجوز أن تكتب عليهم صلاة الليل وقد أكملت الفرائض؟ قيل له: صلاة الليل كانت مكتوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على أمته الاقتداء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعل في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبا، فالزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بفعله، لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس، أو يكون أن الله تعالى لما فرض الخمسين وحطها بشفاعته صلى الله عليه وسلم فإذا عادت الأمة فيما استوهبت والتزمت متبرعة ما كانت استعفت منه، لم يستنكر ثبوته فرضا عليهم، وقد ذكر الله تعالى فريقا من النصارى وأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم، ثم لامهم لما قصروا فيها بقوله تعالى: * (فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد: 72). فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، فقطع العمل شفقة على أمته.
9211 حدثنا عبد الله بن يوسف. قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذالك في رمضان.
.
هذا الإسناد بعينه مثل إسناد الحديث الأول.
قوله: (صلى ذات ليلة في المسجد) أي: صلى صلاة الليل في ليلة من ليالي رمضان. قوله: (ثم صلى من القابلة) أي: من الليلة الثانية، وفي رواية المستملي: (ثم صلى من القابل) أي: من الوقت القابل من الليلة القابلة. قوله: (من الليلة الثالثة أو الرابعة)، كذا رواه مالك بالشك، وفي رواية عقيل عن ابن شهاب: (فصلى الناس بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا)، وفي رواية مسلم عن يونس عن ابن شهاب: (يتحدثون بذلك)، وفي رواية أحمد عن ابن جريج عن ابن شهاب: (فلما أصبح تحدثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد من جوف الليل، فاجتمع أكثر منهم)، وزاد يونس (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا معه، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله). وفي رواية ابن جريج أيضا: (حتى كاد المسجد يعجز عن
176

أهله)، ولأحمد في رواية عن معمر عن ابن شهاب: امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله)، وله من رواية سفيان بن حسين عنه: (فلما كانت الليلة الرابعة غص المسجد بأهله). قوله: (فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أحمد عن ابن جريج: (حتى سمعت ناسا منهم يقولون: الصلاة)، وفي رواية سفيان بن حسين عنه: (فقالوا ما شأنه؟) وفي حديث زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، كما سيأتي في الاعتصام: حدثنا إسحاق أخبرنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة سمعت أبا النضر يحدث عن بسر بن سعيد، (عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليالي حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). وأخرجه أيضا في الأدب، ولفظه: (
احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حجيرا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها فتتبع إليه رجال فجاؤوا يصلون بصلاتهم، ثم جاؤوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم مغضبا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). وأخرجه مسلم أيضا وفيه: (فأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب..) وأخرجه أبو داود أيضا وفيه: (حتى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه..) الحديث. وأخرجه الطحاوي أيضا نحو رواية البخاري. قوله: (فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم) وفي رواية عقيل: (فلما قضى صلاة الفجر أقبل على الناس وتشهد ثم قال: أما بعد، فإنه لم يخف على مكانكم). وفي رواية يونس وابن جريج: (لم يخف علي شأنكم)، وفي رواية أبي سلمة: (أكلفوا من العمل ما تطيقون، وفي رواية معمر أن الذي سأله عن ذلك بعد أن أصبح عمر بن الخطاب. قوله: (أن تفرض عليكم) أي: بأن تفرض عليكم صلاة الليل، يدل عليه رواية يونس: (ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها)، وكذا في رواية أبي سلمة المذكور قبيل صفة الصلاة، (خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل)، فدلت هذه الروايات على أن عدم خروجه صلى الله عليه وسلم إليهم كان للخشية عن فرضية هذه الصلاة لا لعلة أخرى. قوله: (وذلك في رمضان) كلام عائشة، رضي الله تعالى عنها، ذكرته إدراجا لتبين أن هذه القضية كانت في شهر رمضان. فإن قلت: لم يبين في الروايات المذكورة عدد هذه الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليالي؟ قلت: روى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر).
(ذكر ما يستفاد منه) فيه جواز النافلة جماعة ولكن الأفضل فيها الانفراد وفي التراويح اختلف العلماء فذهب الليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحق إلى أن قيام التراويح مع الإمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي فمن أصحاب أبي حنيفة عيسى بن أبان وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران أحد مشايخ الطحاوي ومن أصحاب الشافعي إسماعيل بن يحيى المزني ومحمد بن عبد الله بن الحكم واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي
قال ' صمت مع النبي
رمضان فلم يقم بنا حتى بقي سبع من الشهر فلما كانت الليلة السابعة خرج فصلى بنا حتى مضى ثلث الليل ثم لم يصل بنا السادسة ثم خرج ليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل فقلنا يا رسول الله لو نفلتنا فقال إن القوم إذا صلوا مع الإمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة ثم لم يصل بنا الرابعة حتى إذا كانت ليلة الثالثة خرج وخرج بأهله فصلى بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح فقلت وما الفلاح قال السحور ' أخرجه الطحاوي وأخره الترمذي نحوه غير أن في لفظه ' من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ' وأخرجه النسائي وابن ماجة أيضا ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاوس (قلت) هو مذهب أصحابنا الحنفية وقال صاحب الهداية يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات ثم قال والسنة فيها الجماعة لكن على وجه الكفاية حتى لو امتنع أهل المسجد من إقامتها كانوا مسيئين ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة لأن أفراد الصحابة يروى عنهم التخلف (قلت) روى الطحاوي عن نافع ' عن ابن عمر أنه كان لا يصلي خلف الإمام في شهر
177

رمضان ' وأخرج ابن أبي شيبة أيضا في مصنفه ' عن ابن عمر أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان قال وكان القاسم وسالم لا يقومان مع الناس ' وذهب مالك والشافعي وربيعة إلى أن صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإمام وهو قول إبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة وقال أبو عمر اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان فقال مالك والشافعي صلاة المنفرد في بيته أفضل وقال مالك وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس وقال مالك وأنا أفعل ذلك وما قام رسول الله
إلا في بيته وإليه مال الطحاوي وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم ونافع أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس وقال الترمذي واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئا والكلام في التراويح على أنواع.
الأول أن العلماء اختلفوا فيها هل هي سنة أو تطوع مبتدأ فقال الإمام حميد الدين الضزيري رحمه الله نفس التراويح سنة وأما أداؤها بالجماعة فمستحب وروى الحسن عن أبي حنيفة أن نفس التراويح سنة لا يجوز تركها وقال الصدر الشهيد هو الصحيح وفي جوامع الفقه التراويح سنة مؤكدة والجماعة فيها واجبة وفي روضة الحنفية والجماعة فضيلة وفي الذخيرة لنا عن أكثر المشايخ أن إقامتها بالجماعة سنة على الكفاية
الثاني أن عددها عشرون ركعة وبه قال الشافعي وأحمد ونقله القاضي عن جمهور العلماء وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع وعند مالك ستة وثلاثون ركعة غير الوتر واحتج على ذلك بعمل أهل المدينة واحتج أصحابنا والشافعية والحنابلة بما رواه البيهقي بإسناد صحيح ' عن السائب بن يزيد الصحابي قال كانوا يقومون على عهد عمر رضي الله تعالى عنه بعشرين ركعة وعلى عهد عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما مثله ' وفي المغني عن علي أنه أمر رجلا أن يصلي بهم في رمضان بعشرين ركعة قال وهذا كالإجماع (فإن قلت) قال في الموطأ عن يزيد بن رومان قال كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة (قلت) قال البيهقي والثلاث هو الوتر ويزيد لم يدرك عمر فيكون منقطعا والجواب عما قاله مالك أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين ويصلون ركعتي الطواف ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادوا ست عشرة ركعة وما كان عليه أصحاب رسول الله
أحق وأولى أن يتبع
الثالث في وقتها وهو بعد العشاء وقبل الوتر عندنا وهو قول عامة مشايخ بخارى والأصح أن وقتها بعد العشاء إلى آخر الليل قبل الوتر وبعده وفي المبسوط المستحب فعلها إلى نصف الليل أو ثلثه كما في العشاء وفي المحيط لا يجوز قبل العشاء ويجوز بعد الوتر ولم يحك فيه خلافا.
الرابع أن أكثر المشايخ على أن السنة فيها الختم فلا يترك لكسل القوم وقيل يقرأ مقدار ما يقرأ في المغرب تحقيقا للتخفيف قال شمس الأئمة هذا غير مستحسن وقيل يقرأ من عشرين آية إلى ثلاثين آية كما أمر عمر بن الخطاب أحد الأئمة الثلاثة على ما رواه البيهقي بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال دعا عمر رضي الله تعالى عنه بذلك من القراء فاستقرأهم فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس بثلاثين آية في كل ركعة وأوسطهم بخمس وعشرين آية وأبطأهم بعشرين آية
(ومن فوائد الحديث المذكور) جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته وهو مذهب الجمهور إلا رواية عن الشافعي. وفيه إذا تعارضت مصلحة وخوف مفسدة أو مصلحتان اعتبر أهمهما لأنه
كان رأى الصلاة في المسجد لبيان الجواز أو أنه كان معتكفا فلما عارضه خوف الافتراض عليهم تركه لعظم المفسدة التي تخاف من عجزهم وتركهم الفرض. وفيه أن الإمام أو كبير القوم إذا فعل شيئا خلاف ما يتوقعه أتباعه وكان له عذر فيه يذكره لهم تطييبا لقلوبهم وإصلاحا لذات البيت لئلا يظنوا خلاف هذا وربما ظنوا ظن السوء وفيه جواز الفرار من قدر الله إلى قدر الله قاله المهلب. وفيه ما كان عليه النبي
من الزهادة في الدنيا والاكتفاء بما قل منها والشفقة على أمته والرأفة بهم. وفيه الأذان والإقامة للنوافل إذا صليت جماعة قال ابن بطال. وفيه أن قيام رمضان سنة بالجماعة وليس كما زعمه بعضهم أنه سنة عمر رضي الله عنه وقال أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان فهو واجب على الكفاية *
178

((باب قيام النبي
حتى ترم قدماه))
أي هذا باب في بيان قيام النبي
يعني صلاة الليل هذه الترجمة على هذا الوجه رواية كريمة وفي رواية الكشميهني باب قيام النبي
الليل قوله ' حتى ترم ' كلمة حتى للغاية ومعناها إلى أن ترم ولفظة ترم منصوبة بأن المقدرة وهو بفتح التاء المثناة من فوق فعل مضارع للمؤنث وماضيه ورم وهو من باب فعل يفعل بالكسر فيهما تقول ورم يرم ورما ومعنى ورم انتفخ وأصل ترم تورم فحذفت الواو منه كما حذفت من بعد ويمق ونحوهما في كل ما جاء في هذا الباب قيل هذا شاذ وقيل نادر وليس كذلك وإنما هو قليل لأنه لا يدخل في دعائم الأبواب وقوله ' قدماه ' مرفوع لأنه فاعل ترم.
(وقالت عائشة رضي الله عنها قام النبي
حتى تفطر قدماه والفطور الشقوق انفطرت انشقت)
ويروى ' قام رسول الله
' وفي رواية الكشميهني قالت عائشة رضي الله تعالى عنها ' كان يقوم ' وهذا التعليق أخرجه البخاري في التفسير مسندا في سورة الفتح ' حتى تفطر ' على وزن تفعل بالتشديد بتاء واحدة وهو على صيغة الماضي فتكون الراء مفتوحة وفي رواية الأصيلي تتفطر بتاءين وقد يأتي فيما كان بتاءين حذف إحداهما كما في قوله ' نار تلظى ' أصله تتلظى بتاءين فلم تحذف ههنا فعلى هذا تكون الراء مضمومة وعلى الأصل رواية الأصيلي وقوله ' قدماه ' مرفوع لأنه فاعل ' تفطر '.
(حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مسعر عن زياد قال سمعت المغيرة رضي الله عنه يقول إن كان النبي
ليقوم أو ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول أفلا أكون عبدا شكورا)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. الأول أبو نعيم الفضل بن دكين. الثاني مسعر بكسر الميم بن كدام العامري الهلالي مر في باب الوضوء بالمد. الثالث زياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف ابن علاقة الثعلبي مر في آخر كتاب الإيمان. الرابع المغيرة بن شعبة.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضع وفيه السماع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن رجال إسناده كوفيون وهو من الرباعيات وفيه مسعر عن زياد وقال البخاري في الرقاق عن خلاد بن يحيى عن مسعر حدثنا زياد بن علاقة والحفاظ من أصحاب مسعر رووا عنه عن زياد وخالفهم محمد بن بشر وحده فرواه عن مسعر عن قتادة عن أنس أخرجه البزار وقال الصواب عن مسعر عن زياد وأخرجه الطبراني في الكبير من رواية أبي قتادة الحراني عن مسعر عن علي بن الأقمر عن أبي جحيفة قيل أخطأ فيه أيضا والصواب مسعر عن زياد بن علاقة (قلت) مسعر كما روى عن زياد روى أيضا عن علي بن الأقمر فما وجه التخطئة ولم يبين مدعيها
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الرقاق عن خلاد بن يحيى وفي التفسير عن صدقة ابن الفضل عن سفيان بن عيينة وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب عن قتيبة وعن ابن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأخرجه الترمذي في الصلاة عن قتيبة وبشر بن معاذ وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وعمر بن منصور وفي التفسير عن قتيبة أيضا عن أبي عوانة به وفي الرقاق عن سويد بن نصر وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن هشام بن عمار
(ذكر معناه) قوله ' إن كان ليقوم ' كلمة إن مخففة من الثقيلة وهي بكسر الهمزة وضمير الشأن فيه محذوف والتقدير أنه كان واللام في ليقوم مفتوحة للتأكيد وفي رواية كريمة ' ليقوم يصلي ' وفي حديث عائشة ' كان يقوم من الليل ' قوله ' أو ليصلي ' شك من الراوي قوله ' حتى ترم ' قد مر تفسيره عن قريب وفي رواية خلاد بن يحيى ' حتى ترم أو تنتفخ ' وعند الترمذي ' حتى انتفخت قدماه ' وفي رواية للبخاري في تفسير الفتح ' حتى تورمت ' وفي رواية النسائي عن أبي
179

هريرة حتى تزلع ولا اختلاف في الحقيقة في هذه الرواية لأن كلها ترجع إلى معنى واحد وروى البزار من حديث محمد بن عبد الرحمن بن سفينة عن أبيه عن جده ' أن النبي
تعبد قبل أن يموت واعتزل النساء حتى صار كأنه شن ' وفي سنده محمد بن الحجاج قال ابن معين ليس بثقة قوله ' أو ساقاه ' شك من الراوي وفي رواية خلاد ' قدماه ' من غير شك قوله ' فيقال له ' لم يذكر المقول ولا بين القائل من هو أما المقول فمقدر تقديره فيقال له غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وفي حديث أبي هريرة أخرجه البزار ' فقيل له يا رسول الله أتفعل هذا وقد جاءك من الله أن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ' وفي حديث أنس أخرجه البزار أيضا وأبو يعلى والطبراني في الأوسط ' فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ' وفي حديث ابن مسعود أخرجه الطبراني الصغير ' فقيل له يا رسول الله أوليس الله قد غفر لك ' وفي حديث النعمان بن بشير أخرجه الطبراني ' فقيل يا رسول الله أوليس الله قد غفر لك ' وفي حديث أبي جحيفة أخرجه الطبراني في الكبير ' فقيل يا رسول الله قد غفر الله لك ' وأما بيان القائل ففي حديث عائشة ' لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ' وفي رواية أبي عوانة ' فقيل له أتتكلف هذا ' قوله ' أفلا أكون عبدا شكورا ' الفاء فيه للسببية بيان أن الشكر سبب للمغفرة والتهجد هو الشكر فلا يتركه
(ذكر ما يستفاد منه) قال ابن بطال فيه أن أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه وله أن يأخذ بالرخصة ويكلف نفسه بما سمحت إلا أن الأخذ بالشدة أفضل لأنه إذا فعل
وقد غفر له فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا وإنما ألزم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنفسهم شدة الخوف لعلمهم عظيم نعمة الله عليهم وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها فبذلوا مجهودهم في شكره مع أن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد وقال بعض العلماء ما ورد في القرآن والسنة من ذكر ذنب لبعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كقوله * (وعصى آدم ربه فغوى) * ونحو ذلك فليس لنا أن نقول ذلك في غير القرآن والسنة حيث ورد ويؤول ذلك على ترك الأولى وسميت ذنوبا لعظم مقدارهم كما قال بعضهم حسنات الأبرار سيئات المقربين وعلى هذا فما وجه قول من سأله من الصحابة بقوله ' أتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ' والجواب أن من سأله عن ذلك إنما أراد به ما وقع في سورة الفتح ولعل بعض الرواة اختصر عزو ذلك إلى الله لما جاء في حديث أبي هريرة ' تفعل ذلك وقد جاءك من الله أن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ' ولك أن تقول دل قوله ' وما تأخر ' على انتفاء الذنب لأن ما لم يقع إلى الآن لا يسمى ذنبا في الخارج وأراد الله تأمينه بذلك لشدة خوفه حيث قال النبي
' إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية ' فأراد لو وقع منك ذنب لكان مغفورا ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه والله تعالى أعلم. وفي ' أفلا أكون عبدا شكورا ' أن الشكر يكون بالعمل كما يكون باللسان ومنه قوله تعالى * (اعملوا آل داود شكرا) * فإذا وفقه الله تعالى لعمل صالح شكر ذلك بعمل آخر ثم يكون شكر ذلك العلم الثاني بعمل آخر ثالث فيتسلسل ذلك إلى غير نهاية *
((باب من نام عند السحر))
أي هذا باب في بيان حكم من نام عند السحر وفي رواية الأصيلي والكشميهني ' عند السحور ' السحر بفتحتين قبيل الصبح تقول لقيته سحرنا هذا إذا أردت به سحر ليلتك لم تصرفه لأنه معدول عن الألف واللام وهو معرفة وقد غلب عليه التعريف بغير إضافة ولا ألف ولام وإذا أردت بسحر بكرة صرفته كما في قوله تعالى * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) * والسحور ما يتسحر به وهو أيضا لا يكون إلا قبيل الصبح ولكل واحد من الروايتين وجه ولكن عند السحر أوجه وأقرب
160 - (حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمرو بن دينار أن عمرو بن أوس أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله
180

قال أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما)
مطابقته للترجمة ' وينام سدسه ' وهو النوم عند السحر كما سنبينه عن قريب
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني سفيان بن عيينة. الثالث عمرو بن دينار. الرابع عمرو بن أوس الثقفي المكي مات سنة أربعة وتسعين وفي تذهيب التهذيب عمرو بن أوس الثقفي الطائفي ذكره ابن حبان في الثقات وقال بعضهم هو تابعي كبير ووهم من ذكره في الصحابة وإنما الصحبة لأبيه وذكر الذهبي عمرو بن أوس في تجريد الصحابة وقال عمرو بن أوس الثقفي الطائفي له وفادة ورواية روى عنه ابنه عثمان. الخامس عبد الله بن عمرو بن العاص
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين وفيه أن شيخه مدني والبقية مكيون وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي وعلى قول من يقول أن عمرو بن أوس من الصحابة يكون فيه رواية الصحابي عن الصحابي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في أحاديث الأنبياء عن قتيبة وأخرجه مسلم في الصوم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل ومحمد بن عيسى ومسدد ثلاثتهم عن سفيان به وأخرجه النسائي فيه وفي الصلاة
عن قتيبة به وأخرجه ابن ماجة في الصوم عن إبراهيم بن محمد الشافعي المكي عن سفيان به
(ذكر معناه) قوله ' له ' أي لعبد الله بن عمرو قوله ' أحب الصلاة إلى الله ' لفظة أحب بمعنى المحبوب وهو قليل إذ غالب أفعل التفضيل أن يكون بمعنى الفاعل وإطلاق المحبة على الله تعالى كناية عن إرادة الخير قوله ' صلاة داود عليه السلام ' وقال المهلب كان داود عليه الصلاة والسلام يجم نفس بنوم أول الليل ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الرب هل من سائل فأعطيه سؤله هل من مستغفر فأغفر له ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل وإنما صار ذلك أحب إلى الله من أجل الأخذ بالرفق على النفوس التي يخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة والله يحب أن يديم فضله ويوالي إحسانه وقيل يراد بقوله ' أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ' من عدا النبي
لقوله تعالى * (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) * الآيات وفيه نظر لأن هذا الأمر قد نسخ وفي كتاب المحاملي وإن صلى بعض الليل فأي وقت أفضل فيه قولان أحدهما أن يصلي جوف الليل والثاني وقت السحر ليصلي به صلاة الفجر قوله ' وأحب الصيام إلى الله صيام داود ' ظاهره أنه أفضل من صوم الدهر عند عدم التضرر ولا شك أن المكلف لم يتعبد بالصيام خاصة بل به وبالحج وبالجهاد وغير ذلك فإذا استفرغ جهده في الصوم خاصة انقطعت قوته وبطلت سائر العبادات فأمر أن يستبقي قوته قوله ' وكان ' أي داود عليه الصلاة والسلام وهذا بيان صلاته وقوله ' ويصوم يوما ويفطر يوما ' بيان صيامه
161 - (حدثني عبدان قال أخبرني أبي عن شعبة عن أشعث قال سمعت أبي قال سمعت مسروقا قال سألت عائشة رضي الله عنها أي العمل كان أحب إلى النبي
قالت الدائم قلت متى كان يقوم قالت يقوم إذا سمع الصارخ)
مطابقته للترجمة في قوله ' إذا سمع الصارخ ' والصارخ هو الديك وإنما كان يصرخ في حدود الثلث الأخير ووقت السحر فيه
(ذكر رجاله) وهم سبعة * الأول عبدان بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة واسمه عبد الله وعبدان لقب عليه وقد مر في كتاب الوحي * الثاني أبوه عثمان بن جبلة بفتح الجيم والباء الموحدة مر في باب تضييع الصلاة عن وقتها * الثالث شعبة بن الحجاج وقد تكرر ذكره * الرابع أشعث بسكون الشين المعجمة وفتح العين المهملة وفي آخره تاء مثلثة * الخامس أبوه أبو الشعثاء واسمه سليم بن أسود المحاربي * السادس مسروق بن الأجدع
181

السابع عائشة رضي الله تعالى عنها
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه العنعنة في موضعين وفيه السماع في موضعين وفيه القول في أربعة مواضع وفيه السؤال في موضع واحد وفيه أن شيخه مروزي سكن البصرة وأبوه كذلك وشعبة واسطي وأشعث وأبوه ومسروق كوفيون وفيه أن شيخه مذكور بلقبه وفيه رواية الابن عن الأب في موضعين وفيه رواية التابعي عن الصحابية.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في هذا الباب عن محمد عن أبي الأحوص وأخرجه في الرقاق أيضا عن عبدان عن أبيه وأخرجه مسلم في الصلاة عن هناد عن أبي الأحوص به وأخرجه أبو داود فيه عن إبراهيم بن موسى الرازي وهناد بن السري كلاهما عن أبي الأحوص وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن إبراهيم بن صدران
(ذكر معناه) قوله ' الدائم ' مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الدوام وهو الملازمة العرفية لا شمول الأزمنة لأنه متعذر وما ذاك إلا تكليف بما لا يطاق ويقال الدوام على العمل القليل يكون أكثر وإذا تكلف المشقة في العمل انقطع عنه فيكون أقل قوله ' الصارخ ' أي الديك والصرخة الصيحة الشديدة قال محمد بن ناصر جرت العادة بأن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا وقال ابن التين هو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل وقال ابن بطال الصارخ يصرخ عند ثلث الليل فكان داود عليه الصلاة والسلام يتحرى الوقت الذي ينادي الله فيه هل من سائل كذا والمراد من الدوام قيامه كل ليلة في ذلك الوقت لا الدوام المطلق (قلت) وبهذا يجاب عما يقال الصارخ يدل على عدم الدوام فيكون مناقضا لقوله ' الدائم '
(ذكر ما يستفاد منه) فيه الحث على المداومة على العمل وإن قليله الدائم خير من كثير ينقطع وذلك لأن ما يدوم عليه بلا مشقة وملل تكون النفس به أنشد والقلب منشرحا بخلاف ما يتعاطاه من الأعمال الشاقة فإنه بصدد أن يتركه كله أو بعضه أو يفعله بغير الانشراح فيفوته خير كثير وفيه الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها.
162 - (حدثنا محمد بن سلام قال أخبرنا أبو الأحوص عن الأشعث قال إذا سمع الصارخ قام فصلى)
هذا حديث آخر في الحديث السابق رواه عن محمد وهو ابن سلام وكذا هو في رواية أبي ذر ومحمد بن سلام وكذا نسبه أبو علي بن السكن قال الجياني في نسخة أبي ذر عن أبي أحمد الحموي حدثنا محمد بن سالم وقال أبو الوليد الباجي محمد ابن سالم وساق الحديث حدثنا محمد بن سالم وعلى سالم علامة الحموي قال وسألت عنه أبا ذر فقال أراه ابن سلام وسها فيه أبو محمد الحموي ولا أعلم في طبقة البخاري محمد بن سالم ورواه الإسماعيلي عن محمد بن يحيى المروزي حدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو الأحوص عن أشعث عن أبيه عن مسروق والأسود قال سألت عائشة الحديث ثم قال ولم يذكر البخاري بعد أشعث في هذا أحدا وأبو الأحوص اسمه سلام بن سليم الكوفي مر في باب النحر بالمصلى وأخرجه مسلم من طريقه فقال حدثني هناد بن السري قال حدثنا أبو الأحوص عن أشعث عن أبيه ' عن مسروق قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن عمل رسول الله
فقالت كان يحب الدائم قال قلت أي حين كان يصلي فقالت كان إذا سمع الصارخ قام فصلى ' ورواه أبو داود أيضا حدثنا إبراهيم أخبرنا أبو الأحوص وحدثنا هناد عن أبي
الأحوص وهذا حديث إبراهيم عن أشعث عن أبيه ' عن مسروق قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله
فقلت لها أي حين كان يصلي قالت كان إذا سمع الصراخ قام فصلى ' قوله ' إذا سمع الصراخ ' أي صياح الديك وهذا يدل على أن قيامه
كان يكون في الثلث الأخير من الليل لأن الديك ما يكثر الصياح إلا في ذلك الوقت وإنما اختار
هذا الوقت لأنه وقت نزول الرحمة ووقت السكون وهدو الأصوات.
163 - (حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال ذكر أبي عن أبي سلمة
182

عن عائشة رضي الله عنها قالت ما ألفاه السحر عندي إلا نائما تعني النبي
) -
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن نومه صلى الله عليه وسلم كان عند السحر.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل المنقري الذي يقال له التبوذكي. الثاني: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري، كان على قضاء بغداد. الثالث: أبوه سعد بن إبراهيم. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الرواية بطريق الذكر وقد رواه أبو داود عن أبي توبة فقال: حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه. وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن جمعة بن عبد الله عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عمه أبي سلمة بن عبد الرحمن به. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: رواية الرجل عن عمه وهو سعد بن إبراهيم يروى عن عمه كما صرح به في رواية الإسماعيلي. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، فإن سعد بن إبراهيم من أجلة التابعين وفقهائهم وصالحيهم. وفيه: رواية التابعي عن الصحابية.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن أبي كريب عن محمد بن بشر. وأخرجه أبو داود فيه عن أبي توبة الربيع بن نافع عن إبراهيم بن سعد، وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد.
ذكر معناه: قوله: (ما ألفاه)، بالفاء أي: ما وجده، يقال: ألفيت الشيء أي: وجدته، وتلافيته أي: تداركته. قال تعالى: * (وألفيا سيدها لدى الباب) * (يوسف: 52). أي: وجداه. قوله: (السحر) بالرفع لأنه فاعل (الفاه)، والضمير المنصوب في: ألفاه، راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إنه إضمار قبل الذكر لأن أبا سلمة كان سألت عائشة عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم وقت السحر بعد ركعتي الفجر، وكانتا في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضا فسرت عائشة الضمير بقولها: تعني النبي صلى الله عليه وسلم فإن قلت: وقت السحر يطلق على قبيل الصبح عند أهل اللغة، وأيضا اشتقاق السحور منه، لأنه لا يجوز إلا قبل انفجار الصبح، فهل كان نومه في هذا الوقت أو في غيره؟ قلت: قال بعضهم: المراد نومه بعد القيام الذي مبدؤه عند سماع الصارخ. انتهى. والذي يظهر لي أنه اضطجاعه بعد ركعتي الفجر، وعلى هذا ترجم مسلم فقال: باب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ثم روى الحديث المذكور، فقال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن بشر عن مسعر عن سعد عن أبي سلمة (عن عائشة ما ألفي رسول الله صلى الله عليه وسلم السحر على فراشي أو عندي إلا نائما). ويؤيد ما ذكرناه ترجمة الباب الذي عقيب الباب المذكور، يظهر ذلك بالتأمل، وذكر بعض من يعتني بشرح الأحاديث في (شرح سنن أبي داود) في تفسير هذا الحديث. قوله: (ما ألفاه السحر عندي إلا نائما) يعني: ما أتى عليه السحر عندي إلا وهو نائم، فعلى هذا كانت صلاته بالليل، وفعله فيه إلى السحر، ويقال: هذا النوم هو النوم الذي كان داود، عليه الصلاة والسلام، ينام، وهو أنه كان ينام أول الليلة ثم يقوم في الوقت الذي ينادي فيه الله، عز وجل، هل من سائل؟ ثم يستدرك من النوم ما يستريح به من نصب القيام في الليل، وهذا هو النوم عند السحر، على ما بوب له البخاري، وقال ابن التين: قولها: (إلا نائما) أي: مضطجعا على جنبه، لأنها قالت في حديث آخر: (فإن كنت يقظانة حدثني وإلا اضطجع حتى يأتيه المنادي للصلاة)، فيحصل بالضجعة الراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول صلاة الصبح، فلهذا كان ينام عند السحر. وقال ابن بطال: النوم وقت السحر كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي الطوال، وفي غير شهر رمضان، لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور، على ما يأتي في الباب الذي بعده.
8
((باب من تسحر ثم قام إلى الصلاة فلم ينم حتى صلى الصبح))
أي: هذا باب في بيان حال من تسحر ثم قام إلى الصلاة، أي: صلاة الصبح، فلم ينم بعد التسحر حتى صلى الصبح، هذه الترجمة على هذا الوجه في رواية الحموي والمستملي، وفي رواية الأكثرين: باب من تسحر فلم ينم حتى صلى الصبح.
183

4311 حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا روح قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه تسحرا فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فصلى قلنا لأنس كم كان بين فراغهما من سحورهما ودخولهما في الصلاة. قال كقدر ما يقرأ الرجل خمسين آية.
(أنظر الحديث 675).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مضى الحديث في: باب وقت الفجر، في كتاب مواقيت الصلاة، فإنه أخرجه هناك: عن عمرو ابن عاصم عن همام عن قتادة عن أنس،
وأخرجه أيضا هناك: عن الحسن بن الصباح سمع روح بن عبادة، قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس، وهنا أخرجه: عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي عن روح، بفتح الراء: ابن عبادة، وقد مضى الكلام فيه مستوفى.
9
((باب طول الصلاة في قيام الليل))
أي: هذا باب في بيان طول الصلاة في قيام الليل، هذه الترجمة على هذا الوجه للحموي والمستملي، وفي رواية الأكثرين: باب طول القيام في صلاة الليل، قال بعضهم: وفي حديث الباب موافق لرواية الحموي، لأنه دال على طول الصلاة لا على طول القيام بخصوصه، إلا أن طول الصلاة يستلزم طول القيام، لأن غير القيام كالركوع مثلا لا يكون أطول من القيام. قلت: لا نسلم أن طول الصلاة يستلزم طول القيام، فمن أين الملازمة؟ فربما يطول المصلي ركوعه وسجوده أطول من قيامه، وهو غير ممنوع لا شرعا ولا عقلا، وقوله: (كالركوع)، مثلا: لا يكون أطول من القيام غير مسلم، لأن عدم كون الركوع أطول من القيام ممنوع، كما ذكرنا.
5311 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء قلنا وما هممت أن أقعد وأذر النبيصلى الله عليه وسلم.
مطابقته للترجمة ظاهرة الدلالة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: سليمان بن حرب أبو أيوب الواشحي، حكى البرقاني عن الدارقطني أن سليمان بن حرب تفرد برواية هذا الحديث عن شعبة. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: سليمان الأعمش. الرابع: أبو وائل، اسمه شقيق بن سلمة الأسدي. الخامس: عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه بصري وشعبة واسطي والأعمش وأبو وائل كوفيان. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير وعن إسماعيل ابن الخليل وسويد بن سعيد، كلاهما عن علي بن مسهر. وأخرجه الترمذي في الشمائل عن سفيان بن وكيع وعن محمود بن غيلان عن سليمان بن حرب وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن عبد الله بن عامر وسويد بن سعيد.
ذكر معناه: قوله: (حتى هممت) أي: قصدت. قوله: (بأمر سوء)، يجوز فيه إضافة أمر إلى سوء، ويجوز أن يكون: سوء صفة لأمر، وهذا السوء من جهة ترك الأدب، وصورة المخالفة، وإن كان القعود جائزا في النفل مع القدرة على القيام. قوله: (وأذر النبي صلى الله عليه وسلم) أي: أتركه، أراد أن يقعد لا أنه يخرج عن الصلاة، وهذه اللفظة أمات العرب ماضيها كما في: يدع.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن بطال، رحمه الله، فيه: دليل على طول القيام في صلاة الليل، لأن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، كان جلدا قويا محافظا على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما هم بالقعود إلا عن طول كثير، وقد اختلف العلماء: هل الأفضل في صلاة التطوع طول القيام أو كثرة الركوع والسجود؟ فذهب بعضهم إلى أن كثرة الركوع والسجود أفضل، واحتجوا
184

في ذلك بما رواه مسلم عن ثوبان: أفضل الأعمال كثرة الركوع والسجود، قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سأله ربيعة بن كعب مرافقته في الجنة، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود)، واحتجوا أيضا بما رواه ابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله، عز وجل، له بها حسنة ومحا عنه بها سيئة، ورفع لها بها درجة، فاستكثروا من السجود). وروى ابن ماجة أيضا من حديث كثير بن مرة: (أن أبا فاطمة حدثه، قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله! قال: عليك بالسجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة) وبما روى الطحاوي، قال: حدثنا فهد، قال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبو الأحوص وخديج عن أبي إسحاق (عن المخارق، قال: خرجنا حجاجا فمررنا بالربذة، فوجدنا أبا ذر قائما يصلي، فرأيته لا يطيل القيام ويكثر الركوع والسجود، فقلت له في ذلك فقال: ما ألوت أن أحسن أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة). وأخرجه أحمد أيضا في (مسنده) والبيهقي في (سننه). قلت: أبو الأحوص سلام بن سليم، وخديج بن معاوية ضعفه النسائي، وقال أحمد: لا أعلم إلا هيرا. واسم أبي إسحاق: عمرو ابن عبد الله السبيعي، والمخارق، بضم الميم: غير منسوب، قال الذهبي: مجهول. وفي (التكميل)؛ وثقه ابن حبان، والربذة: قرية من قرى المدينة بها قبر أبي ذر، رضي الله تعالى عنه، واسم أبي ذر: جندب بن جنادة الغفاري. قوله: (ما ألوت) أي: ما قصرت، وروى الطحاوي أيضا من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما، أنه: (رأى فتى وهو يصلي وقد أطال صلاته، فلما انصرف منها قال: من يعرف هذا؟ قال رجل: أنا. فقال عبد الله: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام العبد يصلي أتى بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه). وأخرجه البيهقي أيضا، ويقول أهل هذه المقالة: قال الأوزاعي والشافعي: في قول، وأحمد في رواية، ومحمد بن الحسن، ويحكى ذلك عن ابن عمر، وذهب قوم إلى أن طول القيام أفضل، وبه قال الجمهور من التابعين وغيرهم، ومنهم مسروق وإبراهيم النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة. وممن قال به أبو يوسف والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وقال أشهب: هو أحب إلي لكثرة القراءة، واحتجوا في ذلك بحديث الباب، وبما رواه مسلم من حديث جابر: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟
قال: طول القنوت). وأراد به طول القيام، وبما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن حبش الخثعمي: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصلاة أفضل؟ فقال: طول القيام). وهذا يفسر قوله صلى الله عليه وسلم: (طول القنوت) وإن كان القنوت يأتي بمعنى: الخشوع وغيره.
ومما يستفاد من الحديث المذكور أنه ينبغي الأدب مع الأئمة الكبار، وأن مخالفة الإمام أمر سوء، قال تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور:). الآية.
6311 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا خالد بن عبد الله عن حصين عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام للتهجد من الليل يشوص فاه بالسواك.
.
قال ابن بطال: هذا الحديث لا دخل له في الباب لأن شوص الفم لا يدل على طول الصلاة. قال: ويمكن أن يكون ذلك من غلط الناسخ، فكتبه في غير موضعه أو أن البخاري أعجلته المنية عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا تدل على أنه مات قبل تحرير الكتاب. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون أراد أن حذيفة روى قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى..) الحديث. فكأنه لما قال: يتهجد، وذكر حديثه في السواك، وكان يتسوك حين يقوم من النوم، ولكل صلاة ففيه إشارة إلى طول القيام، أو يحمل على أن في الحديث إشارة من جهة أن استعمال السواك حينئذ يدل على ما يناسبه من إكمال الهيئة والتأهب للعبادة، وذلك دليل على طول القيام، إذ النافلة المخففة لا يتهيأ لها هذا التهيؤ الكامل. انتهى. وقيل: أراد بهذا الحديث استحضار حديث حذيفة المذكور الذي أخرجه مسلم، وإنما لم يخرجه لكونه على غير شرطه. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون بيض الترجمة بحديث
185

حذيفة، فضم الحديث الذي بعده إلى الحديث الذي قبله. انتهى. قلت: هذه كلها تعسفات لا طائل تحتها، أما ابن بطال فإنه لم يذكر شيئا ما في توجيه وضع هذا الحديث في هذا الباب، وإنما ذكر وجهين: أحدهما: نسبة هذا إلى الغلط من الناسخ، وهذا بعيد، لأن الناسخ لم يأت بهذا الحديث من عنده وكتبه هنا. والثاني: أنه اعتذر من جهة البخاري بأنه لم يدرك تحريره، وفيه نوع نسبة إلى التقصير، وأما كلام ابن المنير فإنه لا يجدي شيئا في توجيه هذا الموضع، لأن حاصل ما ذكره من الطول هو الخارج عن ماهية الصلاة، وليس المراد من الترجمة مطلق الطول، وإنما المراد هو الطول الكائن في هيئة الصلاة، وأما القائل الذي وجه بقوله: أراد بهذا الحديث استحضار حديث حذيفة، فإنه توجيه بعيد، لأن استحضار حديث أجنبي بالوجه الذي ذكره لا يدل على المطابقة، وأما كلام بعضهم، فاحتمال بعيد، لأن تبييض الترجمة لحديث حذيفة لا وجه له أصلا لعدم المناسبة، ولكن يمكن أن يعتذر عن البخاري في وضعه هذا الحديث هنا بوجه مما يستأنس به، وهو أن الترجمة في طول القيام في صلاة الليل وحديث حذيفة فيه القيام للتهجد، والتهجد في الليل غالبا يكون بطول الصلاة، وطول الصلاة غالبا يكون بطول القيام، فيها وإن كان يقع أيضا بطول الركوع والسجود.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: حفص بن عمر بن الحارث أبو عمر الحوضي. الثاني: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الطحان. الثالث: حصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون: ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل: مر في: باب الأذان بعد ذهاب الوقت. الرابع: أبو وائل شقيق بن سلمة. الخامس: حذيفة بن اليمان.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده، وأنه بصري وخالد واسطي وحصين وأبو وائل كوفيان.
والحديث أخرجه أيضا في: باب السواك، في كتاب الوضوء عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن حذيفة، ومر الكلام فيه هناك مستوفى. قوله: (يشوص) أي: يدلك أو يغسل.
01
((باب كيف صلاة الليل وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل))
أي: هذا باب في بيان كيفية صلاة الليل وفي بعض النسخ: باب كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل)، وفي بعض النسخ: (وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل؟) وفي بعضها: (من الليل).
7311 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله ن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال إن رجلا قال يا رسول الله كيف صلاة الليل قال مثنى مثنى فإذا خفت الصبح قأوتر بواحدة.
.
مطابقته للجزء الأول من الترجمة ظاهرة، والحديث قد مر ذكره في: باب ما جاء في الوتر، أخرجه عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع وعبد الله بن ديار (عن ابن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟..) الحديث. وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب ابن أبي حمزة والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
168 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة قال حدثني أبو جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت صلاة النبي
ثلاث عشرة ركعة يعني بالليل)
مطابقته للجزء الثاني للترجمة ظاهرة وقد مضى الكلام فيه أيضا في أول أبواب الوتر ويحيى هو القطان وأبو جمرة بالجيم والراء المهملة واسمه نصر بن عمران الضبعي * -
9311 حدثنا إسحاق قال حدثنا عبيد الله قال أخبرنا إسرائيل عن أبي حصين عن يحيى بن وثاب عن مسروق، قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله
186

عليه وسلم بالليل سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر.
مطابقته للجزء الثاني للترجمة كما في الحديث السابق.
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: إسحاق. قال الجياني: لم أجده منسوبا لأحد من رواة الكتاب، وذكر أبو نصر أن إسحاق الحنظلي يروي عن عبيد الله بن موسى في (الجامع) ويريد ذلك أن أبا نعيم أخرجه كذلك ثم قال في آخره: رواه، يعني البخاري، عن إسحاق عن عبيد الله، وكذا ذكره الدمياطي أنه هو ابن راهويه، لكن الإسماعيلي رواه في كتابه عن إسحاق بن سيار النصيبيني عن عبيد الله، وإسحاق هذا صدوق ثقة، قاله ابن أبي حاتم، لكن ليس له رواية في الكتب الستة، ولا ذكره البخاري في (تاريخه الكبير) فتعين أنه الأول. الثاني: عبيد الله ابن موسى بن باذام أبو محمد. الثالث: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. الرابع: أبو حصين، بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، واسمه عثمان بن عاصم الأسدي. الخامس: يحيى بن وثاب، بفتح الواو وتشديد الثاء المثلثة وبعد الألف باء موحدة، مات سنة ثلاث ومائة. السادس: مسروق بن الأجدع. السابع: عائشة، أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: السؤال. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه مروزي والبقية كلهم كوفيون. وفيه: أن البخاري روى عن عبد الله بن موسى في هذا الحديث بواسطة، وهو من كبار مشايخه. وقد روى عنه في الحديث الذي يأتي بلا واسطة، وكأنه لم يقع له سماع منه في هذا الحديث، وفيه: أنه ليس في (الصحيح) من هو مكني بأبي الحصين غيره. وفيه: ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم: أبو حصين ويحيى ومسروق. وفيه: ثلاثة ذكروا بلا نسبة مطلقا وواحد بالكناية.
ذكر ما يستفاد منه: دل هذا الحديث أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي من الليل سبع ركعات وتسع ركعات، وروى النسائي من حديث يحيى بن الجزار عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنه يصلي من الليل تسعا، فلما أسن صلى سبعا، ودل أيضا أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة سوى ركعتي الفجر، وهما سنة، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعة. فإن قلت: في (الموطأ): من حديث هشام عنها أنه: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع نداء الصبح ركعتين، وسيأتي في: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، عن عبد الله بن يوسف عن مالك به، فتكون الجملة خمس عشرة ركعة. قلت: لعل ثلاث عشرة بإثبات سنة العشاء التي بعدها. أو أنه عد الركعتين الخفيفتين عند الافتتاح أو الركعتين بعد الوتر جالسا. فإن قلت: روي في: باب قيام النبي، صلى الله عليه وسلم، في رمضان: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن سعيد عن أبي سلمة أنه سأل عائشة، فقالت: (ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن،. ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا) وأخرجه مسلم أيضا قلت: يحتمل أنها نسيت ركعتي الفجر أو ما عدتهما منها. فإن قلت: في رواية القاسم عنها، كما يأتي عقيب حديث مسروق عنها: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة، منها الوتر وركعتا الفجر، وفي رواية مسلم أيضا من هذا الوجه: كانت صلاته عشر ركعات ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة؟ قلت: حديث القاسم عنها محمول على أن ذلك كان غالب حاله، وأما حديث مسروق عنها فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعا، وتارة تسعا، وتارة إحدى عشرة. وقال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وقال: إنما يتأتى الاضطراب لو أنها أخبرت عن وقت مخصوص، أو كان الراوي عنها واحدا، وقال عياض: يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة منهن الوتر في الأغلب، وباقي رواياتها إخبار منها ما كان يقع نادرا في بعض الأوقات بحسب اتساع الوقت وضيقه، بطول قراءة أو نوم أو بعذر مرض أو غيره، أو عند كبر السن، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول القيام، وتارة لا تعدهما. وقال ابن عبد البر، رحمه الله تعالى: وأهل العلم يقولون: إن الاضطراب عنها في الحج والرضاع وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وقصر صلاة المسافر لم يأت ذلك إلا منها، لأن الرواة عنها حفاظ، وكأنها أخبرت بذلك في أوقات متعددة وأحوال مختلفة.
ومما يستفاد من هذه الأحاديث: أن قيام الليل سنة مسنونة
187

0411 حدثنا عبيد الله بن موسى ا قال أخبرنا حنظلة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد قلنا عن قريب: إن البخاري، رحمه الله، روى حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن عبيد الله بن موسى فيما قيل عن إسحاق عن عبيد الله هذا، وهنا روى عنه بلا واسطة، وهو يروي عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي القرشي من أهل مكة، واسم أبي سفيان: الأسود بن عبد الرحمن، مات سنة إحدى وخمسين ومائة، وقد مر في أول كتاب الإيمان.
وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه، وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي،. وأخرجه النسائي فيه عن محمد ابن
سلمة المرادي عن عبد الله بن وهب، ثلاثتهم عن حنظلة به.
قوله: (ثلاث عشرة) مبني على الفتح، وأجاز الفراء سكون الشين من عشرة. قوله: (منها) أي من ثلاث عشرة.
11
((باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل))
أي: هذا باب في بيان قيام النبي صلى الله عليه وسلم أي: صلاته بالليل. قوله: (من نومه) وفي بعض النسخ: (ونومه)، بواو العطف. قوله: (وما نسخ) أي: باب أيضا في بيان ما نسخ من قيام الليل.
وقوله تعالى: * (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطاء وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا (ع المزمل: 1 7). وقوله: * (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) * (المزمل: 02).
وقوله: بالجر عطف على قوله: (وما نسخ من قيام الليل) وهو إلى آخره داخل في الترجمة. قوله عز وجل: * (يا أيها المزمل) * يعني: الملتف في ثيابه، وأصله المتزمل، وهو الذي يتزمل في الثياب، وكل من التف في ثوبه فقد تزمل، قلبت التاء زايا وأدغمت الزاي في الزاي، وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه قال: * (يا أيها المزمل) * أي: يا محمد قد زملت القرآن، وقرئ المتزمل على الأصل، والمزمل، بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها، على أنه اسم فاعل، أو اسم مفعول من زمله، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نائما بالليل متزملا في قطيفة،، فنبه ونودي بها. وعن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أنها سئلت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا ونصفه علي وأنا نائمة، ونصفه عليه، وهو يصلي، فسئلت: ما كان؟ فقالت: والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزا ولا إبريسما ولا صوفا، وكان سداه شعرا ولحمته وبرا، قاله الزمخشري، ثم قال: وقيل: دخل على خديجة، رضي الله تعالى عنها، وقد جئت فرقا أول ما أتاه جبريل، عليه السلام، وبوادره ترعد، فقال: زملوني، وحسبت أنه عرض له، فبينما هو كذلك إذ ناداه جبريل، عليه السلام، يا أيها المزمل. وعن عكرمة: أن المعنى: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما، أي: حمله، والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله. انتهى. وفي (تفسير النسفي) أشار إلى أن القول الأول نداء بما يهجن إليه الحالة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم عليها من التزميل في قطيفة، واستعداده للاشتغال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، فأمر أن يختار على الهجود والتهجد، وعلى التزمل التشمر، والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله عز وجل، فلا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا له الرقاد والدعاة وجاهدوا
188

فيه حتى انتفخت أقدامهم، واصفرت ألوانهم، وظهرت السيماء في وجوههم، وترقى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم، فخفف عنهم. وأشار إلى أن القول الثاني: وهو قوله: وعن عائشة، ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحالته التي كان عليها، وأمره أن يدوم على ذلك. قوله: * (قم الليل إلا قليلا) * أي: منه، قال أبو بكر الأدفوي: للعلماء فيه أقوال: الأول: أنه ليس بفرض، يدل على ذلك أن بعده: * (نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه) * وليس كذلك يكون الفرض، وإنما هو ندب. والثاني: أنه هو حتم. والثالث: أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وروي ذلك عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، قال: وقال الحسن وابن سيرين: صلاة الليل فريضة على كل مسلم، ولو قدر حلب شاة. وقال إسماعيل بن إسحاق: قالا ذلك لقوله تعالى: * (فاقرأوا ما تيسر منه) *، وقال الشافعي، رحمه الله: سمعت بعض العلماء يقول: إن الله تعالى أنزل فرضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: * (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) * الآية، ثم نسخ هذا بقوله: * (فاقرأوا ما تيسر منه) * ثم احتمل قوله: * (فاقرأوا ما تيسر منه) * أن يكون فرضا ثانيا، لقوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) * (الإسراء: 97). فوجب طلب الدليل من السنة على أحد المعنيين، فوجدن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا واجب من الصلوات إلا الخمس. قال أبو عمر: قول بعض التابعين: قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة، قول شاذ متروك لإجماع العلماء أن قيام الليل نسخ بقوله: * (علم إن لن تحصوه..) * الآية. وروى النسائي من حديث عائشة: افترض القيام في أول هذه الصورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا، ثم نزل التخفيف في آخرها، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة، وهو قول ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وآخرين، فيما حكى عنهم النحاس، وفي (تفسير ابن عباس): * (قم الليل) * يعني: قم الليل كله إلا قليلا منه، فاشتد ذلك على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه وقاموا الليل كله ولم يعرفوا ما حد القليل، فأنزل الله تعالى: * (نصفه أو انقص منه قليلا) * فاشتد ذلك أيضا على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه فقاموا الليل كله حتى انتفخت أقدامهم، وذلك قبل الصلوات الخمس، ففعلوا ذلك سنة، فأنزل الله تعالى ناسختها فقال: * (علم أن لن تحصوه) * يعني: قيام الليل من الثلث والنصف، وكان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، فلما فرضت الخمس نسخت هذه كما نسخت الزكاة كل صدقة، وصوم رمضان كل صوم، وفي (تفسير ابن الجوزي): كان الرجل يسهر طول الليل مخافة أن يقصر فيما أمر به من قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فشق عليهم ذلك، فخفف الله عنهم بعد سنة، ونسخ وجوب التقدير بقوله: * (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر منه) * أي: صلوا ما تيسر من الصلاة، ولو قدر حلب شاة، ثم نسخ وجوب قيام الليل بالصلوات الخمس بعد سنة أخرى، فكان بين الوجوب والتخفيف سنة، وبين الوجوب والنسخ بالكلية سنتان.
ثم إعراب قوله تعالى: * (قم الليل إلا قليلا) * على ما قاله الزمخشري: * (نصفه) * بدل * (من الليل) * و * (إلا قليلا) * استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل والضمير في * (منه) * و * (عليه) * للنصف، والمعنى التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف والزيادة عليه، وإن شئت جعلت: نصفه، بدلا من: قليلا، وكان تخييرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين الناقص، وبين قيام الزائد عليه، وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل.
قوله: * (ورتل القرآن ترتيلا) * يعني ترسل فيه. وقال الحسن: بينه، إذا قرأته. وقال الضحاك: إقرأ حرفا حرفا، وروى مسلم من حديث حفصة: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وعن مجاهد: رتل بعضه على إثر بعض على تؤدة، وعن ابن عباس: بينه بيانا، وعنه: إقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا، وقال قتادة: تثبت فيه تثبتا، وقيل: فصله تفصيلا ولا تعجل في قراءته. وقال أبو بكر بن طاهر: تدبر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. قوله: * (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) * أي: القرآن يثقل الله فرائضه وحدوده، ويقال: هو ثقيل على من خالفه، ويقال: هو ثقيل في الميزان، خفيف على اللسان، ويقال: إن نزوله ثقيل كما قال: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل) * (الحشر: 12). الآية، وقال الزمخشري: يعني بالقول الثقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها لأمته، فهي أثقل عليه وأنهض له. قوله: * (إن ناشئة الليل) * قال السمرقندي: يعني ساعات الليل، وهي مأخوذة من: نشأت أي: ابتدأت شيئا بعد شيء، فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى
189

بالوصف عن الاسم. وقال الزمخشري: ناشئة الليل النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترفع من نشأت السحاب إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشر إذا نهض، أو: قيام الليل، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا أقام ونهض على فاعلة كالعاقبة. قوله: * (هي أشد وطأ) * قال السمرقندي: يعني: أثقل على المصلي من ساعات النهار، فأخبر أن الثواب على قدر الشدة، قرأ أبو عمرو وابن عامر: أشد وطاء، بكسر الواو ومد الألف، والباقون بنصب الواو بغير مد، فمن قرأ بالكسر يعني: أشد مواطاة، أي: موافقة بالقلب والسمع، يعني: أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم، ومن قرأ بالنصب أبلغ في القيام وأبين في القول. قوله: * (وأقوم قيلا) * يعني: أثبت للقراءة، وعن الحسن: أبلغ في الخبر وأمنع من هذا العدو. وقال الزمخشري: أقوم قيلا. أشد مقالا وأثبت قراءة لهدو الأصوات. وعن أنس: أنه قرأ: وأصوب قيلا د فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي أقوم قيلا. فقال: إن أقوم وأهيأ واحد. وفي (تفسير النسفي): أقوم قيلا، أصح قولا وأشد استقامة وصوابا بالفراغ القلب، وقيل: أعجل إجابة للدعاء. قوله: * (إن لك في النهار سبحا طويلا) * قال الزمخشري: سبحا: تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك، وقال السمرقندي: سبحا فراغا طويلا تقضي حوائجك فيه، ففرغ نفسك لصلاة الليل. وعن السدي: سبحا طويلا أي: تطوعا كثيرا كأنه جعله من السبحة، وهي النافلة. وقال الزمخشري: أما القراءة بالخاء فاستعارة من: سبخ الصوف، وهو نفشه ونشر أجزائه لانتشار الهم وتفرق القلب بالشواغل، كلفه بقيام الليل، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه، وهو: أن الليل أهون على المواطأة وأشد للقراءة لهدو الرجل وخفوت الصوت، وأنه أجمع للقلب وأهم لنشر الهم من النهار، لأنه وقت تفريق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد. قوله: * (علم أن لن تحصوه) * هذا مرتبط بما قبله، وهو قوله تعالى: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه) * أي: علم الله أن لن تطيقوا قيام الليل، وقيل: الضمير المنصوب فيه يرجع إلى مصدر مقدر، أي: علم أن لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاق عليكم بالغ منكم. قوله: * (فتاب عليكم) * عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر. قوله: * (فاقرأوا ما تيسر) * قال الزمخشري: عبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد: فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل، وهذا ناسخ للأول، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس، وقيل: هي قراءة القرآن بعينها. قيل: يقرأ مائة آية، ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين. وقيل: خمسين آية، وقد بين الحكمة في النسخ بقوله: * (علم أن سيكون منكم مرضى) * لا يقدرون على قيام الليل * (وآخرون يضربون في الأرض) * يعني: يسافرون في الأرض * (يبتغون من فضل الله) * يعني: في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى: * (وآخرون يقاتلون في سبيل الله) * يعني: يجاهدون في طاعة الله تعالى. قوله: * (فاقرأوا ما تيسر منه) * أي: من القرآن. قيل: في صلاة المغرب والعشاء. قوله: * (وأقيموا الصلاة) * أي: الصلاة المفروضة. * (وآتوا الزكاة) * الواجبة، وقيل: زكاة الفطر، وإنما وجبت بعد ذلك، ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا. قوله: * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * قيل: يريد سائر الصدقات المستحبة، وسماه قرضا تأكيدا للجزاء. وقيل: تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من مال حلال. قوله: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير) * يعني: ما تعملون من الأعمال الصالحة وتتصدقون بنية خالصة * (تجدوه عند الله) * يعني: تجدون ثوابه في الآخرة. قوله: (هو خيرا) * ثاني مفعولي: وجد، وهو فصل، وجاز وإن لم يقع بين معرفتين، لأن أفعل من أشبه في امتناعه من حروف التعريف بالمعرفة. قوله: * (واستغفروا الله) * يعني: أطلبوا من الله لذنوبكم المغفرة، وقيل: استغفروا الله من تقصير وذنب وقع منكم. * (إن الله غفور) * لمن تاب * (رحيم) * لمن استغفر.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نشأ قام بالحبشية
هذا التعليق رواه عبد بن حميد الكجي في (تفسيره) بسند صحيح عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير (عن ابن عباس: * (إن ناشئة الليل) * (المزمل: 6). قال هو بكلام الحبشية: نشأ قام). وأنبأنا عبد الملك بن عمرو عن رافع
190

ابن عمرو عن ابن أبي مليكة: (سئل ابن عباس عن قوله تعالى: * (إن ناشئة الليل) * (المزمل: 6). فقال أي الليل قمت فقد أنشأت) وفي عبد أيضا: عن أبي ميسرة، قال: هو كلام الحبشة: نشأ قام، وعن أبي مالك: قيام الليل بلسان الحبشة: ناشئة، وعن قتادة والحسن وأبي مجلز: كل شيء بعد العشاء: ناشئة، وقال مجاهد: إذا قمت من الليل تصلي فهي ناشئة، وفي رواية: أي ساعة تهجد فيها. وقال معاوية بن قرة: هي قيام الليل. وعن عاصم: ناشئة الليل، مهموزة الياء، وفي (المجاز) لأبي عبيدة: ناشئة الليل ناشئة بعد ناشئة. وفي (المنتهى) لأبي المعالي: ناشئة الليل: أول ساعاته. ويقال: أول ما ينشأ من الليل من الطاعات هي النشيئة. وفي (المحكم): الناشئة أول النهار والليل. وقيل: الناشئة إذا نمت من أول الليل نومة، ثم قمت، وفي (كتاب الهروي): كل ما حدث بالليل وبدا فهو ناشىء، وقد نشأ والجمع: ناشئة.
واختلف العلماء، هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فذهب بعضهم، إلى أن غير العربية موجود في القرآن: كسجيل وفردوس وناشئة، وذهب الجمهور إلى أنه ليس القرآن شيء بغير العربية، وقالوا: ما ورد من ذلك فهو من توافق اللغتين، فعلى هذا لفظ، ناشئة، إما مصدر على وزن: فاعلة، كعاقبة من نشأ إذا قام، أو هو: اسم فاعل، صفة لمحذوف تقديره: النفس الناشئة، كما نقلنا عن الزمخشري عن قريب.
وطاء قال مواطأة القرآن أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه ليواطؤا ليوافقوا
وفي بعض النسخ: وطاء قال مواطأة أي: قال البخاري: معنى: وطأ مواطأة للقرآن، وفي بعض النسخ: مواطأة للقرآن يعني: إن ناشئة الليل، هو أشد مواطاة للقرآن، وهذا التعليق أيضا وصله عبد بن حميد من طريق مجاهد. وقال أشد وطاء، أي: يوافق سمعك وبصرك وقلبك بعضه بعضا، وقد مر الكلام فيه عن قريب. قوله: (ليواطؤا ليوافقوا) هذا من تفسير براءة من قوله تعالى: * (يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله) * (التوبة: 73). الآية، وذكر أن معناه: ليوافقوا، وإنما ذكره ههنا تأكيدا لتفسيره: وطاء، وقد وصله الطبري عن ابن عباس، لكن بلفظ: (ليشابهوا).
1411 عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني محمد بن جعفر عن حميد أنه سمع أنسا رضي الله تعالى عنه يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئا ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته نائما إلا رأيته.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان لإنشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته)، وهو قيام الليل.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: عبد العزيز عبد الله بن يحيى أبو القاسم القرشي العامري. الثاني: محمد بن جعفر بن أبي كثير ضد القليل مر في كتاب الحيض. الثالث: حميد، بضم الحاء: ابن أبي حميد الطويل. الرابع: أنس بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين ماضيا ومضارعا. وفيه: أن شيخه من أفراده، وهو ومحمد بن جعفر مدنيان، وحميد بصري.
وأخرجه البخاري أيضا في الصوم عن عبد العزيز بن محمد به.
ذكر معناه: قوله: (أن لا يصوم منه)، كلمة: أن، مصدرية في محل النصب على أنه مفعول: يظن، قوله: (منه شيئا)، أي: من الشهر شيئا من الصوم، ولفظه: شيئا، في رواية الأصيلي وأبي ذر، وفي رواية غيرهما ليس فيه هذا اللفظ. قوله: (وكان) أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: (ولا نائما) أي: ولا تشاء أن تراه من الليل نائما إلا رأيته نائما.
والذي يستفاد من هذا الحديث: أن صلاته ونومه صلى الله عليه وسلم كان يختلف بالليل، ولا يترتب وقتا معينا بل بحسب ما تيسر له القيام. فإن قلت: يعارضه حديث عائشة: (كان إذا سمع الصارخ قام). قلت: عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخبرت بحسب ما اطلعت عليه، لأن صلاة الليل غالبا كانت تقع منه في البيت، وخبر أنس محمول على ما وراء ذلك.
تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر عن حميد
أي: تابع محمد بن جعفر عن حميد سليمان ذكر خلف أنه ابن بلال أبو أيوب، ويقال: أبو محمد القرشي التيمي ولاء.
191

قوله: (وأبو خالد) عطف عليه، أي: وتابع محمد بن جعفر عن حميد أبو خالد سليمان بن حبان الملقب بالأحمر، وهكذا وقع في جميع النسخ، بواو العطف، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون سليمان هو ابن بلال، ويحتمل أن تكون الواو زائدة فإن أبا خالد الأحمر اسمه سليمان. قلت: هذا كلام غير موجه، لأن زيادة: واو، العطف نادرة، بخلاف الأصل، سيما الحكم بذلك بالاحتمال فلا يلزم من كون اسم أبي خالد سليمان أن يكون سليمان المعطوف عليه إياه. وقال الكرماني: وفي بعض النسخ: وأبو خالد بالواو، فلا بد أن يقال: سليمان المذكور غير سليمان المكنى بأبي خالد، ولولاه لكان شخصا واحدا مذكورا بالاسم والكنية والصفة، أما متابعة سليمان فقال البخاري في كتاب الصوم في: باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم: حدثني عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن جعفر عن حميد (عن أنس أن أنسا يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر...) الحديث، وفي آخره قال سليمان عن حميد إنه سأل أنسا في الصوم، وأما متابعة أبي خالد فقد ذكرها البخاري في كتاب الصيام، ونذكر ما فيها إن شاء الله تعالى.
21
((باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصل بالليل))
أي: هذا باب في بيان عقد الشيطان على قافية رأس النائم إذا نام، ولم يصل، وقافية الرأس: قفاه، وقافية كل شيء آخره، قاله الأزهري وغيره.
2411 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فان توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.
(الحديث 2411 طرفه في: 9623).
اعترض بأنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة، لأن الحديث مطلق والترجمة مقيدة، وأجيب: بأن مراده أن استدامة العقد إنما يكون على ترك الصلاة، وجعل من صلى وانحلت عقده كمن لم يعقد عليه لزوال أثره، وقال بعضهم: يحتمل أن تكون الصلاة المنفية في الترجمة صلاة العشاء، فيكون التقدير: إذا لم يصل العشاء، فكأنه يرى أن الشيطان إنما يفعل ذلك لمن نام قبل صلاة العشاء، بخلاف من صلاها، ولا سيما في الجماعة. انتهى. قلت: قوله: (إذا لم يصل) أعم من أن لا يصلي العشاء أو غيرها من صلاة الليل، ولا قرينة لتقييدها بالعشاء، وظاهر الحديث يدل على أن العقد يكون عند النوم، سواء صلى قبله أو لم يصل، ويؤيد هذا ما رواه ابن زنجويه في كتاب الفضائل من حديث أبي لهيعة عن أبي عشانة، سمع عقبة بن عامر يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقوم أحدكم من الليل يعالج طهوره وعليه عقد، فإذا وضأ يده انحلت عقدة، فإذا وضأ وجهه انحلت عقدة، فإذا مسح برأسه انحلت عقدة، فإذا وضأ رجليه انحلت عقدة). ومن حديث ابن لهيعة أيضا عن أبي الزبير (عن جابر، رضي الله تعالى عنه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليس في الأرض نفس من ذكر وأنثى إلا وعلى رأسه جرير معقدة، فإن استيقظ فتوضأ انحلت عقدة، وإن استيقظ وصلى حلت العقد كلها، وإن لم يصل ولم يتوضأ أصبحت العقد كما هي). والجرير: بفتح الجيم: الحبل. وفي (كتاب الثواب) لآدم بن أبي إياس العسقلاني، من حديث الربيع بن صبيح: عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد ينام إلا وعلى رأسه ثلاث عقد، فإن هو تعار من الليل فسبح الله وحمده وهلله وكبره حلت عقدة، وإن عزم الله له فقام وتوضأ وصلى ركعتين حلت العقد كلها، وإن لم يفعل شيئا من ذلك حتى يصبح أصبح والعقد كلها كما هي).
ذكر رجاله: وهم خمسة، كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز،. والحديث أخرجه أبو داود أيضا.
192

ذكر معناه: قوله: (يعقد الشيطان) الكلام في العقد والشيطان. أما العقد فقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو على الحقيقة بمعنى السحر للإنسان، ومنعه من القيام كما يعقد الساحر من سحره، وأكثر ما يفعله النساء تأخذ إحداهن الخيط فتعقد منه عقدا وتتكلم عليها بالكلمات فيتأثر المسحور عند ذلك، كما أخبر الله تعالى في كتابه الكريم * (ومن شر النفاثات في العقد) * (الفلق: 4). فالذي خذل يعمل فيه والذي وفق يصرف عنه، والدليل على كونه على الحقيقة ما رواه ابن ماجة ومحمد بن نصر من طريق صالح عن أبي هريرة مرفوعا: (على قافية رأس أحدكم حبل فيه ثلاث عقد)، وروى أحمد من طريق الحسن عن أبي هريرة بلفظ: (إذا نام أحدكم عقد على رأسه بجرير)، وروى ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر مرفوعا: (ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد)، وقال بعضهم: هو على المجاز كأنه شبه فعل الشيطان بالنائم بفعل الساحر بالمسحور، وقيل: هو من عقد القلب وتصميمه فكأنه يوسوس بأن عليك ليلا طويلا فيتأخر عن القيام بالليل، وقال صاحب (النهاية): المراد منه تثقيله في النوم وإطالته، فكأنه قد سد عليه سدا وعقد عليه عقدا. وقال ابن بطال: قد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، معنى العقد بقوله: (عليك ليل طويل)، فكأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ. وقال ابن بطال أيضا: ورأيت لبعض من فسر هذا الحديث العقد الثلاث هي: الأكل والشرب والنوم. وقال ألا يرى أنه من أكثر الأكل والشرب أنه يكثر النوم لذلك؟ واستبعد بعضهم هذا القول لقوله في الحديث: (إذا هو نام)، فجعل العقد حينئذ، وقال ابن قرقول: هو مثل، واستعاره من عقد بني آدم، وليس المراد العقد نفسها، ولكن لما كان بنو آدم يمنعون بعقدهم ذلك تصرف من يحاول فيما عقده كأن هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يحب من ذكر الله تعالى والصلاة.
وأما الشيطان: فيجوز أن يراد به الجنس، ويكون فاعل ذلك القرين أو غيره من أعوان الشيطان. وقال بعضهم: يحتمل أن يراد به رأس الشياطين وهو إبليس لعنه الله. قلت: يعكر عليه شيئان أحدهما: أن النائمين عن قيام الليل كثير لا يحصى، فإبليس لا يلحقهم بذلك إلا أن يكون جواز نسبة ذلك إليه لكونه آمرا لأعوانه بذلك، وهو الداعي إليه والآخر: أن مردة الشياطين يصفدون في شهر رمضان وأكبرهم إبليس عليه اللعنة.
قوله: (على قافية رأس أحدكم) أي: مؤخر عنقه، وقد ذكرنا أن قافية كل شيء مؤخره، ومنه قافية القصيدة، وفي (المحكم): القافية: هي القفا، وقيل: هي وسط الرأس. قوله: (إذا هو نام)، أي: حين نام، ورواية الأكثرين هكذا: (إذا هو نام)، وفي رواية الحموي والمستملي (إذا هو نائم) على وزن اسم الفاعل، وقال بعضهم: والأول أصوب وهو الذي في (الموطأ) قلت: رواية (الموطأ) لا تدل على أن ذلك أصوب، بل الظاهر أن رواية المستملي أصوب لأنها جملة اسمية والخبر فيها اسم. قوله: (ثلاث عقد) كلام إضافي منصوب لأنه مفعول لقوله: (يعقد)، والعقد، بضم العين وفتح القاف: جمع عقدة. قوله: (يضرب على كل عقدة) وفي رواية المستملي: (على مكان كل عقدة)، وفي رواية الكشميهني: (عند مكان كل عقدة)، وفي رواية الكشميهني: (عند مكان كل عقدة)، ومعنى يضرب، يضرب بيده على كل عقدة، ذكر هذا تأكيدا وإحكاما لما يفعله، وقيل: يضرب بالرقاد، ومنه قوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم في الكهف) * (الكهف: 11). ومعناه: حجب الحس عن النائم حتى لا يستيقظ. قوله: (عليك ليل طويل) أي: يضرب قائلا: عليك ليل طويل، ووقع في جميع روايات البخاري هكذا: (
ليل طويل) بالرفع فيهما، فارتفاع: ليل، بالابتداء، و: عليك، خبره مقدما وارتفاع: طويل، بالوصفية. ويجوز أن يكون ارتفاع: ليل، بفعل محذوف وتقديره: بقي عليك ليل طويل، والجملة مقول القول المحذوف، أي: يضرب كل عقدة قائلا هذا الكلام، ووقع في رواية أبي مصعب في (الموطأ) عن مالك: (عليك ليلا طويلا)، وهي رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد في رواية مسلم. قال عياض: رواية الأكثرين عن مسلم بالنصب على الإغراء. وقال القرطبي: الرفع أولى من جهة المعنى لأنه الأمكن في الغرور من حيث إنه يخبره عن طول الليل: ثم يأمره بالرقاد بقوله: (فارقد)، وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذ يكون قوله: (فارقد) ضائعا. قلت: لا نسلم أنه يكون ضائعا، بل يكون تأكيدا ثم إن مقصود الشيطان بذلك تسويفه بالقيام والإلباس عليه. قوله (فذكر الله انحلت عقدة) بالإفراد وكذلك قوله: (فإن توضأ انحلت عقدة) بالإفراد. وقوله: (فإن صلى انحلت عقدة) بضم العين بلفظ الجمع هذا الاخلاف فيه في رواية البخاري ووقع لبعض رواة الموطأ بالإفراد وذكر ابن قرقول انه اختلف في الأخيرة منها، فوقع في رواية (الموطأ) لابن وضاح
193

انحلت عقد) على الجمع، وكذا ضبطناه في البخاري وفي غيرهما: (عقدة)، وكلاهما صحيح، والجمع أولى لا سيما وقد جاء مسلم في الأولى: عقدة وفي الثانية: عقدان، وفي الثالثة: انحلت العقد. قوله: (أصبح نشيطا) أي: لسروره بما وفقه الله تعالى من الطاعة وطيب النفس لما بارك الله له في نفسه وتصرفه في كل أموره، وبما زال عنه من عقد الشيطان. قوله: (وإلا أصبح خبيث النفس) يعني: بتركه ما كان اعتاده أو نواه من فعل الخير. قوله: (كسلان) يعني: ببقاء أثر تثبيط الشيطان عليه. قال الكرماني: واعلم أن مقتضى (وإلا أصبح) أن من لم يجمع الأمور الثلاثة: الذكر والوضوء والصلاة، فهو داخل تحت من يصبح خبيثا كسلان وإن أتى ببعضها. قلت: فعلى هذا تقدير الكلام: وإن لم يذكر ولم يتوضأ ولم يصل يصبح خبيث النفس كسلان.
الأسئلة والأجوبة منها ما قيل: إن أبا بكر وأبا هريرة، رضي الله تعالى عنهما، كانا يوتران أول الليل وينامان آخره؟ وأجيب: بأن المراد: الذي ينام ولا نية له في القيام، وأما من صلى من النافلة ما قدر له ونام بنية القيام فلا يدخل في ذلك، وقال صاحب (التوضيح): بدليل قوله، صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صلاة). ذكره ابن التين قلت: روى ابن حبان في (صحيحه) في: باب من نوى أن يصلي من الليل، من حديث شعبة، قال أبو ذر وأبو الدرداء، شك شعبة: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يحدث نفسه بقيام ساعة من الليل فينام عنها إلا كان نومه صدقة تصدق الله بها عليه وكتب له أجر ما نوى).
ومنها ما قيل: في هذا الحديث ما يعارض قوله، صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم خبثت نفسي؟) وأجيب: بأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهة لتلك الكلمة، وهذا الحديث وقع ذما لفعله، ولكل من الخبرين وجه، وقال الباجي: ليس بين الحديثين اختلاف لأنه نهي عن إضافة ذلك إلى النفس، لكون الخبث فمعنى فساد الدين، ووصف بعض الأفعال بذلك تحذيرا منها وتنفيرا.
ومنها ما قيل: ما فائدة تقييد العقد بالثلاث؟ وأجيب: بأنه أما تأكيد وإما لأن ما ينحل به العقد ثلاثة أشياء: الذكر والوضوء والصلاة، فكان الشيطان منع عن كل واحد منها بعقدة عقدها على قافيته.
ومنها ما قيل: ما وجه تخصيص قافية الرأس بضرب العقد عليها. وأجيب بأنها محل الواهمة ومحل تصرفها، وهي أطوع القوى للشيطان وأسرعها إجابة لدعوته.
ومنها ما قيل: أنه قد يظن أن بين هذا الحديث وبين ما رواه البخاري وغيره أن قارىء آية الكرسي عند نومه لا يقربه شيطان تعارض؟ وأجيب: بأن المراد من العقد إن كان أمرا معنويا، ومن القرب أمرا حسيا أو بالعكس، فلا إشكال، وإن كان كلاهما معنويا أو بالعكس فيكون أحدهما مخصوصا، والأقرب أن يكون حديث الباب مخصوصا بمن لم يقرأ آية الكرسي لطرد الشيطان.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الذكر يطرد الشيطان، وكذا الوضوء والصلاة، ولا يتعين للذكر شيء مخصوص لا يجزئ غيره، بل كل ما يصدق عليه، ذكر الله تعالى أجزأه، ويدخل فيه تلاوة القرآن، وأولى ما يذكر فيه ما سيجيء في: باب فضل من تعار من الليل، إن شاء الله تعالى فإن قلت: كيف حكم الجنب؟ فهل تحل عقدته بالوضوء؟ قلت: لا تحل إلا بالاغتسال وتخصيص الوضوء بالذكر لكونه الغالب، والتيمم يقوم مقامهما عند جوازه، والله أعلم.
3411 حدثنا مؤمل بن هشام قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا عوف قال حدثنا أبو رجاء قال حدثنا سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
.
زعم الإسماعيلي أن حديث سمرة هذا لا يدخل في هذا الباب لأن رفض القرآن ليس ترك الصلاة بالليل. قلت: حفظ شيئا وغاب عنه ما هو أعظم منه، ففي الحديث: (وينام عن الصلاة المكتوبة)، والمراد منها العشاء الآخرة، فأي مناسبة تطلب بأكثر من هذا؟
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: مؤمل، بلفظ اسم المفعول: ابن هشام البصري ختن شيخه إسماعيل بن علية، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين. الثاني: إسماعيل بن علية، بضم العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وفتح اللام، وعلية اسم أمه، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن سهم الأسدي البصري، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة ببغداد. الثالث: عوف الأعرابي، مر في: باب اتباع الجنائز من الإيمان. الرابع: أبو رجاء، بخفة الجيم وبالمد: اسمه عمران بن ملحان العطاردي.
194

الخامس: سمرة بن جندب، بفتح الدال وضمها، مر في آخر كتاب الحيض.
ذكر لطائف إسناده: فيه: الإسناد كله بصيغة التحديث في صورة الجمع. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون. وفيه: سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنعنة. وفيه:
القول في أربعة مواضع. وفيه: إسماعيل مذكور باسم أمه. وفيه: عوف مذكور بغير نسبة. وفيه: أبو رجاء مذكور بكنيته.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري مقطعا في مواضع، وتمامه يأتي في أواخر كتاب الجنائز، وأخرجه في البيوع والجهاد وبدء الخلق والأدب وأحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وفي التفسير وفي التعبير. وأخرجه مسلم في الرؤيا عن محمد بن بشار وبندار مختصرا كما ههنا. وأخرجه الترمذي فيه عن بندار به مختصرا. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر عن عوف بتمامه وفي التفسير عن جماعة عن عوف بأكثر الحديث.
ذكر معناه: قوله: (يثلغ)، بضم الياء آخر الحروف وسكون الثاء المثلثة وفتح اللام وبالغين المعجمة أي: يكسر، قال الجوهري: أي ثلغ رأسه يثلغه، بفتح اللام فيهما: ثلغا أي: شدخه، والشدخ: كسر الشيء الأجوف. قلت: كلمة: أما، لا بد لها من قسيم فما هو ههنا؟ قلت: قد قلت لك أن البخاري قد قطع هذا الحديث، وسيأتي تمامه في: باب الجنائز، كما ذكرنا. قوله: (فيرفضه)، بضم الفاء وكسرها أي: يترك حفظه والعمل به، وأما الذي يترك حفظ حرفه ويعمل بمعاني فليس برافض له، وأما الذي يرفض كليهما فذاك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة في موضع المعصية. قوله: (وينام عن الصلاة)، يعني ذاهلا عنها حتى يخرج وقتها وتفوت منه. قوله: (المكتوبة) أي: المفروضة، وأراد بها: صلاة العشاء. وقيل: أراد بها صلاة الصبح لأنها التي تبطل بالنوم.
31
((باب إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه))
أي: هذا باب يذكر فيه إذا نام... إلى آخره. ووقعت هذه الترجمة للمستملي وحده، وللباقين: باب، فقط من غير ذكر شيء، فكأنه بمنزلة فصل للباب السابق، وتعلقه به ظاهر، وهو في قوله في الحديث السابق: (وينام عن الصلاة المكتوبة)، وهنا في قوله: ما زال نائما حتى أصبح).
4411 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا منصور عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال بال الشيطان في أذنه.
(الحديث 4411 طرفه في: 0723).
مطابقته للباب في رواية الأكثرين ظاهرة، وفي رواية المستملي أظهر.
ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا غير مرة، وأبو الأحوص: سلام بن سليم، ومنصور ابن المعتمر، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار كذلك في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بصري، وأبو الأحوص ومنصور وأبو وائل كوفيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في صفة إبليس عن عثمان بن أبي شيبة، وأخرجه مسلم في الصلاة عن عثمان وإسحاق كلاهما عن جرير به. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق وعن عمرو بن علي عن عبد العزيز عبد الصمد عنه به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن الصباح عن جرير به.
ذكر معناه: قوله: (فقيل: ما زال نائما) أي: قال رجل ممن كان في المجلس: ما زال هذا الرجل نائما حتى أصبح. وفي رواية جرير عن منصور في بدء الخلق: (رجل نام ليلة حتى أصبح). قوله: (ما قام إلى الصلاة)، اللام فيه للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، ويراد بها المكتوبة، وهو الظاهر كما قال سفيان الثوري حيث قال: هذا عندنا نام عن الفريضة. وأخرج ابن حبان من طريق سفيان، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا علي بن حرب أخبرنا الهاشم بن يزيد الحرمي عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص (عن عبد الله، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح
195

قال: بال الشيطان في أذنه). قوله: (في أذنه) بضم الذال وسكونها، وفي رواية جرير: (في أذنيه)، بالتثنية. واختلفوا في معنى قوله: (بال الشيطان)، فقيل: هو على حقيقته. قال القرطبي: لا مانع من حقيقته لعدم الإحالة فيه لأنه ثبت أنه يأكل ويشرب وينكح، فلا مانع من أن يبول. وقال الخطابي: هو تمثيل، شبه تثاقل نومه وإغفاله عن الصلاة بحال من يبال في أذنه فيثقل سمعه ويفسد حسه. قال: وإن كان المراد حقيقة عين البول من الشيطان نفسه فلا ينكر ذلك إن كانت له هذه الصفة. وقال الطحاوي: هو استعارة عن تحكمه فيه وانقياده له. وقال التوريشتي: يحتمل أن يقال: إن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل فأحدث في أذنه وقرا عن استماع دعوة الحق، وقيل: هو كناية عن استهانة الشيطان والاستخفاف به، فإن من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه لأنه من شدة استخفافه به يتخذه كالكنيف المعد للبول. وقال ابن قتيبة: معناه أفسد، يقال: بال في كذا أي: أفسد، والعرب تكنى عن الفساد بالبول. قال الراجز:
* بال سهيل في الفضيخ ففسد
*
ووقع في رواية الحسن عن أبي هريرة في هذا الحديث عند أحمد، قال الحسن: إن بوله والله لثقيل، وروى محمد بن نصر من طريق قيس ابن أبي حازم (عن ابن مسعود: حسب رجل من الخيبة والشر أن ينام حي يصبح وقد بال الشيطان في أذنه)، وهو موقوف صحيح الإسناد. فإن قلت: لم خص الأذن بالذكر والعين أنسب بالنوم؟ قلت: قال الطيبي: إشارة إلى ثقل النوم، فإن المسامع هي موارد الانتباه، وخص البول من الأخبثين لأنه أسهل مدخلا في التجاويف وأوسع نفوذا في العروق فيورث الكسل في جميع الأعضاء.
41
((باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل))
أي: هذا باب في بيان الدعاء في الصلاة من آخر الليل، وهو الثلث الأخير منه. قوله: (في الصلاة)، بكلمة: في، رواية أبي ذر، وفي رواية غيره، باب الدعاء والصلاة، بحرف: واو، العطف.
وقال الله عز وجل * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * أي ما ينامون * (وبالأسحار هم يستغفرون) * (الذاريات: 71، 81).
وفي رواية الأصيلي: وقول الله، عز وجل، فعلى هذه تكون هذه الآية الكريمة من جملة الترجمة على ما لا يخفى، وزاد الأصيلي بعد قوله: * (ما يهجعون) * (الذاريات: 71، 81). أي: ما ينامون، يقال: هجع يهجع هجوعا، وهو: النوم بالليل دون النهار، ورجل هاجع من قوم هجع وهجوع، وامرأة هاجعة من نسوة هجع وهواجع وهاجعات. وفي (المحكم): قد يكون الهجوع بين نوم، وقوم هجع وهجوع ونساء هجع وهجوع وهواجع وهاجعات جمع الجمع. وقال أبو عمرو: الهاجع كل نائم. وفي (الكامل): التهجاع النومة الخفيفة.
5411 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن أبي شهاب عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له.
مطابقته للترجمة ظاهرة وهي أن الترجمة في الدعاء في آخر الليل، والحديث يخبر أن من دعا في ذلك الوقت يستجيب الله تعالى دعاءه.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعنبي. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن. الخامس: أبو عبد الله الأغر، بالغين المعجمة وتشديد الراء: واسمه سلمان الثقفي والأغر لقبه. السادس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم مدنيون، غير أن ابن سلمة سكن البصرة. وفيه: ابن شهاب مذكور بنسبته إلى جده. وفيه: ثلاثة مذكورون بالكنية وواحد
196

منهم باللقب أيضا. وفيه: اختلف علي ابن شهاب، فرواه عنه مالك وحفاظ أصحابه كما هو المذكور ههنا، واقتصر بعضهم في الرواية عنه على أحد الرجلين، وقال بعض أصحاب مالك: عن سعيد بن المسيب بدل أبي سلمة، وأبي عبد الله الأغر، ورواه أبو داود الطيالسي: عن إبراهيم بن سعد عن الزهري، فقال: الأعرج بدل الأغر، ورواه أبو داود الطيالسي: عن إبراهيم بن سعد عن الزهري، فقال: الأعرج بدل الأغر. قيل: هذا تصحيف. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة صحيح، وقد روي هذا الحديث من أوجه كثيرة عن أبي هريرة (عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل الله تعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وهذا أصح الروايات.
وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: وقد روى في ذلك خمس روايات. أصحها: ما صححه الترمذي، وقد اتفق عليها مالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وشعيب بن أبي حمزة ومعمر بن راشد ويونس بن يزيد ومعاذ بن يحيى الصدفي وعبيد الله بن أبي زياد وعبد الله بن زياد بن سمعان وصالح بن أبي الأخضر، كلهم عن ابن شهاب عن أبي سلمة وأبي سلمة وأبي عبد الله، إلا أن ابن سمعان وابن أبي الأخضر لم يذكرا أبا سلمة في الإسناد، وزاد ابن أبي الأخضر بدله: عطاء بن يزيد الليثي، كلهم عن أبي هريرة، وهكذا رواه الأعمش: عن أبي صالح عن أبي هريرة، ومحمد ابن عمرو: عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ويحيى بن أبي كثير: عن أبي جعفر عن أبي هريرة. وقد قيل: إن أبا جعفر هذا هو محمد بن علي بن الحسين.
الرواية الثانية: هي ما رواه الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه (عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول..) الحديث، وهكذا في رواية منصور وشعبة عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد عند مسلم.
الرواية الثالثة: حين يبقى نصف الليل الآخر، وهي رواية إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهكذا رواية حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه بلفظ: (إذا كان شطر الليل..) الحديث، وكذا في رواية ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن عطاء عن أبي هريرة: (إذا مضى شطر الليل).
الرواية الرابعة: التقييد بالشطر أو الثلث الأخير إما على الشك أو وقوع هذا مرة وهذا مرة، وهي رواية سعيد، بن مرجانة (عن أبي هريرة: ينزل الله تعالى شطر الليل أو ثلث الليل الآخر)، وهكذا في رواية الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أو ثلث الليل الآخر.
الرواية الخامسة: لتقييد بمضي نصف الليل أو ثلثه، وهي رواية عبيد الله بن عمر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: (إذا مضى نصف الليل أو ثلث الليل)، وكذا في رواية محمد بن جعفر بن أبي كثير عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: (إذا ذهب ثلث الليل أو نصفه).
فإن قلت: كيف طريق الجمع بين هذه الروايات التي ظاهرها الاختلاف؟ قلت: أما رواية من لم يعين الوقت فلا تعارض بينها وبين من عين، وأما من عين الوقت واختلفت ظواهر رواياتهم فقد صار بعض العلماء إلى الترجيح، كالترمذي على ما ذكرنا، إلا أنه عبر بالأصح، فلا يقتضي تضعيف غير تلك الرواية لما تقتضيه صيغة: أفعل، من الاشتراك. وأما القاضي عياض فعبر في الترجيح بالصحيح، فاقتضى ضعف الرواية الأخرى، ورده النووي بأن مسلما رواها في (صحيحه) بإسناد لا يطعن فيه عن صحابيين، فكيف يضعفها؟ وإذا أمكن الجمع ولو على وجه فلا يصار إلى التضعيف. وقال النووي: ويحتمل أن يكون النبي، صلى الله عليه وسلم، أعلم
بأحد الأمرين في وقت فأخبر به، ثم أعلم بالآخر في وقت آخر فأعلم به، وسمع أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، الخبرين فنقلهما جميعا، وسمع أبو سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، خبر الثلث الأول فقط، فأخبريه مع أبي هريرة كما رواه مسلم في الرواية الأخيرة، وهذا ظاهر.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في التوحيد عن إسماعيل بن عبد الله، وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه وفي السنة عن القعنبي. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة. وأخرجه النسائي في النعوت عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به، في اليوم والليلة عن أبي داود الحراني. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني.
ذكر من أخرجه من غير أبي هريرة: قال الترمذي، بعد أن أخرج هذا الحديث عن أبي هريرة: وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وأبي سعيد ورفاعة الجهني وجبير بن مطعم وابن مسعود وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص. قلت: وفي الباب، عن جابر بن عبد الله وعبادة بن
197

الصامت وعقبة بن عامر وعمرو بن عنبسة وأبي الخطاب وأبي بكر الصديق وأنس بن مالك وأبي موسى الأشعري ومعاذ ابن جبل وأبي ثعلبة الخشني وعائشة وابن عباس ونواس بن سمعان وأمه سلمة وجد عبد الحميد بن سلمة.
أما حديث علي، رضي الله تعالى عنه، فأخرجه الدارقطني في كتاب (السنة) من طريق محمد بن إسحاق عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء الآخرة إلى ثلث الليل، فإنه إذا مضى ثلث الليل الأول هبط الله إلى السماء الدنيا فلم يزل هناك حتى يطلع الفجر، فيقول القائل: ألا سائل يعطى سؤاله؟ ألا داع يجاب؟) ورواه أحمد في (مسنده)، ورواه الدارقطني أيضا من طريق أهل البيت من رواية الحسين بن موسى بن جعفر عن أبيه عن جده جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل في كل ليلة جمعة من أول الليل إلى آخره إلى سماء الدنيا، وفي سائر الليالي من الثلث الأخير من الليل فيأمر ملكا ينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل، ويا طالب الشر أقصر). وفي إسناده من يجهل.
وأما حديث أبي سعيد فأخرجه مسلم والنسائي في اليوم والليلة من رواية الأغر أبي مسلم (عن أبي سعيد وأبي هريرة: إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ينزل إلى سماء الدنيا...) الحديث.
وأما حديث رفاعة الجهني، فرواه ابن ماجة من رواية عطاء بن يسار عنه قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا ذهب من الليل نصفه أو ثلثاه، قال: لا يسأل عن عبادي غيري) الحديث، ورواه النسائي في اليوم والليلة عنه.
وأما حديث جبير بن مطعم فرواه النسائي في اليوم والليلة عنه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) ورواه أحمد في (مسنده) من هذا الوجه وزاد: (حتى يطلع الفجر).
وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد من رواية أبي إسحاق الهمداني عن أبي الأحوص عن ابن مسعود: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله، عز وجل، إلى سماء الدنيا، ثم تفتح أبواب السماء، ثم يبسط يده فيقول: هل من سائل يعطى سؤاله؟ ولا يزال كذلك حتى يسطع الفجر).
وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني في (معجمه الكبير) و (الوسط) من رواية زياد بن محمد الأنصاري عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت، وينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن لا يكون معه فيها إلا الأنبياء والشهداء والصديقون، وفيها ما لم يره أحد ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له حتى يطلع الفجر؟ قال الله تعالى: * (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * (الإسراء: 87). فيشهده الله وملائكته)، قال الطبراني: وهو حديث منكر.
وأما حديث عثمان بن أبي العاص فرواه أحمد والبزار من رواية علي بن زيد عن الحسن عن عثمان ابن أبي العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينادي مناد كل ليلة: هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، ورواه الطبراني في (الكبير) بلفظ: (تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد...) فذكره.
وأما حديث جابر فرواه الدارقطني في (كتاب السنة) وأبو الشيح ابن حبان أيضا في (كتاب السنة) من رواية عبد الرحمن بن كعب بن مالك (عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا لثلث الليل فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له؟ ألا مقتر عليه فأرزقه؟ ألا مظلوم يستعز بي فأنصره؟ ألا عان
1764; يدعوني فأفك عنه؟ فيكون ذاك مكانه حتى يضيء الفجر، ثم يعلو ب (ربنا عز وجل إلى السماء العليا على كرسيه)، وهو حديث منكر، في إسناده محمد بن إسماعيل الجعفري، يرويه عن عبد الله بن سلمة بن أسلم، بضم اللام، والجعفري منكر الحديث، قاله أبو حاتم، وعبد الله بن سلمة ضعفه الدارقطني، وقال أبو نعيم: متروك.
وأما حديث عبادة بن الصامت فرواه الطبراني في (المعجم الكبير) و (الأوسط) من رواية يحيى بن إسحاق (عن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا، تبارك وتعالى، إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، فيقول: ألا عبد من عبادي؟...) الحديث نحو حديث جابر، وفي آخره، حتى يصبح
198

الصبح ثم يعلو، عز وجل، على كرسيه)، وفي إسناده فضيل بن سليمان النميري، وهو وإن أخرج له الشيخان فقد قال فيه ابن معين ليس بثقة.
وأما حديث عقبة بن عامر فرواه الدارقطني من رواية يحيى بن أبي كثير عنه، قال: (أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا مضى ثلث الليل، أو قال نصف الليل، ينزل الله عز وجل، إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدا غيري)، قال الدارقطني: وفيه نظر.
وأما حديث عمرو بن عنبسة فرواه الدارقطني أيضا في (كتاب السنة) من رواية جرير بن عثمان، قال: حدثنا سليم بن عامر بن عمرو بن عنبسة، قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله..) الحديث، وفيه: (إن الرب، عز وجل، يتدلى من جوف الليل)، زاد في رواية الآخر: (فيغفر إلا ما كان من الشرك)، زاد في رواية: (والبغي والصلاة مشهودة حتى تطلع الشمس).
وأما حديث أبي الخطاب فرواه عبد الله بن أحمد في (كتاب السنة) بإسناده (عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو الخطاب، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر، فقال: أحب إلي أن أوتر نصف الليل، إن الله يهبط من السماء العليا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مذنب؟ هل من مستغفر؟ هل من داع؟ حتى إذا طلع الفجر ارتفع). قال أبو أحمد الحاكم وابن عبد البر أبو الخطاب، له صحبة ولا يعرف اسمه.
ذكر معناه: قوله: (ينزل)، بفتح الياء، فعل مضارع: والله، مرفوع به. وقال ابن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بضم الياء من: ينزل، يعني: من الإنزال. وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين. وكذا قال القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك فيكون معدى إلى مفعول محذوف، أي: ينزل الله ملكا. قال: والدليل على صحة هذا ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله، عز وجل، يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع فيستجاب له..؟) الحديث، وصححه عبد الحق وحمل صاحب (المفهم) الحديث على النزول المعنوي على رواية مالك عنه عند مسلم، فإنه قال فيها: (يتنزل ربنا)، بزيادة: تاء، بعد: ياء المضارعة، فقال: كذا صحت الرواية هنا، وهي ظاهرة في النزول المعنوي وإليها يرد (ينزل)، على أحد التأويلات، ومعنى ذلك أن مقتضى عظمة الله وجلاله واستغنائه أن لا يعبأ بحقير ذليل فقير، لكن ينزل بمقتضى كرمه ولطفه لأن يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم، ويكون قوله: (إلى السماء الدنيا)، عبارة عن الحالة القريبة إلينا، والدنيا بمعنى: القربى، والله أعلم.
ثم الكلام هنا على أنواع. الأول: احتج به قوم على إثبات الجهة لله تعالى، وقالوا: هي جهة العلو، وممن قال بذلك: ابن قتيبة وابن عبد البر، وحكي أيضا عن أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، وأنكر ذلك جمهور العلماء لأن القول بالجهة يؤدي إلى تحيز وإحاطة، وقد تعالى الله عن ذلك.
الثاني: أن المعتزلة أو أكثرهم: كجهم بن صفوان وإبراهيم بن صالح ومنصور بن طلحة والخوارج، أنكروا صحة تلك الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهو مكابرة، والعجب أنهم أولوا ما ورد من ذلك في القرآن وأنكروا ما ورد في الحديث إما جعلا وإما عنادا. وذكر البيهقي في (كتاب الأسماء والصفات): عن موسى بن داود، قال: قال لي عباد ابن عوام، قدم علينا شريك بن عبد الله منذ نحو من خمسين سنة، قال: فقل: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث؟ قال: فحدثني نحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم عمن أخذوا؟ وقد وقع بين إسحاق بن راهويه وبين إبراهيم بن صالح المعتزلي، وبينه وبين منصور بن طلحة أيضا منهم كلام، بعضه عند عبد الله بن طاهر بن عبد الله المعتزلي، وبعضه عند أبيه طاهر بن عبد الله. قال إسحاق بن راهويه: جمعني وهذا المبتدع، يعني إبراهيم بن صالح، مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها، فقال إبراهيم: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء. قال: فرضي عبد الله كلامي وأنكر علي آبراهيم، وقد أخذ إسحاق كلامه هذا من الفضيل بن عياض، رحمه الله، فإنه قال: إذا قال الجهمي: أنا أكفر برب ينزل ويصعد، فقلت: آمنت برب يفعل ما يشاء، ذكره أبو الشيخ ابن حبان في (كتاب السنة) ذكر فيه: عن أبي زرعة، قال: هذه الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، قد رواه عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عندنا صحاح قوية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل) ولم يقل: كيف ينزل، فلا نقول: كيف ينزل؟ نقول، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى البيهقي في (كتاب الأسماء والصفات) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد بن أحمد بن عبد الله المزني يقول:
199

حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه، وهو قوله: * (وجاء ربك والملك صفا صفا) * (الفجر: 22). الثالث: أن قوما أفرطوا في تأويل هذه الأحاديث حتى كاد أن تخرج إلى نوع من التحريف، ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبا مستعملا في كلام العرب، وبين ما يكون بعيدا مهجورا، وأولوا في بعض وفوضوا في بعض، ونقل ذلك عن مالك.
الرابع: أن الجمهور سلكوا في هذا الباب الطريق الواضحة السالمة، وأجروا على ما ورد مؤمنين به منزهين لله تعالى عن التشبيه والكيفية، وهم: الزهري والأوزاعي وابن المبارك ومكحول وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والليث بن سعد وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم من أئمة الدين. ومنهم الأئمة الأربعة: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد. قال البيهقي في (كتاب الأسماء والصفات): قرأت بخط الإمام أبي عثمان الصابوني، عقيب حديث النزول: قال الأستاذ أبو منصور يعني الجمشاذي: وقد اختلف العلماء في قوله: (ينزل الله)، فسئل أبو حنيفة فقال: بلا كيف، وقال حماد بن زيد: نزوله إقباله. وروى البيهقي في (كتاب الاعتقاد) بإسناده إلى يونس بن عبد الأعلى، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: لا يقال للأصل: لم ولا كيف، وروى بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: الأصل كتاب أو سنة أو قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الناس قلت: لا شك أن النزول انتقال الجسم من فوق إلى تحت، واا منزه عن ذلك، فما ورد
من ذلك فهو من المتشابهات، فالعلماء فيه على قسمين: الأول: المفوضة: يؤمنون بها ويفوضون تأويلها إلى الله، عز وجل، مع الجزم بتنزيهه عن صفات النقصان. والثاني: المؤولة: يؤولون بها على ما يليق به بحسب المواطن، فأولوا بأن معنى: ينزل الله: ينزل ى مره أو ملائكته، وبأنه استعارة، ومعناه: التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحو ذلك، وقال الخطابي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، مذهب السلف فيه الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقال القاضي البيضاوي، لما ثبت بالقواطع العقلية أنه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع أعلى إلى ما هو أخفض منه، فالمراد دنو رحمته، وقد روي: يهبط الله من السماء العليا إلى السماء الدنيا، أي: ينتقل من مقتضى صفات الجلال التي تقتضي الأنفة من الأراذل وقهر الأعداء والانتقام من العصاة إلى مقتضى صفات الإكرام للرأفة والرحمة والعفو، ويقال: لا فرق بين المجيء والإتيان والنزول إذا أضيف إلى جسم يجوز عليه الحركة والسكون والنقلة التي هي تفريغ مكان وشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا ليق به الانتقال والحركة، كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته تعالى. فالنزول: لغة، يستعمل لمعان خمسة مختلفة: بمعنى الانتقال: * (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) * (الفرقان: 84). و: الإعلام * (نزل به الروح الأمين) * (الشعراء: 391). أي: أعلم به الروح الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم، وبمعنى: القول * (سأنزل مثل ما أنزل الله) * (الأنعام: 39). أي سأقول مثل ما قال، والإقبال على الشيء، وذلك مستعمل في كلامهم جار في عرفهم، يقولون: نزل فلان من مكارم الأخلاف إلى دنيها، ونزل قدر فلان عند فلان إذا انخفض، وبمعنى: نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا في خير وعدل حتى نزل بنا بنو فلان، أي: حكم، وذلك كله متعارف عند أهل اللغة: وإذا كانت مشتركة في المعنى وجب حمل ما وصف به الرب، جل جلاله، من النزول على ما يليق به من بعض هذه المعاني، وهو: إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستيقاظ بالتذكير والتنبيه الذي يلقى في القلوب، والزواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة. ووجدناه، تعالى، خص بالمدح المستغفرين بالأسحار، فقال تعالى: * (وبالأسحار هم يستغفرون) * (الذاريات: 81)
[/ ح.
قوله: (عز وجل)، وفي بعض النسخ: (تبارك وتعالى)، وهما جملتان معترضتان بين الفعل والفاعل وظرفه: لما أسند ما لا يليق إسناده بالحقيقة إلى الله تعالى، وأتى بما يدل على التنزيه على سبيل الاعتراض. قوله: (حين يبقى ثلث الليل الآخر)، وعند مسلم: (ثلث الليل الأول)، وفي لفظ: (شطر الليل أو ثلث الليل الأخير)، وههنا ست روايات: الأولى: هي التي ههنا وهي: ثلث الليل الأول. الثانية: إذا مضى الثلث الأول. الثالثة: الثلث الأول أو النصف. الرابعة: النصف. الخامسة: النصف أو الثلث الأخير. السادسة: الإطلاق، والمطلقة منها تحمل على المقيدة، والتي بحرف الشك، فالمجزوم به مقدم على المشكوك فيه. فإن قلت: إذا كانت كلمة: أو، للترديد بين حالين، كيف يجمع بذلك بين الروايات؟ قلت: يجمع بأن ذلك يقع بحسب اختلاف الأحول، لكون أوقات الليل تختلف في الزمان وفي الآفاق باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم وتأخره عنه آخرين، وقد مر الكلام فيه من وجه آخر عن قريب. فإن قلت: ما وجه التحصيص بالثلث الأخير الذي
200

رجحه جماعة على غيره من الروايات المذكورة؟ قلت: لأنه وقت التعرض لنفحات رحمة الله تعالى، لأنه زمان عبادة أهل الإخلاص، وروى أن آخر الليل أفضل للدعاء والاستغفار، وروى محارب بن دثار عن عمه أنه كان يأتي المسجد في السحر ويمر بدار ابن مسعود، فسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي، فسئل ابن مسعود عن ذلك؟ فقال: إن يعقوب صلى الله عليه وسلم أخر الدعاء لبنيه إلى السحر. فقال: * (سوف استغفر لكم) * (يوسف: 89). وروى أن داود صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام: أي الليل أسمع؟ فقال: لا أدري، غير أن العرش يهتز في السحر. قوله: (الآخر)، بكسر الخاء المعجمة وارتفاعه على أنه صفة للثلث. قوله: (من يدعوني) المذكور ههنا الدعاء والسؤال والاستغفار، والفرق بين هذه الثلاثة أن المطلوب: إما لدفع المضرة، وإما لجلب الخير، والثاني إما ديني أو دنياوي، ففي لفظ الاستغفار إشارة إلى الأول، وفي السؤال إشارة إلى الثاني وفي الدعاء إشارة إلى الثالث. وقال الكرماني: فإن قلت: ما الفرق بين الدعاء والسؤال؟ قلت: المطلوب إما لدفع غير الملائم، وإما لجلب الملائم، وذلك إما دنيوي وإما ديني، فالاستغفار وهو طلب ستر الذنوب، إشارة إلى الأول، والسؤال إلى الثاني، والدعاء إلى الثالث، لا والدعاء ما لا طلب فيه نحو قولنا: يا الله يا رحمن، والسؤال هو الطلب، والمقصود واحد، واختلاف العبارات لتحقيق القضية وتأكيدها. قوله: (فأستجيب له)، يجوز فيه النصب والرفع: أما النصب فعلى جواب الاستفهام، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فأنا أستجيب له، وكذا الكلام في قوله: فأعطيه فأغفر له). وأعلم أن السين في: (فأستجيب) ليس للطلب، بل هو بمعنى: أجيب وذلك، لتحول الفاعل إلى أصل الفعل نحو: استحجر الطين فإن قلت: ليس في وعد الله خلف وكثير من الداعين لا يستجاب لهم؟ قلت: إنما ذاك لوقوع الخلل في شرط من شروط الدعاء مثل: الاحتراز في المطعم والمشرب والملبس، أو لاستعجال الداعي، أو يكون الدعاء بإثم أو قطيعة رحم، أو تحصل الإجابة ويتأخر المطلوب إلى وقت آخر يريد الله وقوع الإجابة فيه إما في الدنيا وإما في الآخرة.
51
((باب من نام أول الليل وأحيا آخره))
أي: هذا باب في بيان شأن من نام أول الليل وأحي آخره بالصلاة أو بقراءة القرآن أو بالذكر.
وقال سلمان لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما نم فلما كان من آخر الليل قال قم قال النبي صلى الله عليه وسلم صدق سلمان
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن سلمان الفارسي أمر لأبي الدرداء بالنوم في أول الليل، ويالقيام في آخره، وهذا التعليق مختصر من حديث طويل أورده البخاري في كتاب
الأدب من حديث أبي جحيفة، قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، أقرى سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة، فقال لها: ما شأنك، قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام فذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصلينا، فقال سلمان: إن لربك عليك حقا. ولنفسك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان).
6411 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة وحدثني سليمان قال حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كان صلاة النبي بالليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب فإن كان به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج.
مطابقته للترجمة في قوله: (كان ينام أوله ويقوم آخره).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي.
201

الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث سليمان بن حرب الواشحي. الرابع: أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبد الله. الخامس: الأسود بن يزيد. السادس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السؤال. وفيه: القول في موضعين. وفيه: شيخان للبخاري كلاهما بصريان وشعبة واسطي وأبو إسحاق والأسود كوفيان. وفيه: حدثنا أبو الوليد: وفي رواية أبي ذر قال أبو الوليد: وهذا يدل على شيئين: أحدهما: أنه معلق. والثاني: أن سياق البخاري الحديث على لفظ سليمان بن حرب، والتعليق وصله الإسماعيلي عن أبي خليفة عن أبي الوليد.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه الترمذي في الشمائل عن بندار. وأخرجه النسائي في الصلاة عن محمد بن المثنى، كلاهما عن غندر عن شعبة، وأخرجه مسلم: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق (ح) وحدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا أبو خيثمة (عن أبي إسحاق قال: سألت الأسود بن يزيد عما حدثته عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان ينام أول الليل ويحيي آخره، ثم إن كانت له حاجته ثم ينام، فإذا كان عند النداء الأول قالت: وثب، ولا والله ما قالت: قام، فأفاض عليه الماء، ولا والله ما قالت: اغتسل، وأنا أعلم ما تريد، وإن لم يكن جنبا توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى ركعتين.
ذكر معناه: قوله: (فإن كان له حاجة قضى حاجته)، يعني: الجماع، وجواب: إن الذي هو جزاء الشرط محذوف، تقديره: فإن كانت له حاجة قضى حاجته. وقوله: (اغتسل)، ليس بجواب، وإنما هو يدل على المحذوف، وفي رواية مسلم الجواب مذكور كما تراه، وقال الإسماعيلي: هذا حديث يغلط في معناه الأسود، فإن الأخبار الجياد: (كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وأمر بذلك من سأله). قيل: لم يرد الإسماعيلي بهذا أن حديث الباب غلط، وإنما أراد أن أبا إسحاق حدث به عن الأسود بلفظ آخر غلط فيه، والذي أنكره الحفاظ على أبي إسحاق في هذا الحديث هو ما رواه الثوري عنه بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء). وقال الترمذي: يرون هذا غلطا من أبي إسحاق.
ومما يستفاد منه: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام جنبا قبل أن يغتسل. وفيه: الاهتمام في العبادة والإقبال عليها بالنشاط، ولفظة الوثوب تدل عليه. قال الكرماني: وكلمة: الفاء، تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقضي حاجته من نسائه بعد إحياء الليل، وهو الجدير به صلى الله عليه وسلم إذ العبادة مقدمة على غيرها.
61
((باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره))
أي: هذا باب في بيان قيام النبي صلى الله عليه وسلم، أي: صلاته بالليل في رمضان أي: في ليالي رمضان وغيره.
7411 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سعيد المقبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمان أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه البخاري أيضا في الصوم عن إسماعيل، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن القعنبي. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي، وأخرجه الترمذي فيه عن إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى. وأخرجه النسائي عن قتيبة بن سعيد وعن محمد بن سلمة والحارث
202

بن مسكين.
ذكر من أخرجه من غير عائشة: وفي هذا الباب عن أنس وجابر بن عبد الله وحجاج بن عمرو وحذيفة وزيد بن خالد وصفوان بن المعطل وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب والفضل بن عباس ومعاوية ابن الحكم السلمي وأبي أيوب وخباب وأم سلمة وصحابي لم يسم. أما حديث أنس: فرواه الطبراني في (الأوسط) من رواية جنادة بن مروان، قال: حدثنا الحارث بن النعمان، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى الليل بثمان ركعات ركوعهن كقراءتهن وسجودهن كقراءتهن، ويسلم بين كل ركعتين، وجنادة اتهمه أبو حاتم. وأما حديث جابر فرواه أحمد والبزار وأبو يعلى من رواية شرحبيل بن سعد أنه سمع جابر بن عبد الله قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية)، وفيه: (ثم صلى بعدها) أي: بعد العتمة، (ثلاث عشرة سجدة)
وشرحبيل وثقه ابن حبان وضعفه غير واحد. وأما حديث حجاج بن عمرو فرواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) من رواية كثير بن العباس عنه، قال: (أيحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلي حتى يصبخ أن قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة، تلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما حديث حذيفة، فرواه محمد بن نصر في (كتاب قيام الليل) من رواية عبد الملك بن عمير عن ابن عم حذيفة (عن حذيفة، قال: قمت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات..) الحديث. وأما حديث زيد بن خالد، فرواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي في الشمائل من رواية عبد الله بن قيس بن مخرمة (عن زيد بن خالد الجهني، أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة). وأما حديث صفوان بن المعطل فرواه أحمد في زياداته على المسند والطبراني في (الكبير) من رواية أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث (عن صفوان بن المعطل السلمي، قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر..) الحديث، وفي آخره: (حتى صلى إحدى عشرة ركعة). وأما حديث عبد الله بن عباس فرواه الأئمة الستة، فرواه البخاري ذكره في: باب كيف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث عبد الله بن عمر فرواه النسائي في (سننه) وابن ماجة من رواية عامر الشعبي، قال: (سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهم، عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فقالا: ثلاث عشرة، منها ثمان بالليل ويوتر بثلاث وركعتين بعد الفجر). وأما حديث علي بن أبي طالب، فرواه أحمد في زياداته على المسند من رواية أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة (عن علي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ست عشرة ركعة سوى المكتوبة)، وإسناده حسن. وأما حديث الفضل بن عباس فرواه أبو داود من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب (عن الفضل بن عباس، قال: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يصلي، فقام فتوضأ وصلى ركعتين قيامة مثل ركوعه وركوعه مثل سجوده، ثم نام فذكره، وفيه: فلم يزل يفعل هذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام فصلى سجدة واحدة فأوتر بها). وأما حديث معاوية بن الحكم فرواه الطبراني في (الكبير) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن معاوية بن الحكم قال مثل حديث مالك في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة، واضطجاعه على شقه الأيمن. وأما حديث أبي أيوب فرواه أحمد والطبراني في (الكبير) من رواية واصل بن السائب عن أبي سورة (عن أبي أيوب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل صلى أربع ركعات فلا يتكلم ولا يأمر بشيء ويسلم من كل ركعتين). وأما حديث خباب بن الأرت فرواه النسائي من رواية عبد الله بن خباب عن أبيه، وكان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه راقب رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة كلها حتى كان مع الفجر، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته جاءه خباب فقال: (يا رسول الله بأبي أنت وأمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنها صلاة رغب ورهب). وأما حديث أم سلمة فرواه أبو داود والترمذي في فضائل القرآن والنسائي من رواية ابن أبي مليكة (عن يعلى بن مالك أنه سأل أم سلمة، رضي الله تعالى عنها، عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: وما لكم وصلاته؟ كان يصلي وينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما يصلي حتى يصبح)، ولأم سلمة حديث آخر رواه البخاري وسيأتي في أبواب الوتر. وأما حديث الرجل الذي لم يسم
203

فرواه النسائي من رواية حميد بن عبد الرحمن: (أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت وأنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرمقن رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة حتى أرى فعله)، الحديث: (ثم قام فصلى حتى قلت: صلى قدر ما نام، ثم اضطجع حتى قلت: قد نام قدر ما صلى، ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة، وقال مثل ما قال، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار قبل الفجر).
ذكر معناه: قوله: (في رمضان)، أي: في ليالي رمضان، قوله: (فلا تسأل عن حسنهن)، معناه: هن في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيان لظهور حسنهن وطولهن عن السؤال عنهن والوصف. قوله: (أربعا) أي: أربع ركعات. قوله: (أتنام؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار والاستعلام. قوله: (ولا ينام قلبي) ليس فيه معارضة لما مضى في: باب الصعيد الطيب وضوء المسلم، أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى فاتت صلاة الصبح، وطلعت الشمس لأن طلوع الشمس متعلق بالعين لا بالقلب، إذ هو من المحسوسات لا من المعقولات.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة شهر رمضان وغيره، وأنه كان إذا عمل عملا أثبته وداوم عليه. وفيه: تعميم الجواب عند السؤال عن شيء لأن أبا سلمة إنما سأل عائشة، رضي الله تعالى عنها، عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان خاصة، فأجابت عائشة بأعم من ذلك، وذلك لئلا يتوهم السائل أن الجواب مختص بمحل السؤال دون غيره، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه والحل ميته) د لما سأله السائل عن حالة ركوب البحر ومع راكبه ماء قليل يخاف العطش إن توضأ، فأجاب بطهورية ماء البحر حتى لا يختص الحكم بمن هذه حاله، وفي قولها: (يصلي أربعا)، حجة لأبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه، في أن الأفضل في التنفل بالليل أربع ركعات بتسليمة واحدة، وفيه حجة عن منع ذلك كمالك رحمه الله وفي قولها ثم يصلي ثلاثا حجة لاصطحابنا في أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة لأن ظاهر الكلام يقتضي ذلك فلا يعدل عن الظاهر إلا بدليل فإن قلت: قد ثبت إيتار النبي صلى الله عليه وسلم بركعة واحدة، وثبت أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن شاء أوتر بواحدة) قلت: سلمنا ذلك، ولكنه إن تلك الركعة الواحدة توتر الشفع المتقدم لها، والدليل على ذلك ما رواه البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع وعبد الله بن دينار (عن ابن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى). وسيجئ الكلام في موضعه مستقصى إن شاء الله
تعالى، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم لا ينتقض وضوؤه بالنوم لكون قلبه لا ينام، وهذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما ثبت في الصحيح من قوله: (وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم)، وفيه: أن النوم ناقض للطهارة. وفيه: تفصيل قد مر بيانه. وفيه: أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت متساوية في جميع السنة بين ما يستفتح به الصلاة وما بعد ذلك. فإن قلت: في (صحيح مسلم) من حديث عائشة وزيد ابن خالد وأبي هريرة استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين. وثبت أيضا في الصحيح من حديث حذيفة صلاته في أول قيامه من الليل بسورة البقرة وآل عمران؟ قلت: يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل كلا من الأمرين بالتسوية بين الركعات.
الأسئلة والأجوبة منها: أنه ثبت في الصحيح من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم (ان إذا دخل العشر الأواخر يجتهد فيه ما لا يجتهد في غيره)، وفي الصحيح أيضا من حديثها: (كان إذا دخل العشر أحي الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر)، وهذا يدل على أنه كان يزيد في العشر الأخير على عادته، فكيف يجمع بينه وبين حديث الباب؟ فالجواب أن الزيادة في العشر الأخير تحمل على التطويل دون الزيادة في العدد. ومنها: أن الروايات اختلفت عن عائشة في عدد ركعات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، وفي مقدار ما يجمعه منها بتسليم، ففي حديث الباب: إحدى عشرة ركعة، وفي رواية هشام ابن عروة عن أبيه: (كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها)، وفي رواية مسروق: (أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر)، وفي رواية إبراهيم عن الأسود (عن عائشة: أنه كان يصلي بالليل تسع ركعات)، رواه البخاري والنسائي وابن ماجة. والجواب: إن من عدها ثلاث عشرة أراد بركعتي الفجر، وصرح بذلك في رواية القاسم (عن عائشة: كانت صلاته صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر
204

بسجدة ويركع ركعتي الفجر)، فتلك ثلاث عشرة ركعة. وأما رواية سبع وتسع فهي في حالة كبره، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأما مقدار ما يجمعه من الركعات بتسليمه ففي رواية: كان يسلم بين ركعتين ويوتر بواحدة، وفي رواية: (يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها)، وفي رواية: (يصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة)، والجمع بين هذا الاختلاف أنه صلى الله عليه وسلم فعل جميع ذلك في أوقات مختلفة. ومنها: أنه اختلفت أيضا الأحاديث الواردة في هذا الباب في عدد صلاته، ففي حديث زيد بن خالد وابن عباس وجابر وأم سلمة: ثلاث عشرة ركعة، وفي حديث الفضل وصفوان بن المعطل ومعاوية ابن الحكم وابن عمر وإحدى الروايتين عن ابن عباس: إحدى عشرة، وفي حديث أنس: ثمان ركعات، وفي حديث حذيفة: سبع ركعات، وفي حديث أبي أيوب: أربع ركعات، وكذلك في بعض طرق حديث حذيفة، وأكثر ما فيها حديث علي، رضي الله تعالى عنه، ست عشرة ركعة. الجواب: بأن ذلك بحسب ما شاهد الرواة كذلك، فربما زاد وربما نقص، وربما فرق قيام الليل مرتين أو ثلاثا، ومن عد ذلك تسعا أسقط ركعة الوتر، وم زاد على ثلاث عشرة ركعة فيكون قد عد سنة العشاء أو ركعتي الفجر أو عدهما جميعا، وعليه يحمل ما رواه ابن المبارك في (الزهد والرقائق) في حديث مرسل: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل سبع عشرة ركعة.
8411 حدثنا محمد بن المثني قال حدثنا يحيى بن سعيد قال أخبرني أبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالسا حتى إذا كبر قرأ جالسا فإذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن ثم ركع.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (من صلاة الليل)، وهي: قيام الليل الذي سماه في الترجمة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن المثنى بن عبيد، يعرف بالزمن. الثاني: يحيى بن سعيد القطان الأحول. الثالث: هشام بن عروة. الرابع: أبوه عروة بن الزبير بن العوام. الخامس: عائشة أم المؤمنين.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه وشيخ شيخه بصريان وهشام وأبوه مدنيان.
والحديث أخرجه مسلم أيضا عن زهير بن حرب عن يحيى بن سعيد به.
ذكر معناه: قوله: (جالسا) نصب على الحال في موضعين. قوله: (كبر)، بكسر الباء الموحدة أي: أسن، وكان ذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بعام، وأما: كبر، بضم الباء فهو بمعنى: عظم. قوله: (أو أربعون) شك من الراوي.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: في قوله: (حتى إذا بقي عليه...) إلى آخره، رد على من اشترط على من افتتح النفل قاعدا أن يركع قاعدا، وإذا افتتح قائما أن يركع قائما، وهو محكي عن أشهب المالكي. وفيه: جواز النافلة جالسا، واختلف في كيفيته، فعن أبي حنيفة: يقعد في حال القراءة كما يقعد في سائر الصلاة، وإن شاء تربع وإن شاء احتبى، وعن أبي يوسف: يحتبي، وعنه: يتربع إن شاء، وعن محمد: يتربع وعن زفر: يقعد كما في التشهد، وعن أبي حنيفة، في صلاة الليل: يتربع من أول الصلاة إلى آخرها، وعن أبي يوسف: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يقعد في تشهد المكتوبة، وعنه: يركع متربعا. قال في (المغني): الأمران جائزان، جاءا عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما روته عائشة، رضي الله تعالى عنها، والإقعاء مكروه والافتراض عند الشافعية أفضل من التربع على أظهر الأقوال، وفي رواية: ينصب ركبته اليمني كالقارىء بين يدي المقرئ، وعند مالك: يتربع، ذكره القرافي في (الذخيرة) وفي (المغني): عند أحمد يقعد متربعا في حال القيام، ويثني رجليه في الركوع والسجود. وقال: القعود في حق النبي صلى الله عليه وسلم كالقيام في حالة القدرة، تشريفا له وتخصيصا.
71
((باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار))
أي: هذا باب في بيانه فضيلة الطهور، وهو الوضوء بالليل والنهار، وفي رواية الكشميهني: باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار، وفي بعض النسخ: بعد الوضوء، موضع: عند الطهور، وفي بعضها: باب
205

فضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار، وهو الشق الثاني من رواية الكشميهني، وعليه اقتصر الإسماعيلي وأكثر الشراح.
9411 حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا أبو أسامة عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة قال ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذالك الطهور ما كتب لي أن أصلي.
مطابقته للترجمة لا تتأتى إلا في الشق الثاني من رواية الكشميهني، وهو قوله: (وفضل الصلاة عند الطهور بالليل والنهار).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: إسحاق بن نصر، وهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر، فالبخاري يروي عنه في (الجامع) في غير موضع، لكنه تارة يقول: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن نصر، وتارة يقول: حدثنا إسحاق بن نصر فينسبه إلى جده. الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة. الثالث: أبو حيان، بتشديد الياء آخر الحروف: واسمه يحيى بن سعيد، ووقع في (التوضيح): يحيى بن حيان وهو غلط. الرابع: أبو زرعة، اسمه هرم بن جرير بن عبد الله البجلي. الخامس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: ذكر الراوي باسم جده. وفيه: ثلاثة من الرواة مذكورون بالكنية وآخر من الصحابة. وفيه: أن شيخه بخاري وأبو أسامة وأبو حيان وأبو زرعة كوفيون.
وقال المزي في (الأطراف): أخرجه مسلم في الفضائل عن عبيد بن يعيش وأبي كريب محمد بن العلاء، كلاهما عن أبي أسامة، وعن محمد بن عبد الله بن نمير عن أبيه عن أبي حيان به، وأخرجه النسائي في المناقب عن محمد بن عبد الله المخزومي عن أبي أسامة به.
ذكر معناه: قوله: (قال لبلال)، هو: ابن رباح المؤذن. قوله: (في صلاة الفجر)، إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام، لأن عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يقص ما رآه غيره من أصحابه بعد صلاة الفجر، على ما يأتي في كتاب التعبير. قوله: (بأرجى عمل) أرجى: على وزن: أفعل التفضيل، بمعنى المفعول، لا بمعنى الفاعل، وأضيف إلى العمل لأنه الداعي إليه. وهو السبب فيه. قوله: (في الإسلام) وفي رواية مسلم: (حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة)، قوله: (فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) وفي رواية مسلم: (فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي) قوله: (في الجنة)، وفي رواية الإسماعيلي: (حفيف نعليك)، وفي رواية الحاكم على شرط الشيخين: (يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟) دخلت البارحة فسمعت خشخشتك أمامي)، وعند أحمد والترمذي. (فإني سمعت خشخشة نعليك) والخشخشة الحركة التي لها صوت كصوت السلاح، وفي رواية ابن السكن: دوي نعليك)، بضم الدال المهملة، يعني: صوتهما. وأما الدف فهو، بفتح الدال المهملة وتشديد الفاء. قال ابن سيده: الدفيف، سير لين، دف يدف دفيفا، ودف الماشي على وجه الأرض إذا جد، ودف الطائر وأدف: ضرب جنبيه بجناحيه. وقيل: هو إذا حرك جناحيه ورجلاه في الأرض. وزعم أبو موسى المديني في (المغيث): أن حديث بلال هذا: (سمعت دف نعليك) أي: حفيفهما، وما يحس من صوتهما عند وطئهما، وذكره صاحب (التتمة) بالذال المعجمة، وأصله: السير السريع، وقد يقال: دف نعليك، بالدال المهملة ومعناهما: قريب. قوله: (أني) بفتح الهمزة، وكلمة: من، مقدرة قبلها ليكون صلة أفعل التفضيل، وجاز الفاصلة بالظرف بين أفعل وصلته، هذا ما قاله الكرماني، وتحريره: أن أفعل التفضيل لا يستعمل في الكلام إلا بأحد الأشياء الثلاثة وهي: الألف واللام، والإضافة، وكلمة: من. وههنا لفظ: (أرجى)، أفعل التفضيل كما قلنا، وهي خالية عن هذه الأشياء فقدر كلمة: من، تقديره: ما عملت عملا أرجىء من أني لم أتطهر طهورا، أي: لم أتوضأ وضوءا، وهو يتناول الغسل أيضا. قوله: وجاز الفاصلة بالظرف، أراد بالفاصلة هنا قوله: (عندي) فإنه ظرف فصل به بين كلمة: (أرجىء) وبين كلمة: من، المقدرة. فافهم. قوله: (طهورا)، بضم الطاء، وفي رواية مسلم: (طهورا تاما)، ويحترز بالتمام عن الوضوء اللغوي وهو: غسل اليدين، لأنه قد يفعل ذلك لطرد النوم. قوله: (في ساعة)، بالتنوين. قوله:
206

(ليل)، بالجر بدل من: ساعة، وفي رواية مسلم: (من ليل أو نهار). قوله: (ما كتب لي) على صيغة المجهول، وهو جملة في محل النصب، وفي رواية: (ما كتب الله لي)، أي: ما قدر، وهو أعم من الفرض والنفل. قوله: (أن أصلي) في محل الرفع على رواية البخاري، وعلى رواية مسلم في محل النصب. ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان، لقول بلال: إنه ما عمل عملا أرجى منه. وفيه: دليل على أن الله تعالى يعظم المجازاة على ما يسر به العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد، وقد استحب ذلك العلماء ليدخرها وليبعدها عن الرياء. وفيه: فضيلة الوضوء وفضيلة الصلاة عقيبه لئلا يبقى الوضوء خاليا عن مقصوده. وفيه: فضيلة بلال، رضي الله تعالى عنه، فلذلك بوب عليه مسلم حيث قال: باب فضائل بلال بن رباح مولى أبي بكر، رضي الله تعالى عنهما، ثم روى الحديث المذكور. وفيه: سؤال الصالحين عن عمل تلميذه ليحضه عليه ويرقبه فيه إن كان حسنا وإلا فينهاه. وفيه: أن الجنة مخلوقة موجودة الآن، خلاف ومنهم: لمن أنكر ذلك من المعتزلة. وفيه: ما استدل به البعض على جواز هذه الصلاة في الأوقات المكروهة، وهو عموم قوله: (في ساعة)، بالتنكير أي: في كل ساعة، ورد بأن الأخذ بعموم هذا ليس بأولى من الأخذ بعموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. وقال ابن التين: ليس فيه ما يقتضي الفورية فيحمل على تأخير الصلاة قليلا ليخرج وقت الكراهة، أو أنه كان يؤخر الطهور إلى خروج وقت الكراهة، واعترض بعضهم بقوله: لكن عند الترمذي وابن خزيمة من حديث بريدة في نحو هذه
القضية: (ما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده)، ولأحمد من حديثه: (ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين)، فدل على أنه كان يعقب الحدث بالوضوء، والوضوء بالصلاة في أي وقت كان. انتهى قلت: حديث بريدة الذي رواه الترمذي ذكره الترمذي في مناقب عمر ابن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قال: حدثنا الحسين بن حريث أبو عمار المروزي، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، قال: (حدثني أبو بريدة، قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالا. فقال: يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي؟ قال، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي، فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من العرب. فقلت: أنا عربي، لمن هذا القصر، قالوا: لرجل من قريش، فقلت: أنا قرشي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: أنا محمد، لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. فقال بلال: يا رسول الله: ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها، ورأيت أن لله علي ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بهما). وأما جواب هذا المعترض فما مر ذكره الآن، وهو قولنا: ورد بأن الأخذ بعموم هذا... إلى آخره، ويجوز أن تكون أخبار النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة بعد هذا الحديث.
الأسئلة والأجوبة: منها ما قاله الكرماني: فإن قلت: هذا السماع لا بد أن يكون في النوم، إذ لا يدخل أحد الجنة إلا بعد الموت؟ قلت: يحتمل كونه في حال اليقظة، وقد صرح في أول كتاب الصلاة أنه: دخل فيها ليلة المعراج. انتهى. قلت: في كلاميه تناقض لا يخفى لأنه ذكر أولا أن دخوله صلى الله عليه وسلم الجنة في حال اليقظمة محتمل، ثم قال ثانيا: فالتحقيق أنه دخلها ليلة المعراج، والأوجه أن يقال: إن قوله: لا يدخل أحد الجنة إلا بعد الموت، ليس على عمومه، أو نقول: هذا على عمومه ولكنه في حق من كان من عالم الكون والفساد والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاوز السماوات السبع وبلغ إلى سدرة المنتهى خرج من أن يكون من أهل هذا العالم، فلا يمتنع بعد هذا دخوله الجنة قبل الموت، وقد تفردت بهذا الجواب. ومنها ما قيل: كيف يسبق بلال النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة، والجنة محرمة على من يدخل فيها قبل دخوله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب فيما ذكره الكرماني بقوله: وأما بلال فلم يلزم منه أنه دخل فيها، إذ في الجنة طرق السماع والدف بين يديه، وقد يكون خارجا عنها. واستبعد بعضهم هذا الجواب بقوله: لأن السياق يشعر بإثبات فضيلة بلال لكونه جعل السبب الذي بلغه إلى ذلك ما ذكره من ملازمة التطهر والصلاة، وإنما تثبت له الفضيلة بأن يكون رئي داخل الجنة لا خارجا عنها، ثم أكد كلامه بحديث بريدة المذكور. قلت: التحقيق فيه أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الجنة حق، لأن رؤيا الأنبياء حق. وقال الترمذي: ويروى أن رؤيا
207

الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وحي. وأما سبق بلال النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول في هذه الصورة فليس هو من حيث الحقيقة، وإنما هو بطريق التمثيل لأن عادته في اليقظة أنه كان يمشي أمامه، فلذلك تمثل له في المنام، ولا يلزم من ذلك السبق الحقيقي في الدخول. ومنها ما قيل: إن دخول بلال الجنة وحصول هذه المنقبة له إنما كان بسبب تطهره عند كل حدث وصلاته عند كل وضوء بركعتين، كما صرح به في آخر حديث بريدة، بقوله: (بهما)، أي: بالتطهر عند كل حدث والصلاة بركعتين عند كل وضوء، وقد جاء: (إن أحدكم لا يدخل الجنة بعمله؟) قلت: أصل الدخول برحمة الله تعالى، وزيادة الدرجات والتفاوت فيها بحسب الأعمال، وكذا يقال في قوله تعالى: * (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) * (النحل: 23).
81
((باب ما يكره من التشديد في العبادة))
أي: هذا باب في بيان كراهة التشديد، وهو تحمل المشقة الزائدة في العبادة، وذلك لمخافة الفتور والإملال، ولئلا ينقطع المرء عنها، فيكون كأنه رجع فيما بذله من نفسه وتطوع به.
0511 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال ما هاذا الحبل قالوا هاذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فعتر فليقعد.
مطابقته للترجمة وهو إنكاره صلى الله عليه وسلم على فعل زينب في شدها الحبل لتتعلق عند الفتور.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين، واسمه عبد الله بن عمرو المنقري المقعد. الثاني: عبد الوارث بن سعيد التنوري أبو عبيدة. الثالث: عبد العزيز بن صهيب البناني الأعمى. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون. وفيه: أن شيخه مذكور بكنيته، وشيخ شيخه مذكور بلا نسبة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن شيبان بن فروخ. وأخرجه النسائي وابن ماجة، كلاهما فيه عن عمران بن موسى، وذكر الحميدي هذا الحديث من أفراد البخاري، وليس كذلك فإن مسلما أيضا أخرجه كما ذكرنا.
ذكر معناه: قوله: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم) أي: المسجد، وكذا في رواية مسلم. قوله: (فإذا حبل) كلمة: إذا، للمفاجأة. قوله: (بين الساريتين) أي: الأسطوانتين، وكأنهما كانتا معهودتين، فلذلك ذكرهما بالألف واللام التي للعهد، وفي رواية مسلم: (بين ساريتين)، بلا ألف ولام. قوله: (لزينب)، ذكر الخطيب في مبهماته أن زينب هذه هي: زينب بنت جحش الأسدية المدنية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي أنزل الله تعالى في شأنها: * (فلما قضى زيد منها وطرا
زوجناكها) * (الأحزاب: 73). ماتت سنة عشرين، وتبعه الكرماني، وذكره هكذا. وقال صاحب (التوضيح): أن ابن أبي شيبة رواه كذلك، وليس في (مسنده) ولا في (مصنفه) غير ذكر زينب مجردة، وروى أبو داود هذا الحديث عن شيخين له، عن إسماعيل بن علية فقال أحدهما: زينب، ولم ينسبها، وقال الآخر: حمنة بنت جحش، وهي أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أحمد من طريق حماد عن حميد عن أنس أنها: حمنة بنت جحش، ووقع في صحيح ابن خزيمة من طريق شعبة عن عبد العزيز فقالوا: ميمونة بنت الحارث، وهي رواية شاذة قلت: لا مانع من تعدد القضية. قوله: (فإذا فترت)، بفتح الفاء والتاء المثناة من فوق، أي: إذا كسلت عن القيام (تعلقت) أي: بالحبل، وفي رواية مسلم: (فإذا فترت أو كسلت) بالشك. قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا) يحتمل أن تكون كلمة: لا، هذه للنفي أي: لا يكون هذا الحبل أو لا يمد، ويحتمل أن تكون للنهي، أي: لا تفعلوه، وسقطت هذه الكلمة في رواية مسلم، قوله: (حلوة) بضم الحاء واللام المشددة، أمر للجماعة من الحل. قوله: (ليصل)، بكسر اللام. قوله: (نشاطه)، بفتح النون، أي: ليصل أحدكم مدة نشاطه، فيكون انتصابه بنزع الخافض. وروى: (بنشاطه)، أي: ملتبسا به. قوله: (فإذا فتر فليقعد)، وفي رواية أبي داود:
208

(فإذا كسل أو فتر فليقعد)، ظاهر السياق يدل على أن المعنى أنه: إذا عيى عن القيام، وهو يصلي فليقعد. فيستفاد منه جواز القعود في أثناء الصلاة بعد افتتاحها قائما. وقال بعضهم: ويحتمل أن يكون أمر بالقعود عن الصلاة، يعني ترك ما عزم عليه من التنفل قلت: هذا احتمال بعيد غير ناشيء عن دليل، وظاهر الكلام ينافيه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق والأمر بالإقبال عليها بنشاطه. وفيه: أنه إذا فتر في الصلاة يقعد حتى يذهب عنه الفتور. وفيه: إزالة المنكر باليد لمن يتمكن منه. وفيه: جواز تنفل النساء في المسجد، فإن زينب كانت تصلي فيه فلم ينكر عليها. وفيه: كراهة التعلق بالحبل في الصلاة. وفيه: دليل على أن الصلاة جميع الليل مكروهة، وهو مذهب الجمهور، وروي عن جماعة من السلف أنه: لا بأس به، وهو رواية عن مالك، رحمه الله تعالى، إذا لم ينم عن الصبح.
1511 قال وقال عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هاذه قلت فلانة لا تنام الليل فذكر من صلاتها فقال مه عليكم ما تطيقون من الأعمال فإن الله لا يمل حتى تملوا.
(أنظر الحديث 34).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو زجرهصلى الله عليه وسلم بقوله: (مه) إلى آخره، فإن حاصل معناه النهي عن التشديد في العبادة، ورجاله على هذا الوجه قد مروا غير مرة، وهذا تعليق رواه في كتاب الإيمان في: باب أحب الدين إلى الله أدومه، وقال: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى عن هشام، قال: أخبرني أبي (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة..) الحديث. قوله: قال عبد الله) هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية الحموي والمستملي: حدثنا عبد الله، وهكذا في (الموطأ) رواية القعنبي. وقال ابن عبد البر: تفرد القعنبي بروايته عن مالك في (الموطأ) دون بقية رواته، فإنهم اقتصروا منه على طرف مختصر، ورواه أبو نعيم من حديث محمد بن غالب عن عبد الله بن مسلمة عن مالك، ووقع في آخره: رواه البخاري، قال: قال عبد الله بن مسلمة، وأسنده الإسماعيلي من طريق يونس عن ابن وهب عن مالك، ورواه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. قوله: (فلانة)، غير منصرف، واسمها: حولاء، بفتح الحاء المهملة وبالمد. وكانت عطارة. قوله: (الليل) نصب على الظرفية، ويروى: (بالليل) أي: في الليل. قوله: (فذكر)، بفاء العطف، و: ذكر، على صيغة المجهول من الماضي، وهو رواية الكشميهني، وفي رواية المستملي: بصيغة المعلوم من المضارع، وفي رواية الحموي على صيغة المجهول للمذكر من المضارع، ولكل واحد منها وجه، فرواية المستملي من قول عروة أو من دونه، وفي رواية الآخرين يحتمل أن يكون من كلام عائشة، وعلى كل حال هو تفسير لقولها: (لا تنام الليل). قوله: (مه)، بفتح الميم وسكون الهاء، ومعناه: أكفف،. قوله: (عليكم)، اسم فعل معناه: الزموا. قوله: (ما تطيقون)، مرفوع أو منصوب به. قوله: (الأعمال) عام في الصلاة وغيرها، وحمله الباجي وغيره على الصلاة خاصة، لأن الحديث ورد فيها، وحمله على العموم أولى. لأن العبرة لعموم اللفظ. قوله: (لا يمل)، بفتح الميم: أي لا يترك الثواب حتى تتركوا العمل بالملل، وهو من باب المشاكلة، وقد مر الكلام فيه في الباب المذكور مستوفى.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الاقتصاد في العبادة والحث عليه. وفيه: النهي عن التعمق. وقال تعالى: * (لا تغلوا في دينكم) * (النساء: 171، المائدة: 77). والله أرحم بالعبد من نفسه وإنما كره التشديد في العبادة خشية الفتور، والملالة. وقال تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 682). وقال: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 87). وفيه: مدح الشخص بالعمل الصالح.
91
((باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه))
أي: هذا باب في بيان كراهة ترك قيام الليل، وهو الصلاة فيه لمن كان له عادة بالقيام، وذلك لأنه يشعر بالإعراض عن العبادة.
2511 حدثنا عباس بن الحسين قال حدثنا مبشر عن الأوزاعي ح وحدثني محمد بن
209

مقاتل أبو الحسن قال أخبرناعبد الله قال أخبرنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمان قال حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان..) إلى آخره.
ذكر رجاله: وهم ثمانية: الأول: عباس، بالباء الموحدة المشددة وبالسين المهملة: ابن الحسين، بالتصغير: أبو الفضل البغدادي القنطري، مات سنة أربعين ومائتين. الثاني: مبشر، بلفظ اسم الفاعل، ضد المنذر ابن إسماعيل الحلبي، مات سنة مائتين. الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع: محمد بن مقاتل أبو الحسن المروزي المجاور بمكة. الخامس: عبد الله بن المبارك. السادس: يحيى بن أبي كثير. السابع: أبو سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف. الثامن: عبد الله بن عمرو بن العاص.
ذكر لطائف إسناده: فيه: إسنادان أحدهما عن عباس والآخر عن محمد بن مقاتل. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: في سياق عبد الله التصريح بالحديث في جميع الإسناد فحصل الأمن من تدليس الأوزاعي وشيخه. وفيه: القول في ستة مواضع. وفيه: أن شيخه عباس بغدادي، ومبشر حلبي، والأوزاعي شامي، ومحمد بن مقاتل وشيخه عبد الله مروزيان ويحيى بن أبي كثير يمامي وطائي، واسم أبي كثير: صالح، وقيل: دينار، وقيل غير ذلك، وأبو سلمة مدني. وفيه: أن البخاري أخرج عن عباس ابن الحسين هنا وفي الجهاد فقط. وفيه: أن شيخه محمد بن مقاتل من أفراد البخاري.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصوم عن أحمد بن يوسف الأزدي عن عمرو بن أبي سلمة به، وأخرجه النسائي في الصلاة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به، وعن الحارث بن أسد عن بشر بن بكر عن الأوزاعي. وأخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي.
ذكر معناه: قوله: (مثل فلان)، لم يدر من هو، والظاهر أن الإبهام من أحد الرواة. وقال بعضهم: وكان إبهام مثل هذا لقصد الستر عليه، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد شيخا معينا، وإنما أراد تنفير عبد الله بن عمرو من الصنيع المذكور. قلت: كل ذلك غير موجه. أما قوله: الستر عليه، فغير سديد، لأن قيام الليل لم يكن فرضا على فلان المذكور، فلا يكون بتركه عاصيا حتى يستر عليه. وأما قوله: ويحتمل إلى آخره، فأبعد من الأول على ما لا يخفى، لأن الشخص إذا لم يكن معينا كيف ينفر غيره من صنيعه؟ وأما قوله: أراد تنفير عبد الله، فكان الأحسن فيه أن يقال: أراد ترغيب عبد الله في قيام الليل حتى لا يكون مثل من كان قائما منه ثم تركه. قوله: (من الليل)، وليس في رواية الأكثرين لفظ: من، موجودا، بل اللفظ: كان يقوم الليل، أي: في الليل، والمراد في جزء من أجزائه فتكون: من، بمعنى: في، نحو قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (الجمعة: 9). أي: في يوم الجمعة.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن العربي: في هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجبا لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل كان يذمه أبلغ الذم، وقال ابن حبان: فيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعه. وفيه: استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط. وفيه: الإشارة إلى كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة.
وقال هشام حدثنا ابن أبي العشرين قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى عن عمر بن الحكم بن ثوبان قال حدثني أبو سلمة بهاذا مثله
هشام: هو ابن عمار الدمشقي الحافظ، خطيب دمشق، مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وهو من أفراد البخاري، واسم ابن أبي العشرين: عبد الحميد بن حبيب ضد العدو كاتب الأوزاعي، كنيته أبو سعيد الدمشقي ثم البيروتي، وقد تكلم فيه غير واحد. ويحيى هو ابن أبي كثير المذكور في السند الأول، وعمر بن الحكم، بفتح الكاف: ابن ثوبان، بفتح الثاء المثلثة وسكون
210

الواو وبالباء الموحدة وبالنون: الحجازي المدني مات سنة سبع عشرة ومائة، وهذا التعليق رواه الإسماعيلي عن ابن أبي حسان ومحمد بن محمد، قالا: حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن أبي العشرين حدثنا الأوزاعي فذكره، وقال صاحب (التوضيح): ومتابعة هشام أسندها الإسماعيلي. قلت: ليس هذا بمتابعة، وإنما هو تعليق كما ذكرناه، وفائدته التنبيه على أن زيادة عمر بن الحكم بن ثوبان بن يحيى وأبي سلمة من المزيد في متصل الأسانيد لأن يحيى قد صرح بسماعه من أبي سلمة ولو كان بينهما واسطة لم يصرح بالتحديث. قوله: (بهذا مثله)، هذا رواية كريمة والأصيلي، وفي رواية غيرهما: بهذا، فقط.
وتابعه عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي
أي: تابع ابن أبي العشرين على زيادة عمر بن الحكم عمرو بن أبي سلمة، بفتح اللام: أبو حفص الشامي، توفي سنة ثنتي عشرة ومائتين، ووصل هذه المتابعة مسلم عن أحمد بن يوسف بن محمد الأزدي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي قراءة، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن ابن الحكم بن ثوبان، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله ابن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل.
02
((باب))
هكذا وقع لفظ: باب، بغير ترجمة، وهو بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله، وقد جرت عادة المصنفين أن يكتبوا بابا في حكم من الأحكام ثم يكتبوا عقيبه فصل فيريدوا به انفصال هذا الحكم عما قبله، ولكنه متعلق به في نفس الأمر.
3511 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمر و عن أبي العباس قال سمعت عبد الله بن عمر و رضي الله تعالى عنهما قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ألم
أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار قلت إني أفعل ذالك قال فإنك إذا فعلت ذالك هجمت عينك ونفهت نفسك وإن لنفسك حقا ولأهلك حقا فصم وأفطر وقم ونم.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم والإفطار والقيام والنوم، ولا شك أنه يقتضي ترك التشديد في ذلك.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: عمرو بن دينار. الرابع: أبو العباس اسمه السائب، بالسين المهملة: ابن فروخ، بفتح الفاء وضم الراء المشددة وبالخاء المعجمة: الشاعر الأعمى. الخامس: عبد الله بن عمرو بن العاص.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن سفيان وعمرا وأبا العباس مكيون، وفيه: عمرو عن أبي العباس، وفي رواية الحميدي، في (مسنده): عن سفيان حدثنا عمرو سمعت أبا العباس.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصوم عن عمرو بن علي وفي أحاديث الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، عن خلاد بن يحيى. وأخرجه مسلم في الصوم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان نحو حديث علي وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وعن محمد بن حاتم وعن عبيد الله بن معاذ وعن أبي كريب. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد عن وكيع وفي بعض النسخ عن قتيبة بدل هناد. وأخرجه النسائي فيه عن علي بن الحسن الدرهمي وعن محمد بن عبد الأعلى وعن إبراهيم بن الحسن وعن محمد بن عبيد الله وعن محمد بن بشار وعن أحمد بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد بالقصة.
ذكر معناه: قوله: (ألم أخبر؟) الهمزة للاستفهام، ولكنه خرج من الاستفهام الحقيقي، فمعناه هنا حمل المخاطب على
211

الإقرار بأمر قد استقر عنده ثبوته. وقوله: (أخبر) على صيغة المجهول لنفس المتكلم وحده. قوله: (أنك) بفتح الهمزة لأنه مفعول ثان للإخبار. قوله: (الليل) منصوب على الظرفية، وكذلك: النهار. قوله: (هجمت)، بفتح الجيم أي: غارت أو ضعف بصرها لكثرة السهر. قوله: (ونفهت)، بفتح النون وكسر الفاء أي: كلت وأعيت، وقيده الشيخ قطب الدين بفتح الفاء، وحكى الإسماعيلي أن أبا يعلى رواه بالتاء المثناة من فوق بدل النون، وقال: إنه ضعيف، وزاد الداودي بعد قوله: (هجمت عينك ونحل جسمك ونفهت نفسك). قوله: (وإن لنفسك حقا) يعني: ما يحتاج إليه من الضرورات البشرية مما أباحه الله إلى الإنسان من الأكل والشرب والراحة التي يقوم بها بدنه لتكون أعون على عبادة ربه. قوله: (ولأهلك حقا) يعني من النظر لهم فيما لا بد لهم من أمور الدنيا والآخرة، والمراد من الأهل الزوجة أو أعم من ذلك ممن تلزمه نفقته، وسيأتي في الصيام زيادة فيه من وجه آخر نحو قوله: (وإن لعينك عليك حقا). وفي رواية: (فإن لزورك عليك حقا)، المراد من الزور: الضيف. قوله: (حقا) في الموضعين بالنصب لأنه اسم: (إن)، وخبره مقدم عليه، وهو رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة بالرفع فيهما، ووجهه أن يكون: (حق)، مرفوعا على الابتداء. وقوله: (لنفسك) مقدما خبره، والجملة خبر إن، واسم إن ضمير الشأن محذوفا، تقديره: إن الشأن لنفسك حق، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشد الناس عذابا يوم القيام المصورون)، الأصل إنه أي: إن الشأن. قوله: (فصم وأفطر) أي: إذا كان الأمر كذلك فصم في بعض الأيام وأفطر في بعضها، وكان هذا إشارة إلى صوم داود صلى الله عليه وسلم. قوله: (وقم): بضم القاف أمر من: قام بالليل. لأجل العبادة أي: في بعض الليل، أو في بعض الليالي. قوله: (ونم)، بفتح النون أمر من النوم أي: في بعض الليل، وهذا كله أمر ندب وإرشاد.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز تحديث المرء بما عزم عليه من فعل الخير. وفيه: تفقد الإمام أمور رعيته كلياتها وجرئياتها، وتعليمهم ما يصلحهم. وفيه: تعليل الحكم لمن فيه أهلية ذلك. وفيه: أن الأولى في العبادات تقديم الواجبات على المندوبات. وفيه: أن من تكلف الزيادة وتحمل المشقة على ما طبع عليه يقع له الخلل في الغالب، وربما يغلب ويعجز. وفيه: الحض على ملازمة العبادة من غير تحمل المشقة المؤدية إلى الترك، لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهيته التشديد لعبد الله بن عمرو على نفسه حض على الاقتصاد في العبادة، كأنه قال له: إجمع بين المصلحتين فلا تترك حق العبادة ولا المندوب بالكلية، ولا تضيع حق نفسك وأهلك وزورك.
12
((باب فضل من تعار من الليل فصلى))
أي: هذا باب في بيان فضل من تعار، وتعار، بفتح التاء المثناة من فوق والعين المهملة وبعد الألف راء مشددة، وأصله: تعارر، لأنه على وزن: تفاعل، ولما اجتمعت الرآن أدغمت إحداهما في الأخرى. وقال ابن سيده: عر الظليم يعر عرارا، وعار معارة وعرارا: صاح، والتعار: السهر والتقلب على الفراش ليلا مع كلام. وفي (الموعب): يقال منه: تعار يتعار، ويقال: لا يكون ذلك إلا مع كلام وصوت، وقال ابن التين: ظاهر الحديث أن تعار: استيقظ، لأنه قال: (من تعار فقال)، فعطف القول بالفاء على تعار، وقيل: تعار تقلب في فراشه، ولا يكون إلا يقظة مع كلام يرفع به صوته عند انتباهه وتمطيه، وقيل: الأنين عند التمطي بأثر الانتباه، وعن ثعلب: اختلف الناس في تعار، فقال قوم: انتبه، وقال قوم: تكلم، وقال قوم: علم، وقال بعضهم: تمطى وأن.
4511 حدثنا صدقة بن الفضل قال أخبرنا الوليد عن الأوزاعي قال حدثني عمير بن هانىء قال حدثني جنادة بن أبي أمية قال حدثني عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير الحمد لله وسبحان الله ولا إلاه إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له فإن توضأ قبلت صلاته.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأنها جزء منه. فإن قلت: ليس في الحديث إلا القبول، والترجمة في فضل الصلاة قلت: إذا قبلت يثبت
212

لها الفضل.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: صدقة بن الفضل أبو الفضل المروزي، مر في كتاب العلم. الثاني: الوليد بن مسلم أبو العباس القرشي الدمشقي، مر في الصلاة. الثالث: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي. الرابع: عمير، بالتصغير، ابن هانىء، بالنون بين الألف والهمزة: الدمشقي العبسي، قال الترمذي: حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا مسلمة بن عمرو، قال: كان عمير بن هانىء يصلي كل يوم ألف سجدة، ويسبح كل يوم مئة ألف تسبيحة، قتل سنة سبع وعشرين ومائة. الخامس: جنادة، بضم الجيم وتخفيف النون: ابن أبي أمية الأزدي ثم الزهراني، ويقال: الدوسي، أبو عبد الله الشامي، واسم أبي أمية: كثير، وقال خليفة: اسمه مالك، له ولأبيه صحبة، ويقال: لا صحبة له، وقال العجلي: شامي تابعي ثقة من كبار التابعين، سكن الأردن. قال الواقدي: مات سنة ثمانين، وكذا قال خليفة. السادس: عبادة بن الصامت، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم شاميون، غير أن شيخه مروزي. وفيه: رواية الصحابي عن الصحابي على قول من يقول بصحبة جنادة. وفيه: رواية التابعي عن الصحابي على قول من يقول: لا صحبة لجنادة. وفيه: أن شيخه من أفراده.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود في الأدب عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي. وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن مصفى. وأخرجه الترمذي في الدعوات عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة. وأخرجه ابن ماجة في الدعاء عن عبد الرحمن بن إبراهيم المذكور.
ذكر معناه: قوله: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: إنه (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي) وروى عنه أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه أنه قال: (من قال ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا أحد عمل أكثر من عمله ذلك). قوله: (الحمد صلى الله عليه وسلم وسبحان الله) زاد في رواية كريمة: (ولا إله إلا الله)، وكذا عند الإسماعيلي، ولم تختلف الروايات في البخاري على تقديم الحمد على التسبيح، وعند الإسماعيلي على العكس، والظاهر أنه من تصرف الرواة. وأخرج مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: (الباقيات الصالحات)، قول العبد ذلك بزيادة: (لا إله إلا الله) وروي عن ابن عباس: (هن): (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) جعلها أربعا. قوله: (ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا) كذا فيه بالشك، ويحتمل أن تكون كلمة: أو، للتنويع، ولكن يعضد الوجه الأول ما عند الإسماعيلي بلفظ: (ثم قال: رب اغفر لي غفر له، أو قال: فدعا استجيب له)، شك الوليد بن مسلم. قوله: (استجيب له) كذا في رواية الأصيلي بزيادة: له، وليس في رواية غيره لفظ: له. قوله: (فإن توضأ قبل صلاته تقديره فإن توضأ وصلى قبلت صلاته، وكذا هو في رواية أبي ذر وأبي الوقت: (فإن توضأ وصلى)، وكذا عند الإسماعيلي، وزاد في أوله: (فإن هو عزم فقم فتوضأ وصلى)، وقال ابن بطال: وعد الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: أن من استيقظ من نومه لهجا لسانه بتوحيد الله والإذعان له بالملك والاعتراف بنعمته يحمده عليها وينزهه عما لا يليق به بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم به العمل ويخلص نيته لربه تعالى.
5511 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال أخبرني الهيثم ابن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وهو يقص في قصصه وهو يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذالك عبد الله بن رواحة
* وفينا رسول الله يتلو كتابه
* إذا انشق معروف من الفجر ساطع
*
* أرانا الهداي بعد العماى فقلوبنا
* به موقنات أن ما قال واقع
*
* يبيت يجافي جنبه عن فراشه
* إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
*
(الحديث 5511 طرفه في: 1516).
213

مطابقته للترجمة في قوله:
* (يبيت يجافي جنبه عن فراشه)
*
لأن مجافاة جنبه عن الفراش وهو إبعاده عنه بسبب التعار، وكان ذلك إما للصلاة وإما للذكر وقراءة القرآن.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: يحيى بن بكير هو يحيى ابن عبد الله بن بكير أبو زكريا. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: يونس بن يزيد. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: الهيثم، بفتح الهاء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة وفي آخره ميم: ابن أبي سنان، بكسر السين المهملة وبالنونين بينهما ألف. السادس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن يحيى والليث مصريان ويونس أيلي وابن شهاب والهيثم مدنيان. وفيه: أن شيخه مذكور بنسبته إلى جده. وفيه: أن الهيثم من أفراده. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأدب عن اصبغ بن الفرج.
ذكر معناه: قوله: (وهو يقص)، جملة اسمية وقعت حالا، أي: الهيثم سمع أبا هريرة حال كونه يقص، من قص يقص قصا وقصصا، بفتح القاف، والقص في اللغة: البيان، والقاص هو الذي يذكر الأخبار والحكايات. قوله: (في قصصه)، بكسر القاف جمع: قصة، ويجوز الفتح، والمعنى: سمع الهيثم أبا هريرة وهو يقص في جملة قصصه أي: مواعظه، التي كان يذكر بها أصحابه، ويتعلق الجار والمجرور بقوله: (سمع). قوله: (وهو يذكر)، جملة حالية أيضا أي: والحال أن أبا هريرة يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (إن أخا لكم) القائل لهذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الهيثم سمع أبا هريرة يقول وهو يعظ، وانجر كلامه إلى أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ما قاله من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخا لكم لا يقول الرفث)، أي: الباطل من القول والفحش، إنما قال ذلك حين أنشد عبد الرحمن بن رواحة الإبيات المذكورة، فدل ذلك أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، فظهر من ذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا) إنما يراد به الشعر الذي فيه الباطل والهجو من القول لأنه صلى الله عليه وسلم قد نفى عن ابن رواحة بقوله هذه الأبيات قول الرفث، فإذا لم يكن من الرفث فهو في حيز الحق، والحق مرغوب فيه مأجور عليه صاحبه، وقال بعضهم ليس في سياق الحديث ما يشعر بأن ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، بل هو ظاهر أنه كلام أبي هريرة قلت: الذي يستخرج المراد من معنى التركيب على وفق ما يقتضيه من حيث الإعراب يعلم أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة ناقل له، وأنه مدح من النبي صلى الله عليه وسلم لابن رواحة، وبيان: أن من الشعر ما هو حسن وإن كل الشعر ليس بمذموم. قوله: (يعني بذلك) يعني: يريد بقوله: (إن أخا لكم عبد الله ابن رواحة)، وقائل هذا التفسير يحتمل أن يكون الهيثم، ويحتمل أن يكون الزهري، والأول أوجه، وعبد الله بن رواحة، بفتح الراء وتخفيف الواو وفتح الحاء المهملة: ابن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو الأنصاري الخزرجي، من بني الحارث، يكنى أبا محمد، ويقال: أبا رواحة، ويقال: أبا عمرو، وكان بقية بني الحارث من الخزرج، شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول لله صلى الله عليه وسلم إلا الفتح وما بعده لأنه قتل قبله، وهو أحد الأمراء في غزوة مؤتة، وكان سنة ثمان من الهجرة، واستشهد فيها. قوله: (وفينا رسول الله..) إلى آخره، بيان لما قاله عبد الله بن رواحة، والمذكور هنا ثلاثة أبيات، وهي من الطويل، وأجزاؤه ثمانية: وهي: فعولن مفاعيلن.. إلى آخره. (وفينا) أي: بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (يتلو كتابه) أراد به القرآن، والجملة حالية. قوله: (إذا انشق)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي الوقت: (كما انشق). قوله: (معروف) فاعل (انشق). قوله: (ساطع) صفة: لمعروف (ومن الفجر) بيان له، وهو من سطع الصبح إذا ارتفع، وكذا سطعت الرائحة والغبار، وأراد به أنه يتلو كتاب الله وقت انشقاق الوقت الساطع من الفجر. قوله: (الهدى) مفعول ثان. (لأرانا). قوله: (بعد العمى)، أي: بعد الضلالة، ولفظ العمى مستعار منها. قوله: (به) أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (يجافي) أي: يباعد، وهي جملة حالية، ومجافاته جنبه عن الفراش كناية عن صلاته بالليل. قوله: (إذا استثقلت) أي: حين استثقلت بالمشركين (المضاجع) جمع مضجع، وكأنه لمح به إلى قوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) * (السجدة: 61). قوله: (تتجافى) (السجدة: 61). أي: ترتفع وتتنحى * (عن المضاجع) * (السجدة: 61). عن الفرش ومواضع النوم * (يدعون ربهم) * (السجدة: 61). أي: داعين ربهم عابدين له لأجل خوفهم من سخطه
214

وطمعهم في رحمته. وقال ابن عباس: * (تتجافى جنوبهم) * (السجدة: 61). لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود وعلى جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله، وعن مالك بن دينار: سألت أنسا عن قوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم) * (السجدة:). فقال أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * (السجدة: 61). وعن أبي الدرداء والضحاك أنها صلاة العشاء والصبح في جماعة. قوله: * (ينفقون) * (السجدة: 61). أي: يتصدقون، وقيل: يزكون.
تابعه عقيل
أي: تابع يونس عقيل، بضم العين: ابن خالد الأيلي، وفي رواية ابن شهاب: عن الهيثم، ورواية عقيل هذه أخرجها الطبراني في (الكبير) من طريق سلامة بن روح عن عمه عقيل بن خالد عن ابن شهاب، فذكر مثل رواية يونس.
وقال الزبيدي أخبرني الزهري عن سعيد والأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه
الزبيدي، بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الدال المهملة: هو محمد بن الوليد الحمصي. والزهري: هو محمد بن مسلم. وسعيد هو ابن المسيب. والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
وأشار البخاري بهذا إلى أن في الإسناد المذكور اختلافا عن الزهري فإن يونس وعقيلا اتفقا على أن شيخ الزهري فيه هو الهيثم ابن أبي سنان وخالفهما الزبيدي حيث جعل شيخ الزهري فيه سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن هرمز، فالطريقان صحيحان، لأن كلهم حفاظ ثقات، ولكن الطريق الأول أرجح لمتابعة عقيل ليونس، بخلاف طريق الزبيدي.
قوله: (وقال الزبيدي) معلق، وصله البخاري في (التاريخ الصغير) والطبراني في (الكبير) أيضا من طريق عبد الله بن سالم الحمصي عنه، ولفظه (أن أبا هريرة كان يقول في قصصه: إن أخاكم كان يقول شعرا ليس بالرفث، وهو عبد الله بن رواحة..) فذكر الأبيات، قال بعضهم: هو يبين أن قوله في الرواية الأولى من كلام أبي هريرة موقوفا بخلاف ما جزم به ابن بطال. قلت: يحتمل أن أبا هريرة لما كان في أثناء وعظه أجرى ذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم في مدح عبد الله بن رواحة، ولكنه طوى إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيرا ما كانت الصحابة يفعلون هكذا، فمثل هذا، وإن كان موقوفا في الصورة، ففي الحقيقة هو موصول.
6511 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال رأيت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة إستبرق فكأني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت إليه ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار فتلقاهما ملك فقال لم ترع خليا عنه. فقصت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم إحدى رؤياي فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل. وكان عبد الله رضي الله عنه يصلي من الليل لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا أنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطت في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها من العشر الأواخر.
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: (فكان عبد الله يصلي من الليل)، وكانت صلاته غالبا بعد أن تعار من الليل، فهذا عين الترجمة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي وأيوب هو السختياني.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في التعبير عن معلى بن أسد عن وهيب. وأخرجه مسلم في الفضائل عن خلف بن هشام وأبي الربيع الزهراني وأبي كامل الجحدري، ثلاثتهم عن حماد، وأخرجه الترمذي في المناقب عن أحمد بن منيع عن إسماعيل بن علية. وأخرجه النسائي فيه وفي الرؤيا عن محمد بن يحيى عن أحمد بن عبد الله وعن الحارث بن عمير، أربعتهم عنه به.
215

قوله: (إستبرق)، بفتح الهمزة، وهو الديباج الغليظ فارسي معرب. قوله: (طارت إليه) وفي التعبير بلفظ: (إلا طارت بي إليه)، قوله: (كأن اثنين)، بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة وفتح النون، ويروى: (كأن آتيين) على صيغة اسم الفاعل للتثنية من الإتيان. قوله: (يذهبا بي) من الإذهاب من باب الإفعال، ويروى من الذهاب متعد بحرف الجر، والفرق بينهما أنه لا بد في الثاني من المصاحبة. قوله: (لم ترع) مجهول مضارع الروع، أي: لا يكون بك خوف. قوله: (رؤياي) اسم جنس مضاف إلى ياء المتكلم، ويروى مثنى مضاف إليه مدغم. قوله: (فكان عبد الله يصلي من الليل) كلام نافع. قوله: (وكانوا)، أي: الصحابة، رضي الله تعالى عنهم. قوله: (إنها) أي: ليلة القدر. قوله: (قد تواطت) هكذا في جميع النسخ، وأصله مهموز أي: تواطأت، على وزن: تفاعلت، لكنه سهل، وفي أصل الدمياطي: تواطأت، بالهمز ومعناه: توافقت. قوله: (فليتحرها في العشر الأواخر)، هكذا رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (من العشر الأواخر).
22
((باب المداومة في ركعتي الفجر))
أي: هذا باب في بيان المداومة في ركعتي صلاة الفجر سفرا وحضرا.
9511 حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا سعيد ابن أبي أيوب قال حدثني جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت صلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم صلى ثمان ركعات وركعتين جالسا وركعتين بين النداءين ولم يكن يدعهما أبدا.
(أنظر الحديث 911).
مطابقته في قوله: (ولم يكن يدعهما أبدا). فافهم.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عبد الله بن يزيد، من الزيادة، أبو عبد الرحمن، مر في: باب بين كل أذانين صلاة. الثاني: سعيد بن أبي أيوب، واسم أبي أيوب مقلاص، بكسر الميم وسكون القاف وبالصاد المهملة: مات سنة تسع وأربعين ومائة. الثالث: جعفر بن ربيعة بن شرحبيل القرشي، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ومائة. الرابع: عراك، بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وبالكاف: ابن مالك، مر في: باب الصلاة على الفراش. الخامس: أبو سلمة بن عبد الرحمن. السادس: أم المؤمنين عائشة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه من ناحية البصرة سكن مكة وسعيد مصري وجعفر من أهل مصر وعراك وأبو سلمة مدنيان. قوله: (عن عراك بن مالك عن أبي سلمة) خالفه الليث عن يزيد بن أبي حبيب فرواه عن جعفر بن ربيعة عن أبي سلمة لم يذكر بينهما أحدا، أخرجه أحمد والنسائي، وكأن جعفرا أخذه عن أبي سلمة بواسطة ثم حمله عنه وليزيد شيخ البخاري إسناد آخر فيه، رواه عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة أخرجه مسلم، فكان لعراك فيه شيخان، والذي رواه مسلم من طريق عراك، فقال: حدثني قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا ليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك (عن عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتي
الفجر).
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود في الصلاة عن نصر بن الجهضمي، وجعفر بن مسافر التنيسي كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرى به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن أبيه به.
ذكر معناه: قوله: (ثم صلى)، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (وصلى)، بواو العطف. قوله: (ثمان ركعات)، بفتح النون وهو شاذ وفي أكثر النسخ: (ثماني ركعات) على الأصل. قوله: (جالسا)، نصب على الحال. قوله: (بين النداءين) أي: الأذان للصبح والإقامة، وفي رواية الليث: (ثم يمهل حتى يؤذن بالأولى من الصبح فيركع ركعتين)، ولمسلم من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة (يصلي ركعتين خفيفتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح). قوله: (ولم يكن يدعهما)، أي: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك ركعتي الصبح اللتين بين النداءين، قوله: (أبدا) أي: دائما. قيل: انتصابه على الظرفية بمعنى: دهرا، وقيل: هو موضوع على النصب كما في طرا وقاطبة.
216

ذكر ما يستفاد منه: فيه: تأكيد ركعتي الفجر وأنهما من أشرف التطوع لمواظبته، صلى الله عليه وسلم، عليهما وملازمته لهما، وعند المالكية خلاف: هل هي سنة أو من الرغائب؟ فالصحيح عندهم أنها سنة، وهو قول جماعة من العلماء، وذهب الحسن البصري إلى وجوبها وهو شاذ لا أصل له، نقله صاحب (التوضيح) فإن قلت: الذي ذكرته يدل على الوجوب كما قاله الحسن، ولهذا ذكر المرغيناني عن أبي حنيفة أنها واجبة. وفي (جامع المحبوبي): روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعدا بلا عذر لا يجوز؟ قلت: إنما لم يقل بوجوبها لأنه، صلى الله عليه وسلم، ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة، هكذا قال أصحابنا: وليس فيه ما يشفي العليل، وقد روى أحاديث كثيرة في ركعتي الفجر منها: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا ركعتي الفحر ولو طردتكم الخيل) أي: الفرسان، وهذا كناية عن المبالغة وحث عظيم على مواظبتهما، وبه استدل أصحابنا أن الرجل إذا انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر إن خشي أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل، ولا يتركهما، وأما إذا خشي فوت الفرض فحينئذ يدخل مع الإمام ولا يصلي. ثم اختلف العلماء في الوقت الذي يقضيهما فيه، فأظهر أقوال الشافعي: يقضي مؤبدا ولو بعد الصبح، وهو قول عطاء وطاووس، ورواية عن ابن عمر وأبى ذلك مالك ونقله عن ابن بطال عن أكثر العلماء، وقالت طائفة: يقضيهما بعد طلوع الشمس، روي ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ورواية البويطي عن الشافعي، وقال مالك ومحمد بن الحسن: يقضيهما بعد الطلوع إن أحب. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقضيهما. ومنها: ما رواه مسلم من حديث سعيد بن هشام (عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)، ورواه الترمذي نحوه، وقال: حديث حسن صحيح، وروى مسلم أيضا من حديث سعيد بن هشام (عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب من الدنيا جميعا). ومنها: ما رواه أبو داود من حديث أبي زياد الكندي (عن بلال، رضي الله تعالى عنه، أنه حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذنه بصلاة الغداة...) الحديث، وفيه: (أن بلالا قال له: أصبحت جدا، قال: أصبحت جدا؟ قال: لو أصبحت أكثر مما أصبحت لركعتهما وأحسنتهما وأجملتهما) ومنها: ما رواه الترمذي من حديث يسار مولى ابن عمر عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين)، وقال الترمذي: معنى هذا الحديث لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر. ومنها: ما رواه الطبراني، رحمه الله تعالى، من رواية مطر الوراق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم (قال: لا صلاة إذا طلع الفجر إلا ركعتين). ومنها: ما رواه مسلم والنسائي من رواية زيد بن محمد عن نافع عن ابن عمر (عن حفصة، قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين). ومنها: ما رواه ابن عدي في (الكامل) من رواية رشيد بن كريب عن أبيه عن جده (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: * (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) * (الطور: 94). قال: ركعتين قبل الفجر). ومنها: ما رواه من حديث قيس بن فهد (رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد صلاة الفجر ركعتين، فقال: يا رسول الله إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما فصليتهما الآن، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الترمذي هذا الحديث ليس بمتصل، وأخرجه ابن أبي خزيمة في (صحيحه) ولفظه: (ما هاتان الركعتان؟ قال: يا رسول الله ركعتا الفجر لم أكن أصليهما فهما هاتان. قال: فسكت عنه). ومنها: حديث عائشة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
32
((باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر))
أي: هذا باب في بيان الضجعة إلى آخره، والضجعة بفتح الضاد المعجمة وكسرها، والفرق بينهما أن الكسر يدل على الهيئة والفتح على المرة، من: ضجع يضجع ضجعا وضجوعا، إذا وضع جنبه بالأرض.
0611 حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا سعيد بن أبي أيوب قال حدثني أبو الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى
217

ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وشيخه وشيخ شيخه قد ذكروا في الباب السابق، وأبو الأسود، ضد الأبيض: اسمه محمد بن عبد الرحمن المشهور بيتيم عروة مر في: باب
الجنب يتوضأ، وعروة بن الزبير بن العوام.
الكلام في هذا الباب على أنواع: الأول: أن هذا الحديث يدل على أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وفي رواية مسلم عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع). فهذا يدل على أنه تارة يضطجع قبل، وتارة بعد، وتارة لا يضطجع. وحديث ابن عباس الذي مضى في: باب ما جاء في الوتر، يدل على أنه قبلهما، لأنه قال فيه: (ثم صلى ركعتين)، فذكره مكررا ثم قال: (ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح) وهذا يصرح بأن اضطجاعه كان قبل ركعتي الفجر، وروي عن ابن عباس أيضا أنه: كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع، والتوفيق بين هذه الروايات أن الرواية التي تدل على أنه قبل ركعتي الفجر لا تستلزم نفيه بعدهما، وكذلك الرواية التي تدل على أنه بعدهما لا تستلزم نفيه قبلهما، أو يحمل تركه إياه قبلهما أو بعدهما على بيان الجواز إذا ثبت الترك، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المخالف بعضها بعضا في الظاهر تحمل على وجه التوفيق بينهما، لأن العمل بالكل مع الإمكان أولى من إهمال بعضها.
النوع الثاني: في أن هذه الضجعة سنة أو مستحبة أو واجبة أو غير ذلك؟ ففيه اختلاف العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم على ستة أقوال. أحدها: أنه سنة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، وقال النووي في (شرح مسلم): والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة. وقال البيهقي في (السنن): وقد أشار الشافعي إلى أن الاضطجاع المنقول في الأحاديث للفصل بين النافلة والفريضة، وسواء كان ذلك الفصل بالاضطجاع أو التحدث أو التحول من ذلك المكان إلى غيره أو غيره، والاضطجاع غير متعين في ذلك. وقال النووي في (شرح المهذب): المختار الاضطجاع. القول الثاني: أنه مستحب، وروى ذلك عن جماعة من الصحابة، وهم: أبو موسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبو هريرة، وإليه ذهب جماعة من التابعين، وهم: محمد بن سيرين وعروة وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار، وكانوا يضطجعون على أيمانهم بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح. القول الثالث: أنه واجب، مفترض لا بد من الإتيان به، وهو قول أبي محمد بن حزم، فقال: ومن ركع ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على جنبه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيره لصلاة الصبح، وسواء ترك الضجعة عمدا أو نسيانا، وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان أو نوم، وإن لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، واستدل فيه بما رواه أبو داود: حدثنا مسدد وأبو كامل وعبيد الله بن عمرو بن ميسرة، قالوا: حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه. ورواه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح غريب، وروى ابن ماجة من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه (عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع)، فما رواه أبو داود يخبر عن أمره، وما رواه ابن ماجة يخبر عن فعله، وأجابوا عن هذا بأجوبة. الأول: أن عبد الواحد الراوي عن الأعمش قد تكلم فيه، فعن يحيى: أنه ليس بشيء، وعن عمرو بن علي الفلاس: سمعت أبا داود قال: عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا. الثاني: أن الأعمش قد عنعن وهو مدلس. الثالث: أنه لما بلغ ذلك ابن عمر قال: أكثر أبو هريرة على نفسه حتى حدث بهذا الحديث. الرابع: أن الأئمة حملوا الأمر الوارد فيه على الاستحباب، وقيل في رواية الترمذي عن أبي صالح عن أبي هريرة: إنه معلول لم يسمعه أبو صالح عن أبي هريرة، وبين الأعمش وبين أبي صالح كلام، ونسب هذا القول إلى ابن العربي، وقال الأثرم: سمعت أحمد يسأل عن الاضطجاع؟ قال: ما أفعله أنا. قلت: فإن فعله رجل ثم سكت كأنه لم يعبه إن فعله، قيل له: لم لا تأخذ به؟ قال: ليس فيه حديث يثبت. قلت: له حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: رواه بعضهم مرسلا. فإن قلت: عبد الواحد بن زياد
218

احتج به الأئمة الستة ووثقه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وابن حبان؟ قلت: سلمنا ذلك، ولكن الأجوبة الباقية تكفي لدفع الوجوب بحديث أبي هريرة. القول الرابع: أنه بدعة، وممن قال به من الصحابة: عبد الله بن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، فروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية إبراهيم قال: قال عبد الله: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة والحمار، إذا سلم فقد فصل، وروى أيضا ابن أبي شيبة من رواية مجاهد، قال: صحبت ابن عمر في السفر والحضر فما رأيته اضطجع بعد الركعتين: ومن رواية سعيد بن المسيب قال: رأى ابن عمر رجلا يضطجع بين الركعتين، فقال: أحصبوه، ومن رواية أبي مجلز، قال: سألت ابن عمر عن ضجعة الرجل على يمينه بعد الركعتين قبل صلاة الفجر؟ قال: يتلعب بكم الشيطان، ومن رواية زيد العمي عن أبي الصديق الناجي، قال: رأى ابن عمر قوما اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا: نريد بذلك السنة، فقال ابن عمر: إرجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة. وممن كره ذلك من التابعين: الأسود بن زيد وإبراهيم النخعي: وقال: هي ضجعة الشيطان، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، ومن الأئمة: مالك ابن أنس وحكاه القاضي عياض عنه وعن جمهور العلماء. القول الخامس: إنه خلاف الأولى، روى ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. القول السادس: أنه ليس مقصودا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة إما باضطجاع أو حديث أو غير ذلك، وهو محكي عن الشافعي كما ذكرنا.
النوع الثالث: أنه على قول من يراه مستحبا أو سنة أن يكون على يمينه لورود الحديث به، كذلك، وهل تحصل سنة الاضطجاع بكونه على شقه الإيسر، أما مع القدرة على ذلك فالظاهر أنه لا تحصل به السنة لعدم موافقته للأمر، وأما إذا كان به ضرر في الشق الأيمن لا يمكن معه الاضطجاع أو يمكن لكن مع مشقة، فهل يضطجع على اليسار أو يشير إلى الاضطجاع على الجانب الأيمن لعجزه عن كماله كما يفعل من عجز عن الركوع والسجود في الصلاة؟ قال شيخنا زين الدين: لم أر لأصحابنا
فيه نصا وجزم ابن حزم بأنه يشير إلى الاضطجاع على الجانب الأيمن ولا يضطجع على الأيسر.
النوع الرابع: في الحكمة على الجانب الأيمن، وهي أن القلب في جهة اليسار، فإذا نام على اليسار استغرق في النوم لاستراحته بذلك، وإذا نام على جهة اليمين تعلق في نومه فلا يستغرق.
42
((باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع))
أي: هذا باب في بيان من تحدث بعد ركعتي الفجر، والحال أنه لم يضطجع، وأشار البخاري بهذا إلى أن الاضطجاح لم يكن إلا للفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، وأن الفصل أعمل من أن يكون بالاضطجاع أو بالحديث أو بالتحول من مكانه.
1611 حدثنا بشر بن الحكم قال حدثنا سفيان قال حدثني سالم أبو النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة.
.
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفحر، وكانت عائشة مستيقظة كان يتحدث معها، ولا يضطجع، فدل ذلك أن الاضطجاع لا يتعين للفصل كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن الحكم، بالحاء المهملة والكاف المفتوحتين: العبدي، بسكون الباء الموحدة: النيسابوري، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: أبو النضر، بفتح النون وسكون الضاد المعجمة: واسمه سالم بن أبي أمية، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر القرشي التيمي. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس: عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه نيسابوري كما ذكرنا، وسفيان مكي وسالم وأبو سلمة مدنيان.
219

ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن علي بن عبد الله. وأخرجه مسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن عمر ونضر بن علي سفيان. وأخرجه الترمذي فيه عن يوسف بن عيسى عن عبد الله بن إدريس، كلاهما عن مالك عن أبي النضر نحوه، ولفظه: (قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كانت له إلي حاجة كلمني وإلا خرج إلى الصلاة). وأخرجه أبو داود عن يحيى بن حكيم عن بشر بن عمر عن مالك بن أنس بلفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته من آخر الليل، فإن كنت مستيقظة حدثني، وإن كنت نائمة إيقظني وصلى الركعتين ثم اضطجع حتى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح فيصلي ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة).
ذكر معناه: قوله: (إذا صلى)، أي: ركعتي الفجر. قوله: (وإلا) أي: وإن لم أكن مستيقظة اضطجع. قوله: (حتى نودي) من النداء على صيغة المجهول، هذا في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (حتى يؤذن)، بضم الياء آخر الحروف وتشديد الذال المعجمة المفتوحة على صيغة المجهول.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الحجة لمن نفى وجوب الاضطجاع، ومنه استدل بعضهم على عدم استحبابه، ورد بأنه لا يلزم من تركه صلى الله عليه وسلم حين كون عائشة مستيقظة عدم الاستحباب، وإنما تركه في ذلك يدل على عدم الوجوب. فإن قلت: في رواية أبي داود من طريق مالك أن كلامه صلى الله عليه وسلم لعائشة كان بعد فراغه من صلاة الليل، وقبل أن يصلي ركعتي الفجر؟ قلت: لا مانع من أن يكلمها قبل ركعتي الفجر وبعدهما، وأن بعض الرواة عن مالك اقتصر على هذا، واقتصر بعضهم على الآخر، وفيه أنه: لا بأس بالكلام بعد ركعتي الفجر مع أهله وغيرهم من الكلام المباح، وهو قول الجمهور، وهو قول مالك والشافعي. وقد روى الدارقطني في (غرائب مالك) بإسناده إلى الوليد بن مسلم (قال: كنت مع مالك بن أنس نتحدث بعد طلوع الفجر وبعد ركعتي الفجر، ويفتي به أنه لا بأس بذلك، وقال أبو بكر بن العربي: وليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور، إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس). وفي (التوضيح) اختلف السلف في الكلام بعد ركعتي الفجر فقال نافع: كان ابن عمر ربما يتكلم بعدهما، وعن الحسن وابن سيرين مثله، وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير، وكان مالك يتكلم في العلم بعد ركعتي الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حتى تطلع الشمس. وقال مجاهد: رأى ابن مسعود رجلا يكلم آخر بعد ركعتي الفجر، فقال: إما أن تذكر الله وإما أن تسكت، وعن سعيد بن جبير مثله، وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعدها، وهو قول عطاء، وسئل جابر بن زيد: هل يفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلها بكلام؟ قال: لا إلا أن يتكلم بحاجة إن شاء، ذكر هذه الآثار ابن أبي شيبة. والقول الأول أولى بشهادة السنة الثابتة له، ولأقول لأحد مع السنة، وذكر بعض العلماء أن الحكمة في كلامه صلى الله عليه وسلم لعائشة وغيرها من نسائه بعد ركعتي الفجر أن يقع الفصل بين صلاة الفرض وصلاة النفل بكلام أو اضطجاع، ولذلك نهى الذي وصل بين صلاة الصبح وغيرها بقوله: (آالصبح أربعا؟) وكما جاء في الحديث الصحيح: (إذا صلى أحدكم الجمعة فلا يصلها بصلاة حتى يتكلم أو يخرج)، وكما نهى عن تقدم رمضان بصوم، وعن تشييعة بصوم، بتحريم صوم يوم العيد ليتميز الفرض من النفل. فإن قلت: الفصل حاصل بخروجه من حجر نسائه إلى المسجد، فإنه كان يصلي ركعتي الفجر في بيته، وقد اكتفى في الفصل في سنة الجمعة بخروجه من المسجد، فينبغي أن يكتفي في الفصل بخروجه من بيته إلى المسجد. قلت: لما كانت حجر أزواجه شارعة في المسجد لم ير الفصل بالخروج منها، بل فصل بالاضطجاع أو بالكلام أو بهما جميعا.
52
((باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في النفل أنه يصلي مثنى مثنى، يعني: ركعتين ركعتين، كل ركعتين بتسليمة، ومثنى الثاني تأكيد لأنه داخل في حده، إذ معناه: اثنين اثنين، وعن هذا قالوا: إن مثنى معدول عن اثنين اثنين، ففيه العدل والصفة، ثم إطلاق قوله: (ما جاء في التطوع مثنى مثنى) يتناول تطوع الليل وتطوع النهار، وقد وقع في أكثر النسخ هذا الباب بعد: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، لأن الأبواب المتعلقة بركعتي الفجر ستة أبواب، أولها: باب المداومة على ركعتي الفجر، وآخرها: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر.
220

وذكر هذه الستة متوالية هو الأنسب، ولك وقع هذا الباب أعني: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى بين هذه الأبواب الستة في بعض النسخ. قيل: الظاهر أن ذلك وقع من بعض الرواة. قلت: لم يراع البخاري الترتيب بين أكثر الأبواب في غير هذا الموضع، وهذا أيضا من ذلك، وليس يتعلق بمراعاة ترتيب الأبواب جل المقصود.
قال محمد ويذكر ذالك عن عمار وأبي ذر وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهري رضي الله تعالى عنهم
قوله: (قال محمد)، هو البخاري نفسه. قوله: (ذلك)، إشارة إلى ما ذكره من قوله: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، وقد ذكر هنا ستة أنفس من ثلاثة من الصحابة وهم: عمار وأبو ذر وأنس، وثلاثة من التابعين وهم: جابر بن زيد وعكرمة والزهري، وكل ذلك بتعليق. أما عمار: فقد روى عنه الطبراني في (الكبير) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتر قبل أن تنام، وصلاة الليل مثنى مثنى). وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف. وأما من فعله هو فقد رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن الحارث ابن همام (عن عمار بن ياسر أنه: دخل المسجد فصلى ركعتين خفيفتين) وأما أبو ذر، فقد روى عنه ابن أبي شيبة من فعله من طريق مالك بن أوس عنه، أنه: دخل المسجد فأتى سارية فصلى عندها ركعتين)، ولم أقف على شيء روي عنه من قوله مرفوعا أو موقوفا. وأما أنس: فقد روى عنه البخاري فيما مضى في: باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟ حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة، قال: (حدثنا أنس بن سيرين، قال: سمعت أنسا يقول: قال رجل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك وكان رجلا ضخما فصنع للنبي، صلى الله عليه وسلم، طعاما فدعاه إلى منزله، فبسط له حصيرا ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين..) الحديث. وفي هذا الباب عن عمرو بن عنبسة أخرجه أحمد عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وعن ابن عباس روى عنه الطبراني في (الكبير) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى). وأما الثلاثة من التابعين وهم: جابر بن زيد أبو الشعثاء البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، ومحمد بن مسلم الزهري فقد علق البخاري عنهم بقوله: ويذكر ولم أقف إلا على ما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن حرمي بن عمارة (عن أبي خلدة قال: رأيت عكرمة دخل المسجد فصلى فيه ركعتين).
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون في كل اثنتين من النهار
يحيى بن سعيد بن قيس أبو سعيد الأنصاري البخاري المديني، قاضي المدينة: سمع أنس بن مالك، وروى من كبار التابعين أقدمه أبو جعفر المنصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية، وقيل: إنه تولى القضاء ببغداد، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.
قوله: (أرضنا) أراد بها المدينة، ومن فقهاء أرضه: الزهري ونافع وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وجعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، والصادق وربيعة بن أبي عبد الرحمن وعبد الرحمن بن هرمز وآخرون، وروى عن هؤلاء وغيرهم. قوله: (في كل اثنتين) أي: في كل ركعتين.
52
((باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في النفل أنه يصلي مثنى مثنى، يعني: ركعتين ركعتين، كل ركعتين بتسليمة، ومثنى الثاني تأكيد لأنه داخل في حده، إذ معناه: اثنين اثنين، وعن هذا قالوا: إن مثنى معدول عن اثنين اثنين، ففيه العدل والصفة، ثم إطلاق قوله: (ما جاء في التطوع مثنى مثنى) يتناول تطوع الليل وتطوع النهار، وقد وقع في أكثر النسخ هذا الباب بعد: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر، لأن الأبواب المتعلقة بركعتي الفجر ستة أبواب، أولها: باب المداومة على ركعتي الفجر، وآخرها: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر. وذكر هذه الستة متوالية هو الأنسب، ولك وقع هذا الباب أعني: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى بين هذه الأبواب الستة في بعض النسخ. قيل: الظاهر أن ذلك وقع من بعض الرواة. قلت: لم يراع البخاري الترتيب بين أكثر الأبواب في غير هذا الموضع، وهذا أيضا من ذلك، وليس يتعلق بمراعاة ترتيب الأبواب جل المقصود.
قال محمد ويذكر ذالك عن عمار وأبي ذر وأنس وجابر بن زيد وعكرمة والزهري رضي الله تعالى عنهم
قوله: (قال محمد)، هو البخاري نفسه. قوله: (ذلك)، إشارة إلى ما ذكره من قوله: ما جاء في التطوع مثنى مثنى، وقد ذكر هنا ستة أنفس من ثلاثة من الصحابة وهم: عمار وأبو ذر وأنس، وثلاثة من التابعين وهم: جابر بن زيد وعكرمة والزهري، وكل ذلك بتعليق. أما عمار: فقد روى عنه الطبراني في (الكبير) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتر قبل أن تنام، وصلاة الليل مثنى مثنى). وفي إسناده الربيع بن بدر وهو ضعيف. وأما من فعله هو فقد رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن الحارث ابن همام (عن عمار بن ياسر أنه: دخل المسجد فصلى ركعتين خفيفتين) وأما أبو ذر، فقد روى عنه ابن أبي شيبة من فعله
من طريق مالك بن أوس عنه، أنه: دخل المسجد فأتى سارية فصلى عندها ركعتين)، ولم أقف على شيء روي عنه من قوله مرفوعا أو موقوفا. وأما أنس: فقد روى عنه البخاري فيما مضى في: باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟ حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة، قال: (حدثنا أنس بن سيرين، قال: سمعت أنسا يقول: قال رجل من الأنصار: إني لا أستطيع الصلاة معك وكان رجلا ضخما فصنع للنبي، صلى الله عليه وسلم، طعاما فدعاه إلى منزله، فبسط له حصيرا ونضح طرف الحصير، فصلى عليه ركعتين..) الحديث. وفي هذا الباب عن عمرو بن عنبسة أخرجه أحمد عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وعن ابن عباس روى عنه الطبراني في (الكبير) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى). وأما الثلاثة من التابعين وهم: جابر بن زيد أبو الشعثاء البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، ومحمد بن مسلم الزهري فقد علق البخاري عنهم بقوله: ويذكر ولم أقف إلا على ما رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن حرمي بن عمارة (عن أبي خلدة قال: رأيت عكرمة دخل المسجد فصلى فيه ركعتين).
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون في كل اثنتين من النهار
يحيى بن سعيد بن قيس أبو سعيد الأنصاري البخاري المديني، قاضي المدينة: سمع أنس بن مالك، وروى من كبار التابعين أقدمه أبو جعفر المنصور العراق وولاه القضاء بالهاشمية، وقيل: إنه تولى القضاء ببغداد، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة.
قوله: (أرضنا) أراد بها المدينة، ومن فقهاء أرضه: الزهري ونافع وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وجعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، والصادق وربيعة بن أبي عبد الرحمن وعبد الرحمن بن هرمز وآخرون، وروى عن هؤلاء وغيرهم. قوله: (في كل اثنتين) أي: في كل ركعتين.
2611 حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد الرحمان بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هاذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هاذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني. قال ويسمي حاجته.
221

مطابقته للترجمة في قوله: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، وقد أمره صلى الله عليه وسلم بركعتين، وهو بإطلاقه يتناول كونهما بالليل أو بالنهار.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد. الثاني: عبد الرحمن بن أبي الموالي، بفتح الميم: أبو محمد، مولى علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه. وفي (تهذيب الكمال): أن أبا الموالي اسمه زيد. الثالث: محمد بن المنكدر بلفظ اسم الفاعل من الانكدار ابن عبد الله أبو بكر، مات سنة ثلاثين ومائة. الرابع: جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن عبد الرحمن بن أبي الموالي مما تفرد بحديث الاستخارة، وأن البخاري تفرد به. وفيه: أن شيخه بلخي وعبد الرحمن ومحمد مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن أبي مصعب مطرف بن عبد الله وفي التوحيد عن إبراهيم بن المنذر. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي وعبد الرحمن ابن مقاتل خال القعنبي ومحمد ابن عيسى بن الطباع. وأخرجه الترمذي فيه، والنسائي في النكاح وفي النعوت وفي اليوم والليلة جميعا عن قتيبة. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أحمد بن يوسف السلمي.
وقال الترمذي: حديث جابر حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي، وهو شيخ مدني ثقة، روى عنه سفيان حديثا، وقد روى عن عبد الرحمن غير واحد من الأئمة انتهى. قلت: حكم الترمذي على حديث جابر بالصحة تبعا للبخاري في إخراجه في الصحيح، وصححه أيضا ابن حبان، ومع ذلك فقد ضعفه أحمد بن حنبل، فقال: إن حديث عبد الرحمن بن أبي الموالي في الاستخارة منكر، وقال ابن عدي في (الكامل) في ترجمته: والذي أنكر عليه حديث الاستخارة، وقد رواه غير واحد من الصحابة، وقال شيخنا زين الدين: كأن ابن عدي أراد بذلك أن لحديثه هذا شاهدا من حديث غير واحد من الصحابة، فخرج بذلك أن يكون فردا مطلقا، وقد وثقه جمهور أهل العلم. وقال الترمذي ويحيى بن معين وأبو داود والنسائي: ثقة، وقال أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم: لا بأس به، وزاد أبو زرعة: صدوق.
وقال الترمذي عقيب ذكره هذا الحديث: وفي الباب عن ابن مسعود وأبي أيوب. وقال شيخنا وفي الباب أيضا عن أبي بكر الصديق وأبي سعيد الخدري وسعيد بن أبي وقاص وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وأنس، رضي الله تعالى عنهم. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية صالح بن موسى الطلحي عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة (عن عبد الله، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستخارة، قال: إذا أراد أحدكم أمرا فليقل): اللهم إنس أستخيرك بعلمك..) فذكره ولم يقل: العظيم، وقدم قوله: (وتعلم) على قوله: (وتقدر)، وقال: (فإن كان هذا الذي أريد خيرا في ديني وعاقبة أمري فيسره لي، وإن كان غير ذلك خيرا لي فاقدر لي الخير حيث كان، يقول ثم يعزم). ورواه الطبراني أيضا من طريق أخرى. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه ابن حبان في (صحيحه) والطبراني في (الكبير) من رواية الوليد بن أبي الوليد أن أيوب بن خالد بن أبي أيوب حدثه عن أبيه عن جده أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (أكتم الخطبة، ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم صل ما كتب الله لك ثم احمد ربك ومجده ثم قل: اللهم إنك تقدر ولا أقدر..) الحديث إلى قوله: (الغيوب) وبعده: (فإن رأيت لي في فلانة، تسميها باسمها، خيرا في دنياي وآخرتي فاقض لي بها، أو قال: فاقدرها لي). لفظ رواية الطبراني. وقال ابن حبان: (خيرالي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدرها لي، وإن كان غيرها خيرا لي منها في ديني ودنياي وآخرتي فاقض لي ذلك). وأيوب وخالد ذكرهما ابن حبان في (الثقات). وأما حديث أبي بكر: فأخرجه الترمذي في الدعوات من رواية زنفل بن عبد الله عن ابن أبي مليكة عن عائشة (عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أمرا قال: اللهم خر لي واختر لي). وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث زنفل، وهو ضعيف عند أهل الحديث. وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه أبو يعلى الموصلي من طريق ابن إسحاق: حدثني عيسى بن عبد الله بن مالك عن محمد بن عمرو بن عطاء بن يسار (عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أراد أحدهم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك..) الحديث على نحو حديث جابر، وقال في آخره: (ثم قدر لي الخير أينما كان، لا حول ولا قوة إلا بالله). إسناده صحيح. ورواه ابن حبان أيضا في (صحيحه) من هذا الوجه. وأما حديث سعد بن أبي وقاص: رضي الله تعالى عنه، فرواه أحمد والبزار وأبو يعلى في (مسانيدهم) من رواية إسماعيل بن محمد
222

ابن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم استخارته الله تعالى..) الحديث، ولا يصح إسناده. وأما حديث ابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، فأخرجهما الطبراني في (الكبير) بإسناده عنهما، قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن: اللهم إني أستخيرك..) الحديث، إلى آخر قوله: (علام الغيوب) وزاد بعده: (اللهم ما قضيت علي من قضاء فاجعل عاقبته إلى خير)، وإسناده ضعيف، وفيه عبد الله بن هانىء متهم بالكذب. وأما حديث أبي هريرة: فرواه ابن حبان في (صحيحه) من رواية أبي الفضل ابن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أمرا فليقل: اللهم إني أستخيرك..) فذكره ولم يقل: العظيم، وفي آخره: (ورضني بقدرك)، قال ابن حبان: أبو الفضل اسمه شبل بن العلاء بن عبد الرحمن، مستقيم الأمر في الحديث، وقد ضعفه ابن عدي، فقال: حدث بأحاديث له غير محفوظة مناكير، وأورد له هذا الحديث وقال: إنه منكر لا يحدث به غير شبل. وأما حديث أنس، فرواه الطبراني في (معجمه الصغير) و (الأوسط) من رواية عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد)، وقال: لم يروه عن الحسن إلا عبد القدوس، تفرد به ولده عبد السلام. انتهى. وعبد القدوس أجمعوا على تركه، وكذبه الفلاس، وقال أبو حاتم: عبد السلام وأبوه ضعيفان.
ذكر اختلاف ألفاظ حديث جابر وغيره إسنادا ومتنا: ففي رواية للبخاري في التوحيد، ورواية لأبي داود أيضا التصريح بسماع عبد الرحمن بن أبي الموالي عن ابن المنكدر، وبسماع ابن المنكدر له عن جابر. وقال البخاري في الدعوات (في الأمور كلها كالسورة من القرآن)، ولم يقل فيه: (من غير الفريضة). وقال فيه: (ثم رضني به)، وقال في كتاب التوحيد: (كان يعلم أصحابه الاستخارة) أي: صلاة الاستخارة، (في الأمور كلها)، وفي رواية النسائي في النكاح: (وأستعينك بقدرتك) ولم يقل أبو داود وابن ماجة: (في الأمور كلها)، وزاد أبو داود بعد قوله: (ومعاشي ومعادي)، وللطبراني في (الأوسط) في حديث ابن مسعود: (وأسألك من فضلك الواسع).
ذكر معناه: قوله: (يعلمنا الاستخارة) أي: صلاة الاستخارة، ودعاءها، وهي طلب الخيرة على وزن العنبة اسم من قولك: اختاره الله. وفي (النهاية): خار الله لك أي: أعطاك ما هو خير لك، قال: والخيرة، بكون الياء الاسم منه، وأما بالفتح فهو الاسم من قولك: اختاره الله. ومحمد صلى الله عليه وسلم خيرة الله من خلقه يقال بالفتح والسكون، وهو من باب الاستفعال، وهو في (لسان العرب) على معان: منها: سؤال الفعل، والتقدير: أطلب منك الخير، فيما هممت به، والخير هو كل معنى زاد نفعه على ضره. قوله: (في الأمور كلها) دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرا لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه، فرب أمر يستخف بأمره فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم، أو في تركه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله. قوله: (كما يعلمنا السورة من القرآن)، دليل على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنه متأكد مرغب فيه. فإن قلت: كان ينبغي أن تجب الاستخارة استدلالا بتشبيه ذلك بتعليم السورة من القرآن. كما استدل بعضهم على وجوب التشهد في الصلاة بقول ابن مسعود: كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن. قلت: الذي دل على وجوب التشهد الأمر في قوله: (فليقل التحيات لله)، الحديث؟ فإن قلت: هذا أيضا فيه أمر، وهو قوله: (فليركع ركعتين ثم ليقل)؟ قلت: الأمر في هذا معلق بالشرط، وهو قوله: (إا هم أحدكم بالأمر) فإن قلت: إنما يؤمر به عند إرادة ذلك لا مطلقا، كما قال في التشهد: (وإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله)؟ قلت: التشهد جزء من الصلاة المفروضة، فيؤخذ الوجوب من قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فأما الاستخارة فتدل على عدم وجوبها الأحاديث الصحيحة الدالة على انحصار فرض الصلاة في الخمس. فإن قلت: فعلى هذا ينبغي أن لا يكون الوتر واجبا، ومع هذا هو واجب، بل المنقول عن أبي حنيفة أنه فرض قلت: قد قامت الأدلة من الخارج على وجوب الوتر كما عرف في موضعه. قوله: (إذا هم) أي: إذا قصد. قوله: (فليركع ركعتين)، أي: فليصل ركعتين، وهو ذكر الجزء وإرادة الكل، لأن الركوع جزء من أجزاء الصلاة. قوله: في غير الفريضة) دليل
223

على أنه لا تحصل سنة صلاة الاستخارة بوقوع الدعاء بعد صلاة الفريضة لتقييد ذلك في النص بغير الفريضة. قوله: (ثم ليقل اللهم) إلى آخره، دليل على أنه لا يضر تأخير دعاء الاستخارة عن الصلاة ما لم يطل الفصل. قوله: (بعلمك) الباء فيه وفي قوله: (بقدرتك) للتعليل، أي: بأنك أعلم وأقدر، قاله شيخنا زين الدين.
وقال الكرماني يحتمل أن تكون للاستعانة، وأن تكون للاستعطاف كما في قوله: * (رب بما أنعمت علي) * (القصص: 71). أي: بحق علمك وقدرتك الشاملين. قوله: (وأستقدرك) أي: أطلب منك أن تجعل لي قدرة عليه. قوله: (وأسألك من فضلك العظيم) كل عطاء الرب جل جلاله فضل، فإنه ليس لأحد عليه حق في نعمه ولا في شيء، فكل ما يهب فهو زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منا عوض فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد فهو نعمة منه وفضل يفتقر إلى حمد وشكر، وهكذا إلى غير نهاية، خلاف ما تعتقده المبتدعة التي تقول: إنه واجب على الله تعالى أن يبتدئ العبد بالنعمة وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه دائمة له أبدا يعصي ويطيع. قوله: (وأنت علام الغيوب) المعنى: أنا أطلب مستأنفا لا يعلمه إلا أنت، فهب لي منه ما ترى أنه خير لي في ديني ومعيشتي وعاجل أمري وآجله، وهذه أربعة أقسام خير يكون له في دينه دون دنياه، وخير له في دنياه خاصة ولا تعرض في دينه، وخير في العاجل وذلك يحصل في الدنيا، ولكن في الآخرة أولى، وخير في الآجل وهو أفضل، ولكن إذا اجتمعت الأربعة فذلك الذي ينبغي للعبد أن يسأل ربه، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أصلح ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر، إنك على كل شيء قدير). قوله: (ومعاشي)، المعاش والمعيشة واحد، يستعملان مصدرا وإسما. وفي (المحكم): العيش الحياة، عاش عيشا وعيشة ومعيشا ومعاشا وعيشوشة، ثم قال: المعيش والمعاش والمعيشة ما يعاش به. قوله: (أو قال) هو شك من بعض الرواة. قوله: (فاقدره لي) أي: فقدره، يقال: قدرت الشيء أقدره، بالضم والكسر، قدرا، من التقدير. قال شهاب الدين القرافي في كتاب (أنوار البروق): يتعين أن يراد بالتقدير هنا التيسير، فمعناه: فيسره. قوله: (وبارك لي فيه) أي: أدمه وضاعفه. قوله: (واصرفه عني واصرفني عنه) أي: لا تعلق بالي به وتطلبه، ومن دعاء بعض أهل الطريق: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم يقدر لي، ويقال: معناه طلب الأكمل من وجوه انصراف ما ليس فيه خيرة عنه، ولم يكتف بسؤال صرف أحد الأمرين لأنه قد يصرف الله خيره عن المستخير عن ذلك الأمر بأن ينقطع طلبه له، وذلك الأمر الذي ليس فيه خيرة يطلبه، فربما أدركه. وقد يصرف الله عن المستخير ذلك الأمر ولا يصرف قلب العبد عنه، بل يبقى متطلبا متشوقا إلى حصوله، فلا يطيب له خاطره، فإذا صرف كل منهما عن الآخر كان ذلك أكمل، ولذلك قال في آخره: (فاقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به). لأنه إذا قدر له الخير ولم يرض به كان منكدر العيش آثما بعدم رضاه بما قدره الله له، مع كونه خيرا له، والرضى سكون النفس إلى القدر والقضاء. قوله: (ويسمي حاجته) أي: في أثناء الدعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: إن كان هذا الأمر).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب صلاة الاستخارة والدعاء المأثور بعدها في الأمور التي لا يدري العبد وجه الصواب فيها، أما ما هو معروف خيره: كالعبادات وصنائع المعروف، فلا حاجة للاستخارة فيها، نعم، قد يستخار في الإتيان بالعبادة في وقت مخصوص؛ كالحج، مثلا في هذه السنة لاحتمال عدو أو فتنة أو حصر عن الحج، وكذلك يحسن أن يستخار في النهي عن المنكر كشخص متمرد عات يخشى بنهيه حصول ضرر عظيم عام أو خاص، وإن كان جاء في الحديث: (إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، لكن إن خشي ضررا عاما للمسلمين فلا ينكر، وإن خشي على نفسه فله الإنكار، ولكن يسقط الوجوب. وفيه في: قوله: (فليركع ركعتين)، دليل على أن السنة للإستخارة كونها ركعتين، فإنه لا تجزىء الركعة الواحدة في الإتيان بسنة الاستخارة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلي أربعا أو أكثر بتسليمة يحتمل أن يقال: يجزئ ذلك لقوله في حديث أبي أيوب: (ثم صل ما كتب الله لك)، فهو دال على أن الزيادة على الركعتين لا تضر. وفيه: ما كان من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته وإرشادهم إلى مصالحهم دينا ودنيا. وفيه: في قوله: (فليركع ركعتين) استحباب ذلك، في كل وقت إلا في وقت الكراهة، وكذلك عند الشافعية في الأصح. وفيه: دلالة على أن العبد لا يكون قادرا، إلا بالفعل لا قبله، كما تقول القدرية، وقال ابن بطال: القوة والقدرة من صفات الذات، والقدرة والقوة بمعنى واحد مترادفا فإن فالباري، تعالى، لم يزل قادرا قويا
224

ذا قدرة وقوة. وقال: وذكر الأشعري أن القدرة والقوة والاستطاعة اسم، ولا يجوز أن يوصف بأنه مستطيع لعدم التوقيف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال: * (هل يستطيع ربك) * (المائدة: 211). وإنما هو خبر عنهم، ولا يقتضي إثبات صفة له. وفيه: تصريح بعقيدة أهل السنة، فإنه نفى العلم عن العبد والقدرة، وهما موجودان، وذلك تناقض في بادىء الرأي، والحق فيه الاعتراف بأن العلم لله تعالى، والقدرة له، وليس للعبد من ذلك شيء إلا ما خلق له، يقول: يا رب تقدر قبل أن تخلق في القدرة، وتقدر مع خلقها، وتقدر بعدها، وأنت على الحقيقة في الأمور كلها تصرف، وتحل لمقدوراتك، وكذلك في العلم. وفيه: أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله تعالى وصرف أزمتها والتبرء من الحول والقوة إليه وأن لا يروم شيئا من دقيق الأمور ولا جليلها حتى يسأل الله فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير، ويصرف عنه الشر إذعانا بالافتقار إليه في كل أمره، والتزاما لذاته بالعبودية له، وتبركا لاتباع سنة سيد المرسلين في الاستخارة، وربما قدر ما هو خير ويراه شرا نحو قوله تعالى: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * (البقرة: 612). وفيه في قوله: (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي) حجة على القدرية الذين زعموا أن الله لا يخلق الشر تعالى الله عما يفترون، فقد بان في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له، وهو المدعو لصرفه عن العبد من نفسه، وما يقدر على اختراعه دون أن يقدر الله عليه؟ فإن قلت: هل يستحب تكرار الاستخارة في الأمر الواحد إذا لم يظهر له وجه الصواب في الفعل أو الترك ما لم ينشرح صدره لما يفعل؟ قلت: بلى يستحب تكرار الصلاة والدعاء لذلك، وقد ورد في حديث تكرار الاستخارة سبعا في عمل اليوم والليلة لابن السني من رواية إبراهيم ابن البراء، قال: (حدثني أبي عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه). قال النووي: في (الأذكار): إسناده غريب، وفيه من لا أعرفهم، قال شيخنا زين الدين: كلهم معروفون، ولكن بعضهم معروف بالضعف الشديد وهو إبراهيم بن البراء، والبراء هو ابن النضر ابن أنس بن مالك، وقد ذكره في (الضعفاء) العقيلي وابن حبان وابن عدي والأزدي. قال العقيلي:
يحدث عن الثقات بالبواطيل. وقال ابن حبان: شيخ كان يدور بالشام يحدث عن الثقات بالموضوعات: لا يجوز ذكره إلا على مثل القدح فيه. وقال ابن عدي: ضعيف جدا، حدث بالبواطيل، فعلى هذا فالحديث ساقط لا حجة فيه، نعم، قد يستدل للتكرار بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا دعا ثلاثا، وقال النووي: إنه يستحب أن يقرأ في ركعتي الاستخارة في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد، وقد سبقه إلى ذلك الغزالي، فإنه ذكره في الإحياء كما ذكره النووي: وقال شيخنا زين الدين، رحمه الله: لم أجد في شيء من طرق أحاديث الاستخارة تعيين ما يقرأ فيهما.
3611 حدثنا المكي بن إبراهيم عن عبد الله بن سعيد عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو بن سليم الزرقي سمع أبا قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين.
(أنظر الحديث 444).
مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: (حتى يصلي ركعتين)، وقد تقدم هذا الحديث في أوائل كتاب الصلاة في: باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، فإنه رواه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن عامر بن عبد الله بن الزبير: عن عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس). فانظر إلى التفاوت بينهما في المتن والإسناد، والمكي بن إبراهيم بن بشر بن فرقد البرجمي التميمي الحنظلي البلخي، تقدم في: باب إثم من كذب على النبي، صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند المديني، مات سنة سبع وأربعين ومائة، وعمرو، بفتح العين: ابن سليم، بضم السين وفتح اللام: الزرقي، بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف، وأبو قتادة الحارث بن ربعي بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وبالنسبة.
4611 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي
225

طلحة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (ركعتين)، وهذا الإسناد بعينه وبعض المتن قد تقدما في: باب الصلاة على الحصير، وفي (التوضيح): هذا الحديث ثابت في بعض النسخ، وفي أصل الدمياطي أيضا، وهو مختصر من حديث تقدم في: باب الصلاة على الحصير.
5611 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد تقدم حديث ابن عمر في: باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع (عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)، فانظر التفاوت بينهما في المتن والإسناد، ويحيى بن بكير، بضم الباء الموحدة، مر في كتاب الوحي، وعقيل بضم العين: ابن خالد، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
6611 حدثنا آدم قال أخبرنا شعبة قال أخبرنا عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله وأما حديث وهو يخطب إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصل ركعتين.
(أنظر الحديث 039 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد تقدم حديث جابر هذا في كتاب الجمعة في: باب من جاء والإمام يخطب، فإنه أخرجه هناك عن علي بن عبد الله: حدثنا سفيان (عن عمرو سمع جابرا، قال: دخل رجل يوم الجمعة والنبي، صلى الله عليه وسلم، يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين). وأخرج أيضا في الباب الذي قبله عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله.. الحديث.
7611 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سيف قال سمعت مجاهدا يقول أتي ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في منزله فقيل له هاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل الكعبة قال فأقبلت فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج وأجد بلالا عند الباب قائما فقلت يا بلال أصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة قال نعم قلت فأين قال بين هاتين الأسطوانتين ثم خرج فصلى ركعتين في وجه الكعبة.
.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد تقدم هذا الحديث في: باب قول الله عز وجل: * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * في أوائل كتاب الصلاة، فإنه أخرجه هناك، وقال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن سيف، قال: سمعت مجاهدا أتى ابن عمر، فقيل له: الحديث، فاعتبر التفاوت بينهما في المتن والإسناد. قوله: (فأجد)، كان القياس أن يقول: فوجدت، لكن عدل عنه لاستحضاره صورة الوجدان وحكاية عنها. قوله: (ثم خرج) يحتمل أن يكون من تتمة كلام بلال، زيادة على الجواب، وإن يكون كلام ابن عمر. قوله: (في وجه الكعبة)، أي: بابها.
قال أبو عبد الله قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بركعتي الضحى
هذا قطعة من حديث ذكره في: باب صلاة الضحى في الحضر، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا عباس هو الجريري عن أبي عثمان النهدي (عن أبي هريرة، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهم حتى أموت: صوم ثلاثة
226

أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر) وذكره أيضا في: باب صيام أيام البيض. قال: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أبو التياح، قال: حدثني أبو عثمان (عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضخى وأن أوتر قبل أن أنام). وأخرجه مسلم في الصلاة عن شيبان بن فروخ عن عبد الوارث عن أبي التياح، وعن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر عن شعبة. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن بشار عن غندر، وعن محمد بن علي وعن بشر بن هلال، وسيجئ الكلام فيه في: باب صلاة الضحى في الحضر عن قريب.
وقال عتبان غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بعدما امتد النهار وصففنا وراءه فركع ركعتين
هذا أيضا قطعة من حديث تقدم في باب المساجد في البيوت، مطولا، قال: حدثنا سعيد بن عفير، قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك، وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار، أنه: (أتى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله قد أنكرت بصري..)، الحديث إلى آخره بطوله، وذكره أيضا مطولا في: باب صلاة النوافل جماعة، وسيأتي الكلام فيه مستقصى إن شاء الله تعالى عن قريب.
62
((باب الحديث يعني بعد ركعتي الفجر))
أي: هذا باب في بيان إباحة الحديث بعد صلاة ركعتي الفجر يعني السنة.
8611 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال أبو النضر حدثني أبي عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع قلت لسفيان قال بعضهم يرويه ركعتي الفجر. قال سفيان هو ذاك.
.
مطابقته للترجمة في قوله: (فإن كنت مستيقظة حدثني)، وذكر هذا الحديث عن قريب بقوله: باب من تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني وسفيان هو ابن عيينة، واسم: أبو النضر، سالم، وقد مر الكلام فيه مستقصى هناك.
قوله: (قلت لسفيان) القائل هو علي بن عبد الله، وسفيان هو ابن عيينة. قوله: (قال بعضهم) أراد بالبعض هذا مالك بن أنس، أخرجه الدارقطني من طريق بشر بن عمر عن مالك أنه سأله عن الرجل يتكلم بعد طلوع الفجر، فحدثني عن سالم فذكره، قوله: (هو ذاك) أي: الأمر ذاك.
72
((باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعا))
أي: هذا باب في بيان تعاهد ركعتي الفجر وهما سنة الفجر، والتعاهد التعهد، لأن التفاعل لا يكون إلا بين القوم، والتعهد بالشيء التحفظ به وتجديد العهد به. قوله: (ومن سماها)، بإفراد الضمير رواية الحموي والمستملي أي: ومن سمى سنة الفجر، وفي رواية غيرهما: (ومن سماهما)، بضمير التثنية يرجع إلى ركعتي الفجر. قوله: (تطوعا)، منصوب لأنه مفعول ثان: لسماها. فإن قلت: أطلق على سنة الفجر تطوعا، وفي حديث الباب المذكور: النوافل؟ قلت: المراد من النوافل التطوعات، وقال بعضهم: أورده في الباب بلفظ: النوافل، وفي الترجمة، ذكر: تطوعا، إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه يعني: بلفظ التطوع. قلت: قد ذكرنا الآن وجه ذلك، فلا حاجة إلى ما ذكره من الخارج.
9611 حدثنا بيان بن عمر و قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من
227

النوافل أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: بيان، بفتح الباء الموحدة وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف نون: ابن عمرو، بفتح العين: العابد أبو محمد، مات سنة ثنتين وعشرين ومائتين. الثاني: يحيى بن سعيد القطان. الثالث: عبد الملك ابن عبد العزيز بن جريج. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: عبيد بن عمير بالتصغير فيهما أبو عاصم الليثي القاص. السادس: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه بخاري، وأنه من أفراده، ويحيى بصري وابن جريج وعطاء وعبيد مكيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
قوله: (عن عطاء) وفي رواية مسلم: عن زهير بن حرب عن يحيى عن ابن جريج: حدثني عطاء. قوله: (عن عبيد بن عمير)، في رواية ابن خزيمة: عن يحيى بن حكيم عن يحيى بن سعيد بسنده: أخبرني عبيد بن عمير.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن الزهير بن حرب عن يحيى، وعن أبي بكر ابن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد. وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب الدورقي، وقد مر الكلام فيه مستقصى في: باب المداومة في ركعتي الفجر، عن قريب.
82
((باب ما يقرأ في ركعتي الفجر))
أي: هذا باب في بيان ما يقرأ في سنة الفجر، و: يقرأ، على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم أيضا أي: ما يقرأ المصلي، وليس بإضمار: قبل الذكر، لأن القرينة دالة عليه.
0711 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين.
.
قيل: لا مطابقة بين هذا الحديث وبين هذه الترجمة حتى قال الإسماعيلي: كان حق هذه الترجمة أن تكون: تخفيف ركعتي الفجر. وقال بعضهم: ولما ترجم به المصنف وجه. ووجهه هو أنه أشار إلى خلاف من زعم أنه لا يقرأ في ركعتي الفجر أصلا، فنبه على أنه لا بد من القراءة، ولو وصفت عائشة الصلاة بكونها خفيفة فكأنها أرادت قراءة الفتحة فقط، أو قراءتها من شيء يسير غيرها، ولم يثبت عنده على شرطه تعيين ما يقرأ به فيهما. انتهى. (قلت) هذا كلام ليس له وجه أصلا من وجوه. الأول: أن قوله أشار إلى خلاف من زعم أنه لا يقرأ في ركعتي الفجر أصلا رجم بالغيب، فليت شعري بماذا أشار بما يدل عليه متن الحديث أو من الخارج، فالأول، لا يصح، لأن الكلام ما سيق له. والثاني: لا وجه له لأنه لا يفيد مقصوده. الثاني: أن قوله: فنبه على أنه لا بد من القراءة، غير صحيح، لأن الذي دل على أنه لا بد من القراءة ما هو؟ وكون عائشة وصفت الركعتين المذكورتين بالخفة لا يستلزم أن يقرأ فيهما، لا بد، بل هو محتمل للقراءة وعدمها. الثالث: أن قوله: فكأنها أرادت قراءة الفاتحة فقط، كلام واه، لأنه أي دليل يدل بوجه من وجوه الدلالات على أنها أرادت قراءة الفاتحة فقط؟ أو قراءتها مع شيء يسير غيرها؟ والرابع: قوله: ولم يثبت عنده على شرطه تعيين ما يقرأ به فيهما، يرد بأنه لما لم يثبت ذلك، فما كان ينبغي أن تكون الترجمة بقوله: ما يقرأ في ركعتي الفجر، لأن السؤال بكلمة: ما، يكون عن الماهية، وماهية القراءة في ركعتي الفجر تعيينها، وليس في الحديث ما يعين ذلك. وتعسف الكرماني في هذا الموضع حيث قال: قوله: خفيفتين، هو محل ما يدل على الترجمة، إذ يعلم من لفظ الخفة أنه لم يقرأ إلا الفاتحة فقط أو مع أقصر قصار المفصل انتهى قلت: سبحان الله، ليت شعري من أين يعلم من لفظ الخفة أنه، صلى الله عليه وسلم، قرأ فيهما؟ وإذا سلمنا أنه، قرأ فيهما، فمن أين يعلم أنه قرأ الفاتحة وحدها، أو مع شيء من قصار المفصل؟ فإن قلت: المعهود شرعا وعادة أن لا صلاة إلا بالقراءة؟ قلت: ذهب جماعة، منهم أبو بكر بن الأصم وابن علية وطائفة من الظاهرية: أن لا قراءة إلا في ركعتي الفجر، واحتجوا
228

في ذلك بحديث عائشة الذي يأتي عن قريب، وفيه: (حتى إني لأقول: هل قرأ بأم القرآن؟) قلنا: سلمنا أن لا صلاة إلا بالقراءة، وما اعتبرنا خلاف هؤلاء، ولكن تعيين قراءة الفاتحة فيهما من أين؟ فإن قالوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)؟ قلنا: يعارضه ما روى في صلاة المسئ حيث قال له: (فكبر ثم إقرأ ما تيسر معك من القرآن)، فهذا ينافي تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة مطلقا، إذ لو كانت قراءتها متعينة لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل هو صريح في الدلالة على أن الفرض مطلق القراءة، كما ذهب إليه أبو حنيفة، رضي الله تعالى عنه، ويمكن أن يوجه وجه المطابقة بين حديث الباب وبين الترجمة بأن يقال: إن كلمة: ما، في الأصل للاستفهام عن ماهية الشيء، مثلا: إذا قلت ما الإنسان معناه؟ ما ذاته وحقيقته؟ فجوابه: حيوان ناطق، وقد يستفهم بها عن صفة الشيء نحو قلوه تعالى: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * (طه: 71). وما لونها؟ وههنا أيضا قوله: ما يقرأ؟ استفهام عن صفة القراءة في ركعتي الفجر هل هي قصيرة أو طويلة؟ فقوله: (خفيفتين) يدل على أنها كانت قصيرة، إذ لو كانت طويلة لما وصفت عائشة، رضي الله تعالى عنها، بقولها: (خفيفتين).
وأما تعيين هذه القراءة فيهما فقد علم بأحاديث أخرى. منها ما رواه ابن عمر، أخرجه الترمذي فقال: حدثنا محمود بن غيلان، وأبو عمار قالا: حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن مجاهد (عن ابن عمر، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهرآ فكان يقرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد). وقال: حديث ابن عمر حديث حسن، وأبو أحمد الزبيري ثقة حافظ، واسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي الكوفي. وأخرجه ابن ماجة عن أحمد بن سنان ومحمد بن عبادة كلاهما عن أبي أحمد الزبيري، ورواه النسائي من رواية عمار بن زريق عن أبي إسحاق فزاد في إسناده إبراهيم بن مهاجر بين أبي إسحاق وبين مجاهد. ومنها ما رواه ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: أخرجه الترمذي أيضا من رواية عاصم ابن بهدلة عن ذر وأبي وائل، (عن عبد الله قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر: بقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد). ومنها ما رواه أنس، رضي الله تعالى عنه: أخرجه البزار من رواية موسى بن خلف عن قتادة (عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد)، ورجال إسناده ثقات. ومنها ما رواه أبو هريرة: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من رواية يزيد ابن كيسان عن أبي حازم (عن أبي هريرة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد). ولأبي هريرة حديث آخر رواه أبو داود من رواية أبي الغيب، واسمه: سالم، (عن أبي هريرة: أنه سمع النبي، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في ركعتي الفجر: * (قل آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (آل عمران: 48). في الركعة الأولى وبهذه الآية * (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) * (آل عمران: 35). أو * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل
عن أصحاب الجحيم) * (البقرة: 911 وفاطر: 42). شك من الراوي. ومنها ما رواه ابن عباس: أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية سعيد بن يسار (عن ابن عباس، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في ركعتي الفجر: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 631). والتي في آل عمران: * (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 46). لفظ مسلم وفي رواية أبي داود (إن كثيرا مما كان يقرأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ركعتي الفجر * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 631). الآية، قال: هذه في الركعة الأولى، وفي الركعة الآخرة: * (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) * (آل عمران: 252 والمائدة: 111). وقال النسائي: كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما الآية التي في البقرة: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 631). والباقي نحوه. ومنها ما رواه عبد الله بن جعفر: أخرجه الطبراني في (الأوسط) من رواية أصرم بن حوشب عن إسحاق بن واصل عن أبي جعفر محمد بن علي (عن عبد الله بن جعفر، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين، بعد المغرب،: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد). ومنها ما رواه جابر بن عبد الله: أخرجه ابن حبان في (صحيحه) من رواية طلحة بن خداش (عن جابر بن عبد الله: أن رجلا قام فركع ركعتي الفجر، فقرأ في الأولى: قل يا أيها الكافرون، حتى انقضت السورة، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، هذا عبد عرف ربه، وقرأ في الآخرة: قل هو الله أحد، حتى انقضت السورة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا عبد آمن بربه. قال طلحة: فأنا أحب أقرأ بهاتين السورتين في هاتين الركعتين).
وأما رجال حديث عائشة المذكور فقد ذكروا غير مرة.
وأخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي، والنسائي فيه عن قتيبة كلاهما عن
229

مالك به.
قوله: (ثلاث عشرة ركعة..) إلى آخره، يدل على أن ركعتي الفجر خارجة من الثلاث عشرة، وقد تقدم في أول صلاة الليل أنا داخلة فيها، وذكر في: باب قيام النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. وقد مر التوفيق بين هذه الروايات فيما مضى.
1711 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا غندر محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة عن محمد ابن عبد الرحمان عن عمته عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا يحيى هو ابن سعيد عن محمد بن عبد الرحمان عن عمرة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول هل قرأ بأم الكتاب.
مطابقته للترجمة توجه بالوجه الذي ذكرناه للحديث السابق.
ذكر رجاله: وهم تسعة، لأنه رواه من طريقين: الأول: محمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة، وقد تكرر ذكره. الثاني: غندر، بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال وضمها في آخره راء، وهو لقب محمد بن جعفر أبي عبد الله الهذلي صاحب الكرابيس. الثالث: شعبة ابن الحجاج. الرابع: محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، ويقال ابن أبي زرارة الأنصاري البخاري، ويقال محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال كاتب الواقدي: توفي سنة أربع وعشرين ومائة. الخامس: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. السادس: أحمد بن يونس، هو أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس أبو عبد الله التميمي اليربوعي. السابع: زهير بن معاوية الجعفي. الثامن: يحيى بن سعيد الأنصاري. التاسع: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ستة مواضع. وفيه العنعنة في ستة مواضع وفيه: القول في ستة مواضع. وفيه: أن محمد بن بشار وغندر بصريان، وشعبة واسطي، ومحمد بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد مدنيان، وأحمد بن يونس وزهير كوفيان. وفيه: عن عمته عمرة أي: عن عمة محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد، تكون عمة أبيه لا عمة نفسه. وفيه: وحدثنا أحمد بن يونس، وفي رواية أبي ذر، قال: وحدثنا أبي، قال البخاري: وحدثنا أحمد، وفيه أحد الرواة مذكور بلقبه، وراويان مذكوران بلا نسبة، وراو مذكور بنسبة مفسرة. وفيه: في الطريق الثاني: عن محمد بن عبد الرحمن بن يونس عن عمرة، الظاهر أنه محمد بن عبد الرحمن المذكور في الطريق الأول، وذكر أبو مسعود أن محمد بن عبد الرحمن المذكور في إسناد هذا الحديث هو أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان، ويقال: ابن عبد الله بن حارثة الأنصاري البخاري، لقب بأبي الرجال لأن له عشرة أولاد رجال، وجده حارثة بدري، وسبب اشتباه ذلك على أبي مسعود أنه روى عن عمرة، وعمرة أمه، لكنه لم يرو عنها هذا الحديث، ولأنه روى عنه يحيى بن سعيد، وشعبة وقد نبه على ذلك الخطيب، فقال في حديث محمد بن عبد الرحمن عن عمته عمرة عن عائشة في الركعتين بعد الفجر ومن قال في هذا الحديث: عن شعبة عن أبي الرجال محمد ابن عبد الرحمن فقد وهم، لأن شعبة لم يرو عن أبي الرجال شيئا، وكذلك من قال عن شعبة عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة، وذكر الجياني أن محمد بن عبد الرحمن أربعة من تابعي أهل المدينة، أسماؤهم متقاربة وطبقتهم واحدة وحديثهم مخرج في الكتابين: الأول: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر، وأبي سلمة، روى عنه يحيى بن أبي كثير. والثاني: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، أبو الأسود يتيم عروة. والثالث: محمد بن عبد الرحمن، يعني ابن زرارة. والرابع: محمد ابن عبد الرحمن أبو الرجال. وفيه: رواية التابعي عن التابعية عن الصحابية.
230

ذكر معناه: قوله: (الركعتين اللتين قبل الصبح) أي: قبل صلاة الصبح وهما سنة صلاة الصبح. قوله: (إني)، بكسر الهمزة. قوله: (لأقول) اللام فيه للتأكيد. قوله: (بأم القرآن)، هذا في رواية الحموي، وفي رواية غيره: (بأم الكتاب)، وفي رواية مالك: (قرأ بأم القرآن أم لا؟) وأم القرآن: الفاتحة، سميت به لأن أم الشيء أصله، وهي مشتملة على كليات معاني القرآن الثلاث: ما يتعلق بالمبدأ وهو الثناء على الله تعالى، وبالمعاش وهو العبادة، وبالمعاد وهو الجزاء. وقال
القرطبي: ليس معنى قول عائشة: إني لأقول: هل قرأ بأم القرآن؟ أنها شكت في قراءته، صلى الله عليه وسلم، وإنما معناه أنه كان يطيل في النوافل، فلما خفف في قراءة ركعتي الفجر صار كأنه لم يقرأ بالنسبة إلى غيرهما من الصلوات. قلت: كلمة: هل، حرف موضوع لطلب التصديق الإيجابي دون التصوري ودون التصديق السلبي، فدل هذا على أنها ما شكت في قراءته مطلقا، وتقييدها بالفاتحة من أين؟ وقد مر الكلام فيه مستوفى عن قريب.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: المبالغة في تخفيف ركعتي الصبح، ولكنها بالنسبة إلى عادته صلى الله عليه وسلم من إطالته صلاة الليل، واختلف العلماء في القراءة في ركعتي الفجر على أربعة مذاهب حكاها الطحاوي. أحدها: لا قراءة فيهما، كما ذكرنا في أول الباب عن جماعة. الثاني: يخفف القراءة فيهما بأم القرآن خاصة، روي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو مشهور مذهب مالك. الثالث: يخفف بقراءة أم القرآن وسورة قصيرة، رواه ابن القاسم عن مالك وهو قول الشافعي. الرابع: لا بأس بتطويل القراءة فيهما، روي ذلك عن إبراهيم النخعي ومجاهد، وعن أبي حنيفة: ربما قرأت فيهما حزبين من القرآن، وهو قول أصحابنا. وقال شيخنا زين الدين: المستحب قراءة سورة الإخلاص في ركعتي الفجر، وممن روي عنه ذلك من الصحابة: عبد الله بن مسعود، ومن التابعين: سعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعبد الرحمن بن يزيد النخعي وسويد بن غفلة وغينم بن قيس، ومن الأئمة: الشافعي، فإنه نص عليه في البويطي وقال مالك: أما أنا فلا أزيد فيهما على أم القرآن في كل ركعة رواه عنه ابن القاسم، وروى ابن وهب عنه أنه لا يقرأ فيهما إلا بأم القرآن. وحكى ابن عبد البر عن الشافعي أنه قال: لا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة. قال: روى ابن القاسم عن مالك أيضا مثله.
ثم إن الحكمة في تخفيفه صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر المبادرة إلى صلاة الصبح في أول الوقت، وبه جزم صاحب المفهم، ويحتمل أن يراد به استفتاح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يستفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين، ليتأهب ويستعد للتفرغ للفرض أو لقيام الليل الذي هو أفضل الصلوات بعد المكتوبات، كما ثبت في (صحيح مسلم) وخص بعض العلماء استحباب التخفيف في ركعتي الفجر بمن لم يتأخر عليه بعض حزبه الذي اعتاد القيام به في الليل، فإن بقي عليه شيء قرأ في ركعتي الفجر، فروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن الحسن البصري قال: لا بأس أن يطيل ركعتي الفجر يقرأ فيهما من حزبه إذا فاته، وعن مجاهد أيضا قال: لا بأس أن يطيل ركعتي الفجر. وقال الثوري: إن فاته شيء من حزبه بالليل فلا بأس أن يقرأ فيهما ويطول. وقال أبو حنيفة: ربما قرأت في ركعتي الفجر حزبي من الليل، وقد ذكرناه عن قريب، وروى ابن أبي شيبة في (مصنفه) مرسلا من رواية سعيد بن جبير، قال: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، ربما أطال ركعتي الفجر) ورواه البيهقي أيضا، وفي إسناده رجل من الأنصار لم يسم.
فائدة: التطويل في الصلاة مرغب فيه لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (أفضل الصلاة طول القنوت)، ولقوله، صلى الله عليه وسلم، أيضا في الصحيح: (إن طول صلاة الرجل سمة من فقهه) أي: علامة، ولقوله، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح أيضا (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) إلا أنه قد استثنى من ذلك مواضع استحب الشارع فيها التخفيف: منها: ركعتا الفجر لما ذكرنا. ومنها: تحية المسجد إذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب ليتفرغ لسماع الخطبة، وهذه مختلف فيها. ومنها: استفتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وذلك للتعجيل بحل عقد الشيطان، فإن العقدة الثالثة تنحل بصلاة ركعتين، فلذلك أمر به، وأما فعله، صلى الله عليه وسلم، ذلك فللتشريع ليقتدى به وإلا فهو معصوم محفوظ من الشيطان، وأما تخفيف الإمام فقد علله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: (فإن وراءه السقيم والضعيف وذا الحاجة)، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وإليه المرجع والمآب.
231

((كتاب التطوع))
أي: هذه أبواب في بيان أحكام التطوع من الصلوات ولا توجد هذه الترجمة في غالب نسخ البخاري، وهي تنفع ولا تضر.
92
((باب التطوع بعد المكتوبة))
أي: هذا باب في بيان التطوع من الصلوات بعد الصلاة المكتوبة، أي: الفريضة، واكتفى بقيد البعيدية مع أن في أحاديث هذه الأبواب بيان التطوع قبل الفريضة أيضا إلى شدة احتياج الاهتمام في أداء التطوعات بعد الفرائض، أو هو من باب الاكتفاء كما في قوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * (النحل: 18)..
2711 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال أخبرنا نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعد الظهر وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قال ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع بعد العشاء في أهله. تابعه كثير بن فرقد وأيوب عن نافع. وحدثتني أختي حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعد ما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
(أنظر الحديث 816 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن البعدية مذكورة فيه في خمسة مواضع.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا غير مرة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم
وأخرجه مسلم عن زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد، قالا: حدثنا يحيى وهو ابن سعيد عن عبيد الله قال أخبرني نافع عن ابن عمر وحدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا عبيد الله عن نافع (عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين
وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته). وقد مر حديث ابن عمر أيضا في: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، رواه عن يحيى بن بكير عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم (عن عبد الله بن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث، وسيأتي بعد أربعة أبواب في: باب الركعتين قبل الظهر، فإنه رواه هناك: عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع (عن ابن عمر قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات..) الحديث، وقد مر حديث ابن عمر أيضا في كتاب الجمعة في: باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها، فإنه رواه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع (عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين..) الحديث. وقد مر الكلام فيه.
ذكر معناه: قوله: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم)، المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى صلى الله عليه وسلم ركعتين لا أنه اقتدى به، صلى الله عليه وسلم، فيهما. قوله: (سجدتين) أي: ركعتين، عبر عن الركوع بالسجود. قوله: (فأما المغرب) أي: فأما سنة المغرب، وكلمة: أما، للتفصيل وقسيمها محذوف يدل عليه السياق أي: وأما الباقية ففي المسجد. فإن قلت: في روايته عن ابن عمر في: باب الصلاة بعد الجمعة. (وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين)، وههنا: (وسجدتين بعد الجمعة)، يعني: ويصلي ركعتين بعد صلاة الجمعة، فبين الروايتين تناف ظاهرا؟ قلت: قوله: (حتى ينصرف)، من الانصراف عن الشيء وهو أعم من الانصراف إلى البيت، ولئن سلمنا فالاختلاف إنما كان لبيان جواز الأمرين. قوله: (وحدثتني أختي حفصة) أي: قال ابن عمر: حدثتني أختي حفصة بنت عمر بن الخطاب زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (سجدتين) في رواية الكشميهني: (ركعتين). قوله: (وكانت ساعة) أي: كانت الساعة
232

التي بعد طلوع الفجر ساعة لا يدخل أحد على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وقائل ذلك هو ابن عمر أيضا، وإنما كان كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يشتغل فيها بالخلائق.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن السنة قبل الظهر ركعتان، ولكن روى البخاري وأبو داود والنسائي من رواية محمد بن المنتشر (عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر). وروى مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من رواية خالد الحذاء (عن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا). وروى الترمذي من رواية عاصم بن حمزة (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين). وقال الترمذي: حديث علي حديث حسن، وقال أيضا: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق، وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة حديث أم حبيبة، رضي الله تعالى عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعا بنى الله له بيتا في الجنة)، وزاد الترمذي والنسائي: (أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة). وللنسائي في رواية: (وركعتين قبل العصر) بدل: (وركعتين بعد العشاء)، وكذلك عند ابن حبان في صحيحه، ورواه عن ابن خزيمة بسنده، وكذلك رواه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وجمع الحاكم في لفظه بين الروايتين فقال فيه: (وركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء). وكذلك عند الطبراني في (معجمه) واحتج أصحابنا بهذا الحديث أن السنن المؤكدة في الصلوات الخمس اثنتا عشرة: ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وبعدها ركعتان ركعتان وركعتان بعد المغرب وبعد العشاء، وقال الرافعي: ذهب الأكثرون، يعني من أصحاب الشافعي، إلى أن الرواتب عشر ركعات، وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء. قال: ومنهم من زاد على العشر ركعتين أخريين قبل الظهر بقوله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة).
وفيه: (سجدتين بعد الظهر) يعني ركعتين، وقد روى أبو داود من رواية عنبسة بن أبي سفيان، قال قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار)، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة أيضا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، والتوفيق بين الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الظهر ركعتين مرة، وصلى بعد الظهر أربعا مرة، بيانا للجواز، واختلاف الأحاديث في الأعداد محمول على توسعة الأمر فيها، وأن لها أقل وأكثر فيحصل أقل السنة بالأقل، ولكن الاختيار فعل الأكثر الأكمل، وقد عد جمع من الشافعية الأربع قبل الظهر من الرواتب وحكى عن الرافعي أنه حكى عن الأكثرين أن راتبة الظهر ركعتان قبلها وركعتان بعدها، ومنهم من قال: ركعتان من الأربع بعدها راتبة وركعتان مستحبة باتفاق الأصحاب. ومذهب الشافعي في هذا الباب أن السنن عند الصلوات الخمس عشر ركعات: قبل الظهر ركعتان، وقد مر عن قريب، وبه قال أحمد ومن الشافعية من قال أدنى الكمال ثمان فأسقط سنة العشاء، وقال النووي: نص عليه في البويطي، ومنهم من قال: اثنتا عشرة ركعة، فجعل قبل الظهر أربعا، والأكمل عند الشافعية ثماني عشرة ركعة، زادوا: قبل المغرب ركعتين وبعدها ركعتين وأربعا قبل العصر. وفي (المهذب): أدنى الكمال عشر ركعات، وأتم الكمال ثماني عشرة، وفي استحباب الركعتين قبل المغرب وجهان: قيل باستحبابهما وقيل لا تستحبان، وبه قال أصحابنا، ثم الأربع قبل الظهر بتسليمة واحدة عندنا لما روى أبو داود والترمذي في الشمائل عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء)، وعند الشافعي ومالك وأحمد: يصليها بتسليمتين، واحتجوا بحديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليهن بتسليمتين)، والجواب عنه أن معنى قوله: (بتسليمتين) يعني بتشهدين، فسمى التشهد تسليما لما فيه من السلام، كما سمى التشهد لما فيه من الشهادة، وقد روي هذا التأويل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
وفيه (وسجدتين بعد المغرب) أي: وركعتين بعد صلاة المغرب، وروى أبو داود من رواية عبد الله بن بريدة عن عبد الله المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب ركعتين..) الحديث، واختلف السلف في النفل قبل المغرب، فأجازه طائفة من الصحابة والتابعين والفقهاء وحجتهم
233

هذا الحديث، وروي عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنهم كانوا لا يصلونها، وقال إبراهيم النخعي: هي بدعة، والحديث محمول على أنه كان في أول الإسلام ليتبين خروج الوقت المنهي عن الصلاة فيه بمغيب الشمس.
وفيه: (وسجدتين بعد العشاء)، أي: وركعتين بعد صلاة العشاء، وروي سعيد بن منصور في (سننه) من حديث البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعا كان كأنما تهجد من ليلته، ومن صلاهن بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر). ورواه البيهقي من قول عائشة: (قالت: من صلى أربعا بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر). وفي (المبسوط): لو صلى أربعا بعد العشاء فهو أفضل، لحديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كمثلهن من ليلة القدر).
وفيه (وسجدتين بعد الجمعة)، أي: وركعتين بعد صلاة الجمعة: وروى الترمذي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا)، قال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه مسلم أيضا وبقية الأربعة، وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا، وقد روي عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أنه أمر أن يصلي بعد الجمعة ركعتين ثم أربعا، وذهب سفيان الثوري وابن المبارك إلى قول ابن مسعود، وقال إسحاق: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين، وممن فعل من الصحابة ركعتين بعد الجمعة عمران بن حصين، وحكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد، قال شيخنا: ولم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب وإلا فقد استحبها أكثر من ذلك، فنص الشافعي في (الأم) على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكره في: باب صلاة الجمعة والعيدين من اختلاف علي وابن مسعود، وليس ذلك اختلاف قول عنه، وإنما هو بيان الأولى والأكمل كما في سنة الظهر، وقد صرح به صاحب (المهذب) والنووي في (شرح مسلم) وفي (التحقيق). وأما أحمد فنقل عنه ابن قدامة في (المغني) أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعا، وفي رواية عنه: وإن شاء ستا وكان ابن مسعود والنخعي وأصحاب الرأي يرون أن يصلي بعدها أربعا لحديث أبي هريرة، وعن علي وأبي موسى وعطاء ومجاهد وحميد بن عبد الرحمن والثوري أنه يصلي ستا.
وفيه: قول ابن عمر: (فأما المغرب والعشاء ففي بيته أربعا) وقد اختلف في ذلك، فروى قوم من السلف، منهم: زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف، أنهما كانا يركعان ركعتين بعد المغرب في بيوتهما، وقال العباس بن سهل بن سعد: لقد أدركت زمن عثمان، رضي الله تعالى عنه،. وإنا لنسلم من المغرب فلا أرى رجلا واحدا يصليهما في المسجد: كانوا يبتدرون أبواب المسجد فيصلونهما في بيوتهم. وقال ميمون بن مهران: إنهم كانوا يؤخرون الركعتين بعد المغرب إلى بيوتهم، وكانوا يؤخرونها حتى تشتبك النجوم،، وروي عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها في بيوتهم دون المسجد، وروي عن عبيدة أنه كان لا يصلي بعد الفريضة شيئا حتى يأتي أهله، وقال ابن بطال: قيل: إنما كره الصلاة في المسجد لئلا يرى جاهل عالما يصليها فيه فيراها فريضة، أو لئلا يخلي منزله من الصلاة فيه، أو حذرا على نفسه من الرياء، فإذا سلم من ذلك فالصلاة في المسجد حسنة، وقد بين بعضهم علة كراهة من كرهه، ومن ذلك ما قاله مسروق، قال: كنا نقرأ في المسجد فنقوم نصلي في الصف، قال عبد الله: صلوا في بيوتكم لا يرونكم الناس فيرون أنها سنة.
فائدة: ليس في حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، المذكور النفل قبل العصر، وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا)، ورواه الترمذي أيضا، وقال: هذا حديث غريب حسن، ورواه ابن حبان في (صحيحه): وروى الترمذي أيضا من حديث علي، رضي الله تعالى عنه، قال: (كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين). وقال: حديث علي حديث حسن، وأخرجه بقية أصحاب السنن مع اختلاف، وروى الطبراني من حديث مجاهد، (عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في أناس من أصحابه، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فأدركت آخر الحديث ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من صلى أربع ركعات قبل العصر لم تمسه النار)، وفيه عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف، وروى أبو نعيم من حديث الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله عز وجل له مغفرة عزما)، والحسن لم يسمع من أبي هريرة على الصحيح، وروى أبو يعلى من حديث عبد الله بن عنبسة، يقول:
234

سمعت أم حبيبة بنت أبي سفيان تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من حافظ على أربع ركعات قبل العصر بنى الله له بيتا في الجنة)، وروى الطبراني في (الكبير) من رواية عطاء بن أبي رباح عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله بدنه على النار)، وقال شيخنا: وفيه استحباب أربع ركعات قبل العصر، وهو كذلك، وقال صاحب (المهذب): إن الأفضل أن يصلي قبلها أربعا، قال النووي في (شرحه): إنها سنة، وإنما الخلاف في المؤكد منه. وقال في (شرح مسلم): إنه لا خلاف في استحبابها عند أصحابنا، وجزم الشيخ في التنبيه بأن من الرواتب قبل العصر أربع ركعات، وممن كان يصليها أربعا من الصحابة: علي بن أبي طالب، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يصلون أربعا قبل العصر، ولا يرونها من السنة، وممن كان لا يصلي قبل العصر شيئا: سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن منصور وقيس بن أبي حازم وأبو الأحوص، وسئل الشعبي عن الركعتين قبل العصر؟ فقال: إن كنت تعلم أنك
تصليهما قبل أن تقيم فصل، وكلام الشعبي يدل على أنهم كانوا يعجلون صلاة العصر، وأن من ترك الصلاة قبلها إنما كان خشية أن تقام الصلاة وهو في النافلة، وقال محمد بن جرير الطبري: والصواب عندنا أن الأفضل في التنفل قبل العصر بأربع ركعات لصحة الخبر بذلك عن علي، رضي الله تعالى عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
تابعه كثير بن فرقد وأيوب عن نافع
أي: تابع عبيد الله المذكور كثير بن فرقد، وكثير ضد القليل، وفرقد، بفتح الفاء وسكون الراء وفتح القاف، وقد مر في: باب النحر بالمصلى.
قوله: (وأيوب) أي: تابعه أيضا أيوب السختياني، وستأتي هذه المتابعة بعد أربعة أبواب، فإنه رواه عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع (عن ابن عمر، قال: حفظت من النبي، صلى الله عليه وسلم...) الحديث.
وقال ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن نافع بعد العشاء في أهله
ابن أبي الزناد، بكسر الزاي وتخفيف النون: وهو عبد الرحمن بن أبي الزناد، وأبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان، وموسى بن عقبة، بضم العين وسكون القاف، مر في: باب إسباغ الوضوء. قوله: (عن نافع) أي: عن ابن عمر أنه قال: (بعد العشاء في أهله) بدل قوله: (في بيته)، في حديث الباب، وقوله: (تابعه كثير) إلى آخره. قوله: (وقال ابن أبي الزناد)، هكذا وقع في عدة نسخ، وكذا ذكره أبو نعيم في مستخرجه، ووقع في بعض النسخ بعد. قوله: (فأما المغرب والعشاء ففي بيته، قال ابن أبي الزناد...) إلى آخره، وبعد قوله: (تابعه كثير بن فرقد وأيوب عن نافع). فافهم.
03
((باب من لم يتطوع بعد المكتوبة))
أي: هذا باب في بيان حكم من لم يتنفل بعد صلاة المكتوبة أي: المفروضة، لأجل الإعلام لأمته صلى الله عليه وسلم أن التطوع ليس بلازم.
4711 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمر و قال سمعت أبا الشعثاء جابرا قال سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وعجل العشاء وأخر المغرب قال وأنا أظنه.
(أنظر الحديث 345 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم لما صلى ثمانيا جميعا أي: الظهر والعصر، فهم من ذلك أنه لم يفصل بينهما بتطوع، إذ لو فصل لزم عدم الجمع بينهما، فصدق أنه صلى الظهر الذي هي المكتوبة ولم يتطوع بعدها، وكذلك الكلام في قوله: (وسبعا جميعا)، أي: المغرب والعشاء، ولم يتطوع بعد المغرب وإلا لم تكونا مجتمعتين، وأما التطوع بعد الثانية فمسكوت عنه، وعدم ذكره يدل على عدمه ظاهرا.
235

ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا كلهم، وعلي بن عبد الله بن المدينة، وسفيان بن عيينة، وعمرو بن دينار وأبو الشعثاء، بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وبالثاء المثلثة وبالمد: وهو كنية جابر بن زيد، وقد مر في: باب الغسل بالصاع.
والحديث أخرجه في: باب المواقيت، في: باب تأخير الظهر إلى العصر، عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، صلى بالمدينة سبعا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى، وقد مر الكلام فيه مستقصى هناك.
13
((باب صلاة الضحى في السفر))
أي: هذا باب في بيان صلاة الضحى حال كون الذي يصلي في السفر، والضحى، بالضم والقصر: فوق الضحوة، وهي ارتفاع أول النهار، و: الضحاء، بالفتح والمد هو إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده.
5711 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن توبة عن مورق قال قلت ل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أتصلي الضحى قال لا قلت فعمر قال لا قلت فأبو بكر قال لا قلت فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لا إخاله.
قال ابن بطال: ليس هذا الحديث من هذا الباب، وإنما يصلح في: باب من لم يصل الضحى، وأظنه من غلط الناسخ، وقال الكرماني: هذا الحديث إنما يليق بالباب الذي بعده لا بهذا الباب، وقال غيرهما: إن في توجيه ذلك ما فيه من التعسفات التي لا تشفي العليل، ولا تروي الغليل، حتى قال بعضهم: يظهر لي أن البخاري أشار بالترجمة المذكورة إلى ما رواه أحمد من طريق الضحاك بن عبد الله القرشي (عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلى في السفر سبحة الضحى ثمان ركعات)، فأراد أن تردد ابن عمر في كونه صلاها أولا، لا يقتضي رد ما جزم به أنس، بل يؤيده حديث أم هانىء في ذلك. انتهى. قلت: لو ظهر له توجيه هذه الترجمة على وجه يقبله السامع لما قال قولا تنفر عنه سجية ذوي الأفهام، فليت شعري كيف يقول: إن البخاري أشار بهذه الترجمة إلى حديث أنس الذي فيه الإثبات المقيد، وحديث الباب الذي فيه النفي المطلق؟ ثم يقول: فأراد أن تردد ابن عمر.. إلى آخره؟ فكيف يقول: إنه تردد؟ بل جزم بالنفي فيقتضي ظاهرا رد ما جزم به أنس بالإثبات. فمن له نظر ومعرفة بهيئة التركيب. كيف يقول بأن ابن عمر تردد في هذا؟ والتردد لا يكون إلا بين النفي والإثبات. وهو قد جزم بالنفي مع
تكرار حرف النفي أربع مرات، ويمكن أن يوجه وجه بالاستئناس بين الترجمة وحديثي الباب اللذين أحدهما: عن ابن عمر، والآخر عن أم هانىء، رضي الله تعالى عنهم، بأن يقال: معنى الترجمة: باب صلاة الضحى في السفر هل يصلي أو لا؟ فذكر حديث ابن عمر إشارة إلى النفي مطلقا، وحديث أم هانىء إشارة إلى الإثبات مطلقا، ثم يبقى طلب التوفيق بين الحديثين، فيقال: عدم رؤية ابن عمر من الشيخين ومن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى لا يستلزم عدم الوقوع منهم في نفس الأمر، أو يكون المراد من نفي ابن عمر نفي المداومة لا نفي الوقوع أصلا، ونظير ذلك ما قالت عائشة في حديثها المتفق عليه: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى وإني لأسبحها)، وفي رواية: (لاستحبها)، ومع هذا ثبت عنها في (صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا، فمرادها من النفي عدم المداومة. وحكى النووي في (الخلاصة) عن العلماء: أن معنى قول عائشة، رضي الله تعالى عنها: (ما رأيته يسبح سبحة الضحى)، أي: لم يداوم عليها، وكان يصليها في بعض الأوقات فتركها في بعضها خشية أن تفرض. قال: وبهذا يجمع بين الأحاديث. فإن قلت: يعكر على هذا ما روي عن ابن عمر من الجزم بكونها محدثة، وكونها بدعة أما الأول: فما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عن ابن عمر أنه قال: إنها محدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا. وأما الثاني: فما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج، قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى؟ فقال: بدعة، نعمت البدعة. قلت: أجاب القاضي عنه: أنها بدعة، أي: ملازمتها وإظهارها في المساجد مما لم يكن يعهد، لا سيما وقد قال: ونعمت البدعة، قال: وروي عنه: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى، كما قال عمر في صلاة التراويح: لا إنها بدعة
236

مخالفة للسنة. قال: وكذلك روي عن ابن مسعود لما أنكرها على هذا الوجه، وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم، لم تحملون عباد الله ما لم يحملهم الله، كل ذلك خيفة أن يحسبها الجهال من الفرائض.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول مسدد وقد تكرر ذكره. الثاني يحيى بن سعيد القطان الأحول. الثالث شعبة بن الحجاج. الرابع توبة بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الواو وفتح الباء الموحدة ابن كيسان أبو المورع بفتح الواو وكسر الراء المشددة العنبري مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. الخامس مورق بضم الميم وفتح الواو وتشديد الراء المكسوة ابن المشمرج بضم الميم وفتح الشين المعجمة وسكون الميم وفتح الراء وبالجيم كذا ضبطه الكرماني بفتح الراء وضبط غيره بكسرها. السادس عبد الله بن عمر بن الخطاب
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في عشرة مواضع وفيه أن رواته كلهم بصريون ما خلا الحجاج فإنه واسطي وقيل مورق كوفي وفيه أنه ليس للبخاري عن توبة إلا هذا الحديث وحديث آخر وفيه أنه ليس للبخاري عن مورق عن ابن عمر غير هذا الحديث وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي لأن توبة من التابعين الصغار وفيه أن شيخه من أفراده وفيه أن هذا الحديث أيضا من أفراده
(ذكر معناه) قوله ' تصلي الضحى ' أي أتصلي صلاة الضحى قوله ' قال لا ' أي قال ابن عمر لا أصلي قوله ' فعمر ' أي أفيصلي عمر قال لا أي لم يكن يصلي قوله ' فأبو بكر ' أي أفيصلي أبو بكر الصديق قال لا أي لم يكن يصلي قوله ' فالنبي ' أي أفيصلي النبي
' قال لا أخاله ' أي لا أظنه إنه صلى وهو بكسر الهمزة وهو الأفصح وجاز في جميع حروف المضارعة الكسر إلا الياء فإنه اختلف فيه وبنو أسد يقولون أخال بالفتح وهو القياس وهو من خلت الشيء خيلاء وخيلة ومخيلة وخيلولة أي ظننته وهو من باب ظننت وأخواتها التي تدخل على الابتداء والخبر فإن ابتدأت بها أعلمت وإن وسطتها أو أخرت فأنت بالخيار بين الإعمال والإلغاء والضمير المنصوب فيه يرجع إلى النبي
ومفعوله الثاني محذوف تقديره لا أظنه مصليا أو لا أظنه صلى
202 - (حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا عمرو بن مرة قال سمعت عبد الرحمن ابن أبي ليلى يقول ما حدثنا أحد أنه رأى النبي
يصلي الضحى غير أم هانىء فإنها قالت أن النبي
دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود)
قد ذكرنا وجه مطابقته للترجمة. ورجاله قد ذكروا وآدم ابن إياس وعمرو بن مرة بضم الميم وتشديد الراء وأم هانىء بنت أبي طالب أخت علي شقيقته واسمها فاختة
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) قد ذكرنا في باب من تطوع في السفر هذا الفصل وغير مستوفى فإنه أخرجه هناك عن حفص بن عمر عن شعبة الحديث وأخرجه بقية الستة قوله ' وفي قول عبد الرحمن بن أبي ليلى ما أخبرني أحد أنه رأى النبي
يصلي الضحى إلا أم هانىء ' دليل على أنه أراد به صلاة الضحى المشهورة ولم يرد بقوله ' الضحى ' الظرفية كما احتمل ذلك في حديث أنس الذي مضى ذكره وكذلك قول عبد الله بن حارث بن نوفل عند مسلم ' سألت وحرصت على أن أجد أحدا من الناس يخبرني أن النبي
صلى سبحة الضحى فلم أجد غير أم هانىء ' الحديث على أن بعض العلماء كما حكى القاضي عياض أنكر أن يكون في حديث أم هانىء إثبات لصلاة الضحى قال وإنما هي سنة الفتح يوم فتح مكة قال وقيل إنما كانت قضاء لما شغل عنه تلك الليلة بالفتح عن حزبه فيها قال النووي هذا الذي قالوه فاسد بل الصواب صحة الاستدلال به فقد ثبت ' عن أم هانىء أن النبي
يوم الفتح صلى صلاة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين ' رواه أبو داود في سننه بهذا اللفظ بإسناد صحيح على شرط البخاري وفيه العمل بخبر الواحد لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن الحارث بن نوفل ذكرا أنهما لم يخبرهما أحد بذلك إلا أم هانىء وهذا
237

مذهب أهل السنة فلا يعتد بخلاف من خالف ذلك قوله ' دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل ' ظاهره أن الاغتسال والصلاة كانا في بيت أم هانىء بعد دخول مكة للتعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب (فإن قلت) روى مالك في موطئه ' إن أم هانىء ' ذهبت إلى رسول الله
فوجدته يغتسل ' الحديث قال عياض وهذا أصح لأن نزول النبي
إنما كان بالأبطح وقد وقع مفسرا في حديث سعيد بن أبي هند عن أبي مرة بمثل حديث مالك وفيه ' وهو في قبته بالأبطح ' (قلت) لا مانع أن يكون صلى بالأبطح ثماني ركعات وصلى في بيتها ثماني ركعات وأن يكون اغتسل مرتين فلعله بعد أن نزل بالأبطح دخل بيتها فاغتسل وصلى وخرج إلى منزله بالأبطح فاغتسل وصلى الصلاتين صلاة الضحى والأخرى إما شكرا لله تعالى على الفتح أو استذكارا لما فاته من قيامه بالليل فإنه قد صح أنه كان إذا لم يقم من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة فلعله كان تلك الليلة صلى الوتر فقط ثلاثا ثم صلى بالنهار ثمانيا والله تعالى أعلم (فإن قلت) في حديث ابن أبي أوفى الآتي ذكره أن النبي
صلى يوم الفتح ركعتين فكيف الجمع بينه وبين حديث أم هانىء (قلت) من صلى ثمانيا فقد صلى ركعتين ولعل ابن أبي أوفى رأى من صلاته ركعتين فأخبر بما شاهده وأخبرت أم هانىء بما شاهدت. وفي هذا الباب عن جماعة من الصحابة وهم أنس وأبو هريرة ونعيم بن همار وقيل هبار وقيل همام والصحيح ابن همار وأبو نعيم وهم فيه وقال نعيم بن حماد ثم رجع عنه وأبو ذر وعائشة وأبو أمامة وعتبة بن عبد السلمي وابن أبي أوفى وأبو سعيد وزيد بن أرقم وابن عباس وجابر بن عبد الله وجبير بن مطعم وحذيفة بن اليمان وعائذ بن عمرو وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبو موسى وعتبان بن مالك وعقبة بن عامر وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن أنس والنواس بن سمعان وأبو بكرة وأبو مرة الطائفي. فحديث أنس عند الترمذي أنه قال قال رسول الله
' من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة ' وأخرجه ابن ماجة. وحديث أبي هريرة عند مسلم من رواية أبي عثمان النهدي ' عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي
بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد ' وحديث نعيم بن همار عند أبي داود والنسائي في الكبرى من رواية كثير بن مرة ' عن نعيم قال سمعت رسول الله
يقول قال الله عز وجل يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره '. وحديث أبي ذر عند مسلم من رواية أبي الأسود الديلمي ' عن أبي ذر عن النبي
قال يصبح على كل سلامي صدقة ' الحديث وفي آخره ' ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى '. وحديث عائشة عند مسلم أيضا من حديث معاذة أنها سألت عائشة ' كم كان رسول الله
يصلي صلاة الضحى قالت أربع ركعات ويزيد ما شاء ' وحديث أبي أمامة عند الطبراني في الكبير من رواية القاسم عن أبي أمامة قال قال رسول الله
' إن الله يقول اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره '. وحديث عتبة بن عبد عند الطبراني أيضا من حديث عبد الله بن عامر أن أبا أمامة وعتبة بن عبد حدثاه عن رسول الله
قال ' من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم ثبت حتى يسبح الله سبحة الضحى كان له كأجر حاج ومعتمر ' وحديث ابن أبي أوفى عند الطبراني في الكبير أيضا من رواية سلمة بن رجاء ' عن شعثاء الكوفية أن عبد الله بن أبي أوفى صلى الضحى ركعتين قالت له امرأته إنما صليتها ركعتين فقال إن رسول الله
صلى يوم الفتح ركعتين ' وحديث أبي سعيد عند الترمذي وانفرد به من حديث عطية العوفي ' عن أبي سعيد الخدري قال كان النبي
يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها ويدعها حتى نقول لا يصليها '. وحديث زيد بن أرقم عند مسلم من رواية القاسم بن عوف الشيباني أن زيد بن أرقم رأى قوما يصلون من الضحى فقال أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله
' قال صلاة الأوابين حين ترمض الفصال '. وحديث ابن عباس عند الطبراني في الأوسط من رواية طاوس عن ابن عباس يرفع الحديث إلى النبي
قال ' على كل سلامي من بني آدم في كل يوم صدقة ويجزىء من ذلك كله ركعتا الضحى ' وحديث جابر بن عبد الله عند الطبراني أيضا في الأوسط من رواية محمد بن قيس ' عن جابر بن عبد الله قال أتيت النبي
أعرض عليه بعيرا لي فرأيته صلى الضحى ست ركعات '. وحديث جبير بن مطعم عند الطبراني في الكبير من رواية نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه رأى النبي
يصلي الضحى. وحديث حذيفة عند
238

ابن أبي شيبة في مصنفه من رواية علي بن عبد الرحمن ' عن حذيفة قال خرجت مع رسول الله
إلى حرة بني معاوية فصلى الضحى ثماني ركعات طول فيهن '. وحديث عائذ بن عمرو عند أحمد والطبراني في الكبير فيه حدثني شيخ ' عن عائذ بن عمرو قال كان في الماء فتوضأ رسول الله
' الحديث قال ' ثم صلى بنا رسول الله
الضحى '. وحديث عبد الله بن عمر عند الطبراني في الكبير من رواية مجاهد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله
' يقول الله ابن آدم اضمن لي ركعتين من أول النهار أكفك آخره '. وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص ' قال بعث رسول الله
سرية ' الحديث وفيه ' ثم خرج ' أي رسول الله
' لسبحة الضحى '. وحديث أبي موسى عند الطبراني في الأوسط من رواية أبي بردة عن أبي موسى قال قال رسول الله
' من صلى الضحى أربعا بني له بيت في الجنة '. وحديث عتبان بن مالك عند أحمد من رواية محمود بن الربيع ' عن عتبان بن مالك أن النبي
صلى في بيته سبحة الضحى ' وحديث عقبة بن عامر عند أحمد وأبي يعلى في مسنديهما من رواية نعيم بن هارون ' عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله
قال إن الله عز وجل يقول يا ابن آدم اكفني أول النهار بأربع ركعات أكفك بهن آخر يومك '. حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عند النسائي في سننه الكبرى من رواية عاصم بن ضمرة ' عن علي أن رسول الله
كان يصلي من الضحى '. وحديث معاذ بن أنس من رواية زبان بن فائد ' عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله
قال من قعد في مصلاه حتى ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرا غفرت له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر ' وإسناده ضعيف. وحديث النواس بن سمعان عند الطبراني في الكبير من رواية أبي إدريس الخولاني قال ' سمعت النواس بن سمعان يقول سمعت رسول الله
يقول قال الله عز وجل ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول النهار أكفك آخره '. وحديث أبي مرة الطائفي عند أحمد من رواية مكحول عن أبي مرة الطائفي قال ' سمعت رسول الله
ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره ' وبقي الكلام ههنا في فصول
الأول في عدد صلاة الضحى وقد ورد فيها ركعتان وأربع وست وثمان وعشر وثنتا عشر فالكل مضى في الأحاديث المذكورة غير عشر ركعات قال ابن مسعود روي عنه مرفوعا ' من صلى الضحى عشر ركعات بنى الله له بيتا في الجنة ' وليس منها حديث يرفع صاحبه وذلك أن من صلى الضحى أربعا جاز أن يكون رآه في حالة فعله ذلك ورأى غيره في حالة أخرى صلى ركعتين ورآه آخر في حالة أخرى صلاها ثمانيا وسمعه آخر يحثه على أن يصلي ستا وآخر يحث على ركعتين وآخر على عشر وآخر على ثنتي عشر فأخبر كل واحد منهم عما رأى أو سمع ومن الدليل على صحة ما قلناه ما رواه البزار ' عن زيد بن أسلم قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبي ذر أوصني قال سألتني عما سألت رسول الله
فقال من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين ومن صلى أربعا كتب من العابدين ومن صلى ستا لم يلحقه ذلك اليوم ذنب ومن صلى ثمانيا كتب من القانتين ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة وقال صلى النبي
يوما الضحى ركعتين ثم يوما أربعا ثم يوما ستا ثم يوما ثمانيا ثم ترك (فإن قلت) هل تزاد على ثنتي عشرة ركعة (قلت) مفهوم العدد وإن لم يكن حجة عند الجمهور إلا أنه لم يرد في عدد صلاة الضحى أكثر من ذلك وعدم الورود بأكثر من ذلك لا يستلزم منع الزيادة وقد روي عن إبراهيم أنه قال سأل رجل الأسود فقال كم أصلي الضحى قال كم شئت وقال الطبري والصواب أن يصلي على غير عدد وذهب قوم إلى أن يصلي أربعا لما روي في قوله تعالى * (وإبراهيم الذي وفى) * قال
هل تدرون ما وفي وفى في عمل يومه بأربع ركعات الضحى ' وقال الحاكم صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد ويصلون هذه الصلاة أربعا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه وإليه أذهب وذكر الطبري أن سعد بن أبي وقاص وأبي سلمة كانا يصليان الضحى ثمانيا وكان علقمة والنخعي وسعيد بن المسيب يختارون الأربع وعن الضحاك أنه كان يختار ركعتين
239

وقال الروياني أكثرها ثنتا عشرة حكاه الرافعي عنه وجزم به في المحرر وتبعه النووي في المنهاج وخالف ذلك في شرح المهذب فحكى عن الأكثرين أنه أكثرها ثمان ركعات وقال في الروضة أفضلها ثمان وأكثرها ثنتا عشرة ففرق بين الأفضل والأكثر وفيه نظر من حيث أن من صلى ثمان ركعات فق فعل الأفضل فكونه يصلي بعد ذلك ركعتين أو أربعا يكون ذلك مفضولا وينقص من أجره المتقدم وهذا في غاية البعد.
الفصل الثاني في أن صلاة الضحى مستحبة وقيل كانت واجبة على النبي
ويرده حديث عائشة رضي الله عنها ما رأيت رسول الله
يسبح سبحة الضحى وقيل كانت من خصائصه
ورد بأن ذلك لم يثبت بخبر صحيح. واختلف العلماء هل الأفضل المواظبة عليها أو فعلها في وقت وتركها في وقت فالظاهر الأول لعموم الأحاديث الصحيحة من قوله
' أحب العمل إلى الله تعالى ما داوم صاحبه عليه وإن قل ' ونحو ذلك وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة عن النبي
أنه قال ' إن في الجنة بابا يقال له الضحى فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كانوا يديمون صلاة الضحى هذا بابكم فأدخلوه برحمة الله ' وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه قال قال رسول الله
' لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب قال وهذي صلاة الأوابين ' وذهب بعضهم إلى أن الأفضل أن لا يواظب عليها لحديث أبي سعيد الخدري الذي مضى وحكاه صاحب الإكمال عن جماعة ورد بأنه
يحب العمل ويتركه مخافة أن يفرض على أمته وقد روى البزار من حديث أبي هريرة أن رسول الله
كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا غيره لكنه ضعيف
الفصل الثالث استدل بحديث أم هانىء على استحباب التخفيف في صلاة الضحى لقولها ' ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها ' ورد أن التخفيف فيها كان لأجل اشتغاله
بمهمات الفتح من مجيئه إلى المسجد وخطبته وأمره بقتل من أمر بقتله وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث حذيفة ' أنه
صلى الضحى ثماني ركعات طول فيهن '
الفصل الرابع فيما يقرأ فيها روى الحاكم من حديث أبي الخير عن عقبة بن عامر قال ' أمرنا رسول الله
أن نصلي الضحى بالشمس وضحاها والضحى '
الفصل الخامس في وقتها يدخل وقتها من أول النهار بطلوع الشمس لقوله
' لا يعجزني من أربع ركعات من أول النهار ' وحكى النووي في الروضة أن وقت الضحى يدخل بطلوع الشمس ولكنه يستحب تأخيرها إلى ارتفاع الشمس وخالف ذلك في شرح المهذب وحكى فيه عن الماوردي أن وقتها المختار إذا مضى ربع النهار وجزم به في التحقيق وروى الطبراني من حديث زيد بن أرقم أنه
مر بأهل قباء وهم يصلون الضحى حين أشرقت الشمس فقال صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال وهذا يدل على جواز صلاة الضحى عند الإشراق لأنه لم ينههم عن ذلك ولكن أعلمهم أن التأخير إلى شدة الحر صلاة الأوابين قوله ' إذا رمضت الفصال ' هو أن تحمى الرمضاء وهي الرمل فتبرك الفصال من شدة حرها وإحراقها أخفافها *
((باب من لم يصل الضحى ورآه واسعا))
أي هذا باب في بيان حكم من ترك صلاة الضحى ورآه أي ورأى الضحى أي صلاة الضحى قوله ' واسعا ' أي غير لازم وانتصابه على أنه مفعول ثان لرأى
203 - (حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت رسول الله
سبح سبحة الضحى وإني لأسبحها)
مطابقته للترجمة ظاهرة وآدم هو ابن أبي إياس واسمه عبد الرحمن وقيل غير ذلك وابن أبي ذئب بكسر الذال المعجمة هو محمد بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسم أبي ذئب هشام القرشي العامري أبو الحارث المدني
240

والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب وقد تقدم هذا في باب تحريض النبي
على قيام الليل وما سبح رسول الله
سبحة الضحى قط وإني لأسبحها وقد مر الكلام من أن السبحة بضم السين المهملة النافلة وأن فيه رواية مالك عن ابن هشام ' لأستحبها ' من الاستحباب والفرق بين الروايتين أن لفظ أسبحها يقتضي الفعل ولفظ أستحبها لا يقتضيه. واعلم أنه قد روي في ذلك أشياء مختلفة عن عائشة هذا يدل على نفي السبحة من رسول الله
وجاء عنها ما رواه مسلم من رواية عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها هل كان النبي
يصلي الضحى قالت لا إلا أن يجيء من مغيبه وجاء عنها أيضا ما رواه مسلم من رواية معاذة أنها سألت عائشة كم كان رسول الله
يصلي صلاة الضحى قالت أربع ركعات ويزيد ما شاء. وهذا كما رأيت يدل الأول على النفي مطلقا. والثاني على النفي المقيد. والثلاث على الإثبات المطلق وتكلموا في التوفيق بينها فمال ابن عبد البر وآخرون إلى ترجيح ما اتفق الشيخان عليه دون ما انفرد به مسلم وقالوا إن عدم رؤيتها لذلك لا يستلزم عدم الوقوع فيقدم من روى عنه من الصحابة الأثبات وقيل عدم رؤيتها أنه
ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في النادر لكونه أكثر النهار في المسجد أو في موضع آخر وإذا كان عند نسائه فإنها كان لها يوم من تسعة أيام أو ثمانية وقال البيهقي عندي أن المراد بقولها ما رأيته سبحها أي داوم عليها وقولها وإني لأسبحها أي لأداوم عليها وقيل جمع بين قولها ما كان يصلي إلا أن يجيء من مغيبه وقولها كان يصلي أربعا ويزيد ما شاء بأن الأول محمول على صلاته إياها في المسجد والثاني على البيت وقال عياض قوله ما صلاها معناه ما رأيته يصليها والجمع بينه وبين قولها كان يصليها أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها وفي الإثبات عن غيرها وقيل يحتمل أن تكون نفت صلاة الضحى المعهودة حينئذ من هيئة مخصوصة بعدد مخصوص في وقت مخصوص وأنه
إنما كان يصليها إذا قدمن من سفره لا بعدد مخصوص ولا بغيره كما قالت يصلي أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى وذهب قوم إلى ظاهر الحديث المذكور وأخذوا به ولم يروا صلاة الضحى حتى قال بعضهم إنها بدعة وقد ذكرنا أن ابن عمر قال ذلك أيضا وقال مرة ونعمت البدعة وقال مرة ما استبدع المسلمون بدعة أفضل مناه وروى الشعبي عن قيس بن عباد قال كنت أختلف إلى ابن مسعود السنة كلها فما رأيته مصليا الضحى وقال إبراهيم النخعي حدثني من رأى ابن مسعود صلى الفجر ثم لم يقم لصلاة حتى أذن لصلاة الظهر فقام فصلى أربعا وكان ابن عوف لا يصليها وقال أنس رضي الله تعالى عنه صلاة النبي
يوم الفتح كانت سنة الفتح لا سنة الضحى ولما فتح خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه الحيرة صلى صلاة الفتح ثمان ركعات لم يسلم فيهن وقد ذكرنا الجواب عن ذلك فيما مضى والله تعالى أعلم *
((باب صلاة الضحى في الحضر))
أي هذا باب في بيان صلاة الضحى في الحضر
(قاله عتبان بن مالك عن النبي
)
وفي بعض النسخ قال عتبان عن النبي
وقد ذكره البخاري في باب إذا زار الإمام قوما فأمهم حدثنا معاذ بن أسد قال أخبرنا عبد الله قال أخرنا معمر عن الزهري قال أخبرني محمود بن الربيع قال عتبان بن مالك الأنصاري قال استأذن على النبي
فأذنت له فقال أين تحب أن أصلي في بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب فقام وصففنا خلفه ثم سلم فسلمنا انتهى وليس فيه ذكر السبحة ورواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن ' عتبان بن مالك أن رسول الله
صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا بصلاته ' وأخرجه مسلم من رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع الأنصاري حدثه عتبان بن مالك وهو من أصحاب النبي
ممن شهد بدرا من الأنصار ' أتى رسول الله
فقال يا رسول الله إني قد أنكرت بصري ' الحديث بطوله وليس فيه ذكر السبحة وسيذكره البخاري أيضا بعد بابين في باب صلاة النوافل جماعة *
241

204 - (حدثنا مسلم بن إبراهيم قال أخرنا شعبة قال حدثنا عباس الجريري هو ابن فروخ عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر)
قيل لا مطابقة بينه وبين الترجمة لأن الحديث مطلق ليس فيه ذكر سفر ولا حضر والترجمة مقيدة بالحضر (قلت) الحديث بإطلاقه يتناول حالة السفر والحضر يدل عليه قوله ' لا أدعهن حتى أموت ' فحصل التطابق من هذا الوجه وفيه كفاية
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب وقد تكرر ذكره. الثاني شعبة بن الحجاج. الثالث عباس بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة ابن فروخ بالخاء المعجمة الجريري بضم الجيم وفتح الراء الأولى وهو نسبة إلى جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء الموحدة. الرابع أبو عثمان عبد الرحمن بن مل النهدي بفتح النون وسكون الهاء وبالدال المهملة نسبة إلى نهد بن زيد بن ليث بن سود بن الحاف بن قضاعة. الخامس أبو هريرة
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه اثنان مذكوران بالنسبة أحدهما باسمه والآخر بكنيته وفيه أن رواته بصريون ما خلا شعبة فإنه واسطي
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصوم عن أبي معمر عن عبد الوارث عن أبي التياح وأخرجه مسلم في الصلاة عن شيبان بن فروخ وعن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة وعن محمد بن علي وعن بشر بن هلال.
(ذكر معناه) قوله ' خليلي ' أراد به النبي
وهذا لا يخالف ما قاله
' لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر ' لأن الممتنع أن يتخذ النبي
غيره خليلا لا العكس والخليل هو الصديق الخالص الذي تخللت محبته القلب فصارت في خلاله أي في باطنه وفي رواية النسائي من حديث أبي الدرداء ' أوصاني حبيبي ' على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى ثم هل فرق بينهما أم لا قال بعضهم لا يقال أن المخاللة تكون من الجانبين لأنا نقول إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة (قلت) هذا الكلام في غاية الوهاء وليت شعري فأين صيغة المفاعلة ههنا حتى يجيء هذا السؤال والجواب أو هي من السؤال لأن أحدا من أهل الأدب لم يق لذلك بهذا الوجه قوله ' بثلاث ' أي بثلاثة أشياء قوله ' لا أدعهن ' أي لا أتركهن والضمير يرجع إلى الثلاث وقال بعضهم ' لا أدعهن ' إلى آخره من جملة الوصية أي أوصاني أن لا أدعهن ويحتمل أن يكون من أخبار الصحابي بذلك عن نفسه (قلت) هو إخبار عن نفسه بتلك الوصية بأن لا يتركها إلى أن يموت بعد إخباره بها عن النبي
والدليل عليه أن قوله ' لا أدعهن حتى أموت ' غير مذكور في رواية مسلم مع أنه أخرجه من رواية أبي عثمان النهدي عنه قال ' أوصاني خليلي
بثلاث بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أرقد ' ورواه أيضا من رواية أبي رافع الصائغ عنه وكذلك ورواه النسائي من رواية أبي عثمان النهدي عنه كذلك فالحديث واحد ومخرجه واحد فلا يحتاج في تفسير قوله ' لا أدعهن ' إلى التردد وأقوى الدليل على ما قلنا رواية النسائي ولفظه ' أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله أبدا أوصاني بصلاة الضحى ' الحديث على ما نذكره عن قريب إن شاء الله تعالى (فإن قلت) ما محل هذه الجملة من الإعراب (قلت) يجوز فيه الوجهان الجر لكونها صفة لقوله ' بثلاث ' لأنه يشبه النكرة في الإبهام وإن كان موضوعا في الأصل لعدد معين والنصب على أن يكون حالا بالنظر إلى الأصل فافهم قوله ' حتى أموت ' كلمة حتى للغاية وأموت منصوب بأن المقدرة والمعنى إلى أن أموت أي إلى موتي قوله ' صوم ثلاثة أيام ' يجوز في صوم الجر على أن يكون بدلا من قوله ' بثلاث ' ويكون صلاة الضحى ويوم مجرور أن عطفا عليه ويجوز فيه الرفع على أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي صوم ثلاثة أيام وصلاة الضحى ونوم على وتر بالرفع في الكل والمراد من ثلاثة أيام ظاهره هي أيام البيض وإن كان يحتمل أن يكون سرد الشهر قوله ' وصلاة الضحى ' لم يتعرض فيه إلى العدد وبينه في رواية
مسلم بقوله ' وركعتي
242

الضحى ' كما مر الآن وفي رواية أحمد زيادة وهي قوله ' وصلاة الضحى كل يوم ' قوله ' ونوم على وتر ' وفي رواية البخاري من طريق ابن التياح على ما يجيء في الصوم ' وأن أوتر قبل أن أنام ' وبمثل وصية النبي
لأبي هريرة أوصى بها
لأبي الدرداء فيما رواه مسلم حدثنا هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع قال حدثنا ابن فديك عن الضحاك بن عثمان عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين عن أبي مرة مولى أم هانيء ' عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال أوصاني حبيبي
بثلاث لن أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وبصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر ' وبمثل ذلك أيضا أوصى لأبي ذر رضي الله تعالى عنه فيما رواه النسائي قال أخبرنا علي بن حجر قال أخبرنا إسماعيل قال حدثنا محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار ' عن أبي ذر قال أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن إن شاء الله تعالى أبدا أوصاني بصلاة الضحى وبالوتر قبل النوم وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر ' (فإن قلت) ما الحكمة في الوصية بالمحافظة على هذه الثلاث (قلت) أما في صوم ثلاثة أيام من كل شهر إشارة إلى تمرين النفس على جنس الصيام وفي صلاة الضحى إشارة إلى ذلك في جنس الصلاة وأما في الوتر قبل النوم إشارة إلى أن ذلك في المواظبة عليه وفيه إمارة الوجوب ووقته في الليل وهو وقت الغفلة والنوم والكسل ووقت طلب النفس الراحة (فإن قلت) ما وجه تخصيص أبي هريرة وأبي ذكر بهذه الوصية (قلت) لأنهما كانا من الفقراء ولم يكونا من أصحاب الأموال فالصوم والصلاة من أشرف العبادات البدنية فوصاهما بما يليق بهما والوتر من جنس الصلاة. ومن فوائد الحديث المذكور الإشارة إلى فضيلة صلاة الضحى وفضيلة صوم ثلاثة أيام من كل شهر فالحسنة بعشر أمثالها فإذا صام في كل شهر ثلاثة أيام وصام شهر رمضان فكأنما صام سنته تلك كلها وقيل أما الوتر فإنه محمول على من لا يستيقظ آخر الليل فإن أمن فالتأخير أفضل للحديث الصحيح ' فانتهى وتره إلى السحر '
205 - (حدثنا علي بن الجعد قال أخبرنا شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت أنس بن مالك الأنصاري قال قال رجل من الأنصار وكان ضخما للنبي
إني لا أستطيع الصلاة معك فصنع للنبي
طعاما فدعاه إلى بيته ونضح له طرف حصير بماء فصلى عليه ركعتين وقال فلان ابن فلان ابن جارود لأنس رضي الله عنه أكان النبي
يصلي الضحى فقال ما رأيته صلى غير ذلك اليوم)
مطابقته للترجمة في قوله ' فدعاه إلى بيته ' إلى آخره فإنه صلى
في بيته فأوقع في الحضر
(ذكر رجاله) وهم أربعة علي بن الجعد بفتح الجيم مر في باب أداء الخمس من الإيمان وشعبة بن الحجاج قد تكرر ذكره وأنس بن سيرين مولى أنس بن مالك ويقال أنه لما ولد ذهب به إلى أنس بن مالك فسماه أنسا وكناه أبا حمزة باسمه وكنيته ومات بعد أخيه محمد ومات محمد سنة عشر ومائة وقد مر هذا الحديث في باب هل يصلي الإمام بمن حضر فإنه أخرجه هناك عن آدم عن شعبة عن أنس بن سيرين قال سمعت أنسا الحديث وقد مر الكلام فيه مستقصى قوله ' قال رجل من الأنصار ' قيل هو عتبان بن مالك قوله ' وقال فلان بن فلان ' قال الكرماني قيل هو عبد الحميد بن المنذر بن جارود بالجيم وبضم الراء وبإهمال الدال يرفع الحديث في باب هل يصلي الإمام بمن حضر.
((باب الركعتين قبل الظهر))
أي هذا باب في بيان الركعتين اللتين قبل صلاة الظهر وقد ذكروا أولا الرواتب التي بعد المكتوبات ثم ذكر ما يتعلق بما قبلها فبدأ أولا بما قبل الظهر وفي بعض النسخ باب الركعتان قبل الظهر ووجهه أن يقال هذا باب يذكر فيه الركعتان قبل الظهر
206 - (حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن
243

عمر رضي الله عنهما قال حفظت من النبي
عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح وكانت ساعة لا يدخل على النبي
فيها حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين)
مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله ' ركعتين قبل الظهر ' ورجاله قد ذكروا غير مرة وأيوب هو السختياني وأخرجه في باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن عبد الله بن عمر وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك
207 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي
كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين قبل الغداة)
طرق هذا الحديث الصحاح أربع وكذا رواه أبو داود والنسائي من رواية محمد بن المنتشر وكذا رواه مسلم من رواية عبد الله ابن شقيق عنها أربع غير أن الترمذي روى من حديث عبد الله بن شقيق عنها ' كان يصلي قبل الظهر ركعتين ' وصححه قيل حديث عائشة هذا لا يطابق الترجمة وأجيب بأنه يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع ورد بأن هذا الاحتمال بعيد والأولى أن يحمل على حالين فكان يصلي تارة ثنتين وتارة يصلي أربعا (قلت) الحمل على النسيان أقرب إلى الترجمة من الذي قاله
لأن النسيان غير مرفوع فإذا حمل على ما قاله لا تتم المطابقة أصلا وقيل أنه محمول على أنه كان يصلي في المسجد يقتصر على ركعتين وفي بيته صلي أربعا وعلى كل حال لا يترك الأربع والركعتان موجودتان في الأربع وقيل كان ابن عمر رأى ما في المسجد وعائشة اطلعت على الأمرين جميعا ولما كان الأربع من الرواتب للظهر ذكره استطرادا لحديث ابن عمر حيث اقتصر على ركعتين فأخبر كل منهما بما شاهده والدليل عليه ما قاله الطبري الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول مسدد تكرر ذكره. الثاني يحيى بن سعيد القطان. الثالث شعبة بن الحجاج. الرابع إبراهيم بن محمد بن المنتشر ابن أخي مسروق الهمداني. الخامس أبوه محمد بن المنتشر بن الأجدع والمنتشر بضم الميم وسكون النون وفتح التاء المثناة من فوق وكسر الشين المعجمة وفي آخره راء بلفظ الفاعل من الانتشار ضد الانقباض. السادس أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهما
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في أربعة مواضع وفيه أن شيخه بصري وكذا شيخ شيخه وشعبة واسطي وإبراهيم وأبوه كوفيان وفيه عن أبيه عن عائشة وفي رواية وكيع عن شعبة عن إبراهيم عن أبيه سمعت عائشة أخرجه الإسماعيلي وحكى عن شيخ أبي القاسم البغوي أنه حدثه به من طريق عثمان ابن عمر عن شعبة فأدخل بين محمد بن المنتشر وعائشة مسروقا وأخبره أن حديث وكيع وهم ورد ذلك الإسماعيلي بأن محمد بن جعفر قد وافق وكيعا على التصريح بسماع محمد عن عائشة ثم ساقه بسنده إلى شعبة عن إبراهيم بن محمد أنه سمع أباه أنه سمع عائشة ولما خرجه النسائي أدخل بين محمد وعائشة مسروقا كما في رواية البغوي فقال حدثنا ابن المنثى حدثنا عثمان بن عمر بن فارس حدثنا شعبة عن إبراهيم بن محمد عن أبيه عن مسروق عن عائشة بلفظ ' كان لا يدع أربع ركعات قبل الظهر وركعتين قبل الفجر ' وقال النسائي هذا الحديث لم يتابعه أحد على قوله عن مسروق وخالفه محمد بن جعفر وعامة أصحاب شعبة وقال الإسماعيلي قد ذكر سماع ابن المنتشر عن عائشة غير واحد فإن وكيعا رواه عن شعبة فقال فيه سمعت من رواية عثمان وأبي كريب وكذا قال غندر عن شعبة وقال صاحب التلويح فالحمل في ذلك على عثمان بن عمر فإن يحيى بن سعيد لم يكن ليحمل
244

هكذا إن شاء الله تعالى ثم قال ولقائل أن يقول تصريح أولئك بسماعه عن عائشة لا ينفي دخول مسروق بينهما الاحتمال أن يكون أولا رواه بواسطة ثم سمعه بغير واسطة فأدى ما سمعه عنه شعبة في الحالتين لأن الطريق في كل منهما صحيحة
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه أبو داود أيضا عن مسدد نحو البخاري وأخرجه النسائي في الصلاة عن أحمد بن عبد الله عن غندر وعن عبيد الله بن سعيد عن يحيى وعن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث ثلاثتهم عن شعبة.
(ذكر معناه) قوله ' لا يدع ' أي لا يترك وأمات العرب ماضيه قوله ' قبل الغداة ' أي قبل صلاة الصبح واختلفت الأحاديث في التنفل قبل الظهر وبعدها وقد ذكرناه مستقصى وقال القرطبي واختلف العلماء هل للفرائض رواتب مسنونة أو ليست لها فذهب الجمهور وقالوا هي سنة مع الفرائض وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا رواتب في ذلك ولا توقيت حماية للفرائض ولا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك.
(تابعه ابن أبي عدي وعمرو عن شعبة)
أي تابع يحيى بن سعيد بن أبي عدي وعمر وعلي روايته عن شعبة وابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم وأبو عدي هو كنية إبراهيم مولى بني سليم من القساملة البصري مكنى أبا عمرو مات سنة أربع وتسعين ومائة وعمرو بفتح العين هو ابن مرزوق أبو عثمان مولى باهلة من مضر البصري روى عنه البخاري في أول الديات وفي مناقب عائشة وقال مات سنة أربع وعشرين ومائتين وهو من أفراد البخاري وقال الإسماعيلي وتابعه أيضا ابن المبارك ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير كلهم عن شعبة بسند ليس فيه مسروق وقال المزي قال النسائي هذا الصواب وحديث عثمان بن عمر خطأ يعني عن شعبة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن مسروق عن عائشة (قلت) قد مر أن دخول مسروق بين محمد بن المنتشر وعائشة غير ممتنع وقد ذكرناه على أن البخاري قد أراد بهذه المتابعة السلامة من هذه الشائية
((باب الصلاة قبل المغرب))
أي هذا باب في بيان حكم الصلاة قبل صلاة المغرب.
208 - (حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث عن الحسين عن ابن بريدة قال حدثني عبد الله المزني عن النبي
قال صلوا قبل صلاة المغرب قال في الثالثة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)
مطابقته للترجمة ظاهرة ولم يذكر الصلاة قبل العصر مع أن أبا داود والترمذي وأحمد رووا عن أبي هريرة مرفوعا ' رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا ' وأخرجه ابن حبان وصححه لكونه على غير شرطه وقد ذكرنا هذا الباب فيما مضى مستوفى.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول أبو معمر بفتح الميمين عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري. الثاني عبد الوارث بن سعيد يكنى بأبي عبيدة. الثالث حسين بن ذكوان المعلم. الرابع عبد الله بن بريدة بضم الباء الموحدة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وبالدال المهملة. الخامس عبد الله بن المغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء المفتوحة المزني بضم الميم وفتح الزاي وبالنون.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضع واحد وفيه أن رواته كلهم بصريون يغر ابن بريدة فإنه مروزي.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن أبي معمر أيضا وأخرجه أبو داود في الصلاة عن عبيد الله بن عمر القواريري.
(ذكر معناه) قوله ' صلوا قبل صلاة المغرب ' وفي رواية أبي داود عن القواريري بالإسناد المذكور ' صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين ' قوله ' قال في الثالثة لمن شاء ' هذا يدل على أنه
قال صلوا قبل صلاة المغرب ثلاث مرات وكذا وقع في رواية الإسماعيلي من هذا الوجه ثلاث مرات وقال في الثالثة لمن شاء وفي
245

رواية أبي نعيم في المستخرج ' صلوا قبل المغرب ركعتين قالها ثلاثا ثم قال لمن شاء ' قوله ' كراهية أن يتخذها الناس سنة ' وفي رواية أبي داود ' خشية أن يتخذها الناس سنة ' وانتصاب كراهية وخشية على التعليل ومعنى سنة طريقة لازمة يواظبون عليها
(ذكر ما يستفاد منه) اختلف السلف في التنفل قبل المغرب فأجازه طائفة من الصحابة والتابعين والفقهاء وحجتهم هذا الحديث وأمثاله وروي عن جماعة من الصحابة وغيرهم أنهم كانوا لا يصلونها وقال ابن العربي اختلف الصحابة فيهما ولم يفعلهما أحد بعدهم وقال سعيد بن المسيب ما رأيت فقيها يصليهما إلا سعد بن أبي قاص وذكر ابن حزم أن عبد الرحمن بن عوف كان يصليهما وكذا أبي بن كعب وأنس بن مالك وجابر وخمسة آخرون من أصحاب الشجرة وعبد الرحمن بن أبي ليلى وقال حبيب بن سلمة رأيت الصحابة يهبون إليها كما يهبون إلى صلاة الفريضة وسئل عنهما الحسن فقال حسنتان لمن أراد بهما وجه الله تعالى وقال ابن بطال وهو قول أحمد وإسحق وفي المغني ظاهر كلام أحمد أنهما جائزتان وليستا سنة قال الأثرم قلت لأحمد الركعتين قبل المغرب قال ما فعلته قط إلا مرة حين سمعت الحديث قال وفيهما أحاديث جياد أو قال صحاح عن النبي
وأصحابه والتابعين إلا أنه قال لمن شاء فمن شاء صلى وعند البيهقي عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب قال كان المهاجرون لا يركعونهما وكانت الأنصار تركعهما ومن حديث مكحول عن أبي أمامة كنا لا ندع الركعتين قبل المغرب في زمان رسول الله
وقال ابن بطال قال النخعي لم يصلهما أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله تعالى عنهم قال إبراهيم وهي بدعة قال وكان خيار الصحابة بالكوفة علي وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبو مسعود أخبرني من رمقهم كلهم فما رأى أحدا منهم يصلي قبل المغرب قال وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وفي شرح المهذب لأصحابنا فيها وجهان أشهرهما لا يستحب والصحيح عند المحققين استحبابهما وقال بعض أصحابنا أن حديث عبد الله المزني محمول على أنه كان في أول الإسلام ليتبين خروج الوقت المنهي عن الصلاة فيه بمغيب الشمس وحل فعل النافلة والفريضة ثم التزم الناس المبادرة لفريضة الوقت لئلا يتبطأ الناس بالصلاة عن وقتها الفاضل وادعى ابن شاهين أن هذا الحديث منسوخ بحديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله
' إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب ' ويزيده وضوحا ما رواه أبو داود في سننه حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي شعيب ' عن طاوس قال سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب فقال ما رأيت أحدا عن عهد رسول الله
يصليهما ورخص في الركعتين بعد العصر ' قال أبو داود سمعت يحيى بن معين يقول هو شعيب يعني وهم شعبة في اسمه (قلت) يعني وهم في ذكره بالكنية وليس كذلك بل هو شعيب وسنده صحيح وقال ابن حزم لا يصح لأنه عن أبي شعيب أو شعيب ولا يدرى من هو ورد عليه بأن وكيعا وابن ابن غنية رويا عنه وقال أبو زرعة لا بأس به وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن خلفون روى عنه عمر بن عبيد الطنافسي وموسى بن إسماعيل التبوذكي
209 - (حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا سعيد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد بن أبي حبيب قال سمعت مرثد بن عبد الله اليزني قال أتيت عقبة بن عامر الجهني فقلت ألا أعجبك من أبي تميم يركع ركعتين قبل صلاة المغرب فقال عقبة إنا كنا نفعله على عهد رسول الله
قلت فما يمنعك الآن قال الشغل)
مطابقته للترجمة ظاهرة من قوله ' إنا كنا نفعله على عهد النبي '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة الأول عبد الله بن يزيد من الزيادة المقري أبو عبد الرحمن مر في باب بين كل أذانين صلاة. الثاني سعيد بن أبي أيوب الخزاعي واسم أبي أيوب مقلاص يكنى أبا يحيى. الثالث يزيد بن أبي حبيب يزيد من الزيادة يكنى بأبي رجا واسم أبي حبيب سويد وحبيب ضد العدو. الرابع مرثد بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة وبالدال المهملة ابن عبد الله اليزني بفتح الياء آخر الحروف والزاي وبالنون وهو نسبة إلى يزن بطن من حمير مر في باب إطعام الطعام من الإيمان. الخامس عقبة بن عامر الجهني بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون والي مصر مر في باب من صلى في فروج الحرير.
(ذكر لطائف إسناده) فيه حدثنا بصيغة الجمع
246

في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع وفيه السماع والإتيان وفيه القول في أربعة مواضع وفيه أن رواته مصريون غير أن شيخه من ناحية البصرة وسكن مكة
(ذكر معناه) قوله ' ألا أعجبك ' قال بعضهم بضم أوله وتشديد الجيم من التعجب (قلت) التعجب من باب التفعل ولا يأتي الفعل منه على ما قاله وما غيره إلا قول الكرماني لا أعجبك من التعجب وليس هذا إلا من باب الإعجاب بكسر الهمزة ومعناه أن مرثد بن عبد الله يخبر عقبة بن أبي تميم شيئا يتعجب منه حاصله أنه يستغربه وأبو تميم بفتح التاء المثناة من فوق عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف بعدها شين معجمة نسبته إلى جيشان بن عبدان بن حجر بن ذي رعين وهو تابعي كبير مخضرم أسلم في عهد النبي
وقرأ القرآن على معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه ثم قدم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فشهد فتح مصر وسكنها قاله ابن يونس وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك وذكره الذهبي في تجريد الصحابة قوله ' يركع ركعتين ' وفي رواية الإسماعيلي ' حين يسمع أذان المغرب ' وفيه ' فقلت ' لعقبة ' وأنا أريد أن أغمصه ' بغين
معجمة وصاد مهملة أي أعيبه قوله ' على عهد النبي
' أي على زمنه قوله ' الشغل ' بضم الشين وضم الغين وسكونها
(ذكر ما يستفاد منه) فيه دلالة على استحباب الركعتين قبل المغرب لمن كان متأهبا بشروط الصلاة لئلا يؤخر المغرب عن أول وقتها كذا قاله قوم وقد مر بيان الخلاف فيه ورد على من استدل به على امتداد وقت المغرب وقال بعضهم وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي لم يفعلهما أحد من الصحابة لأن أبا تميم تابعي وقد فعلهما (قلت) قول القاضي على قول من عد أبا تميم من الصحابة فلا وجه للرد عليه *
((باب صلاة النوافل جماعة))
أي هذا باب في بيان صلاة النوافل جماعة وانتصاب جماعة يجوز أن يكون بنزع الخافض أي بجماعة
(ذكره أنس وعائشة رضي الله عنهما عن النبي
)
أي ذكر حكم صلاة النوافل بالجماعة أنس بن مالك وعائشة الصديقة وحديث أنس ذكره البخاري في باب الصلاة على الحصير حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ' عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن جدته مليكة ' الحديث وفيه ' فقام رسول الله
وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله
ركعتين ثم انصرف ' وحديث عائشة ذكره في صلاة الكسوف في باب الصدقة في الكسوف حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه ' عن عائشة أنها قالت خسفت الشمس في عهد رسول الله
فصلى رسول الله
بالناس ' وذكره أيضا في باب تحريض النبي
على قيام الليل حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير ' عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله
صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ' الحديث
210 - (حدثني إسحاق قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبي عن ابن شهاب قال أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أنه عقل رسول الله
وعقل مجة مجها في وجهه من بئر كانت في دارهم فزعم محمود أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله
يقول كنت أصلي لقومي ببني سالم وكان يحول بيني وبينهم
247

واد إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم فجئت رسول الله
فقلت له إني أنكرت بصري وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه فوددت أنك تأتي فتصلي من بيتي مكانا أتخذه مصلى فقال رسول الله
سأفعل فغدا علي رسول الله
وأبو بكر رضي الله عنه بعد ما اشتد النهار فاستأذن رسول الله
فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه فقام رسول الله
فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتن ثم سلم وسلمنا حين سلم فحبسته على خزير يصنع له فسمع أهل الدار رسول الله
في بيتي فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت فقال رجل منهم ما فعل مالك لا أراه فقال رجل منهم ذاك منافق لا يحب الله ورسوله قال رسول الله
لا تقل ذاك ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله فقال الله ورسوله أعلم أما نحن فوالله لا نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين قال رسول الله
فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله * قال محمود فحدثتها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله
في غزوته التي توفي فيها ويزيد بن معاوية عليهم بأرض الروم فأنكرها علي أبو أيوب وقال والله ما أظن رسول الله
قال ما قلت قط فكبر ذلك علي فجعلت لله علي إن سلمني حتى أقفل من غزوتي أن أسأل عنها عتبان بن مالك رضي الله عنه إن وجدته حيا في مسجد قومه فقفلت فأهللت بحجة أو بعمرة ثم سرت حتى قدمت المدينة فأتيت بني سالم فإذا عتبان شيخ أعمى يصلي لقومه فلما سلم من الصلاة سلمت عليه وأخبرته من أنا ثم سألته عن ذلك الحديث فحدثنيه كما حدثنيه أول مرة)
مطابقته للترجمة في قوله ' فقام رسول الله
وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم '
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول إسحاق ذكره غير منسوب لكن يحتمل أن يكون إسحاق بن راهويه أو إسحاق بن منصور لأن كليهما يرويان عن يعقوب الزهري والبخاري يروي عنهما لكن الأظهر أن يكون إسحق بن راهويه فإنه روى هذا الحديث في مسنده بهذا الإسناد لكن في لفظه بعض المخالفة. الثاني يعقوب بن إبراهيم بن
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. الثالث أبوه إبراهيم المذكور. الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس محمود بن الربيع أبو محمد الأنصاري الحارثي توفي سنة تسع وتسعين وقد مر هذا الحديث في كتاب الصلاة في باب المساجد في البيوت فإنه أخرجه هناك عن سعيد بن عفير قال حدثني الليث قال حدثني عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه الحديث وقد مر الكلام فيه مستقصى ولنذكر الآن بعض شيء زيادة للبيان قوله ' وعقل مجة ' وقد مر الكلام فيه في كتاب العلم في باب متى يصح سماع الصغير روى هناك قال حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا أبو مسهر قال حدثني محمد بن حرب قال حدثني الزبيدي عن الزهري ' عن محمود بن الربيع قال عقلت من النبي
مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو انتهى '
248

وههنا قال ' من بئر كانت في دارهم ' هذه رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' كان في دارهم ' أي كان الدلو قوله ' فزعم محمود ' أي أخبر أو قال ويطلق الزعم ويراد به القول قوله ' إذ جاءت ' أي حين جاءت ويجوز أن تكون إذ للتعليل أي لأجل مجيء الأمطار قوله ' فيشق علي ' هذه رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' فشق ' بصيغة الماضي قوله ' قبل ' بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي جهة مسجدهم قوله ' سأفعل فغدا علي ' وهناك ' سأفعل إن شاء الله تعالى قال عتبان فغدا ' قوله ' بعدما اشتد النهار ' وهناك ' فغدا على رسول الله
وأبو بكر حين ارتفع النهار ' قوله ' أين تحب أن أصلي من بيتك ' هذه رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' نصلي ' بنون الجمع قوله ' على خزير ' بفتح الخاء المعجمة وكسر الزاي وسكون الياء آخر الحروف وبالراء وهناك ' على خزير صنعناها له ' وهو طعام من اللحم والدقيق الغليظ قوله ' ما فعل مالك ' وهناك ' فقال قائل منهم أين مالك بن الدخيشن أو ابن الدخشن ' الدخيشن بضم الدال المهملة وفتح الخاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الشين المعجمة وفي آخره نون والدخشن بضم الدال وسكون الخاء وضم الشين وبالنون قوله ' لا أراه ' بفتح الهمزة من الرؤية قوله ' فوالله لا نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين ' وهناك ' فإنا نرى وجهه ونصيحته للمنافقين ' ويروى ' إلى المنافقين ' قوله ' فقال رسول الله
' وهناك ' قال ' بدون الفاء ويروى هناك أيضا بالفاء قوله ' قال محمود بن الربيع ' أي بالإسناد الماضي قوله ' أبو أيوب الأنصاري ' هو خالد بن زيد الأنصاري الذي نزل عليه رسول الله
لما قدم المدينة قوله ' صاحب رسول الله
' ويروى ' صاحب النبي
' قوله ' في غزوته ' وكانت في سنة خمسين وقيل بعدها في خلافة معاوية ووصلوا في تلك الغزوة إلى القسطنطينة وحاصروها قوله ' ويزيد بن معاوية عليهم ' أي والحال أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان كان أميرا عليهم من جهة أبيه معاوية قوله ' بأرض الروم ' وهي ما وراء البحر الملح التي فيها مدينة القسطنطينة قوله ' فأنكرها ' أي القصة أو الحكاية قوله ' فكبر ' بضم الباء الموحدة أي عظم قوله ' حتى أقفل ' بضم الفاء قال الكرماني (فإن قلت) ما سبب الإنكار من أبي أيوب عليه (قلت) إما أنه يستلزم أن لا يدخل عصاة الأمة النار وقال تعالى * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * وإما أنه حكم باطن الأمر وقال نحن نحكم بالظاهر وإما أنه كان بين أظهرهم ومن أكابرهم ولو وقع مثل هذه القصة لاشتهر ولنقلت إليه وإما غير ذلك والله أعلم
(ذكر ما يستفاد منه) وهو خمسة وخمسون فائدة. الأولى أن من عقل رسول الله
أو من عقل منه فعلا يعد صحابيا. الثانية ما كان عليه
من الرحمة لأولاد المؤمنين وفعل ذلك ليعقل عنه الغلمان ويعد لهم به الصحبة لينالوا فضلها وناهيك بها. الثالثة استئلافهم لآبائهم بمزحه مع بنيهم. الرابعة مزحه ليكرم به من يمازحه. الخامسة استراحته في بعض الأوقات ليستعين على العبادة في وقتها. السادسة إعطاء النفس حقها ولا يشق عليها في كل الأوقات. السابعة اتخاذ الدلو. الثامنة أخذ الماء منه بالفم. التاسعة إلقاء الماء في وجه الطفل. العاشرة صلاة القبائل الذين حول المدينة في مساجدهم المكتوبة وغيرها. الحادية عشر إمامة الضعيف والتخلف عن المسجد في الطين والظلمة. الثانية عشر صلاة المرء المكتوبة وغيرها في بيته. الثالثة عشر سؤال الكبير إتيانه إلى بيته ليتخذ مكان صلاته مصلى. الرابعة عشر ذكر المرء ما فيه من العلل معتذرا ولا يكون شكوى فيه. الخامسة عشر إجابة الشارع من سأله. السادسة عشر سير الإمام مع التابع. السابعة عشر صحبة أفضل الصحابة إياه. الثامنة عشر تسميته لأبي بكر وحده لفضله. التاسعة عشر صاحب البيت أعلم بأماكن بيته وهو أدرى به. العشرون التبرك بآثار الصالحين. الحادية والعشرون طلب اليقين تقديما على الاجتهاد فإن ذلك موضع صلى فيه الشارع فهو عين لا يجتهد فيه. الثانية والعشرون طلب الصلاة في موضع معين لتقوم صلاته فيه مقام الجماعة ببركة من صلى فيه. الثالثة والعشرون ترك التطلع في نواحي البيت. الرابعة والعشرون صلاة النافلة جماعة في البيوت. الخامسة والعشرون فضل موضع صلاته
. السادسة والعشرون نوافل النهار تصلى ركعتين كالليل. السابعة والعشرون المكان المتخذ مسجدا ملكه باق عليه. الثامنة
249

والعشرون أن النهي عن أن يوطن الرجل مكانا للصلاة إنما هو في المساجد دون البيوت. التاسعة والعشرون صلاة الضحى مستحبة. الثلاثون صنع الطعام للكبير عند إتيانه لهم وإن لم يعلم بذلك. الحادية والثلاثون عدم التكلف فيما يصنع. الثانية والثلاثون كان النبي
لا يعيب طعاما. الثالثة والثلاثون كان
أدوم على فعل الخيرات. الرابعة والثلاثون الاكتفاء بالإشارة. الخامسة والثلاثون يجوز أن تكون بلفظ معها. السادسة والثلاثون يعبر بالدار عن المحلة التي فيها الدور كما في الحديث ' خير دور الأنصار دور بني النجار ' ثم عدد جماعة وفي آخره ' وفي كل دور الأنصار خير '. السابعة والثلاثون اجتماع القبيل إلى الموضع الذي يأتيه الكبير ليؤدوا حقه ويأخذوا حظهم منه. الثامنة والثلاثون عيب من حضر على من تخلف ونسبته إلى أمر متهم به وهو مالك بن الدخشن وأنه قد شهد بدرا واختلف في شهوده العقبة فظهر من حسن إسلامه ما ينفي عنه تهمة النفاق. التاسعة والثلاثون كراهة من يميل إلى المنافقين في حديثه ومجالسته. الأربعون من رمى مسلما بالنفاق لمجالسته لهم لا يعاقب ولا يقال له أثمت. الحادية والأربعون الشارع كان يأتيه الوحي ولا شك فيه. الثانية والأربعون الكبير إذا علم بصحة اعتقاد من نسب إلى غيره يقول له لا تقل ذلك. الثالثة والأربعون من عيب غيره بما ظهر منه لم يكن غيبة. الرابعة والأربعون من تلفظ بالشهادتين واعتقد حقية ما جاء به ومات على ذلك فاز ودخل الجنة. الخامسة والأربعون اختيار من سمع الحديث من صاحب صاحب مثله أو غيره ليثبت ما سمع ويشهد ما عند الذي يخبره من ذلك. السادسة والأربعون إنكار من روى حديثا من غير أن يقطع به. السابعة والأربعون المراجعة فيه إلى غيره فإن محمود بن الربيع أوجب على نفسه إن سلم أن يأتي عتبان بن مالك وكان محمود في الشام. الثامنة والأربعون الرحلة في العلم. التاسعة والأربعون ذكر ما في الإنسان على وجه التعريف ليس غيبة كذكره عمى عتبان. الخمسون إمامة الأعمى. الحادية والخمسون الإسرار بالنوافل. الثانية والخمسون فيه طلب عين القبلة. الثالثة والخمسون الاستئذان من صاحب الدار إذا أتى إلى صاحبها لأمر عرض له. الرابعة والخمسون تولية الإمام أحد السرية أميرا إذا بعثهم لغزو. الخامسة والخمسون الجمع بين الحجة وطلب العلم في سفرة واحدة *
((باب التطوع في البيت))
أي هذا باب في بيان صلاة التطوع في البيت
211 - (حدثنا عبد الأعلى بن حماد قال حدثنا وهيب عن أيوب وعبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله
اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا)
مطابقته للترجمة ظاهرة والحديث بعينه قد سلف في باب كراهية الصلاة في المقابر لكن هناك رواه عن مسدد عن يحيى عن عبيد الله عن نافع وهنا عن عبد الأعلى بن حماد بن نصر أبي يحيى قال البخاري مات سنة سبع وثلاثين ومائتين وهو يروي عن وهيب بن خالد عن أيوب السختياني وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع قوله ' وعبيد الله ' بالجر عطفا على أيوب قوله ' من صلاتكم ' قال الكرماني كلمة من زائدة كأنه قال اجعلوا صلاتكم النافلة في بيوتكم (قلت) فيه نظر لا يخفى بل كلمة من ههنا للتبعيض ومفعول اجعلوا محذوف والتقدير اجعلوا شيئا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا أي مثل القبور بأن لا يصلى فيها
(تابعه عبد الوهاب عن أيوب)
أي تابع وهيبا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب السختياني وهذه المتابعة أخرجها مسلم حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الوهاب قال أخبرنا أيوب عن نافع عن ابن عمر عن النبي
قال ' صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ' وعند الطبري من حديث عبد الرحمن بن سابط عن أبيه عن النبي
قال ' نوروا بيوتكم بذكر الله تعالى وأكثروا فيها تلاوة القرآن ولا تتخذوها قبورا كما اتخذها اليهود والنصارى ' *
250

((بسم الله الرحمن الرحيم))
((باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة))
في بعض النسخ قبل ذكر الباب ذكر التسمية أي هذا باب في بيان فضل الصلاة في مسجد مكة ومسجد المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وإنما لم يذكر في الترجمة بيت المقدس وإن كان مذكورا معهما لكونه أفرده بعد ذلك بترجمة أخرى (فإن قلت) ليس في الحديث لفظ الصلاة (قلت) المراد من الرحلة إلى المساجد قصد الصلاة فيها (فإن قلت) ذكر الصلاة مطلقة (قلت) المراد صلاة النافلة ظاهرا وإن كان يحتمل أعم من ذلك وفيه خلاف يأتي بيانه
212 - (حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبد الملك عن قزعة قال سمعت أبا سعيد رضي الله عنه أربعا قال سمعت من النبي
وكان غزا مع النبي
ثنتي عشرة غزوة ح حدثنا علي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول
ومسجد الأقصى)
هذان إسنادان الأول لحديث أبي سعيد الخدري. والثاني لحديث أبي هريرة ولكنه لم يتم متن حديث أبي سعيد واقتصر على قوله ' كان غزا مع النبي
ثنتي عشرة غزوة ' وسيذكر تمامه بعد أربعة أبواب في باب مسجد بيت المقدس وتمامه مشتمل على أربعة أحكام. الأول في منع المرأة عن السفر بدون الزوج أو المحرم * والثاني في منع صوم يومي العيدين. والثالث في منع الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب. والرابع في منع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وحديث أبي هريرة مشتمل على الحكم الرابع فقط ولما كان الحديثان مشتركين في هذا اقتصر في حديث أبي سعيد على ما ذكره طلبا للاختصار وقيل كأنه قصد بذلك الإغماض لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ وظن الداودي أنه ساق الإسنادين لمتن حديث أبي هريرة وليس كذلك لاشتمال حديث أبي سعيد على الأشياء المذكورة ثم
وجه مطابقة حديث أبي هريرة للترجمة ظاهرة لا يقال ليس فيه لفظ الصلاة لأنا قد ذكرنا عن قريب أن المراد من الرحلة إلى المساجد المذكورة قصد الصلاة وأما وجه مطابقة حديث أبي سعيد للترجمة من حيث أنه مشترك لحديث أبي هريرة في الحكم الرابع كما ذكرناه وإن لم يذكره ههنا مع أنه ما أخلاه عن الذكر على ما سيأتي إن شاء الله تعالى
(ذكر رجال الإسنادين) وهم عشرة. الأول حفص بن عمر بن الحارث النمري. الثاني شعبة بن الحجاج. الثالث عبد الملك بن عمير بضم العين مصغر عمر المعروف بالقبطي مر في باب أهل العلم أولى بالإمامة وإنما قيل له القبطي لأنه كان له فرس سابق يعرف بالقبطي فنسب إليه وكان على قضاء الكوفة بعد الشعبي مات سنة ست وثلاثين ومائة وله من العمر يوم مات مائة سنة وثلاث سنين. الرابع قزعة بالقاف والزاي والعين المهملة كلها مفتوحة وقيل بسكون الزاي ابن يحيى وقيل ابن الأسود مولى زياد يكنى أبا العادية. الخامس أبو سعيد الخدري واسمه سعيد بن مالك الأنصاري. السادس علي بن المديني وقد تكرر ذكره. السابع سفيان بن عيينة. الثامن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. التاسع سعيد بن المسيب. العاشر أبو هريرة
(ذكر لطائف الإسناد الأول) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه الإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه السماع في موضعين وفيه القول في أربعة مواضع وفيه أن شيخه بصري وهو من أفراده وشعبة واسطي وعبد الملك كوفي وروايته عن قزعة من رواية الأقران لأنهما من طبقة واحدة وقزعة بصري وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي
(ذكر لطائف الإسناد الثاني) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في أربعة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه أن السفيان مكي والزهري وسعيد بن المسيب مدنيان وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي *
251

(ذكر تعدد موضع الحديث الأول ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة ببيت المقدس عن أبي الوليد وفي الحج عن سليمان بن حرب وفي الصوم عن حجاج بن منهال ثلاثتهم عن شعبة عن عبد الملك وأخرجه مسلم في المناسك عن أبي غسان ومحمد بن بشار كلاهما عن معاذ بن هشام وعن محمد بن المثنى وعن عثمان بن أبي شيبة وعن قتيبة وعثمان كلاهما عن جرير وأخرجه الترمذي في الصلاة عن ابن أبي عمر وأخرجه النسائي في الصوم عن محمد بن المثنى وعن عبيد الله بن سعيد وعن عمران بن موسى وعن محمد بن قدامة وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة في الصوم بالقصة الثانية وفي الصلاة بالقصة الثالثة وأخرج القصة الرابعة عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم.
(ذكر من أخرج الحديث الثاني غيره) أخرجه مسلم في الحج عن عمرو الناقد وزهير بن حرب وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد وأخرجه النسائي في الصلاة عن محمد بن منصور المكي
(ذكر من روى عنه في هذا الباب) فيه عن بصرة بن أبي بصرة رواه ابن حبان عنه سمعت رسول الله
يقول ' لا يعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد إلى المسجد الحرام ومسجدي هذا وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس ' يشك أيهما قال وعن أبي بصرة أيضا رواه أحمد والبزار في مسنديهما والطبراني في الكبير والأوسط من رواية عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال لقي أبو بصرة الغفاري أبا هريرة وهو جاء من الطور فقال من أين أقبلت قال من الطور صليت فيه قال لو أدركتك قبل أن ترتحل ما ارتحلت إني سمعت رسول الله
يقول ' لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ' الحديث ورجال إسناده ثقات قال الذهبي بصرة بن أبي بصرة الغفاري هو وأبوه صحابيان نزلا مصر واسم أبي بصرة حميل وقيل حميل بن بصرة (قلت) حميل بضم الحاء المهملة وقيل بفتحها والأول هو الأصح وعن عبد الله بن عمرو مثله رواه ابن ماجة وعن أبي هريرة أيضا رواه الطبراني في الأوسط عنه يرفعه ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الخيف ومسجد الحرام ومسجدي هذا ' وقال لم يذكر مسجد الخيف في شد الرحال إلا في هذا الحديث قال صاحب التلويح وهو لعمري سند جيد لولا قول البخاري لا يتابع خيثم في ذكر مسجد الخيف ولا يعرف له سماع من أبي هريرة (قلت) خيثم هو ابن مروان ذكره ابن حبان في الثقات وهو الذي روى هذا الحديث عن أبي هريرة وعن جابر رضي الله تعالى عنه رواه أحمد عنه عن رسول الله
أنه قال ' خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق ' وعن أبي الجعد الضمري روى حديثه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من رواية أبي عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري قال قال رسول الله
' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ' الحديث وإسناده صحيح وقال الذهبي أبو الجعد الضمري اسمه الأذرع ويقال عمرو وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخرج حديثه البزار من رواية أبي العالية عن ابن عمر عن عمر أن النبي
قال ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ' الحديث وفي كتاب العلم المشهور لأبي الخطاب روى حديث موضوع رواه محمد بن خالد الجندي عن المثنى بن الصباح مجهول عن متروك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يرفعه ' لا تعمل الرحال إلا إلى أربعة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وإلى مسجد الجند '
(ذكر معنى حديث أبي هريرة) قوله ' لا تشد الرحال ' على صيغة المجهول بلفظ النفي بمعنى النهي بمعنى لا تشدوا الرحال ونكتة العدول عن النهي إلى النفي لإظهار الرغبة في وقوعه أو لحمل السامع على الترك أبلغ حمل بألطف وجه وقال الطبري النفي أبلغ من صريح النهي كأنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا هذه البقاع لاختصاصها بما اختصت به ووقع في رواية لمسلم ' تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد ' فذكره من غير حصر وليس في هذه الرواية منع شد الرحل لغيرها إلا على القول
بحجية مفهوم العدد والجمهور على أنه ليس بحجة ثم التعبير بشد الرحال خرج مخرج الغالب في ركوب المسافر وكذلك قوله في بعض الروايات ' لا يعمل المطي ' وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير والمشي في هذا المعنى ويدل عليه قوله في بعض طرقه في الصحيح ' إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد ' والرحال بالحاء المهملة جمع رحل وهو للبعير كالسرج للفرس وهو أصغر من القتب وشد الرحل كناية عن السفر لأنه لازم للسفر والاستثناء مفرغ
252

فتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان فإن قيل فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه ونحوه لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام وأجيب بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت ما رأيت إلا زيدا كان تقديره ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا فههنا تقديره لا تشد إلى مسجد إلا إلى ثلاثة قوله ' المسجد الحرام ' أي المحرم وقال بعضهم هو كقولهم الكتاب بمعنى المكتوب (قلت) هذا القياس غير صحيح لأن الكتاب على وزن فعال بكسر الفاء والحرام فعال بالفتح فكيف يقاس عليه وإنما الحرام اسم للشيء المحرم وفي إعراب المسجد وجهان الأول بالجر على أنه بدل من الثلاثة والثاني بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي المسجد الحرام ومسجد الرسول ومسجد الأقصى وقال بعضهم ويجوز الرفع على الاستئناف (قلت) الاستئناف في الحقيقة جواب سؤال مقدر ولئن سلمنا له ذلك فيؤول الأمر في الحقيقة إلى أن يكون الرفع فيه على أنه خبر مبتدأ محذوف كما ذكرناه قوله ' ومسجد الرسول ' الألف واللام فيه للعهد عن سيدنا محمد
(فإن قلت) ما نكتة العدول عن قوله ' ومسجدي ' بالإضافة إليه (قلت) الإشارة إلى التعظيم على أنه يجوز أن يكون هذا من تصرف بعض الرواة والدليل عليه قوله في حديث أبي سعيد ' ومسجدي ' وسيأتي عن قريب قوله ' ومسجد الأقصى ' بإضافة الموصوف إلى الصفة وفيه خلاف فجوزه الكوفيون كما في قوله تعالى * (وما كنت بجانب الغربي) * وأوله البصريون بإضمار المكان أي بجانب المكان الغربي ومسجد البلد الحرام ومسجد المكان الأقصى وسمي المسجد الأقصى لبعده عن المسجد الحرام إما في المسافة أو في الزمان وقد ورد في الحديث أنه كان بينهما أربعون سنة (وقد استشكل) من حيث أن بين آدم وداود عليهما الصلاة والسلام أضعاف ذلك من الزمن (وأجيب) بأن الملائكة وضعتهما أولا وبينهما في الوضع أربعون سنة وأن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام جددا بنيان المسجد الأقصى كما جدد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام وقال الزمخشري المسجد الأقصى بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد وقيل هو أقصى بالنسبة إلى مسجد المدينة لأنه بعيد من مكة وبيت المقدس أبعد منه وقيل لأنه أقصى موضع من الأرض ارتفاعا وقربا إلى السماء يقال قصى المكان يقصو قصوا بعد فهو قصي ويقال فلان بالمكان الأقصى والناحية القصوى
(ذكر ما يستفاد منه) فيه فضيلة هذه المساجد ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن المسجد الحرام قبلة الناس وإليه حجهم ومسجد الرسول أسس على التقوى والمسجد الأقصى كان قبلة الأمم السالفة. وفيه أن الرحال لا تشد إلى غير هذه الثلاثة لكن اختلفوا على أي وجه فقال النووي معناه لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد ما غير هذه الثلاثة ونقله عن جمهور العلماء وقال ابن بطال هذا الحديث إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة قال مالك رحمه الله من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة فإنه يصلي في بلده إلا أن ينذر ذلك في مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس فعليه السير إليها وقال ابن بطال وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعا بذلك فمباح إن قصدها بأعمال المطي وغيره ولا يتوجه إليه الذي في هذا الحديث وقيل من نذر إتيان غير هذه المساجد الثلاثة للصلاة أو غيرها لم يلزمه ذلك لأنها لا فضل لبعضها على بعض فيكفي صلاته في أي مسجد كان قال النووي لا اختلاف في ذلك إلا ما روي عن الليث أنه قال يجب الوفاء به وعن الحنابلة رواية يلزمه كفارة يمين ولا ينعقد نذره وعن المالكية رواية إن تعلقت به عبادة تختص به كرباط لزم وإلا فلا وذكر عن محمد بن مسلمة المالكي أنه في مسجد قباء لأن النبي
كان يأتيه كل سبت واستدل قوم بهذا الحديث أعني حديث الباب على أن من نذر إتيان أحد هذه المساجد لزمه ذلك وبه قال مالك وأحمد والشافعي في البويطي واختاره أبو إسحق المروزي وقال أبو حنيفة لا يجب مطلقا وقال الشافعي في الأم يجب في المسجد الحرام لتعلق النسك به بخلاف المسجدين الآخرين وقال ابن المنذر يجب إلى الحرمين وأما الأقصى فلا واستأنس بحديث جابر ' أن رجلا قال للنبي
إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس قال صل ههنا ' وقال ابن التين الحجة على الشافعي
253

إن أعمال المطي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى والصلاة فيهما قربة فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام وقال الغزالي عند ذكر إتيان المساجد فلو قال آتي مسجد الخيف فهو كمسجد الحرام لأنه من الحرم وكذلك أجزاء سائر الحرم قال ولو قال آتي مكة لم يلزمه شيء إلا إذا قصد الحج وقال شيخنا زين الدين لا وجه لتفرقته بين مكة وسائر أجزاء الحرم فإنها من أجزاء الحرم لا جرم أن الرافعي تعقبه فقال ولو قال أمشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام أو إلى مكة أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم كالصفا والمروة ومسجد الخيف ومنى والمزدلفة ومقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقبة زمزم وغيرها فهو كما لو قال إلى بيت الله الحرام حتى لو قال آتي دار أبي جهل أو دار الخيزران كان الحكم كذلك لشمول حرمة الحرم له بتنفير الصيد وغيره وعن أبي حنيفة أنه لا يلزم المشي إلا أن يقول إلى بيت الله الحرام أو قال مكة أو إلى الكعبة أو إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وحكى الرافعي عن القاضي ابن كج أنه قال إذا نذر أن يزور قبر النبي
فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا قال ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي وقال القاضي عياض وأبو محمد الجويني من الشافعية أنه يحرم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لمقتضى النهي وقال النووي وهو غلط والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره وقال الخطابي لا تشد لفظه خبر ومعناه الإيجاب فيما نذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك حتى يشد الرحل له ويقطع المسافة إليه غير هذه الثلاثة
التي هي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فأما إذا نذر الصلاة في غيرها من البقاع فإن له الخيار في أن يأتيها أو يصليها في موضعه لا يرحل إليها قال والشد إلى المسجد الحرام فرض للحج والعمرة وكان تشد الرحال إلى مسجد رسول الله
في حياته للهجرة وكانت واجبة على الكفاية وأما إلى بيت المقدس فإنما هو فضيلة واستحباب وأول بعضهم معنى الحديث على وجه آخر وهو أن لا يرحل في الاعتكاف إلا إلى هذه الثلاثة فقد ذهب بعض السلف إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا فيها دون سائر المساجد وقال شيخنا زين الدين من أحسن محامل هذا الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط وأنه لا يشد الرحل إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة فأما قصد غير المساجد من الرحلة في طلب العلم وفي التجارة والتنزه وزيارة الصالحين والمشاهد وزيارة الإخوان ونحو ذلك فليس داخلا في النهي وقد ورد ذلك مصرحا به في بعض طرق الحديث في مسند أحمد حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وذكر عنده صلاة في الطور فقال قال رسول الله
' لا ينبغي للمطي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ' وإسناده حسن وشهر بن حوشب وثقه جماعة من الأئمة وفيه المذكور المسجد الحرام ولكن المراد جميع الحرم وقيل يختص بالموضع الذي يصلى فيه دون البيوت وغيرها من أجزاء الحرم وقال الطبري ويتأيد بقوله ' مسجدي هذا ' لأن الإشارة فيه إلى مسجد الجماعة فينبغي أن يكون المستثنى كذلك وقيل المراد به الكعبة ويتأيد بما رواه النسائي بلفظ ' إلا الكعبة ' ورد بأن الذي عند النسائي ' إلا مسجد الكعبة ' حتى لو كانت لفظة مسجد غير مذكورة لكانت مرادة
213 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)
مطابقته للترجمة تظهر من متن الحديث.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول عبد الله بن يوسف أبو محمد التنيسي قد ذكر غير مرة. الثاني مالك بن أنس. الثالث زيد بن رباح بفتح الراء وتخفيف الباء الموحدة وبالحاء المهملة مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. الرابع عبيد الله بن عبد الله بتصغير الابن. الخامس أبو عبد الله واسمه سلمان الأغر بفتح الهمزة وفتح الغين المعجمة وتشديد الراء وكنيته أبو عبد الله كان قاصا من أهل المدينة وكان رضي. السادس أبو هريرة *
254

(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع والإخبار كذلك في موضع وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضع واحد وفيه أن شيخه من أفراده وأصله من دمشق والبقية مدنيون وفيه رواية مالك عن شيخين روى عنهما جميعا مقرونين وهما زيد وعبيد الله وفيه رواية الابن عن الأب وهو عبيد الله يروي عن أبيه أبي عبد الله سلمان وأن عبيد الله الذي يروي عنه مالك من أفراده وقد روى هذا الحديث عن أبي هريرة غير الأغر رواه عنه سعيد وأبو صالح وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ وأبو سلمة وعطاء وقال أبو عمر لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث في الموطأ ورواه محمد بن سلمة المخزومي عن مالك عن ابن شهاب عن أنس وهو غلط فاحش وإسناده مقلوب ولا يصح فيه عن مالك إلا حديث في الموطأ يعني المذكور آنفا قال وقد روى عن أبي هريرة من طرق متواتر كلها صحاح ثابتة
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في المناسك عن إسحاق بن منصور وأخرجه الترمذي في الصلاة عن إسحاق الأنصاري عن معن عن مالك وعن قتيبة عن مالك وأخرجه النسائي في الحج عن عمرو بن علي عن غندر وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أبي مصعب الزهري عن مالك ولما أخرجه الترمذي قال وفي الباب عن علي وميمونة وأبي سعيد وجبير بن مطعم وعبد الله بن الزبير وابن عمر وأبي ذر. وحديث علي رضي الله تعالى عنه رواه البزار في مسنده من رواية سلمة بن وردان عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي
' ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ' وسلمة بن وردان ضعيف ولم يسمع من علي. وحديث ميمونة رواه مسلم والنسائي من رواية ابن عباس ' عن ميمونة قالت سمعت رسول الله
يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة ' وفي أول الحديث قصة. وحديث أبي سعيد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده من رواية سهم بن منجاب عن قزعة ' عن أبي سعيد قال ودع رسول الله
رجلا فقال له أين تريد قال أريد بيت المقدس فقال رسول الله
صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ' وإسناده صحيح. وحديث جبير بن مطعم رواه أحمد والبزار وأبو يعلى في مسانيدهم والطبراني في الكبير من رواية محمد بن طلحة بن ركانه عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله
' صلاة في مسجدي هذا ' فذكره ومحمد بن طلحة لم يسمع من جبير وحديث عبد الله بن الزبير رواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في صحيحه من رواية عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله
' صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا '. وحديث ابن عمر أخرجه مسلم وابن ماجة من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال ' صلاة في مسجدي هذا ' الحديث. وحديث أبي ذر رواه الطبراني في الأوسط من رواية قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الصامت ' عن أبي ذر قال تذاكرنا ونحن عند رسول الله
أيهما أفضل مسجد رسول الله
أو بيت المقدس فقال رسول الله
صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى ' (قلت) وفي الباب عن الأرقم بن أبي الأرقم روى حديثه أحمد والطبراني من رواية عثمان بن عبد الله بن الأرقم عن جده الأرقم زاد الطبراني ' وكان بدريا أنه جاء إلى رسول الله
فسلم عليه فقال أين تريد فقال أردت يا رسول الله ههنا وأومأ بيده إلى حيز بيت المقدس قال ما يخرجك إليه أتجارة فقال قلت لا ولكن أردت الصلاة فيه قال الصلاة ههنا وأومأ بيده إلى مكة خير من ألف صلاة وأومأ بيده إلى الشام ' لفظ أحمد وقال الطبراني ' صلاة ههنا خير من ألف صلاة ثمة ' ورجال إسناده عنده ثقات وفي إسناد أحمد بن يحيى بن عمران جهله أبو حاتم * وفيه عن أنس روى حديثه البزار والطبراني في الأوسط من رواية أبي بحر البكراوي عن عبيد الله بن أبي زياد القداح عن حفص بن عبد الله بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
' صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ' وأبو بحر وثقه أحمد وأبو داود وتكلم فيه غيرها ولأنس حديث آخر مخالف لما تقدم في الثواب في الصلاة فيه رواه ابن ماجة من
255

رواية رزيق الألهاني عن أنس قال قال رسول الله
' صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ' وفيه أبو الخطاب الدمشقي يحتاج إلى الكشف * وفيه عن جابر روى حديثه ابن ماجة من رواية عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر أن رسول الله
قال ' صلاة في مسجدي أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ' وإسناده جيد * وفيه عن سعد بن أبي وقاص روى حديثه أحمد والبزار وأبو يعلى في مسانيدهم من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن أبي عبد الله القراظ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله
قال ' صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ' * وفيه عن أبي الدرداء أخرج حديثه الطبراني من رواية أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله
' الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ' وإسناده حسن * وفيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها روى حديثها الترمذي في العلل الكبير قالت قال رسول الله
' صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه ' فافهم
(ذكر معناه) قوله ' في مسجدي هذا ' بالإشارة يدل على أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده عليه الصلاة والسلام الذي كان في زمانه مسجدا دون ما أحدث فيه بعده من الزيادة في زمن الخلفاء الراشدين وبعدهم تغليبا لاسم الإشارة وبه صرح النووي فخص التضعيف بذلك بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يختص بما كان لظاهر المسجد دون باقيه لأن الكل يعمه اسم المسجد الحرام (قلت) إذا اجتمع الاسم والإشارة هل تغلب الإشارة أو الاسم فيه خلاف فمال النووي إلى تغليب الإشارة فعلى هذا قال إذا قال المأموم نويت الاقتداء بزيد فإذا هو عمرو يصح اقتداؤه تغليبا للإشارة وجزم ابن الرفعة بعدم الصحة وقال لأن ما يجب تعيينه إذا عينه وأخطأ في التعيين أفسد العبادة وأما مذهبنا في هذا فالذي يظهر من قولهم إذا اقتدى بفلان بعينه ثم ظهر أنه غيره لا يجزيه إذ الاسم يغلب الإشارة قوله ' إلا المسجد الحرام ' قال الكرماني الاستثناء يحتمل أمورا ثلاثة أن يكون مساويا لمسجد الرسول وأفضل منه وأدون منه بأن يرادان في مسجد المدينة ليس خيرا منه بألف صلاة بل خير منه بتسعمائة مثلا ونحوه وقال ابن بطال يجوز في هذا الاستثناء أن يكون المراد فإنه مساو لمسجد المدينة أو فاضلا أو مفضولا والأول أرجح لأنه لو كان فاضلا أو مفضولا لم يعلم مقدار ذلك إلا بدليل بخلاف المساواة قيل يجوز أن يكون حديث عبد الله بن الزبير الذي تقدم ذكره دليلا على الثاني وقال ابن عبد البر اختلفوا في تأويله ومعناه فقال أبو بكر عبد الله بن نافع صاحب مالك معناه أن الصلاة في مسجد رسول الله
أفضل من الصلاة في الكعبة بألف درجة وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة وقال بذلك جماعة من المالكيين ورواه بعضهم عن مالك وقال عامة أهل الفقه والأثر أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة فيه لظاهر الأحاديث المذكورة فيه على أن أميري المؤمنين عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم قالا على المنبر ما رواه أبو عمر حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا ابن أبي دلهم حدثنا ابن وضاح حدثنا حامد بن يحيى حدثنا سفيان حدثنا زياد بن سعد أبو عبد الرحمن الخراساني وكان ثبتا في الحديث إملاء أخبرني سليمان بن عتيق سمعت ابن الزبير على المنبر يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول ' صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد ' ولم يرد أحد قولهما وهم القوم لا يسكتون على ما لا يعرفون وعند بعضهم يكون هذا كالإجماع وعلى قول ابن نافع يلزم أن يقال أن الصلاة في مسجد النبي
أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفا وإذا كان كذلك لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف ولا دليل لقول ابن نافع وكل قول لا تعضده حجة فهو ساقط وقال القرطبي اختلف في استثناء المسجد الحرام هل ذلك أنه أفضل من مسجده أو هو لأن المسجد الحرام أفضل من غير مسجده
فإنه أفضل المساجد كلها وهذا الخلاف في أي البلدين أفضل فذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى تفضيل
256

المدينة وحملوا الاستثناء في مسجد المدينة بألف صلاة على المساجد كلها إلا المسجد الحرام فبأقل من الألف واحتجوا بما قال عمر رضي الله تعالى عنه ولا يقول عمر هذا من تلقاء نفسه فعلى هذا تكون فضيلة مسجد المدينة على المسجد الحرام بتسعمائة وعلى غيره بألف وذهب الكوفيون والمكيون وابن وهب وابن حبيب إلى تفضيل مكة ولا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله من المساجد وهي بالاتفاق مفضولة والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه فالمسجد الحرام مفضول لكنه يقال مفضول بألف لأنه قد استثناه منها فلا بد أن يكون له مزية على غيره من المساجد ولم يعينها الشارع فيتوقف فيها أو يعتمد على قول عمر رضي الله تعالى عنه ويدل على صحة ما قلناه قوله
' فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد ' فربط الكلام بفاء التعليل مشعر بأن مسجده إنما فضل على المساجد كلها لأنه متأخر عنها ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الزمان وقال عياض أجمعوا على أن موضع قبره
أفضل بقاع الأرض
واختلفوا في أفضلهما ما عدا موضع القبر فمن ذهب إلى تفضيل مكة احتج بحديث عبد الله بن عدي بن الحمراء سمع رسول الله
يقول وهو واقف على راحلته بمكة ' والله إنك لخير الأرض وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ' صححه ابن حبان والحاكم والترمذي والطوسي في آخرين وعند أحمد عن أبي هريرة بسند جيد قال ' وقف رسول الله
بالخرورة فقال علمت أنك خير أرض وأحب أرض الله إلى الله عز وجل ' وعن ابن عباس قال رسول الله
لمكة ' ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ' الحديث قال الترمذي حديث صحيح غريب وعند أبي داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عنبسة حدثني يونس وابن سمعان عن ابن شهاب عن عروة ' عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي
قال بالمدينة ورفع يديه حتى رأي بياض إبطيه اللهم أنت بيني وبين فلان وفلان لرجال سماهم فإنهم أخرجوني من مكة هي أحب أرض الله إلي ' قال أبو عمرو قد روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة
واختلفوا هل يراد بالصلاة هنا الفرض أو هو عام في النفل والفرض وإلى الأول ذهب الطحاوي وإلى الثاني ذهب مطرف المالكي وقال النووي مذهبنا يعم الفرض والنفل جميعا ثم إن فضل هذه الصلاة في هذه المساجد يرجع إلى الثواب ولا يتعدى ذلك إلا الإجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزه عنهما وهذا لا خلاف فيه (فإن قلت) سبب التفضيل هل ينحصر في كثرة الثواب على العمل أم لا (قلت) قيل لا ينحصر كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود (فإن قلت) ما سبب تفضيل البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة (قلت) قيل أن المرء يدفن في البقعة التي أخذ منها ترابه عندما يخلق رواه ابن عبد البر من طريق عطاء الخراساني موقوفا في كتابه التمهيد (قلت) روى الزبير بن بكار أن جبريل عليه الصلاة والسلام أخذ التراب الذي خلق منه النبي
من تراب الكعبة فعلى هذا فتلك البقعة من تراب الكعبة فيرجع الفضل المذكور إلى مكة إن صح ذلك (فإن قلت) هل يختص تضعيف الصلاة بنفس المسجد الحرام أو يعم جميع مكة من المنازل والشعاب وغير ذلك أم يعم جميع الحرم الذي يحرم صيده (قلت) فيه خلاف والصحيح عند الشافعية أنه يعم جميع مكة وصحح النووي أنه جميع الحرم *
((باب مسجد قباء))
أي هذا باب في بيان فضل مسجد قباء بضم القاف ذكره ابن سيده في المحكم والمخصص أن قباء بالمد ولم يحك غيره يصرف ولا يصرف وقال البكري من العرب من يذكره ويصرفه ومنهم من يؤنثه ولا يصرفه وقال ابن الأنباري وقاسم في كتاب الدلائل وقد جاءت قبا مقصورة وأنشدا
* ولا يعنيكم قبا وعوارضنا
* ولا قبلن الخيل لابة ضرغد
*
وهذا وهم منها لأن الذي في البيت إنما هو قنا بنون بعد القاف وهو جبل في ديار بني ذبيان كذا أنشده الرواة الموثوق
257

بروايتهم ونقلهم في هذا البيت (قلت) ولئن سلمنا أنه قبا بالباء الموحدة فيجوز أن يكون القصر فيه للضرورة وأنكر السكري القصر فيه ولم يحك فيه أبو علي سوى المد وذكر في الموعب عن صاحب العين قصره قال ياقوت هو قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة به أثر بنيان وهناك مسجد التقوى وقال الرشاطي بينها وبين المدينة ستة أميال ولما نزل بها رسول الله
وانتقل إلى المدينة اختط الناس بها الخطط واتصل البنيان بعضه ببعض حتى صارت مدينة وقال ابن قرقول على ثلاثة أميال من المدينة وقال الجوهري يذكر ويؤنث وجزم صاحب المفهم بالتذكير لأنه من قبوت أو قبيت فليست همزته للتأنيث بل للإلحاق
214 - (حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية قال أخبرنا أيوب عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين يوم يقدم بمكة فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف بالبيت ثم يصلي ركعتين خلف المقام ويوم يأتي مسجد قباء فإنه كان يأتيه كل سبت فإذا دخل المسجد كره أن يخرج منه حتى يصلي فيه. قال
وكان يحدث أن رسول الله
كان يزوره راكبا وماشيا. قال وكان يقول له إنما أصنع كما رأيت أصحابي يصنعون ولا أمنع أحدا أن يصلي في أي ساعة شاء من ليل أو نهار غير أن لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها)
مطابقته للترجمة ظاهرة فإنه يدل على فضل مسجد قباء والترجمة فيه.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول يعقوب بن إبراهيم بن كثير يكنى أبا يوسف ونسب إلى دورق وليس هو ولا أهله من بلد دورق وإنما كانوا يلبسون قلانس تسمى الدورقية فنسبوا إليها. الثاني ابن علية بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد الياء آخر الحروف واسمه إسماعيل بن إبراهيم بن سهم المعروف بابن علية وهي أمه. الثالث أيوب بن كيسان السختياني. الرابع نافع مولى ابن عمر. الخامس عبد الله بن عمر.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن الستة مشاركون في الرواية عن يعقوب شيخه وفيه أن أصل ابن علية من الكوفة وأن أيوب بصري ونافع مدني وفيه أن أيوب رأى أنس بن مالك فعلى قول من يجعله من التابعين يكون فيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن أبي النعمان عن حماد عنه ببعضه وأخرجه مسلم في الحج عن أحمد بن منيع عن إسماعيل ببعضه ورواه مسلم وأبو داود متصلا والبخاري تعليقا من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع ' عن ابن عمر قال كان رسول الله
يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين ' واتفق عليه الشيخان وأبو داود أيضا من رواية يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر فذكره دون قوله ' فيصلي فيه ركعتين ' وروى البخاري ومسلم والنسائي من رواية عبد الله بن دينار ' عن ابن عمر أن رسول الله
كان يأتي قباء راكبا وماشيا ' زاد ابن عيينة وعبد العزيز بن مسلم ' كل سبت ' وروى الترمذي وابن ماجة من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري وكان من أصحاب النبي
يحدث قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة وروى النسائي وابن ماجة من حديث أمامة بن سهيل بن عنيف عن أبيه عن النبي
قال ' من خرج حتى يأتي المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له عدل عمرة ' وروى الطبراني من رواية يزيد بن عبد الملك النوفلي عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده أن رسول الله
قال ' من توضأ فأسبغ الوضوء ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره ولا يحمله على الغدو إلا الصلاة في مسجد قباء فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له كأجر المعتمر إلى
258

بيت الله ' ويزيد بن عبد الملك ضعيف وروى الطبراني من رواية يحيى بن يعلى حدثنا ناصح عن سماك ' عن جابر بن سمرة قال لما سأل أهل قباء النبي
أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله
ليقم بعضكم فيركب الناقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقام عمر فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول الله
ليقم بعضكم فيركب الناقة فقام علي رضي الله تعالى عنه فلما وضع رجله في غرز الركاب انبعثت به قال رسول الله
يا علي أرخ زمامها وابنوا على مدارها فإنها مأمورة ' ويحيى بن يعلى ضعيف وروى الطبراني أيضا من رواية سويد بن عامر بن يزيد بن جارية ' عن الشمرس بنت النعمان قالت نظرت إلى رسول الله
حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر فانظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول بأبي وأمي يا رسول الله أعطني أكفك فيقول لأخذ مثله حتى أسسه ' ويقال أن جبريل عليه الصلاة والسلام هو يؤم الكعبة قالت فكان يقال أنه أقدم مسجد قبلة وسويد بن عامر ذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجاله أيضا ثقات
(ذكر معناه) قوله ' هو الدورقي ' رواية أبي ذر وفي رواية غيره يعقوب بن إبراهيم فقط قوله ' من الضحى ' أي في الضحى أو من جهة الضحى قوله ' يوم يقدم ' يجوز في يوم الرفع والجر أما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي أحدهما يوم يقدم فيه مكة وأما الجر فعلى أنه بدل من يومين ويقدم بضم الدال قوله ' فإنه كان ' أي فإن ابن عمر كان يقدم مكة ضحى أي في ضحوة النهار قوله ' خلف المقام ' أي مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوله ' ويوم ' عطف على يوم الأول ويجوز فيه الوجهان أيضا قوله ' كان يزوره ' أي يزور مسجد قباء قوله ' وكان يقول ' أي ابن عمر قوله ' ولا أمنع أحدا إن صلى ' بفتح الهمزة لأنها مصدرية والتقدير ولا أمنع أحدا الصلاة قوله ' لا يتحروا ' أي لا يقصدوا طلوع الشمس معناه لا يصلوا وقت طلوع الشمس ولا وقت غروبها ويصلوا في غير هذين الوقتين في أي ساعة شاؤوا
(ذكر ما يستفاد منه) فيه دلالة على فضل قباء وفضل المسجد الذي بها وفضل الصلاة فيه. وفيه استحباب زيارة مسجد قباء والصلاة فيه اقتداء بالنبي
وكذلك يستحب أن يكون يوم السبت (فإن قلت) ما الحكمة في تخصيص زيارته يوم السبت (قلت) قيل يحتمل أن يقال لما كان هو أول مسجد أسسه في أول الهجرة ثم أسس مسجد المدينة بعده وصار مسجد المدينة هو الذي يجمع فيه يوم الجمعة وتنزل أهل قباء وأهل العوالي إلى المدينة لصلاة الجمعة ويتعطل مسجد قباء عن الصلاة فيه وقت الجمعة ناسب أن يعقب يوم الجمعة بإتيان مسجد قباء يوم السبت والصلاة فيه لما فاته من الصلاة فيه يوم الجمعة وكان
حسن العهد وقال ' حسن العهد من الإيمان ' ويحتمل أنه لما كان أهل مسجد قباء ينزلون إلى المدينة يوم الجمعة ويحضرون الصلاة معه
أراد مكافأتهم بأن يذهب إلى مسجدهم في اليوم الذي يليه وكان يحب مكافأة أصحابه حتى كان يخدمهم بنفسه ويقول إنهم كانوا لأصحابي مكرمين فأنا أحب أن أكافئهم ويحتمل أنه كان يوم السبت فارغا لنفسه فكان يشتغل في بقية الجمعة بمصالح الخلق من أول يوم الأحد على القول بأنه أول أيام الأسبوع ويشتغل يوم الجمعة بالتجميع بالناس ويتفرغ يوم السبت لزيارة أصحابه والمشاهد الشريفة ويحتمل أنه لما كان ينزل إلى الجمعة بعض أهل قباء ويتخلف بعضهم ممن لا يجب عليه أو يعذر فيفوت من لم يحضر منهم يوم الجمعة رؤيته ومشاهدته تدارك ذلك بإتيانه مسجد قباء ليجتمعوا إليه هنالك فيحصل لهم من الغائبين يوم الجمعة نصيبهم منه يوم السبت. وفيه دليل على جواز تخصيص بعض الأيام بنوع من القرب وهو كذلك إلا في الأوقات المنهي عنها كالنهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي أو تخصيص يوم الجمعة بصيام من بين الأيام وقد روى عمر بن شيبة في أخبار المدينة تأليفه من رواية ابن المنكدر ' عن جابر كان النبي
يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان ' وروى من رواية الدراوردي ' عن شريك بن عبد الله كان رسول الله
يأتي قباء يوم الاثنين ' وقال صاحب المفهم وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القرب إلا ما ثبت به توقيف. وفيه حجة على من كره تخصيص زيارة قباء يوم السبت وقد حكاه عياض عن محمد بن مسلمة من المالكية مخافة أن يظن أن ذلك سنة في ذلك اليوم قال عياض ولعله لم يبلغه هذا الحديث وقد احتج ابن حبيب من المالكية بزيارته
259

مسجد قباء راكبا وماشيا على أن المدني إذا نذر الصلاة في مسجد قباء لزمه ذلك وحكاه عن ابن عباس (فإن قلت) ما الجمع بين قوله
في الحديث الصحيح ' لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ' وبين كونه كان يأتي مسجد قباء راكبا (قلت) قباء ليس مما تشد إليه الرحال فلا يتناوله الحديث المذكور قال الواقدي عن مجمع بن يعقوب عن سعيد بن عبد الرحمن ابن رقيش قال كان مسجد قباء في موضع الأسطوانة المخلفة الخارجة في رحبة المسجد قال عبد الرحمن حدثني نافع أن ابن عمر كان إذا جاء قباء صلى إلى الأسطوانة المخلفة يقصد بذلك مسجد النبي
الأول وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن أن ما بين الصومعة إلى القبلة والجانب الأيمن عند دار القاضي زيادة زادها عثمان رضي الله تعالى عنه وقال عروة كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لية وكانت تربط حمارا لها فيه فابتناه سعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنه مسجدا قال أبو غسان طوله وعرضه سواء وهو ست وستون ذراعا وطول ذرعه في السماء تسع عشرة ذراعا وطول رحبته التي في جوفه خمسون ذراعا وعرضها ست وعشرون ذراعا وطول منارته خمسون ذراعا وعرضها تسع أذرع وشبر في تسع أذرع وفيه ثلاثة أبواب وثلاثة وثلاثون أسطوانا ومواضع قناديله لأربعة عشر قنديلا قال وأخبرني من أثق به من الأنصار من أهل قباء أن مصلى رسول الله
في مسجدهم بعد صرف القبلة كان إلى حرف الأسطوان المخلق *
((باب من أتى مسجد قباء كل سبت))
أي هذا باب في بيان فضل من يأتي مسجد قباء كل يوم سبت ولما كان الباب السابق مشتملا على الموقوف والمرفوع وكان الموقوف مقيدا بخلاف المرفوع ذكر هذا الباب لبيان تقييد إطلاق ذلك المرفوع لأن المرفوع في الباب السابق يدل على أنه
كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ولم يتعرض فيه في أي يوم كان ذلك فبين في هذا الباب أن زيارته مسجد قباء كان كل يوم سبت وهذا يدل على فضيلة مسجد قباء وكيف لا وقد روى سهل بن حنيف عن النبي
أن الذي يدخل في مسجد قباء ويصلي كان ذلك كعدل رقبة وقد ذكرناه في الباب السابق وروى عمر بن شيبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح ' عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين لو يعلمون ما في قباء لصروا إليه أكباد الإبل ' (قلت) ومع هذا لم يثبت فيه تضعيف ما في المساجد الثلاثة '
215 - (حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي
يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان عبد الله رضي الله عنه يفعله)
مطابقته للترجمة في قوله ' كل سبت '. ورجاله قد ذكروا وعبد العزيز بن مسلم بلفظ الفاعل من الإسلام القسملي مر في باب كيف يقبض العلم ورواه مسلم والنسائي أيضا وقد مر الكلام فيه مستقصى قوله ' ماشيا وراكبا ' حالان مترادفان قال الكرماني والواو فيه بمعنى أو (قلت) لا حاجة إلى هذا ولكن معناه بحسب ما تيسر له قوله ' يفعله ' أي يفعل إتيان مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا *
((باب إتيان مسجد قباء ماشيا وراكبا))
أي هذا باب في بيان فضل إتيان مسجد قباء حال كونه راكبا وماشيا قال بعضهم إنما أفرد هذه الترجمة لاشتمال الحديث على حكم آخر غير ما تقدم (قلت) ليس في صدر الحديث حكم آخر وإنما هو زيادة ابن نمير فافهم ولو قلنا أفراد هذه الترجمة لبيان تعدد سنده لكان في الكفاية
216 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني نافع عن ابن عمر
260

رضي الله عنهما قال كان النبي
يأتي قباء راكبا وماشيا * وزاد ابن نمير قال حدثنا عبيد الله عن نافع فيصلي فيه ركعتين)
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة ويحيى هو ابن سعيد القطان وهكذا هو غير منسوب في رواية الأكثرين وفي رواية الأصيلي يحيى بن سعيد وعبيد
الله هو ابن عمر العمري وابن نمير بضم النون وفتح الميم هو عبد الله بن نمير مر في أوائل التيمم وطريق ابن نمير وصلها مسلم وأبو يعلى قالا حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي قال حدثنا عبيد الله عن نافع ' عن ابن عمر قال كان رسول الله
يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين ' وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن عبيد الله فذكره بالزيادة وقال الطحاوي هذه الزيادة مدرجة وإن أحدا من الرواة قاله من عنده لعلمه أن النبي
كان من عادته أن لا يجلس حتى يصلي وقال الكرماني فيه أن صلاة النهار ركعتان كصلاة الليل (قلت) قد ذكرنا في حديث كعب بن عجرة أربع ركعات فلا حجة له في انتصاره لمذهبه ههنا والله أعلم *
((باب فضل ما بين القبر والمنبر))
أي هذا باب في بيان فضل ما بين قبر النبي
ومنبره وأشار بهذه الترجمة بعد ذكر فضل الصلاة في مسجد النبي
إلى أن بعض بقاع المسجد أفضل من بعض
217 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه أن رسول الله
قال ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)
قيل المطابقة بين الترجمة والحديث غير تامة لأن المذكور في الترجمة القبر وفي الحديث البيت وأجيب بأن القبر في البيت لأن المراد بيت سكناه والنبي
دفن في بيت سكناه.
(ذكر رجاله) وهم خمسة قد ذكروا أما شيخه ومالك فقد تكررا وأما عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري فقد تقدم في باب الوضوء مرتين وعباد بفتح العين وتشديد الباء الموحدة ابن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني بكسر الزاي بعدها نون الأنصاري وكلاهما قد تقدما هناك
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وفيه الإخبار كذلك في موضع واحد وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته مدنيون غير شيخه وهو من أفراده وفيه رواية الرجل عن عمه وهو عباد يروي عن عمه عبد الله بن زيد
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في المناسك عن قتيبة عن مالك بن أنس فيما قرأ عليه عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد المازني أن رسول الله
قال ' ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ' وأخرجه النسائي فيه وفي الصلاة عن قتيبة به
(ذكر معناه) قوله ' ما بين بيتي ' كلمة ما موصولة مرفوع محلا بالابتداء وخبره هو قوله ' روضة ' الروضة في كلام العرب المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب قوله ' بيتي ' هو الصحيح من الرواية وروى مكانه ' قبري ' وجعله بعضهم تفسير البيتي قاله زيد بن أسلم وحمل كثير من العلماء الحديث على ظاهره فقالوا ينقل ذلك الموضع بعينه إلى الجنة كما قال تعالى * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * ذكر أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة ويحتمل أن يريد به أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي صاحبه إلى الجنة كما قال
' ارتعوا في رياض الجنة ' يعني حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية إلى الجنة فيكون معناه التحريض على زيارة قبره
والصلاة في مسجده وكذا ' الجنة تحت ظلال السيوف '
261

واستبعده ابن التين وقال يؤدي إلى الشنططة والشك في العلوم الضرورية وقيل أنها من رياض الجنة الآن حكاه ابن التين وأنكره والحمل على التأويل الثاني يحتمل وجهين أحدهما أن اتباع ما يتلى فيه من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة فلا يكون للبقعة فيها فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذه المعاني بها دون غيرها والثاني أن يريد أن ملازمة ذلك الموضع بالطاعة يؤدى إليها لفضيلة الصلاة فيه على غيره قال وهو أبين لأن الكلام خرج على تفضيل ذلك الموضع انتهى (قلت) على هذا الوجه أيضا لا تكون للبقعة فضيلة إلا لأجل اختصاص ذلك المعنى بها والتحقيق فيه أن هذا الكلام يحتمل أن يكون حقيقة إذا نقل هذا الموضع إلى الجنة ويحتمل أن يكون مجازا باعتبار المآل كما في قوله ' الجنة تحت ظلال السيوف ' أي الجهاد مآله إلى الجنة أو هو تشبيه أي هو كروضة وسميت تلك البقعة المباركة روضة لأن زوار قبره من الملائكة والإنس والجن لم يزالوا مكبون فيها على ذكر الله تعالى وعبادته وقال الخطابي معنى الحديث تفضيل المدينة وخصوصا البقعة التي بين البيت والمنبر يقول من لزم طاعة الله في هذه البقعة آلت به الطاعة إلى روضة من رياض الجنة ومن لزم عبادة الله عند المنبر سقي في الجنة من الحوض وقال عياض في تفسير قوله ' ومنبري على حوضي ' ذكر أكثر العلماء أن المراد أن هذا المنبر بعينه يعيده الله تعالى على حوضه قال وهذا هو الأظهر وقيل أن له هناك منبرا على حوضه
218 - (حدثنا مسدد عن يحيى عن عبيد الله قال حدثني خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
قال ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول مسدد. الثاني يحيى بن سعيد القطان. الثالث عبيد الله بن عمر العمري. الرابع خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون
الياء آخر الحروف بعدها باء أخرى مر في باب الصلاة بعد الفجر. الخامس حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. السادس أبو هريرة.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه العنعنة في أربعة مواضع وفيه القول في موضع واحد وفيه عبيد الله وفي رواية أبي ذر والأصيلي عبيد الله هو ابن عمر العمري وفيه أن شيخه بصري وهو من أفراده ويحيى أيضا بصري والبقية مدنيون وفيه اثنان مذكوران من غير نسبة واثنان مصغران
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في آخر الحج عن مسدد وفي الحوض عن إبراهيم بن المنذر وفي الاعتصام عن عمرو بن علي وأخرجه مسلم في الحج عن زهير بن حرب ومحمد بن المثنى كلاهما عن يحيى القطان به وعن محمد بن عبد الله بن نمير وروى هذا الحديث مالك عن خبيب عن حفص عن أبي هريرة أو أبي سعيد قال أبو عمر رحمه الله كذا رواه عن مالك رواة الموطأ كلهم فيما علمت على الشك إلا معن بن عيسى وروح بن عبادة فإنهما قالا عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا على الجمع لا على الشك ورواه ابن مهدي عن مالك فجعله عن أبي هريرة وحده لم يذكر أبا سعيد قال والحديث محفوظ لأبي هريرة بهذا الإسناد ورواه عبيد الله بن عمر عن خبيب بهذا قال أبو العباس أحمد بن عمر الداني في كتابه أطراف الموطأ تابع العمري في ذلك جماعة وهكذا قاله البخاري قال أبو عمر ذكر محمد بن سنجر حدثنا محمد بن سليمان القرشي البصري عن مالك عن ربيعة عن سعيد بن المسيب ' عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال أخبرني أبي أن رسول الله
قال وضعت منبري على نزعة من نزع الجنة وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ' قال أبو محمد لم يتابع محمد بن سليمان أحد على هذا الإسناد عن مالك ومحمد هذا ضعيف وزاد الدارقطني في الغرائب ' وقوائم منبري رواتب في الجنة ' وقال تفرد به محمد بن سليمان قال أبو عمرو في هذا الباب حديث منكر رواه عبد الملك بن زيد الطائي عن عطاء بن زيد مولى سعيد بن المسيب عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال رسول الله
' ما بين قبري ومنبري وأسطوانة التربة روضة من رياض الجنة ' قال أبو عمر هذا حديث موضوع وضعه عبد الملك وروى أحمد بن يحيى الكوفي أخبرنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله
' ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ' قال أبو عمر هذا إسناد خطأ وعند
262

النسائي عن سهيل بن سعد مرفوعا ' منبري على نزعة من نزع الجنة ' وعند الطبراني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ' ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة ' وعند الضياء المقدسي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من رواية ابن أبي سبرة يرفعه ' ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على نزعة من نزع الجنة ' وفي مسند الهيثم بن كليب الشاشي عن جابر وابن عمر نحوه
(ذكر معناه) قوله ' ومنبري على حوضي ' ليست هذه الجملة في رواية أبي ذر والحوض هو الكوثر والواو فيه زائدة كما في الجوهر وقال أبو عمر قد استدل أصحابنا به على أن المدينة أفضل من مكة وركبوا عليه قوله
' لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ' وقال أبو عمر لا دليل فيه لأنه
أراد ذم الدنيا والترغيب في الآخرة فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها وقال القرطبي وللباطنية في هذا الحديث من الغلو والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقال أبو عمر الإيمان بالحوض عند جماعة العلماء واجب الإقرار به وقد نفاه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة لأنهم لا يصدقون بالشفاعة ولا بالحوض ولا بالدجال نعوذ بالله تعالى من بدعهم وسيأتي إن شاء الله تعالى أحاديث الحوض في موضعها الذي ذكرها البخاري *
((باب مسجد بيت المقدس))
أي هذا باب في بيان فضل بيت المقدس
219 - (حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن عبد الملك قال سمعت قزعة مولى زياد قال سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدث بأربع عن النبي
فأعجبنني وآنقنني قال لا تسافر المرأة يومين إلا معها زوجها أو ذو محرم ولا صوم في يومين الفطر والأضحى ولا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي)
مطابقته للترجمة في قوله ' ومسجد الأقصى '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة ذكروا غير مرة واسم أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي وعبد الملك بن عمير وقزعة بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات مضى في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة وزياد بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف هو زياد بن أبي سفيان وقيل هو مولى عبد الملك بن مروان وقيل بل هو من بني الحريش
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه السماع في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن شيخه بصري وشعبة واسطي وعبد الملك كوفي وقزعة بصري. وقد ذكرنا في باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة من أخرجه غيره وتعداد إخراج البخاري إياه وقد اقتصر البخاري هناك في هذا الحديث على قطعة منه وذكر ههنا تمامه وأخرج هناك أيضا عن أبي هريرة آخر حديث أبي سعيد الذي ذكره ههنا وهو قوله ' لا تشد الرحال ' وقد تكلمنا فيه هناك مستقصى وبقي الكلام في بقية الحديث فنقول قوله ' يحدث بأربع ' جملة وقعت حالا من أبي سعيد أي يحدث بأربع كلمات كلها حكم. الأولى قوله ' لا تسافر المرأة ' والثانية قوله ' لا صوم ' والثالثة قوله ' لا صلاة ' والرابعة قوله ' لا تشد الرحال ' قوله ' فأعجبنني ' بلفظ صيغة الجمع للمؤنث ويروى ' فأعجبتني '
بصيغة الإفراد والضمير الذي فيه يرجع إلى قوله ' بأربع ' قوله ' وآنقنني ' كذلك بلفظ الجمع والإفراد وهو بمد الهمزة وفتح النون وسكون القاف يقال آنقه إذا أعجبه وشئ مونق أي معجب وقال ابن الأثير الآنق بالفتح والسرور والشيء الأنيق المعجب والمحدثون يروونه ' أيقنني ' وليس بشيء وقد جاء في صحيح مسلم ' لا أينق بحديثه ' أي لا أعجب وهي كذا تروى وضبطه الأصيلي ' أتقنني ' بتاء مثناة من فوق من التوق وليس كذلك إنما الصواب أن يقال من التوق توقنني كما
263

يقال شوقتني من الشوق وقال بعضهم وأعجبني تأكيد لفظي لأعجبنني (قلت) ليس كذلك لأن التأكيد اللفظي أن يكرر عين اللفظ الواحد قوله ' أو ذو محرم ' قال النووي المحرم من النساء من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها فقولنا على التأبيد احتراز من أخت المرأة وبسبب مباح احتراز من أم الموطوأة بالشبهة لأن وطأ الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل مكلف ولحرمتها احتراز من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا قال أصحابنا المحرم كل من لا يحل له نكاحها على التأبيد لقرابة أو رضاع أو صهرية والعبد والحر والمسلم والذمي سواء إلا المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها والفاسق لأنه لا يحصل به المقصود ولا بد فيه من العقل والبلوغ لعجز الصبي والمجنون عن الحفظ
(ذكر ما يستفاد منه) قد ذكرنا أن هذا الحديث مشتمل على أربعة أحكام * الأول في حكم المرأة التي تسافر وفيه خمسة مذاهب * الأول مذهب الحسن البصري والزهري وقتادة فإنهم قالوا لا يجوز للمرأة أن تسافر ليلتين بلا زوج أو محرم فإذا كان أقل من ذلك يجوز واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور * الثاني مذهب إبراهيم النخعي والشعبي وطاوس والظاهرية فإنهم قالوا لا يجوز للمرأة أن تسافر مطلقا سواء كان السفر قريبا أو بعيدا إلا إذا كان معها زوج أو ذو محرم لها واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو سمع أبا معبد مولى ابن عباس يقول قال ابن عباس ' خطب رسول الله
الناس فقال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها ذو محرم فقام رجل فقال يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا وكذا وقد أردت أن أحج بامرأتي فقال رسول الله
' احجج مع امرأتك ' ورواه البخاري ومسلم وابن ماجة بنحوه قالوا بعموم الحديث واشتماله على حكم السفر مطلقا وروى الطحاوي أيضا من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي
قال ' لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم ' وأخرج البزار عنه نحوه. الثالث مذهب عطاء وسعيد بن كيسان وقوم من الطائفة الظاهرية فإنهم قالوا بجواز سفر المرأة فيما دون البريد فإذا كان بريدا فصاعدا فليس لها أن تسافر إلا بمحرم واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي ثم البيهقي من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله
' لا تسافر امرأة بريدا إلا مع زوج أو ذي محرم ' وأخرجه أبو داود أيضا والبريد فرسخان وقيل أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف ذراع. الرابع مذهب الأوزاعي والليث ومالك والشافعي فإنهم قالوا للمرأة أن تسافر فيما دون اليوم بلا محرم وفيما زاد على ذلك لا إلا بزوج أو محرم لكن عند مالك والشافعي لها أن تسافر للحج الفرض بلا زوج ومحرم وإن كان بينها وبين مكة سفر أو لم يكن فإنهما خصا النهي عن ذلك بالأسفار الغير الواجبة واحتجوا في ذلك بما رواه مسلم من حديث أبي سعيد أن أباه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله
' لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم '. الخامس مذهب الثوري والأعمش وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فإنهم قالوا ليس للمرأة أن تسافر مسافة ثلاثة أيام فصاعدا إلا مع زوج أو ذي محرم فإذا كان أقل من ذلك فلها أن تسافر بغير محرم واحتجوا في ذلك بما رواه أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله
قال ' لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم ' وأخرجه الطحاوي أيضا ثم التوفيق بينه وبين هذه الروايات وبيان العمل بحديث الثلاث هو أن هذه الأحاديث كلها متفقة على حرمة السفر عليها بغير محرم مسافة ثلاثة أيام فما فوقها وفي تقييده بالثلاث إباحة لما دونها إذ لو لم يكن كذلك لما كان لتعيين الثلاث فائدة ولكان نهى مطلقا وكلام الحكيم يصان عن اللغو وعما لا فائدة فيه فإذا ثبت بذكر الثلاث وتعينه إباحة ما دونه يحتاج إلى التوفيق بينه وبين ما روي من اليوم واليومين والبريد فيقال أن خبر الثلاث إن كان متأخرا فهو ناسخ وإن كان متقدما فقد جاءت الإباحة بأقل منه ثم جاء النهي بعده عن سفر ما دون الثلاث فحرم ما حرم الحديث الأول وزاد عليه حرمة أخرى وهي ما بينه وبين الثلاث فوجب استعمال الثلاث على ما أوجبه في الأحوال كلها فحينئذ الأخذ به أولى من الذي يجب في حال دون حال وقال القاضي عياض عن أبي سعيد في رواية
264

ثلاث ليال وفي رواية أخرى عنه يومين وفي الأخرى أكثر من ثلاث وفي حديث ابن عمر ثلاث وفي حديث أبي هريرة مسيرة ليلة وفي الأخرى عنه يوما وليلة وفي الأخرى عنه ثلاث وهذا كله لا يتنافى ولا يختلف فيكون
منع من ثلاث ومن يومين ومن يوم أو يوم وليلة وهو أقلها وقد يكون هذا منه
في مواطن مختلفة ونوازل متفرقة فحدث كل من سمعها بما بلغه منها وشاهده وإن حدث بها واحد فحدث مرات بها على اختلاف ما سمعها. الحكم الثاني في صوم يومي العيدين أما صوم يوم عيد الفطر فحرم لكونه عيدا للمسلمين وأما صوم يوم عيد الأضحى فحرم لأنه يوم القرابين وهو يوم ضيافة الله تعالى والصوم فيه إعراض عن ضيافة الله تعالى وقد روى الزهري ' عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في يوم نحر بدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم قال سمعت رسول الله
ينهى عن صوم هذين اليومين أما يوم الفطر ففطركم من صومكم وعيد للمسلمين وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم ' رواه الترمذي بهذا اللفظ ورواه أيضا بقية الستة من طرق عن الزهري قوله ' أما يوم الفطر ففطركم ' أي فهو يوم فطركم ووصفه بذلك لبيان العلة وهو الفصل بين الصوم والفطر ليعلم انتهاء الصوم ودخول الفطر وقوله ' وعيد للمسلمين ' علة ثانية وكأنه كان من المعلوم أنه لا يصام يوم عيد وقوله ' وأما يوم الأضحى فكلوا من لحم نسككم ' وأشار به إلى العلة أيضا لأنه لو كان يوم صوم لم يؤكل من النسك ذلك اليوم فلم يكن لنحرها فيه معنى وقيل العلة في الفطر يوم النحر أن فيه دعوة الله التي دعا عباده إليها من تضييفه وإكرامه لأهل منى وغيرهم لما شرع لهم من ذبح النسك والأكل منها فمن صام هذا اليوم فكأنه رد على الله كرامته وحكى صاحب المفهم عن الجمهور أن فطرهما شرع غير معلل وفي أمر عمر رضي الله تعالى عنه بالأكل من لحم النسك إشارة إلى مشروعية الأكل من الأضحية وهو متفق على استحبابه واختلف في وجوبه. وتحريم صوم هذين اليومين أمر مجمع عليه بين أهل العلم وكل منهما غير قابل للصوم عندهم إلا أن الرافعي حكى عن أبي حنيفة أنه لو نذر صومهما لكان له أن يصوم فيهما (قلت) ليس كذلك مذهب أبي حنيفة وإنما مذهبه أنه لو نذر صوم يوم النحر أفطر وقضى يوما مكانه أما الفطر فلأن الصوم فيه معصية وأما القضاء فلأنه نذر بصوم مشروع بأصله والنهي لا ينافي المشروعية كما تقرر في الأصول وسيأتي البحث فيه مستقصى في كتاب الصوم. الحكم الثالث في الصلاة بعد الصبح وقد مر في كتاب الصلاة. الحكم الرابع في شد الرحال وقد مر في الباب السابق مستقصى *
((باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة))
وفي بعض النسخ أبواب العمل في الصلاة باب استعانة اليد إلى آخره وفي بعض النسخ صدر الباب بالبسملة وفي غالب النسخ مثل المذكور ههنا أي باب في بيان حكم استعانة اليد أراد به وضع اليد على شيء في الصلاة إذا كان ذلك من أمر الصلاة كما وضع النبي
يده على رأس ابن عباس وفتل أذنه وأداره إلى يمينه فترجم البخاري بما ذكره مستنبطا منه في استعانة المصلي بما يتقوى به على صلاته وقيد بقوله ' إذا كان من أمر الصلاة ' لأنه إذا استعان بها في غير أمر الصلاة يكون عبثا والعبث في الصلاة مكروه
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما يستعين الرجل في صلاته بما شاء من جسده)
قيل لا مطابقة بين هذا الأثر والأثرين اللذين بعده وبين الترجمة لأنه قيد الترجمة بقوله إذا كان من أمر الصلاة والآثار مطلقة (وأجيب) بأنه وإن كانت الآثار مطلقة فهي مقيدة في نفس الأمر معلوم ذلك من الخارج لأن العمل بإطلاقها يؤدي إلى جواز العبث وهو غير مراد لأحد (فإن قلت) الترجمة مقيدة باليد وآثر ابن عباس بالجسد واليد جزء منه (قلت) إذا جازت الاستعانة باليد لأجل أمر الصلاة فكذلك جازت بما شاء من جسده قياسا عليها
(ووضع أبو إسحاق قلنسوته في الصلاة ورفعها)
أبو إسحق هو عمرو بن عبد الله السبيعي الكوفي من كبار التابعين قال العجلي كوفي تابعي ثقة سمع ثمانية وثلاثين من
265

أصحاب النبي
مات سنة ست وعشرين ومائة وهو ابن ست وتسعين سنة وهو معدود من جملة مشايخ أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ووضع القلنسوة ورفعها لا يكون إلا باليد وهكذا هو في نسخة وفي نسخة أخرى أو رفعها بكلمة أو قال ابن قرقول أو رفعها لعبدوس والقابسي على الشك وعند النسفي وأبي ذر والأصيلي ' ورفعها ' من غير شك وهو الصواب
(ووضع علي رضي الله عنه كفه على رصغه الأيسر إلا أن يحك جلدا أو يصلح ثوبا)
قال ابن التين كذا وقع في البخاري بالصاد يعني لفظ رصغه وقال خليل هو لغة في الرسغ وقال غيره صوابه بالسين وهو حد مفصل الكف في الذراع والقدم من الساق وفي المحكم الرسغ مجتمع الساقين والقدمين وقيل هو مفصل ما بين الساعد والكف والساق والقدم وكذلك هو من كل دابة والجمع أرساغ قوله ' إلا أن يحك ' إلى آخره من كلام علي رضي الله تعالى عنه لا من كلام البخاري من الترجمة للبعد بينهما وقال الإسماعيلي في مستخرجه هو من الترجمة وليس كذلك لأن ابن أبي شيبة أخرجه في مصنفه عنه بهذا اللفظ إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده وقال بعضهم وصرح بكونه من كلام البخاري لا من كلام علي رضي الله تعالى عنه العلامة علاء الدين مغلطاي في شرحه وتبعه من أخذ ذلك عنه ممن أدركناه وهو وهم (قلت) هذا القائل هو الذي وهم فإن مغلطاي ما قال ذلك من عنده وإنما نقله عن الإسماعيلي فانظر في شرحه تراه قال قاله الإسماعيلي وقال ابن بطال اختلف السلف في الاعتماد في الصلاة والتوكؤ على الشيء فقالت طائفة لا بأس أن يستعين في الصلاة بما شاء من جسده وغيره وذكره ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري أنه كان يتوكأ على عصى وعن أبي ذر مثله وقال عطاء كان أصحاب محمد
يتوكئون على العصي في الصلاة وأوتد عمرو بن ميمون وتدا إلى الحائط فكان إذا سئم القيام في الصلاة أو شق عليه أمسك بالوتد يعتمد عليه وقال الشعبي لا بأس أن يعتمد على الحائط وكره ذلك غيرهم وعن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط في المكتوبة إلا من علة ولم ير به بأسا في النافلة وقال مالك وكرهه ابن سيرين في الفريضة والتطوع وقال مجاهد إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته قدر ذلك قال والعمل في الصلاة على ثلاثة أضرب يسير جدا كالغمز وحك الجسد والإشارة فهذا لا ينقص عمده ولا سهوه وكذلك التخطي إلى الفرجة القريبة. الثاني أكثر من هذا يبطل عمده دون سهوه كالانصراف من الصلاة. الثالث المشي الكثير والخروج من المسجد فهذا يبطل الصلاة عمده وسهوه وفي مسند أحمد ' عن ابن عمر نهى رسول الله
أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده ' وعند أبي داود ' رأى رجل يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين
يعذبون ' وفي رواية ' تلك صلاة المغضوب عليهم ' وقال أبو داود حدثنا عبد السلام بن عبد الرحمن الوابصي حدثنا أبي عن شيبان عن حصين ' عن هلال بن يساف قال قدمت الرقة فقال لي بعض أصحابي هل لك من رجل من أصحاب النبي
قال قلت عتيمة فدفعنا إلى وابصة فقلت لصاحبي نبدأ فننظر إلى دله فإذا عليه قلنسوة لا طليبة ذات أذنين وبرنس خز أغبر وإذا هو معتمد على عصى في صلاته فقلنا بعد أن سلمنا فقال حدثتني أم قيس بنت محص أن رسول الله
لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه ' (قلت) وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث قوله ' إلى دله ' بفتح الدال المهملة وتشديد اللام وهو السمت والهيئة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر وبهذا الحديث قال أصحابنا أن الضعيف أو الشيخ الكبير إذا كان قادرا على القيام متكئا على شيء يصلي قائما متكئا ولا يقعد وفي الخلاصة ولا يجوز غير ذلك وكذا لو قدر على أن يعتمد على عصى أو كان له خادما لو اتكأ عليه قدر على القيام فإنه يقوم ويتكىء ولو صلى معتمدا على العصى من غير علة هل تكره أم لا فقيل تكره مطلقا وقيل لا تكره في التطوع
220 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس أنه أخبره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين
266

رضي الله عنها وهي خالته قال فاضطجعت على عرض الوسادة واضطجع رسول الله
وأهله في طولها فنام رسول الله
حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ثم استيقظ رسول الله
فجلس يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر آيات خواتيم سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوأه ثم قام يصلي. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله
يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح)
مطابقته للترجمة في قوله ' وأخذ بأذني اليمنى ' وذلك لإدارته من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن وذلك من مصلحة الصلاة وقد ذكر البخاري هذا الحديث في اثنى عشر موضعا أولها عن إسماعيل بن أبي أويس في باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره في كتاب الوضوء وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به *
((باب ما ينهى من الكلام في الصلاة))
أي هذا باب في بيان ما ينهى من الكلام في الصلاة وفي رواية الأصيلي والكشميهني باب ما ينهى عنه من الكلام
221 - (حدثنا ابن نمير قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه قال كنا نسلم على النبي
وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال إن في الصلاة شغلا)
مطابقته للترجمة في قوله ' فلم يرد علينا ' إلى آخره.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول محمد بن عبد الله بن نمير بضم النون وسكون الياء آخر الحروف وبالراء أبو عبد الرحمن الهمداني ريحانة العراق مات سنة أربع وثلاثين ومائتين. الثاني محمد بن فضيل بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة مر في باب صوم رمضان من كتاب الإيمان. الثالث سليمان الأعمش وقد تكرر ذكره. الرابع إبراهيم النخعي. الخامس علقمة بن قيس. السادس عبد الله بن مسعود
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن رجال إسناده كلهم كوفيون وفيه أنه ذكر شيخه بنسبته إلى جده لأن اسم أبيه عبد الله كما ذكرنا الآن وقد تكلف الكرماني في هذا فقال ما حاصله أنه ذكره في باب إتيان مسجد قباء أنه عبد الله لا محمد فكيف يفرق بينهما ثم قال يحصل الفرق بذكر شيوخهما ومعرفة طبقتهما وتاريخ وفاتهما ولعل غرض البخاري في مثل هذا الإبهام الترغيب في معرفة طبقات الرجال وامتحان استحضارهم ونحو ذلك انتهى (قلت) المذكور في باب إتيان مسجد قباء ابن نمير فقط وكذلك في هذا الباب المذكور ابن نمير في موضعين والكل واحد غير أنه تارة ينسب إلى أبيه وتارة إلى جده وفيه أن المذكور من الرجال اثنان بابن فلان أحدهما منسوب إلى جده والآخر منسوب إلى أبيه وفيه واحد مذكور بلقبه وثلاثة مذكورون بلا نسبة.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في هجرة الحبشة عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة وفي الصلاة عن عبد الله بن أبي شيبة وعن ابن نمير عن إسحاق بن منصور عن هريم بن سفيان وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير وابن نمير وأبي سعيد الأشج أربعتهم عن ابن فضيل به وعن ابن نمير عن
267

إسحاق بن منصور به وأخرجه أبو داود فيه عن ابن نمير عن فضيل به وأخرجه النسائي فيه عن حميد بن مسعدة عن بشر بن المفضل عن شعبة عنه به
(ذكر معناه) قوله ' كنا نسلم على النبي
وهو في الصلاة ' وفي رواية أبي وائل ' كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجاتنا ' وفي رواية أبي الأحوص ' خرجت في حاجة ونحن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة '
قوله ' وهو في الصلاة ' جملة حالية قوله ' فيرد علينا ' أي يرد السلام علينا وهو في الصلاة قوله ' فلما رجعنا من عند النجاشي بفتح النون وقيل بكسرها وكل من ملك الحبشة يسمى النجاشي كما يسمى كل من ملك الروم قيصرا وكل من ملك الفرس يسمى كسرى وكل من ملك الترك يسمى خافانا وكل من ملك الهند يسمى بطلميوسا وكل من ملك اليمن يسمى تبعا وقال ابن إسحاق لما احتمل المسلمون من أذى الكفار واشتد ذلك عليهم قصد بعضهم الهجرة فرارا بدينهم من الفتنة قال ولما رأى رسول الله
ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله تعالى ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله
إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله تعالى بدينهم فكانت أول هجرة في الإسلام وقال الواقدي كانت هجرتهم إلى الحبشة في رجب سنة خمس من النبوة وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله
وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة العنزي وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وأبو سبرة بن أبي درهم وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء وعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم وقال ابن جرير وقال الآخرون كانوا اثنين وثمانين رجلا سوى نسائهم وأبنائهم وعمار بن ياسر يشك فيه فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلا ولما رجعوا من عند النجاشي كان رجوعهم من عنده إلى مكة وذلك أن المسلمين الذين ذكرناهم أنهم هاجروا إلى الحبشة بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضا فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى وكان ابن مسعود مع الفريقين واختلف في مراده بقوله فلما رجعنا هل أراد الرجوع الأول أو الثاني فمالت جماعة منهم أبو الطيب الطبري إلى الأول وقالوا تحريم الكلام كان بمكة وحملوا حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ وقالوا لا مانع من أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه ومالت طائفة إلى الترجيح فقالوا بترجيح حديث ابن مسعود فإنه حكى لفظ النبي
بخلاف زيد فلم يحكه وقالت طائفة إنما أراد ابن مسعود رجوعه الثاني وقد ورد أنه قدم المدينة والنبي
يتجهز إلى بدر وروى الحاكم في مستدركه من طريق أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال بعثنا رسول الله
إلى النجاشي ثمانين رجلا فذكر الحديث بطوله وفي آخره ' فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدرا ' وقال ابن إسحاق إن المؤمنين وهم بالحبشة لما بلغهم أن النبي
هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلا فمات منهم رجلان بمكة وحبس بها منهم سبعة وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلا فشهدوا بدرا فبان من ذلك أن ابن مسعود كان من هؤلاء وأن اجتماعهم بالنبي
كان بالمدينة قوله ' شغلا ' بضم الشين والغين وبسكون الغين والتنوين فيه للتنويع أي نوعا من الشغل لا يليق معه الاشتغال بغيره قاله الكرماني ويجوز أن يكون للتعظيم أي شغلا عظيما وهو اشتغال بالله تعالى دون غيره في مثل هذه الحالة
(ذكر ما يستفاد منه) فيه دلالة على أن الكلام كان مباحا في الصلاة ثم حرم وكذلك في حديث زيد بن أرقم الآتي ذكره واختلفوا متى حرم فقال قوم بمكة واستدلوا بحديث ابن مسعود ورجوعه من عند النجاشي إلى مكة وقال آخرون بالمدينة بدليل حديث زيد بن أرقم فإنه من الأنصار أسلم بالمدينة وسورة البقرة مدنية وقالوا ابن مسعود لما عاد إلى مكة من
268

الحبشة رجع إلى النجاشي إلى الحبشة في الهجرة الثانية ثم ورد على رسول الله
بالمدينة وهو يتجهز لبدر وقال الخطابي إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة وأجاب الأولون بأنه قال فلما رجعنا من عند النجاشي ولم يقل في المرة الثانية وحملوا حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين كما يقول القائل قتلناكم وهزمناكم يعنون الآباء والأجداد ورد قول الخطابي بتعذر التاريخ وفيه نظر لأن في حديث جابر الذي رواه مسلم ' بعثني رسول الله
في حاجة ثم أدركته وهو يصلي فسلمت عليه فأشار إلي فلما فرغ قال إنك سلمت آنفا وأنا أصلي فهو الذي منعني أن أكلمك ' ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وفي لفظ ' كان ذلك وهو منطلق إلى بني المصطلق ' وهذا يرد أيضا ما قاله ابن حبان من قوله توهم من لم يحكم صناعة العلم أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة لحديث زيد بن أرقم وليس كذلك لأن الكلام في الصلاة كان مباحا إلى أن رجع ابن مسعود وأصحابه من عند النجاشي فوجدوا إباحة الكلام قد نسخت وكان بالمدينة مصعب بن عمير يقري المسلمين ويفقههم وكان الكلام بالمدينة مباحا كما كان في مكة فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة فحكى زيد ذلك الفعل لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة وقال ابن حبان في موضع آخر بأن زيد بن أرقم أراد بقوله ' كنا نتكلم ' من كان يصلي خلف النبي
بمكة من المسلمين ورد هذا أيضا بأنهم ما كانوا بمكة يجتمعون إلا نادرا وبما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ' كان الرجل إذا دخل المسجد فوجدهم يصلون سأل الذي إلى جنبه فيخبره بما فاته فيقضي ثم يدخل معهم حتى جاء معاذ يوما فدخل في الصلاة ' فذكر الحديث وهذا كان بالمدينة قطعا لأن أبا أمامة ومعاذ بن جبل إنما أسلما بالمدينة (فإن قلت) في حديث جابر المذكور إشكال على قول أبي حنيفة حيث قال المصلي إذا سلم عليه لا يرد بلفظ ولا بإشارة (قلت) حديث جابر روي بوجوه مختلفة. منها ما رواه الطحاوي حدثنا أحمد بن داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا هشام بن أبي عبد الله قال حدثنا أبو الزبير ' عن جابر قال كنا مع النبي
في سفر فبعثني في حاجة فانطلقت إليها ثم رجعت إليه وهو على راحلته فسلمت عليه فلم يرد علي ورأيته يركع ويسجد فلما سلم رد علي ' فهذا جابر بن عبد الله يخبر أن رسول الله
لم يرد عليه وأنه لما فرغ من صلاته رد عليه وروى أيضا مرة عن أبي بكرة عن أبي داود عن هشام فذكر بإسناده مثله غير أنه لم يقل فلم يرد علي وقال ' فلما فرغ من صلاته قال أما إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي ' فأخبرني هذا أن رسول الله
لم يرد عليه في الصلاة فدل ذلك على أن تلك الإشارة التي كانت منه في الصلاة لم تكن ردا وإنما كانت نهيا (فإن قلت) روى الطحاوي أيضا عن جابر من رواية الأعمش عن أبي سفيان قال سمعت جابرا يقول ما أحب أن أسلم على الرجل وهو يصلي ولو سلم علي لرددت عليه (قلت) هو كره أن يسلم على المصلي وقد كان سلم على رسول الله
وهو يصلي فأشار إليه فلو كانت الإشارة التي كانت من النبي
رد السلام عليه إذا لما كره ذلك لأن رسول الله
لم ينهه عنه ولكنه إنما كره ذلك لأن إشارة النبي
تلك كانت عنده نهيا له عن السلام عليه وهو يصلي (فإن قلت) قد قال ولو سلم علي لرددت (قلت) له أفقال جابر لرددت في الصلاة قد يجوز أن يكون أراد بقوله ' لرددت ' أي بعد فراغي من الصلاة قال الطحاوي وقد دل على ذلك من مذهبه ما حدثنا علي بن زيد قال حدثنا موسى بن داود قال حدثنا همام قال سأل سليمان بن موسى عطاء أسألت جابرا عن الرجل يسلم عليك وأنت تصلي فقال لا ترد عليه حتى تقضي صلاتك فقال نعم
ثم الأئمة اختلفوا في هذا الباب فقال قوم منهم يرد السلام نطقا وهو المروي عن أبي هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق ومنهم من قال يستحب رده بالإشارة وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور وقيل يرد في نفسه روى ذلك عن أبي حنيفة أيضا وقال قوم يرد بعد السلام وهو قول عطاء والثوري والنخعي وهو المروي عن أبي ذر وأبي العالية وبه قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف لا يرد لا في الحال ولا بعد الفراغ وقالت طائفة من الظاهرية إذا كانت الإشارة مفهمة قطعت عليه صلاته لما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله
' التسبيح للرجال والتصفيق
269

للنساء ومن أشار في صلاته إشارة تفهم منه ليعدها ' رواه الطحاوي ورواه أبو داود أيضا ولفظه ' فليعدلها ' ثم قال وهذا الحديث وهم وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء سئل أحمد عن هذا الحديث فقال لا يثبت إسناده ليس بشيء وأعله ابن الجوزي بابن إسحاق في سنده وقال أبو غطفان مجهول وهو في إسناده أيضا قال صاحب التحقيق أبو غطفان هو ابن طريف ويقال ابن مالك المري قال عباس الدوري سمعت ابن معين يقول فيه ثقة وقال النسائي في الكنى أبو غطفان ثقة قيل اسمه سعد وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له مسلم في صحيحه فحينئذ يكون إسناد الحديث صحيحا وأبو داود لم يبين كيفية الوهم فلا يبني عليه شيء فإن كان قول أبي داود من جهة أبي غطفان فقد بينا حاله وتعليل ابن الجوزي بابن إسحق ليس بشيء لأن ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور
222 - (حدثنا ابن نمير قال حدثنا إسحاق بن منصور قال حدثنا هريم بن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي
نحوه)
هذا طريق آخر للحديث المذكور وابن نمير هو محمد بن عبد الله بن نمير المذكور في الحديث الأول وإسحاق بن منصور السلولي بفتح السين المهملة وضم اللام الأولى نسبة إلى سلول قبيلة من هوازن وهريم بضم الهاء وفتح الراء مصغر هرم بن سفيان البجلي أبو محمد والأعمش هو سليمان بن مهران وإبراهيم بن يزيد النخعي وعلقمة بن قيس ورجال الإسناد كلهم كوفيون قوله ' نحوه ' أي نحو طريق محمد بن فضيل عن الأعمش إلى آخره وأخرجه مسلم أيضا بالطريقين أحدهما من طريق ابن فضيل عن الأعمش والآخر عن ابن نمير عن إسحاق بن منصور السلولي وأخرجه أبو داود والنسائي من طريق أبي وائل عن ابن مسعود فقال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا عاصم عن أبي وائل ' عن عبد الله قال كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا فقدمت على رسول الله
وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فأخذني ما قدم وحدث فلما قضى رسول الله
قال إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة فرد علي السلام ' وأخرجه الطحاوي وابن ماجة من طريق أبي الأحوص عنه فقال الطحاوي حدثنا علي بن شيبة قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ' عن عبد الله قال خرجت في حاجة ونحن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فلما رجعت فسلمت فلم يرد علي وقال إن في الصلاة شغلا ' وقال ابن ماجة حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا النضر بن شميل حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ' عن عبد الله قال كنا نسلم في الصلاة فقيل لنا إن في الصلاة شغلا ' وأبو وائل شقيق ابن سلمة وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وأبو الأحوص عوف بن مالك
223 - (حدثنا إبراهيم بن موسى قال أخبرنا عيسى هو ابن يونس عن إسماعيل عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني قال قال لي زيد بن أرقم إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي
يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت)
مطابقته للترجمة في قوله ' فأمرنا بالسكوت ' والأمر بالسكوت نهي عن الكلام.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول إبراهيم بن موسى بن يزيد بن زادان التميمي الفراء أبو إسحق مر في الحيض. الثاني عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي مر في باب من صلى بالناس وذكر حاجة. الثالث إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي البجلي واسم أبي خالد سعد ويقال هرمز مر في الإيمان. الرابع الحارث بن شبيل بضم الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وباللام البجلي وليس له في البخاري إلا هذا الحديث. الخامس أبو عمرو بفتح العين الشيباني واسمه سعيد بن إياس مر في باب
270

فضل الصلاة لوقتها. السادس زيد بن أرقم بفتح الهمزة والقاف وسكون الراء الأنصاري الخزرجي مات سنة ثمان وستين
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار كذلك في موضع وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن شيخه رازي والبقية كوفيون وفيه أحد الرواة مفسر بنسبته إلى أبيه والآخر مذكور بلا نسبة والآخر مذكور بالكتابة.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن مسدد عن يحيى بن سعيد وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن عيسى وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع وفي التفسير أيضا كذلك وأخرجه النسائي في الصلاة عن إسماعيل بن مسعود وفي التفسير عن سويد بن نصر
(ذكر معناه) قوله ' عن أبي عمرو الشيباني ' ليس له في الصحيحين عن زيد بن أرقم غير هذا الحديث قوله ' إن كنا لنتكلم ' كلمة إن مخففة من الثقيلة واللام في ' لنتكلم ' للتأكيد قوله ' يكلم أحدنا ' جملة استئنافية كأنها جواب عن قول القائل كيف كنتم تتكلمون فقال يكلم أحدنا صاحبه بحاجته وفي لفظ ' ويسلم بعضنا على بعض ' وعند مسلم ' ونهينا عن الكلام ' ولفظ الترمذي ' كنا نتكلم خلف رسول الله
في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * قال فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ' قوله * (حافظوا) * أي واظبوا وداوموا قوله * (الوسطى) * أي الفضلى من قولهم الأفضل الأوسط ولذلك أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل فالصفة بالوسطى أي الفضلى واردة للإشعار بعلية الحكم قوله * (قانتين) * نصب على الحال من الضمير الذي في * (قوموا) * واشتقاقه من القنوت وهو يرد لمعان كثيرة بمعنى الطاعة والخشوع والصلاة والدعاء والعبادة والقيام وطول القيام وقال ابن بطال القنوت في هذه الآية بمعنى الطاعة والخشوع لله تعالى ولفظ الراوي يشعر بأن المراد به السكوت لأن حمله على ما يشعر به كلام الراوي أولى وأرجح لأن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب النزول وقول الصحابي في الآية نزلت في كذا يتنزل منزلة المسند وقال عكرمة كانوا يتكلمون فنهوا عنها قوله ' فأمرنا ' على صيغة المجهول والفاء فيه تشعر بتعليل ما سبق وأيضا كلمة حتى التي في قوله ' حتى نزلت ' تشعر بذلك لأنها للغاية
(ذكر ما يستفاد منه) وهو على وجوه. فيه الدلالة على أن الكلام في الصلاة كان مباحا في أول الإسلام ثم نسخ لأن المصلي مناد لربه عز وجل فالواجب عليه أن لا يقطع مناجاته بكلام مخلوق وأن يقبل على ربه ويلتزم الخشوع ويعرض عما سوى ذلك وقد ذكرنا عن قريب أنه متى حرم والحرمة بقوله * (وقوموا لله قانتين) * أي ساكنين على ما ذكرنا وأراد بقوله ' فأمرنا بالسكوت ' أي عن جميع أنواع كلام الآدميين. وأجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة عامدا عالما بتحريمه لغير مصلحتها أو لغير إنقاذ هالك أو شبهه مبطل للصلاة وأما الكلام لمصلحتها فقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد تبطل الصلاة وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك وطائفة قليلة واعتبرت الشافعية ظهور حرفين وإن لم يكونا مفهمين وأما الناسي فلا تبطل صلاته بالكلام القليل عند الشافعي وبه قال مالك وأحمد والجمهور وعند أصحابنا تبطل وقال النووي دليلنا حديث ذي اليدين فإن كثر كلام الناسي ففيه وجهان مشهوران لأصحابنا أصحهما تبطل صلاته لأنه نادر وأما كلام الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام فهو ككلام الناسي فلا تبطل صلاته بقليله وأجاب بعض أصحابنا أن حديث قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم لأن ذا اليدين قتل يوم بدر كذا روي عن الزهري وإن قصته في الصلاة كانت قبل بدر ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخر الإسلام عن بدر لأن الصحابي قد يروي ما لا يحضره بأن يسمعه من النبي
أو من صحابي آخر (فإن قلت) قال البيهقي في باب ما يستدل به على أنه لا يجوز أن يكون حديث ابن مسعود في تحريم الكلام ناسخا لحديث أبي هريرة وغيره وذلك لتقدم حديث عبد الله وتأخر حديث أبي هريرة (قلت) ذكر أبو عمر في التمهيد أن الصحيح في حديث ابن مسعود أنه لم يكن إلا بالمدينة وبها نهى عن الكلام في الصلاة وقد روى حديثه بما يوافق حديث زيد بن أرقم وصحبة زيد لرسول الله
كانت بالمدينة وسورة البقرة مدنية (فإن قلت) في حديث ابن عباس
271

مسعود الذي رواه أبو داود وعاصم بن بهدلة قال البيهقي صاحبا الصحيح توقيا روايته لسوء حفظه (قلت) رواه ابن حبان في صحيحه والنسائي في سننه وليس في حديث عاصم فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى مكة بل يحتمل أن يريد فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى المدينة ليتفق حديثه مع حديث زيد بن أرقم وقال صاحب الكمال وغيره هاجر ابن مسعود إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة ولهذا قال الخطابي إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة وهذا يدل على اتفاق حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم على أن التحريم كان بالمدينة (فإن قلت) قد ذكر البيهقي في كتاب المعرفة عن الشافعي أن في حديث ابن مسعود أنه مر على النبي
بمكة قال فوجده يصلي في فناء الكعبة الحديث (قلت) لم يذكر ذلك أحد من أهل الحديث غير الشافعي ولم يذكر سنده لينظر فيه ولم يجد له البيهقي سندا مع كثرة تتبعه وانتصاره لمذهب الشافعي وذكر الطحاوي في أحكام القرآن أن مهاجرة الحبشة لم يرجعوا إلا إلى المدينة وأنكر رجوعهم إلى دار قد هاجروا منها لأنهم منعوا من ذلك
واستدل على ذلك بقوله
في حديث سعد ' ولا تردهم على أعقابهم ' (فإن قلت) قال البيهقي الذي قتل ببدر هو ذو الشمالين وأما ذو اليدين الذي أخبر النبي
بسهوه فإنه بقي بعد النبي
كذا ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان قال حدثني شعيب بن مطير عن أبيه ومطير حاضر فصدقه قال شعيب يا أبتاه أخبرتني أن ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك أن رسول الله
الحديث ثم قال البيهقي وقال بعض الرواة في حديث أبي هريرة ' فقال ذو الشمالين يا رسول الله أقصرت الصلاة ' وكان شيخنا أبو عبد الله يقول كل من قال ذلك فقد أخطأ فإن ذا الشمالين تقدم موته ولم يعقب وليس له راو (قلت) قال السمعاني في الأنساب ذو اليدين ويقال له ذو الشمالين لأنه كان يعمل بيديه جميعا وفي الفاصل للرامهرمزي ذو اليدين وذو الشمالين قد قيل أنهما واحد وقال ابن حبان في الثقات ذو اليدين ويقال له أيضا ذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بن زهرة والحديث الذي استدل به على بقاء ذي اليدين بعد النبي
ضعيف لأن معدي بن سليمان متكلم فيه قال أبو زرعة واهي الحديث وقال ابن حبان يروي المقلوبات عن الثقات والملزوقات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد وشعيب ما عرفنا حاله ووالده مطير لم يكتب حديثه وقال الذهبي لم يصح حديثه * وفيه الأمر بالمحافظة على الصلوات والأمر للوجوب وروى الترمذي وقال حدثنا موسى بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن أرقم الحباب أخبرنا معاوية بن صالح حدثني سليم بن عامر قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله
يخطب في حجة الوداع فقال اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم ورواه ابن حبان في صحيحه وروى الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة أنه قال سمعت رسول الله
يقول إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ' الحديث. وفيه الأمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وذكر العلماء فيه عشرين قولا
الأول أن الصلاة الوسطى هي العصر وهو قول أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو في رواية وسمرة بن جندب وأم سلمة رضي الله تعالى عنهم وقال ابن حزم ولا يصح عن علي ولا عن عائشة غير هذا أصلا وهو قول الحسن البصري والزهري وإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ويونس وقتادة والشافعي وأحمد والضحاك بن مزاحم وعبيد بن مريم وذر بن حبيش ومحمد بن السائب الكلبي وآخرين وقال أبو الحسن الماوردي هو مذهب جمهور التابعين وقال أبو عمر هو قول أكثر أهل الأثر وقال ابن عطية عليه جمهور الناس وقال أبو جعفر الطبري الصواب من ذلك ما تظاهرت به الأخبار من أنها العصر وقال أبو عمر وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب وقال الترمذي هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم قال الماوردي هذا مذهب الشافعي لصحة الأحاديث فيه (قلت) من
272

الأحاديث في ذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه عند مسلم عنه أنه قال قال رسول الله
يوم الخندق ' شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ' وحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عند مسلم أيضا عنه ' حبس المشركون النبي
عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فقال حبسونا عن الصلاة الوسطى ' وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند مسلم أيضا ' عن أبي يونس مولى عائشة أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات قال فلما بلغتها آذنتها فأملت على حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقالت سمعتها من رسول الله
' (قلت) كذا وقع عند مسلم ' وصلاة العصر ' بواو العطف ووقع في رواية أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني من رواية أبي هريرة عن قبيصة بن ذؤيب قال في مصحف عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر يعني بلا واو وفي كتاب ابن حزم روينا من طريق ابن مهدي عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري عن القاسم عنها فذكرته بغير واو قال أبو محمد فهذه أصح رواية عن عائشة وأبو سهل ثقة (قلت) وفيه رد لما قاله أبو عمر لم يختلف في حديث عائشة في ثبوت الواو قال وعلى تقدير صحته يجاب عنه بأشياء. منها أنه من أفراد مسلم وحديث علي متفق عليه. الثاني أن من أثبت الواو امرأة ومسقطها جماعة كثيرة. الثالث موافقة مذهبها لسقوط الواو. الرابع مخالفة الواو للتلاوة وحديث علي موافق. الخامس حديث علي يمكن فيه الجمع وحديثها لا يمكن فيه الجمع إلا بترك غيره. السادس معارضة روايتها برواية البراء بن عازب عند مسلم ' نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * فقال رجل هي إذا صلاة العصر فقال البراء قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخت '. السابع تكون الواو زائدة كما زيدت عند بعضهم في قوله تعالى * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من القانتين) * وقوله تعالى * (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) * وقال الأخفش في قوله تعالى * (حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها) * لأن الجواب فتحت وقيل أن العطف فيه من باب التخصيص والتفضيل والتنبيه كما في قوله تعالى * (قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) * (فإن قلت) قد حصل ما ذكرت من التخصيص في العطف وهو قوله تعالى * (والصلاة الوسطى) * فوجب أن يكون العطف الثاني وهو قوله (وصلاة العصر) مغايرا له (قلت) لما اختلف اللفظان كان الثاني للتأكيد والبيان كما تقول جاءني زيد الكريم والعاقل فتعطف إحدى الصفتين على الأخرى ومنها حديث سمرة بن جندب عند الترمذي عنه ' عن النبي
أنه قال في الصلاة الوسطى صلاة العصر ' وعند أحمد ' أن النبي
سئل عن الصلاة الوسطى قال هي صلاة العصر ' وفي لفظ قال ' * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * وسماها لنا أنها هي العصر ' وعند الحاكم محسنا من حديث خبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة يرفعه ' وأمرنا أن نحافظ على الصلوات كلهن وأوصانا بالصلاة الوسطى ونبأنا أنها صلاة العصر ' وحديث حفصة عند أبي عمر في التمهيد بسند صحيح وفي الاستذكار اختلف في رفعه وفي ثبوت الواو فيه أنها أمرت كاتبها بكتب مصحف فإذا بلغ هذه الآية يستأذنها فلما بلغها أمرته بكتب حافظوا على الصلاة الوسطى وصلاة العصر ورفعته إلى النبي
ورواه هشام عن جعفر بن إياس عن رجل حدثه عن سالم عنها ولم يثبت الواو قال والصلاة الوسطى صلاة العصر وحديث ابن عباس عند الطبراني من حديث ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم وسعيد بن جبير عنه قال قال النبي
يوم الخندق ' شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا ' وفي كتاب المصاحف لابن أبي داود من حديث أبي إسحق عن عبيد بن مريم سمع ابن عباس قرأ هذه الحروف ' حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ' وفي كتاب ابن حزم من هذه الطريق صلاة العصر أبغير واو ثم قال كذا قاله وكيع وحديث ابن عمر عند أبي عبيد الله محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني حدثنا إبراهيم بن عامر بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا يعقوب القمي عن عنبسة بن سعيد الرازي عن ابن أبي ليلى وليث عن نافع عنه عن النبي
أنه قال ' الموتور أهله وماله من وتر صلاة الوسطى في جماعة وهي صلاة العصر ' وحديث أبي هريرة عند ابن خزيمة
273

في صحيحه قال قال رسول الله
' صلاة الوسطى صلاة العصر ' وحديث أبي هشام بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس عند ابن جعفر الطبري من حديث كهيل بن حرملة سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله
وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة فقال أنا أعلم ذلك فقام فاستأذن على رسول الله
فدخل عليه ثم خرج إلينا فقال أخبرنا أنها صلاة العصر قال أبو موسى المديني في كتاب الصحابة أبو هاشم هذا له حديثان حسنان. وقال الذهبي أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة العبشمي أخو أبي حذيفة وأخو مصعب بن عمير لأمه أسلم يوم الفتح وسكن الشام وكان صالحا توفي في زمن عثمان رضي الله تعالى عنه في الترمذي وغيره وحديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها عند الطبري أيضا من رواية شتير بن شكيل عنها عن النبي
أنه قال يوم الخندق ' شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ' وحديث رجل من الصحابة عنده أيضا قال ' أرسلني أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأنا غلام صغير إلى النبي
أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغير فقال هذه الفجر وقبض التي تليها فقال هذه الظهر ثم قبض الإبهام فقال هذه المغرب ثم قبض التي تليها فقال هذه العشاء ثم قال أي أصابعك بقيت فقلت الوسطى فقال أي الصلاة بقيت فقلت العصر قال هي العصر ' ورواه الطبري عن أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد السلام مولى أبي منصور حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال ' كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال يا فلان اذهب إلى فلان فقل له أيش سمعت من رسول الله
في الصلاة الوسطى فقال رجل جالس أرسلني ' فذكره وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها في كتاب المصاحف لابن أبي داود أنها ' قالت لكاتب يكتب لها مصحفا إذا كتبت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فاكتبها العصر ' ورواه ابن حزم من طريق وكيع عن داود بن قيس عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها وحديث أنس بن مالك أن رسول الله
قال ' شغلونا عن صلاة العصر التي غفل عنها سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حتى توارت بالحجاب ' ذكره إسماعيل بن أبي زياد الشامي في تفسيره عن أبان عن أنس رضي الله تعالى عنه
(القول الثاني) إن الصلاة الوسطى المغرب وهو قول قبيصة بن ذئب قال أبو عمر هذا لا أعلم قاله غير قبيصة قال ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها ولا تقصر في السفر وأن رسول الله
لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها قال أبو جعفر وجه قوله أنه يريد التوسط الذي هو يكون صفة للشيء الذي يكون عدلا بين الأمرين كالرجل المعتدل القامة.
(الثالث) أنها العشاء الأخيرة وهو قول المازري وزعم البغوي في شرح السنة أن السلف لم ينقل عن أحد منهم هذا القول قال وقد ذكره بعض المتأخرين
(الرابع) أنها الصبح وهو قول جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل وابن عباس في قول وابن عمر في قول وعطاء بن أبي رباح وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس ومالك بن أنس والشافعي في قول وقال أبو عمر وممن قال الصلاة الوسطى صلاة الصبح عبد الله بن عباس وهو أصح ما روي عنه في ذلك وهو قول طاوس ومالك وأصحابه وروى النسائي من حديث جابر بن زيد ' عن ابن عباس قال أدلج النبي
ثم عرس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها فلم يصل حتى ارتفعت الشمس وهي الصلاة الوسطى ' وفي حديث صالح أبي الخليل عن جابر بن زيد ' عن ابن عباس أنه قال صلاة الوسطى صلاة الفجر ' وعن أبي رجاء قال ' صليت مع ابن عباس صلاة الغداة في مسجد البصرة فقنت بنا قبل الركوع وقال هذه الصلاة صلاة الوسطى التي قال الله تعالى * (وقوموا لله قانتين) * ' قال الطحاوي وقد خولف ابن عباس في هذه الآية فيم نزلت ثم روى حديث زيد بن أرقم المذكور فيما مضى (قلت) المخالفون لابن عباس في سبب نزول هذه الآية زيد بن أرقم من الصحابة ومن التابعين مجاهد بن جبير والشعبي وجابر بن زيد فإنهم أخبروا أن القنوت المذكور في قوله
تعالى * (وقوموا لله قانتين) * بصورة الأمر هو السكوت عن الكلام في الصلاة لأنهم كانوا يتكلمون فيها وليس هو القنوت الذي كان يفعل في صلاة الصبح فلا يسمى حينئذ بسبب ذلك لصلاة الصبح الصلاة الوسطى على أن عمرو بن ميمون والأسود وسعيد بن جبير وعمران بن الحارث قالوا لم يقنت ابن عباس في الفجر وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن واقد مولى زيد بن خليدة عن سعيد بن جبير ' عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنهما
274

كانا لا يقنتان في الفجر ' حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين عن عمران بن الحارث قال ' صليت مع ابن عباس في داره صلاة الصبح فلم يقنت قبل الركوع ولا بعده '.
(الخامس) أنها إحدى الصلوات الخمس ولا تعرف بعينها روي عن ابن عمر من طريق صحيحة قال نافع سأل رجل ابن عمر عن الصلاة الوسطى فقال هي منهن فحافظوا عليهن كلهن وبنحوه قال الربيع بن خيثم وزيد بن ثابت في رواية وشريح القاضي ونافع وقال النقاش قالت طائفة هي الخمس ولم تميز أي صلاة هي قال أبو عمر كل واحدة من الخمس وسطى لأن قبل كل واحدة صلاتين وبعدها صلاتين.
(السادس) أنها هي الخمس إذ هي الوسطى من الدين كما قال رسول الله
' بني الإسلام على خمس ' قالوا فهي الوسطى من الخمس روي ذلك عن معاوية بن جبل وعبد الرحمن بن غنم فيما ذكر النقاش وفي كتاب الحافظ أبي الحسن علي بن المفضل قيل ذلك لأنها وسط الإسلام أي خياره وكذلك قاله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
(السابع) أنها هي المحافظة على وقتها قاله ابن أبي حاتم في كتاب التفسير حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا المحاربي وابن فضيل عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق أنه قال ذلك.
(الثامن) أنها مواقيتها وشرطها وأركانها وتلاوة القرآن فيها والتكبير والركوع والسجود والتشهد والصلاة على النبي
فمن فعل ذلك فقد أتمها وحافظ عليها قاله مقاتل بن حبان قال ابن أبي حاتم أنبأنا به محمد بن الفضل حدثنا محمد بن علي بن شقيق أخبرنا محمد بن مزاحم عن بكر بن معروف عنه وذكر أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن ابن عباس نحوه
(التاسع) أنها الجمعة خاصة حكاه الماوردي وغيره لما اختصت به دون غيرها وقال ابن سيده في المحكم لأنها أفضل الصلوات ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ إلا أن يقوله برواية يسندها إلى سيدنا رسول الله
.
(العاشر) أنها الجمعة يوم الجمعة وفي سائر الأيام الظهر حكاه أبو جعفر محمد بن مقسم في تفسيره.
(الحادي عشر) أنها صلاتان الصبح والعشاء وعزاه ابن مقسم في تفسيره لأبي الدرداء لقوله
' لو يعلمون ما في العتمة والصبح ' الحديث.
(الثاني عشر) أنها العصر والصبح وهو قول أبي بكر المالكي الأبهري
(الثالث عشر) أنها الجماعة في جميع الصلوات حكاه الماوردي.
(الرابع عشر) أنها الوتر.
(الخامس عشر) أنها صلاة الضحى.
(السادس عش) أنها صلاة العيدين.
(السابع عشر) أنها صلاة عيد الفطر.
(الثامن عشر) أنها صلاة الخوف.
(التاسع عشر) أنها صلاة عيد الأضحى.
(العشرون) أنها المتوسطة بين الطول والقصر وأصحها العصر للأحاديث الصحيحة التي ذكرناها والباقي بعضها ضعيف وبعضها مردود وقد أمرنا بالسكوت وفي مسلم ونهينا عن الكلام قال ابن العربي وهذا بظاهره يعطي أن الأمر بالشيء منهى عن ضده وقد اختلف الأصوليون فيه قال وليس كذلك فإن الأمر إذا اقتضى فعلا فالنهي عن تركه لا يعطيه الأمر بذاته وإنما يقتضيه أن الامتثال لا يأتي إلا بترك الضد وقال شيخنا زين الدين الأمر بالسكوت مناف لعدم السكوت بالذات وهو المسمى بالنقيض فلا نزاع في دلالة الأمر عليه لأنه جزؤه وأما الكلام فهو ضده وهو محل النزاع بيننا وبين المعتزلة فأكثر أصحابنا على أن الأمر بالشيء يدل على النهي عن ضده وذهب جمهور المعتزلة وكثير من أصحابنا إلى عدم دلالته عليه كما حكاه صاحب المحصل وأما ما حكاه صاحب الحاصل وتبعه البيضاوي من موافقة أكثر أصحابنا لجمهور المعتزلة فليس بجيد ودلالته عليه بالالتزام فإن دلالة الالتزام دلالته على خارج عنه (قلت) ذهب بعض الشافعية والقاضي أبو بكر أولا إلى أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وقال القاضي آخرا وكثير من الشافعية وبعض المعتزلة إلى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده لأنه عينه إذ اللازم غير الملزوم وذهب إمام الحرمين والغزالي وباقي المعتزلة إلى أنه لا حكم لكل واحد منهما في ضده أصلا بل هو مسكوت عنه وقال أبو بكر الجصاص وهو مذهب عامة العلماء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأهل الحديث أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان له ضد واحد كالأمر بالإيمان نهي عن الكفر وإن كان له أضداد كالأمر بالقيام له أضداد من القعود والركوع والسجود والاضطجاع يكون الأمر به نهيا عن جميع أضداده كلها وقال بعضهم يكون نهيا عن واحد منها غير معين وفصل بعضهم بين الأمر للإيجاب فقال أمر الإيجاب
يكون نهيا عن ضد المأمور به وعن
275

أضداده لكونه مانعا من فعل الواجب وأمر الندب لا يكون كذلك فكانت أضداد المندوب غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه ومن لم يفصل جعل أمر الندب نهيا عن ضده فهي ندب حتى يكون الامتناع عن ضد المندوب مندوبا كما يكون فعله وأما النهي عن الشيء فأمر بضده إن كان له ضد واحد باتفاقهم كالنهي عن الكفر أمر بالإيمان وإن كان له أضداد فعند بعض أصحابنا وبعض أصحاب الحديث يكون أمرا بالأضداد كلها كما في جانب الأمر وعند عامة أصحابنا وعامة أصحاب الحديث يكون أمرا بواحد من الأضداد غير معين وذهب بعضهم إلى أنه يوجب حرمة ضده وقال بعضهم يدل على حرمة ضده وقال بعض الفقهاء يدل على كراهة ضده وقال بعضهم يوجب كراهة ضده ومختار القاضي الإمام أبي زيد وشمس الأئمة وفخر الإسلام ومن تابعهم أنه يقتضي كراهة ضده والنهي عن الشيء ينبغي أن يكون ضده في معنى سنة مؤكدة فافهم (فإن قلت) فإذا كان قوله أمرنا بالسكوت دالا على النهي عن الكلام فما فائدة ذكر النهي عن الكلام في قوله ' فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ' (قلت) التصريح أبلغ من دلالة الالتزام فاقتضى التصريح به نفي الخلاف المعروف فيه (فإن قلت) الألف واللام في قوله ' أمرنا بالسكوت ' لماذا (قلت) للعهد لا للعموم وهي راجعة إلى قوله ' يكلم الرجل صاحبه إلى جنبه ' أي فأمرنا بالسكوت عما كانوا يفعلونه من ذلك وكذلك الألف واللام في قوله ' ونهينا عن الكلام ' أي عن مخاطبة الآدميين وحمل ابن دقيق العيد الألف واللام في الكلام على العموم وفيه نظر لأن النهي عن الكلام مخصوص بمخاطبة الآدميين بدليل حديث معاوية بن الحكم أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية عطاء بن يسار عنه قال ' بينا أنا أصلي مع رسول الله
إذ عطس رجل من القوم فقلت له يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم ' الحديث وفيه أنه
قال ' إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ' *
((باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال))
أي هذا باب في بيان ما يجوز من قول سبحان الله وقول الحمد لله في أثناء الصلاة للرجال إذا نابهم شيء فيها نحو ما إذا رأى المصلي أن إمامه يفعل شيئا في غير محله يقول سبحان الله ليسمع الإمام ذلك ويرجع إلى الصواب وإنما قيد ذلك بالرجال لأن النساء إذا نابهن شيء في الصلاة يصفقن لقوله
' التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ' على ما يأتي بعد باب مفردا ويدخل في هذا ما إذا فتح على إمامه لا تفسد صلاته
224 - (حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل رضي الله عنه قال خرج النبي
يصلح بين بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة فجاء بلال أبا بكر رضي الله عنهما فقال حبس النبي
فتؤم الناس قال نعم إن شئتم فأقام بلال الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فصلى فجاء النبي
يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف الأول فأخذ الناس بالتصفيح قال سهل هل تدرون ما التصفيح هو التصفيق وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت في صلاته فلما أكثروا التفت فإذا النبي
في الصف فأشار إليه مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله ثم رجع القهقرى وراءه وتقدم النبي
فصلى)
مطابقته للترجمة من حيث أنه ذكر هذا الحديث بتمامه في باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول وفيه ' من نابه شيء في الصلاة فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء ' وذكر هذه الترجمة ههنا على هذا الوجه اكتفاء بما ذكر هناك لأن الحديث واحد على أنه ذكره في سبعة مواضع مترجما في كل موضع بما يناسبه وقد ذكرناه هناك مستقصى والشارح ههنا على قسمين منهم من لم يتعرض قط لوجه هذه الترجمة ولا لوجه مناسبتها للحديث منهم صاحب التلويح والتوضيح ومنهم من ذكر شيئا لا يساوي سماعه منهم الكرماني فإنه قال (فإن قلت) ذكر في الترجمة لفظ التسبيح والحديث لا يدل عليه (قلت)
276

علم من الحمد بالقياس عليه إلى آخره ولم يذكر شيئا تحته طائل ومنهم من قال أراد إلحاق التسبيح بالحمد لجامع الذكر لأن الذي في الحديث الذي ساقه ذكر التحميد دون التسبيح واعترضه بعضهم وقال بل الحديث مشتمل عليهما لكنه ساقه هنا مختصرا وقد تقدم في باب من دخل ليؤم الناس في أبواب الإمامة انتهى (قلت) هؤلاء كأنهم فهموا أن المراد من الترجمة جواز التسبيح والحمد في الصلاة مطلقا وليس كذلك فإن مراده الإتيان بلفظ التسبيح لمن نابه شيء وهو في الصلاة بدليل قيده للرجال فإنه ترجم ههنا بقوله باب ما يجوز إلى آخره وفيه قيد بقوله للرجال ثم ترجم للنساء بباب آخر وهو قوله باب التصفيق للنساء ولو كان مراده من الترجمة الإطلاق في ذلك لما قيده بقوله للرجال فإن التسبيح والحمد ونحوهما لأمر نابه في الصلاة يجوز للرجال والنساء ما لم يقع جوابا لشيء آخر وأما قوله في الترجمة والحمد فللتنبيه على أن الذي ينوبه شيء وهو في الصلاة إذا حمد الله عوض سبحان الله فإنه يجوز لأن الغرض من ذلك التنبيه على عروض أمر لا مجرد التسبيح والحمد لأن مجرد التسبيح والحمد ونحوهما لا يضر صلاة المصلي إذا لم يقع جوابا وقال صاحب التوضيح وفيه يعني في هذا الحديث أن التسبيح جائز للرجال والنساء عندما ينزل بهم من حاجة إلا يرى أن الناس أكثروا بالتصفيق لأبي بكر ليتأخر للنبي
وبهذا قال مالك والشافعي أن من سبح في صلاته لشيء ينوبه أو أشار إلى إنسان فإنه لا يقطع صلاته وخالف في ذلك أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه (قلت) لا نسلم أن أبا حنيفة خالف فإنه هو الذي خالف فإن مذهب أبي حنيفة أنه إذا سبح أو حمد جوابا لإنسان فإنه يقطع لأنه يكون كلاما وأما إذا وقع شيء من ذلك لغير جواب فلا يضر ذلك لأن الصلاة هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح ثم أنهم فهموا أن حمد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو في الصلاة إنما كان لأمر نابه
وهو في الصلاة وليس كذلك فإنه حمد الله على ما أمر به رسول الله
وقد صرح به في الحديث في باب من دخل ليؤم الناس حيث قال فلما أكثر الناس التصفيق فرأى رسول الله
فأشار إليه رسول الله
أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره رسول الله
من ذلك على أن ابن الجوزي ادعى أنه أشار بالشكر والحمد بيده ولم يتكلم ثم إن البخاري روى حديث هذا الباب عن عبد الله بن مسلمة بفتح الميم واللام ابن قعنب التيمي الحارثي وقد تقدم غير مرة عن عبد العزيز بن أبي حازم واسم أبي حازم بالزاي سلمة بن دينار المديني عن أبيه سلمة عن سهل بن سعد الساعدي الأنصاري وأخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد وقد تكلمنا هناك على ما يتعلق به من الأنواع فلنذكر هنا ما هو المهم وإن وقع فيه بعض التكرار فإنه لا يضر لبعد المسافة قوله ' يصلح ' حال منتظرة قوله ' وحانت الصلاة ' أي حضرت وحلت قوله ' حبس النبي
' أي تأخر هناك لأجل الصلح قوله ' يمشي ' حال أيضا وكذلك قوله ' يشقها ' أي حال يشق الصفوف قوله ' فقال سهل ' وهو سهل بن سعد المذكور قوله ' هو التصفيق ' تفسير لقوله ' ما التصفيح واحتج به بعضهم على أن التصفيح والتصفيق بمعنى واحد وبه صرح الخطابي والجوهري وأبو علي القالي وآخرون حتى ادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك وليس كذلك فإن القاضي عياض حكى أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو واللعب وأغرب الداودي فزعم أن الصحابة ضربوا بأكفهم على أفخاذهم قال القاضي عياض كأنه أخذه من حديث معاوية بن الحكم الذي أخرجه مسلم ففيه ' وجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ' *
((باب من سمى قوما أو سلم في الصلاة على غيره مواجهة وهو لا يعلم))
أي هذا باب في بيان حكم من سمى قوما بذكر أسمائهم أو سلم في صلاته على غيره مواجهة بفتح الجيم وهي نصب على المصدرية والحال أنه لا يعلم أي المسلم عليه لا يعلم يعني لا يسمع السلام وليس في رواية الأكثرين لفظ مواجهة وإنما هو وقع في رواية أبي ذر وقيل في رواية أبي ذر عن الحموي على غير بالتنوين بلا هاء الضمير وقال الكرماني وفي بعض النسخ على غيره مواجهة بلفظ اسم الفاعل المضاف إلى الضمير وإضافة الغير إليه (فإن قلت) لم يبين في الترجمة حكم الباب ما هو أجواز أو بطلان (قلت)
277

كأنه ترك ذلك لاشتباه الأمر فيه ولكن قيل الظاهر الجواز وأن شيئا في ذلك لا يبطل الصلاة لأنه
لم يأمرهم بالإعادة فيه إنما علمهم ما يستقبلون (قلت) وفيه نظر لأن هذا منسوخ وقد كان ذلك مقررا عندهم ثم منعهم النبي
عن ذلك وأمرهم بما يقولون فنسخ هذا ذاك
225 - (حدثنا عمرو بن عيسى قال حدثنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد قال حدثنا حصين بن عبد الرحمن عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال كنا نقول التحية في الصلاة ونسمي ويسلم بعضنا على بعض فسمعه رسول الله
فقال قولوا التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد لله صالح في السماء والأرض)
مطابقته للترجمة في قوله ' كنا نقول التحية في الصلاة ونسمي ويسلم بعضنا على بعض ' وللترجمة جزآن أحدهما قوله من سمى قوما وقد مر في باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد في حديث عبد الله بن مسعود أيضا قال ' كنا إذا كنا مع النبي
في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده السلام على فلان وفلان ' الحديث وفي رواية عنه ' قلنا السلام على جبرائيل وميكائيل ' والجزء الآخر هو قوله ' أوسلم في الصلاة ' إلى آخره وهو المراد من قوله ' ويسلم بعضنا على بعض '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عمرو بن عيسى أبو عثمان الضبعي بضم الضاد المعجمة الأدي بفتح الهمزة وفتح الدال. الثاني عبد العزيز بن عبد الصمد العمي بفتح العين المهملة وتشديد الميم. الثالث حصين بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة ابن عبد الرحمن مر في باب الأذان بعد ذهاب الوقت. الرابع أبو وائل واسمه شقيق بن سلمة. الخامس عبد الله بن مسعود
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن شيخه من أفراده وهو بصري وكذلك عبد العزيز بصري وحصين وأبو وائل كوفيان وفيه عبد العزيز مذكورا أولا بالكنية ثم بين باسمه وهو مذكور أيضا بنسبته إلى عم قبيلة من بني تميم وفيهم كثرة ومن الرواة زيد العمي وهو لقب له لأنه كلما كان يسأل عن شيء قال حتى أسأل عمي
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه ابن ماجة أيضا في الصلاة عن محمد بن يحيى الذهلي عن عبد الرزاق وعن محمد بن معمر عن قبيصة بن عقبة كلاهما عن سفيان الثوري عن حصين به وقد مر الكلام فيه مستوفي في باب التشهد في الأخيرة وفي باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد قوله ' التحية ' بالرفع على الابتداء وقوله ' في الصلاة ' خبره ويروى التحية بالنصب على أنه مفعول قلنا (فإن قلت) مقول القول لا بد أن يكون جملة (قلت) قد يقع مفردا إذا كان عبارة عن الجملة كما في قولك قلت قصة وقلت خبرا وكذلك ههنا التحية بالنصب عبارة عن قولهم السلام على فلان قوله ' إذا فعلتم ذلك ' أي إذا قلتموها قوله ' صالح ' بالجر صفة عبد ولفظة ' لله '
معترضة بينهما *
((باب التصفيق للنساء))
يجوز في باب الإضافة إلى التصفيق ويجوز فيه التنوين بقطعه عن الإضافة فالتقدير في الأول هذا باب في بيان أن التصفيق للنساء وفي الثاني هذا باب يذكر فيه التصفيق للنساء وقد مر تفسيره عن قريب
226 - (حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
قال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)
278

مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها عين الحديث وجزء منه.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول علي بن عبد الله بن المديني. الثاني سفيان بن عيينة. الثالث محمد بن مسلم الزهري. الرابع أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس أبو هريرة رضي الله تعالى عنه والحديث أخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة وأخرجه النسائي عن قتيبة ومحمد بن المثنى وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار كلهم عن سفيان بن عيينة وفي التوضيح وقد قام الإجماع على أن سنة الرجل إذا نابه شيء في الصلاة التسبيح وإنما اختلفوا في النساء فذهبت طائفة إلى أنها تصفيق وهو ظاهر الحديث وبه قال إسحاق والشافعي وأبو ثور وهو رواية عن مالك حكاها ابن شعبان عنه وهو مذهب النخعي والأوزاعي وذهب آخرون إلى أنها تسبيح وهو قول مالك وتأول أصحابه قوله ' إنما التصفيق للنساء ' أنه من شأنهن في غير الصلاة فهو على وجه الذم فلا تفعله المرأة ولا الرجل في الصلاة ويرده ما ورد في حديث حماد بن زيد عن أبي حازم في باب الأحكام بصيغة الأمر ' فليسبح الرجال وليصفق النساء ' وإنما كره لها التسبيح لأن صوتها فتنة ولهذا منعت من الأذان والإمامة والجهر بالقراءة في الصلاة
227 - (حدثنا يحيى قال أخبرنا وكيع عن سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال قال النبي
التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها جزء من الحديث ويحيى هو ابن جعفر البلخي وقال الكرماني يحيى إما يحيى بن موسى الختي بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق وإما يحيى بن جعفر البلخي قال الكلاباذي إنهما يرويان عن وكيع في الجامع وسفيان هو الثوري وأبو حازم بالزاي سلمة بن دينار وقد مر الكلام في الحديث وفي بعض النسخ يوجد هنا عقيب هذا الباب باب من صفق جاهلا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته قال وفيه سهل بن سعد عن النبي
وليس هذا بموجود في كثير من النسخ ولهذا أنكر بذلك بعض الشراح ومعناه على تقدير وجوده أن التصفيق وظيفة النساء فمن صفق من الرجال جاهلا بذلك فليس عليه إعادة صلاته لأنه
لم يأمر من صفق بالإعادة وذلك لكونه عملا يسيرا وبه لا تفسد الصلاة على ما عرف *
((باب من رجع القهقرى في صلاته أو تقدم بأمر ينزل به))
أي هذا باب في بيان المصلي الذي رجع القهقرى في صلاته وقال ابن الأثير القهقرى هو المشي إلى خلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه قيل أنه من باب القهر وقال الجوهري القهقرى الرجوع إلى خلف فإذا قلت رجعت القهقرى فكأنك قلت رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم لأن القهقرى ضرب من الرجوع (قلت) فعلى هذا انتصابه على المصدرية من غير لفظه قوله ' أو تقدم ' أي تقدم المصلي إلى قدام لأجل أمر ينزل به
(رواه سهل بن سعد عن النبي
)
أي روى كل واحد من رجوع المصلي القهقرى في صلاته وتقدمه لأمر ينزل به سهل بن سعد وروى ذلك البخاري عن سهل في باب الصلاة في المنبر والسطوح في أوائل كتاب الصلاة فقال حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال أخبرنا أبو حازم قالوا سألوا سهل بن سعد من أي شيء المنبر الحديث وفيه ' فقام عليه رسول الله
أي على المنبر إلى أن قال فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه فقرأ وركع وركع الناس خلفه ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض ثم عاد إلى المنبر ثم قرأ ثم ركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض فهذا شأنه ' وقال بعضهم يشير بذلك يعني بقوله رواه سهل بن سعد عن النبي
إلى حديثه الماضي قريبا ففيه ' فرفع أبو بكر يده فحمد الله ثم رجع القهقرى ' وأما قوله ' أو تقدم ' فهو مأخوذ من الحديث أيضا وذلك أن النبي
وقف في الصف الأول خلف أبي بكر على إرادة الائتمام به فامتنع أبو بكر من ذلك فتقدم النبي
ورجع أبو بكر من موقف الإمام
279

إلى موقف المأموم انتهى (قلت) الذي قاله يرده الضمير المنصوب في ' رواه ' يفهم ذلك من له أدنى ذوق من أحوال تركيب الكلام ولذلك أعدنا الضمير فيه إلى ما قدرناه وصاحب التلويح أيضا ذهل في هذا وقال بعد قوله ' رواه سهل ' هذا الحديث تقدم مسندا في باب ما يجوز من التسبيح في الصلاة ثم قال وفي قوله ' رواه سهل ' عن النبي
فيه نظر وذلك أنه إنما شاهد الفعل وهو التقدم من سيدنا رسول الله
والتأخر من أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم قال القائل المذكور ويحتمل أن يكون المراد بحديث سهل ما تقدم في الجمعة من صلاته
على المنبر ونزوله القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد إلى مقامه (قلت) قوله يحتمل غير سديد لأن البخاري ما أراد إلا هذا الحديث وهو المناسب لما ذكره ولا يقال في مثل هذا بالاحتمال
228 - (حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله. قال يونس. قال الزهري أخبرني أنس بن مالك أن المسلمين بينما هم في الفجر يوم الاثنين وأبو بكر رضي الله عنه يصلي بهم ففجأهم النبي
وقد كشف ستر حجرة عائشة رضي الله عنها فنظر إليهم وهم صفوف فتبسم يضحك فنكص أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه وظن أن رسول الله
يريد أن يخرج إلى الصلاة وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا بالنبي
حين رأوه فأشار بيده أن أتموا ثم دخل الحجرة وأرخى الستر وتوفي ذلك اليوم)
مطابقته للترجمة ظاهرة في التقدم يستأنس من قوله ' ففجأهم النبي
' وهذا يدل على أنه
اتصل بالصف فلولا ذلك لما نكص أبو بكر على عقبيه ومطابقته في التأخر في قوله ' فنكص أبو بكر على عقبيه ' والحديث مر في باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة فإنه أخرجه هناك عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن أنس وعن أبي معمر عن عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس وذكرنا هناك جميع ما يتعلق به. وبشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة وبالراء ابن محمد المروزي قد مر في باب بدء الوحي وعبد الله هو ابن المبارك وقد تكرر ذكره ويونس هو ابن يزيد والزهري هو محمد بن مسلم قوله ' قال يونس قال الزهري ' أي قال قال يونس قال الزهري وهي تحذف خطأ في الاصطلاح لا نطقا قوله ' بينما هم ' أي الصحابة في صلاة الفجر والحديث الذي فيه ' مروا أبا بكر ' كانت صلاة العشاء والذي فيه ' خرج يهادي بين اثنين ' كانت صلاة الظهر قوله ' وأبو بكر ' الواو فيه للحال قوله ' ففجأهم ' بفتح الجيم وكسرها أي فاجأهم وقال ابن التين كذا وقع في الأصل بالألف وحقه أن يكتب بالياء لأن عينه مكسورة كوطئهم (قلت) إذا كسرت عينه يقال فجئهم وإذا فتحت يقال فجأهم قوله ' كشف ستر حجرة عائشة ' كذا هو في أصل الحافظ الدمياطي بخطه وكذا في الإسماعيلي وأبي نعيم وقال الشيخ قطب الدين في سماعنا إسقاط لفظ حجرة قوله ' فنكص ' بالصاد وبالسين المهملتين أي رجع بحيث لم يستدبر القبلة وهو الرجوع إلى الوراء قوله ' فرحا ' نصب على التعليل ويجوز أن يكون حالا على تأويل فرحين قوله ' أن أتموا ' أن مصدرية أي أشار بالإتمام *
((باب إذا دعت الأم ولدها في الصلاة))
أي هذا باب يذكر فيه إذا دعت الأم ولدها وهو في الصلاة وجواب إذا محذوف تقديره هل تجب إجابتها أم لا وإذا وجبت هل تبطل الصلاة أو لا وفي المسألتين خلاف فلذلك لم يذكر الجواب
229 - (وقال الليث حدثني جعفر عن عبد الرحمن بن هرمز قال قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله
نادت امرأة ابنها وهو في صومعة قالت يا جريج قال اللهم أمي وصلاتي
280

قالت يا جريج قال اللهم أمي وصلاتي قالت يا جريج قال اللهم أمي وصلاتي قالت اللهم لا يموت جريج حتى ينظر في وجه المياميس وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم فولدت فقيل لها ممن هذا الولد قالت من جريج نزل من صومعته قال جريج أين هذه التي تزعم أن ولدها لي قال يا بابوس من أبوك قال راعي الغنم)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم أربعة الأول الليث بن سعد. الثاني جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة القرشي. الثالث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج. الرابع أبو هريرة
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الإفراد في موضع واحد وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن الليث وشيخه مصريان وعبد الرحمن مدني وهذا تعليق من البخاري لأنه لم يدرك الليث ووصله الإسماعيلي أخبرنا أبو بكر المروزي حدثنا عاصم بن علي حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة الحديث مطولا وفيه ' لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة فعرف أن ذلك يصيبه فلما مروا به على بيت الزواني خرجن يضحكن فتبسم فقالوا لم يضحك حتى مر بالزواني ' ووصله أبو نعيم أيضا حدثنا أبو بكر بن خلاد حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر وأسنده البخاري أيضا في باب (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي
قال ' لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي فجاءته أمه فدعته فقال أجيبها أو أصلي فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريج في صومعته فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعيا فأمكنته من نفسها فولدت غلاما فقيل لها ممن فقالت من جريج فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه وسبوه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال من أبوك قال الراعي قالوا نبني صومعتك من ذهب قال لا إلا من طين ' الحديث.
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في باب بر الوالدين ودعاء الوالدة على الولد حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي
أنه قال ' كان جريج يتعبد في صومعته فجاءت أمه فقالت يا جريج أنا أمك كلمني فصادفته يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي فاختار صلاته فرجعت ثم عادت في الثانية فقالت
يا جريج أنا أمك فكلمني فقال اللهم أمي وصلاتي فاختار صلاته فقالت اللهم إن هذا جريج وهو ابني وإني كلمته فأبى أن يكلمني اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات قال ولو دعت عليه أن يفتن لفتن وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره قال فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي فحملت فولدت غلاما فقيل لها ما هذا قالت من صاحب هذا الدير قال فجاؤوا بفؤسهم ومساحيهم فنادوه فصادفوه وهو يصلي فلم يكلمهم قال فأخذوا يهدمون ديره فلما رأى ذلك نزل إليهم فقالوا له سل هذه فتبسم ثم مسح رأس الصبي فقال من أبوك قال أبي راعي الضأن فلما سمعوا ذلك منه قالوا له نبني ما هدمناه من ديرك بالذهب والفضة قال لا ولكن أعيدوه ترابا كما كان ' وأخرجه أيضا من طريق جرير بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي
قال لم يتكلم في المهد ' الحديث وفيه ' وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها فقالت إن شئتم لأفتننه لكم فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم قالوا زنيت بهذه البغي فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا به فقال دعوني حتى أصلي فصلى فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب قال لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا ' الحديث وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم كما ذكرنا وذكر الفقيه أبو الليث السمرقندي في كتابه تنبيه الغافلين كان جريج راهبا في بني إسرائيل يعبد الله في صومعته فجاءته أمه يوما وهو قائم في الصلاة فنادته يا جريج فلم يجبها لاشتغاله بصلاته فقالت ابتلاك الله بالمومسات يعني الزواني وكانت امرأة في تلك البلدة خرجت لحاجتها
281

فأخذها راعي الغنم فواقعها عند صومعة جريج فحملت منه وكان أهل تلك البلدة يعظمون أمر الزنا فظهر أمر تلك المرأة في البلد فلما وضعت حملها أخبر الملك أن امرأة قد ولدت من الزنا فدعاها فقال من أين لك هذا الولد قالت من جريج الراهب قد واقعني فبعث الملك أعوانه إليه وهو في الصلاة فنادوه فلم يجبهم حتى جاءوا إليه بالمرور وهدموا صومعته وجعلوا في عنقه حبلا وجاؤا به إلى الملك فقال له الملك إنك قد جعلت نفسك عابدا ثم تهتك حريم الناس وتتعاطى ما لا يحل لك قال أي شيء فعلت قال إنك قد زنيت بامرأة كذا فقال لم أفعل فلم يصدقوه وحلف على ذلك ولم يصدقوه فقال ردوني إلى أمي فردوه إلى أمه فقال لها يا أماه إنك قد دعوت الله علي أفاستجاب الله دعاءك فادعي الله أن يكشف عني بدعائك فقالت أمه اللهم إن كان جريج إنما أخذته بدعوتي فاكشف عنه فرجع جريج إلى الملك فقال أين هذه المرأة وأين الصبي فجاؤوا بالمرأة والصبي فسألوها فقالت بلى هذا الذي فعل بي فوضع جريج يده على رأس الصبي وقال بحق الذي خلق أن تخبرني من أبوك فتكلم الصبي بإذن الله تعالى وقال إن أبي فلان الراعي فلما سمعت المرأة بذلك اعترفت وقالت كنت كاذبة وإنما فعل بي فلان الراعي وفي رواية أن المرأة كانت حاملا لم تضع بعد فقال لها أين أصبتك قالت تحت شجرة وكانت الشجرة بجنب صومعته قال جريج أخرجوا إلى تلك الشجرة ثم قال يا شجرة أسألك بالذي خلقك أن تخبريني من زنا بهذه المرأة فقال كل غصن منها راعي الغنم ثم طعن بأصبعه في بطنها وقال يا غلام من أبوك فنادى من بطنها أبي راعي الضأن فاعتذر الملك إلى جريج الراهب وقال إيذن لي ابني صومعتك بالذهب قال لا قال بالفضة قال لا ولكنه بالطين كما كانت فبنوه بالطين وفي كتاب البر والصلة لعبد الله بن المبارك من حديث الحسن أن اسمه كان جريا وأنهم لما أحاطوا به قال بالله أما أنظرتموني ليالي ادعوا الله عز وجل فأنظروه ليالي الله أعلم كم هي فأتاه آت في منامه فقال له إذا اجتمع الناس فاطعن في بطن المرأة وقل أيتها السخلة من أنت ومن أبوك فإنه سيقول راعي الغنم فلما أصبح طعن في بطن المرأة وقال أيتها السخلة من أبوك قالت راعي الغنم قال الحسن ذكر لي أن مولودا لم يتكلم في بطن أمه إلا هذا وعيسى عليه الصلاة والسلام
(ذكر معناه) قوله ' وهو في صومته ' الواو فيه للحال والصومعة على وزن فوعلة من صمعت إذا دققت لأنها دقيقة الرأس قوله ' جريج ' بضم الجيم وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم أيضا قوله ' اللهم أمي وصلاتي ' أي اجتمع إجابة أمي وإتمام صلاتي فوفقني لأفضلهما قوله ' لا يموت جريج ' نفي في معنى الدعاء قوله ' حتى ينظر ' بضم الياء على صيغة المجهول قوله ' المياميس ' جمع مومسة وهي الفاجرة المتجاهرة به وفي التلويح المياميس الزواني والفاجرات الواحدة مومسة والجمع مومسات ومياميس وقال ابن الجوزي إثبات الياء فيه غلط والصواب حذفها (قلت) ليس بغلط لأن العرب يشبعون الكسرة فتصير في صورة الياء وقال ابن قرقول وبالياء روينا وكذا ذكره أصحاب العربية ورواه السماك المياميس بضم الميم وقال القزاز قد يقال للخدم مومسات قوله ' يابابوس ' كلمة يا حرف نداء وبابوس بفتح الباء الموحدة وبعد الألف باء أخرى مضمومة وبعد الواو الساكنة سين مهملة قال القزاز هو الصغير ووزنه فاعول فاؤه وعينه من جنس واحد وهو قليل وقيل هو اسم أعجمي وقيل هو عربي وقال الداودي هو اسم ذلك الولد بعينه وقال ابن بطال هو الرضيع وقال الكرماني لو صحت الرواية بكسر السين وتنوينها يكون كنية له ومعناه يا أبا شدة
(ذكر ما يستفاد منه) فيه دلالة على أن الكلام لم يكن ممنوعا في الصلاة في شريعتهم فلما لم يجب أمه والحال أن الكلام مباح له أستجيبت دعوة أمه فيه وقد كان الكلام مباحا أيضا في شريعتنا أولا حتى نزلت * (وقوموا لله قانتين) * فأما الآن فلا يجوز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته لقوله
' لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ' وحق الله عز وجل الذي شرع فيه آكد من حق الأبوين حتى يفرع منه لكن العلماء يستحبون أن يخفف صلاته ويجيب أبويه وقال صاحب التوضيح وصرح أصحابنا فقالوا من خصائص النبي
أنه لو دعا إنسانا وهو في الصلاة وجب عليه الإجابة ولا تبطل صلاته وحكى الروياني في البحر ثلاثة أوجه في إجابة أحد الوالدين. أحدها لا تجب الإجابة. ثانيها تجب وتبطل.
282

ثالثها تجب ولا تبطل والظاهر عدم الوجوب إن كانت الصلاة فرضا وقد ضاق الوقت وقال عبد الملك بن حبيب كانت صلاته نافلة وإجابة أمه أفضل من النافلة وكان الصواب إجابتها لأن الاستمرار في صلاة النقل تطوع وإجابة أمه وبرها واجب وكان يمكنه أن يخففها ويجيبها قيل لعله خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى
الدنيا وتعلقاتها وفي الوجوب في حق الأم حديث مرسل رواه ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر عن النبي
قال ' إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها وإن دعاك أبوك فلا تجبه ' وقال مكحول رواه الأوزاعي عنه وقال العوام سألت مجاهدا عن الرجل تدعوه أمه أو أبوه في الصلاة قال يجيبهما وعن مالك إذا منعته أمه عن شهود العشاء في جماعة لم يطعها وإن منعته عن الجهاد أطاعها والفرق ظاهر لأن الأمن غالب في الأول دون الثاني وفي كتاب البر والصلة عن الحسن في الرجل تقول له أمه أفطر قال يفطر وليس عليه قضاء وله أجر الصوم وإذا قالت أمه له لا تخرج إلى الصلاة فليس لها في هذا طاعة لأن هذا فرض وقالوا إن مرسل ابن المنكدر الفقهاء على خلافه ولم يعلم به قائل غير مكحول ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها يعني بالتسبيح وبما أبيح للمصلي الإجابة به وقال ابن حبيب من أتاه أبوه ليكلمه وهو في نافلة فليخفف ويسلم ويتكلم
وفي الاحتجاج لمن يقول أن الزنا يحرم كما يحرم وطء الحلال قال القرطبي وهو رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة وفي الموطأ عكسه لا يحرم الزنا حلالا قال ويستدل به أيضا على أن المخلوق من ماء الزاني لا تحل للزاني أم أمها وهو المشهور وقال ابن الماجشون أنها تحل ووجه التمسك على المسألتين أن النبي
حكى عن جريج أنه نسب الزنا للزاني وصدق الله نسبته بما خلق له من العادة فكانت تلك النسبة صحيحة فيلزم على هذا أن تجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة من التوارث والولايات وغير ذلك وقد اتفق المسلمون على أن لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة والمراد من ذلك تبيين هذا الصغير من ماء من كان وسماه أباه مجازا أو يكون في شرعهم أنه يلحقه وفيه دلالة على صحة وقوع الكرامات من الأولياء وهو قول جمهور أهل السنة والعلماء خلافا للمعتزلة وقد نسب لبعض العلماء إنكارها والذي نظنه بهم أنهم ما أنكروا أصلها لتجويز العقل لها ولما وقع في الكتاب والسنة وأخبار صالحي هذه الأمة ما يدل على وقوعها وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها ممن ليس موصوفا بشروطها ولا هو أهل لها. وفيه أن كرامة الولي قد تقع باختياره وطلبه وهو الصحيح عند جماعة المتكلمين كما في حديث جريج. ومنهم من قال لا تقع باختياره وطلبه. وفيه أن الكرامة قد تقع بخوارق العادات على جميع أنواعها ومنعه بعضهم وأدعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه قال بعض العلماء هذا غلط من قائله وإنكار للحس. فيه دلالة على أن من أخذ بالشدة في أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك لأن جريجا دعا الله في التزام الخشوع له في صلاته وفضله على الاستجابة لأمه فعاقبه الله تعالى على ترك الاستجابة لها بما ابتلاه الله به من دعوة أمه عليه ثم أراه فضل ما آثره من مناجاة ربه والتزام الخشوع له أن جعل له آية معجزة في كلام الطفل فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه. وفيه أن من ابتلى بشيئين يسأل الله تعالى أن يلقي في قلبه الأفضل ويحمله على أولي الأمرين فإن جريجا لما ابتلي بشيئين وهو قوله ' اللهم أمي وصلاتي ' فاختار التزام مراعاة حق الله تعالى على حق أمه وقال ابن بطال قد يمكن أن يكون جريج نبيا لأنه كان في زمن تمكن النبوة فيه وروى الليث بن سعد عن يزيد بن حوسب عن أبيه قال سمعت رسول الله
يقول ' لو كان جريج الراهب فقيها عالما لعلم أن إجابة أمه خير من عبادة ربه ' قال صاحب التوضيح وحوشب هذا هو ابن طخمة بالميم الحميري (قلت) قال الذهبي في تجريد الصحابة حوشب بن طخنة وقيل طخمة يعني بالميم الحميري الألهاني يعرف بذي ظليم أسلم على عهد النبي
وعداده في أهل اليمن وكان مطاعا في قومه كتب إليه النبي
في قتل الأسود العنسي وفي تاريخ دمشق كان على رجالة حمص يوم صفين ثم قال حوشب له صحبة وله حديث ففي مسند الشاميين في مسند أحمد ولعله الأول ثم قال حوشب بن يزيد الفهري مجهول روى عنه ابنه يزيد في ذكر جريج الراهب وفيه عظم بر الوالدين وأن دعاءهما مستجاب وعن هذا قال العلماء إن إكرامهما واجب ولو كانا كافرين حتى روى عن ابن عباس أن له أن يزور قبر والديه ولو كانا كافرين وتجب نفقتهما على الولد
283

مع اختلاف الدين عند أصحابنا وقال أبو عبد الملك وهذا من عجائب بني إسرائيل يعني أمر جريج وهذا من أخبار الآحاد وفي صحيح مسلم ' لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج والصبي الذي قالت أمه ورأت رجلا له شارة اللهم اجعل ابني مثله فنزع الثدي من فمه وقال اللهم لا تجعلني مثله ' (فإن قلت) ظاهر هذا يقتضي الحصر ومع هذا روي عن ابن عباس شاهد يوسف كان في المهد قاله القرطبي وعن الضحاك تكلم في المهد أيضا يحيى بن زكريا عليهما السلام وفي حديث صهيب أنه لما خدد الأخدود تقاعست امرأة عن الأخدود فقال لها صبيها وهو يرتضع منها يا أمه اصبري فإنك على الحق (قلت) الجواب عن ذلك بوجهين أحدهما أن الثلاثة المذكورين في الصحيح ليس فيها خلاف والباقون مختلف فيهم وقال ابن عباس وعكرمة كان صاحب يوسف ذا لحية وقال مجاهد الشاهد هو القميص والجواب الآخر أن النبي
قال ذلك أولا ثم أطلعه الله على غيرهم وقد يقال التنصيص على الشيء باسمه العلم لا يقتضي الخصوص سواء كان المنصوص عليه باسمه العدد مقرونا أو لم يكن (قلت) الخلاف فيه مشهور *
((باب مسح الحصا في الصلاة))
أي هذا باب في بيان حكم مسح الحصاة في الصلاة وفي بعض النسخ مسح الحصى ولم يبين في الترجمة حكمه هل هو مباح أو مكروه أو غير جائز للاختلاف الواقع فيه
230 - (حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة قال حدثني معيقيب أن النبي
قال في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال إن كنت فاعلا فواحدة)
قيل لا مطابقة بين الحديث والترجمة لأن المذكور في الحديث التراب وفي الترجمة الحصى (قلت) قال الكرماني الغالب في التراب الحصى فيلزم من تسوية التراب مسح الحصى (قلت) فيه نظر لأن الحصى ربما تكون غريقة في التراب عند كونها فيه فلا يقع عليها المسح وقيل ترجم بالحصى وفي الحديث التراب لينبه على إلحاق
الحصى بالتراب في الاقتصار على التسوية مرة وقيل أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الحصى كما أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ' عن معيقيب قال ذكر النبي
المسح في المسجد يعني الحصى قال إن كنت لا بد فاعلا فواحدة ' وفي لفظ له في الرجل يسوي التراب حيث يسجد قال ' إن كنت فاعلا فواحدة ' وقيل لما كان في الحديث يعني ولا يدري أهي قول الصحابي أو غيره عدل البخاري إلى ذكر الرواية التي فيها التراب (قلت) الأوجه أن يقال جاء في الحديث لفظ الحصى ولفظ التراب فأشار بالترجمة إلى الحصى وبالحديث إلى التراب ليشمل الاثنين
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول أبو نعيم بضم النون الفضل بن دكين. الثاني شيبان بفتح الشين المعجمة ابن عبد الرحمن. الثالث يحيى بن أبي كثير. الرابع أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. الخامس معيقب بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وكسر القاف بعدها باء موحدة ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد شمس أسلم قديما كان على خاتم رسول الله
واستعمله الشيخان على بيت المال وأصابه الجذام فجمع له عمر رضي الله تعالى عنه الأطباء فعالجوه فوقف المرض وهو الذي سقط من يده خاتم النبي
أيام عثمان رضي الله تعالى عنه في بئر أريس فلم يوجد فمذ سقط الخاتم اختلفت الكلمة وتوفي في آخر خلافة عثمان وقيل توفي في سنة أربعين في خلافة علي رضي الله تعالى عنه
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه أن شيخه كوفي وشيبان بصري سكن الكوفة ويحيى يمامي وأبو سلمة مدني وفيه أن معيقيبا ليس له في البخاري إلا هذا الحديث فقط وقال ابن التين وليس في الصحابة أحد أجذم غيره
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم
284

في الصلاة عن أبي موسى عن يحيى القطان وعن أبي بكر أبي وكيع وعن عبيد الله بن عمر القواريري وعن أبي بكر عن الحسن بن موسى عن شيبان به وأخرجه أبو داود فيه عن مسلم بن إبراهيم عن هشام وأخرجه الترمذي فيه عن الحسن بن الحريث وأخرجه النسائي فيه عن سويد بن نصر وأخرجه ابن ماجة فيه عن دحيم ومحمد بن الصباح
(ذكر معناه) قوله ' عن أبي سلمة ' وفي رواية الترمذي من طريق الأوزاعي عن يحيى حدثني أبو سلمة قوله ' في الرجل ' أي في شأن الرجل وذكر الرجل لأنه الغالب وإلا فالحكم جار في الذكر والأنثى من المكلفين قوله ' يسوي التراب ' جملة حالية من الرجل قوله ' حيث يسجد ' يعني في المكان الذي يسجد فيه قوله ' قال ' أي الرسول
قوله ' إن كنت فاعلا ' أي مسويا للتراب ولفظ الفعل أعم الأفعال ولهذا استعمل لفظ فاعلون في موضع مؤدون في قوله تعالى * (والذين هم للزكاة فاعلون) * قوله ' فواحدة ' بالنصب على إضمار الناصب تقديره فامسح واحدة ويجوز أن تكون منصوبة على أنها صفة لمصدر محذوف والتقدير إن كنت فاعلا فافعل فعلة واحدة يعني مرة واحدة وكذا في رواية الترمذي ' إن كنت فاعلا فمرة واحدة ' ويجوز رفعها على الابتداء وخبره محذوف أي ففعلة واحدة تكفي ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف أي المشروع فعلة واحدة
(ذكر ما يستفاد منه) فيه الرخصة بمسح الحصى في الصلاة مرة واحدة وممن رخص به فيها أبو ذر وأبو هريرة وحذيفة وكان ابن مسعود وابن عمر يفعلانه في الصلاة وبه قال من التابعين إبراهيم النخعي وأبو صالح وحكى الخطابي في المعالم كراهته عن كثير من العلماء وممن كرهه من الصحابة عمر بن الخطاب وجابر ومن التابعين الحسن البصري وجمهور العلماء بعدهم وحكى النووي في شرح مسلم اتفاق العلماء على كراهته لأنه ينافي التواضع ولأنه يشغل المصلي (قلت) في حكايته الاتفاق نظر فإن مالكا لم ير به بأسا وكان يفعله في الصلاة وفي التلويح روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع سجودهم مرة واحدة وكرهوا ما زاد عليها وذهب أهل الظاهر إلى تحريم ما زاد على المرة الواحدة وقال ابن حزم فرض عليه أن لا يمسح الحصى وما يسجد عليه إلا مرة واحدة وتركها أفضل لكن يسوي موضع سجوده قبل دخوله في الصلاة وأخرجه الترمذي عن أبي ذر عن النبي
قال ' إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى فإن الرحمة تواجهه ' ورواه أيضا بقية الأربعة وقال الترمذي حديث أبي ذر حديث حسن وتعليل النهي عن مسح الحصى بكون الرحمة تواجهه يدل على أن النهي حكمته أن لا يشتغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له فيفوته حظه وفي معنى مسح الحصى مسح الجبهة من التراب والطين والحصى في الصلاة ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي الدرداء قال ' ما أحب أن لي حمر النعم وأني مسحت مكان جبيني من الحصى إلا أن يغلبني فامسح مسحة ' وفي حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه ' أن النبي
انصرف عن الصلاة وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين ' قال القاضي عياض وكره السلف مسح الجبهة في الصلاة وقبل الانصراف يعني من المسجد مما يتعلق بها من تراب ونحوه وحكى ابن عبد البر عن سعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري أنهم كانوا يكرهون أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف ويقولون هو من الجفاء وقال ابن مسعود أربع من الجفاء أن تصلي إلى غير سترة أو تمسح جبهتك قبل أن تنصرف أو تبول قائما أو تسمع المنادي ثم لا تجيبه *
((باب بسط الثوب في الصلاة للسجود))
أي هذا باب في بيان بسط المصلي ثوبه في الصلاة ليسجد عليه ولم يبين حكمه طلبا للعموم بأن يفعل ذلك وهو في الصلاة أو يفعله قبل أن يدخل فيها
231 - (حدثنا مسدد قال حدثنا بشر قال حدثنا غالب عن بكر بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا نصلي مع النبي
في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن
285

يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه)
مطابقته للترجمة ظاهرة والحديث قد مر بشرحه في باب السجود على الثوب في شدة الحر في أوائل كتاب الصلاة فإنه أخرجه هناك عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك عن بشر بن المفضل عن غالب القطان إلى آخره وبشر بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة *
((باب ما يجوز من العمل في الصلاة))
أي هذا باب في بيان ما يجوز فعله في الصلاة
232 - (حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت أمد رجلي في قبلة النبي
وهو يصلي فإذا سجد غمزني فرفعتها فإذا قام مددتها)
مطابقته للترجمة من حيث أنه يدل على أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها وقد مر الحديث في باب الصلاة على الفراش في أوائل كتاب الصلاة فإنه أخرجه هناك عن إسماعيل عن مالك عن أبي النضر إلى آخره وأبو النضر بفتح النون وسكون الضاد المعجمة اسمه سالم
233 - (حدثنا محمود قال حدثنا شبابة قال حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
أنه صلى صلاة قال إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول سليمان عليه السلام رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئا ثم قال النضر بن شميل فذعته بالذال أي خنقته وفدعته من قول الله تعالى * (يوم يدعون) * أي يدفعون والصواب فدعته إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء)
مطابقته للترجمة في قوله ' فدعته ' لأن معناه دفعته في قول على ما نذكره عن قريب وكان ذلك عملا يسيرا وقد مر الحديث في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد فإنه أخرجه هناك عن إسحاق بن إبراهيم عن روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد إلى آخره وشبابة بفتح الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف باء أخرى مفتوحة وفي آخره هاء ابن سوار الفزاري مر في آخر كتاب الحيض ولفظه هناك ' أن عفريتا من الجن تفلت علي '
(ذكر معناه) قوله ' فشد علي ' أي حمل يقال شد في الحرب يشد بالكسر وضبطه بعضهم بالمعجمة أعني الدال وأظن أنه غلط قوله ' يقطع الصلاة ' جملة وقعت حالا وهذه رواية الحموي والمستملي وفي رواية غيرهما ' ليقطع ' بلام التعليل قوله ' فذعته ' الفاء للعطف وذعته فعل ماض للمتكلم وحده بالذال المعجمة من ألذعت بالذال المعجمة والعين المهملة والتاء المثناة من فوق وهو الخنق ويروى ' فدعته ' من الدع بالدال والعين المهملتين وهو الدفع ومنه قوله تعالى * (يوم يدعون إلى نار جهنم) * أي يدفعون وعلى هذا أصل دعت دععت وأدغم العين في التاء ويقال معنى ذعته بالمعجمة مرغته في التراب قوله ' ولقد هممت ' أي قصدت قوله ' أن أوثقه ' كلمة أن مصدرية أي قصدت أن أربطه قوله ' إلى سارية ' أي أسطوانة قوله ' فتنظروا ' وفي رواية الحموي والمستملي ' أو تنظروا إليه ' بكلمة الشك قوله ' خاسئا ' نصب على الحال أي مطرودا متحيرا وههنا أسئلة. الأول في أي صورة عرض له الشيطان (قلت) روى عبد الرزاق أنه كان في صورة هر وهذا معنى قوله ' فأمكنني الله منه ' أي صوره لي في صورة هر مشخصا يمكنه أخذه.
286

الثاني قيل مجرد هذا القدر يعني ربطه إلى سارية لا يوجب عدم اختصاص الملك لسليمان عليه الصلاة والسلام إذ المراد بملك لا ينبغي لأحد من بعده مجموع ما كان له من تسخير الرياح والطير والوحش ونحوه وأجيب بأنه أراد الاحتراز عن الشريك في جنس ذلك الملك. الثالث ثبت أن الشيطان يفر من ظل عمر رضي الله تعالى عنه وأنه يسلك فجا غير فجه ففراره عنه
بالطريق الأولى وأجيب بأن المراد من فراره من ظل عمر ليس حقيقة الفرار بل بيان قوة عمر وصلابته على قهر الشيطان وهنا صريح أنه
قهره وطرده غاية الإمكان وفي بعض النسخ عقيب الحديث عن النظر من شميل ' فذعته ' بالذال أي خنقته وفدعته من قول الله عز وجل * (يوم يدعون) * أي يدفعون والصواب ' فدعته ' أي بالمهملة إلا أنه كذا قال بتشديد العين والتاء
(ومما يستفاد منه) أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة وأخذوا من ذلك جواز أخذ البرغوث والقملة ودفع المار بين يديه والإشارة والالتفات الخفيف والمشي الخفيف وقتل الحية والعقرب ونحو ذلك وهذا كله إذا لم يقصد المصلي بذلك العبث في صلاته ولا التهاون بها وممن أجاز أخذ القملة وقتلها في الصلاة الكوفيون والأوزاعي وقال أبو يوسف قد أساء وصلاته تامة وكره الليث قتلها في المسجد ولو قتلها لم يكن عليه شيء وقال مالك لا يقتلها في المسجد ولا يطرحها فيه ولا يدفنها في الصلاة وقال الطحاوي لو حك بدنه لم يكره كذلك أخذ القملة وطرحها ورخص في قتل العقرب في الصلاة ابن عمر والحسن والأوزاعي واختلف قول مالك فيه فمرة كرهه ومرة أجازه وقال لا بأس بقتلها إذا آذته وكذا الحية والطير يرميه بحجر يتناوله من الأرض فإن لم يطل ذلك لم تبطل صلاته وأجاز قتل الحية والعقرب في الصلاة الكوفيون والشافعي وأحمد وإسحاق وكره قتل العقرب في الصلاة إبراهيم النخعي وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه في الصلاة ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض قال أرجو أن يكون خفيفا ولا يبعد ذلك وروى علي بن زياد عن مالك في المصلي يخاف على صبي يقرب من نار فذهب إليه فقال إن انحرف عن القبلة ابتدأ وإن لم ينحرف بنى وسئل أحمد عن رجل أمامه سترة فسقطت فأخذها وركزها قال أرجو أن لا يكون به بأس فذكر له عن ابن المبارك أنه أمر رجلا صنع ذلك بالإعادة قال لا آمره بالإعادة وأرجو أن يكون خفيفا وأجاز مالك والشافعي حمل الصبي في الصلاة المكتوبة وهو قول أبي ثور (قلت) عندنا يكره حمل الصبي في الصلاة وإن كان بعذر لا يكره *
((باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة))
أي هذا باب يذكر فيه إذا انفلتت الدابة في حال الصلاة الانفلات والإفلات والتفلت التخلص من الشيء فجأة من غير تمكث وجواب إذا محذوف تقديره إذا انفلتت الدابة وهو في الصلاة ماذا يصنع
(وقال قتادة إن أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة)
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث أن دابة المصلي إذا انفلتت له أن يتبعها على ما يجيء فكذلك إذا أخذ السارق ثوبه وهو في الصلاة له أن يتبعه ويقطع صلاته فمن هذه الحيثية تأخذ المطابقة والأثر معلق ووصله عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بمعناه وزاد ' فيرى صبيا على بئر فيتخوف أن يسقط فيها قال ينصرف له ' قوله ' ويدع ' أي يترك الصلاة
233 - (حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا الأزرق بن قيس قال كنا بالأهواز نقاتل الحرورية فبينا أنا على جرف نهر إذا رجل يصلي وإذا لجام دابته بيده فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها. قال شعبة هو أبو برزة الأسلمي فجعل رجل من الخوارج يقول اللهم افعل بهذا الشيخ فلما انصرف الشيخ قال إني سمعت قولكم وإني غزوت مع رسول الله
ست غزوات
287

أو سبع غزوات أو ثمان وشهدت تيسيره وإني أن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلي من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي)
مطابقته للترجمة في قوله ' فجعلت الدابة تتنازعه وجعل يتبعها '
(ذكر رجاله) فيه خمس أنفس آدم بن أبي إياس وشعبة بن الحجاج والأزرق بفتح الهمزة وسكون الزاي ابن قيس الحارثي البصري وهو من أفراد البخاري ورجلان أحدهما هو أبو برزة الأسلمي فسره شعبة بقوله هو أبو برزة الأسلمي واسمه نضلة بن عبيد أسلم قديما ونزل البصرة وروي أنه مات بها ورد أنه مات بنيسابور وروي أنه مات في مفازة بين سجستان وهراة وقال خليفة بن خياط وافي خراسان ومات بها بعد سنة أربع وستين وقال غيره مات في آخر خلافة معاوية أو في أيام يزيد بن معاوية والآخر مجهول وهو قوله ' فجعل رجل من الخوارج ' وإسناد هذا كله بالتحديث بصيغة الجمع وتفرد به البخاري عن الجماعة
(ذكر معناه) قوله ' بالأهواز ' بفتح الهمزة وسكون الهاء وبالزاي قاله الكرماني هي أرض خوزستان وقال صاحب العين الأهواز سبع كور بين البصرة وفارس لكل كورة منها اسم ويجمعها الأهواز ولا تنفرد واحدة منها بهوز في وفي المحكم ليس للأهواز واحد من لفظه وقال ابن خردابة هي بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان وقال البكري بلد يجمع سبع كور كورة الأهواز وجندي وسابور والسوس وسرق ونهر بين ونهر تيرى وقال ابن السمعاني يقال لها الآن سوق الأهواز وقال بعضهم الأهواز بلدة معروفة بين البصرة وفارس فتحت أيام عمر رضي الله تعالى عنه (قلت) قوله بلدة ليس كذلك بل هي بلاد كما ذكرنا قوله ' الحرورية ' بفتح الحاء المهملة وضم الراء الأولى المخففة نسبة إلى حروراء اسم قرية يمد ويقصر وقال الرشاطي حروراء قرية من قرى الكوفة والحرورية صنف من الخوارج ينسبون إلى حروراء اجتمعوا بها فقال لهم علي ما نسميكم قال أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء والنسب إلى مثل حروراء أن يقال حروراوي وكذلك ما كان في آخره ألف التأنيث الممدودة ولكنه حذفت الزوائد تخفيفا فقيل الحروري وكان الذي يقاتل الحرورية إذ ذاك المهلب بن أبي صفرة كما في رواية عمرو بن مرزوق عن شعبة عن الإسماعيلي وذكر محمد بن قدامة الجوهري في كتابه أخبار الخوارج أن ذلك كان في خمس وستين من الهجرة وكان الخوارج قد حاصروا أهل البصرة مع نافع بن الأزرق حتى قتل وقتل من أمراء البصرة جماعة إلى أن ولي عبد الله بن الزبير بن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على البصرة وولي المهلب بن أبي صفرة على قتال الخوارج وفي الكامل لأبي العباس المبرد أن الخوارج تجمعت بالأهواز مع نافع بن الأزرق سنة أربع وستين فلما قتل نافع وابن عبيس رئيس المسلمين من جهة ابن الزبير ثم خرج إليهم حارثة بن بدر ثم أرسل إليهم ابن الزبير عثمان بن عبيد الله ثم توفي القياع فبعث إليهم المهلب بن أبي صفرة وكل من هؤلاء الأمراء يمكثون معهم في القتال حينا فلعل ذلك انتهى إلى سنة خمس وهو يعكر على من قال أن أبا برزة توفي سنة ستين وأكثر ما قيل سنة أربع قوله ' فبينا ' أصله بين أشعث فتحة النون فصارت ألفا يقال بينا وبينما وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة ويضافان إلى جملة من مبتدأ وخبر وفعل وفاعل ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى والجواب هنا هو قوله ' إذا رجل يصلي والأفصح في جوابهما ألا يكون فيه إذا وإذا تقول بينا زيد جالس دخل عليه عمرو وإذ دخل عليه عمرو وإذا دخل عليه عمرو ' قوله ' إنا ' مبتدأ وخبره قوله ' على جرف نهر جرف ' بضم الجيم والراء وبسكونها أيضا وفي آخره فاء وهو المكان الذي أكله السيل وفي رواية الكشميهني ' على حرف نهر ' بفتح الحاء المهملة وسكون الراء أي على جانبه ووقع في رواية حماد بن زيد عن الأزرق في الأدب ' كنا على شاطيء نهر قد نضب عنه الماء ' أي زال وفي رواية مهدي ابن ميمون عن الأزرق عن محمد بن قدامة ' كنت في ظل قصر مهران بالأهواز على شط دجيل ' وبين هذا تفسير النهر في رواية البخاري والدجيل بضم الدال وفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف في آخره لام وهو نهر ينشق من دجلة نهر بغداد قوله ' إذا رجل ' كلمة إذا في الموضعين للمفاجأة وفي رواية الحموي والكشميهني ' إذا جاء رجل ' قوله ' قال شعبة ' هو أبو برزة الأسلمي أي الرجل المصلي والذي يقتضيه المقام أن الأزرق بن قيس الذي يروي عنه
288

شعبة لم يسم الرجل شعبة ولكن رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة فقال في آخره ' فإذا هو أبو برزة الأسلمي ' وفي رواية عمرو بن مرزوق عند الإسماعيلي ' فجاء أبو برزة ' وفي رواية حماد في الأدب ' فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلاها فانطلقت فاتبعها ' ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأزرق بن قيس ' أن أبا برزة الأسلمي مشى إلى دابته وهو في الصلاة ' الحديث وبين مهدي بن ميمون في روايته أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر وفي رواية عمرو بن مرزوق ' فمضت
الدابة في قبلته فانطلق أبو برزة حتى أخذها ثم رجع القهقري ' قوله ' افعل بهذا الشيخ ' دعاء عليه وفي رواية الطيالسي ' فإذا شيخ يصلي قد عمد إلى عنان دابته فجعله في يده فنكصت الدابة فنكص معها ومعنا رجل من الخوارج فجعل يسبه ' وفي رواية مهدي قال ' ألا ترى إلى هذا الحمار ' وفي رواية حماد ' انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس ' قوله ' أو ثماني ' بغير ألف ولا تنوين وفي رواية الكشميهني ' أو ثماني ' وقال بن مالك الأصل ثماني غزوات فحذف المضاف وأبقى المضاف إليه على حاله وقد رواه عمرو بن مرزوق بلفظ ' سبع غزوت ' بغير شك قوله ' وشهدت تيسيره ' أي تسهيله على الناس وغالب النسخ على هذا قال الكرماني وفي بعض الروايات كل سيره أي سفره وفي بعضها ' شهدب سيره ' بكسر السين وفتح الياء آخر الحروف جمع السيرة وحكى ابن التين عن الداودي أنه وقع عنده ' وشهدت تستر ' بضم التاء المثناة من فوق وسكون السين اسم مدينة بحوزستان من بلاد العجم ومعناه وشهدت فتحها وكانت فتحت في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة سبع عشرة من الهجرة قوله ' وإني إن كنت أن أرجع ' نقل بعضهم عن السهيلي أنه قال ' إني ' وما بعدها اسم مبتدأ ' وأن أرجع ' اسم مبدل في الاسم الأول ' وأحب ' خبر عن الثاني وخبر كان محذوف أي إني إن كنت راجعا أحب إلي (قلت) ما أظن أن السهيلي أعرب بهذا الإعراب فكيف يقول إني وما بعدها اسم وهي جملة (فإن قيل) أراد أنه جملة اسمية مؤكدة بأن يقال له المبتدأ اسم مفرد والجملة لا تقع مبتدأ وكذلك قوله ' وأن أرجع ' ليس باسم فكيف يقول اسم مبدل وهذا تصرف من لم يمس شيئا من علم النحو والذي يقال أن الياء في إني اسم إن في إن كنت شرطية واسم كان هو الضمير المرفوع فيه وكلمة أن بالفتح مصدرية تقدر لام العلة فيما قبلها والتقدير وإن كنت لأن أرجع وقوله ' أحب ' خبر كان وهذه الجملة الشرطية سدت مسد خبر أن في ' إني ' وذلك لأن رجوعه إلى دابته وانطلاقه إليها وهو في الصلاة أحب إليه من أن يدعها أي يتركها ترجع إلى مألفها بفتح اللام أي معلفها فيشق عليه وكان منزله بعيدا إذا صلاها وتركها لم يكن يأتي إلى أهله إلى الليل لبعد المسافة وقد صرح بذلك في رواية حماد فقال ' إن منزلي متراخ ' أي متباعد ' فلو صليت وتركتها ' أي الفرس ' لم آت أهلي إلى الليل لبعد المكان '
(ذكر ما يستفاد منه) قال ابن بطال لا خلاف بين الفقهاء أن من أفلتت دابته وهو في الصلاة أنه يقطع الصلاة ويتبعها وقال مالك من خشي على دابته الهلاك أو على صبي رآه في الموت فليقطع صلاته وروى ابن القاسم عنه في مسافر أفلتت دابته وخاف عليها أو على صبي أو أعمى أن يقع في بئر أو نار أو ذكر متاعا يخاف أن يتلف فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا تفسد على من خلفه شيئا ولا يجوز أن يفعل هذا أبو برزة دون أن يشاهده من النبي
وقال ابن التين والصواب أنه إذا كان له شيء له قدر يخشى فواته يقطع وإن كان يسيرا فعادته على صلاته أولى من صيانة قدر يسير من ماله هذا حكم الفذ والمأموم فأما الإمام ففي كتاب سحنون إذا صلى ركعة ثم انفلتت دابته وخاف عليها أو على صبي أو أعمى أن يقعا في البئر وذكر متاعا له يخاف تلفه فذلك عذر يبيح له أن يستخلف ولا يفسد على من خلفه شيئا وعلى قول أشهب إن لم يعد واحد منهم بني قياسا على قوله إذا خرج لغسل دم رآه في ثوبه وأحب إلي أن يستأنف وإن بنى أجزاء (قلت) ذكر محمد رحمه الله تعالى في السير الكبير حديث الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة يصلي آخذا بعنان فرسه حتى صلى ركعتين ثم انسل قياد فرسه من يده فمضى الفرس إلى القبلة فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصا على عقبيه حتى صلى الركعتين الباقيتين قال محمد رحمه الله وبهذا نأخذ الصلاة تجزي مع ما صنع لا يفسدها الذي صنع لأنه رجع على عقبيه ولم يستدبر القبلة بوجهه حتى لو جعلها خلف ظهره فسدت صلاته ثم ليس في هذا الحديث فصل بين المشي القليل والكثير فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة وإن كثر وبعض مشايخنا أولوا هذا الحديث واختلفوا فيما بينهم في التأويل
289

فمنهم من قال تأويله أنه لم يجاوز موضع سجوده فإما إذا جاوز ذلك فإن صلاته تفسد لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه وكذلك موضع الصفوف في المسجد وخطاه في مصلاه عفو ومنهم من قال تأويله أن مشيه لم يكن متلاصقا بل مشى خطوة فسكن ثم مشى خطوة وذلك قليل وأنه لا يوجب فساد الصلاة أما إذا كان المشي متلاصقا تفسد وإن لم يستدبر القبلة لأنه عمل كثير ومن المشايخ من أخذ بظاهر الحديث ولم يقل بالفساد قل المشي أو كثر استحسانا والقياس أن تفسد صلاته إذا كثر المشي إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة رضي الله تعالى عنه وأنه خص بحالة العذر ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس
234 - (حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة. قال قالت عائشة خسفت الشمس فقام النبي
فقرأ سورة طويلة ثم ركع فأطال ثم رفع رأسه ثم استفتح بسورة أخرى ثم ركع حتى قضاها وسجد ثم فعل ذلك في الثانية ثم قال إنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يفرج عنكم لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته حتى لقد رأيت أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت ورأيت فيها عمرو بن لحي وهو الذي سيب السوائب)
قال الكرماني تعلق الحديث بالترجمة هو أن فيه مذمة تسييب السوائب مطلقا سواء كان في الصلاة أو لا (قلت) ما أبعد هذا الوجه أو تعلق الحديث بالترجمة في قوله ' جعلت أتقدم ' وفي قوله ' تأخرت ' وذلك لأن في الحديث السابق ذكر انفلات فرس أبي برزة وأنه تقدم من موضع سجوده ومشى ثم تأخر ورجع القهقري وفي هذا الحديث أيضا التقدم والتأخر وهذا المقدار يقنع به وهذا الحديث قد مر في صلاة الكسوف بوجوه مختلفة. منها أنه رواه من رواية يونس عن ابن شهاب وهو الزهري عن عروة عن عائشة. ومنها ما رواه من رواية الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء ولنذكر ههنا ما يحتاج إليه ههنا فقوله ' عبد الله ' هو ابن المبارك ويونس هو ابن يزيد والزهري هو محمد بن مسلم قوله ' حتى قضاها ' أي الركعة والقضاء ههنا بمعنى الفراغ والأداء كما في قوله تعالى * (فإذا قضيت الصلاة) * أي أديت قوله ' ذلك ' أي المذكور من القيامين والركوعين في الركعة الثانية قوله ' أنهما ' قال الكرماني أي الخسوف والكسوف (قلت) ليسا بمذكورين غير أن قولها ' خسفت الشمس ' يدل على الكسوف والظاهر أن الضمير يرجع إلى الشمس والقمر كما جاء صريحا ' إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى ' والشمس مذكورة والقمر لما كان كالشمس في ذلك كان كالمذكور قوله ' فإذا رأيتم ذلك ' أي الخسوف الذي دل عليه قولها ' خسفت ' والخسوف يستعمل فيها جميعا
كما مر في باب الكسوف قوله ' وعدته ' بضم الواو على صيغة المجهول ويروى ' وعدت ' بلا ضمير في آخره وعلى الوجهين هي جملة في محل الخفض لأنها صفة لقوله ' شيء ' وفي رواية ابن وهب عن يونس في رواية مسلم ' وعدتم ' قوله ' حتى لقد رأيته ' كذا في رواية المستملي بالضمير المنصوب بعد رأيت وفي رواية الأكثرين بلا ضمير وفي رواية مسلم ' لقد رأيتني ' قوله ' أريد ' جملة حالية وكلمة أن في أن آخذ مصدرية وفي رواية جابر ' حتى تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه ' قوله ' قطفا ' بكسر القاف وهو العنقود من العنب ويفسر ذلك حديث ابن عباس في الكسوف وقد تقدم قوله ' جعلت ' أي طفقت قال الكرماني (فإن قلت) لم قال هنا بلفظ ' جعلت ' ولم يقل في التأخر به بل قال ' تأخرت ' (قلت) لأن التقدم كاد أن يقع بخلاف التأخر فإنه قد وقع واعترض عليه بعضهم بقوله وقد وقع التصريح بوقوع التقدم والتأخر جميعا في حديث جابر عند مسلم ولفظه ' لقد جيء بالنار ودلكم حين رأيتموني تأخرت
290

مخافة أن يصيبني من لفحها ' وفيه ' ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي ' (قلت) لا يرد عليه ما قاله لأن جعلت في قوله ههنا بمعنى طفقت كما ذكرنا وبني السؤال والجواب عليه وجعل الذي بمعنى طفق من أفعاله المقاربة من القسم الذي وضع للدلالة على المشروع في الخبر وقد علم أن أفعال المقاربة على ثلاثة أنواع أحدها هذا والثاني ما وضع للدلالة على قرب الخبر وهو ثلاثة كاد وقرب وأوشك والثالث ما وضع للدلالة على رجائه نحو عسى وأيضا لا يلزم أن يكون حديث عائشة مثل حديث جابر من كل الوجوه وإن كان الأصل متحدا قوله ' يحطم ' بكسر الطاء المهملة قوله ' عمرو بن لحي ' بضم اللام وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء آخر الحروف وسيجئ في قصة خزاعة أنه
قال ' رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ' وكان أول من سيب السوائب والسوائب جمع سائبة وهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحل عليها شيء (فإن قلت) السوائب هي المسيبة فكيف يقال سيب السوائب (قلت) معناه سيب النوق التي تسمى بالسوائب وقال الزمخشري في قوله تعالى * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) * كان يقول الرجل إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة أي لا تركب ولا تطرد عن ماء ولا عن مرعى *
((باب ما يجوز من البزاق والنفخ في الصلاة))
أي هذا باب في بيان ما يجوز من البزاق أي من رمى البزاق وجاء فيه الزاي والصاد وكلاهما لغة قوله ' والنفخ ' أي ما يجوز من النفخ وقال بعضهم أشار المصنف إلى أن بعض ذلك يجوز وبعضه لا يجوز فيحتمل أنه يرى التفرقة بين ما إذا حصل من كل منهما كلام مفهم أم لا (قلت) لا نسلم أن الترجمة تدل على ما ذكره وإنما تدل ظاهرا على أن كل واحد من البصاق والنفخ جائز في الصلاة مطلقا وذكره بعد ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر ويدل على جواز النفخ وما رواه عن ابن عمر يدل على جواز البصاق لأن كلا منهما صريح فيما يدل عليه من غير قيد والآن نذكر مذاهب العلماء فيه إن شاء الله تعالى
(ويذكر عن عبد الله بن عمرو نفخ النبي
في سجوده في كسوف)
مطابقته للترجمة ظاهرة وفيه ما يدل على ما ذكرنا لأنه ذكره مطلقا واعترض أبو عبد الملك بأن البخاري ذكر النفخ ولم يذكر فيه حديثا (قلت) هذا عجيب منه فكأنه لم يطلع على ما ذكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو تعليق أسنده أبو داود من حديث عطاء بن السائب عن أبيه ' عبد الله بن عمرو قال انكسفت الشمس على عهد رسول الله
' الحديث وفيه ' ثم نفخ في آخر سجوده فقال أف أف ' إلى آخره وأخرجه الترمذي والنسائي والحاكم في المستدرك وقال صحيح وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض لأنه من رواية عطاء بن السائب عن أبيه لأنه مختلف فيه في الاحتجاج به وقد اختلط في آخر عمره لكن أورده ابن خزيمة من رواية سفيان الثوري عنه وهو ممن سمع منه قبل اختلاطه وأبوه وثقه العجلي وابن حبان وليس هو من شرط البخاري وقد فسر النفخ في الحديث بقوله ' فقال أف أف ' بتسكين الفاء وأف لا تكون كلاما حتى تشدد الفاء فتكون على ثلاثة أحرف من التأفيف وهو قولك أف لكذا فأما أف والفاء فيه خفيفة فليس بكلام والنافخ لا يخرج الفاء مشددة ولا يكاد يخرجها فاء صادقة من مخرجها ولكنه يفشها من غير إطباق الشفة على الشفة وما كان كذلك لا يكون كلاما وبهذا استدل أبو يوسف على أن المصلي إذا قال في صلاته أف أو آه أو أخ لا تفسد صلاته وقال أبو حنيفة ومحمد تفسد لأنه من كلام الناس وأجابا بأن هذا كان ثم نسخ وذكر ابن بطال أن العلماء اختلفوا في النفخ في الصلاة فكرهه طائفة ولم يوجبوا على من نفخ إعادة روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس والنخعي وهو رواية عن ابن زياد وعن مالك أنه قال أكره النفخ في الصلاة ولا يقطعها كما يقطع الكلام وهو قول أبي يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق وقالت طائفة هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة روي ذلك عن سعيد بن جبير وهو قول مالك في المدونة وفيه قول ثالث وهو أن النفخ إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة وهذا قول الثوري وأبي حنيفة ومحمد والقول الأول أولى لحديث ابن عمرو قال ويدل على صحة هذا أيضا اتفاقهم على جواز النفخ والبصاق في الصلاة وليس في النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما في البصاق من النطق بالفاء والتاء اللتين فيهما من رمى البصاق ولما
291

اتفقوا على جواز الصلاة في البصاق جاز النفخ فيها إذ لا فرق بينهما في أن كل واحد منهما بحروف ولذلك ذكر البخاري حديث البصاق في هذا الباب ليستدل على جواز النفخ لأنه لم يسند حديث ابن عمرو واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبصاق وهو استدلال حسن (قلت) يعكر عليه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد جيد أنه قال ' النفخ في الصلاة كلام ' وروي عنه أيضا بإسناد صحيح أنه قال ' والنفخ في الصلاة يقطع الصلاة ' وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون كلاما يعني النفخ في الصلاة وقال شيخنا زين الدين رحمه الله وفرق أصحابنا في النفخ بين أن يبين منه حرفان أم لا فإن بان منه حرفان وهو عامد عالم بتحريمه بطلت صلاته وإلا فلا وحكاه ابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وقال أبو يوسف لا تبطل إلا أن يريد به التأفيف وهو قول أف وقال ابن
المنذر ثم رجع أبو يوسف فقال لا تبطل صلاته مطلقا وحكى ابن العربي وغيره عن مالك خلافا وأنه قال في المختصر النفخ كلام لقوله تعالى * (ولا تقل لهما أف) * وقال في المجموعة لا يقطع الصلاة وقال الأبهري من المالكية ليس له حروف هجاء فلا يقطع الصلاة وقال شيخنا وما حكيناه عن أصحابنا هو الذي جزم به النووي في الروضة في شرح المهذب ثم أنه حكى الخلاف فيه في المنهاج تبعا للمحرر فقال فيه والأصل أن التنحنح والضحك والبكاء والأنين والنفخ إن ظهر به حرفان بطلت وإلا فلا
236 - (حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي
رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على أهل المسجد وقال إن الله قبل أحدكم فإذا كان في صلاته فلا يبزقن أو قال لا يتنخعن ثم نزل فحتها بيده * وقال ابن عمر رضي الله عنهما إذا بزق أحدكم فليبزق على يساره)
مطابقته للترجمة ظاهرة وقد مر هذا الحديث في باب حك البزاق باليد من المسجد فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع إلى آخره ولفظه هناك ' رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه ثم أقبل على الناس فقال إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجه فإن الله قبل وجهه إذا صلى ' وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك قوله ' قبل أحدكم ' بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي مقابل قوله ' أو قال لا يتنخعن ' وفي رواية الإسماعيلي ' لا يبزق بين يديه ' وقال الكرماني وفي بعض الرواية ' ولا يتنخمن ' من النخامة بضم النون وهو ما يخرج من الصدر قوله ' فحتها ' بفتح الحاء المهملة وتشديد التاء المثناة من فوق ويروى ' فحكها ' بالكاف ومعناهما واحد قوله ' وقال ابن عمر ' إلى آخره موقوف قوله ' عن يساره ' هكذا رواية الكشميهني بلفظ عن وفي رواية غيره ' على يساره ' بلفظ على ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن حماد بن زيد بلفظ ' لا يبزقن أحدكم بين يديه ولكن ليبزق خلفه أو عن شماله أو تحت قدمه ' وهذا الموقوف عن ابن عمر قد روي عن أنس مرفوعا
237 - (حدثنا محمد قال حدثنا غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي
قال إذا كان في الصلاة فإنه يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن شماله تحت قدمه اليسرى)
مطابقته للترجمة أكثر وضوحا من مطابقة الحديث السابق لها لأن فيه إباحة البزاق في الصلاة عن شماله تحت قدمه اليسرى وفي ذاك عن ابن عمر موقوفا وهذا الحديث أيضا قد مر في باب ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى رواه عن آدم عن شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال النبي
' إن المؤمن إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه ولكن عن يساره أو تحت قدمه ' ورواه أيضا عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن حميد ' عن أنس أن النبي
رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه ' الحديث وقد مر الكلام في أحاديث أنس هناك مستوفي بجميع ما يتعلق
292

بها ومحمد شيخ البخاري في هذا الحديث هو محمد بن بشار العبدي البصري وقد مر غير مرة وغندر بضم الغين المعجمة هو محمد بن جعفر البصري يكنى أبا عبد الله وقد مر غير مرة قوله ' إذا كان ' أي المؤمن في الصلاة كما ورد في الحديث الآخر لأنس هكذا كما ذكرناه إلى أن قوله ' فإنه ' أي فإن المصلي لدلالة القرينة عليه *
((باب من صفق جاهلا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته))
أي هذا باب في بيان حكم من صفق حال كونه جاهلا بنفي كون التصفيق للرجال وأنه للنساء قوله ' من الرجال ' بيان لقوله ' من ' فإن كلمة من للعقلاء تشمل الذكور والإناث وأراد بهذه الترجمة أن الرجل إذا صفق في الصلاة عند حدوث نائبة لا تفسد صلاته إذا كان جاهلا وقيد بذلك لأنه إذا صفق عامدا تفسد صلاته بقضية القيد المذكور والدليل على عدم الفساد في حالة الجهل أنه
لم يأمرهم بالإعادة في حديث سهل رضي الله تعالى عنه
(فيه سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي
)
قد مر حديث سهل في باب التصفيق للنساء أخرجه عن يحيى عن وكيع عن سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال قال
' التسبيح للرجال والتصفيق للنساء ' وسيأتي حديث سهل بن سعد أيضا في باب الإشارة في الصلاة قبل كتاب الجنائز وقد مر الكلام فيه في باب التصفيق للنساء *
((باب إذا قيل للمصلي تقدم أو انتظر فانتظر فلا بأس))
أي هذا باب يذكر فيه إذا قيل للمصلي تقدم أي قبل رفيقك أو انتظر أي أو قيل له انتظر أي تأخر عنه هكذا فسره ابن بطال وكأنه أخذ ذلك من حديث الباب وفيه فقيل للنساء ' لا ترفعن رؤسكن حتى يستوي الرجال جلوسا ' فمقتضاه تقدم الرجال على النساء وتأخرهن عنهم واعترض الإسماعيلي على البخاري هنا بقوله ظن أي البخاري أن المخاطبة للنساء وقعت بذلك وهن في الصلاة وليس كما ظن بل هو شيء قيل لهن قبل أن يدخلن في الصلاة وأجاب بعضهم عن ذلك نصرة للبخاري بقوله أن البخاري لم يصرح بكون ذلك قيل لهن وهن داخل الصلاة أو خارجها والذي يظهر أن النبي
وصاهن بنفسه أو بغيره بالانتظار المذكور قبل أن يدخلن فيها على علم انتهى (قلت) الاعتراض المذكور والجواب عنه كلاهما واهيان أما الاعتراض فليس بوارد لأن نفيه ظن البخاري بذلك غير صحيح لأن ظاهر متن الحديث يقتضي ما نسبه إلى البخاري من الظن بل هو أمر ظاهر وليس بظن لأن قوله
' فقيل للنساء ' إلى آخر بفاء العطف على ما قبله يقتضي أن هذا القول قيل لهن والناس يصلون مع النبي
فالظاهر أنهن كن مع الناس في الصلاة وإن كان يحتمل أن يكون هذا القول لهن عند شروعهن في الصلاة مع الناس ولا يلتفت إلى الاحتمال إذا كان غير ناشىء عن دليل وأما الجواب فكذلك هو غير سديد لأن قوله والذي يظهر إلى آخره غير ظاهر لا من الترجمة ولا من حديث الباب أما الترجمة فلا شيء فيها من الدلالة على ذلك وأما متن الحديث فليس فيه إلا لفظ قيل بصيغة المجهول فمن أين ظهر أنه
هو الذي وصاهن به بنفسه أو بغيره ولا فيه شيء يدل على أن ذلك كان قبل دخولهن في الصلاة بل الذي يظهر من ذلك ما ذكرناه بقضية تركيب متن الحديث فافهم فإنه بحث دقيق
238 - (حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه. قال كان الناس يصلون مع النبي
وهم عاقدوا أزرهم على رقابهم من الصغر فقيل للنساء لا ترفعن رؤسكن حتى يستوي الرجال جلوسا)
مطابقته للترجمة على ما قيل أن النساء قيل لهن ذلك أما في الصلاة أو قبلها فإن كان فيها فقد أفاد المسألتين خطاب المصلي وتربصه بما لا يضر وإن كان قبلها أفاد جواز الانتظار والحديث أخرجه في باب إذا كان الثوب ضيقا وقال حدثنا مسدد قال
293

حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد إلى آخره نحوه قوله ' على رقابهم ' وهناك ' على أعناقهم ' قوله ' من الصغر ' أي من صغر الثياب وهذا في أول الإسلام حين القلة ثم جاء الفتوح وهناك في موضع من الصغر كهيئة الصبيان وتقدم قطعة منه أيضا في باب عقد الإزار على القفا معلقا وقد مر الكلام فيه هناك مستوفي وفي التوضيح وفيه تقدم الرجال بالسجود على النساء لأنهم إذا لم يرفعن رؤسهن حتى يستوي الرجال جلوسا فقد تقدموهن بذلك وصرن منتظرات لهم وفيه جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام بمدة ويصح ائتمامه كمن زوحم ولم يقدر على الركوع والسجود حتى قام الناس (قلت) هذا مبني على مذهب إمامه وعندنا إذا لم يشارك المأموم الإمام في ركن من أركان الصلاة ولو في جزء منه لا تصح صلاته قال وفيه جواز سبق المأمومين بعضهم لبعض في الأفعال ولا يضر ذلك (قلت) نعم لا يضر ذلك ولكن من أين فهم هذا من الحديث قال وفيه إنصات المصلي لخبر يخبره. وفيه جواز الفتح على المصلي وإن كان الفاتح في غير صلاته (قلت) هذا عندنا على أربعة أقسام بحسب القسمة العقلية الأول أن لا يكون المستفتح ولا الفاتح في الصلاة وهذا ليس مما نحن فيه والثاني أن يكون كلاهما في الصلاة ثم لا يخلو إما أن تكون الصلاة متحدة بأن يكون المستفتح إماما والفاتح مأموما أو لا يكون ففي الأول الذي هو القسم الثالث لا تفسد صلاة كل منهما وفي الثاني الذي هو القسم الرابع تفسد صلاة كل واحد منهما لأنه تعليم وتعلم وقال بعضهم ويستفاد منه جواز انتظار الإمام في الركوع لمن يدرك الركعة وفي التشهد لإدراك الصلاة (قلت) مذهبنا في هذا على التفصيل وهو أن الإمام إذا كان يعلم الجائي ليس له أن ينتظره إلا إذا خاف من شره وإن كان لا يعلم فلا بأس بالانتظار ليدركه *
((باب لا يرد السلام في الصلاة))
أي هذا باب يذكر فيه أن المصلي لا يرد السلام على المسلم في الصلاة لأنه خطاب آدمي
239 - (حدثنا عبد الله بن أبي شيبة قال حدثنا ابن فضيل عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. قال كنت أسلم على النبي
وهو في الصلاة فيرد علي فلما رجعنا سلمت عليه فلم يرد علي. وقال إن في الصلاة شغلا)
مطابقته للترجمة في قوله ' فلم يرد علي ' وقد مضى الحديث في باب ما ينهى عنه من الكلام وأخرجه عن ابن نمير عن ابن فضيل عن الأعمش وقد مضى هناك ما يتعلق به من الأشياء وعبد الله هو ابن محمد بن أبي شيبة الكوفي الحافظ أخو عثمان بن أبي شيبة مات في المحرم سنة خمس وثلاثين ومائتين وابن فضيل بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة مر في كتاب الإيمان والأعمش هو سليمان وإبراهيم هو النخعي وعلقمة بن قيس النخعي وعبد الله هو ابن مسعود وحكى ابن بطال الإجماع أنه لا يرد السلام نطقا واختلفوا هل يرد إشارة فكرهه طائفة روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ورخص فيه طائفة روى ذلك عن سعيد بن المسيب وقتادة والحسن وعن مالك روايتان في رواية أجازه وفي أخرى كرهه وعند طائفة إذا فرغ من الصلاة يرد واختلفوا أيضا في السلام على المصلي فكره ذلك قوم روي ذلك ' عن جابر رضي الله تعالى عنه قال لو دخلت على قوم وهم يصلون ما سلمت عليهم ' وقال أبو مجلز السلام على المصلي عجز وكرهه عطاء والشعبي رواه ابن وهيب عن مالك وبه قال إسحاق ورخصت فيه طائفة روي ذلك عن ابن عمر وهو قول مالك في المدونة وقال لا يكره السلام عليه في فريضة ولا نافلة وفعله أحمد رحمه الله تعالى
240 - (حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا كثير بن شنظير عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال بعثني رسول الله
في حاجة له فانطلقت ثم رجعت وقد قضيتها فأتيت النبي
فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في قلبي ما الله أعلم به فقلت في نفسي لعل رسول الله
وجد علي أني أبطأت عليه ثم سلمت عليه فلم يرد علي
294

فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى ثم سلمت عليه فرد علي فقال إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول أبو معمر بفتح الميمين عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج واسمه ميسرة التميمي المقعد. الثاني عبد الوارث بن سعيد التنوري. الثالث كثير ضد قليل ابن شنظير بكسر الشين المعجمة وسكون النون وكسر الظاء المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء. الرابع عطاء بن أبي رباح. الخامس
جابر بن عبد الله الأنصاري.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته بصريون وفيه شنظير وهو علم والد كثير ومعناه في اللغة السيء الخلق ولقب كثير أبو قرة.
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم في الصلاة عن أبي كامل عن حماد وعن محمد بن حاتم عن معلى بن منصور.
(ذكر معناه) قوله ' في حاجة ' بين مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر أن ذلك كان في غزوة بني المصطلق قوله ' فلم يرد علي ' وفي رواية مسلم المذكورة ' فقال لي بيده هكذا ' وفي رواية أخرى ' فأشار إلي ' فإذا كان كذلك يحمل قول جابر في ورواية البخاري ' فلم يرد علي ' أي باللفظ وكان جابرا لم يعرف أولا أن المراد بالإشارة الرد عليه فلذلك قال ' فوقع في قلبي ما الله أعلم به ' أي من الحزن وكأنه أبهم ذلك إشعارا بأنه لا يدخل من شدته تحت العبارة قوله ' ما الله أعلم به ' كلمة ما فاعل لقوله ' وقع ' ولفظة ' الله ' مبتدأ وخبره قوله ' أعلم به ' قوله ' وجد علي ' بفتح الواو والجيم معناه غضب يقال وجد عليه يجد وجدا وموجدة ووجد ضالته يجدها وجدانا إذا رآها ولقيها ووجد يجد جدة أي استغنى غنى لا فقر بعده ووجدت بفلانة وجدا إذا أحببتها حبا شديدا قوله ' إني أبطأت ' وفي رواية الكشميهني ' أن أبطأت ' بنون خفيفة قوله ' فرد علي ' أي بعد أن فرغ من صلاته قوله ' ما منعني أن أرد عليك ' أي السلام ' إلا أني كنت أصلي ' قوله ' وكان على راحلته متوجها إلى غير القبلة ' وفي رواية مسلم ' فرجعت وهو يصلي على راحلته ووجهه على غير القبلة '. ومما يستفاد أمنه إثبات الكلام النفساني وأن الكبير إذا وقع منه ما يوجب حزنا يظهر سببه ليندفع ذلك وجواز صلاة النفل على الراحلة إلى غير القبلة. وفيه كراهة السلام على المصلي وقد مر الكلام فيه عن قريب *
((باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر نزل به))
أي هذا باب في بيان حكم رفع الأيدي في الصلاة لأجل أمر نزل به
241 - (حدثنا قتيبة قال حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال بلغ رسول الله
أن بني عمرو بن عوف بقباء كان بينهم شيء فخرج يصلح بينهم في أناس من أصحابه فحبس رسول الله
وحانت الصلاة فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال يا أبا بكر إن رسول الله
قد حبس وقد حانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس قال نعم إن شئت فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر رضي الله عنه فكبر للناس وجاء رسول الله
يمشي في الصفوف يشقها شقا حتى قام في الصف فأخذ الناس في التصفيح * قال سهل التصفيح هو التصفيق. قال وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس التفت فإذا رسول الله
فأشار إليه يأمره أن يصلي فرفع أبو بكر رضي الله عنده يده فحمد الله ثم رجع القهقري وراءه حتى قام في الصف وتقدم رسول الله
فصلى للناس فلما فرغ
295

أقبل على الناس فقال يا أيها الناس مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم بالتصفيح إنما التصفيح للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله ثم التفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك قال أبو بكر ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله
)
مطابقته للترجمة في قوله ' فرفع أبو بكر يديه ' وقد مضى هذا الحديث في باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول ورواه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله
ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم إلى آخره وعبد العزيز هناك هو ابن أبي حازم وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى قوله ' وحانت ' أي حضرت والواو فيه للحال وفي رواية الكشميهني ' وقد حانت الصلاة ' قوله ' قد حبس ' أي تعوق هناك قوله ' إن شئتم ' هذه رواية الحموي وفي رواية غيره ' إن شئت ' قوله ' في الصف ' هذه رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' من الصف ' قوله ' فرفع أبو بكر يديه ' هذه رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' يده ' بالإفراد قوله ' من نابه شيء ' أي من نزل به أمر من الأمور قوله ' حيث أشرت إليك ' وفي رواية الكشميهني ' حين أشرت إليك ' *
((باب الخصر في الصلاة))
أي هذا باب في بيان حكم الخصر في الصلاة والخصر بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة وهو أن يضع يده على خاصرته في الصلاة
242 - (حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال نهي عن الخصر في الصلاة. وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي
)
243 - (حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا هشام قال حدثنا محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال نهي أن يصلي الرجل مختصرا)
مطابقة هذا الحديث بطرقه للترجمة ظاهرة والكلام فيه على أنواع. الأول في رجاله وهم تسعة. الأول أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم. الثاني حماد بن زيد. الثالث أيوب بن أبي تميمة السختياني. الرابع محمد بن سيرين. الخامس هشام بن حسان أبو عبد الله القردسي بضم القاف مات سنة سبع وأربعين ومائة.
السادس أبو هلال محمد بن سليم الراسبي بالراء وبالسين المهملة وبالباء الموحدة مات سنة سبع وستين ومائة. السابع عمرو بن علي الصيرفي الفلاس. الثامن يحيى بن سعيد القطان. التاسع أبو هريرة
(النوع الثاني في لطائف إسناده) هذه الطرق فيها التحديث بصيغة الجمع في خمسة مواضع وفيها العنعنة في سبعة مواضع وفيها القول في ستة مواضع وفيها أن رواتها بصريون وفيها أبو هلال وقد أدخله البخاري في الضعفاء واستشهد به ههنا وروي له في كتاب القراءة خلف الإمام وغيره وفيها أن الطريق الأول مسند ولكنه موقوف ظاهرا ولكن في الحقيقة مرفوع لأن قوله نهي وإن كان بضم النون على صيغة المجهول لكن الناهي هو النبي
كما في الطريق الثاني وهو رواية هشام وقد صلها البخاري لكن وقع في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي نهى بفتح النون على البناء للفاعل ولكنه لم يسمه وقد رواه مسلم والترمذي من طريق أبي أسامة عن هشام بلفظ ' نهى النبي
أن يصلي الرجل مختصرا ' *
296

النوع الثالث فيمن أخرجه غيره رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وأبي خالد الأحمر وعن الحكم بن موسى عن ابن المبارك ورواه أبو داود عن يعقوب بن كعب عن محمد بن سلمة الحراني ورواه الترمذي عن أبي كريب عن أبي أسامة عن هشام بن حسان. ورواه النسائي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك وعن إسحاق بن إبراهيم عن جرير بن عبد الحميد
النوع الرابع في اختلاف ألفاظه ففي إحدى روايتي البخاري نهى عن الخصر وفي الأخرى مختصرا وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني مخصرا بتشديد الصاد وفي رواية النسائي متخصرا بزيادة التاء المثناة من فوق وفي رواية أبي داود ' نهى عن الاختصار ' وفي رواية البيهقي ' نهى عن التخصر '.
النوع الخامس في معناه وقد ذكرنا أن الخصر وضع اليد على الخاصرة وقوله ' مختصرا ' من الاختصار وقد فسره الترمذي بقوله والاختصار هو أن يضع الرجل يده على خاصرته في الصلاة وكأنه أراد نفس الاختصار المنهي عنه وإلا فحقيقة الاختصار لا تتقيد بكونها في الصلاة وفسره أبو داود عقيب حديث أبي هريرة فقال يعني أن يضع يده على خاصرته وما فسره به الترمذي فسره به محمد بن سيرين راوي الحديث فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أسامة عن هشام عن محمد وهو أن يضع يده على خاصرته وهو يصلي وكذا فسره هشام فيما رواه البيهقي في سننه عنه وحكى الخطابي وغيره قولا آخر في تفسير الاختصار وهو أن يمسك بيديه مخصرة أي عصا يتوكأ عليها وأنكره ابن العربي وعن الهروي في الغريبين وابن الأثير في النهاية وهو أن يختصر السورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين وحكى الهروي أيضا وهو أن يحذف في الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وقيل يختصر الآيات التي فيها السجدة في الصلاة فيسجد فيها والقول الأول هو الأصح ويؤيده ما رواه أبو داود حدثنا هناد بن السري عن وكيع عن سعيد بن زياد عن زياد بن صبيح الحنفي قال ' صليت إلى جنب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله
ينهى عنه ' قوله ' هذا الصلب ' أي شبه الصلب لأن المصلوب يمد باعه على الجذع وهيئة الصلب في الصلاة أن يضع يديه على خاصرته ويجافي بين عضديه في القيام
النوع السادس في الحكمة في النهي عن الخصر فقيل لأن إبليس أهبط مختصرا رواه ابن أبي شيبة من طريق حميد بن هلال موقوفا قيل لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الفتح عن مسروق ' عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تكره أن يضع يده على خاصرته تقول أن اليهود تفعله ' زاد ابن أبي شيبة في رواية له ' في الصلاة ' وفي رواية أخرى ' لا تشبهوا باليهود ' وقيل لأنه راحة أهل النار كما روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد قال ' وضع اليدين على الحقو استراحة أهل النار ' وروى ابن أبي شيبة أيضا من رواية خالد بن معدان ' عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها رأت رجلا واضعا يده على خاصرته فقالت هكذا أهل النار في النار ' وهذا منقطع وقد جاء ذلك من حديث مرفوع رواه البيهقي من رواية عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله
قال ' الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ' وظاهر هذا الإسناد الصحة إلا أن الطبراني رواه في الأوسط فأدخل بين عيسى بن يونس وبين هشام عبد الله بن الأزور وقال لم يروه عن هشام إلا عبد الله بن الأزور تفرد به عيسى بن يونس وعبد الله بن الأزور ضعفه الأزدي والله أعلم. وقيل لأنه فعل المختالين والمتكبرين قاله المهلب بن أبي صفرة وقيل لأنه شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآثم قاله الخطابي
النوع السابع في حكم الخصر في الصلاة اختلفوا فيه فكرهه ابن عمر وابن عباس وعائشة وإبراهيم النخعي ومجاهد وأبو مجلز وآخرون وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الاختصار في الصلاة عملا بظاهر الحديث
(أسئلة وأجوبة) منها ما قيل أن حديث أم قيس بنت محصن عند أبي داود من رواية هلال بن يساف قال فيه فدفعنا
297

إلى وابصة بن معبد فإذا هو معتمد على عصا في صلاته فقلنا بعد أن سلمنا فقال حدثتني أم قيس بنت محصن ' أن رسول الله
لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه ' انتهى يعارض قول من يفسر الاختصار المنهي عنه بإمساك المصلي مخصرة يتوكأ عليها وأجيب بأن هذا الحديث لا يصح فلا يقاوم الحديث المتفق عليه والحديث وإن كان أبو داود سكت عنه فإنه رواه عن عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر الوابصي عن أبيه وعبد الرحمن بن صخر هذا لم يروه عنه سوى ولده عبد السلام قاله الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في الإمام وقال المزي في التهذيب أن عبد السلام لم يدرك أباه وجواب آخر هو أن يكون النهي في حق من فعله بغير عذر بل للاستراحة وحديث أم قيس محمول على من فعل ذلك لعذر من كبر السن والمرض ونحوهما وهكذا قال أصحابنا واستدلوا به على
أن الضعيف والشيخ الكبير إذا كان قادرا على القيام متكئا على شيء يصلي قائما متكئا ولا يقعد وروى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه حدثنا مروان بن معاوية ' عن عبد الرحمن بن عراك ابن مالك عن أبيه قال أدركت الناس في شهر رمضان يربط لهم الحبال يتمسكون بها من طول القيام ' وحدثنا وكيع عن عكرمة بن عمار رضي الله تعالى عنه ' عن عاصم بن سميح قال رأيت أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه يصلي متكئا على عصا ' وحدثنا وكيع ' عن أبان بن عبد الله البجلي قال رأيت أبا بكر بن أبي موسى يصلي متكئا على عصا ' ومنها ما قيل أن صاحب الإكمال ذكر في حديث آخر ' المختصرون يوم القيامة على وجوههم النور ثم قال هم الذين يصلون بالليل ويضعون أيديهم على خواصرهم من التعب ' قال وقيل يأتون يوم القيامة معهم أعمال يتكؤن عليها مأخوذ من المخصرة وهي العصا وأجاب عنه شيخنا زين الدين رحمه الله هذا الحديث لا أعلم له أصلا وهو مخالف للأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك وعلى تقدير وروده يكون المراد أن يكون بأيديهم مخاصر يختصرون ويجوز أن تكون أعمالهم تجسد لهم كما ورد في بعض الأعمال وفي حديث عبد الله بن أنيس ' إن أقل الناس يومئذ المتخصرون ' أي يوم القيامة رواه أحمد في مسنده والطبراني في الكبير في قصة قتله لخالد بن سفيان الهذلي وفي رواية الطبراني خالد بن نبيح من بني هذيل وأنه
أعطاه عصا فقال أمسك هذه عنك يا عبد الله بن أنيس وفيه أنه سأله لم أعطيتني هذه قال آية بيني وبينك يوم القيامة وإن أقل الناس المتخصرون يومئذ وفيه أنها دفنت معه. ومنها ما قيل أنه ليس لأهل النار المخلدين فيها راحة وكيف يذكر في حديث أبي هريرة عن النبي
أنه قال ' الاختصار في الصلاة راحة أهل النار ' (وأجيب) بأن أهل النار في النار على هذه الحالة ولا مانع من ذلك أنهم يختصرون لقصد الراحة ولا راحة لهم في ذلك.
((باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة))
أي هذا باب في بيان تفكر الرجل الشيء والتفكر مصدر مضاف إلى فاعله وقوله الشيء مفعوله وفي بعض النسخ شيئا وهو أيضا مفعول وقيد الرجل وقع اتفاقيا لأن المكلفين كلهم فيه سواء قال المهلب التفكر أمر غالب لا يمكن الاحتراز عنه في الصلاة ولا في غيرها لما جعل الله للشيطان من السبيل على الإنسان ولكن إن كان في أمر أخروي ديني فهو أخف مما يكون في أمر دنياوي.
(وقال عمر رضي الله عنه إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة)
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن قول عمر هذا يدل على أنه يتفكر حال جيشه في الصلاة وهذا أمر أخروي وهذا تعليق رواه ابن أبي شيبة عن حفص عن عاصم عن أبي عثمان النهدي عنه بلفظ ' إني لأجهز جيوشي وأنا في الصلاة ' وقال ابن التين إنما هذا فيما يقل فيه التفكر كان يقول أجهز فلانا أقدم فلانا أخرج من العدد كذا وكذا فيأتي على ما يريد في أقل شيء من المفكرة فأما إذا تابع الفكر وأكثر حتى لا يدري كم صلى فهذا لاه في صلاته فيجب عليه الإعادة انتهى. قيل هذا الإطلاق ليس على وجهه وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يأباه فروى ابن أبي شيبة من طريق عروة ابن الزبير قال قال عمر ' إني لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة ' وروى صالح بن أحمد بن حنبل في كتاب المسائل عن أبيه من طريق همام
298

ابن الحارث ' أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ فلما انصرف قالوا يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ فقال إني حدثت نفسي وأنا في الصلاة بعير جهزتها من المدينة حتى دخلت الشام ثم أعادوا وأعاد القراءة ' ومن طريق عياض الأشعري قال صلى عمر المغرب فلم يقرأ فقال له أبو موسى إنك لم تقرأ فأقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال صدق فأعاد فلما فرغ قال لا صلاة ليست فيها قراءة إنما شغلني عير جهزتها إلى الشام فجعلت أتفكر فيها فهذا يدل على أنه إنما أعاد لتركه القراءة لا لكونه مستغرقا في الفكر ويؤيده ما رواه الطحاوي من طريق ضمضم بن حوس ' عن عبد الله بن حنظلة الراهب أن عمر صلى المغرب فلم يقرأ في الركعة الأولى فلما كان الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين فلما فرغ وسلم سجد سجدتي السهو '.
244 - (حدثنا إسحاق بن منصور قال حدثنا روح قال حدثنا عمر هو ابن سعيد. قال أخبرني ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه. قال صليت مع النبي
العصر فلما سلم قام سريعا فدخل على بعض نسائه ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته فقال ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا فأمرت بقسمته)
مطابقته للترجمة في قوله ' ذكرت وأنا في الصلاة تبرا عندنا ' وذلك لأنه
تفكر في أمر ذاك التبر وهو في الصلاة ومع هذا لم يعد الصلاة وهذا الحديث قد مضى في باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم رواه عن محمد بن عبيد عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد إلى آخره وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء مستوفي. وروح بفتح الراء ابن عبادة مر في باب اتباع الجنائز من كتاب الإيمان وعمر بن سعيد هو ابن أبي حسين المكي وابن أبي مليكة هو عبد الله بن أبي مليكة مصغر الملكة وعقبة بضم العين المهملة وسكون القاف ابن الحارث مر في باب الرحلة في المسألة النازلة وفي الباب المذكور.
245 - (حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن جعفر عن الأعرج قال قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله
إذا أذن بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا سكت المؤذن أقبل فإذا ثوب أدبر فإذا سكت أقبل فلا يزال بالمريء يقول له أذكر ما لم يكن يذكر حتى لا يدري كم صلى * قال أبو سلمة بن عبد الرحمن إذا فعل ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو قاعد وسمعه أبو سلمة من أبي هريرة رضي الله عنه)
مطابقته للترجمة في قوله ' فلا يزال بالمريء يقول له أذكر ما لم يكن يذكر حتى لا يدري كم صلى ' وهذا يتفكر أشياء حتى لا يعلم كم ركعة صلاها وهذا لا يقدح في
صحة الصلاة ما لم يترك شيئا من أركانها وهذا الحديث مضى في باب فضل التأذين رواه عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة إلى آخره وليس فيه قال أبو سلمة إلى آخره. وجعفر هو ابن ربيعة المصري والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز قوله ' قال أبو سلمة ' إلى آخره تعليق وطرف من حديث أخرجه في الباب السادس من الأبواب التي عقيب الحديث المذكور وفي الباب السابع أيضا على ما يجيء إن شاء الله تعالى ولا يظن ظان أن هذه الزيادة من رواية جعفر بن ربيعة المذكور في سند الحديث المذكور ولكن من رواية يحيى بن كثير عن أبي سلمة ورواية الزهري عنه عن أبي هريرة مرفوعا وستقف عليه في البابين المذكورين إن شاء الله تعالى
246 - (حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرني ابن أبي ذئب
299

عن سعيد المقبري قال قال أبو هريرة رضي الله عنه يقول الناس أكثر أبو هريرة فلقيت رجلا فقلت بما قرأ رسول الله
البارحة في العتمة فقال لا أدري فقلت ألم تشهدها قال بلى قلت لكن أنا أدري قرأ سورة كذا وكذا)
مطابقته للترجمة من حيث أن ذلك الرجل كان متفكرا في الصلاة بفكر دنيوي حتى لم يضبط ما قرأه رسول الله
فيها ويجوز أن يكون من حيث أن أبا هريرة كان متفكرا بأمر الصلاة حتى ضبط ما قرأه رسول الله
.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول محمد بن المثنى بن عبيد أبو موسى المعروف بالزمن. الثاني عثمان بن عمر بن فارس العبدي. الثالث محمد بن عبد الرحمن أبي ذئب. الرابع سعيد بن أبي سعيد المقبري وقد تكرر ذكره. الخامس أبو هريرة.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الجمع في موضع وفيه العنعنة في موضع وفيه القول في أربعة مواضع وفيه أن شيخه وشيخ شيخه بصريان وابن أبي ذئب وسعيد مدنيان وفيه قال أبو هريرة وفي رواية الإسماعيلي عن أبي هريرة وفيه أن هذا الحديث من أفراده.
(ذكر معناه) قوله ' يقول الناس أكثر أبو هريرة ' أي من الرواية عن النبي
وروى البيهقي في المدخل من طريق أبي مصعب عن محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب بلفظ ' أن الناس قالوا قد أكثر أبو هريرة من الحديث عن رسول الله
وإني كنت ألزمه لشبع بطني فلقيت رجلا فقلت له بأي سورة ' فذكر الحديث وعند الإسماعيلي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب في أول هذا الحديث ' حفظت من رسول الله
وعاءين ' الحديث ' وفيه أن الناس قالوا أكثر أبو هريرة ' فذكره وتقدم في العلم من طريق الأعرج عن أبي هريرة ' أن الناس يقولون أكثر أبو هريرة والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت ' وسيأتي في أوائل البيوع من طريق سعيد ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال ' إنكم تقولون أن أبا هريرة أكثر ' الحديث قوله ' بم ' بكسر الباء الموحدة بغير ألف لأبي ذر وهو المعروف وفي رواية الأكثرين ' بما ' بإثبات الألف وهو قليل قوله ' البارحة ' نصب على الظرف وهي الليلة الماضية قوله ' في العتمة ' وهي العشاء الآخرة قوله ' ألم تشهد ' بهمزة الاستفهام ويروى ' لم تشهد ' بدون الهمزة
(ومما يستفاد منه) إتقان أبي هريرة وشدة ضبطه وفيه إكثار أبي هريرة وهو ليس بعيب إذا لم يخش منه قلة الضبط ومن الناس من لا يكثر ولا يضبط مثل هذا الرجل لم يحفظ ما قرأه رسول الله
في العتمة وفيه ما يدل على أنه قد يجوز أن ينفي الشيء عمن لم يحكمه لأن أبا هريرة قال للرجل ألم تشهدها يريد شهودا تاما فقال الرجل بلى شهدتها كما يقال للصانع إذا لم يحسن صنعته ما صنعت شيئا يريدون الإتقان وللمتكلم ما قلت شيئا إذا لم يعلم ما يقول *
((بسم الله الرحمن الرحيم))
((باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة))
أي هذا باب في بيان ما جاء في أمر السهو الواقع في الصلاة إذا قام المصلي من ركعتي الفريضة ولم يجلس عقبيهما وهذا بيانه إذا وقع وحكمه في حديث الباب. والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره وقال بعضهم وفرق بعضهم بين السهو والنسيان وليس بشيء (قلت) هذا الذي قاله ليس بشيء بل بينهما فرق دقيق وهو أن السهو أن ينعدم له شعور والنسيان له فيه شعور ثم اعلم أن لفظة باب ساقطة في رواية أبي ذر وفي رواية الكشميهني والأصيلي وأبي الوقت ' من ركعتي الفرض '
247 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أنه قال إن رسول الله
قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك)
300

مطابقته للترجمة في قوله ' قام من اثنتين من الظهر ' وهو معنى قوله في الترجمة إذا قام من ركعتي الفريضة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة ذكروا غير مرة وعبد الرحمن هو ابن هرمز الأعرج ووقع كذا عبد الرحمن الأعرج في رواية كريمة وفي رواية غيرها عن الأعرج ولم يقع اسمه وبحينة بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون وفي آخره هاء وهو اسم أم عبد الله وقيل اسم أم أبيه فينبغي أن يكتب ابن بحينة بألف وقد تقدم هذا الحديث في باب من لم ير التشهد الأول واجبا وقد ذكرنا هناك أن هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع وأخرجه بقية الجماعة
(ذكر معناه وما يتعلق به من الأحكام) قوله ' قام من اثنتين ' أي من ركعتين من صلاة الظهر وفي مسند السراج من حديث ابن إسحاق عن الزهري ' الظهر أو العصر '
ومن حديث أبي معاوية عن يحيى مثله ومن حديث سفيان عن الزهري أي إحدى صلاتي العشي قوله ' لم يجلس بينهما ' أي بين هاتين الثنتين اللتين هما الركعتان الأوليان وبين الركعتين الأخريين قوله ' فلما قضى صلاته ' أي لما فرغ منها قوله ' بعد ذلك ' أي بعد أن سجد سجدتين وهما سجدتا السهو. واحتج قوم بظاهر هذا الحديث أن سجود السهو قبل السلام مطلقا في الزيادة والنقصان وهو الصحيح من مذهب الشافعي وروي ذلك عن أبي هريرة والزهري ومكحول وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والسائب القاري والأوزاعي والليث بن سعد وزعم أبو الخطاب أنها رواية عن أحمد بن حنبل ولهم أحاديث أخرى في ذلك منها ما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن عوف قال سمعت النبي
يقول ' إذا سها أحدكم في صلاته ' الحديث وفيه ' فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ' وقال الترمذي حديث حسن صحيح. ومنها ما رواه مسلم من حديث أبي سعيد قال رسول الله
' إذا شك أحدكم في صلاته ' الحديث وفيه ' فليسجد سجدتين من قبل أن يسلم '. ومنها ما رواه النسائي من طريق ابن عجلان أن معاوية سها فسجد سجدتين وهو جالس بعد أن أتم الصلاة وقال سمعت رسول الله
يقول ' من نسي شيئا من صلاته فليسجد مثل هاتين السجدتين '. ومنها ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة المخرج عند الستة وفيه زيادة ' فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم ليسلم '. ومنها ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس قال رسول الله
' إذا شك أحدكم في صلاته ' الحديث وفيه ' فإذا فرغ فلم يبق إلا التسليم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم ليسلم '. ومنها ما رواه أبو داود من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود عن رسول الله
قال ' إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث أو أربع ' وفيه ' وتشهدت ثم سجدت سجدتين وأنت جالس قبل أن تسلم ثم تشهدت أيضا ثم تسلم '. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن السجود يكون بعد السلام في الزيادة والنقص وهو مروي عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك والنخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري واحتجوا بحديث ذي اليدين المخرج في الصحيحين وقد مر فيما مضى وفيه ' فأتم رسول الله
ما بقي من الصلاة ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم '. واحتجوا أيضا بأحاديث أخرى. منها ما رواه الترمذي من حديث الشعبي قال ' صلى بنا المغيرة بن شعبة فنهض في الركعتين فسبح به القوم وسبح بهم فلما صلى بقية صلاته سلم ثم سجد سجدتي السهو وهو جالس ثم حدثهم أن رسول الله
فعل بهم مثل الذي فعل '. ومنها ما رواه مسلم من حديث عمران بن حصين ' أن رسول الله
صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات فقام رجل يقال له الخرباق قد ذكر له صنيعه فقال أصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم ' ومنها ما رواه الطبراني من حديث محمد بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس قال ' صليت خلف أنس بن مالك صلاة فسها فيها فسجد بعد السلام ثم التفت إلينا وقال أما إني لم أصنع إلا كما رأيت رسول الله
يصنع '. ومنها ما رواه ابن سعد في الطبقات ' عن عطاء بن أبي رباح قال صليت مع عبد الله بن الزبير المغرب فسلم في الركعتين ثم قام يسبح به القوم فصلى بهم الركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين قال فأتيت ابن عباس من فوري فأخبرته فقال لله أبوك ما ماط عن سنة رسول الله
'. ومنها ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث عبد الله بن جعفر أن رسول الله
قال ' من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم '. ومنها ما رواه أبو داود
301

وابن ماجة وأحمد في مسنده وعبد الرزاق في مصنفه والطبراني في معجمه من حديث ثوبان عن النبي
أنه قال ' لكل سهو سجدتان بعدما يسلم ' وبما رواه الطحاوي من حديث قتادة ' عن أنس في الرجل يهم في صلاته لا يدري أزاد أم نقص قال يسجد سجدتين بعد السلام ' (فإن قلت) قال البيهقي في المعرفة روى عن الزهري أنه ادعى نسخ السجود بعد السلام وأسنده الشافعي عنه ثم أكده بحديث معاوية أنه
سجدهما قبل السلام رواه النسائي في سننه قال وصحبة معاوية متأخرة (قلت) قول الزهري منقطع وهو غير حجة عندهم وقال الطرطوشي هذا لا يصح عن الزهري وفي إسناده أيضا مطرف بن مازن قال يحيى كذاب وقال النسائي غير ثقة وقال ابن حبان لا تجوز الرواية عنه إلا للاعتبار (فإن قلت) قالوا المراد بالسلام في الأحاديث التي جاءت بالسجود بعد السلام هو السلام على النبي
في التشهد أو يكون تأخيرها على سبيل السهو (قلت) هذا بعيد جدا مع أنه معارض بمثله وهو أن يقال حديثهم قبل السلام يكون على سبيل السهو ويحتمل حديثهم على السلام المعهود الذي يخرج به عن الصلاة وهو سلام التحلل ويبطل أيضا حملهم على السلام الذي في التشهدان سجود السهو لا يكون إلا بعد التسليمتين اتفاقا. وأما الجواب عن أحاديثهم فنقول أما حديث الباب وهو حديث ابن بحينة فهو يخبر عن فعله
وفي أحاديثنا ما يخبر عن قوله فالعمل بقوله أولى على أنه قد تعارض فعلاه لأن في أحاديثهم أنه
سجد للسهو قبل السلام وفي أحاديثنا سجد بعد السلام ففي مثل هذا المصير إلى قوله أولى وقد يقال أن سجوده بعد السلام إنما كان لبيان الجواز قبل السلام لا لبيان المسنون وقال بعض الشافعية وللشافعي قول آخر أنه يتخير إن شاء قبل السلام وإن شاء بعده والخلاف عندنا في الأجزاء وقيل في الأفضل وادعى الماوردي اتفاق الفقهاء يعني جميع العلماء عليه وقال صاحب الذخيرة للحنفية لو سجد قبل السلام جاز عندنا قال القدوري هذا في رواية الأصول قال وروى عنهم أنه لا يجوز لأنه أداه قبل وقته
ووجه رواية الأصول أنه فعل حصل في مجتهد فيه فلا يحكم بفساده وهذا لو أمرناه بالإعادة يتكرر عليه السجود ولم يقل به أحد من العلماء وذكر صاحب الهداية أن هذا الخلاف في الأولوية وذكر ابن عبد البر كلهم يقولون لو سجد قبل السلام فيما يجب السجود بعده أو بعده فيما يجب قبله لا يضر وهو موافق لنقل الماوردي المذكور آنفا وقال الحازمي طريق الإنصاف أن نقول أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ ففيه انقطاع فلا يقع معارضا للأحاديث الثابتة وأما بقية الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولا وفعلا فهي وإن كانت ثابتة صحيحة ففيها نوع من تعارض غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم رواية صحيحة موصولة والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين انتهى. وأما حديث أبي سعيد فإن مسلما أخرجه منفردا به ورواه مالك مرسلا (فإن قلت) قال الدارقطني القول لمن وصله (قلت) قال البيهقي الأصل الإرسال. وأما حديث معاوية فإن النسائي أخرجه من حديث ابن عجلان عن محمد بن يوسف مولى عثمان عن أبيه عنه ثم قال ويوسف ليس بمشهور. وأما حديث أبي هريرة فهو منسوخ. وأما حديث ابن عباس فإنه من حديث ابن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس ورواه أبو علي الطوسي في الأحكام عن يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا محمد بن إسحاق حدثني مكحول أن رسول الله
قال فذكره وقال الدارقطني رواه حماد بن سلمة عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلا ورواه ابن علية وعبد الله بن نمير والمحاربي عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلا ووصله يرجع إلى حسين بن عبد الله وإسماعيل بن مسلم وكلاهما ضعيفان. وأما حديث ابن مسعود فإن أبا عبيدة رواه عن أبيه ولم يسمع منه
وبقيت هنا أحكام أخرى. الأول أن في محل سجدتي السهو خمسة أقوال القولان للحنفية والشافعية ذكرناهما. والثالث مذهب المالكية فإن عندهم إن كان للنقصان فقبل السلام وإن كان للزيادة فبعد السلام وهو قول للشافعي. والرابع مذهب الحنابلة أنه يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله
وبعد السلام في المواضع التي سجد فيها بعد السلام وما كان من السجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام. والخامس مذهب الظاهرية أنه لا يسجد للسهو إلا في المواضع التي سجد فيها رسول الله
فقط وغير ذلك إن كان فرضا أتى به وإن كان ندبا فليس عليه شيء. والمواضع التي سجد فيها رسول الله
خمسة. أحدها قام من ثنتين على ما جاء به في حديث
302

ابن بحينة. والثاني سلم من ثنتين كما جاء في حديث ذي اليدين. والثالث سلم من ثلاث كما جاء به في حديث عمران بن حصين. والرابع أنه صلى خمسا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. والخامس السجود على الشك كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري
الحكم الثاني أن في الحديث دلالة على سنية التشهد الأول والجلوس له إذ لو كانا واجبين لما جبرا بالسجود كالركوع وغيره وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة كذا نقله صاحب التوضيح عن أبي حنيفة فإن كان مراده من السنة السنة المؤكدة يصح النقل عنه لأن السنة المؤكدة في قوة الواجب وفي المحيط قال الكرخي والطحاوي وبعض المتأخرين القعدة الأولى واجبة وقراءة التشهد فيها سنة عند بعض المشايخ وهو الأقيس وعند بعضهم واجبة وهو الأصح وقراءة التشهد في القعدة الأخيرة واجبة بالاتفاق
الحكم الثالث في أن التكبير مشروع لسجود السهو بالإجماع وفي التوضيح مذهبنا أن تكبير الصلوات كلها سنة غير تكبيرة الإحرام فهو ركن وهو قول الجمهور وأبو حنيفة يسمى تكبيرة الإحرام واجبة وفي رواية عن أحمد والظاهرية أن كلها واجبة (قلت) مذهب أبي حنيفة أن تكبيرة الإحرام فرض ونحن نفرق بين الفرض والواجب ولكنه شرط أو ركن فعندنا شرط وعند الشافعي ركن كما عرف في موضعه
الحكم الرابع في أنه هل يتشهد في سجود السهو أم لا فعندنا يتشهد وعند الشافعي في الصحيح لا يتشهد كما في سجود التلاوة والجنازة وقال ابن قدامة إن كان قبل السلام يسلم عقيب التكبير وإن كان بعده يتشهد ويسلم قال وبه قال ابن مسعود وقتادة والنخعي والحكم وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وعن النخعي يتشهد ولا يسلم وعن أنس والشعبي والحسن وعطاء ليس فيهما تشهد ولا تسليم وعن سعد بن أبي وقاص وعمار وابن أبي ليلى وابن سيرين وابن المنذر فيهما تسليم بغير تشهد وقال ابن المنذر التسليم فيهما ثابت من غير وجه وفي ثبوت التشهد عنه نظر وقال أبو عمر لا أحفظه مرفوعا من وجه صحيح وعن عطاء إن شاء يتشهد ويسلم وإن شاء لم يفعل (قلت) عندنا يسلم ثنتين وبه قال الثوري وأحمد ويسلم عن يمينه وشماله وفي المحيط ينبغي أن يسلم واحدة عن يمينه وهو قول الكرخي وبه قال النخعي كالجنازة وفي البدائع يسلم تلقاء وجهه في صفة السلام فهما روايتان عن مالك
الحكم الخامس في أنه لا يتكرر السجود فإنه
لما ترك التشهد الأول والجلوس له اكتفى بسجدتين وهو قول أكثر أهل العلم وعن الأوزاعي إذا سها عن شيئين مختلفين يكرر ويسجد أربعا وقال ابن أبي ليلى يتكرر السجود بتكرر السهو وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي سلمة إذا كان عليه سهوان في صلاة واحدة منه ما يسجد له قبل السلام ومنه ما يسجد له بعد السلام فليفعلهما
الحكم السادس في أن سجود السهو في التطوع كالفرض سواء وقال ابن سيرين وقتادة لا سجود في التطوع وهو قول غريب ضعيف للشافعي
الحكم السابع في أن متابعة الإمام عند القيام من هذا الجلوس واجبة أم لا فذكر في التوضيح أنها واجبة وقد وقع كذلك في الحديث ويجوز أن يكونوا علموا حكم هذه الحادثة أو لم يعلموا فسبحوا فأشار إليهم أن يقوموا نعم اختلفوا فيمن قام من اثنتين ساهيا هل يرجع إلى الجلوس فقالت طائفة بهذا الحديث أن من استتم قائما واستقل من الأرض فلا يرجع وليمض في صلاته وإن لم يستو قائما جلس وروى ذلك عن علقمة وقتادة وعبد الرحمن بن أبي ليلى وهو قول الأوزاعي وابن القاسم في المدونة والشافعي وقالت طائفة إذا فارقت أليته الأرض وإن لم يعتدل فلا يرجع ويتمادى ويسجد قبل السلام رواه ابن القاسم عن مالك في المجموعة وقالت طائفة يقعد وإن كان
استتم قائما روي ذلك عن النعمان بن بشير والنخعي والحسن البصري إلا أن النخعي قال يجلس ما لم يستتم القراءة وقال الحسن ما لم يركع وقد روى عن
303

عمر وابن مسعود ومعاوية وسعيد والمغيرة بن شعبة وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنهم أنهم قاموا من اثنتين فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا وقالوا أن النبي
كان يفعل ذلك وفي قول أكثر العلماء أن من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من ثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبي زيد عن سحنون أنه قال أفسد الصلاة رجوعه والصواب قول الجماعة
الحكم الثامن فيمن سها في سجدتي السهو لا سهو عليه قاله النخعي والحكم وحماد والمغيرة وابن أبي ليلى والحسن
الحكم التاسع أن سجود السهو واجب عند أبي حنيفة لوجود الأمر به في غير حديث لقوله
في حديث أبي هريرة المتفق عليه ' فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين ' وذهب الشافعي إلى أن سجود السهو سنة يجوز تركه والحديث حجة عليه وقال ابن شبرمة في رجل نسي سجدتي السهو حتى يخرج من المسجد قال يعيد الصلاة (فإن قلت) روى الطبراني من حديث ابن عمر أن النبي
لم يسجد يوم ذي اليدين (قلت) في إسناده عبد الله بن عمر العمري وهو مختلف في الاحتجاج به ولئن سلمنا صحته فإنه لا يقاوم حديث أبي هريرة فافهم
248 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه أنه قال صلى لنا رسول الله
ركعتين من بعض الصلوات ثم قام فلم يجلس فنام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم)
مطابقته للترجمة في قوله ' صلى لنا رسول الله
ركعتين من بعض الصلوات ثم قام ' وهذا الحديث نحو الحديث الأول غير أن مالكا يروي عن يحيى بن سعيد فيه وههنا يروي عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم الزهري وفيه زيادة وفي أكثر النسخ هذا الحديث مذكور قبل الحديث الأول قوله ' من بعض الصلوات ' بين ذلك في الحديث السابق أنها صلاة الظهر قوله ' ثم قام ' أي إلى الثالثة وزاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج ' فسبحوا به فمضى حتى فرغ من صلاته ' أخرجه ابن خزيمة قوله ' فلما قضى صلاته ' أي لما فرغ منها وليس المراد منه القضاء الذي يقابل الأداء قوله ' ونظرنا تسليمه ' أي انتظرنا وفي رواية شعيب ' وانتظر الناس تسليمه ' قوله ' وهو جالس ' جملة اسمية وقعت حالا من الضمير الذي في ' فسجد ' قوله ' ثم سلم ' زاد في رواية يحيى بن سعيد ' ثم سلم بعد ذلك ' وسيأتي في رواية الليث ' وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس '
(ويستفاد منه أشياء) الأول في قوله ' فلما قضى صلاته ' دلالة على أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته وهو مذهب أبي حنيفة وقال بعضهم وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من صلاته ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجة من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج ' حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم ' فدل أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ مقبولة انتهى (قلت) أصحابنا ما اكتفوا بهذا في عدم فرضية السلام حتى يذكر هذا القائل التعقب بل احتجوا أيضا بحديث ' عبد الله بن مسعود أن نبي الله
أخذ بيده فعلمه التشهد ' وفي آخره ' إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم وإن شئت أن تقعد فاقعد ' رواه أبو داود وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وإسحاق في مسنده وهذا ينافي فرضية السلام في الصلاة لأنه
خير المصلي بعد القعود بقوله ' إن شئت ' أي آخره وهم تمسكوا بقوله
' تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ' ومعناه لا يخرج من الصلاة إلا به ونحن نمنع إثبات الفرضية بخبر الواحد على أن مدار هذا الحديث على عبد الله بن محمد بن عقيل وعلى أبي سفيان من طريق ابن شهاب وكلاهما ضعيفان والعجب من هذا القائل أنه يجوز للراوي حذف شيء من الحديث لوضوحه وكيف يجوز التصرف في كلام النبي
بالزيادة والنقصان ولا سيما في باب الأحكام *
304

الثاني فيه الدلالة على مشروعية سجدتي السهو وأن المشروع سجدتان فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا أو عامدا ليس عليه شيء وذكر بعضهم أنه لو تركها عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة (قلت) كيف تبطل الصلاة إذا زاد فيها شيئا من جنسها
الثالث فيه أن سجدتي السهو قبل السلام وقد ذكرنا الخلاف فيه مع حججه فيما مضى.
الرابع فيه أن المأموم يسجد مع الإمام سجدتي السهو إذا سها الإمام وإن سها المأموم لم يلزمه ولا الإمام وفي مبسوط أبي اليسر ويسجد المسبوق مع الإمام للسهو سواء أدركه في القعدة أو في وسط الصلاة
الخامس فيه أن السهو والنسيان جائزان على الأنبياء عليهم الصلاة وأزكى السلام فيما طريقه التشريع.
السادس فيه أن محل سجدتي السهو آخر الصلاة.
((باب إذا صلى خمسا))
أي هذا باب يذكر فيه إذا صلى المصلي الرباعية خمس ركعات وأشار بهذا إلى التفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان وبين ما إذا كان بالزيادة ففي الباب الأول كان السجود قبل السلام وفي هذا بعد السلام وإلى التفرقة ذهب مالك كما ذكرناه.
249 - (حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فقال وما ذاك قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم)
مطابقته للترجمة ظاهرة ومضى هذا الحديث بعينه في باب ما جاء في القبلة فإنه أخرجه هناك عن مسدد عن يحيى عن شعبة عن الحكم إلى آخره وهنا عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك عن شعبة بن الحجاج عن الحكم بفتحتين ابن عتيبة عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه والتفاوت بينهما يسير سندا ومتنا فاعتبر ذلك بالنظر وأخرجه أيضا في باب التوجه نحو القبلة بأطول منه عن عثمان عن جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال قال عبد الله صلى النبي
إلى آخره وقد ذكرنا هناك أن حديث عثمان أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وحديث أبي الوليد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. فلفظ مسلم ' أن النبي
صلى الظهر خمسا فلما سلم قيل أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا فسجد سجدتين ' وفي لفظ له ' صلى بنا رسول الله
خمسا فقلنا يا رسول الله أزيد في الصلاة قال وما ذاك قالوا صليت خمسا قال إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو ' وفي لفظ له ' صلى رسول الله
فزاد أو نقص قال إبراهيم والوهم مني فقيل يا رسول الله أزيد في الصلاة شيء فقال إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس ثم تحول رسول الله
فسجد سجدتين ' وفي لفظ له ' أن النبي
سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام ' وفي لفظ له ' قال صلينا مع رسول الله
فإما زاد أو نقص قال إبراهيم وأيم الله ما جاء ذاك إلا من قبلي قال قلنا يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال لا قال قلنا له الذي صنع فقال إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين قال ثم سجد سجدتين ' وفي لفظ أبي داود قال ' صلى رسول الله
الظهر خمسا ' والباقي نحو لفظ البخاري وفي لفظ له ' قال عبد الله صلى رسول الله
قال إبراهيم فلا أدري أزاد أم نقص فلما سلم قيل يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قالوا صليت كذا وكذا قال فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد بهم سجدتين ثم سلم فلما انفتل أقبل علينا بوجهه فقال أنه لو أحدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين ' وفي لفظ له ' فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين ثم تحول فسجد سجدتين ' وفي لفظ له ' قال عبد الله صلى بنا رسول الله
خمسا فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال
305

ما شأنكم قالوا يا رسول الله هل زيد في الصلاة قال لا قالوا فإنك قد صليت خمسا فانفتل فسجد سجدتين ثم سلم ثم قال إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ' ولفظ الترمذي ' أن النبي
صلى الظهر خمسا فقيل له أزيد في الصلاة فسجد سجدتين بعدما سلم ' وفي لفظ له ' سجد سجدتين بعد الكلام ' * ولفظ النسائي ' قال عبد الله صلى رسول الله
فزاد أو نقص فقيل يا رسول الله هل حدث في الصلاة شيء قال لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكموه ولكني إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فأيكم ما شك في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ويسجد سجدتين ' وفي لفظ له ' صلى رسول الله
فزاد فيها أو نقص فلما سلم قلنا يا نبي الله هل حدث في الصلاة شيء قال وما ذاك قال فذكرنا له الذي فعل فثنى رجله فاستقبل القبلة فسجد سجدتي السهو ثم أقبل علينا بوجهه فقال لو حدث في الصلاة شيء لأنبأتكم به ثم قال إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فأيكم أنسى في صلاته شيئا فليتحر الذي يرى أنه هو صواب ثم يسلم ثم يسجد سجدتي السهو ' وفي لفظ له ' إذا أوهم أحدكم في صلاته فليتحر أقرب ذلك من الصواب ثم ليتم عليه ثم يسجد سجدتين ' ولفظ ابن ماجة ' قال عبد الله صلى رسول الله
صلاة لا ندري أزاد أو نقص فسأل فحدثاه فثنى رجله واستقبل الصلاة وسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل علينا بوجهه فقال لو حدث في الصلاة شيء لأنبأتكموه وإنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وأيكم ما شك في الصلاة فليتحر أقرب ذلك من الصواب فيتم عليه ويسجد سجدتين ' وقد استقصينا الكلام في هذا في باب التوجه نحو القبلة
(ذكر معناه) قوله ' صلى الظهر خمسا ' أي خمس ركعات فهنا جزم بأن الذي صلى كان خمسا وقد مر في باب التوجه إلى القبلة في رواية منصور عن إبراهيم وفيه قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص قوله ' قيل له ' أي لرسول الله
قوله أزيد الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار قوله ' وما ذاك ' أي وما سؤالكم عن الزيادة في الصلاة قوله ' فسجد سجدتين ' أي للسهو قوله ' بعدما سلم ' كلمة ما مصدرية أي بعد سلام الصلاة
(ذكر ما يستفاد منه) هذا الحديث حجة لأبي حنيفة وأصحابه أن سجدتي السهو بعد السلام وإن كانت للزيادة وقال بعضهم وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه هل زيد في الصلاة وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو ورد بأنه وقع في حديث ابن مسعود هذا في لفظ مسلم في الزيادة أنه أمر بالإتمام والسلام ثم بسجدتي السهو وهو قوله ' إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين ' والشك
بالسهو غير العلم به وعورض بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم ولفظه ' إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم ' وأجيب بأن التعارض إذا كان بين القولين يصار إلى جانب الفعل لسلامته عن المعارض وإذا كان بين القول والفعل يصار إلى جانب القول لقوته أو يقال كان ذلك منه
لبيان الجواز والتوسع في الأمرين وقال ابن خزيمة لا حجة للعراقيين في حديث ابن مسعود لأنهم خالفوه فقالوا إن جلس المصلي في الرابعة مقدار التشهد يضاف إلى الخامسة سادسة ثم سلم وسجد للسهو وإن لم يجلس في الرابعة لم تصح صلاته ولم ينقل في حديث ابن مسعود إضافة سادسة ولا إعادة ولا بد من أحدهما عندهم ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها (قلت) لا نسلم أنهم خالفوه فلو وقف هذا المعترض على مدارك هذه الصورة لما قال ذلك. المدرك الأول أن القعدة الأخيرة فرض عندهم فلو ترك شخص فرضا من فروض الصلاة تبطل صلاته. المدرك الثاني أنه حين قام إلى السادسة بعد القعود صار شارعا في صلاة أخرى بناء على التحريمة الأولى لأنها شرط عندهم وليس بركن. المدرك الثالث أن الصلاة بركعة واحدة منهية عندهم كما ثبت ذلك في موضعه فإذا كان كذلك فبالضرورة من إضافة ركعة أخرى إليها ليخرج عن البتيراء. المدرك الرابع أن التسليم في آخر الصلاة غير فرض عندهم فبتركه لا تبطل صلاته فإذا وقف أحد على هذه المدارك لا يصدر منه هذا الاعتراض ويحرم عليه أن ينسب أحدا إلى مخالفة السنة بعد العلم بها وقال النووي في قوله ' أزيد في الصلاة ' دليل لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف أن من زاد في صلاته ركعة ناسيا لم تبطل صلاته بل إن علم بعد السلام فقد مضت صلاته صحيحة ويسجد للسهو وقال أبو حنيفة إذا
306

زاد ركعة ساهيا بطلت صلاته ولزمه إعادتها وقال أيضا إن كان تشهد في الرابعة ثم زاد خامسة أضاف إليها سادسة تشفعها وإن لم يكن تشهد بطلت صلاته وهذا الحديث يرد عليه وهو حجة للجمهور (قلت) لا نسلم صحة النقل عن أبي حنيفة ببطلان صلاته إذا زاد ركعة سادسة ساهيا والظاهر من حال النبي
أنه قعد على الرابعة لأن حمل فعله على الصواب أحسن من حمله على غيره وهو اللائق بحاله على أن المذكور فيه صلى الظهر خمسا والظهر اسم للصلاة المعهودة في وقتها بجميع أركانها (فإن قلت) لم يرجع النبي
من الخامسة ولم يشفعها (قلت) لا يضرنا ذلك لأنا لا نلزمه بضم الركعة السادسة على طريق الوجوب حتى قال صاحب الهداية ولو لم يضم لا شيء عليه لأنه مظنون وقال صاحب البدائع والأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى ليصيرا نفلا إلا في العصر *
((باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول))
أي هذا باب يذكر فيه إذا سلم المصلي في ركعتين وكلمة في بمعنى من أو بمعنى على قوله ' أو في ثلاث ' أي أو سلم على ثلاث ركعات قوله ' مثل سجود الصلاة أو أطول ' أي أطول منه وهذا اللفظ في حديث أبي هريرة يأتي في الباب الثاني وهو قوله ' ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول '
250 - (حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى بنا النبي
الظهر أو العصر فسلم فقال له ذو اليدين الصلاة يا رسول الله أنقصت فقال النبي
لأصحابه أحق ما يقول قالوا نعم فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين. قال سعد ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقي وسجد سجدتين وقال هكذا فعل النبي
)
مطابقته للترجمة من حيث أن الحديث ينبئ أنه
سلم على آخر الركعتين وهذا ظاهر ولكن ليس في الباب ذكر ما إذا سلم على آخر ثلاث ركعات وأخرج البخاري هذا الحديث في باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس من طريقين. أحدهما عن عبد الله بن مسلمة عن مالك بن أنس عن أيوب عن محمد بن سيرين ' عن أبي هريرة أن رسول الله
انصرف من اثنتين ' إلى آخره. والآخر عن أبي الوليد عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقد ذكر البخاري هذا الحديث مطولا في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق بحديث ذي اليدين مستقصى فمن أراد ذلك فليرجع إلى ذاك الباب قوله ' صلى بنا النبي
الظهر ' ظاهره أن أبا هريرة حضر القصة وذو اليدين استشهد ببدر قاله الزهري ومقتضاه أن تكون القصة قبل بدر وهي قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين ولكن معنى قول أبي هريرة ' صلى بنا ' أي صلى بالمسلمين وهذا جائز في اللغة كما روي عن النزال بن سبرة قال ' قال لنا رسول الله
أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف ' الحديث والنزال لم ير رسول الله
وإنما أراد بذلك قال لقومنا وروى ' عن طاوس قال قدم علينا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فلم يأخذ من الخضراوات شيئا ' وإنما أراد قدم بلدنا لأن معاذا قدم اليمن في عهد رسول الله
قبل أن يولد طاوس وقال بعضهم اتفق أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك وسببه أنه جعل القصة لذي الشمالين وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمرو بن نضلة وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي
وهو سلمي واسمه الخرباق وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة ' عن أبي هريرة فقام رجل من بني سليم ' فلما وقع عند الزهري بلفظ ' فقام ذو الشمالين ' وهو يعرف أنه قتل ببدر قال لأجل ذلك أن القصة وقعت قبل بدر انتهى (قلت) وقع في كتاب النسائي أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد كلاهما لقب على الخرباق حيث قال أخبرنا
محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي
307

سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة ' عن أبي هريرة قال صلى النبي
الظهر أو العصر فسلم من ركعتين فانصرف فقال له ذو الشمالين ابن عمرو أنقصت الصلاة أم نسيت قال النبي
ما يقول ذو اليدين قالوا صدق يا رسول الله فأتم بهم الركعتين اللتين نقص ' وهذا سند صحيح متصل صرح فيه بأن ذا الشمالين هو ذو اليدين وروى النسائي أيضا بسند صحيح صرح فيه أيضا أن ذا الشمالين هو ذو اليدين وقد تابع الزهري على ذلك عمران بن أبي أنس قال النسائي أخبرنا عيسى بن حماد أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة ' عن أبي هريرة أن رسول الله
صلى يوما فسلم في ركعتين ثم انصرف فأدركه ذو الشمالين فقال يا رسول الله أنقصت الصلاة أم نسيت فقال لم تنقص الصلاة ولم أنس قال بلى والذي بعثك بالحق قال رسول الله
أصدق ذو اليدين قالوا نعم فصلى بالناس ركعتين ' وهذا أيضا سند صحيح على شرط مسلم وأخرج نحوه الطحاوي عن ربيع المؤذن عن شعيب بن الليث عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب إلى آخره فثبت أن الزهري لم يهم ولا يلزم من عدم تخريج ذلك في الصحيحين عدم صحته فثبت أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد والعجب من هذا القائل أنه مع اطلاعه على ما رواه النسائي من هذا كيف اعتمد على قول من نسب الزهري إلى الوهم ولكن أريحية العصبية تحمل الرجل على أكثر من هذا وقال هذا القائل أيضا وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة لكل من ذي الشمالين وذي اليدين وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما وهو قصة ذي الشمالين وشاهد الآخر وهو قصة ذي اليدين وهذا يحتمل في طريق الجمع (قلت) هذا يحتاج إلى دليل صحيح وجعل الواحد اثنين خلاف الأصل وقد يلقب الرجل بلقبين وأكثر وقال أيضا ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ ' بينما أنا أصلي مع رسول الله
صلاة الظهر سلم رسول الله
من ركعتين فقام رجل من بني سليم واقتص ' الحديث (قلت) هذا الحديث رواه مسلم من خمس طرق فلفظه من طريقين ' صلى بنا ' وفي طريق ' صلى لنا ' وفي طريق ' أن رسول الله
صلى ركعتين ' وفي طريق ' بينما أنا أصلي ' وفي ثلاث طرق التصريح بلفظ ذي اليدين وفي الطريقين بلفظ رجل من بني سليم وفي الطريق الأول إحدى صلاتي العشي إما الظهر أو العصر بالشك وفي الثاني إحدى صلاتي العشي من غير ذكر الظهر والعصر بدون اليقين وفي الثالث صلاة العصر بالجزم وفي الرابع والخامس صلاة الظهر بالجزم فهذا كله يدل على اختلاف القضية وإلا يكون فيها إشكال فإذا كان الأمر كذلك يحتمل أن يكون الرجل المذكور الذي نص عليه أنه من بني سليم غير ذي اليدين وأن تكون قضيته غير قضية ذي اليدين وأن أبا هريرة شاهد هذا حتى أخبر عن ذلك بقوله ' بينا أنا أصلي ' وكون ذي اليدين من بني سليم على قول من يدعي ذلك لا يستلزم أن لا يكون غيره من بني سليم وقال هذا القائل أيضا والظاهر أن الاختلاف فيه أي في المذكور من إحدى صلاتي العشى والعصر والظهر من الرواة وأبعد من قال يحمل على أن القضية وقعت مرتين (قلت) أن الحمل على التعدد أولى من نسبة الرواة إلى الشك (فإن قلت) روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة ولفظه ' صلى النبي
إحدى صلاتي العشى قال ولكني نسيت ' فالظاهر أن أبا هريرة رواه كثيرا على الشك وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها وتارة غلب على ظنه أنها العصر فجزم (قلت) ليس في الذي رواه النسائي من الطريق المذكور شك وإنما صرح أبو هريرة بأنه نسي والنسيان غير الشك وقوله فالظاهر إلى آخره غير ظاهر فلا دليل على ظهوره من نفس المتون ولا من الخارج يعرف هذا بالتأمل قوله ' فسلم ' يعني على آخر الركعتين وزاد أبو داود من طريق معاذ عن شعبة ' في الركعتين ' قوله ' قال سعد ' يعني سعد بن إبراهيم المذكور في سند الحديث وهو بالإسناد المذكور وأخرجه ابن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن سعد فذكره وقال أبو نعيم رواه يعني البخاري عن آدم عن شعبة وزاد قال سعد ورأيت عروة إلى آخره وأورده الإسماعيلي من طريق معاذ ويحيى عن شعبة حدثنا سعد بن إبراهيم سمعت أبا سلمة عن أبي هريرة الحديث ثم قال في آخره ورواه غندر (فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين ' لم يقل ثم سلم ثم سجد قال لم يتضمن هذا
308

الحديث ما ذكره في الترجمة وخرج ما ذكره من ترجمة هذا الباب في الباب الذي يليه وكذا قال ابن التين لم يأت في الحديث شيء مما يشهد للسلام من ثلاث قوله ' الصلاة يا رسول الله أنقصت ' الصلاة مرفوع لأنه مبتدأ وخبره قوله ' أنقصت ' ويروى ' نقصت ' بدون همزة الاستفهام ويجوز في نون نقصت الفتح على أن يكون لازما ويجوز ضمها على أن يكون متعديا وقوله ' يا رسول الله ' جملة معترضة بين المبتدأ والخبر قوله ' أحق ما يقول ' يجوز في إعرابه وجهان أحدهما أن يكون لفظ حق مبتدأ دخلت عليه همزة الاستفهام وقوله ' ما يقول ' ساد مسد الخبر والآخر أن يكون أحق خبرا وما يقول مبتدأ قوله ' أخريين ' ويروى ' أخراوين ' على خلاف القياس وقال الكرماني (فإن قلت) كيف بنى الصلاة على الركعتين وقد فسدتا بالكلام (قلت) كان ساهيا لأنه كان يظن أنه خارج الصلاة (قلت) في هذا اختلاف العلماء فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحق إلى أن كلام القوم في الصلاة لإمامهم لإصلاح الصلاة مباح وكذا الكلام من الإمام لأجل السهو لا يفسدها وقال أبو عمر ذهب الشافعي وأصحابه إلى أن الكلام والسلام ساهيا في الصلاة لا يفسدها كقول مالك وأصحابه سواء وإنما الخلاف بينهما أن مالكا يقول لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في إصلاحها وهو قول ربيعة وابن القاسم إلا ما روي عنه في المنفرد وهو قول أحمد وقال عياض وقد اختلف قول مالك وأصحابه في التعمد بالكلام لإصلاح الصلاة من الإمام والمأموم ومنع ذلك بالجملة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأهل الظاهر وجعلوه مفسدا للصلاة إلا أن أحمد أباح ذلك للإمام وحده وسوى أبو حنيفة بين العمد والسهو (فإن
قلت) كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم بعد في الصلاة (قلت) أجاب النووي بوجهين أحدهما أنهم لم يكونوا على اليقين من البقاء في الصلاة لأنهم كانوا مجوزين لنسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين والآخر أن هذا كان خطابا للنبي
وجوابا وذلك لا يبطل عندنا ولا عند غيرنا وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح ' أن الجماعة أومأوا أي أشاروا نعم ' فعلى هذه الرواية لم يتكلموا (قلت) الكلام والخروج من المسجد ونحو ذلك كله قد نسخ حتى لو فعل أحد مثل هذا في هذا اليوم بطلت صلاته والدليل عليه ما رواه الطحاوي ' أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان مع النبي
يوم ذي اليدين ثم حدث به تلك الحادثة بعد النبي
فعمل فيها بخلاف ما عمل
يومئذ ولم ينكر عليه أحد ممن حضر فعله من الصحابة وذلك لا يصح أن يكون منه ومنهم إلا بعد وقوفهم على نسخ ما كان منه
يوم ذي اليدين *
((باب من لم يتشهد في سجدتي السهو))
أي هذا باب في بيان من لم يتشهد في سجدتي السهو يعني يسجد سجدتين للسهو فقط ولا يتشهد وقال بعضهم أي إذا سجدهما بعد السلام من الصلاة وأما قبل السلام فالجمهور على أنه لا يعيد التشهد (قلت) لم يشر البخاري إلى هذا التفصيل أصلا لا في الترجمة ولا في الذي ذكره في الباب وإنما أراد بهذه الترجمة الإشارة إلى بيان من لا يرى التشهد في سجدتي السهو وهو مذهب سعد وعمار وابن سيرين وابن أبي ليلى فإنهم قالوا من عليه السهو يسجد ويسلم ولا يتشهد وقال أنس والحسن وعطاء وطاوس ليس في سجدتي السهو تشهد ولا سلام وقال ابن مسعود والشعبي والثوري وقتادة والحكم والليث وحماد يتشهد ويسلم وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وفي التوضيح والأصح عندنا لا يتشهد وهو ما حكاه الطحاوي عن الشافعي والأوزاعي. وهنا قول رابع إن سجد قبل السلام لا يتشهد وإن سجد بعده يتشهد رواه أشهب عن مالك وهو قول ابن الماجشون وأحمد
(وسلم أنس والحسن ولم يتشهدا)
أي سلم أنس بن مالك والحسن البصري عقيب سجدتي السهو ولم يتشهدا وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة وقال حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب أن أنس بن مالك قعد في الركعة الثانية فسبحوا به فقام وأتمهن أربعا فلما سلم سجد سجدتين ثم أقبل على القوم بوجهه وقال افعلوا هكذا وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن وأنس أنهما سجدا للسهو بعد السلام ثم قاما ولم يسلما *
309

(وقال قتادة لا يتشهد)
لأنه روى عن شيخه أنس والحسن أنهما لم يتشهدا فذهبا فيه إلى ما ذهبا إليه قال بعضهم وفيه نظر فقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال يتشهد في سجدتي السهو ويسلم فلعل لا في الترجمة زائدة (قلت) في نظره نظر لجواز أن يكون عن قتادة روايتان فإذا قيل بزيادة لا فيما ذكره البخاري فللقائل أن يقول لعلها سقطت فيما رواه عبد الرزاق وقوله أيضا فلعل لا في الترجمة زائدة ليس كذلك فإن الترجمة ليست فيها كلمة لا وإنما ظنه بالزيادة في الأثر الذي ذكره عن قتادة
251 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك بن أنس عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله فقال رسول الله
أصدق ذو اليدين فقال الناس نعم فقام رسول الله
فصلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع)
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه
لم يتشهد في هذه الصورة وادعى ابن المهلب أنه ليس في حديث ذي اليدين تشهد ولا تسليم قيل يحتمل ذلك وجهين أحدهما أن يكون
تشهد فيها وسلم ولم ينقل ذلك المحدث والثاني أنه لم يتشهد فيهما ولا سلم وألحق المسلمون بهاتين السجدتين سنن الصلاة تأكيدا لهما وقال ابن المنذر في التسليم فيهما أنه ثابت عن رسول الله
من غير وجه وفي ثبوت التشهد عنه نظر والحديث قد مر في باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس بعينه بهذا الإسناد والمتن بلا اختلاف قوله ' ثم رفع ' أي رفع رأسه من السجدتين ولم يتشهد ولم يسلم واستشكل بعضهم في قوله ' فقام رسول الله
' لأنه كان قائما (وأجيب) بأن المراد بقوله ' فقام ' أي اعتدل لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقيل هو كناية عن الدخول في الصلاة
252 - (حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد عن سلمة بن علقمة. قال قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة)
مطابقته للترجمة ظاهرة وحماد هو ابن زيد وسلمة بفتح اللام ابن علقمة أبو بشر التميمي البصري ومحمد هو ابن سيرين وفي رواية أبي نعيم في المستخرج ' سألت محمد بن سيرين ' قوله ليس في حديث أبي هريرة يعني ليس فيه تشهد وفي رواية أبي نعيم ' فقال لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئا وأحب إلى أن يتشهد ' وقد ورد التشهد في حديث غيره من ذلك ما رواه أبو داود من رواية أبي المهلب ' عن عمران بن حصين أن النبي
صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم ' وأخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب أخرجه النسائي أيضا وأخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وأخرجه ابن حبان أيضا *
((باب يكبر في سجدتي السهو))
أي هذا باب يذكر فيه أن الساهي في صلاته يكبر في سجدتي السهو وفي بعض النسخ باب من يكبر في سجدتي السهو فجمهور العلماء على الاكتفاء بتكبير السجود وبذلك يشهد غالب الأحاديث وحكى القرطبي أن قول مالك مختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو قال وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام قال ويؤيده ما رواه أبو داود من
310

طريق حماد بن زيد عن هاشم بن حسان عن ابن سيرين في حديث الباب ' ثم رفع وكبر ثم كبر وسجد للسهو ' وهذا يدل على تكبيرتين إحداهما تكبيرة الإحرام والأخرى تكبيرة السجدة ولكن أشار أبو داود إلى شذوذ هذه الرواية حيث قال وقال أبو داود ولم يقل أحد فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد
253 - (حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى النبي
إحدى صلاتي العشي. قال محمد وأكثر ظني العصر ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فهابا أن يكلماه وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة ورجل يدعوه النبي
ذا اليدين فقال أنسيت أم قصرت فقال لم أنس ولم تقصر قال بلى قد نسيت فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم وضع رأسه فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر)
مطابقته للترجمة ظاهرة ويزيد من الزيادة هو ابن إبراهيم التستري ومحمد هو ابن سيرين والإسناد كله بصريون وقد مضى الحديث في باب تشييك الأصابع في المسجد وغيره فإنه أخرجه هناك عن إسحاق عن ابن شميل عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة إلى آخره وهناك بعض زيادة تعلم عند الرجوع إليه وتكلمنا هناك أيضا على ما يحتاج إليه من الأشياء المتعلقة به قوله ' قال محمد ' هو ابن سيرين قوله ' في مقدم المسجد ' بتشديد الدال المفتوحة أي في جهة القبلة وفي رواية ابن عون ' فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ' أي موضوعة بالعرض وفي رواية مسلم من طريق ابن عيينة عن أيوب ' ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليها مغضبا ' قوله ' فهابا أن يكلماه ' وفي رواية ابن عون ' فهاباه ' بزيادة الضمير والمعنى أنهما غلب عليهما احترام النبي
وتعظيمه عن الاعتراض عليه قوله ' سرعان الناس ' بالمهملات المفتوحة أي أخفاؤهم والمستعجلون منهم وأوائلهم ويلزم الإعراب نونه في كل وجه وهذا الوجه هو الصواب الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وهكذا ضبطه المتقنون وقال ابن الأثير السرعان بفتح السين والراء أوائل الناس الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة ويجوز تسكين الراء (قلت) وكذا نقل القاضي عن بعضهم قال وضبطه الأصيلي في البخاري بضم السين وإسكان الراء ووجهه أنه جمع سريع كقفيز وقفزان وكثيب وكثبان ومن قال سرعان بكسر السين فهو خطأ وقيل يقال أيضا بكسر السين وسكون الراء وهو جمع سريع كرعيل ورعلان وأما قولهم سرعان ما فعلت ففيه ثلاث لغات الضم والكسر والفتح مع إسكان الراء والنون مفتوحة أبدا قوله ' أقصرت الصلاة ' بهمزة الاستفهام وفي رواية ابن عون بحذفها ' وقصرت ' على صيغة المجهول ويروى على بناء الفاعل قال النووي هذا أكثر قوله ' ورجل يدعوه النبي
' أي يسميه ذا اليدين (فإن قلت) ما الرافع للرجل (قلت) هو مبتدأ تخصص بالصفة وهو قوله ' يدعوه النبي
' وخبره محذوف تقديره وهناك رجل وفي رواية ابن عون ' وفي القوم رجل في يده طول يقال له ذو اليدين '
254 - (حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ليث عن ابن شهاب عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة الأسدي حليف بني عبد المطلب أن رسول الله
قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس)
311

مطابقته للترجمة في قوله ' يكبر في كل سجدة ' وقد مضى هذا الحديث عن قريب في باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن الأعرج وهنا عن قتيبة عن ليث بن سعد عن ابن شهاب وهو محمد بن مسلم الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء قوله ' الأسدي ' بفتح الهمزة وسكون السين المهملة ومنهم من يقول الأزدي بالزاي موضع السين نسبة إلى أزد قوله ' بني عبد المطلب ' الصواب بني المطلب بإسقاط عبد لأن جده حالف المطلب بن عبد مناف
(تابعه ابن جريج عن ابن شهاب في التكبير)
أي تابع الليث عبد العزيز بن عبد الملك بن جريج في رواية عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في الإتيان بلفظ التكبير في سجدتي السهو وقد وصله عبد الرزاق عن ابن جريج وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ومحمد بن بكير كلاهما عن ابن جريج بلفظ ' فكبر فسجد ثم كبر فسجد ثم سلم ' *
((باب إذا لم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا سجد سجدتين وهو جالس))
أي هذا باب يذكر فيه إذا لم يدر المصلي كم صلى ثلاث ركعات أو أربع ركعات فإنه يسجد سجدتين والحال أنه جالس
255 - (حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام بن أبي عبد الله الدستوائي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله
إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع الأذان فإذا قضي الأذان أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر
كذا وكذا ما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى فإذا لم يدر أحدكم كم صلى ثلاثا أو أربعا فليسجد سجدتين وهو جالس)
مطابقته للترجمة في قوله ' فإذا لم يدر ' إلى آخره والحديث مضى في باب تفكر الرجل الشيء في الصلاة فإنه أخرجه هناك عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر عن الأعرج ومضى أيضا في باب فضل التأذين فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به ونذكر ههنا ما يتعلق بالمسائل مع بعض التعرض إلى بعض المتن قوله ' فإذا قضى التثويب ' أي إذا فرغ منه وهو إقامة الصلاة قوله ' حتى يخطر ' أكثر الرواة على ضم الطاء والمتقنون على أنه بالكسر قوله ' أن يدري ' بكسر الهمزة لأنها نافية أي ما يدري قوله ' فليسجد سجدتين وهو جالس ' ليس فيه تعيين محل السجود وقد رواه الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد مرفوعا ' إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم ' وروى أبو داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ ' وهو جالس قبل التسليم ' وروى أيضا من طريق ابن إسحاق قال حدثني الزهري بإسناده وقال فيه ' فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم ' (فإن قلت) هذه الروايات تدل على أن سجدتي السهو قبل السلام (قلت) روايات الفعل متعارضة فبقي لنا رواية القول وهو حديث ثوبان لكل سهو سجدتان بعدما يسلم من غير فصل بين الزيادة والنقصان سالما من المعارض فيعمل به لسلامته عن المعارض. ثم العلماء اختلفوا في المراد بالحديث المذكور فقال الحسن البصري وطائفة من السلف بظاهر هذا الحديث وقالوا إذا شك المصلي فلم يدر زاد أو نقص فليس عليه إلا سجدتان وهو جالس عملا بظاهر هذا الحديث وقال الشعبي والأوزاعي وجماعة كثيرة من السلف إذا لم يدر كم صلى لزمه أن يعيد الصلاة مرة بعد أخرى أبدا حتى يستيقن وقال بعضهم يعيد ثلاث مرات فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه وقال مالك والشافعي وأحمد وآخرون متى شك في صلاته هل
312

صلى ثلاثا أو أربعا لزمه البناء على اليقين فيجب أن يأتي برابعة ويسجد للسهو عملا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. فلفظ مسلم قال أبو سعيد قال رسول الله
' إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان ' ولفظ أبي داود ' إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتين وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمتين للشيطان ' أي مغيظتين له ومذلتين له مأخوذ من الرغام وهو التراب ومنه أرغم الله أنفه وإنما يكون إرغاما لأنه يبغض السجدة لأنه ما لعن إلا من إبائه عن سجود آدم عليه الصلاة والسلام قالت الشافعية فحديث أبي سعيد هذا مفسر لحديث أبي هريرة المذكور فيحمل حديث أبي هريرة عليه وقال أصحابنا إن كان الشك عرض له أول مرة يستقبل وإن كان يعرض له كثيرا بنى على أكبر رأيه لما رواه البخاري ومسلم ' إذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم عليه ' وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين لقوله
' إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنين فليبن على واحدة فإن لم يدر ثنتين صلى أو واحدة فليبن على ثنتين فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم ' رواه الترمذي من حديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت النبي
' يقول إذا سها أحدكم ' إلى آخره وقال حديث حسن صحيح رواه ابن ماجة أيضا ولفظه ' إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو ثنتين فليجعلها واحدة وإذا شك في الثنتين والثلاث فليجعلها ثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع فليجعلها ثلاثا ثم ليتم ما بقي من صلاته حتى يكون الوهم في الزيادة ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ' وأخرجه الحاكم في المستدرك ولفظه ' فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليتم فإن الزيادة خير من النقصان ' وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في مختصره فيه عمار بن مطر الرهاوي وقد تركوه وعمار ليس في السنن وحديث أبي هريرة هذا فيما إذا شك ثم تحرى الصواب فإنه يبني على أكبر رأيه لما قلنا وتبويب أبي داود يدل على هذا حيث قال باب من قال يتم على أكبر ظنه وذكر الطبري عن بعض أهل العلم أنه يأخذ بأيهما أحب لعدم التاريخ قال ومنهم من رجح حديث أبي سعيد بالقياس لأن من شك أنه لم يفعل والركعة في ذمته بيقين فلا يبرأ بشك وفي التوضيح وقال أبو عبد الملك حديث أبي هريرة يحمل على كل ساه وأن حكمه السجود ويرجع في بيان حكم المصلي فيما يشك فيه وفي موضع سجوده من صلاته إلى سائر الأحاديث المفسرة وهو قول أنس وأبي هريرة والحسن وربيعة ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور وإسحق وما حمله عليه أبو عبد الملك هو ما فسره الليث بن سعد قاله مالك وابن القاسم وعن مالك قول آخر لا يسجد له أيضا حكاه ابن نافع عنه وقال ابن عبد الحكم لو سجد بعد السلام كان أحب إلي وقال آخرون إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدا حتى يحفظ روي عن ابن عباس وابن عمر والشعبي وشريح وعطاء وميمون بن مهران وسعيد بن جبير وقول آخر أنهم إذا شكوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات فإذا كان الرابعة لم يعيدوها والقولان مخالفان للآثار ولا معنى لمن حد ثلاث مرات وقال النووي وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إن حصل له الشك أول مرة بطلت صلاته وإن صار عادة له اجتهد وعمل بغالب ظنه وإن لم يظن شيئا عمل بالأقل ثم قال قال أبو حامد قال الشافعي في القديم ما رأيت قولا أقبح من قول أبي حنيفة هذا ولا أبعد من السنة (قلت) النقل عن إمام بما ليس قوله والتشنيع عليه بغير وجه أقبح من هذا فكيف رأى النووي نقل هذا التشنيع الباطل عمن فيه ميل إلى التعصب الفاحش عن مثل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه الذي شهد لأبي حنيفة بأن الناس عيال له في الفقه وهذا الذي نقله عن أبي حنيفة ونقله أيضا ابن قدامة وغيره من المخالفين ليس بصحيح ولا هو بموجود في أمهات كتب أصحابنا المشهورة بل المشهور فيها أنهم قالوا يستقبل لتقع صلاته على وصف الصحة بيقين حتى قال أبو نصر البغدادي المشهور بالأقطع الاستئناف أولى لأنه يسقط به الشك بيقين ومع هذا فأبو حنيفة عمل في كل واحدة من الأحوال الثلاث بحديث مع كون قول ابن عمر مثله وروى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث ابن سيرين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال أما أنا فإذا لم أدر كم صليت فإني أعيد وروى من حديث جبير عن ابن عمر
313

في الذي لا يدري ثلاثا صلى أو أربعا قال يعيد حتى يحفظ وعن جرير بن منصور قال سألت ابن جبير عن الشك في الصلاة فقال أما أنا فإذا كان في المكتوبة فإني أعيد وعن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال يعيد وكان شريح يقول يعيد وعن ليث عن طاوس قال إذا صليت فلم تدر كم صليت فأعدها مرة فإن التبست عليك مرة أخرى فلا تعدها. وقال عطاء يعيدها مرة روى ذلك عنه مالك *
((باب السهو في الفرض والتطوع))
أي هذا باب في بيان حكم السهو في الفرض والتطوع هل هو سواء فيهما أو يفترق حكمهما ففيه خلاف والأثر والحديث اللذان في الباب يدلان على أن حكمه فيهما سواء أما الأثر فإن ابن عباس يرى أن الوتر غير واجب ومع ذلك سجد فيه وأما الحديث فإن قوله إذا صلى فإن الصلاة أعم من الفرض والتطوع على أن قوله
في حديث الباب الذي قبله ' إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان ' فالنداء غالبا يكون للفرض وقد اختلفوا في إطلاق الصلاة على الفرض والنفل هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي فذهب جمهور الأصوليين إلى الثاني وذهب الإمام فخر الدين الرازي إلى الأول
(وسجد ابن عباس رضي الله عنهما سجدتين بعد وتره)
مطابقته للترجمة من حيث أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يرى الوتر سنة ومع هذا سجد فيه فدل على أن حكمه في السنة مثل حكمه في الفرض ووصل هذا المعلق ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي العالية قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سجد بعد وتره سجدتين
256 - (حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
قال إن أحدكم إذا قام يصلي جاء الشيطان فلبس عليه حتى يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس)
مطابقته للترجمة ظاهرة وقد مضى الحديث في الباب الذي قبله مستوفي قوله ' فلبس ' بالباء الموحدة المخففة هو الصحيح أي خلط عليه أمر صلاته ومنهم من يثقل الباء من التلبيس *
((باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع))
أي هذا باب يذكر فيه إذا كلم المصلي والحال أنه في الصلاة فأشار بيده يعلمه أنه في الصلاة وكلم بضم الكاف على صيغة المجهول
257 - (حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال أخبرني عمرو عن بكير عن كريب أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر رضي الله عنهم أرسلوه إلى عائشة رضي الله عنها فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعا وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر وقل لها إنا أخبرنا أنك تصليهما وقد بلغنا أن النبي
نهى عنهما. وقال ابن عباس وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنها قال كريب فدخلت على عائشة رضي الله عنها فبلغتها ما أرسلوني به فقالت سل أم سلمة فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة بمثل
314

ما أرسلوني به إلى عائشة فقالت أم سلمة رضي الله عنها سمعت النبي
ينهى عنها ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار فأرسلت إليه الجارية فقلت قومي بجنبه قولي له تقول لك أم سلمة يا رسول الله سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما فإن أشار بيده فاستأخري عنه ففعلت الجارية فأشار بيده فاستأخرت عنه فلما انصرف قال يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان)
مطابقته للترجمة في قوله ' ففعلت الجارية ' أي قالت يا رسول الله فكلمته مثل ما قالت لها أم سلمة فأشار النبي
بيده وهذه عين الترجمة لأن رسول الله
كلم وهو في الصلاة فأشار بيده.
(ذكر رجاله) وهم أحد عشر. الأول يحيى بن سليمان بن يحيى أبو سعيد الجعفي مات بمصر سنة ثمان ويقال سنة سبع وثلاثين ومائتين قاله الحافظ المنذري. الثاني عبد الله بن وهب وقد تكرر ذكره. الثالث عمرو بن الحارث. الرابع بكير بضم الباء الموحدة تصغير بكر بن عبد الله بن الأشج. الخامس كريب بضم الكاف مولى ابن عباس. السادس عبد الله بن عباس. السابع المسور بكسر الميم ابن مخرمة بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء الزهري الصحابي. الثامن عبد الرحمن بن أزهر على وزن أفعل القريشي الزهري الصحابي عم عبد الرحمن بن عوف مات قبل الحرة وشهد حنينا مع النبي
. التاسع عائشة أم المؤمنين. العاشر أم سلمة أم المؤمنين واسمها هند بنت أبي أمية واسم أبي أمية حذيفة ويقال سهيل بن المغيرة. الحادي عشر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار مفردا في موضع وفيه العنعنة في موضع وفيه الإرسال والبلاغ وفيه القول في موضعين وفيه أن شيخه كوفي سكن مصر وابن وهب وعمرو مصريان والبقية مدنيون وفيه عمرو يروي عن اثنين وفيه ستة من الصحابة أربعة من الرجال وثنتان من النساء وفيه اثنان مذكوران باسم أبيه واثنان بالتصغير مجردان عن النسبة وواحد بلا نسبة أيضا وفيه أن شيخ البخاري من أفراده.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن سليمان وأخرجه مسلم في الصلاة عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن صالح عن ابن وهب
(ذكر معناه) قوله ' أرسلوه ' أي أرسلوا كريبا إلى عائشة قوله ' وسلها ' أصله اسألها قوله ' عن الركعتين ' أي صلاة الركعتين قوله ' أخبرنا ' على صيغة المجهول قيل كان المخبر عبد الله بن الزبير وروى ابن أبي شيبة من طريق ' عبد الله بن الحارث قال دخلت مع ابن عباس على معاوية فأجلسه معاوية على السرير ثم قال ما ركعتان يصليهما الناس بعد العصر قال ذلك ما يفتي به الناس ابن الزبير فأرسل إلى ابن الزبير فسأله فقال أخبرتني بذلك عائشة فأرسل إلى عائشة فقالت أخبرتني أم سلمة فأرسل إلى أم سلمة فانطلقت مع الرسول ' فذكر القصة واسم الرسول كثير بن الصلت سماه الطحاوي في روايته قال حدثنا أحمد بن داود قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي لبيد ' عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن معاوية بن أبي سفيان قال وهو على المنبر لكثير بن الصلت اذهب إلى عائشة فسلها عن ركعتي النبي
بعد العصر فقال أبو سلمة فقمت معه قال ابن عباس لعبد الله بن الحارث اذهب معه فجئناها فسألناها فقالت لا أدري سلوا أم سلمة قال فسألناها فقالت دخل علي رسول الله
ذات يوم بعد العصر فصلى ركعتين فقلت يا رسول الله ما كنت تصلي هاتين الركعتين فقال قدم علي وفد من بني تميم أو جاءتني صدقة فشغلوني عن ركعتين كنت أصليهما بعد الظهر وهما هاتان ' (قلت) كثير بن الصلت ابن معدي كرب الكندي أبو عبد الله المدني قيل أنه أدرك النبي
وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وكان كاتبا لعبد الملك بن مروان وهو أخو زبيد بن الصلت وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي الصحابي قوله ' إنك تصليهما ' بحذف النون في رواية الكشميهني وفي رواية غيره ' تصلينهما '
315

أي الركعتين ويروى ' تصليها ' بإفراد الضمير راجعا إلى الصلاة قوله ' وقال ابن عباس وكنت أضرب الناس ' من الضرب بالضاد المعجمة وهو الصحيح لأنه جاء في الموطأ كان عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الناس عليها وروى السائب بن يزيد أنه رأى عمر يضرب المنكدر على الصلاة بعد العصر وروى ' أصرف الناس ' من الصرف بالصاد المهملة والفاء قوله ' عنها ' أي عن الصلاة بعد العصر والمعنى لأجلها وفي رواية الكشميهني ' عنه ' أي عن فعل الصلاة وقوله ' وقال ابن عباس ' موصول بالإسناد المذكور وكذا قوله ' قال كريب ' موصول بالإسناد المذكور قوله ' سل أم سلمة ' أصله اسأل أم سلمة وفي رواية مسلم ' فقالت سل أم سلمة فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها فردوني إلى أم سلمة ' وفي رواية أخرى للطحاوي ' أن معاوية أرسل إلى عائشة يسألها عن السجدتين بعد العصر فقالت ليس عندي صلاهما ولكن أم سلمة حدثتني أنه صلاهما عندها فأرسل إلى أم سلمة فقالت صلاهما رسول الله
عندي لم أره صلاهما قبل ولا بعد فقلت يا رسول الله ما سجدتان رأيتك صليتهما بعد العصر ما رأيتك صليتهما قبل ولا بعد فقال هما سجدتان كنت أصليهما بعد الظهر فقدم علي قلائص من الصدقة فنسيتهما حتى صليت العصر ثم ذكرتهما فكرهت أن أصليهما في المسجد والناس يرونني فصليتهما عندك ' (قلت) القلائص جمع قلوص وهو من النوق الشابة وهي بمنزلة الجارية من النساء قوله ' ثم دخل ' أي النبي
قوله ' من بني حرام ' بحاء وراء مهملتين مفتوحتين وهم من الأنصار (فإن قلت) إذا كان بنو حرام من الأنصار فما الفائدة في قولها من الأنصار (قلت) يحتمل أن يكون هذا احترازا من غير الأنصار فإن في العرب عدة بطون يقال لهم بنو حرام بطن في تميم وبطن في جذام وبطن في بكر بن وائل وبطن في خزاعة وبطن في عذرة وبطن في بلى قوله ' فأرسلت إليه الجارية ' وفي رواية البخاري في المغازي ' فأرسلت إليه الخادم ' ولم يعلم اسمها قيل يحتمل أن تكون بنتها زينب (قلت) هذا حدس وتخمين قوله ' هاتين ' يعني الركعتين قوله ' يا بنت أبي أمية ' قد ذكرنا أن أبا أمية والد أم سلمة قوله ' عن الركعتين ' أي اللتين صليتهما الآن قوله ' ناس من عبد القيس ' وللبخاري في المغازي ' أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني ' وقد مر أن للطحاوي في رواية ' قدم علي وفد من بني تميم أو جاءتني صدقة فشغلوني ' وقال بعضهم قوله من تميم وهم وإنما هم من عبد القيس قلت لم يبين وجه الوهم قوله ' فهما هاتان ' أي اللتان سألتهما يا بنت أبي أمية هاتان الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما وقال بعضهم في رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أم سلمة عند الطحاوي من الزيادة ' فقلت أمرت بهما فقال لا ولكن كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما فصليتهما الآن ' وله من وجه آخر عنها ' لم أره صلاهما قبل ولا بعد ' لكن هذا لا ينفي الوقوع فقد ثبت في مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عنها فقالت كان يصليهما قبل العصر فشغل عنهما أو نسيهما أو صلاهما بعد العصر ثم أثبتهما وكان إذا صلى صلاة أثبتها أي داوم عليها ومن طريق عروة عنها ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط (قلت) أراد هذا القائل بما نقله من كلام الطحاوي الغمز عليه والطحاوي ما ادعى نفي الوقوع ولكن ادعى الانتفاء أعني انتفاء ما روي عن عائشة بما روي عن أم سلمة فإنه روى أولا ما روي عن عائشة من تسع طرق. إحداها من رواية الأسود ومسروق ' عن عائشة قالت ما كان اليوم الذي يكون عندي فيه رسول الله
إلا صلى ركعتين بعد العصر ' واحتج به قوم وقالوا لا بأس أن يصلي الرجل بعد العصر ركعتين على أنا نقول أن هذه الرواية التي رواها الطحاوي من طريق عبيد الله بن عبد الله غير حديث الباب فإن حديث الباب عن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأزهر وحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ' عن معاوية أنه أرسل إلى أم سلمة يسألها عن الركعتين اثنتين ركعهما رسول الله
بعد العصر فقالت نعم صلى رسول الله
عندي ركعتين بعد العصر فقلت أمرت بهما ' إلى آخر ما ذكرناه ورواه أحمد أيضا في مسنده حدثنا ابن نمير قال حدثنا طلحة بن يحيى قال زعم لي عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة أن معاوية أرسل إلى آخره نحوه ولكن فيه ' يا نبي الله أنزل عليك في هاتين السجدتين قال لا ' انتهى وجه الاستدلال للجمهور بذلك أنه
قال أمرت بها فدل ذلك أنها من خصائصه
316

والدليل على ذلك ما جاء في رواية أخرى ' عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا قال لا ' وبهذا بطل ما قال بعض الشافعية أن الأصل الاقتداء به
وعدم التخصيص حتى يقوم دليل به ولا دليل أعظم وأقوى من هذا وهنا شيء آخر يلزمهم وهو أنه
كان يداوم عليهما وهم لا يقولون به في الصحيح الأشهر فإن عورضوا يقولون هو من خصائص النبي
ثم في الاستدلال بالحديث يقولون الأصل عدم التخصيص وهذا كما يقال فلان مثل الظليم يستحمل عند الاستطارة ويستطير عند الاستحمال ويقال أنه صلى بعد العصر تبيينا لأمته أن نهيه
عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على وجه الكرامة لا على التحريم ويقال أنه صلاهما يوما قضاء لفائت ركعتي الظهر وكان
إذا فعل فعلا واظب عليه ولم يقطعه فيما بعد
(ذكر ما يستفاد منه) فيه جواز استماع المصلي إلى كلام غيره وفهمه له ولا يضر ذلك صلاته. وفيه أن إشارة المصلي بيده ونحوها من الأفعال الخفيفة لا تبطل الصلاة. وفيه أنه يستحب للعالم إذا طلب له تحقيق أمر مهم وعلم أن غيره أعلم أو أعرف بأصله أن يرسل إليه إذا أمكنه. وفيه الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم. وفيه من أدب الرسول أن لا يستقل بتصرف شيء لم يؤذن له فيه فإن كريبا لم يستقل بالذهاب إلى أم سلمة حتى رجع إليهم. وفيه قبول خبر الواحد والمرأة مع القدرة على اليقين بالسماع. وفيه لا بأس للإنسان أن يذكر نفسه بالكنية إذا لم يعرف إلا بها. وفيه ينبغي للتابع إذا رأى من المتبوع شيئا يخالف المعروف من طريقته والمعتاد من حاله أن يسأله بلطف عنه فإن كان ناسيا يرجع عنه وإن كان عامدا وله معنى مخصص عرفه للتابع واستفادة. وفيه إثبات سنة الظهر بعدها. وفيه إذا تعارضت المصالح والمهمات بدأ بأهمها ولهذا بدأ النبي
بحديث القوم في الإسلام وترك سنة الظهر حتى فات وقتها لأن الاشتغال بإرشادهم وبهدايتهم إلى الإسلام أهم. وفيه أن الأدب إذا سئل من المصلي شيئا أن يقوم إلى جنبه لا خلفه ولا أمامه لئلا يشوش عليه بأن لا تمكنه الإشارة إليه إلا بمشقة. وفيه دلالة على فطنة أم سلمة وحسن تأتيها بملاطفة سؤالها واهتمامها بأمر الدين. وفيه إكرام الضيف حيث لم تأمر أم سلمة امرأة من النسوة اللاتي كن عندها. وفيه زيارة النساء المرأة ولو كان زوجها عندها. وفيه جواز التنفل في البيت. وفيه كراهة القرب من المصلي لغير ضرورة. وفيه المبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فرارا من الوسوسة. وفيه جواز النسيان على النبي
وقد مر البحث عنه عن قريب *
((باب الإشارة في الصلاة))
أي هذا باب في بيان حكم الإشارة في الصلاة والفرق بين البابين أن في الباب الأول كانت الإشارة بمقتض لهم وهذا الباب أعم من ذلك وقد مر البحث في الإشارة فيما مضى
(قاله كريب عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي
)
أي قال ما ذكر من الإشارة كريب عن أم سلمة في حديث الباب السابق
258 - (حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله
بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء فخرج رسول الله
يصلح بينهم في أناس معه فحبس رسول الله
وحانت الصلاة فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر إن رسول الله
قد حبس وقد
317

حانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس. قال نعم إن شئت فأقام بلال وتقدم أبو بكر رضي الله عنه فكبر للناس وجاء رسول الله
يمشي في الصفوف حتى قام في الصف فأخذ الناس في التصفيق وكان أبو بكر رضي الله عنه لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس التفت فإذا رسول الله
فأشار إليه رسول الله
يأمره أن يصلي فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه فحمد الله ورجع القهقرى وراءه حتى قام في الصف فتقدم رسول الله
فصلى للناس فلما فرغ أقبل على الناس فقال يا أيها الناس مالكم حين نابكم شيء في الصلاة أخذتم في التصفيق إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت يا أبا بكر ما منعك أن تصلي للناس حين أشرت إليك فقال أبو بكر رضي الله عنه ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله
)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله ' فأخذ الناس في التصفيق ' لأن التصفيق يكون باليد وحركتها به كحركتها بالإشارة ويمكن أن تؤخذ من قوله ' التفت ' أي أبو بكر لأن الالتفات في معنى الإشارة (فإن قلت) قد أنكر
عليهم في التصفيق فكيف تؤخذ منه إباحة الإشارة (قلت) لا يضر ذلك لإباحة الإشارة ألا ترى أنه
لم يأمرهم بإعادة الصلاة بسبب ذلك (فإن قلت) لم لا يؤخذ وجه الترجمة من قوله ' حين أشرت إليك ' (قلت) لا يطابق هذا لأن هذه الإشارة وقعت منه
قبل أن يحرم بالصلاة والكلام في الإشارة الواقعة في الصلاة ثم إن هذا الحديث قد مضى في باب من دخل ليؤم الناس أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد وفي باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر نزل به وقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية وقال الخطابي فيه أن الصحابة بادروا إلى إقامة الصلاة في أول وقتها ولم ينكر
عدم انتظارهم (قلت) لا يفهم من لفظ الحديث مبادرتهم وإنما كانت المبادرة من بلال لا لأجل أن الأفضل أداؤها في أول الأوقات وإنما بادر لأن الجماعة قد حضروا وربما كانوا يتضررون بالتأخير والانتظار إلى مجيء رسول الله
لما لهم من الأمور الشاغلة
259 - (حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثني ابن وهب قال حدثنا الثوري عن هشام عن فاطمة عن أسماء قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها وهي تصلي قائمة والناس قيام فقلت ما شأن الناس فأشارت برأسها إلى السماء قلت آية فأشارت برأسها أي نعم)
مطابقته للترجمة في قوله ' فأشارت برأسها أي نعم ' والحديث مضى في باب الفتيا بإشارة اليد والرأس عن موسى بن إسماعيل عن ابن وهب عن هشام عن فاطمة عن أسماء الحديث مضى في كتاب العلم ومضى أيضا في باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام بن عروة عن امرأته فاطمة بنت المنذر ' عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت أتيت عائشة زوج النبي
حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي ' الحديث مطولا وابن وهب هو عبد الله بن وهب والثوري بالثاء المثلثة سفيان وقد مضى شرحه مستوفي
260 - (حدثنا إسماعيل قال حدثنا مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي
أنها قالت صلى رسول الله
في بيته وهو شاك جالسا وصلى وراءه
318

قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا)
مطابقته للترجمة في قوله ' فأشار إليهم ' والحديث مضى في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين الحديث بأطول منه وإسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك بن أنس قوله ' وهو شاك ' أي يشكو عن انحراف مزاجه أراد أنه مريض وقد استوفينا الكلام فيه هناك
بعون الله كمل طبع الجزء السابع من عمدة القاري شرح صحيح البخاري للإمام البدر العيني ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن ومطلعه (كتاب الجنائز) نسأله سبحانه الإعانة لإتمامه على هذا الوجه الحسن وما ذلك على الله بعزيز * -
319