الكتاب: المعيار والموازنة
المؤلف: أبو جعفر الإسكافي
الجزء:
الوفاة: ٢٢٠
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام
تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٠٢ - ١٩٨١ م
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1402 ه - 1981 م
2

من أهم وأقدم التراث الإسلامي في القرن الثالث الهجري
المعيار والموازنة
في فضائل الإمام أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب
(صلوات الله عليه)
وبيان أفضليته على جميع العالمين بعد الأنبياء والمرسلين
تأليف الشيخ الأقدم
أبي جعفر الإسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي
المتوفى سنة 220 هجرية
بتحقيق المحقق الخبير
الشيخ محمد باقر المحمودي
3

قال البلخي: الإسكافي هو أبو جعفر محمد بن عبد الله. وأصله من سمرقند. وكان
عجيب الشأن في العلم والذكاء والمعرفة وصيانة النفس ونبل الهمة والنزاهة عن الأدناس. بلغ
في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد من نظرائه. وكان المعتصم قد أعجب به إعجابا شديدا،
فقدمه ووسع عليه. وبلغني أنه كان إذا تكلم أصغي إليه وسكت [جميع] من [كان]
في المجلس فلم ينطقوا بحرف، حتى إذا فرغ نظر المعتصم إليهم وقال: من يذهب عن
هذا الكلام والبيان؟ وكان يقول له يا محمد: اعرض هذا المذهب على الموالي، فمن أبى
منهم فعرفني خبره لأفعل به وأفعل.
ومات الإسكافي سنة أربعين، فلما بلغ محمد بن عيسى برغوث موته سجد فمات
بعده بستة أشهر.
وكان الإسكافي أولا خياطا، وكان أبوه وأمه يمنعانه من الاختلاف في طلب الكلام،
ويأمرانه بلزوم الكسب، فضمه جعفر بن حرب إليه، وكان يبعث إلى أمه في كل شهر
عشرين درهما بدلا من كسبه.
وله من الكتب: كتاب اللطيف، كتاب البدل. كتاب [الرد] على النظام، في أن
الطبعين المختلفين يفعل بهما فعلا واحدا. كتاب المقامات في تفضيل علي عليه السلام.
كتاب إثبات خلق القرآن، كتاب الرد على المشبهة. كتاب المخلوق على المجبرة. كتاب
بيان المشكل على برغوث. كتاب التمويه نقض كتاب حفص. كتاب النقض لكتاب
[أبي] الحسين النجار. كتاب الرد على من أنكر خلق القرآن. كتاب الشرح لأقاويل
المجبرة. كتاب إبطال قول من قال بتعذيب الأطفال. كتاب جمل قول أهل الحق.
كتاب النعيم. كتاب ما اختلف فيه المتكلمون. كتاب [الرد] على [أبي] حسين في
الاستطاعة. كتاب فضايل علي عليه السلام. كتاب الأشربة. كتاب العطب. كتاب
[الرد] على هشام كتاب نقض كتاب ابن شبيب في الوعيد).
وأيضا ذكر ابن النديم في عنوان ابن الإسكافي " من المقالة المشار إليها بعد ترجمة
الإسكافي بلا فصل ما نصه:.
(ابن الإسكافي) هو أبو القاسم جعفر بن محمد الإسكافي. وكان كاتبا بليغا. ورد
إليه المعتصم أحد دواوينه وتجاوز كثيرا من الكتاب. وله من الكتب: كتاب المعيار
والموازنة في الإمامة).
4

المقدمة
في التنويه بشخصية المصنف وتعريف كتاب المعيار والموازنة
أما المصنف فهو أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي محامي العظمة العلوية
في القرن الثالث ودولة المبطلين وشوكة المنحرفين على علي وأهل بيته الطاهرين!!!
ومحاماة هذا الرجل عن أعظم شخصية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
ودفاعه عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في عصر اهتضام محبيه وشوكة معانديه
من أفخر معاليه وأعلى مفاخره وجهات مجده وشخصيته، إذ كل عاقل سلمت فطرته
عن الانحراف، يدرك أن لجنس البشر وأبناء محامد ومعالي وأن من أجلها التزامهم
بالحق والصواب واستقامتهم عليه، وأنه كلما كان الالتزام بالحق والاستقامة عليه
والدوران معه أصعب يكون شأن الملتزمين به والمستقيمين عليه أعظم وأشرف وأجل من
غيرهم ممن يلازم الحق في دولة الحق أو فيما إذا كان المحقون في فسحة ورخاء وحرية
في سلوك طريق الحق والقيام بلوازمه، ولهذه الجهة والعلة شرف وفضل المهاجرون الأولون
والبدريون من أصحاب رسول الله - الذين استقاموا على إيمانهم ولوازمه - على غيرهم
ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وآله بعدهم حينما حصلت لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وللمسلمين قوة وشوكة وعزة ومنعة وجمع وعتاد وعدة وعدة.
ولا ريب أيضا أن التحلي بهذه الكرامة العظيمة من أجل معرفات الرجال وإليه
أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الكلام المشهور المنسوب إليه: وأما المحقون
فيعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال.
فمن أراد أن يعرف الخبيث من البشر من طيبه والصحيح منهم من السقيم والجيد من
الردئ فليطلبها من هذا الطريق فإنه من أوضح سبلها وأسد محجتها سواء كان المطلوب
معرفته ممن يعاصر الطالب ويكون من الأحياء المرزوقين، أو كان من السلف الماضين
ممن أباده الحدثان ولكن خلف بنحو القطع واليقين للمتأخرين الطالبين بعرفانه من محامد
5

السجايا وكرائم الأخلاق - أو أضدادهما - مما اكتسبت يداه أو ضمت عليه جوانحه
وحشاياه أقوالا وأعمالا وعقائدا وأنظارا.
وبما تقدم تجلى سهولة معرفة أبي جعفر الإسكافي ومن كان على شاكلته ممن بقي
منه بنحو القطع شئ من نزعاته ومعتقداته وحصيلة أعماله مما كان يدور عليه ويدافع
عنه بتمام القوى والطاقات والإمكانيات فإن النواصب لأجل تركيز مكابراتهم في قلوب
الناس وتسجيل أباطيلهم في نفوس السذج والغفلة من المسلمين - وهم السواد الأعظم
منهم - وإن حالوا بين أبي جعفر الإسكافي وأمثاله وبين الحرية، وسلبوهم بمعونة أمراء
الجور مواد الطاقات والإمكانيات وسدوا عليهم ساحات الفعالية والكر والفر، وسبل
التحرك نحو الأهداف، ومن أجلها لم يتمكن أمثال أبي جعفر ممن كان عنده لمحات
من الحقائق وقبسات من لوامع العقائد أن يبلغوا الناس ويبثوا فيهم ما عندهم من أنوار
الحق والحقيقة، وأن يسعوا في تصفية الرشد من الغي وإذاعة الحقائق ونشرها بين الناس.
ولهذا حرم أكثر الناس عن أكثر الحقائق الموجودة عند أمثال أبي جعفر مما كان لا يلائم
أهداف النواصب وأتباع الشجرة الملعونة في القرآن.
وكما حرم معاصرو أبي جعفر عن نيل الحقائق الموجودة عنده حرم المتأخرون عنهم
أيضا منها، وكان حرمان المتأخرين أكثر من حرمان معاصري المصنف وذلك للحصر
الجدي الذي فرضه النواصب وأعداء أهل البيت وأرباب السلطة على أبي جعفر وأمثاله
وعلى صد الناس عنهم، ولشدة اهتمامهم على إتلاف آثار هؤلاء وتمزيقها وتحريقها
ومحوها عن صفحة الوجود.
ولكن الله تعالى لحكمته البالغة وليحق الحق بكلماته ويبطل الباطل، ولإنجازه
تعالى وعده في قوله تبارك وتعالى: " إن الله لا يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو
أنثى " ما أراد أن تنمحي جميع آثار أبي جعفر وأمثاله عن صفحة الوجود، بل أراد أن
تحفظ بعض آثاره ومعرفاته مكافاة له على ما قام به من الحق.
ومن جملة ما أراد الله تعالى بقاءه من آثار أبي جعفر هو رده على عثمانية ممسوخ
آل عثمان الجاحظ، وهذا الرد وإن لم يصل إلينا بكامله، ولكن هذا القدر الذي رواه
ابن أبي الحديد عنه في شرح نهج البلاغة الذي يعد غرفة من نهر وقبسا من مشعل النور
6

يكفي لتوجه العقلاء إلى عظمة هذا الرجل واستقامته على ما عرفه من الحق ووصل إليه
من الحقيقة.
وإذا لاحظنا عصر المؤلف واستفحال الانحراف عن أهل البيت فيه، وتكالب
الناس على الدنيا وتقربهم إلى أرباب السلطة من ظلمة بني العباس يتجلى لنا سمو مقام
المؤلف وأنه من نوادر الدهر حيث آثر الحق والحقيقة على الدنيا وحظوظها ولم يجنح إلى
أهل الدنيا والزخارف الدنيوية، ولم يركن إلى أرباب السلطة والذين استولوا على العباد
والبلاد ظلما وزورا ونهبوا ثروة الناس وهضموا حقوق الضعفاء والمساكين، وقتلوا وحبسوا
وشردوا المعترفين بالحق والصواب.
وإذا تأملنا بالدقة حال أكثر المشايخ والأدباء وأصناف العلماء في حال عصر المصنف
وتلونهم في دينهم وجعلهم الدين والتظاهر به وسيلة للتقرب إلى الظلمة والطواغيت ينكشف
لنا علو نفسية المؤلف.
ومن أراد أن يعرف جليا رفعة شخصية المصنف وجلالته من باب تعرف الأشياء
بأضدادها وأشكالها يكفيه ملاحظة تكالب أكثر معاصري المؤلف على الدنيا وخسة
نزعتهم وتوغلهم في اللؤم والدناءة، واتباعهم خطوات الشياطين.
وليلاحظ حال ممسوخ آل عثمان عمرو بن بحر الجاحظ من معاصري المصنف
فإنه لتوغله في إشباع غرائزه الشهوانية وأمنياته الشيطانية، وتقربه إلى فراعنة عصره وتراكضه
في ميادين الضلالة مرة يصنف كتاب العثمانية ومسائلها، وأخرى يكتب كتابا في
إمامة المروانية والشجرة الملعونة في القرآن.
وتارة يؤلف كتابا في إمامة ولد العباس، وهلم جرا حول تأليفه في المتناقضات
وانتصارة للمتباينات (1).

(1) والمحكي عن ابن قتيبة في كتاب تأويل مختلف الحديث ص 59 أنه قال في شأن الجاحظ:
تجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة. ومرة يفضل عليا رضي الله عنه.
ومرة يؤخره ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله. ويتبعه: قال الجماز. وقال إسماعيل بن غزوان:
كذا وكذا من الفواحش.
ويجل رسول الله صلى الله عليه وآله عن أن يذكر في كتاب ذكرا فيه فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين!!
ويعمل كتابا يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين. فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد
7

هذا طريق معرفة المصنف بمقايسته مع أشكاله وأضداده وبملاحظة بعض ما بقي
من تأليفاته وآثاره ومعونة ما علم منه من نزعته واستقامته عليها بلا تزحزح وتردد.
وقد قلنا: إن معرفة الأشخاص من هذا الطريق من أسد أنحاء المعرفة وأتقنها.
وأما معرفته من طريق كتب النسب والتراجم فلا تخلو من إجمال وغموض،
وذلك من أجل انقراض المعتزلة وأكثر آثارها من صفحة الوجود وعدم وجود كتاب
كامل منهم في فن النسب والرجال يشرح حال سلفها ويفصل ترجمة رجالها وأكابرها.
وأما ما دونه الأشعريون في فن التراجم والنسب فغير مقنع ولا واف لمعرفة المصنف
وأمثاله، وذلك لتحقق التنافر الشديد والعداوة الأكيدة بين المعتزلة والأشعرية، ومن
الواضحات أنه قلما يوجد عدو يشرح حال عدوه على ما هو عليه ويذكر محاسنه ومكارمه،
على ما ينبغي إذ شأن العداوة والمعتاد من المتعاديين كراهتهم ذكر عدوهم وأحيانا لو
جرى بمناسبة ما ذكره على لسانهم يذكرونه بما يشوه منظره ويحط من شخصيته، وبشتى
الأكاذيب والخزعبلات يدنسون ساحته، فلا ينتظر من المعتاد من الناس الصدق وحسن
القول في عدوهم، غاية ما يتوقع من العدو إذا كان رزينا ومقدرا للصدق ومبغضا للكذب
أن لا يفتري على عدوه شيئا ولا ينسب إليه سوءا بالبهتان، وأما نشر محاسنه وبث محامده
وكريم سجاياه فلا، إلا أن يكون اشتمال عدوه على المكارم وتحليه بالعظمة والجلال
أمرا واضحا لا يشوبه ريب ولا يختلجه شك وشبهة بحيث إذا أنكره أحد أو تردد فيه
شخص يعد تردده مكابرة ويؤول إنكاره إلى ضعفه ونقص ما يهدفه ويتطلبه كما هو
الشأن في مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المروية من طريق شيعة آل أبي
سفيان.!!!
وكيفما كان، فبما أن ذكر ما قالوه في ترجمة المؤلف غير خال عن فوائد فنحن
نذكر ها هنا ما ظفرنا عليه مما ذكروه في ترجمته فنقول:

تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين.
وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث. يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ.
ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان. وذكر الحجر الأسود
وأنه كان أبيض فسوده المشركون. وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا.
ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة فأكلتها الشاة..
وهو - مع هذا - من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث وأنصرهم لباطل..
8

قال الخطيب البغدادي في ترجمة المؤلف تحت الرقم: (2929) من تاريخ
بغداد: ج 5 ص 416:
محمد بن عبد الله أبو جعفر المعروف بالإسكافي أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين.
له تصانيف معروفة (1) وكان الحسين بن علي [بن يزيد] الكرابيسي [صاحب
الشافعي] يتكلم معه ويناظره.
وبلغني أنه مات في سنة أربعين ومائتين.
أقول: وقريبا منه ذكره أيضا السمعاني في مادة: " الإسكاف " من كتاب الأنساب:
ج 1، ص 235 ط الهند.
وذكره أيضا الياقوت الحموي في عنوان: " إسكاف " من كتاب معجم البلدان:
ج 1، ص 181، ط بيروت.
والمحكي عن قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي المترجم في الرسالة المستطرفة ص
120، وتحت الرقم () من تاريخ بغداد: ج 11، ص 13، أنه قال في شأن
المؤلف:
كان أبو جعفر فاضلا عالما وصنف سبعين كتابا في علم الكلام (2).
وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 63
طبع الحديث بمصر، ما محصله: كان شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى من
المتحققين بموالاة علي عليه السلام والمبالغين في تفضيله: وإن كان القول بالتفضيل عاما
شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا وأخلصهم
فيه اعتقادا...
وقريبا منه مع خصوصيات زائدة ذكره أيضا في شرح المختار: (54) من الباب

(1) المستفاد من هذا التعبير أن كتب المصنف كانت معروفة في عصر الخطيب أي بعد وفاة المصنف بمأتي وعشرين سنة.
(2) صريح هذا الكلام أن السبعين من الكتب كله في علم الكلام، وهل له تأليف في غير علم الكلام من الفنون الإسلامية
أم لا؟ كلام قاضي القضاة ساكت عنه، كما أنه ساكت عن تسمية الكتب السبعين.
9

الثاني من نهج البلاغة: ج 17، ص 132، طبع الحديث بمصر، قال:
وأما أبو جعفر الإسكافي وهو شيخنا محمد بن عبد الله [فقد] عده قاضي القضاة
في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة مع عباد بن سليمان الصيمري، ومع زرقان، ومع
عيسى بن الهيثم الصوفي.
وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثم أبا عثمان الجاحظ ثم أبا موسى
عيسى بن صبيح المردار ثم أبا عمران يونس بن عمران، ثم محمد بن شبيب، ثم محمد
ابن إسماعيل ابن العسكري، ثم عبد الكريم بن نوح العسكري، ثم أبا يعقوب يوسف
ابن عبد الله الشحام، ثم أبا الحسين الصالحي، ثم جعفر بن جرير، وجعفر بن ميسر،
ثم أبا عمران بن النقاش، ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي، ثم عباد بن سليمان،
ثم أبا جعفر الإسكافي هذا.
وقال [قاضي القضاة]: كان أبو جعفر فاضلا عالما وصنف سبعين كتابا في علم
الكلام.
وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ
الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقض كتابي؟
وأبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره. وكان أبو جعفر يقول: بالتفضيل على قاعدة
معتزلة بغداد ويبالغ في ذلك، وكان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية.
وقد ذكره أيضا المسعودي في عنوان: " ذكر الدولة العباسية ولمع من أخبار مروان
[الحمار] ومقتله " من كتاب مروج الذهب: ج 3 ص 253 ط مصرفي سنة 1384،
عند تعرضه لمجون عمرو بن بحر الجاحظ وتصنيفه في المتناقضات وانتصاره للمتباينات
ككتابه في إمامة ولد العباس وكتابه في إمامة المروانية وكتاب العثمانية ومسائل العثمانية، قال:
وقد نقضت عليه [أي على الجاحظ] ما ذكرنا من كتبه ككتاب العثمانية وغيره.
وقد نقضها [أيضا] جماعة من متكلمي الشيعة كأبي عيسى الوراق والحسن بن
10

موسى النخعي (1) وغيرهما من الشيعة ممن ذكر ذلك في كتبه في الإمامة مجتمعا ومفترقا.
وقد نقض على الجاحظ كتاب العثمانية أيضا رجل من شيوخ البغدادين ورؤسائهم
وأهل الزهد والديانة منهم - ممن يذهب إلى تفضيل علي والقول بإمامة المفضول - وهو
أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي، وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين، وفيها مات
أحمد بن حنبل.
أقول: هذا ما تيسر لي عاجلا حول ترجمة المؤلف وشخصيته
وأما كتاب المعيار والموازنة هذا فإن أول ما فزت بمشاهدته كان في أواسط شهر
شوال المكرم من سنة (1399) الهجرية عندما زرت بعض الأجلة وأنا كليل الفكر
حسير البصر وقد وهن العظم مني وفترت الأعصاب، ولم أكن على عدة وعدة،
أرى أبواب المضي في الخيرات مغلقة، وطرق سلوك المعالي والمكارم مسدودة، أرى
نفسي عاجزة عن كل تدبير، ولكن بمجرد ما تصفحت وقرأت أوراقا من الكتاب كأن
الله نفخ الروح في بدني وقوى الفتير في عظامي وأعصابي فاستنسخته في طول أيام وليالي ثم
قابلت مخطوطي مع الأصل المأخوذ منه وأخذته معي إلى لبنان برجاء أن يفتح الله لنا
بابا إلى نشره وطبعه.
ومن أجل أني كنت حينئذ على جناح سفر ضروري، وكنت أرى بحسب الموازين
العادية أني غير متمكن من نشر هذا الكتاب في زمن قريب لم أوفق للبحث الكافي عن
خصوصيات النسخة، ثم التفتيش في مظانه من التراجم والكتب المدونة في أسماء الكتب
والفنون حول اسم الكتاب ونسبته إلى المؤلف.
والذي أتذكر قطعيا من النسخة أنها كانت بخط نسخ جميل مشتملة على أغلاط
إملائية كثيرة مع بلاغات مندرجة في هوامشها، وكان في آخر وختامها توقيعات من

(1) كذا.
11

أكابر اليمنيين الذين فازوا بمطالعتها.
وأما صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف وكونه من تأليف الإسكافي فإني أراه أمرا واقعيا
نعم بيان كتاب نقض العثمانية وعباراته أعذب من عبارات هذا الكتاب، ولعل
هذا الفرق ناشئ من جهة زمان تأليف الكتابين بأن يكون تأليف هذا الكتاب من أوائل
تأليفات المصنف، وكتاب النقض من أواخر تأليفاته، أو من جهة كون هذا مسودة
المؤلف ولم يبيضه وكون كتاب النقض مبيضته؟!!!.
ولعل الله أن يوفقنا في الطبعة الثانية لإقامة شواهد أخر لصحة نسبة الكتاب إلى المؤلف.
مع أن إثبات هذا الأمر وإقامة شواهد قطعية على كون الكتاب من تأليف الإسكافي
لا يترتب عليه كثير فائدة، وعدم إثباته وتعذر الحصول على قرائن مقنعة لصحة نسبة
الكتاب إلى مؤلفه لا يوجب فوات استنتاج كبير، وخسارة متطلبات وفيرة، إذ الكتاب
في أكثر ما يتضمنه مشتمل على حقائق متخذة من القرآن الكريم ونصوص رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم القطعية وسيرة الإمام أمير المؤمنين المتلألئة، ساقها مؤلف الكتاب
على أسلوب رصين وبيان وجيز لإثبات أفضلية الإمام أمير المؤمنين على جميع البشر بعد
الأنبياء والرسل بحيث يستفيد منه العامي بعاميته وصرافة طبيعته وسذاجة فكره كم
يستفيد منه العالم بتعمقه ومقاييسه العلمية، فهو كتاب يتكفل بأسلوبه الحصين لإثبات
حقائق ومزايا متشعشعة لأعظم شخصية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. واستفادة
هذا المعنى البرهاني لا يتوقف على عرفان صاحب الكتاب، والحكمة والحقائق البرهانية
مقبولة ومأخوذة ولو لم يعرف قائلها وسائقها كما نسب إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه
قال: أنظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال.
والكتاب يوقظ النائم من نومته، وينبه الغافل من ذهوله وغفلته، ويرشد الجاهل
ويقيه عن متاهته، ويهدي الضال إلى منجاته، ويعاضد العالم في متطلباته وبغيته، فخذوه
بقوة وكونوا من الشاكرين، ولا يزهدنكم فيه ضعف القرينة القائمة على صحة نسبته
إلى مؤلفه، فإن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها وحيثما ظفر بها أخذها، والكتاب
12

في أكثر مطالبه حكم وحقائق رصينة فخذوها فإنها للمؤمنين.
وفي ختام هذه المقدمة نوصي رافعي الأعلام العلوية البيضاء وطالبي حقائق الإسلام
ومحققي حقوق خليفة رسول الله وباب علمه وعالم الإسلام علي بن أبي طالب عليه السلام
أن يفتشوا عن كتب هذا الرجل وإحيائها فإنها من أهم المقدمات الموصلة إلى هذه الأهداف
العالية.
وحيث إن لأسماء كتب المصنف دخلا وارتباطا للفحص عنها اقتناؤها ثم نشرها
فنحن نذكر أسماء ما وصل إلينا من كتبه عفوا في أثناء فحصي لغيرها من الأهداف فنقول:
من مشهورات كتبه كتاب نقض عثمانية الجاحظ، وبه عرف المتأخرون بطولة الإسكافي
وأنه من نوادر ما أنتجه الدهر، وهذا الكتاب قد أكثر النقل عنه ابن أبي الحديد في
تضاعيف شرح نهج البلاغة، وفي الواقع ونفس الأمر، بواسطته عرف الناس بعده نقض
العثمانية ومؤلفه، ولم نعهد من غيره أن ينقل شيئا عن هذا الكتاب، وهو أيضا لم ينقل
عنه المطالب حرفيا ومتتابعا بل وزع مطالبه في شرح النهج بحسب مناسبتها لشرح كلام
أمير المؤمنين عليه السلام وقد أشبع الكلام بالنقل عنه في شرح المختار: (57) من نهج
البلاغة: ج 4 ص 63 وما بعدها من طبع الحديث بمصر، وكذلك في أواخر شرح
الخطبة القاصعة وهو المختار: (238) من نهج البلاغة: ج 13، ص 219 - 296.
واستقصى محمد هارون المصري ما رواه عنه ابن أبي الحديد وفرقه في شرحه على
نهج البلاغة فجمعه وطبعه في آخر كتاب العثمانية ط مصر، فجزاه الله خيرا بما صنع.
ومن جملة كتبه كتاب " التفصيل " وقد نسب هذا الكتاب إلى المؤلف ابن أبي
الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 73 طبع الجديد بمصر (1).

(1) واحتمال اتحاد هذا أي كتاب التفضيل مع المعيار والموازنة غير بعيد.
13

ومن جملة كتبه كتاب المقامات في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، ذكره
ونسبه إلى المؤلف السيد الرضي رفع الله مقامه في صدر المختار: (54) من الباب الثاني
من نهج البلاغة.
هذا تمام ما عثرت عليه عاجلا من أسماء كتب المصنف فمن دلني على مظان وجودها
أو غيرها من بقية كتبه فله على مائة تومان.
ومن أهدى إلي كتابا من كتب المؤلف فله علي بإزاء كل صفحة تومان، إضافة
إلى إهدائي إليه مجلدا من تأليفاتي أو تحقيقاتي المنشورة وما عند الله له من الأجر أعظم وأجزل
ومن صور لي كتابا من كتب المؤلف يكون قريبا من مائتي صفحة وأهدى إلي فله
علي خمسمائة تومان ودورة كاملة من كتاب نهج السعادة في ثمان مجلدات
ومن صور كتابا من مخطوطات المصنف وأهداه إلي بحيث يكون قريبا من خمسمائة
صحيفة فله علي ألف تومان ودورة كاملة من منشوراتي وهي عشرون مجلدا من نفائس
الكتب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
14

بسم الله الرحمن الرحيم / 2 / وبه ثقتي
الحمد لله رب العالمين [الذي] ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، وصلى
الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع المرسلين.
وبعد، فإن الله قد عظم حق أوليائه ووصل محبتهم بمحبته وولايتهم بولايته فمحبتهم
علينا واجبة على قدر تفاضلهم في طاعته إذ جرى حكمه بأن الحب فيه من أفضل ما
يتقرب به إليه، فقد عظم حرمة نبيه وحرمة وصيه وحرمة المؤمن من أعظم الحرم،
إذ عظم حرمة ماله (1) ودمه ونفسه، وأمر [با] لاستغفار له والقيام بنصرته.
فمن وصل ذلك من الله بمعرفة أوليائه و [البراءة] من أعدائه، كملت معرفته
ووجب له العصمة بإصابة الولاية من الله.
ومن قطع ذلك من الله أقعدته جهالته ولم تتم معرفته وثوته قلة (2) عمله عن استكمال

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " من أعظم الحرمة إذ عظم حرم ماله...
(2) كذا في ظاهر رسم الخط. فإن صح فمعناه أقامته أو عوقته قلة عمله عن استكمال طاعة الله.
وكلام المصنف هذا مقتبس من آثار كثيره من محكمات الشريعة، ألصقها بالمقام ما رواه السيد الرضي رحمه الله
في المختار: (164) من نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: " وفضل [الله] حرمة المسلم على الحرم
كلها وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق.. ".
15

الطاعة، ودخل في حزب أهل الضلالة، وفي ذلك يقول الله: * (قل من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين) * [98 / البقرة: 2].
وقال: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * [67 / الزخرف: 43].
وقال: * (إنما المؤمنون إخوة) * [10 / الحجرات: 49].
وقال: * (لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم) * [13 / المجادلة 58]
فرزقنا الله وإياكم الاعتصام بحبله والقيام بحقه في ولاية أوليائه ومعاداة أعدائه
فإنه يقول: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * الآية 22
المجادلة: 58].
ونحن بعد الثناء على ربنا والصلاة على نبينا مبتدؤن فيما سألتم عنه من الجواب
فيما وقع فيه الناس من الاختلاف في الصحابة وإبانة الحق وكشف [الصواب في]
ما ذهبوا إليه بما فيه الشفاء والسلامة والقوة بالله.
16

[كان سبب انحراف الناس عن علي هو الحقد والضغينة، والعداوة الطائفية،
والحمية الجاهلية].
ثم اعلموا - سلمكم الله من الهلكة وأيدكم بالاستقامة والصواب في المقالة - إن
هذا باب قد كثر قول القائلين فيه وطال اختلافهم وتشعبت أهواؤهم وتوغرت من أجله
صدورهم واختلفت فيه ائتلافهم (1) وذلك لأن أوله كان على الضغن والعداوة والعصبية
والحمية، ولم يكن القول فيه على طريق الخطأ من أجل شبهة دخلت أو لبس حدث
فاتصلت أسبابه على ذلك وانشعبت فروعه على حسب ما ذكرنا [ه] من حدوث أصوله
فزرعت في القلوب الهوى والميل، فتكلم كل إنسان على قدر هواه وميله وما سبق إلى
قلبه فنصر رأيه وناظر في تقوية قوله، فتاهوا على طول الأيام وألفوا الخطأ والضلال
وتعدى ذلك إلى العوام من النساء والرجال فعظم فيه الخطب وكثر القيل والقال وتوارثوا
تلك الأضغان والأحقاد حتى ظل الراجع عن خطائه المبين لرشده منهم (2) مشتوما قد
نبذوه بالألقاب ورموه بالبدعة والضلال! وحتى أن الجماعة قد [كانت] تجتمع فيتناظرون
في أبواب الاختلاف وفنون من الكلام فيصغى المستمعون ويتكلم المتكلمون على سبيل
إنصاف وطريق حسن حتى إذا شرعوا في الكلام في هذا الباب كثر شغبهم وتكلم
ساكتهم وارتفعت أصواتهم وعظم لغطهم، وانقلبوا عن طبعهم وتجبروا في مقالهم،
وأحالوا في أنفسهم مقالهم، لشدة ما دخلهم من الغصب والتعصب.
[و] هذا قد يكون [يقع] من أهل الأدب منهم والمتقدمين في الكلام والنظر.
وقد [كان] يجري ما وصفنا بين قوم ليس لهم أول يدعو إلى العصبية ولا لهم تقدم
يوجب الحمية.
هذا مع قولهم: إن هذا الباب ليس الخلاف فيه بعظيم ولا الخطأ فيه بكبير ولا

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " اعتلافهم.. ".
(2) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: " حتى ضل الراجع عن خطأته المبين لرشده منهم..
17

القول فيه كالقول في العدل والتوحيد.
[وإنما مهدنا ذلك] لتعلموا أن آفة القوم فيه واحدة، وأن العلة فيه قائمة.
فأما أهل الحشو / 2 / من أصحاب الحديث (1) وسائر العوام فعندهم من التعسف
في هذا الباب، والعناية به والانكماش فيه على قدر جهلهم بأوله وآخره وعلى حسب
ما عندهم من قلة المعرفة بالنظر والتمييز [بين] السنة والفريضة والشرع إلى التقليد
والقول بما دعت إليه ملوك بني أمية.
وإن ملوك بني أمية وإن كانت قد بادت فإن عامتها وشيعتها فينا اليوم ظاهرة متعلقة
بما ورثوه من ملوكهم الطاغية وأسلافهم الباغية (2).

(1) قال في مادة: " حشى " من كتاب تاج العروس: ج 10 ص 90: الحشوية طائفة من المبتدعة.
(2) وهم بعد باقون إلى عصرنا هذا وهو العام (1400) من الهجرة النبوية، وهم يشكلون السواد الأعظم من المسلمين!!!
ومما يدل على قول أبي جعفر ويشهد بما قلناه شهادة قطعية أنه لما قال م مفخر ذرية رسول الله والعبقري من علماء علوم
أهل البيت السيد الخميني أطال الله بركاته ليحق الحق ويبطل الباطل ويزهق تخطيطات الطواغيت في الأجواء
الإسلامية وبلاد المسلمين، التقى بعض المتعلقين من طواغيت شيعة بني أمية بآخرين منهم - كما التقى أخوالهم
المشركون في عصر النبي وتجمعوا في دار الندوة ليمكروا برسول الله صلى الله عليه وآله - فتشاوروا وتفاوضوا
حول معارضة ابن رسول الله وإبادة أنصاره وأعوانه والقضاء على نظامه ودعوته إلى الله ورسوله وأنه لا قانون إلا قانون
القرآن، ولا دين إلا دين الإسلام.
فاتفق المتعفلقون والمتأمركون من طواغيت بني أمية وتعاضدوا وتآزروا على محاربة الداعي إلى الله ورسوله والقائم
بالحق من ذرية رسول الله السيد الخميني أعلى الله كلمته.
وبعدما فرغ المجرمون من عهودهم ومواثيقهم على التعاون على الإثم والعدوان والكفر والطغيان، تحرك ابن أخت
أبي جهل إلى مواطن أبطال الإسلام وأبناء أبي ذر وعمار وسلمان، فهجم عليه بخيله ورجله وهم غافلون برا وبحرا
وجوا وقتلوا كثيرا من عجزة المؤمنين الأطفال والنساء والشيبة ودمروا كثيرا من بيوتهم بالقنابل والصواريخ والقذائف
والمسلمون - إلا من عصمه الله - بين معاضد لهم وساكت!؟!!
وعمل هؤلاء وصنيعهم هذا من القرائن الملموسة على أن شيعة بني أمية ومن على نزعتهم في كل عصر يسعون في إطفاء
الحق واستئصال المحقين وإحياء الباطل وتعزيز المبطلين، وأن معارضتهم للحق والحقيقة ممتدة من عصر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم إلى عصرنا هذا.
18

فبلغ من عنايتهم بخطئهم في هذا الباب أن أخذوا معلميهم (1) بتعليم الصبيان في
الكتاتيب لينشئوا عليه صغيرهم ولا يخرج من قلب كبيرهم وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها
بينهم ويكتب لهم مبتدأ الأئمة أبو بكر بن أبي قحافة (2) وعمر بن الخطاب وعثمان
ابن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، حتى أن أكثر العامة منهم ما يعرف علي بن أبي طالب
ولا نسبه، ولا يجري على لسان أحد منهم ذكره.
ومما يؤكد هذا ما يؤثر عن محمد بن الحنفية [عن] يوم الجمل، قال: حملت على رجل
فلما غشيته برمحي، قال: أنا على دين عمر بن أبي طالب!!! قال: فعلمت أنه
يريد عليا؟!!! فأمسكت عنه (3).

(1) هذا هو الظاهر. وفي الأصل: الذي أخذوا..
(2) هذا هو الظاهر. وفي الأصل: " أبي بكر بن أبي قحافة..
(3) فمثل شيعة آل أبي سفيان في عرفان نسب علي عليه السلام في أكثر الأزمنة مثل شخص كان شهد بالكفر ونسب
الزندقة إلى رجل عند جعفر بن سليمان. فقيل له بأي سبب تحكم بكفره وتشهد بالزندقة عليه؟ فقال: إنه
خارجي معتزلي ناصي حروري جبري رافضي يشتم علي بن الخطاب وعمر بن أبي قحافة. وعثمان بن أبي
طالب، وأبا بكر بن عفان؟! ويشتم الحجاج الذي كان والي الكوفة لأبي سفيان، وحارب الحسين بن معاوية
يوم القطائف!!!
فقال له جعفر بن سليمان: قاتلك الله ما أدري على أي شئ أحسدك؟! أعلى علمك بالأنساب؟ أم
بالأديان؟ أم بالمقالات؟!.
19

[أرجحية القول بتفضيل علي اتباعا لروايات أكابر الصحابة، على القول بمفضولية
علي تقليدا لابن عمر، ثم نقض رواية المنحرفين عن علي بعلة تكلم نذر يسير من ضعفاء
الصحابة فيه، بمردودية قولهم بتقريض جم غفير من عظماء الصحابة إياه. ثم معارضتهم
بأن من تكلم من أعاظم الصحابة في عثمان كان أكثر ممن تكلم في علي عليه السلام
من أصاغر الصحابة فما بال المنحرفين لم يتأثروا بكلام أشراف الصحافة في عثمان،
وتأثروا بكلام الأنذال في علي عليه السلام؟!!!].
ومما يدلك [على] أن العامة مخدوعة متحيرة بفقد العلم والمعروفة، مغرورة في هذا
الباب. أنهم جميعا يشهدون أن أبا بكر أفضل من عمر ويسندون تفضيل أبي بكر
على علي إلى [حديث] عبد الله بن عمر (4) فيقلدونه الخبر.
وقد جاءهم الإسناد في تفضيل علي وتقديمه [على كافة الناس] عن محمد بن
أبي بكر وسلمان وعمار بن ياسر، وما كان من شهرة قيامهم مع علي بن أبي طالب.
فلم يلتفتوا إلى ذلك.
فإن كانوا مالوا إلى تصديق عبد الله بن عمر لأنه أفضل
وأعبد وأخير - وإن لم يكن عندنا على ذلك - فتقليد علي بن أبي طالب ومن ذكرناه [ه] أولى لأنه خير من عبد الله بن عمر وأفضل لا يشكون في ذلك ولا يمترون.

(1) وهو قوله: كنا نقول على عهد رسول الله: خير الناس رسول الله ثم أبو بكر ثم عمر..
وانظر الحديث ونقده تحت الرقم: (283) وتواليه من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 1. ص 243 ط 2.
20

وإن كانوا مالوا إلى عبد الله بن عمر لأن أباه كان إماما فاضلا، فالميل إلى محمد
ابن أبي بكر أوجب لتقديمهم لأبي بكر على عمر وتفضيلهم إياه [عليه] ولا أجد لهم في ذلك
علة يوجبها التميز والنظر غير ما ذكرنا [ه] من الخديعة وتقليد الخبر.
وأبين من هذا في جهل الأنعام الضالة والحمر المستنفرة أن عائشة عندهم في أزواج
النبي صلى الله عليه أشهر وهي عندهم أفضل من بنت أبي سفيان، وأكثر في الشهرة
والمعرفة، فإذا ذكر [أحد] معاوية بسوء غضبوا وأنكروا ولعنوا [من ذكره بسوء] وعلتهم
أنه خال المؤمنين!!
وإذا ذكر محمد بن أبي بكر بسوء رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره، وخؤولته
ظاهرة بائنة.
وقد نفرت قلوبهم من علي بن أبي طالب لأنه حارب معاوية وقاتله، وسكنت قلوبهم
عند قتل عمار ومحمد بن أبي بكر وله حرمة الخؤلة، وهو أفضل من معاوية وأبوه
خير من أبي معاوية.
[فتدبروا فيما ذكرناه] لتعلموا أن علة القوم الخديعة والجهالة وإلا فما بالهم لا
يستنكرون قتل محمد بن أبي بكر، ولا يذكرون خؤولته للمؤمنين؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وقد مالوا عن إمامة علي بن أبي طالب وضعفوها، وبعضهم نفاها بما كان من
خلاف عائشة وطلحة والزبير، وقعود ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد،
وهؤلاء النفر الذين أوجبوا الشك في علي عندهم وضعفوا إمامته بقولهم [هم]، الذين
طعنوا على عثمان وألبوا عليه وذكروه بالتبديل والاستيثار، [و] أولهم [بادرة عليه كانت] عائشة
[كانت] تخرج إليه قميص رسول الله وهو على المنبر وتقول: يا عثمان هذا قميص رسول
الله صلى الله عليه لم يبل وقد أبليت سنته (1).
فوالله ما قدح الشك في قلوبهم في عثمان بقولهم ولا قصروا عن تفصيله / 4 / وتقديمه

(1) تجد جمرات متوقدة من صياح أم المؤمنين عائشة على عثمان في الغدير: ج 9 ص 78 وتواليها..
21

بطعنهم ولا أثر ذلك في صدورهم!!
وعللهم في استنكارهم على عثمان مأثورة مذكورة مشهورة.
فلما قعدوا عن علي جعلتهم قعودهم حجة وطعنهم علة [ظ] في الشك والتنقيص
وصرف الإمامة عنه، من غير أن يذكروا علة تبديل ولا استيثار ولا تغيير أكثر من
نكثهم وطعنهم.
وقد رويتم أن عثمان نفى أبا ذر، وقد عرفتم تقدم أبي ذر (1) وسابقته، و [أقررتم]
ما صنع [عثمان] بابن مسعود وغيره من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه (2).
ولا تجدون أحدا مد علي بن أبي طالب إليه يده قبل أن يبدأه بالبغي والخلاف،
ولا ذكر عنه استيثار ولا خيانة ولا خطأ وجدوه عليه.
على أنا نوجدكم لكل من ذكرتم معارضين في دعواهم مخطئين لهم في خلافهم
وقعودهم.
أما عائشة فقد عارضتها أم سلمة بالخلاف عليها والتخطئة لها بحجج أوردتها لم
تستطع إنكارها.
وأما عبد الله بن عمر فقد عارضه عبد الله بن عباس وهو أكبر منه علما وفضلا.
وأما طلحة والزبير فقد أقرا بالبيعة، ونكثا وهما أول من بايع [عليا عليه السلام].
وأما محمد بن مسلمة فأكبر منه سلمان.
وأما أسامة بن زيد فأفضل منه عمار بن ياسر.
فلم ملتم مع من ذكرنا وقد عارضهم من وصفنا؟

(1) والقصة من ضروريات فن التاريخ، وانظر الغدير: ج 8 ص 292 وتواليها من ط 3.
(2) أنظر بعض ما جرى بين عثمان وعبد الله بن مسعود وغيره من أكابر الصحابة من كتاب الغدير: ج 9 ص 3
وتواليها.
22

وزاد عليهم سبعون بدريا وسبع مائة من المهاجرين والأنصار (1) منهم المقداد بن
الأسود، وأبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الهيثم
ابن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكيف تمت بيعة أبي بكر عندكم بأبي عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب مع
خلاف سعد وامتناعه من البيعة، وخلاف الأنصار، وأبو بكر [هو] الساعي إليها والداعي
لها؟! ولم تتم بيعة علي بن أبي طالب بالمهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإيمان وهم
الطالبون له والمجتمعون عليه وليس له نظير في زمانه يشاكله ويعادله.
أف لهذا من مقال ما أبين تناقضه وأقل حياء الداين به!! فخلاف من لم يبايع [أبا بكر]
حتى مات أكثر في تضعيف الإمامة من خلاف من نكث البيعة وادعى بعد الاقرار.
فإن قلتم: إن الأنصار اتفقت بعد خلافها، لا يمكنكم ادعاء ذلك في سعد بن
عبادة وما تروونه من قول سلمان (2).
و [لا يمكنكم إنكار] إقرار طلحة والزبير [بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام ثم
نكثهما بيعته بلا عذر مقبول في الدين بل ولا عند العقلاء المستقيمين ممن لا يتدين بدين]
وإن كان رجوعهما [عن بيعتهما] يدل [بزعمكم] على خطائهما في بدء الأمر (3).

(1) كذا في الأصل
وقال الحاكم في أواخر ترجمة عثمان من المستدرك: ج 3 ص 104.
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي، حدثنا علي بن قادم، حدثنا أبو
إسرائيل، عن الحكم، قال:
شهد مع علي صفين ثمانون بدريا وخمسون ومائتان ممن بايع تحت الشجرة.
وقال في ترجمة من الإستيعاب: ج 2 ص 413. قال عبد الرحمان بن أبزي شهدنا مع
علي صفين في ثمان مائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر.
ورواه أيضا ابن حجر في الإصابة: ج 4 ص 149، قال: وأسند ابن السكن من طريق جعفر بن أبي
المغيرة، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأبزي. قال: شهدنا مع علي عليه السلام ممن بايع بيعة الرضوان تحت
الشجرة، ثمان مائة نفس صفين فقتل منا ثلاث مائة وستون.
23

وأكبر منه بكاء عائشة وندامتها (1) وتلهف ابن عمر على ذلك، حتى دعا ابن
عمر ما استبان [له] من تقصيره إلى الغلو والإفراط في مبايعة الحجاج بن يوسف
واعتل بأنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مات ولا إمام مات ميتة جاهلية (2)
فهذا يدل على أنه قد اعتقد إمامة علي بن أبي طالب لأن من اعتقد إمامة الحجاج لم
يذهب عن إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فما رأيت خطأ أعظم ولا تقصيرا أبين من فعل ابن عمر المغفل مع روايتكم عنه
أنه قال: ما آسي إلا على ثلاث: منها إني لم أكن قاتلت هذه الفئة الباغية (3).

(1) ستعلم قريبا أن ندامتها كانت من أجل الفشل والمغلوبية لا من جهة ارتكاب المعصية.
(2) الحديث من الحقائق الثابتة بين الشيعة وأهل السنة.
كذا في الأصل، غير أن لفظتا: " آسي - و - إلا كانتا في الأصل مصحفتان، ولم أجد الحديث بهذا
السياق إلا في هذا المورد، نعم إن الفقرة الأخيرة منه قد وردت عن مصادر..
وقد رواها في أواخر ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب الإستيعاب بهامش الإصابة: ج 3 ص 53 قال:
ويروى من وجوه عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر أنه قال: ما آسي على شئ إلا أني لم أقاتل مع
علي الفئة الباغية..
ثم رواه بسند آخر.
ورواه أيضا البلاذري في الحديث: (209) من ترجمة أمير المؤمنين من أنساب الأشراف: ج 2 ص 179.
قال:
حدثنا عمرو بن محمد، والحسين بن الأسود، حدثنا عبيد الله بن موسى، أنبأنا كامل أبو العلاء:
عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال ابن عمر: ما أجدني آسي على شئ من الدنيا إلا قتالي مع الفئة
الباغية.
وقريبا منه رواه الحاكم في باب مناقب أمير المؤمنين عليه السلام من المستدرك: ج 3 ص 115.
ورواه أيضا ابن الأثير في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أسد الغابة: ج 4 ص 33 ط 1، وقد علقنا
الأخيرين أيضا على الحديث: (1210) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 174.
ط 1.
24

[المقايسة بين ما صنعه أمير المؤمنين من الصفح والرجاحة، وما أتى به من تقدمه
من الخفة والشراسة].
وقد رويتم من توخي أمير المؤمنين للحق وتركه لأعمال الهوى وصبره على كظم
الغيظ ما لا خفاء به عن [كل] ذي عقل.
بلغ عثمان أن أبا ذر يتكلم في الشام فسيره إلى المدينة، وتكلم بالمدينة فنفاه إلى
الربذة. وتكلم عمار فصنع به ما بلغكم، و [فعل] بابن مسعود ما رويتم، وتكلم سعد
ابن عبادة، فقال عمر: اقتلوا سعدا قتله الله، حتى عارضه قيس بمثل ما تكلم فأمسك.
[ما دار بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين من خالفه بعد مبايعتهم إياه، وما
جرى بين أم المؤمنين أم سلمة وعائشة].
وتكلم طلحة والزبير بعد البيعة فبلغ ذلك عليا فدعا بهما فأنكرا فلم يعجل عليهما
واستأذناه إلى مكة فلم يحبسهما [وكان] يعمل المراقبة في أمرهما ولا يمضي على التهمة
حتى ينكشف الغطاء، فلما خرجا جعلا لا يلقيان أحدا إلا قالا له: ما له علينا طاعة
ولا بايعناه / 5 / إلا مكرهين.
وانتهى الخبر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتلا هذه الآية:
" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق، أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه
25

[10 / الفتح: 48]. ثم قال: ما العمرة يريدان ولقد أتياني بوجهي فاجرين وخرجا
من عندي بوجهي غادرين (1) ناكثين [والله] لا ألقاهما [بعد] إلا في كتيبة خشناء
يقتلان فيها أنفسهما، فما خفي أمرهما عليه، ولقد أصاب الرأي فيهما وأعمل الحق في
تخليتهما حتى كشفا قناعهما، وأبرزا صفحتهما للحق.
فأما عائشة، فقد علمتم توبتها ورجوعها (2) وذلك لأن الله أمرها بلزوم بيتها،
ونهاها ألا تتبرج بقوله: " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " [33 / الأحزاب: 33] وقد وقفتها أم سلمة على ما فيه رشدها وصلاحها، وذكرتها وصية
النبي صلى الله عليه وسلم لها، وأم سلمة لم تقل ما قالت في علي لقرابتها القريبة منه،
ولا لهوى وميل إليه بغير الحق، وقد كانت مخزومية غير أن الدين والتقوى والورع
والرغبة في الحق دعاها إلى القول بفضل علي والصدع به.

(1) هذا هو الصواب الموافق لما رويناه في المختار: (68) من نهج السعادة: ج 1، ص 232 ط 1، وما
وضعناه بعد ذلك بين المعقوفات أيضا مأخوذ منه، وفي الأصل: " بوجهين فاجرين وخرجا من عندي
بوجهين غادرين..
(2) القرائن حاكمة بعدم توبتها، وأن ندامتها كانت ندامة مغلوبة لا تائبة، منها قولها لما بلغها شهادة أمير المؤمنين
عليه السلام:
فألقت عصاها واستقر بها النوا * كما قر عينا بالإياب المسافر
وانظر شرح القصة مما ذكرناه في ذيل المختار: (65) من باب الوصايا من نهج السعادة: ج 8 ص 508
ومنها منعها من دفن الإمام الحسن في حجرة جده رسول الله صلى الله عليه وآله.
كما رواه ابن سعد في الحديث: (175) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من الطبقات الكبرى.
ج 8 ص...
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (357) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ص 224.
ورواه أيضا في الحديث: (71) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 3
ص 61 ط 1.
ورواه أيضا المدائني كما في شرح المختار: (31) من الباب الثاني من نهج البلاغة،
من شرح ابن أبي الحديد: ج 16، ص 13، طبع الحديث بمصر.
ورواه أيضا أبو الفرج في آخر ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من مقاتل الطالبيين ص 74.
26

[ما خطته أم المؤمنين عائشة ونقضته أم المؤمنين أم سلمة سلام الله عليها].
وفيما يؤثر عنها: أن عائشة لما لقيتها بمكة قالت لها: يا بنت أبي أمية كنت أول
ضعينة هاجرت، وكنت كبيرة أمهات المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقسم لنا من بيتك، وكان جبريل أكثر شئ تعبدا في بيتك (1).
قالت أم سلمة: يا بنت أبي بكر لأمر ما تقولين هذا القول؟! قالت عائشة: إن
ابني وابن أختي (2) أخبراني أن القوم استتابوا الرجل حتى إذا تاب قتلوه - يعني
عثمان - وأخبراني: أن ابن عامر أخبرهم أن بالبصرة مائة ألف يغضبون لقتله ويطلبون
بدمه وقد خشيت أن يكون بين الناس حربا ودما، فهل لك أن أسير أنا وأنت لعل
الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا؟ قالت لها أم سلمة: يا بنت أبي بكر: أبدم عثمان
تطلبين؟ فوالله إن كنت لأشد الناس عليه وما كنت تدعينه إلا نعثلا! أم على علي
ابن أبي طالب تنقمين وقد بايعه المهاجرون والأنصار، أذكرك الله وخمسا (3) سمعتهن
أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وآله! قالت: وما هن؟ قالت:
[أتذكرين] يوم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن معه حتى إذا هبط من
" قديد " مال الناس ذات اليمين وذات الشمال، فأقبل هو وعلي بن أبي طالب يتناجيان،
فأقبلت على جملك [عليهما] فنهيتك، وقلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابن عمه ولعل
لهما حاجة، فعصيتيني، فهجمت عليهما فلم تلبثي أن رجعت تبكين، فقلت لك:

(1) وفي شرح نهج البلاغة: " وكان جبريل أكثر ما يكون في منزلك ".
(2) وفي شرح نهج البلاغة: " إن عبد الله أخبرني أن القوم ".
(3) وفي شرح نهج البلاغة: " فقالت أم سلمة إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه أخبث القول،
وما كان اسمه عندك إلا نعثلا، وإنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب، أفأزدك؟ قالت: نعم... ".
27

قد نهيتك، فقلت: والله ما جرأني على ذلك إلا أنه يومي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
، فقلت لك: ما أبكاك؟ فقلت: هجمت عليهما فقلت: يا علي إنما لي من
رسول الله صلى الله عليه من تسعة أيام يوم، فلا تدعني ويومي؟ فأقبل علي رسول الله
صلى الله عليه وسلم غضبانا محمرا وجهه، فقال: والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي
وغيرهم إلا خرج من الإيمان، وإنه مع الحق والحق معه! أتذكرين هذا؟ قالت: نعم!
قالت: ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تغسلين
رأسه وأنا أحيس [له] حيسا (1) وكان يعجبه فرفع رأسه إلي فقال: يا بنت أبي أمية
أعيذك بالله أن تكوني منبحة كلاب الحوأب، وأنت يومئذ ناكبة عن الصراط. فرفعت
يدي من الحيس فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن إحداكن يفعل هذا (2) أتذكرين هذا؟ قالت: نعم!
قالت: ويوم كنا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر
فتبذلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولبست كل امرأة منا ثياب صاحبتها فأقبل رسول
الله / 6 / صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبك وكنت تعجبينه فقال: وضرب
بيده على ظهرك: أترين يا حميراء أني لا أعرفك إن لأمتي منك يوما مرا. أتذكرين
هذا؟ قالت: نعم (3).
قالت: ويوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره
وكان علي يتعاهد ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعله، فإذا رأى ثوبه قد توسخ

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في شرح النهج، وفي الأصل: " وأنت تفلين رأسه وأنا أحوس حيسا وكان يعجبه.. ".
(2) وفي شرح النهج: " قالت: وأذكرك أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله صلى الله عليه وأنت تغسلين رأسه وأنا
أحيس له حيسا، وكان الحيس يعجبه فرفع رأسه وقال: يا ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأذنب. تنبحها
كلاب الحوأب فتكون ناكية عن الصراط. فرفعت يدي من الحيس فقلت: أعوذ بالله وبرسوله من ذلك.
ثم ضرب على ظهرك وقال: إياك أن تكونيها. ثم قال: يا بنت أبي أمية ة إياك أن تكونيها. يا حميراء أما أنا
فقد أنذرتك ".
(3) من قوله: " قالت ويوم كنا أزواج رسول الله إلى قولها: نعم " غير موجود في شرح النهج طبع مصر
بدار الكتب العربية.
28

غسله، وإذا رأى نعله قد نقبت أو رثت خصفها، فأقبل علي يوما فأخذ نعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فخصفها في ظل سمرة، فأقبل أبوك وعمر فاستأذنا فقمنا إلى
الحجاب فدخلا ثم قالا: يا رسول الله إنا والله ما ندري ما قدر ما تصحبنا، أفلا تعلمنا
خليفتك فينا فيكون مفزعنا إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني قد أرى
مكانه ولو فعلت لنفرتم عنه كما نفرت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران.
فلما أن خرجا، خرجت أنا وأنت فقلت له: - وكنت جريئة عليه -: يا رسول
الله من كنت مستخلفا عليهم،؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خاصف النعل،
قال: فنظرت إلى علي بن أبي طالب فقلت: يا رسول الله ما أرى إلا علي بن أبي طالب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو ذاك. أتذكرين هذا؟ قالت: نعم (1).
قالت: ويوم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه عند موته. فقال: يا
نسائي! اتقين الله وقرن في بيوتكن ولا يستفزنكن أحد. أتذكرين هذا؟ قالت: نعم.
فخرجت من عندها وقد ضعفت عزيمتها، وفترت عن الخروج، وأمرت مناديها
فنادى بمكة: ألا إن أم المؤمنين قد بدا لها من الخروج.
فاجتمع عليها طلحة والزبير، ومروان بن الحكم و عبد الله بن الزبير، فقلبوا رأيها
وموهوا الأمور عليها، واستغلطوها واستغفلوها، وقالوا لها: تخرجين وتصلحين
بين الناس فلعل الله أن يدفع بك الفتنة فهو أعظم لأجرك؟!! فردوا رأيها وقووا
عزمها (2).

(1) وفي أواخر باب مناقب أهل البيت من اللآلي المصنوعة: ج 1، ص 211 ط 1. شاهد لما ها هنا.
(2) ورواه أيضا ابن أبي الحديد في شرح المختار: (79) من نهج البلاغة - وهو قوله عليه السلام: " معاشر
الناس إن النساء نواقص الإيمان.. " -: ج 2 ص 77 ط مصر، وفي ط الحديث بمصر: ج 6 ص 217
ورواه عنه العلامة الأميني في الغدير: ج 2 ص 319 ط 3.
29

[كتاب أم المؤمنين أم سلمة رضوان الله عليها إلى أمير المؤمنين عند مسير طلحة والزبير وعائشة
إلى البصرة وإعلامها أمير المؤمنين بمسير القوم وبعثها ابنها عمر بن أبي سلمة لمعاضدة أمير
المؤمنين عليه السلام].
فلما ساروا إلى البصرة ذكروا أن أم سلمة كتبت إلى علي بن أبي طالب: يا أمير
المؤمنين! إنه والله لولا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقر في بيوتنا لخرجت
معك، ولكنني باعثة معك سمعي وبصري عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وهو ابن أخيك فأغذه بالعلم ورشحه بالمروءة. واحفظ منه ما تحفظ من
ابني الحسن والحسين.
فلما زحف علي للمسير دعت أم سلمة ابنها، وكان له فضل وفقه وعبادة، فقالت
له: يا بني إلحق بعلي بن أبي طالب فإذا لقيت الخيل فاطعن واضرب واعلم أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في علي قولا لا يحل لك [بعده] أن تتخلف
[عنه] ولا يحل لي أن أحبسك.
فمضى إلى علي حتى لحق به وقاتل معه.
30

[ذكر أصناف المخالفين والمعادين للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام]
ونحن راجعون إلى ذكر أصناف المخالفين، ثم نأتي إلى الرد عليهم بما فيه إيضاح
الحق وقمع الباطل، فاستمعوا لما نحن ذاكروه، وأحضرونا أفهامكم، والتمسوا الإنصاف
بترك الميل يتبين لكم الحق بدلائله الواضحة وأسبابه الجلية.
قد علمتم أن أقوى الخطأ في هذا الباب - والذي أشكل على أهل النظر - من علماء
المرجئة والمعتزلة [هو جهلهم بأول هذا الأمر وآخره، وقلة معرفتهم بالنظر والتمييز
بين السنة والفريضة، وتشريعهم التقليد بما دعت إليه ملوك بني أمية] (1) فبعضهم
قدم أبا بكر على علي، وبعضهم أمسك ودان بالوقف.
وأفضح من هذا خطأ موازنة علي بطلحة والزبير، والوقوف عندهم، وهو ما تعلقت
به خاصة العامة.
وأعظم من هذا جهلا وعمى موازنة علي بمعاوية وهو ما ذهب إليه بعض العامة
المتحيرة وطغام الحشوية البائنة.
فإذا بدأنا بالقول الأول وبينا باطله، وأوضحنا خطأه وضح ما بعده وبان.
ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه (2) عند اختلاف الناس فيه مثل من عيسى بن
مريم صلى الله عليه وسلم، فاختلفت الأمة / 7 / في علي أصنافا كما اختلفت أمة
عيسى صلى الله عليه فيه أصنافا، وأفرط فيه قوم فعبدوه، وقصر فيه قوم فشتموه وقذفوه.

(1) ما وضعناه بين المعقوفين مأخوذ مما تقدم عن المصنف في ص 4.
(2) وفي هامش الأصل بخط مغاير لخط الأصل: " صلوات الله عليه.. ".
31

فمنزلة النصارى في الافراط، منزلة الروافض في الافراط (1) ومنزلة المرجئة في
النصب والتقصير في علي منزلة اليهود في التقصير وشتم عيسى بن مريم صلى الله عليه.
وفي ذلك ما يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: يهلك فيك رجلان
محب مفرط، ومبغض مفرط (2).
وأول ما [يجب] في هذا الباب من التنبيه على الحق قبل التلخيص والتفسير: أنكم تعلمون
أن بلدان النصب والمقصرين على فضل علي بن أبي طالب الشام والري والبصرة.
وأما البصرة، فإن الأمور لما انكشفت ورجع الناس - بعد الذي كان - إلى النظر
استبصروا وأبصروا وشيعوا وزادوا، وكذلك أهل الشام والري (3).
[و] ليعلم أن أموره تنكشف على طول الأيام، وأن الحق يعلو عند النظر بما ترادف
من قوارع الحجج، فيمل الناس الجهل والتعصب والخطأ (4).
وأخرى أيضا أنك لم تر شيعيا قط رجع القهقرى بل يزداد في الافراط، ويغلو
في القول ولا يرجع إلى التقصير حتى يصير بالإفراط رافضيا كبيرا!!!
ولذلك قال بعض الناس: أرني شيعيا صغيرا أريك رافضيا كبيرا.

(1) مراده من الروافض هم القائلون بربوبية علي بقرينة تنزيل منزلتهم منزلة النصارى.
(2) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " ومغط مفرط ".
وللحديث مصادر كثيرة، وقد ذكره الحافظ الحسكاني في تفسير قوله تعالى: " ولما ضرب ابن مريم
مثلا إذا قومك منه يصدون " [57 / الزخرف: 44]
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (737) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 2 ص 159 ط 2 وقد علقناه أيضا عليهما من مصادر شتى.
ورواه أيضا البحراني في الباب: (181) من كتاب غاية المرام ص 424.
ورواه أيضا في الحديث: (132 - 135) في الباب: (35) من السمط الأول من فرائد السمطين:
ج 1، ص 172، ط 1.
(3) التشيع في عموم أهل الشام غير معهود، نعم تركوا لعن أمير المؤمنين وشتمه في أيام بني العباس، في الأماكن العامة
وعلى رؤوس الأشهاد.
(4) لعل هذا هو الصواب، وظاهر رسم الخط من الأصل المخطوط: " الخطباء ".
32

وعلة ذلك أنه إذا قال بالتشيع اتسعت عليه الفضائل وكثرت المناقب وترد عليه
عند النظر من فضائل صاحبه، وتقدمه دلائل تبهر وتلوح كالقمر الأزهر وكالنجوم
المضيئة فيضيق عليه المخرج، فلا يكون عنده من الورع وحزم التوقي ولطافة النظر والعلم
بالمخرج ما يمنعه من الغلو ويقعده من الافراط والتقدم، فعندها ترفض.
وأفرط [قوم في بغضه ومقته فلعنه] وشتم وكفر (1)
وقال قوم بنبوته. وقال آخرون فيه بمثل مقالة النصارى في عيسى بن مريم.
ولا تجد أحدا قال ذلك في أبي بكر وعمر. بل قد نجد القائلين بتقديم أبي بكر
وعمر قد يرجعون إلى ترك المذهب، ويميلون إلى الاعتقاد الحسن، والصواب في اعتقاد
التشيع.
ولسنا نجعل إفراط من أفرط وشتم من شتم حجة في تقديم علي بن أبي طالب على أبي بكر
وعمر، وإنما جعلنا ذلك تنبيها قبل النظر لتعلموا أن التمييز والمعرفة في تقديمه يحثان
على الفحص والنظر، ولأن قوما دعاهم التعصب والحمق إلى أن جعلوا إفراط من أفرط
فيه، وخلاف من خالفه تنقصا لأبي الحسن صلوات الله عليه، فأريناهم أن ذلك في
الفضل أولى من النقص، وعلى التقديم أدل منه على التقصير كما قلنا في عيسى بن مريم.
[وبلغ التوهم إلى حد] حتى دعا قوما إلى أن زعموا أن كثرة الخلاف عليه في
عسكره وما حدث من نكث الناكثين عليه يدل على أنه لم يكن له نفاذ في التدبير ولا
كان معه من حسن التأليف ورجاحة السياسة ما كان مع غيره على ما زعموا.
وهذا غاية ما يكون من التعدي في القول والإفراط في ترك قلة الإنصاف وذلك
بأنهم لم يوقفونا من سوء تدبيره وخطأ سياسته على أمر معروف ولا على حديث في ذلك
مأثور ومشهور، و [إنما] أرادوا أن يوجهوا ذلك بالقياس قصدا منهم إلى نصرة الخطأ
وميلا إلى العصبية والحما.

(1) ما بين المعقوفين قد سقط من الأصل، ولا بد منه أو مما هو في معناه.
33

وهيهات أن ينالوا في علي ما قصدوا إليه، ولو كان ما ذهبوا إليه صوابا قلنا (1):
فارتداد العرب قاطبة، واجتماعها على الردة في أيام أبي بكر أعظم وأدل على الخطأ في
الرأي، والغلط في السياسة، لأن الفتنة كانت أعظم في أيامه وكذلك فتنتهم أيام عثمان
أشد، واختلافهم [عليه] أكبر وأجل، فما قلتم / 8 / على عثمان أوجب ومن أبي حسن
أبعد لأن الخلاف عليه كان هو سببه وعلته وذلك مأثور مشهور في [كتب] العامة
فكيف في [كتب] الخاصة. وذلك أن القوم خالفوه لما ظهر من ضعفه وعواره، ولما حدث عندهم
من نهمته ودعوى من ادعى عليه تبديل السنن واستيثار الفئ، وإيواء الطريد (2) ورجوعه
[عن رأيه] مرة بعد أخرى، ومن شئ بعد شئ، وإخراج أبي ذر رضي الله عنه (3).
فهذا عليكم في عثمان قد وجب، وفي علي قد بطل، فالحمد لله على تعريفه
بهت من كفر، وقمع من عاند.
ومتى اعتل أهل الحيرة في تنقيص أبي حسن بما حدث في زمانه من الخلاف والفتن،
فذلك عليهم في أبي بكر أوجب ولعثمان ألزم.
ومتى صوبوا رأي عثمان في كفه عن الحرب وخطأوا عليا في إقدامه على القتال
لزمهم تخطئة أبي بكر في محاربته لمن منع الزكاة أ [ن] يلزموه الضلال والخطأ إذ زعم أنه
يسفك الدماء ويقتل الأنفس من أجل عقال لو منعوه.
ومتى صوبوا أبا بكر في رأيه، خطأوا عثمان في كفه عن الدفع عن نفسه ودينه.
فأين المذهب والمفر وقد أحاطت بكم الحجج لولا المعاندة والتعصب.
وأبين من هذا أن أسامة بن زيد لما سئل عن علة قعوده (4) عن نصرة أمير المؤمنين
على أعدائه أنه قال: حلفت أيام النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أقاتل من قال: لا

(1) هذا هو الظاهر وفي الأصل: " فإن قلنا: فارتداد العرب.. ".
(2) وهو الحكم بن أبي العاص أبو مروان بن الحكم الذي كان يستهزئ برسول الله صلى الله عليه وآله.
(3) وما ذكره هاهنا من ضروريات التاريخ، راجع تاريخ الطبري وأنساب الأشراف والكامل لابن الأثير وغيرها.
(4) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " عن علته وقعوده ".
34

إله إلا الله. وذلك إنه كان في سرية في بعض محاربة المشركين فقتل رجلا بعد أن قال:
أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله: قتلته وهو يشهد أن لا إله إلا الله؟ فعاهد
[أسامة] رسول الله صلى الله عليه أن لا يقاتل أحدا يشهد الشهادتين.
فأخطأ في أول مرة في الحكم في قتل الكفرة، وغلط في حكم الله في محاربة أهل
القبلة، لأن الكافر إنما وجبت محاربته لإنكاره الشهادة، وأهل الصلاة لم يجب قتالهم
لإقرارهم (1) وإنما وجب قتالهم لبغيهم، فالحكم في أهل الصلاة أن يكف عن قتلهم
إذا رجعوا عن بغيهم، وفاؤا إلى أمر ربهم كما أن الحكم في أهل الكفر أن لا يقاتلوا
إذا رجعوا عن كفرهم.
فلم يسلم [أسامة] من الخطأ في إقدامه ولم يدرك الصواب في إمساكه، فغلط
أسامة الضعيف في الحكمين [جميعا].
على أن هذا من قول أسامة يدل على تخطئة أبي بكر في رأيه، لأن أبا بكر قد رأى
محاربة من أقر بالشهادة وصلى القبلة.
والعجب أن الخلاف على أبي بكر كان في هذا الرأي أكثر، لأن عامة أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أسندوا رأيهم في خلاف أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا: سمعنا النبي صلى الله عليه يقول: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا
إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
فكان هذا من قولهم أكبر في الخلاف، وأعظم في الشبهة مما رواه محمد بن مسلمة
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأيت فتنة فاتخذ سيفا من خشب واضرب
بسيفك الحائط (1).
مع روايتكم الظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " علي مع الحق والحق

(1) كذا.
(2) وعلى أمثال هذا الخائن يوجه وينطبق قوله تعال في الآية: (49) من سورة التوبة: (9) " ألا في الفتنة
سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
35

مع علي " (1) فكيف تكون فتنة [حرب] قائدها ودليلها علي بن أبي طالب؟!.
مع روايتكم المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن وليتموها أبا بكر
وجدتموه ضعيفا في بدنه قويا في دين الله، وإن وليتموها عمر وجدتموه قويا في بدنه
قويا في دين الله، وإن وليتموها عليا يهدكم طريق الحق ويسلك بكم المحجة البيضاء (2).
فقبلوا هذا الرأي من أبي بكر من غير أن يسنده لهم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولا يستشهد عليه أحدا من طريق الأثر، وشكوا في مثله، ولم يصوبوا / 9 /
نظيره في [علي في] محاربته من بغى ونكث وشق العصا واستأثر بالفئ (3) مع إسناد

(1) رواه الترمذي في الحديث الثالث من باب مناقب علي عليه السلام من سننه: ج 12، ص 126.
وانظر ما رواه ابن عساكر في الحديث: (1162) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق.
ج 3 ص 120 ط 1.
وانظر أيضا الباب: (36) من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 176، ط 1.
ورواه أيضا في الباب: (45) من الفصل الأخير من كتاب غاية المرام ص 539 ط 1، عن مصادر.
ورواه أيضا العلامة الأميني في الغدير: ج 3 ص 179، ط 2.
ورواه أيضا عن مصادر في كتاب ذيل إحقاق الحق: ج 5 ص 644.
(2) للحديث مع هذه الخصوصية أسانيد كلها ضعيفة، ولهذا أدرجه ابن الجوزي في الواهيات، كما في " ذيل
الخلافة " من منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 2 ص 191، ط 1.
وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: ج 3 ص 70: هذا الخبر منكر.
نعم ذيل الحديث: " إن وليتموها عليا يهدكم طريق الحق ويسلك بكم المحجة البيضاء " صحيح من
أجل شهادة القرائن الخارجية على صدقه، ومن جهة كونه مرويا بأسانيد أخر معتبرة، ومن جهة كونه مرويا
بروايات شيعة آل أبي سفيان، وبني العباس ومعاداتهما لأهل البيت لا تقل عما بين إبراهيم ونمرود، وموسى
وفرعون؟!!
فراجع ما علقناه على الحديث: (97 - 100) من شواهد التنزيل: ج 1، ص 61 - 63 ط 1.
وراجع أيضا ما ذكرناه في تعليق الحديث: (1110) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 3 ص 68 وتواليها، ط 1.
وراجع أيضا ما فندنا به صدر الحديث تحت الرقم: (208) من السمط الأول من فرائد السمطين:
ج 1، ص 266 ط 1.
(3) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " واستأثروا بعد.. ".
36

علي [فعله] إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، قوله: " إنه لعهد النبي صلى الله (5)
عليه إلي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ". وشهادة المهاجرين والأنصار له بما
قال [و] فيهم عمار بن ياسر، وأبو أيوب الأنصاري، وأهل الفضل والسابقة.
[وإنما قدمنا هذه المقدمة] لتعلموا أن شأن من ذهب عن فضل أمير المؤمنين [ليس إلا]
المعاندة واتباع الهوى دون الحجة.

(5) وفي الأصل كتب فوق قوله: " صلى الله عليه " لفظتا " عليه السلام ".
ثم إن أمر النبي عليا عليه السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين من الأخبار المتواترة المقطوعة الصدور
عن النبي صلى الله عليه وآله، وعده العلماء من أدلة صدق النبي ونبوته لأنه أخبر بهذا الأمر قبل تحققه
فوقع على طبق ما أخبر به.
فممن ذكره في أعلام النبوة هو أبو حاتم الرازي في الفصل: (5) من كتاب أعلام النبوة ص 110،
ومنهم أبو نعيم والبيهقي في كتابيهما دلائل النبوة.
وللحديث مصادر وأسانيد كثيرة، وشواهد جمة تجدها تحت الرقم: (216) وتواليه في الباب: (53)
من السمط الأول من فرائد السمطين: ج 1، ص 278 ط 1، وتحت الرقم: (1195) وتواليه من ترجمة
أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 158، ط 1.
37

[بيان بدء بيعة أبي بكر، وبيانه وإبانته عن نفسيته وشخصيته].
فارجعوا الآن إلى النظر في بدء بيعة أبي بكر، وكيف كان السبب لتعلموا أن القوم
لم يميلوا إليه تفضيلا له على علي بن أبي طالب، ولا جعلوا ذلك علة للتقدمة.
ولسنا نحتج عليكم بما روته الرافضة من أن بيعته كانت على المغالبة والقهر دون
الاجتماع والرفق (1) والذي رويتم أن القوم لما بلغهم اجتماع الأنصار وتأميرهم سعدا، مضوا
وبادروا بالبيعة عن غير شورى ولا اجتماع ولا نظر.
فالتمسنا طلب المخرج، وتأولنا ما رويتم تأويلا حسنا، فقلنا: إن القوم لما بلغهم
اجتماع الأنصار، وما بدأوا به من الخلاف بادروا بالبيعة لأبي بكر مخافة الانتشار
والاختلاف وفساد القوم (2) ولذلك قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقاه الله شرها.
[وإنما أنطقه الله بذلك] لتعلموا أن القوم لم يميلوا إلى أبي بكر بالتقديم، ولا
وجبت [له] الإمامة بالتفضيل، ولا ادعى ذلك له أحد علمناه وإنما كانت علتهم في
ذلك دفع قول الأنصار [وبيان حق] القرابة من رسول الله صلى الله عليه [و] أن الإمامة
في قريش محصورة، وعلى غيرهم محظورة.

(1) هذا غير مختص بروايات الرافضة بل الناصبة من شيعة أبي بكر أيضا رووا ذلك مع شدة كراهتهم عن رواية
أمثاله مما يوهن أمر أبي بكر وأصحابه، ويفضحهم عند من له إنسانية وحرية ضمير، فراجع قضية السقيفة
من أنساب الأشراف وتاريخ الطبري وكتاب السقيفة للجوهري وتاريخ الكامل من أمثالها مما ألفه من
له إنصاف، وممن يراعي حق العلم والأمانة مقدارا ما.
(2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " لفساد القول... ".
38

ولسنا نحتج عليكم إلا بسلاحكم، ولا نأخذكم إلا بما رويتم لتعلموا أن الحق
قوي، وأن الباطل وهي.
وما يحقق ما قلنا ويصدقه قول أبي بكر: " وليتكم ولست بخيركم " فقد أبان عن
نفسه بخلاف ما قلتم، وكذبكم نصا في مقالتكم (1).
فإن زعم قوم أن قوله: " وليتكم ولست بخيركم " معناه: [لست بخيركم]
نسبا. كان هذا من التأويل خطأ، لأن الخبر متى خرج مرسلا عاما، وحمل على الخصوص
بطلت حجية الأخبار، وسقط الاحتجاج بالآثار فلم ينتج (2) علم أخبار الله في القرآن
وسقطت المناظرة وتعلق كل مبطل بمثل هذه العلة وجعل العام خاصا، والخاص عاما،
ولو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في الخبر، لو جاء عن أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم (3).
فإن قال قائل: لو قال هذا لم يكن للتأويل مساغ. قلنا: بلي. يقول: لست، بخيركم
دينا فيما مضى ولست بخيركم دينا في نفس الولاية، فإنما كنت خيركم دينا بنفس
السبق والهجرة. ومعنى قوله: لست بخيركم دينا، يريد أني لم أكن خيركم دينا من
أجل ولايتكم.
وهذا أشد [خطأ] من الأول لأنه ذكر الولاية في كلامه ولم يذكر النسب، والكلام على
عمومه يلزمكم مخرجه وظاهره، فمن ادعى الخصوص ادعى أمرا معينا لا يوصل إلى
علمه إلا بأمر ظاهر أو خبر منصوص، وقائل هذا لم يذهب إلى معنى [يدل عليه
ظاهر الكلام، أو خبر منصوص يبين المراد منه] غير أن ضيق الباطل يدعو صاحبه
إلى مثل هذا التأويل.
وذلك لأن نسب أبي بكر كان معروفا عند القوم غير مجهول، ولم يكن بينهم

(1) كذا في الأصل، غير أن جملة: " وكذبكم نصا في " كانت فيه مهملة.
(2) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " والآثار فلم كتب علم أخيار الله في القرآن.. ".
(3) كذا.
39

مشاجرة في النسب، ولا شبهة فيحتاج أبو بكر إلى ذكره ونعته فهذا من قوله محال،
وقد علموا جميعا أن أبا بكر ليس بخيرهم نسبا، ولا معنى لهذا التأويل أكثر
من التلطف إلى الحيلة، وإنما قال أبو بكر ذلك عندنا على جهة الإبانة [عن نفسه].
فإن بعض الناس (1) توهم أن الولاية كانت لأبي بكر على جهة التفضيل والتقدمة،
فأبان عن نفسه، ونفى غلط الناس في ذلك وخطأهم وتعديهم وردهم إلى الحق،
ووقفهم عليه لأن هذا كان طريقه ومذهبه / 10 / أن يحمل الناس على الصواب فيه وفي
غيره، ويبين لهم الحق عند تركه والذهاب عنه، فقال: وليتكم ولست بخيركم فلا
تجعلوا ولايتي سببا لغلطكم وقولكم: أني أفضل وأحق من غيري.
وقد احتال قوم أيضا لهذه الكلمة حيلة أخرى، فقالوا: إنما كان ذلك منه على
حد التواضع والنصفة، وترك التزكية، لأن المؤمن لا يمدح نفسه ولا يزكيها على لسانه
لقول الله تعالى: " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " [32 / النجم: 53].
وهذا في التأويل أوضح خطأ من الأول مع ما يلزم قائله من النقص وذلك لأن
التواضع لا يكون في الكذب ولا الإنصاف يكون على نفي مصير الحق، لأن هذا القول
من غير أبي بكر كذب، وكيف يكون من غيره كذبا ومنه تواضعا؟ ولا يجوز أن يقول
المؤمن: " لست بمؤمن " تواضعا وقد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر
الخلق تواضعا وإنصافا، ولا يجوز أن يقول: " أرسلت إليكم ولست بخيركم " على
التواضع والنصفة، وليس من التواضع أن يقول الزكي: لست بزكي (2) والمؤمن لست
بمؤمن، والصالح لست بصالح، والفاضل لست بفاضل، وإنما التواضع يكون بالإمساك
عن ذكر نفسه ومدحه لها وحسن المحاورة والمساواة، بحسن العشرة.
ثم نرجع إلى المقدمين لأبي بكر على أبي حسن بالمسألة، فنقول (3): ما حجتكم

(1) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " وإن بعض الناس.. ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل لست: " لست بمؤمن.. ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " فيقال: ما حجتكم... ".
40

في تفضيله على علي بن أبي طالب؟ فإن لجأوا إلى اجتماع الناس على أبي بكر وهي من
أكبر عللهم قلنا لهم: إن تقديم الناس له قد شرحنا سببه، وإن اختيارهم له لا يوجب
له الفضل على غيره، وإنما سألناكم عن إبانة فضله على غيره قبل الاختيار له، وإلا فإن لم يكن
قبل الاختيار فاضلا مقدما على علي بن أبي طالب لم يكن لقولكم: " اختاروه لأنه أفضل
معنى يثبت النسب؟
وإن زعمتم أن باختيارهم [له] كان فاضلا لفعل غيره، لأن اختيارهم له فعلهم. و [الجواب
إنه لو كان باختيارهم فاضلا مقدما، لكان قبل الأخيار منقوصا مؤخرا، فأرونا فضله على علي
وتقدمه عليه بفضيلة مشهورة [كي يكون] لاختيارهم بذلك مستحقا، وبالإمامة أولا، وإلا فلم
نسلم لكم ما ادعيتم أبدا. فإن قالوا: قد كانت له فضائل لا يعرف عليها، وعلي لا
يعرفها، غير أنا نعلم أن اختيارهم له [كان] عن تقديم وتفضيل. يقال لهم فما الفرق بينكم
وبين من قال: أجمعوا على أبي بكر لعلة لا أقف عليها، إلا أني أعلم أنهم لم يجمعوا
عليه لأنه كان أفضل، ولو كان قبل الاختيار أفضل من علي لبان ذلك وشهر، ولكان
ظاهرا غير مكتم، ولو كان اختيارهم لعلة تفضيله وكانت إمامة المفضول غير جائزة
لما جاز للأنصار أن يقولوا: منا أمير ومنكم أمير، ولكان حراما على أبي بكر أن يمد
يده إلى عمر وأبي عبيدة ويقول: أنا أبايع أيكم شاء فليمد يده. فإن قالوا: الدليل
على ما قلنا: صلاته بالناس أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول النبي صلى
الله عليه وسلم لعائشة: مري أبا بكر يصلي بالناس.
قلنا: هذا خبر جاء عن عائشة لم تقم حجته ولم تلقه الأمة بالقبول، على أنا متى
سلمنا لكم الحديث لم يجب به تقدمة لأبي بكر على علي، ومتى نظرنا في آخر الحديث
احتجنا إلى أن نطلب للحديث مخرجا من النقص والتقصير وذلك أن في آخره: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجد إفاقة وأحس بقوة خرج حتى أتى المسجد، وتقدم
فأخذ بيد أبي بكر فنحاه عن مقامه وقام في موضعه.
فقالت الرافضة: هذا من فعله يدل على أن ذلك لم يكن عن أمره ودليل على تهمة
41

الخبر بل يوجب اليقين والعلم بأن الأمر له بالصلاة لو كان تلقيا (1) عن الرسول صلى
الله عليه لم يخرج بالمبادرة مع الضعف / 11 / والعلة حتى نحاه وصار في موضعه، ولو
كان ذلك عن أمره لتركه وصلى خلفه كما صلى خلف عبد الرحمن بن عوف.
وقد شهدتم جميعا أن صلاته خلف عبد الرحمان بن عوف لا توجب له تقديما
على علي بن أبي طالب. مع ما يدخل حديثكم من الوهن والضعف والشذوذ.
وقد عارضتكم الرافضة في حديثكم، فقالت: كيف قبلتم قول عائشة في الصلاة
وجعلتموها حجة، ولم تقبلوا قول فاطمة في فدك، وشهادة أم أيمن لها وعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه، وقد شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
فإن قلتم: إن الحكم في الأصول لا تجب بشهادة امرأة!
قلنا لكم: وكذلك الحجة في الدين لا يثبت بقول امرأة، ولئن كانت صلاة
أبي بكر بالناس توجب له التقدم على من صلى خلفه، فصلاة عمرو بن العاص بأبي
بكر وعمر توجب له التقدم عليهما، ولعمرو مع الصلاة الولاية الجامعة للصلاة وغيرها
وهذا الخبر مجمع عليه، فلم يكن عند أحد منهم علة يدعيها في تقديم أبي بكر على
علي رضي الله عنه.
فلجأ بعض أهل النظر إلى القياس، فقال: لو جاز أن يولى المفضول على الفاضل
لجاز أن يرسل مفضول إلى فاضل، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون في زمن الرسل من هو
أفضل منهم، فرجع هذا بعد إلى فعل الناس فجعله حجة من طريق القياس.
فقلنا له: إن جوابك هذا قد انتقض من وجوه:
أولها: إن الإمامة لا تشبه النبوة، وهي بالإمارة أشبه (2) لأن الإمام لا يشهد على

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " تلعبا.. ".
(2) هذا سهو عظيم من المؤلف ومن على مزعمته، إذ الإمامة أخت النبوة، والعلة الماسة إلى بعث الرسول، هي
العلة الماسة إلى تعيين الرسول خليفته في أمته كي يحافظ على ما جاءه به من عند الله من كتاب الله تعالى، ومما
سن لأمته مما لا يوجد في كتاب الله، أو مما لا يمكن لغير المؤيد من عند الله، وغير المتعلم من رسول الله أن يفهمه
من كتاب الله تعالى، وإلا لغير الجاهلون والمبطلون من الأمة الدين عن مجراه الأصيل ومنهجه القويم، وقضوا
42

غيبه، وقد يجوز عليه التبديل والتغيير، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يشهد على غيبه
ويؤمن تبديله وتغييره، فهل يجوز لقائل أن يقول: لو جاز أن يولى إمام لا يشهد على
غيبه لجاز أن يرسل رسولا يشهد على نفسه (1).
ولو أمكن أن يكون إمام لا يؤمن تبديله وتغييره، أمكن أن يرسل الله رسولا لا
يؤمن تبديله وتغييره، فهذا عندهم قياس منتقض فاسد، والإمامة لا تقاس بالنبوة،
وقياس الإمامة الإمارة لأن الإمام ليس له أن يتعدى حكم الله وعليه الاتباع، وتلك
منزلة الأمير والأمير لا يشهد على نفسه كما لا يشهد على غيبه [ظ] الإمام، والإمام
قد يولى ويعزل ويصلي وتلك منزلة الأمير.
قلنا: فهل يجوز تولية المفضول على الفاضل؟ وذلك في الدين جائز صحيح ومن
اختيار الأمة غير فاسد على حسب ما كان من اختيار النبي صلى الله عليه وسلم عمرو
ابن العاص وتوليته على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل، ولم يوجب تجويزه
بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم مفضولا إلى من هو أفضل منه، قياسا على إمارة المفضول
على الفاضل، ولو كان ما قلتم جائزا لكان هذا لكم ألزم لأن اختيار النبي صلى الله عليه
وسلم إلى اختيار الله أقرب وأولى من اختيار الناس باختيار الله.
فإن قالوا: فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأن عمرو بن العاص متى بدل وغير
رجع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك بعد موته غير جائز.
قلنا: تولية الإمام المفضول جائزة من اختيار الأمة لأنه متى بدل وغير رجع أمره
إلى الأمة في عزله وتولية غيره، ولو كانت تولية المفضول جائزة أيام النبي صلى الله عليه
وسلم لأنه متى غير المولى رجع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان حيا لكان هذا
في إرسال الله نبيا إلى الفاضل أوكد، لأنه متى عصى وغير رجع أمره إلى الله إذا كان
حيا لا يموت.
انقضى القول في إمامة المفضول.

على الدين وأهله في أقصر مدة كما صنعه من يدعي اتباع موسى وعيسى عليهما السلام، فإذا لا بد من وصي
الرسول وخليفته أن يكون كالرسول إلا في النبوة، وتلقى الوحي من الله بلا واسطة.
(1) كذا.
43

[طريقة انعقاد الإمامة بنظر المؤلف، ووصف بيعة الناس لأمير المؤمنين عليه
السلام، وإنها كانت أقوى بيعة أركانا وأعظمها حجة وأوضحها سنة وأوكدها سببا
وأقومها طريقة].
ونحن / 12 / واصفون (1) إمامة علي و [أنها] كيف كان سببها لتعلموا أن إمامته
كانت أقوى إمامة سببا وأثبتها قوة وأقواها أركانا، وأوضحها سنة، وأعدلها سبيلا،
وأعظمها حجة.
إن سبيل الإمامة وسببها أن تكون برأي أهل الفضل والسابقة ومن بمثلهم يزول
التهمة والريبة، وتثبت الحيطة والنصيحة.
وسنة الإمامة أن تكون شورى بين أهل الفضل والعدالة والعلم والمعرفة بحكم الكتاب
والسنة لقول الله تبارك وتعالى: " وأمرهم شورى بينهم " [38 / الشورى: 42].
وسنة الإمامة أن لا يكون الناظرون فيها يظهر كل إنسان منهم لنفسه الطلب لها والرغبة
فيها لأن هذا المعنى يدعو إلى الاختلاف ويوجب الظنة والتهمة، ويكون سببا للانتشار
والفتنة.
ومن سببها أن يكون متى بدأ بعقدها لرجل وتولاها جماعة موصوفون بالستر والعدالة
معروفون بالخير غير متهمين أن يسلم الباقون إلا أن يكون عندهم حجة في أن المولى
لا يستحقها، وأن غيره أولى بها، فمتى لم يظهر منهم طعن عليه [ولم] تتبين حجة أو

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " ونحن واضعون.. ".
44

دليل واضح كان عليهم الرضا والتسليم.
فانظر [وا] هذه الشرائط فيمن اجتمعت لتعلموا صحة ما نقول.
وقد وصفنا لكم بيعة أبي بكر وكيف كان سببها وإنها كانت على العجلة دون الانتظار
والمشورة، وأن الذي تولى عقدها رجلان في البدء: عمر وأبو عبيدة، وأنهم سعوا فيها
وطلبوها بعد أن كان العقد للأنصار وما كان من خلاف سعد ويمينه (1) وقول سلمان
وغيره (2).
وروي أن علي بن أبي طالب لم يبايع أشهرا من غير أن يظهر إنكارا ولا سخطا (3).

(1) وهو قوله لعمر - لما قال: اقتلوه قتله الله -: أما والله لو أن بي قوة أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها
وسككها زئيرا يحنجرك وأصحابك. أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع.. وأيم الله لو
أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم...
(2) كحباب بن المنذر وقيس بن سعد بن عبادة والزبير بن العوام، والصديقة الطاهرة فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليهما، والإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
والقوم لشدة كراهتهم عن ذكر أمثاله لم يذكروه على سبيل التفصيل ومجموع الأطراف، نعم أجرى الله
قلمهم بذكر جمل وافية منها تتم بها الحجة كما تجدها في تاريخ الطبري والكامل وأنساب الأشراف وسقيفة
الجوهري وغيرها.
(3) والمروي في كتاب المصنف: لعبد الرزاق: ج 5 ص 442 وصحيح البخاري وحوادث سنة (11) من الهجرة
من تاريخ الطبري: ج 3 ص 202. وتاريخ الكامل: ج 2 ص 220 ط بيروت إنه عليه السلام مع كافة بني
هاشم لم يبايعوا أبا بكر حتى توفي بضعة رسول الله فاطمة الزهراء صلوات الله عليهما بعد ستة أشهر من وفاة
النبي صلى الله عليه وآله، فعند ذلك صرف وجوه الناس عنه بالكلية فاضطر إلى بيعة أبي بكر.
ثم إن قول المصنف: " من غير أن يظهر إنكارا ولا سخطا " من أبدع العجائب، ومن المصنف طريف
جدا، فإنه عليه السلام أنكر تقدمهم عليه فعلا وقولا، أما إنكاره عليهم فعلا فكفى إمساكه عن بيعته لهم
طول حياة فاطمة صلوات الله عليها، وكفى لضلالهم وكون رئاستهم ظلما وزورا أن يتخلف عنهم علي الذي
يدور معه الحق حيثما دار، والذي يكون مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا على النبي صلى الله عليه
وسلم حوضه كما في حديث الثقلين الذي ورد بنحو التواتر عن النبي صلى الله عليه وآله.
ورواه شيعة آل أبي سفيان في صحاحهم وكتبهم المعتبرة بشتى الأسانيد. وكذلك قوله صلى الله عليه وآله
وسلم: " علي مع الحق والحق معه حيثما دار " وقوله صلى الله عليه وآله: " علي مع القرآن والقرآن
معه ". فراجع الحديثين في الباب: (36) من فرائد السمطين: ج 1، ص 176، ط 1، وتحت الرقم:
(1160) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 117، ط 1، وفي الباب: (45)
من الفصل الأخير من غاية المرام ص 539 والغدير: ج 3 ص 179، ط 3، وإحقاق الحق: ج 5 ص 644.
وأما إنكاره عليه السلام قولا على المتقدمين عليه وإظهاره السخط عليهم شفاها فيكفي لمن له حرية الضمير
ما رواه البلاذري في الحديث: (359) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف:
ج 1 / الورق 366. وفي ط 1: ج 2 ص 281.
ورواه أيضا ابن عبد ربه في العقد الفريد: ج 3 ص 108، ط 2.
ورواه أيضا الخوارزمي في آخر الفصل: (3) من الفصل: (16) من مناقبه ص 175، من أن عليا عليه
السلام كتب في جواب معاوية:
وذكرت حسدي الخلفاء، وإبطائي عنهم وبغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، وأما الابطاء
والكراهية لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس..
وراجع أيضا المختار: (12) من نهج السعادة: ج 1، ص 44 ط 1. فإنك تجد فيه وفي تعليقه شواهد في
شكايته عنهم.
سبحان الله هل يمكن لأحد أن يعبر عن سخطه بمثل ما عبر به عليه السلام في الخطبة الشقشقية، وهو
قوله: " فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى!!! أرى تراثي نهبا حتى مضى الأول لسبيله - إلى إن
قال -: فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها.. ".
فراجع تمام الخطبة تحت الرقم: (3) من نهج البلاغة. والرقم: (302) من نهج السعادة: ج 2
ص 498.
واعجبا! هل يتصور إنكار قولي مثل قوله عليه السلام: فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي،
فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجى، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى
أمر من طعم العلقم!!!
هكذا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار: (25) من نهج البلاغة، وأظهر منه ما رواه أيضا في
المختار: (220) من نهج البلاغة قال:
اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت
أولى به من غيري، وقالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه!! فاصبر مغموما أو مت متأسفا!!
فنظرت، فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد. إلا أهل بيتي!! فضننت بهم عن المنية، فأغضيت
على القذى، وجرعت ريقي على الشجى. وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم للقلب من
حز الشفار!!!.
وانظر أيضا قوله عليه السلام في المختار: (64) منه: " احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ".
وقوله عليه السلام في المختار: (167) منه: " أما الاستبداد علينا بهذا المقام - ونحن الأعلون نسبا
والأشدون برسول الله نوطا - فإنها كانت أثره شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين؟! والحكم
الله والمعود إليه القيامة ".
وقوله في المختار: (177): " اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي،
وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي، أمرا هو لي.. ".
وقوله عليه السلام في المختار: (206): " وستنبأك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها فاحفها السؤال.. ".
وقوله عليه السلام في المختار: (44): من الباب الثاني منه: " بلى كانت في أيدينا فدك من كل
كل من أظلتها السماء فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله.. ".
أقول: وله عليه السلام كلم آخر في الموضوع بمساق الكلم المذكورة كل واحد منها بانفراده يحكي
بأوضح دلالة وأبلغ مفاد على أن الخصام والمعاداة بين علي ومن تقدم عليه كان بلغ آخر حده وأقصى مرتبته،
فإن لم يكن هذا الكلام من أكمل أنحاء بيان السخط والإنكار لم يوجد في دار الوجود سخط ولا إنكار حتى
بين الله وبين إبليس، وبين الأنبياء والفراعنة وبقية النماردة!!!..
45

[في أن عقد الخلافة لعمر إنما كان من أبي بكر خاصة، كما كان عمر عقدها
لأبي بكر في يوم السقيفة، فجلبها كل واحد منهما للآخر تداولا وتشاطرا].
ثم كانت بعده بيعة عمر فعقدها [له] أبو بكر، كما عقدها هو لأبي بكر
- وفي هذا مقال يسبق إلى القلب يدفع بلطيف الحجج والمخرج (1) - فأظهر المسلمون
الانكار لذلك والتسخط وقالوا: وليت علينا فظا غليظا!! فقال: وليتهم يا رب خير
أهلك.
وعلي في ذلك الوقت ساكت، ولو كان ممن يرغب في الإمامة على غير طريقها،
وبغير حقها (2) و [كان] يحب - كما قال الجاهلون - الفتنة لكان لهذا الموضع

(1) عفى الله عنك يا أبا جعفر ما هذا التسامح في التعبير والكشف عن الواقع؟
(2) عفى الله عنك يا أبا جعفر قل لنا بحق العلم والإنصاف متى كانت الإمامة والخلافة لغير علي أو تليق لغيره،
ولا تليق به حتى يكون تطرقه إليها وطلبه إياها على غير طريقها وبغير حقها؟!
أفلا يسمع أبو جعفر دوي شكاية علي وطنين تظلمه في الدنيا، وصدى قوله: أما والله لقد تقمصها ابن
أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى... حتى إذا مضى إلى سبيله فأدلى بها إلى فلان بعده!!!
فيا عجبا!!! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها!!! فصيرها
في حوزة خشناء يغلظ كلامها، ويخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها!!!
وأما قول أبي جعفر: " وعلي في ذلك الوقت ساكت.. " فإن كان مراده من السكوت السكوت القولي وعدم تكلمه
وتلفظه بكون الولاية والخلافة مخصوصة له، ولاحظ فيها لمن تقمصها بعد صاحبه، فهذا غير مسلم، بل
كان عليه السلام دائما متى تسنح له الفرصة، ويرى المصلحة، يعلن التبرم من صنيعهم، ويظهر الشكوى
عنهم وأنهم تقمصوا قميصه ظلما..!!..
ولو سلمنا جدلا أنه عليه السلام سكت ولم يتكلم حول اغتصاب عمر الخلافة منه، يكفينا ويكفي كل
منصف إعلانه عليه السلام ببطلان خلافة أبي بكر وأنه ظلما وعدوانا تردا برداء الخلافة التي كانت تخص
عليا، ولاحظ لأبي بكر وغيره فيها، وإذا تلكم على بطلان خلافة أبي بكر فقد أعلن ببطلان خلافة عمر
لأنها فرع خلافة أبي بكر.
وإن أراد أبو جعفر من السكوت السكوت العملي وعدم التحرك لتصدي الخلافة وتبعيد عمر وأشكاله
عن عليا ساحتها، فهذا مسلم وعلة هذا السكون وعدم التحرك هو كون المسلمين حديثي عهد بالإسلام، وفيهم
من يتشبث بكل الوسائل لانهدام الإسلام، والثانية تكثير الجن الذين قتلوا سعد بن عبادة!!!
47

بعينه، ولكان [يظهر منه] ما كان [ظهر] من الأنصار من محبته [لها والتصدي لطلبها]
فلم يكف عن ذلك إلا طلب السلامة وانتظارا لرجوع القوم إلى الحق ومجتمع الكلمة (1).
ثم جعلها عمر شورى بين ستة فوجهت إلى عثمان بما قد عرفتم.
فهذا موضع الكلام والشبه، وموضع النكت الغامضة، لا ما تعلقتم به من التفضيل
والتقدمة.

(1) هذا هو الظاهر وفي أصلي: " وانتظار القوم لرجوع الحق وانتظار الكلمة.. ".
48

[إسراع الناس بعد قتل عثمان إلى الإمام علي بن أبي طالب، وتداكهم عليه
وإلحاحهم به لأن يبسط يده ليبايعوه، وتقريضهم إياه بتعينه للإمامة والخلافة، وإبائه
عن ذلك، ثم ازدحام الناس عليه، ثم إتمامه الحجة على طلحة والزبير، ثم شرطه
على الناس أن يبايعوه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم مبايعة الناس
إياه في المسجد].
وهو رضي الله عنه [كان] على طريقة واحدة في الكف والرضا عند اجتماع الكلمة.
فلما قتل عثمان وقد كان علي قبل ذلك معتزلا له لما كان منه في أبي ذر وغيره - كأنه
رضي الله عنه مطبوع على الصواب، مؤيد بملك يجنبه طرق الخطأ و [يثبته على] لزوم الاستقامة
والصحة لا يقدر أحد أن يرينا في فضله تناقضا، ولا في قوله اختلافا، فبيض الله وجهه
وأعلى في الآخرة درجته -.
فلما قتل عثمان تداك الناس على علي بن أبي طالب بالرغبة والطلب له بعد أن أتوا
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

(1) أنظر إلى كلامه عليه السلام في وصف بيعته في المختار: (3) من نهج البلاغة: " فما راعني إلا والناس كعرف الضبع
إلي، ينثالون علي من كل جانب. حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم.. ".
وقوله عليه السلام في المختار: (51) منه: " فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم وردها، قد أرسلها
راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي.. ".
وقوله عليه السلام في المختار: (230): " وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها. ثم تداككتم
علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى انقطعت النعل وسقطت الرداء ووطئ الضعيف.
وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن أبتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت
إليها الكعاب.
49

وحضر المهاجرون والأنصار وأجمع رأيهم على علي بن أبي طالب بالإجماع منهم
أنه أولى بها من غيره، وأنه لا نظير له في زمانه فقاموا إليه حتى استخرجوه من منزله.
ومضى علي بن أبي طالب إلى طلحة بن عبيد الله، فقال له: إن الناس قد اجتمعوا
على أن يبايعوا لي ولا حاجة لي في بيعتهم، فابسط يدك يبايعك الناس على كتاب الله
وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له طلحة: أنت أولى بذاك مني، وأحق به
لفضلك وسابقتك وقرابتك، وقد استجمع لك من هؤلاء الناس ما قد تفرق علي / 13 /
قال له علي: إني أخاف أن تغدر بي وتنكث بيعتي، قال: لا تخافن ذلك فوالله لا تؤتى
من قبلي بشئ تكرهه، قال: الله عليك بذلك كفيل؟ قال: الله علي به كفيل.
فأتى الزبير، فقال له مثل ذلك، ورد عليه مثل طلحة.
فمضى علي بن أبي طالب إلى منزله إرادة التأني والتوكيد.
فرجع الناس إليه وهم متوافرون مجتمعون فاستخرجوه من داره، وقالوا له:
ابسط يدك نبايعك؟ فقبضها ومدوها، ولما رأى تداكهم عليه، واجتماعهم، قال:
لا أبايعكم إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا، فإن كرهني قوم لم أبايع.
فأتى المسجد وخرج الناس إلى المسجد، ونادى مناديه.
فيروى عن ابن عباس أنه قال: إني والله لمتخوف أن يتكلم بعض السفهاء، أو
من قتل علي أباه أو أخاه في مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: لا حاجة
لنا بعلي بن أبي طالب فيمتنع من البيعة.
قال: فلم يتكلم أحد إلا بالتسليم والرضا.
ثم قال في بعض كلامه رضي الله عنه.
كنت والله كارها للحكومة بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم (1) حتى أكرهتموني

(1) وذلك لأجل اعتيادهم بالترفه والأثرة في أيام السابقين، وانحرافهم عن محجة العدالة الإسلامية، ورغبتهم
إلى الأثرة والاستبداد بالمصالح الشخصية والنزعات الطائفية، ونسيانهم ما كان النبي صلى الله عليه وآله
يسلك بهم من الايثار وتقوية نزعة السماح والجود والكرم، واجتثاث جذور البخل والحرص ومذام الشيم.
50

عليها، ودخلت منزلي فاستخرجتموني، وقبضت يدي وبسطتموها، وتداككتم علي
كتداك الإبل عند ورودها، حتى خشيت أن يقتل بعضكم بعضا، وخفت أن لا يسعني
عند الله ردكم حين اجتمع إلي ملأكم، فبايعتموني طائعين غير مكرهين، ثم خالفني
منكم مخالفون، ونكث ناكثون، على غير حدث أحدثته، وقد سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: ما من وال ولي من أمر أمتي شيئا إلا جاء يوم القيامة حتى يوقف به
على حد الصراط، ثم ينشر كتابه فتقرأه الملائكة، فإن كان عادلا نجا، وإن كان جائرا
هوى، ثم ينتفض به الصراط انتفاضة إلى الدرك الأسفل من النار.
فإن أنتم معاشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم سمعتم قولي وأطعتم أمري، أقمتم
على المحجة البيضاء، وإن أبيتم عاقبتكم بسيفي هذا حتى يحكم الله بيني وبينكم
وهو خير الحاكمين (1).
فأول من بايعه طلحة والزبير، ثم المهاجرون والأنصار، ثم قام فخطب الخطبة
المعروفة بالفضل على الخطب والكلام الذي لا يعرف مثله لأحد (2) فلما فرغ [أمير
المؤمنين] من خطبته، قام خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين، ثم قال:
أيها الناس: إنا قد تشاورنا واخترنا لديننا ودنيانا رجلا اختاره لنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فبايعناه، ولو استوى عباد الله ذهب النعم، ولو اتبع الهوى ذهبت الشورى
ولو جاز التنازع ذهب التسليم، إن المدينة دار الإيمان والهجرة، وبها الحكام على الناس
ولسنا من أمر عثمان في شئ.
وقام أبو الهيثم ابن التيهان (3) - وكان عقبيا بدريا - فقال: قد عرفتم

(1) ببالي أن الخطبة رويناها عن مصدر - أو مصادر - ولكن لم تكن مسوداتي عندي حين تحقيق ما هاهنا.
ليت المصنف ذكر الخطبة بتمامها أو فقرات منها حتى ينسد باب الاحتمال والتشكيك، والمظنون أن المراد
منها ما ذكرناه في المختار: (54) من كتاب نهج السعادة: ج 1، ص 188، ط 1.
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وقال أبو الهيثم ابن التيهان.. ".
وقوله: عقبيا بدريا " يعني أنه كان ممن حضر العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن بايعه فيها،
وكان حضر مع رسول الله صلى الله عليه وآله في حرب بدر، وحارب الكفار فيها.
51

رأيي لكم ونصحي إياكم، ومكاني [الذي] كان [لي] من رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وقد جعلنا هذا الأمر إلى أولاكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقدمكم
إسلاما، وأكثركم علما، وأفقهكم في دين الله، وأنصحكم للأمة، وأعرفكم بالسنة،
وعسى الله أن يجمع به الألفة، ويحقن به الدماء، ويصلح به ذات البين، ويظهر به
ما درس الظالمون. فقالوا جميعا: قد أجبنا إليه وعرفنا فضله.
فلما بلغه خبر من تخلف عن بيعته، قال: إنهم لم يعرفوا الحق فيسارعوا إليه،
ولم يعرفوا الباطل فيخذلوا من آتاه (1).
فخلى سبيلهم ولم يكره أحدا على بيعته.

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (17) من الباب الثالث من نهج البلاغة: " [إنهم] خذلوا الحق ولم
ينصروا الباطل.. ".
وفي المختار: (262) منه: " إن سعدا و عبد الله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل ".
وانظر المختار: (92) من كتاب نهج السعادة: ج 1 ص 298.
52

[خطبة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لما بلغه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة
وإخباره عن نفسيتهم ومآل أمرهم وقصة نباح كلاب الحوأب على عائشة واضطرابها]
فلما بلغه رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة
صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على / 14 / محمد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
قد سارت عائشة والزبير وطلحة، وكل يدعي الأمر دون صاحبه، يطلبه طلحة
لأنه ابن عم عائشة، ولا يرى الزبير إلا أنه أحق بالخلافة لأنه ختن عائشة!!
فوالله لئن ظفروا بما يريدون - ولا يرون ذلك أبدا - ليضربن طلحة عنق الزبير،
والزبير عنق طلحة! تنازعا (1) شديدا على الملك!!
والله إن راكبة الجمل لا تصعد عقبة (2) ولا تنزل منزلا إلا إلى معصية الله وسخطه
حتى تورد نفسها ومن معها متالف الهلكة، يقتل ثلثهم (3) ويهزم ثلثهم، ويتوب ثلثهم،

(1) وهذا مما أظهره عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو من الأخبار الغيبية التي أخبر بها قبل وقوعها فوقع الخبر
على طبق ما أخبر به عليه السلام.
(2) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " والله إنما الراكبة الجمل لا يستد عقبة.. ".
وانظر المختار: (71) من كتاب نهج السعادة: ج 1، ص 238.
(3) هذا هو الصواب الذي ذكره في هامش الأصل عن نسخة من الكتاب، وفي متن الأصل المخطوط: " يقتل
ثلاثتهم ".
53

والله لتنبحنها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبر أو يتفكر متفكر؟
والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان وما يجهلان، ولرب عالم قتله جهله
وعلمه معه لا ينفعه.
فتدبروا رحمكم الله هذه الأنباء ففيها التبيان والشفاء، وتفهموا ما يرد عليكم من
الهدى، ولا يذهبن عنكم صفحا لتعلموا أن أموره مبنية على يقين متقدم، وعلم ثاقب
وحجة بالغة. لا يهن عند الشدائد ولا يفتر عند النوازل، أمره في التقدم والبصيرة أمر
واحد لا يضجع في القول، ولا يفتر عند الإقدام، ولا يفرق بين حاله أيام النبي صلى الله
عليه وسلم، وبين هذه الحال في الجهد والاجتهاد، والقوة والعزم والبصيرة في جميع
أموره [فلاحظوا أحواله] لتعلموا أن أعماله مبنية على أساس اليقين، وأموره ماضية
على البصيرة في الدين، وأن هذه الأفعال لا يبينها إلا علم نافذ و [أن] أموره لا تتسق
ولا تتفق إلا لمن اعتمد على الثقة والمعرفة، وأيد بالنصر من الله والملائكة.
ثم قوله [عليه السلام] على المنبر: " إنه لم ير إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل الله " (1).
لا يجترئ من خالفه أن يدعي مثل هذه ولا يقدم أحد على تكذيبه، فأين هذه إلا له.
ثم نتبع هذا الكلام بأن نقول: [إنه كان يقول]: " إنه لعهد النبي صلى الله عليه

(1) وقد رواه البلاذري بسندين في الحديث: (293) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف:
ج 2 ص 236 ط 1.
ورويناه عنه وعن الحاكم في المختار: (78 - 79) من كتاب نهج السعادة: ج 1، ص 255
256.
ورواه أيضا الحاكم في باب مناقب أمير المؤمنين عليه السلام من المستدرك: ج 3 ص 115.
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1211 - 1212) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 3 ص 174، ط 1.
ورواه أيضا الحموئي في الحديث: (218) في الباب: (53) من فرائد السمطين: ج 1، ص 279
ط 1.
54

وسلم إلي أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين " (1)
فهل تجد لمن خالفه مثل هذه الدعوى قبل النظر في الحجة؟ وما تجد لهم إلا عللا
ملفقة ينكرها من سمعها، ويستدل على ريبة القوم بها وضعفهم عند ذكرها، فمرة يطلب
بدم عثمان، ومرة بايعنا مكرهين!! ومرة جئنا لنصلح بين الناس!! مع ما يرد عليهم
من الاحتجاج، ممن رأى الاختلاف في قولهم والتناقض في منطقهم، وما تروون من
تلون عائشة، وروايتكم عنها مرة: أخرج للإصلاح، ومرة تعزم على الرجوع عند تذكر
الخطأ، وعند التوقيف لها [كذا].
هذه روايتكم ظاهرة مكشوفة في ماء الحوأب [بأسانيدكم] عن الشعبي، عن
ابن عباس، قال: طرقت عائشة وطلحة والزبير ماء الحوأب ومن معهم ليلا - وهو
ماء لبني عامر بن صعصعة، فنبحتهم كلاب الحوأب، فنفرت صعاب إبلهم، فقال
قائل: لعن الله أهل الحوأب ما أكثر كلابهم.
قالت عائشة: أي ماء هذا؟ فقال محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير: هذا ماء
الحوأب، فقالت عائشة: والله لا صحبتكم ردوني ردوني، إني سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: " كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي
وهي في فئة باغية، ثم قال: لعلك أنت يا حميراء، قالت: ثم دعا عليا فناجاه بما
شاء " ردوني.

(1) الحديث متواتر، وقد عده علماء السنة من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله.
كما ذكره أبو حاتم الرازي في الفصل: (5) من كتاب أعلام النبوة ص 210 - 211، قال: فقاتل
علي بعده هذا الفرق الثلاثة.
وقد رواه الحاكم النيسابوري في أربعينه بطرق كثيرة.
ورواه عنه الحموئي في الحديث: (219) وتواليه في الباب: (53) من فرائد السمطين: ج 1، ص 281.
ورواه أيضا السيوطي في آخر مناقب أهل البيت عليهم السلام في اللآلي - المصنوعة: ج 1 ص 213.
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1195 - 1210) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 3 ص 158 - 174، ط 1.
55

فقال لها الزبير: مهلا يرحمك الله، يراك الناس والمسلمون فيصلح الله ذات بينهم.
وقال طلحة: ليس هذا بحين رجوع.
ثم جاء عبد الله بن الزبير، فقال: ليس هذا ماء الحوأب، وحلف لها على ذلك،
قالت: وهل من شاهد يشهد على أن هذا ليس ماء الحوأب؟ فأقاموا خمسين رجلا
من الأعراب يشهدون أنه ليس ماء الحوأب، وجعلوا لهم جعلا، وكانت أول شهادة
زور أقيمت في الإسلام (1).
فليعتبر من به حياة، وليذكر من كان له قلب!! واعلموا أن مثل هذه الأخبار
لا تكون مفتعلة، وكيف أفتعل مثل هذه الأخبار في عائشة ولم يفتعل مثلها في علي
[وإنما مهدنا ذلك] لتعلموا أنه لو كان سبيلها التخرص والتقول لجاز لمن خالفه عليه
مثلها، وهذه روايتكم لا تدفعونها / 15 / والكذب من علي والمهاجرين والأنصار أبعد،
ومن الأعراب والطغام، وجند المرأة أقرب.
يقول علي رضي الله عنه وهو بالمدينة: " ستنبحها كلاب الحوأب " وتقول هي
- لما رأت لما ونبحتها كلاب الحوأب -: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم " [وذكرت] ما
ذكرناه آنفا، [ثم قالت]: " ثم دعا بعلي فناجاه ".
هل يكون بيان أوضح [من هذا] من أن عليا لم يقدم ولم يحجم، ولم يقل،
ولم يسكت إلا بأمر من الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قوله: " لئن ظفرا بالأمر - يعني الزبير وطلحة - ليضربن بعضهم بعضا (2).
وقد كان من تشاحهما على الصلاة وقتالهما عليها ما يحقق قوله رضي الله عنه.

(1) والقصة من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله حيث أخبر بها نحوا من أربعين سنة قبل وقوعها، فوقعت
على وفق ما أخبر بها صلى الله عليه وآله. وهي من ضروريات فن التاريخ والحديث، وقد رواها في كتاب
فضائل الخمسة: ج 2 ص 369 عن مصادر كثيرة.
(2) هذا نقل بالمعنى، ونص الحديث كما تقدم آنفا: " فوالله لئن ظفروا بما يريدون - ولا يرون ذلك أبدا -
ليضربن طلحة عنق الزبير، والزبير عنق طلحة.. ".
56

[استقبال الصحابي الكبير عمران بن حصين الخزاعي وأبي الأسود الدئلي أم
المؤمنين عائشة بقرب البصرة ونصيحتهما لها ووعظهما إياها].
وذكروا أن عائشة لما قربت من البصرة، لقيها عمران بن حصين الخزاعي صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الأسود الدئلي، فلما دخلا عليها قالا لها: يا أم
المؤمنين! أبعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت من بيتك؟
ألم يبايع الناس لابن عم نبيهم ووصي رسولهم وخير من تعلمون؟ فتركت بلد رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأتيت البصرة؟!! قالت جئنا نطلب بدم عثمان!!
فقال لها عمران بن حصين: ليس بالبصرة أحد من قتلة عثمان. قالت: لكنهم مع
عل‍ بن أبي طالب، فجئنا لنقاتلهم فيمن تبعنا من أهل البصرة وغيرهم!! غضبنا لكم
من السوط والعصا على عثمان، ولا نغضب لعثمان من السيف؟ فقالا لها: وما أنت
من سيفنا وسوطنا وسوط عثمان وعصاه؟ إنما أنت حبيسة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد أمرك الله أن تقري في بيتك، وتذكري ما يتلى فيه من آيات ربك، فتركت ذلك
وجئت تضربين الناس بعضهم ببعض؟ ولست من طلب الدماء وحضور القتال في شئ؟
وعلي أولى بعثمان منك! فقالت: وهل أحد يقاتلني؟! قال: إي والله قتالا أهونه
الشديد، قالت: إنما جئت مصلحة ألم ولا أشعث، وأجمع ولا أفرق!!.
فقال لها عمران بن حصين: اتقي الله يا أم المؤمنين فإن الله إنما عظمك وشرفك
في أعين الناس ببني هاشم، فاتقي الله واحفظي قرابة علي من رسول الله صلى الله عليه
وسلم وحبه إياه.
57

قد بايع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك، فرضي وسلم ولم يخالف
ولم ينكث (1) ثم جعله عمر سادس ستة فرضي وسلم. ثم كان من أحداث عثمان،
وأمر الناس فيه ما قد علمت، وكنت أنت أشد الناس فيه قولا، وأكثرهم عليه تحرضا.
ثم بايعه طلحة والزبير والناس، وأتتنا كتبهم بذلك فرضينا وبايعنا، فما الذي بدا لكم؟!
فلم يكن عندها شئ أكثر من أن قالت لهما: القيا طلحة
فهذا كلام من خالفه [وهو] يدل على تهمة قائله وخطئه، من قولها: " أتينا نصلح بين
الناس " والناس على هدوء وسكون، وسبيل استقامة وطاعة في مصرهم وما بينهم،
فلما دخلوا المصر، أوغروا الصدور، وشتتوا الكلمة وعصبوا القبائل، ودعوا إلى خلاف
ابن أبي طالب، وقتلوا السبابجة وغيرهم من أهل السوابق والفضل.
فتدبروا أفاعيلهم تجدوها ناقضة لأقاويلهم، منبهة لهم على مرادهم وبغيتهم.
فهذه أحوالهم قد كانت مكشوفة لأهل الفطنة والمعرفة، ثم انكشفت لأهل
التقليد والحيرة ممن لم يكن له معرفة عند انكشاف الحق، وحين وضعت الحرب أوزارها
ازداد أهل الإيمان والمقتدون بالإمام بصيرة ويقينا، ورجع المفرطون إلى التلهف والأسف
والندامة، وارتهن الماضي منهم بعمله، وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب / 16 / ينقلبون.
فارجعوا رحمكم الله إلى الأخذ بما تعرفون، واعرفوا للفاضل فضله، وللمحق
حقه، تكونوا في حزبه، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين.

(1) أما عدم مخالفة أمير المؤمنين علي عليه السلام عملا مع القوم فمسلم، وأما رضاه عليه السلام عنهم فلا.
وقد تقدم في ص 46 ذكر شواهد جمة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في شكايته عنهم، وأنهم
ظلموه وغصبوا حقه. فلما لم يجد أنصارا يصول بهم لاسترداد حقه سكت وأغضى على القذى وصبر من
كظم الغيظ على أمر من العلقم، وآلم من حز الشفار!!! فم‍ هاهنا إن ثبت أن عمران وأبا الأسود قالاه لأم
المؤمنين، فالمراد منه لازمه وهو عدم قيام علي عليه السلام لمخالفة القوم عملا، لا أنه كان راضيا عنهم.
58

فلو أردنا أن نذكر لكم كل ما في هذه الأبواب بالتقصي لطال ذلك، ولكنا
نذكر من كل باب جملة كافية وصفات شافية.
ثم انظروا في سير أمير المؤمنين وحروبه، فاعتبروا بفعله وقوله، فإنكم تجدونه
أوفى الناس بذمة، وأعدلهم سيرة، وأحسنهم عفوا عند المقدرة، وأدعاهم إلى النصفة،
وأصبرهم على محنة، وأصدعهم بأمر الله.
59

[كتاب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى واليه على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري
لما صح عنده مسير طلحة والزبير إلى البصرة وأمره إياه بالحسنى. وبعض مكارم أخلاقه مع أصحاب الجمل].
كتب (1) [عليه السلام] عندما صح عنده من مسير القوم إلى البصرة - ونكثهم
وخروجهم من طاعته - إلى واليه بالبصرة:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف
أما بعد فإن النكثة لما عاهدوا الله [عليه] نكثوا. ثم توجهوا إلى مصرك، وسائقهم
الشيطان يريدون ما لا يرضى الله به، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا، فإن قدموا مصرك
فادعهم إلى الحق والرجوع إلى الوفاء بعهد الله والميثاق الذي بايعوا عليه، فإن فعلوا
فأحسن جوارهم، ومرهم بالانصراف إلى المكان الذي أقبلوا منه، وإن أبوا وتمسكوا
بحبل النكث فقاتلهم حتى يحكم الله بينك وبينهم (2).
ثم إن عليا رضي الله عنه ظفر بهم فلم يجهز على جريحهم، ولم يفتح منازلهم،
ولم يتبع المولي منهم، ولم يغنم أموالهم، يتبع حكم الله فيهم في الأحوال كلها.
ثم دعا بمحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وأمرهما بأن يكونا قريبا من عائشة
فإذا انكشف القوم دنوا منها، ودفعوا الناس عنها، ويستروها، لأن لا يبدو للناس من
أمرها ما لا يحل حفظا لها ورفقا بها.
ثم أخرى قد تعلمونها لا يمكنكم دفعها، ولا يقبل قلوبكم غيرها، أن الرجل القاسي

(1) هذا هو الظاهر من السياق، وظاهر رسم الخط من الأصل المخطوط: " يكتب " ويساعد رسم الخط أيضا
ضعيفا أن يقرأ: " فكتب ".
(2) ورويناه عن مصدر آخر في المختار: (14) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 42.
60

القلب، المنهمك في الشر إذا نزل به ملك الموت رق قلبه، واستغفر ربه من معصية
إن عملها، أو شبهة إن كانت.
قد علمتم أن عمر بن الخطاب قد ندم في مرضه على أمور كثيرة، ودعا علي بن
أبي طالب، فسأله عن رضائه عنه، وقال: إن بقيت صرت إلى التسوية بين الناس.
وهذا أبو بكر يقول في بعض كلامه: إذا أنا زللت فقوموني فإن لي شيطان يعتريني
فإذا غضبت فتنحوا عني، لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم (1).
و [هذا] عمر يقول: أنشدكم بالله هل تعرفوني عدلا؟ يقولها ثلاثا.
وهذا الزبير وما كان من نصرته عند توقيف علي له (2).
وذكروا أن رجلا قال لعلي - رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين - عندما اشتدت
الحرب، وبلغت [ما بلغت] من القوم: يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه؟
إن البدريين يمشي بعضهم إلى بعض بالسيف!!؟
فقال له علي رضي الله عنه: أفتنة هذه ويحك وأنا قائدها وأميرها؟!
والذي أكرم محمدا بالحق صلى الله عليه وسلم، ما كذبت ولا كذبت، ولا
ضللت ولا ضل بي، ولا زللت ولا زل بي، وإني لعلى بينة من ربي، بينها الله لرسوله
وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم لي، وليكفرن عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم.
وهذه عائشة وما تظهر من ندامتها وبكائها، وقولها: لوددت أن الله أماتني قبل
ذلك بعشرين سنة.
هذا مع قولها في عمار: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الجنة تشتاق

(1) هذا هو الصواب، والأبشار: جمع بشرة: ظاهر الجلد، وفي الأصل: " أشباركم.. "
(2) لفظة: نصرته " رسم خطها غير واضح في أصلي.
61

إلى أربعة: أحدهم عمار بن ياسر (1).
فقال لها رجل من ثقيف: كيف كنت صانعة يا أم المؤمنين لو أنه قتل عند جملك؟!
وما يؤثر عن طلحة وإقراره بالخطأ، وقوله عند الموت: ما رأيت شيخا أخطأ
مني، وقد عنا الله [بنا] بهذه الآية: " أو اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم
خاصة " [25 / الأنفال: 8].
وعلي مستبشر بما فعل، جاد مجتهد مسرور بما رزقه الله من الصبر على جهاد
من بغى عليه، مبشر لأصحابه مرغب.
تلك حاله في السراء والضراء، شاكر ذاكر صابر، محتسب حتى / 17 / لقي
الله مفقودا شهيدا صلوات الله عليه صلاة تامة زاكية مرضية، وألحقه بنبيه محمد صلى
الله عليه وآله وسلم تسليما.
[و] قد قلنا في الإمامة بما فيه البيان والكفاية، والحمد لله على منه وإحسانه حمدا
كثيرا، وشكرا أبدا سرمدا

(1) أنظر الحديث: (331) وتواليه من مناقب من ابن المغازلي ص 290 والحديث: (658) من ترجمة أمير المؤمنين
عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 178، ط 1.
62

[البيان التفصيلي لأفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر
بعد الأنبياء والرسل، لاحتوائه على أصول المكارم، واشتماله على أساس المحاسن مما
قد تفرق في غيره، واستغنائه عن غيره، واحتياج غيره إليه].
وبعد فمن سألنا من أصناف أهل النظر في تقديم علي بن أبي طالب على جميع
البشر بعد النبيين والمرسلين (1) وقال: قد طعنتم فيما قلنا (5) فأثبتوا قولكم بحجج لا
يمكن دفعها، وأبينوا صاحبكم بفضيلة يكون بها على غيره مقدما.
قلنا: ذلك لكم علينا، ونحن ذاكرون - وبالله نستعين - من أموره أمورا مكشوفة
لا تدفع، وحججا قوية لا ترد، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا، وإياه نسأل تأييدنا.
فقد عرفتم أن فضل الفاضل، ومنزلة المتقدم، إنما يكون بفضل وتفضل باجتماع
مناقب الخير فيه، واحتوائه على الفضائل، فيجتمع فيه ما يتفرق في غيره، فلا يكون
له مساو فيما جمع، ولا نظير فيما حوا [5].
وتفسير المناقب والخصال التي بها يجب فضل الفاضل ما لا ينكرونه أمور أولها:
العلم بالله وبدينه، والذب عن توحيده، والقيام بحجته على من عند عنه، وفي
تحقيق ذلك يقول الله: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " [9 / الزمر: 39] (2)

(1) وانظر عنوان: " علي خير البرية " وانظر أيضا الحديث (960) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 2 ص 444 وما حولها من ط 1.
(2) وقال تعالى في الآية: (50) من سورة الأنعام: 6: " قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ".
وقال تعالى في الآية (16) من سورة الرعد: 12: " هل يستوي الأعمى والبصير؟ أم هل تستوي الظلمات
والنور ". وبسياقهما الآية: (19) من سورة فاطر، والآية: (58) من سورة فاطر غافر.
63

وقال: " أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر
أولوا الألباب " [19 / الرعد: 13] وقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء " [28 / فاطر: 35].
ثم بعده التقدم في الإسلام، وفي تحقيق ذلك يقول الله: " لا يستوي منكم من
أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا
وعد الله الحسنى " [10 / الحديد: 57].
ثم جهاد العدو، وفيه يقول [الله تعالى]: " فضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما " [95 / النساء: 4]
وقال: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في
سبيل الله (1) فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى
بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " [111 / التوبة: 9].
ثم الصبر على البأساء والضراء، وكظم الغيظ، وفيه يقول الله تبارك وتعالى: "
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم
المتقون " [177 / البقرة: 2].
وقال: " [يا أيها الذين آمنوا] اصبروا وصابروا ورابطوا [واتقوا الله لعلكم
تفلحون " [200 / آل عمران: 3].
[وقال تعالى:] " وبشر الصابرين [الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا
إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون] " (2).

(1) إلى هنا ذكرها في الأصل ثم قال: إلى قوله: " فاستبشروا ببيعكم الذي..
(2) وهذه هي الآية: (155 - 157) من سورة البقرة، والمصنف ذكر كلمتين منها في المتن.
64

[وقال جلا وعلا:] " واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " [35 / الأحقاف:
46].
[وقال عز شأنه:] " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " [134 / آل عمران:
3].
ثم العبادة بالزهد والصوم والصلاة والمسارعة في أعمال البر.
فهذه مناقب الفضل، ومنازل الخير، فهي مذكورة في القرآن بالجملة والتفسير،
فمن حازها وجمعها فهو المتقدم بها [على] الناس باجتماعها.
65

[أفضلية علي عليه السلام من غيره من جهة سبقه إلى الإسلام، واعتناقه به حيثما
كان غيره يعبد الأصنام].
فنبتدئ بذكر تقدمه في الإسلام فإن الناس مختلفون (1) في أبي بكر وعلي، وقد
أجمعوا أن عليا أسلم قبله (2) إلا أنهم زعموا أن إسلامه كان وهو طفل فقد وجب تصديقنا
في أنه أسلم قبله. ودعواهم في أنه كان طفلا غير مقبول إلا بحجة (3).
فإن قالوا: وقولكم: إنه أسلم وهو بالغ، دعوى مردودة.
قلنا: الإسلام قد ثبت له، وحكمه قد وجب بالدعوة والإقرار ولو كان طفلا
لكان في الحقيقة غير مسلم، لأن أسماء الإسلام والإيمان، وأسماء الكفر والضلال والطاعة

(1) هذا هو الظاهر وفي الأصل: " بذكر التقدمة في الإسلام فإن الناس يختلفون.. ".
(2) وبعد الاجماع الأخبار أيضا بذلك متواترة فانظر الحديث: (59 - 140) وما علقناه عليها من ترجمة الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 41 - 117، ط 2.
وانظر أيضا الباب: (21) من الفصل: (2) من كتاب غاية المرام ص 99 ط 1، والباب (65)
من البحار: ج 9 ص 325، وفي ط الحديث: ج 38 ص 201 ط 2 وذيل إحقاق الحق: ج 4 ص 29،
وذكره أيضا في ج 5 ص 493، وفي: ج 7 ص 493.
وقد ذكر المصنف أيضا قطعا كثيرة من هذه الأقمار المنيرة مسندة في رده على عثمانية الجاحظ المطبوع
في آخرها ص 282.
وقد رواها عنه ابن أبي الحديد في شرح الخطبة القاصعة - وهو المختار: (238) من نهج البلاغة -:
ج 3 ص 250 طبع القديم بمصر، وفي الطبع الحديث: ج 13، ص 219.
(3) وهذا الفصل وأكثر ما يأتي بعد ذلك ذكرها المصنف في رده على عثمانية الجاحظ ولكن بألفاظ أجود مما هاهنا.
66

والمعصية، إنما يقع على العقلاء البالغين دون الأطفال [والمجانين] (1).
وحجة [أخرى] أيضا: إن الله لم يرسل رسولا إلى الأطفال والمجانين، فلما رأيناه
قد قصد صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب فدعاه إلى الإسلام، وأمره بالإيمان
وبدأ به قبل الخلق علمنا أنه عاقل بالغ، وأن الأمر له لازم.
فإن قالوا: وما تنكرون أن يكون ذلك منه بالتأديب كما يكون / 18 / ذلك منا
إلى أطفالنا على جهة التعليم.
قلنا: ذلك من قولكم غير جائز وإنما ذلك يكون منا عند تمكن الإسلام بأهله
وعند ظهوره والنشوء والولادة عليه، فأما في دار الشرك والحرب فليس يجوز ذلك،
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليدع ما أرسل به ويقصد إلى دعاء الأطفال والدار
دار شرك وكفر، فيشتغل بالتطوع قبل أداء الفرض [و] ذلك عنه منفر صلى الله عليه
وسلم.
وما باله لم يدع طفلا غير علي بن أبي طالب؟! وليس في السنة أن يدعى أطفال
المشركين إلى الإسلام، ويفرق بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم.
وحجة [أخرى] أيضا. إن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في بدء الدعوة
منزلة ضيق ووحدة وغربة وشدة، وهذه منازل لا ينتقل إليها إلا من قد تمكن الإسلام
عنده بحجته، ودخل اليقين قلبه بالعلم والمعرفة، وشأن الطفل اتباع أهله، وتقليد
قرابته، والمضي على منشئه ومولده، وأن لا يدخل فيما تزعجه المعرفة، وتميل إليه النفس
باليقين والعلم والعاقبة (2).

(1) ما بين المعقوفين مأخوذ مما ذكره المصنف في رده على عثمانية الجاحظ، وزاد بعده: وإذا أطلقتم وأطلقنا عليه
اسم الإسلام، فالأصل في الاطلاق.
الحقيقة كيف وقد قال له النبي صلى الله عليه وآله: أنت أول من آمن بي وصدقني. وقال لفاطمة:
زوجتك أقدمهم سلما. أو قال: إسلاما.
(2) ولأبي جعفر رحمه الله في رده على عثمانية الجاحظ هاهنا أدلة فطرية، وأبحاث وجدانية يصدقها كل عاقل
سلمت فطرته ولم يعقد قلبه على بغض الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ومشاقة الحقائق، وآثرنا أن
نذكر ها هنا جملا منها، قال:
وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه، ولم يلصق بأشكاله، ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه،
وهو كأحدهم في طبقته، كبعضهم في معرفته؟!!!
وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته؟ فيقال: دعاه نقص الصبا وخاطر من خواطر الدنيا، وحملته
الغرة والحداثة على حضور لهوهم، والدخول في حالهم! بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه، مصمما في
أمره، محققا لقوله بفعله، وقد صدق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول الله صلى الله عليه وآله من بين
جميع من [كان] بحضرته، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته، وقد قهر شهوته وجاذب خواطره صابرا
على ذلك نفسه لما يرجوه من فوز العاقبة، وثواب الآخرة.
67

فإن قالوا: إن عليا قد كان يألف النبي صلى الله عليه وسلم، فوافقه على طريق
المساعدة.
قلنا لهم: وإن كان يألفه، فلم يكن إلفه [به] بأكثر من [إلفه] أبويه وإخوته
وعمومته وأهل بيته (1) ولم يكن الألف مما يخرجه عما نشأ عليه وغذي به، ولم
يكن الإسلام مما غذي به، وكثر على سمعه.
ووجه آخر: إن الإسلام لا يكون إلا بخلع الأنداد والأصنام، وكل معبود من

(1) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " أبوته... " وما بين المعقوفين زيادة توضيحية منا.
وقال المصنف في ذيل ما ذكرناه الآن عنه في نقض عثمانية الجاحظ:
ثم لينظر المنصف، وليدع الهوى جانبا، ليعلم نعمة الله على علي عليه السلام بالإسلام حيث أسلم على
الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خص بها والهداية التي منحها له، لما كان إلا كبعض أقارب
محمد وأهله صلى الله عليه، فقد كان ممازجا له كممازجته، ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله
ورهطه، ولم يستجب أحد منهم له إلا بعد حين، ومنهم من لم يستجب له أصلا..
وساق الكلام في تسمية من استجاب النبي ومن لم يستجبه من عشيرته إلى أن قال:
فكيف ينسب إسلام علي عليه السلام إلى الألف والتربية والقرابة واللحمة، والتلقين والحضانة، والدار
الجامعة، وطول العشرة، والأنس والخلوة، وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء، أو لكثير منهم، ولم يهتد
أحد منهم إذ ذاك، بل كانوا بين من جحد وكفر ومات على كفره، ومن أبطأ وتأخر وسبق بالإسلام، وجاء
سكيتا وقد فاز بالمنزلة غيره.
وهل يدل تأمل حال علي عليه السلام مع الإنصاف إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام، ورأى المعجزات
وشم ريح النبوة، ورأى نور الرسالة، وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح، لا بتقليد ولا حمية
ولا رغبة ولا رهبة، إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة.
68

دون الله والبراءة ممن أشرك بالله وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل، بل قد يشتد اجتماع
ذلك عند العقلاء البالغين إلا من آثر الحجة، ورغب في العاقبة، وخاف عذابا لا طاقة
له به.
وإن قالوا: فكيف أوجبتم له حكم البلوغ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في
البلوغ كان في خمس عشرة سنة، ولم تكن هذه سن علي بن أبي طالب؟ وذلك أن
حكمه كان يوم الخندق في إجازته من أتت عليه خمس عشرة سنة (1).
قلنا لهم: إن آخر حد البلوغ هو [إكمال] خمسة عشر سنة، ولآخر حد البلوغ آخر
وأوسط يعلمه الله ويعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الحكم في خمس عشرة
سنة جعله الله حكما وقف العباد عليه، لأن أقل الخلق عقلا وأنقصهم طبعا في القوة
على المعرفة يتم بلوغه في خمس عشرة سنة.
وفي الناس تفاضل في سرعة البلوغ وكمال العقول فأول حد البلوغ هي منزلة علي
ابن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي ثلاث عشرة سنة، وآخر حد البلوغ
هي منزلة عبد الله بن عمر وهو خمس عشرة سنة، وبين ذلك وقت البلوغ على قدره
لتفاضل الناس في العقول وذلك معروف في التعارف والعادة وما عليه الصغار والكبار
من التفاضل في الحفظ والعلم والفطن والبلوغ من الاحتلام والحيض وذلك أيضا معروف
في صفة الصبيان في الكتاتيب والصناعات [فإنهم] مختلفون في حفظهم وقوتهم على التعليم، وقد
يوظف المعلم على كل صبي ما يحتمله حفظه، وتضبطه معرفته.
ولله أحكام كثيرة هي مثال ما قلنا [ه] في البلوغ، في أن البلوغ حد له أول وآخر

(1) أنظر لي ما ذكره أبو جعفر في رده على عثمانية الجاحظ في سرد الأخبار الدالة على كمية عمر علي عليه السلام
حين أظهر إسلامه.
وليلاحظ أيضا الحديث: (64 - 69) وتعليقها من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 1، ص 44 - 46 ط 2.
69

وواسط، كما حكم صلى الله عليه وسلم في وقت صلاة الظهر أن أوله أن يكون ظل
كل شئ مثله، وآخره أن يكون ظل كل شئ مثليه، وقال صل الله عليه وسلم: ما
بين هذين وقت لأمتي. وكذلك ما وقت في صلاة العصر على هذا المثال.
قلنا: فقد أبان الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن جميع المؤمنين في عقله
فجعله أول الناس بلوغا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأقدمهم إسلاما، وكان في سن
الأطفال، وعقول البالغين، فبان عقله وتقدم في إسلامه وتكليفه.
وأنتم قد تعلمون أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في البلوغ / 19 / والعقل ليست
كمنزلة الخلق، كذلك كان في صغر سنه يعرف بالوقار والحلم والوفاء والصدق والرجاحة
في علمه.
[وإنما أطلنا الكلام] ليعلموا أن حكم البلوغ يختلف، وأن الناس يتفاضلون فيه،
فمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحقها أحد، ومنزلة علي دونها لم يلحقها أحد. ليعلموا
أن أموره عند الفكرة فيها والاستنباط لها منزلة على البينونة من الناس والقرب من النبي
صلى الله عليه وسلم لذلك استحق أن يكون منه بمنزلة هارون من موسى - صلوات
الله على محمد وعلى من تقدمه من الأنبياء - وقد رويتم أنه اصطفاه لإخوته، وقال:
علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي (1).
وقد رويتم ما قلنا [ه] في الأثر: ذكروا أن عليا دخل على النبي صلى الله عليه
وسلم، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة يصليان، فلما فرغ قال له علي: ما
هذا الذي رأيتك فعلت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا دين الله - يا علي -
الذي بعثني به فأدخل فيه. فقال له علي بن أبي طالب: انظرني حتى أتفكر فيه الليلة.

(1) والحديث متواتر بين شيعة آل أبي سفيان فضلا عن تواتره بين شيعة أهل البيت صلوات الله عليهم. ويكفيك
مراجعة الحديث: (336) وتواليه من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1.
ص 306 - 394 ط 2.
70

فأنظره، ثم أصبح مسلما بعد الروية والفكرة.
فليس هذا فعل طفل ولا جوابه، ولا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم دعاء طفل.
ويروى عن زيد بن علي عليه السلام، أن عليا أتى بغلام قد سرق فقال: حلوا
مئزره وانظروا إليه. فنظروا فلم يجدوا شيئا، فقال خلوا سبيله، وقال: الغلام إذا أتت
عليه اثنتا عشر سنة جرى عليه الحكم وله فيما بينه وبين الله، والجارية إذا أتت عليها
عشر سنين جرى عليها [الحكم] ولها فيما بينها وبين الله، وإذا بدت العانات جرت الحدود.
فهذا في الأثر قد أتى وإن كان ما قلنا [ه] قد وجب بحجة الخبر، ودللنا على معرفته
بالقياس وحسن النظر.
وفي مثله وتحقيقه يؤثر عن أسماء بنت عميس، قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه
وسلم فأسند ظهره إلى قبة ثم قال: لأقولن اليوم كما قال أخي موسى صلى الله عليه
وسلم: اللهم اغفر لي ذنبي، واشرح لي صدري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي
اشدد به أزري، وأشركه في أمري، كي نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت
بنا بصيرا (1).
فأشهد أن الله قد أجابه وشفع مسألته، ثم أمره بأن يشهر ذلك لأمته في حجة الوداع
تأكيدا وإظهارا لأمر الله، لتقوم بذلك الحجة على الخليقة، وينقطع عذر الناصبة
النابتة والمرجئة، فقام خطيبا فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم نعم.
فقال: ألست أولى بكل مؤمنة من نفسها؟ (2) قالوا: اللهم نعم. فأخذ بيد علي وقال:

(1) اقتباس من الآية: (30 - 33) من سورة " طه ".
والحديث رواه الحافظ الحسكاني في تفسير الآية الكريمة من شواهد التنزيل بأسانيد، ورويناه أيضا
في تعليقه عن مصادر بأسانيد.
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة... ".
وهذا هو حديث الغدير المتواتر بين المسلمين، فانظر الحديث: (501) وتواليه من ترجمة أمير المؤمنين
علي عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 5.
71

من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
فهذا يصدق من قلته من الرواية، ويقطع علة كل معتل يلتمس إدخال شبهة من
أهل الكلام والنابتة والمرجئة، لأن هذا خبر قد بانت حجته، وثبتت أسبابه وأركانه،
وما قلنا [ه] من طريق النظر فقد تقصينا بما فيه كفاية مما لا يمكن للمخالف أن يدخل
في ذلك شبهة، وثبت ذلك بحجة واضحة بغاية ما يكون للمخالفين من الدحل - فنحمد
الله على ما أعطى وأنعم -
ففضيلة السبق في الإسلام قد ثبتت [لعلي] وصحت.
وفي الإسلام فضيلة أخرى [لعلي] تتلو ما تقدم، وهو أن إسلام أبي بكر كان
عن كفر تقدم، وإسلام علي عن غير خطأ وزلل (1) فكيف لا تكون هذه فضيلة ثابتة
وقد بانت بها الرسل قبله، تكون معها الرسالة، كيف لا تكون لعلي فضيلة لأنها من
معاني الطهارة، وزوال التهم، وازدياد في الحجج.
فإن قال قائل: فأنت أفضل من أبي بكر / 20 / لأنك أسلمت لا عن كفر، وأسلم
أبو بكر عن كفر.
قلنا: ليس ما قلت قياسا [صائبا] لأن أبا بكر وعليا كانا في زمن واحد بين قوم
مشركين، أحدهما قد نشأ وعقل فبعد (2) وقصد وأشرك وكفر - ولله عليه في تلك الحال
حجج من قبل الرسل قائمة -.
وعلي في تلك الحال قد نشأ في دار الشرك والكفر كما نشأ أبو بكر، فلا قرعته
الحجة أسلم ولم يجحد، وآمن ولم يكفر
ومنزلتي مخالفة لهذه المنازل، لأني إنما نشأت في دار الإسلام والإيمان، وولدت

(1) هذا هو الظاهر و، وفي الأصل عن غير خطأ ولا زلل.. ".
(2) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " فبعدا " مهملة. ويحتمل أيضا أن الأصل كان " فعند " فصحفها
الكاتب.
72

على ذلك، وتلك منزلة الأب والأم [و] ليس بتلك المنزلة علي بن أبي طالب وأبو
بكر [لأنهما] استويا في الولادة في دار الشرك، وفي كفر الأب والأم، ثم اختلفا
في الإسلام، فخلص له الفضل على أبي بكر، إذ اتفقت العلل والأسباب، واختلفا
في الكفر والإيمان.
وفرق [آخر] أيضا فيما سألتم عني وعن أبي بكر وذلك لأن أبا بكر قد بان مني
بأمور كثيرة لا أقاس أنا به، وأكون بهذه الخصلة مقدما عليه، لو كنت له مساويا في
الأمور كلها خلاف هذه الخصلة لكنت منه باينا.
وأمور على كلها تؤكد تقدمه عليه وفضيلته في الخصلة التي ذكرناها.
فإن قال قائل: قد نجد لأبي بكر فضيلة في السبق ليست لعلي (1) بدلالة الآية:
[10 / من سورة الحديد] وهي قوله: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل،
أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " لأنه أسلم
أبو بكر وهو ذو مال فأنفقه على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى قال: لقد
نفعنا مال أبي بكر.
قلنا: إن الله لم يذكر إنفاق المال مفردا، وإنما قرن معها (2) فضيلة بان بها علي
على أبي بكر وهو سبق علي إلى القتال فلما قرن الله الإنفاق مع القتال وكان لأبي بكر
الإنفاق (3) دون القتال حصلت الفضيلة لعلي بن أبي طالب بالقتال.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " لأبي بكر فضيلة في السبق بدلالة الآية.. ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لما سنذكره عن نقض العثمانية، وفي الأصل: " إن الله إنما ذكر إنفاق المال مفردا
وقد قرن معها فضيلة... ".
(3) هذا من باب المجاملة والتسليم للخصم جدلا، وإلا لم يعهد لأبي بكر إنفاق أبدا، والدليل على عدم كون
أبي بكر من المنفقين هو تقاعده مع أخذانه عن مناجاة رسول الله مخافة أن ينقص من مالهم مقدار دانق أو
أقل، من أجل التصدق على الفقراء كي يحل لهم المناجاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فتركوا
رسول الله وحده ولم يناج معه غير علي بن أبي طالب كان له دينار صرفه بعشرة دراهم، كلما أراد أن يناجي
مع رسول الله تصدق بدرهم حتى نسخت الآية الكريمة، ونزل في ذم الممسكين عن النجوى والتصدق. قوله
تعالى: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم " [14 / المجادلة].
فراجع تفسير الآية: (13) من سورة المجادلة من شواهد التنزيل: ج 2 ص 231 ط 1، حتى ينكشف
لك توغل القوم في اللؤم.
وقال المصنف في رد فخفخة العثمانية وبخبختهم لإنفاق أبي بكر:
أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق [أبو بكر] هذا المال؟ وفي أي وجه وضعه؟ فإنه ليس بجائز أن
يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه وينسى ذكره.
وأنتم لم تقفوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها يبلغ ثمنها في ذلك العصر مأة درهم.
وكيف يدعى له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله صلى الله عليه وآله بعيرين عند خروجه إلى يثرب
وأخذ منه الثمن في تلك الحال، روى ذلك جميع المحدثين.
وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة موسرا. ورويتم عن عائشة أنها قالت: هاجر أبو بكر وعنده
عشرة آلاف درهم، وقلتم: إن الله تعالى أنزل فيه: " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى "
[22 / سورة النور: 34] قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة.
فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة.
وأنتم رويتم أيضا: أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال: " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا
بين يدي نجواكم صدقة ذلكم خير لكم " [13 / المجادلة]. لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده
مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الذي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته، فعاتب الله المؤمنين
في ذلك فقال: " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات؟ فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ".
فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه. وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة!!
فكيف سخت نفسه [أي أبي بكر] بإنفاق أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول، وإنما كان
يحتاج إلى إخراج [درهم أو] درهمين.
وساق الكلام إلى أن قال: فأما قوله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق.. " فقد ذكرنا ما عندنا من
دعواهم لأبي بكر إنفاق المال.
وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا وإنما قرن به القتال. ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب
فلا تشمله الآية. وكان علي عليه السلام صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح..
أما قتاله فمعلوم بالضرورة. وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره.
وهو الذي أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، فنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة كاملة من
القرآن [وهي سورة الدهر].
وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا. ودرهما علانية ليلا، ثم أخرج منها في النهار درهما
سرا ودرهما علانية [كذا] فأنزل فيه قوله تعالى: " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " [274 /
سورة البقرة].
وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون المسلمين كافة.
وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع فأنزل الله فيه: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون
الصلاة، ويؤتون الزكاة وهم راكعون، [55 سورة المائدة: 5].
أقول: وليراجع الأخبار الواردة حول شأن نزول هذه الآيات المباركات من كتاب شواهد التنزيل فإنه
مغن عن غيره، ويلقم النواصب حجر الحجة. ويجعل أفئدتهم هواءا.
73

فإن قال قائل: ولم جعلت فضيلة القتال لعلي إذ تفرد بها ولا تجعل فضيلة الإنفاق
لأبي بكر إذ تفرد بها؟
قلنا: لأن الله قد ندبهما جميعا إلى القتال ولم يندبهما إلى الإنفاق فلا يلزم عليا التقصير
في الإنفاق لأن الله لم يندبه إليه، ووجب على أبي بكر التقصير في فضيلة القتال لأنه
مندوب إليه، وعلي غير مندوب إلى الإنفاق، ولو كان لهما جميعا مال قد ندبا إلى
الإنفاق منه، فأنفق أحدهما ولم ينفق الآخر كان صاحب الإنفاق أفضل، كما أنهما
74

لما اتفقا في ندبة القتال فقاتل أحدهما ولم يقاتل الآخر كان صاحب القتال أفضل.
فهذا في الحجة مؤكد لما تقدم، وعلى مثال ما قلنا، بل أدل وأبين وقد استوت حاله
فيما يمكن به القتال مع وجوب الأمر عليهما، ففضل من أقدم عن منزلة من منزلة من
أنفق إذ كان معدما والآخر موجدا فقد استوت حالهما في الأمر في القتال وقد مكنا،
واختلفت حالهما في المال في العدم والوجود، فالذي قاتل قد فضل على من لم يقاتل
إذ كانا جميعا قد ندبا إلى القتال ولم يكونا جميعا مندوبين إلى الإنفاق، فلم يفضل من
أنفق على من لم ينفق، إذ لم يكن [الإنفاق] مأمورا به.
فتفهموا ما قلنا، والطفوا في النظر فما بقيت لكم غاية في النقض إلا وقد ذكرتها
فصرت من المسألة إلى آخرها وحد الكلام فيها ولم أغتنم تقصيركم عن غايتها وعجزكم
عن القيام بها وتوليت من أموركم كلما سبق إلى قلبي أنه يجري في عللكم وألزمت نفسي
الصدق فيما لي ولكم، وجانبت الهوى في الميل عليكم ففعلت ذلك لخلال.
أولها: أداء ما يجب لله [علي] من المبالغة في الطلب والاجتهاد في النظر.
والثانية: لأن ينقطع العلل والقال ممن يدعي النظر فلا يقول: أغفل وقصر.
75

والثالثة: أردت أن أحاشيكم إلى مثل هذه الطريقة الواسطة / 21 / المثلى لنكون
نحن وأنتم عليها في النظر فيما اختلفنا فلا نتعدى في المقال، ولا نتعسف الكلام بالدعوى
دون الحجة والبيان وترك الإنصاف.
وبالله لقد صدقتكم عن نفسي ومحضت لكم نصحي، ولم أبق لكم علة في مبلغ
اجتهادي، وبالله عصمتي وتوفيقي.
ومتى جعلتم الدعوى حجة وسلحتم بالتعسف والمكابرة، تركناكم والرافضة،
فقد يقصر دعواكم عند دعواها، وتقلون عن مناظرتها، وتضطركم إلينا فأعينونا على
نصحكم بالإنصاف وحسن التفهم، وسأزيدكم في فضيلة السبق شرحا يزيد في إيضاح
الحق تبيانا فأحضرونا أفهامكم.
قد تعلمون أن الله امتحن عباده بالشدة والرخاء والنعمة والبلاء ليبلوهم أيهم أحسن
عملا.
فمما امتحن به عباده الفقر والغنى فمنزلة علي الفقر، في إسلامه، ومنزلة أبي بكر
الغنى في إيمانه. فالغنى نعمة قد أوجب الله الشكر عليها، وفي الشكر عليها منازل:
منها أداء الفرض، ومنها التطوع بأبواب البر، فالفرض على الغني الزكاة في ماله، والتطوع
في الغنى فالنفقة في أبواب البر، وسد الخلة، ومواساة أهل الحاجة.
والفقر بلية امتحن الله بها الفقير [و] قد أوجب الله الصبر عليها، وللصبر (1) منازل:
منها فرض، ومنها تطوع.
قلنا: فأبو بكر قد جاز في منزلة الشكر حد الفرض، وصار إلى التنفل بماله،
والتطوع بإنفاقه (2).

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " فالصبر منازل.. ".
(2) قد تقدم في التعليق السالف إنه دعي إلى إنفاق دانق ليناجي أفضل مخلوق وينال أكرم مطلوب فبخل وأمسك،
فمن بخل من إنفاق ما يطلق عليه الصدقة ولو أقل من دانق ليفوز بمناجاة أكرم خلق الله، ويستأنس به ويستنتج
منه أغلى مواهب الله، كيف ينفق في غيره؟ فالصواب أنه بخل واستغنى.
76

وكذلك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قد جاز بالصبر حد الفرض وبلغ
من صبره بأن احتمل ما لم يحتمله غيره، وبذل من نفسه ما لم يكلفه، وستذكر تفسيره
في موضعه إن شاء الله.
قلنا: فأسلم أبو بكر غنيا شكورا، وأسلم علي بن أبي طالب رحمه الله فقيرا صبورا،
فأنى يكون أبو بكر في إنفاقه المال مقدما؟!.
على أن بينهما فرقا لطيفا يوجب للصابر ما للشاكر، ولا يوجب للشاكر ما للصابر
لأنه قد يقال للصابر على البلاء: أحمد الله واشكره على ما ابتلاك به، ولا يقال لصاحب
العافية: أحمد الله والصبر على الغنى والعافية.
وبمثل هذا قد يفرق بين الأنصاري والمهاجري، إن معنى الأنصاري قد دخل في
فعل المهاجري بالنصرة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، فالنصرة لله ورسوله داخل (1)
في فعل المهاجري، والهجرة لا تدخل في فعل الأنصاري، [و] لذلك فإن المهاجرين
أفضل من الأنصار وارفع منزلة.
ففضل إسلام علي مع فقره على أبي بكر مع غناه كفضل المهاجرين على الأنصار
لأن محنة الفقراء أعظم من محنة الأغنياء، كما أن محنة الهجرة أعظم من غيرها،
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر ممتحنا.
فأسلم علي بن أبي طالب مع فقره، ونابذ قومه مع فاقته، وخلع الدنيا [عن نفسه]
مع حداثته وحاجته، وكثرة دواعيه ونوازعه، فقمع الشهوة بصحة العزيمة، وأزال
الوحشة بالانقطاع إلى الله، واعتصم بالتقوى، وتقوى بالتوكل (2) وفارق القرابة، واستبدل
بها الأنس بالله، وكابد المشقة بحسن الفكرة، واستعمل الصبر بيقين القلب.
قلنا: فالفقر محنة عظيمة قد افتتن بها الخلق عامة، وهتكت ستر أكثر الخاصة،

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وفي فعل المهاجري داخل... ".
(2) هذا هو الظاهر من السياق، وفي الأصل: " وتعرى بالتوكل... ".
77

وبخاصة فقر من خرج من السعة إلى الضيق، ومن الجماعة إلى الوحدة، ومن الكفاية
إلى من هو في مثل حاله في فقره، وقلة ذات يده.
نعم ثم [كان] ينتقص بالفقر، ويعير به في وقت قد عم تمكن الإسلام واعتدل
بأهله، وقوي بظهوره حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم لعلي فاطمة عليهما السلام،
عيرته قريش بالفقر، وقلة المال، وألقوا ذلك إلى فاطمة عليها السلام، حتى شكت
/ 22 / إلى أبيها، وقالت: " زوجتني أحدثهم سنا، وأقلهم مالا " (1) فقال لها: إن
الله زوجك [منه] (2) من السماء، ولو علم خيرا منه لزوجك منه.
فهيهات هيهات، من يصبر على محنة الفقر أيام حياته، ويقاسي عدم الكفاية
أيام بقائه؟ إلا من قلت الدنيا في عينه، وباشر من حقائق الصبر ما سره، وقوى من
قمع [هوى] النفس وزمها، وحسن تأديبها على ما قوي عليه، رضي الله عنه وبيض
وجهه.
فلذلك أجرى الله على لسانه ينابيع الحكمة، وعرفه داء الدنيا ودواءها، وما
يحل بأهلها من أجل طلبها.
فتدبروا كلامه، وتفهموا صفاته لتعلموا أن المعرفة الثابتة أدته إلى هذه المنزلة [و]
هو القائل في صبر العلماء، وما يلقون من مصائب الدنيا في بعض كلامه لكميل بن
زياد.

(1) كذا في الأصل، وانظر الحديث: (307) وما علقناه عليه من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 1، ص 264 ط 2.
(2) هذا هو الظاهر وفي الأصل: " إن الله زوجه.. ". وما بين المعقوفين زيادة منا.
78

باب [في بعض] ما [ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من ينابيع الحكم]
ذكر عن كميل بن زياد رحمه الله أنه قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، فأخرجني إلى الصحراء، فلما أصحرنا، تنفس الصعداء، ثم
قال:
يا كميل بن زياد، إن أول من أسس بنيان العمى وأدام توثب الجهل (1) تعسفا
فظن أنه ظفر، وجاز عن دليل إحكام الحق، فتداكت عليه الأمور، وتقحم في
المهالك، [و] يحسب أنه قد أحسن صنعا، فتداولته الشبهات، وتعاورته الجهالات،
فهو في ظلما [ت] إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من
نور، فرام إبطال حق تولى الله إثباته، وقامت العلماء [با] لله بحججه وبراهينه،
يمنعون عنه الظلم، وزحاريف أهل الهوى، وأباطيل أهل الخطاء، فأخر ما قدم الله،
وقدم ما أخر الله، ونقض الميثاق، وفرق الجماعات فأرعد وأبرق.
ثم قال [عليه السلام] (2):
يا كميل إن هذه القلوب أوعية، وخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أوصيك
به، ولا تبغ بوصيتي بدلا:

(1) كذا في الأصل، غير أن كلمة: " توثب " كانت فيه مهملة والمعنى غير واضح. وخبر " إن " أيضا غير
مذكور في الكلام، ولم نظفر بعد من القرائن المنفصلة على ما يعين به خبر " إن ".
(2) والكلام التالي هو المختار: (147) من الباب: الثالث من نهج البلاغة، وهو متواتر عن كميل بن زياد رحمه
الله، وله مصادر وأسانيد جمة.
79

الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق
يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
يا كميل العلم خير لك من المال، العلم حاكم والمال محكوم عليه، والعلم
يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة.
يا كميل محبة العلم دين يدان به، العلم يكسب به الطاعة في حياته، وجميل
الأحدوثة بعد وفاته.
يا كميل هلك خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، عيونهم
مفقودة، وأمثالهم في الناس موجودة، ثابتة راسخة (1)
قال: ثم قال: أوه أوه وأومأ بيده إلى صدره [ثم قال:]
إن ها هنا لعلما جما لو أجد له حملة؟! بلى قد أجد لقنا غير مأمون عليه،
مستعملا آلة الدين للدنيا، أو مستظهرا بنعم الله على أوليائه، وبحججه على كتابه،
أو منقادا لأهل الحق لا بصيرة له في أحنائه. يقدح الشك في قلبه لأول عارض من
شبهة (2) - فلا ذا، ولا ذا، ولا ذا - ومنهم من هو منهوم باللذة، سلس القياد للشهوة (3)
أو منهوم بالجمع والادخار، ليسوا من رعاة الدين والعلم في شئ، أقرب شبها بهم
الأنعام السائمة (4) كذلك يموت العلم بموت حامله، وموت حامله الترك لاستعماله،

(1) وفي نهج البلاغة: " هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم
في القلوب موجودة، ها إن ها هنا لعلما جما.. ".
(2) هذا هو الصواب الموافق لنهج البلاغة وأكثر المصادر، وفي الأصل: " أو منقادا لأهل الحق لا بصيرة معه
في حياته، يقدح الشك في قلبه لأول عرض عرض أو شبهة ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق لجميع ما رأيناه من المصادر، وفي الأصل: " الشبهة ".
(4) هذا هو الظاهر الموافق للمختار: (148) من نهج السعادة، وفي الأصل: " ليس هو من رعاة الدين والعلم
في شئ أقرب شبههم بالأنعام السائمة.. ".
80

لأن من عصى الله أموات غير أحياء، وما يشعرون (1).
[اللهم] بلى لا تخلو الأرض من قائم لك بحجة يقوم بالحق والصدق إما ظاهرا
معلوما، وإما خائفا مقهورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، وكم وعسى؟ وأين؟
أولئك الأقلون عددا، والأعظمون عند الله قدرا، بهم يحفظ الله حججه وبيناته
حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة
البصيرة (2) فباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعر منه المترفون / 23 / واستأنسوا بما
استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا أيام حياتهم، وقلوبهم معلقة بالمحل الأعلى (3).
ثم قال: يا كميل اطلبهم. قلت: يا أمير المؤمنين وأين أطلبهم؟! قال: اطلبهم
في أطراف الأرض [تجدهم] قد اتخذوا الأرض بساطا، والماء طيبا، واليقين زادا،
والقرآن شعارا.
[تجدهم] رمص العيون، دنس الثياب، يقرضون الدنيا قرضا قرضا.
إن غابوا لم يتفقدوا (4) وإن حضروا لم يعرفوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن قالوا
استهدف بكلامهم.

(1) هذا هو الظاهر بحسب التركيب اللفظي، وفي الأصل: " وموت حامله التارك لاستعماله.. ". والظاهر
أن جملتي: " وموت حامله الترك لاستعماله لأن من عصى الله أموات غير أحياء وما يشعرون " من زيادات
الرواة، أو المصنف أو بعض الكتاب، إذ هذه الزيادة لا توجد في أي مصدر من المصادر التي رأيناها، والتأليف
اللفظي أيضا فيها ضعيف ليس بقوة ما قبلها وما بعدها.
وفي المصادر التي رأيناها كلها: " كذلك يموت العلم بموت حامليه ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وفي الأصل: " على حقيقة الصبر.. ".
(3) كذا في الأصل، والظاهر أن المصنف كتب الكلام من حفظه ومن شأنه أن يتطرق فيه الزيادة والنقصان،
والتقديم والتأخير، والسهو والنسيان، والتبديل والتغيير.
وفي نهج البلاغة وأكثر المصادر: " وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى ".
وفي العقد الفريد: " وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالرفيق الأعلى...
(4) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " لم يفقدوا... ".
81

أولئك عباد الله حقا حقا [و] خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه (1).
ثم قال (2): قد أصبحتم في عمياء مظلمة سوداء مزبدة، تقلبكم [من] فينة إلى
فينة (3) قد تعلقت عليكم أبوابها، وذهبت ألباؤها، وليس لكم فيها سبيل هدى، ولا
تعرفون فيها سبيل نجاة، فأعلام دينكم طامسة، وآثار نبيكم دارسة، والمنكرات فيكم
فاشية، زالت عنكم النعم، بترككم الطاعة، والميل مع أهل الضلالة، والركون إلى
العاجلة.
فلو شكرتم الله على ما استخلفكم عليه من نصر دينه، والذب عن كتابه، لوفاكم
نعيم الدنيا، وثواب الآخرة.
ثم قال (4): سلوني قبل أن تفقدوني.
فقام إليه رجل وهو صعصعة بن صوحان، فقال له: يا صعصعة (5) اعقد أصابعك
إذا أضاع الناس الأمانة، وأكلوا الربا، وشيدوا البناء، وسفكوا الدماء، واستعملوا
السفهاء على الأحكام، وكان الحليم ضعيفا، والظالم مقتدرا، والأمراء فجرة، والقراء
فسقة، وظهر الجورة، وكثر الطلاق، وقول البهتان، وحليت المصاحف، وزخرفت

(1) لم أجد هذا الكلام مرويا عن أمير المؤمنين عليه السلام برواية كميل إلا في هذا الكتاب، نعم هذا المتن
قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام بمغايرة جزئية برواية نوف البكالي كما في المختار: (135 - 138)
من نهج السعادة: ج 1، ص 436 - 449 ط 1، وله أيضا مصادر أخر.
(2) ظاهر سياق المصنف يفيد أن الكلام متصل بما قبله وليس الأمر كذلك، وهكذا الأمر في التوالي، وكان
عليه أن يقول: وقال أيضا.
(3) أي تقلبكم من حال إلى حال أي من الصغر إلى الكبر، ومن الضعف إلى القوة ومن الصحة إلى المرض وهكذا.
والفينة - بفتح الفاء - الحين والساعة.
(4) سياق كلام المصنف يفيد أن هذا الكلام تكلم به أمير المؤمنين عليه السلام بعد الكلام السابق بلا مهملة وتراخ
وفصل، وليس الأمر كذلك بل الكلامان منفصلان.
(5) كذا في الأصل، وقد سقط هاهنا من الأصل سؤال صعصعة، وهذا نصه أخذا من المختار (117) من نهج السعادة:
ج 3 ص 438، قال: فقام إليه صعصعة فقال له: يا أمير المؤمنين متى خرج الدجال؟ فقال:..
82

المساجد، وحربت القلوب، وتقطعت العهود، وعملت المعازف، وشربت الخمور،
وركبت [ذات] الفروج السروج، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وكان
السلام للمعرفة والشهادة من غير أن يستشهد [و] لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب،
[و] قلوبهم أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، والتمس طمع الدنيا، بعمل الآخرة،
وتفقه (1) لغير الدين، فالنجا النجا [و] الجد الجد هربا من الناس، نعم المسكن يومئذ
عبادان (2) النائم فيها كالمجاهد في سبيل الله، من رابط فيها أربعين يوما وليلة فقد أدى
ما يجب عليه، ومن أشركني في رباط أربعين يوما وليلة، أشركته في صحبتي محمدا
صلى الله عليه وسلم، وعلى الأخيار من آله.
ثم قال: لما رأينا التدبير (3) متصلا والتقدير معتدلا، علمنا أن للأشياء صانعا
حكيما، وأستغفر الله لي ولك إذا شئت يا كميل [فانصرف].
فعلى هذه الجملة كان رضي الله عنه.
وذكر عنه أيضا، رضي الله عنه أنه قال:
إن لله خالصة من عباده، ونجباء من خلقه، وصفوة من بريته، صحبوا الدنيا
بأبدان أرواحها معلقة بالملكوت الأعلى، أولئك أشباه الروحانيين في الدنيا أمثالهم فينا
قليل. أولئك نجباء الله من عباده وأمناؤه في بلاده، والدعاة إلى معرفته، والوسيلة إلى
دينه، هيهات هيهات بعدوا وفاتوا، ووارتهم بطون الأرض وفجاجها.
على أنه لم يخل الأرض من حجة لله على خلقه، لأن لا تبطل حجج الله وبيناته.
هيهات هيهات أولئك قوم اصطفاهم الله لمعرفته، فحجبهم عن عيون خلقه،

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (116) من نهج السعادة: ج 3 ص 436 ط 1، وفي الأصل: " والتفقه
لغير الدين ".
(2) كذا ها هنا، وفي المختار: (117) من نهج السعادة: ج 3 ص 440: " نعم المسكن يومئذ بيت المقدس... ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل " لما رأينا البدر متصلا.. ".
ولم أر هذا الكلام مرويا عن أمير المؤمنين برواية كميل إلا هاهنا.
83

وقطع بهم عن امتحان الصبر، وحاد بهم عن آفات الدنيا وفتنتها، ألا وهم الذين قطعوا
أودية الشكوك باليقين، وجازوا ظلم الاشتباه بنور البصائر (1) واستعانوا على أعمال
الفرائض بالعلم، واستدلوا على فساد العمل بالمعرفة (2) فهربوا عن وحشة الغفلة عما
خلقوا له بالتنقل، وتسربلوا العلم باتقاء الجهل، واحتجزوا عن غرة الاضطراب بخوف
الوعيد، وجدوا في صدق الأعمال لإدراك الثواب، وخلو عن الطمع / 24 / الكاذب
مع معانقة الهوى، وقطعوا منها الارتياب بروح اليقين، واستضاؤا بنور الآخرة
في ظلم الدنيا [ظ] وأدحضوا حجج المبتدعين باتباع السنن، وبادروا بالانتقال عن المكروه
قبل فوات الإمكان، وسارعوا في الاحسان تعرضا للعفو عن الإساءة، وتلقوا النعم
بالشكر استجلابا للمزيد، وصيروه نصب أعينهم عند خواطر الهمم، وحركات
الجوارح.
عملوا [ظ] فأخلصوا فادخروا ما عملوا ليوم الجزاء، ولم يبدلوه بالثمن الوكس
في الدنيا، والطمع الكاذب، فلجأوا بهذه الأدوات إلى معاقل الإيمان، وتحصنوا من
مكائد الشيطان، ومردة الإنس بحصن التوحيد، وتجردوا من سوء ضمائر الأنفس
بأعمال الإخلاص، واحتجبوا من تقلب الهوى بلزوم الحق، فوسمهم ذلك بسيماء
المتقين، وشواهد الصالحين.
أولئك قوم قطعوا الدنيا بالقوت من الحلال، ودافعوها بالراح، للتجربة والبلاغ
لنفاد المدة وانقطاع الأكل، وأحسنوا صحبتها بحسن السيرة منهم في الأخلاق والآداب
واصطفوا نور بهجتها، وتلألي زينتها، بحسن وصف الآخرة.
أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، والماء طيبا، وبقاع الأرض مساجد، ومساجدها
بيوتا، وبيوتها كمنازل الأضياف.

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " وحازوا ظلم الاشتباه.. ".
(2) رسم الخط في قوله: " واستدلوا " غير واضح في الأصل المخطوط.
84

أولئك قوم نزع الله ما في قلوبهم من غل وطهرهم تطهيرا، وسلم قبولهم من الريب
والشك فأنقاها، فأصبحوا وبطونهم خميصة من أموال الناس، وأيديهم نقية، وظهورهم
خفيفة " يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما، وإذا مروا
باللغو مروا كراما " (1).
أولئك قوم عرفوا الناس ولم يعرفوهم، بل عرفهم الله منه برضوان، فجعلهم مصابيح
الهدى، وجلا بهم كل فتنة مضلة (2).
أولئك قوم عرفوا الدنيا بأبصار عيونهم، وصحبوها بأبدانهم، وعرفوا الآخرة
بأبصار قلوبهم، وصحبوها بأرواحهم، فعاينوا بأبصار قلوبهم من ملك الآخرة،
كبهجة ما عاينوا بأبصار عيونهم من زينة الدنيا، فزهدوا في الدنيا عيانا، ورغبوا فيما
عاينوا بأبصار قلوبهم من ملك الآخرة، فأكلوا قصدا، وقدموا فضلا، وأحرزوا ذخرا،
وشمروا في طلب البغية، بالسير الحثيث، والأعمال الزكية، وهم يظنون - بل لا
يشكون - أنهم مقصرون! وذلك لأنهم عقلوا حتى آمنوا، ثم آمنوا حتى أيقنوا، ثم أيقنوا
حتى تعلموا، ثم تعلموا حتى علموا، ثم علموا حتى غنموا، ثم أشفقوا حتى تفكروا
ثم تفكروا حتى أبصروا، فلما أبصروا تسورت عليهم طوارق أحزان الآخرة، وقطع
بهم الحزن عن حركات الألسن للكلام، وكلت ألسنتهم من غير عي من محاسن
الوصف بالحكمة خوف التزين به فيسقطوا عند الله فأمسكوا، وإن حاجة أحدهم
لتتلجلج في صدره، ما يأذن لنفسه في إظهارها خوفا من شر نفسه، فأصبحوا - والله
يا أخي مع حسن هذا الوصف - في الدنيا مقهورين، وأمسوا فيها محزونين، مع عقول
صحيحة، ويقين ثابت، وقلوب شاكرة، وألسن ذاكرة، وأنفس ذليلة، وأبدان
صابرة، وأنفس مقهورة، وجوارح مطيعة، وأهواء معلقة بالملكوت الأعلى، معلقة
أمرا عظيما.

(1) ما بين القوسين مقتبس من الآية: (63) وما بعدها من سورة الفرقان: 25.
(2) أي كشف بهم كل فتنة توقع الناس في الضلالة. وفي الحديث: (1263) من ترجمة أمير المؤمنين عليه
السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 207: " أولئك مصابيح الهدى يخلى عنهم كل فتنة مظلمة.. ".
85

تراهم إلى ذلك أهل دين، وشكر وسلامة، وتوكل ورضى، وإيمان، ويقين.
عقلوا عن الله مواعظه، فشغلوا الأدوات منهم فيما أمروا به وخلقوا له، وقطعوا الدنيا
بالصبر على لزوم الحق، وهجروا الهوى به لآلات عقولهم، وتمسكوا بحصن التنزيل،
وشريعة السنة، فصارت الدنيا لهم سجنا، وذلك إن المسجون مصيره إلى راحة (1).
ثم خرجوا من الدنيا مغبوطين مغتبطين، فواها لوصفهم، بل واها لرؤيتهم / 25 /
بل واها للمنية معهم، فما شئ على الله العزيز بأكرم منهم.
رجع الكلام إلى حديث كميل بن زياد بينه وبين أمير المؤمنين، فقال كميل: كان
والله أمير المؤمنين رأس أهل هذه الصفات الجميلة، فلذلك استلان عنده كل شديدة
في جنب الله، فآنس عند كل وحشة ثقة منه بالله، ولذلك حفظ الله به بيناته وحججه
حتى زرعها في قلوب أتباعه وأوليائه، وباشر روح اليقين بما من الله عليه.

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " إلى ناحة ".
86

[تقسيم مخالفي أمير المؤمنين عليه السلام على طبقات ثلاث خاسرة هالكة].
وأما صفة من خالفه فعلى طبقات ثلاث: من منقاد للشهوة - وهم الذين بايعوه،
فلما أملوا أن ينيلهم من الدنيا شيئا فلم يفعل، رجعوا إلى نكث البيعة، وطلب الدنيا،
وتشتت الكلمة - أو منقاد لأهل الحق لا بصيرة له وهم الذين تخلفوا عن بيعته رضي
الله عنه (1) قدح الشك في قلوبهم لأول عارض من شبهة، فلا هم نصروا الحق وكانوا مع
أهله (2) ولا هم تعمدوا الخطأ بالمعاندة، فهم في منزلة الوقف، أقعدهم الشك لأول
عارض من شبهة.
[أو منهوم وحريص بالجمع والادخار] وأتباعهم كالأنعام السائمة [التابعة] لكل
ناعق، أتباع لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
فارجعوا وفقكم الله إلى تفهم ما قلنا [ه] فقد بان القول في منزلة المتقدم في الإسلام
ووضحت فضيلته، وأن محنة الفقراء أعظم من محنة الأغنياء، لذلك يروون عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما.
ورويتم عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو شئت أن أكفر الناس لكفرتهم؟!
قالوا: وكيف ذلك؟ قال: أمنعهم حقوقهم، فيكفرون، لأن الصبر على الفقير شديد.

(1) هذا سهو عظيم من المصنف، إذ لا يعقل أن يكون المتخلفون عن أمير المؤمنين من المنقادين لأهل الحق، إذ لو كانوا
منقادين لأهل الحق لما تخلفوا عن أمير المؤمنين الذي كان بنص من رسول الله يدور معه الحق حيثما دار. فإذن لا بد
أن يكونوا داخلين في القسم الأول من هذا التقسيم أي أنهم جميعا كانوا من المنقادين للشهوات المتمردين عن قبول الحق.
(2) هذا تناقض بين من المصنف بعد أن عد هؤلاء من مخالفي أمير المؤمنين عليه السلام، وكيف يمكن مع تخلف هؤلاء
عن بيعة أمير المؤمنين ونصرته أن يكونوا معدودين فيمن كان مع أهل الحق؟!.
اللهم إلا أن يريد المصنف أنهم كانوا مع أهل الحق في المدينة كما كان أبو جهل وأبو لهب مع النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في مكة!!.
87

[فضيلة علي خاصة وبني هاشم عامة على سائر المؤمنين بما ابتلوا وتحملوا في أيام
حصر النبي في شعب أبي طالب من الضنك الشديد والحرج البالغ أقصى حده]
وله في بدء إسلامه فضيلة شريفة اكتسبها، ومحن عظام اختص بها [وكان]
أبو بكر منها بمعزل، فتدبروا رحمكم الله ما نحن واصفون، وارفضوا الميل والتعصب،
واستعملوا الإنصاف بحسن التقهم، فقد بان تنقيصكم وتقصيركم فيما يجب من حقه
ومعرفة فضله، وبان ذلك في قولكم إذ دان بعضكم بالوقف في حروبه وإمامته.
وبعضكم زعم أن تولية أبي بكر كانت لتفضيل منه عليه، لذلك كان أولى
بالإمامة منه.
ثم فكروا فيما امتحن به علي بن أبي طالب من حصار الشعب مع النبي صلى الله
عليه وسلم، وما رأى من الذل في نفسه وقرابته، فبان صبره، وخرج حميدا محمودا
رضي الله عنه، وأبو بكر مع أهله في أمن وسعة.
فهذه فضيلة في بدء إسلامهم، ليس لأبي بكر مثلها، وهي من أعظم المصائب
كانت على بني هاشم، لأن العرب تعاقدت وتحالفت أن لا يبايعوهم، ولا يأمنوا فيهم
حتى يدفعوا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
وكان علي رضي الله عنه يحمل إليهم الطعام مسارقة [كانوا] يمنعون من المبايعة.
فقد بان [فضله] في فضيلة السبق إلى الإسلام على جميع السابقين.
88

[أفضلية علي عليه السلام على كافة المؤمنين في منازل الجهاد وميادين بذل النفس
والتفادي في سبيل الله]
ونحن ذاكرون بعد السبق إلى الإسلام منازل الجهاد:
قلنا: وفضيلة الجهاد تكون بآلات مجتمعة وأسباب معروفة، منها: الشدة في
البدن، والشجاعة في النفس، والعلم بالثقافة، والحذر والفروسية. فالشرف في منزلة
الجهاد يكون باستعمال الآلة، ولقاء الأبطال، وضرب الأقران، والتغرير بالنفس،
وإلقائها بين الأسنة، والأهوال والمخاطرة وفاءا لله بعهده، واستئناسا ببيعته (1).
فالمذكور من أهل الشجاعة والنجدة علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب
والزبير بن العوام، وأبو دجانة الأنصاري، وخالد بن الوليد، ليس / 26 / أحد يعد
أبا بكر ولا عمر مع المذكورين بالحرب والشجاعة، والطعن بالأسنة (2) فنظرنا في
أحواله، وأموره في حروبه، فإذا هو بائن ممن ذكرنا [ه] جامع لأسباب الجهاد،
متقدم في الآلة والفعل، فاجتمع الفضل فيه على حسب اجتماع أسبابه وآلاته.
وحمزة بن (3) عبد المطلب وإن كان رجلا شجاعا مقداما حمولا، فقد كان للحذر

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " واسئيسانا ببيعته.. "
(2) بل المتعمق في غزوات النبي صلى الله عليه وآله يرى كونهما من الجبناء أمرا ملموسا لأنهما في جل الغزوات
كانا إما من النظارة أو من الفرارة، ولنعم ما قال ابن أبي الحديد في شأن عمر.
وليس بنكر في حنين فراراه * وفي أحد قد فر قبل وخيبر.
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وذكر أن حمزة بن عبد المطلب.. "
89

مضيعا، ولم يكن بالثقافة موصوفا.
وكان أبو دجانة رجلا يقاتل بالسيف دون الرمح، ولم يكن بالفروسية مذكورا.
وكان الزبير فارسا، ولم يكن كذلك راجلا.
وكان أبو الحسن لهذه الأمور جامعا، وكان بالسيف ضروبا، وبالرمح طعانا،
وبالفراسة والشجاعة موصوفا، وبالشدة معروفا، وللحذر مستعملا
ويدلك على ذلك [ما و] صفه [به] وحشي [حيث] إنه قال: لما وقفت نفسي
" بعير " (1) قريبا من أحد أردت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو لا تناله الأيدي.
ثم أقبل علي بيده سيف يفري، وخيل إلي أن في كل جارحة من جوارحه عينا
تنظر إلي، فلما نظرت إلى من هذه حاله قلت: تراكها تراكها، لست من هذا ولا
هذا مني.
ثم أقبل حمزة كأنه فحل يهشم بليسا (2) يقاتل بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله وأسد
رسوله. فاهتبلتها فدفعت حربة كانت في يدي فوقعت في ثنته وقضى، فوالله ما أغسل
عنى عارها.
ثم كانت نكايته في أكثر الحروب، وبأسه أشد ممن ذكرنا [ه] من أهل النجدة.
فهذه فعله مشهور يوم بدر، كان عدد القتلى [فيه] نيفا وأربعين كان له عشرون
[خاصا] وشاركهم في البقية.
وهذا يوم الخندق خرج عمرو بن عبد ود [و] دعا إلى البراز فأحجم الناس عنه
في كل ذلك يقوم إليه علي رضي الله عنه فيكفه النبي صلى الله عليه.

(1) عير - بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتانية - جبل بالمدينة كما ذكره في مادة " ثور - وعير) من
النهاية وفي مادة: " عير " من معجم البلدان وغيرهما.
(2) كذا في الأصل.
90

وما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم إلا دلالة على علي ليظهر ويكشف فضيلته
على غيره للناس إذ لم يقدم عليه غيره، والدليل على ذلك كفه له ثم إذنه له بعد أن
أحجم الناس.
ومما يحقق ذلك أيضا من فعل الرسول صلى الله عليه قوله يوم بدر: قوموا يا بني
هاشم فقاتلوا عن دينكم. وكان يقدمهم قبل الناس في الحروب.
فلما كان يوم الخندق فعل بعلي ما رأيتم بكفه عن المبادرة إلى عمرو، فلما بان
إمساك الناس عنه، وتخلفهم عن الإقدام عليه، قام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
في المرة الثالثة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي إنه عمرو بن عبد ود - تأكيدا
لما قلنا [ه] وتنبيها لمن كان له قلب أنه أراد بذلك الدلالة على تقدم علي وتفضيله -
فقال له علي: وأنا علي بن أبي طالب يا رسول الله.
فعممه بيده، وقلده سيفه ذا الفقار، فخرج إليه والمسلمون مشفقون، قد اقشعرت
جلودهم، وزاغت أبصارهم، وبلغت الحناجر قلوبهم، وظن قوم بالله الظنون (1)
والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو له بالنصر، ملح في ذلك، مستغيث بربه ففرج الله به
تلك الكرب، وأزال الظنون، وثبت اليقين بعلي بن أبي طالب، وقتل عمرو بن عبد ود،
وقبل ذلك ما زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظن بالله الظنون، وزلزل
المؤمنون زلزالا شديدا، وقال المنافقون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا.
وفي ذلك يؤثر عن حذيفة بن اليمان أنه قال: لقد أيد الله تبارك وتعالى رسوله
والمؤمنين بعلي بن أبي طالب في موقفين، لو جمع جميع أعمال المؤمنين لما عدل بهما
يوم بدر ويوم الخندق (2) ثم قص قصته فيهما

(1) وانظر الآية: (9) وتواليها من سورة الأحزاب حتى يتبين لك أنه لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.
(2) كذا في الأصل، ورواه الحاكم الحسكاني بطريقين في الحديث: (634 و 636) من شواهد التنزيل:
ج 2 ص 6 و 9 وقال في الأول: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله بشر يا علي فلو وزن اليوم عملك بعمل
أمة محمد لرجح عملك بعملهم...
وقال في الحديث الثاني:
لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة.
وراجع ما علقناه عليه، وأيضا راجع الباب: (49) وما علقناه عليه من فرائد السمطين ج 1 ص
255 ط 1
وراجع أيضا ترجمة لؤلؤ القيصري من تاريخ بغداد: ج 13، ص 18، وكذا ترجمة الرجل من تاريخ
دمشق. وكتاب المغازي من المستدرك: ج 3 ص 32.
91

فهذه أحواله مكشوفة، ومناقبه في الحروب معروفة، وفي الآثار مأثورة، وفي
السير مذكورة، وفي العامة ظاهرة مشهورة.
شهد [مع] النبي صلى الله عليه وسلم في جميع حروبه ومغازيه، فمرة يأخذ الراية قدامه،
ومرة يتمشى بسيفه بين يديه، ينفس الكرب عن وجه نبيه صلى الله عليه [وسلم] وينصر
الله في قتل أعدائه / 27 /.
فكم من مبارز قد قتله [وقد] أعي المبارزين قتله، وكم من قرن قد أكثر المسلمون
مقامه، وضاقت أنفسهم عنده، كفاهم ابن أبي طالب مؤنته، وسقاه الموت بيده.
وتقدمه على المذكورين في الجهاد بين وفضله على المشاركين له في حروب النبي
صلى الله عليه وسلم قائم.
وقال بعض المكابرين مقالة يعجب لها (1) من كانت فيه [أدنى] معرفة.
زعم أن فضيلة أبي بكر في الحروب أكثر، وفعله في الجهاد أعلا وأكبر!!!
قلنا وما هو؟ قال: تدبيره في الحروب ووقوفه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا: أما وقوفه فلم يدفع أن يكون وقوف ناظر. فإن قلتم: كان وقوفه وقوف
محارب مقدم عند دنو المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحاطتهم به
فأرونا فيه أثرا في تلك الحال، يجوز لقائل يقول: قد كان في موضع الكن والحمل (2)
فلذلك أصيب يده، أو شج رأسه، أو أصيب بدنه أو جوارحه، أو [هاتوا] رواية في أنه أصاب

(1) كذا في الأصل، غير أن فيه: " فقال بعض المكابرين.. ".
(2) كذا.
92

أحدا من قرب أو بعد فيكون علة للدعوى، وسببا لمن لم يتحر الحق يبصره أهل الهدى (1)
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أدمي ساقه وكسرت رباعيته، وطاعن بيده،
وكان أبو بكر في هذه الحال معه يصنع ماذا؟ فإن قلتم [كان] واقفا يتمنى بقلبه عز
الإسلام، ويدعو ربه بالنصرة، ويفرح بظهور الدين والظفر بالعدو، فتلك منزلة
لا ندفعها بل نوجبها ونحققها لأبي بكر وهذه منزلة حسان بن ثابت [المعروف بالجبن].
فإن قالوا: إن ما قلتم فيه يوجب التنقص لأبي بكر، وهذا مذهب الرافضة في
عيبه.
قلنا لهم: ليس ما ذكرنا من ضعفه على الإقدام تنقصا له ولا عيبا لأنه قد كان
من صحة العزيمة والمحبة لعلو الدين وعز الإيمان ما لا يكون ضعفه عن الشجاعة والإقدام
عيبا ولا تنقصا.
وقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن وليتموها أبا بكر تجدوه ضعيفا
في بدنه قويا في أمر الله (2) فلم يكن ضعف بدنه عما قوي عليه قلب علي تنقيصا ولا عيبا.
وأما ما ذكرتم من تدبيره ورأيه الذي لا أجد له علة في دعواكم، فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم قائما بحروبه متوليا لتدبيره بفضل رأيه ورجاحة علمه، فبعض التدبير
[كان] يتلقاه عن وحي الله، وبعض يستشير فيه أصحابه تألفا واستعطافا، ثم يرجع بعد
ذلك إلى رأيه وعزمه، فأرونا لأبي بكر تدبيرا أو رأيا تروونه أنتم دون غيركم وتعلمونه في
روايتكم دون رواية من خالفكم، قد يروى أنه صلى الله عليه وسلم نزل منزلا في بعض
حروبه، فقالت له الأنصار: أبرأي منك يا رسول الله أم وحي؟ فقال: برأي، فأشاروا
عليه بغيره فقبله، فأرونا لأبي بكر مثل هذا الرأي وحده فنقبله ثم نعارضه بما هو أكبر منه!!
ثم العجب من عظم الغفلة وإعمال الهوى كيف يعمي صاحبه؟ وقد زعمتم أن

(1) كذا.
(2) ومن أراد أن يعرف ضعف الرواية، ويرى ضعفه ملموسا، فعليه بما علقناه على الحديث: (208) في الباب:
(52) من فرائد السمطين: ج 1، ص 266 ط 1.
93

النبي صلى الله عليه وسلم ولي عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر ليس لفضله عليهما
في الدين ولكن لفضله عليهما في الرأي والتدبير، فكيف يفضل على علي بن أبي طالب من
فضله عمرو في تدبيره ورأيه؟ [وكيف] يكون معينا للنبي صلى الله عليه وسلم في الرأي والتدبير من
هو المولى عليه لنقصان تدبيره (1) ولو كانت كذلك لم يجعل عليه أمير.
ثم أنتم وغيركم تروون أن الردة لما حدثت في عهد أبي بكر أراد الخروج بنفسه،
فقال له علي: إنك إن خرجت إلى القوم لم يكن للمسلمين فئة يلجأون إليها (2)
فتخلف أنت ووجه إليهم لتكون لهم فئة من ورائهم، فعلم صواب رأيه، ورجاحة ما
دبره [ظ] فتخلف وقبل رأيه فحمد عاقبته.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " ويكون النبي صلى الله عليه وسلم معينا في الرأي والتدبير وهو المولى عليه.. "
(2) فئة أي مأوى ومادة وجماعة. يفزعون إليها: ويركنون إليها.
94

[بيان أشعات من أنوار الآراء العلوية الصائبة، وإيراد قبسات من الأقوال والتدابير
المرتضوية الشامخة].
فإن قالوا: فدلونا على فضل علي في الرأي والتدبير كما دللتم في فضله في الشجاعة
والجهاد، وقد تعلمون أن قريشا طعنت عليه في رأيه، وضعفته / 28 / في تدبيره!!
قلنا لهم: أما تضعيف قريش له في تدبيره ورأيه، فبالعداوة والعصبية، لا بحق
طعنوا، ولا حجة [على دعواهم أقاموا] وإلا فليوقفونا من رأيه على غلط أو خطأ.
والدليل على فضل رأيه ورجاحة تدبيره أنه لم يولى عليه [قط] أحد في جيش في
حروب النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان من ضعف التدبير على ما ادعيتم ومن الشجاعة
على ما أقررتم كان في الرأي وصلاح الحروب أن يكون مأمورا في الحروب ولا يكون
أميرا فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم في أمره وتوليته دليل واضح على ما قلنا ونفي
ما قلتم.
وقد بلغه ما قالت قريش فكذبه وتعجب من قولها، وقال: لله أبوهم، وهل أحد
كان أشد مراسا لها مني؟ والله لقد نهضت فيها وأنا ابن عشرين، وها أنا ذا قد نيفت
على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع (1).
ولذلك تمثل عند تركهم لرأيه بقول دريد بن الصمة (2):

(1) وانظر تمام الخطبة في المختار: (27) من نهج البلاغة والمختار (318) من نهج السعادة: ج 2 ص 559.
(2) وانظر الخطبة: (35) من نهج البلاغة، والمختار: (259) من نهج السعادة: ج 2 ص 356.
95

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وقد كان رحمة الله عليه يترك الشئ من الرأي والتدبير عن معرفة، يمنعه من ذلك
الخوف من الله لأنه محرم في الدين، ويستعمله من خالفه كالغدر والخديعة والكذب
ونقض العهد والغارة والبيات وما أشبه ذلك فيظن الجاهل أن ذلك منه قلة معرفة به،
وأن من خالفه إنما صار إلى ذلك بفضل رأيه وقد ذكر ذلك في بعض كلامه فمدح
الوفاء، وعاب الغدر وانتهاز الفرصة بما لا يحل فقال رحمة الله عليه وذكر الوفاء:
ذاك والله توأم الصدق، وما أعلم جنة أوقى منها، وما غدر من علم كيف العواقب،
وأيم الله لقد أصبحنا في زمن اتخذه أكثر أهله كيسا ونسبهم أهله إلى حسن الحيلة ما لهم
خيبهم الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها حاجز من أمر الله ونهيه فيدعها رأي
عين وبعد قدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (1).
نعم، ويجد على ذلك أعوانا غير مستبصرين، وما يرتاب في مثل هذا إلا الجاهلون.
ولعمري أن عمرو بن العاص ومعاوية الغادر قد كان [كل واحد منهما] يعمل رأيه
إذا شرعت له الفرصة لا يحجزه عن ذلك خوف من الله وأمره فيحنث ويكذب ويغير
ويغدر.
فارتاب بمثل هذا من فعلهم من لا بصيرة له. وما ظنك بقوم لما انتبهوا عند قتل
عمار بن ياسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية (2)
قال لهم معاوية: إنما قتله من أخرجه. فوجد قوما طغاما لا علم لهم بكفر من إيمان
ولا هدى من ضلال، أصحاب جفاء وجهل وارتياب فجاز عندهم هذا الكلام،
وظنوا أنه قد خرج من هذا السؤال، وأن قاتل عمار بن ياسر هو علي دون معاوية.

(1) ورواه السيد الرضي رحمه الله بمغايرة لفظية في المختار: (41) من نهج البلاغة.
(2) والحديث من أعلام النبوة ومتواترات فن الحديث، وقد أخرجه الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمار من
تاريخ دمشق على وجه بديع.
96

فلما بلغ هذا من قوله علي بن أبي طالب قال للجفاة الطغام وأشباه الأنعام: لو
كنت أنا قتلت عمارا لأني أخرجته لكان رسول الله قتل حمزة وجميع من قتل في حربه
لأنه هو المخرج لهم.
فتؤازر معاوية وعمرو واستعانوا على علي بالمكيدة والغدر، واستعان عليه آخرون
بالتمويه والشبه وكلهم يعتل بطلب الدم، وإن كان بعضهم أجرى من بعض، وأقدم
على الفجور والإثم. ولقد ذكر أمير المؤمنين بيض الله وجهه بعد رجوعه من البصرة من قعد عنه [وأنبهم]
فقام إليه صاحب شرطته مالك بن حبيب اليربوعي، فقال: إن التأنيب والهجر [لهم]
لقليل، فمرنا بقتلهم، فوالله لئن أمرتنا لنقتلنهم. فقال علي: سبحان الله يا مالك جزت
المدى وعدوت الحكم، وأغرقت في النزع. فقال: يا أمير المؤمنين لبعض الغشم أبلغ في
أمور تنوبك من مداهنة الأعادي. فقال علي: ليس هذا قضاء الله يا مالك، إنما النفس
بالنفس، فما بال ذكرك الغشم وقد قال الله / 29 / تبارك وتعالى: " ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " [33 / الإسراء: 17]
والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك، فقد نهى الله عن ذلك، وذلك هو
الغشم الذي نهى الله عنه
فتدبروا سيرته، وتصفحوا سياسته لتعلموا فضله في رأيه وتدبيره وفضله في شجاعته
وإسلامه وفضله عند الشدائد في صبره ويقينه. وسنتكلف لكم جمع ذلك لتخف المؤنة
عليكم، ونأتي من بيان ذلك بما فيه الشفاء لكم.
ومما يؤثر عنه في صواب رأيه وتحقيق ما ذكرنا [ه] من توقيه وإيثاره الصواب
في اختياره [ما رواه أهل النقل]:
قالوا: لما بلغه قول الزبير وطلحة وتعريضهما [له] بالنكث، دعا بعبد الله بن
عباس وقال له: يا أبا العباس أما بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: بلى.
قال: فما ترى؟ قال: أرى أن ينصفا حتى يذاقا، ولن يذاقا حتى يعملا، فول طلحة
97

البصرة، والزبير الكوفة فإنهما متى يليا ويبسطا أيديهما وألسنتهما استحقا العزل واستوجبا
البغض.
فضحك علي وقال: يا أبا العباس إن العراق بها الرجال والأموال، ومتى يملكان
رقاب الناس، يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء ويقويا (1) على البغي
بالسلطان!! ولو كنت مستعملا أحدا لنفعه أو لضره في يومه أو غده، استعملت
معاوية على الشام! ولولا ما ظهر لي من حرصهما كان لي فيهما رأي.
فأي الرأيين عندكم أبلغ وأولى بالصواب وأوفق وأجمعهما للدنيا والدين؟ وقد
تعلمون فضل ابن عباس في رأيه، وأن عمر قد كان يستعين به على أمره.
فلم يؤت [علي] رضي الله عنه في أموره لسوء تدبير كان منه أو لغلط (2) في رأي، غير أنه كان
يؤثر الصواب عند الله في مخالفة الرأي ولا يؤثر الرأي في مخالفة رضا ربه.
وقد كانت له خاصة من أهل البصائر واليقين من المهاجرين والأنصار، مثل ابن
عباس وعمار والمقداد وأبي أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبي الهيثم بن التيهان
وقيس بن سعد [بن عبادة الأنصاري] ومن أشبه هؤلاء من أهل البصيرة والمعرفة، فأفنتهم
الحروب واخترمهم الموت.
وحصل معه من العامة قوم لم يتمكن العلم من قلوبهم، تبعوه مع ضعف البصيرة
واليقين، ليس لهم صبر المهاجرين، ولا يقين الأنصار، فطالت بهم تلك الحروب
واتصلت بعضها ببعض، وفني أهل البصيرة واليقين، وبقي من أهل الضعف في النية؟
وقصر المعرفة من قد سئموا الحرب، وضجروا من القتل، فدخلهم الفشل، وطلبوا
الراحة، وتعلقوا بالأعاليل، فعندها قام فيهم خطيبا فقال:
[أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب،

(1) كذا.
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " أو لغط في رأي.. ".
98

وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال
قلتم: حيدي حياد (1) ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم،
أعاليل بأضاليل، وسألتموني التطويل دفاع ذي الدين المطول].
[وقال:] ليتني لم أعرفكم معرفة جرت ندما [وأعقبت سدما] (2).
[وقال:] و [لقد] ملأتم قلبي غيظا (3) وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان
[حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب].
وقد كانت هذه الأحوال مع النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ظهرت أسباب العزة (4)
وقد جاءهم من الله اليقين - من ارتياب قوم وشك آخرين، وضعف قوم، وتخلف
قوم وانهزام قوم خلوا مراكزهم وولوا العدو أدبارهم، وفيهم يقول الله تبارك وتعالى:
" إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " [153 / آل عمران: 3].
وفي المتخلفين يقول الله: " فاقعدوا مع الخالفين " [46 / التوبة: 9].
وقال: " وإن منكم لمن ليبطأن فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ
لم أكن معهم شهيدا " الآية: [72 / النساء: 4]
فهذه الأحوال التي يذكرونها في حروب علي عليه السلام، قد كانت في حروب
النبي صلى الله عليه وسلم، فلم جعلتموها علة للنقص، والخطأ في الرأي لولا الحيرة؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم [كان] ينزل عليه الوحي ويعينه الله بالملائكة [ومع

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (29) من نهج البلاغة، وفي أصلي المخطوط: " تدافعوني دفاع ذي
الدين المطول حيادي حيادي... "
وإنما وضعنا جميع هذا الكلام بين المعقوفين - مع أن قطعة منه كانت مذكورة في أصلي دلالة على أن ما في الأصل
كأنه لم يكن موجودا، لخروجه عن مجراه الحقيقي.
(2) ما بين المعقوفات فيه وما بعده مأخوذ من المختار: (27) من نهج البلاغة، وفيه: " لوددت أني لم أركم
ولم أعرفكم معرفة - والله - جرت ندما ".
(3) وفي نهج البلاغة: " قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا ".
(4) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " وقد ظهرت أسباب العرب. ".
99

ذلك] فقد زاغت الأبصار من قوم / 30 / عند محنة كانت وضاقت صدورهم وظنوا
بالله الظنون
فإن كنتم صادقين - ولا أخالكم إلا متعمدين - فاذكروا لنا رأيا من رأيه، وغلظة
من غلطاته، ضعفتم أمير المؤمنين رضي الله عنه في رأيه لولا المعاندة.
[و] قد تعلمون شدة مقاساته للحروب (1) واضطلاعه بها، وما مني به من تراكم
المحن عليه، واجتماع أهل النكث والبغي على حرية [و] هو المتولي للاصطلاء بحرها
والقائم بلم شعثها، والداعي إلى الاجماع عليها منفردا بذلك ليس له نظير يعينه - كما
تعرفون لمن كان قبله - يكتب الكتائب، ويجند الجنود، ويبعث البعوث، ويعبي
العساكر، ويؤمر الأمراء، ويقوم بالخطب تحريضا وبيانا وتأنيبا، ويوضح السنة
ويتولى محاجة من حاجه.
فكم من شبهة قد أوضحها، وكربة قد كشفها، وضلالة قد محقها، وضال قد
هداه، ونفس قد أحياها:
فهل يقوى قلب أحد على ما ذكرنا [ه] إلا من نور اليقين قلبه، وعرف ما له
عند ربه، وعلم أن بمثل ما فعل ينال رضاه، ويباعد من سخطه.
ففضيلته في الجهاد قد بانت أيام النبي صلى الله عليه وسلم على من كان بحضرته،
ومن قدمتموه عليه بدلالة القرآن.
وتقدمه في الإسلام قد وضح بما خص به من المحن الشداد، ومحن الحروب قد
خصته بالمكاره (2) وما يشيب عند مثلها الذوائب، والعلم بسببها في قتال الكافرين

(1) هذا هو الظاهر، والمقدسات: تحمل المشاق. وفي الأصل: " شدة مقاماته ".
(2) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: " قد حصلت.. ".
100

والمحلين عند أحدوثة اقتدى فقهاؤكم (1) وبالعلم والصبر على الحرب بمحض اليقين
هو البائن عن الخلق. والعفو عند القدرة هو المذكور به عند علماء السيرة والدعاء
بالرفق في كلامه مشهور. والبلاغة في القول ما ينكره من عرف كتبه ورسائله. وسأذكر
من فضل رأيه في الحرب، وحسن سيرته، وقوة تدبيره، ووضوح حجته ما لا يمتنع
من قبوله قلب من ألقى السمع وهو شهيد.

(1) كذا.
101

[ذكر قبسات من حججه البالغة وكتبه المنيرة وسيرته الميمونة ورأيه الصائب وتدبيره
الباهر].
ذكروا أن رجلا قام إليه يقال له: أبو بردة - وكان ممن تخلف عنه يوم الجمل -
فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى حول عائشة وطلحة والزبير؟ بم قتلوا؟ قال: بمن
قتلوا من شيعي وعمالي، وقتلهم أخا ربيعة العبدي رحمة الله عليه في عصابة من المسلمين
قالوا: لا ننكث كما نكثتم، ولا نغدر كما غدرتم. فقتلوهم، فسألتهم أن يدفعوا
إلي قتلة إخواني منهم، أقتلهم بهم، ثم كتاب الله بيني وبينهم حكم، فأبوا وقاتلوني
وفي أعناقهم بيعتي، ودماء قريب من ألف إنسان من المسلمين من شيعتي، فقاتلتهم بهم،
أوفي شك أنت من ذلك؟ فقال: قد كنت في شك، فأما الآن فقد عرفت واستبان
لي خطأ القوم، وأنك المهتدي المصيب.
فشهد معه [وقعة] صفين.
وذكر [وا] أنه كتب إلى معاوية [بن أبي سفيان] (1):
من [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب إلى معاوية، أما بعد، فإن الله أنزل [علينا]
كتابه فلم يدعنا في شبهة، ولا عذر لمن ركب ذنبا بجهالة، والتوبة مبسوطة، ولا تزر

(1) وهذا الكتاب مع الكتاب التالي رويناه مسندا في المختار: (94 - 95) من باب الكتب من نهج السعادة:
ج 4 ص 254 ط 1.
102

وازرة وزر أخرى، وأنت أول من شرع الخلاف، متماديا في غره الأمل، مختلف
العانية والسريرة، رغبة في العاجل، وتكذيبا بعد في الآجل، وكأنك قد تذكرت
ما مضى منك، فهم تجد إلى الرجوع سبيلا.
وكتب أيضا إلى عمرو بن العاص:
من [عبد الله أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب إلى عمرو بن العاصي (1) أما
بعد، فإن الذي أعجبك مما تلويت (2) من الدنيا، ووثقت به منها منفلت (3) منك،
فلا تطمئن إلى الدنيا فإنها غرارة، ولو اعتبرت بما مضى حذرت ما بقي، وانتفعت منها
بما وعظت به، ولكن أتبعت هواك وآثرته، ولولا ذلك لم تؤثر على ما دعوناك إليه لأنا
أعظم الرجاء (4) وأولى بالحجة والسلام.
ثم كتب [عليه السلام] إلى أمراء الجنود وأمراء الخراج (5):
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله على أمير المؤمنين إلى [أصحاب] المسالح /
31 / أما بعد فإنه حق على الوالي أ [ن] لا يغيره عن رعيته (6) فضل ناله، ولا فضل
مرتبة خص بها (7) وأن يزيده ما قسم الله له دنوا من عباده وعطفا عليهم (8).

(1) وكان في الأصل كتب فوق حرفي: " صي " حرف " ص ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لما رويناه في المختار: (95) من نهج السعادة، وفي الأصل المخطوط: " فإن الذي
لم أعجبك مما ناديت من الدنيا.. ".
(3) كذا في ظاهر رسم الخط، ويحتمل أيضا بعيدا أن يقرأ: " منقلب منك ".
(4) كذا في الأصل، وفي المختار: (95) من نهج السعادة " لأنا أعظم رجاءا.. ".
(5) هذا هو الظاهر الموافق لما ذكرناه في المختار: (84) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 228 ط 1.
وفي المختار: (50) من الباب الثاني من نهج البلاغة: " إلى أمرائه على الجيوش.. ".
وفي الأصل: " ثم كتب إلى أمرء الخول وأمراء الخراج " غير أن لفظتي: " أمر الخول " كتبتا في
هامش الأصل.
(6) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " إلى المشايخ أما بعد فإنه حق على الوالي أن لا يغيره عن رغبته فضل ناله.. ".
(7) وفي المختار: (84) من باب الكتب من نهج السعادة: " أما بعد فإن حق الوالي ألا يغيره على رعيته أمر ناله ولا
أمر خص به.. ".
(8) وفي المختار: (50) من باب الكتب من نهج البلاغة: " فإن حقا على الوالي أن ألا يغيره على رعيته فضل ناله ولا
طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله من نعمه دنوا من عباده وعطفا على إخوانه... ".
103

ألا وإن لكم عندي أ [ن] لا أحتجز دونكم سرا إلا سرا في حرب، ولا أطوي
دونكم أمرا إلا في حكم، ولا أؤخر النعمة بكم عن محله (1) وأن تكونوا عندي في
الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة و [لي عليكم] الطاعة، وأن
لا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق
فإن أنتم لم تسمعوا لي على ذلك، لم يكن أحد أهون علي ممن فعل ذلك
منكم، ثم أعظم فيه عقوبته، ولا يجدي عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من أمرائكم
وأعطوا من أنفسكم هذا يصلح الله لكم أمركم والسلام.

(1) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة: " ولا أخر لكم حقا عن محله ولا أقف به دون مقطعه ". وهو الظاهر
وما وضعناه في التالي بين المعقوفين مأخوذ من نهج البلاغة.
104

[خطبة أمير المؤمنين عليه السلام لما بلغه أن المعرضين عن الحق تخلفوا عنه،
ثم دعوته إياهم وتكلمه معهم وعتابه لهم بمرأى ومسمع من الناس، والمهاجرين
والأنصار].
وذكروا أنه لما بلغه تخلف ابن عمر عن بيعته، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن
مسلمة، قام رضي الله عنه خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل بيته ثم قال:
أيها الناس إنكم بايعتموني على ما كان بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار
للناس قبل البيعة، فإذا بايعوا فلا خيار لهم.
ألا وإن على الإمام الاستقامة، وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة، من ردها
رغب عن دين المسلمين، واتبع غير سبيلهم (1).
ألا وإنه لم تكن بيعتكم إياي فلتة، ولا عليها لبس [ظ] [ليس] أمري وأمركم
واحدا، إنما أريد كم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم.
وأيم الله لأنصحن الخصم، ولأنصفن المظلوم (2) وقد بلغني عن ابن عمر وسعد

(1) وفي المختار: (55) من نهج السعادة: ج 1، ص 196، ط 1: " وهذه بيعة عامة من رغب عنها [رغب]
عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله.. ".
(2) وفي المختار: (137) من نهج البلاغة: " أيها الناس أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه
ولأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها ".
105

ابن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، أمور كرهتها، والحق بيني وبينهم في ذلك (1).
ثم نزل [عن المنبر] رضي الله عنه، وبعث إليهم فأتوه، وجمع الناس ثم قال
لهم: بلغني عنكم أمور كرهتها، ألا وإني لست أكرهكم على القتال بعد بيعتي، فأخبروني
ما الذي بطأ بكم عما دخل فيه المسلمون؟ وما الذي تكرهون من القتال معي؟ أليس
قد بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان؟ قالوا: بلى. قال: فأخبروني لو أن ابن أبي سفيان
وعمرو بن العاص قاتلا أحدا من الخلفاء، أكنتم تقاتلونهما معهم؟ قالوا: نعم. قال:
فلم تكرهون القتال معي وقد تشاورتم (2) في بيعتي ثلاثة أيام ولياليهن، وقد علمتم أني
لست دون خلفائكم، فأخبروني عنكم هل تخرجون (3) من بيعتي؟ قالوا: لا والله ولكنا
نكره معك قتال أهل الصلاة! قال علي رحمه الله: فإن أبا بكر قد استحل قتال أهل
الصلاة، وقد رأى عمر مثل ذلك.
فقال مالك بن الحارث الأشتر: يا أمير المؤمنين إنا وإن لم يكن لنا من القدم ما
لهم، فإنهم ليسوا بأولى مما شاركناهم فيه منا، وهذه بيعة عامة، الخارج منها طاعن،
والمنثني عنها مستعتب، فلا يتبعن الناس أهواءهم، فإن أدبهم اليوم باللسان وغدا بالسيف
وليس من يتثاقل عنك كمن خف معك.
وذكروا أن عبد الله بن عمر قال: [يا] أبا الحسن أنشدك الله والرحم أن تدخلني
فيما لا أعرف، إنما أنا حمل رداح لا غدو له ولا رواح (4).

(1) وفي نهج السعادة: " وقد بلغني عن سعد وابن مسلمة، وأسامة و عبد الله وحسان بن ثابت أمور كرهتها والحق
بيني وبينهم.. ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وقد تشاوري.. ".
(3) هذا هو الظاهر، والكلمة كانت في الأصل مكتوبة بحائين مهملتين.
(4) والرداح من الأشجار: الكبيرة منها. ومن الكباش: الضخم الإلية.
106

[استئذان عمار بن ياسر من أمير المؤمنين عليه السلام في أن يتكلم مع ابن عمر
ومحمد بن مسلمة.
ثم كلام أمير المؤمنين عليه السلام في المتخلفين عنه].
ثم انصرف القوم. فذ كروا أن عمار بن ياسر رحمة الله، قال: يا أمير المؤمنين
إئذن لي في كلام ابن عمر. فأذن له.
فقال له عمار: يا ابن عمر إنه قد بايع عليا من المهاجرين والأنصار من إن فضلناه
عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضك وقد أنكرت السيف في قتال أهل
الصلاة، وقد علمنا وتعلم أن القاتل عليه القتل، والمحصن عليه الرجم، فهذا يقتل
بالسيف، وهذا يرجم بالحجارة، ألا وإن عليا لم يقاتل أحدا من أهل الصلاة حتى
يلزمه من حكم القتال ما يلزم هؤلاء.
قال: فضحك ابن عمر وقال: يا أبا اليقظان، إن عمر جمع أهل الشورى من
قريش، وهم الذين قبض رسول الله وهو عنهم راض، فكان أحقهم في نفس ابن
عمر / 32 / علي بن أبي طالب، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وهذه البيعة كبيعة
عثمان، غير أنه جاء أمر فيه السيف فضعفت عنه، ولكن الله يا أبا اليقظان، ما أحب
أن الدنيا وما فيها لي، وإني أظهرت عداوة علي بن أبي طالب يوما، أو أضمرت بغضه
ساعة.
قال: فضحك عمار وقال: يعلمون ولا يعملون، ويقولون ما لا يفعلون.
فرجع [عمار] إلى علي رحمة الله عليه، ثم استأذنه في أمر محمد بن مسلمة
107

[فأذن له] فلما لقيه عمار قال له محمد: مرحبا يا أبا اليقظان على فرقة بيني وبينك،
إنه والله لولا ما في يدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبايعت [عليا على القتال]
ولو أن الناس استمالوا المسلمين (1) ومال علي جانبا لكنت معه، ولكن سقط إلي من
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الرأي.
فقال له عمار: حسبك يا ابن مسلمة، أخبرني كيف قال لك رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ [أقال لك] إذا رأيت أهل الصلاة يقتتلون؟ أو إذا رأيت المسلمين يقتتلان؟
فوالله لا ترى مسلمين يقتتلان أبدا، وإن كان قال [لك: إذا رأيت] أهل الصلاة
[يقتتلون] فمن سمع هذا معك؟ فإنما أنت أحد الشاهدين، وعندنا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم قول بعد قولك [قاله في] يوم حجة الوداع، أنه قال: دماؤكم عليكم حرام
إلا بحدث. [وهل كان] فيقول: يا محمد لا تقاتل المحدثين؟ ألا ومن كذب على
رسول الله [صلى الله عليه وسلم] متعمدا فليتبؤا مقعده من النار.
فقال محمد: حسبك يا أبا اليقظان يرحمك الله.
وذكروا أن عليا قال لعمار بن ياسر: دع عنك هؤلاء الرهط الثلاثة، أما ابن
عمر فضعيف في دينه، وأما سعد بن أبي وقاص فحسود، وأما محمد بن مسلمة فذنبي
إليه أني قتلت قاتل أخيه مرحبا يوم خيبر.

(1) كذا.
108

[خطبة أمير المؤمنين عليه السلام لما أخبره أكابر أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بأن طلحة والزبير التقيا ببني أمية ممن كان منهم بمدينة، فأجمع
رأيهم على نقض ببعتك].
وذكروا أن عليا رضي الله عنه لما قسم بينهم بالسوية، وأعطى الأسود والأحمر (1)
عطية واحدة، أنكر ذلك من فعله قوم ووجدوا من ذلك، ومشى بعضهم إلى بعض
بالعتب والطعن.
فبلغ ذلك أصحابه من المهاجرين والأنصار، فاجتمع أبو الهيثم بن التيهان وخزيمة
ابن ثابت ذو الشهادتين، وعمار بن ياسر، ورفاعة بن رافع، وأبو حية وخالد بن زيد
وسهل بن حنيف، فتشاوروا، فاجتمع رأيهم على أن يركبوا إلى علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، ويخبروه أن طلحة والزبير ومن كان من بني أمية بالحجاز قد اجتمع رأيهم
واشتملت (2) عداوتهم، وهم مصرون على أمر لا نأمنهم عليه.
فركبوا إلى علي بن أبي طالب، فقالوا: يا أمير المؤمنين انظر في أمرك، وعاتب
قومك هذا الحي من قريش، فإنهم قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، وقد دعونا
في السر إلى رفضك، هداك الله لرشدك، وذلك لأنهم فقدوا الأثرة، وكرهوا الأسوة،
فلما استتب (3) بينهم وبين الأعاجم، أنكروا، واستشاروا عدوك، فاجتمع رأيهم

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " الأسود والأخضر ".
(2) هذا هو الظاهر، وذكره في الأصل بالسين المهملة.
(3) كذا.
109

على أن يطلبوا بدم عثمان، فرقة للجماعة، وائتلافا لأهل الجهالة!. فرأيك.
فأقبل علي راكبا بغلة رسول الله الشهباء، فدخل المسجد، فركب المنبر مغضبا
[و] عليه عمامة خز سوداء، مرتديا بطاق، متزرا ببرد قطري، متوشحا سيفا، متوكئا
على قوس، فقال:
أما بعد أيها الناس، فإنا نحمد الله ربنا وإلهنا وولي النعمة علينا، الذي أصبحت
نعمه علينا ظاهرة وباطنة، بغير حول منا ولا قوة إلا امتنانا علينا، وفضلا ليبلونا
أنشكر أم نكفر، فمن شكر زاده ومن كفر عذبه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحدا صمدا.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه رحمة للعباد والبلاد والبهائم والأنعام،
نعمة أنعم به علينا ومنا وفضلا صلى الله عليه وسلم.
فأفضل الناس - أيها الناس - عند الله منزلة، وأعظمهم شرفا، وأقربهم من رسول
الله قربا، وأعظمهم عند الله خطرا أطوعهم لأمر الله، وأعلمهم بطاعة الله، أعملهم
وأتبعهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحياهم لكتاب الله، فليس / 33 / لأحد
ممن خلق الله عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة رسوله واتباع كتابه وسنة نبيه عليه السلام.
هذا كتاب الله بين أظهركم، وعهد نبي الله وسيرته فينا لا يجهلها إلا جاهل معاند
عن الحق، يقول الله في كتابه: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم
شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " (1) فمن أتقى فهو الشريف المكرم
المحب. وكذلك أهل طاعة الله وطاعة رسوله، لقول الله في كتابه: " إن كنتم تحبون
الله فاتبعوني يحببكم الله " الآية: [31 / آل عمران: 3].

(1) وذكرها في الأصل إلى قوله: " لتعارفوا " ثم قال: إلى [قوله] " عند الله أتقاكم.. ".
110

ويقول [الله]: " [و] أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإن الله لا يحب
الكافرين " (1).
ثم صاح بأعلى صوته: يا معشر المهاجرين، يا معشر الأنصار، يا معشر المسلمين
أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم؟ ولله ولرسوله المن عليكم إن كنتم صادقين.
ثم نادى: ألا إنه من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أجرينا عليه أحكام القرآن، وأقسام الإسلام
ليس لأحد على أحد فضل إلا بتقوى الله وطاعته، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأوليائه
وأحبابه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ثم قال: ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تطلبونها، وترغبون فيها، وأصبحت
تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له، ولا الذي دعيتم إليه.
ألا وإنها ليست بباقية لكم، ولا تبقون عليها، ولا تغرنكم فقد حذرتموها، ووصفت
لكم وجربتموها، فأصبحتم لا تحمدون عواقبها.
فسابقوا إلى منازلكم التي أمرتم أن تعمروها، فهي العامرة التي لا تخرب أبدا [و] الباقية التي لا تنفد، وهي التي رغبكم الله فيها، ودعاكم إليها، وجعل لكم الثواب فيها.
فانظروا يا معشر المهاجرين والأنصار وأهل دين الله ما وصفتم به في كتاب الله
ونزلتم به عند رسول الله (2) وجاهدتم عليه فبم فضلتم؟ أبحسب أو نسب؟ أو بعمل
وطاعة؟ فاستتموا نعم الله عليكم يرحمكم الله بالصبر لأنفسكم على طاعة الله، والذل
لحكم الله، والمسارعة في رضوان الله، والمحافظة على ما استحفظكم الله من كتابه

(1) وذكرها في الأصل هكذا: " أطيعوا الله - إلى [قوله:] لا يحب الكافرين ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (57) من نهج السعادة: ج 1، ص 203 ط 1. وفي الأصل: " ونذلتم
به عن رسول الله... ".
111

ألا وإنه لا يضركم تضييع شئ من دنياكم بعد حفظكم وصية رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ألا و [إنه] لا ينفعكم شئ حافظتم عليه من دنياكم بعد تضييع ما أمرتم به
من التقوى.
عليكم عباد الله بتقوى الله، والتسليم لأمره، والرضا بقضائه والصبر على بلائه.
فأما هذا الفئ، فليس لأحد على أحد فيه أثره قد فرغ الله من قسمه، فهو مال
الله، وأنتم عباد الله المسلمون.
وهذا كتاب الله به أقررنا، وعليه شهدنا وله أسلمنا، وعهد نبينا عليه السلام بين
أظهرنا.
فسلموا رحمكم الله لأمر الله، فمن لم يرض بهذا فليتبوأ حيث شاء وكيف شاء،
فإن العامل بطاعة الله، والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه، أولئك حزب الله لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون، وأولئك هم المفلحون.
نسأل الله ربنا وإلهنا أن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته، وأن يجعل رغبتنا ورغبتكم
فيما عنده، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم (1).
ثم نزل عن المنبر وصلى ركعتين، وبعث بعمار إلى طلحة والزبير وهما في ناحية
من المسجد، فقاما فجلسا إليه، فقال لهما (2):
أنشد كما الله، هل جئتماني تبايعاني طائعين، ودعوتماني إليها وأنا كاره؟ قالا:

(1) إلى هنا رويناه في المختار: (57) من نهج السعادة: ج 1 ص 200 ط 1، نقلا عن كتاب تحف العقول
ص 125، وغيره.
(2) وفي الأصل: " فقال علي بن أبي طالب.. ".
112

اللهم نعم. قال: غير مجبورين ولا مقسورين فأسلمتما لي بيعتكما، وأعطيتماني
عهد كما؟ قالا: اللهم نعم. فقال علي: الحمد لله رب العالمين على ذلك.
ثم قال لهما: فما عدا مما بدا (1)؟ قالا: أعطيناك بيعتنا على أن لا تقطع الأمر دوننا
وأن تستشيرنا / 34 / في الأمور، ولا تستبد بها عنا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد
علمت! فأنت تقسم القسوم، وتقطع الأمور، وتمضي الأحكام بغير مشاورتنا، ولا
رأينا ولا علمنا.
فقال علي رحمه الله: لقد نقمتما يسيرا، وأرجئتما كثيرا، استغفر الله لي ولكم.
ثم قال [لهما]: ألا تخبراني أفي شئ لكما فيه حق دفعتكما عنه؟ أم في قسم
استأثر [ت] به عليكما؟ قالا: معاذ الله. قال: ففي حق رفعه إلي أحد من المسلمين
ضعفت عنه أو جهلته، أو حكم أخطأت فيه (2)؟ قالا: اللهم لا.
قال: ففي أمر دعوتماني إليه من أمر عامة عامة المسلمين فقصرت عنه وخالفتكما فيه؟
قالا: اللهم لا.
قال: فما الذي كرهتما من أمري، ونقمتما من تأميري، ورأيتما من خلافي؟ قالا:
خلافك عمر بن الخطاب وأئمتنا وحقنا في الفئ (3) جعلت حقنا في الإسلام كحق
غيرنا، وسويت بيننا وبين من أفاء الله به علينا بسيوفنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا وظهرت
عليه دعوتنا، وأخذناه قسرا [ممن] لم يأتوا الإسلام إلا كرها.
فقال علي - رحمة الله عليه - الله أكبر الله أكبر اللهم إني أشهدك عليهما، وأشهد
من حضر مجلسي هذا اليوم عليهما.

(1) وكان في الأصل كتب أولا هكذا: " فما عدا كما مما بعد ". ثم شطب على لفظي: " كما وبعد ".
(2) كذا في الأصل، وفي المختار: (203) من نهج البلاغة: " ألا تخبراني أي شئ لكما فيه حق دفعتكما
عنه؟ وأي قسم استأثرت عليكما به؟ أم أي حق رفعه إلي أحد من المسلمين ضعفت عنه أو جهلته؟ أم أخطأت
بابه ". وهو أظهر.
(3) كذا.
113

ثم قال: أما ما احتججتما به علي من أمر الاستشارة فوالله ما كانت لي في الولاية
رغبة، ولا لي فيها محبة (1) ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، وأنا كاره
فخفت أن تختلفوا وأن أردكم عن جماعتكم. فلما أفضت إلي نظرت إلى كتاب الله
وما وضع لنا وأمر بالحكم فيه (2) وما قسم واستن النبي عليه السلام فأمضيته وابتعته،
فلم أحتج إلى رأيكما ولا دخولكما معي، ولا غيركما، ولم يقع حق جهلته فأثق برأيكما
فيه وأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما
إذا كان أمر ليس في كتاب الله بيانه وبرهانه، ولم يكن فيه سنة من نبينا عليه السلام
ولم يمض فيه أحكام من إخواننا ممن يقتدى برأيه ويرضى بحكمه.
وأما ما ذكرتما من الأسوة. فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه ولم أقسمه، قد وجدت
أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما قد فرغ الله من قسمته (3) وأمضى
فيه حكمه.
وأما قولكم جعلت لهم فيئنا وما أفاءت رماحنا وسيوفنا فقدما ما سبق إلى الإسلام
قوم لم يضرهم في شئ من الأحكام إذا استؤثر عليهم، ولم يضرهم حين استجابوا لربهم
والله موفيهم يوم القيامة أعمالهم. ألا وإنا مجرون عليهم أقسامهم فليس لكما والله عندي
ولا لغير كما في هذا عتبا (4).
أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق وألهمنا وإياكم الصبر.
ثم قال: رحم الله رجلا رأى حقا فأعان عليه، أو رأى جورا فرده، وكان عونا
للحق على صاحبه.

(1) كذا في الأصل، وفي المختار السالف الذكر من نهج البلاغة: " والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في
الولاية إربة.. " وهو أظهر..
(2) وفي النهج: " نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استسن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فاقتديته.. ".
(3) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة: " بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد فرغ منه
فلم أحتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه... "
(4) كذا في النسخة فإن صحت فمعنى الكلام: ليس لكما ولا لغير كما في عملي هذا معاتبة وموجدة وملامة أي لا ينبغي
لكما ولا لغير كما أن تعاتباني..
وفي نهج البلاغة: " عتبي " بالمقصورة.
114

[بعث أمير المؤمنين ابنه الحسن وعمار بن ياسر - صلوات الله عليهما - إلى الكوفة
ليستنفرا أهلها لما أراد أن يذهب إلى البصرة لإخماد فتنة طلحة والزبير وأم المؤمنين
عائشة].
ثم إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعث بالحسن وعمار بن ياسر
حين خف للمسير إلى أهل الكوفة يستنفرهم، وكان أبو موسى قد حول الناس عن علي.
فقام عمار بن ياسر خطيبا في أهل الكوفة فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس هذا أخو نبيكم وابن عمه يستنصركم ويستنفركم لنصر دين الله.
وقد ابتليتم بحق أمكم (1) وحق ربكم أوجب عليكم، وحرمته أعظم.
ثم أقبل على أبي موسى فقال: أنت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إنها ستكون فتنة بعدي الماشي فيها خير من الساعي، والقاعد فيها خير من الماشي؟!!
قال أبو موسى: هذه يدي بما قلت. فقال له عمار: إن كنت صادقا إنك سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك فإنما عناك بذلك وحدك وأنت كذلك،
واتخذ بذلك عليك الحجة فإن كنت صادقا فالزم بيتك ولا تدخل في شئ من هذه
الأمور.

(1) هذا هو الظاهر، وأراد من قوله: " أمكم " أم المؤمنين عائشة.
وزاد كاتب الأصل بعد الألف بين السطرين حرف " ما " وكتب بعده حرف ظ " " هكذا: (" أمكم "
ومقصوده أن الظاهر من السياق هو: " إمامكم " لا " أمكم ".
115

فافهموا هذه الأقاويل ممن خالف أمير المؤمنين كيف يضعف ويتناقض عند كلام
المحقين! لأن الذي أتى به أبو موسى / 35 / إن كان المراد فيه ما ذهب إليه فلم يأت ببيان
ولا حجة ولا رأي يعتمد عليه و [لا سيما أنه] سكت [بعدما قرعه عمار بالحجة]
فقد صار [من أجل] سكوته [عن جواب عمار] حائرا وفي أشر الطائفتين رأيا.
116

[خطبة الصحابي الكبير عمار بن ياسر رفع الله مقامه في أهل الكوفة. وحثه
إياهم على اللحوق بأمير المؤمنين عليه السلام].
ثم أقبل عمار بوجهه فقال: أيها الناس إنا إنما خشينا على هذا الدين أن يتعرى
أديمه، وأن يهن من جوانبه، وقد نظرنا لأنفسنا، ورضينا بعلي بن أبي طالب لنا خليفة
وإماما ودليلا ومؤدبا، فنعم الخليفة ونعم الدليل، مؤدبا لا يؤدب، وفقيها لا يعلم،
وصاحب بأس لا ينكل، وسابقة في الإسلام ليست لأحد، فانهضوا إليه رحمكم الله
فإن عصابة من الناس حالفوا عليه فتوجهوا إلى البصرة عاصين له باغين عليه، حاسدين
له، ولو قد حضرتموهم تبين لكم أنهم ظالمون.
وهذا ابن بنت نبيكم قد أتاكم يستنفركم.
أيها الناس إنكم بين منظر ومسمع من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
والله ما درست المصاحف ولا عفا الأثر ولا قدم العهد ولا بالسنن والأحداث التي حدثت
من خفاء فيجهل جاهل أو يقول قائل:
وقد سمعتم ما قال صاحبكم والذي نهاكم عنه من الشخوص إلى هذين الجمعين،
ولعمري ما صدق فيما قال، ولا رضي الله من عباده بالذي ذكره لقد أنزل الله علينا
قرآنا بين فيه طاعته من معصيته، وحكم فيها أحكامه ولم يدع ملة من الملل إلا وقد حكم
فيها بالجهاد حتى يفيئوا إلى أمر الله، فحكم على المشركين أن يقاتلوا حتى يدخلوا في
117

الإسلام فقال: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [66 / التوبة: 9] (1).
وقال: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " [14 / التوبة].
وقال في ملة أهل الكتاب: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله (2) ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون " [28 / التوبة: 9].
فجعل غاية أمرهم أن يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،
أو يقتلوا أو تسبى ذراريهم ويؤخذ أموالهم.
وقال في أهل القبلة: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (3) فإن
بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله [فإن فاءت فأصلحوا
بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين] ".
وقال في الآية الأخرى: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله الله "
[39 / الأنفال: 8].
فلم يرض الله من أهل طاعته من عباده أن يجلسوا في بيوتهم، وأن يخلوا بين الناس
يسفك بعضهم دماء بعض، فسيروا بنا رحمكم الله إلى هذين الجمعين فاستمعوا من
حججهم، ثم انظروا من أولى بالعهد والنصر فيما افترض الله عليكم فإن أصلح

(1) وقال في الآية: (191) من سورة البقرة ب‍: " فاقتلوهم حيث ثقفتموهم ". وقال في الآية: (89 و 91)
من سورة النساء: " فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ". وقال: " فخذوهم واقتلوهم حيث
ثقفتموهم ". وقال في الآية: (193) من سورة البقرة: " وقاتلوهم حتى لا يكون فتنة ويكون الدين لله ".
وقال في الآية 29 من سورة الأنفال: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ".
(2) إلى هنا ذكرها في الأصل ثم قال: إلى [قوله تعالى] " وهم صاغرون ".
(3) إلى هنا ذكرها في الأصل ثم قال: إلى [قوله:] " تفئ إلى أمر الله ".
والآية هي الآية: (12) من سورة الحجرات: (49). وإنما وضعنا ذيل الآية الكريمة بين المعقوفين
للإشارة على أنه زائد عما رواه المصنف، وإنما ذكرناه إتماما للفائدة.
118

الله أمرهم رجعتم مأجورين وقد قضيتم حق الله عليكم، وإن بغى بعضهم على بعض
نظرتم في الفئة الباغية وعرفتموها كما أمركم الله وافترض عليكم.
فلما سمع الناس قول عمار بن ياسر عرجوا عن أبي موسى وقالوا: يا أبا اليقظان
إنك كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي تعلم فنسألك بحق الله وحق
رسوله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الفتنة؟ فقال عمار: أشهد
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بقتال الناكثين والقاسطين، وأمرنا بقتال المارقين
من أهل النهروان بالطرقات (1) وسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: علي مع
الحق والحق مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض يوم القيامة (2).
فقبل الناس قول عمار بن ياسر واستجابوا له.
فانظروا رحمكم الله في أمر من خالف عليا وحاربه كيف كشف ضعفه وبغيه؟!
و [كيف] يظهر الانتشار في قوله وفعله. ويقر على نفسه قبل قيام الحجة عليه.
هذا أبو موسى يبايع لعلي بن أبي طالب في أول الأمر، فلما بلغه أن عليا ناقم عليه
وأن رأيه أن يبعث بغيره [مكانه] غير كلامه وخذل الناس عنه.
قالوا: ثم قام [ظ] الحسن بن علي فتكلم وحرض الناس على الجهاد.

(1) قد ذكرنا في تعليق ص 36 أن الحديث من أعلام النبوة ومتواترات الأخبار وأنه رواه جم غفير من علماء المسلمين
فراجع.
(2) وقد تقدم في تعليق ص 31، الإشارة إلى مصادر الحديث.
119

[خطبة زيد بن صوحان العبدي رفع الله مقامه في أهل الكوفة، وتقريضه عليا
عليه السلام. ثم حثه أهل الكوفة باللحوق به وائتمارهم بأمره].
ثم قام زيد بن صوحان فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال:
أيها الناس ما في الله ولا في نبيه من شك ولا بالحق / 36 / والباطل من خفاء (1)
وإنكم على أمر جدد وصراط قيم، إن بيعة علي بيعة مرضية لا تقبض عنها يد موقن
ولا يبسط إليها مخطئ كفه.
[أيها الناس] هل تعلمون لأمير المؤمنين علي من خلف؟ هل تنقمون له سابقة؟
أو تذمون له لاحقة؟ أو ترون به أودا؟ أو تخافون منه جهلا؟ أليس هو صاحب المواطن
التي من فضلها لا تعدلون به؟ فمن عمود هذا الأمر ونظامه إلا هو؟ [و] قد جاءنا أمر
الله، وسمعناه قبل مجيئه ولا بد له من أن يتم كأني أنظر إليه.
ثم رفع صوته ينادي: عباد الله إني لكم ناصح، وعليكم مشفق، أحب أن
ترشدوا ولا تغووا، وإنه لا بد لهذا الدين من وال ينصف الضعيف من الشديد، ويأخذ
للمظلوم بحقه من الظالم، ويقيم كتاب الله، ويحيي سنة محمد صلى الله عليه وسلم (2).
ألا وإنه ليس أحد أفقه في دين الله، ولا أعلم بكتاب الله، ولا أقرب من رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فانفروا إلى أمير المؤمنين
وسيد المسلمين، وسيروا على اسم الله فإنا سائرون " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا
آمنا وهم لا يفتنون " [1 / العنكبوت: 29].

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " من سقا ".
(2) وكتب هنا في الهامش لفظي: " عليه السلام " بلا نصب علامة.
120

[كلام حجر بن عدي رفع الله مقامه في تقريض الإمام الحسن وحث الناس
على اللحوق بأمير المؤمنين عليه السلام والجهاد معه].
[ثم] قام حجر بن عدي (1) فقال: أيها الناس هذا الحسن بن علي أحد أبويه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر من ليس له عديل من أمة محمد ولا شبيه، هذا
سيد شباب أهل الجنة، سيد شباب العرب والعجم في الدنيا والآخرة، وهو رسول
أبيه إليكم يدعوكم إلى الحق والنصر لدين الله، فالسعيد من وازره، والشقي من تخلف
عنه، فانفروا رحمكم الله خفافا وثقالا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم لعلكم
تفلحون.
فتهيأ الناس للمسير وأجابوا مسارعين والحمد لله رب العالمين.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وقام حجر بن عدي ".
121

[كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أصحاب الخراج].
وذكروا أيضا أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتب إلى أصحاب
الخراج:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أصحاب الخراج سلام عليكم (1).
أما بعد فإنه من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحررها ومن اتبع
هواه وانقاد له وآثر ذلك على ما يعرف أهلك نفسه وعما قليل ليصبحن نادمين.
ألا وإن أسعد الناس في الدنيا من عدل عما يعرف ضره، وإن أشقاهم من اتبع
هواه. فاعتبروا واعلموا أن لكم ما قدمتم من خير وما كان مما سوى ذلك، وددتم
لو أن بينكم وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد. واعلموا أن عليكم
وبال ما فرطتم فيه، وأن الذي كلفتم ليسير، وأن ثوابه لكبير.
ولو لم يكن فيما نهى الله عنه من البغي والعدوان عقاب يخاف، كان ثوابه ما لا

(1) وهذا هو المختار: (85) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 232، والمختار: (51) من الباب
الثاني من نهج البلاغة.
122

عذر لأحد بترك طلبه، فارحموا ترحموا، ولا تعذبوا خلق الله، ولا تكلفوهم فوق
طاقتهم، وأنصفوا الناس من أنفسكم، واصبروا لحوائجهم فإنكم خزان الرعية.
ولا تتخذوا حجابا، ولا تحبسوا أحدا عن حاجته، ولا تأخذوا أحدا بأحد إلا
كفيلا عمن كفل عنه (1) واصبروا أنفسكم على ما فيه اغتباطكم.
وإياكم وتأخير العمل بالتواني والعلل، ودفع الخير بالكسل، فإن في ذلك حرمان
الأبد.
وخذوا على أيدي سفهائكم، واحترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا
فيرد علينا وعليكم دعاؤنا، ولذلك قال [الله]: " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم "
[77 / الفرقان: 25] وإن الله إذا مقت قوما أهلكهم، فلا تدخروا أنفسكم خيرا،
ولا الجند حسن سيرة، ولا الرعية معونة، ولا دين الله قوة، وأبلوا قوتكم في سبيله
ما استوجب عليكم فإن الله قد اصطنع عندنا وعندكم فيحب أن نشكره جهدنا وأن
ننصره ما بلغت قوتنا (2) ولا قوة إلا بالله.

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (85) من باب الكتب من نهج السعادة، وفي الأصل ولا تأخذوا أحدا
بأحد إلا كفيل من كفل عنه ".
(2) كذا في أصلي، وفي المختار: (51) من الباب الثاني من نهج البلاغة: " وأبلوا في سبيله ما استوجب عليكم فإن
الله سبحانه قد اصطنع عندنا وعندكم أن نشكره بجهدنا وأن ننصره بما بلغت قوتنا.. ".
123

[كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عماله لما عزم على المسير إلى الفئة الباغية
وإخوة الناكثين والمارقين معاوية وأتباعه القاسطين].
فلما أراد [أمير المؤمنين] المسير كتب إلى عماله نسخة واحدة:
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه،
ودب في نفس العمى والضلال (1) اختيارا له، فريضة على / 37 / العارفين بأمره.
إن الله تبارك وتعالى يرضى عمن أرضاه ويسخط على من عصاه، وإنا قد هممنا
بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أمر الله، واستأثروا بالفئ،
وعطلوا الحدود، وأماتوا الحق، وأظهروا الفساد في الأرض، واتخذوا الفاسقين وليجة
دون المؤمنين، فإذا ظالم تابعهم على ظلمهم أحبوه وأدنوه وآثروه، وإذا ولي الله أعظم
أحداثهم أبغضوه وأقصوه وحرموه، فقد أصروا على الظلم، وأجمعوا على الخلاف،
وقعدوا عن الحق، وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين.
فإذا أتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أفضل أصحابك في نفسك وأقبل
إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجامع المحق
وتباين المبطل فإنه لا غنى بنا وبك عن أجر الجهاد، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والسلام.
وبعث بها إلى عماله، وبعث بها إلى عبد الله بن عباس بالبصرة، فاستخلف عبد الله
على البصرة أبا الأسود الدئلي وقدم على علي.

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (81) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 223: " وهب في نعاس
العمى والضلال.. "
124

[قيام أمير المؤمنين عليه السلام في الناس ومشاورته إياهم للمسير إلى حرب معاوية،
ثم حثه إياهم على قتال أهل الشام لما وافاه أصحابه. ومن كتب إليه بالقدوم عليه من عماله]
فلما توافي أصحابه قام في الناس يحرضهم على قتال أهل الشام، فقال:
أيها الناس سيروا إلى أعداء الإسلام، سيروا إلى [من] حارب محمدا قديما وجماع
طغام (1) سيروا إلى المؤلفة قلوبهم كيما تكفوا عن المسلمين بأسهم فطال والله ما صدوا
عن سبيل الله وبغوا الإسلام عوجا، وتحالفوا وتحاربوا على رسول الله عليه السلام
والمسلمين، وجعلوا لهم المراصد، ووضعوا لهم المسالح، ورموهم بالمناسر والكتائب،
وصدوا رسول الله عليه السلام والمسلمين عن المسجد الحرام، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط
من الناس، وجدوا في إطفاء نور الله حتى أظهره الله وهم له كارهون.
وأيم الله ما زلنا لهم على الإسلام متهمين ولأحداثهم فيه خائفين، حتى نجمت
منهم هذه الأمور التي ترون.
فأشيروا علي فإنكم ميامين الرأي راجحي العقل مقاويل بالحق، مباركي الفعل
والأمر (2).
فقام إليه الأشتر فقال: إن جميع من ترى من الناس شيعتك وليسوا يرغبون بأنفسهم

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " سيروا إلى حرب محمد قديما وحماع طغام ".
وانظروا المختار: (176) من نهج السعادة: ج 2 ص 95 ط 1، وكتاب صفين ص 94.
(2) وقريبا منه رويناه في المختار: (175) من نهج السعادة: ج 2 ص 91 ط 1.
125

عن نفسك وإذا شئت فسر بنا إلى عدوك، فوالله ما ينجو من الموت من خافه، ولا
يعطى البقاء من أحبه، ولا يعيش بالأمل إلا الأشقياء، وإنا لعلى يقين من ربنا أن نفسا
لن تموت حتى يأتي أجلها. بل كيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين، والله
ما ازدادوا للإسلام إلا غشا ولا لأهله إلا بغضا، ولقد وليت عصابة منهم على طوائف
من المسلمين فأسخطوا الرب، وأظلمت بأعمالهم الأرض، وأماتوا السنة، وأحيوا
البدعة، وباعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير (1) فعجل النهوض بنا إليهم نحاكمهم
إلى الله فيما اختلفنا فيه حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
ثم قعد.
فقام عدي بن حاتم الطائي فقال: يا أمير المؤمنين ما قلت إلا بعلم ولا دعوت
إلا إلى الحق، وما أمرت إلا برشد فإن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى
يقدم عليهم رسلك، ويقدم عليهم كتبك فعلت، فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم، والعافية
أوسع لنا ولهم، وإن يتمادوا في غيهم، ولم ينزعوا عن شقاقهم القانا ذلك (2) وقد تقدمنا
إليهم بالعذر ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق.
ولعمري لهم أهون علينا من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة لما جهر [ت] لهم
الحق فتركوه ناجزناهم القتال حتى رأينا فيهم ما نحب، وبلغ الله فيهم رضاه.
فقام زيد بن حصين الطائي - وكان من / 38 / أصحاب البرانس - فقال:
لعمري لئن كنا في شك من قتال من خالفنا [و] لا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستأنيهم
ونستديمهم (3) ما الأعمال إلا في تباب ولا السعي إلا في ضلال ووالله - وبنعمة ربي

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين، وفي الأصل: " وباعوا بخلاقهم.. ". والخلائق - بفتح
الخاء -: الحظ والنصيب من الخير.
(2) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين ص 99: " وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم وقد
قدمنا إليهم العذر، ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق.. ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين ص 99، وفي الأصل: " ونسنده بهم ".
126

أحدث، وببلائه الحسن الجميل أنبئ - ما ارنبت طرفة عين في غي من يبتغون دمه (1)
فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم القليل في الإسلام حظهم أعداء الحق وأعوان الظلم [و]
مشددي أساس العدوان، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين بإحسان.
فقام إليه رجل من طي فقال: يا زيد أكلام سيدنا عدي تهجن؟
فقال: إنكم والله ما أنتم أعرف بحق عدي مني، ولا أدع الحق وإن سخط الناس.
فقال عدي: الطريق مشترك والناس في الحق سواء، ومن اجتهد رأيه ونصيحته
للعامة فقد قضى ما عليه وله (2).
قالوا: ثم قام عمار بن ياسر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين إن
استطعت فلا تقم يوما واحدا، أشخص بنا قبل استعار [نار] حرب الفجرة، واجتماع
رأيهم على الصدود والفرقة، فادعهم إلى حظهم ورشدهم فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا
إلا حربنا ناجزناهم فوالله إن سفك دمائهم والجد في جهادهم (3) لقربة من الله وكرامة منه.
ثم قعد.
فقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقال: يا أمير المؤمنين انكمش إلى عدونا
ولا تعرج (4) فوالله إن جهادهم أحب إلي من جهاد الترك والروم لإدهانهم في دين الله
واستذلالهم أولياء الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله والتابعين بإحسان
إذا غضبوا على رجل حبسوه أو ضربوه أو سيروه أو حرموه، وفيئنا [لهم] في أنفسهم
حلال.

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: " من تبغون دمه " وفي كتاب صفين ص 99. " فيمن يبتغون
دمه ".
(2) كذا في الأصل، وجعله في كتاب صفين ص 95 من كلام أمير المؤمنين معقبا به كلام الأشتر، ثم ذكره
في ص 100، منه عن عدي بن حاتم بمثل ما هاهنا.
(3) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين، ص 93، وفي الأصل: " في عداوتهم.. ".
(4) ومثله في شرح ابن أبي الحديد، يقال: عرج فلان عن الشئ: تركه ومال عنه. وعرج: وقف ولبث. وتعرج
على المكان: حبس مطيته عليه وأقام فيه. وفي كتاب صفين ص 93: ولا تمرد.
127

فقام يزيد بن قيس الأرحبي فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس على جهاز وعدة،
وأكثرهم أهل قوة، ومن ليس به ضعف (1) وليست به علة، فمر مناديك أن ينادي
فليخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة فإن أخا الحرب ليس بالسئوم ولا النؤم، ولا الذي
إذا أمكنته الفرص أملى لها واستشار فيها، ولا الذي يؤخر عمل الحرب في اليوم إلى
غد وبعد غد.
فقال زياد بن النضر الحارثي: يا أمير المؤمنين [لقد] نصح لك يزيد بن قيس
وقال ما عرفناه، فسر على بركة الله إلى عدوك راشدا معانا، فإن يرد الله بهم خيرا لا
يدعوك رغبة عنك إلى من ليس مثلك في السابقة مع النبي صلى الله عليه وسلم والقدم
في الإسلام والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإ [ن] لا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا
إلا حربنا (2) يجدوا بهم علينا هوانا ورجونا أن يصرعهم الله إلى مصارع إخوانهم بالأمس.
فقال عبد الله بن بديل الخزاعي: إن القوم والله لو كانوا يريدون الله أو لله يعملون
[ما خالفونا] ولكن القوم إنما يقاتلونا فرارا من الأسوة وحبا للأثرة، وضنا بسلطانهم
وكراهية لفراق دنياهم التي في أيديهم وغلا ووحرا في صدورهم وعداوة يجدونها في
أنفسهم.
وكيف يبايع معاوية عليا وقد قتل أخاه وخاله وجده، والله ما أظن أن يفعل دون
أن تقصد فيهم المران وتقطع على هامهم السيوف، وتنثني حواجبهم بعمد الحديد (3)
فتكون أمور جمة بين الفريقين.
فخرج علي رضي الله عنه فعسكر بالنخيلة، فلما توافي أصحابه بالنخيلة قام رجل

(1) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين ص 101: " ومن ليس بمضعف وليس به علة.. ".
(2) وكان في الأصل هكذا: " وإلا تبتوا ويقتلوا يجدوا بهم علينا هوانا.. ". وصححناه من كتاب صفين وفيه:
" وإلا ينيبوا ويقبلوا ويأبوا إلا حربنا نجد حربهم علينا هينا، ورجونا أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس ".
(3) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين ص 103: " وتنثر حواجبهم بعمد الحديد ".
128

يقال له جندب بن زهير الأزدي والحارث الأعور الهمداني فقالا: قد آن للذين أخرجوا
من ديارهم بغير حق أن يؤبوا فيغيروا، وللمظلومين والمحرومين أن ينتصروا (1) وللمنكرين
الجور بقلوبهم أن ينطقوا. ألا إن المؤمنين استذلوا فقهروا، وقلوا فستروا، وأخرجوا
من أموالهم وأخلوا عن أبنائهم ونسائهم (2) فصلحاء من عباد الله بالمشرق منفيون إلى
المغرب، وصلحاء أسلافنا السابقين بالخيرات منفيون / 39 / من حرم رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى جوار الوحش والسباع بمنزلة الغربة والوحدة والوحشة، فالحدود معطلة
والولاة فجرة، ودين الله مفقود، وكتابه ممزق وعهده منبوذ فما تنتظرون عباد الله من جهاد
قوم لا يكفون عن الظلم، ولا يعطون حق الرب، ولا يحكمون بما أنزل الله فأولئك هم
الفاسقون.
فقال الحارث بن عبيد الأعور في عراص كلام حدب كالمستجيب لقوله والمحرض
معه: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله - وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا وأموالنا - الذين يشربون
الخمور ويلبسون الحرير، ويفترشون الديباج، ويزعمون أن فيئنا لهم حلال.
ثم قام عمرو بن الحمق فقال: يا أمير المؤمنين والله ما بايعتك ولا أجبتك على
عرض من الدنيا تؤتنيه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكني أجبتك لخصال
خمس: إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الناس بالمؤمنين بالله (3)
وزوج سيدة [نساء] الأمة [فاطمة] بنت رسول الله عليه السلام، وأبو الذرية التي
بقيت فينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظم رجل من المهاجرين والأنصار (4)
سهما في الإسلام، فوالله لو كلفت نقل الجبال الرواسي ونزح البحار الطوامي أبدا حتى

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي " أن يووبوا فيعتبروا للمظلومين وللمحرومين أن ينتصروا ".
(2) كذا في أصلي، ولعل الصواب: " وقتلوا فقبروا وأخرجوا من مساكنهم وديارهم، وأخذوا عن أبنائهم ونسائهم.. ".
(3) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: " إنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأول من آمن به.. ".
وما وضعناه بعد ذلك بين المعقوفات مأخوذ منه.
(4) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وأعظم رجل واحد من المهاجرين.. ". وفي كتاب صفين: " وأعظم
رجل من المهاجرين سهما في الجهاد.. "
129

يأتي علي يومي في شئ أوهن به عدوك وأقوي به وليك، ويعلي الله كعبك، ويفلج الله
علي به حجتك، ما ظننت أني أديت كل الذي [يحق] علي من حقك.
فقال علي: اللهم نور قلبه باليقين، واهده الصراط المستقيم ليت في جندي مائة
مثلك.
ثم قام حجر بن عدي فقال، يا أمير المؤمنين نحن أبناء الحرب وأهلها الذين لم
نزل نلقحها وننتجها وقد ضرستنا الحرب وضرسناها ومارسناها (1) ولنا إخوان ذو
صلاح وعشيرة ذات عدد ورأي مجرب، وبأس محمود، ولله علينا النعماء والطول
فأزمتنا (2) منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرقت شرقنا، وإن غربت غربنا، وما
هويت من أمر فعلنا.
فقال علي: أكل قومك على مثل رأيك؟ فقال: ما يظهرون إلا حسنا وهذه يدي على
قومي بحسن الطاعة والإجابة.
فدعا له أمير المؤمنين بخير.
وذكروا أنه قدم عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي إلى الأنبار وأتبعه كتابا منه (3)
[وهذا نصه]:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن بديل سلام عليك.
أما بعد، فإنه بدا لي المقام بشاطئ الفرات لحمام عبد الله فليجيئني عبد الله بن
عباس بمن معه وحريث بن جابر.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " الذي لم نزل نلقحها.. ".
ونلقحها من باب علم: نسعرها ونهيجها. وضرستنا الحرب من باب التفعيل: جربتنا وحنكتنا.
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " والله علينا النعما به والطول فإن مسنا ". وفي كتاب صفين ص 104: " ورأي
مجرب وبأس محمود، وأزمتنا.. ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وأتبعه كتاب منه ".
130

وانظر جندك فأقم بهم بالمكان الذي أنت به، وإياك ومواقعة أحد من خيل العدو
حتى أتقدم عليك (1) وأذك العيون نحوهم (2) وليكن مع عيونك من السلاح ما يباشرون
به القتال، ولتكن عيونك الشجعان من جندك، فإن الجبان لا يأتيك بصحة الأمر.
وانته إلى أمري ومن قبلك بإذن الله والسلام.
فلما أراد المسير قام في الناس فقال: الحمد لله غير مفقود بالنعم، ولا مكافأ
بالإفضال (3).
وأشهد أن لا إله إلا الله ونحن على ذلك من الشاهدين، وأشهد أن محمدا رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد ذلكم فإني قدمت مقدماتي وأمرتهم بلزوم هذا المكان حتى يأتيهم أمري (4)
وقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة موطنين أكناف دجلة فأنهضهم معكم إلى
عدوكم إن شاء الله.
وقد أمرت على مصركم عقبة بن عمرو الأنصاري، ولم الكم ولا نفسي نصحا
فإياكم والتخلف والتربص فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي [وأمرته أن لا
يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله] (5).
ثم دعا بدابته فجاء بها قنبر، فلما ركب أخذ مالك بعنانها فقال: يا أمير المؤمنين

(1) كذا.
(2) هذا هو الظاهر، يقال: أذكى عليه العيون: أرسل عليه الجواسيس. وفي الأصل: " وأدل العيون نحوهم.. ".
(3) وهذا وما بعده رواه في المختار: (48) من نهج البلاغة.
ورويناه مع كثير من تواليه في المختار: (184) من كتاب نهج السعادة: ج 2 ص 121، ط 1، وفيهما:
" غير مفقود الإنعام، ولا مكافأ الأفضال.. ".
(4) كذا في الأصل، وفي المختار: (48) من نهج البلاغة و (184) من نهج السعادة: " أما بعد فقد
بعثت مقدمتي وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري.. ".
(5) ما بين المعقوفين قد سقط عن أصلي، وأخذناه من كتاب صفين ص 132.
131

أتخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد والقتال وتخلفني في حشر / 40 / الناس (1)؟ فقال:
يا مالك إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلا كنت شريكهم فيه، وأنت هاهنا أعظم
غناء عنهم منك لو كنت معهم. فقال مالك: فسمعا وطاعة يا أمير المؤمنين.
فسار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسار أمامه الحر بن سهم بن
طريف التميمي وهو يقول:
يا ناق سيري بي وأمي الشاما (2) * وقطعي الآحاد والآكاما (3)
ونابذي من خالف الإماما * إني لأرجو إن لقيت العاما
جمع بني أمية الطغاما * أن يقتل العاصي والهماما
وأن نزيل من رجال هاما
فلما انتهى الحر إلى آثار الكسرى وقف ينظر إليها ويتمثل بقول الأسود بن يعفر:
جرت الرياح على محل ديارهم * وكأنما كانوا على ميعاد
فقال له علي رضي الله عنه: فلولا قلت: " كم تركوا من جنات وعيون، وزروع
ومقام كريم " [26 / الدخان: 44] إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا موروثين.
إن هؤلاء لم يشكروا النعم فسلبوها بالمعصية، فإياكم وكفر النعم لا تحل بكم النقم (3).
[ثم قال] انزلوا بنا هذه الفجوة (4).
ثم أمر الحارث الأعور فنادى في أهل المدائن: أن وافوا أمير المؤمنين صلاة العصر.
فوافوه فحمد الله وأثنى عليه [ثم] قال:

(1) هذا هو الظاهر الموافق لكتاب صفين ص 133، غير أن فيه: " في حشر الرجال... ". ورسم الخط من
الأصل غامض وكأنه يقرأ: " في حيس الناس.. ".
(2) وفي غير واحد من المصادر: " يا فرسي سيري وأمي الشاما ".
(3) ورواه أيضا الحاكم النيسابوري في المستدرك: ج 2 ص 449، وفيه: " واقطعي الأحقاف والأعلاما ".
ورواه أيضا أبو الفرج في كتاب الأغاني: ج 11، ص 130.
(4) الفجوة: ما اتسع من الأرض، وفي كتاب صفين ص 143: " انزلوا بهذه النجوة ". والنجوة: المكان المرتفع.
132

أما بعد فإني قد عجبت لتخلفكم عن إخوانكم وانقطاعكم عن مصركم في
[هذه] المساكن الظالم أهلها، أكثر سكانها لا معروف يأمرون به ولا منكر ينهون عنه (1).
فقالوا: يا أمير المؤمنين كنا ننتظر أمرك.
فخرج ثم نزل الأنبار فاستقبله دهقان من رؤسائها يقود البراذين [في جمع من
الدهاقنة] وقد اتخذوا له ولأصحابه طعاما وعلفا [فلما استقبلوه ترجلوا له واشتدوا
بين يديه] (2) فقال لهم: ما هذه الدواب التي معكم، وما أردتم بهذا الذي صنعتم:
فقالوا: أما [ما] صنعنا فإنه. شئ كنا نعظم به الأمراء، وأما هذه البراذين فأهديناها
لك، وقد صنعنا لك وللمسلمين طعاما، وهيئنا لدوابكم علفا.
فقال [علي] رضي الله عنه: أما هذا الذي زعمتم أنه منكم خلق تعظمون به الأمراء،
فوالله ما ينفع ذلك الأمراء، وإنكم لتشقون (3) على أنفسكم وأبدانكم فلا تعودوا له وأما
دوابكم هذه فإن أحببتم أخذناها منكم وحسبناها لكم من خراجكم، وأما الذي صنعتم
من الطعام والعلف، فإنا نكره أن نأكل من أموالكم شيئا إلا بثمن.
فقالوا: يا أمير المؤمنين إن لنا من العرب موالي ومعارف أفتمنعنا أن نهدي لهم؟
وتمنعهم أن تقبلوا هديتنا؟ فقال عليه السلام: وكل العرب لكم موالي ومعارف، ليس
أحد من العرب بأحق منكم من أحد، ولست أمنعكم أن تهدوا لمعرفة، ولا لأحد من
المسلمين أن يقبل هدية، وإن غصبكم أحد فأعلمونا. فقالوا: إنا نحب يا أمير المؤمنين
أن تقبل كرامتنا، فقال: ويحكم نحن أغنى منكم.

(1) وفي المختار: (190) من نهج السعادة: ج 2 ص 140: " والهالك أكثر سكانها لا معروفا تأمرون به ولا منكرا
تنهون عنه ".
(2) ما بين المعقوفات مما يدل عليه السياق، وهو مذكور معنى في كتاب صفين وتحت الرقم: (37) من الباب
الثالث من نهج البلاغة.
(3) هذا هو الصواب الموافق لما في نهج البلاغة ونهج السعادة، وفي الأصل: " وإنكم لتشفقون... ".
133

[نزول أمير المؤمنين عليه السلام في مسيره] إلى الشام على جانب دير البليخ ب‍ " الرقة "
ونزول صاحب الدير إليه وعرضه عليه الكتاب الذي كتبه بعض أصحاب عيسى بن مريم
عليهما السلام في البشارة ببعث النبي العربي ومرور وصيه بجيشه على دير البليخ، ثم التوصية
بالإيمان به ومصاحبة وصيه]
فمضى [علي] ثم نزل إلى جانب الفرات فأتاه قيم كان هنالك (1) فقال: يا أمير المؤمنين
إنه كان عند أبي كتاب قديم كتبه بعض أصحاب عيسى صلى الله عليه وسلم، وكنا
أهل بيت نتوارثه فإن شئت أتيتك به؟ فقال: قد شئت، فأتاه به فقرأه عليهم، وإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما سطر وكتب فيما
كتب، أنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل
الجنة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سحاب في الأسواق (2) ولا يجزي السيئة بالسيئة.
ولكن يعفو ويصفح، وأمته المجاهدون الحمادون، الذين يحمدون الله في كل هبوط

كذا في أصلي، ولكن لفظة: " قيم " كانت فيه بنحو الاهمال.
ورواه أيضا الخوارزمي في الفضل الثالث في بيان قتال أهل الشام من الفضل: (16) من كتاب مناقب
أمير المؤمنين عليه السلام ص 167، وقال:
وروي عن حبة العرني قال: لما نزل علي عليه السلام بمكان يقال له البلج على جانب الفرات نزل راهب
من صومعته فقال لعلي عليه السلام إن عندنا كتابا..
ورواه أيضا نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين ص 147، عن عمر بن سعد [الأسدي] عن حبة
[ابن جوين] عن علي [عليه السلام] قال: لما نزل علي الرقة [نزل] بمكان يقال له بليخ على جانب الفرات.
فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه [أصحاب]
عيسى بن مريم، أعرضه عليك؟ قال علي: نعم فما هو؟ قال:...
(2) كذا في الأصل، ومثله في كتاب المناقب للخوارزمي، وفي كتاب صفين: " ولا صخاب " وهو كثير الصياح
واللغط.
134

وعلى كل شرف وصعود، تدلل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، وتنصر نبيهم على من ناوأه،
وإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت فتلبث ما شاء الله ثم تختلف فيمر من أمته رجل
يجر الجيش بشاطئ هذا البحر مقبل / 41 / بأهل المشرق يريد أهل المغرب وهو أولى
أهل ذلك الزمان بالنبي في القرابة والدين، فينزل إلى جانب هذا الدير يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، ويقضي بالحق ولا يرتشي في الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد
حين تعصف به الريح والموت أيسر عليه في جنب الله من الماء العذب على الظمأ، يخاف
الله في السر وينصح له في العلانية، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
فمن أدرك ذلك الرسول من أهل هذه البلاد فآمن به، فإن ثواب ذلك رضوان
الله والجنة.
ومن أدرك ذلك العبد الصالح فليتبعه فإن القتل معه شهادة.
فقال علي: الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا، والحمد لله الذي ذكرني عنده
في كتب الأبرار.
فقال ذلك القيم: لما بعث الله نبيه أسلمت، ولما مررت بنا اتبعتك وأنا مصاحبك
ولن أفارقك حتى يصيبني ما أصابك.
فقال حرمة بن حوبة العرني (1) فكان ذلك الراهب رفيقي فلما لقينا عدونا أصيب،
فلما دفن كل قوم قتلاهم طلبه علي فوجده فصلى عليه واستغفر له ودفنه وقال: هذا
منا أهل البيت.

(1) كذا في الأصل، والظاهر أنه مصحف، والصواب: " قال حبة بن جوين العرني.. "
135

[كلام الصحابي العظيم عمار بن ياسر رفع الله مقامه وكشفه عن إخلاصه وتقربه
إلى الله تعالى بالتفادي في سبيله ومحاربته الفئة الباغية].
وذكروا أن عمارا لما توجه إلى صفين قال: اللهم لو أعلم أنه أرضى لك أن أرمي
بنفسي من فوق هذا الجبل لرميت بها، ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد لنفسي نارا
عظيمة فأقع فيها لفعلت، وإني لا أقاتل أهل الشام إلا وأنا أريد بذلك وجهك، وأنا
أرجو أن لا تخيبني، وأنا أريد وجهك (1).
قالوا: وكان عمار يحب عليا، كلما قام خطيب من أهل العراق يدعو أهل الشام،
قام عمار في أثره فقال: إنا والله ما نجد إلا قتال أهل الشام أو ندخل النار.
فتدبروا رحمكم الله هذه السيرة، وتصفحوا هذه الآثار، واعتبروا بما يرد عليكم من
هذه الأنباء والأخبار لتعلموا أي الفريقين أولى سبيلا، وأحق أن يتبع، وأيهم أعدل
سيرة وأسلك لطريق الطاعة، وأرغب في ثواب الله والدار الآخرة.
فارجعوا إلى النظر في ذلك، وتدبروه، فقد كان لكم في الطعن أئمة، وقد سبقكم
إلى الخطأ والشك قوم انكشفت الأمور عند التماس الشأن والحجة، فأعقبهم تخلفهم
حسرة وندامة، لأن الأمور قد تنكشف لمن لا بصيرة له صادرة ولا يعرفها مقبلة.

(1) وقريبا منه رواه نصر بن مزاحم في أوائل الجزء الخامس من كتاب صفين ص 320 وقبلها وبعدها أيضا ذكر
كلما عنه قال:
ثم قال عمار: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت.
اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى يخرج من ظهري
لفعلت.
اللهم وإني أعلم مما أعلمتني أني لا أعمل اليوم عملا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم
اليوم عملا أرضى لك منه لفعلته.
136

[تحذير أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه من اعتياد السب واللعن وكراهته لهم
أن يكونوا سبابين ولعانين].
وكان رضي الله عنه من مبالغته في الدعاء وحسن سيرته في الكف عن الأذى،
ودعائه بالتي هي أحسن - اقتداء بأدب الله وطلبا لما هو أصلح - أنه لما بلغه عن أصحابه أنهم
يكثرون شتم مخالفيهم باللعن والسب، أرسل إليهم أن كفوا عما بلغني [عنكم] من
الشتم والأذى.
فلقوه، فقالوا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال: بلى. قالوا: ومن خالفنا
مبطلون؟ قال: بلى، قالوا: فلم منعتنا من شتمهم؟ فقال: كرهت أن تكونوا سبابين
ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر،
و [لو] قلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا
وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي من الغي والعدوان
من لهج به، فهذا من الكلام أحب إلي لكم. فقالوا: قد أصبت (1).
وكتب [عليه السلام] إلى معاوية:
من [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان سلام عليك (2).

(1) وهذا الكلام رويناه عنه عليه السلام في المختار: (179) من كتاب نهج السعادة: ج 2 ص 104،
ط 1.
ورواه أيضا السيد الرضي أعلى الله مقامه في المختار: (206) من نهج البلاغة.
ورواه أيضا نصر بن مزاحم المنقري في أواسط الجزء الثاني من كتاب صفين ص 103.
(2) كذا في الأصل، والمستفاد من سياق الكلام أن هذا الكتاب كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية في أوائل
ما بايعه الناس قبل ذهابه إلى البصرة وقبل أن يظهر معاوية خلافه وشقاقه.
137

أما بعد، فإن الله جعل الدنيا لما بعدها (1) وابتلى أهلها فيما لينظر كيف يعملون،
وأيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، وابتلاني بك وابتلاك بي فجعل أحدنا حجه
على الآخر تمحيصا (2) فعبرت على طلب الدنيا بتأويل القرآن (3) وطلبتني بما لم تجن
يدي ولا لساني، وعصيتني أنت وأهل الشام / 42 / ألب عالمكم جاهلكم، ولبستم عليه
الحق سفها بغير علم (4) وأتيتم بهتانا وإثما مبينا، وتوليت من ذلك إثم ما حاولت،
وأنت عارف بوصول ضره إليك في عاجل الدنيا وآجل الآخرة (5).
فاتق الله يا معاوية في نفسك، وجاذب الشيطان قيادك، فإن الدنيا منقطعة [عنك]
وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (6).
فتفكر فيما لك وعليك من هذا الأمر يوضح لك سبله، واستعن بما أعناك الله
ولا تجاهل فإنك عالم فتدارك نفسك ولما يحدث يجعل الله لك ولسلطانك سبيلا والسلام.
ولما هم بالمسير إلى معاوية كتب إلى جميع عماله يأمرهم بالقدوم وليشهدوا قتال
عدوهم ويخلفوا من يقوم مقامهم.

(1) وفي المختار: (55) من الباب الثاني من نهج البلاغة: " أما بعد فإن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها،
وابتلى فيها أهلها ليعلم أيهم أحسن عملا، ولسنا للدنيا خلقنا ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنما وضعنا فيها لنبتلي
بها، وقد ابتلاني الله بك.. ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وتمحيصا.. ".
(3) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة: " فعدوت على طلب الدنيا... ".
(4) وفي نهج البلاغة: " فطلبتني بما لم تجن يدي ولساني وعصبته أنت وأهل الشام بي وألب عالمكم جاهلكم
وقائمكم قاعدكم. فاتق الله في نفسك، ونازع الشيطان قيادك، واصرف إلى الآخرة وجهك فهي طريقنا
وطريقك. واحذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة تمس الأصل وتقطع الدابر، فإني أولي لك بالله ألية
غير فاجرة، لئن جمعتني وإياك جوامع الأقدار لا أزال بباحتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
(5) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وعاجل الدنيا... ".
(6) وهذه القطعة مما ورد أيضا في ضمن المختار: (32) من كتب نهج البلاغة.
138

[خطبة ابن عباس في أهل البصرة وحثه إياهم على حرب معاوية لما بلغه كتاب
أمير المؤمنين عليه السلام في أن يقدم هو وجند البصرة إليه للذهاب إلى الشام].
وكتب إلى عبد الله بن عباس وكان واليه على البصرة.
فلما وصل الكتاب إلى عبد الله قرأه على أهل البصرة، فلما فرغ منه حمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أيها الناس استعدوا للمسير إلى إمامكم وانفروا خفافا وثقالا، وجاهدوا
في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، و [أيقنوا] أنكم تقاتلون المحلين القاسطين - الذين
لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق - مع أمير المؤمنين
وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والصادع
بالحق، والقائم بالهدى، والحاكم بما في الكتاب لا يرتشي في الحكم، ولا يداهن
الفجار، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
139

[وصية أمير المؤمنين عليه السلام لزياد بن النضر الحارثي لما أمره على مقدمته
وسيره إلى هشام وقدمه أمامه].
فلما تهيأ [أمير المؤمنين] عليه السلام للمسير (1) جعل زياد بن النضر الحارثي وشريح
ابن هانئ على مقدمته، ثم قال:
يا زياد بن النضر اتق الله في كل ممسى ومصبح، وخف على لسانك الدنيا الغرور
ولا تأمنها على حال من البلاء (2) واعلم أنك إن لم تردع نفسك على كثير مما تحب
مخافة مكروهه، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضر فكن لنفسك مانعا رادعا عن
البغي والظلم فإني قد وليتك هذا الجند فلا تستذلهم، ولا تسلطن عليهم فإن خيركم
أتقاكم (3).
تعلم من عالمهم، وعلم جاهلهم، واحلم عن سفيههم، فإنما يدرك الخير بالحلم
وكف الأذى والجهل.
فقال زياد: يا أمير المؤمنين أوصيت [إيصاء] كافيا [ونحن نكون] حافظا
لوصيتك، متأدبا بأدبك، يرى الرشد في أمرك، والغي في تضييع عهدك.

(1) ما بين المعقوفين إظهار توضيحي لما أضمره المصنف. وفي الأصل: " فلما تهيأ للمسير عليه السلام.. ".
(2) ومثله في المختار: (182) من نهج السعادة: ج 2 ص 116، ط 1. ولفظة: " البلاء " غير موجودة في
المختار: (56) من الباب الثاني من نهج البلاغة.
(3) كذا في الأصل، وفي المختار: (40) من باب الوصايا من نهج السعادة: ج 8 ص 327 ط 1: " فلا تستذلنهم
ولا تستطل عليهم.. ".
140

[كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ لما بلغه
اختلافهما].
فمضى زياد بن النضر وشريح بن هانئ، وأتبعهما [أمير المؤمنين عليه السلام]
بكتاب منه، وذلك لأنه بلغه خلاف كان بينهما، فكتب:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هانئ سلام عليكما.
أما بعد، فقد وليتك يا زياد مقدمتي وأمرتك عليها، وشريح على طائفة منها أمير،
فإذا اجتمعتما فأنت يا زياد الأمير على الناس وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير الطائفة
التي وليته.
واعلما أن مقدمة القوم عيونهم، وعيون المقدمة طلائعهم، فإذا أنتما خرجتما
من بلادكما ودنوتما من بلاد عدوكما فلا تسأما من توجيه الطلائع في كل ناحية، ومن
نفض الشعاب والخمر في كل جانب لئلا يغيركما عدو ويكون لهم كمين (1).
ولا تسيرن الكتائب والقبائل والرجال من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة،
فإن دهمكم [أمر] أو غشيكم مكروه كنتم قد تقدمتم لهم في التعبئة.

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: " ومن بعض الشعاب والخطر في كل جانب لئن لا يعتركما عدو،
ويكون لهم كمين ". والخمر محركة: ما يستتر به.
وفي المختار: (86) من باب الكتب من نهج السعادة: ج 4 ص 236: " فلا تسأما من توجيه الطلائع
ومن نفض الشعاب والشجر والخمر في كل جانب كي لا يغتركما عدو، ويكون لكم كمين ".
141

وإذ نزلتم بعدو أو نزل بكم [عدو] فليكن منزلكما قبال الأشراف أو سفاح
الجبال أو أثناء الأنهار كيما يكون ذلك لكم رداء، وتكون مقاتلتكم من وجه واحد
أو اثنين (1).
واجعلوا الرقباء في صياصي الجبال.، وبأعلى الأشراف، وبمناكب الأنهار يربأون
لكم (2) لأ [ن لا] يأتيكم عدوكم من مكان مخافة أو أمن.
وإياكم والتفرق، فإذا نزلتم فانزلوا جميعا، فإذا / 43 / غشيكم الليل فحفوا
عسكركم بالرماح والترسة، واجعلوا رماتكم تلي أترستكم ورماحكم، وما أقمتم فكذلك
فافعلوا لكيلا تصاب لكم غرة، ولا تلفوا منكم غفلة (3) فإن قوما ما حفوا عسكرهم
برماحهم وأترستهم في ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون (4).
واحرسا عسكركما بأنفسكما، وإياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو
مضمضة. ثم ليكن ذلك شأنكما ودأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما.
وليكن عندي في كل يوم خبركما ورسول منكما، فإني حثيث السير في أثركما
إن شاء الله تعالى.
وعليكما في حربكما بالتوءدة، وإياكما والعجلة إلا أن تمكنكما فرصة.
ولا تقاتلا حتى تبديا إلا أن يأتيكما أمري (5).

(1) كذا في الأصل، غير أن ما بين المعقوفين مأخوذ من نهج السعادة، وفيه وفي نهج البلاغة: " فليكن معسكركم
في قبل الأشراف أو سفاح الجبال أو أثناء الأنهار. ولتكن مقاتلكم من وجه واحد.. ".
(2) كذا في الأصل، وكأنه مأخوذ من قولهم: " ربأزيد - كمنع - على الجبل ربأ ": أشرف عليه. وربأ القوم
وللقوم: صار لهم ربيئة أي طليعة ورقيبا وعينا. ولعل ما في المتن أظهر مما في نهج السعادة: " يرون لكم لئلا
يأتيكم عدوكم من مكان مخافة أو أمن. ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " ولا تلفوا لكم غفلة ". وفي نهج السعادة: " ولا تلفى منكم.. ".
(4) كذا في الأصل، وفي نهج السعادة: " فما قوم حفوا عسكرهم برماحهم وترستهم من ليل.. ".
(5) كذا في الأصل، وفي نهج السعادة: " وعليكما في حربكما بالتوأدة، وإياكم والعجلة إلا أن تمكنكم فرصة
بعد الإعذار والحجة وإياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما إلا أن تبدأ أو يأتيكما أمري إن شاء الله والسلام ".
142

فتصفحوا هذا التدبير وتفهموه تجدوه لما قلتم مكذبا ولما قلنا مصدقا، وهل ترون
فيه خللا؟ وهل ترون من وراء ما وصفنا عنه رأيا هو أصوب مما أمر به؟ وأغمض مما
أوصى به وامتثله؟ وقد يتبع هذا من تدبيره ما يكثر في القول، ويغمض قي علم التدبير.
ومما يؤكد ما قلنا ويحققه من أن الانتشار عليه لم يكن هو سببه أن عليا فيما ذكر
أهل العلم نزل يوم صفين في عاقول (1) من الفرات لم يكن بطبعه أحد، فحسده معاوية
على منزله ذلك فطرح في عسكره كتابا:
من عبد الله الناصح، أما بعد، فإن معاوية يريد أن يرتحل ويشق عليكم الماء
فخذوا حذركم ".
فقال الناس لعلي: ارتحل فاسبقه إلى ذلك المكان فإنا نخاف أن يشق علينا الماء (2).
فقال لهم علي: إن هذا من معاوية مكيدة لأنه قد حسدكم على هذا المنزل فغلبو [ه
على] رأيه حتى ارتحل منه، فلما ارتحل منه جاء معاوية حتى نزله! فقال لهم علي:
ألم أخبركم أنه مكر من معاوية؟!
وإنما أذكر لكم من أموره وسيرته جملا تزيل العمى وتوضح سبيل الصواب من
الخطأ، ولتعلموا عند تفهم ما ذكرنا [ه] والنظر فيما عنه أتا [نا] أنه سيف من سيوف
الله حدب للدوائر (3) حارب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شابا ماضيا في التماس
ثواب الله قدما حتى صار شيخا، لم تكن له صبوة ولا نبوة [كان] يخوض في جنب
الله الغمرات، ويهتك بحجته ستر الشبهات.

(1) عاقول الفرات: معطفه. ومن الأمور والأرض: ما لا يهتدى لها.
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل فيه وما قبله: " وشق عليكم الماء.. إن شق علينا الماء ".
وانظر تفصيل القصة في أواخر الجزء الثالث من كتاب صفين ص 190.
(3) كذا
143

[خطبة عبد الله بن عباس في أهل العراق لما التقوا بصفين مع أهل الشام، وتقريضه
عليا عليه السلام وحثه على قتال معاوية وأصحابه].
قالوا: ولما التقى أصحابه ومعاوية أمر أصحابه بالكف، وأن لا يبدأوهم بالحرب
حتى يبالغ في الدماء، ويدعوهم إلى الله جهرا، وأن يجعلوا كتاب الله بينهم قاضيا.
فقام عبد الله بن عباس خطيبا - وهو ممن لا ينكرون فضله وتقدمه في العلم -
فقال: الحمد لله رب العالمين دحا تحتنا سبعا ورفع فوقنا سبعا، وخلق فيما بينهما خلقا
وأنزل لهم فيها رزقا، ثم جعل كل شئ يبلى، ويبقى وجهه الحي القيوم (1).
ثم إن الله بعث أنبياءا ورسلا فجعلهم حججا على عباده وعذرا ونذرا، لا يطاع
إلا بعلمه وإذنه، فمن بطاعته على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها، يعصى بعلمه (2)
ويعفو عن العظيم، ويغفر الكثير بحلمه، أحصى كل شئ عددا وأحاط بكل شئ
علما.
ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى

(1) كذا في الأصل، ورواه أيضا في أواسط الجزء الخامس من كتاب صفين ص 318، وفيه: " ثم خلق ما
بينهن خلقا وأنزل لنا منهن رزقا ثم جعل كل شئ يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم الذي يحيى ويبقى.. ".
(2) كذا في الأصل، وفي كتان ب صفين: " ويعصى [بعلم منه] فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره ولا يبلغ
شئ مكانه... ".
ويحتمل رسم الخط أيضا أن يقرأ: " ويقضي بعلمه ".
144

الله عليه وسلم إمام الهدى والنبي المصطفى.
ثم [إنه] قد ساقنا قضاء الله وقدره إلى ما ترون حتى كان فيما اضطرب من حبل
هذه الأمة أن ابن آكلة الأكباد وجد من طغام الناس أعوانا على علي بن أبي طالب ابن
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وأول ذكر صلى معه، بدري قد شهد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشهد / 44 / الفضل (1) ومعاوية وأبو سفيان
مشركان بالله يعبدان الأصنام.
ثم اعلموا والله الذي توحد بالملك لقد قاتل علي (2) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعلي يقول: صدق الله ورسوله. ومعاوية وأبو سفيان يقولان: كذب الله ورسوله. فما
معاوية في هذا (3) بأبر وأتقى، ولا أرشد ولا أصوب منه في ذلك.
فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر، فوالله إنكم لعلى الحق، وإن القوم لعلى
الباطل، ولا يكونن عدوكم أولى بالجد في باطلهم منكم في حقكم فقد كلمت (4) والحمد
الله إن الله سيعذبهم بأيديكم أو [بأ] يدي غيركم. ربنا أعزنا ولا تخذلنا، وانصرنا على
عدونا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين وأستغفر الله لي ولكم.
ثم إن أصحاب علي بن أبي طالب بعثوا بغلمانهم يستقون لهم فمنعهم من شرب الماء
معاوية يزداد بذلك بغيا على بغيه جرأة على الله في منعه.
فليعتبر معتبر، وليحسن النظر ناظر إذا فكر في سيرة علي بن أبي طالب ومن خالفه

(1) وفي كتاب صفين: " بدري قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه كل مشاهده التي فيها الفضل... ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " عليا ". وفي كتاب صفين: " واعلموا والله الذي ملك الملك وحده فبان
به وكان أهله، لقد قاتل علي بن أبي طالب.. ".
(3) أي في خلافه لعلي وقيامه مع طغام أصحابه على منازعة علي حقه. وفي كتاب صفين: " فما معاوية في هذه
بأبر ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم ".
(4) هذه الكلمة غير موجودة في كتاب صفين.
145

من أصحاب صفين والجمل كيف يبدأون بالبغي والنكث، ويتبعون ذلك بما هو أقبح
في سيرتهم.
واجتمع أصحاب علي إليه وقالوا: قد منعنا الماء، وقد متنا عطشا. فأرسل [علي]
إلى معاوية صعصعة بن صوحان، فأتاه صعصعة فقال: إن أمير المؤمنين يقول لك:
إن خيلك قد حالت بيننا وبين الماء فإن شئت صرفت عنا خيلك حتى نستقي من الماء
ونرى من رأينا وترى من رأيك فيما سرنا إليه وسرت إليه.
فقال له الفاسق في كتاب الله، الوليد بن عقبة: أرى أن نقتلهم عطشا فلم تأذن
لهم في شرب الماء. وجمع خيله على الماء ومنعهم منه.
فلما رأى ذلك علي بن أبي طالب أمر أصحابه بقتال القوم حتى يخلوا لهم عن
الماء، فقاتلوهم حتى صار الماء في أيدي أهل الحق وانكشف عنه أهل البغي وغلب
أهل الحق عليه.
فبعث إليهم معاوية [أن] خلوا عن الماء ليكون بيننا وبينكم فقال أصحاب علي:
قد طلبنا هذا منك أول مرة فأبيت علينا فأما الآن فلا.
فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فأرسل إلى أصحابه أن خلوا بينهم وبين الماء نعدل
وإن ظلم وإن بغى وإن غدر (1) وننصف وإن منع النصف، ونعفو إذا قدر [نا].
وأقبل رجل من أهل الشام يقال له: حوشب ذو ظليم وكان له قدر - إلى علي
ابن أبي طالب فقال له: ألا ترى يا علي أنه قد قسم الله لك قسما حسنا فخذه بشكر:
إن لك قدما في الإسلام (2) وسابقة وقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهرا
وتجربة وسببا، فإن تلق بيننا غدا فإنه لبوار العرب [كذا] وضيعة الحرمات (3) ولكن

(1) كذا في الأصل غير أن فيه: " فإن غدر به... ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " بشكران لك قدم في الإسلام.. ".
(3) هذا هو الظاهر وفي الأصل: " وضيعة الحرمان ".
146

انصرف راشدا وخل بيننا وبين شامنا وتحقن دماءنا ودماء أصحابك.
فقال له علي بن أبي طالب: إنك لم تأل عن النصيحة بجهدك، ولو علمت أنه
يسعني في ديني [المداهنة] أجبتك ولكان أهون علي في المؤنة ولكن الله لم يرض لأهل
القرآن أن يعمل [الناس] بمعاصي الله في أكناف الأرض وهم سكوت (1) لا يأمرون
ولا ينهون. واعلم يا حوشب أني (2) قد ضربت الأمر ظهره وبطنه وأنفه وعينيه حتى لقد
منعني من نوم الليل فما وجدت يسعني إلا قتالهم أو الكفر بما جاء به محمد وكانت معالجة
القتال أهون علي من معالجة الأغلال وكانت مؤنات الدنيا أهون علي من النار (3).
فوالله ما أجد يقدر مخالف ولا ناصب [أن] يقول: إن عليا قاتل القوم واحتمل تلك
المكاره وصبر على المحن العظام لغير ما ذكرنا [ه].
وكيف يمكن ذلك ويدعي عليه مخالف طلب دنيا أو رغبة فيما رغب فيه أهل
الشقاق والردى، وأموره / 45 / قد انكشفت للعامة والخاصة في سيرته وزهده وتقلله
في مأكله وملبسه في أيام خلافته، بل مناقشته لنفسه في هذا الحال أكبر، ومباعدته
لها من المطامع ومما يقرب من التهم والتلذذ والتنعم أغلب وأشهر.
يختم على جراب سويقه، ويقطع ما فضل عن [أ] كمامه! ويطعم أصحابه
أطيب طعامه، ويقدمهم في الدنيا على نفسه [وإنما ذكرنا معدودة من قبسات سيرته]
لتعلموا أن الذي [كان] يسعى له ويطلبه ويجتهد في إحرازه، غير ما طلب الفرقة الباغية
من الملك والدنيا ومن أشبههم من الراغبين في البيضاء والصفراء، وأن الذي كان فيه
[هو] تجارة للآخرة، وسعي للعاقبة ورغبة عن الآجلة (4) فنهى النفس عن هواها،

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وهم سكون.. ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " أن قد ضربت.. ".
(3) وللكلام مصادر كثيرة ذكرناها في ذيل المختار: (214) من نهج السعادة: ج 2 ص 227 ط 1.
(4) هذا هو الظاهر وفي الأصل: " والرغبة في الآجلة ".
147

وجاذب الشيطان قيادها حتى تمكن من بغاتها ومارقتها وناكثتها.
فهنيئا لك أبا الحسن لقد شرف ابتداؤك، وطاب منشؤك، وقوي صبرك، وعدلت
سيرتك، وسخت نفسك ببذلها لربك فظفرت يدك بربح تجارتك، وقدمت على
خالقك، فتلقتك بشارته وحياك بملائكته يقولون: سلام عليك تحية من الله لك بجوار
المصطفى وأخيك المرتضى وحبيبك محمد قد أكرمك الله بجواره وجعلك في دار قراره
وسقاك بكأسه.
اللهم فمن علينا باقتفاء آثاره والعمل بسيرته ومعاداة أعدائه، وأحشرنا في زمرته
فقد جاهد فيك حق الجهاد وامتحن في حبك بمحن شداد، وقام من نصيحة الخلق في
تلك الأهوال بما لم يقم به مخلوق ولم ينله طالب ولم يدركه مجتهد.
ببغضه عرف المنافق (1) وبفعله اشتد ظهر المؤمن، وبه وضحت أعلام السبل عند
إحاطة الفتن، وبه بان الحق عند ارتداد الخلق، وبه قامت السنن عندما اعتورتها الشبه
واللبس حتى صفي الحق من كدره، وخلصه بصفوة أعلامه، فانقطع عنه ألسن المعاندين (2)
واضمحلت [منه] شبه الحائرين.
فله فضيلة البيان، والسبق في مجاهدة الأقران، سبق في فضيلة الجهاد على آيات
التنزيل (3) وكشف الله به تلك الكرب عند ظهور الإسلام حتى نودي من السماء:
لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار
ثم ختم الله به - مع سوابق قديمة [و] فضائل [جمة] - عند انقضاء عمره
من محاربة من بغي الدين عوجا، وطغى على الإسلام فسقا وتمردا، فجاهد بيده ولسانه
في إثبات حق التأويل كما جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات حق التنزيل
وذلك من قوله وفعله مشهور يوم صفين [و] ليلة الهرير.

(1) وانظر الحديث: (694) وتواليه من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص
190، ط 1.
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " لبس المعاندين ".
(3) كذا.
148

[خطبته عليه السلام في لوم أصحابه لما انهزموا في بعض أيام صفين في بداية الأمر
من عسكر معاوية ثم كروا عليهم فأزالوهم عن موقفهم وهزموهم].
قالوا (1) لما اشتد البأس وعظم المصاب، وتضعضعت الأركان من الفريقين ورأى
من أصحابه بعض الانحياز قام فيهم فقال:
إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم تحوزكم الجفاة الطغام وأعراب
أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم، وعمار الليل بتلاوة القرآن، وأهل دعوة
الحق إذ ضل الخاطئون، فلولا إقباكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم لوجب عليكم
ما وجب على المولى يوم الزحف دبره وكنتم من الهالكين، فلقد شفى بعض سقمي وأحاح
نفسي إني رأيتكم أخيرا حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم (2) كما أزالوكم
تحوسونهم بالسيف، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطر [و] دة الهيم (3).
[فالآن] فاصبروا، نزلت عليكم السكينة، وثبتكم الله باليقين.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " قال ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: " 209 " من نهج السعادة: ج 2 ص 206 وفي الأصل: " عن مصافكم ".
(3) كذا في الأصل، وفي نهج السعادة: " تحوزونهم بالسيوف ليركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم،
فالآن فاصبروا أنزلت عليكم السكينة.. ". وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: " ولقد شفى وحاوح
صدري أن رأيتكم بأخرة تحوزونهم كما حازوكم وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم حسا بالنضال وشجرا
بالرماح تركب أولاهم كالإبل الهيم المطرودة ترمى عن حياضها وتذاد عن مواردها ".
149

[و] ليعلم الفار منكم أنه لا يزيد في عمره ولا يرضي ربه [و] أن في الفرار سخطا
عليه، والذل اللازم لأهله، والعار الباقي، وفساد العيش عليه، فيموت المرء محقا خير
من الحياة على الفرار بهذه الخصال (1).
ثم قال: والذي / 46 / بعث محمدا بالحق لقد قاتلت معاوية وأباه على تنزيل
الكتاب، وأنا اليوم أقاتله وأشياعه على تأويل الكتاب. وإن البصيرة في الأمرين جميعا
لواحدة بالعلم بما نحن عليه من الهدى والحمد الله.
ثم حمل على أعداء الله فما انثنى حتى قتل خمسمائة رجل، كلما قتل رجلا كبر
تكبيرة حتى يسمعه عامة أهل عسكره، وذكروا أن ذلك كان من أول الصبح إلى أن
غاب الشفق، وما كانت صلاته يومئذ وأصحابه إلا التبكير لكل ركعة تكبيرة.
وكان إذا قتل رجلا قال: اللهم إنه قاتل مع عدوك ليطفئ نورك جرأة عليك،
وتغيير [ا] لما جاء به نبيك اللهم فاصل وجهه النار.
قالوا: ثم أقبل رجل من أهل الشام يقال له: الزبرقان به الحكم (2) وكان سيد
أهل الشام [فطلب البراز] فخرج إليه الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال له الزبرقان:
من أنت؟ قال: أنا الحسن بن علي. فقال له: انصرف يا بني فوالله لقد نظرت إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقبلا من ناحية " قبا " يسير على ناقة له وإنك يومئذ لقدامه، فما كنت
لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدمك.
فانصرف الزبرقان [كذا].

(1) كذا في الأصل، وفي نهج السعادة: " فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها
والإقرار عليها ".
(2) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: " الزبرقان بن أظلم.. ".
150

فلما بلغ ذلك عليا قال لأصحابه: أملكوا عني هذا الغلام (1) - يعني ابنه [الحسن] -
لا يهدني [فقده]. فأسرعت إليه خيل من أصحاب علي فردوا الحسن.
وانصرف الزبرقان وهو يقول: إني أخاف الله في ابن فاطمة، وإن ذا الكلاع حدثني
أنه سمع جهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حسنا وحسينا
سيدا شباب أهل الجنة (2).

(1) ورواه السيد الرضي رحمه الله بزيادات جيدة في المختار: (207) من نهج البلاغة.
(2) ورواه ابن عساكر في الحديث: (141) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ص
82 ط 1، بسنده عن أبي وائل، عن ذي الكلاع، عن جهم...
ورواه أيضا ابن حجر عن مصادر في ترجمة جهم الصحابي من كتاب الإصابة: ج 1، ص 255.
151

[كلام أمير المؤمنين عليه السلام لأصحابه لما مر بجمع من أهل الشام وهم يشتمونه]
ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دفع إلى جماعة من أصحابه يقاتلون قتالا شديدا،
والآخرون [من أهل الشام] يلعنون عليا ويشتمونه (1) فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: [جماعة فيهم]
الوليد بن عقبة فقال: انهدوا إليهم وعليكم السكينة وسيماء الصالحين ووقار الإسلام، فوالله
لا أقرب بقوم من الجهل بالله [قوم] قائدهم ومؤدبهم معاوية (2) وابن النابغة - يعني
عمرو - وأبو الأعور السلمي وابن أبي معيط شارب الخمر المجلود حدا في الإسلام
[و] ها هم يقومون فيقصبوني (3) ويشتموني وقبل اليوم ما قابلوني وشتموني، وأنا أدعوهم
إذ ذاك إلى الإسلام وهم يدعوني إلى عبادة الأوثان، الحمد لله [و] قديما عاداني الفاسقون
فبعدهم الله (4)
ألم تعجبوا أن هذا هو الخطب الجليل، أن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين، وعلى
الإسلام وأهله متخوفين، خدعوا شطر هذه الأمة، وأشربوا قلوبهم حب الفتنة،
واستمالوا أهواءهم بالإفك والبهتان [و] قد نصبوا لنا الحرب، وجدوا في إطفاء نور الله.

(1) ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل ولا بد منه.
(2) وفي المختار: (211) من نهج السعادة: " والله لأقرب قوم من الجهل بالله عز وجل قوم قائدهم ومؤدبهم
معاوية.. ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق للمختار: (211) من نهج السعادة: ج 2 ص 213، وفي الأصل: " فيعصوني.. ".
(4) الظاهر أن هذا هو الصواب، وهذه الجملة غير موجودة في كتاب صفين والمختار: (211) من نهج السعادة،
وكانت في الأصل المخطوط مصحفة: " فعبدكم الله ".
152

اللهم فاردد الحق، وافضض جمعهم، وشتت كلمتهم وأبلسهم بخطاياهم (1) فإنه لا
يذل من واليت ولا يعز من عاديت.
ثم نهد إليهم فضاربهم حتى أزالهم عن مكانهم
وكان رضي الله عنه في تلك الأحوال يباشر الحروب بنفسه، ويقومها برأيه،
ويجبر صدعها ببأسه، ويقوي ضعيفها بكلامه، ويشجع جبانها بالبشارة والحجة،
ويدور على الرايات، فيقوم أودها، ويقاتل مع المتأخر عنها حتى تلحق مكانها.
[وكان يتحمل تلك الشدائد لله] ليعلموا أن منافسته في طلب ثواب الله في هذه الحال
كمنافسته أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعاوية - لعنه الله - على سريره بعيد من عسكره، حوله الحرس والشرط،
متشبها بالجبابرة وأبناء ملوك العجم، يقول ما لا يفعل، ويرغب فيما فيه زهد، ويتخلف
عما أمر حرصا على الدنيا، وحدوا منه بما طلب (2).

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (211) من نهج السعادة: " اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم
وشتت كلمتهم وأبسلهم بخطاياهم.. ". أي خذهم بخطاياهم وأهلكهم بها.
(2) كذا في الأصل، فإن صحت اللفظة فلعل معناها: تباعا منه بما طلب من قولهم: " حد الليل النهار - من
باب دعا - حدوا ": تبعه. ويحتمل أيضا إنها مصحفة عن: " عدوا " من قولهم: " عدا زيد - كدعا -
عدوا ": جرى وركض ووثب.
153

[توجيه النفوس إلى الحق والحقيقة بذكر لمعات من أنوار ما بثته حواري أمير المؤمنين
عليه السلام وإيراد بعض ما كان عليه مخالفيهم من حواري معاوية].
ثم التمسوا علم [سيرة] أهل البصيرة من أصحابه لتعلموا أنهم قد حذوا أمثاله، وفقهم
بعلمه، وغذاهم بعدله حتى / 47 / قربت بصيرتهم من بصيرته.
هذا عمار بن ياسر ينادي بأعلى صوته: الرواح إلى الجنة، تزينوا للحور العين.
وكبر عندما شرب [ضياح] اللبن وروى لهم حديثا سمعه من رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال له: آخر زادك ضياح من لبن ثم تلقاني.
وقال: لو [ضربونا حتى] بلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أنهم على الباطل وأنا
على الحق (1).
وكان عمرو بن العاصي قد أخرج ابنيه في ذلك اليوم عبد الله ومحمد، وحمل أبو
اليقظان بمن معه من الرجالة وأهل النجدة فنظر عمرو إلى غبار ساطع فقال: على من

(1) ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل ولا بد منه كما ورد في جميع المصادر.
والحديث من مقطوعات أقوال عمار - قدس الله نفسه - التي روته العام والخاص، وله مصادر كثيرة.
وقد رواه الطبري بسندين في عنوان: " مقتل عمار بن ياسر " من حوادث سنة (37) من تاريخه:
ج 5 ص 21.
ورواه أيضا نصر بن مزاحم المنقري في أواسط الجزء الخامس من كتاب صفين ص 322 - 342.
وانظر ما علقناه على الحديث: (225) في الباب: (54) من فرائد السمطين: ج 1، ص 286 ط 1.
154

الغبار؟ فقالوا: على ابنيك عبد الله ومحمد فصاح [عمرو] بأصحابه أن قدموا الراية.
فقال له معاوية إنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف. فقال له عمرو: إنك لم
تلدهما يا معاوية (1).
[قال ذلك وأصر على الدفاع عن ابنيه] حرصا منه على البقاء، ودلالة على معرفته
بخطأ ما هم فيه.
وذكروا أن سعيد بن قيس قال: الحمد لله على ما كرهنا وأحببنا وقد اختصنا الله
منه بنعمة منه لا نستطيع أداء شكرها: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم المصطفين
الأبرار معه في حزبنا.
فوالله الذي هو بعباده (2) خبير بصير لو كان قائدنا حبشيا مجدعا إلا أن معنا من
البدريين سبعين رجلا لكان ينبغي لنا أن نحسن بصائرنا ونطيب أنفسنا كيف ورئيسنا ابن
عم نبينا صدقه أولا (3) وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرا وجاهد مع نبيكم
كبيرا، ومعاوية طليق بن طليق من وثاق الإسار [إلا أنه أغوى جفاة فأوردهم النار
وأورثهم العار، والله محل بهم الذل والصغار ألا [و] إنكم ستلقون عدوكم غدا] [ف‍]
عليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر فإن الله مع الصابرين.

(1) وذكره أيضا في كتاب صفين ص 388.
(2) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " بالعبادة ". وفي كتاب صفين ص 236: " فوالله الذي هو بالعباد بصير.. "
وللخطبة هناك مصدر غير مذكور هاهنا. كما أن لها ذيل، وما وضعناه في المتن بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه
(3) وفي كتاب صفين " لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا وتطيب أنفسنا فكيف وإنما رئيسنا ابن عم نبينا يدري
صدق صلى صغيرا وجاهد مع نبيكم كبيرا.
ثم إن في خطبة سعيد هذا شاهد على رد بعض النواصب حيث أنكر وجود بدري في جند أمير المؤمنين عليه
السلام غير عمار بن ياسر رضوان الله عليه، وقد ذكرنا للموضوع شواهد أخر في تعليق المختار. (175)
من نهج السعادة: ج 2 ص 91.
155

قالوا (1): وخرج رجل من خثعم من أهل الشام [يقال له: شمر بن عبد الله] وخرج
[إليه] رجل من خثعم من أصحاب علي [يقال له أبو كعب وهو رأس خثعم العراق]
فقتله الشامي وانصرف وهو يبكي ويقول: رحمك الله لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس
بي رحما منهم وأحب إلى نفسا، ولكن والله ما أدري ما أقول إلا أن الشيطان قد قتلنا
ولا أرى قريشا إلا قد لعبوا بنا (2).
[وإنما ذكرنا هذا وأمثاله] لتعلموا أن من خالفه إنما كان (3) يقاتله على الحمية
والعصبية والشبهة لا على ثقة ومعرفة.
وذكروا أن كعبا المرادي (4) كان رجلا من أصحاب علي بن أبي طالب، فلما صرع
يوم صفين مر به الأسود بن قيس المرادي، فقال له كعب: يا ابن قيس. قال لبيك.
فعرفه وهو بآخر رمق فقال له ابن قيس: عز علي بمصرعك، أما والله لو شهدتك
لآسيتك ولدافعت عنك، ولو علمت الذي أسعرك وأبغضك (5) لأحببت أن لا نتزايل
حتى أقتله أو ألحق بك. ثم نزل إليه فقال: أما والله إن كان جارك لآمنا لبوائقك وإن
كنت لمن الذاكرين الله كثيرا، فأوصني يرحمك الله.
فقال أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين، وتقاتل معه المحلين حتى

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " قال... "
(2) ورواه أيضا في أواسط الجزء الرابع من كتاب صفين ص 257 وفيه: " ولكن الله ما أدري ما أقول ولا أرى
الشيطان إلا قد فتننا ولا أرى قريشا إلا قد لعبت بنا ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " إنما يكون يقاتله ". وما بنى المعقوفين زيادة منا.
(4) كذا في الأصل، وفي تاريخ الطبري: ج 6 ص 25: " عبد الله بن كعب المرادي.. ". ومثله في أواسط
الجزء: (7) من كتاب صفين ص 456.
(5) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين وحوادث سنة (37) من تاريخ الطبري: " ولو عرفت الذي أشعرك
لأحببت... ".
156

يظفر أو تقتل!! وأبلغه عني السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف
ظهرك، فإنه من أصبح من وراء المعركة كان الظافر.
ثم لم يلبث أن مات، وأقبل ابن قيس إلى علي فأخبره، فقال [على] رحمه الله
قاتل معنا عدونا في الحياة، ونصح لنا عند الوفاة.
157

[شأنه عليه السلام في حروبه مع أعدائه، ثم وصيته عليه السلام وتحريضه لأصحابه
عند دنوهم من عدوهم للمناوشة والمقاتلة].
وقالوا: إنه كان رضي الله عنه لا يبدأ عدوه بقتال حتى يبدأوه، ولا يحاربهم حتى
ينابؤهم، فلما ناباهم يوم صفين وأنظرهم فلم يدعوا و [لم] يرجعوا أمر مناديه فنادى
في أهل الشام.
ألا إني قد استدمتكم واستأنيتكم لترجعوا إلى الحق وتنثنوا إليه، واحتججت
[عليكم] بكتاب الله ودعوتكم إليه فلم تناهوا عن طغيانكم، ولم تجيبوا إلى حق. ألا
وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (1).
ثم تقدم إلى مقدمته أن قفوا ولا تقدموا عليهم إقدام من يريد أن ينشب حربا،
ولا تأخروا عنهم تأخر من يهاب البأس، ولا يحملنكم سبابهم [إياكم] على قتالهم
قبل أن تدعوهم وتعذروا إليهم (2).
[وإنما كان يأتي بهذا وأمثاله] ليعلموا أن شأنه / 48 / وبغيته ومراده اتباع
حكم الله وإصابة الحق في قتالهم.
ثم أقبل على أصحابه لما هموا بلقاء عدوهم [و] حرضهم [وهو] يقول لهم:
عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا
أنفسكم على المنازلة والمحاولة والمحافظة والمعانقة والمكادمة، واثبتوا واذكروا الله كثيرا
لعلكم تفلحون، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين.
اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الأجر (3).

(1) ورواه أيضا نصر بن مزاحم في أواخر الجزء الثالث من كتاب صفين ص 203.
كما رواه أيضا الطبري في تاريخه: ج 6 ص 5.
(2) وقريبا منه رواه نصر بن مزاحم في أواسط الجزء الثالث من كتاب صفين ص 153.
(3) وهذا الكلام رويناه في المختار: (197) من نهج السعادة: ج 2 ص 159 ط 1، عن مصادر.
158

[كلام الشهيد عقبة المرادي يوم صفين في هوان الدنيا وغلاء الدار الآخرة،
وحث الناس على قتال معاوية وجنده
ثم خروجه مع أخوته إلى البراز واستشهادهم رضي الله عنهم].
وذكروا أن عقبة بن جرير المرادي (1) - وهو من أصحاب علي - قال يوم صفين:
إن مرعى الدنيا أصبح هشيما وأصبح شجرها حصيدا (2) وجديدها سملا، وحلوها
مر المذاق.
ألا وإنني أنبئكم نبأ امرئ صادق، بأني قد سئمت الدنيا وعزفت [نفسي] عنها،
وقد كنت أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش أو غارة، فأبى الله إلا أن يبلغ (3)
هذا اليوم، ألا وإني متعرض لها [من] ساعتي هذه، وقد طمعت فيها.
فما تنتظرون عباد الله في جهاد أعداء الله؟ أخوفا من اليوم القادم عليكم (4) الذاهب

(1) كذا في الأصل، والقصة ذكرها أيضا الطبري في حوادث سنة: (37) من تاريخه: ج 6 ص 15، قال:
قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن حصيرة عن أشياخ النمر: أن عقبة بن حديد النمري قال يوم
صفين..
(2) وفي النسخة الموجودة عندي من تاريخ الطبري: " وأصبح شجرها خضيدا.. ".
(3) كذا في الأصل، وفي تاريخ الطبري: " وقد كنت أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبى الله
عز وجل إلا أن يبلغني هذا اليوم.. ".
(4) وفي تاريخ الطبري: " فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ [أ] خوفا من الموت القادم عليكم الذاهب
بأنفسكم لا محالة.. ". ثم إن جميع ما وضعناه بين المعقوفات مأخوذ من تاريخ الطبري.
159

بأنفسكم لا محالة؟ أو [من] ضربة كف بالسيف تستبدلون الدنيا بالآخرة، ومرافقة
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار القرار؟ ما هذا بالرأي [السديد].
ثم مضى وقال: يا إخواني إني قد بعت هذه الدار الدنيا بالدار الآخرة التي أمامها
وهذا وجهي إليها فلا تبرح وجوهكم ولا يقطع الله رجاءكم.
فتبعه إخوته وقالوا: لا نطلب رزقا بعدك قبح الله العيش بعدك، اللهم إنا نحتسب عندك
أنفسنا. فاستقدموا فقاتلوا، فقتلوا رحمهم الله.
وذكروا أن رجلين تخاصما عند معاوية لعنه الله في قتل عمار فقال أحدهما:
أنا قتلته. وقال الآخر: أنا قتلته. فقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: إنما تختصمان
أيكما يدخل النار!! سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قاتل عمار في النار (1).
وذكروا أن غلاما من أهل الشام قاتل يوم صفين قتالا شديدا (2) فقال له بعض
أصحاب علي: يا فتى هل أهمك أمر هذا الدين قط؟ وأمر هذه الأمة؟ فقال: لا والله
لا أقول باطلا ما أهمني. قال: فعلام تقاتل؟ قال: إن أصحابي يخبروني أن صاحبكم
لا يصلي! قال له: وكيف يقولون ذلك وهو أول من صلى وأجاب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى الهدى وأصحابه الفقهاء والقراء. فرجع الفتى إلى أصحابه وخرق الصف،
فقال له أصحابه: خدعك العراقي؟ قال: لا والله ولكن نصح لي.
فقد تعلمون عند التدبر في أمور من خالفه (3) أنها موضوعة على الكذب والغدر
وطلب الدنيا وتعمد الخطاء.

(1) والقصة مروية في مصادر كثيرة بأسانيد مختلفة، وذكرها أيضا الطبري في عنوان: " مقتل عمار " من حوادث
سنة (37) من تاريخه: ج 6 ص 23.
والقصة ذكرها أيضا نصر بن مزاحم تفصيلا في أول الجزء السادس من كتاب صفين ص 354.
(2) ورواه أيضا الطبري في عنوان: " خبر هاشم بن عتبة.. وليلة الهرير " من تاريخه: ج 6 ص 23 قال:
فإنهم لكذلك إذ خرج عليهم شاب فتى وهو يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان * والدائن اليوم بدين عثمان
إني أتاني خبر فأشجان * إن عليا قتل ابن عفان
ثم [جعل] يشد فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشتم ويلعن ويكثر الكلام! فقال له هاشم بن
عتبة: يا عبد الله إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى الله
فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به.
قال [الشاب]: فإني أقاتلكم لأن صاحبكم لا يصلي كما ذكر لي وأنتم لا تصلون أيضا!! وأقاتلكم
لأن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم أردتموه على قتله!!!.
فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟ إنما قتله أصحاب محمد وأبناء أصحابه وقرأه الناس حين أحدث
الأحداث، وخالف حكم الكتاب، وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك،
وما أظن أمر هذه الأمة، وأمر هذا الدين أهمك طرفة عين؟!.
فقال له أجل والله لا أكذب فإن الكذب يضر ولا ينفع.
قال: فإن أهل هذا الأمر أعلم به فخله وأهل العلم به. قال [الشاب]: ما أظنك والله إلا نصحت لي.
[ثم] قال [هاشم]: وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي!! فهو أولى من صلى، وأفقه خلق الله في
دين الله، وأولى [الناس] بالرسول. وأما من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله، لا ينام الليل تهجدا،
فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون.
فقال الفتى: يا عبد الله إني أظنك امرءا صالحا فتخبرني هل تجد لي من توبة؟ فقال [هاشم]: نعم يا
عبد الله تب إلى الله يتب عليك، فإنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويحب المتطهرين.
فجشر والله الفتى الناس راجعا، فقال له رجل من أهل الشام: خدعك العراقي خدعك العراقي. قال:
لا. ولكن نصح لي.
أقول: والقصة ذكرها أيضا بالتفصيل نصر بن مزاحم في أول الجزء السادس من كتاب صفين ص 354
طبع مصر.
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " عند التدبير لأمور من خالفه ".
160

[خدعة عمرو بن العاص ومعاوية صبيحة ليلة الهرير برفع المصاحف على الرماح
وصياح الشاميين بأمرهما في أهل العراق وقولهم لهم: بيننا وبينكم كتاب الله: وانخداع
أهل العراق بهذا النداء، ثم خطبة أمير المؤمنين فيهم وتحذيره إياهم عن الركون إلى هذا
المكر، ثم ما جرى بينه وبين النوكى من القراء وممن كان في قلبه مرض من قواد العراق].
ولما عضت الحرب القوم وقرب أصحاب علي من الفتح قال عمرو بن العاص لمعاوية:
ها هنا حيلة توجب الاختلاف بينهم والفرقة، وذاك أن عليا وأصحابه أصحاب ورع
ودين فإذا أصبحنا رفعنا المصاحف وقلنا: بيننا وبينكم كتاب الله.
فلما أصبحوا رفعوا المصاحف وقالوا: بيننا وبينكم كتاب الله، الله الله في البقية.
واستقبلوا علي بن أبي طالب بالمصاحف.
فقال علي: والله ما الكتاب يريدون، وإن هذا منهم لمكيدة، فاتقوا الله عباد الله
وامضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرا وابن أبي معيط، وابن
مسلمة وابن أبي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنا أعرف بهم منكم، قد صحبناهم
أطفالا ورجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال. إنهم والله ما رفعوها ليعملوا بها وما رفعوها
إلا خديعة ووهنا ومكيدة لكم (1).
فنفرق عند ذلك أصحابه واختلف قولهم، ورأى أكثرهم طلب الصلح والموادعة.
فإن قال قائل: فقد نرى ما قلتم وما يؤثر عن علي بن أبي طالب يوجب عليه الخطأ

(1) وقريبا منه رويناه في المختار: (220 - 221) من نهج السعادة: ج 2 ص 246.
162

وأنه معتمد لترك الصواب لأنه أشار بقتال القوم عند رفع المصاحف وأخبر أنها منهم خديعة
ثم رجع / 49 / عن هذا من رأيه إلى محاكمتهم وموادعتهم وهذا نفس ما نقمته الخوارج
وادعت خطأ علي فيه.
قلنا لهم: لسنا نبعد قلة معرفتكم بما ذكرنا [ه] وبعد وهمكم عنه إذ ذهبتم عما
هو أوضح منه إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما أشار على القوم بقتالهم وأن لا
يكفوا من حربهم لأن القوم الذين رفعوا المصاحف قد علم أنهم لم يرفعوها لشبهة دخلت
[عليهم] وأن رفعها عند قرب الفتح والظفر بهم خديعة، وعلم أن الذين رفعوها قد
قامت عليهم الحجة وعرفوا حقه فتركوه بالمعاندة، ولو مضى أصحابه على بصيرتهم
ويقينهم [و] لم تدخل عليهم الشبهة، و [لم] تختلف الكلمة لكان سيمضي علي أمره
في محاربتهم لأنه قد أعذر إليهم وأقام حجته عليهم، وكان رأيه رضي الله عنه
صوابا في تحريك أصحابه في محاربتهم و [قد] أعلمهم أن الذي كان منهم خديعة
ليمضوا على بصائرهم. فلما دخلت أصحابه الشبهة، وجاء أمر احتاج إلى إزالته بحجة
أمسك عن القوم حتى ينكشف لأهل الضعف خطأؤهم فيزول عنهم شكهم إذا اعلموا أن
القوم لم يطلبوا الحق برفع المصاحف، فيرجع بعد إلى مناجزتهم وقتالهم.
فقالوا له أرسل إلى الأشتر فرده. فأرسل إلى الأشتر أن أقبل إلي. فأرسل إليه الأشتر:
ليس هذه ساعة ينبغي أن تزيلني فيها عن موضعي إني قد رجوت أن يفتح الله [علي]
فلا تعجلن.
فارتفعت الريح، وعلت الأصوات من ناحية الأشتر، فقال القوم: والله ما نراك
إلا قد أمرته يقاتل!! فقال علي رضي الله عنه: من أين ينبغي لكم أن تروا ذلك؟
هل رأيتموني ساررت الرسول؟ ألم أكلمه على رؤسكم علانية وأنتم تسمعون؟! (1).

(1) راجع شرح القصة عن لسان إبراهيم بن الأشتر رضوان الله عليهما الحاضر في المعركة والمعاين لحدوث الكارثة
في آخر الجزء السابع من كتاب صفين ص 490، وحوادث العام (37) الهجري من تاريخ الطبري: ج 6
ص 27.
163

فجاء من أمرهم أمر عجيب وخرجوا عند الشك إلى تهمته والادعاء عليه! فأرسل
علي إلى الأشتر أن أقبل الساعة فقد وقعت الفتنة.
فإن قال قائل: فهلا (1) ترك الأشتر يمضي على بصيرته؟
قلنا: لو فعل ذلك ازدادوا شكا وحيرة ولدعاهم ذلك إلى قتله وقد تهددوه بذلك.
فرجع الأشتر [عن ساحة القتال وخاطب رسول أمير المؤمنين] فقال: الرفع هذه
المصاحف دعوتموني؟ قالوا: نعم. قال: أما والله لقد ظننت إذ رفعت أنها ستلقي اختلافا
وفرقة!! أما إنها من مشورة ابن النابغة.
ثم قال [لرسول أمير المؤمنين]: ألا ترى الفتح، أما ترى ما يلقون؟ أيسعني أن
أنصرف عن هذا وأدعه، وقد صنع الله لنا ونصرنا (2).
فقال [له] بعض القوم: أتحب أنك ظفرت ها هنا وأمير المؤمنين بمكانه يتفرق
عنه ويسلم إلى عدوه أو يقتل؟ قال: سبحان الله لا والله. قال: فإنهم قد قالوا: لترسلن
إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلك كما قتلنا ابن عفان!!
فأقبل عليهم الأشتر فقال: يا أهل العراق يا أهل الذل والوهن، أحين علوتم القوم
وظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعوكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر [ه]
الله [به] فيها، وتركوا سنة من أنزل عليه الكتاب، مهلا [لا] تجيبوهم وأمهلوني فإني
قد أحسست بالفتح. فأبوا عليه! قال: فأمهلوني عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر.
فقالوا: إذا ندخل معك في خطيئتك. قال: فحدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقي
أراذلكم - متى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقاتلون، وخياركم مقتولون؟ فأنتم الآن
حين أمسكتم عن القتال مبطلون؟ أم أنتم الآن محقون وقتلاكم الذين كنتم لا تنكرون

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " فألا ترك الأشتر يضمي على بصيرته ".
(2) ما بين المعقوفات زيادة منا، زدناها ليتوافق ما هاهنا لما في كتاب صفين وتاريخ الطبري.
164

فضلهم، وكانوا خيرا منكم في النار (1).
فقالوا: دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله، وندع قتالهم لله، إنا لسنا نطيعك ولا
صاحبك ما حيينا (2) قال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم (3)
يا أصحاب / 50 / الجباه السود كنا نظن صلاتكم هذه [زهادة] في الدنيا وشوقا إلى
الله، فلا أرى فراركم من الموت [إلا] إلى الدنيا!!! ألا فقبحا [لكم يا أشباه النيب
الجلالة] (4) ما أنتم برائين بعدها عزا أبدا، فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه!! وصاح بهم علي [أن]
كفوا. فكفوا.
وكان ما كان من علي في إجابة القوم لشك أصحابه واختلافهم، وما دخلهم من
الجهل وحلول الشبهة، ليس [من أجل] أنه لم يكن في أمر معاوية وعمرو على بصيرة
أو أنه ذهب عنه أن ذلك منهم مكيدة وخديعة.
فلما رأى الشك قد وقع وجبت المناظرة، ولم يجد بدا من الموادعة، ولو لم يفعل
ذلك لازداد في غيه الجاهل، وقويت دعوى المخالف، وكان في ذلك تهمة، وأنه
فرار من حكم الله.

(1) وفي كتاب صفين ص 491: " فحدثوني عنكم - وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم - متى كنتم محقين؟
أحين كنتم تقتلون أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون؟ أم [أنتم] الآن [في إمساككم
عن القتال] محقون؟ فقتلاكم إذن - الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم - في النار؟ ".
(2) وفي كتاب صفين: " قالوا: دعنا منك يا أشتر قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، إنا لسنا نطيعك فاجتنبنا ".
(3) وها هنا أي في آخر صفحة 9. الأصل من المخطوط. هامش من غير علامة لتعيين محله في المتن، وهذا نصه:
" لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".
(4) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " إلا قيحا ".
وما وضعناه بين المعقوفات مأخوذ من كتاب صفين وفيه: " كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق
إلى الله... ".
165

وليس أحد يدعي أن ما فعل القوم ذهب عنه وأن القوم استغفلوه بالمكيدة، ولقد
قام رضي الله عنه فقال:
والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يفجر ويغدر، ولولا كراهة الغدر (1) كنت من
أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف
به يوم القيامة.

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (197) من نهج لبلاغة والمختار (245) من نهج السعادة: ج 2 ص 317 ط 1:
" ولولا كراهية الغدر.. ".
166

[كلمات بعض رؤساء أهل العراق وقواد جند أمير المؤمنين عليه السلام لما رفع الفئة
الباغية القرآن على الرماح، وادعوا مكرا وحيلة انقيادهم لحكم القرآن، فخدع العراقيون
فاختلفوا].
ثم قام حصين بن المنذر فقال: أيها الناس إنما بني هذا الدين على التسليم، فلا
ترفعوه بالقياس، ولا تهدموه بالشبهة (1) فإنا والله لو أنا لا نقبل من الأمور إلا ما نعرف
لأصبح الحق في أيدينا قليلا، ولو ركبنا الهوى لأصبح الباطل في أيدينا كثيرا (2) وإن
لنا لراعيا قد أحمدنا ورده وصدره، وهو المصدق على ما قال، والمأمون على ما قعل،
فإن قال: لا. قلنا: لا. وإن قال: نعم. قلنا: نعم (3).
وتكلم ابن عباس فقال: يا قوم إنه من مكر معاوية فلا تختلفوا (4).
ثم قام سفيان بن ثور (5) فقال: أيها الناس إنا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه
[علينا] فقاتلناهم، وإنهم دعونا إلى كتاب الله فإن رددناه عليهم حل لهم منا ما حل

(1) كذا في الأصل - غير أنه كان فيه: " ولا ترفعوه " -، وفي كتاب صفين ص 485: " فلا توفروه بالقياس،
ولا تهدموه بالشفقة.. ".
(2) كذا في الأصل، وفي أواخر الجزء: (7) من كتاب صفين ص 485: " ولو تركنا [و] ما نهوى لكان
الباطل في أيدينا كثيرا.. ".
(3) قال في كتاب صفين ص 488: فلما ظهر قول حضين رمته بكر بن وائل بالعداوة!!
(4) لم أجد كلام ابن عباس هذا في كتاب صفين، ولكن الذي لا يعتريه شك أن رأيه كان تبعا لأمير المؤمنين.
(5) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين ص 485: ثم قام شقيق بن ثور البكري فقال: أيها الناس.
167

لنا منهم [و] لسنا نخاف أن يحيف الله علينا ورسوله وقد أكلتنا الحرب ولا نرى البقاء
إلا في الموادعة.
وتكلم عامة الناس مثل كلامه (1).
فلما رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الاختلاف قد شمل عسكره وشك
في حربهم عامة أصحابه أجاب القوم إلى ما سألوا [ه].
فإن قال قائل: أرأيت لو أن أصحابه لم يختلفوا عليه كان يحبذ قتالهم (2) وقد
دعوه إلى حكم الكتاب، وأمسكوا عن حربه؟ وإنما حل قتالهم في البدء لأنهم أبوا حكم
الكتاب.
قلنا له: إنما دعاهم أولا ليدينوا بحكم الكتاب وليرجعوا إلى ما أمر [هم] الله
[به] والدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار وعلى الشاك منهم أن يجئ مجئ
مستفهم متعلم لا مجئ مستطيل محارب.
على أنه [عليه السلام] لم يستحل قتالهم أولا حتى أقام عليهم الحجة ودلهم على
بغيهم وباطلهم، فلا يرفع عنهم السيف بعد إقامة الحجة إلا بالإنابة والتوبة.
وليس قولهم في هذا الحال: " قد رضينا بحكم الكتاب " إلا خديعة ظاهرة ومكيدة
مكشوفة، فلا معنى لقولهم هذا مع الإقامة على التعبئة وتهيئة الحرب، فإن كانوا طلبوا
الحجة وكشف البينة، فقد قامت في البدء ووضحت.
فإن قالوا: قد رضينا بحكم الكتاب على الندم والرجوع والإنابة فعلامة دعواهم

(1) قال نصر في كتاب صفين ص 484: وذكروا أن الناس ماجوا وقالوا: أكلتنا الحرب وقتلت الرجال. وقال
قوم: نقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه أمس. ولم يقل هذا إلا قليل من الناس، ثم رجعوا عن قولهم
مع الجماعة، وثارت الجماعة بالموادعة.
(2) لعل هذا هو الصواب، أو الصواب: " كان يحل قتالهم " أو " كان يجيز قتالهم "؟ وفي الأصل: " كان
حبر قتالهم ".
168

على سبيل الطلب وسببه فلم يعرف لقولهم علة إلا الخديعة، ولو وجب رفع السيف عنهم
متى دعوا إلى كتاب الله لم يقم بهذا دين، ولم يغلب فاسق لأنه متى دعا إلى الكتاب عند
شدة الحرب ومخافة الظفر به وجبت إجابته، فإذا حوكم فأبى بعد الحكومة، ثم دعا
إلى المحاربة فالت به الحرب أيضا إلى مثل حاله الأولى، فدعا إلى حكم الكتاب ثانية
وجب أيضا إجابته والكف عنه وإن كانت إجابته غير جائزة بعد الحكومة لقيام الحجة
والبيان وكان / 51 / قوله: " قد رضيت بحكم الكتاب " قولا مردودا دون الإنابة
والرجوع فكذلك حكمه في حالة الأولى، أن إجابته لا يجوز لأن الحجة قد قامت والبيان
قد وجب، وهم لم يستحلوا في البدء قتال معاوية حتى أقام عليه الحجة وعرفوا معاندته
وتعمده للخطأ وهم القائلون في البدء: إنما جعل [معاوية] الطلب بدم عثمان علة
وسببا للفتنة والتمويه على الضعفة.
فإن قالوا: فنرى إجابة علي له خطأ عندكم.
قلنا: ذلك رأيتموه بعين الظن والشك دون اليقين والعلم لأن علي بن أبي طالب لم
يجب القوم لطلبهم (1) ولا لأنهم دعوا إلى حكم الكتاب، وإنما أجابهم لعلة انتشار أصحابه
عليه واختلاف كلمتهم.
فإن قالوا: أوليس الذي كان من أصحابه خطأ عنده مع من دفع الحرب وطلب
الموادعة؟.
قلنا: نعم. فإن قالوا: فكأنكم قلتم: أجابهم إلى خطأ من أجل خطأ آخر حدث
في عسكره.
قلنا لهم: إن أصحابه وإن كانوا قد أخطأوا، و [لكن] لم يكن خطأهم بالتعمد
منهم، وإنما كان خطأهم لشبهة دخلت، وشك وجب، وقد كانوا أصحاب دين وورع
فلم يكونوا عندهم في شكهم أقل من أهل الشام في بغيهم، ولم يكونوا في خطائهم على

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " لغلبهم ".
169

غير التعمد أكثر من خطأ معاوية على التعمد، وكان ترك القتال واستنقاذ أصحابه من
هذه الفتنة أمثل، ومناظرتهم لإحيائهم وكشف الحق لهم أصوب عنده، فوادع القوم
واشتغل بمناظرة أصحابه، وإلا فقد علم أن هذه من القوم خديعة، وإنما قاتلهم (1)
ليدينوا بحكم الكتاب، لا ليدعوا إليه، والدينونة بحكم الله هو أن يفيئوا إلى أمر الله
وقال لهم رضي الله عنه: وإنما قاتلناهم لأنهم عصوا الله فيما أمر [ه] ونسوا عهده
ونبذوه وراء ظهورهم، فامضوا على حقكم وصدقكم، فإنهم غير الحق يريدون (2).
فلما أبوا عليه وتمكن منهم الشك، واعتقدوه دينا يدعون إليه، وإن عليا [لو] قاتلهم
في هذه الحال كان حكمه حكمهم في الظلم والبغي [لما] رأى أن الاشتغال بمناظرة
أصحابه أوجب.
ألا ترون أنه لما ناظر أيضا الخوارج فأقام عليهم الحجة فلم يقبلوا [ما] استخار
الله في قتالهم ومحاربتهم، ولم يلتفت إلى قولهم: " لا حكم إلا الله ". وقال: كلمة
حق يراد بها باطل.
وشك الخوارج أكثر في الشبهة، ومعاوية وعمرو عنده على يقين ومعرفة لما هم عليه
من الباطل والبغي، لأن معاوية إنما اعتل بطلب دم عثمان وطلبه ليس هو إلى معاوية،
وإنما يطلب بدمه أولياؤه وهم ولده، وليس لهم أن يطلبوا حقهم بوضع الحرب ونصبها،
لأن طلب الحقوق على غير هذا السبيل يكون، وإنما يكون بالتقدم إلى الإمام
بالإجلال والتعظيم.
فإن قالوا: إن حقهم الذي ادعوه إنما ادعوه على الإمام.
قلنا: إذا كانت دعواهم على غير الإمام لا تقبل فهي على الإمام الذي قد وجبت
عدالته وطهارته ونزاهته أولى أن ترد [وا] عليهم أن يأتوا الإمام حتى ينصفهم من نفسه بمحضر

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وإلا فقد علمتم أن هذه من القوم خديعة، وإنما قاتلناهم.. ".
(2) كذا في الأصل، وقريبا منه رويناه في المختار: (222) من نهج السعادة: ج 2 ص 249 ط 1.
وانظر أيضا المختار (171) من نهج البلاغة.
170

جماعة من المسلمين.
على أنهم جميعا [كانوا] يعلمون أن معاوية كان بالشام وعلي بالمدينة أيام قتل
عثمان بن عفان، وعلى أنهم جميعا [كانوا] يعلمون أن عليا لم يدخل دار عثمان بن
عفان، وعلى أنهم جميعا يعلمون أن معاوية ادعى [على] علي رضي الله عنه التهمة،
ثم ادعى القتل، ثم ادعى أن إمامته لا تجب.
ينتقل عن دعوى إلى دعوى ينقضها على ما يشاهد من احتمال القوم له، وقبولهم
لدعوته.
وعلي ينكر قتل عثمان ولا ينسبه إلى نفسه، فلما أنكر [كونه قاتل عثمان] قالوا
له: آويت قتلته؟ فادفعهم إلينا! فقال:
قد ضربت الأمر، وفكرت في ذلك فلم يسعني دفعهم إليكم (1).
وذلك من قوله رضي الله عنه حق لا يدفعه أحد، علم الحق وعقل أحكام الرب
لأن أولياء المقتول / 52 / لم يأتوه يطلبون ذلك كما يطلب الحقوق، وعليهم أن يقيموا
البينة على رجل بعينه أنه هو المتولي لقتله، أو على جماعة، والبينة لا تكون من أهل
الدعوى والخصومة لأن كل من أظهر دعواه، وكشف خصومته خرج من حكم الشهود
ودخل في معنى الخصوم.
فإن قالوا: إن البينة إنما تقام إذا أنكر القاتل، فأما وقتلته مقرون [فلا] هذا عمار
ابن ياسر يقر بذلك ويقول: قتلناه كافرا.
قلنا: متى صح قولكم [هذا] على عمار وجب أن عثمان لم يقتل مظلوما لأن
شهادة النبي لعمار: " إنه من أهل الجنة " أثبت وأشهر وأظهر من ادعائكم على عمار

(1) كذا في الأصل، والظاهر أنه ذكر كلام الإمام بالمعنى، وفي المختار: (9) من باب الكتب من نهج البلاغة:
" وأما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك.. "
171

هذا الاقرار، فمتى أوجبتم ذلك من إقرار عمار بطلت دعواكم وعلتكم.
وقد قلنا في تصويب علي رضي الله عنه وعدله - في قوله وفعله وخطأ المدعين عليه،
والشاكين في صوابه، والطاعنين عليه في أحكامه - ما فيه أشفى الشفاء وأعدل المقال.
فإن قال قائل: قد فهمنا ما قلتم في رفعه السيف وإجابة القوم إلى الحكومة، فما
معنى تحكيمه الرجال في دين الله؟ والحكومة في الدين ساقطة! لأنه متى حكم الحاكم
بغير الحق لم يقبل منه، ومتى حكم بالحق وخالفه صاحبه عادت البينة خدعة وكانت
القصة واحدة.
قلنا: هو رضي الله عنه كان أعرف بدين الله من أن يحكم الرجال، لأن الرجال
قد يمكن منهم الانتقال والتقية والتغيير، فلم يحكم الرجال وإنما حكم الكتاب، إذ
كان الكتاب لا يتبدل حكمه ولا يشهد بغير الحق لأن حكمه واحد.
فإن قالوا: فلم حكم أبا موسى وقد عرف رأيه وقد سقطت عنده عدالته بقعوده
عنه، وزالت ولايته بتثبيطه الناس عنه (1).
قلنا: لم يبعث هو بأبي موسى، ولم يرض بحكومته، وإنما أدخله في ذلك الأشعث
ابن قيس مع أهل اليمن، فقال لهم علي: أبعث مع عمرو بعبد الله بن عباس، فقال
الأشعث: أميرنا مضري وأميرهم مضري، وحكمنا مضري وحكمهم مضري ما نرى
لنا في الأمر نصيبا!
فأبوا وقالوا: ابعث منا يمانيا وإلا لم يدم معك يماني بسهم أبدا.
فقال لهم: قد رموكم بحجر الأرض فدعوني أصكهم بغلام من قريش. فأبوا

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " تثبيط الناس عنه " وهو من قولهم: " ثبط زيد فلانا عن الأمر - على زنة
نصر - وثبطه عنه تثبيطا ": عوقه وشغله عنه.
172

عليه، ولم يكن في الرأي إذ رآهم قد أعملوا العصبية واللجاج (1) إلا مداراتهم فيما يحل
ولا يدخل على الدين ضررا.
فإن قالوا: [أليس] يكون من الدخول فيما عاب، ومن الضرر أكثر من الرضى (2)
بأبي موسى المخدوع المغفل؟
قلنا: لم نوجب رضاه بأبي موسى، وإن ما قلناه كان من أمر القوم على مداراة [منه
لهم و] لا يلزمه تقصير في دين (3) ولكن لما قالوا: لا نرضى إلا بيماني قال: فإني أبعث
بالأشتر فهو يماني، ولم يسمع أحد منه الرضى بأبي موسى. فقال الأشعث: حكومة
الأشتر طرحتنا فيما نرى، ابعث أبا موسى وإلا لم يرم معك يماني بسهم. فقال علي
رضي الله عنه: كيف أبعث رجلا ليس على رأينا ولا أمرنا وقد خذل الناس عنا.
ثم أقبل رجل من بني يشكر على فرس فقال: يا علي أكفر بعد إسلام، ونقض
عهد بعد توكيده وردا بعد معرفة؟! أنا ممن أقر بالحكومة ترى؟.
ثم حمل على أصحاب معاوية فقتل مهم إنسانا ثم انصرف إلى عسكر علي.
فتكلم عند الخلاف من كان يرى التقليد، واجترأ الصغير والكبير على القال والقيل بعد
إن كانوا أتباعا، كل يتكلم على قدر هواه ورأيه.
ثم قام عدي بن حاتم الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إنه وإن كان أهل الباطل لا
يقومون لأهل الحق (4) فإنه لم يصب منا عميد إلا وقد أصيب منهم مثله وكل مقروح،
ولكنا أمثل بقية، وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلا ما نحب، فناجز القوم.
ثم قام الأشتر [فقال:] يا أمير المؤمنين إن معاوية لا خلف له من رجاله ولك

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: " قد أعملوا القضية والإلحاح.. ".
وانظر تفصيل القصة في الجزء الثامن من كتاب صفين ص 499 - 513.
(2) كذا.
(3) كذا في الأصل، ولعل الصواب: " وأن ما تلباه من أمر القوم كان على مداراة.. ".
(4) كذا في أواخر الجزء: (7) من كتاب صفين ص 482، وفي الأصل: " لا يقرون لأهل الحق.. "
173

بحمد الله الخلف (1) ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك، إقرع
الحديد بالحديد واستعن بالله.
فقام الأشعث مغضبا فقال: إنا / 53 / لك اليوم على ما كنا عليه أمس، ولسنا
ندري كيف يكون غدا، فقد والله كل الحد وكلت البصائر، وما آخر أمرنا كأوله،
وما القوم الذين كلموك بأحما للعراق، ولا أوثر للشام مني، فأجب القوم إلى كتاب
الله فأنت أحق به منهم وقد أحب الناس البقاء فانظر فيه للعامة (2).
وقام فيما ذكروا عبد الله بن عمرو بن العاص بين الصفين وقال: يا أهل العراق
إنه قد كانت بيننا وبينكم أمور (3) للدين [أ] والدنيا؟ فإن تكن للدين فقد والله أعذرنا
وأعذرتم، وإن تكن للدنيا فقد أسرفنا وأسرفتم، وقد دعوناكم إلى أمر لو دعوتمونا
إليه أجبناكم، فإن يجمعنا [وإياكم] الرضا به فذاك من الله، وإلا فاغتنموا هذه
الفرصة التي لعله (4) أن يعيش بها الأحياء وينسى فيها القتلى [فإن بقاء المهلك بعد الهالك
قليل].
وقد تعلمون أن هذا الكلام إذا صادف قلوبا قد ضعفت، ونيات قد فترت،
وشبهة قد وقعت وقع من القلوب موقعا عجيبا وزاد في القلوب أضعاف ما بها من المرض
والنكول، وهذه من حيل معاوية وعمرو بن العاص أرادوا بها اللبس والتمويه.
فقام سعيد بن قيس في أثر هذا الكلام فقال: يا أهل الشام إنه قد كانت بيننا
وبينكم أمور حامينا فيها على الدين والدنيا سميتموها غدرا [أ] وسرفا وقد دعوتمونا

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين ص 482، وفي أصلي: " ثم قال الأشتر: يا أمير المؤمنين إن معاوية
لا خلف له من رجاله ولك عند الله الخلف.. ".
(2) وقريبا منه ذكره عنه نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص 482.
(3) هذا هو الصواب الموافق لكتاب صفين، وفي أصلي: " بأمور الدين ".
(4) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: " فاغتنموا هذه الفرجة لعله أن يعيش فيها المحترف، وينسى فيها القتيل "
وما وضعناها بين المعقوفات أيضا مأخوذ منه.
174

[اليوم] إلى ما قاتلناكم عليه [بالأمس] ولم يكن ليرجع أهل العراق إلى عراقهم ولا
أهل الشام إلى شامهم بأمر أجمل من أن يحكم بما أنزل الله (1) والأمر في أيدينا دونكم
وإلا فنحن نحن وأنتم أنتم.
فتكافأ فيه (2) كلام عبد الله بن عمرو وسعيد ممن قد عرفتم نجدته وبلاءه ويقينه فما ظنكم
بغيره.
فتكلم علي رضي الله عنه فقال: أيها الناس إنه لم يزل بي في أمري ما أحب حتى
نهكتكم الحرب (3) وقد والله أخذت منكم وتركت وهي لعدوكم أنهك، ولقد كنت
أمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، وكنت أمس ناهيا فأصبحت اليوم منهيا، وقد أحببتم
البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون.
فتفهموا أمور المؤيد بالحق، وتدبروا قول المنصور بالتأييد من الرب كيف
يتخلص إلى الصواب عند اعتراض هذه الآراء وكيف يسلم من اتباع هذه الأهواء،
وكيف اتبع الحق عند إحاطة هذه الفتن، لتعلموا أنه لا نظير له بعد النبيين، ولا يداني
فضله أحد من المؤمنين.
ثم قام رفاعة بن شداد البجلي فقال: أيها الناس إنه لا يفوتنا شئ من حقنا [إن
أجبناهم إلى ما] قد دعونا في آخر أمرهم إلى ما دعوناهم إليه في أوله، وقد قبلوه من
حيث لم يعقلوه، فإن يتم الأمر على ما نريد فبعد بلاء وقتل وإلا أثرناها جذعة (4) وقد
رجع إلينا جدنا.

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين ص 483، وفي أصلي هكذا: " بأمر أجمل مه، وأن يحكم فيه
بما أنزل الله... ". وما بين المعقوفات أيضا مأخوذ من كتاب صفين.
(2) لعل هذا الصواب، وذكرها في أصلي بنحو الاهمال: " فتكافيه ".
(3) كذا في الأصل، وفي المختار: (208) من نهج البلاغة: " أيها الناس إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب
حتى نهكتكم الحرب... " وفي المختار: (223) من نهج السعادة: " إنه لم يزل أمري معكم على ما أحب
إلى أن أخذت منكم الحرب... ".
(4) ومثله في أواخر الجزء السابع من كتاب صفين ص 489.
175

ومشت العشائر إلى العشائر، والقبائل إلى القبائل، فأبى الناس إلا أبا موسى الأشعري
والرضى به.
وأقبل أبو موسى مع القراء وأصحاب البرانس وقد حفوا به (1).
فقام الأشتر فقال: يا معشر القراء وأصحاب البرانس، اجعلوا أمركم إلى صاحبكم
فليبعث من أحب فوالله ما أصبحنا على ضلال، ولم يصب قلوبنا إلى اتباع معاوية،
وإن قتيلنا لشهيد وإن حينا لثائر.
فقام أبو أيوب الأنصاري [فقال] (2) نحن على ما خرجنا عليه، عدونا أهل الشام
ورأس حربنا معاوية، ونحن نرد الأمر إلى أمير المؤمنين إن قادنا أتبعناه، وإن دعانا
أجبناه.
وكان هذا قول من ثبتت بصيرته / 54 / ولم تضعف يقينه وهم قليل لا يبلغون
ما ينفذ به رأي أمير المؤمنين.

(1) وفي أوائل الجزء (8) من كتاب صفين ص 500... ق‍ [قال 6 نصر بن مزاحم]: وفي حديث عمر:
قال: قال علي: قد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم. فبعثوا إلى أبي موسى وقد
اعتزل بأرض من أرض الشام يقال لها " عرض " واعتزل القتال، فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا.
قال: الحمد لله رب العالمين. قال: وقد جعلوك حكما. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فجاء أبو موسى حتى
دخل عسكر علي.
(2) هذا هو الظاهر، وما بين المعقوفين زيادة منا، وفي الأصل: " فقال أبو أيوب الأنصاري.. ".
وقريبا منه رواه الطبراني عن سهل بن حنيف في ترجمة محمد بن حاتم من المعجم الصغير: ج 2 ص 5
ط 2 قال:
حدثنا محمد بن حاتم المروزي بطرسوس، حدثنا سويد بن نصر وحيان بن موسى المروزيان، قالا:
حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عيسى بن عمر، عن عمرو بن مرة:
عن أبي وائل شقيق بن سلمة، قال: قال سهل بن حنيف يوم صفين: يا أيها الناس اتهموا رأيكم فإنا
والله ما أخذنا بقوائم سيوفنا إلى أمر يفضعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا فإنه لا يزداد إلا شدة
ولبسا. لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أجد أعوانا على رسول الله صلى الله عليه وآله لأنكرت.
[قال الطبراني]: لم يروه عن عمرو إلا عيسى بن عمرو تفرد بن ابن المبارك.
176

فقال علي رضي الله عنه: إني لست أحكم الرجال ولكن أحكم الكتاب فإن حكموا
بالكتاب قبلت منهم، فإن الكتاب يحكم أني أولى من معاوية، وإن لم يحكموا بالكتاب
لم أقبل.
فإن قال قائل: فما بال الأشتر لم يرض بما فعل، وحلف أن لا يكتب اسمه في الصحيفة،
ولا يوادع، فقد خالف رأيه رأي علي بن أبي طالب، فقد خرج من حزبه وقطع العصمة منه.
قلنا: هذا هو رأي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وهذا من رأي الأشتر
ليس بخطأ، وذلك إن الأشتر ليس بإمام فيجب عليه تآلف القوم واستعطافهم والانتقال
عن هذا الرأي إلى غيره على جهة التآلف والاستعطاف كما فعل علي بن أبي طالب رضي
الله عنه، ولو كان رأي الباقين مثل رأي الأشتر لكان رأي علي له موافقا، ولكن لما كان
الأشتر ليس هو في موضع المداراة جاز له المقام على رأيه.
ولما رأى علي رضي الله عنه خلاف الناس على الأشتر وميلهم إلى الموادعة لم يحب (1)
أن يقيم على مثل ما رآه الأشتر فيحمل الناس على كشفه والنصب له، ويجعلهم أعداءا
وله في الحق سعة يكون به إلى التي هي أصلح فهو رضي الله عنه يؤثر الرأي والرغبة في
الألفة بالتآلف لأصحابه ما وجد في الحق سعة، فإذا ضاق عليه الحق وبلغت به الحال
إلى أمر متى تركه دخل في الباطل، وما لا يحل له آثر الله على الخلق جميعا ولم يأخذه
في الله لومة لائم، وانقطع إلى الله وإن ذهب الناس عنه، وكذلك فعل حين استنفرهم
أخيرا بعد انقضاء الموادعة، وحينما فل الناس عنه (2) وتخاذلوا عن نصرته [كما يرى
ذلك ملموسا من سيرته، وكثير من كلماته عليه السلام، منها جوابه عليه السلام لكتاب
أخيه عقيل].

(1) كذا في الأصل.
(2) هذا هو الظاهر، أي تفرق الناس عنه وندروا منه كندور برادة الحديد وشرارة النار منهما. وذكره في الأصل
بالقاف.
قال أبو جعفر المحمودي: وما ذكره أبو جعفر الإسكافي ها هنا في صدر كلامه لا يخلو من قصور، فإن ما أتى به أمير المؤمنين عليه السلام كان أحزم ما يكون، ولكن النوكى من القراء والذين كان في قلوبهم
مرض أو لم تكن لهم نيات صادقة في الجهاد في سبيل الله حالوا بينه وبين قطع جزور الفساد وأصول الانحراف
معاوية وحزبه الفئة الباغية، وهددوه بالقتل أو تسليمه إلى معاوية، أو التقاعد والكشف عنه حتى يقتل هو
وجميع من صبر معه وانقاد له من أهل الحق - وهم قليلون في الغاية - بيد الفئة الباغية الذين حاربوا رسول
الله وسعوا في إطفاء نوره، فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام يقيم ويصر على ما قال لهم وأبدى لهم من الحق أولا مع مخالفة
أكثر العراقيين له، لكان انهزاما أبديا وانكسارا لا يتدارك، ولذا تنازل عليه السلام عن رأيه الصواب، ودفع
الانهزام المؤبد بما يوجب الظفر في المستقبل القريب إن عملوا بما دبر.
177

[كتاب عقيل إلى أخيه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لما خذله الكوفيون في أواخر
أيامه الميمونة].
وكتب إليه عقيل به أبي طالب رضي الله عنه (1) يعرض نفسه عليه فكتب إليه:
أما بعد، فإن الله جارك من كل سوء، وعاصمك من المكروه، وإني خرجت
معتمرا فلقيت عبد الله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، فقلت
لهم - وعرفت المنكر في وجوههم -: يا أبناء الطلقاء أبمعاوية تلحقون؟ عداوة - والله -
لنا منكم غير مستنكرة قديما تريدون بها إطفاء نور الله وتغيير أمره؟! فأسمعني القوم
وأسمعتهم.
ثم قدمت مكة وأهلها يتحدثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة واحتمل من
أموالها شيئا، ثم انكفأ راجعا، فأف لحياة في دهر جرأ عليك الضحاك، وما الضحاك
إلا فقع قرقرة.
وقد ظننت أن أنصارك خذلوك، فاكتب إلي يا ابن أمي برأيك، فإن كنت الموت
تريد تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك، فعشنا ما عشت ومتنا معك، فوالله ما أحب
أن أبقى بعدك فواقا، وأقسم بالله الأعز الأجل أن عيشا أعيشه بعدك في الدنيا غير هنئ
ولا نجيع.

(1) ولهذا الكتاب وجواب أمير المؤمنين عليه السلام مصادر كثيرة أشرنا إليها في ذيل المختار: (159) من باب
الكتب من نهج السعادة: ج 5 ص 306.
ورواه أيضا السيد الرضي في المختار (36) من كتب نهج البلاغة.
179

فأجابه علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1): أما بعد كلانا الله وإياك كلاءة من يخشاه
بالغيب، إنه حميد مجيد.
قدم علي عبد الرحمن بن عبيد الأزدي بكتابك تذكر أنك لقيت ابن أبي سرح
مقبلا من " قديد " في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء متوجهين حيث توجهوا. (2)
وإن ابن أبي سرح طال ما قد كاد الله ورسوله وكتابه فصد عن سبيله وبغاها عوجا.
فدع ابن أبي سرح عنك ودع قريشا وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق،
فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله قبل اليوم،
فأضحوا قد جهلوا حقه (3) وجحدوا فضله وبادروه العداوة ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه
الجهد، وساقوا [إليه] الأمرين.
اللهم فأجز قريشا عني الجوازي / 55 / فقد قطعت رحمي، وتظاهروا علي!!
فأحمد الله على كل حال.
وأما ما سألت أن أكتب إليك برأيي فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله.
لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، لأني محق والله مع
الحق وأهله وما أكره الموت مع الحق لأني محق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن كان
محقا.
وأما ما عرضت علي من مسير بني أبيك وولدا أخيك فلا حاجة لي في ذلك، فأقم
راشدا مهديا فوالله ما أحب أن يهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك [و] لو
أسلمه الناس - متضرعا متخشعا، ولكني كما قال أخو بني سليم:

(1) وكتب في الأصل بخط مغاير لخطه فوق قوله: " رضي الله عنه " صلوات الله عليه.
(2) كذا في الأصل، وفي المختار (159) من باب الكتب من نهج السعادة: " متوجهين إلى جهة الغرب
(3) وأيضا يحتمل رسم الخط أن يقرأ: " فأصبحوا.. ".
180

فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب
فهذا يؤكد ما قلنا [ه] ويحققه من أنه وادع القوم لا من ضعف فيه (1) ولا دخول
في خطأ، ولكنه - شرف الله مقامه - أعمل التآلف والمداراة إذ وجد في الحق سعة،
وأجابهم إلى الموادعة ليحكموا بكتاب الله، فإن خالف لم يرض بحكمه.
وله علة أخرى في الموادعة، وهو أنه نظر إلى من حصل معه من أهل البصيرة والمعرفة
فإذا هم قليل تعدو عنهم العين لا يقوون بمن خالفهم فوادعهم لتكثر أنصاره وليقووا
على من خالفهم، وذلك معروف فيما يؤثر عن سليمان بن صرد:
قالوا: ثم أقبل [إلى] علي بن [أبي طالب] سليمان بن صرد يوم صفين عند كلام
الناس في الموادعة مضروبا وجهه بالسيوف فنظر إليه علي فقال له: " فمنهم من قضى
نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا " (2) فأنت ممن ينتظر، وممن لم يبدل، فقال
له سليمان بن صرد: والله لقد مشيت في العسكر لأن ألتمس أعوانا ولأن يعودوا إلى
أمرهم الأول فما وجدت إلا قليلا، وما في الناس خير.
فهذه أيضا من العلل التي كان علي بالموادعة فيها مصيبا.
وله علة [أخرى] أيضا تؤثر عنه [و] لولاها لمضى على بصيرته وجده وإن أسلمه
الناس جميعا:

(1) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " من أنه أودع القوم لا من ضعف فيه ".
وأيضا يحتمل رسم الخط أن يقرأ: " من ضعف نية... ".
(2) اقتباس من الآية (23) من سورة الأحزاب: (33)، وكان في أصلي: " منهم من قضى... " ه
وهذا ذكره مسندا في كتاب صفين ص 519 وفيه: " فقال: يا أمير المؤمنين أما لو وجدت أعوانا ما كتبت
هذه الصحيفة أبدا، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول فما وجدت أحدا عنده خير إلا
قليلا ". وكان قبل هذه الفقرة في أصلي تصحيف صححته على كتاب صفين.
181

[رجوع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من صفين إلى الكوفة، وكلامه مع
عبد الله بن وديعة الأنصاري، واستفساره منه عن قول الناس فيما جرى بينه وبين معاوية]
ذكروا أنه لما رجع من صفين وقرب من الكوفة (1) لقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري
فدنا منه وسايره، ثم قال له علي: ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا؟ قال: منهم
المعجب به، ومنهم الكاره له، والناس كما قال الله: ولا يزالون مختلفين " [118 /
هود: 11]. فقال علي: فما قول ذوي الرأي [منهم؟]. قال: أما قول ذوي الرأي
فيقولون: إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه، وكان في حصن حصين فهدمه [و] حتى
متى يبني ما قد هدم؟ ويجمع ما قد فرق؟ فلو أنه مضى بمن تبعه وأطاعه - حين عصاه
من عصاه - فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك [هو] الحزم.
فقال له علي: أنا هدمت أمرهم أم هم هدموا؟! أم أنا فرقتهم أم هم تفرقوا؟!
وأما قولهم: لو أنه كان مضى بمن أطاعه - إذ عصاه من عصاه - فقاتل حتى
يظفر أو يهلك إذا كان ذلك الحزم. فوالله ما غني عني ذلك وإن كنت لسخيا بنفسي
عن الدنيا طيبة نفسي بالموت (2) ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد
ابتدراني، يعني الحسن والحسين، ونظرت إلى هذين قد استقدماني - يعني عبد الله

(1) وذكرناه في المختار: (238) من نهج السعادة: ج 2 ص 294 نقلا عن كتاب صفين في أواسط الجزء (7)
منه ص 529.
(2) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: " طيب النفس بالموت.. ".
182

ابن جعفر ومحمد بن علي (1) - فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسب محمد صلى
الله عليه من هذه الأمة فكرهت / 56 / وأشفقت على هذين أن يهلكا - يعني عبد الله
ابن جعفر ومحمد بن علي - ولولا مكاني لم يستقدما، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي
هذا لألقينهم وليسوا [هما معي] في عسكر ولا دار (2)
فاجتمعت له هذه العلل في الموادعة وفي كلها له المخرج، وما ذهب عليه من أقاويل
الناس شئ [إلا] ولقد أخطره على قلبه وأعمل فيه النظر، وقدم العذر واختار التي
هي أولى وأحسن.
فليجتهد مجتهد [هل] يقدر أن يأتي بشئ ينفذ فيه الحجة منه، ولم ير له بعلة
لا تدفع.
وقد قيل له فيما سألتم عنه من رأي مالك الأشتر لما كتب الصحيفة: إن الأشتر
لا يرضى بما في الصحيفة، ولا يرى إلا قتال القوم. فقال: ولا أنا والله رضيت ولا
أحببت أن ترضوا.
وأما ما ذكرتم من خلافه علي، وتركه أمري، فليس من أولئك، ولست أخافه

(2) كذا في الأصل هاهنا وما بعده، وهذا من تصرفات الرواة، والصواب أن المراد منهما الحسن والحسين صلوات
الله عليهما دون محمد بن الحنفية و عبد الله بن جعفر، فلو كان لأمير المؤمنين ملء الأرض مثل محمد بن
الحنفية وعبد الله بن جعفر لافتدى بهما في سبيل الله واكتفى في تفديتهما في طريق استئصال الكفر والنفاق
عن الاستعانة بالناس في ذلك السبيل.
نعم، للحسن والحسين بما أنهما ودائع النبوة وأوصياء رسول الله، وحجتي الله على خلقه، شأن آخر،
كي لا تنقطع حجج الله عن البرية، ويتم الحجة على الناس، ولا يكون لهم على الله حجة ليهلك من هلك
عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وليجد الناس في كل عصر هداتهم وقادتهم كي يلجأوا إلى ظلهم، ويلتفوا
تحت لوائهم فرارا عن براثن الضلال وكيد الطغاة
(3) هذا هو الصواب الموافق لكتاب صفين، وما بين المعقوفات أيضا مأخوذ منه، وفي أصلي: " وليسوا في عسكر
ولا دار ".
183

على ذلك، وليت فيكم مثله اثنان، يا ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوكم مثل رأيه
إذا لخفت (1) علي مؤونتكم، ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم.
وقد نهيتكم عما أتيتم فعصيتموني فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد
ألا ترى أن رأي الأشتر كان قتالهم، فلما لم يقاتل معه أحد كف عنه.
فكذلك قد كان رأي علي قتالهم فلما اختلف أصحابه كف [عنهم اضطرارا ولكن
حصن لهم حصون الدفاع ومهد لهم سبل الظفر والنجاح إذا أفاقوا من سكرتهم وانتبهوا
من نومتهم] فرأي الأشتر لهذا موافق [لرأيه] نعرفه من الكف.
ولقد قال للناس يومئذ وعرفهم رأيه في كلام كثير يحكى عنه وقد ذكرنا بعضه.
وذكروا أنه قال لهم يوم تكلموا وطلبوا الموادعة: لقد فعلتم فعلة ضعضعت قوة
وأسقطت منة، وأورثت وهنا وذلة، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر
بهم القتل ووجدوا ألم الجراح ورفعوا المصاحف ودعوكم إلى ما فيها فلفتوكم عنها ليقطعوا
الحرب بينهم وبينكم، وتربصوا بكم ريب المنون خديعة ومكيدة. فما لبثتم أن جامعتموهم
على ما أحبوا، وأجبتموهم إلى ما سألوا، وقد أعلمتكم ما يريدون فما لبثتم إلا أن
تدهنوا وتجوروا.
وأيم الله ما أظنكم بعدها موافقين رشدا ولا مصيبين باب حزم.
والله لقد كنا مع النبي صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأعمامنا وأبناءنا وإخواننا
ثم ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على أمض الألم وجد على جهاد العدو،

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في كتاب صفين، وفي الأصل: " إذا بالغت علي مؤونتكم.. ". وبعده في كتاب
صفين: " وأما القضية فقد استوثقنا لكم فيها فقد طمعت أن لا تضلوا إن شاء الله رب العالمين ".
وما ذكره هنا بعد ذلك من كلام أمير المؤمنين غير موجود في كتاب صفين ولكن له مصادر جمة
184

واستقلالا بمبارزة الأقران.
[و] لقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان
أنفسهما أيهما يسقي صاحبه كأس الموت.
فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله منا صدقا وصبرا أنزل بعدونا
الكبت، وأنزل علينا النصر.
ولعمري لو كنا نأتي [مثل] الذي أتيتم (1) ما قام الدين و [لما] عز الإسلام.
وأيم الله لتحلبنها دما فاحفظوا ما أقول [لكم] (2).
فهذا بيانه رضي الله عنه وهذا جده واجتهاده بيض الله وجهه - وهذه علله واعتذاره،
وهذا تحذيره وتحريضه، أترون بعده غاية؟ وهل بقي لأحد عليه حجة إلا وقد أزاحها،
ولا شبهة إلا وقد كشفها.
أعلى الله في الأعلين درجته، فما شبهت محنته إلا بمحنة الأنبياء، يمتحن في بدء الإسلام
عند القلة والوحدة بالبيات على الفراش - كما امتحن بالذبح إسماعيل بن إبراهيم عليهما
السلام - لما دعاه النبي صلى الله عليه وآله حين تألبت عليه قريش وأوقدت له نيرانها،
وانقطع رجاؤه من تجادلها، وأجمعوا على الايقاع به / 57 /.
فعندها دعا [النبي] بأوثق الناس عنده، وأبذلهم لنفسه دونه، وأصبرهم على شديدة
عند أمره فقال له: يا علي إن قريشا قد تحالفت وتعاقدت أن يبيتوني الليلة، فامض إلى
فراشي وتلفف ببردي ليروا أني لم أبرح فلا يجدون في طلبي.
فوالله ما تلكأ، ولقد أجاب سامعا مطيعا كما أجاب ذبيح الله أباه إبراهيم صابرا
عند قوله: " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " [102 / الصافات: 37].

(1) هذا هو الصواب الموافق لما في نهج السعادة، وما بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه، وفي الأصل: " لو كنا نأتي الذين.. ".
(2) وهذا رويناه في المختار: (225) من نهج السعادة: ج 2 ص 258 عن كتاب صفين ص 520.
وقريبا منه رواه السيد الرضي في المختار: (53) من نهج البلاغة.
185

وعلى مثل ذلك كان جواب الصديق الأكبر وسرعة طاعته عندما دعاه النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فمضى حتى تلفف ببرده لا يظن إلا أن القوم سيقعون به فسمحت
نفسه بذلك كما سمحت نفس ذبيح الله للإجابة، ودفع الله عنهما جميعا وسلمهما من
التلف عندما امتحنا، وعظم الثواب والأجر لهما على ما قصدا ونويا.
فهذه محنة لم نعرف لها شبها إلا في محن الأنبياء عليهم السلام، وفي ذلك نزلت:
" وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله
والله خير الماكرين " [54 / آل عمران: 3] وكان علي مكر الله في تلك الليلة.
ثم محنته يوم الجمل ويوم صفين، وما ذكرنا من تفرق أصحابه عند بعد ليلة الهرير،
وما دخل عليهم من الشك والارتياب بمكيدة الملاعين أشباه السامري لم يعرف لها مثلا
إلا ما امتحن الله به هارون نبي الله مع بني إسرائيل عند تمويه السامري لهم باتخاذ العجل
وما أدخل عليهم من اللبس بما سمعوا [من العجل] من الخوار، فتفرقوا عند ذلك عن
هارون صلى الله عليه، وأقبلوا عليه يعكفون فقالوا: هذا إلهنا وإله موسى. كفرا بعد إيمان
وشكا بعد يقين عند مخالفتهم لموسى وهارون، وتركهم لهارون مفردا وحيدا وهارون
يناديهم: " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن
نبرح عليه عاكفين " [91 / طه: 20].
وعلى مثل ذلك دعاهم الصديق علي بن أبي طالب الشهيد لما تفرق أصحابه يوم صفين
عندما ظهر من مكيدة أشباه السامري [فقال لهم]: إنكم يا قوم قد فتنتم وخدعتم
برفع المصاحف فاتقوا الله ولا تعصوني في أمري فإنكم إن فعلتم لم تروا عزا أبدا (1) ولتلقون
بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاتلا، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة.
فأبوا عليه إلا مضيا مع الشبهة، ولم يطيعوا أمره انقيادا للخدعة.

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: " لم تروا عدوا أبدا ".
ويمكن أيضا أن تكون اللفظة مصحفة عدن " إعداء " من قولهم: " أعدى زيد فلانا إعداء ": نصره وقواه.
186

فهذه محنته يوم صفين مشبهة لمحنة هارون مع بني إسرائيل.
[فهذا الموجز يكفيكم] لتعلموا أنه رحمه الله باستحقاق كانت منزلته من النبي
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى المصطفى صلى الله عليه بالاسم
والمعنى.
فتدبروا ما نحن واصفون من مناقب أمير المؤمنين معاشر المسلمين، لتعلموا فضله
على جميع العالمين، وأنه قد برز على جميع الصديقين، وفضل على جميع المجاهدين.
ومتى قال قائل: قد كان ينبغي له يوم صفين أن يمضي بمن أطاعه إذ علم أن تلك
مكيدة من القوم، ويحمل بنفسه قدما على بصيرته ولا يجيبهم إلى الموادعة، فلهذا من
القول معارض في خلافه أقوى منه في وجه الرأي وباب الحزم، لأنه لو فعل ذلك فقتل
وقتل من معه، لقال قائل: قد كان ينبغي إذا اختلف أصحابه وبقي وحده مع عصابة
قليلة أن لا يعجل عليهم فيغرر بنفسه ويعرض / 58 / من معه ومن يرى رأيه للتلف والهلكة
ويعز العدو بهذا من فعله ولو وادع العدو كان أبلغ في الرأي ليقوى الضعيف ويتثبت
الشاك ويكثر الأنصار، ويحقن الدماء فإن أجاب القوم إلى متابعته وإلا انكفأ عليهم
راجعا وقد قوي جده واستبصر أصحابه وكثر أنصاره وانكشف للناس ظلم من خالفه،
وأنه لم يرد الله بما دعا إليه من الحكومة (1).
فهذان الرأيان في القول قد وقعا، وأبلغهما وأقواهما في باب الحزم [هو] ما فعل
رضي الله عنه، لأن الأمة كانت إليه أحوج، وصلاحها في بقائه أوضح لأنه هاديها
وغياثها وقائدها إلى ما فيه رشدها.
ولا أظن أحدا يتوهم أنه فعل ما فعل هيبة للحرب وخوفا من الموت ومحبة للبقاء،
ولكنه آثر النظر للدين وحيطة الإيمان، وما هو أصلح للعباد. فلم يرض الناس إلا أبا
موسى الأشعري، واتفقت كلمة أكثرهم عليه.

(1) هذا هو الصواب الظاهر من السياق، وفي أصلي: " وأنه لم يرد إلا الله.. ".
187

فلم يلبث أن جاء أبو موسى وعليه برنس مع أصحاب البرانس والقراء والناس معه.
فقال لهم علي: إن أطعتموني بعثتم غيره. قالوا: لا يذهب غيره. قال لهم: فلست
أحكم إلا بكتاب الله فمتى خالفه لم أرض بحكمه.
فقام الأحنف إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى إنك تسير إلى أمر عظيم، إنما
يبعثك أهل العراق لتأخذ من عدوهم، وتأخذ لهم بحقهم، فأعرض على أهل الشام
أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤوا، وأن يختار أهل الشام من قريش
العراق من شاؤوا (1).
وإما أراد الأحنف أن يعرف ما في نفس أبي موسى بهذا الكلام [لعلي كي] يقول
له أبو موسى مجيبا له: أجل. [و] قال له الأحنف: يرى الله منك أنك منطلق على
كل حال وقد أبى الناس غيرك فاحفظ عني ثلاثا: فإذا لقيته فلا تبدأه بالسلام فإن
السلام أمانة، ولا تصافحه بيدك فإن المصافحة خدعة، ولا يقعد بك على صدر الفراش
فإن ذلك سخرية.
واحذر أن يضمك وإياه بيت تتوارى فيه عنك عيون الرجال فإنه من قد علمت،
وخاصم القوم بكتاب الله فإن عليا أحق بهذا الأمر، وأن معاوية من أبناء الطلقاء فاعقل
ما يقال لك.

(1) كذا في أصلي، وفي أواسط الجزء (8) من كتاب صفين ص 536 ط مصر:
وكان آخر من ودع أبا موسى الأحنف بن قيس أخذ بيده ثم قال له: يا أبا موسى أعرف خطب هذا الأمر
واعلم أن له ما بعده، وإنك إن أضعت العراق فلا عراق، فاتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك، وإذا
لقيت عمرا غدا فلا تبدأه بالسلام فإنها وإن كانت سنة إلا أنه ليس من أهلها، ولا تعطه يدك فإنها أمانة.
وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة، ولا تلقه وحده، واحذر أن يكلمك في بيت فيه مخدع
تخبأ فيه الرجال والشهود.
ثم أراد أن يبور ما في نفسه لعلي فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي فخيره أن يختار أهل
العراق من قريش الشام من شاؤوا فإنهم يولونا الخيار فنختار من نريد، وإن أبوا فليختر أهل الشام من قريش
العراق من شاؤوا، فإن فعلوا كان الأمر فينا، قال أبو موسى: قد سمعت ما قلت ولم يتحاش لقول الأحنف.
188

وكتبوا الكتاب ودفن الناس قتلاهم وانصرف [أهل العراق] (1) متباغضين متعادين
يشتم بعضهم بعضا بعد أن كانوا إخوانا.
ثم وجه معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام إلى دومة الجندل.
وبعث علي أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ وبعث معهم عبد الله بن عباس
على الصلاة ومعهم أبو موسى.
وما فعل علي أيضا من تأميره لشريح على الجند، وبعثه ابن عباس على الصلاة،
والنظر في أمور الناس دليل على ما قلنا [ه] من أنه لم يرض بحكم أبي موسى وتوليته
في حال من الحال [كذا].
وإنما ولى ابن عباس الصلاة لئلا يصلي بهم أبو موسى، فهذا يدل على أن بعثة
أبي موسى إنما كانت من قبل أهل اليمن ومن تابعهم فتركهم على ذلك لما ذكرنا [ه]
من الانتشار وقلة موافقيه.
فلما اجتمع أبو موسى وعمرو بن العاص ترك النظر في الكتاب وما بعث له، وجلس
مع عمرو يعمل الرأي والهوى فأداره عمرو على أن يجعل الأمر لابنه عبد الله بن عمرو،
وأداره هو لعبد الله بن عمر، وقال له: هل لك أن نحيي بذلك [سنة
عمر ونولي ابن] عمر؟! فأبى ذلك عليه عمرو، وقال: هو ضعيف وهذا الأمر
لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، فلما أبى كل واحد منهما على صاحبه رأيه
قال له أبو موسى: فأشر رأيك (2) فقال له عمرو: أرى أن نخلع / 59 / هذين الرجلين

(1) ما بين المعقوفين زيادة منا، وفي الأصل: " وانصرفوا متباغضين.. ".
(2) يترك - كما ترون - ما بعث فيه من النظر في كتاب الله وتوكيد حق [الله] ويعمل رأيه ويستشير الفاسق
في حكم الله!!
أقول: هذه القطعة من المتن وكانت بعد قوله: " فأشر رأيك " ومن أجل إخلالها بانسجام القصة ووقوعها
معترضة محيرة لذهن البسطاء من القراء ذكرناها في الهامش.
189

ثم نجعل الأمر شورى بين المسلمين فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. [ف‍] قال له:
فإن الرأي ما رأيت.
فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، وفيهم ابن عباس فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم
بأن رأينا قد اجتمع واتفق. فقال أبو موسى إن رأيي ورأي هذا قد اتفق على أمر نرجو
أن يصلح الله به هذه الأمة. فقال عمرو. صدق وبرر أبا موسى (1) تقدم. فتقدم الضعيف
المغفل ليتكلم فدعاه ابن عباس فقال له: ويحك والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما
قد اتفقتما على أمر فقدمه ليتكلم بذلك الأمر قبلك ثم تكلم أنت به بعده، فإن عمرو
رجل غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بأمر فيما بينك وبينه، فإذا قمت في الناس
خالفك. فقال [أبو موسى له]: إنا قد اتفقنا.
ثم تقدم أبو موسى المخدوع، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنا قد
نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر شيئا هو أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من ألا نتبتر أمورها (2)
[و] قد اجتمع رأيي ورأي صاحبي عمرو على خلع علي ومعاوية، وتستقبل الأمة هذا
الأمر فيكون شورى بينهم يولون من أحبوا عليهم.
ثم تنحى.
وقام عمرو فحمد الله ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع
صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه،
وأحق الناس بمقامه!!
فقال له أبو موسى: لا وفقك الله غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الكلب إن

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " صدق وبرر أبو موسى تقدم ".
وفي ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 2 ص 351 ط 1: " فقال عمرو
صدق وبر، تكلم يا [أ] با موسى.. ".
(2) كلمة: " نتبتر " كانت مهملة في الأصل، وصحح محقق كتاب صفين هذه اللفظة فيه ص 545 عن شرح ابن أبي
الحديد بقوله: " من أن لا تتباين أمورها " وقال في هامشه: وفي الأصل [يعني كتاب صفين]: " ألا نبتر أمورها "
190

تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث!!!
فقال له عمرو: إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفارا.
وقام شريح [بن هانئ] رضي الله عنه فقنع عمرو بن العاص بالسوط.
وطلب أهل الكوفة أبا موسى فوجدوه قد مضى.
[ومن هذا وكثير من أشباهه يستفاد قطعيا أن المنحرفين على علي كانوا] يعملون - كما
ترى الخديعة في أمرهم كله ولا يحجزهم من ذلك خوف ولا مراقبة.
ورجع القوم إلى رأي الموفق المسدد وتصويبه، وإلى التلهف والندامة [عما خالفوه
قبل] فقال بعضهم: كفرنا. وكفرت إفراطا بعد تقصير، وإغراقا في النزع بعد الضعف
والوهن.
191

[كلام أمير المؤمنين عليه السلام مع صالح بن سليم، وحارث بن شرحبيل عندما
رجع من صفين وأشرف على الكوفة].
ذكروا أن عليا رضي الله عنه لما جاز النخيلة (1) وقرب من الكوفة، إذا هو بشيخ
جالس في ظل بيت على وجهه أثر مرض، فأقبل إليه فسلم عليه فرد ردا حسنا، فقال
له علي: أرى وجهك منكفأ مم ذلك؟ أمن مرض؟ قال: نعم. قال: فلعلك كرهته؟
قال: ما أحب أن يكون بغيري. قال: أليس احتسابا للخير فيما أصابك منه؟ قال،
بلى. قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا صالح
ابن سليم. قال: ممن؟ قال: أما الأصل فمن سلمان طي (2) وأما الدعوة ففي بني سليم
ابن منصور. قال: سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيه واسم أجدادك واسم من اعتزيت
إليه، هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا والله ما شهدتها ولقد أردتها ولكن ما ترى
من إلحاح الحمى (3) خذلني عنها. قال: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا
على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل
والله غفور رحيم " [91 التوبة: 9].

(1) وهذه القصة ذكرناها في صدر المختار: (238) من نهج السعادة: ج 2 ص 292. نقلا عن كتاب صفين
ص 528 وتاريخ الطبري.
(2) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: " أما الأصل فمن سلامان بن طي، وأما الجوار والدعوة فمن بني سليم
بن منصور... ".
(3) كذا في الأصل، وفي كتاب صفين: " من لحب الحمى " أي من إنحالها لجسمي.
192

[ثم] قال له: ما قول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟
قال: فيهم المسرور بما كان بينك وبينهم، وأولئك أغشاء الناس لك، وفيهم
المكتئب الآسف (1) بما كان من ذلك. فأولئك نصحاء الناس.
فقال: صدقت جعل الله ما كان من شكواك حظا لسيئاتك، فإن المرض لا أجر
فيه ولكن لا يدع على المرء ذنبا إلا حطه، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد
والرجل، فإن الله ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة / 60 / عالما الجنة (2).
ثم مضى فدخل الكوفة، فسمع البكاء والأصوات، فقيل له: هذا البكاء على
قتلى صفين. فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابرا محتسبا بالشهادة.
ثم مر فسمع الأصوات، وسمع وجبة شديدة، فوقف، فخرج إليه حارث بن شرحبيل
فقال له علي. [أ] تغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن على هذا الرنين؟
فقال [حارث]: يا أمير المؤمنين لو كانت دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك،
ولكنه قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، وليس فيها دار إلا وفيها بكاء، فأما نحن
معاشر الرجال فإنا لا نبكي، ولكنا نفرح لهم بالشهادة.
فقال علي: رحم الله (3) قتلاكم وموتاكم. وأقبل الرجل يمشي معه وعلي راكب
[وهو راجل] فقال له علي: إرجع. فوقف فقال له: إرجع فإن مشي مثلك مع مثلي
فتنة للوالي ومذلة للمؤمن.
ثم مضى، فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر.

(1) كذا في أصلي، غير أن فيه: " وأولئك أغش الناس لك.. ".
(2) وفي كتاب صفين: " قال: منهم المسرور بما كان بينك وبينهم وأولئك أغشاء الناس لك، ومنهم المكبوت
الآسف ".
(2) وفي تاريخ الطبري: " عالما جما.. ".
وفي المختار: (42) من قصار نهج البلاغة: " فإن المرض لا أجر فيه ولكنه يحط السيئات ويحتها
حت الأوراق، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام، وإن الله سبحانه يدخل بصدق النية
والسريرة الصالحة من يشاء من عباده الجنة. ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق لكتاب صفين ص 532، وفي أصلي: " رحمه الله ".
193

[مفارقة النوكي والضلال من الخوارج عن قطب الحق الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام، وإعلانهم بتكفير أصحابه، وبالمشاقة له].
ولم يدخل [القصر] معه أصحاب البرانس، واعتزلوه وأتوا حروراء فنزل بها منهم
اثنا عشر ألفا ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي (1) وأمير الصلاة ابن الكواء
والأمر بعد الفتح شورى والبيعة لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم قالوا لأصحاب علي: إنكم استبقتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان!!
بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا. وبايعتم أنتم عليا على أنكم أولياء من
والا [ه] وأعداء من عادا [ه]
فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه إلا على كتاب الله وسنة
نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جا [ءت إليه] شيعته فقالوا: نحن أولياء من واليت وأعداء
من عاديت ونحن كذلك، لأنه على الحق والهدى، ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي رضي الله عنه بعبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال له: لا تعجل إلى
جوابهم وخصومتهم حتى آتيك.
فخرج [إليهم] ابن عباس، فلما لقيهم جعلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى سألهم
فقال لهم: كيف نقمتم عليه الحكمين وقد قال الله: " فابعثوا حكما من أهله وحكما

(1) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " شبيب بن ربعي ".
194

من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " [35 / النساء: 4].
فزعموا أن الخوارج قالت: كلما جعل الله حكمه إلى الناس وأمره بالنظر فيه فهو
إليهم، وما نفذ حكم الله فيه فليس لهم رده وعليهم إمضاؤه، وكذلك عليهم الامضاء
على محاربة أهل البغي (1).
فقال لهم ابن عباس: وأنتم الذين وادعتم وشككتم دوننا.
وليس ما قالوا في الزاني شبيه للحكمين، وذلك لأن الزاني لا شبهة فيه على أحد
أقر بالصلاة (2) وليس يجب حد الزنا إلا على من عرف الزنا، وتحريمه بذلك وجبت
بالسنة، ونحن على أنه يقام الحد [على] من يجهل تحريم الزنا [أ] وادعى فيه شبهة (3)
وليس ذلك حكم الله في أهل البغي عندنا وعندهم، ولو أن الزاني امتنع من الحد بحرب
نصبها وادعى عندها شبهة اختلفت عندها الأمة كما فعل معاوية لم يكن ذلك أيضا قياسا
للحكومة يوم صفين لأن الزاني إذا أنكر الحد لغير علة كان مرتدا. فإن أنكر الحد وزعم
أنه ليس بزان لشبهة دخلها أنكر من أجلها أن يكون زانيا كما أنكر معاوية أن يكون
باغيا لشبهة أحدثها (4) كان الفريقان في الأمرين واحد [ا] والحكم متفقا (5).
وذكروا أن ابن عباس قال لهم: فإن الله يقول: " يحكم به ذوا عدل منكم "
[95 / المائدة: 54] فقالت الخوارج: فعدل عمرو عندك وأبو موسى؟ هذه الآية
بيننا، فإن كان عمرو عدلا فنحن غير عدول!!

(1) ولاحتجاج ابن عباس هذا صور ذكر بعضها ابن عساكر تحت الرقم: (1193) وما بعده من ترجمة
أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 150 ط 1 وذكرناه أيضا في تعليقه عن مصادر.
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: وذلك لأن تحريم الزنا لا شبهة فيه على أحد أقر بالصلاة..
(3) لعل هذا هو الصواب، وما بين المعقوفين أيضا زيادة منا، وفي أصلي: " وتحريمه بذلك وجبت السنة، ونحن
على أن يقيم الحد من يجهل تحريم وأدعى فيه شبهة.. ".
(4) هذا هو الظاهر من السياق، وفي أصلي: " راعيا بشبهة أحدثها...
(5) ومن قوله: " وليس ما قالوا.. " إلى هنا جمل معترضة من كلام المؤلف رد بها على الخوارج.
195

فقال لهم ابن عباس فقد قال الله: " فابعثوا حكما / 61 / من أهله وحكما من
أهلها " [35 / النساء: 4] أرأيتم إن كانت المرأة يهودية أليس قد دارت حكومة أهلها
وهم غير عدول؟
وأما قولهم في الموادعة، فإن الله إنما أزال الموادعة عند ظهور الإسلام وعلو أهله
[على] عدوهم (1) وقد كانت الموادعة قبل الهجرة، والدعوة غير ظاهرة وأنصار الدين
بهم قلة، فالموادعة زائلة متى وجبت القوة وكان المسلمون على الكثرة والقوة والعدة التي
من أجلها زالت الموادعة، ومتى اختلفت الكلمة ورجع أهل الحق إلى قلة، وكان
أهل الباطل أكثر رجعت الموادعة إلى علتها قبل الهجرة ووجب حكمها بوجوب علتها،
وقد تعلمون أن المشركين من سائر الملة ومن أقر بالصلاة من أهل البغي من الأمة قد أوجب
الله قتالهم على حد معروف وفرض موصوف تخفيف من الله (2) بعد فرض كان أشد في المحنة
منه فقال: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة
يغلبوا مأتين، وإن يكن منكم ألف يغلبون ألفين " [66 / الأنفال: 8] فهذا تحديد
في الفرض خفف الله به عن الخلق في محنة الحرب بعد أن كان الفرض على المائة محاربة
الألف.
قلنا: فمتى نقص من هذا التحديد من عدة المؤمنين، وكان المشركون أكثر من
العدد الذي حدد الله في قتالهم حلت للمؤمنين الموادعة، ووسعهم الكف حتى يصيروا
إلى الحد الذي ذكره الله تعالى، فقد جعل الله للموادعة حدا وهو (3) حكم الله بين عباده
أبدا في محاربة العدو، ولم يحصل من علي بن أبي طالب يوم صفين عند الفرقة واختلاف
الكلمة إلا قليل، وإنما تراجع الناس إليه بعد الحكمين حين انكشف للناس غدر عمرو

(1) كذا في الأصل، غير أن ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(2) كذا.
(3) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " وهم حكم الله.. ".
196

ابن العاص وضعف أبي موسى المغفل واستعماله هواه ورأيه، فأنابوا (1) إلى علي واعتزلت
الخوارج.
فأما يوم صفين، فكان أهل الحق ممن ثبت على بصيرته قليل تعدوهم العين، فقد
وجبت الموادعة عند القلة مع من كفر بالله فكيف لا يجب مع أهل القبلة، وذلك
حكم الله في الموادعة إلى يوم القيامة.

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: " فانابا " بإهمال الحرف الوسط. وأنابوا: رجعوا.
197

[خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في الاحتجاج على الخوارج بعد ما فارقوه فأرسل
إليهم ابن عباس ثم لحقه ودخل معسكرهم].
وذكروا أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) خرج إلى الخوارج فأتى فسطاط
يزيد بن قيس فدخله فتوضأ فيه وصلى ركعتين ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون
ابن عباس، فقال علي لابن عباس: انته عن كلامهم، ألم أنهك رحمك الله؟ ثم
تكلم علي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن هذا مقام من فتح الله له فيه كان أولى بالفتح يوم القيامة (2) ومن نطف فيه وأوعب
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكواء. قال علي: فما أخرجكم من حكمنا؟
قالوا: حكومتكم يوم صفين. قال: نشدتكم بالله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف
فقلتم: نجيبهم إلى كتاب الله. قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم [إنهم] ليسوا بأصحاب دين
ولا قرآن، فإني قد صحبتهم وعرفتهم أطفالا ورجالا فكانوا شر أطفال وشر رجال،
امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خديعة ووهنا ومكيدة

(1) وكان في الأصل بين الأسطر مكتوبا فوق قوله: " رضي الله عنه " كلمتي: " رضوان الله [عليه] ".
(2) كذا في الأصل، وفي المختار: (237) من نهج السعادة: ج 2 ص 289: هذا مقام من فلج فيه كان أولى
بالفلج يوم القيامة ".
198

فرددتم علي رأيي وقلتم: لا بل نقبل منهم. فقلت لكم: اذكروا قولي ومعصيتكم
إياي فلما أبيتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا [ه] القرآن وأن
يميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف حكم من حكم بما
في الكتاب، وإن أبيا فنحن من حكمهما براء. فهل قام إلي منكم رجل فقال: يا علي
إن هذا الأمر أمر الله فلا تعطه القوم؟ قالوا: لا. قالوا: فأخبرنا أتراه / 62 / عدلا
تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: إنا لسنا الرجال حكمنا، وإنما حكمنا القرآن وهو
خط مسطور بين لوحين لا ينطق حتى يتكلم به الرجال (1) وأنتم حكمتم أبا موسى وجئتموني
وأتيتموني به (2) مبرنسا، وقلتم: لا نرضى إلا به. ومعاوية حكم عمرو.
[ثم قال:] وأخبرني عنك يا ابن الكواء متي سمي أبو موسى حكما؟ أحين أرسل
أم حين حكم؟ قال: حين حكم. قال: فقد سار وهو مسلم وأنت ترجو أن
يحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم. قال: فلا أرى الضلال في إرساله إذ كان عدلا.
قالوا: فخبرنا عن الأجل لما جعلته بيننا وبينهم؟ قال: ليتعلم الجاهل (3) ويتثبت
العالم، ولعل الله أن يصلح في تلك المدة بين الأمة.
ثم قال علي: أرأيتم لو أن رسول الله عليه السلام أرسل رجلا مؤمنا يدعو قوما
مشركين إلى كتاب الله فارتد على عقبه كافرا كان يضر النبي صلى الله عليه شيئا؟ قالوا:
لا قال: فما ذنبي إن ضل أبو موسى ولم أرض بحكومته إذ حكم، ولا بقوله إذ قال.

(1) وفي المختار: (122) من نهج البلاغة: " إنما لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو
خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال.. ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " وجئتموني به وأتيتموني " ولكن لفظة: " أتيتموني " مكتوبة فوق قوله:
" جئتموني ".
ومنه قوله عليه السلام في جواب أحنف به قيس - كما في كتاب صفين ص 502 -: إن القوم أتوني
بعبد الله بن قيس مبرنسا فقالوا: ابعث هذا فقد رضينا به. والله بالغ أمره.
(3) هذا هو الظاهر: وفي أصلي: " ليعلم الجاهل.. ".
وفي المختار: (122) من نهج البلاغة: " وأما قولكم: لم جعلت بينك وبينهم أجلا في التحكيم
فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة.. ".
ولا تؤخذ بأكظامها فتعجل عن تبين الحق، وتنقاد لأول الغي.
199

قالوا: أفرأيت كتابك باسمك واسم أبيك وتركك اسمك الذي سماك الله به بإمرة
المؤمنين.
قال علي: على [يدي] دار [مثل] هذا الحديث كتب النبي عليه السلام (1): هذا كتاب من محمد
رسول الله. وقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: لا نقر ولا نعرف [أنك رسول الله]
لقد ظلمنا [ك] إذا إن شهدنا أنك رسول الله ثم قاتلناك، ولكن اكتب باسمك واسم
أبيك. فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله]: اكتب من محمد بن عبد الله فإن ذلك
لا يضر نبوتي شيئا، فكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لآبائهم، وكتبتها [أنا] لأبنائهم.
قالوا: صدقت. [ولكن] بقيت خصلة: إنا قد علمنا أنك لم ترض بحكمهم
حتى شككت وكتبت في كتابك: إن جرني كتاب الله إليك تبعتك، وإن جرك إلي
تبعتني. تعطي هذا القول وقد أحصا (2) خيلنا في دمائهم؟ وما فعلت هذا حتى شككت.
فقال علي: نبئني أنت ومن معك أولى بأن لا تشكوا في دينكم أم المهاجرون والأنصار؟
أم أنا أولى بالشك أم معاوية وأهل الشام (3)؟
قال ابن الكواء: النبي عليه السلام أولى باليقين منك، وأهل الشام خير من مشركي
قريش، والمهاجرون والأنصار خير منا.
قال: أفرأيت الله حين يقول لرسوله: " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى
منهما أتبعه إن كنتم صادقين " [49 / القصص: 28] أشك النبي عليه السلام فيما
هو عليه حين يقول هذا؟ أم أعطاهم إنصافا؟
قال ابن الكواء: خصمتنا ورب الكعبة وأنت أعلم منا بما صنعت.
فقال علي رضي الله عنه: ادخلوا مصركم رحمكم الله.

(1) ما بين المعقوفات زدنا لإصلاح الكلام، وفي الأصل: " على هذا دار الحديث كتب النبي.. ".
(2) كذا.
(3) كذا في أصلي مع غموض في لفظ: " نبئني " وفي الكلام اختلال ونقص ولم يتيسر لي المراجعة وبذل الجهد
لإصلاح الكلام وتصويبه.
200

فلم يبرح علي رضي الله عنه حتى تفرقوا ودخلوا معه وقلبوا أترستهم.
فتفهموا معاشر المقصرين، وتكفروا يا أصحاب الوقف، واعتبروا يا أولي الأبصار
ما يظهر من بيان الله وحجته من تقديم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على جميع العالمين
يقتل في الله القاسطين بسيفه، ويحيي في الله الشاكين بحجته.
فهذه علل الخوارج مجموعة عليها مدار كلامهم كله قد أوضح لبسها، وأزال
شبهها، وكشف حيرتها بما لا مرد له من كتاب الله (1) وحجته فأي الأمرين عندكم أصوب؟
وأي المنزلتين أشرف في الدين والرأي؟ أن يدع الناس في حيرتهم ويترك أصحابه في
شبهتهم فيكونوا له حربا، ويزيدهم بإقدامه شبهة، ويمضي وحده حتى يقاتل بعصابة
معه، فلا ينكأ في عدوه (2) ولا يبلغ فيهم الأمنية، فيكون في ذلك تلفه وتلف من معه
وتقوية (3) لمن خالفه / 63 / ويكون في ذلك جهل للسنة في الموادعة، وإطفاء لما
أحيا من حجة الله فيكفر الجهل ذلك من جهله وافتتن به.
أم يوادع القوم في حال القلة، ويستعمل بأصحابه [الرفق] في وقت تفرقهم، ودخول
الشبهة [عليهم [ليحيي ضالهم، ويستنقذ متحيرهم، ويقوي ضعيفهم، ويثبت عالمهم (4)
أي الأمرين أولى بالهدى وأبعد من الخطأ، والله يقول: " من أحياها فكأنما أحيا
الناس جميعا، ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعا " [32 / المائدة: 5]

(1) كلمة: " كتاب " رسم خطها غامض ويحتمل أن تقرأ: " من بينات ".
(2) يقال: " نكأ زيد عدوه وفي عدوه - من باب ذهب -: قتل فيهم وجرح وأثخن
(3) الظاهر أن هذا هو الصواب وفي أصلي: " ويفوته ".
(4) وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام في احتجاجاته مع الخوارج وغيرهم حكمة تأنيه وتأخيره الحرب مهما
يمكنه لطفا بالناس ورأفة بهم.
أنظر قوله عليه السلام في المختار: (54) من نهج البلاغة: " فوالله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع
أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها ".
وانظر أيضا قوله في المختار: (120) من نهج البلاغة: " فإذا طمعنا في خصلة يلم الله بها شعثنا
ونتدانى بها إلى البقية بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها ".
201

والنبي عليه السلام يقول له: يا علي لأن تستنقذ نفسا من ضلالتها خير لك من الدنيا
وما طلعت عليه الشمس (1).
وتعلمون أن عليا لو أصيب في تقدمه لم يعرف أحد سنة الموادعة وجواز الحكومة،
ولكانت تلك شبهة باقية في الناس إلى يوم القيامة لا يهتدي إلى الحجة فيها ولا يقدر أحد
أن يبين (2) فيها ما أبان من سبيلها مع استنقاذه اثني عشر ألفا من ضلالة قد كانت شملتهم،
وحيرة قد كانت ركبتهم، فلا شك أن ما فعل من ذلك أولى بالصواب، وأرجح في
الدين وأرضى لله وأبعد من الخطأ في حكمه.
فدخلت الخوارج الكوفة وأقبل عليهم صعصعة بن صوحان فقال: أنشدكم الله
أن تكونوا بعد اليوم عارا على من يقرأ القرآن.
ثم إن عليا أمر بالمسير إلى أهل الشام وفي ذلك يقول شاعرهم:
أيها الشامتون إن عليا * لم يحكم في دينه مخلوقا
إنما حكم القرآن وقد كان * بتحكيمه القرآن خليقا
أعلم الناس بالكتاب وبالسنة * والله يلهم التوفيقا
حاكم القوم في الحروب إلى الله * و [هو] فيها مهاجرا صديقا
فهذه محنته وسيرته في حروبه [و] قد بان بها من الخليفة أجمع وتقدم فيها على
من صام وصلى لا يقدرون أن يدعوا ما اتفق منها لأبي بكر أكثرية ما يدعونه لأبي بكر
محنته أيام الردة، أين قيامه بالردة وهي مكشوفة ظاهرة ومحنة القوم جميعا فيها
واحدة من محنة علي بعائشة، وقد شبهت الأمور وأطاعها الناس، ومحنته بالزبير

(1) لا يحضرني الآن موارد ذكر هذا الحديث من كتب الفريقين، ولكن ما في معناه ومدلوله قد أخرجه.
رواه ابن عساكر تحت الرقم: (227) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق:
ج 2 ص 182، وما بعدها، من ط 2.
(2) ويحتمل رسم الخط أيضا أن يقرأ: " أن يسن فيها ما أبان.. ".
202

وله الصحبة المعروفة والشجاعة المذكورة، ومحنته بطلحة واستمالة الناس بخطبه، والتمويه
عليهم بسابقته مع من أشبههم من الخاصة والعامة ثم ما ذكرنا بعدهم.
وأبو بكر لم ينفرد بمحنة الردة، ولقد كان علي له معينا وشريكا، ولقد أشار عليه
بما ذكرنا.
وأين محنة أبي بكر - وقد أطاعه القوم جميعا بعد الخلاف - من محنة علي مع أهل
الخلاف عليه، وأبو بكر يتخلف من عسكره فلا يباشر حربا بنفسه، ويعبنه علي على
تدبيره، فلم يباشر حرب ما حدث في زمانه فيكون له فضيلة ولا تفرد بالتدبير والرأي
فينسب ذلك إليه ويتقدم به، وعلي في عسكره يتولى تدبيره بنفسه، ويخوض تلك الحروب
ببأسه، ويقوم أود تلك العساكر برأيه، ليس له نظير يعينه، ولا وزير يشاركه.
فمهلا رحمكم الله فإلى كم تلجون في الخطأ، وتعتلون بالشك والوقف معاشر
المرجئة والمعتزلة.
فأما أنتم أيها المنسوبون إلى الرواية، والمحصون للآثار عن رسول الله، فقد علمنا
أنه لاحظ لكم في استنباط المعرفة، ولا رأي فيدعوكم إلى المحاجة، ولا نظر فتدعوا
في العلم رساخة، ولستم باللذين تدعون إلى عدل المقايسة، فتقولون نحن أصوب منكم
مقالة، وكيف يمكنكم ذلك ومتى ذكر لكم النظر كنتم كالحمر / 64 / المستنفرة،
فأنتم إذا رفعنا منزلتكم في المثل كالصيادلة الذين لا يعرفون إلا أسماء الأدوية [وهم]
جهال بالدواء والعلة، أو كتاجر ليس له بالصرف معرفة.
وأهل النظر في المثل هم الأطباء والصيارفة العارفون (1) معاني الأدواء والأدوية و [ذوو] البصر
بالذهب والفضة فإن عرضتم علينا ما في أيديكم من الرواية للنظر في خطائها من صوابها أصبتم وجه
بالرأي في التعلم، ولم تلبثوا إلا ريث ما حتى ينكشف لكم الحق فيما عنه تسألون، وكان مثلكم

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " الغارمون معاني الأدواء... ".
203

كتاجر لا بصر له بالذهب والفضة، فإن صار في يده من ذلك ما لا علم له به عرضه
على البصير يسلم في تجارته وأضعف رأس ماله، وإن أهملتم أنفسكم وجمح بكم سوء
النظر، وقلد بعضكم بعضا الخبر كنتم كمن تعسف تجارته وقل نظره لنفسه، ولم يعرض
ما وقع في يده من فضته وذهبه على البصراء به وقلد من هو في مثل حاله في أمره ونهيه
وجهله، ولم يلبث إلا ريثما حتى أفقر نفسه وذهب رأس ماله.
وقد يأثرون (1) عن النبي صلى الله عليه في تحقيق ما قلنا أنه قال: " رب حامل فقه
ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " (2) وأنتم المعنيون بهذا الحديث،
والمرادون به إذا كانت معرفتكم به أسماء الرجال وعددهم.
وعنه يؤثر صلى الله عليه أنه قال: " يحمل هذا العلم من كل خلف من أهل بيتي
عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (3).
وكيف ينفي ذلك من لا علم له بالمقايسة وجمع الأشباه؟ ومن هو عن النظر بمعزل؟
ومن دينه السكوت؟! وترك الفكرة والتدبير للجمع بين ما صح وفسد، لبحق الحق
ويبطل الباطل.
[وقد كشفنا الستار عن الحق] لتعلموا أن القوم الذين عنوا بالفقه والتمييز والتدبير
هم أهل الحق والنظر، فأما من لا تمييز عنده بين باطل من حق كيف يعلم من أفرط
وغلا، وتأويل من قصر وأخطأ؟! وفي كل ذلك يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إذا أتاكم عني حديث فاحملوه على أحسن وجوهه وظنوا به الذي هو أزكى وأهدى
وأتقى ".
فكيف يحمله على أحسن وجوهه من لا يخطر الفكرة فيه على قلبه؟ ومن قد حرم

(1) وهو على زنة: " ينقلون " لفظا ومعنى. وقد جاء أيضا على زنة: " يضربون ".
(2) وللحديث مصادر كثيرة جدا، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول في آخر خطبة خطبها بمنى.
(3) وهذا الحديث أيضا له مصادر كثيرة تجدها في كتاب العلم من بحار الأنوار. ج 1.
204

النظر على نفسه وشأنه تصحيح الخبر لسماعه؟!!!
فهذه هي الفرقة الحاملة للفقه إلى من هو أفقه منها، وقلدت الخبر رهبانها، وانقادت
لكبرائها وفي أشباههم يقول الله: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " [5 / الجمعة: 62]
" واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا " [31 / التوبة: 9]. أي: بالطاعة لهم والانقياد
لقولهم وهم الذين قالوا: " أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " [67 / الأحزاب:].
فارجعوا إلى النظر عن قريب ما دمتم في فسحة التمكين، وفكروا في فضائل أمير
المؤمنين تجدوا ما قلنا بينا، ولا تؤثروا الغفلة، وتميلوا إلى الجهالة، فإن بالمعرفة يعبد
الله، وإلى النظر والتدبر دعا الله عز وجل [حيث] قال: " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب
أقفالها " [24 / محمد: 47]. وقال: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم
لعلمه الذين يستنبطونه منهم " [83 / النساء: 4]. فقد مدح الله الاستنباط، وعلة
الاستنباط التدبر والنظر، فمن لم يتدبر لم يستنبط، ومن لم يستنبط لم يعلم، ومن لم يعلم
لم يوفق، ومن لم يوفق شك وجهل، ومن جهل لم يخش ربه، لأنه لا يخشاه إلا من عرفه
لقوله: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " [28 / فاطر 35].
ونحن قابلون لما في أيديكم من الرواية، وراضون بما أسندتم من مشهور / 65 /
الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي وأبي بكر، لتعلموا أن علة ما قلتموه
الهوى لا الأثر، والبدعة لا السنة.
205

[تفنيد المصنف بعض مفتريات شيعة آل أبي سفيان في شأن الشيخين].
قد قلتم: إن من السنة تفضيل أبي بكر وعمر!!! فأي سنة قامت بأنهما عن علي
ابن أبي طالب أفضل (1)؟ والجماعة في هذا مضطربة، فأوقفونا على شهادة معروفة،
وأوضحوا دعوى هذه السنة التي بانت بالبدعة.
فإن قلتم: [منها] قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سيدا كهول [أهل الجنة] ".
قلنا: فقد عارض هذا من خبركم ما هو أقوى [منه] في المعنى، وأسلم من خطأ التأويل
وهو قوله في الحسن والحسين: " [هما] سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما " (2).
فنظرنا في الحديث الأول فوجدنا للشبهة فيه مساغا، ولخطأ التأويل [فيه] مدخلا
لأنه ليس في الجنة كهل.
وهذا لا يدخل فيما قلنا في قوله في الحسن والحسين إذ كان أهل الجنة [كلهم]
شبابا، فإذا ثبت أن أهل الجنة شباب دون كهول فقد قدمهما على [كل] من في الجنة تقديما
واضحا.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " فأي نسبة قامت بأيهما عن علي بن أبي طالب ".
(2) والحديث مجمع عليه بين الشيعة وأهل السنة، وقد رواه الحافظ ابن عساكر بأسانيد كثيرة تحت الرقم:
(128 - 142) من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ج 12، ص 72 وما بعدها من ط 1.
ورواه أيضا بأسانيد كثيرة أخر في الحديث: (61) وما بعده من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام
من تاريخ دمشق: ج 12، ص 41 - 59 ط 1.
وقد علقناه عليهما أيضا نقلا عن مصادر قوية قديمة سنية، فراجعهما فإنهما يغنيانك عن غيرهما.
206

واستثناؤه أباهما يوجب أن الخبر عام ولو أراد به الخصوص لم يكن للاستثناء معنى.
فإن قلتم: لم يرد بقوله: سيدا كهول أهل الجنة إخبارا بأنه يكون في الجنة كهول
ولكن لما كانا في وقت القول كهلين جاز أن يقول: سيدا كهول أهل الجنة مجازا.
قلنا: فهذا خبر يدخل فيه من كان في ذلك الوقت كهلا فيكون قد دخل فيه كهول
من بالحضرة دون من لم يكن في ذلك الوقت كهلا، فعلي بن أبي طالب لم يكن في ذلك
الوقت كهلا فيكون في الخبر داخلا (1).
هذا قد يجب عليكم متى سلمنا دعواكم وتركنا الاستقصاء عليكم في خبركم،
فنحن إذا نظرنا فيما ذكرتم احتجتم إلى التأويل فيما رويتم في أبي بكر وعمر. فأما
تأولتم فسلمنا لكم التأويل أو هدناكم أنه ليس فيه على قولكم دليل.
فقد ثبت بما شرحنا ووصفنا أن قوله: سيدا شباب أهل الجنة " أدل على التفضيل
وأوفى بالعموم مما يدخله الطعن عند القياس، واحتجتم في تصحيحه إلى استعمال التأويل.

(1) أي فلا يكون في الخبر داخلا.
207

[بيان إجمالي في مؤاخات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار،
ثم بينه وبين علي صلوات الله عليهما].
ثم فكروا في حديث المؤاخات وما فيه من الدلالة الواضحة، إذ ميزهم على قدر
منازلهم، ثم آخا بينهم على حسب مفاضلتهم (1) فلم يكن أحد أقرب من فضل أبي بكر
من عمر فلذلك آخا بينهما، وأشبه طلحة الزبير (2) وقربت منازلهما، لذلك فآخا بينهما،
وكذلك فعل بعبد الرحمن بن عوف آخا بينه وبين عثمان.
ثم قال لعلي: إنما أخرتك لنفسي أنت أخي وصاحبي.
فلم يكن فيهم أحد أشبه بالنبي عليه السلام من علي، ولا أولى بمؤاخات النبي منه،
فاستحق بمؤاخات النبي عليه السلام لتقدمه على القوم، وكانت مؤاخات علي أفضل من
مؤاخات غيره لفضله على غيره.

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: " مفاضلهم " ولعله كان في الأصل: " تفاضلهم " فصحفه الكاتب.
(2) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: " واشتبه طلحة والزبير.. ".
ثم إن أصل حديث المؤاخات بين النبي وعلي صلوات الله عليهما، وبين كل واحد من المهاجرين والأنصار
ومن يشاكله من الحقائق الثابتة التي أصفق على تصديقها والإدغان بها جميع فرق المسلمين وله مصادر كثيرة
غير محصورة.
نعم، في بعض طرق الحديث زيادات مختلقة قد قامت القرائن الخارجية على اختلافها مثل ما يتضمنه
الحديث المنقول في الباب: (20 و 21) من كتاب فرائد السمطين: ج 1، ص 112 - 121، ط 2.
والقصة قد رواها الحافظ ابن عساكر بأسانيد كثيرة تحت الرقم: (141) وما بعده من ترجمة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 117، وما بعدها من ط 2 وقد علقنا
عليه أيضا عن مصادر جمة.
وقد رواها أيضا بطرق الحافظ الطبراني، وإليك ما رواه في الحديث: (1000) من مسند عبد الله بن
عمر من المعجم الكبير: ج 3 / الورق 205 / ب / قال:
حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن يزيد هو أبو هاشم الرفاعي أنبأنا عبد الله
ابن محمد الطهوي، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال:
بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ظلل بالمدينة وهو يطلب عليا - رضي الله عنه - إذ انتهينا إلى حائط
فنظرنا فيه، فنظر [النبي] إلى علي وهو نائم في الأرض وقد اغبر فقال: لا ألوم الناس يكنونك أبا تراب.
[قال ابن عمر:] فلقد رأيت عليا تغير وجهه واشتد ذلك عليه، فقال: ألا أرضينك يا علي؟ قال:
بلي يا رسول الله، قال: أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي، فمن أحبك في حياة
مني فقد قضى نحبه، ومن أحبك في حياة منك بعدي ختم الله له بالأمن والإيمان، ومن أحبك بعدي ولم
يرك ختم الله له بالأمن والإيمان، وآمنه يوم الفزع الأكبر، ومن مات وهو يبغضك يا علي مات ميتة جاهلية
[و] يحاسبه الله بما عمل في الإسلام.
وقريبا منه جدا رواه أيضا في الحديث: (10) مما أسنده عبد الله بن العباس من المعجم الكبير:
ج 3 / الورق 109 /.
ورواه أيضا الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 111، نقلا عن الطبراني في الكبير والأوسط.
208

[حديث الغدير المتواتر بين المسلمين، أو قطعة من خطبة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ب‍ " غدير خم " في إعلام الناس بمنزلة علي علي عليه السلام من رسول الله
ونصبه علما للناس ومفزعا لهم بعد وفاته صلى الله عليه وآله].
ثم قوله [صلى الله عليه وآله] له في " غدير خم ": " من كنت مولاه فعلي
مولاه " [يكون] إبانة له منهم، وتقريبا له من نفسه، ليعلموا أنه لا منزلة أقرب إلى
النبي صلى الله عليه من منزلته.
فإن قال قائل: إنما قال ذلك النبي عليه السلام في ولاء النعمة، ومعنى الحديث
في زيد بن حارثة لأنهما قد كانت بينهما مشاجرة، فادعى علي بن أبي طالب ولاء زيد
ابن حارثة، وأنكر ذلك زيد (1) فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: " من كنت مولاه

(1) إلى الآن لم أظفر على سند لهذا الحديث، بل ولا على مصدر له غير ما أبداه أبو جعفر ها هنا من قبل المنحرفين
عن علي عليه السلام، ذكره كي يبطله ويسد باب تعلق المبطلين وتمسكهم به.
نعم، ذكر الحافظ ابن عساكر في الحديث: (590) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
من تاريخ دمشق: ج 2 ص 86 ط 1 بسنده ما لفظه:
عن مسروق بن ماهان التيمي، عن أبي بسطام مولى أسامة بن زيد: أنه كان بين علي وبين أسامة [شئ]
فقال [أسامة]: والله إني لا أحبه!! قال: فكأنه دخل على علي من ذاك [أذى وغم] فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: لا أراك تتناول عندي عليا من كنت مولاه فعلي مولاه.
وكيفما كان فقصة زيد رحمه الله أو ابنه أسامة لا سبيل إلى إثباتها والاعتقاد بتحققها في عالم الخارج،
لعدم السند والمصدر للأول، وضعف سند الثاني، فالقصتان من قبيل كلام الليل الذي يمحوه النهار، وهو
حديث الغدير المتواتر بين المسلمين.
وعلى فرض ثبوتهما أيضا لا تعارضان حديث الغدير، إذ زيد بن حارثة رضوان الله عليه قد استشهد قبل
" غدير خم " نحو سنتين.
وهكذا قصة أسامة على فرض ثبوتها أيضا لا تعارض حديث الغدير لأنه لم يعلم في أي تاريخ أبدى أسامة
ما في نفسه، وعصى قوله رسول الله صلى الله عليه وآله: " من آذى عليا فقد آذاني ".
ولعله كان قبل غدير خم. وعلى فرض تأخرها عن غدير خم، ونصب رسول الله عليا علما للناس
أيضا لا تعارض حديث الغدير، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله ذكر أسامة ونبهه على لوازم مولوية
علي عليه السلام التي سجلها عليهم، وأخذ ميثاقهم في غدير خم على الالتزام بها والقيام بلوازمها، ومن جملة
لوازمها أن المولى على مثل أسامة وسائر المسلمين يجب عليهم أن يحبوا إمامهم وخليفة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم.
ومما يقوي هذا الاحتمال ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتوسم فيهم من أنهم سيخالفون أوامره
ووصاياه في حق وصيه وخليفته، ولهذا في أواخر أيامه ومرض وفاته أمره على جيش، وجعل تحت إمارته
أبا بكر وعمر وأكابر المهاجرين، وأكد عليه أن يفصل المدينة ويغير على الروم بأرض مؤنة، وبلغ من تأكيده
صلى الله عليه وآله في ذلك أنه مرارا كان يقول نفذوا جيش أسامة، حتى ورد من طريقهم أنه قال:
لعن الله من تخلف عن جيش أسامة.
فتسامح أسامة في المسير بعد ما عسكر خارج المدينة حتى راوغ شيوخ القوم في الرجوع إلى المدينة، ثم هو
أيضا لم يبرح من معسكره حتى توفي النبي صلى الله عليه وآله فرجع إلى المدينة.
ثم أسامة في أيام خلافة أمير المؤمنين عليه السلام تخلف عنه وأبدى عذرا كان أكبر من الجرم الذي كان
قد ارتكبه فكان يجعله عذرا ووسيلة للتخلف عن أمير المؤمنين عليه السلام.
ومن هذا ينفتح احتمال اختلاق أبي بسطام للحديث كاحتمال اختلافه من ماهان التيمي لأنهما ورثا الانحراف
عن كلالة:!.
210

فعلي مولاه " [فيكون ذلك إذا] في ولاء العتق (1).
قلنا: ليس لما ذهبتم إليه معنى يصح لأن أول الحديث وآخره يبطل / 66 / ما
ذكرتم، لأنه ذكر في أول الحديث [أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس]
فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ و [من] كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم
بلى. فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.
فلا يكون من البيان في نفي ما قلتم أوضح من هذا، لأنه قد نص على المؤمنين جميعا
بقوله، ودل على إبانة علي من الكل بمولويته (2) على كل مؤمن ومؤمنة، ثم أقامه في

(1) ما بين المعقوفين زيادة توضيحية لم تكن في الأصل.
(2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " تجميعا بقوله ودل على إبانة علي من الكل بتوقيعه ".
211

التقديم عليهم مقامه، وأعلمهم أن تلك لعلي فضيلة عليهم كما كانت له صلى الله عليه
وسلم فضيلة تأكيدا وبيانا لما أراد من قيام الحجة، ونفي تأويل من تأول بغير معرفة.
ولو كان ذلك من النبي عليه السلام على طريق الولاء والملك لكان العباس بذلك
أولى من علي لأنه أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه.
وآخر الحديث [أيضا] يدل على أن ذلك لم يكن لما ذكروه من العلة وهو قوله:
" اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " وهذا كله يدل على ما قلنا [ه] من تقدمه [على
الناس] في الدين، وتفضيله على العالمين، و [أن النبي صلى الله عليه وآله إنما]
اختاره [لعلمه] بأنه لا يكون منه تغيير ولا تبديل، وأن حاله واحدة، متصلة عداوته
بعداوة الله، وولايته بولايته، كما اتصل ذلك من النبي عليه السلام (1).
[وقد ذكرنا من مدلول الحديث ما يلفت نظركم إلى الحق] لتعلموا أن النظر في
الحديث يوجب أن النبي إنما أراد بهذا الحديث إبانه علي رضي الله عنه من المؤمنين
جميعا، وإعلامهم أن منزلته في التفضيل عليهم، والتقدم لهم بمنزلة عليه السلام (2).
ففكروا في هذا الحديث فما أبين دلائله، وأوضح حجته وتأكيده، وما أعجب
قوته عند النظر فيه من جميع أسبابه ومعانيه.
و [فكروا أيضا في] قول عمر - له عندما سمع [من النبي صلى الله عليه وآله]
هذا الحديث: بخ بخ [لك] يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة.
فهذا حديث يؤكد بعضه بعضا، ويشهد بشهادة واحدة، وينفي تحريف الشاكين
والمقصرين، ويوجب قول أهل العلم واليقين.

(1) ولتفرد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بتلك المزايا أمر الله نبيه أن ينصبه خليفة له ووصيا، فامتثل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لأمره تعالى، فنصبه علما للناس وإماما لهم.
(2) فهو المتعين لأن يخلفه على أمته ويقيمه مقامه، ويجعله إماما وقائدا لهم.
212

وقد قال قوم (2): إن معنى الحديث إنما هو في الولاية، فمعنى قوله: " من كنت

(2) وقد قال به قبلهم خالق الأقوام وبارئ الأكوان، فقال لنبيه: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك،
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [67 / المائدة: 5] فقد روى الواحدي في أسباب النزول 150، عن أبي
سعيد الخدري، قال: نزلت هذه يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.
وروى الحافظ الحسكاني في الحديث: (247 - 250) بأسانيده عن عبد الله بن أبي، أو في الصحابي
والإمام أبي جعفر عليه السلام.
وعن جابر بن عبد الله، و عبد الله بن العباس الصحابيين قالا: أمر الله محمدا أن ينصب عليا للناس
ويخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابا ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه:
" يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.. " فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم.
وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه، وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري
قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا يوم غدير خم فنادى له بالولاية، هبط جبرئيل عليه بهذه
الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم.. ".
أقول: ورواه أيضا بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث: (211) وتواليه من شواهد التنزيل:
ج 1، ص 157.
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (585 - 586) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 2 ص 85 ط 1.
وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن
أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهرا، وهو يوم غدير خم
لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي
ومولى كل مسلم، فأنزل الله عز وجل: " اليوم أكملت لكم دينكم.. ".
وروى الحافظ الحسكاني في الحديث: (211) وما بعده، والخوارزمي في الفصل: (14) من مناقبه
والفصل: (4) من مقتله: ج 1، ص 47 واللفظ له - وقد حذفنا الأسانيد اختصارا - قال:
عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت
الشجرة من الشوك فقم - وذلك يوم الخميس - ثم دعا الناس إلى علي فأخذ بضبعه فرفعها حتى نظر الناس
إلى بياض إبطيه ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي،
ورضيت لكم الإسلام دينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة
ورضي الرب برسالتي والولاية لعلي ثم قال: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من
خذله.
فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله لي أن أقول أبياتا؟ فقال: قل ببركة الله تعالى. فقال حسان
ابن ثابت: يا معشر مشيخة قريش اسمعوا شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم قال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
بأني مولاكم نعم ووليكم * فقالوا: ولم يبدو هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا
والقصة ذكرها أيضا مع الأبيات السيوطي في كتاب الأزهار فيما عقده الشعراء من الأشعار.
أقول: وبما قدمناه ظهر قول كثير من الأقوام القائلين في هذا الحديث بمثل ما قال الله تبارك وتعالى فيه:
منهم رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال بعد ما نصب عليا إماما للناس وخليفة له: الله أكبر على إكمال
الذين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي.
ومنهم أمين الوحي جبرئيل حيث هبط بأمر من الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وقال له: " يا أيها الرسول
بلغ ما أنزل إليك من ربك، وأن لم تفعل فما بلغت رسالته.. ".
ومن القائلين بهذا القول من أصحاب رسول الله ج‍ صلى الله عليه وآله جابر بن عبد الله الأنصاري وأبي سعيد
الخدري وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الله بن العباس وأبي هريرة الأموي وحسان بن ثابت الأنصاري العثماني وعمر
ابن الخطاب.
وسيمر عليك قريبا في التعليقات القادمة شعر أمير المؤمنين عليه السلام:
وأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
وستقرأ أيضا ما كتبه عمرو بن العاص إلى خالهم معاوية لما ألح عليه بطلب خراج مصر، فكتب إليه عمرو مهددا
إياه إن أصر على الطلب منه ومنه:
وكم قد سمعنا من المصطفى * وصايا مخصصة بعلي
وفي يوم خم رقى منبرا * وبلغ والصحب لم يرحل
فؤمنحه إمرة المؤمنين * من الله مستخلف المنهل
ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرنا بعد قرن، مثل رسالة الحافظ ابن عقدة وحديث
الغدير للطبري المفسر والمؤرخ الشهير، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني والذهبي وعبيد الله الحسكاني ومسعود
السجستاني وغيرهم..
وعليك بكتاب الغدير، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار فإن فيهما ما تشتهيه الأنفس.
213

مولاه فعلي مولاه ": من كنت وليه فعلي وليه. ويدل (1) على ذلك قول الله: " ذلك بأن

(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " يريد: من كنت وليه، فيدل على ذلك قول الله.. ".
214

الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " [11 / محمد: 47] فإنما أراد الله
بهذه الولاية فخص علي بن أبي طالب بهذه الكلمة [لأنه أراد منها الرئاسة والإمارة،
ولو كان يريد منها غير الرئاسة والإمارة من مثل المحبة والنصرة] و [كان] المؤمنون
جميعا في معنى الولاية [بهذا التفسير] داخلون لأنهم لله ولرسوله موالون [لم يكن وجه
لتخصيصه عليا بها] كما خصت الأنصار باسم النصرة، والمؤمنون جميعا في معنى
النصرة [لله] ولرسوله داخلون (1).
[قال أبو جعفر الإسكافي]: وهذا أيضا خطأ من التأويل (2) بدلالة أول الحديث
لأن قوله: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وبكل مؤمن ومؤمنة؟ " [وهذا] يدل

(1) وها هنا في كلام أبي جعفر في تبيين مرام الله ورسوله والمؤمنين اختلال فاحش، ولذا زدنا ما بين المعقوفات
ترميما لبعض اختلالاته،.
وأما قوله: " كما خصت الأنصار.. " فهذا ليس من كلام أهل الحق المنقادين والتابعين لأوامر الله
ورسوله.
ولعل في هذا المقام وقع في الكلام حذف، أو أن كاتب الأصل صحف بعض الكلمات، أو تصرف
في الكلام بالتقديم والتأخير.
(2) عفى الله عنك يا أبا جعفر لم تكن بغباوة الحشوية حتى تكابر في تجاه البديهيات، كيف يكون هذا المعنى
تأويلا وهو الظاهر المتبادر من الكلام، وبمعونة القرائن الحالية والمقالية الحافة بالكلام يكون نصا وصريحا
فيه بحيث لو تردد أحد في فهم المراد منه يعد من سلب منه القوة الإدراكية أو إيمانه بالله ورسوله.
ومثل أبي جعفر في هذا المقام مثل طبيب يريد أن يداوي من غير دواء، كما أن مثل كثير من رواة
الحديث من المقلدة. مثل صيدلي عنده أقسام من الدواء ولكن لا يعلم منها إلا الاسم، ولا يدرك من هويتها
إلا اللون، وكان الواجب على أبي جعفر أن ينظر إلى جميع الأخبار الواردة في المقام ثم يبدي رأيه.
يا أبا جعفر، أهذا تأويل، وقد قال الله في شأنه: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته "؟.
أهذا تأويل وقد قال الله في عظمته: " اليوم أكملت لكم دينكم.. "؟
أهذا تأويل ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول فيه: الله أكبر على إكمال الدين.. ورضا الرب
برسالتي، والولاية لعلي؟؟
أهذا تأويل؟ والصحابي الكبير أبو سعيد الخدري يقول: لما نصب رسول الله عليا يوم غدير خم فنادى
له بالولاية، نزل عليه جبريل بهذه الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم.. ".
أهذا تأويل؟ وعمر بن الخطاب في نفس ذلك اليوم يخاطب عليا ويقول: بخ بخ لك أصبحت مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وبعد ذلك كان يقول هو مولاي، فمن لم يكن مولاه فليس بمؤمن؟!!.
أهذا تأويل؟ والإمام أمير المؤمنين عليه السلام يقول:
فأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
أهذا تأويل؟ وحسان بن ثابت ينشد في ذلك اليوم بمحضر النبي والمهاجرين والأنصار، ويقول عن لسان النبي:
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
أهذا تأويل؟ وعمرو بن العاص يحكي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ويهدد معاوية ويقول:
وكم قد سمعنا من المصطفى * وصايا مخصصة في علي
وفي يوم خم رقى منبرا * وبلغ والصحب لم يرحل
فامنحه إمرة المؤمنين * من الله مستخلف المنحل
وفي كفه كفه معلنا * ينادي بأمر العزيز العلي
وقال: فمن كنت مولى له * علي له اليوم نعم الولي
ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الغدير، وفضائل الخمسة: ج 1، ص 392. وشواهد التنزيل، وترجمة
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2 ص 1 - 90. وعبقات الأنوار، والمراجعات..
215

[على] أنه لم يرد بذلك الولاية لأن هذا المعنى لا يجوز أن يكون لهم لأن الوليين كل واحد
منهما مولى صاحبه (2).
وقوله: " ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة؟ وأولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " إيجاب
أن للنبي عليه السلام عليهم في ذلك ما ليس لهم في التقدمة، وكذلك علي مولاهم أنه
أولى بهم من جهة التقدمة لأن آخر الكلام على أوله مردود، فمن أراد أن يدخل في آخر
الحديث معنى يزيل ما قلنا [ه] نفاه أول الحديث، ومن أراد أن يدخل في أوله معنى
غير ما وصفنا [ه] نفاه آخر الحديث، فالحديث يشهد بعضه لبعض بما قلنا، ويوجب
الحجة الواضحة بما إليه ذهبنا (2).

(1) بل هذا الصدر يدل على خصوص الإمارة والرئاسة، وإلا فأي فائدة في ذكره، ويدل عليه أيضا تفريع
ما بعده عليه حيث قال: " فمن كنت مولاه فعلي مولاه. ".
وقول أبي جعفر: لأن الوليين كل واحد منهما مولى صاحبه " طريف جدا، ويلزم على قوله إذا قلنا:
السلطان ولي الرعية. أن يكون كل واحد من السلطان والرعية وسلطانا! لأن كل واحد منهما مولى صاحبه!!!
(2) وبما قدمناه من التعليقات تجلي الأمر لكل ذي شعور وتبين له أن حجة المصنف ها هنا داحضة.
216

فإن قال قائل: فإذا كنتم قد أبطلتم من معنى الحديث ولاية الدين (1) والولاء في
العتق، فليس لما ذهبتم إليه معنى.
قلنا لهم: قد أوضحنا لكم معنى ثالثا لو فهمتم لأن أول الحديث فيه ذكر كل مؤمن
ومؤمنة، فيعلم أنه لم يرد بذلك زيد بن حارثة إلا بدخوله في اسم الإيمان، وما في آخره
من ذكر العداوة والولاية.
ولم يرد بقوله: " ألست أولى بكل مؤمن ومؤمنة " / 67 / الولاية لأن هذه منزلة النبي
صلى الله عليه وسلم ليست لأحد من المؤمنين (2) والولاية لهم هم بها موصوفون، فتلك
منزلة علي بن أبي طالب.
فإن قال قائل: وبما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة؟
قلنا له: إن قولكم: بما استحق علي بن أبي طالب هذه المنزلة بعد ما [أ] وقفناكم
وعرفتم أن النبي عليه السلام أنزله هذه المنزلة وأبانه بهذه الفضيلة تهمة وسوء ظن بالنبي
عليه السلام، لأن الذي فعل [به] النبي عليه السلام [ذلك] قمن بذلك (3) لم يفعله
[به] إلا بالاستحقاق، ولأن النبي عليه السلام لم يكن بالذي يتقدم بين يدي الله فيبين

(1) هيهات هيهات لأبي جعفر وأمثاله أن يبطلوا ما أبرمه الله ورسوله، نعم أراد المبطلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه.
(2) نعم هذه منزلة النبي صلى الله عليه وآله لاحظ فيها لأحد من المؤمنين إلا من وهبها النبي صلى الله عليه
وآله وسلم له على سبيل النيابة وكونه خليفة له، ولا أحد منهم كان يليق بهذه المرتبة إلا من كان من النبي بمنزلة
هارون من موسى وهو علي بن أبي طالب عليه السلام، فكما أن موسى طلب من الله أن يجعل أخاه هارون
وزيرا له وبعدما أجاب الله سؤله جعله خليفة له، وقال له: " اخلفني في قومي ". فكذلك جعل الله عليا
وزير رسول الله، ثم خلفه رسول الله على أمته، ويدل عليه أيضا ما ورد في تفسير الآية: " واجعل لي وزيرا ".
وقول أبي جعفر: " والولاية لهم هم بها موصوفون "، غير تام لأن عليا كان موصوفا بولايتهم وغيرها
كما كان في أكثر الصفات كذلك فكان فيه جميع ما في سائر المؤمنين من الكمال ولم يكن فيهم أجمع ما كان
فيه من المكارم..
(3) لعله هذا هو الصواب، وما بين المعقوفات كلها زيادات منا، وفي أصلي في قوله: " عليه السلام قمن "،
لم يكن واضحا، وكان هكذا: " عليلم ممن ذلك لم يفعله إلا بالاستحقاق.. ".
217

علي بن أبي طالب هذه البينونة ويشهره هذه الشهرة إلا بأمر من الله، فهذا من قولكم
تهمة فإن أقمتم عليه بعد البينة كفرتم.
فإن قالوا: فدلونا على قوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " يحتمل ما قلتم من
التقدمة والإبانة في اللغة، قلنا: ذلك ما لا يستنكر في كلامهم وتعاملهم، قد يقول
الرجل للرجل إذا أراد تقديمه وتفضيله على نفسه، فلان مولاي يريد بذلك أنه سيدي
والمتقدم علي والبائن مني.
والمولى قد يكون في اللغة على طريق الولاية وعلى طريق الولاء في العتق وعلى طريق
السؤدد والإبانة في الفضل، واحتمل [اللفظ] هذه الوجوه الثلاثة فبطل الوجهان (1)
من الحديث وثبت الثالث وهو ما قلنا.
على إنا قد بينا استحقاق علي لهذه المنزلة من النبي عليه السلام بما قد ذكرنا من مناقبه
وفضائله، فله علي جميع المؤمنين التقدمة في السؤدد، والفضل بما له عليهم من النعمة
والمنة والشرف (2) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم مولى المؤمنين جميعا بالسؤدد لأن
به تخلصوا من الضلال ودخلوا في نعمة الإسلام حتى استنقذهم بدعائه وأمره وقيامه
وصبره في ساعات الخوف والضيق من شفا الحفرة ومعاطب الهلكة.
ولعلي الفضل عليهم بذبه عنهم بسيفه، وقيامه بالاصطلاء بحروب عدوهم منة ونعمة
استحق بها عليهم السؤدد والتقدم، لأنه قوى بذلك عزائمهم، وأزال الشكوك بفعله
عنهم، وثبت يقينهم، وحاما عن أنفسهم وأموالهم في مواقف مشهورة قد ذكرنا بعضها.
ثم حفظه لما جاء به النبي عليه السلام من الدين والسبق، وعنايته بذلك ينبه عاقلهم
ويعلم جاهلهم، ويقيم الحجة على معاندهم، وسنذكر فضله عليهم في العلم في موضعه.

(1) وقد عرفت أن الوجه الأول - بحسب هذا التقسيم، والثاني بحسب التقسيم الأول - هو الذي أبرمه الله وأتقنه
ولو كرهه المبطلون.
(2) ولأجل هذه التقدمة والسؤدد والفضل والنعمة والشرف اختاره الله تعالى خليفة لنبيه وأمره بأن ينصبه على الناس
ويبلغهم ما أمره الله تعالى، فامتثل رسول الله لأمره تبارك وتعالى فجعله علما وإماما لهم.
218

[حديث المنزلة، وإعطاء رسول الله صلى الله عليه وآله جميع ما له من شموخ
المقام وعلو المنزلة لعلي غير النبوة والرسالة فإنها مقصورة عليه، ومنتهية إليه، ولاحظ
لعلي فيها، فإنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم].
ثم [فكروا في] قوله [صلى الله عليه وآله] في غزوة تبوك: " أنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) فمنازل هارون من موسى معروفة، أولها أنه شريكه في

(1) والحديث مما تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله، وقد خرجه الحافظ أبو حازم العبدوي بخمسة آلاف
إسناد.
كما رواه عنه تلميذه الحافظ الحسكاني في الحديث: (205) من شواهد التنزيل: ج 1، ص 152،
ط 1.
وقال الحافظ الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في حد التواتر، وقد نقل عن شعبة بن الحجاج
أنه قال في قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى ". كان هارون أفضل أمة
موسى عليه السلام فوجب أن يكون علي أفضل من كل أمة محمد صلى الله عليه وآله صيانة لهذا النص
الصحيح الصريح [عن اللغوية].
هكذا رواه عنه في الباب: (70) من كتاب كفاية الطالب ص 283 ط الغري.
وقال أبو عمر في أول ترجمة أمير المؤمنين من كتاب الإستيعاب: وهو [أي حديث المنزلة] من أثبت
الآثار وأصحها.
ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن أبي وقاص - وطرق حديث سعد فيه كثيرة جدا قد
ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره -.
ورواه [أيضا] ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله، وجماعة
يطول ذكرهم.
وذكر الخوارزمي في الفصل: (4) من مقتله: ج 1، ص 48 طبع الغري، أنه رواه (28) نفرا
من الصحابة وذكر أسماءهم.
وقريبا منه حكي عن ابن حجر في كتاب فتح الباري: ج 7 ص 60 وعن وتاريخ الخلفاء ص 168، ومفتاح
النجا ص 43، وينابيع المودة ص 281، والباب: () من كفاية الطالب ص 151.
وقد رواه ابن عساكر في الحديث: (336 - 457) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 1، ص 306 - 395 بأسانيد جمة عن جماعة كثيرة من الصحابة، وقد علقنا عليه أيضا عن
مصادر عديدة.
ورواه البحراني في الباب: (20 و 21) من غاية المرام ص 109 - 126، عن مائة وسبعين طريقا
كما رواه أيضا عن مصادر كثيرة وطرق شتى في بحار الأنوار: ج 37 ص 254 ط 2.
ورواه أيضا العلامة الأميني في كتاب الغ‍ دير: ج 3 ص 197 - 202.
وقد أفرده جمع بتأليف مستقل منهم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي فإنه صنف كتابا في
سرد أحاديث المنزلة عن جمع من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود، كما رواه عنه السيد ابن طاووس
في كتاب الطرائف ص 24.
وقد أفرده السيد مير حامد قدس الله سره بمجلدين ضخمين من كتاب عبقات الأنوار، وبحث عنه سندا
ومتنا، وأتى بما هو فوق المراد.
ورواه ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 59 ط الحديث بمصر، قال:
وروى الواقدي قال: وسئل الحسن البصري عن علي عليه السلام فقال: ما أقول فيمن جمع الخصال
الأربع: بائتمانه على [سورة] براءة، وما قال له الرسول في غزوة تبوك، فلو كان غير النبوة شئ يفوته
لاستثناه، وقوله صلى الله عليه وآله: الثقلان: كتاب الله وعترتي..
219

النبوة، والثانية [أنه] أخوه في النسب، والثالثة: أنه المقدم عند موسى على جميع البشر،
وهذه هي التي وجبت لعلي بن أبي طالب، وهي منزلته من النبي عليه السلام (1).
فإن قال قائل: إن النبي عليه السلام خلف عليا في بعض غزواته، فقال [له:]
أنت مني بمنزلة هارون من موسى في الخلافة، ولم يرد بهذه التقدمة.
قلنا لهم: لا يكون لهذا الكلام معنى إن لم يكن معه التفضيل والتقدمة، ولو أمكن
أن يعني بهذا الخلافة التي [لا] تدل على التفضيل والتقدمة، أمكن أن يعني الولاية
والإنسانية، فيقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى في الولاية، أي: إنك وليي،

(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " وهي بمنزلته من النبي عليه السلام ".
220

وإنك إنسان مثلي كما كان ذلك في هارون وموسى، وهذا ما لا يحتمل هذا الكلام.
ولا يعنيه من له معرفة بما يقول لأن قائلا لو قال لرجل أنت مني بمنزلة الني عليه السلام
يريد في الولاية واسم الإيمان، لكان مخطئا لأنه أتى بالكلام الدال على الفضل دون
الولاية والإيمان، وكذلك لو أن رجلا قال لصاحبه أنت عندي بمنزلة ولدي، علمنا
أنه يريد في الفضل والمحبة، ولا يجوز أن يقول: أنت عندي بمنزلة في أن / 68 / أدخلك منزلي لأنه قد يدخل منزله من لا يعرف عبده من أبيه، وهذا الكلام دال على
قرب المنزلة والتقدم في المحبة (1).
قلنا: فقد بان خطأ تأويلكم، ومما يؤكد خطاؤه، ويوجب ما قلنا [ه] قول النبي
عليه السلام.
وإنما ذكرنا من الحديث ما لا تدفعونه ولا تنكرونه لأنه جاء مجئ السنن التي لا
يمكن دفعها، فقامت حجته ظاهرة، وبلغت صحته واستقامته عند النظر في أسبابه
[بارزة] وتلك آية الحق، وعلامته أنه يزداد عند النظر والتفتيش قوة وبيانا كما يزداد
الذهب عند الحمى جودة وحسنا.
فأين هذه الأحاديث التي ذكرنا [ها] من الأحاديث التي رويتم في أبي بكر وعمر
فيما أوجبتم التقدم لهما على الصديق الأكبر.

(1) وهما ملازمان عن تميزه - أو معلولان عن تفرده - من بين المؤمنين جميعا بخصال محمودة وسجايا مرضية،
وصفات محبوبة عند الله تبارك وتعالى، ولأجل تفرده بتلك المكارم قرب منزلته من النبي وكان أحب الناس
إليه، فقدمه الله على الجميع، واختاره خليفة له، وكونه خليفة له ملازم لكونه مستجمعا لجميع الكمالات،
ومنبعا لكل الخيرات والبركات.
ونعم ما قاله الحسن البصري في كلامه الذي تقدم آنفا: فلو كان غير النبوة شئ يفوته لاستثناه.
ونعم ما أفاده العلامة الطباطبائي عن لسان أهل الحق في المنظومة السهم الثاقب:
وقد كفى فيه حديث المنزلة * فما لهارون جميعا فهو له
إلا النبوة التي استثناها * عنه النبي فهو منتهاها
وآية العموم الاستثناء * وليس في اتصاله خفاء
221

[إبطال بعض ما اختلقه شيعة بني أمية في شأن أبي بكر وعمر، ثم تعقيبه بذكر
لمع من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام التي بثتها لسان النبوة، وأجرى الله لذكرها
أقلام الجماعة]
ورويتم عن النبي عليه السلام أنه قال: " وضعت في كفة، ووضعت أمتي في
كفة فرجحت، ثم وضع أبو بكر فرجح، ثم وضع عمر فرجح ورجح ".
فأوجبتم لعمر بهذا الحديث الرجحان على أبي بكر ومحمد صلى الله عليه لأنه رجح
مرتين؟؟! فهذا من الحديث الذي يعلم باطله عند سماعه.
ورويتم عن النبي صلى الله عليه أنه قال: " لو لم أبعث فيكم لبعث عمر ".
فليس من حكم الله أن يبعث نبيا قد أشرك وكفر.
وقلتم: " لو نزل فيكم عذاب لم ينج إلا عمر " فأوجبتم له التقدمة على علي بأمر
قد تقدم فيه على أبي بكر والنبي عليه السلام.
وقلتم: إن النبي عليه السلام قال ذلك تصويبا لرأيه في أسرى بدر، وقد رأى عبد الله
ابن رواحة مثل رأيه.
وقد رويتم في حديث آخر ما ينقض هذا مع ما فيه من وضوح الخطأ:
ورويتم أن النبي عليه السلام شبة أبا بكر في رأيه بعيسى بن مريم وإبراهيم عليهما
وكيف يأخذ العذاب من أشبه عيسى وإبراهيم عليهما السلام؟ و [كيف قلتم
222

وصدقتم أن] جميع الرأيين صواب؟
ورويتم عن النبي عليه السلام أنه قال: " اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام،
أو بعمر بن الخطاب " فسبقت الدعوة لعمر!!!
وهذا غير جائز كالأول لأنه في العقول مستنكر، وفي حكم الله باطل، لأن من
حكم الله أن
لا يستنصر كافرا (1) ولا يستغفر لمشرك، لقوله: " إنا لننصر رسلنا والذين
آمنوا في الحياة الدنيا " [54 / غافر: 40]. وقال: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى " [113 / التوبة: 9].
ولا نعلم أحدا بلغ من عداوه الله ورسوله والكفر بالله ما بلغه أبو جهل، وتلك
حاله كانت إلى أن مات، فكيف يدعو له النبي عليه السلام بهذه الدعوة، ويبدأ به قبل
عمر؟! وهو ممن استحق من الله اللعنة والخذلان؟!.
أم كيف يتقدم النبي عليه السلام فيدعو لمشرك بمثل هذا الدعاء من غير أمر من
الله؟ وإن كان ذلك بأمر [ه] فكيف والله يعلم أن أبا جهل ممن يزداد على طول الأيام
كفرا ولا يراقب الله، ولا يتوب أبدا؟! فكيف يأمره الله بالدعاء له نصا؟ (2) ومن حكم
الله أن ينصر من نصره، ويعز من أطاعه.
فهذا من الحديث الذي لا شبهة في خطائه، وأنه تقول على رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فأين هذه الأحاديث من الأحاديث التي رويتم في علي بن أبي طالب صلوات الله
عليه في الشهرة والدلالة، ومضيها عند النظر على الاستقامة والصحة؟؟!.

(1) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " أن لا ينصر كافرا ".
(2) يقال: استنصر زيد عمرو: استمده وطلب نصرته. واستنصر فلانا على فلان: سأله أن ينصره عليه.
(2) رسم خط هذه الكلمة لم يكن في الأصل واضحا.
223

فأين [هذه] مما رويتم من قوله عليه السلام: " من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني
فقد آذى الله " (1) " ومن فارقني فقد فارق الله ومن فارق عليا فقد فارقني (2).
وقوله في ذي الثدية: " يقتله خير أمتي بعدي " (3).
وحديث الطير: " اللهم جئني بأحب خلقك إليك يأكل معي [من هذا الطائر] "
فجاء علي [فأكل معه] (4).

(1) وهذا قد رواه الحافظ الحسكاني تحت الرقم: (775) من شواهد التنزيل: ج 2 ص 93 ط 1. في تفسير
قوله تعالى: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذابا أليما ".
وقد رواه أيضا الحافظ الكبير ابن عساكر بطرق جمة في الحديث: (494) وما يليه من ترجمة أمير
المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 1، ص 42 ط 2، وعلقناه عليه عن مصادر.
(2) وله طرق كثيرة ومصادر، وقد رواه أحمد بن حنبل في الحديث: (85) من باب فضائل أمير المؤمنين من
كتاب الفضائل.
ورواه أيضا الطبراني في مسند عبد الله بن عمر كتاب المعجم الكبير: ج 3 / الورق 206 /
ورواه أيضا الحاكم في المستدرك: ج 3 ص 123.
ورواه أيضا الحافظ ابن عساكر في الحديث: (795) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ
دمشق: ج 2 ص 268.
وقد رواه أيضا ممسوخ آل عثمان الجاحظ في كتاب العثمانية ص 134، ط مصر.
(3) و ورد بطرق كثيرة في مصادر جمة عنه صلى الله عليه وآله في قدح الخوارج وتقريض من يقتلهم: " هم
شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخليقة.. ".
(4) والحديث متواتر وله أسانيد ومصادر كثيرة جدا، وقد أفرده جماعة من المحققين بالتأليف، وقد ذكره
ابن عساكر في الحديث: (610) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 2
ص 105 - 159، ب‍ (34) طريقا، وأنهيناه في تعليقه رواية عن كتب القوم إلى (90) طريقا.
224

ولو آثرنا أن نذكر جميع ما في الآثار من مناقبه وفضائله الدالة على تقديمه لطال
ذلك وكثر، وإنما ذكرنا من ذلك جملا، تنبيها لكم على خطائكم واتباعكم أهواءكم
بغير علم ولا حجة.
فإن أردتم معرفة الهدى فيما قلنا - دون ما قلتم من الرواية - فالتمسوا ذلك بالتدبر
/ 69 / لما رويتم [في شأن علي] وإن التمستم معرفة ذلك بالنظر والجواب والمسألة
كان في بعض ما ذكرنا [ه] كفاية وحجة.
225

[في أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان قد فاق العالمين
زهدا وصبرا وعبادة، وكان أزهدهم في الزخارف الدنيوية
وأصبرهم عند الهزاهز والشدائد وأعبدهم في ساحات المناجاة مع الله ومقام العبودية]
ثم ارجعوا إلى النظر في الزهد، ودرجته لتعلموا أن علي بن أبي طالب قد برز على
الزاهدين بزهده وصبره، وسبق العابدين بعبادته (1).
فكان ممن يطعم الطعام على حب الله مسكينا ويتيما وأسيرا (2)

(1) وروى ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 110، ط الحديث بمصر، قال:
وروى زرارة [ابن أعين] قال: قيل لجعفر بن محمد عليه السلام: إن قوما ها هنا ينتقصون عليا عليه
السلام!! قال: بم ينتقصونه لا أبا لهم؟! وهل فيه موضع نقيصة؟ والله ما عرض لعلي أمران قط كلاهما
لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه.
ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له، وينظر إلى عقاب
هؤلاء فيعمل له.
وإن كان ليقوم إلى الصلاة، فإذا قال: " وجهت وجهي " تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه.
ولقد أعتق ألف عبد من كد يده، كلهم تعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه.
ولقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور فقال: بشر الوارث بشر. ثم جعلها صدقة على الفقراء
والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ليصرف الله النار عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار.
أقول: وللحديث شواهد جمة ذكرناها في شرح المختار: (63) من باب الوصايا من كتاب نهج
السعادة: ج 8 ص 445 وما بعدها.
وله أيضا شواهد أخر تجدها في شرح المختار: (34) من نهج البلاغة من شرح ابن أبي الحديد: ج 2 ص 201
(2) وانظر الأحاديث الواردة في تفسير سورة: " هل أتى " من كتاب شواهد التنزيل: ج 2 ص 299 وما يليها.
226

وكان من المؤثرين على أنفسهم وإن كانت بهم خصاصة (1).
وكان من الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس.
وكان من الصابرين على البأساء والضراء.
وكان ممن قسم بالسوية، وعدل في الرعية، ولم يرزأ شيئا من مال الله (2) ولم تدع

(1) وانظر ما رواه الحافظ الحسكاني في تفسير الآية (9) من سورة الصف من كتاب شواهد التنزيل: ج 2 ص
246 ط 1.
(2) لم يرزأ - على وزن يحسب -: لم يصب ولم يؤثر لنفسه شيئا منه.
وهذا الأمر مما تسالم عليه أولياؤه وأعداؤه معا ولم يجد أعداؤه سبيلا إلى إنكاره مع شدة حرصهم على تشويه
ساحته وعلو مقامه بالأخذ بالشبهات والتعلق بالمعضلات.
وقد عرفه رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا قبل أن يكون له ولاية على مال أو كفالة على ثروة أو
غنيمة وأنفال، كما عرفه صلى الله عليه وآله بكثير من مكارم أخلاقه،.
وقد رواه أبو نعيم في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من حلية الأولياء: ج 1، ص 71، قال:
حدثنا أبو الفرج أحمد بن جعفر النسائي، حدثنا محمد بن جرير، حدثنا عبد الأعلى بن واصل،
حدثنا مخول بن إبراهيم، حدثنا علي بن حزور، عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت عمار بن ياسر يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي إن الله تعالى قد زينك بزينة لم تزين العباد بزينة أحب إلى
الله تعالى منها، وهي زينة الأبرار عند الله عز وجل [وهي] الزهد في الدنيا، فجعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا،
ولا ترزأ الدنيا منك شيئا..
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (713 - 714) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من
تاريخ دمشق: ج 2 ص 212 ط 1، وعلقناه عليه أيضا عن مصادر.
ورواه أيضا الحافظ الحسكاني في الحديث: (548 و 549) من كتاب شواهد التنزيل: ج 1، ص 395
ورواه أيضا الطبراني في كتاب الأوسط.. كما رواه عنه في مجمع الزوائد: ج 9 ص 132.
ورواه المتقي الهندي نقلا عن الطبراني والخطيب والحاكم. في كنز العمال: ج 6 ص 158 - 159، ط 1.
227

عليه زلة، ولا تهمة ولا تكبر ولا حمية، وفيه نزلت: " إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " [55 / المائدة: 5] تصديقا
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه " إذ قرن الله ولايته
بولاية رسوله. (1)
وفيه نزلت: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون، أما الذين آمنوا
وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم
النار " [20 / السجدة: 32].
وكان إذا اجتمع عنده مال من مال المسلمين [أنفقه عليهم ثم] قال:
هذا جناي وخياره فيه * وكل جان يده إلى فيه

(1) بنحو الاطلاق بلا قيد وشرط فهو المعصوم في أقواله وأفعاله فيجب متابعته بنحو الاطلاق ولا يجوز مخالفته والتقاعد
عنه كما لا يجوز التخلف عن الله ورسوله، فهو الإمام المتبع والقائد المطاع.
228

[ذكر أعمدة من شوامخ علوه وعظمته وكظمه الغيظ وصبره]
وبلغ من كظمه الغيظ ما رأيتم من صبره على الخليفتين، وما كان من مشاركته
لهم في الأمر، ومؤازرتهم على الرأي [حينما كانا يراجعان إليه عند ضيق خناقهم وعجزهم
عن تدبير ما ابتليا به].
وقد علمتم أنهما لم يشاوراه في عقد الخلافة، ولم يقطعاه قطيعة، ولا ولياه ولاية.
فقد تعلمون ما ظهر من حرص قوم على الولاية، وما كان [برز لهم] من الرغبة
الشاملة (1) [وإنما أذكركم بهذه الحقائق] لتعلموا أن علي بن أبي طالب لم يكن غضبه
ولا رضاه إلا لله تعالى، يغضب إذا عصي ربه، ويرضى إذا أطيع الله، ويسلم ما دامت
له الألفة، ويعين على اجتماع الكلمة، ويكظم ما سوى ذلك مما يناله في نفسه خاصة،
دون الدين.
فقد نازعت زوجته [أبا بكر وعمر] في فدك، وشهد علي [على] دعواها فلم

(1) حيث تركوا تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله ودبوا ودرجوا إلى سقيفة بني ساعدة وأبرموا ما سولت
لهم أنفسهم، ولم يحضروا دفن رسول الله صلى الله عليه وآله.
ثم اقتدى بهم طلحة والزبير، ثم معاوية وجميع من أتى بعده من ظلمة بني أمية وبني العباس.
229

يفد ذلك [في استرجاع فدك إليها] فصبر على مر الحق (1) عندما ظهر [من أبي بكر
وعمر] من [الحرص البالغ والعزم القاطع على] الحكم [عليها] ثم ولي الأمر فأمضى
ذلك على ما لم يزل (2).

(1) عفى الله عنك يا أبا جعفر، كيف ركنت إلى خرافة الحشوية واتباع خرافات ومختلقات معاوية، ورضيت
لنفسك ما تذم به الحشوية؟ أليس من الواضحات الأولية أن منعهم فاطمة الزهراء صلوات الله عليها كان من
أفحش الظلم، وكان أساس كل مرارة وظلامة ابتلي بها الأمة الإسلامية.
يا سبحان الله كيف يكون حقا ما تدعي فاطمة بنت رسول الله التي أذهب الله عنها الرجس - خلافه؟؟؟!!!
يا سبحان الله كيف يكون حقا ما يؤذي بضعة المصطفى التي قال أبوها في حقها: يؤذيني ما يؤذيها،
ويؤلمني ما يؤلمها، ويسخطني ما يسخطها، ويرضيني ما يرضيها.
يا سبحان الله!!! العمل الذي يوجب غضب بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وتهجر القوم
بسببه تبرما منهم وإنكارا عليهم كيف يمكن أن يحمل على الحق؟! فإن كان هذا العمل حقا فلا بد أن يكون
غضب الزهراء باطلا، وأن يكون غضب رسول الله وأذاه من جهة غضب ابنته وأذيتها باطلا، وهذا هو الرد
على رسول الله - وعلى كونه متبعا للحق - الذي كان يخوف أبو جعفر النواصب بأنه موجب للكفر!!!
يا سبحان الله! كيف يكون صنيعهم حقا وقضاؤهم قسطا، ومحور الحق علي بن أبي طالب يشهد
لبنت رسول الله خلافا لحكمهم وقضائهم؟!
أيكون حكمهم حقا وباب مدينة علم النبي على خلافهم!!!؟
أيكون قضاؤهم في أخذ فدك قسطا، وعديل القرآن والحق علي بن أبي طالب الذي يدور مع القرآن والحق
وهما معا يدوران معه، يكون على ضدهم وخلافهم؟؟؟!!
كيف يكون أخذهم فدك حقا وصوت الحق علي بن أبي طالب عليه السلام قد ملأ الدنيا صراخا
وصياحا وشكاية وتظلما بقوله: بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم
وسخت عنها نفوس آخرين!! ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟!.
(3) عفى الله عنك يا أبا جعفر لم تكن بليدا ولا كليل اللسان عن التعبير بالواقع، ما هذا التسامح في البيان، وعدم
العناية للتعبير عن الواقع على ما هو عليه؟ هل يمكن إمضاء الظلم؟ هل تعهد من أولياء الله في آن من آنات
الدنيا أنهم جوزوا الظلم؟! أو تصديق الظالمين ومجاراتهم إياهم في جورهم وعتوهم وطغيانهم؟!!!
معاذ الله أن ينسب إلى خليفة النبي ووصيه أن يمضي ظلم الظالمين أو يوقع أو يصدق جور الجائرين، وهو
نصب للردع عن الظلم، وتشويه أعمال الظالمين، وتقبيح صنيعهم، وتحذير العالمين عن اتباع خطواتهم.
نعم، سكت عليه السلام عن التعرض لاستردادها ولم يسترجعها لما كان تمركز في داخلة المسلمين من الاختلالات
الفادحة والانحرافات الشاسعة، وأراد أن يتدرج في إصلاح الاختلالات حتى لا يتسع الفتق عليه وعلى المسلمين.
وكيف يمكن أن يكون عدم استرداده لفدك في أيام خلافته دالا على إمضائه عمل القوم مع أنه عليه السلام
يشكوهم إلى الله ويقول: ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك؟...
ويقول: اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي وأجمعوا على منازعتي
حقا كنت أولى به من غيري.. فراجع تمام كلامه في المختار: (25 و 215) من نهج البلاغة.
وكيف يمكن أن يتمسك أحد بعدم استرداد علي عليه السلام الفدك إلى أهل البيت، ويتفوه بأن هذا إمضاء
منه عليه السلام لعمل القوم؟ مع ما يلمسه من انحراف قريش عن علي عليه السلام وتقليبهم الأمور عليه،
وإجماعهم على خلافه؟!
وكيف يدل عدم استرجاعه فدكا على توقيعه لعمل القوم؟ وهو القائل: لو قد استوت قدماي من هذه
المداحض لغيرت أشياء. كما في المختار: (275) من الباب الثالث من نهج البلاغة وغيره.
وكيف يصح الاستدلال بعدم تغييره عليه السلام قضاء القوم وسننهم على إمضائه لسننهم؟ مع ما صح
وثبت عنه عليه السلام أنه أجاب القضاة في أيام خلافته وقال لهم: اقضوا على ما كنتم تقضون حتى يكون للناس
اجتماع.
230

[ذكر صفحة من صفحات صبره، وتحمله عن حاسديه ومعانديه وعدم تعرضه
لهم].
وبلغ من صبره أنه قعد عن خلافته قوم فلم يحبسهم ولم يكرههم، وتكلموا فلم
يعاقبهم، ولم ينفهم، وولاهم ما تولوا ولم يفعل بهم كما فعل من ذكرتم بسعد بن
عبادة (1)، وكما رويتم من نفي عثمان بن عفان لأبي ذر إلى الربذة، وما فعل بعمار وابن
مسعود وغيرهم.

(1) روى ابن عبد ربه تحت الرقم الثالث من كتاب العسجدة الثانية من العقد الفريد: ج 3 ص 63 ط 2، وفي
ط 2: ج 5 ص 13، قال:
الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر [هم]: علي والعباس والزبير وسعد بن عبادة.
فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم
من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم!!!.
فأقبل [عمر إلى بيت فاطمة] بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار!! فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن
الخطاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة!!..
وساق الكلام إلى أن قال:
وأما سعد بن عبادة فإنه رحل إلى الشام. قال أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي: بعث عمر رجلا إلى
الشام فقال [له]: ادعه إلى البيعة واحمل له بكل ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن الله عليه.
فقدم الرجل الشام: فلقيه بحوران في حائط فدعاه إلى البيعة، فقال [سعد]: لا أبايع قرشيا أبدا.
قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتني. قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا
خارج. فرماه بسهم فقتله.
وأيضا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: [وعن] ميمون بن مهران، عن أبيه قال: رمي سعد بن عبادة
في حمام بالشام فقتل.
[وعن] سعيد بن أبي عروبة، عن ابن سيرين قال: رمي سعد بن عبادة بسهم فوجد دفينا في جسده
فمات فبكته الجن فقالت:
وقتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين * فلم تخط فؤاده
وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار: (62) من الباب: (2) من نهج البلاغة: ج 17، ص 223:
الطعن الثالث عشر على أبي بكر قولهم: إنه كتب إلى خالد بن الوليد وهو على الشام يأمره أن يقتل
سعد بن عبادة، فكمن له [خالد] هو وآخر [كان] معه ليلا، فلما مر بهما [سعد] رمياه فقتلاه!.
وهتف صاحب خالد في ظلام الليل - بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين:
نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين * فلم تخط فؤاده
يوهم أن ذلك شعر الجن، وأن الجن قتلت سعدا. فلما أصبح الناس فقدوا سعدا، وقد سمع قوم منهم
ذلك الهاتف فطلبوه فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر وقد أخضر فقالوا: هذا مسيس الجن.
وقال مؤمن الطاق لسائل سأله: ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة؟ فقال: يا ابن أخي خاف
أن تقتله الجن!!
ثم قال ابن أبي الحديد: الجواب: أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا، ولا أن هذا شعر الجن،
ولا أرتاب أن البشر قتله، وأن هذا الشعر شعر البشر، ولكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا [بقتل
سعد] ولا أستبعد أن يكون [خالد] فعله من تلقاء نفسه ليرضي بذلك أبا بكر - وحاشاه - فيكون الإثم على
خالد، وأبو بكر برئ من إثمه، وما ذلك من أفعال خالد ببعيد.
أقول: وقريبا مما نقلناه أولا عن ابن عبد ربه رواه أيضا البلاذري في آخر ترجمة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قبل ذكر مراثيه من كتاب أنساب الأشراف من النسخة المخطوطة: ج 1 / الورق 141 / عن
المدائني، عن ابن جعدبة، عن صالح بن كيسان. وعن أبي مخنف، عن الكلي وغيرهما.
232

[ذكر نبذة من عوالم عفوه وغفرانه، وغضه عمن أساء إليه وظلمه].
وبلغ من عفوه أنه يوم الحكمين كان في يده أسرى من أهل الشام فخلى سبيلهم.
ومنعوه الماء ولم يمنعهم.
ونادى يوم الجمل عند الطعن: أن لا تقحموا منازلهم، ولا تغنموا أموالهم، ولا
تتبعوا المولي منهم (1).

(1) وكل ذلك من سيرته الميمونة من مقطوعات علم التاريخ، وقلما يوجد تاريخ يتعرض لأيام أمير المؤمنين وسيرته
ويكون خاليا عن ذكر هذه المكارم والمحاسن المخصوصة به عليه السلام.
وروي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فقال له رجل من الخوارج: قاتله الله كافرا ما أفقهه!!
فوثب أصحابه ليقتلوه فقال [لهم]: رويدا إما سب بسب أو عفو عن ذنب.
كما رواه السيد الرضي في المختار: (420) من باب القصار من نهج البلاغة.
وروي ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 109، طبع الحديث
بمصر، قال:
وروى زرارة بن أعين عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام قال: كان علي عليه السلام
إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس
فيعلمهم الفقه والقرآن. وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوما فمر برجل، فرماه [الرجل] بكلمة
هجر قال: [و] لم يسمه محمد بن علي عليه السلام - فرجع عوده إلى بدئه حتى صعد المنبر وأمر فنودي
الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال:
أيها الناس إنه لا شئ أحب إلى الله ولا أعم نفعا من حلم إمام وفقهه، ولا شئ أبغض إلى الله ولا أعم
ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنه من
أنصف من نفسه لم يزده الله إلا غزا، ألا وإن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته. ثم قال:
أين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الانكار فقال: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين. فقال: أما إني لو أشاء لقلت. فقال:
إن تعف وتصفح فأنت أهل ذلك. قال: عفوت وصفحت.
234

[ذكر أشعة من أنوار إفضاله على المعدمين، وإيثاره إياهم على نفسه وأهل بيته
الطاهرين].
وبلغ من تفضله وإيثاره على نفسه، أن عمر سأله سهمه من الفئ - وهو سهم ذي
القربى - ليعود به على المسلمين فجادلهم به تفضلا وكرما (1).

(1) وللقصة مصادر وشواهد، وقد ذكرها البيهقي في باب سهم ذي القربى من كتاب قسم الفئ والغنيمة من
السنن الكبرى: ج 6 ص 343 قال:
أخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأنا الربيع، أنبأنا
الشافعي، أنبأنا إبراهيم، عن مطر الوراق ورجل لم يسمه كلاهما عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمان
ابن أبي ليلى قال:
لقيت عليا عند أحجار الزيت فقلت له: بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من
الخمس؟ فقال علي: أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه.
وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاءه مال السوس والأهواز - أو قال: الاهوازء أو قال: فارس.
قال الشافعي: أنا أشك، فقال في حديث مطر أو حديث آخر - فقال: في المسلمين خلة فإن أحببتم
تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه؟ فقال العباس لعلي: لا تطمعه
في حقنا. فقلت له: يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين؟ فتوفي عمر قبل أن
يأتيه مال فيقضيناه.
وقال الحكم في حديث مطر، والآخر: إن عمر قال: لكم حق ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم
كله، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم؟! فأبينا عليه إلا كله، فأبى أن يعطينا كله.
قال الشافعي فيما لم أسمعه من أبي زكريا -: وقد روى الزهري عن ابن عباس، عن عمر قريبا من
هذا المعنى، وذكره في القديم من حديث يونس عن الزهري.
أقول: وقريبا منه جدا رواه قبله مع شواهد أخر بأسانيد أخر.
235

ومما يحقق ذلك ما يؤثر عنه من حديث المقداد: ذكروا أن عليا قال يوما لفاطمة:
هل عندك شئ تطعميني؟ قالت: لا والله يا أبا الحسن ما عندنا منذ ثلاث، شئ إلا
شئ أوثرك به على نفسي وعلى ابني! قال لها: فهلا أعلمتيني؟ قالت: إني لأستحيي
من ربي أن أكلفك ما لا تقدر عليه!!

وأما ما ذكره في صدر هذا الحديث: من أن أبا بكر لم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه.
فهو معارض بما ذكره البيهقي في أوائل هذا الباب ص 342 من أن أبا بكر كان يقسم الخمس غير أنه لم يكن
يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان النبي يعطيهم منه.
ومثله رواه أحمد بسند صحيح، كما رواه عنه الهيثمي في باب قسم الغنيمة من مجمع الزوائد: ج 5
ص 341.
وأيضا يدل على خلاف هذا الصدر دلالة قطعية ما هو من ضروريات التاريخ من أن أبا بكر وصاحبه
قطعا فدك عن ابنة رسول الله وغصباها منها.
والحديث رواه أيضا الحافظ الحسكاني تحت الرقم: (294) من شواهد التنزيل: ج 1، ص 219
وقال: رواه جماعة عن هاشم.
وهكذا رواه البخاري في ترجمة الحسين بن ميمون الخندقي تحت الرقم: (2860) من التاريخ الكبير:
ج 1، ق 2 ص 385، ولكن جرى على منهاجه الانحرافي فأسقط ذيل الحديث بلا نصب قرينة،
ولكن لم يناقش في سند الحديث.
ولذيل الحديث أيضا شواهد كثيرة جدا وقد ذكر ثلاثة منها البيهقي بعد الرواية المتقدمة، كما تجد أيضا
شواهد أخر في الموضع المذكور من شواهد التنزيل وتعليقه، وكذلك في أول كتاب قسم الفئ من المستدرك:
ج 2 ص 128.
ورواه أيضا عبد الرزاق في باب ذكر الخمس وسهم ذي القربى من كتاب الجهاد تحت الرقم: (9480)
من المصنف: ج 5 ص 238:
عن معمر عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن سهم ذي القربى؟ [ف‍] قال: كان لنا فمنعناه قومنا!!!
فدعانا عمر فقال: ينكح فيه أياماكم ويعطى فيه غارمكم. فأبينا [عليه] فأبى [علينا] عمر.
ورواه أيضا أحمد بن حنبل في مسند عبد الله بن عباس تحت الرقم: (1967 و 2235 و 2812 و 2943
و 3299 في: ج 1 ص 224 و 296 و 308 و 320 ط 1، وهذا نص الحديث: (2943) في ص 320 ط 1،
وفي ط 2 ج 4 ص 338 قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثني يونس عن الزهري، عن يزيد بن هرمز: أن
نجدة الحروري حين خرج من فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن
تراه؟ قال: هو لنا لقربي رسول الله صلى الله عليه قسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وقد كان عمر عرض علينا
شيئا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن
غارمهم، وأن يعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك.
236

فخرج [علي] من عندها فتحمل دينارا أخذه قرضا فتلقاه المقداد نصف النهار، وقد
وضع المقداد كمه على رأسه من شدة الحر، فقال له علي: ما أخرجك في هذه الحال
وأراك كالحيران؟ قال: خلني ولا تسألني. قال: لتخبرني. قال: خلني يا أبا الحسن
ولا تكشفني. قال: يا أخي إنه لا يسعني أن أخليك، ولا يسعك أن تكتمني. قال / 70 /
خرجت من منزلي هاربا على وجهي وذلك لأني رأيت صبياني ينضاغون جوعا (1) فلم
يقو على ذلك صبري.
فأخرج علي الدينار فدفعه إليه، ثم قال: ما أخرجني إلا ما أخرجك. ثم مضى
علي إلى المسجد.
فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاة المغرب خرج من المسجد، وركض عليا
برجله وأتبعه علي فوقف على باب المسجد، فلما لحقه قال له النبي عليه السلام: هل
عندك عشاء؟ قال علي: فكرهت أن أقول نعم. وقد علمت أني لم أخلف في منزلي
شيئا، واستحييت أن أقول: لا. فقال لي: إما [أن] تقول: نعم، فنمضي معك،
وإما أن تقول: لا فندعك. قال: فقلت: نمضي يا رسول الله. فمضى هو وعلي إلى
منزل فاطمة، فلما دخل قال النبي عليه السلام: هاتي ما عندك يا فاطمة. قال: فأخرجت
إليه مائدة عليها طعام طيب لم أر أحسن منه لونا، ولا أطيب ريحا. فنظر إليها علي نظرا
وأحد النظر، فقالت: ما أشد نظرك يا أبا الحسن. قال: وكيف لا يكون كذلك وقد
زعمت أنه لا شئ عندك. فقالت: والله ما كذبتك. فقال له النبي عليه السلام:
هذا رزق من الله بدل دينارك، الحمد لله الذي جعلك مثلا لزكريا عليه السلام، وجعلها
مثلا لمريم: " كلمات دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى
لك هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من شاء بغير حساب " [37 / آل
عمران:] (2).

(1) أي يبكون من الجوع، ويتضورون ويتلوون ظهرا لبطن.
(2) وهذا الحديث ذكره ابن شاهين قي رسالته التي جمعها في فضائل الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما
وعلى آلهما، وقد كتبتها بخط يدي، ولكن لم تكن تحضرني حينما حققت هذا الكتاب.
وقد رواه أيضا عنه الحافظ ابن شهرآشوب.
ورواه أيضا عن ابن شيرويه في مناقب آل أبي طالب: ج 1، ص..
ورواه عنه في الباب: (102) من كتاب بحار الأنوار: ج 9 ص 515 ط 1
وقد رواه أيضا ابن عساكر في كتاب الأربعين الطوال. كما رواه عنه المحب الطبري في ذخائر العقبى ص 45
وعنه رواه في فضائل الخمسة: ج 2 ص 124
237

وبلغ من صبره ما إن كان الجوع إذا اشتد به وأجهده خرج حتى يؤجر نفسه في
سقي الماء بكف تمر لا يسد جوعته ولا خلته، فإذا أعطى أجرته لم يستبده به وحده
حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه من الجوع مثل ما به، فيشتركان جميعا
في أكله (1).
فأين مثل هذه إلا له؟ [ظ] قيمة قميصه ثلاثة دراهم، ونفقته في كفه! ولقد
أخرج يوما سيفه فقال: من يشتري هذا مني، فلو كان عندي إزار ما بعته (2).

(1) وبهذا السياق رواه أحمد بن حنبل في مسند علي عليه السلام تحت الرقم: (1135) من كتاب المسند:
ج 1، ص 135، ط 1، وفي ط 2: ج 2 ص 262.
ورواه أيضا في مسنده عليه السلام تحت الرقم: (687) من كتاب المسند: ج 1، ص 90
ط 1، وفي ط 2: ج 2 ص 82 ولكن باختصار.
كما رواه أحمد محمد شاكر في هامش الحديث: (1135) منه نقلا عن مجمع الزوائد: ج 41 ص 97 وقال: ونسبه
أيضا لابن ماجة باختصار.
أقول: ورواه على وجه آخر وبسند آخر في الحديث: (229) من المطبوع من كتاب الموفقيات ص
373 ط بغداد.
كما رواه أيضا ابن أبي الدنيا في الحديث: (16) من كتاب الجوع / الورق 2 / ب /.
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (966) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق:
ج 2 ص 449 ط 1، على وجه آخر وبسند آخر.
ورواه في منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 56، عن أحمد والدورقي
وابن مييع وعن حلية الأولياء.
(2) ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1235) وما بعده من ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق: ج 3
ص 189، ط 1، وانظر ما قبلهما وما بعدهما وما علقناه عليهما فإنها تغنيك عن غيرها.
ورواه عنه وعن يعقوب بن سفيان وأوسط الطبراني وحلية الأولياء في باب: " سيرته وفقره وتواضعه "
من منتخب كنز العمال المطبوع بهامش مسند أحمد: ج 5 ص 56 ط 1.
238

فهل ترون أحدا من الصحابة بلغ هذه المنزلة؟
ولما فرغ من حرب الجمل دعا بالعرفاء، فقالوا: قتلهم؟ ودعا بالوكلاء فقالوا:
قتلتهم؟ فقال: بالله تخوفوني؟ هذا قميصي من نسج أهلي، وهذه نفقتي في كمي،
والله إن خرجت بغير ما دخلت إني إذا لمن الظالمين (3)

(1) وقريبا منه رويناه عن مصدر آخر في المختار: (127) من نهج السعادة ج 1، ص 413 ط بيروت.
239

[ثواقب شواهد زهده وتواضعه وكلامه عليه السلام في نعت الكملين من الشيعة
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. وبيان مالية ما خلفه من ثيابه].
ويروى أن قوما تذاكروا أزهد أصحاب النبي عليه السلام عند عمر بن عبد العزيز
فقال قوم: عمر. وقال قوم: أبا ذر. فقال عمر بن عبد العزيز: [أزهد الناس]
علي بن أبي طالب (1).
وكيف لا يكون كذلك، وقد قام فيهم يوما خطيبا فقال: ما رزأت من أموالكم
شيئا إلا هذه القارورة أهداها إلي دهقان (2).
وكان يجمع [الفقرأ] فيعطيهم الطعام ويجعلهم الرفقاء، فإذا أخذوا أمكنتهم جاء
إلى رفقة منها فقال: هل أنتم موسعون؟ فيقولون: نعم. فيجلس فيأكل معهم (3).

(1) قال ابن أبي الدنيا في الحديث: (96) وتاليه من مقتل أمير المؤمنين عليه السلام / الورق 14 / ب /:
أنبأنا أحمد بن حاتم الطويل، أنبأنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي:
عن قبيصة بن جابر، قال: ما رأيت في الدنيا أزهد من علي بن أبي طالب.
[وقال مجالذ أيضا:] أبنأنا علي بن الجعد، قال: سمعت الحسن بن [صالح بن] حي قال:
تذاكروا زهاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه عند عمر بن عبد العزيز فقال بعضهم عمر. وقال بعضهم:
فلان. فقال عمر بن عبد العزيز علي عليه السلام.
والثاني رواه أيضا في الحديث: (355) من كتاب ذم الدنيا / الورق 43 / أ /.
ورواه ابن عساكر بسنده عن يحيى بن معين، عن علي بن الجعد.. " في الحديث: (1254) من
ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 202 ط 1.
وراجع أيضا الأحاديث التي رواها قبله فإنها تريك زهد علي عليه السلام ملموسا وأنه لا زاهد غيره.
(2) وهذا رويناه عن مصادر كثيرة في المختار: (126) من نهج السعادة: ج 1، ص 411، ط 1.
ورواه أيضا ابن عساكر في الحديث: (1227) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق ج 3 ص 181،
كما رواه أيضا ابن أبي الحديد في شرح المختار: (34) من نهج البلاغة ج 2 ص 198.
(3) وانظر الحديث: (122) وما حوله من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف: ج 2
ص 136، ط 1.
240

فمن بلغ هذه المنزلة؟ في تواضعه وزهده، يخدمهم بنفسه، ويقدمهم قبله، ويكون
دونهم في منازلهم.
وكان ربما حضرت الصلاة، وقد غسل قميصه، فلا يكون عنده غيره فيلبسه
قبل أن يجف، فيجففه وهو يخطب (1).
فمن بلغ هذه المنزلة في لباسه؟
وذكروا أنه كرم الله وجهه خرج يوما، فإذا قوم جلوس فقال: من أنتم؟ فقالوا:
نحن شيعتك يا أمير المؤمنين. فقال: سبحان الله فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟
قالوا: يا أمير المؤمنين وما سيماء الشيعة؟ قال: عمش العيون من البكاء، خمص البطون
من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة
الخاشعين (2).
وذكروا أنه صلى يوما صلاة الفجر / 71 / فلما سلم انفتل عن يمينه، ثم مكث
ساعة كان عليه الكآبة، ثم قلب يده، ثم قال (3):
والله لقد رأيت أصحاب محمد عليه السلام، فما أرى اليوم إنسانا يشبههم،
لقد رأيتهم يصبحون صفرا شعثا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزي، قد باتوا لله سجدا
وقياما، يتلون كتاب ربهم، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا
الله جل ثناؤه مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم.

(1) ورواه أيضا ابن أبي الحديد.
(2) ورويناه أيضا في المختار: (108) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 412
عن مصادر أخر.
(3) وهذا الكلام له مصادر كثيرة.
ورواه أيضا السيد الرضي رحمه الله في ذيل المختار (5 0) من نهج البلاغة.
كما رويناه أيضا في المختار: (344) من نهج السعادة: ج 2 ص 636.
241

والله لكان القوم باتوا غافلين. ثم نهض.
[وإنما ذكرنا من سيرته الميمونة أشعات، ومن كلامه الجاذب بأعناق العباد إلى
الله قبسات] لتعلموا أن بالاعتبار والفكرة نال هذه المنازل الرفيعة، وأنه يزداد على طول
الأيام جدا وتشميرا لا يقصر ولا يتوانى.
وكان رضي الله عنه إذا أتي بغلة ماله من ينبع اشترى الزيت والعجوة واللحم، فيتخذ
لنفسه ثريدا يأتدمه (1) ويطعم الناس اللحم [و] ذلك معروف منه أيام كان بالكوفة.
وذكروا أنهم قوموا ما خلف من الثياب فبلغ ثمنها تسعة دراهم.

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: " ثريدا يرم.. "
242

[عيادة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة العلاء بن زياد الحارثي وكلامه
معه ومع أخيه عاصم بن زياد].
وذكروا أنه لما قدم البصرة دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده (1) فلما رأى
سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا [و] أنت إليها في الآخرة أحوج.؟
وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتؤدي
فيها الحقوق، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.
قال [العلاء] يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد.
قال: وما له؟ قال: لبس العبا وتخلى عن الدنيا. قال: علي به. فأتي به، فقال
[له]: يا عدو نفسه أما رحمت أهلك وولدك؟ أترى الله أحل لك الطيبات، وهو
يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك.
قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، وجشوبة مأكلك؟
قال: ويحك! إني لست كأنت، إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم
بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره (2).

(1) ومثله في المختار: (207) من نهج البلاغة، والصواب: " الربيع بن زياد الحارثي " كما في المختار:
(114) من نهج السعادة: ج 1، ص 341 ط 1.
(2) أي كيلا يهيج بالفقير فقره ولا يغلبه. يقال: " باغ بفلان الدم - على زنة باع - وتبيغ به ": هاج و " تبوغ
به الدم تبوغا ": هاج. وباغه بوغا: غلبه.
243

فتفهموا عباد الله وتدبروا ما ذكرنا [ه] من أمور الطاهر الزكي العدل الرضي،
سيد المؤمنين، وراحم المساكين، وقوة المستضعفين، وشريك الفقراء، وأمين الضعفاء،
وجابر الكسير، ومغني اليتيم، والمساوي بعدله بين القريب والبعيد، [وهو] تعب نصب
في جنب الله أيام حياته، منقطع القرين في زمانه، في كل مذكور من فضائله، هو
كالأب الرحيم بمن وليه، يغذوهم صغارا، ويعدل عليهم كبارا، ويوردهم المناهل
العذبة، يكلؤهم بعينه، ويقدمهم على نفسه في أيام حياته،
244

[وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عند إشرافه على الخلاص من دار التعب
والعناء ولحوقه بالملأ الأعلى] (1).
فلما احتضر وأيقن بمفارقة الدنيا، والقدوم على ربه، جمع ولده وأهله ثم أقبل
على الحسن ابنه فقال:
يا بني أنت أولى بالأمر بالدم بعدي، فإن عفوت فلك، وإن قتلت،
فضربة مكان ضربة ولا تمثل.
ثم قال: أكتب يا بني:
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين
كله ولو كره المشركون صلى الله على محمد وعلى أهل بيته.
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت
وأنا من المسلمين.
ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه / 72 / كتابي [هذا]

(1) ولهذه الوصية الشريفة أسانيد ومصادر جمة في كتب المسلمين، وذكرها السيد الرضي رحمه الله في المختار:
(47) من الباب الثاني من نهج البلاغة، وذكرناها بمناسبات مختلفة في غير واحد من أبواب نهج السعادة
فراجع.
245

من المؤمنين بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: صلاح ذات البين أفضل من
عامة الصلاة والصوم.
وانظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهون الله عليكم الحساب.
والله الله في اليتامى فلا تغبوا أفواههم (1) ولا يضيعوا بحضرتكم، فإني سمعت نبي
الله عليه السلام يقول: من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة كما أوجب
لآكل مال اليتيم النار.
والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم.
والله الله في جيرانكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم.
والله الله في الفقراء والمساكين فشاركوهم في معيشتكم.
والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، فإنما يجاهد في سبيل الله
رجلان: إمام مهدي أو مطيع لله مقتد بهداه (2).
والله الله في ذرية نبيكم (3) عليه السلام، لا تظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون
على الدفع عنهم.

(1) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، أي تعاهدوا شؤونهم بحيث لا ينقطعون عن المأكل والمشرب في وقتهما
كيلا يكونوا من جهة فقدان الغذاء والشراب كالماشية التي تورد الماء يوما وتترك يوما.
والكلام على الكناية والاستعارة، ويصح أيضا أن يكون من قولهم: " أغب القوم ": جاءهم يوما وتركهم
يوما:
وفي أصلي: " فلا تغبون أفواههم ". ويحتمل أيضا أنه مصحف عن " فلا تغبن أفواههم " أي فلا تفسدن
أفواههم، ولا تصيرن شفاههم منتنة من جهة عدم سبيلهم إلى الأكل والشرب في وقتهما. والمال واحد.
(2) هذا هو الصواب الموافق لما ذكرناه في المختار: (65) من باب الوصايا من نهج السعادة: ج 8 ص 479،
وفي أصلي هنا: " أو مقتذي بهداه.. ".
(3) هذا هو الصواب المذكور في كثير من المصادر، وفي الأصل: " والله الله في ذمة نبيكم.. ".
246

والله الله في الضعيفين، النساء وما ملكت أيمانكم، لا تخافن في الله لومة لائم،
يكفكم الله من أرادكم وبغى عليكم، قولوا الناس حسنا كما أمركم الله.
لا تتركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي الله الأمر شراركم، ثم تدعون
فلا يستجاب لكم.
عليكم يا بني: بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، تعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حفظكم الله أهل البيت، وحفظ فيكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام.
ثم لم ينطق إلا ب‍ " لا إله إلا الله " حتى قبضه الله إليه، بيض الله وجهه وشرف
مقامه، فقد اجتهد في مرضاة الله نفسه، وقام بوصية الله في حياته وعند موته.
فقام الحسن ابنه خطيبا صبيحة قتل أبوه في العشر الأواخر من رمضان، فقال:
لقد قتلتم رجلا ما سبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون.
وجعل خاتمه في إصبعه السبابة، ثم قال:
إن عليا والله ما ورثنا درهما ولا دينارا ولا فضة ولا ذهبا إلا شيئا في خاتمي هذا ما
عدا (1) ثلاثمائة درهم بقيت من عطائه ادخرها ليتصدق بها يوم فطره، فما هي لنا (2).
فهذه حاله في زهده، وما لم أذكره أكثر.

(1) لعل هذا هو الصواب، وفي أصلي: " إلا سافي خاتمي هذا ما جاء ثلاثمأة درهم.. "
فإن صح ما ذكرناه فلعل معنى قوله: " إلا شيئا في خاتمي هذا.. " أي إلا فضة كائنة في خاتمي هذا
والظاهر أنه عليه السلام كان يومئذ لبس خاتم أبيه أمير المؤمنين عليه السلام.
(2) لم أظفر بالحديث بهذا السياق في غير هذا المورد.
247

[لمعات من عدله عليه السلام في أهله ورعيته، وقبسات من أقواله وأعماله في جذب
النفوس إلى الله تعالى، وإيصال الحقوق إلى أهلها ووضعها في موضعها].
ثم عدله في سيرته وإشرافه على عياله يسوي بينهم في عطائه، ويواسي بينهم بماله.
وذكروا أنه ولي رجلا من ثقيف " عكبرا " فقال له: بين يدي أهل الأرض الذين
[كان] عليهم [الخراج: لتستوفي خراجهم ولا يجدون فيك رخصة] ولا يجدون فيك
ضعفا (1).
ثم قال له: عد إلي عند الظهر قال: فلما رحت إليه دخلت عليه وليس بيني وبينه
حجاب، وإذا [في] جنبه كوز فيه ماء وقدح، قال: ودعا بطينة مختومة (2) فأتي
بها، فقلت عند نفسي: كل هذا قد نزلت عند أمير المؤمنين يريني جوهرا، وظننت

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما رواه ابن عساكر في الحديث: (1249) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من
تاريخ دمشق: ج 3 ص 198، ط 1.
وما وضعناه بين ثاني المعقوفين أيضا مأخوذ منه. وفي أصلي هكذا " فقال له بين يدي أهل الأرض
الذي عليهم ولا يجدوا فيك ضعفا ".
(2) كذا في الأصل غير أن الكاتب كان ترك إثبات نقطتي الياء والتاء هكذا: " بطنه ".
والقصة ذكرناها في المختار: " 166 " من نهج السعادة: ج 2 ص 44 عن مصادر وفيها: " بطيبة ".
وذكره في هامش حلية الأولياء نقلا عن بعض نسخها: " بظبية ". وقال بعضهم: الظبية: جريب من جلد
ظني عليه شعره.
248

أن فيها جوهرا، فكسر الخاتم ثم صب الماء (1) في القدح، فإذا سويق فشرب، ثم
سقاني ولم أصبر أن قلت: يا أمير المؤمنين أبالعراق تصنع هذا؟ العراق أكثر خيرا
وأكثر طعاما؟! فقال لي: إني لست لشئ أحفظ مني لما ترى إذا خرج عطائي ابتعت
منه ما يكفيني، وأكره أن يفنى فيزاد فيه من غيره، وأكره أن أدخل بطني إلا طيبا
ثم أمر بها فختمت ثم رفعت.
ثم أقبل علي فقال: إني لم أقل لك الذي قلت بين يدي أهل الأرض، إلا أنهم
قوم خدع / 73 / فإذا قدمت على القوم (2) فانظر ما أمرك به، فإن خالفتني وأخذك الله
به دوني (3) وإن بلغني خلاف ما آمرك به عزلتك إن شاء الله إذا قدمت على القوم فلا تبغين
فيهم كسوة شتاء ولا صيف، ولا درهما ولا دابة، ولا تضربن رجلا سوطا لمكان درهم
ولا تقمه على رجليه (4).
قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذن أرجع كما ذهبت؟ قال: وإن رجعت فإنا لم
نؤمر أن نأخذ منهم إلا العفو (5).
قال: فرجعت فما بقي علي درهم إلا أديته.

(1) وقد شطب في أصلي على لفظ: " الماء " ولكن الظاهر أنه سهو من الكاتب. وفي تاريخ دمشق: للحافظ
ابن عساكر: من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام: " فكسر الخاتم فإذا فيها سويق، فأخرج منه وصب في
القدح، فصب عليه ماءا فشرب وسقاني... ".
(2) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " فإذا قدمت على القوم - فلا خير فيهم - فانظر ما أمرك به " ولكن كاتب
الأصل كان قد شطب على لفظي: " فلا خير " دون لفظة: " فيهم ".
(3) كذا في الأصل، وفي تاريخ دمشق: " ولكني آمرك الآن بما تأخذهم به، فإن أنت فعلت وإلا أخذك الله
به دوني.. ".
(4) كذا في أصلي، غير أنه كان فيه: " كسوة شتى... ".
وفي ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: " فلا تبيعن لهم رزقا يأكلونه، ولا كسوة شتاء
ولا صيف، ولا تضربن رجلا منهم سوطا في طلب درهم، ولا تقمه [ظ] في طلب درهم فإنا لم نؤمر بذلك.
ولا تبيعن لهم دابة يعملون عليها إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو ".
(5) أي الفاضل عما يحتاجون إليه في شؤوناتهم وجهات معيشتهم وحياتهم، والظاهر أن هذا هو المراد في قوله
تعالى في الآية: (219) من سورة البقرة: " ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل: العفو ".
249

[دخول أبي صالح بيت الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وإحضارهم الطعام
له، وقوله لهم: أتطعموني هذا الطعام وأنتم الأمراء].
وذكروا أن رجلا يكنى أبا صالح دخل على أم كلثوم بنت علي فقالت: إئتوا أبا
صالح بطعام. قال: فأتوني ب‍ (مرقة) فيها حبوب فقلت: أتطعموني هذا وأنتم الأمراء؟
قالت: فكيف لو رأيت أمير المؤمنين عليا وأتي بأترج فأخذ الحسن أترجة منها فانتزعها
من يده وقسمها بين المسلمين (1).
وكان [عليه السلام] يؤتى بالرمان فيقسمه في المساجد (2).
وكانت له امرأتين، فإذا كان يوم أحدهما اشترى [لها] بنصف درهم لحما (3)
وكان يقول رحمه الله: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر
علمك، ويعظم حلمك، وتباهي الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله،
وإن أسأت، استغفرت الله.
ولا خير في الدنيا إلا لرجلين، رجل أذنب ذنوبا فهو يتدارك ذلك بتوبة، أو

(1) ورويناه في تعليق الحديث: (232) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 2 ص 140.
ط 1. نقلا عن أحمد بن حنبل.
ورواه أيضا أحمد بن حنبل في الحديث: (24) من باب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب الفضائل.
(2) وانظر الحديث: (125) من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من أنساب الأشراف: ج 2 ص 137
(3) ببالي أنه ذكره أحمد بن حنبل في الحديث: (...) من باب فضائل علي عليه السلام من كتاب الفضائل.
250

رجل يسارع في الخيرات (1).
ولا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل (2).
وكان يقول رضي الله عنه: أنا يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظلمة (3).
وكان رضي الله عنه يقسم ما في بيت المال، ثم يكنسه ويصلي فيه رجاء أن تشهد
له عند الله يوم القيامة (4).
وكان يدعو اليتامى، فيطعمهم العسل، وما حضر حتى قال بعضهم: لوددت
أنني كنت يتيما (5).
و [كان] يقول: قد تأتينا أشياء نستكثرها إذا جاءتنا، ونستقلها إذا قسمناها،
وإنا لنقسم القليل والكثير.
ولقد رئي عليه إزأر مرقوع، فعوتب في لباسه فقال رضي الله عنه: يخشع به القلب

(1) وللكلام مصادر جمة، ورواه أيضا السيد الرضي في المختار: (94) من الباب الثالث من نهج البلاغة.
(2) ورواه أيضا في المختار: (95) من باب قصار كلام أمير المؤمنين عليه السلام من نهج البلاغة، وله أسانيد ومصادر كثيرة.
(3) وفي المختار: (316) من الباب الثالث من نهج البلاغة: " والمال يعسوب الفجار ".
قال السيد الرضي رحمه الله: ومعنى ذلك: أن المؤمنين يتبعونني والفجار يتبعون المال كما تتبع النحل
يعسوبها وهو رئيسها.
(4) وقال عبد الله بن أبي الدنيا: حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن
أبي البختري وميسرة [قالا]: إن عليا كرم الله وجهه قسم ما في بيت المال حتى لم يبق فيه إلا أربعة، فأمر
بها فقسمت، فقيل له في ذلك، فقال: لا والله حتى تبعر فيه الغنم.
هكذا رواه ابن أبي الدنيا في الحديث: (354) من كتاب ذم الدنيا / الورق 34 / أ /.
(5) وهذا وما بعده رواه في الحديث: (122) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من كتاب أنساب الأشراف:
ج 2 ص 136، ط 1.
ورواه أيضا أحمد بن حنبل وفي الحديث: (..) من باب فضائله عليه السلام من كتاب الفضائل.
251

ويقتدي به المؤمن.
وكان إذا ورد عليه المال يقول: أيها الناس هلموا إلى مالكم فخذوه، فإنما أنا
لكم خازن.
ثم يقسمه على الأحمر والأسود حتى لا يبقى شئ.
ولقد بلغني أنه كان يقسم بين المسلمين الابزار يصرها لهم صررا (1).
فهذه منازله في زهده، وسيرته في عدله، وما لم يذكر من أموره أكثر وأشهر.
فهل تذكرون لأحد ممن قدمتموه عليه مثل ما ذكرنا [ه] عنه؟ فعمر وإن كان
زاهدا فلم يبلغ هذه الغاية، ولم يصر إلى هذه المنزلة، وقد قسم على غير السوية، وعزم
في مرضه على السوية، وكان عليه دين فادح.
و [أما] أبو بكر فلم يمتحن بكثرة الأموال، ولم يظهر منه هذه السير والأحكام.
فإن قال قائل: إنما شاع ذلك من فعل علي بن أبي طالب لأنه عمر وبقي فظهرت
منه هذه السير والمناقب، وأبو بكر لم يعمر ولم يبق.
قلت: القائل هذا إن كان معتزليا عدليا [نقول له:] ليس لما قلتم معنى يجوز
في مقالك، والذي تعلقت به فاسد عندك لأن من قولك: إن الله لا يخترم عبدا يعلم
أنه يزداد عند البقاء خيرا، ولا يقطعه عن أمر يعلم أنه لو بلغ إليه شرفت حاله وأضعفت
طاعته، فما قلت ناقض لقولك.
وإن كان قائل هذا مجبرا فالحجة عليه قائمة لأنه لا يدري أن لو بقي في أي المنزلتين
كانت تكون حاله، ولا يدري لعله لو بقي لكفر!!! لأنه جائز في عدل الله عنده

(1) كذا.
252

أن يبتديه بالخذلان والشر، وينقله أن لو بقي من الإيمان إلى الكفر. على أنه لو كان
ممن يزداد على البقاء طاعة وفضلا ثم لم يبلغه لم تكن منزلته منزلة من بقي حتى فعله وناله،
وليس بجائز أن يكون فاضلا بما لم يفعله ولم يبق إليه، فلأمر ما دفع الله / 74 / عن علي
ابن أبي طالب ووقاه بلطفه من تلك المحن، وصرف عنه تلك المصائب حتى خلصت
له سوابق المهاجرين الأولين وآثار السابقين، وأكمل الله له فضائل التابعين، فأعز الله
به الدين في الأول والآخر هاديا مهديا طاهرا زكيا.
ففي فضل هذا يقصر؟ ومثل علي بن أبي طالب يؤخر؟ وعليه يقدم؟
فوالله لو ترك الهوى والتعصب، وأعمل الإنصاف والنظر لم يخف على طالب
فضل علي بن أبي طالب على البشر.
ووالله لو ترك الهوى من لم ينظر، وقلد الحبر لم يقدم [أحد] على علي بن أبي
طالب، لكثرة مناقبه المشهورة في الحديث والأثر.
أوليس من العجب أن لا يعلم تقدمه على البشر بمؤاخات رسول الله إياه دون الناس؟
أيظنون أن رسول الله عليه السلام أخر لنفسه من لا يقرب من منزلته؟ وقصر في الاختيار؟!
بأي الوجهين كان؟ إما بالبعد وإما بالغفلة إذا اصطفى لنفسه من غيره أولى به منه،
وأفضل عند الله ممن اختاره؟!
وكيف لا يقنع الناظرون بهذه الجملة، ولا إشكال فيها ولا شبهة، ويكلفوننا تفسير
ذلك الجواب والمسألة ليكشف لهم أن أخوة النبي عليه السلام لعلي بن أبي طالب كانت
لفضله على غيره، وأن منزلته عنده منزلة هارون من موسى ليس على التقديم له.
ما أوضح خطأ من كلفنا الجواب في هذا والمسألة [واضحة] قد فرغته الأخبار
و [كشفها من] التمس علم الآثار (1).

(1) ما بين المعقوفين زيادة منا زدناها لإصلاح الكلام.
253

[فضيلة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر بعد خاتم الأنبياء
صلى الله عليه وآله من جهة العلم، وتقدمه فيه من جميع الجهات على العالمين،
وذكر نماذج من علومه عليه السلام وخطبه، منها خطبته الموسومة بالزهراء].
ونحن ذاكرون بعد هذا تقدمه في العلم وفضله فيه على الخلق أجمعين بعد النبيين.
وللعلم أصل وفروع، وجملة وتفسير، وفيه تطوع وفرض، وذلك على صنوف
شتى، وأبواب كثيرة.
فأصل العلم، العلم بالله وهو أصل الدين والإسلام، فأعلم الخلق بالله أذبهم عن
توحيده، وأحسنهم عبارة عنه، وأوصفهم لحدوده وأحكامه، وأقومهم بمحاجة من
ألحد في الله بالجواب والمسألة، فالتمسوا علم ذلك في خطبة لتعلموا أنه منقطع القرين
في علمه وأنه نسيج وحده:
وهو القائل في بعض خطبه وهي خطبته الزهراء: [المعروفة:
الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه.
الأول لا شئ قبله، والآخر لا غاية له، علا فدنا، ودنا فعلا، لا تقع الأوهام
له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفية، ولا تحيط له بذات، ولا يناله التجزئة
ولا يدركه التبعيض.

(1) ولعلها بعينها هي خطبة الزهراء التي رواها أبو مخنف بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام كما ذكرنا الصدر في
كتاب الشيعة وفنون الإسلام ص 17.
254

الذي لا من شئ كان، ولا من شئ خلق ما كان. قدرة بان (1) بها من الأشياء
وبانت الأشياء منه. فليست له صفة تنال، ولا حد تضرب له فيه الأمثال.
كل دون صفاته تحبير اللغات، وضل فيما هنالك تصاريف الصفات، وحار
في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير،
وحال دون غيبه المكنون حجب الغيوب (2) وتاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول (3).
فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، وتعالى الذي ليس له وقت
معدود، ولا أجل ممدود، ولا نعت محدود (4).
وسبحان الذي ليس له أول مبتدأ، ولا غاية منتهى، ولا آخر يفنى، سبحانه هو
كما وصف نفسه.
حد الأشياء كلها عند خلقه إياها إبانة لها من شبهة، وإبانة له منها، فلم يحلل
فيها فيقال: هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال [هو] منها بائن، ولم يخل عنها فيقال
له: أين؟
ولكنه سبحانه أحاط بها علمه، وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه، فلم يعزب عنه

(1) ومثله في كتاب الغارات والكافي. قيل: إنها مبتدأ حذف خبره، أي له قدرة بان بها من الأشياء. أو إنها خبر
حذف مبتدأه، أي هو قدرة بان بها من الأشياء.
وقيل إنها منصوبة على التميز، أو بنزع الخافض وحذفه، أي ولكن خلق الأشياء قدرة أو بقدرة.
وفي كتاب التوحيد للشيخ الصدوق رحمه الله: " قدرته بان بها من الأشياء.. ".
(2) دون غيبه: قبل الوصول إلى غيبه.
(3) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (156 و 258) من نهج السعادة: ج 1، ص 539 ط 1، و، ج 2
ص 348 ط 1.
وفي أصلي: " وتاهت في أداني أدانيها طامحات العقول ". وتاهت: تحيرت. والضمير في " أدانيها "
راجع إلى الحجب. وطامحات العقول: أي العقول الطامحة الراقية التي سبقت العقول العادية في جهات الوصول
إلى الحقائق.
(4) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار الأول من نهج البلاغة، وفي أصلي هاهنا: " بتحديد ".
255

خفيات غيوب الهواء، ولا غامضات سرائر مكنون ظلم / 75 / الدجا (1) ولا ما في
السماوات العلى والأرضين السفلى لكل شئ منها حافظ ورقيب، وكل شئ منها بكل
شئ محيط، والمحيط بما أحاط به منها (2) الله الواحد الأحد الصمد الذي لا تغيره
صروف سوالف الأزمان، ولم يتكأده صنع شئ (3) كان أن قال لما شاء أن يكون
" كن " فكان.
فابتدع ما خلق بلا مثال ولا تعب ولا نصب.
وكل صانع شئ فمن شئ صنع والله لا من شئ خلق ما خلق.
وكل عالم فبعد جهل تعلم، والله لم يجهل سبحانه ولم يتعلم (4).
فسبحان من لم يؤده خلق من ابتدأ، ولا تدبير ما برأ، ولكن قضاء متقن وعلم
محكم، وأمر مبرم، توحد فيه بالربوبية، وخص نفسه فيه بالوحدانية، واستخلص
المجد والسناء واستكمل الحمد والثناء فتفرد بالتوحيد، وتوحد بالتمجيد وتمجد بالتحميد. فجل
سبحانه عن الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء. فليس له فيما خلق ند، ولا فيما
ملك ضد، ولم يشركه فيما ملكه أحد، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا (5)

(1) فلم يعزب: لم يغب عنه، ولم يخف عنه. والدجى: جمع الدجية: الظلمة أو شدتها. وفي كتاب الكافي:
" ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ". وفي كتاب الغارات: " ولا غامض سرائر مكنون الدجى.. ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لكتابي الغارات والكافي، وفي أصلي: " والمحيط بها أحاط به منها ".
(3) يتكأده " لم يثقله ولم يصعب ولم يشق عليه.
(4) للفظة: " سبحانه " غير موجودة في كتابي الغارات والكافي، وفيهما: " وكل عالم فمن بعد جهل تعلم... ".
وفيهما أيضا بعد قوله: " ولم يتعلم " هكذا:
أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها [بتكوينه إياها " الغارات "] علما، علمه بها
قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها. لم يكونها لتشديد سلطان، ولا لتخوف زوال ولا نقصان، ولا استعانة
على ضد مثاور، ولا ند مكاثر، ولا شريك مكابر [مكائد " خ "] لكن خلائق مربوبون، وعباد داخرون،
فسبحان من لا يؤده خلق ما ابتدأ... ".
ولكن بين الكتابين اختلاف لفظي في بعض الكلمات.
(5) إلى هنا تنتهي رواية الثقفي رحمه الله في كتاب الغارات.
256

ثم قال [عليه السلام]:
سبحانك اللهم ما أعظم ما نرى من خلقك (1) وما أصغر عظمه في [جنب] قدرتك،
وما أعظم ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من ملكك، وما أسبغ
نعمتك في الدنيا وما أقلها في جنب نعمتك في الآخرة. وما عسى أن نصف من قدرتك
وسلطانك في قدر ما غاب عنا من ذلك، وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه.
فمن أعمل طرفه وقرع سمعه وأجهد فكره كيف ذرأت خلقك وكيف أقمت عرشك
وكيف علقت في الهواء سماواتك وكيف مددت أرضك رجع طرفه حسيرا وعقله والها
وسمعه مبهورا وفكره متحيرا (2).
فكيف لا يعظم شأنك عند من عرفك وهو يرى من عظيم خلقك ما يملأ قلبه ويذهل
عقله. فلا إله غيرك ولا شريك لك في ملكك، ليس كمثلك (3) شئ وأنت السميع
البصير (4).
فتفهموا صفته للتوحيد، هل تجدون ما قال [إلا] أصلا أخذ المتكلمون [به وبنوا]
عليه، وافتقروا إليه؟ وهل تجدون أحدا أبلغ من صفة التوحيد ما [أ] بلغه؟ وذكر
من عظمة الله وقدرته ما ذكره؟ وهل تعلمون أحدا احتج في إثبات الربوبية واستدل

وهذا هو الظاهر الموافق لما رويناه في المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 646، وفي أصلي " وما
أصغر عظيمة في قدرتك.. ". وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: " وما أصغر عظيمه في جنب
قدرتك "
(2) وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: " فمن فرغ قلبه وأعمل فكره ليعلم كيف أقمت عرشك وكيف
ذرأت خلقك، وكيف علقت في الهواء سماواتك، وكيف مددت على مور الماء أرضك، رجع طرفه حسيرا
وعقله مبهورا، وسمعه والها، وفكره حائرا ".
وقريبا منه رويناه في المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 647 ط 1
(3) ويحتمل رسم الخط أن يقرأ أيضا: " ليس كمثله
(4) وبعد هذا في المختار: (109) من نهج البلاغة والمختار (348) من نهج السعادة ذيل طويل
257

على الوحدانية إلا ببعض ما ذكرنا من كلامه؟.
[فتدبروا كلمه] لتعلموا أن المتكلمين عيال عليه في صفة التوحيد والاحتجاج
على الملحدين، وأن الخطباء عليه معولهم، وبكلامه استعانوا على خطبهم.
فقد بان [علوه] في علم التوحيد من الخلق أجمعين فله فضيلة الاستنباط والرسوخ
في علم القرآن، وفضل التعليم وأجور المتعلمين.
258

[كلامه عليه السلام في جواب يهودي سأله: متى كان ربنا؟].
ولقد قام إليه بعض اليهود فقال له: متى كان ربنا؟ فقال له: لم يكن ربنا فكان
[و] إنما يقال: " متى كان؟ " لشئ لم يكن فكان [و] هو كائن بلا كينونة كائن،
كان لم يزل، ليس له قبل فهو قبل القبل وقبل الغاية، انقطعت الغايات عنده فهو غاية
كل غاية (1).
فهذه جملة مما قال في التوحيد، قد بان بها من جميع أهل الكلام والعلماء بالتوحيد.

(1) والكلام رويناه مسندا عن مصادر أخر في المختار: (155) من القسم الأول من نهج السعادة: ج 1، ص
537 ط 1، وفي المختار: (9) من القسم الثاني: ج 3 ص 38 ط 1.
259

[كلامه عليه السلام في نعت الإسلام وعظم قواعده وأركانه].
ثم وصف الإسلام [ب‍] ما انقطعت عنه ألسن الناطقين، وعجز عنه وصف القائلين
عند مسألة السائل له: ما الإسلام؟ فقال:
الحمد لله الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه على من حاربه،
فجعله عزا لمن والاه، وسلما لمن دخله، وهدى لمن ائتم به، وزينة لمن تحلى به،
وعصمة لمن اعتصم به، وحبلا لمن تمسك به، وبرهانا لمن تكلم به، ونورا لمن استضاء
به وشاهدا لمن / 36 / خاصم به، وفلجا لمن حاج به، وعلما لمن وعى، وحديثا لمن روى،
وحكما لمن قضى، وحلما لمن جرب، ولبا لمن تدبر، وفهما لمن تفطن، ويقينا لمن عقل
وتبصرة لمن عزم، وآية لمن توسم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، ومودة من الله
لمن أصلح، وزلفى لمن ارتقب، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر.
فذلك الحق سبيله الهدى، وصفته الحسنى، ومأثرته المجد..
فهو أبلج المنهاج، مشرق المنار، مضئ المصابيح، رفيع الغاية، يسير المضمار، جامع
الحلبة، متنافس السبقة، أليم النقمة، كريم الفرسان.
التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والموت غايته، والدنيا
مضماره، والقيامة حلبته، والجنة سبقته (1) والنار نقمته، والتقوى عدته، والمحسنون
فرسانه.

(1) إلى هنا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار (104) من نهج البلاغة.
260

فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه، وبالفقه يرهب
الموت، وبالموت تختم الدنيا، وبالدنيا تحرز القيامة (1) وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين،
وتبرز الجحيم للغاوين.
والإيمان على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب.
فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات،
ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع في الخيرات.
واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وعبرة وسنة وآية
وموعظة (2).
فمن تبصر في الفطنة تبين الحكمة، ومن تبين الحكمة عرف العبرة، ومن عرف
العبرة فكأنما كان في الأولين.
والعدل على أربع شعب: على غائص الفهم، وغمرة العلم (3) وزهرة الحكم،
وروضة الحلم.

(1) الظاهر أن هذا هو الصواب، أي تحاز وتدخر فوز القيامة والنجاح فيها، أي بالأعمال الخيرية في الدنيا
وصرف الإمكانيات الدنيوية في سبيل الله يجعل العامل فوز القيامة والدار الآخرة في حرزه وحيازته.
وفي أصلي المخطوط: " تحذر القيامة ". وفي المختار: (162) من نهج السعادة: ج 2 ص 18:
" وبالدنيا تجوز [تحوز " خ "] القيامة ".
وفي المختار: (154) من نهج البلاغة: " وبالدنيا تحرز الآخرة.. " ومثله في المختار: (118)
من نهج السعادة: ج 1، ص 368.
ومثلهما في المختار: (106) من القسم الثاني من باب خطب نهج السعادة ج 3 ص 398 ط 1، ولكن كان
في الأصل المنقول عنه: " وبالدنيا تحدر الآخرة ".
(2) كذا في الأصل وفي المختار: (118) من القسم الأول، والمختار: (106) من القسم الثاني من باب خطب
نهج السعادة: " وموعظة العبرة وسنة الأولين ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (118) من نهج السعادة: ج 1، ص 371 ط 1.
وفي أصلي: " وعبارة العلم ".
261

فمن فهم فسر جمل العلم، ومن علم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط
في أمره، وعاش في الناس حميدا.
والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في
المواطن، وشنآن الفاسقين.
فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف الكافر، ومن
صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له.
فذلك الإيمان وشعبه ودعائمه.
قال: فقام السائل إليه فقبل رأسه (1).
فهذا العلم بالتوحيد قد بان به، وهو أشرف العلوم منزلة وأعلاها مرتبة، سبق
فيه العلماء، وتقدم فيه على الخطباء، وجعله رسما للمتعلمين وحجة على المنكرين.
فهذه صفته للإيمان مجملة ومفسرة [فهل] ترون أحدا جمعها وبلغها؟!
ثم فكروا في صفته للزهد، وترغيبه فيه، وذكره الدنيا وما ذكر من عبرها ومواعظها
لتعلموا أنه قد جمع العلم بالزهد والعمل، وأنه استنبط هذه العلوم بالبحث الثاقب،
والنظر النافذ، والاعتبار الشافي [و] اجتهد في ذلك طريق الأنبياء.

(1) وللكلام مصادر وأسانيد كثيرة تجد كثيرا منها في المختار: (118) من القسم الأول من باب الخطب من
نهج السعادة: ج 1، ص 366، ط 1، وفي المختار: (110) وتواليه من القسم الثاني من باب الخطب:
ج 3 ص 373 وما يليها من ط 1.
262

[كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع نوف البكالي في تقريض الزهاد،
والترغيب في اتباعهم واقتفاء آثارهم].
وذكروا عن نوف [البكالي] أنه قال: بايت عليا ليلة فأكثر (1) الدخول والخروج
والنظر إلى السماء، ثم قال لي: أنائم أنت يا نوف أم رامق؟ قال: قلت: بل رامق
أرمقك بعيني منذ الليلة يا أمير المؤمنين. قال: [ثم] قال لي:
يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة أولئك قوم / 77 / اتخذوا أرض
الله بساطا وترابها فراشا وماؤها طيبا والقرآن شعارا (2) والدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا
قرضا على منهاج المسيح.
يا نوف إن الله أوحى إلى عبده المسيح أن قل لبني إسرائيل أن لا يدخلوا بيتا من
بيوتي إلا بقلوب طاهرة وأبصار خاشعة، وأكف نقية، وأعلمهم أني لا أجيب لأحد منهم
دعوة ولأحد من خلقي قبله مظلمة.
يا نوف إن داود نبي الله عليه السلام خرج في [مثل] هذه الساعة من الليل فقال:
إن هذه ساعة لا يدعو فيها داع إلا استجاب الله له إلا أن يكون شاعرا أو عاشرا أو
شرطيا أو عريفا أو بريدا، أو صاحب كوبة - وهي الطبل - أو صاحب عرطبة وهي
الطنبور (3).

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في ترجمة جعفر بن مبشر تحت الرقم: (3608) من تاريخ بغداد: ج 7 ص 62،
وفي أصلي: " رأيت عليا ليلة فأكثر الدخول والخروج.. ".
(2) هذا هو الصواب الموافق لما رويناه في المختار: (135) من نهج السعادة: ج 1، ص 437 ط 1، ومثله
في المختار: (104) من الباب الثالث من نهج البلاغة.
وفي أصلي: " والكتاب شعارا " ولكن كتب في الأصل فوق كلمة: " والكتاب " لفظة: " والقرآن "
(3) ومثله رواه أيضا السيد الرضي في المختار: (104) من الباب الثالث من نهج البلاغة.
ورويناه أيضا بأسانيد جمة في المختار: (135) وتاليه من القسم الأول من باب الخطب من نهج السعادة:
ج 1، ص 436 ط 1، وفي المختار: (65) من القسم الثاني في ج 3 ص 353.
263

[كلامه عليه السلام في التحذير عن الدنيا وعدم الاغترار بإقبالها وعدم الأسف
على إدبارها].
ثم قال [عليه السلام]:
أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة
وعمرت بالآمال وتزينت بالغرور فلا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها، غرارة ضرارة زائلة
نافذة نابذة (1) أكالة غوالة لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها
أن تكون كما قال الله: " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح
هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا " [45 / الكهف: 18].
مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من سرائها بطنا
إلا محته من ضرائها] ظهرا (2) ولم تطله فيها ديمة رخاء إلا وهتنت عليه مزنة بلاء (3)
وحري إذا هي أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب
واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبى (4) وإن لبس امرؤ من غضارتها رغبا أرهقته من

(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " تحببت بالعاجلة وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور،
لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غررة ضرارة حائلة زائلة نافدة بائدة ".
(2) ما بين المعقوفين أخذناه من المختار: (109) من نهج البلاغة، وفيه: " لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته
بعدها عبرة.. ".
(3) كذا في نهج البلاغة، وفي أصلي: " إلا هتفت عليه مزنة بلاء ".
(4) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وفي الأصل: " وإن جانب منها اعذوذبت إلا مرت واحلولا أمر عليه
منها جانب فأوبى.. ".
264

نوائبها تعبا ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح في أخوف مخوف (1).
غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شئ من زادها إلا التقوى (2).
من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها لم يدم له (3) وزال عما قليل عنه.
كم من واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة إليها قد صرعته، وذي خدع قد خدعته
وذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا، وذي نخوة فيها قد ردته جائعا فقيرا (4) وذي تاج قد
كبته لليدين وللفم (5).
سلطانها دول وعيشها رنق، وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها
رمام وقطافها سلع (6) وحيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض
اهتضام، وملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وآمنها منكوب، وجارها محروب.
ثم من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته، وهول المطلع، والوقوف بين يدي
الحكم العدل " ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " [31 /
النجم: 53].
أولستم في مساكن من كان [قبلكم ممن كان] أطول منكم أعمارا، وأعز آثارا وأعد

(1) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلا أرهقته من نوائبها تعبا، ولا يمسي منها
في جناج أمن إلا أصبح على قوادم خوف ".
(2) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " لا خير في شئ من أزوادها.. "
(3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه.. ".
(4) الجملة التالية غير موجودة في نهج البلاغة كما لا توجد فيها جملة: " وذي خدع قد خدعته ".
وأيضا في نهج البلاغة: " وذي أبهة قد جعلته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا... ".
(5) وقريب منه في المختار: (76) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 286.
(6) كذا في أصلي، وهذه الجملة غير موجودة في نهج البلاغة.
ولعل سلع بمعنى مر، لأنه نوع من الصبر.
265

منكم عديدا، وأكثف منكم جنودا، وأشد منكم عنودا (1).
تعبدوا للدنيا أي تعبد (2) وآثروها أي إيثار ثم ظعنوا عنها بالصغار (3).
فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية (4) أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم
به بخطب، بل أوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر (5) وأعانت
عليهم ريب المنون.
فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد (6)
وإلى آخر المسند (7) هل زودتهم إلا السغب أو أحلتهم إلا الضنك / 78 / أو نورت لهم
إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا النار (8)؟!
أفهذه تؤثرون؟ أم على هذه تحرصون؟ أم إليها تطمئنون؟ قال الله: " من كان
يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين
ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " [15 /

(1) وفي نهج البلاغة: " ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول [منكم] أعمارا وأبقى آثارا وأبعد آمالا وأعد
عديدا وأكثف جنودا ".
(2) تعبدوا للدنيا: خضعوا وانقادوا لها.
(3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ، ولا ظهر قاطع.. ".
(4) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية. ".
(5) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " أو أعانتهم بمعونة، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالقوادح،
وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، ووطئتهم بالمناسم... ".
(6) هذا هو الظاهر، الموافق لما في نهج البلاغة، وفي أصلي: " حين ظعنوا عنها لفراق الأبد ".
(7) هذه الفقرة: " وإلى آخر المسند " غير موجودة في نهج البلاغة.
(8) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " أو أعقبتهم إلا الندامة. أفهذه تؤثرون؟ أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟
فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها.
فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون عنها، واتعظوا فيها بالذين قالوا: " من أشد منا قوة "
حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا، وجعل لهم من الصفيح أجنان... ".
266

هود: 12]. فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها.
واعلموا - وأنتم - تعلمون أنكم تاركوها لا بد فإنما هي كما نعت الله: " لعب
ولهو وزينة وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد " [20 / الحديد: 575].
فاتعظوا فيها باللذين كانوا يبنون بكل ريع آية يعبثون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون (1)
وبالذين قالوا من أشد منا قوة).
واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حملوا إلى قبورهم ولا يدعون ركبانا وأنزلوا
[الأجداث] ولا يدعون ضيفانا (2) وجعل لهم من الضريح أكنان (3) ومن التراب أكفان،
ومن الرفات جيران.
فهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما ولا يبالون مندبة (4) ولا يقترفون سيئا
ولا حسنا، لا يزورون ولا يزارون.
حلماء قد بادت أضغانهم، جهلاء قد ذهبت أحقادهم لا يخشى فجعهم ولا يرجى
دفعهم، وهم كمن لم يكن وكما قال الله: " فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا
قليلا وكنا نحن الوارثين " [58 / القصص: 28].
استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا وبالأهل غربة وبالنور ظلمة وجاؤها

(1) اقتباس من الآية. (128 - 129) من سورة الشعراء: 26.
(2) ما بين المعقوفين مأخوذ من نهج البلاغة، والسياق أيضا يقتضيه أو ما هو بمعناه.
(3) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " وجعل لهم من الصفيح أجنان.. ".
(4) وبعده في نهج البلاغة هكذا: " إن جيدوا لم يفرحوا، وإن قحطوا لم يقنطوا جميع وهم آحاد، وجيرة وهم
أبعاد، متدانون لا يتزاورون، وقريبون لا يتقاربون، حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم!!
لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم، استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور
ظلمة! فجاؤوها كما فارقوها حفاة عراة. قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال
سبحانه: " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين "
267

كما فارقوها حفاة عراة، قد ظعنوا منها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة، وإلى خلود الأبد
يقول الله: " كما بدانا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " [104 / الأنبياء: 24]
[كلامه عليه السلام في نعت الدنيا عندما سمع من يذمها].
ثم قال في خلاف ذلك - من صفة الدنيا قولا عجيبا وصدق عليها في الحالين جميعا -
بكلام غريب وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين ثاقب وعلم بارع وذكر
نافع [وإنما نبهتكم على ذلك] لتعلموا أنه في جميع العلوم بائن، وفي [كل] مناقب
الخير مقدم.
[فقال عليه السلام:] (1) وقد سمع بعض الناس يدم الدنيا تعسفا ويعيبها متعديا،
فصرخ به ثم قال:
أيها الذام للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك؟! (2)
فقال: بل أنا يا أمير المؤمنين المجترم عليها!!
قال: ويحك فبم تذمها؟! أليست منزل صدق لمن صدقها؟ ودار غنى لمن تزود
منها؟ ودار عافية لمن فهم عنها؟ مسجد أحباء الله ومصلى أنبيائه ومليكته (3) ومهبط

(1) وفي أصلي كان هكذا: " ثم قال في خلاف ذلك من صفة الدنيا قولا عجيبا - وصدق عليها في الحالين جميعا -
بكلام غريب وقول بليغ، وحكمة بالغة ومعرفة راسخة، ويقين ثاقب وعلم بارع وذكر نافع، لتعلموا أنه
في جميع العلوم بائن وفي مناقب الخير مقدم، وقد سمع بعض الناس يذم الدنيا... ".
(2) وفي المختار: (130) من قصار نهج البلاغة: " أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها بم تذمها؟
أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟... ".
(3) كذا في أصلي، وفي المختار: " 117) من نهج السعادة: " مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته
ومسكن أحبائه ومتجرأ أوليائه.. ".
وفي نهج البلاغة: " مسجد أحباء الله ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله ".
268

وحيه ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.
فمن ذا يذمها وقد أذنت ببينها ونادت بانقطاعها، فمثلت لهم ببلائها البلاء [ظ]
وشوقت بسرورها إلى السرور (1) راحت بفجيعة وابتكرت بعافية، فذمها رجال يوم
الندامة، وحمدها آخرون (2) حدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا (3).
فأيها الذام للدنيا، المعتل بغرورها متى استذمت إليك؟ بل متى غرتك؟ أبمصارع
آبائك من البلى؟ أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بيدك؟ وكم مرضت
بكفك (4) تلتمس له الشفاء، وتستوصف له الأطباء لم تنتفع [فيه] بشفاعتك، ولم
تسعف [فيه] بطلبتك (5) مثلت لك الدنيا - ويحك - مضجعك حين لا يغني عنك
بكاؤك، ولا ينفع أحباؤك (6).

(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " وسوقت " بالسين المهملة. وفي نهج البلاغة: " وشوقتهم بسرورها.. ".
(2) كذا في أصلي، وفي نهج السعادة: " فذمها قوم غداة الندامة ".
وفي نهج البلاغة: " فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة ".
(3) وفي نهج البلاغة: " ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا ".
(4) وفي نهج البلاغة: " كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء،
لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك... ".
(5) هذا هو الظاهر الموافق لما وجدناه في جميع ما رأيناه من المصادر، وفي أصلي: " ولم تستغن بطلبتك... ".
وفي المختار: (117) من نهج السعادة: " كم مرضت بيديك، وعللت بكفيك تستوصف لهم الدواء
وتطلب لهم الأطباء، لم تدرك فيه طلبتك، ولم تسعف فيه بحاجتك.. "
(6) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: " حتى لا يغني عنك بكاؤك... ".
وفي الحديث: (1272) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 214 ط 1:
" كم مرضت بيديك وعللت بكفيك تطلب له الشفاء وتستوصف له الأطباء [ف‍] لا يغني عنك دواؤك
ولا ينفعك بكاؤك ".
269

[كلامه عليه السلام في سوق أولي الألباب إلى الله تعالى وتحضيضهم على اغتنام
الفرصة من الأيام، وإكثارهم من صالحات الأعمال والادخار من متاع دار الفناء
ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون].
وكان رضي الله عنه ينادي في كل ليلة بصوت رفيع له:
تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلوا العرجة على الدنيا (1) وانقلبوا
بصالح ما يحضركم من / 79 / الزاد (2) فإن أمامكم عقبة كؤدا ومنازل مخوفة مهولة
لا بد من الممر عليها والوقوف عندها (3) فإما برحمة من الله نجوتم من فظاعتها وشدة
مخبرها وكراهة منظرها [ظ] وإما بهلكة ليس بعدها انجبار.
فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة (4).

(1) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (202) من نهج البلاغة وغيره، وفي أصلي: " وأقلوا الفرجة على الدنيا.. ".
(2) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد.. ".
(3) إلى هنا رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار: (202) من نهج البلاغة، وفيه: " لا بد من الورود عليها
والوقوف عندها " وهو أظهر مما ها هنا.
(4) ومن قوله: " فيا لها حسرة " إلى قوله: " إلى شقوة " ذكره السيد الرضي في ذيل المختار: (62) من نهج
البلاغة، وفيه بعده: " نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية
ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة ".
270

فاتركوا هذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تكونوا تحبون تركها والمبلية لكم وإن كنتم
تحبون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا
علما فكأنهم قد بلغوه (1).
جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة ولا تقصر به عن طاعة ربه رغبة ولا تحل
به بعد الموت شقوة [ولا] حسرة فإنما نحن له وبه.

(1) وقريبا منه رواه السيد الرضي رحمه الله في أوائل المختار: (97) من نهج البلاغة وهذا لفظه: " عباد الله
أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها، والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها،
فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه، وأموا علما فكأنهم قد بلغوه ".
271

[كلامه عليه السلام في تعليم الناس كيفية الصلوات على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم].
وكان رضي الله عنه يعلم الناس الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول:
قولوا:
اللهم داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها (1) شقيها
وسعيدها.
اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحيتك، على محمد عبدك
ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات
الأباطيل (2) كما حمل فاضطلع (3) قائما بأمرك في طاعتك مستوفرا في مرضاتك غير
نأكل في قدم ولا واه في عزم (4) واعيا لوحيك حافظا لعهدك، ماضيا على نفاذ أمرك
حتى أورى كل قبس لقابس (5) آلاء الله يصل بأهله أسبابه (6) به هديت القلوب بعد

(1) كذا في الأصل، وفي المختار: (70) من نهج البلاغة: " وجابل القلوب على فطرتها... ".
(2) وفي نهج البلاغة: " والدافع جيشات الأباطيل والدامغ صولات الأضاليل... ".
(3) أي أعلن الحق بالحق وقمع الباطل وقهر الضالين كما حمل تلك الأعمال لم يغير ولم ينكص. فاضطلع أي
قام بها قويا بلا ضعف وتوان.
(4) و " قدم " على زنة قفل وعنق: المضي إلى الأمام وعدم الوقوف على شئ.
(5) كذا في أصلي، وفي المختار: (106) من نهج البلاغة: " حتى أورى قبسا لقابس، وأنار علما لحابس.. ".
وفي المختار: (18) من القسم الثاني من باب خطب نهج السعادة: ج 3 ص 83 ط 1: " حتى أورى
قبس القابس وأضاء الطريق للخابط، وهدي به.. ".
وفي المختار: (65) من باب الدعاء من نهج السعادة: ج 6 ص 283:
" حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب.. ".
(6) قال ابن أبي الحديد: وتقدير الكلام: حتى أورى قبسا لقابس تصل أسباب ذلك القبس آلاء الله ونعمه بأهله
المؤمنين به.
272

خوضات الفتن والآثام بموضحات الأعلام ومنيرات الإسلام ونائرات الأحكام (7)
فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة ورسولك
بالحق رحمة وخير البرية طفلا، وخيرها شابا وكهلا أطهر الطاهرين شيمة، وأجود
المستمطرين ديمة (8) لا يبلغ المقرظون مدحته ولا يلامون على ما ذكروا من فضله.
اللهم افسح له مفسحا في عدلك واجزه مضاعفات الخير من فضلك له مهنات
غير مكدرات من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك المعلول.
اللهم أعل على بناء البانين بناءه وأكرم لديك مثواه ونزله وأتمم له نوره، واجزه
من ابتغائك له مقبول الشهادة مرضي المقالة، ذا منطق عدل وخطة فصل وحجة
وبرهان عظيم. (9)

(7) ومثله في رواية ابن قتيبة غير أن فيها: " بعد خوضات الفتن والإثم موضحات الأعلام... ".
وفي الصحيفة العلوية للسماهيجي: " وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام موضحات
الأعلام... ".
(8) وفي المختار: (102) من نهج البلاغة: " خير البرية طفلا وأنجبها كهلا أطهر المطهرين شيمة وأجود المستمطرين
ديمة... ".
(9) كذا في نهج البلاغة، وكأن في أصلي كان: " وخطبة فصل " ولكن نقطة الباء مشطوبة، ولا يحضرني الأصل
الآن كي أراجعه.
273

[كلامه عليه السلام في تأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم
جواز المداراة مع الفساق والمنافقين والطغاة].
وقال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء إلى محاربة أهل البغي:
أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذركم الدنيا وما فيها من الغضارة والبهاء والكرامة
والبهجة التي ليست بخلف مما زين الله به العلماء وبما أعطوا (1) من العقبى الدائمة
والكرامة الباقية، ذلك بأن العاقبة للمتقين والحسرة والندامة والويل الطويل على الظالمين.
فاعتبروا بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: " لولا ينهاهم
الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم " [63 / المائدة]. وقال: " لعن الذين كفروا من
بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم " (2) ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون،
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون " [78 / 89 / المائدة].
وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم (3)
الأمر المنكر من الفساد في بلادهم فلا ينهون عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم

(1) كذا في أصلي، ولعله مصحف عن قوله: " ومما يعطوا من العقبى... ".
(2) وكان في الأصل ذكر الآية الكريمة إلى هذا الحد، ثم قال: إلى قوله: " لبئس ما كانوا يفعلون ". وبما
أن الاختصار من عمل الرواة والكتاب أرجعنا الآية إلى أصلها وذكرناها كاملة.
(3) هذا هو الظاهر الموافق لما في تحف العقول ص 171، وفي أصلي: " من الظلمة الذي... ".
274

ورهبة مما كانوا يحذرون (1) والله يقول: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها / 80 /
النبيون الذين أسلموا [للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله
وكانوا عليه شهداء] فلا تخشوا الناس واخشون " (2).
وقال: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر " [71 / التوبة: 9] فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه (3)
لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ذلك بأن الأمر
بالمعروف والنهي [عن المنكر] دعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة
الفئ والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها.
ثم أنتم أيتها العصابة عصابة بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة
وبالله في أنفس الناس لكم مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم من
لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده تشفعون بالحوائج إذا امتنعت من طلابها،
وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر.
أليس كل ذلك إنما نلتموه لما يرجى عندكم من قيام بحق الله (4) وإن كنتم عن
أكثر حقه مقصرين واستخففتم بحق الأئمة. فأما حق الله وحق الضعفاء فضيعتم (5)
وأما حقكم بزعمكم فطلبتم فكنتم كحراس مدينة أسلموها وأهلها للعدو [و] بمنزلة
الأطباء الذين استوفوا ثمن الدواء وعطلوا المرضى (6).

(1) كذا.
(2) الآية (44) من سورة المائدة وما وضعناه بين المعقوفين كان حذفه في الأصل اختصارا، وكان فيه هكذا:
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا - إلى قوله - فلا تخشوا الناس واخشون ".
(3) أي فرضا منه تعالى وإيجابا منه على عباده.
(4) كذا في أصلي، وفي ط بيروت من تحف العقول: " من القيام.. ".
(5) كذا في أصلي، وفي طبع بيروت من تحف العقول: " وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون واستخففتم بحق
الأئمة، فأما حق الضعفاء فضيعتم وأما حقكم بزعمكم.. ".
(6) من قوله: " فكنتم كحراس مدينة " إلى قوله: " وعطلوا المرضى " غير موجود في ط بيروت من تحف العقول.
275

فلا مال بذلتموه [للذي رزقه] (1) ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة
عاديتموها في ذات الله. ثم أنتم تمنون على الله جنته ومجاورة رسله والبراءة والفرار
من أعدائه، والاستئثار بالكرامة من الله عند ملاقاة الملائكة.
لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم
من كرامة الله منزلة فضلتم بها، ومن يعرف بالله لا تكرمون وأنتم بالله في عباده تكرمون (2).
وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون وأنتم لنقض دمم آبائكم تفزعون، وذمة
رسوله مخفرة والعمي والبكم والزمني (3) في المدائن مهملون لا ترحمون وأنتم [لا] في
منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعينون (4) وبالإدهان والمصانعة أراكم عند الظلمة
تأمنون (5) كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون.
فأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليله من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، وذلك
بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله في كتابه يكون هم الأمناء على حلاله
وحرامه (6) فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بنفوركم عن الحق واختلافكم
في السنة بعد البينة الواضحة.
ولو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد

(1) ما بين المعقوفين مأخوذ من المختار: (117) من نهج البلاغة.
(2) وفي المختار: (103) من نهج البلاغة: وقد بلغتم من كرامة الله لكم منزلة تكرم بها إماؤكم وتوصل بها
جيرانكم، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة ولا لكم عليه
إمرة... ".
(3) وفي المختار الأول من كلام الإمام الحسين عليه السلام من تحف العقول: " وذمة رسول الله صلى الله عليه
وآله مخفورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة... ".
وفي المختار: (103) من نهج البلاغة: " وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم
تأنفون.. ".
(4) ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل.
(5) لفظة: " أراكم " غير موجودة في طبع بيروت من تحف العقول.
(6) وفي تحف العقول: " ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه... ".
276

وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من أزمتكم (1) وأسلمتم أمور
الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك (2) فراركم
من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم (3) فأسلمتم الضعفاء في أيديهم،
فمن بين مستعبد ومقهور، ومن بين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك
بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبار (4).
في كل بلد منهم على منبره خطيب مصقع والأرض لهم شاغرة (5) وأيديهم فيها مبسوطة
وأيدي القادة عنهم مكفوفة، وسيوفهم عليهم مسلطة، وسيوفكم عنهم مسنمة (6) [و]
[و]
الناس لهم خول لا يدفعون يد لامس فمن / 81 / بين جبار عنيد وذي سطوة على
الضعفة، شديد مطاع لا يعرف المبدئ المعيد (7).
فيا عجبا وما لي لا أعجب والأرض مشحونة من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم،
وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما
شجر بيننا.
اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان [منا] تنافسا في سلطان ولا التماس شئ
من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الاصلاح في بلادك، ويأمن

(1) كذا في أصلي، وفي تحف العقول: " ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم.. ".
وفي المختار: (103) من نهج البلاغة: " وكانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع،
فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم، وأسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون في الشبهات، ويسيرون
في الشهوات... ".
(3) هذا هو الظاهر الموافق لتحف العقول، وفي أصلي: " سلكتم على ذلك ".
(4) كذا في الأصل، غير أن حرف الباء في قوله: " بالحياة كان قد سقط عنه.
(4) ومثله في طبع بيروت من تحف العقول.
(5) وفي تحف العقول: " فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس... "
(6) كذا في الأصل، وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: " فالأرض لكم شاغرة، وأيديكم فيها مبسوطة،
وأيدي القادة عنكم مكفوفة، وسيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة.. ".
(7) هذا هو الظاهر الموافق لكتاب تحف العقول، وفي أصلي: " وذو سطوة لا يعرف المبدئ بالمعيد... ".
277

المظلوم من عبادك (1) ويعمل بفرائضك وسنتك وأحكامك (2).
ألا إن لكل دم ثائرا يوما، وإن الثائر في دمائنا والحاكم في حق نفسه وحق ذوي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الله الذي لا يعجزه ما طلب، ولا يفوته من هرب
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (3).
فنضر الله وجه عبد سمع حكما فوعى ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا (4).
ألا إن أبصر الأبصار ما بعد في الخير مذهبه، وأسمع الأسماع ما وعى التذكير
وانتفع به، وأسلم القلوب ما طهر من الشبهات (5).
أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ ناصح، وامتاحوا من مهيأ عين قد
روقت من الكدر، وامتاروا من طرف الياقوت الأحمر (6).
عباد الله لا تركنوا إلى جهالكم، ولا تنقادوا لأهوائكم، والله الله أن تشكوا إلى من
لا يبكي شجوكم (7) ومن ينقض برأيه ما قد أبرم لكم، ويصدع بجهله ما شعب لكم

(1) من قوله: " اللهم إنك تعلم... " إلى قوله: " عبادك " رواه في المختار: (129) من نهج البلاغة وفيه:
" منافسة في سلطان.. فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك ".
(2) كذا في الأصل.
(3) وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: " ألا إن لكل دم ثائرا، ولكل حق طالبا، وإن الثائر في دمائنا كالحاكم
في حق نفسه وهو الذي لا يعجزه من طلب ولا يفوته من هرب ".
وقريبا منه رويناه عن مصدر آخر في المختار: (64) من نهج السعادة: ج 1، ص 220.
(4) وفي المختار: (75) من نهج البلاغة: " رحم الله امرأ سمع حكما فوعى ودعى إلى رشاد... ".
(5) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " من طهر من الشبهات.. ".
وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: " ألا وإن أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه، ألا إن أسمع
الأسماع ما وعى التذكير وقبله ".
(6) الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي أصلي: " وامتاحوا من مهيأ عين قد روق من الكذب... ".
وفي المختار: (105) من نهج البلاغة: " وأعظ متعظ، وامتاحوا من صفو عين قد روقت من الكدر ".
(7) كذا في أصلي، في المختار: (105) من نهج البلاغة: " عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم ولا تنقادوا
لأهوائكم فإن النازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار ينقل الردى على ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه
بعد رأي يريد أن يلصق ما لا يلتصق، ويقرب ما لا يتقارب.
فالله الله أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنه ليس على الإمام إلا ما
حمل من أمر ربه... ".
278

ويهدم بحمقه ما قد بني لكم.
اللهم فأيما عبد من عبيدك سمع مقالتنا هذه العادلة غير الجائرة، والمصلحة في
الدين والدنيا غير المفسدة فأبى بعد سمعه لها إلا الابطاء عن نصرتك وترك الإعزاز لدينك (1)
فإنا نشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة (2) فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة
علينا، وعملوا في إطفاء نور الله بيننا، وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.
فتدبروا هذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا البيان والتحريص
والحجة البينة لتعلموا أن كل من دعا إلى هذا السبيل ونحا هذا الطريق فبكلام أمير
المؤمنين اهتدى وبسيرته اقتدى ومن عمله اقتبس، ومن معرفته أبصر، وبقوله أنطق.

(1) وفي المختار: (209) من نهج البلاغة: " فأبى بعد سمعه لها إلا النكوص عن نصرتك والإبطاء عن إعزاز
دينك، فإنا نستشهد عليه بأكبر الشاهدين شهادة.. ".
(2) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " يا أكبر الشاهدين شاهدة... ".
279

[كلامه عليه السلام في نعت الإمام العادل وبيان وظائفه الخاصة به، وما له وما
عليه، وأنه حجة على الرعية، وأن للرعية حجة على الإمام إذا مال عن الحق وضل
عن محجة العدالة].
ثم وصف [عليه السلام] ما على الإمام العادل وما له فقال:
واعلموا عباد الله إن لكل إمام عادل حجة على رعيته ولكل رعية حجة على إمامها
إذا جار عليها.
ألا فتمسكوا من الإمام العادل بحجزته، وخذوا ممن يهديكم ولا يضلكم فإنه
العروة الوثقى.
أيها الناس إنه ليس على الإمام إلا ما حمل من أمر ربه: إبلاغ في الموعظة،
واجتهاد في النصيحة وإحياء السنة، وإقامة الحدود، وإصدار السهمان على أهلها (1)
وإظهار الحجة في العهود والبر والرأفة بجميع المسلمين، فإذا فعل ذلك فقد شكر ما
أبلاه الله من الحسنى وبرأ إلى الله فيما كان من حدث عماله كما برأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم من فعل خالد بن الوليد.
يا قوم اقتبسوا ما بين لكم / 82 / من الحق وكفوا عما لم يأتكم نبؤه، واستنجزوا

(1) من قوله: " إنه ليس على الإمام " إلى قوله: " وإصدار السهمان إلى أهلها " رواه السيد الرضي في المختار:
(105) من نهج البلاغة.
280

موعد الرب جل ثناؤه بالتفقه في دينه قبل أ [ن] لا تفقهوا ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم
عن مستثار العلم من عند أهله (1) ومن قبل أن يشتبه عليكم الباطل وإن كان قد أولى
ثم أولى " واعتصموا بحبل الله جميعا " فإنه لا سلطان لإبليس على من اعتصم بحبل
الله واهتدى بهديه واستمسك بالعروة الوثقى.
وأنا أقسم بالله قسما حقا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن أفضل ما توسل إليه المتوسلون (2) الإيمان بالله
والجهاد في سبيله، وإقام الصلاة فإنها الملة وإيتاء الزكاة فإنها فريضة من فرائضه،
وصوم شهر رمضان فإنه جنة حصينة من عذابه، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة
للذنب، وصلة الرحم فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهول (3) وصدقة السر فإنها
تكفر الخطايا وتطفئ غضب الرب.
أفيضوا في ذكر الله كثيرا فإنه أحسن الذكر، وارعبوا فيما وعد المتقون فإن وعد
الله أصدق الوعد، واهتدوا بهدي محمد عليه السلام فإنه أحسن الهدي واستنوا بسنته
فإنها أعظم السنن، وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث واستشفوا بنوره فإنه أشفى لما في
الصدور وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص وإذا تلي فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون.
عباد الله! إن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الذي لا يستفيق عن جهله بل
الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحير

(1) هذا هو الصواب الموافق لما في المختار: (105) من نهج البلاغة، وفي أصلي: " عن مشتراة العلم... ".
ومستثار العلم: محل ظهوة وسطوعه.
(2) كذا في الأصل، وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: " إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه
وتعالى الإيمان به وبرسوله.. ".
ولهذا الكلام مصادر جمة ذكرناها في ختام المختار: (274) من نهج السعادة: ج 2 ص 433.
وذكرناها أيضا في المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب: ج 3 ص 209.
(3) كذا في الأصل، وفي المختار: (274) من باب الخطب من نهج السعادة: ج 2 ص 8425: " يقي مصارع الهوان "
281

في جهله، وكلاهما حائر ثائر مضلل مثبور (1)
ألا لا ترخصوا لأنفسكم في ترك الحق فتدهنوا ولا تدهنوا في الحق فتخسروا.
وإن من الحزم أن تتفقهوا، وإن من الفقه أن لا تغتروا وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم
لربه، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه.
من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعصه يخف ويندم.
سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية.
ألا إن أفضل الأمور عوازمها (2)، وإن شرها محدثاتها، وكل محدثة بدعة وما أحدث
محدث بدعة إلا ترك بها سنة المغبون [من غبن] دينه والمغبوط من حسن نفسه. (3)
إياكم ومجالسة اللهو فإن اللهو ينسي القرآن ويحضره الشيطان ويدعوا إلى كل
غي وعدوان.
ومحادثة النساء تزيغ القلوب وهي من مصائد الشيطان.
ألا فاصدقوا فإن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان فإن

(1) كذا في الأصل، وفي تحف العقول: " وكلاهما حائر بايئر، مضل مفتون مبتور ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ".
(2) عوازمه: ما قدم عهده ويكون متصلا بعصر رسول الله ثابتا في عهده.
وفي المختار: (142) من نهج البلاغة: " إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها ". ومثله
في المختار: (274) من نهج السعادة: ج 2 ص 427.
وفي المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب: من نهج السعادة: ج 3 ص 214: " وأفضل
أمور الحق عزائمها، وشرها محدثاتها ".
(3) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " المغبون عن دينه.. ".
ويحتمل في الجملة الثانية أنها مصحفة عن قوله: " والمغبوط من حسن يقينه " كما في المختار: (56)
من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 214 ويحتمل ضعيفا أيضا أن تكون مصحفة
عن " المغبون من حسر نفسه " كما في المختار: (274) من نهج السعادة: ج 2 ص 428. وفي المختار:
(82) من نهج البلاغة: " المغبون من غبن نفسه، والمغبوط من سلم له دينه ".
282

الصادق على شفا منجاة وكرامة، وإن الكاذب على شرف هوان وهلكة.
قولوا الحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله.
أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم، وعودوا بالفضل على من
حرمكم.
وإذا عاهدتم ففوا، وإذا حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب
ألا ولا تمادحوا ولا تمازحوا ولا تباغضوا.
وأفشوا السلام بينكم، وردوا التحية على أهلها بأحسن منها، وارحموا الأرملة واليتيم،
وأعينوا الضعيف والمظلوم وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان،
واتقوا / 83 / الله إن الله شديد العقاب.
ألا وإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع، ألا وإن الآخرة قد أقبلت وأذنت باطلاع.
ألا وإن المضمار اليوم والسباق غدا.
ألا وإن السبقة الجنة والغاية النار.
ألا وإنكم في أيام مهل من ورائه أجل يحثه عجل (1) فمن عمل في أيام مهله قبل
حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أمله، ومن لم يعمل في أيام مهله قبل حضور أجله
ضره أمله ولم ينفعه عمله (2).

(1) كذا في المختار: (274 و 56) من القسم الأول والثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 2 ص 431
و: ج 3 ص 220.
ورسم الخط من أصلي هاهنا في قوله: " يحثه " غير واضح وكأنه يقرأ: " تحته " بالمثناتين الفوقانيتين
(2) من قوله: " ألا وإن الدنيا.. ". إلى قوله: " لم ينفعه عمله.. ". رواه السيد الرضي رحمه الله في المختار:
(28) من نهج البلاغة، وله مصادر كثيرة أخر.
283

ألا وإن الأمل يسهي العقل ويورث الغفلة ويأتي بالحسرة.
ألا فاعزبوا عن الأمل كأشد ما أنتم عن شئ عازبون، فإنه غرور وصاحبه مغرور.
وافزعوا إلى قوام دينكم بالجد في أموركم فإني لم أر كالجنة نام طالبها ولا كالنار
نام هاربها.
وتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم (1) واعملوا خيرا ليوم يفوز بالخير
من قدمه، وانتفعوا بما وعظكم الله به، واذكروا بلاه عندكم.
فسبحان الرحيم بخلقه، الرؤوف بعباده على غناه عنهم وفقرهم إليه قريب الرحمة
واسع المغفرة قوة كل ضعيف ومفزع كل ملهوف.
فنحمده على ما أخذ وأعطى، وعلى ما أبلى وابتلى فسبحانك. خالقا ومعبودا (2)
وسبحانك بحسن بلائك عند خلقك محمودا.
سبحانك خلقت دارا وجعلت [فيها] مأدبة مطعما ومشربا وأزواجا وخدما وقصورا
وعيونا، ثم أرسلت داعيا يدعو إليها، فلا الداعي أجابوا ولا فيما رغبت رغبوا ولا إلى
ما شوقت اشتاقوا، أقبلوا على حيفة يأكلون ولا يشبعون، افتضحوا بأكلها واصطلحوا
على حبها فأعمت أبصار صالحي زمانها، ففي قلوب فقهائهم من عشقها مرض ومن
عشق شيئا أغشى بصره وغطى على عورته ما في قلبه من حبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة،
ويسمع بأذن غير سميعة خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه فهو عبد لها وعبد
لمن في يديه شئ منها حيثما زالت الدنيا زال إليها، وحيثما أقبلت الدنيا أقبل عليها،
لا ينزجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ.

(1) كذا في المختار: (56) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 221، وفي أصلي
ها هنا: " تحزون " بإهمال الحروف الأولى.
(2) وانظر المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 648 ط 1، والمختار: (109) من نهج البلاغة
284

فسبحان الله كيف فارقوا الدور ونزل بهم من الله المحذور، وصاروا إلى القبور
واحتبروا دواهي تلك الأمور (1) فعلم كل عبد منهم أنه كان مغرورا، فغير موصوف
ما نزل بقلوبهم (2) اجتمعت عليهم خلتان: سكرة الموت وحسرة الفوت، فاغبرت لها
وجوههم وتغيرت لها ألوانهم، وفترت لها أطرافهم، وحركوا لمخرج أرواحهم أيديهم
وأرجلهم، وعرقت لها جباههم.
ثم ازداد الموت فيهم فحيل بين أحدهم ومنطقه وإنه ليدير بصره في أهله يبصر
ببصره ويسمع بسمعه، وإنه على صحة من عقله قد منع كلامه (3) يفكر بعقله فيما أفنى
عمره وفيما ذهبت أيامه ويتذكر أموالا جمعها (4) أغمض في مطالبها قد لزمه وبالها، وأشرف
على فراقها، تبقى لمن وراءه فيكون المهنئ لغيره، والمرء قد علقت بها رهونه، فهو يعض
يده ندامة على ما أصحر له عند الموت وزهدا فيما كان يرغب فيه في حياته [و] يتمنى
أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها أنها كانت له دونه.
ثم لم يزل الموت يربده (5) ويبالغ في جسده حتى خالط الموت سمعه فصار / 84 /
بين أهله لا ينطق بلسانه ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه في النظر في وجوههم يرى حركات
ألسنتهم ولا يسمع كلامهم فما زال يزيده حتى خالط عقله فصار لا يعقل بعقله. ثم
زاده الموت حتى خالط بصره فذهبت من الدنيا معرفته وهتكت عند ذلك حجته (6).

(1) وفي نهج السعادة: " قد منعوا من الكلام، وغابت منهم الأحلام، وقد أجالوا الأفكار فيما أفنوه من الأعمار،
وتحسروا على أموال جمعوها وحقوق منعوها [وقد] أغمضوا في طلبها فلزمهم وبالها حين أشرفوا على فراقها.. ".
(2) كذا في أصلي، وانظر المختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 649 ط 1.
(3) وفي المختار: (109) من نهج البلاغة: " فغير موصوف ما نزل بهم ".
(4) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج البلاغة، وفي أصلي، " وتذكر أموالا.. ".
(5) كذا في أصلي، فإن صح فلعل معناه، يحبسه ويركده.
وهذه الكلمة غير موجودة في نهج البلاغة، وفي نهج السعادة: " ثم لم يزل الموت بالمرء يزيده ويبالغ في
جسده.. ".
(6) كذا في الأصل.
285

فما زال الموت كذلك حتى بلغت النفس الحلقوم ثم زاده الموت حتى أخرج الروح
من جسده فصار [جيفة] بين أهله قد أوحشوا من جانبه [وتباعدوا من قربه] لا يسعد
باكيا ولا يجيب داعيا (1).
ثم أخذوا في غسله فنزعوا عنه ثياب أهل الدنيا ثم كفنوه فلم يزروه ولكن أدرجوه
فيه إدراجا (2) ثم ألبسوه قميصا لم يكفؤا [عليه] أسفله (3) ثم حنطوه وحملوه حتى
أثوا به القبر [فأدخلوه] ثم انصرفوا عنه وخلوه (4).
فخلا في ظلمة القبر وضيقه ووحشته، فذلك مثواه حتى يبلى جسده ويصير رفاتا
ورميما.
حتى إذا بلغ [الكتاب أجله] والأمر إلى مقاديره، ألحق آخر الخلق بأوله وجاء
من أمر الله ما يريد [ه] من تجديد خلقه أمر بصوت من سماواته أمار السماء (5) فشقها
وفطرها وأفزع من فيها وبقي ملائكتها على أرجائها.
ثم وصل الأمر إلى الأرضين والخلق لا يشعرون فأرج أرضهم وأرحفها بهم وزلزلها
وقلع جبالها من أصولها ونسفها ودك بعضها بعضا من هيبة جلاله (6) ثم كانت كالعهن
المنفوش دكها هي وأرضها دكة واحدة فأخرج من فيها وجددهم بعد [إ] بلائهم (7)

(1) ما بين المعقوفات مأخوذ من المختار: (109) من نهج البلاغة.
(2) كلمة: " يزروه " كانت في الأصل مهملة غير منقوطة.
(3) كذا في أصلي، ولكن من غير همزة: " لم يكفوا "،
وما بين المعقوفين مأخوذ من نهج السعادة: ج 2 ص 652، وانظر ما علقناه عليه.
(4) ما بين المعقوفات مأخوذ من نهج السعادة.
وفي نهج البلاغة: " ثم حملوه إلى مخط في الأرض وأسلموه فيه إلى عمله وانقطعوا عن زورته ".
(5) كذا في أصلي بالراء المهملة، وفي نهج البلاغة: أماد السماء.. " بالدال المهملة.
(6) وزاد بعده في نهج البلاغة: " ومخوف سطوته ".
(7) ومثله في نهج السعادة، وفي نهج البلاغة: " فجددهم بعد إخلاقهم ".
286

وجمعهم بعد تفرقهم لما يريد من توقيفهم ومساءلتهم عن الأعمال فمن أحسن منهم يجزيه
بإحسانه [ومن أساء منهم يجزيه بإساءته]. (1)
ثم ميزهم فجعلهم فريقين فريقا في ثوابه وفريقا في عقابه. ثم خلدهم لا بد دائم
خيره مع المطيعين، وشره مع العاصين.
فأثاب أهل الطاعة بجواره وبخلوده في داره وعيش رغد، وخلود أبد، ومجاورة
رب كريم ومرافقة محمد صلى الله عليه وآله حيث لا يطعن النزال ولا تغير
بهم الحال ولا تصيبهم الأفزاع ولا تنوبهم الفجائع ولا تصيبهم الأسقام ولا الأحزان (2)،
قد أمنوا الموت فلا يخافون الفوت صفا لهم العيش ودامت لهم النعمة والكرامة في أنهار
من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار
من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم.
على فرش منضدة وأزواج مطهرة وحور عين كأنهن بيض مكنون، وكأنهن
الياقوت والمرجان.
في فاكهة دائمة غير مقطوعة ولا ممنوعة، تدخل عليهم الملائكة من كل باب
سلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار مع التحية من العزيز الجبار سلام قولا من
رب رحيم، وبرزت الجحيم للغاوين.
ونزل بأهل معصيته سطوة مجتاحة وعقوبة متاحة وقربت الجحيم بالسواطع من
اللهب وتغيظ وزفير ووعيد، قد تأجج جحيمها وغلا حميمها وتوقد سمومها وحمى
زقومها لا يخبأ سعيرها ولا ينقطع زفيرها ولا يموت خالدها ولا يظعن مقيمها ولا يفادى

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج السعادة، وما بين المعقوفين أيضا مأخوذ منه، وفي أصلي: " جزي بإحسانه ".
(2) كذا في أصلي، وفي نهج السعادة: " ولا يمسهم الأسقام والأحزان.. ".
287

أسيرها ولا يفصم كبولها.
معهم ملائكة الرب يبشرونهم بنزل من حميم وتصلية [من] جحيم وطعام من
زقوم [وهم] عن الله عز وجل محجوبون، ومن رحمته آيسون، ولأوليائه مفارقون
حتى إذا أدركوا فيها جميعا - نعوذ بالله منها ومما قرب إليها من قول أو عمل / 85 / أو
هوى " قالوا: ما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " (1)
وهي ترميهم بشرر كالقصر كأنه جمالة (2) صفر. ثمن يناديهم مالك: لكم الويل
الطويل والحسرة والندامة أما وعزة ربي وجلاله: لأذيقنكم أليم عذابه، والأيدي منهم
مغلولة إلى الأعناق وقد قرن النواصي بالأقدام وألبست الأبدان القطران وقطعت لهم
فيها مقطعات من نيران في عذاب أبد حديد يزيد ولا يبيد، لا مدة للدار فتفنى ولا
أجل للقوم فيقضى (3) فنعوذ بالله من النار وما قرب إليها من قول أو عمل (4).

(1) هذا مقتبس من الآية: (101 - 102) من سورة الشعراء: 26.
(2) هذا هو الظاهر المقتبس من الآية: (34) من سورة: والمرسلات: 77، وفي أصلي: (جمالات).
(3) وكأنه إشارة إلى قوله تعالى في الآية: (36) من سورة فاطر: 35: " لا يقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف
عنهم من عذابها ".
(4) وبعد هذا في المختار: (109) من نهج البلاغة، والمختار: (348) من نهج السعادة: ج 2 ص 656 زيادات.
288

[كلامه عليه السلام في قدح المتنسكين من الجهال والمواظبين على بعض العبادات
المستهينين بشأن العلماء الربانيين].
وقال [عليه السلام] في ذم الحشوية والجهال وأصحاب الرواية [الفاقدين للدراية]
والمستهينين بالعلماء بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال:
ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم أن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات
حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. وليس يهيج على التقوى نسج أصل (5) ولا يظمأ على
اليقين زرع قوم وإن الخير [كله] فيمن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره.
وإن من أبغض الرجال إلى الله لعبد وكله الله إلى نفسه جائزا عن قصد السبيل سائرا
بغير علم ولا دليل مشغوف بكلام فتنة (6) أو رجل [وضع] علما في غمار من الناس
أوباش عشوة غار مخدوع بأغباش فتنة قد لهج فيها بالصوم والصلاة، فهو فتنة لمن
افتن بعبادته صاد عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به من بعده.
سماه أشباه الناس عالما ولم يغن في العلم يوما سالما، بكر واستكثر مما قل منه خير مما

(5) كذا في الأصل، وفي المختار: (21) من نهج السعادة: ج 3 ص 91: " لا يهيج على التقوى زرع قوم
ولا يظمأ عنه سنخ أصل.. ".
(6) وفي المختار: (21) من القسم الثاني من باب الخطب من نهج السعادة: ج 3 ص 92: " مشغوف بكلام
بدعة.. ".
289

كثر حتى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل قعد بين الناس مفتيا قاضيا ضامنا
لتخليص ما ورد عليه إن قاس شيئا بشئ لم يكذب نفسه كبلا يقال لا يعلم
وإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ حشوا من رأيه ثم قطع بالشبهات خياط عشوات (1)
وركاب جهالات فهو من رأيه على مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ،
لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ولم يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم يذروا الرواية ذرو
الريح الهشيم، تصرخ منه المواريث وتبكي عنه الدماء ويستحل بقضائه الفرج الحرام،
غير ملئ والله بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لما فرظ به (2) فأولئك الذين حلت عليهم
النياحة أيام حياتهم (3).

(1) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " بخياط عشوات... ".
(2) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " فرط به.. ".
(3) هذا الذيل غير موجود في المختار: (17) من نهج البلاغة، وكذا لا يوجد في المختار: (1) من القسم
الثاني من خطب نهج السعادة، ولكنه موجود في الحديث: (9) من الجزء: (9) من أمالي الشيخ الطوسي
رحمة الله عليه وفي الحديث: (1280) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق للحافظ ابن
عساكر: ج 3 ص 223.
290

[كلامه عليه السلام في مبدئ الفتن وأصل الانحراف عن الحق والحقيقة
والشرع والشريعة].
وقال [عليه السلام] في الفتن:
[إن] بدء [وقوع] الفتن أن تقع أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب
الله ويتولى عليها رجال رجالا بغير دين الله، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف
على المرتادين و [لو أن] الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه [أ] لسن المعاندين (2)
ولكن يؤخذ من كل ضغث فيمزجان [و] هنالك استولى الشيطان على حزبه (3) ونجى
الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

(1) وفي المختار: (65) من نهج السعادة: ج 1، ص 224: " أيها الناس إن مبدأ وقوع الفتن أهواء تتبع،
وأحكام تبتدع.. ". وفي المختار: (50) من نهج البلاغة: " إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع.. ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لما في نهج البلاغة، وفي أصلي،: " أو الحق من يخلص من فلبس الباطل... ".
(3) هذا هو الظاهر، وفي الأصل: " على حربه والعما؟ ". وفي نهج البلاغة: " فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه،
ووينجو الذين سبقت.. ".
291

[كلامه عليه السلام في أكثرية المبطلين من المحقين في أكثر الأزمان، وغلبة
الأقلية المحقة على المبطلين في بعض الأحيان].
حق وباطل ولكل أهل فلئن أمر الباطل لقديما ما فعل، ولئن قل الحق لربما ولعل (1)
ولقد خاب من افترى وهلك من ادعى إن الله أدب هذه الأمة بالسيف والسوط فليس
لأحد [عند الإمام] فيهما هوادة (2) فاستتروا ببيوتكم وأصلحوا ذات بينكم والتوبة
من ورائكم، من أبدى صفحته للحق هلك.
فاعتبروا / 86 / أيها الواقفون وتدبروا معاشر المقصرين ما ذكرنا من سوابق أمير المؤمنين
وما نحن ذاكرون من فضائله في كل مذكور من الخير، فوالله لو لم يكن إلا ما ذكرنا
في كتابنا هذا لكان بائنا من الخلق كلهم ولكان مقدما على جميعهم فكيف وما تركنا
أكثر مما ذكرنا.
وكيف لا تتخلفون عن مناقبه وتقفون في أمره وقد ملتم إلى العصبية فحفظتم فضائل
غيره وأعرضتم عن فضائله، وإذا ذكرت أموره لم تصغوا إليها وتوليتم عنها ونبزتم ذاكرها

(1) هذا هو الصواب الموافق للمختار: (16) من نهج البلاغة ومثله وفي المختار (51) من نهج السعادة: ج 1،
ص 177.
(2) وفي أصلي: " فلئن أمن الباطل لقديما ما فعل، ولئن مر الحق لربما ولعل.. ".
(2) ما بين المعقوفين مأخوذ من المختار: (54) من نهج السعادة: ج 1، ص 194، والهوادة بفتح الحاء:
اللين.
292

بالألقاب (1).
ولقد فعلت اليهود والنصارى دون هذا فلم يذكروا لمحمد صلى الله عليه وسلم فضيلة
ولا وقفوا من عجائب آياته على علامة ولا دلالة، لتركهم سبيل الإنصاف وطريق النظر
في معرفة محمد عليه السلام.

(1) قال أبو جعفر: وقد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام، وعاقبوا ذلك الراوي له
حتى إن الرجل إذ روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه فيقول: عن
أبي زينب.
وروى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب يوما
إلى الليل وأن عنقي هذه ضربت بالسيف!!
فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة لانقطع نقلها
للخوف والتقية من بني مروان مع طول المدة وشدة العداوة.
ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث ولا عرفت له منقبة، ألا
ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره ونسي
اسمه، وصار وهو موجود معدوما، وهو حي ميتا.
هكذا رواه ابن أبي الحديد في شرح المختار: (57) من نهج البلاغة: ج 4 ص 73 عن المصنف في
كتاب التفضيل.
293

[في أن عامة كلم أمير المؤمنين عليه السلام قد حلى بها المتكلمون كتبهم وتزين
بها الوعاظ والقصاص مجالسهم ولكن انتحلوها ونسبوها إلى أنفسهم].
وأعجب من هذا! أن عامة ما ذكرنا من كلامه - وما لم نذكره من خطبه في
التوحيد والثناء على الله وتذكيره ومواعظه - قد تحلى بها أكثر المتكلمين وتزين بها الواعظون
وتكسب بها القصاص وتكثر بها في مجالسهم أهل الذكر وأوهموكم أن ذلك من كلامهم
فنسبتم ما سمع من ذلك إليهم كمنصور بن عمار ومن أشبهه من القصاص،
قلة عناية منكم بما صدر عنه، وجهلا بما يؤدى إليكم من علمه وخطبه وقلة تمييز لما
يرد عليكم من كلام غيره.
وجميع ما ذكرنا وما لم نذكره من كلامه فهو مشهور مذكور عند أهل الرواية،
وبالأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف (1).
فأين التخلف عن فضله وقد بزغت مناقبه؟ وما العلة في تقصير ما يجب من أداء حقه؟
بعد الذي شرحنا من أموره وذكرنا من فضائله [و] ليس بعد هذا علة فيدعيها الواقف،
ولا شبهة فيلجأ إليها المقصر، لأن كل الذي وصفنا إن لم يكن سببا إلى الافراط والغلو
لم يجد الناظر فيه سبيلا إلى منزلة التقصير والوقوف،
فانظروا في ذلك نظر من يلتمس الصواب ويقتديه ويكره الخطأ ويزهد فيه.

(1) هذا هو الظاهر، وفي أصلي: " والأسانيد المذكورة عند أهل المعرفة معروف ".
294

فأبو بكر وإن كان فاضلا فقد كان في بدنه ضعيفا ولم يكن على أكناف أهل العداوة
في الحروب ثقيلا، ولا كان في ذلك مقدما، ولا لعلي مدانيا، وإن كان في منزلة السبق
سابقا فلم يكن في شدائد امحن السبق داخلا ولا كان بالحصار ممتحنا وبالفراش مخصوصا
وعلي في كل ذلك عليه مقدم.
وأبو بكر وإن كان بالله عالما (1) فلم يبلغ من الرساخة في العلم والذب عن الله
بالمحاجة في العلم والدين والرد على الملحدين ما يقرب من منزلة علي (2) في علم التوحيد،
وأبو بكر وإن كان خطيبا بليغا (3) فلم يكن في خطبه متسعا ولا في بلاغته مسحنفرا (4)
ولا للمعاني الدالة على لطافة العلم بغائص الفهم ولطافة الفكر مستخرجا.
وإن كان أبو بكر هذا صبورا فلم يبلغ من زهده زهد من قاسى الفقر في أوله،
وقاسى عدم الكفاية في أيامه، وسعى في طلب قوته بمؤاجرة نفسه، وعف عن مال الله
عند إقبال الدنيا عليه وحين أفضت الخلافة إليه.
ولم يمتحن أبو بكر بالاستئثار عليه ولا امتحن في زمانه بحدوث / 87 / الفتن المتراكمة

(1) ولكن لم يكن يتجاوز علمه عما يعرفه كل بدوي بفطرته، أو عجوز بصنعتها، والدليل عليه عدم ورود أثر
ولو كان ضعيفا عنه مع شدة حاجة أوليائه إلى ذلك.
ومع كون سلطة بلاد المسلمين إلى الآن بيد أوليائه من غير انقطاع، فالصواب إنه لم يكن في علم الإسلام
بعالم، وإلا كان يبرز له علم في بعض مجالات الدين، وحيث لم يظهر منه شئ مع شدة حاجة شيعته إليه
إليه ومع تمكنهم في البلاد من عصره إلى عصرنا هذا - يتبين أنه لم يكن عالما، وفي مثل المقام قطعيا وبديهيا
يصح أن يقال: عدم الوجدان يدل على عدم الوجود إذ لو كان لبان.
(2) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " وما يقرب من منزلة علي.. ".
(3) ولعله أراد بلاغته في خطبته التي ألقاها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وقوله فيها: " ألا ومن كان
يعبد محمدا فإن محمدا قد مات؟!! ".
(4) رسم خط هذه الكلمة لم يكن في الأصل واضحا.
295

والشبهات الحادثة من بغى من بغا عليه ونكث من نكث عليه وشبه الأمور ولبس، و [من]
تخلف من تخلف [عنه] ممن افتتن الناس بتخلفه واقتدى الجاهل بقعوده.
ولقد امتحن أبو بكر بالردة في زمانه وكان لعلي في تلك الحال الفضيلة لأنه هو
المشير على أبي بكر بالقيام بحرب الردة (5).
ففي كل ما ذكرنا علي بن أبي طالب المخصوص به القائم بحق الله فيه الفال لتلك
العساكر بحده والمدبر للأمور بفضل رأيه والداعي في ذلك الساعات إلى أوضح المحجة
بأصدق نية وأبلغ مقالة وأنجح حجة وأهدى سبيل وأحسن هدى وأبلغ منطق وأحد حد
وأشد بأس، وأخمد لهب الفتنة، وهتك ستر الشبهة بعمود السنة، وبقر الباطل فأخرج
الحق من غضارته (1) وخلصه من لبس المعاندين له، مكدودا دوما في ذات الله لا كليل
الحد ولا وإن الضريبة، لم تصرفه عن طاعة ربه رغبة، ولم يفتر (2) عند الكريهة والشديدة
مضى على منهاج صاحبه وأخيه يقفوا أثره ويسير سيرته في عدوه ووليه، فباشر من
حقائق الصبر ما لم يباشره أحد فصبر على مر الحق ومحنة الفقر صبرا استلان [له]
ما صعب على المترفين، وأنس بما استوحش منه الجاهلون (3) وصحب الدنيا بعفاف

(5) إن أراد المصنف من حرب الردة حرب مسيلمة الكذاب والسجاح والأسود العنسي وأتباعهم فصحيح، وإن
أراد معنى أعم من ذلك بحيث يشمل وقعة قتل مالك بن نويرة فمحكمات التاريخ تكذبه..
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: " من خاصرته ".
(2) هذا هو الصواب، وفي أصلي: " ولم يفتن.. ".
(3) هذا هو الصواب، وفي الأصل: " وأنس بحيث ما استوحش منه الجاهلون ".
وكلام المصنف هذا مقتبس من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته إلى كميل بن زياد المعروفة بين
الخاص والعام.
ومن قوله: " وخطة فصل " الآتي بعد ثلاث فقرات إلى قوله: " عطائك المعلول ". أيضا مقتبس
مما رواه المصنف عن أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم في ص 258.
وقد رواه أيضا السيد الرضي في المختار: (70 و 106) من نهج البلاغة..
296

صادق، وعدل ظاهر، ونزاهة نفس وخطة فصل ومنطق عدل، ففتح الله به ما أغلق،
وأعلن به ما كتم، ودمغ به الباطل في غير نكل في قدم ولا واه في عزم.
اللهم فأكرم لديك مثواه ونزله وتمم له نوره واجزه كما حمل، فاضطلع بأمرك
مستوفزا في مرضاتك، حافظا لعهدك ماضيا على نفاذ أمرك.
اللهم فاجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة مرضي المقالة، شريف المنزلة، من فوز
ثوابك المحلول، وجزيل عطائل المعلول.
297

[أجوبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن أسئلة ابن الكواء عن آيات من
القرآن الكريم وعن أجلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم. وفي ذيل الكلام بيان منزلته عليه
السلام عند رسول الله، ثم قوله حول
اختلاف الأحاديث
المروية عن رسول الله، وأن المعتمد منها هو ما
اقتبسه عنه صلى الله عليه وآله
وأما غيره فلا بد من التثبت فيه]
وذكروا أن ابن الكواء لما سمع عليا يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن
العلم يقبض قبضا، سلوني فإن بين الجوانح [مني] علما جما.
فقام إليه ابن الكواء فقال: [أنا] أسألك يا أمير المؤمنين؟ فقال: سل تفقها ولا تسل
تعنتا، وسل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك. قال: يا أمير المؤمنين: ما " الذاريات ذروا "؟ (1)
قال: تلك الرياح. قال: فما " الحاملات وقرأ "؟ (2) قال: تلك السحاب. قال:
فما " الجاريات يسرا " (3) قال: تلك السفن. قال: فما " المقسمات أمرا "؟ (4) قال:
تلك الملائكة.

(1 - 4) الآيات من أول سورة " والذاريات ": 51، وما في هذه الرواية أخيرا أي قوله: " فالمقسمات أمرا " هو
الصواب، ومثلها في رواية أبي الفرج دون ما في رواية ابن عساكر في ترجمة ذي القرنين من تاريخ دمشق
كما نبهنا على ذلك في تعليق المختار: (341) من نهج السعادة: ج 2 ص 628.
298

قال: فحدثني عن [قول الله: و] " البيت المعمور والسقف المرفوع " [4 - 5 /
الطور: 52]. قال: ذلك الضراح بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك.
قال: فحدثني عن ذي القرنين! أني أم ملك؟! قال: ليس واحد منهما ولكن
كان عبدا نصح الله فنصح الله له، وأحب الله فأحبه.
قال: فأخبرني فيمن نزلت هذه الآية: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا
وأحلوا قومهم دار البوار " [28 / إبراهيم: 14] قال: هم الأفجران من قريش:
بنو أمية وبنو المغيرة (1)، فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى
حين.
قال: فحدثني عن قوله: " قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم
في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " [103 / الكهف: 18]. قال:
هم أهل حروراء.
قال: يا أمير المؤمنين فحدثني عن هذه المجرة ما هي؟ قال: هذه أسراج السماء
ومنها هبط من السماء / 88 / الماء المنهمر (2).
قال: يا أمير المؤمنين فحدثني عن قوس قزح؟ قال: لا تقل قوس قزح ولكنها قوس
الله وأمان من الغرق.
قال: فحدثني عن هذا المحق الذي (3) في القمر ما هو؟ قال: قال الله: " فمحونا

(1) أنظر كتاب فضائل الخمسة: ج 3 ص 306 ط 2.
(2) كذا في أصلي، وفي المختار: (342) من نهج السعادة: ج 2 ص 632: " قال: فما المجرة؟ قال: شرج
السماء، ومنها فتحت أبواب السماء بماء منهمر زمن الغرق على قوم نوح ".
أقول: وذيل الكلام إشارة إلى قوله تعالى في الآية: (11) من سورة القمر: (54): " ففتحنا أبواب
السماء بماء منهمر ".
(3) لفظة: " المحق " رسم خطها غير واضح في أصلي.
299

آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " [12 / الإسراء: 17] كان ضوء القمر مثل ضوء
الشمس فمحاه الله.
قال: فحدثني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: سل عمن
أحببت. قال: عبد الله بن مسعود؟ قال: قرأ القرآن وقام عنده.
قال: فحدثني عن أبي ذر الغفاري. قال: عالم شحيح على علمه.
قال: فعن حذيفة بن اليمان [حدثني؟] قال: عرف المنافقين وسأل عن المعضلات
ولو سألتموه وجدتموه بها خبيرا.
قال: فحدثني عن سلمان الفارسي؟ قال: علم علم الأول والعلم الآخر وهو بحر
لا ينزح، ويحك ومن لك بلقمان الحكيم وهو منا أهل البيت.
قال: فحدثني عن عمار بن ياسر قال: خالط الإيمان شعره وبشره ولحمه ودمه
وعصبه وعظامه وهو محرم على النار، كيف زال الحق زال معه عمار.
قال: فحدثني عن نفسك قال: قال الله: " فلا تزكوا أنفسكم "! قال: وقد
قال: " وأما بنعمة ربك فحدث " [11 / الضحى] قال: ويحك!
كنت أول داخل على [النبي] وآخر خارج [من عنده] وكنت إذا سألت أعطيت
وإذا سكت أبتديت، وكنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم دخلة
وفي كل ليلة [دخلة] وربما كان ذلك في بيتي يأتيني رسول الله عليه الصلاة والسلام
أكثر من ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله أخلا بي وأقام نساءه فلم يبق
[عنده] غيري، وإذا أتاني لم يقم فاطمة ولا أحدا من ولدي، فإذا سألته أجابني،
وإذا سكت عنه ونفدت مسائلي ابتدأني.
فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي
وكتبتها بخطي فدعا الله أن يفهمني ويعطيني، فما نزلت آية من كتاب الله إلا حفظنها
300

وعلمني تأويلها.
وما تركت شيئا من حلال ولا حرام إلا وقد حفظته وعلمني تأويله، لم أنس منه
حرفا واحدا منذ وضع يده صلى الله عليه وسلم على صدري فدعا الله أن يملأ قلبي فهما
وعلما وحكما ونورا (1).
وفي تحقيق ذلك: ما تأثرونه من روايتكم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك ولا أجفوك، فحقيق علي أن
أعلمك وحقيق عليك أن تعي (2).
وذكروا أن سائلا سأله عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر
فأقبل على السائل فقال له: قد سألت فافهم الجواب (3).

(1) هذا هو الصواب الموافق لما نذكره الآن في المصادر التالية، ورسم الخط في أصلي: " وكلما ".
وليعلم أن الأسئلة ابن الكواء هذه مصادر وأسانيد وصور عديدة من حيث الاجمال والتفصيل واشتمالها
على الخصوصيات.
وما ذكره المصنف ها هنا من أتم صورها.
وقد ذكرنا صورا منها في المختار: (340) من القسم الأول من باب الخطب من نهج السعادة: ج 2
ص 626، وفي المختار: (111) من القسم الثاني من باب الخطب: ج 3 ص 419 ط 1.
ولكن التفصيل المذكور في هذا الذيل ها هنا غير وارد فيما أدرجناه في نهج السعادة من الصور المشار إليها.
نعم هذا التفصيل ذكره في كتاب سليم بن قيس الهلالي ص 91 وفي الحديث الأول من باب اختلاف
الحديث وهو الباب: (20) من كتاب فضل العلم من الكافي: ج 1، ص 62، وذكره أيضا الشيخ
الصدوق في الحديث: (131) من باب الأربعة من كتاب الخصال ص 255. وفي باب الحديثين المختلفين
من اعتقاداته،
وذكره أيضا النعماني في الباب الرابع من كتاب الغيبة وغيرهم في غيرها، ولكن في كل هذه المصادر
جعلوا هذا الذيل جزءا للحديث الأخير الآتي من هذا الكتاب.
(2) ولهذا الحديث مصادر كثيرة وأسانيد جمة جدا تجد أكثرها في الحديث: (1007) وما يليه وتعليقاتها في
تفسير قوله تعالى في الآية: (12) من سورة الحاقة في كتاب شواهد التنزيل: ج 2 ص 271 - 285
(3) كذا في كثير من المصادر، وفي أضلي هاهنا: " فافهم الجواب الجواب.. ".
301

إن في أيدي الناس حقا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصا ومحكما
متشابها وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده حتى
قام خطيبا فقال:
من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج (1) يكذب على
رسول الله متعمدا، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم
قالوا: هذا صاحب رسول الله / 89 / صلى الله عليه وسلم ورآه وسمع منه. فيأخذون
عنه (2) وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به، ثم بقوا بعد
النبي صلى الله عليه وسلم فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان
فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا (3) وإنما الناس مع الملوك
والدنيا إلا من عصم الله.
فهذا أحد الأربعة.

(1) هذا هو الظاهر الموافق لما في المختار: (207) من نهج البلاغة، وفي أصلي: " ولا يتأثم ولا يتحرج ".
ولا يتأثم: لا يبالي بارتكاب الإثم والوقوع فيه. ولا يتحرج: لا يرى ارتكاب أي جريمة حرجا عليه أي حراما عليه.
(2) هذا هو الظاهر الموافق للسياق ولما رويناه عن مصدر آخر في المختار: (331) من نهج السعادة: ج 2 ص
610، وفي أصلي ومثله في نهج البلاغة: " فيأخذون عنه... ".
(3) وها هنا أحد أسس السعادة والشقاوة، ومبنى من مباني الرشد والغي ولا ينبغي الذهول والخروج منه، ومفارقته
بلا تدبر وتعمق.
وراجع أيضا بتعمق ما رواه ابن أبي الحديد في شرح الكلام أي المختار: (203) من نهج البلاغة: ج 11، ص 43.
302

ورجل سمع من رسول الله عليه السلام شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه (1)
ولم يتعمد كذبا، فهو في يديه يعمل به ويرويه ويقول: أنا سمعته [من رسول الله
صلى الله عليه وآله] قلو علم المسلمون أنه وهم [فيه] لم يقبلوه (2) ولو علم هو أنه وهم
لرفضه (3).
ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو
لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ
فلو يعلم (4) أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا [من] الله وتعظيما
لرسول الله ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص
منه وحفظ الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ (5) وعرف الخاص من العام
فوضع كل شئ موضعه وعرف المتشابه بمحكمه (6)

(2) هذا هو الظاهر فيه، وفي تاليه في آخر هذا القسم الموافق لما في نهج البلاغة وغيره من مصادر الكلام، وها
وهاهنا في كلي الموردين من أصلي: " فأوهم فيه... ولو علم المسلمون أنه أوهم.. ".
ووهم فيه - على وزن وجل ويابه -: غلط فيه وأخطأ.
(3) ما بين المعقوفين مأخوذ من نهج البلاغة، وهو الصواب، وفي أصلي: " أنا سمعته كثيرا فلم علم المسلمون
أنه أوهم [فيه] لم يقبلوه.. ".
(4) وفي نهج البلاغة: " ولو علم هو أنه كذلك لرفضه ".
(5) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " فحفظ المنساخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ.. ".
(6) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وما بين المعقوفين أيضا منه،
وفي أصلي: " خوفا لله وتعظيما لرسول الله ولم يوهم... ".
(7) كذا في أصلي، وفي نهج البلاغة: " فحفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه.. ".
(8) أي عرف المتشابهات من كلام رسول الله بمحكماته. والمتشابه من الكلام: يحتمل على وجوه كثيرة ولا ظهور
له في أحدها. والمحكم: المتقن الذي يكون معناه واضحا.
وفي نهج البلاغة: " وعرف الخاص والعام، وعرف المتشابه ومحكمه.. "
303

وقد كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان:
فكلام خاص وكلام عام فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى به رسوله
فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله.
وليس كل أصحاب رسول الله [من] كان يسأله ويستفهمه حتى [أن] كانوا
ليحبون أن يجئ الأعرابي أو الطارئ فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا (1).
وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألت عنه وحفظته.
فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم (2).
انتهى كلامه عليه السلام (3).

(1) ما بين المعقوفات مأخوذ من نهج البلاغة، وفيه أيضا: " أن يجئ الأعرابي والطاري.. ".
(2) هذا هو الظاهر الموافق لنهج البلاغة، وفي أصلي: " ما على الناس في اختلافهم.. ".
(3) قال الشيخ محمد باقر المحمودي: هذا آخر ما وجدته من كتاب المعيار والموازنة. وقد فرغت من كتابة
هذه الدرة اليتيمة والجوهرة الثمينة، ومقابلتها مع الأصل المخطوط بمعونة ابني الشيخ محمد كاظم المحمودي.
وكان بدء إقدامي على استنساخ الكتاب في أواسط شهر شوال المكرم من سنة (1399) الهجرية، وأنهيت
كتابته ومقابلته مع الأصل المأخوذ منه في طول أيام وليالي آخرها يوم الجمعة الثامن عشر من شهر ذي القعدة
الحرام من العام (1399).
وأما الأصل فكان بخط نسخ جميل مشتملا على أغلاط إملائية كثيرة، مع بلاغات في حواشيه، وكان
في ختامه توقيعات من بعض أكابر اليمنيين ممن فاز بمطالعة الكتاب.
وقد من الله تعالى علينا بالتصدي لنشره في أوائل شهر جمادى الثانية من العام (1400) الهجري، وأنهيناه
وفرغنا منه في شهر شوال المكرم من العام المذكور،.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
304

فهرس كتاب المعيار والموازنة
6 مقدمة المؤلف وسبب تأليفه الكتاب.
17 في أن علة انحراف الناس عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كانت من أجل
الأحقاد الجاهلية والضغائن الطائفية.
20 أرجحية القول بتفضيل علي عليه السلام استنادا إلى روايات أكابر الصحابة على
القول بمفضوليته تقليد لابن عمر. ثم إبطال المصنف ما تمسك به المنحرفون
على مفضولية علي من تكلم عدد قليل من ضعفاء الصحابة فيه، بمردودية قول
هؤلاء بتقريض جم غفير من عظماء الصحابة إياه.
ثم معارضتهم ونقض مزعمتهم بأن من تكلم من عظماء الصحابة في عثمان كان
أكثر ممن تكلم في علي من أصاغر الصحابة، فما بال المنحرفين لم يتأثروا بكلام
أشراف الصحابة في عثمان، وتأثروا بكلام أنذالهم في علي؟!..
25 المقايسة بين ما صنعة الإمام أمير المؤمنين من الصفح والرجاحة وبين ما أتى به
غيره من الخفة والشراسة.
25 ما جرى بين أمير المؤمنين عليه السلام ومخالفيه بعدما بايعه الناس.
27 ما خطته أم المؤمنين عائشة ونقضته أم المؤمنين أم سلمة.
30 كتاب أم المؤمنين أم سلمة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وإعلامها إياه
بمسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، ثم إرسالها ابنها عمر بن أبي سلمة إلى
معاضده علي وتوصيتها إياه بملازمته إياه وعدم تخلفه عنه.
305

31 ذكر أصناف المخالفين والمعادين للإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
38 بدء بيعة أبي بكر وبيانه عن نفسيته.
44 نظر المؤلف في طريقة انعقاد الإمامة، ووصفه وبيانه بيعة الناس لأمير المؤمنين
عليه السلام وأنها كانت أقوى بيعة أركانا وأعظمها حجة..
47 في أن عقد بيعة أبي بكر كان من عمر، ثم عقدها أبو بكر لعمر بعده!!
49 إسراع الناس بعد قتل عثمان إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وازدحامهم
وتداكهم عليه وتقريضهم إياه بتعينه للزعامة والإمامة، وطلبهم منه أن يبسط
يده ليبايعوه، وإبائه عن ذلك، ثم إلحاح الناس عليه، ثم إتمامه الحجة
على طلحة والزبير، ثم شرطه على الناس أن يبايعوه في مسجد رسول الله، ثم
خطبته ثم مبايعة الناس إياه في المسجد.
53 خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لما بلغه مسير طلحة والزبير
وعائشة إلى البصرة وبيانه نفسيتهم وما يؤل إليه أمرهم وقصة نباح كلاب الحوأب
على عائشة وما قالت وما قالوا ودبروا لها.
57 استقبال الصحابي الكبير عمران بن حصين الخزاعي وأبي الأسود الدئلي بقرب
البصرة أم المؤمنين عائشة ونصيحتهما ووعظهما لها.
60 كتاب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى عثمان بن حنيف
الصحابي الأنصاري واليه على البصرة لما تحقق عنده مسير طلحة والزبير وعائشة
إلى البصرة، وأمره له بالتي هي أحسن. وبعض مكارم أخلاقه عليه السلام
مع أصحاب الجمل.
البيان التفصيلي لأفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر
306

بعد الأنبياء والرسل لاحتوائه على أصول المكارم وأساس المحاسن مما اجتمع
فيه وتفرق في غيره، واستغنائه عن غيره واحتياج غيره إليه.
66 بيان أفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من جهة سبقه إلى الإسلام
واعتناقه به حينما كان غيره يعبد الأصنام.
79 بعض ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام من ينابيع الحكم.
87 تقسيم مخالفي أمير المؤمنين عليه السلام على طبقات ثلاث خاسرة هالكة
88 أفضلية علي خاصة وبني هاشم عامة على سائر المؤمنين بما أبتلوا وتحملوا من
الضنك الشديد في أيام حصر قريش النبي وبني هاشم في شعب أبي طالب.
89 أفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على كافة المؤمنين في منازل الجهاد
وميادين بذل النفس والتفادي في سبيل الله. والإشارة إلى بعض نكاياته في المشركين في
غزوتي بدر وأحد.
95 بيان أشعات من أنوار الآراء العلوية، وإيراد قبسات من الأقوال والتدابير
المرتضوية الشامخة.
102 ذكر قبسات من حججه البالغة وكتبه المنيرة وسيرته الميمونة ورأيه الصائب
وتدبيره الباهر.
105 خطبته عليه السلام لما تخلف عن بيعته سعد بن أبي وقاص وابن عمر، ومحمد
بن مسلمة، ثم دعوته إياهم وعتابه لهم بمرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار
واحتجاجه عليهم.
107 كلام عما بن ياسر رفع الله مقامه مع ابن عمر وابن مسلمة ثم كلام أمير
307

المؤمنين عليه السلام في المتخلفين عنه.
109 خطبته عليه السلام لما أخبره أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
بأن طلحة والزبير التقيا بمن كان بالمدينة من بني أمية فأجمع رأيهم على نقض
بيعته.
115 بعث أمير المؤمنين عمار بن ياسر والإمام الحسن إلى الكوفة لاستنفار أهلها
إليه، ثم خطبة عمار رفع الله مقامه في أهل الكوفة واحتجاجه على أبي موسى الأشعري.
117 خطبة أخرى لعمار بن ياسر رفع الله مقامه في أهل الكوفة وحثه إياهم على
اللحاق بأمير المؤمنين.
120 خطبة زيد بن صوحان رفع الله مقامه في أهل الكوفة وتقريضه عليا عليه السلام
ثم تحريضه أهل الكوفة على اللحوق بأمير المؤمنين.
121 كلام حجر بن عدي رفع الله مقامه في تقريض الإمام الحسن عليه السلام،
ثم حثه الناس على المسير إلى مؤازرة أمير المؤمنين عليه السلام.
122 كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أصحاب الخراج.
124 كتاب عليه السلام إلى عماله لما عزم المسير إلى الفئة الباغية معاوية وجنوده إخوة
الناكثين والمارقين.
125 مشاورة أمير المؤمنين عليه السلام أهل الكوفة في المسير إلى الشام، ثم حثه
إياهم على قتال أهل الشام لما وافاه أصحابه ومن كتب إليهم بالقدوم
عليه من عماله. ثم كلام جمع من رؤساء أصحابه وقواد جنوده. ثم تقديمه
عبد الله بن بديل أمامه، ثم خطبته، ثم نهوضه بجنده إلى الشام.
308

134 نزول أمير المؤمنين عليه السلام في مسيرة إلى الشام إلى جانب دير " الرقة " ونزول
صاحب الدير إليه وعرضه عليه كتابا كتبه بعض أصحاب عيسى بن مريم في
البشارة ببعث النبي العربي ومرور وصيه على هذا الدير، ثم توصيته بالإيمان
به ومصاحبة وصيه.
136 كلام الصحابي الكبير عمار بن ياسر وكشفه ما في ضميره من إخلاصه وتقربه
إلى الله تعالى بالتفادي في سبيله في محاربة الفئة الباغية.
137 تحذير أمير المؤمنين أصحابه عن اعتياد السب واللعن وكراهيته لهم أن يكونوا
سبابين لعانين. وكتابه عليه السلام إلى معاوية.
139 خطبة ابن عباس في أهل البصرة وحثه إياهم على حرب معاوية لما بلغه كتاب
أمير المؤمنين يأمره فيه بالقدوم إليه في جند البصرة للذهاب إلى الشام.
140 وصية أمير المؤمنين لزياد بن النضر لما أمره على مقدمة جيشه وقدمه أمامه.
141 كتاب أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر وشريح بن هاني قائدي مقدمة جيشه
لما بلغه اختلافهما.
144 خطبة ابن عباس بصفين لما التقوا بمعاوية وجند الشام ثم المحاربة على الماء
واستيلاء العراقيين على الماء ثم سماح أمير المؤمنين للشاميين أن يستقوا من الماء كالعراقيين
ثم محاورة أمير المؤمنين مع حوشب ذي ظلم.
149 خطبة أمير المؤمنين ولومه أصحابه في بعض أيام صفين لما انهزموا من جند
الشام أولا ثم كروا عليهم فهزموهم آخرا. ثم خروج الزبرقان إلى ساحة القتال
وطلبه البراز من أهل العراق وبراز الإمام الحسن إليه وما جرى بينهما.
152 كلام عليه السلام لما مر على جمع من أهل الشام وهم يشتمونه.
309

154 ذكر لمعات من أنوار ما بثته حواري أمير المؤمنين وإيراد بعض ما كان عليه
مخالفوهم من زبانية معاوية.
158 شأنه وسيرته عليه السلام في حروبه ووصاياه لأصحابه عند مصارعتهم مع أعدائهم.
159 كلام عقبة المرادي في هوان الدنيا وغلاء الدار الآخرة ثم حثه على قتال معاوية ثم
خروجه مع إخوته إلى القتال واستشهادهم رضي الله عنهم.
162 خدعة عمرو بن العاص ومعاوية صبيحة ليلة الهدير برفع المصاحف على الرماح
ونداء الشاميين: يا أهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله. وانخداع العراقيين به
وتحذير أمير المؤمنين إياهم عن الركون إلى هتافهم وبيانه لهم بأن هذا مكر
منهم. وإصرار النوكي من القراء على خلافه!!!!
167 كلمات بعض القواد والرؤساء من أهل العراق لما رفع الفئة الباغية القرآن على
الرماح فانخدع العراقيون.
179 كتاب عقيل إلى أخيه الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام وجوابه ثم يجئ
سليمان بن صرد الخزاعي إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعد انخداع جمهور جند
العراق برفع الشاميين المصاحف على الرماح، وشكايته من تغير الناس عما
كانوا عليه.
182 رجوع أمير المؤمنين عليه السلام من صفين إلى الكوفة وكلامه مع عبد الله بن
وديعة واستفساره منه عن قول الناس فيما جرى بينه وبين معاوية.
وبعده كلم من أمير المؤمنين دارت بينه وبين مخالفيه صبيحة ليلة الهرير
310

بصفين، ثم كلام الأحنف مع أبي موسى الأشعري ثم اجتماع أبي موسى مع عمرو بن
العاص وانخداعه بمكيدته.
192 كلام أمير المؤمنين مع صالح بن سليم وحارث بن شرحبيل عندما رجع من
صفين وأشرف على الكوفة.
194 مفارقة النوكى والضلال من الخوارج قطب دائرة الحق علي بن أبي طالب عليه
السلام وإعلانهم بالمشاقة وتكفيرهم أصحابه وإرسال أمير المؤمنين ابن عباس
إليهم واحتجاجه معهم
198 دخول أمير المؤمنين عليه السلام معسكر الخوارج ثم قيامه فيهم بالخطبة
والاحتجاج
203 استنتاج المصنف مما ساقه من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام ثم تعقيبه بأن
محنة أمير المؤمنين كانت من أكبر المحن لا مثيل لها كما كان هو من أعظم
المؤمنين لا نظير له، ثم تنديده بالمعتزلة والمرجئة والمقلدة من المحدثين.
206 تفنيد المصنف حديث: " هما سيدا كهول أهل الجنة ".
208 بيان إجمالي في اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أخا له لما آخى بين
المهاجرين والأنصار وقرن كل شن بطبقه.
210 حديث الغدير أو لمعة من خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ب‍ " غدير خم "
ونصبه عليا خليفة لما وإماما للناس.
219 حديث المنزلة المتواتر بين المسلمين.
232 إبطال بعض ما اختلقه شيعة بني أمية في شأن الشيخين ثم تعقيبه بذكر لمع من
311

فضائل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. من حديث الطير، وقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: من آذى عليا فقد آذاني. وقوله: من فارق عليا فقد فارقني.
226 في أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فاق العالمين زهدا وصبرا
229 ذكر أعمدة من شوامخ العلو والعظمة العلوية.
232 ذكر صفحة من صفحات صبره وتحمله عن حاسديه ومعانديه.
234 ذكر نبذة من عوالم عفوه وغفرانه عمن أساء إليه وظلمه.
235 ذكر أشعة من أنوار إفضاله على المعدمين وإيثاره إياهم على نفسه وأهل بيته.
240 ثواقب من شواهد زهده وتواضعه ولطفه بالمسلمين، وكلامه عليه السلام في نعت
الكملين من الشيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله. ومالية ما
بقي من ثيابه بعد وفاته.
243 عيادته عليه السلام الربيع - أو العلاء - بن زياد الحارثي بالبصرة وكلامه معه
ومع أخيه عاصم بن زياد.
245 وصيته عليه السلام عند إشرافه على الخلاص من دار العناء ولحقوه بالملأ الأعلى.
248 لمعات من عدله عليه السلام في أهله ورعيته وقبسات من أقواله وأعماله في جذب
النفوس إلى الله تعالى منها كلامه مع الرجل الذي أراد أن يبعثه على أخذ الخراج
من أهل عكبرا.
250 أزهار من بساتين أعماله وأقواله وألطافه وعدالته في القريب والبعيد من رعيته.
ودخول أبي صالح بيت الإمام وإحضار أهله الطعام له وقول أبي صالح لهم:
أتطعموني هذا الطعام وأنتم الأمراء؟! وكلام المصنف واستنتاجه في ذيل البحث.
312

254 بيان أفضلية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على جميع البشر بعد
الأنبياء والرسل من حيث العلم وتقدمه فيه على جميع العالمين، وبيان نموذج
من كلمه عليه السلام منها خطبته الموسومة بالزهراء.
259 كلامه عليه السلام في جواب يهودي سأله: متى كان ربنا؟
260 كلامه عليه السلام في نعت الإسلام وقواعده وأركانه.
263 كلامه عليه السلام في تقريض الزهاد والترغيب في اقتفاء آثارهم
264 كلامه عليه السلام في التحذير عن الدنيا وعدم الاغترار بإقبالها والحسرة عن إدبارها.
268 كلامه عليه السلام في نعت الدنيا عندما سمع قول من يذمها.
270 من كلام له عليه السلام كان ينادي به في كل ليلة بصوت رفيع.
272 كلامه عليه السلام في كيفية الصلوات على رسول الله صلى الله عليه وآله.
274 كلامه عليه السلام في تأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم
جواز المدارات مع الفساق والطغاة.
280 كلامه عليه السلام في نعت الإمام العادل وبيان ما يخصه من الوظائف، وإنه
حجة على الرعية، وأن لها الحجة عليه إذا مال عن محجة العدالة.
289 كلامه عليه السلام في ذم الحشوية وقدح المتنسكين من الجهال المواظبين على
بعض العبادات المستهينين بشأن الربانيين من العلماء.
291 كلامه عليه السلام في شرح بداية الفتن وأساس الانحراف عن الحق والحقيقة.
292 كلامه عليه السلام في تقسيم الناس إلى المحق والمبطل وأن أكثر الناس في
313

أكثر الأوقات هم المبطلون، وإن الأقلية المحقة قد تغلب الأكثرية المبطلة.
294 في أن عامة كلم أمير المؤمنين عليه السلام قد حلى بها المتكلمون كتبهم وزين
بها الوعاظ والقصاص مجالسهم ونسبوها إلى أنفسهم!! واستنتاج المصنف
في ذيل الكلام.
298 أجوبة أمير المؤمنين عليه السلام عن أسئلة ابن الكواء حول آيات من القرآن
الكريم وبعض الأجلة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
300 قوله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي إن أمرني أن أدينك ولا أقصيك، وأن
أعلمك ولا أجفوك فحقيق علي أن أعلمك، وحقيق عليك أن تعي.
302 كلامه عليه السلام حول سبب اختلاف الأحاديث الواردة عن رسول الله وأن
المعتمد منها هو ما يرويه هو عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وأما ما
يرويه غيره فلا بد من التثبت فيه والتماس قرينة على صدقه.
314

الآيات المحكمات من كتاب الله تعالى الواردة في كتاب المعيار والموازنة، على
حسب ورودها وذكرها في أبحاث ومواضيع الكتاب
16 (قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو
للكافرين) * [98 / البقرة: 2].
* (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * [67 / الزخرف: 43].
* (إنما المؤمنون إخوة) * [10 / الحجرات: 49].
* (لا تتولوا قوما غصب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم) * [13 / المجادلة 58]
* (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * الآية 22
المجادلة: 58].
25 " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما
[10 / الفتح: 48].
26 " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " [33 / الأحزاب 33]
40 " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " [32 / النجم: 53].
44 " وأمرهم شورى بينهم " [38 / الشورى: 42].
62 " أو اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [25 / الأنفال: 8]
63 " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " [9 / الزمر: 39]
64 " أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر
أولو الألباب " [19 / الرعد: 13]
إنما يخشى الله من عباده العلماء " [28 / فاطر: 35].
" لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة
315

من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى " [10 / الحديد 57]
" فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " [95 / النساء 4]
" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل
الله (1) فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى
بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم "
[111 / التوبة: 9].
" والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا،
وأولئك هم المتقون " [177 / البقرة: 2]
" [يا أيها الذين آمنوا] اصبروا وصابروا ورابطوا [واتقوا الله لعلكم تفلحون "
[200 / آل عمران: 3].
" وبشر الصابرين [الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إن لله وإنا إليه راجعون،
أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون] " 155 - 157 سورة البقرة
65 " واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " [35 / الأحقاف: 46].
" والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " [134 / آل عمران: 3]
97 " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان
منصورا " [33 / الإسراء 17]
99 " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " [153 /
آل عمران: 3].
" فاقعدوا مع الخالفين " [46 / التوبة: 9].
" وإن منكم لمن ليبطأن فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم
أكن معهم شهيدا " الآية: [72 / النساء: 4]
110 " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
316

" إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " الآية: [31 / آل عمران: 3]
111 " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإن الله لا يحب الكافرين "
118 " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " [66 / التوبة: 9]
" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " [14 / التوبة]
" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون " [28 / التوبة: 9]
" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على
الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله [فإن فاءت فأصلحوا بينهما
بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين] " 12 الحجرات 49
" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله الله " [39 / الأنفال: 8]
120 " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [1 / العنكبوت:
29]
123 " قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " [77 / الفرقان: 25]
132 " كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم " [26 / الدخان: 44]
185 " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟ قال: يا أبت افعل
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين " [102 / الصافات: 37].
" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين " [54 / آل عمران: 3]
186 " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن
نبرح عليه عاكفين " [91 / طه: 20]
192 " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج
317

إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم " [91 التوبة: 9]
194 " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما "
[35 / النساء: 4]
195 " يحكم به ذو عدل منكم " [95 / المائدة: 54]
196 " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا
مأتين، وإن يكن منكم ألف يغلبون ألفين " [66 الأنفال: 8]
200 " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين "
[49 / القصص: 28]
205 " كمثل الحمار يحمل أسفارا " [5 / الجمعة: 62]
" واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا " [31 / التوبة: 9]
" أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا " [67 / الأحزاب:]
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " [24 / محمد: 47]
" ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم "
[83 / النساء: 4]
" إنما يخشى الله من عباده العلماء " [28 / فاطر 35]
223 " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا " [54 / غافر: 40]
" ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى "
[113 / التوبة: 9]
318

228 " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون " [55 / المائدة: 5]
" أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون، أما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا فمأواهم
النار " [20 / السجدة: 32]
237 " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال: يا مريم أنى لك
هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " [37 /
آل عمران:]
264 " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه
الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا " [45 / الكهف: 18]
266 " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا
يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها
وباطل ما كانوا يعملون " [15 / هود: 12]
267 " لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد [20 /
الحديد: 575]
" فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " [58 /
القصص: 28]
268 " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " [104 / الأنبياء: 24]
274 " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم " [63 / المائدة]
319

" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك
بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون " [78 / 89 / المائدة]
275 " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا [للذين هادوا
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء] فلا
تخشوا الناس واخشون " (44) المائدة
" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر "
[71 / التوبة: 9]
320

الأحاديث الواردة في تضاعيف الكتاب
24 من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية.
24 حديث ابن عمر: ما آسى إلا على ثلاث، منها: أني لم أكن قاتلت هذه
الفئة الباغية.
35 أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: " لا إله إلا الله " فإذا قالوها منعوا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
رواية محمد بن مسلمة: " إذا رأيت فتنة فاتخذ سيفا من خشب واضرب
بسيفك الحائط.
علي مع الحق والحق مع علي.
36 و 93 الحديث الذي وهاه ابن الجوزي وأنكره الذهبي: إن وليتموها أبا بكر
وجدتموه ضعيفا في بدنه قويا في دين الله! وإن وليتموها عمر وجدتموه قويا
في بدنه قويا في دين الله! وإن وليتموها عليا يهدكم طريق الحق ويسلك
بكم المحجة البيضاء
37 و 55 إنه لعهد النبي صلى الله عليه [وآله وسلم] إلي أن أقاتل الناكثين والقاسطين
والمارقين.
38 قول عمر بن الخطاب: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقاه الله شرها.
39 قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم.
55 رواية عائشة: كأني بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي
وهي في فئة باغية لعلك أنت يا حميراء!!
60 قول أبي بكر: إذا أنا زللت فقوموني فإن لي شيطانا يعتريني فإذا غضبت فتنحوا
عني لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم.
حديث أم المؤمنين عائشة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إشتاقت
الجنة إلى أربعة أحدهم عمار بن ياسر.
321

70 و 219 علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
حديث علي عليه السلام في ذيل كلام له: وإذا بدت العانات جرت الحدود.
عن أسماء بنت عميس قالت: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ظهره
إلى قبة ثم قال: لأقولن اليوم كما قال أخي موسى صلى الله عليه وسلم:
اللهم اغفر لي ذنبي واشرح لي صدري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي
اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا، إنك
كنت بنا بصيرا.
قام رسول الله صلى الله عليه وآله خطيبا في غدير خم " فقال: ألست
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: ألست أولى بكل مؤمنة
من نفسها؟ قالوا: اللهم نعم. فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي
مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
87 الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما.
96 يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية.
119 حديث عمار: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أمرنا بقتال
الناكثين والقاسطين، وأمرنا بقتال المارقين من أهل النهروان بالطرقات.
وسمعنا رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم يقول: علي مع الحق والحق
مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض يوم القيامة.
154 [يا عمار] آخر زادك ضياع من لبن ثم تلقاني.
160 قاتل عمار في النار.
202 يا علي لئن تستنقذ نفسا من ضلالتها خير لك من الدنيا وما طلعت عليه الشمس.
204 رب حامل فقه ليس بالفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
322

يحمل هذا العلم من كل خلف من أهل بيتي عدوله ينفون عنه تحريف
الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
إذا أتاكم عني حديث فاحملوه على أحسن وجوهه وظنوا به الذي هو أزكى
وأهدى وأنقى.
206 [الحسن والحسين] سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما.
210 من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
224 من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله!!
ومن فارق عليا فقد فارقني ومن فارقني فقد فارق الله!!
وقال صلى الله عليه وآله في قصة ذي الثدية: يقتله خير أمتي بعدي.
اللهم جئني بأحب خلقك إليك يأكل معي.
323