الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الثاني
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
1407 ه‍ - 1987 م‍
دار الكتاب العربي
الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع - تلفون 800832 - 800811 - 805478
تلكس: 40139. E. L كتاب. برقيا: الكتاب ص. ب: 5769 - 11 - بيروت - لبنان
1

باب الدليل على أن من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا
(وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فهو مؤمن وان ارتكب المعاصي الكبائر)
قوله صلى الله عليه وسلم (ذاق طعم الايمان من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد
صلى الله عليه وسلم رسولا) قال صاحب التحرير رحمه الله معنى رضيت بالشئ قنعت به
واكتفيت به ولم أطلب معه غيره فمعنى الحديث لم يطلب غير الله تعالى ولم يسع في غير
طريق الاسلام ولم يسلك الا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا شك في أن من
كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الايمان إلى قلبه وذاق طعمه وقال القاضي عياض
رحمه الله معنى الحديث صح ايمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه لان رضاه بالمذكورات
دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قبله لأن من رضى أمرا سهل عليه فكذا
المؤمن إذا دخل قلبه الايمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له والله أعلم وفي الاسناد
الدراوردي وقد تقدم بيانه في المقدمة وفيه يزيد بن عبد الله بن الهاد هو يزيد بن عبد الله
ابن أسامة بن الهاد هكذا يقوله المحدثون الهاد من غير ياء والمختار عند أهل العربية فيه وفى
2

نظائره بالياء كالعاصي وابن أبي الموالي والله أعلم وهذا الحديث من أفراد مسلم رحمه الله لم
يروه البخاري رحمه الله في صحيحه
باب بيان عدد شعب الايمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء
(وكونه من الايمان)
قوله (أبو عامر العقدي) هو بفتح العين والقاف واسمه عبد الملك بن عمرو بن قيس وقد
تقدم بيانه واضحا في أول المقدمة في باب النهى عن الرواية عن الضعفاء قوله صلى الله عليه وسلم
(الايمان بضع وسبعون شعبة) هكذا رواه عن أبي عامر العقدي عن سليمان
ابن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي
رواية زهير عن جرير عن سهيل عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بضع وسبعون
أو بضع وستون كذا وقع في مسلم من رواية سهيل بضع وسبعون أو بضع وستون على الشك
ورواه البخاري في أول الكتاب من رواية العقدي بضع وستون بلا شك ورواه أبو داود
والترمذي وغيرهما من رواية سهيل بضع وسبعون بلا شك ورواه الترمذي من طريق آخر وقال
فيه أربعة وستون بابا واختلف العلماء في الراجحة من الروايتين فقال القاضي عياض الصواب
ما وقع في سائر الأحاديث ولسائر الرواة بضع وستون وقال الشيخ أبو عمرو بن
الصلاح رحمه الله تعالى هذا الشك الواقع في رواية سهيل هو من سهيل كذا قاله الحافظ
أبو بكر البيهقي رحمه الله وقد روى عن سهيل بضع وسبعون من غير شك وأما سليمان
ابن بلال فإنه رواه عن عمرو بن دينار على القطع من غير شك وهي الرواية الصحيحة
أخرجاها في الصحيحين غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم بضع وسبعون وفيما عندنا من كتاب
3

البخاري بضع وستون وقد نقلت كل واحدة عن كل واحد من الكتابين ولا أشكال
في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في طرق روايات هذا الحديث واختلفوا في الترجيح
قال والأشبه بالاتقان والاحتياط ترجيح رواية الأقل قال ومنهم من رجح رواية الأكثر
وإياها اختار أبو عبد الله الحليمي فان الحكم لمن حفظ الزيادة جازما بها قال الشيخ ثم إن
الكلام في تعيين هذه الشعب يطول وقد صنفت في ذلك مصنفات ومن أغزرها فوائد كتاب
المنهاج لأبى عبد الله الحليمي امام الشافعيين ببخارى وكان من رفعاء أئمة المسلمين وحذا حذوه
الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه الجليل الحفيل كتاب شعب الايمان هذا كلام الشيخ
قال القاضي عياض رحمه الله البضع والبضعة بكسر الباء فيهما وفتحها هذا في العدد فاما بضعة
اللحم فبالفتح لاغير والبضع في العدد ما بين الثلاث والعشر وقيل من ثلاث إلى تسع وقال
الخليل البضع سبع وقيل ما بين اثنين إلى عشرة وما بين اثنى عشر إلى عشرين ولا يقال في اثنى
عشر قلت وهذا القول هو الأشهر الأظهر وأما الشعبة فهي القطعة من الشئ فمعنى الحديث
بضع وسبعون خصلة قال القاضي عياض رحمه الله وقد تقدم أن أصل الايمان في اللغة
التصديق وفي الشرع تصديق القلب واللسان وظواهر الشرع تطلقه على الأعمال كما وقع هنا
أفضلها لا إله إلا الله وآخرها إماطة الأذى عن الطريق وقد قدمنا أن كمال الايمان بالأعمال
وتمامه بالطاعات وأن التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها
خلق أهل التصديق فليست خارجة عن اسم الايمان الشرعي ولا اللغوي وقد نبه صلى الله عليه وسلم
على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد والذي لا يصح شئ من الشعب الا بعد
صحته وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم وبقى بين هذين الطرفين
اعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لأمكنه وقد فعل ذلك بعض من تقدم
وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها ولا يقدح
جهل ذلك في الايمان إذ أصول الايمان وفروعه معلومة محققة والايمان بأنها هذا العدد
واجب في الجملة هذا كلام القاضي رحمه الله وقال الامام الحافظ أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء
تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا فرجعت
إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الايمان فإذا هي تنقص
4

عن البضع والسبعين فرجعت إلى كتاب الله تعالى فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله
تعالى من الايمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت
المعاد فإذا كل شئ عده الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وتسعون شعبة
لا يزيد عليها ولا تنقص فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا العدد في الكتاب
والسنن وذكر أبو حاتم رحمه الله جميع ذلك في كتاب وصف الايمان وشعبه وذكر أن رواية
من روى بضع وستون شعبة أيضا صحيحة فان العرب قد تذكر للشئ عددا ولا تريد نفى ما سواه
وله نظائر أوردها في كتابه منها في أحاديث الايمان والاسلام والله تعالى أعلم قوله (والحياء
شعبة من الايمان) وفي الرواية الأخرى الحياء من الايمان وفي الأخرى الحياء لا يأتي
الا بخير وفي الأخرى الحياء خير كله أو قال كله خير الحياء ممدود وهو الاستحياء قال الامام
الواحدي رحمه الله تعالى قال أهل اللغة الاستحياء من الحياة واستحيا الرجل من قوة الحياة فيه
لشدة علمه بمواقع الغيب قال فالحياء من قوة الحس ولطفه وقرة الحياة وروينا في رسالة
الامام الأستاذ أبى القاسم القشيري عن السيد الجليل أبى القاسم الجنيد رضي الله عنه قال الحياء
رؤية الآلاء أي النعم ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وقال القاضي عياض وغيره
من الشراح إنما جعل الحياء من الايمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا
كسائر أعمال البر وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية
وعلم فهو من الايمان بهذا ولكونه باعثا على أفعال البر ومانعا من المعاصي وأما كون الحياء
خيرا كله ولا يأتي الا بخير فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحى
أن يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وقد يحمله الحياء على الاخلال
ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة
منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو
عجز وخور ومهانة وإنما تسميته حياء من اطلاق بعض أهل العرف أطلقوه ومجازا لمشابهته الحياء
5

الحقيقي وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق
ونحو هذا ويدل عليه ما ذكرناه عن الجنيد رضي الله عنه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أي تنحيته وابعاده والمراد بالأذى كل ما يؤذى
من حجر أو مدر أو شوك أو غيره قوله (يعظ أخاه في الحياء) أي ينهاه عنه ويقبح له
فعله ويزجره عن كثرته فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال دعه فان الحياء من
الايمان أي دعه على فعل الحياء وكف عن نهيه ووقعت لفظة دعه في البخاري ولم
تقع في مسلم قول مسلم رحمه الله (حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد
ابن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أبا السوار يحدث أنه سمع عمران بن الحصين)
وقال مسلم في الطريق الثاني حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا حماد بن زيد عن
إسحاق وهو ابن سويد أن أبا قتادة حدث قال كنا عند عمران بن الحصين في رهط فحدثنا إلى
آخره هذان الاسنادان كلهم بصريون وهذا من النفائس اجتماع الاسنادين في الكتاب
6

متلاصقين جميعهم بصريون وشعبة وإن كان واسطيا فهو بصرى أيضا فكان واسطيا بصريا فإنه
انتقل من واسط إلى البصرة واستوطنها وأما أبو السوار فهو بفتح السين المهملة وتشديد الواو وآخره
راء واسمه حسان بن حريث العدوي وأما أبو قتادة هذا فاسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الذال
المعجمة العدوي ويقال تميم بن الزبير ويقال ابن يزيد بالزاي ذكره الحاكم أبو أحمد وأما الرهط فهو
ما دون العشرة من الرجال خاصة لا يكون فيهم امرأة وليس له واحد من اللفظ والجمع أرهط
وأرهاط وأراهط وأراهيط قوله (فقال بشير بن كعب إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن
منه سكينة ووقارا لله تعالى ومنه ضعف فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال أنا أحدثك عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه إلى قوله فما زلنا نقول إنه منا يا أبا نجيد انه لا بأس به) أما
بشير فبضم الباء وفتح الشين وقد تقدم بيانه وبيان أمثاله في آخر الفصول وقد تقدم هو أيضا في أول
المقدمة وأما نجيد فبضم النون وفتح الجيم وآخره دال مهملة وأبو نجيد هو عمران بن الحصين كنى
بابنه نجيد وأما الضعف فبفتح الضاد وضمها لغتان مشهورتان وقوله حتى احمرتا عيناه كذا هو
7

في الأصول وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث ومثله النجوى الذين ظلموا على أحد
المذاهب فيها ومثله يتعاقبون فيكم ملائكة وأشباهه كثيرة معروفة ورويناه في سنن أبي داود
واحمرت عيناه من غير ألف وهذا ظاهر وأما انكار عمران رضي الله عنه فلكونه قال منه
ضعف بعد سماعه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير كله ومعنى تعارض تأتى بكلام في
مقابلته وتعترض بما يخالفه وقولهم أنه منا لا بأس به معناه ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة
أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة والله أعلم قول مسلم رحمه الله (أنبأنا إسحاق
ابن إبراهيم أنبأنا النضر حدثنا أبو نعامة العدوي قال سمعت حجير بن الربيع العدوي يقول
عن عمران بن الحصين) هذا الاسناد أيضا كله بصريون الا إسحاق فإنه مروزي فأما النضر
فهو أبن شميل الامام الجليل وأما أبو نعامة فبفتح النون واسمه عمرو بن عيسى بن سويد وهو
من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم وقد قدمنا في الفصول وبعدها أن ما كان في الصحيحين
عن المختلطين فهو محمول على أنه علم أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط وأما حجير فبضم الحاء وبعدها
جيم مفتوحة وآخره راء والله أعلم بالصواب وله الحمد والمنة
باب جامع أوصاف الاسلام
قوله (قلت يا رسول الله قل لي في الاسلام قولا لا أسأل عنه غيرك قال قل آمنت بالله ثم استقم)
8

قال القاضي عياض رحمه الله هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق لقوله تعالى
ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا أي وحدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد
والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من
الصحابة فمن بعدهم وهو معنى الحديث إن شاء الله تعالى هذا آخر كلام القاضي رحمه الله وقال
ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى كما أمرت ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولذلك قال صلى الله عليه وسلم
لأصحابه حين قالوا قد أسرع إليك الشيب فقال شيبتني هود وأخواتها قال الأستاذ
أبو القاسم القشيري في رسالته الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها وبوجودها حصول
الخيرات ونظامها ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده قال وقيل الاستقامة
لا يطيقها الا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين
يدي الله تعالى على حقيقة الصدق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم استقيموا ولن تحصوا وقال
الواسطي الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن والله أعلم ولم يرو مسلم رحمه الله
في صحيحه لسفيان بن عبد الله الثقفي راوي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا وروى
الترمذي هذا الحديث وزاد فيه قلت يا رسول الله ما أخوف ما أخاف على فأخذ بلسان نفسه
ثم قال هذا والله أعلم
باب بيان تفاضل الاسلام وأي أموره أفضل
فيه (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الاسلام
9

خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وفي رواية أي المسلمين خير
قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وفي رواية جابر المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
قال العلماء رحمهم الله قوله أي الاسلام خير معناه أي خصاله وأموره وأحواله قالوا وإنما وقع
اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين فكان في أحد الموضعين
الحاجة إلى افشاء السلام واطعام الطعام أكثر وأهم لما حصل من اهمالهما والتساهل في أمورهما
ونحو ذلك وفي الموضع الآخر إلى الكف عن ايذاء المسلمين وقوله صلى الله عليه وسلم (من
سلم المسلمون من لسانه ويده) معناه من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل وخص اليد بالذكر
لأن معظم الافعال بها وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والافعال إليها لما ذكرناه
والله تعالى أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده قالوا معناه المسلم
الكامل وليس المراد نفى أصل الاسلام عن من لم يكن بهذه الصفة بل هذا كما يقال العلم ما نفع
أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب وكما يقال الناس العرب والمال الإبل فكله على التفضيل
لا للحصر ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون
من لسانه ويده ثم أن كمال الاسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة وإنما خص ما ذكر لما
ذكرناه من الحاجة الخاصة والله أعلم ومعنى تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف أي
تسلم على كل من لقيته عرفته أم لم تعرفه ولا تخص به من تعرفه كما يفعله كثيرون من الناس
ثم إن هذا العموم مخصوص بالمسلمين فلا يسلم ابتداء على كافر وفى هذه الأحاديث جمل من
العلم ففيها الحث على اطعام الطعام والجود والاعتناء بنفع المسلمين والكف عما يؤذيهم بقول
10

أو فعل مباشرة أو سبب والامساك عن احتقارهم وفيها الحث على تألف قلوب المسلمين واجتماع
كلمتهم وتوادهم واستجلاب ما يحصل ذلك قال القاضي رحمه الله والألفة احدى فرائض الدين
وأركان الشريعة ونظام شمل الاسلام قال وفيه بذل السلام لمن عرفت ولمن لم تعرف واخلاص
العمل فيه لله تعالى لا مصانعة ولا ملقا وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع وافشاء شعار هذه
الأمة والله تعالى أعلم وأما أسماء رجال الباب فقال مسلم رحمه الله في الاسناد الأول
وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله
ابن عمرو يعنى ابن العاصي قال مسلم رحمه الله وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو المصري أخبرنا ابن
وهب عن عمرو بن الحرث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما وهذان الاسنادان كلهم مصريون أئمة جلة وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم بل في
غيره فإن اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة ويزداد قلة باعتبار الجلالة فأما عبد الله
ابن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فجلالته وفقهه وكثرة حديثه وشدة ورعة وزهادته واكثاره
من الصلاة والصيام وسائر العبادات وغير ذلك من أنواع الخير فمعروفة مشهورة لا يمكن
استقصاؤها فرضى الله عنه وأما أبو الخير بالخاء المعجمة واسمه مرثد بالمثلثة ابن عبد الله
اليزني بفتح المثناة تحت والزاي منسوب إلى يزن بطن من حمير قال أبو سعيد بن يونس كان
أبو الخير مفتى أهل مصر في زمانه مات سنة سبعين من الهجرة وأما يزيد بن أبي حبيب
فكنيته أبو رجاء وهو تابعي قال ابن يونس وكان مفتى أهل مصر في زمانه وكان حليما عاقلا
وكان أول من أظهر العلم بمصر والكلام في الحلال والحرام وقبل ذلك كانوا يتحدثون
بالفتن والملاحم والترغيب في الخير وقال الليث بن سعد يزيد سيدنا وعالمنا واسم أبى حبيب
سويد وأما الليث بن سعد رضي الله عنه فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته وشهادة أهل عصره
سخائه وسيادته وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر ويكفى
في جلالته شهادة الامامين الجليلين الشافعي وابن بكير رحمهما الله تعالى أن الليث أفقه من
مالك رضي الله عنهم أجمعين فهذان صاحبا مالك رحمه الله وقد شهدا بما شهدا وهم بالمنزلة
المعروفة من الاتقان والورع واجلال مالك ومعرفتها بأحواله هذا كله مع ما قد علم من جلالة
مالك وعظم فقهه رضي الله عنه قال محمد بن رمح كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما أوجب
11

الله تعالى عليه زكاة قط وقال قتيبة لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه
الليث ألف دينار وكان الليث مفتى أهل مصر في زمانه وأما محمد بن رمح فقال ابن يونس هو
ثقة ثبت في الحديث وكان أعلم الناس بأخبار البلد وفقهه وكان إذا شهد في كتاب دار علم أهل
البلد أنها طيبة الأصل وذكره النسائي فقال ما أخطأ في حديث ولو كتب عن مالك لأثبته في
الطبقة الأولى من أصحاب مالك وأثنى عليه غيرهما والله أعلم وأما عبد الله بن وهب فعلمه
وورعه وزهده وحفظه واتقانه وكثرة حديثه واعتماد أهل مصر عليه وأخبارهم بأن حديث
أهل مصر وما والاها يدور عليه فكله أمر معروف مشهور في كتب أئمة هذا الفن وقد بلغنا
عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه يكتب إلى أحد وعنونه بالفقه الا إلى ابن وهب رحمه الله
وأما عمرو بن الحرث فهو مفتى أهل مصر في زمنه وقاريهم قال أبو زرعة رحمه الله لم يكن له
نظير في الحفظ في زمنه وقال أبو حاتم كان أحفظ الناس في زمانه وقال مالك بن أنس عمرو
ابن الحرث درة الغواص وقال هو مرتفع الشأن وقال ابن وهب سمعت من ثلاثمائة وسبعين
شيخا فما رأيت أحفظ من عمرو بن الحرث رحمه الله والله أعلم قوله في الاسناد الآخر
(أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير) أما أبو عاصم فهو الضحاك بن مخلد وأما ابن جريج
12

فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وأما أبو الزبير فهو محمد بن مسلم بن تدرس وقد تقدم
بيانهم وفي الاسناد الآخر أبو بردة عن أبي بردة عن أبي موسى فأبو بردة الأول اسمه بريد
بضم الموحدة وقد سماه في الرواية الأخرى وأبو بردة الثاني اختلف في اسمه فقال الجمهور اسمه
عامر وقال يحيى بن معين في احدى الروايتين عنه عامر كما قال الجمهور وفي الأخرى الحارث
وأما أبو موسى فهو الأشعري واسمه عبد الله بن قيس وإنما نقصد بذكر مثل هذا وإن كان
عند أهل هذا الفن من الواضحات المشهورات التي لا حاجة إلى ذكرها لكون هذا الكتاب ليس
مختصا بالفضلاء بل هو موضوع لإفادة من لم يتمكن في هذا الفن والله تعالى أعلم بالصواب
باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الايمان
قوله صلى الله عليه وسلم (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان الله ورسوله
أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه الا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه
الله منه كما يكره أن يقذف في النار) وفي رواية من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا هذا حديث
عظيم أصل من أصول الاسلام قال العلماء رحمهم الله معنى حلاوة الايمان استلذاذ الطاعات
وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وايثار ذلك على عرض الدنيا
ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال القاضي رحمه الله هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم ذاق طعم الايمان من رضى بالله
13

ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وذلك أنه لا يصح المحبة لله ورسوله
صلى الله عليه وسلم حقيقة وحب الآدمي في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكراهة الرجوع
إلى الكفر الا لمن قوى بالايمان يقينه واطمأنت به نفسه وانشرح له صدره وخالط لحمه ودمه
وهذا هو الذي وجد حلاوته قال والحب في الله من ثمرات حب الله قال بعضهم المحبة مواطأة
القلب على ما يرضى الرب سبحانه فيحب ما أحب ويكره ما كره هو اختلفت عبارات المتكلمين
في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف الا في اللفظ وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق
المحب ثم الميل قد يكون لما يستلذه الانسان ويستحسنه كحسن الصورة والصوت والطعام
ونحوها وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا وقد يكون
لاحسانه إليه ودفعه المضار والمكاره عنه وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم
لما جمع من جمال الظاهر والباطن وكمال خلال الجلال وأنواع الفضائل واحسانه إلى جميع
المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والابعاد من الجحيم وقد أشار بعضهم
إلى أن هذا متصور في حق الله تعالى فان الخير كله منه سبحانه وتعالى قال مالك وغيره المحبة في
الله من واجبات الاسلام هذا كلام القاضي رحمه الله وأما قوله صلى الله عليه وسلم يعود أو
يرجع فمعناه يصير وقد جاء العود والرجوع بمعنى الصيرورة وأما أبو قلابة المذكور في الاسناد
14

فهو بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة واسمه عبد الله بن زيد وأما قول مسلم
حدثنا ابن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن
أنس رضي الله عنه فهذا اسناد كله بصريون وقد قدمنا أن شعبة واسطى بصرى والله تعالى
أعلم بالصواب
باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل
(والوالد والوالد والناس أجمعين واطلاق عدم الايمان على من لم يحبه هذه المحبة)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)
وفي الرواية الأخرى من ولده ووالده والناس أجمعين قال الإمام أبو سليمان الخطابي لم يرد
به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار لان حب الانسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه قال فمعناه
لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك
هذا كلام الخطابي وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم المحبة ثلاثة أقسام
محبة اجلال واعظام كمحبة الوالد ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد ومحبة مشاكلة واستحسان
كمحبة سائر الناس فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته قال ابن بطال رحمه الله ومعنى
15

الحديث أن من استكمل الايمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه
والناس أجمعين لان به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار وهدينا من الضلال قال القاضي
عياض رحمه الله ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته والذب عن شريعته وتمنى حضور
حياته فيبذل ماله ونفسه دونه قال وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الايمان لا يتم الا بذلك
ولا يصح الايمان الا بتحقيق اعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد
ومحسن ومفضل ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن هذا كلام القاضي رحمه الله والله
أعلم وأما اسناد هذا الحديث فقال مسلم رحمه الله (وحدثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا عبد
الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال مسلم (وحدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس) وهذان الاسنادان رواتهما
بصريون كلهم وشيبان بن أبي شيبة هذا هو شيبان بن فروج الذي روى عنه مسلم في مواضع
كثيرة والله أعلم بالصواب
باب الدليل على أن من خصال الايمان
(أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه)
هكذا هو في مسلم لأخيه أو لجاره على الشك وكذا هو في مسند عبد بن حميد على الشك وهو
في البخاري وغيره لأخيه من غير الشك قال العلماء رحمهم الله معناه لا يؤمن الايمان التام
والا فأصل الايمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء
المباحات ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث حتى يحب لأخيه من الخير
16

ما يحب لنفسه قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك
إذ معناه لا يكمل ايمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الاسلام مثل ما يحب لنفسه والقيام بذلك
يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا
من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله واخواننا
أجمعين والله أعلم وأما اسناده فقال مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد
ابن جعفر حدثنا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس وهؤلاء كلهم بصريون والله أعلم
باب بيان تحريم ايذاء الجار
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) البواق جمع بائقة وهي
الغائلة والداهية والفتك وفى معنى لا يدخل جوابان يجريان في كل ما أشبه هذا أحدهما
أنه محمول على من يستحل الايذاء مع علمه بتحريمه فهذا كافر لا يدخلها أصلا والثاني معناه
جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم بل يؤخر ثم قد يجازى وقد
يعفى عنه فيدخلها أولا وإنما تأولنا هذين التأويلين لأنا قدمنا أن مذهب أهل الحق أن من
مات على التوحيد مصرا على الكبائر فهو إلى الله تعالى ان شاء عفا عنه فادخله الجنة أولا
وان شاء عاقبه ثم أدخله الجنة والله أعلم
17

باب الحث على اكرام الجار والضيف ولزوم الصمت
(الا عن الخير وكون ذلك كله من الايمان)
قوله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وفى
الرواية الأخرى فلا يؤذى جاره قال أهل اللغة يقال صمت يصمت بضم الميم صمتا
وصموتا وصمات أي سكت قال الجوهري ويقال أصمت بمعنى صمت والتصميت السكوت والتصميت
أيضا التسكيت قال القاضي عياض رحمه الله معنى الحديث ان من التزم شرائع الاسلام لزمه
اكرام جاره وضيفه وبرهما وكل ذلك تعريف بحق الجار وحث على حفظه وقد أوصى الله تعالى
بالاحسان إليه في كتابه العزيز وقال صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل عليه السلام يوصيني
بالجار حتى ظننت أنه سيورثه والضيافة من آداب الاسلام وخلق النبيين والصالحين وقد أوجبها
الليث ليلة واحدة واحتج بالحديث ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم وبحديث عقبة
ان نزلتم بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا وان لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي
ينبغي لهم وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم جائزته
يوم وليلة والجائزة العطية والمنحة والصلة وذلك لا يكون الا مع الاختيار وقوله صلى الله عليه وسلم
فليكرم وليحسن يدل على هذا أيضا إذ ليس يستعمل مثله في الواجب مع أنه مضموم إلى
الاكرام للجار والاحسان إليه وذلك غير واجب وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الاسلام
إذ كانت المواساة واجبة واختلفوا هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادى خاصة فذهب
18

الشافعي رضي الله عنه ومحمد بن الحكم إلى أنها عليهما وقال مالك وسحنون إنما ذلك على أهل البوادي
لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشترى من المأكل
في الأسواق وقد جاء في حديث الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر لكن هذا الحديث
عند أهل المعرفة موضوع وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجا وخيف عليه وعلى أهل الذمة إذا
اشترطت عليهم هذا كلام القاضي وأما قوله صلى الله عليه وسلم فليقل خيرا أو ليصمت
فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا أو مندوبا فليتكلم
وان لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو
مباح مستوي الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الامساك عنه مخافة
من انجراره إلى المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا وقد قال الله تعالى يلفظ
من قول الا لديه رقيب عتيد واختلف السلف والعلماء في أنه هل يكتب جميع ما يلفظ به العبد
وإن كان مباحا لا ثواب فيه ولا عقاب لعموم الآية أم لا يكتب الا ما فيه جزاء من ثواب أو
عقاب والي الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنها وغيره من العلماء وعلى هذا تكون الآية
مخصوصة أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء وقد وقد ندب الشرع إلى الامساك عن كثير من
المباحات لئلا ينجر صاحبها إلى المحرمات أو المكروهات وقد أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه
معنى الحديث فقال إذا أراد أن يتكلم فليفكر فان ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم وان ظهر له
فيه ضرر أوشك فيه أمسك وقد قال الامام الجليل أبو محمد عبد الله بن أبي زيد امام المالكية
بالمغرب في زمنه جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وقوله صلى الله عليه وسلم من حسن اسلام
المرء تركه مالا يعنيه وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية لا تغضب وقوله صلى الله عليه وسلم
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والله أعلم وروينا عن الأستاذ أبى
القاسم القشيري رحمه الله قال الصمت بسلامة وهو الأصل والسكوت في وقته صفة الرجال كما
19

ان النطق في موضعه من أشرف الخصال قال وسمعت أبا على الدقاق يقول من سكت عن الحق
فهو شيطان أخرس قال فأما ايثار أصحاب المجاهدة السكوت فلما علموا ما في الكلام من الآفات
ثم ما فيه من حظ النفس واظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق
وغير هذا من الآفات وذلك نعت أرباب الرياضة وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب
الخلق وروينا عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال من عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه
وعن ذي النون رحمه الله أصون الناس لنفسه أمسكهم للسانه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
(فلا يؤذى جاره) فكذا وقع في الأصول يؤذى بالياء في آخره وروينا في غير مسلم
فلا يؤذ بحذفها وهما صحيحان فحذفها للنهي واثباتها على أنه خبر يراد به النهى فيكون أبلغ ومنه
قوله تعالى هذه والدة بوالدها على قراءة من رفع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لا يبيع أحدكم
على بيع أخيه ونظائره كثير والله أعلم وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله حدثنا أبو بكر
ابن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة وهذا الاسناد
20

كله كوفيون مكيون الا أبا هريرة فإنه مدني وقد تقدم بيان أسمائهم كلهم في مواضع
وحصين بفتح الحاء وقوله في الاسناد الآخر عن أبي شريح الخزاعي قد قدمنا في آخر شرح
مقدمة الكتاب الاختلاف في اسمه وأنه قيل اسمه خويلد بن عمرو وقيل عبد الرحمن وقيل عمرو
ابن خويلد وقيل هانئ بن عمرو وقيل كعب وأنه يقال الخزاعي والعدوي والكعبي والله أعلم
باب بيان كون النهى عن المنكر من الايمان
(وأن الايمان يزيد وينقص وأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان)
قوله (أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان قال القاضي عياض رحمه الله
اختلف في هذا فوقع هنا ما نراه وقيل أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه وقيل
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة
وقيل بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله وقيل أول من فعله معاوية وقيل فعله ابن الزبير
رضي الله عنه والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم
تقديم الصلاة وعليه جماعة فقهاء الأمصار وقد عده بعضهم اجماعا يعنى والله أعلم بعد
الخلاف أولم يلتفت إلى خلاف بنى أمية بعد اجماع الخلفاء والصدر الأول وفي قوله بعد هذا
أما هذا فقد قضى ما عليه بمحضر من ذلك الجمع العظيم دليل على استقرار السنة عندهم على خلاف
ما فعله مروان وبينه أيضا احتجاجه بقوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى
منكرا فليغيره ولا يسمى منكرا لو اعتقده ومن حضر أو سبق به عمل أو مضت به سنة وفي هذا
دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان وأن ما حكى عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح والله
أعلم قوله (فقام إليه رجل فقال الصلاة قبل الخطبة فقال قد ترك ما هنالك فقال أبو سعيد أما هذا
21

فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فليغيره بيده
الحديث) قد يقال كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه عن انكار هذا المنكر حتى سبقه إليه
هذا الرجل وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم
الخطبة فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام ويحتمل أن أبا سعيد كان
حاضرا من الأول ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب انكاره فسقط عنه
الانكار ولم يخف ذلك الرجل شيئا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك أو أنه خاف وخاطر
بنفسه وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده
أبو سعيد والله أعلم ثم أنه جاء في الحديث الآخر الذي اتفق البخاري ومسلم رضي الله عنهما
على اخراجه في باب صلاة العيد أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين رآه يصعد المنبر
وكانا جاءا معا فرد عليه مروان بمثل ما ورد هنا على الرجل فيحتمل أنهما قضيتان أحداهما لأبى
سعيد والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد والله أعلم وأما قوله فقد قضى ما عليه ففيه
تصريح بالانكار أيضا من أبي سعيد وأما قوله صلى الله عليه وسلم فليغيره فهو أمر
ايجاب باجماع الأمة وقد تطابق على وجوب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب
والسنة واجماع الأمة وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ولم يخالف في ذلك الا بعض
الرافضة ولا يعتد بخلافهم كما قال الإمام أبو المعالي امام الحرمين لا يكترث بخلافهم
في هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة
وأما قول الله عز وجل أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فليس مخالفا لما ذكرناه لان
المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية انكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم
مثل قوله تعالى تزر وازرة وزر أخرى وإذا كان كذلك فمما كلف به الامر بالمعروف والنهى
عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه فإنما
22

عليه الأمر والنهى لا القبول والله أعلم ثم إن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض
كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا
عذر ولا خوف ثم أنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به الا هو أولا يتمكن من ازالته الا
هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف قال العلماء رضي الله عنهم
ولا يسقط عن المكلف الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه بل
يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقد قدمنا أن الذي عليه الامر والنهى لا القبول وكما
قال الله عز وجل على الرسول الا البلاغ ومثل العلماء هذا بمن يرى انسانا في الحمام أو غيره
مكشوف بعض العورة ونحو ذلك والله أعلم قال العلماء ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون
كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الامر وإن كان مخلا بما يأمر به والنهى وإن كان
متلبسا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها ويأمر غيره وينهاه فإذا
أخل بأحدهما كيف يباح له الاخلال بالآخر قال العلماء ولا يختص الامر بالمعروف والنهى عن
المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين قال امام الحرمين والدليل عليه اجماع
المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف
وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر من غير ولاية والله أعلم ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر
به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشئ فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة
كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الافعال
والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم انكاره بل ذلك للعلماء ثم
العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا انكار فيه لان على أحد المذهبين كل مجتهد
مصيب وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم وعلى المذهب الآخر المصيب واحد
والمخطئ غير متعين لنا والاثم مرفوع عنه لكن ان ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من
الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فان العلماء متفقون على الحث على الخروج من
الخلاف إذا لم يلزم منه اخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر وذكر أقضى القضاة أبو الحسن
الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده
23

السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من
أهل الاجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه ولم يزل
الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ولا ينكر محتسب
ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم
يخالف نصا أو اجماعا أو قياسا جليا والله أعلم واعلم أن هذا الباب أعنى باب الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه في هذه الأزمان الا رسوم
قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح
وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه الذين يخالفون عن أمره
أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فينبغي لطالب الآخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز
وجل أن يعتنى بهذا الباب فان نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من
ينكر عليه لارتفاع مرتبته فان الله تعالى قال الله من ينصره تعالى يعتصم
بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال تعالى
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله
الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين واعلم أن الاجر على قدر النصب ولا يتاركه أيضا لصداقته
ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه فان صداقته ومودته توجب له حرمة
وحقا ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها وصديق الانسان ومحبه هو
من سعى في عمارة آخرته وأن أدى ذلك إلى نقص في دنياه وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص
آخرته وان حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا وكانت الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها
ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته وأن يعمنا بجوده ورحمته والله
أعلم وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب
فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ومن وعظه
علانية فقد فضحه وشأنه ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى انسانا يبيع
متاعا معيبا أو نحوه فإنهم لا ينكرون ذلك ولا يعرفون المشترى بعيبه وهذا خطأ ظاهر وقد
24

نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشترى به والله أعلم
وأما صفة النهى ومراتبه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح فليغيره
بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فقوله صلى الله عليه وسلم فبقلبه معناه فليكرهه
بقلبه وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر ولكنه هو الذي في وسعه وقوله صلى الله عليه وسلم (وذلك
أضعف الايمان) معناه والله أعلم أقله ثمرة قال القاضي عياض رحمه الله هذا الحديث
أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا فيكسر
آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع العصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه
أو بأمره إذا أمكنه ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك
أدعى إلى قبول لقوله كما يستحب أن يكون متولي ذلكم من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى ويغلظ
على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر اغلاظه منكرا أشد مما غيره لكون
جانبه محميا عن سطوة الظالم فان غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله
أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف فان خاف أن يسبب
قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى وان وجد من
يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى اظهار سلاح وحرب وليرفع ذلك إلى من له الأمر
إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها
عند العلماء والمحققين خلافا لمن رأى الانكار بالتصريح بكل حال وان قتل ونيل منه كل أذى
هذا آخر كلام القاضي رحمه الله قال امام الحرمين رحمه الله ويسوغ لآحاد الرعية أن يصد
مرتكب الكبيرة ان لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الامر إلى نصب قتال وشهر سلاح فان انتهى
الامر إلى ذلك ربط الامر بالسلطان قال وإذا جار والى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر
حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة
ونصب الحروب هذا كلام امام الحرمين وهذا الذي ذكره من خلعه غريب ومع هذا فهو محمول
25

على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه قال وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير
والتجسس واقتحام الدور بالظنون بل إن عثر على منكر غيره جهده هذا كلام امام الحرمين
وقال أقضى القضاة الماوردي ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات فان غلب على
الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان أحدهما أن يكون ذلك في انتهاك حرمة
يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني به
فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات
مالا يستدرك وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الاقدام على الكشف
والانكار الضرب الثاني ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار
عنه فان سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول لأن
المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية
بابا حسنا في الحسبة مشتملا على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد أشرنا
هنا إلى مقاصده وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من
أعظم قواعد الاسلام والله أعلم قوله (وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش
عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي
سعيد) فقوله وعن قيس معطوف على إسماعيل معناه رواه الأعمش عن إسماعيل عن قيس
والله أعلم قوله (عن صالح بن كيسان عن الحرث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن
26

عبد الرحمن بن المسور عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي الا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون
بسنته ويقتدون بأمره ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون
ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم
بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الايمان حبة خردل قال أبو رافع فحدثت عبد الله
ابن عمر رضي الله عنهما فأنكره علي فقدم ابن مسعود رضي الله عنه فنزل بقناة فاستتبعني إليه
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث
فحدثنيه كما حدثته ابن عمر قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع) أما الحرث فهو ابن
فضيل الأنصاري الخطمي أبو عبد الله المدني روى عن عبد الرحمن بن أبي قراد الصحابي قال يحيى بن
معين هو ثقة وأما أبو رافع فهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصح أن اسمه أسلم وقيل
إبراهيم وقيل هرمز وقيل ثابت وقيل يزيد وهو غريب حكاه ابن الجوزي في كتابه جامع المسانيد
27

وفى هذا الاسناد طريفة وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض صالح والحرث
وجعفر وعبد الرحمن وقد تقدم نظير هذا وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى جزءا مشتملا على أحاديث
رباعيات منها أربعة صحابيون بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض وأما قوله
قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع فهو بضم التاء والحاء قال القاضي عياض رحمه الله معنى
هذا أن صالح بن كيسان قال إن هذا الحديث روى عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير
ذكر ابن مسعود فيه وقد ذكره البخاري كذلك في تاريخه مختصرا عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد قال أبو علي الجياني عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال هذا الحديث غير محفوظ قال
وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود وابن مسعود يقول اصبروا حتى تلقوني هذا كلام القاضي
رحمه الله وقال الشيخ أبو عمرو هذا الحديث قد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله وقد روى عن
الحرث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء وفى كتاب ابن أبي حاتم
عن يحيى بن معين أنه ثقة ثم أن الحرث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح
ابن كيسان المذكور وذكر الامام الدارقطني رحمه الله في كتاب العلل أن هذا الحديث قد روى
من وجوه أخر منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله
اصبروا حتى تلقوني فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء أو إثارة الفتن أو نحو ذلك وما ورد
في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة
على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة هذا آخر كلام
الشيخ أبى عمرو وهو ظاهر كما قال وقدح الإمام أحمد رحمه الله في هذا بهذا عجب والله أعلم وأما
الحواريون المذكورون فاختلف فيهم فقال الأزهري وغيره هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم
والخلصان الذين نقوا من كل عيب وقال غيرهم أنصارهم وقيل المجاهدون وقيل الذين يصلحون
للخلافة بعدهم قوله صلى الله عليه وسلم ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف الضمير في أنها هو
الذي يسميه النحويون ضمير القصة والشأن ومعنى تخلف تحدث وهو بضم اللام وأما الخلوف
فبضم الخاء وهو جمع خلف باسكان اللام وهو الخالف بشر وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير
هذا هو الأشهر وقال جماعة وجماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد يقال كل واحد منهما بالفتح
والاسكان ومنهم من جوز الفتح في الشر ولم يجوز الاسكان في الخير والله أعلم قوله فنزل بقناة
28

هكذا في هو بعض الأصول المحققة بقناة بالقاف المفتوحة وآخره تاء التأنيث وهو غير مصروف
للعلمية والتأنيث وهكذا ذكره أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين ووقع في أكثر الأصول
ولمعظم رواة كتاب مسلم بفنائه بالفاء المكسورة وبالمد وآخره هاء الضمير قبلها همزة والفناء ما بين
أيدي المنازل والدور وكذا رواه أبو عوانة الأسفرايني قال القاضي عياض رحمه الله في رواية السمرقندي
بقناة وهو الصواب وقنا واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها قال ورواية الجمهور بفنائه
وهو خطأ وتصحيف قوله صلى الله عليه وسلم (يهتدون بهديه) هو بفتح الهاء واسكان الدال أي
بطريقته وسمته قول مسلم رحمه الله (ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه) هذا مما
أنكره الحريري في كتابه درة الغواص فقال لا يقال اجتمع فلان مع فلان وإنما يقال اجتمع
فلان وفلان وقد خالفه الجوهري فقال في صحاحه جامعه على كذا أي اجتمع معه
باب تفاضل أهل الايمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه
في هذا الباب (أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال الا أن الإيمان ههنا وان القسوة
29

وغلط القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر وفى
رواية جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الايمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية وفى رواية أتاكم
أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية وفى رواية رأس الكفر نحو
المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم
30

وفى رواية الايمان يمان والكفر قبل المشرق والسكينة في أهل الغنم والفخر والرياء في
الفدادين أهل الخيل والوبر وفى رواية أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الايمان يمان
31

والحكمة يمانية ورأس الكفر قبل المشرق وفي رواية غلظ القلوب والجفاء في المشرق والايمان
في أهل الحجاز) قد اختلف في مواضع من هذا الحديث وقد جمعها القاضي عياض
رحمه الله ونقحها مختصرة بعده الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وأنا أحكى ما ذكره قال
أما ما ذكر من نسبة الايمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الايمان
من مكة ثم من المدينة حرسهما الله تعالى فحكى أبو عبيد امام الغرب ثم من بعده في ذلك
أقوالا أحدها أنه أراد بذلك مكة فإنه يقال أن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن والثاني
أن المراد مكة والمدينة فإنه يروى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام
وهو بتبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة
فقال الايمان يمان ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن كما قالوا الركن اليماني
وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن والثالث ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي
عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب الايمان إليهم لكونهم أنصاره
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما
جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر ولقضوا بأن المراد
اليمن وأهل اليمن على ما هو المفهوم من اطلاق ذلك إذ من ألفاظه أتاكم أهل اليمن والأنصار
32

من جملة المخاطبين بذلك فهم اذن غيرهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم جاء أهل اليمن وإنما
جاء حينئذ غير الأنصار ثم أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بما يقضى بكمال ايمانهم ورتب
عليه الايمان يمان فكان ذلك إشارة للايمان إلى من أتاه من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة
ولا مانع من اجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة لان من اتصف بشئ وقرى
قيامه به وتأكد اطلاعه منه ينسب ذلك الشئ إليه اشعارا بتميزه به وكمال حاله فيه وهكذا كان
حال أهل اليمن حينئذ في الايمان وحال الوافدين منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفى أعقاب موته كأويس القرني وأني مسلم الخولاني رضي الله عنهما وشبههما ممن سلم قلبه
وقوى ايمانه فكانت نسبة الايمان إليهم لذلك اشعارا بكمال ايمانهم من غير أن يكون في ذلك
نفى له عن غيرهم فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم الايمان في أهل الحجاز ثم
المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فان اللفظ لا يقتضيه هذا هو
الحق في ذلك ونشكر الله تعالى على هدايتنا له والله أعلم قال وأما ما ذكر من الفقه والحكمة
فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص
الفقه بادراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة
مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة
عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة
وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك
وقال أبو بكر بن دريد كل كلمة وعظتك وزجرتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي
حكمة وحكم ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ان من الشعر حكمة وفى بعض الروايات حكما
والله أعلم قال الشيخ وقوله صلى الله عليه وسلم يمان ويمانية هو بتخفيف الياء عند جماهير أهل
العربية لأن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما وقال ابن السيد في
كتابه الاقتضاب حكى المبرد وغيره أن التشديد لغة قال الشيخ وهذا غريب قلت وقد حكى
الجوهري وصاحب المطالع وغيرهما من العلماء عن سيبويه أنه حكى عن بعض العرب أنهم
يقولون اليماني بالياء المشددة وأنشد لأمية بن خلف
يمانيا يظل يشب كيرا * وينفخ دائما لهب الشواظ
والله أعلم قال الشيخ وقوله صلى الله عليه وسلم ألين قلوبا وأرق أفئدة المشهور أن
33

الفؤاد هو القلب فعلى هذا يكون كرر لفظ القلوب بلفظين وهو أولى من تكريره بلفظ واحد
وقيل الفؤاد غير القلب وهو عين القلب وقيل باطن القلب وقيل غشاء القلب وأما وصفها
باللين والرفة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع
التذكير سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الآخرين قال وقوله صلى الله عليه وسلم
في الفدادين فزعم أبو عمرو الشيباني انه بتخفيف الدال وهو جمع فداد بتشديد الدال وهو عبارة
عن البقر التي يحرث عليها حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه وعلى هذا المراد بذلك أصحابها فحذف المضاف
والصواب في الفدادين بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة وهذا قول أهل الحديث
والأصمعي وجمهور أهل اللغة وهو من الفديد وهو الصوت الشديد فهم الذين تعلو أصواتهم
في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى هم المكثرون من الإبل
الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف وقوله إن القسو في الفدادين عند أصول أذناب
الإبل معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها وقوله صلى الله عليه وسلم حيث يطلع
فرنا الشيطان في ربيعة ومضر قوله ربيعة ومضر بدل من الفدادين وأما قرنا الشيطان فجانبا
رأسه وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما باضلال الناس وقيل شيعتاه من الكفار والمراد بذلك
اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في الحديث الآخر رأس
الكفر نحو المشرق وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك ويكون حين يخرج
الدجال من المشرق وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية
الشديدة البأس وأما قوله صلى الله عليه وسلم الفخر والخيلاء فالفخر هو الافتخار وعد المآثر
القديمة تعظيما والخيلاء الكبر واحتقار الناس وأما قوله في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل
الوبر فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين
الخيل والإبل والوبر وأما قوله صلى الله عليه وسلم والسكينة في أهل الغنم فالسكينة
الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو
رحمه الله وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه والله أعلم وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة قال وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي قال وحدثنا أبو
كريب حدثنا ابن إدريس كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد قال وحدثنا يحيى بن حبيب حدثنا
34

معتمر عن إسماعيل قال سمعت قيسا يروى عن أبي مسعود هؤلاء الرجال كلهم كوفيون
الا يحيى ابن حبيب ومعتمرا فإنهما بصريان وقد تقدم أن اسم ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد
ابن إبراهيم بن أبي شيبة وأن أبا أسامة حماد بن أسامة وابن نمير محمد بن عبد الله بن نمير
وأبو كريب محمد بن العلاء وابن إدريس عبد الله وأبو خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير
وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنهم وفى الاسناد الآخر الدارمي وقد
تقدم في مقدمة الكتاب أنه منسوب إلى جد للقبيلة اسمه دارم وفيه أبو اليمان واسمه الحكم
ابن نافع وبعده أبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة والأعمش سليمان بن مهران وأبو
صالح ذكوان وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وأبو الزبير محمد بن مسلم بن
تدرس وكل هذا وإن كان ظاهرا وقد تقدم فإنما أقصد بتكريره وذكره الايضاح لمن لا يكون
من أهل هذا الشأن فربما وقف على هذا الباب وأراد معرفة اسم بعض هؤلاء ليتوصل
به إلى مطالعة ترجمته ومعرفة حاله أو غير ذلك من الاغراض فسهلت عليه الطريق بعبارة
مختصرة والله أعلم بالصواب
باب بيان أنه لا يدخل الجنة الا المؤمنون
(وأن محبة المؤمنين من الايمان وأن افشاء السلام سبب لحصولها)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم
35

على شئ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وفى الرواية الأخرى والذي نفسي بيده
لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا) هكذا هو في جميع الأصول والروايات ولا تؤمنوا بحذف النون
من آخره وهي لغة معروفة صحيحة وأما معنى الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم ولا تؤمنوا
حتى تحابوا معناه لا يكمل ايمانكم ولا يصلح حالكم في الايمان الا بالتحاب وأما قوله
صلى الله عليه وسلم لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا فهو على ظاهره واطلاقه فلا يدخل الجنة الا
من مات مؤمنا وان لم يكن كامل الايمان فهذا هو الظاهر من الحديث وقال الشيخ أبو عمرو
رحمه الله معنى الحديث لا يكمل ايمانكم الا بالتحاب ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها
إذا لم تكونوا كذلك وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم وأما قوله أفشوا السلام بينكم فهو
بقطع الهمزة المفتوحة وفيه الحث العظيم على افشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت
ومن لم تعرف كما تقدم في الحديث الآخر والسلام أول أسباب التألف ومفتاح استجلاب
المودة وفى افشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض واظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم
من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع واعظام حرمات المسلمين وقد
ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال ثلاث من جمعهن
فقد جمع الايمان الانصاف من نفسك وبذل السلام للعالم والانفاق من الاقتار وروى غير
البخاري هذا الكلام مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبذل السلام للعالم والسلام على
من عرفت ومن لم تعرف وافشاء السلام كلها بمعنى واحد وفيها لطيفة أخرى وهي أنها تتضمن
رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة وأن سلامه لله لا يتبع فيه
هواه ولا يخص أصحابه وأحبابه به والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
36

باب بيان أن الدين النصيحة فيه (عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدين النصيحة قلنا لمن قال
لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم) هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الاسلام
كما سنذكره من شرحه وأما ما قاله جماعات من العلماء أن أحد أرباع الاسلام أي أحد
الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الاسلام فليس كما قالوه بل المدار على هذا وحده وهذا
الحديث من أفراد مسلم وليس لتميم الداري في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم
شئ ولا له في مسلم عنه غير هذا الحديث وقد تقدم في آخر مقدمة الكتاب بيان الاختلاف
في نسبة تميم وأنه داري أو ديري وأما شرح هذا الحديث فقال الإمام أبو سليمان الخطابي
رحمه الله النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له قال ويقال هو من وجيز الأسماء
ومختصر الكلام وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن المعنى هذه الكلمة
كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه قال وقيل
النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح
المنصوح له بما يسده من خلل الثوب قال وقيل إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته
من الشمع شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط قال ومعنى الحديث
عماد الدين وقوامه النصحية كقوله الحج عرفة أي عماده ومعظمه عرفة وأما تفسير النصيحة
37

وأنواعها فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها كلاما نفيسا أنا أضم بعضه إلى بعض
مختصرا قالوا أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الايمان به ونفى الشريك عنه
وترك الالحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع
النقائص والقيام بطاعته واجتناب معصيته والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه ومعادة
من عصاه وجهاد من كفر به والاعتراف بنعمته وشكره عليها والاخلاص في جميع الأمور والدعاء
إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها قال
الخطابي رحمه الله وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غني عن نصح
الناصح وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأن كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شئ
من كلام الخلق ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ثم تعظيمه وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع
عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه
والوقوف مع أحكامه وتفهم علومه وأمثاله والاعتبار بمواعظه والتفكر في عجائبه والعمل بمحكمه
والتسليم لمتشابهه والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه والدعاء إليه
والى ما ذكرناه من نصيحته وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة
والايمان بجميع ما جاء به وطاعته في امره ونهيه ونصرته حيا وميتا ومعاداة عن عاداه وموالاة
من والاه واعظام حقه وتوقيره واحياء طريقته وسنته وبث دعوته ونشر شريعته ونفى التهمة عنها
واستثارة علومها والتفقه في معانيها والدعاء إليها والتلطف في تعلمها وتعليمها واعظامها واجلالها
والتأدب عند قراءتها والامساك عن الكلام فيها بغير علم واجلال أهلها لانتسابها إليها والتخلق
باخلاقه والتأدب بآدابه ومحبة أهل بيته وأصحابه ومجانبة من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد
من أصحابه ونحو ذلك وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم
به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف واعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين وترك
الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم قال الخطابي رحمه الله ومن النصيحة لهم الصلاة
خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف
أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح وهذا كله على أن
المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات وهذا هو
38

المشهور وحكاه أيضا الخطابي ثم قال وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين وأن من
نصيحتهم قبول ما رووه وتقليدهم في الاحكام واحسان الظن بهم وأما نصيحة عامة
المسلمين وهم من عدا ولاة الامر فارشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم
فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم ويعينهم عليه بالقول والفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع
المضار عنهم وجلب المنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق واخلاص والشفقة
عليهم وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب
لهم ما يجب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه والذب عن أموالهم
وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع
النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات وقد كان في السلف رضي الله عنهم من تبلغ به النصيحة إلى
الاضرار بدنياه والله أعلم هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة قال ابن بطال رحمه الله في هذا
الحديث ان النصيحة تسمى دينا واسلاما وان الدين يقع على العمل كما يقع على القول قال
والنصيحة فرض يجزى فيه من قام به ويسقط عن الباقين قال والنصيحة لازمة على قدر الطاقة
إذا علم الناصح انه يقبل نصحه ويطاع امره وامن على نفسه المكروه فان خشي على نفسه أذى
فهو في سعة والله أعلم وأما حديث جرير رضي الله عنه (قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
39

على أقام الصلاة وايتاء الزكاة لكل مسلم وفى الرواية الأخرى على السمع والطاعة فلقنني
فيما استطعت) وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين وهما أهم أركان الاسلام بعد
الشهادتين وأظهرها ولم يذكر الصوم وغيره لدخولها في السمع والطاعة وقوله صلى الله عليه وسلم
فيما استطعت موافق لقوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها والرواية استطعت بفتح التاء
وتلقينه من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم إذ قد يعجز في بعض الا حال فلو لم يقيده بما استطاع
لأخل التزم في بعض الا حال والله أعلم ومما يتعلق بحديث جرير منقبة ومكرمة لجرير رضي الله عنه
رواها الحافظ أبو القاسم الطبراني باسناده اختصارها أن جريرا أمر مولاه أن يشترى
له فرسا فاشترى بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن فقال جرير لصاحب الفرس
فرسك خير من ثلاثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة درهم قال ذلك إليك يا أبا عبد الله فقال فرسك خير
من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول
فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها فقيل له في ذلك فقال إني بايعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم النصح لكل مسلم والله أعلم واما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه أمية
ابن بسطام وقد قدمنا في المقدمة الخلاف في أنه هل يصرف أولا يصرف وفى ان الباء
مكسورة على المشهور وأن صاحب المطالع حكى أيضا فتحتها وفيه زياد بن علاقة بكسر العين
وبالقاف وفيه سريج بن يونس بالسين المهملة وبالجيم وفيه الدور في بفتح الدال وقد تقدم في
المقدمة بيان هذه النسبة والله أعلم وأما قول مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا
عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير فهذا اسناد كله
كوفيون وأما قوله حدثنا سريج ويعقوب قالا حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبي عن جرير
ثم قال مسلم في آخره قال يعقوب في روايته حدثنا سيار ففيه تنبيه على لطيفة وهي أن هشيما
مدلس وقد قال عن سيار والمدلس إذا قال عن لا يحتج به الا أن ثبت سماعه من جهة أخرى
فروى مسلم رحمه الله حديثه هذا عن شيخين وهما سريج ويعقوب فاما سريج فقال حدثنا
هشيم عن سيار وأما يعقوب فقال حدثنا هشيم قال حدثنا سيار فبين مسلم رحمه الله اختلاف
عبارة الروايتين في نقلهما عبارته وحصل منها اتصال حديثه لم يقتصر مسلم رحمه الله على
احدى الروايتين وهذا من عظيم اتقانه ودقيق نظره وحسن احتياطه رضي الله عنه وسيار بتقديم
40

السين على الياء والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
باب بيان نقصان الايمان بالمعاصي
(ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفى كماله)
في الباب قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق
وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن الحديث) وفي رواية ولا يغل أحدكم حين يغل
وهو مؤمن وفى رواية والتوبة معروضة بعد هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه فالقول الصحيح
الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الايمان وهذا من الألفاظ التي تطلق على
نفى الشئ ويراد نفى كماله ومختاره كما يقال لا علم الا ما نفع ولا مال الا الإبل ولا عيش الا عيش
الآخرة وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وان
زنى وان سرق وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على
أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا إلى آخره ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم فمن وفى منكم فأجره
على الله ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله
تعالى ان شاء عفا عنه وان شاء عذبه فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قوله الله عز
وجل الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء مع اجماع أهل الحق على أن
الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون
ناقصو الايمان ان تابوا سقطت عقوبتهم وان ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فان
41

شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا وان شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة وكل هذه الأدلة
تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها
كثير وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا
وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلا له مع علمه بورود الشرع بتحريمه
وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري معناه ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء
الله المؤمنين ويستحق اسم الذم فيقال سارق وزان وفاجر وفاسق وحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما
أن معناه ينزع منه نور الايمان وفيه حديث مرفوع وقال المهلب ينزع منه بصيرته
في طاعة الله تعالى وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت
ولا يخاض في معناها وأنا لا نعلم معناها وقال أمروها كما أمرها من قبلكم وقيل في معنى الحديث
غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله
كلها محتملة والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولا والله أعلم وأما قول ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب قال سمعت أبا سلمة وسعيد بن المسيب يقولان قال أبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن إلى آخره (قال ابن شهاب فأخبرني
عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة ثم يقول
وكان أبو هريرة يلحق معهن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين
ينتهبها وهو مؤمن) فظاهر هذا الكلام أن قوله ولا ينتهب إلى آخره ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
42

بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه موقوف عليه ولكن جاء في رواية
أخرى ما يدل على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقد جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح
رحمه الله في ذلك كلاما حسنا فقال روى أبو نعيم في مخرجه على كتاب مسلم رحمه الله من
حديث همام بن منبه هذا الحديث وفيه والذي نفسي بيده لا ينتهب أحدكم وهذا مصرح برفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ولم يستغن عن ذكر هذا بأن البخاري رواه من حديث
الليث باسناده هذا الذي ذكره مسلم عنه معطوفا فيه ذكر النبهة على ما بعد قوله قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم نسقا من غير فصل بقوله وكان أبو هريرة يلحق معهن ذلك وذلك
مراد مسلم رحمه الله بقوله واقتص الحديث يذكر مع ذكر النبهة ولم يذكر ذات شرف وإنما
لم يكتف بهذا في الاستدلال على كون النبهة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يعد
ذلك من قبل المدرج في الحديث من كلام بعض رواته استدلالا بقول من فصل فقال
وكان أبو هريرة يلحق معهن وما رواه أبو نعيم يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال
وظهر بذلك أن قول أبى بكر بن عبد الرحمن وكان أبو هريرة يلحق معهن معناه يلحقها
رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من عند نفسه وكأن أبا بكر خصها بذلك لكونه
بلغه أن غيره لا يرويها ودليل ذلك ما تراه من رواية مسلم رحمه الله الحديث من رواية يونس
وعقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة من غير ذكر النهبة ثم إن
في رواية عقيل أن ابن شهاب روى ذكر النهبة عن أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه وفى
رواية يونس عن عبد الملك بن أبي بكر عنه فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه ثم سمعه منه
نفسه وأما قول مسلم رحمه الله (واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة) فكذا وقع يذكر من
43

غيرها الضمير فاما أن يقال حذفها مع ارادتها واما أن يقرأ يذكر بضم أوله وفتح الكاف
على ما لم يسم فاعله على أن حال أي اقتص الحديث مذكورا مع ذكر النهبة هذا آخر كلام
الشيخ أبى عمرو رحمه الله والله أعلم وأما قوله (ذات الشرف) فهو في الرواية المعروفة والأصول
المشهورة المتداولة بالشين المعجمة المفتوحة وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن جميع
الرواة لمسلم ومعناه ذات قدر عظيم وقيل ذات استشراف يستشرف الناس لها ناظرين إليها
رافعين أبصارهم قال القاضي عياض وغيره رحمهم الله ورواه إبراهيم الحربي بالسين المهملة قال
الشيخ أبو عمرو وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم وقال معناه أيضا ذات قدر عظيم والله
44

أعلم والنهبة بضم النون وهي ما ينهبه وأما قول صلى الله عليه وسلم (ولا يغل) فهو بفتح الياء
وضم الغين وتشديد اللام ورفعها وهو من الغلول وهو الخيانة وأما قوله (فإياكم إياكم) فهكذا
هو في الروايات إياكم إياكم مرتين ومعناه احذروا احذروا يقال إياك وفلانا أي احذروه ويقال
إياك أي احذر من غير ذكر فلان كما وقع هنا وأما قوله صلى الله عليه وسلم (والتوبة معروضة بعد)
فظاهر وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم على قبول التوبة ما لم يغرغر كما جاء في الحديث وللتوبة ثلاثة
أركان أن يقلع عن المعصية ويندم على فعلها ويعزم أن لا يعود إليها فان تاب من ذنب
ثم عاد إليه لم تبطل توبته وان تاب من ذنب وهو متلبس بآخر صحت توبته هذا مذهب
أهل الحق وخالفت المعتزلة في المسئلتين والله أعلم قال القاضي عياض رحمه الله أشار بعض
العلماء إلى أن ما في هذا الحديث تنبيه على جميع أنواع المعاصي والتحذير منها فنبه بالزنا على
جميع الشهوات وبالسرقة على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام وبالخمر على جميع ما يصد
عن الله تعالى ويوجب الغفلة عن حقوقه وبالانتباه الموصوف عن الاستخفاف بعباد
الله تعالى وترك توقيرهم والحياء منهم وجمع الدنيا من غير وجهها والله أعلم وأما ما يتعلق
بالاسناد ففيه حرملة التجيبي وقد قدمنا مرات أنه بضم التاء وفتحها وفيه عقيل عن ابن
شهاب وتقدم أنه بضم العين وفيه الدراؤردي بفتح الدال والواو وقد تقدم بيانه في باب
45

الامر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
باب بيان خصال المنافق
قوله صلى الله عليه وسلم (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت
فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم
فجر وفى رواية آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) هذا
الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم
المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل
هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار فان اخوة يوسف صلى الله عليه وسلم
جمعوا هذه الخصال وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله وهذا
46

الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى اشكال ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون
والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه ان هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها شبيه
بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم فان النفاق هو اظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى
موجود في صاحب هذه الخصال ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه
وعاهده من الناس لا أنه منافق في الاسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم
بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى الله عليه وسلم
كان منافقا خالصا معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء
وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلا فيه فهذا هو
المختار في معنى الحديث وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي رضي الله عنه معناه عن العلماء
مطلقا فقال إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل وقال جماعة من العلماء المراد به
المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثوا بايمانهم وكذبوا واؤتمنوا على
دينهم فخانوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد
ابن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد إن كان على خلافه
وهو مروى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وروياه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال القاضي عياض رحمه الله واليه مال كثير من أئمتنا وحكى الخطابي رحمه الله قولا
آخر أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضى به إلى حقيقة
النفاق وحكى الخطابي رحمه الله أيضا عن بعضهم ان الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان
47

النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول فلان منافق وإنما كان يشير
إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يفعلون كذا والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
في الرواية الأولى أربع من كن فيه كان منافقا وفى الرواية الأخرى آية المنافق
ثلاث فلا منافاة بينهما فان الشئ الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منهن تحصل بها
صفته ثم قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا وقد تكون أشياء والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم
وإذا عاهد غدر هو داخل في قوله وإذا اؤتمن خان وقوله صلى الله عليه وسلم وان خاصم
فجر أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب قال أهل اللغة وأصل الفجور الميل عن القصد
وقوله صلى الله عليه وسلم آية المنافق أي علامته ودلالته وقوله صلى الله عليه وسلم خلة
وخصلة هو بفتح الخاء فيهما وإحداهما بمعنى الأخرى وأما أسانيده ففيها العلاء بن عبد
الرحمن مولى الجرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف وهو بطن من جهينة وفيه عقبة
ابن مكرم العمى وأما مكرم فبضم الميم واسكان الكاف وفتح الراء وأما العمى فبفتح العين
وتشديد الميم المكسورة منسوب إلى بنى العم بطن من تميم وفيه يحيى بن محمد بن قيس أبو
زكير بضم الزاي وفتح الكاف واسكان الياء وبعدها راء قال أبو الفضل الفلكي الحافظ
أبو زكير لقب وكنيته أبو محمد وفيه أبو نصر التمار وهو بالصاد المهملة واسمه عبد الملك بن
عبد العزيز بن الحرث وهو ابن أخي بشر بن الحرث الحافي الزاهد رضي الله عنهما قال محمد
ابن سعد هو من أنباء خراسان من أهل نسا نزل بغداد وتجر بها في التمر وغيره وكان فاضلا
خيرا ورعا والله أعلم بالصواب
48

باب بيان حال ايمان من قال لأخيه المسلم يا كافر
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما وفى الرواية الأخرى أيما رجل قال
لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال والا رجعت عليه وفى الرواية الأخرى ليس من رجل ادعى
لغير أبيه وهو يعلمه الا كفر ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار ومن دعا رجلا بالكفر
أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه) هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات
من حيث أن ظاهره غير مراد وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل
والزنا وكذا قوله لأخيه كافر من غير اعتقاد بطلان دين الاسلام وإذا عرف ما ذكرناه فقيل
49

في تأويل الحديث أوجه أحدهما أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر فعلى هذا معنى باء
بها أي بكلمة الكفر وكذا حار عليه وهو معنى رجعت عليه أي رجع عليه الكفر فباء
وحار ورجع بمعنى واحد والوجه الثاني معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره
والثالث أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين وهذا الوجه نقله القاضي عياض رحمه الله
عن الامام مالك بن أنس وهو ضعيف لان المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون
والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع والوجه الرابع معناه أن ذلك يؤول به
إلى الكفر وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة
شؤمها المصير إلى الكفر ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبى عوانة الأسفرايني في كتابه
المخرج على صحيح مسلم فإن كان كما قال والا فقد باء بالكفر وفى رواية إذا قال لأخيه يا كافر
وجب الكفر على أحدهما والوجه الخامس معناه فقد رجع عليه تكفيره فليس الراجع حقيقة
الكفر بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه اما لأنه كفر من
هو مثله واما لأنه كفر من لا يكفره الا كافر يعتقد بطلان دين الاسلام والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيمن ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه كفر فقيل فيه
تأويلان أحدهما أنه في حق المستحل والثاني أنه كفر النعمة والاحسان وحق الله تعالى وحق
أبيه وليس المراد الكفر الذي يخرجه من ملة الاسلام وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم بكفرن
ثم فسره بكفرانهن الاحسان وكفران العشير ومعنى ادعى لغير أبيه أي انتسب إليه واتخذه
أبا وقوله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم تقييد لابد منه فان الاثم إنما يكون في حق العالم
بالشئ وأما قوله صلى الله عليه وسلم ومن ادعى ما ليس له فليس منا فقال العلماء معناه ليس
على هدينا وجميل طريقتنا كما يقول الرجل لابنه لست منى وقوله صلى الله عليه وسلم فليتبوأ
مقعده من النار قد قدمنا في أول المقدمة بيانه وأن معناه فلينزل منزله منها أو فليتخذ منزلا بها وأنه دعاء
أو خبر بلفظ الأمر وهو أظهر القولين ومعناه هذا جزاؤه فقد يجازى وقد يعفى عنه وقد يوفق
للتوبة فيسقط عنه ذلك وفى هذا الحديث تحريم دعوى ما ليس له في كل شئ سواء تعلق به حق
لغيره أم لا وفيه أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه والله تعالى أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم ومن دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك الا حار
50

عليه فهذا الاستثناء قيل إنه واقع على المعنى وتقريره ما يدعوه أحد الا حار عليه ويحتمل أن يكون
معطوفا على الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم ليس من رجل فيكون الاستثناء جاريا على
اللفظ وضبطنا عدو الله على وجهين الرفع والنصب والنصب أرجح على النداء أي يا عدو الله
والرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو عدو الله كما تقدم في الرواية الأخرى قال لأخيه كافر فانا
ضبطناه كافر بالرفع والتنوين على أنه خبر المبتدأ محذوف والله أعلم وأما أسانيد الباب
ففيه ابن بريده عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود عن أبي ذر فأما ابن بريدة فهو عبد الله بن
بريدة بن الحصيب الأسلمي وليس هو سليمان بن بريدة أخاه وهو وأخوه سليمان ثقتان سيدان تابعيان
جليلان ولدا في بطن واحد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأما يعمر فبفتح الياء وفتح الميم
وضمها وقد تقدم ذكر ابن بريدة ويحيى بن يعمر في أول اسناد في كتاب الايمان وأما أبو الأسود
فهو الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو وهذا هو المشهور وقيل اسمه عمرو بن ظالم وقيل
عمرو بن سفيان وقال الواقدي اسمه عويمر بن ظويلم وهو بصرى قاضيها وكان من عقلاء الرجال وهو
الذي وضع النحو تابعي جليل وقد اجتمع في هذا الاسناد ثلاثة تابعيون جلة بعضهم عن بعض
ابن بريدة ويحيى وأبو الأسود وأما أبو ذر رضي الله عنه فالمشهور في اسمه جندب بن جنادة
وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وبالزاء المكررة واسم أمه رملة بنت الوقيعة كان رابع
أربعة في الاسلام وقيل خامس خمسة ومناقبه مشهورة رضي الله عنه والله أعلم
باب بيان حال ايمان من رغب عن أبيه وهو يعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر وفى الرواية
51

الأخرى من ادعى أبا في الاسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) أما الرواية الأولى
فقد تقدم شرحها في الباب الذي قبل هذا وأما قوله صلى الله عليه وسلم فالجنة عليه
حرام ففيه التأويلان اللذان قدمناهما في نظائره أحدهما محمول على من فعله مستحلا له
والثاني أن جزاءه أنها محرمة عليه أولا عند دخول الفائزين وأهل السلامة ثم إنه قد يجازى
فيمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك وقد لا يجازى بل يعفو الله سبحانه وتعالى عنه
ومعنى حرام ممنوعة ويقال رغب عن أبيه أي ترك الانتساب إليه وجحده يقال رغبت عن
الشئ تركته وكرهته ورغبت فيه اخترته وطلبته وأما قول أبى عثمان لما ادعى زياد
لقيت أبا بكرة فقلت له ما هذا الذي صنعتم انى سمعت سعد بن أبي وقاص يقول سمع أذناي
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول من ادعى أبا في الاسلام غير أبيه فالجنة عليه
حرام فقال أبو بكرة أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعنى هذا الكلام الانكار
على أبى بكرة وذلك أن زيادا هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان ويقال فيه
زياد بن أبيه ويقال زياد بن أمه وهو أخو أبى بكرة لأمه وكان يعرف بزياد بن عبيد الثقفي
ثم ادعاه معاوية بن أبي سفيان وألحقه بأبيه أبي سفيان وصار من جملة أصحابه بعد أن كان من
أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلهذا قال أبو عثمان لأبى بكرة ما هذا الذي صنعتم
وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زيادا وحلف أن لا يكلمه أبدا ولعل
أبا عثمان لم يبلغه انكار أبى بكرة حين قال له هذا الكلام أو يكون مراده بقوله ما هذا الذي
صنعتم أي ما هذا الذي جرى من أخيك ما أقبحه وأعظم عقوبته فان النبي صلى الله عليه وسلم
حرم على فاعله الجنة وقوله ادعى ضبطناه بضم الدال وكسر العين مبنى لما لم يسم فاعله
أي ادعاه معاوية ووجد بخط الحافظ أبى عامر العبدري ادعى بفتح الدال والعين على أن زيادا
52

هو الفاعل وهذا له وجه من حيث إن معاوية ادعاه وصدقه زياد فصار زياد مدعيا أنه ابن أبي
سفيان والله أعلم وأما قول سعد سمع أذناي فهكذا ضبطناه سمع بكسر الميم وفتح العين
وأذناي بالتثنية وكذا نقل الشيخ أبو عمر وكونه أذناي بالألف على التثنية عن رواية أبى الفتح
السمرقندي عن عبد الغافر قال وهو فيما يعتمد من أصل أبى القاسم العساكري وغيره أذني
بغير ألف وحكى القاضي عياض أن بعضهم ضبطه باسكان الميم وفتح العين على المصدر وأذنى
بلفظ الافراد قال ضبطناه من طريق الجياني بضم العين مع اسكان الميم وهو الوجه قال
سيبويه العرب تقول سمع أذني زيدا يقول كذا وحكى عن القاضي الحافظ أبى علي بن سكرة
أنه ضبطه بكسر الميم كما ذكرناه أولا وأنكره القاضي وليس انكاره بشئ بل الأوجه المذكورة كلها
صحيحة ظاهرة ويؤيد كسر الميم قوله في الرواية الأخرى سمعته أذناي ووعاه قلبي والله أعلم
وأما قوله في الرواية الأخرى سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا صلى الله عليه وسلم فنصب محمد
على البدل من الضمير في سمعته أذناي ومعنى وعاه حفظه والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد
ففيه هارون الأيلي بالمثناة وعراك بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وبالكاف وفيه أبو عثمان
وهو النهدي بفتح النون واسمه عبد الرحمن بن مل بفتح الميم وكسرها وضمها مع تشديد
اللام ويقال ملء بالكسر مع اسكان اللام وبعدها همزة وقد تقدم بيانه في شرح آخر المقدمة
وأما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث بن كلدة بفتح الكاف واللام وأمه وأم أخيه زياد سمية
أمة الحرث بن كلدة وقيل له أبو بكرة لأنه تدلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن
الطائف ببكرة مات بالبصرة سنة احدى وقيل اثنتين وخمسين رضي الله عنه والله سبحانه وتعالى أعلم
باب بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر
السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الانسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد
53

به في الشرع الخروج عن الطاعة وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام باجماع الأمة
وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وأما قتاله حق فلا يكفر به عند أهل
الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله فإذا تقرر هذا فقيل
في تأويل الحديث أقوال أحدها أنه في المستحل والثاني أن المراد كفر الاحسان والنعمة
وأخوة الاسلام لاكفر الجحود والثالث أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه والرابع أنه كفعل
الكفار والله أعلم ثم إن الظاهر من قتاله المقاتلة المعروفة قال القاضي ويجوز أن يكون
المراد المشارة والمدافعة والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد ففيه محمد بن بكار بن الريان بالراء
المفتوحة وتشديد المثناة تحت وفيه زبيد بضم الزاي وبالموحدة ثم المثناة وهو زبيد بن الحرث
اليامي ويقال الأيامى وليس في الصحيحين غيره وفى الموطأ زبيد بن الصلت بتكرير المثناة وبضم
الزاي وكسرها وقد تقدم بيانه في آخر الفصول وفيه أبو وائل شفيق بن سلمة وأما قول
مسلم في أول الاسناد (حدثنا محمد بن بكار وعون قالا حدثنا محمد بن طلحة ح وحدثنا محمد بن
المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان وحدثنا سفيان وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا
شعبة كلهم عن زبيد) فهكذا ضبطناه وكذا وقع في أصلنا وبعض الأصول ووقع في الأصول
54

التي اعتمدها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله بطريقي محمد بن طلحة وشعبة ولم يقع فيها
طريق محمد بن المثنى عن ابن مهدي عن سفيان وأنكر الشيخ قوله كلهم مع أنهما اثنان محمد بن
طلحة وشعبة وانكاره صحيح على ما في أصوله وأما على ما عندنا فلا انكار فان سفيان ثالثهما والله أعلم
باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم
(لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) قيل في معناه
سبعة أقوال أحدها أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق والثاني المراد كفر النعمة وحق
الاسلام والثالث أنه يقرب من الكفر ويؤدى إليه والرابع أنه فعل كفعل الكفر والخامس
المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفرا بل دوموا مسلمين والسادس حكاه الخطابي وغيره أن
المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذ لبسه قال الأزهري في
كتابه تهذيب اللغة يقال للابس السلاح كافر والسابع قاله الخطابي معناه لا يكفر بعضكم بعضا
فتستحلوا قتال بعضكم بعضا وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض رحمه الله ثم إن
الرواية يضرب برفع الباء هكذا هو الصواب وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون وبه يصح
المقصود هنا ونقل القاضي عياض رحمه الله أن بعض العلماء ضبطه باسكان الباء قال القاضي
وهو إحالة للمعنى والصواب الضم قلت وكذا قال أبو البقاء العكبري أنه يجوز جزم الباء على
تقدير شرط مضمر أي ان ترجعوا يضرب والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا
55

بعدي كفارا فقال القاضي قال الصبري معناه بعد فراقي من موقفي هذا وكان هذا يوم النحر بمنى
في حجة الوداع أو يكون بعدي أي خلافي أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به
أو يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته وقوله
صلى الله عليه وسلم (استنصت الناس) معناه مرهم بالانصات ليسمعوا هذه الأمور المهمة والقواعد
التي سأقررها لكم وأحملكموها وقوله في حجة الوداع سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ودع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها
فقال صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد منكم الغائب والمعروف في الرواية حجة الوداع بفتح
الحاء وقال الهروي وغيره من أهل اللغة المسموع من العرب في واحدة الحجج حجة بكسر الحاء
قالوا والقياس فتحها لكونها اسما للمرة الواحدة وليست عبارة عن الهيئة حتى تكسر قالوا فيجوز
الكسر بالسماع والفتح بالقياس وقوله صلى الله عليه وسلم (ويحكم أو قال ويلكم) قال القاضي
هما كلمتان استعملتهما العرب بمعنى التعجب والتوجع قال سيبويه ويل كلمة لمن وقع في هلكة
وويح ترحم وحكى عنه ويح زجر لمن أشرف على الهلكة قال غيره ولا يراد بهما الدعاء بايقاع
الهلكة ولكن الترحم والتعجب وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ويح كلمة
56

رحمة وقال الهروي ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له وويل للذي
يستحقها ولا يترحم عليه والله أعلم وأما أسانيد الباب ففيه علي بن مدرك بضم الميم واسكان
الدال وكسر الراء وفيه أبو زرعة بن عمرو بن جرير وفى اسمه خلاف مشهور قد قدمناه في
أول الكتاب وهو كتاب الايمان قيل اسمه هرم وقيل عمرو وقيل عبد الرحمن وقيل عبيد
وفيه واقد بن محمد بالقاف وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين وافد والله أعلم بالصواب
باب اطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة
قوله صلى الله عليه وسلم (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على
الميت) وفيه أقوال أصحها أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية والثاني أنه
يؤدى إلى الكفر والثالث أنه كفر النعمة والاحسان والرابع أن ذلك في المستحل وفى هذا
الحديث تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة وقد جاء في كل واحد منهما نوص معروفة والله أعلم
باب تسمية العبد الآبق كافرا
قوله صلى الله عليه وسلم (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) وفى الرواية
57

الأخرى قد برئت منه الذمة وفى الأخرى إذا ابق العبد لم تقبل له صلاة أما تسميته
كافرا ففيه الأوجه التي في الباب قبله وأما قوله صلى الله عليه وسلم (فقد برئت منه الذمة)
فمعناه لا ذمة له قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله بالذمة هنا يجوز أن تكون هي الذمة المفسرة
بالذمام وهي الحرمة ويجوز أن يكون من قبيل ما جاء في قوله له ذمة الله وذمة رسول
الله صلى الله عليه وسلم أي ضمانه وأمانته ورعايته ومن ذلك أن الآبق كان مصونا عن عقوبة
السيد له وحبسه فزال ذلك باباقه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (إذا أبق العبد
لم تقبل له صلاة) فقد أوله الامام المازري وتابعه القاضي عياض رحمهما الله على أن ذلك
محمول على المستحل للإباق فيكفر ولا تقبل له صلاة لا غيرها ونبه بالصلاة على غيرها وأنكر
الشيخ أبو عمرو هذا وقال بل ذلك جار في غير المستحل ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة
فصلاة الآبق صحيحة غير مقبولة فعدم قبولها لهذا الحديث وذلك لاقترانها بمعصية وأما صحتها
فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحتها ولا تناقض في ذلك ويظهر أثر عدم القبول في سقوط
الثواب وأثر الصحة في سقوط القضاء وفى أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة هذا آخر كلام
الشيخ أبى عمرو رحمه الله وهو ظاهر لاشك في حسنه وقد قال جماهير أصحابنا ان الصلاة في
الدار المغصوبة صحيحة لا ثواب فيها ورأيت في فتاوى أبى نصر بن الصباغ من أصحابنا التي
نقلها عنه ابن أخيه القاضي أبو منصور قال المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في
الدار المغصوبة صحيحة يسقط بها الفرض ولا ثواب فيها قال أبو منصور ورأيت أصحابنا
بخراسان اختلفوا فمنهم من قال لا تصح الصلاة قال وذكر شيخنا في الكامل أنه ينبغي أن
تصح ويحصل الثواب على الفعل فيكون مثابا على فعله عاصيا بالمقام في المغصوب فإذا لم نمنع
58

من صحتها لم نمنع من حصول الثواب قال أبو منصور وهذا هو القياس على طريق من صححها
والله أعلم ويقال أبق العبد وابق بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان الفتح أفصح وبه جاء
القرآن ابق إلى الفلك المشحون وأما قوله عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن
جرير أنه سمعه يقول أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم قال منصور قد والله
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى عنى ههنا بالبصرة فمعناه أن
منصورا روى هذا الحديث عن الشعبي عن جرير موقوفا عليه ثم قال منصور بعد روايته إياه
موقوفا والله انه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعلموه أيها الخواص الحاضرون فانى اكره
أن أصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عنى في البصرة التي هي مملؤة من المعتزلة والخوارج الذين
يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار والخوارج يزيدون على التخليد فيحكمون بكفره ولهم
شبهة في التعلق بظاهر هذا الحديث وقد قدمنا تأويله وبطلان مذاهبهم بالدلائل القاطعة الواضحة
التي ذكرناها في مواضع من هذا الكتاب والله أعلم واما منصور بن عبد الرحمن هذا فهو
الأشل الغداني البصري وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وضعفه أبو حاتم الرازي وفى الرواة
خمسة يقال لكل واحد منهم منصور بن عبد الرحمن هذا أحدهم والله أعلم
باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء
قوله (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من
الليل فلما انصرف قال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال أصبح من عبادي
59

مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال
مطرنا نبوء كذا وكذلك فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) أما الحديبية ففيها لغتان تخفيف الياء وتشديدها
والتخفيف هو الصحيح المشهور المختار وهو قول الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين والتشديد قول
الكسائي وابن وهب وجماهير المحدثين واختلافهم في الجعرانة كذلك في تشديد الراء وتخفيها
والمختار فيها أيضا التخفيف وقوله على اثر سماء هو بكسر الهمزة واسكان الثاء وبفتحها
جميعا لغتان مشهورتان والسماء المطر وأما معنى الحديث فاختلف العلماء في كفر من قال مطرنا
بنوء كذا على قولين أحدهما هو كفر بالله سبحانه وتعالى سالب لأصل الايمان مخرج من ملة الاسلام
قالوا وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر كما كان بعض أهل
الجاهلية يزعم ومن أعتقد هذا فلا شك في كفره وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء
والشافعي منهم وهو ظاهر الحديث قالوا وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى
60

وبرحمته وأن النوء ميقات وله علاقة اعتبارا بالعادة فكأنه قال مطرنا في وقت كذا فهذا
لا يكفر واختلفوا في كراهته والأظهر كراهته لكنها كراهة تنزيه لا اثم فيها وسبب الكراهة
انها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم
والقول الثاني في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة
الغيث إلى الكوكب وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة
في الباب أصبح من الناس شاكر وكافر وفى الرواية الأخرى ما أنعمت على عبادي من نعمة
الا أصبح فريق منهم بها كافرين وفى الرواية الأخرى ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة
الا أصبح فريق من الناس بها كافرين فقوله بها يدل على أنه كفر بالنعمة والله أعلم وأما النوء
ففيه كلام طويل قد لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال النوء في أصله ليس هو
نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط وغاب وقيل أي نهض وطلع وبيان
ذلك أن ثمانية وعشرين نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها وهي المعروفة بمنازل القمر
الثمانية والعشرين يسقط في كل ثلاثة عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر ويطلع آخر
يقابله في المشرق من ساعته وكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط
الغارب منهما وقال الأصمعي إلى الطالع منهما قال أبو عبيد ولم أسمع أحدا ينسب النوء للسقوط
الا في هذا الموضع ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر قال أبو إسحاق
الزجاج في بعض أماليه الساقطة في الغرب هي الأنواء والطالعة في المشرق هي البوارح والله أعلم
وأما قوله في رواية ابن عباس رضي الله عنهما (مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
61

فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم
لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم
أنكم تكذبون) فقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ليس مراده أن جميع هذا نزل في قولهم في الأنواء
فان الامر في ذلك تفسيره يأبى ذلك وإنما النازل في ذلك قوله تعالى رزقكم أنكم تكذبون
والباقي نزل في غير ذلك ولكن اجتمعا في وقت النزول فذكر الجميع من أجل ذلك قال الشيخ أبو عمرو
رحمه الله ومما يدل على هذا أن في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك الاقتصار
على هذا القدر اليسير فحسب هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله وأما تفسير الآية فقيل تجعلون رزقكم
أي شكركم كذا قاله ابن عباس والأكثرون وقيل تجعلون شكر رزقكم قاله الأزهري وأبو علي الفارسي
وقال الحسن أي تجعلون حظكم وأما مواقع النجوم فقال الأكثرون المراد نجوم السماء ومواقعها
مغاربها وقيل مطالعها وقيل انكدارها وقيل انتثارها يوم القيامة وقيل النجوم نجوم القرآن
وهي أوقات نزوله وقال مجاهد مواقع النجوم محكم القرآن والله أعلم وأما ما يتعلق بالأسانيد
ففيه عمرو بن سواد بتشديد الواو آخره دال وفيه أبو يونس مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير
بضم أولهما وفيه عباس بن عبد العظيم العنبري هو بالسين المهملة والعنبري بالعين المهملة والنون
بعدها موحدة قال القاضي وضبطه العذري الغبرى بالغين المعجمة وهو تصحيف بلا شك وفيه
أبو زميل بضم الزاي وفتح الميم واسمه سماك بن الوليد الحنفي اليمامي قال ابن عبد البر اجمعوا على
أنه ثقة والله أعلم وأما قول مسلم رحمه الله حدثني محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن
عمرو بن الحارث قال مسلم رحمه الله وحدثني عمرو بن سواد أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن
الحارث أن أبا يونس مولى أبي هريرة حدثه عن أبي هريرة فهذا الاسناد كله بصريون الا أبا
62

هريرة فمدني وأنما أتى مسلم بعبد الله بن وهب وعمرو بن الحارث أولا ثم أعادهما ولم يقتصر على
قوله حدثنا محمد وعمرو بن سواد لاختلاف لفظ الروايات كما ترى وقد نبهنا على مثل هذا التدقيق
والاحتياط لمسلم رحمه الله في مواضع والله أعلم بالصواب
باب الدليل على أن حب الأنصار وعلى رضي الله عنهم
(من الايمان وعلاماته وبعضهم من علامات النفاق)
قوله صلى الله عليه وسلم (آية المنافق بغض الأنصار وآية المؤمن حب الأنصار وفى الرواية
الأخرى حب الأنصار آية الايمان وبغضهم آية النفاق وفى الأخرى لا يحبهم الا مؤمن
ولا يبغضهم الا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله وفى الأخرى
63

لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الأخر وفى حديث علي رضي الله عنه والذي فلق الحبة وبرأ
النسمة انه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني الا مؤمن ولا يبغضني الا منافق)
قد تقدم أن الآية هي العلامة ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار
وما كان منهم في نصرة دين الاسلام والسعي في اظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات
دين الاسلام حق القيام وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم
بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للاسلام وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له وما كان
منه من نصرة الاسلام وسوابقه فيه ثم أحب الأنصار وعليا لهذا كان ذلك من دلائل صحة
ايمانه وصدقه في اسلامه لسروره بظهور الاسلام والقيام بما يرضى الله سبحانه وتعالى
ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن أبغضهم كان بضد ذلك واستدل به على نفاقه وفساد سريرته
والله أعلم وأما قوله فلق الحبة فمعناه شقها بالنبات وقوله وبرأ النسمة هو بالهمزة أي خلق
64

النسمة وهي بفتح النون والسين وهي الانسان وقيل النفس وحكى الأزهري أن النسمة هي
النفس وأن كل دابة في جوفها روح فهي نسمة والله أعلم وأما ما يتعلق بأسانيد الباب
ففيه عبد الله بن عبد الله بن جبر فعبد مكبر في اسمه واسم أبيه وجبر بفتح الجيم واسكان
الباء ويقال فيه أيضا جابر وفيه البراء بن عازب وهو معروف بالمد هذا هو المشهور عند
أهل العلم من المحدثين وأهل اللغة والأخبار وأصحاب الفنون كلها قال الشيخ أبو عمرو بن
الصلاح رحمه الله وحفظت فيه عن بعض أهل اللغة القصر والمد وفيه يعقوب بن عبد الرحمن
القاري بتشديد الياء منسوب إلى القارة قبيله معروفة وفيه زر بكسر الزاي وتشديد الراء وهو
زر بن حبيش وهو من المعمرين أدرك الجاهلية ومات سنة اثنتين وثمانين وهو ابن مائة
وعشرين سنة وقيل ابن مائة واثنتين وعشرين سنة وقيل مائة وسبعة وعشرين وهو أسدى
كوفي وأما قول مسلم رحمه الله حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة
عن عبد الله بن عبد الله بن جبر قال سمعت أنسا يقول ثم قال مسلم حدثنا يحيى بن حبيب
الحارثي حدثنا خالد يعنى ابن الحرث حدثنا شعبة عن عبد الله بن عبد الله عن أنس فهذان
الاسنادان رجالهما كلهم بصريون الا ابن جبر فإنه أنصاري مدني وقد قدمنا ان شعبة وإن كان
واسطيا فقد استوطن البصرة والله أعلم
باب بيان نقصان الايمان بنقص الطاعات وبيان اطلاق لفظ
(الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة والحقوق)
قوله صلى الله عليه وسلم (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فانى رأيتكن أكثر أهل
65

النار فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار قال تكثرن اللعن وتكفرن
العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان
العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد فهذا نقصان
العقل وتمكث الليالي ما تصلى وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين) قال أهل اللغة المعشر
هم الجماعة الذين أمرهم واحد أي مشتركون وهو اسم يتناولهم كالإنس معشر والجن معشر
والأنبياء معشر والنساء معشر ونحو ذلك وجمعه معاشر وقوله صلى الله عليه وسلم رأيتكن أكثر
أهل النار هو بنصب أكثر اما على أن هذه الرؤية تتعدى إلى مفعولين وأما على الحال على مذهب
ابن السراج وأبى على الفارسي وغيرهما ممن قال إن أفعل لا يتعرف بالإضافة وقيل هو بدل من
الكاف في رأيتكن وأما قولها وما لنا أكثر أهل النار فمنصوب أما على الحكاية وأما على الحال
وقوله جزلة بفتح الجيم واسكان الزاي أي ذات عقل ورأي قال ابن دريد الجزالة العقل والوقار
وأما العشير بفتح العين وكسر الشين وهو في الأصل المعاشر مطلقا والمراد هنا الزوج وأما اللب
فهو العقل والمراد كمال العقل وقوله صلى الله عليه وسلم فهذا نقصان العقل أي علامة نقصانه
وقوله صلى الله عليه وسلم وتمكث الليالي ما تصلى أي تمكث ليالي وأياما لا تصلى بسبب الحيض
وتفطر أياما من رمضان بسبب الحيض والله أعلم وأما أحكام الحديث ففيه جمل من العلوم منها
الحث على الصدقة وأفعال البر والاكثار من الاستغفار وسائر الطاعات وفيه ان الحسنات يذهبن
السيئات كما قال الله عز وجل وفيه ان كفران العشير والاحسان من الكبائر فان التوعد بالنار
من علامة كون المعصية كبيرة كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى وفيه ان اللعن أيضا من المعاصي
66

الشديدة القبح وليس فيه أنه كبيرة فإنه صلى الله عليه وسلم قال تكثرن اللعن والصغيرة إذا أكثرت
صارت كبيرة وقد قال صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله واتفق العلماء على تحريم اللعن فإنه في
اللغة الابعاد والطرد وفى الشرع الابعاد من رحمة الله تعالى فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى
من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطيعة فلهذا قالوا لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو
كافرا أو دابة الا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس
وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا
وموكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين ولعن من غير منار الأرض ومن تولى غير
مواليه ومن انتسب إلى غير أبيه ومن أحدث في الاسلام حدثا أو آوى محدثا وغير ذلك مما
جاءت به النصوص الشرعية باطلاقه على الأوصاف لاعلى الأعيان والله أعلم وفيه اطلاق الكفر
على غير الكفر بالله تعالى ككفر العشير والاحسان والنعمة والحق ويؤخذ من ذلك صحة تأويل
الكفر في الأحاديث المتقدمة على ما تأولناها وفيه بيان زيادة الايمان ونقصانه وفيه وعظ الامام
وأصحاب الولايات وكبراء الناس رعاياهم وتحذيرهم المخالفات وتحريضهم على الطاعات وفيه
مراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه كمراجعة هذه الجزلة رضي الله عنها
وفيه جواز اطلاق رمضان من غير إضافة إلى الشهر وإن كان الاختيار اضافته والله أعلم
قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم أما نقصان العقل فشهادة
امرأتين تعدل شهادة رجل تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على ما وراءه وهو ما نبه الله تعالى عليه في
كتابه بقوله تعالى تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى أي انهن قليلات الضبط قال وقد
67

اختلف الناس في العقل ما هو فقيل هو العلم وقيل بعض العلوم الضرورية وقيل قوة يميز بها بين
حقائق المعلومات هذا كلامه قلت والاختلاف في حقيقة العقل وأقسامه كثير معروف لا حاجة
هنا إلى الإطالة به واختلفوا في محله فقال أصحابنا المتكلمون هو في القلب وقال بعض العلماء هو
في الرأس والله أعلم وأما وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة
والصوم في زمن الحيض فقد يستشكل معناه وليس بمشكل بل هو ظاهر فان الدين
والايمان والاسلام مشتركة في معنى واحد كما قدمناه في مواضع وقد قدمنا أيضا في مواضع أن
الطاعات تسمى أيمانا ودينا وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه ومن نقصت
عبادته نقص دينه ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به كمن ترك الصلاة أو الصوم أو
غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر وقد يكون على وجه لا اثم فيه كمن ترك الجمعة أو
الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر وقد يكون على وجه هو مكلف به كترك الحائض
الصلاة والصوم فان قيل فان كانت معذورة فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض وان كانت
لا تقضيها كما يثاب المريض والمسافر ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التي
كان يفعلها في صحته وحضره فالجواب أن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب والفرق ان المريض
والمسافر كان يفعلها بينة الدوام عليها مع أهليته لها والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك الصلاة
في زمن الحيض بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض فنظيرها مسافر أو مريض كان
يصلى النافلة في وقت ويترك في وقت غير ناو الدوام عليها فهذا لا يكتب له في سفره ومرضه
في الزمن الذي لم يكن يتنفل فيه والله أعلم وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه ابن الهاد واسمه
يزيد بن عبد الله بن أسامة وأسامة هو الهاد لأنه كان يوقد نارا ليهتدي إليها الأضياف ومن
سلك الطريق وهكذا يقوله المحدثون الهاد وهو صحيح على لغة والمختار في العربية الهادي بالياء
وقد قدمنا ذكر هذا في مقدمة الكتاب وغيرها والله أعلم وفيه أبو بكر بن إسحاق واسمه
68

محمد وفيه ابن أبي مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي أبو محمد المصري الفقيه
الجليل وفيه عمرو بن أبي عمرو عن المقبري وقد اختلف في المراد بالمقبرى هنا هل هو أبو سعيد
المقبري أو ابنه سعيد فان كل واحد منهما يقال له المقبري وإن كان المقبري في الأصل هو
أبو سعيد فقال الحافظ أبو علي الغساني الجياني عن أبي مسعود الدمشقي هو أبو سعيد قال
أبو علي وهذا إنما هو في رواية إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو وقال الدارقطني خالفه
سليمان بن بلال فرواه عن عمرو عن سعيد المقبري قال الدارقطني وقول سليمان بن بلال
أصح قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله رواه أبو نعيم الاصفهاني في كتابه المخرج
على صحيح مسلم من وجوه مرضية عن إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد
ابن أبي سعيد المقبري هكذا مبينا لكن رويناه في مسند أبى عوانة المخرج على صحيح مسلم من
طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سعيد ومن طريق سليمان بن بلال عن سعيد كما سبق عن
الدارقطني فالاعتماد عليه إذا هذا كلام الشيخ ويقال المقبري بضم الباء وفتحها وجهان
مشهوران فيه وهي نسبة إلى المقبرة وفيها ثلاث لغات ضم الباء وفتحها وكسرها والثالثة غريبة
قال إبراهيم الحربي وغيره كان أبو سعيد ينزل المقابر فقيل له المقبري وقيل كان منزله عند المقابر
وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعله على حفر القبور فقيل له المقبري وجعل نعيما على
اجمار المسجد فقيل له نعيم المجمر واسم أبي سعيد كيسان الليثي المدني والله أعلم
باب بيان اطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة
في الباب حديثان أحدهما (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويله
69

وفى رواية يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار)
والحديث الثاني (ان بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) مقصود مسلم رحمه الله
بذكر هذين الحديثين هنا أن من الافعال ما تركه يوجب الكفر اما حقيقة واما تسمية
فأما كفر إبليس بسبب السجود فمأخوذ من قول الله تعالى قلنا للملائكة اسجدوا لآدم
فسجدوا الا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين قال الجمهور معناه وكان في علم الله تعالى
من الكافرين وقال بعضهم وصار من الكافرين كقوله تعالى بينهما الموج فكان من
المغرقين وأما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر باجماع المسلمين خارج من ملة
الاسلام الا أن يكون قريب عهد بالاسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة
عليه وإن كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف
العلماء فيه فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر
بل يفسق ويستتاب فان تاب والا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف وذهب
جماعة من السلف إلى أنه يكفر وهو مروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو
احدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن
راهويه وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه وذهب أبو حنيفة وجماعة من
أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس
حتى يصلى واحتج من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد
70

واحتج من قال لا يقتل بحديث لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث وليس فيه الصلاة
واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء وبقوله صلى الله عليه وسلم من قال لا إله الا الله دخل الجنة من مات وهو يعلم أن لا إله الا الله
دخل الجن ولا يلقى الله تعالى عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة حرم الله على النار من قال
لا إله الا الله وغير ذلك واحتجوا على قتله بقوله تعالى تابوا وأقام الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا
سبيلهم وقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله ويقيموا الصلاة
ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم
بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي
القتل أو أنه محمول على المستحل أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر أو أن فعله فعل الكفار
والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ابن آدم السجدة فمعناه آية السجدة وقوله
يا ويله هو من آداب الكلام وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء واقتضت
الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم صرف الحاكي الضمير عن نفسه تصاونا عن صورة
إضافة السوء إلى نفسه وقوله في الرواية الأخرى يا ويلي يجوز فيه فتح اللام وكسرها
وقوله صلى الله عليه وسلم بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة هكذا هو في جميع
الأصول من صحيح مسلم الشرك والكفر بالواو وفى مخرج أبى عوانه الأسفرايني وأبى نعيم
الأصبهاني أو الكفر بأو ولكل واحد منهما وجه ومعنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة أن الذي
يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه ثم إن
الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى وقد يفرق بينهما فيخص الشرك
بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش فيكون الكفر أعم من
الشرك والله أعلم وقد احتج أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وإياهم بقوله أمر ابن آدم بالسجود على أن
71

سجود التلاوة واجب ومذهب مالك والشافعي والكبيرين أنه سنة وأجابوا عن هذا بأجوبة أحدها
أن تسمية هذا أمرا إنما هو من كلام إبليس فلا حجة فيها فان قالوا حكاها النبي صلى الله عليه وسلم
ولم ينكرها قلنا قد حكى غيرها من أقوال الكفار ولم يبطلها حال الحكاية وهي باطلة الوجه الثاني
أن المراد أمر ندب لا إيجاب الثالث المراد المشاركة في السجود لا في الوجوب والله أعلم
وأما ما يتعلق بأسانيده ففيه أبو غسان وقد تقدم أنه يصرف ولا يصرف واسمه مالك بن
عبد الواحد وفيه أبو سفيان عن جابر وقد تقدم ان اسمه طلحة بن نافع وفيه أبو الزبير محمد
ابن مسلم بن تدرس تقدم أيضا والله أعلم
باب بيان كون الايمان بالله تعالى أفضل الأعمال
أما أحاديث الباب (فعن أبي هريرة وأبي ذر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الاعمال أفضل قال الايمان بالله قيل ثم ماذا قال الجهاد
في سبيل الله قيل ثم ماذا قال حج مبرور وفى رواية ايمان بالله ورسوله وفى رواية
72

الايمان بالله والجهاد في سبيله قلت أي الرقاب أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قلت فإن لم
أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لا أخرق قلت أرأيت أن ضعفت عن بعض العمل قال تكف
شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك) وفى رواية الزهري تعين الصانع أو تصنع
لأخرق وفى رواية أي العمل أفضل قال الصلاة لوقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم
73

أي قال الجهاد في سبيل الله فما تركت أستزيده الا ارعاء عليه
وفى رواية لو استزدته لزادني وفى رواية أي الأعمال أقرب إلى الجنة قال الصلاة على مواقيتها
قلت وماذا قال الجهاد في سبيل الله وفى رواية أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين هذه
ألفاظ المتون وأما أسماء الرجال ففي الباب أبو هريرة وأبو ذر ومنصور بن أبي مزاحم وابن
شهاب وسعيد بن المسيب وأبو الربيع الزهراني وأبو مراوح والشيباني عن الوليد بن العيزار
عن سعد بن اياس أبى عمرو الشيباني وأبو يعفور أما ألفاظ الأحاديث فالحج المبرور قال
القاضي عياض رحمه الله قال شمر هو الذي لا يخالطه شئ من المأثم ومنه برت يمينه إذا سلم
من الحنث وبربيعة إذا سلم من الخداع وقيل المبرور المتقبل وقال الحربي برحجك بضم الباء
74

وبر الله حجك بفتحها إذا رجع مبرورا مأجورا وفى الحديث بر الحج اطعام الطعام وطيب
الكلام فعلى هذا يكون من البر الذي هو فعل الجميل ومنه بر الوالدين والمؤمنين قال ويجوز
أن يكون المبرور الصادق الخالص لله تعالى هذا كلام القاضي وقال الجوهري في صحاحه بر حجه
وبر حجه بفتح الباء وضمها وبر الله حجه وقول من قال المبرور المتقبل قد يستشكل من
حيث إنه لا اطلاع على القبول وجوابه أنه قد قيل من علامات القبول ان يزداد بعده خيرا
وأما قوله صلى الله عليه وسلم أنفسها عند أهلها فمعناه أرفعها وأجودها قال الأصمعي
مال نفيس أي مرغوب فيه وقوله صلى الله عليه وسلم تعين صانعا أو تصنيع لأخرق
الأخرق هو الذي ليس بصانع يقال رجل أخرق وامرأة خرقاء لمن لا صنعة له فإن كان صانعا
حاذقا قيل رجل صنع بفتح النون وامرأة صناع بفتح الصاد وأما قوله صانعا وفى الرواية
الأخرى الصانع فروى بالصاد المهملة فيهما وبالنون من الصنعة وروى بالضاد المعجمة
وبهمزة بدل النون تكتب ياء من الضياع والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة والأكثر
في الرواية بالمعجمة فتعين قال القاضي عياض رحمه الله روايتنا في هذا من طريق هشام أولا
بالمعجمة ضائعا وكذلك في الرواية الأخرى فتعين الضائع من جميع طرقنا عن مسلم
في حديث هشام والزهري الا من رواية أبى الفتح الشاشي عن عبد الغافر الفارسي فان شيخنا
أبا بحر حدثنا عنه فيهما بالمهملة وهو صواب الكلام لمقابلته بالأخرق وإن كان المعنى من
جهة معونة الضائع أيضا صحيحا لكن صحت الرواية عن هشام هنا بالصاد المهملة وكذلك
رويناه في صحيح البخاري قال ابن المديني الزهري يقول الصانع بالمهملة ويرون ان هشاما
صحف في قوله ضائعا بالمعجمة وقال الدارقطني عن معمر كان الزهري يقول صحف هشام قال
الدارقطني وكذلك رواه أصحاب هشام عنه بالمعجمة وهو تصحيف والصواب ما قاله الزهري
هذا كلام القاضي وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح قوله في رواية هشام تعين صانعا هو
بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبى عامر العبدري وأبى القاسم بن عساكر قال وهذا هو الصحيح
في نفس الامر ولكنه ليس رواية هشام بن عروة إنما روايته بالمعجمة وكذا جاء مقيدا من
غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام وأما الرواية الأخرى عن الزهري فتعين الصانع
فهي بالمهملة وهي محفوظة عن الزهري كذلك وكان ينسب هشاما إلى التصحيف قال الشيخ
75

وذكر القاضي عياض انه بالمعجمة في رواية الزهري لرواة كتاب مسلم الا رواية أبى الفتح السمرقندي
قال الشيخ وليس الامر على ما حكاه في رواية أصولنا لكتاب مسلم فكلها مقيدة في رواية
الزهري بالمهملة والله أعلم وأما بر الوالدين فهو الاحسان اليهما وفعل الجميل معهما وفعل ما يسرهما
ويدخل فيه الاحسان إلى صديقهما كما جاء في الصحيح ان من أبر البر أن يصل الرجل أهل
ودأبيه وضد البر العقوق وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفسيره قال أهل اللغة يقال بررت
والدي بكسر الراء أبره بضمها مع فتح الباء برا وأنا بر به بفتح الباء وبار وجمع البر الأبرار
وجمع البر البررة قوله فما تركت أستزيده الا ارعاء عليه كذا هو في الأصول تركت
أستزيده من غير لفظ أن بينهما وهو صحيح وهي مرادة وقوله ارعاء هو بكسر الهمزة
واسكان الراء وبالعين المهملة ممدود ومعناه ابقاء عليه ورفقا به والله أعلم وأما أسماء الرجال
فأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح تقدم بيانه وأبو ذر اختلف في اسمه فالأشهر جندب
بضم الدال وفتحها ابن جنادة بضم الجيم وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وبراءين مهملتين وأما
منصور بن أبي مزاحم فبالزاي والحاء وجميع ما في الصحيحين مما هذه صورته فهو مزاحم بالزاي
والحاء ولهم في الأسماء مراجم بالراء والجيم ومنه العوام بن مراجم واسم أبى مزاحم والد منصور
هذا بشير بفتح الباء وأما ابن شهاب فتقدم مرات وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن
شهاب وأما ابن المسيب فتقدم أيضا مرات انه بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها وأما أبو
الربيع الزهراني فتقدم أيضا ان اسمه سليمان بن داود وأما أبو مراوح فبضم الميم وبالراء والحاء
المهملة والواو مكسورة قال ابن عبد البر أجمعوا على أنه ثقة وليس يوقف له على اسم واسمه
كنيته قال الا أن مسلم بن الحجاج ذكره في الطبقات فقال اسمه سعد وذكره في الكنى ولم يذكر
اسمه ويقال في نسبه الغفاري ويقال الليثي قال أبو علي الغساني هو الغفاري ثم الليثي وأما
الشيباني الراوي عن الوليد بن العيزار فهو أبو إسحاق سليمان بن فيروز الكوفي وأما أبو
يعفور فبالعين المهملة والفاء والراء واسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس بكسر النون وبالسين
المهملة المكررة الثعلبي بالمثلثة العامري البكاي ويقال البكالي ويقال البكاري الكوفي ونسطاس
غير مصروف وأبو يعفور هذا هو الأصغر وقد ذكره مسلم أيضا في باب التطبيق في الركوع
ولهم أبو يعفور الأكبر العبدي الكوفي التابعي واسمه واقد وقيل وقدان وقد ذكره مسلم أيضا
76

في باب صلاة الوتر وقال اسمه واقد ولقبه وقدان وله أيضا أبو يعفور ثالث اسمه عبد الكريم
ابن يعفور الجعفي البصري يروى عنه قتيبة ويحيى بن يحيى وغيرهما وآباء يعفور هؤلاء الثلاثة
ثقات واما الوليد بن العيزار فبالعين المهملة المفتوحة وبالزاي قبل الألف والراء بعدها وأما
قوله أخبرنا معمر عن الزهري عن حبيب مولى عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير من أبى
مراوح عن أبي ذر ففيه لطيفة من لطائف الاسناد وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى
بعضهم عن بعض وهو الزهري وحبيب وعروة وأبو مراوح فاما الزهري وعروة وأبو مراوح
فتابعيون معروفون واما حبيب مولى عروة فقد روى عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
قال محمد بن سعد مات حبيب مولى عروة هذا قديمها في آخر سلطان بنى أمية فروايته عن
أسماء مع هذا ظاهرها أنه أدركها وأدرك غيرها من الصحابة فيكون تابعيا والله أعلم أما معاني
الأحاديث وفقهها فقد يستشكل الجمع بينها مع ما جاء في معناها من حيث أنه جعل في حديث
أبي هريرة ان الأفضل الايمان بالله ثم الجهاد ثم الحج وفى حديث أبي ذر الايمان والجهاد
وفى حديث ابن مسعود الصلاة ثم بر الوالدين ثم الجهاد وتقدم في حديث عبد الله بن عمرو
أي الاسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وفى حديث أبي
موسى وعبد الله بن عمرو أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده وصح
في حديث عثمان خيركم من تعلم القرآن وعلمه وأمثال هذا في الصحيح كثيرة واختلف العلماء في
الجمع بينهما فذكر الامام الجليل أبو عبد الله الحليمي الشافعي عن شيخه الامام العلامة المتقن أبى
بكر القفال الشاشي الكبير وهو غير القفال الصغير المروزي المذكور في كتب متأخري أصحابنا
الخراسانيين قال الحليمي وكان القفال أعلم من لقيته من علماء عصره أنه جمع بينها بوجهين
أحدهما أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد
يقال خير الأشياء كذا ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه وفى جميع الأحوال
والأشخاص بل في حال دون حال أو نحو ذلك واستشهد في ذلك بأخبار منها عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة
وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة الوجه الثاني أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال
كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال فلان أعقل الناس
77

وأفضلهم ويراد انه من أعقلهم وأفضلهم ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم
خيركم لأهله ومعلوم أنه لا يصير ذلك خير الناس مطلقا ومن ذلك قولهم أزهد الناس في العالم
جيرانه وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه هذا كلام القفال رحمه الله وعلى هذا الوجه
الثاني يكون الايمان أفضلها مطلقا والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال والأحوال
ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص
فان قيل فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا ثم كذا بحرف ثم وهي موضوعة للترتيب
فالجواب ان ثم هنا للترتيب في الذكر كما قال تعالى أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم
ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا ومعلوم أنه ليس المراد هنا
الترتيب في الفعل وكما قال تعالى تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا وبالوالدين
احسانا ولا تقتلوا إلى قوله آتينا موسى الكتاب وقوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا
للملائكة اسجدوا لآدم ونظائر ذلك كثيرة وأنشدوا فيه
قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
وذكر القاضي عياض في الجمع بينهما وجهين أحدهما نحو الأول من الوجهين اللذين حكيناهما قال
قيل اختلف الجواب لاختلاف الأحوال فأعلم كل قوم بما بهم حاجة إليه أو بما لم يكلموه بعد
من دعائم الاسلام ولا بلغهم علمه والثاني أنه قدم الجهاد على الحج لأنه كان أول الاسلام ومحاربة
أعدائه والجد في إظهاره وذكر صاحب التحرير هذا الوجه الثاني ووجها آخر أن ثم لا تقتضي
ترتيبا وهذا قول شاذ عند أهل العربية والأصول ثم قال صاحب التحرير والصحيح أنه محمول
على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام فإنه حينئذ يحب الجهاد على الجميع وإذا كان هكذا
فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لما في الجهاد من المصلحة العامة للمسلمين مع أنه
متعين متضيق في هذا الحال بخلاف الحج والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل أي
الاعمال أفضل فقال ايمان بالله ورسوله ففيه تصريح بأن العمل يطلق على الايمان والمراد به
والله أعلم الايمان الذي يدخل به في ملة الاسلام وهو التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين
فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان ولا يدخل في الايمان ههنا الاعمال بسائر الجوارح
كالصوم والصلاة والحج والجهاد وغيرها لكونه جعل قسما للجهاد والحج ولقوله صلى الله عليه وسلم
78

ايمان بالله ورسوله ولا يقال هذا في الاعمال ولا يمنع هذا من تسمية الاعمال المذكورة
ايمانا فقد قدمنا دلائله والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب أفضلها أنفسها
عند أهلها وأكثرها ثمنا فالمراد به والله أعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة أما إذا كان معه
ألف درهم وأمكن أن يشترى بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل وهذا
بخلاف الأضحية فان التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن قال
البغوي من أصحابنا رحمه الله في التهذيب بعد أن ذكر هاتين المسئلتين كما ذكرت قال الشافعي
رضي الله عنه في الأضحية استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب إلى من استكثار العدد مع
استقلال القيمة وفى العتق استكثار العدد مع استقلال القيمة أحب إلى من استكثار
القيمة مع استقلال العدد لان المقصود من الأضحية اللحم ولحم السمين أوفر وأطيب
والمقصود من العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من ذل الرق فتخليص جماعة أفضل
من تخليص واحد والله أعلم وفى هذا الحديث الحث على المحافظة على الصلاة في وقتها
ويمكن أن يؤخذ منه استحبابها في أول الوقت لكونه احتياطا لها ومبادرة إلى تحصيلها
في وقتها وفيه حسن المراجعة في السؤال وفيه صبر المفتى والمعلم على من يفتيه أو يعلمه
واحتمال كثرة مسائله وتقريراته وفيه رفق المتعلم بالمعلم ومراعاة مصالحه والشفقة عليه لقوله فما
تركت أستزيده الا ارعاء عليه وفيه جواز استعمال لو لقوله ولو استزدته لزادني وفيه جواز اخبار
الانسان عما لم يقع انه لو كان كذا لوقع لقوله لو استزدته لزادني والله أعلم
باب بيان كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده
فيه (عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله
ابن مسعود رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله
79

تعالى قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت إن ذلك لعظيم قال قلت ثم أي قال ثم إن تقتل
ولدك مخافة أن يطعم معك قال قلت ثم أي قال ثم أن تزانى حليلة جارك وفى الرواية الأخرى
عثمان بن أبي شيبة أيضا عن جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد
الله فذكره وزاد فأنزل الله تعالى تصديقها لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس
التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما أو أما الاسنادان ففيهما لطيفة عجيبة
غريبة وهي أنهما اسنادان متلاصقان رواتهما جميعهم كوفيون وجرير هو ابن عبد الحميد
ومنصور هو ابن المعتمر وأبو وائل هو شقيق بن سلمة وشرحبيل غير منصرف لكونه اسما
عجميا علما والند المثل روى شمر عن الأخفش قال الند الضد والشبه وفلان ند فلان ونديده
ونديدته أي مثله وقوله صلى الله عليه وسلم (مخافة ان يطعم معك) هو بفتح الياء أي يأكل وهو
معنى قوله تعالى تقتلوا أولادكم خشية إملاق أي فقر وقوله تعالى أثاما قيل معناه
جزاء إثمه وهو قول الخليل وسيبويه وأبى عمرو الشيباني والفراء والزجاج وأبى على الفارسي وقيل
80

معناه عقوبة قاله يونس وأبو عبيدة وقيل معناه جزاء قاله ابن عباس والسدي وقال أكثر المفسرين
أو كثيرون منهم هو واد في جهنم عافانا الله الكريم وأحبابنا منها وقوله صلى الله عليه وسلم
أن تزاني حليلة جارك هي بالحاء المهملة وهي زوجته سميت بذلك لكونها
تحل له وقيل لكونها تحل معه ومعنى تزاني أي تزني بها برضاها وذلك يتضمن الزنا وافسادها على زوجها واستمالة
قلبها إلى الزاني وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما لأن الجار يتوقع من
جاره الذب عنه وعن حريمه ويأمن بوائقه ويطمئن إليه وقد أمر باكرامه والاحسان إليه فإذا
قابل هذا كله بالزنا بامرأته وافسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في
غاية من القبح وقوله سبحانه وتعالى تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق معناه أي
لا تقتلوا النفس التي هي معصومة في الأصل الا محقين في قتلها أما أحكام هذا الحديث ففيه
أن أكبر المعاصي الشرك وهذا ظاهر لا خفاء فيه وأن القتل بغير حق يليه وكذلك قال أصحابنا
أكبر الكبائر بعد الشرك القتل وكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتاب الشهادات من
مختصر المزني وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين والسحر وقذف المحصنات والفرار
يوم الزحف وآكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل واحكام تعرف بها مراتبها ويختلف
أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها وعلى هذا يقال في كل واحدة واحدة منها هي
من أكبر الكبائر وان جاء في موضع أنها أكبر الكبائر كان المراد من أكبر الكبائر كما تقدم
في أفضل الأعمال والله أعلم
باب الكبائر وأكبرها
فيه (أبو بكرة رضي الله عنه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الا أنبئكم بأكبر
81

الكبائر ثلاثا الاشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) قال مسلم رحمه الله
(وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد وهو ابن الحارث حدثنا شعبة حدثنا عبيد الله بن أبي
بكر عن انس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال الشرك بالله
وعقوق الوالدين وقتل النفس وقول الزور) قال مسلم رحمه الله (وحدثني محمد بن الوليد بن
عبد الحميد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال سمعت انس
ابن مالك رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر
فقال الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال الا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول
الزور أو قال شهادة الزور قال شعبة وأكبر ظني أنه شهادة الزور وعن أبي الغيث عن أبي
82

هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول
الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل
الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله
وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)
أما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث وقد تقدم وأما الاسنادان اللذان ذكرهما فهما بصريون كلهم
من أولهما إلى آخرهما الا أن شعبة واسطى بصرى فلا يقدح هذا في كونهما بصريين وهذا من
الطرف المستحسنة وقد تقدم في الباب الذي قبل هذا نظيرهما في الكوفيين وقوله حدثنا
خالد وهو ابن الحرث قد قدمنا بيان فائدة قوله وهو ابن الحرث ولم يقل خالد بن الحرث وهو
انه إنما سمع في الرواية خالد ولخالد مشاركون فأراد تمييزه ولا يجوز له أن يقول حدثنا خالد
83

ابن الحرث لأنه يصير كاذبا على المروى عنه فإنه لم يقل الا خالد فعدل إلى لفظه وهو ابن الحرث
لتحصل الفائدة بالتميز والسلامة من الكذب وقوله عبيد الله بن أبي بكر هو أبو بكر بن أنس
ابن مالك فعبيد الله يروى عن جده وقوله وأكبر ظني هو بالباء الموحدة وأبو الغيث اسمه
سالم وقوله في أول الباب عن سعيد الجريري هو بضم الجيم المنسوب إلى جرير مصغر وهو
جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء بطن من بكر بن وائل وهو سعيد بن اياس أبو مسعود
البصري وأما الموبقات فهي المهلكات يقال وبق الرجل بفتح الباء يبق بكسرها ووبق بضم
الواو وكسر الباء يوبق إذا هلك وأوبق غيره أي أهلكه وأما الزور فقال الثعلبي المفسر وأبو
إسحاق وغيره أصله تحسين الشئ ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه
بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وأما المحصنات الغافلات فبكسر الصاد وفتحها
قراءتان في السبع قرأ الكسائي بالكسر والباقون بالفتح والمراد بالمحصنات هنا العفائف
وبالغافلات الغافلات عن الفواحش وما قذفن به وقد ورد الاحصان في الشرع على خمسة
أقسام العفة والاسلام والنكاح والتزويج والحرية وقد بينت مواطنه وشرائطه وشواهده في
كتاب تهذيب الأسماء واللغات والله أعلم وأما معاني الأحاديث وفقهها فقد قدمنا في الباب
الذي قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر قال العلماء رحمهم الله ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الكبائر أسبع هي فقال هي إلى سبعين
ويروى إلى سبعمائة أقرب وأما قوله صلى الله عليه وسلم الكبائر سبع فالمراد به من الكبائر سبع
فان هذه الصيغة وان كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك وإنما وقع الاقتصار على هذه
السبع وفى الرواية الأخرى ثلاث وفى الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة
وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى وهذا مصرح
بما ذكرته من أن المراد البعض وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه وجاء في
النميمة وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر وجاء في غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس
واستحلال بيت الله الحرام وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة فجاء عن
ابن عباس رضي الله عنهما كل شئ نهى الله عنه فهو كبيرة وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق
الأسفرايني الفقيه الشافعي الامام في علم الأصول والفقه وغيره وحكى القاضي عياض رحمه
84

الله هذا المذهب عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله
تعالى كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي
إلى صغائر وكبائر وهو مروى أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد تظاهر على ذلك دلائل
من الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه
البسيط في المذهب انكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه وقد فهما من مدارك
الشرع وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدا
بالنسبة إلى جلال الله تعالى ولكن بعضها أعظم من بعض وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره
الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم
عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة والى ما لا يكفره ذلك
كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر
ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها
صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير والله أعلم وإذا ثبت
انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقد اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا فروى
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة
أو عذاب ونحو هذا عن الحسن البصري وقال آخرون هي ما أوعد الله عليه بنار أوحد في الدنيا
وقال أبو حامد الغزالي في البسيط والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية
يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتيادا
فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة
مراقبة التقوى ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس
هو بكبيرة وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه الكبيرة كل ذنب كبر
وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة ووصف بكونه عظيما على الاطلاق قال فهذا
حد الكبيرة ثم لها أمارات منها ايجاب الحد ومنها الابعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب
أو السنة ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا ومنها اللعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غير منار
الأرض وقال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في كتابه القواعد إذا أردت
85

معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص
عليها فان نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر
أو ربت عليه فهي من الكبائر فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم
أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف في
القاذورات فهي من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة وكذلك لو أمسك امرأة
محصنة لمن يزنى بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة
أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم
يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم فان نسبته إلى هذه المفاسد
أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على انسان
كذبا يعلم أنه يقتل بسببه أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من
الكبائر قال وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فان وقعا
في مال خطير فهذا ظاهر وان وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن هذه
المفاسد كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وان لم يتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط
ذلك بنصاب السرقة قال والحكم بغير الحق كبيرة فان شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر
فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى قال وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب
قرن به وعيد أو حد أو لعن فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو
الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة ثم قال والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر
بتهاون مرتكبها في دينه اشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها والله أعلم هذا آخر كلام
الشيخ أبى محمد بن عبد السلام رحمه الله قال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر وغيره
الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر
وأنواع بأنها صغائر وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر والحكمة في عدم بيانه
أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر قالوا وهذا شبيه باخفاء ليلة القدر
وساعة يوم الجمعة وساعة إجابة الدعاء من الليل واسم الله الأعظم ونحو ذلك مما أخفى والله أعلم
قال العلماء رحمهم الله والاصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة وروى عن عمر وابن عباس
86

وغيرهما رضي الله عنهم لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار معناه أن الكبيرة تمحى
بالاستغفار والصغيرة تصير كبيرة بالاصرار قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الاصرار
هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه اشعار ارتكاب الكبيرة بذلك قال
وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر
الكبائر وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله المصر من تلبس من أضداد التوبة باسم
العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف
بصيرورته كبيرا عظيما وليس لزمان ذلك وعدده حصر والله أعلم هذا مختصر ما يتعلق
بضبط الكبيرة وأما قوله قال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا فمعناه قال هذا الكلام ثلاث
مرات وأما عقوق الوالدين فهو مأخوذ من العق وهو القطع وذكر الأزهري أنه يقال عق
والده يعقه بضم العين عقا وعقوقا إذا قطعه ولم يصل رحمه وجمع العاق عققة بفتح الحروف
كلها وعقق بضم العين والقاف وقال صاحب المحكم رجل عقق وعقق وعق وعاق بمعنى
واحد وهو الذي شق عصا الطاعة لوالده هذا قول أهل اللغة وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا
فقل من ضبطه وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله لم أقف في عقوق
الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده فإنه لا يجب طاعتهما في كل
ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء وقد حرم على الولد الجهاد بغير اذنهما لما يشق
عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك
كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه هذا كلام الشيخ أبى محمد وقال الشيخ
أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا
ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة قال وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل
ما ليس بمعصية ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات
قال وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم وفى التجارة بغير اذنهما مخالفا
لما ذكرته فان هذا كلام مطلق وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور فليس على
ظاهره المتبادر إلى الافهام منه وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شك وكذا القتل فلا بد من
87

تأويله وفى تأويله ثلاثة أوجه أحدها أنه محمول على الكفر فان الكافر شاهد بالزور وعامل به
والثاني أنه محمول على المستحيل فيصير بذلك كافرا والثالث أن المراد من أكبر الكبائر كما
قدمناه في نظائره وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب فأما حمله على الكفر فضعيف لأن
هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر
فكان معروفا عندهم ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك فحمله عليه يخرجه عن الفائدة ثم
الظاهر الذي يقتضيه عموم الحديث واطلاقه والقواعد أنه لا فرق في كون شهادة الزور بالحقوق
كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير وقد يحتمل على بعد أن يقال فيه الاحتمال الذي قدمته
عن الشيخ أبى محمد بن عبد السلام في أكل تمرة من مال اليتيم والله أعلم وأما عده
صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من الكبائر فدليل صريح لمذهب العلماء كافة في كونه كبيرة
الا ما حكى عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال ليس هو من الكبائر قال والآية الكريمة في
ذلك إنما وردت في أهل بدر خاصة والصواب ما قاله الجماهير أنه باق والله أعلم وأما قوله
فكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت فجلوسه صلى الله عليه وسلم
لاهتمامه بهذا الأمر وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه وأما قولهم ليته سكت فإنما قالوه
وتمنوه شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهة لما يزعجه ويغضبه وأما عده
صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور ومذهب الجماهير أن
السحر حرام من الكبائر فعله وتعلمه وتعليمه وقال بعض أصحابنا أن تعلمه ليس بحرام بل يجوز
ليعرف ويرد على صاحبه ويميز عن الكرامة للأولياء وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث
على فعل السحر والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم من الكبائر شتم الرجل والديه
إلى آخره ففيه دليل على أن من تسبب في شئ جاز أن ينسب إليه ذلك الشئ وإنما جعل هذا
عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين كما تقدم في حد العقوق والله أعلم
وفيه قطع الذرائع فيؤخذ منه النهى عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر والسلاح ممن يقطع الطريق
ونحو ذلك والله أعلم
88

باب تحريم الكبر وبيانه فيه أبان بن تغلب عن فضيل الفقيمي عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من
كبر قال رجل ان الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر
بطر الحق وغمط الناس قال مسلم رحمه الله (حدثنا منجاب وسويد بن سعيد عن علي
ابن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من ايمان ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة
خردل من كبرياء) قد تقدم أن أبانا يجوز صرفه وترك صرفه وأن الصرف أفصح وتغلب
بالغين المعجمة وكسر اللام وأما الفقيمي فبضم الفاء وفتح القاف ومنجاب بكسر الميم واسكان
النون وبالجيم وآخره باء موحدة ومسهر بضم الميم وكسر الهاء وفى هذا الاسناد الثاني لطيفتان
89

من لطائف الاسناد إحداهما أن فيه ثلاثة تابعيين يروى بعضهم عن بعض وهم الأعمش وإبراهيم
وعلقمة والثانية أنه اسناد كوفي كله فمجاب وعبد الله بن مسعود ومن بينهما كوفيون الأسويد
ابن سعيد رفيق منجاب فيغني عنه منجاب وقوله صلى الله عليه وسلم وغمط الناس هو بفتح
الغين المعجمة واسكان الميم وبالطاء المهملة هكذا هو في نسخ صحيح مسلم رحمه الله قال القاضي
عياض رحمه الله لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا وفى البخاري الا بطاء قال وبالطاء
ذكره أبو داود في مصنفه وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره غمص بالصاد وهما بمعنى واحد
ومعناه احتقارهم يقال في الفعل منه غمطه بفتح الميم يغمطه بكسرها وغمطه بكسر الميم يغمطه
بفتحها أما بطر الحق فهو دفعه وانكاره ترفعا وتجبرا وقوله صلى الله عليه وسلم من كبرياء
هي غير مصروفة وقوله صلى الله عليه وسلم ان الله جميل يحب الجمال اختلفوا في معناه
فقيل إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال
والكمال وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع وقال الإمام أبو القاسم
القشيري رحمه الله معناه جليل وحكى الإمام أبو سليمان الخطابي أنه بمعنى ذي النور
والبهجة أي مالكهما وقيل معناه جميل الأفعال بكم باللطف والنظر إليكم يكلفكم
اليسير من العمل ويعين عليه ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه واعلم أن هذا الاسم ورد في
هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الآحاد وورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى وفى اسناده
مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى ومن العلماء من منعه قال الإمام أبو المعالي امام الحرمين
رحمه الله تعالى ما ورد الشرع باطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه وما منع الشرع من
اطلاقه منعناه وما لم يرد فيه اذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم فان الأحكام الشرعية
تتلقى من موارد الشرع ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع قال ثم لا يشترط
في جواز الاطلاق ورود ما يقطع به الشرع ولكن ما يقتضى للعمل وان لم يوجب العلم فإنه
90

كاف الا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل ولا يجوز التمسك بهن في تسميه الله تعالى
ووصفه هذا كلام امام الحرمين ومحله من الاتقان والتحقق بالعلم مطلقا وبهذا الفن خصوصا
معروف بالغاية العليا وأما قوله لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لأنه ذلك لا يكون الا بالشرع
فهذا مبنى على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع فان المذهب الصحيح عند
المحققين من أصحابنا أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا إباحة ولا غير ذلك لأن الحكم
عند أهل السنة لا يكون الا بالشرع وقال بعض أصحابنا أنها على الإباحة وقال بعضهم على التحريم
وقال بعضهم على الوقف لا يعلم ما يقال فيها والمختار الأول والله أعلم وقد اختلف أهل السنة
في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه
فأجازه طائفة ومنعه آخرون الا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب الله أو سنة متواترة
أو اجماع على اطلاقه فان ورد خبر واحد فقد اختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به
والثناء من باب العمل وذلك جائز بخبر الواحد ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز
أو يستحيل على الله تعالى وطريق هذا القطع قال القاضي والصواب جوازه لاشتماله على العمل
ولقوله الله تعالى الأسماء الحسنى فادعوه بها والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر فقد اختلف في تأويله فذكر الخطابي فيه
وجهين أحدهما أن المراد التكبر عن الايمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه
والثاني أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة كما قال الله تعالى ما في صدورهم
من غل وهذان التأويلان فيهما بعد فان هذا الحديث ورد في سياق النهى عن الكبر المعروف
وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين
المخرجين له عن المطلوب بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخل
الجنة دون مجازاة ان جازاه وقيل هذا جزاؤه لو جازاه وقد يتكرم بأنه لا يجازيه بل لا بد أن
يدخل كل الموحدين الجنة اما أولا واما ثانيا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين
عليها وقيل لا يدخلها مع المتقين أول وهلة وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار
أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود
وقوله صلى الله عليه وسلم مثقال حبة هو على ما تقدم وتقرر من زيادة الايمان ونقصه
91

وأما قوله قال رجل ان الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا فهذا الرجل هو مالك بن
مرارة الرهاوي قاله القاضي عياض وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله وقد جمع
أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالا من جهات فقال هو أبو ريحانة
واسمه شمعون ذكره ابن الاعرابي وقال علي بن المديني في الطبقات اسمه ربيعة بن عامر وقيل
سواد بالتخفيف ابن عمر وذكره ابن السكن وقيل معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في
كتاب الخمول والتواضع وقيل مالك بن مرارة الرهاوي ذكره أبو عبيد في غريب الحديث
وقيل عبد الله بن عمرو بن العاصي ذكره معمر في جامعه وقيل خريم بن فاتك هذا ما ذكره
ابن بشكوال وقولهم ابن مرارة الرهاوي هو مرارة بضم الميم وبراء مكررة وآخره هاء والرهاوي
هنا نسبة إلى قبيلة ذكره الحافظ عبد الغنى بن سعيد المصري بفتح الراء ولم يذكره ابن
ما كولا وذكر الجوهري في صحاحه أن الرهاوي نسبة إلى رها بضم الراء حي من مذحج
وأما شمعون فبالعين المهملة وبالمعجمة والشين معجمة فيهما والله أعلم
باب الدليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
(وان مات مشركا دخل النار)
قال مسلم (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي ووكيع عن الأعمش عن شقيق عن
عبد الله رضي الله عنه قال وكيع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن نمير سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مات يشرك بالله دخل النار قلت أنا ومن
92

مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وعن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال أتى النبي
صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله ما الموجبتان فقال من مات لا يشرك بالله شيئا
دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار) قال مسلم رحمه الله (حدثنا أبو أيوب
الغيلاني سليمان بن عبيد الله وحجاج بن الشاعر قالا حدثنا عبد الملك حدثنا قرة عن أبي
الزبير حدثنا جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من لقى الله
تعالى لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار قال أبو أيوب قال أبو الزبير
عن جابر وعن المعرور بن سويد قال سمعت أبا ذر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة
93

قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق وعن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه
أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم
عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال ما من عبد
قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك الا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال
وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق ثلاثا ثم قال في
الرابعة على رغم أنف أبي ذر قال فخرج أبو ذر وهو يقول وان رغم أنف أبي ذر)
أما الاسناد الأول فكله كوفيون محمد بن نمير وعبد الله بن مسعود ومن بينهما وقوله قال
وكيع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن نمير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا وما أشبه من الدقائق التي ينبه عليها مسلم رضي الله عنه دلائل قاطعة على شدة تحريه
واتقانه وضبطه وعرفانه وغزارة علمه وحذقه وبراعته في الغوص على المعاني ودقائق علم
الاسناد وغير ذلك فرضى الله عنه والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال رواية عن ابن مسعود
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا متصل لا شك فيه وقال وكيع رواية عنه قال
94

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما اختلف العلماء فيه هل يحمل على الاتصال أم
على الانقطاع فالجمهور أنه على الاتصال كسمعت وذهبت طائفة إلى أنه لا يحمل على الاتصال
الا بدليل عليه فإذا قيل بهذا المذهب كان مرسل صحابي وفى الاحتجاج به خلاف فالجماهير
قالوا يحتج به وان لم يحتج بمرسل غيرهم وذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني الشافعي رحمه
الله إلى أنه لا يحتج به فعلى هذا يكون الحديث قد روى متصلا ومرسلا وفى الاحتجاج
بما روى مرسلا ومتصلا خلاف معروف قيل الحكم للمرسل وقيل للأحفظ رواية وقيل
للأكثر والصحيح أنه تقدم رواية الوصل فاحتاط مسلم رحمه الله وذكر اللفظين لهذه الفائدة
ولئلا يكون روايا بالمعنى فقد أجمعوا على أن الرواية باللفظ أولى والله أعلم وأما أبو سفيان
الراوي عن جابر فاسمه طلحة بن نافع وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس تقدم بيانه
وأما قوله قال أبو أيوب قال أبو الزبير عن جابر فمراده أن أبا أيوب وحجاجا اختلفا في عبارة
أبى الزبير عن جابر فقال أبو أيوب عن جابر وقال حجاج حدثنا جابر فأما حدثنا فصريحة
في الاتصال وأما عن فمختلف فيها فالجمهور على أنها للاتصال كحدثنا ومن العلماء من قال هي
للانقطاع ويجئ فيها ما قدمناه الا أن هذا على هذا المذهب يكون مرسل تابعي وأما قرة فهو
ابن خالد وأما المعرور فهو بفتح الميم واسكان العين المهملة وبراء مهملة مكررة ومن طرف
أحواله أن الأعمش قال رأيت المعرور وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية وأما
أبو ذر فتقدم أن اسمه جندب بن جنادة على المشهور وقيل غيره وفى الاسناد أحمد بن خراش
بالخاء المعجمة تقدم وأما ابن بريدة فاسمه عبد الله ولبريدة ابنان سليمان وعبد الله وهما ثقتان
ولدا في بطن وتقدم ذكرهما أول كتاب الايمان وابن بريدة هذا ويحيى بن يعمر وأبو
الأسود ثلاثة تابعيون يروى بعضهم عن بعض ويعمر بفتح الميم وضمها تقدم أيضا وأبو الأسود
اسمه ظالم بن عمرو هذا هو المشهور وقيل اسمه عمرو بن ظالم وقيل عثمان بن عمرو وقيل عمرو
ابن سفيان وقيل عويمر بن ظويلم وهو أول من تكلم في النحو وولى قضاء البصرة لعلي بن أبي
طالب كرم الله وجهه وأما الديلي فكذا وقع هنا بكسر الدال واسكان الياء وقد اختلف فيه
فذكر القاضي عياض أن أكثر أهل السنة يقولون فيه وفى كل من ينسب إلى هذا البطن الذي
في كنانة ديلي بكسر الدال واسكان الياء كما ذكرنا وأن أهل العربية يقولون فيه الدؤلي بضم الدال
95

وبعدها همزة مفتوحة وبعضهم يكسرها وأنكرها النحاة هذا كلام القاضي وقد ضبط الشيخ
أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذا وما يتعلق به ضبطا حسنا وهو معنى ما قاله الأمام أبو علي
الغساني قال الشيخ هو الديلي ومنهم من يقول الدؤلي على مثال الجهني وهو نسبه إلى الدئل
بدال مضمومة بعدها همزة مكسورة حي من كنانة وفتحوا الهمزة في النسب كما قالوا في النسب
إلى نمر نمري بفتح الميم قال وهذا قد حكاه السيرافي عن أهل البصرة قال ووجدت عن أبي على
القالي وهو بالقاف في كتاب البارع أنه حكى ذلك عن الأصمعي وسيبويه وابن السكيت
والأخفش وأبى حاتم وغيرهم وأنه حكى عن الأصمعي عن عيسى بن عمر أنه كان يقول فيه
أبو الأسود الدئلي بضم الدال وكسر الهمزة على الأصل وحكاه أيضا عن يونس وغيره عن العرب
يدعونه في النسب على الأصل وهو شاذ في القياس وذكر السيرافي عن أهل الكوفة أنهم يقولون
أبو الأسود الديلي بكسر الدال وياء ساكنة وهو محكى عن الكسائي وأبى عبيد القاسم بن سلام
وعن صاحب كتاب العين ومحمد بن حبيب بفتح الباء غير مصروف لأنها أمه كانوا يقولون في
هذا الحي من كنانة الديل باسكان الياء وكسر الدال ويجعلونه مثل الديل الذي هو في عبد
القيس وأما الدول بضم الدال واسكان الواو فحي من بنى حنيفة والله أعلم هذا آخر كلام الشيخ
أبى عمرو رحمه الله وأما قوله ما الموجبتان فمعناه الخصلة الموجبة للجنة والخصلة الموجبة للنار
وأما قوله صلى الله عليه وسلم على رغم أنف أبي ذر فهو بفتح الراء وضمها وكسرها وقوله وان
رغم أنف أبي ذر هو بفتح الغين وكسرها ذكر هذا كله الجوهري وغيره وهو مأخوذ من الرغام
بفتح الراء وهو التراب فمعنى أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وأذله فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم
على رغم أنف أبي ذر على ذل منه لوقوعه مخالفا لما يريد وقيل معناه على كراهة منه وإنما
قال له صلى الله عليه وسلم ذلك لاستبعاده العفو عن الزاني السارق المنتهك للحرمة واستعظامه
ذلك وتصور أبي ذر بصورة الكاره الممانع وان لم يكن ممانعا وكان ذلك من أبي ذر لشدة
نفرته من معصية الله تعالى وأهلها والله أعلم وأما قوله في رواية ابن مسعود رضي الله عنه
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات يشرك بالله شيئا دخل النار وقلت أنا ومن مات
لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة هكذا وقع في أصولنا من صحيح مسلم وكذا هو في صحيح
البخاري وكذا ذكره القاضي عياض رحمه الله في روايته لصحيح مسلم ووجد في بعض
96

الأصول المعتمدة من صحيح مسلم عكس هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات
لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت أنا ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار وهكذا ذكره
الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن صحيح مسلم رحمه الله وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه
المخرج على صحيحه مسلم وقد صح اللفظان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
جابر المذكور فأما اقتصار ابن مسعود رضي الله عنه على رفع احدى اللفظتين وضمه الأخرى
إليها من كلام نفسه فقال القاضي عياض وغيره سببه أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم
الا إحداهما وضم إليها الأخرى لما علمه من كتاب الله تعالى ووحيه أو أخذه من مقتضى
ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي قاله هؤلاء فيه نقص من حيث إن اللفظتين قد
صح رفعهما من حديث ابن مسعود كما ذكرناه فالجيد أن يقال سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي
صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها وفى وقت آخر حفظ الأخرى ولم يحفظ
الأولى مرفوعة فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود
وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظتين والله أعلم وأما حكمه صلى الله عليه وسلم على من
مات يشرك بدخول النار ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة فقد فقد أجمع عليه المسلمون فأما
دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي
والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا
وغيره ولا بين من خالف ملة الاسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر
بجحده وغير ذلك وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن ان لم يكن
صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو
تحت المشيئة فان عفى عنه دخل أولا والا عذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم وان زنى وان سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب
الكبائر لا يقطع لهم بالنار وأنهم ان دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود في الجنة وقد تقدم
هذا كله مبسوطا والله أعلم
97

باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلا الله
فيه حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال (يا رسول الله أرأيت ان لقيت رجلا
من الكفار فقاتلني فضرب احدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ منى بشجرة فقال أسلمت لله
أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله إلى أن قال فان قتلته فإنه
بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) وفيه أسامة بن زيد رضي الله عنهما
98

(قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال
لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أقال لا إله إلا الله وقتلته قال قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال أفلا
شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ قال فقال
سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعنى أسامة قال قال رجل ألم يقل الله تعالى
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قال سعد قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وأنت
99

وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة) وفى الطريق الآخر (فطعنته برمحي حتى قتلته فلما
قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أسامة قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قلت
يا رسول الله إنما كان متعوذا فقال أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فما زال يكررها على حتى
100

تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) وفى الطريق الأخرى (أن النبي صلى الله عليه وسلم
دعا أسامة فسأله لم قتلته إلى أن قال فكيف تصنع بلا إله الا الله إذا جاءت يوم القيامة قال
يا رسول الله استغفر لي قال فكيف بلا إله الا الله إذا جاءت يوم القيامة فجعل لا يزيد
على أن يقول فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) أما ألفاظ أسماء الباب
ففيه المقداد بن الأسود وفى الرواية الأخرى حدثني عطاء أن عبيد الله بن عدي بن الخيار
أخبره أن المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وكان حليفا لبنى زهرة وكان ممن شهد بدرا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يا رسول الله فالمقداد هذا هو ابن عمرو بن ثعلبة بن
مالك بن ربيعة هذا نسبه الحقيقي وكان الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن
101

زهرة قد تبناه في الجاهلية فنسب إليه وصار به أشهر وأعرف فقوله ثانيا ان المقداد بن عمرو
ابن الأسود قد يغلط في ضبطه وقراءته والصواب فيه أن يقرأ عمرو مجرورا منونا وابن
الأسود بنصب النون ويكتب بالألف لأنه صفة للمقداد وهو منصوب فينصب وليس ابن
ههنا واقعا بين علمين متناسلين فلهذا قلنا تتعين كتابته بالألف ولو قرئ ابن الأسود بجر ابن
لفسد المعنى وصار عمرو بن الأسود وذلك غلط صريح ولهذا الاسم نظائر منها عبد الله بن
عمرو ابن أم مكتوم كذا رواه مسلم رحمه الله آخر الكتاب في حديث الجساسة و عبد الله
ابن أبي ابن سلول وعبد الله بن مالك ابن بحينة ومحمد بن علي ابن الحنفية وإسماعيل بن إبراهيم
ابن علية وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه ومحمد بن يزيد ابن ماجة فكل هؤلاء ليس الأب فيهم
ابنا لمن بعده فيتعين أن يكتب ابن بالألف وأن يعرب باعراب الابن المذكور أولا
فأم مكتوم زوجة عمرو وسلول زوجة أبى وقيل غير ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله
تعالى وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله وكذلك الحنفية زوجة علي رضي الله عنه وعليه زوجة
إبراهيم وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق وكذلك ماجة هو يزيد فهما لقبان والله أعلم
ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه فقد يكون الانسان
عارفا بأحد وصفيه دون الآخر فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد وقدم هنا نسبته إلى عمرو
على نسبته إلى الأسود لكون عمرو هو الأصل وهذا من المستحسنات النفيسة والله أعلم وكان
المقداد رضي الله عنه من أول من أسلم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أول من أظهر
الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد وهاجر إلى الحبشة يكنى أبا الأسود وقيل أبا عمرو وقيل أما معبد
والله أعلم وأما قوله وكان حليفا لبنى زهرة فذلك لمحالفته الأسود بن عبد يغوث الزهري فقد
ذكر ابن عبد البر وغيره أن الأسود حالفه أيضا مع تبنيه إياه وأما قولهم في نسبة الكندي
ففيه اشكال من حيث إن أهل النسب قالوا إنه بهراني صلبية من بهراء بن الحاف بالحاء المهملة
وبالفاء ابن قضاعة لا خلاف بينهم في هذا وممن نقل الاجماع عليه القاضي عياض وغيره رحمهم
الله وجوابه أن أحمد بن صالح الامام الحافظ المصري كاتب الليث بن سعد رحمه الله تعالى قال إن
والد المقداد حالف كندة فنسب إليها وروينا عن ابن شماسة عن سفيان عن صهابة بضم
الصاد المهملة وتخفيف الهاء وبالباء الموحدة المهري قال كنت صاحب المقداد ابن الأسود في
102

الجاهلية وكان رجلا من بهراء فأصاب فيهم دما فهرب إلى كندة فحالفهم ثم أصاب فيهم
دما فهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث فعلى هذا تصح نسبته إلى بهراء لكونه الأصل
وكذلك إلى قضاعة وتصح نسبته إلى كندة لحلفه أو لحلف أبيه وتصح إلى زهرة لحلفه مع الأسود
والله أعلم وأما قولهم أن المقداد بن عمرو ابن الأسود إلى قوله أنه قال يا رسول الله فأعاد أنه
لطول الكلام ولو لم يذكرها لكان صحيحا بل هو الأصل ولكن لما طال الكلام جاز أو حسن
ذكرها ونظيره في كلام العرب كثير وقد جاء مثله في القرآن العزيز والأحاديث الشريفة ومما
جاء في القرآن قوله جل وعز حكاية عن الكفار أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم
مخرجون فأعاد أنكم للطول ومثله قوله تعالى جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم
وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فأعاد فلما جاءهم وقد
قدمنا نظير هذه المسألة والله أعلم وأما عدى بن الخيار فبكسر الخاء المعجمة وأما عطاء بن يزيد
الليثي ثم الجندعي بطن من ليث فلهذا قال الليثي ثم الجندعي فبضم الجيم واسكان النون وبعدها دال ثم عين مهملتان وتفتح الدال
وتضم لغتان وجندع بطن من ليث فلهذا قال الليثي ثم الجندعي فبدأ بالعام وهو ليث ثم
الخاص وهو جندع ولو عكس هذا فقيل الجندعي الليثي لكان خطأ من حيث أنه لا فائدة في
قوله الليثي بعد الجندعي ولأنه أيضا يقتضى أن ليثا بطن من جندع وهو خطأ والله أعلم
وفى هذا الاسناد لطيفة تقدم نظائرها وهو أن فيه ثلاثة تابعين يروى بعضهم عن بعض
ابن شهاب وعطاء وعبيد الله بن عدي بن الخيار وأما قوله عن أبي ظبيان فهو بفتح الظاء
المعجمة وكسرها فأهل اللغة يفتحونها ويلحنون من يكسرها وأهل الحديث يكسرونها
وكذلك قيده ابن ماكولا وغيره واسم أبى ظبيان حصين بن جندب بن عمرو كوفي توفى
سنة تسعين وأما الحرقات فبضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف وأما الدورقي فتقدم مرات
وكذلك أحمد بن خراش بكسر الخاء المعجمة وأما خالد الاثبج فبفتح الهمزة وبعدها ثاء
مثلثة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم قال أهل اللغة الاثبج هو عريض الثبج بفتح
الثاء والباء وقيل ناتئ الثبج والثبج ما بين الكاهل والظهر وأما صفوان بن محرز فباسكان الحاء
المهملة وبراء ثم زاي وأما جندب فبضم الدال وفتحها وأما عسعس بن سلامة فبعينين وسينين
مهملات والعينان مفتوحتان والسين بينهما ساكنة قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب
103

هو بصرى روى عن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن حديثه مرسل وأنه لم يسمع النبي
صلى الله عليه وسلم وكذا قال البخاري في تاريخه حديثه مرسل وكذا ذكره ابن أبي حاتم
وغيره في التابعين قال البخاري وغيره كنية عسعس أبو صفرة وهو تميمي بصرى وهو من
الأسماء المفردة لا يعرف له نظير والله أعلم وأما لغات الباب وما يشبهها فقوله في أول الباب
يا رسول الله أرأيت أن لقيت رجلا من الكفار هكذا هو في أكثر الأصول المعتبرة وفى
بعضها أرأيت لقيت بحذف أن والأول هو الصواب وقوله لاذ منى بشجرة أي اعتصم منى وهو
معنى قوله قالها متعوذا أي معتصما وهو بكسر الواو قوله أما الأوزاعي وابن جريج في
حديثهما هكذا هو في أكثر الأصول في حديثهما بفاء واحدة وفى كثير من الأصول ففي
حديثهما بفاءين وهذا هو الأصل والجيد والأول أيضا جائز فان الفاء في جواب أما يلزم
اثباتها الا إذا كان الجواب بالقول فإنه يجوز حذفها إذا حذف القول وهذا من ذاك فتقدير
الكلام أما الأوزاعي وابن جريج فقالا في حديثهما كذا ومثل هذا في القرآن العزيز
وكلام العرب كثير فمنه في القرآن قوله عز وجل الذين اسودت وجوههم أكفرتم أي
فيقال لهم أكفرتم وقوله عز وجل الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم والله أعلم
وقوله فلما أهويت لأقتله أي ملت يقال هويت وأهويت وقوله صلى الله عليه وسلم أفلا
شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا الفاعل في قوله أقالها هو القلب ومعناه أنك إنما كلفت
بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه
امتناعه من العمل بما ظهر باللسان وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها
وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب يعنى وأنت لست بقادر على هذا
فاقتصر على اللسان فحسب يعنى ولا تطلب غيره وقوله حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ معناه
لم يكن تقدم اسلامي بل ابتدأت الآن الاسلام ليمحو عنى ما تقدم وقال هذا الكلام من عظم
ما وقع فيه وقوله فقال سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعنى أسامة أما سعد
فهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه وأما ذو البطين فهو بضم الباء تصغير بطن قال القاضي عياض
رحمه الله قيل لأسامة ذو البطين لأنه كان له بطن عظيم وقوله حسر البرنس عن رأسه فقال
أنى أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا فقوله
104

حسر أي كشف والبرنس بضم الباء والنون قال أهل اللغة هو كل ثوب رأسه ملتصق به دراعة
كانت أو جبة أو غيرهما وأما قوله أتيتكم ولا أريد أن أخبركم فكذا وقع في جميع الأصول وفيه
اشكال من حيث إنه قال في أول الحديث بعث إلى عسعس فقال أجمع لي نفرا من اخوانك
حتى أحدثهم ثم يقول بعده أتيتكم ولا أريد أن أخبركم فيحتمل هذا الكلام وجهين أحدهما
أن تكون لا زائدة كما في قول الله تعالى يعلم أهل الكتاب وقوله تعالى ما منعك أن لا تسجد
والثاني أن يكون على ظاهره أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم بل أعظكم
وأحدثكم بكلام من عند نفسي لكني الآن أزيدكم على ما كنت نويته فأخبركم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وذكر الحديث والله أعلم وقوله (وكنا نحدث أنه أسامة) هو
بضم النون من نحدث وفتح الدال وقوله (فلما رجع عليه السيف) كذا في بعض الأصول
المعتمدة رجع بالجيم وفى بعضها رفع بالفاء وكلاهما صحيح والسيف منصوب على الروايتين
فرفع لتعديه ورجع بمعناه فان رجع يستعمل لازما ومتعديا والمراد هنا المتعدى ومنه قول
الله عز وجل رجعك الله إلى طائفة وقوله تعالى ترجعوهن إلى الكفار والله أعلم
واعلم أن في اسناد بعض روايات هذا الحديث ما أنكره الدارقطني وغيره وهو قول مسلم
حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أنبأ عبد الرزاق أنبأ معمر ح وحدثنا إسحاق
ابن موسى حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق
أخبرنا ابن جريج جميعا عن الزهري بهذا الاسناد فهكذا وقع هذا الاسناد في رواية الجلودي قال
القاضي عياض ولم يقع هذا الاسناد عند ابن ماهان يعنى رفيق الجلودي قال القاضي
قال أبو مسعود الدمشقي هذا ليس بمعروف عن الوليد بهذا الاسناد عن عطاء بن يزيد عن عبيد
الله قال وفيه خلاف على الوليد وعلى الأوزاعي وقد بين الدارقطني في كتاب العلل
الخلاف فيه وذكر ان الأوزاعي يرويه عن إبراهيم بن مرة واختلف عنه فرواه
أبو إسحاق الفزاري ومحمد بن شعيب ومحمد بن حميد والوليد بن مزيد عن الأوزاعي عن إبراهيم
ابن مرة عن الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكروا فيه عطاء بن يزيد
واختلف عن الوليد بن مسلم فرواه الوليد القرشي عن الوليد عن الأوزاعي والليث بن سعد عن
الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكر فيه عطاء واسقط إبراهيم بن مرة وخالفه
105

عيسى بن مساور فرواه عن الوليد عن الأوزاعي عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن الخيار
عن المقداد لم يذكر فيه إبراهيم بن مرة وجعل مكان عطاء بن يزيد حميد بن عبد الرحمن ورواه
الفريابي عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري مرسلا عن المقداد قال أبو علي الجياني
الصحيح في اسناد هذا الحديث ما ذكره مسلم أولا من رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج
وتابعهم صالح بن كيسان هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله قلت وحاصل هذا الخلاف
والاضطراب إنما هو في رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي وأما رواية الليث ومعمر ويونس
وابن جريج فلا شك في صحتها وهذه الروايات هي المستقلة بالعمل وعليها الاعتماد واما رواية
الأوزاعي فذكرها متابعة وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف لكونها
الاعتماد عليها وإنما هي لمجرد الاستئناس فالحاصل ان هذا الاضطراب الذي في رواية الوليد عن
الأوزاعي لا يقدح في صحة أصل هذا الحديث فلا خلاف في صحته وقد قدمنا أن أكثر استدراكات
الدارقطني من هذا النحو ولا يؤثر ذلك في صحة المتون وقدمنا أيضا في الفصول اعتذار مسلم رحمه
الله عن نحو هذا بأنه ليس الاعتماد عليه والله أعلم وأما معاني الأحاديث وفقهها فقوله
صلى الله عليه وسلم في الذي قال لا إله الا الله لا تقتله فان قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وانك بمنزلته قبل
أن يقول كلمته التي قال اختلف في معناه فأحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الإمام الشافعي وابن
القصار المالكي وغيرهما أن معناه فإنه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله لا إله الا الله كما كنت أنت
قبل أن تقتله وانك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله لا إله الا الله
قال ابن القصار يعنى لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك قال القاضي وقيل معناه انك
مثله في مخالفة الحق وارتكاب الاثم وان اختلف أنواع المخالفة والاثم فيسمى إثمه كفرا وإثمك
معصية وفسقا واما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصا ولا دية ولا كفارة
فقد يستدل به لاسقاط الجميع ولكن الكفارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة فإنه ظنه كافرا
وظن أن اظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلما وفى وجوب الدية قولان للشافعي وقال
بكل واحد منهما بعض من العلماء ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور بل هي
على التراخي وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول وأما
الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن أسامة كان في ذلك الوقت معسرا بها فأخرت إلى يساره
106

وأما ما فعله جندب بن عبد الله رضي الله عنه من جمع النفر ووعظهم ففيه أنه ينبغي للعالم والرجل
العظيم المطاع وذي الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل وقوله
صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الاحكام
يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر وأما قول أسامة في الرواية الأولى فطعنته فوقع في نفسي
من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم وفى الرواية الأخرى فلما قدمنا بلغ ذلك النبي
صلى الله عليه وسلم فقال لي يا أسامة أقتلته وفي الرواية الأخرى فجاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبره خبر الرجل فدعاه يعنى أسامة فسأله فيحتمل أن يجمع بينها بأن أسامة وقع في نفسه من
ذلك شئ بعد قتله ونوى أن يسأل عنه فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم
أيضا بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداء
قبل تقدم علم النبي صلى الله عليه وسلم به والله أعلم
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا فيه قوله صلى الله عليه وسلم (من حمل علينا السلاح فليس منا)
رواه ابن عمر وسلمة وأبو موسى
وفى رواية سلمة (من سل علينا السيف) وفى اسناد أبى موسى لطيفة وهي ان اسناده كلهم
107

كوفيون وهم أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد وأبو كريب قالوا حدثنا أبو أسامة عن بريد
عن أبي بردة عن أبي موسى فأما براد فبفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وآخره دال وأبو كريب
محمد بن العلاء وأبو أسامة حماد بن أسامة وبريد بضم الموحدة وأبو بردة اسمه عامر وقيل الحرث
وأبو موسى عبد الله بن قيس وأما معنى الحديث فتقدم أول الكتاب وتقدم عليه قاعدة
مذهب أهل السنة والفقهاء وهي أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم
يستحله فهو عاص ولا يكفر بذلك فان استحله كفر فاما تأويل الحديث فقيل هو محمول على
المستحيل بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة وقيل معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا وكان
سفيان بن عيينة رحمه الله يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول بئس هذا القول يعنى بل
يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر والله أعلم
باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا
فيه يعقوب بن عبد الرحمن القاري هو بتشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة وأبو
الأحوص محمد بن حيان بالياء المثناة وقوله (حدثنا ابن أبي حازم) هو عبد العزيز بن أبي حازم واسم
108

أبى حازم هذا سلمة بن دينار وقوله (صبرة من طعام) هي بضم الصاد واسكان الباء قال الأزهري
الصبرة الكومة المجموعة من الطعام سميت صبرة لافراغ بعضها على بعض ومنه قيل للسحاب فوق
السحاب صبير وقوله في الحديث (أصابته السماء) أي المطر وقوله صلى الله عليه وسلم (من غش
فليس منى) كذا في الأصول منى وهو صحيح وقد تقدم بيانه في الباب قبله والله أعلم
باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية
قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) إلى آخره كلهم كوفيون وقوله (علي بن خشرم) هو بفتح الخاء
109

واسكان الشين المعجمتين وفتح الراء وقوله (القنطري) هو بفتح القاف والطاء منسوب إلى
قنطرة بردان بفتح الباء والراء جسر ببغداد وقوله (القاسم بن مخيمرة) هو بضم الميم وفتح الخاء
المعجمة وكسر الميم الثانية وقوله (وجع أبو موسى) هو بفتح الواو وكسر الجيم وقوله (في حجر
امرأته) هو بفتح الحاء وكسرها لغتان قوله (فلما أفاق قال أنا برئ مما برئ منه رسول الله
صلى الله عليه وسلم) كذا ضبطناه وكذا هو في الأصول مما وهو صحيح أي من الشئ الذي
برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله (الصالقة والحالقة والشاقة) وفى الرواية الأخرى
أنا برئ ممن حلق وسلق وخرق فالصالقة وقعت في الأصول بالصاد وسلق بالسين وهما
صحيحان وهما لغتان السلق والصلق وسلق وهي صالقة وسالقة وهي التي ترفع صوتها
عند المصيبة والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة والشاقة التي تشق ثوبها عند المصيبة
هذا هو المشهور الظاهر المعروف وحكى القاضي عياض عن ابن الاعرابي أنه قال الصلق
ضرب الوجه وأما دعوى الجاهلية فقال القاضي عياض هي النياحة وندبه الميت والدعاء بالويل وشبهه
والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الاسلام وقوله في الاسناد الآخر (أبو عميس عن أبي صخرة)
110

هو عميس بضم العين المهملة وفتح الميم واسكان الياء وبالسين المهملة واسمه عتبة
ابن عبد الله بن عتيبة بن عبد الله بن مسعود وذكره الحاكم في أفراد الكنى يعنى أنه لا يشاركه
في كنيته أحد وأما أبو صخرة فبالهاء في آخره كذا وقع هنا وهو المشهور في كنيته ويقال فيها
أيضا أبو صخر بحذف الهاء واسمه جامع بن شداد وقوله (تصيح برنة) هو بفتح الراء وتشديد
النون قال صاحب المطالع الرنة صوت مع البكاء فيه ترجيع كالقلقلة واللقلقة يقال أرنت فهي
مرنة ولا يقال رنت وقال ثابت في الحديث لعنت الرانة ولعله من نقلة الحديث هذا كلام صاحب
المطالع قال أهل اللغة الرنة والرنين والارنان بمعنى واحد ويقال رنت وأرنت لغتان حكاهما
الجوهري وفيه رد لما قاله ثابت وغيره قال القاضي عياض رحمه الله قوله أنا برئ ممن حلق
أي من فعلهن أو ما يستوجبن من العقوبة أو من عهدة ما لزمني من بيانه وأصل البراءة الانفصال
هذا كلام القاضي ويجوز أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الأمور ولا يقدر فيه
حذف وأما قوله (حدثني الحسن بن علي الحلواني حدثنا عبد الصمد أنبأنا شعبة) فذكره مرفوعا
111

فقال القاضي عياض يروونه عن شعبة موقوفا ولم يرفعه عنه غير عبد الصمد قلت ولا
يضر هذا على المذهب الصحيح المختار وهو إذا روى الحديث بعض الرواة موقوفا وبعضهم
مرفوعا أو بعضهم متصلا وبعضهم مرسلا فان الحكم للرفع والوصل وقيل للوقف والارسال
وقيل يعتبر الأحفظ وقيل الأكثر والصحيح الأول ومع هذا فمسلم رحمه الله لم يذكر هذا
الاسناد معتمدا عليه إنما ذكره متابعة وقد تكلمنا قريبا على نحو هذا والله أعلم
باب بيان غلظ تحريم النميمة
في رواية لا يدخل الجنة نمام وفى أخرى قتات وهو مثل الأول فالقتات هو النمام وهو بفتح
القاف وتشديد التاء المثناة من فوق قول الجوهري وغيره يقال نم الحديث ينمه وينمه بكسر
النون وضمها نما والرجل نمام ونم وقته يقته بضم القاف قتا قال العلماء النميمة نقل كلام الناس
بعضهم إلى بعض على جهة الافساد بينهم قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في الاحياء اعلم
أن النميمة إنما تطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كما تقول فلان يتكلم فيك
بكذا قال وليست النميمة مخصوصة بهذا بل حد النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول
112

عنه أو المنقول إليه أو ثالث وسواء كان الكشف بالنكاية أو بالرمز أو بالايماء فحقيقة النميمة
افشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه فلو رآه يخفى مالا لنفسه فذكره فهو نميمة قال وكل
من حملت إليه نميمة وقيل له فلان يقول فيك أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور الأول
أن لا يصدقه لأن النمام فاسق الثاني أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح له فعله الثالث أن يبغضه
في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من أبغضه الله تعالى الرابع أن لا يظن بأخيه
الغائب السوء الخامس أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث عن ذلك السادس أن لا يرضى
لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكى نميمة عنه فيقول فلان حكى كذا فيصير به نماما ويكون آتيا ما نهى
عنه هذا آخر كلام الغزالي رحمه الله وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية فان
دعت الحاجة إليها فلا منع منها وذلك كما إذا أخبره بأن انسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر
الامام أو من له ولاية بأن انسانا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة ويجب على صاحب الولاية
الكشف عن ذلك وازالته فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا
على حسب المواطن والله أعلم وفى الاسناد فروخ وهو غير مصروف تقدم مرات وفيه
الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الوحدة وقوله في الاسناد الأخير (حدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة إلى آخره) كلهم كوفيون الا حذيفة بن اليمان فإنه استوطن المداين وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (لا يدخل الجنة نمام) ففيه التأويلان المتقدمان في نظائره أحدهما يحمل على
المستحل بغير تأويل مع العلم بالتحريم والثاني لا يدخلها دخول الفائزين والله أعلم
113

باب بيان غلط تحريم اسبال الإزار والمن بالعطية
(وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة)
(ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم
عذاب أليم قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات المسبل والمنان والمنفق
سلعته بالحلف الكاذب) وفى رواية (المنان الذي لا يعطى شيئا الا منه والمسبل ازاره) وفى
114

رواية (شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر) وفى رواية (رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه
من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا
فصدقه وهو على غير ذلك ورجل بايع اماما لا يبايعه الا لدنيا فان أعطاه منها وفى وان لم
يعطه منها لم يف) أما ألفاظ أسماء الباب ففيه علي بن مدرك بضم الميم واسكان الدال المهملة
وكسر الراء وفيه خرشة بخاء معجمة ثم راء مفتوحتين ثم شين معجمة وفيه أبو زرعة وهو ابن
عمرو بن جرير وتقدم مرات الخلاف في اسمه وأن الأشهر فيه هرم وفيه أبو حازم عن أبي
هريرة هو أبو حازم سلمان الأغر مولى عزة وفيه أبو صالح وهو ذكوان تقدم وفيه سعيد بن
عمرو الأشعثي هو بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة منسوب إلى جده الأشعث بن
قيس الكندي فإنه سعيد بن عمرو بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي
وفيه عبثر هو بفتح العين وبعدها باء موحدة ساكنة ثم ثاء مثلثة واما ألفاظ اللغة ونحوها
فقوله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم هو على لفظ الآية
115

الكريمة قيل معنى لا يكلمهم أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات وباظهار الرضى بل بكلام
أهل السخط والغضب وقيل المراد الاعراض عنهم وقال جمهور المفسرين لا يكلمهم كلاما
ينفعهم ويسرهم وقيل لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية ومعنى لا ينظر إليهم أي يعرض عنهم
ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم ومعنى لا يزكيهم لا يطهرهم من دنس ذنوبهم
وقال الزجاج وغيره معناه لا يثنى عليهم ومعنى عذاب أليم مؤلم قال الواحدي هو العذاب الذي
يخلص إلى قلوبهم وجعه قال والعذاب كل ما يعيي الانسان ويشق عليه قال وأصل العذاب
في كلام العرب من العذب وهو المنع يقال عذبته عذبا إذا منعته وعذب عذوبا أي امتنع
وسمى الماء عذبا لأنه يمنع العطش فسمى العذاب عذابا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل
جرمه ويمنع غيره من مثل فعله والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم المسبل ازاره فمعناه
المرخى له الجار طرفه خيلاء كما جاء مفسرا في الحديث الآخر لا ينظر الله إلى من يجر ثوبه
خيلاء والخيلاء الكبر وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل ازاره ويدل على أن
المراد بالوعيد من جره خيلاء وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصديق
رضي الله عنه وقال لست منهم إذ كان جره لغير الخيلاء وقال الإمام أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري وغيره وذكر اسبال الإزار وحده لأنه كان عامة لباسهم وحكم غيره من القميص
وغيره حكمه قلت وقد جاء ذلك مبينا منصوصا عليه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الاسبال في
الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة رواه أبو داود
والنسائي وابن ماجة باسناد حسن والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم المنفق سلعته بالحلف
الفاجر فهو بمعنى الرواية الأخرى بالحلف الكاذب ويقال الحلف بكسر اللام واسكانها وممن
ذكر الاسكان ابن السكيت في أول اصلاح المنطق وأما الفلاة بفتح الفاء فهي المفازة والقفر
116

التي لا أنيس بها وأما تخصيصه صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى الشيخ الزاني والملك الكذاب
والعائل المستكبر بالوعيد المذكور فقال القاضي عياض سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية
المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده وإن كان لا يعذر أحد بذنب
لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي متعادة أشبه اقدامهم عليها المعاندة
والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها فان الشيخ لكمال عقله وتمام
معرفته بطول ما مر عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه
لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا ويخلى سره منه فكيف بالزنا الحرام وإنما
دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر
السن وكذلك الامام لا يخشى من أحد من رعيته ولا يحتاج إلى مداهنته ومصانعته فان
الانسان إنما يداهن ويصانع بالكذب وشبهه من يحذره ويخشى أذاه ومعاتبته أو يطلب عنده
بذلك منزله أو منفعه وهو غنى عن الكذب مطلقا وكذلك العائل الفقير قد عدم المال
وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء الثروة في الدنيا لكونه ظاهرا
فيها وحاجات أهلها إليه فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره فلم يبق
فعله وفعل الشيخ الزاني والامام الكاذب الا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى
والله أعلم وأما الثلاثة في الرواية الأخيرة فمنهم رجل منع فضل الماء من ابن السبيل المحتاج
ولا شك في غلظ تحريم ما فعل وشدة قبحه فإذا كان من يمنع فضل الماء الماشية عاصيا
فكيف بمن يمنعه الآدمي المحترم فان الكلام فيه فلو كان ابن السبيل غير محترم كالحربي والمرتد
لم يجب بذل الماء له وأما الحالف كاذبا بعد العصر فمستحق هذا الوعيد وخص ما بعد العصر
لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار وغير ذلك وأما مبايع الامام على الوجه المذكور
117

فمستحق هذا الوعيد لغشه المسلمين وامامهم وتسببه إلى الفتن بينهم بنكثه بيعته لا سيما إن كان
ممن يقتدى به والله أعلم ووقع في معظم الأصول في الرواية الثانية عن أبي هريرة ثلاث
لا يكلمهم الله بحذف الهاء وكذا وقع في بعض الأصول في الرواية الثانية عن أبي ذر وهو
صحيح على معنى ثلاث أنفس وجاء الضمير في يكلمهم مذكرا على المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم
باب بيان غلظ تحريم قتل الانسان نفسه
(وأن من قتل نفسه بشئ عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة الا نفس مسلمة)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار
جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا
فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا) وفى
118

الحديث الآخر (من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ومن قتل نفسه بشئ
عذب به يوم القيامة وليس على رجل نذر في شئ لا يملكه) وفى رواية (من حلف بملة سوى
الاسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال) وفى الحديث الآخر (ليس على رجل نذر فيما لا يملك
ولعن المؤمن كقتله ومن قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة ومن ادعى دعوى
كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله تعالى الا قلة ومن حلف على يمين صبر فاجرة) وفى الباب
الأحاديث الباقية وستمر على ألفاظها ومعانيها إن شاء الله تعالى أما الأسماء وما يتعلق بعلم الاسناد
ففيه أشياء كثيرة تقدمت من الكنى والدقائق كقوله حدثنا خالد يعنى ابن الحرث فقد قدمنا
بيان فائدة قوله هو ابن الحرث وكقوله عن الأعمش عن أبي صالح والأعمش مدلس والمدلس
إذا قال عن لا يحتج به الا إذا ثبت السماع من جهة أخرى وقدمنا ان ما كان في الصحيحين
عن المدلس بعن فمحمول على أنه ثبت السماع من جهة أخرى وقد جاء هنا مبينا في الطريق
الآخر من رواية شعبة وقوله في أول الباب حدثنا أبو بكر بن أبي شعبة وأبو شيبة وأبو سعيد الأشج
ألخ أسناده كله كوفيون الا أبا هريرة فإنه مدني واسم الأشج عبد الله بن سعيد بن حصين
توفى سنة سبع وخمسين ومائتين قبل مسلم بأربع سنين وقوله كلهم بهذا الاسناد مثله
119

وفي رواية شعبة عن سليمان قال سمعت ذكوان يعنى بقوله هذا الاسناد ان هؤلاء الجماعة
المذكورين وهم جرير وعبثر وشعبة رووه عن الأعمش كما رواه وكيع في الطريق الأولى
الا أن شعبة زادها هنا فائدة حسنة فقال عن سليمان وهو الأعمش قال سمعت ذكوان وهو أبو صالح
فصرح بالسماع وفى الروايات الباقية يقول عن والأعمش مدلس لا يحتج بعنعنته الا إذا صح
سماعه الذي عنعنه من جهة أخرى فبين مسلم ان ذلك قد صح من رواية شعبة والله تعالى
أعلم وقوله أبو قلابة هو بكسر القاف واسمه عبد الله بن زيد وقوله عن خالد الحذاء قالوا
إنما قيل له الحذاء لأنه كان يجلس في الحذائين ولم يحذ نعلا قط هذا هو المشهور وروينا
عن فهد بن حيان بالمثناة قال لم يحذ خالد قط وإنما كان يقول احذوا على هذا النحو فلقب
الحذاء وهو خالد بن مهران أو المنازل بضم الميم وبالزاي واللام وقوله (عن شعبة عن أيوب
عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك الأنصاري) ثم تحول الاسناد فقال (عن الثوري عن خالد
الحذاء عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك) قد يقال هذا تطويل للكلام على خلاف عادة
مسلم وغيره وكان حقه ومقتضى عادته ان يقتصر أولا على أبى قلابة ثم يسوق الطريق
الآخر إليه فأما ذكر ثابت فلا حاجة إليه أولا وجوابه ان في الرواية الأولى رواية شعبة
عن أيوب نسب ثابت بن الضحاك فقال الأنصاري وفى رواية الثوري عن خالد ولم ينسبه
120

فلم يكن له بد من فعل ما فعل ليصح ذكر نسبه قوله يعقوب القاري هو بتشديد الياء
تقدم قريبا وأبو حازم الراوي عن سهل بن ساعد الساعدي اسمه سلمة بن دينار والراوي
عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة والله أعلم وأما لغات الباب وشبهها فقوله
صلى الله عليه وسلم فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه هو بالجيم وهمز آخره ويجوز تسهيله بقلب
الهمزة ألفا ومعناه يطعن وقوله صلى الله عليه وسلم يتردى ينزل وأما جهنم فهو اسم لنار الآخرة
عافانا الله منها ومن كل بلاء قال يونس وأكثر النحويين هي عجمية لا تنصرف للعجمة والتعريف
وقال آخرون هي عربية لم تصرف للتأنيث والعلمية وسميت بذلك لبعد قعرها قال رؤبة يقال
بئر جهنام أي بعيدة القعر وقيل هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ يقال جهم الوجه أي غليظة
فسميت جهنم لغلظ أمرها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم من شرب سما فهو يتحساه
هو بضم السين وفتحها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصحهن الثالثة في المطالع وجمعه سمام
ومعنى يتحساه يشربه في تمهل ويتجرعه وقوله صلى الله عليه وسلم ومن ادعى دعوى كاذبة
هذه هي اللغة الفصيحة يقال دعوى باطل وباطلة وكاذب وكاذبة حكاهما صاحب المحكم
والتأنيث أفصح وأما قوله صلى الله عليه وسلم ليتكثر بها فضبطناه بالثاء المثلثة بعد الكاف
وكذا هو في معظم الأصول وهو الظاهر وضبطه بعض الأئمة المعتمدين في نسخته بالباء
الموحدة وله وجه وهو بمعنى الأول أي يصير ماله كبيرا عظيما وقوله صلى الله عليه وسلم
ومن حلف على يمين صبر فاجرة كذا وقع في الأصول هذا القدر فحسب وفيه
محذوف قال القاضي عياض رحمه الله لم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف
الا أن يعطفه على قوله قبله ومن أدعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها الا قلة أي وكذلك
من حلف على يمين صبر فهو مثله قال وقد ورد معنى هذا الحديث تاما مبينا في حديث آخر
من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان
ويمين الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند حاكم ونحوه وأصل الصبر الحبس والامساك
121

وقوله في حديث أبي هريرة (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا) كذا وقع في الأصول
قال القاضي عياض رحمه الله صوابه خيبر بالخاء المعجمة وقوله (يا رسول الله الرجل الذي
قلت له آنفا انه من أهل النار) أي قلت في شأنه وفى سببه قال الفراء وابن الشجري وغيرهما
من أهل العربية اللام قد تأتى بمعنى في ومنه قول الله عز وجل الموازين القسط
ليوم القيامة أي فيه وقوله آنفا أي قريبا وفيه لغتان المد وهو أفصح والقصر وقوله (فكاد
بعض المسلمين أن يرتاب) كذا هو في الأصول أن يرتاب فأثبت أن مع كاد وهو جائز
لكنه قليل وكاد لمقاربة الفعل ولم يفعل إذا لم يتقدمها نفى فان تقدمها كقولك ما كاد يقوم كانت
دالة على القيام لكن بعد بطء كذا نقله الواحدي وغيره عن العرب واللغة وقوله (ثم أمر
بلالا فنادى في الناس انه لا يدخل الجنة الا نفس مسلمة وان الله يؤيد هذا الدين بالرجل
الفاجر) يجوز في أنه وان كسر الهمزة وفتحها وقد قرئ في السبع قول الله عز وجل
الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب ان الله يبشرك بفتح الهمزة وكسرها
122

وقوله (لا يدع لهم شاذة الا اتبعها) الشاذ والشاذة الخارج والخارجة عن الجماعة قال القاضي عياض
رحمه الله أنث الكلمة على معنى النسمة أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم ومعناه أنه لا يدع أحدا على طريق
المبالغة قال ابن الاعرابي يقال فلان لا يدع شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد الا قتله وهذا
الرجل الذي كان لا يدع شاذة ولا فادة اسمه قزمان قاله الخطيب البغدادي قال وكان من
المنافقين وقوله (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان) مهموز معناه ما أغنى وكفى أحد غناءه
وكفايته وقوله (فقال رجل من القوم أنا صاحبه) كذا في الأصول ومعناه أنا أصحبه في خفية
وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار فان فعله في الظاهر جميل وقد أخبر النبي
صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب قوله (ووضع ذباب السيف
بين ثدييه) هو بضم الذال وتخفيف الباء الموحدة المكررة وهو طرفه الأسفل وأما طرفه
الأعلى فمقبضه وقوله بين ثدييه هو تثنية ثدي بفتح الثاء وهو يذكر على اللغة الفصيحة
التي اقتصر عليها الفراء وثعلب وغيرهما وحكى ابن فارس والجوهري وغيرهما فيه التذكير
123

والتأنيث قال ابن فارس الثدي للمرأة ويقال لذلك الموضع من الرجل ثندوه وثندؤه بالفتح
بلا همزة وبالضم مع الهمزة وقال الجوهري والثدي للمرأة وللرجل فعلى قول ابن فارس يكون
في هذا الحديث قد استعار الثدي للرجل وجمع الثدي أثد وثدى بضم الثاء وكسرها قوله
صلى الله عليه وسلم (خرجت برجل قرحة فأذته فانتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ
الدم حتى مات) وفى الرواية الأخرى خرج به خراج القرحة بفتح القاف واسكان الراء
وهي واحدة القروح وهي حبات تخرج في بدن الانسان والكنانة بكسر الكاف وهي جعبة
النشاب مفتوحة الجيم سميت كنانة لأنها تكن السهام أي تسترها ومعنى نكأها قشرها وخرقها
وفتحها وهو مهموز ومعنى لم يرقأ الدم أي لم ينقطع وهو مهموز يقال رقأ الدم والدمع يرقأ
124

رقوءا مثل ركع يركع ركوعا إذا سكن وانقطع والخراج بضم الخاء المعجمة وتخفيف الراء
وهو القرحة قوله (فما نسينا وما نخشى أن يكون كذب) هو نوع من تأكيد الكلام
وتقويته في النفس أو الاعلام بتحقيقه ونفى تطرق الخلل إليه والله أعلم أما أحكام الحديث
ومعانيها ففيها بيان غلظ تحريم قتل نفسه واليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال غيره والحلف بملة
غير الاسلام كقوله هو يهودي أو نصراني إن كان كذا أو واللات والعزى وشبه ذلك وفيها
أنه لا يصلح النذر فيما لا يملك ولا يلزم بهذا النذر شئ وفيها تغليظ تحريم لعن المسلم وهذا
لا خلاف فيه قال الإمام أبو حامد الغزالي وغيره لا يجوز لعن أحد من المسلمين ولا الدواب
ولا فرق بين الفاسق وغيره ولا يجوز لعن أعيان الكفار حيا كان أو ميتا الا من علمنا
بالنص أنه مات كافرا كأبي لهب وأبي جهل وشبههما ويجوز لعن طائفتهم كقولك لعن الله
الكفار ولعن الله اليهود والنصارى وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله فالظاهر
أن المراد أنهما سواء في أصل التحريم وإن كان القتل أغلظ وهذا هو الذي اختاره الإمام أبو
عبد الله المازري وقيل غير هذا مما ليس بظاهر وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو في نار
جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا فقيل فيه أقوال أحدها أنه محمول على من فعل ذلك مستحلا مع علمه
بالتحريم فهذا كافر وهذه عقوبته والثاني أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة
الدوام كما يقال خلد الله ملك السلطان والثالث أن هذا جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر
أنه لا يخلد في النار من مات مسلما قال القاضي عياض رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم
من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه فيه دليل على أن القصاص من
القاتل يكون بما قتل به محددا كان أو غيره اقتداء لعقاب الله تعالى لقاتل نفسه والاستدلال
125

بهذا لهذا ضعيف وأما قوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا
فهو كما قال وفى الرواية الأخرى كاذبا متعمدا ففيه بيان لغلظ تحريم هذا الحلف وقوله
صلى الله عليه وسلم كاذبا ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقا لأنه لا ينفك الحالف
بها عن كونه كاذبا وذلك لأنه لا بد أن يكون معظما لما حلف به فإن كان معتقدا عظمته
بقلبه فهو كاذب في ذلك وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة لكونه عظمه
بالحلف به وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبا حمل التقييد بكاذبا على أنه بيان لصورة الحالف
ويكون التقييد خرج على سبب فلا يكون له مفهوم ويكون من باب قول الله تعالى
الأنبياء بغير حق وقوله تعالى تقتلوا أولادكم من املاق وقوله تعالى اللاتي في
حجوركم وقوله تعالى فإن خفتم الا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقوله
تعالى عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم وقوله تعالى تكرهوا فتياتكم
على البغاء ان أردن تحصنا ونظائره كثيرة ثم إن كان الحالف به معظما لما حلف به مجلاله كان
كافرا وان لم يكن معظما بل كان قلبه مطمئنا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به ومعاملته
إياه معاملة ما يحلف به ولا يكون كافرا خارجا عن ملة الاسلام ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر
ويراد به كفر الاحسان وكفر نعمة الله تعالى فإنها تقتضي ان لا يحلف هذا الحلف القبيح وقد قال
الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فيما ورد من مثل هذا مما ظاهره تكفير
أصحاب المعاصي ان ذلك على جهة التغليظ والزجر عنه وهذا معنى مليح ولكن ينبغي أن يضم إليه
ما ذكرناه من كونه كافر النعم وأما قوله صلى الله عليه وسلم من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر
بها لم يزده الله الا قلة فقال القاضي عياض هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مال
يختال في التجمل به من غيره أو نسب ينتمي إليه أو علم يتحلى به وليس هو من حملته أو دين يظهره
وليس هو من أهله فقد أعلم صلى الله عليه وسلم أنه غير مبارك له في دعواه ولا زاك ما اكتسبه
بها ومثله الحديث الآخر اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب وأما قوله صلى الله عليه وسلم
أن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وأن الرجل ليعمل عمل
أهل النار وهو من أهل الجنة ففيه التحذير من الاغترار بالاعمال وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل
عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره
126

أن لا يقنطه من رحمه الله تعالى ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم ان الرجل ليعمل عمل أهل
الجنة وانه من أهل النار وكذا عكسه ان هذا قد يقع وأما قوله صلى الله عليه وسلم ان رجلا
ممن كان قبلكم خرجت به قرحة فلما آذته انتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات
قال ربكم قد حرمت عليه الجنة فقال القاضي رحمه الله فيه يحتمل انه كان مستحلا أو يحرمها حين
يدخلها السابقون والأبرار أو يطيل حسابه أو يحبس في الأعراف هذا كلام القاضي قلت ويحتمل
أن شرع أهل ذلك العصر تكفير أصحاب الكبائر ثم إن هذا محمول على أنه نكأها استعجالا
للموت أو لغير مصلحة فإنه لو كان على طريق المداواة التي يغلب على الظن نفعها لم يكن حراما والله أعلم
باب غلظ تحريم الغلول وانه لا يدخل الجنة الا المؤمنون
فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (لما كان يوم خبير أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون قال فخرجت فناديت
127

ألا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون) وفيه حديث أبي هريرة من نحو معناه في الاسناد أبو زميل
بضم الزاي وتخفيف الميم وتقدم وقوله لما كان يوم خبير هو بالخاء المعجمة وآخره راء
فهكذا وقع في مسلم وهو الصواب وذكر القاضي عياض رحمه الله أن أكثر رواة الموطأ رووه
هكذا وأنه الصواب قال ورواه بعضهم حنين بالحاء المهملة والنون والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم
كلا زجر ورد لقولهم في هذا الرجل انه شهيد محكوم له بالجنة أول وهلة بل هو في النار
بسبب غلوله وقوله (ثور بن زيد الديلي) هو هنا بكسر الدال واسكان الياء هكذا هو في أكثر
الأصول الموجودة ببلادنا وفى بعضها الدؤلي بضم الدال وبالهمزة بعدها التي تكتب صورتها
واوا وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه ضبطه هنا عن أبي بحر دولي بضم الدال وبواو ساكنة
قال وضبطناه عن غيره بكسر الدال واسكان الياء قال وكذا ذكره مالك في الموطأ والبخاري في
التاريخ وغيرهما قلت وقد ذكر أبو علي الغساني أن ثورا هذا من رهط أبى الأسود فعلى هذا يكون
فيه الخلاف الذي قدمناه قريبا في أبى الأسود وقوله (عن سالم أبى الغيث مولى ابن مطيع) هذا
صحيح وفيه التصريح بأن أبا الغيث هذا يسمى سالما وأما قول أبى عمر بن عبد البر في أول
كتابه التمهيد لا يوقف على اسمه صحيحا فليس بمعارض لهذا الاثبات الصحيح واسم
ابن مطيع عبد الله ابن مطيع بن الأسود القرشي والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم انى رأيته في النار في بردة غلها أو
عباءة أما البردة بضم الباء فكساء مخطط وهي الشملة والنمرة وقال أبو عبيد هو كساء أسود فيه صور
وجمعها برد بفتح الراء وأما العباءة فمعروفة وهي ممدودة ويقال فيها أيضا عباية بالياء قاله ابن السكيت
وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم في بردة أي من أجلها وبسببها وأما الغلول فقال أبو عبيد هو الخيانة
128

في الغنيمة خاصة وقال غيره هي الخيانة في كل شئ ويقال منه غل يغل بضم الغين وقوله (رجل من
بنى الضبيب) هو بضم الضاد المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم
باء موحدة قوله (يحل رحله) هو بالحاء المهملة وهو مركب الرجل على البعير وقوله (فكان فيه
حتفه) هو بفتح الحاء المهملة واسكان المثناة فوق أي موته وجمعه حتوف ومات حتف أنفه أي من
غير قتل ولا ضرب قوله (فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله أصبت يوم خيبر)
كذا هو في الأصول وهو صحيح وفيه حذف المفعول أي أصبت هذا والشراك بكسر
الشين المعجمة وهو السير المعروف الذي يكون في النعل على ظهر القدم قال القاضي
عياض رحمه الله قوله النبي صلى الله عليه وسلم (ان الشملة لتلتهب عليه نارا) وقوله
صلى الله عليه وسلم (شراك أو شراكان من نار) تنبيه على المعاقبة عليهما وقد تكون
المعاقبة بهما أنفسهما فيعذب بهما وهما من نار وقد يكون ذلك على أنهما سبب لعذاب
النار والله أعلم وأما قوله (ومع النبي صلى الله عليه وسلم عبد له) فاسمه مدعم بكسر
الميم واسكان الدال وفتح العين المهملتين كذا جاء مصرحا به في الموطأ في هذا الحديث
بعينه قال القاضي عياض رحمه الله وقيل إنه غير مدعم قال وورد في حديث مثل هذا
اسمه كركرة ذكره البخاري هذا كلام القاضي وكركرة بفتح الأولى وكسرها وأما
129

الثانية فمكسورة فيهما والله أعلم وأما أحكام الحديثين فمنها غلظ تحريم الغلول ومنها أنه
لا فرق بين قليله وكثيره حتى الشراك ومنها أن الغلول يمنع من اطلاق اسم الشهادة على من
غل إذا قتل وسيأتي بسط هذا إن شاء الله تعالى ومنها انه لا يدخل الجنة أحد ممن مات على
الكفر وهذا باجماع المسلمين ومنها جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم
والذي نفس محمد بيده ومنها ان من غل شيئا من الغنيمة يجب عليه رده وأنه إذا
رده يقبل منه ولا يحرق متاعه سواء رده أو لم يرده فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع صاحب
الشملة وصاحب الشراك ولو كان واجبا لفعله ولو فعله لنقل وأما الحديث من غل
فأحرقوا متاعه واضربوه وفى رواية واضربوا عنقه فضعيف بين ابن عبد البر وغيره ضعفه
قال الطحاوي رحمه الله ولو كان صحيحا لكان منسوخا ويكون هذا حين كانت العقوبات في
الأموال والله أعلم
باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر
فيه حديث جابر رضي الله عنه (أن الطفيل بن عمرو الدوسي هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص
130

فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات فرآه الطفيل في منامه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه
فقال له ما صنع بك ربك فقال غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال مالي أراك
مغطيا يديك قال قيل لي لن نصلح منك ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم وليديه فاغفر) قوله فاجتووا
المدينة هو بضم الواو الثانية ضمير جمع وهو ضمير يعود على الطفيل والرجل المذكور ومن
يتعلق بهما ومعناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم قال أبو عبيد والجوهري وغيرهما
اجتويت البلد إذا كرهت المقام به وان كنت في نعمة قال الخطابي وأصله من الجوى وهو
داء يصيب الجوف وقوله فأخذ مشاقص هي بفتح الميم وبالشين المعجمة وبالقاف
والصاد المهملة وهي جمع مشقص بكسر الميم وفتح القاف قال الخليل وابن فارس وغيرهما هو
سهم فيه نصل عريض وقال آخرون سهم طويل ليس بالعريض وقال الجوهري المشقص
ما طال وعرض وهذا هو الظاهر هنا لقوله قطع بها براجمه ولا يحصل ذلك الا بالعريض وأما
البراجم بفتح الباء الموحدة وبالجيم فهي مفاصل الأصابع واحدتها برجمة وقوله فشخبت
يداه هو بفتح الشين والخاء المعجمتين أي سال دمهما وقيل سال بقوة وقوله هل لك في
حصن حصين ومنعة هي بفتح الميم وبفتح النون واسكانها لغتان ذكرهما ابن السكيت
والجوهري وغيرهما الفتح أفصح وهي العز والامتناع ممن يريده وقيل المنعة جمع مانع كظالم
وظلمة أي جماعة يمنعونك ممن يقصدك بمكروه أما أحكام الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة
131

لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع
له بالنار بل هو في حكم المشيئة وقد تقدم بيان القاعدة وتقريرها وهذا الحديث شرح للأحاديث
التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار وفيه اثبات عقوبة
بعض أصحاب المعاصي فان هذا عوقب في يديه ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر والله أعلم
باب في الريح التي تكون قرب القيامة تقبض
(من في قلبه شئ من الايمان)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله تعالى يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع
أحدا في قلبه مثقال حبة من ايمان الا قبضته) أما اسناده ففيه أحمد بن عبدة باسكان الباء
وأبو علقمة الفروي بفتح الفاء واسكان الراء واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة
المدني مولى آل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأما معنى الحديث فقد جاءت في هذا النوع
أحاديث منها لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله ومنها لا تقوم على أحد يقول
الله الله ومنها لا تقوم الا على شرار الخلق وهذه كلها وما في معناها على ظاهرها وأما الحديث
الآخر لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة فليس مخالف لهذه الأحاديث لان
معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها
فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم مثقال حبة أو مثقال ذرة من ايمان ففيه بيان للمذهب الصحيح
132

أن الايمان يزيد وينقص وأما قوله صلى الله عليه وسلم ريحا ألين من الحرير ففيه والله أعلم
إشارة إلى الرفق بهم والا كرام لهم والله أعلم وجاء في هذا الحديث يبعث الله تعالى ريحا من
اليمن وفى حديث آخر ذكره مسلم في آخر الكتاب عقب أحاديث الدجال ريحا من قبل الشام
ويجاب عن هذا بوجهين أحدهما يحتمل أنهما ريحان شامية ويمانية ويحتمل أن مبدأها من
أحد الإقليمين ثم تصل الآخر وتنتشر عنده والله أعلم
باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن
فيه قوله صلى الله عليه وسلم بادروا بالاعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي
كافرا أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) معنى الحديث الحث على
المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة
المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر ووصف صلى الله عليه وسلم نوعا من شدائد
تلك الفتن وهو أنه يمسى مؤمنا ثم يصبح كافرا أو عكسه شك الراوي وهذا لعظم الفتن ينقلب
الانسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب والله أعلم
باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله
فيه قصة ثابت بن قيس بن الشماس رضي الله عنه وخوفه حين نزلت ترفعوا أصواتكم فوق
133

صوت النبي الآية وكان ثابت رضي الله عنه جهير الصوت وكان يرفع صوته وكان خطيب
الأنصار ولذلك اشتد حذره أكثر من غيره وفى هذا الحديث منقبة عظيمة لثابت بن قيس
رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة وفيه أنه ينبغي للعالم
وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم وقول مسلم رحمه الله (حدثنا قطن بن نسير
قال حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس) فيه لطيفة وهو أنه اسناد كله بصريون
وقطن بفتح القاف والطاء المهملة وبالنون ونسير بنون مضمومة ثم سين مهملة مفتوحة ثم
مثناة من تحت ساكنة ثم راء وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين نسير غيره وقد قدمنا في
الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح انكار من أنكر على مسلم روايته عنه وجوابه وفى
134

الاسناد الآخر حبان هو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وهو ابن هلال وكل هذا الاسناد
أيضا بصريون الا أحمد بن سعيد الدارمي في أوله فإنه نيسابوري وقول مسلم (حدثنا هريم
ابن عبد الاعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس) هذا الاسناد
أيضا كله بصريون حقيقة وهريم بضم الهاء وفتح الراء واسكان الياء وقوله (فكنا نراه
يمشى بين أظهرنا رجلا من أهل الجنة) هكذا هو في بعض الأصول رجلا وفى بعضها
رجل وهو الأكثر وكلاهما صحيح الأول على البدل من الهاء في نراه والثاني على الاستئناف
باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية
قال مسلم (حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله
قال قال أناس يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال أما من أحسن منكم في الاسلام
فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والاسلام) قال مسلم (حدثنا محمد بن
135

عبد الله بن نمير قال حدثنا أبي ووكيع قال وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة واللفظ له قال حدثنا
وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ
بما عملنا في الجاهلية فذكره) قال مسلم (حدثنا منجاب أخبرنا ابن مسهر عن الأعمش
بهذا الاسناد) هذه الأسانيد الثلاثة كلهم كوفيون وهذا من أطرف النفائس لكونها
أسانيد متلاصقة مسلسلة بالكوفيين وعبد الله هو ابن مسعود ومنجاب بكسر الميم وأما
معنى الحديث فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد بالاحسان هنا الدخول في
الاسلام بالظاهر والباطن جميعا وأن يكون مسلما حقيقيا فهذا يغفر له ما سلف في الكفر
بنص القرآن العزيز والحديث الصحيح الاسلام يهدم ما قبله وباجماع المسلمين والمراد بالإساءة
عدم الدخول في الاسلام بقلبه بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين غير معتقد
للاسلام بقلبه فهذا منافق باق على كفره باجماع المسلمين فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل
اظهار صورة الاسلام وبما عمل بعد اظهارها لأنه مستمر على كفره وهذا معروف في استعمال
الشرع يقولون حسن اسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة باخلاص وساء اسلامه أو لم يحسن
اسلامه إذا لم يكن كذلك والله أعلم
باب كون الاسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والهجرة
فيه حديث عمرو بن العاصي رضي الله عنه وقصة وفاته وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما
136

في سبب نزول قول الله تعالى لا يدعون مع الله إلها آخر وقوله تعالى عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم فأما حديث عمرو فنتكلم في اسناده ومتنه ثم نعود إلى حديث ابن عباس
رضي الله عنهما أما اسناده ففيه محمد بن مثنى العنزي بفتح العين والنون وأبو معن الرقاشي
بفتح الراء وتخفيف القاف اسمه زيد بن يزيد وأبو عاصم هو النبيل واسمه الضحاك بن مخلد وابن
شماسة المهري وشماسة بالشين المعجمة في أوله بفتحها وضمها ذكرهما صاحب المطالع والميم مخففة
وآخره سين مهملة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو وقيل أبو عبد الله
والمهري بفتح الميم واسكان الهاء وبالراء وأما ألفاظ متنه فقوله (في سياقة الموت) هو بكسر السين أي
حال حضور الموت وقوله (أفضل ما نعد) هو بضم النون وقوله (كنت على أطباق ثلاث)
أي على أحوال قال الله تعالى طبقا عن طبق فلهذا أنث ثلاثا إرادة لمعنى أطباق قوله صلى الله عليه وسلم
137

(تشترط بماذا) هكذا ضبطناه بما باثبات الباء فيجوز أن تكون زائدة للتوكيد
كما في نظائرها ويجوز أن تكون دخلت على معنى تشترط وهو تحتاط أي تحتاط بماذا وقوله
صلى الله عليه وسلم (الاسلام يهدم ما كان قبله) أي يسقطه ويمحو أثره قوله (وما كنت أطيق
أن أملأ عيني) هو بتشديد الياء من عيني على التثنية قوله (فإذا دفنتموني فسنوا على
التراب سنا) ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة وكذا قال القاضي انه بالمعجمة والمهملة قال
وهو الصب وقيل بالمهملة الصب في سهولة وبالمعجمة التفريق وقوله (قدر ما ينحر جزور)
هي بفتح الجيم وهي من الإبل أما أحكامه ففيه عظم موقع الاسلام والهجرة والحج وأن كل
واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي وفيه استحباب تنبيه المحتضر على احسان ظنه بالله
سبحانه وتعالى وذكر آيات الرجاء وأحاديث العفو عنده وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين
وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنه بالله تعالى ويموت عليه وهذا الأدب مستحب بالاتفاق
وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول ابن عمرو لأبيه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم
بكذا وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم واجلاله
وفى قوله فلا تصحبني نائحة ولا نار امتثال لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقد كره العلماء
ذلك فأما النياحة فحرام وأما اتباع الميت بالنار فمكروه للحديث ثم قيل سبب الكراهة كونه
138

من شعار الجاهلية وقال ابن حبيب المالكي كره تفاؤلا بالنار وفى قوله فشنوا على التراب
استحباب صب التراب في القبر وأنه لا يقعد على القبر بخلاف ما يعمل في بعض البلاد وقوله
ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به
رسل ربى فيه فوائد منها اثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو مذهب أهل الحق ومنها استحباب
المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول
القبر وقد يستدل به لجواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة كالعنب وفى هذا
خلاف لأصحابنا معروف قالوا إن قلنا بأحد القولين أن القسمة تمييز حق ليست ببيع جاز وان
قلنا بيع فوجهان أصحهما لا يجوز للجهل بتماثله في حال الكمال فيؤدى إلى الربا والثاني يجوز
لتساويهما في الحال فإذا قلنا لا يجوز فطريقها أن يجعل اللحم وشبهه قسمين ثم يبيع أحدهما
صاحبه نصيبه من أحد القسمين بدرهم مثلا ثم يبيع الآخر نصيبه من القسم الآخر لصاحبه
بذلك الدرهم الذي له عليه فيحصل لكل واحد منهما قسم بكماله ولها طرق غير هذا لا حاجة إلى
الإطالة بها هنا والله أعلم وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فمراد مسلم رحمه الله منا أن
القرآن العزيز جاء بما جاءت به السنة من كون الاسلام يهدم ما قبله وقوله فيه (ولو تخبرنا بأن لما
عملنا كفارة فنزل لا يدعون مع الله إلها آخر الآية) فيه محذوف وهو جواب لو أي لو تخبرنا
139

لأسلمنا وحذفها كثير في القرآن العزيز وكلام العرب كقوله تعالى ترى إذ الظالمون وأشباهه
وأما قوله تعالى أثاما فقيل معناه عقوبة وقيل هو واد في جهنم وقيل بئر فيها وقيل جزاء اثمه
باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده
فيه حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أرأيت أمورا
كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شئ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت
على ما أسلفت من خير) أما التحنث فهو التعبد كما فسره في الحديث وفسره في الرواية الأخرى
بالتبرر وهو فعل البر وهو الطاعة قال أهل اللغة أصل التحنث أن يفعل فعلا يخرج به من الحنث
وهو الاثم وكذا تأثم وتحرج وتهجد أي فعل فعلا يخرج به عن الاثم والحرج والهجود وأما
قوله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما أسلفت من خير فاختلف في معناه فقال الإمام أبو عبد الله
المازري رحمه الله ظاهره خلاف ما تقتضيه الأصول لأن الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب
على طاعته ويصح أن يكون مطيعا غير متقرب كنظيره في الايمان فإنه مطيع فيه من حيث
كان موافقا للامر والطاعة عندنا موافقة الأمر ولكنه لا يكون متقربا لأن من شرط المتقرب
أن يكون عارفا بالمتقرب إليه وهو في حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى بعد فإذا تقرر هذا علم أن
الحديث متأول وهو يحتمل وجوها أحدها أن يكون معناه اكتسبت طباعا جميلة وأنت تنتفع بتلك
الطباع في الاسلام وتكون تلك العادة تمهيدا لك ومعونة على فعل الخير والثاني معناه اكتسبت بذلك
140

ثناء جميلا فهو باق عليك في الاسلام والثالث أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الاسلام
ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الجميلة وقد قالوا في الكافر إذا كان يفعل الخير فإنه يخفف عنه به
فلا يبعد أن يزاد هذا في الأجور هذا آخر كلام المازري رحمه الله قال القاضي عياض رحمه الله وقيل
معناه ببركة ما سبق لك من خير هداك الله تعالى إلى الاسلام وأن من ظهر منه خير في أول أمره فهو دليل
على سعادة آخره وحسن عاقبته هذا كلام القاضي وذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن
الحديث على ظاهره وأنه إذا أسلم الكافر ومات على الاسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال
الكفر واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أسلم الكافر فحسن اسلامه كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها ومحا عنه كل سيئة زلفها وكان
عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها الا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى
ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك ورواه عنه من تسع طرق وثبت فيها كلها أن الكافر
إذا حسن اسلامه يكتب له في الاسلام كل حسنة عملها في الشرك قال ابن بطال رحمه الله تعالى
141

بعد ذكره الحديث ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء لا اعتراض لأحد عليه قال وهو
كقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه أسلمت على ما أسلفت من خير والله
أعلم وأما قول الفقهاء لا يصح من الكافر عبادة ولو أسلم لم يعتد بها فمرادهم أنه لا يعتد
له بها في أحكام الدنيا وليس فيه تعرض لثواب الآخرة فان أقدم قائل على التصريح بأنه إذا
أسلم لا يثاب عليها في الآخرة رد قوله بهذه السنة الصحيحة وقد يعتد ببعض أفعال الكفار في
أحكام الدنيا فقد قال الفقهاء إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها فكفر في حال كفره
أجزأه ذلك وإذا أسلم لم تجب عليه اعادتها واختلف أصحاب الشافعي رحمه الله فيما إذا أجنب
واغتسل في حال كفره ثم أسلم هل تجب عليه إعادة الغسل أم لا وبالغ أصحابنا فقال يصح
من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم وإذا أسلم صلى بها والله أعلم وأما ما يتعلق
بلفظ الباب فقوله (أعتق مائة رقبة وحمل على مائة بعير) معناه تصدق بها وفيه صالح عن ابن
شهاب عن عروة وهؤلاء ثلاثة تابعيون روى بعضهم عن بعض وقد قدمنا أمثال ذلك وفيه
حكيم بن حزام الصحابي رضي الله عنه ومن مناقبه أنه ولد في الكعبة قال بعض العلماء ولا يعرف
أحد شاركه في هذا قال العلماء ومن طرف أخباره أنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في
الاسلام وأسلم عام الفتح ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين فيكون المراد بالاسلام من حين
ظهوره وانتشاره والله أعلم
142

باب صدق الايمان واخلاصه فيه قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم
شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لا يظلم نفسه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه بنى لا تشرك بالله
ان الشرك لظلم عظيم) هكذا وقع الحديث هنا في صحيح مسلم ووقع في صحيح البخاري لما
نزلت الآية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لم يظلم نفسه فأنزل الله تعالى
الشرك لظلم عظيم فهاتان الروايتان إحداهما تبين الأخرى فيكون لما شق عليهم أنزل الله
تعالى الشرك لظلم عظيم وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك المراد به
هذا المقيد وهو الشرك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ليس الظلم على اطلاقه
وعمومه كما ظننتم إنما هو الشرك كما قال لقمان لابنه فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم
على عمومه والمتبادر إلى الافهام منه وهو وضع الشئ في غير موضعه وهو مخالفة الشرع
فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم قال الخطابي إنما شق
عليهم لان ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي
فظنوا أن المراد معناه الظاهر وأصل الظلم وضع الشئ في غير موضعه ومن جعل العبادة لغير
الله تعالى فهو أظلم الظالمين وفى هذا الحديث جمل من العلم منها أن المعاصي لا تكون كفرا
والله أعلم وأما ما يتعلق بالاسناد فقول مسلم رحمه الله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا
عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله)
143

هذا اسناد رجاله كوفيون كلهم وحفاظ متقنون في نهاية الجلالة وفيهم ثلاثة أئمة جلة
فقهاء تابعيون بعضهم عن بعض سليمان الأعمش وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس وقل اجتماع
مثل هذا الذي اجتمع في هذا الاسناد والله أعلم وفيه علي بن خشرم بفتح الخاء واسكان الشين
المعجمتين وفتح الراء وقد تقدم بيانه في المقدمة وفيه منجاب بكسر الميم واسكان النون وبالجيم
وآخره باء موحدة وفيه (قال ابن إدريس حدثنيه أولا أبى عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم
سمعته منه) هذا تنبيه منه على علوا اسناده هنا فإنه نقص عنه رجلات وسمعه من الأعمش
وقد تقدم مثل هذا في باب الدين النصيحة وتقدم الخلاف في صرف ابان في مقدمة الكتاب وأن
المختار عند المحققين صرفه وتغلب بكسر اللام غير مصروف وفيه لقمان الحكيم واختلف
العلماء في نبوته قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي اتفق العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا الا
عكرمة فإنه قال كان نبيا وتفرد بهذا القول وأما ابن لقمان الذي قال له لا تشرك بالله فقيل اسمه
أنعم ويقال مشكم والله أعلم
باب بيان تجاوز الله تعالى عن حديث النفس
(والخواطر بالقلب إذا لم تستقر وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف الا ما يطاق)
(وبيان حكم الهم بالحسنة وبالسيئة)
أما أسانيد الباب ولغاته ففيه أمية بن بسطام العيشي فبسطام بكسر الباء على المشهور وحكى
صاحب المطالع أيضا فتحها والعيشي بالشين المعجمة وقد قدمت ضبط هذا كله مع بيان
144

الخلاف في صرف بسطام وفيه قوله (عن أبي هريرة قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما في السماوات وما في الأرض وأن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر
لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير قال فاشتد ذلك) أنما أعاد لفظة قال لطول
الكلام فان أصل الكلام لما نزلت اشتد فلما طال حسن إعادة لفظة قال وقد تقدم مثل هذا
في موضعين من هذا الكتاب وذكرت ذلك مبينا وأنه جاء مثله في القرآن العزيز في قوله تعالى
أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون فأعاد أنكم وقوله جاءهم كتاب من عند
الله مصدق لما معهم إلى قوله جاءهم والله أعلم وفيه قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله لا نفرق
بينهم في الايمان فنؤمن ببعضهم ونكفر ببعض كما فعله أهل الكتابين بل نؤمن بجميعهم واحد في
هذا الموضع بمعنى الجمع ولهذا دخلت فيه بين ومثله قوله تعالى منكم من أحد عنه حاجزين
وفيه قوله (فأنزل الله تعالى في اثرها) هو بفتح الهمزة والثاء وبكسر الهمزة مع اسكان الثاء لغتان
145

وفيه محمد بن عبيد الغبرى بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة منسوب إلى بنى غبر وقد قدمنا
146

بيانه في المقدمة وفيه أبو عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله وفيه قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله
تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران الا ان
النصب أظهر وأشهر قال القاضي عياض أنفسها بالنصب ويدل عليه قوله أن أحدنا يحدث
نفسه قال قال الطحاوي وأهل اللغة يقولون أنفسها بالرفع يريدون بغير اختيارها كما قال الله
تعالى هذا ما توسوس به نفسه والله أعلم وفيه أبو الزناد عن الأعرج أما أبو الزناد فاسمه
عبد الله بن ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن وأما أبو الزناد فلقب غلب عليه وكان يغضب
منه وأما الأعرج فعبد الرحمن بن هرمز وهذان وان كانا مشهورين وقد تقدم بيانهما الا أنه
147

قد تخفى أسماؤهما على بعض الناظرين في الكتاب وقوله سبحانه وتعالى (إنما تركها من جراى)
هو بفتح الجيم وتشديد الراء وبالمد والقصر لغتان معناه من أجلى وقوله صلى الله عليه وسلم
(إذا أحسن أحدكم اسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها وكل سيئة يعملها تكتب
بمثلها) معنى أحسن اسلامه أسلم اسلاما حقيقيا وليس كاسلام المنافقين وقد تقدم بيان هذا وفيه
148

أبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان بالمثناة تقدم بيانه وفيه شيبان بن فروخ بفتح الفاء وبالخاء
المعجمة وهو غير مصروف لكونه عجميا علما وقد تقدم بيانه وفيه أبو رجاء العطاردي اسمه
عمران بن تيم وقيل ابن ملحان وقيل ابن عبد الله أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وأسلم
عام الفتح وعاش مائة وعشرين سنة وقيل مائة وثمانيا وعشرين سنة وقيل مائة وثلاثين سنة وأما
فقه أحاديث الباب ومعانيها فكثيرة وأنا أختصر مقاصدها إن شاء الله تعالى فقوله لما نزلت
ما في السماوات وما في الأرض وان تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فاشتد ذلك على
الصحابة رضي الله عنهم وقالوا لا نطيقها قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله يحتمل أن
يكون اشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونها اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من
الخواطر التي لا تكتسب فلهذا رأوه من قبل ما لا يطاق وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا
واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا والله أعلم وأما قوله فلما فعلوا ذلك نسخها
الله تعالى فأنزل الله تعالى يكلف الله نفسا الا وسعها فقال المازري رحمه الله في تسمية
هذا نسخا نظر لأنه إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء ولم يمكن رد احدى الآيتين إلى الأخرى وقوله
تعالى تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر دون
ما لا يملك فتكون الآية الأخرى مخصصة الا أن يكون قد فهمت الصحابة بقرينة الحال أنه تقرر
تعبدهم بما لا يملك من الخواطر فيكون حينئذ لأنه رفع ثابت مستقر هذا كلام المازري
قال القاضي عياض لا وجه لابعاد النسخ في هذه القضية فان راويها قد روى فيها النسخ ونص
عليه لفظا ومعنى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالايمان والسمع والطاعة لما أعلمهم الله
149

تعالى من مؤاخذته إياهم فلما فعلوا ذلك وألقى الله تعالى الايمان في قلوبهم وذلت بالاستسلام
لذلك ألسنتهم كما نص في هذا الحديث رفع الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف وطريق علم
النسخ إنما هو بالخبر عنه أو بالتاريخ وهما مجتمعان في هذه الآية قال القاضي وقول المازري
إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء كلام صحيح فيما لم يرد فيه النص بالنسخ فان ورد وقفنا عنده
لكن اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي رضي الله عنه نسخ كذا بكذا هل يكون
حجة يثبت بها النسخ أم لا يثبت بمجرد قوله وهو قول القاضي أبى بكر والمحققين منهم لأنه
قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله فلا يكون نسخا حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقد اختلف الناس في هذه الآية فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على
ما تقدم فيها من النسخ وأنكره بعض المتأخرين قال لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار
وليس كما قال هذا المتأخر فإنه وإن كان خبرا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن
النفوس والتعبد بما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا
وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة وروى عن
بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر فأزيل
عنهم بالآية الأخرى واطمأنت نفوسهم وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا مالا يطيقون لكن
ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس واخلاص الباطن فاشفقوا أن يكلفوا من ذلك
مالا يطيقون فأزيل عنهم الاشفاق وبين أنهم لم يكلفوا الا وسعهم وعلى هذا لا حجة فيه لجواز
تكليف ما لا يطاق إذ ليس فيه نص على تكليفه واحتج بعضهم باستعاذتهم منه بقوله تعالى
150

تحملنا مالا طاقة لنا به ولا يستعيذون الا مما يجوز التكليف به وأجاب عن ذلك بعضهم بأن
معنى ذلك مالا نطيقه الا بمشقة وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة في اخفاء اليقين والشك
للمؤمنين والكافرين فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه
الله وذكر الامام الواحدي رحمه الله الاختلاف في نسخ الآية ثم قال والمحققون يختارون
أن تكون الآية محكمة غير منسوخة والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله تجاوز
لامتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به) وفى الحديث الآخر (إذا هم عبدي
بسيئة فلا تكتبوا عليه فان عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فان
عملها فاكتبوها عشرا) وفى الحديث الآخر (في الحسنة إلى سبعمائة ضعف) وفى الآخر
(في السيئة إنما تركها من جراى) فقال الامام المازري رحمه الله مذهب القاضي أبى بكر
ابن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه ويحمل
ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية وإنما مر
ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هذا هما ويفرق بين الهم والعزم هذا مذهب القاضي
أبى بكر وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث قال القاضي عياض رحمه الله
عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة
على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها
لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة لكن نفس الاصرار والعزم
معصية فتكتب معصية فإذا عملها كتبت معصية ثانية فان تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة
كما في الحديث إنما تركها من جراى فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة
بالسوء في ذلك وعصيانه هواه فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس
عليها ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف
الله تعالى بل لخوف الناس هل تكتب حسنة قال لا لأنه إنما حمله على تركها الحياء وهذا ضعيف
لا وجه له هذا آخر كلام القاضي وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه وقد تظاهرت نصوص الشرع
بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر ومن ذلك قوله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في
الذين آمنوا لهم عذاب أليم الآية وقوله تعالى كثيرا من الظن ان بعض الظن إثم
151

والآيات في هذا كثيرة وقد تظاهرت نصوص الشرع واجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار
المسلمين وإرادة المكروه بهم وغير ذلك من اعمال القلوب وعزمها والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (ولن يهلك على الله الا هالك) فقال القاضي عياض رحمه الله معناه من حتم هلاكه
وسدت عليه أبواب الهدى مع سعة رحمه الله تعالى وكرمه وجعله السيئة حسنة إذا لم يعملها
وإذا عملها واحدة والحسنة إذا لم يعملها واحدة وإذا عملها عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف
كثيرة فمن حرم هذه السعة وفاته هذا الفضل وكثرت سيئاته حتى غلبت مع أنها أفراد
حسناته مع أنها متضاعفة فهو الهالك المحروم والله أعلم قال الإمام أبو جعفر الطحاوي
رحمه الله في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال إنها
لا تكتب الا الأعمال الظاهرة والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة ففيه تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على
سبعمائة ضعف وحكى أبو الحسن أقضى القضاة الماوردي عن بعض العلماء أن التضعيف
لا يتجاوز سبعمائة ضعف وهو غلط لهذا الحديث والله أعلم وفى أحاديث الباب بيان ما أكرم
الله تعالى به هذه الأمة زادها الله شرفا وخففه عنهم مما كان على غيرهم من الإصر وهو الثقل
والمشاق وبيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من المسارعة إلى الانقياد لأحكام
الشرع قال أبو إسحاق الزجاج هذا الدعاء الذي في قوله تعالى لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطأنا
إلى آخر السورة أخبر الله تعالى به عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وجعله في كتابه ليكون
دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم فهو من الدعاء الذين ينبغي
أن يحفظ ويدعى به كثيرا قال الزجاج وقوله تعالى على القوم الكافرين أي أظهرنا
عليهم في الحجة والحرب واظهار الدين وسيأتي في كتاب الصلاة من هذا الكتاب الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه قيل كفتاه
152

من قيام تلك الليلة وقيل كفتاه المكروه فيها والله أعلم
باب بيان الوسوسة في الايمان وما يقوله من وجدها
فيه أبو هريرة رضي الله عنه (قال جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه انا نجد في أنفسنا
ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال وقد وجدتموه قالوا نعم قال ذاك صريح الايمان) وفى الرواية الأخرى
(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال تلك محض الايمان) وفى الحديث الآخر (لا يزال
الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله) وفى
153

الرواية الأخرى (فليقل آمنت بالله ورسله) وفى الرواية الأخرى (يأتي الشيطان أحدكم
فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته)
أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم ذلك صريح الايمان ومحض الايمان معناه
استعظامكم الكلام به هو صريح الايمان فان استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن ينطق به فضلا
عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الايمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك واعلم
أن الرواية الثانية وان لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى ولهذا
قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من اغوائه
فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن اغوائه وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في
حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض
الايمان أو الوسوسة علامة محض الايمان وهذا القول اختيار القاضي عياض وأما قوله
154

صلى الله عليه وسلم فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله وفى الرواية الأخرى فليستعذ بالله ولينته
فمعناه الاعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في اذهابه قال الامام المازري
رحمه الله ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالاعراض عنها
والرد لها من غير استدلال ولا نظر في ابطالها قال والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على
قسمين فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالاعراض عنها وعلى
هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع
بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع
الا بالاستدلال والنظر في ابطالها والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فليستعذ بالله
ولينته فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر
في ذلك وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والاغواء فليعرض
155

عن الاصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم وأما أسانيد الباب
ففيه محمد بن عمرو بن جبلة هو محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة وفيه أبو الجواب عن عمار بن
رزيق أما أبو الجواب فبفتح الجيم وتشديد الواو وآخره باء موحدة واسمه الأحوص بن جواب
وأما رزيق فبتقدم الراء على الزاي وفيه قال مسلم حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثني
علي بن عثام عن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود
رضي الله عنه وهذا الاسناد كله كوفيون وعثام بالثاء المثلثة وسعير هو بضم السين المهملة
وآخره راء والخمس بكسر الخاء المعجمة واسكان الميم وبالسين المهملة وسعير وأبوه لا يعرف
لهما نظير ومغيرة وإبراهيم وعلقمة تابعيون وقد اعترض على هذا الاسناد وفيه أبو النضر عن أبي
سعيد المؤدب هو أبو النضر هاشم بن القاسم واسم أبي سعيد المؤدب محمد بن مسلم بن أبي
الوضاح واسم أبى الوضاح المثنى وكان يؤدب المهدى وغيره من الخلفاء وفيه ابن أخي ابن شهاب
156

وهو محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب أبو عبد الله وفيه يعقوب
الدورقي تقدم بيانه في شرح المقدمة وفيه عبد الله بن الرومي هو عبد الله بن محمد وقيل ابن عمر
بغدادي وفيه جعفر بن برقان بضم الموحدة وبالقاف تقدم بيانه في المقدمة والله أعلم وفى
ألفاظ المتن حتى يقولوا الله خلق كل شئ هكذا هو في بعض الأصول يقولوا بغير نون وفى بعضها
يقولون بالنون وكلاهما صحيح واثبات النون مع الناصب لغة قليلة ذكرها جماعة من محققي
النحويين وجاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة كما ستراها في مواضعها إن شاء الله تعالى والله أعلم
باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار
وحرم عليه الجنة فقال له رجل وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وان قضيب من أراك)
157

وفى الرواية الأخرى (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله
تعالى وهو عليه غضبان) وفى الرواية الأخرى (عن الأشعث بن قيس كانت بيني وبين رجل أرض
باليمن فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل لك بينة فقلت لا قال فيمينه قلت اذن يحلف
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ
158

مسلم هو فيها فاجر لقى الله تعالى وهو عليه غضبان) وفى الرواية الأخرى (جاء رجل من حضرموت
ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبني
على أرض لي كانت لأبى فقال الكندي هي أرضى في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي
صلى الله عليه وسلم للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمين قال يا رسول الله ان الرجل فاجر
لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله تعالى
وهو عنه معرض) أما أسماء الباب ولغاته ففيه مولى الحرقة بضم الحاء وفتح الراء وهي
بطن من جهينة تقدم بيانه مرات وفيه معبد بن كعب السلمي بفتح السين واللام منسوب إلى بنى
سلمة بكسر اللام من الأنصار وفى النسب بفتح اللام على المشهور عند أهل العربية وغيرهم وقيل
يجوز كسر اللام في النسب أيضا وفيه عبد الله بن كعب بن أبي أمامة الحارثي وفى الرواية
159

الأخرى سمعت عبد الله بن كعب يحدث أن أبا أمامة الحارثي حدثه اعلم أن أبا أمامة هذا ليس هو
أبا أمامة الباهلي صدى بن عجلان المشهور بل هذا غيره واسم هذا اياس بن ثعلبة الأنصاري
الحارثي من بنى الحرث ابن الخزرج وقيل إنه بلوى وهو حليف بنى حارثة وهو ابن أخت أبى
بردة بن نيار هذا هو المشهور في اسمه وقال أبو حاتم الرازي اسمه عبد الله بن ثعلبة ويقال ثعلبة
ابن عبد الله ثم اعلم أن هنا دقيقة لابد من التنبيه عليها وهي أن الذين صنفوا في أسماء الصحابة
رضي الله عنهم ذكر كثير منهم أن أبا أمامة هذا الحارثي رضي الله عنه توفى عند انصراف النبي
صلى الله عليه وسلم من أحد فصلى عليه ومقتضى هذا التاريخ أن يكون هذا الحديث الذي رواه
مسلم منقطعا فان عبد الله بن كعب تابعي فكيف يسمع من توفى عام أحد في السنة الثالثة من
الهجرة ولكن هذا النقل في وفاة أبى أمامة ليس بصحيح فإنه صح عن عبد الله بن كعب أنه
قال حدثني أبو أمامة كما ذكره مسلم في الرواية الثانية فهذا تصريح بسماع عبد الله بن كعب التابعي
منه فبطل ما قيل في وفاته ولو كان ما قيل في وفاته صحيحا لم يخرج مسلم حديثه ولقد أحسن
الإمام أبو البركات الجزري المعروف بابن الأثير حيث أنكر في كتابه معرفة الصحابة رضي الله عنهم
هذا القول في وفاته والله أعلم وفيه وان قضيب من أراك هكذا هو في بعض
الأصول أو أكثرها وفى كثير منها وان قضيبا على أنه خبر كان المحذوفة أو أنه مفعول لفعل
محذوف تقديره وان اقتطع قضيبا وفيه من حلف على يمين صبر هو بإضافة يمين إلى صبر
ويمين الصبر هي التي يحبس الحالف نفسه عليها وقد تقدم بيانها في باب غلظ تحريم قتل
الانسان نفسه وفيه قول صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر
أي متعمد الكذب وتسمى هذه اليمين الغموس وفيه قوله اذن يحلف يجوز بنصب الفاء
ورفعها وذكر الإمام أبو الحسن بن خروف في شرح الجمل أن الرواية فيه برفع الفاء وفيه قوله
صلى الله عليه وسلم شاهداك أو يمينه معناه لك ما يشهد به شاهداك أو يمينه وفيه حضرموت
بفتح الحاء المهملة واسكان الضاد المعجمة وفتح الراء والميم وفيه قول مسلم (حدثني زهير
160

ابن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن أبي الوليد قال زهير حدثنا هشام بن عبد الملك)
هشام هو أبو الوليد وفيه قوله (انتزى على أرضى في الجاهلية) معناه غلب عليها واستولى
والجاهلية ما قبل النبوة لكثرة جهلهم وفيه (امرؤ القيس بن عابس وربيعة بن عيدان) وأما
عابس فبالموحدة والسين المهملة وأما عيدان فقد ذكر مسلم أن زهيرا وإسحاق اختلفا في
ضبطه وذكر القاضي عياض الأقوال فيه واختلاف الرواة فقال هو بفتح العين وبياء مثناة
من تحت هذا صوابه وكذا هو في رواية إسحاق وأما رواية زهير فعبدان بكسر العين وبباء
موحدة قال القاضي كذا ضبطناه في الحرفين عن شيوخنا قال ووقع عند ابن الحذاء عكس
ما ضبطناه فقال في رواية زهير بالفتح والمثناة وفى رواية إسحاق بالكسر والموحدة قال الجياني
وكذا هو في الأصل عن الجلودي قال القاضي والذي صوبناه أولا هو قول الدارقطني وعبد الغنى بن
سعيد وأبى نصر بن ماكولا وكذا قاله ابن يونس في التاريخ هذا كلام القاضي وضبطه جماعة من الحفاظ
منهم الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي عبدان بكسر العين والموحدة وتشديد الدال والله أعلم
وأما أحكام الباب فقوله صلى الله عليه وسلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه إلى آخره
فيه لطيفة وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم حق امرئ يدخل فيه من حلف على غير مال كجلد
الميتة والسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال
كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك وأما قوله صلى الله عليه وسلم فقد أوجب
الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة ففيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره أحدهما
أنه محمول على المستحل لذلك إذا مات على ذلك فإنه يكفر ويخلد في النار والثاني معناه فقد
161

استحق النار ويجوز العفو عنه وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين وأما تقييده
صلى الله عليه وسلم بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي بل معناه أن هذا الوعيد
الشديد وهو انه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم وأما الذمي فاقتطاع حقه
حرام لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة هذا كله على مذهب من يقول
بالمفهوم وأما من لا يقول به فلا يحتاج إلى تأويل وقال القاضي عياض رحمه الله تخصيص المسلم
لكونهم المخاطبين وعامة المتعاملين في الشريعة لا أن غير المسلم بخلافه بل حكمه حكمه في ذلك
والله أعلم ثم إن هذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة أما من تاب فندم على فعله
ورد الحق إلى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الاثم والله أعلم وفى هذا
الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير أن حكم الحاكم لا يبيح للانسان ما لم يكن
له خلافا لأبى حنيفة رحمه الله تعالى وفيه بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين وأنه لا فرق بين قليل
الحق وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم وان قضيب من أراك وأما قوله صلى الله عليه وسلم
من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع فالتقييد بكونه فاجرا لا بد منه ومعناه هو آثم
ولا يكون آثما الا إذا كان متعمدا عالما بأنه غير محق وأما قوله صلى الله عليه وسلم لقى
الله تعالى وهو عليه غضبان وفى الرواية الأخرى وهو عنه معرض فقال العلماء الاعراض
والغضب والسخط من الله تعالى هو ارادته ابعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته وتعذيبه وانكار
فعله وذمه والله أعلم وأما حديث الحضرمي والكندي ففيه أنواع من العلوم ففيه أن صاحب
اليد أولى من أجنبي يدعى عليه وفيه أن المدعى عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر وفيه أن البينة تقدم
على اليد ويقضى لصاحبها بغير يمين وفيه أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل وتسقط
عنه المطالبة بها وفيه ان أحد الخصمين إذا قال لصاحبه انه ظالم أو فاجر أو نحوه في حال
162

الخصومة يحتمل ذلك منه وفيه أن الوارث إذا ادعى شيئا لمورثه وعلم الحاكم أن مورثه مات
ولا وارث له سوى هذا المدعى جاز له الحكم به ولم يكلفه حال الدعوى بينة على ذلك وموضع
الدلالة أنه قال غلبني على أرض لي كانت لأبى فقد أقر بأنها كانت لأبيه فلولا علم النبي
صلى الله عليه وسلم بأنه ورثها وحده لطالبه بينة على كونه وارثا ثم ببينة أخرى على كونه محقا في
دعواه على خصمه فان قال قائل قوله صلى الله عليه وسلم شاهداك معناه شاهداك على ما تستحق
به انتزاعها وإنما يكون ذلك بأن يشهدا بكونه وارثا وحده وأنه ورث الدار فالجواب أن
هذا خلاف الظاهر ويجوز أن يكون مرادا والله أعلم
باب دليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق
(كان القاصد مهدر الدم حقه وان قتل كان في النار)
(وأن من قتل دون ماله فهو شهيد)
فيه (أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت ان جاء رجل
يريد أخذ مالي فلا تعطه مالك قال أرأيت ان قاتلني قال قاتله قال أرأيت ان قتلني قال فأنت
شهيد قال أرأيت ان قتلته قال هو في النار) أما ألفاظ الباب فالشهيد قال النضر بن شميل سمى
بذلك لأنه حي لأن أرواحهم شهدت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها الا يوم القيامة وقال
163

ابن الأنباري لأن الله تعالى وملائكته عليهم السلام يشهدون له بالجنة فمعنى شهيد مشهود له
وقيل سمى شهيدا لأنه يشهد عند خروج روحه ماله من الثواب والكرامة وقيل لأن ملائكة الرحمة
يشهدونه فيأخذون روحه وقيل لأنه شهد له بالايمان وخاتمة الخير بظاهر حاله وقيل لأن
عليه شاهدا يشهد بكونه شهيدا وهو دمه فإنه يبعث وجرحه يثعب دما وحكى الأزهري وغيره
قولا آخر أنه سمى شهيدا لكونه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم وعلى هذا القول لا اختصاص
له بهذا السبب واعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام أحدها المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب
القتال فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة وفى أحكام الدنيا وهو أنه لا يغسل ولا يصلى
عليه والثاني شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا وهو المبطون والمطعون وصاحب الهدم ومن
قتل دون ماله وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيدا فهذا يغسل ويصلى عليه
وله في الآخرة ثواب الشهداء ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول والثالث من غل في الغنيمة
وشبهه ممن وردت الآثار بنفي تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار فهذا له حكم الشهداء في
الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة والله أعلم وفى الباب في
الحديث الثاني (تيسروا للقتال فركب خالد بن العاصي) معنى تيسروا للقتال تأهبوا وتهيئوا وقوله
فركب كذا ضبطناه وفى بعض الأصول وركب بالواو وفى بعضها ركب من غير فاء ولا واو
وكله صحيح وقد تقدم أن الفصيح في العاصي اثبات الياء ويجوز حذفها وهو الذي يستعمله
معظم المحدثين أو كلهم وقوله بعد هذا (أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هو
164

بفتح التاء من علمت والله أعلم وأما أحكام الباب ففيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير
حق سواء كان المال قليلا أو كثيرا لعموم الحديث وهذا قول الجماهير من العلماء وقال
بعض أصحاب مالك لا يجوز قتله إذا طلب شيئا يسيرا كالثوب والطعام وهذا ليس بشئ
والصواب ما قاله الجماهير وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف وفى المدافعة عن النفس
بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم فلا تعطه فمعناه لا يلزمك أن تعطيه وليس المراد تحريم الاعطاء وأما قوله
صلى الله عليه وسلم في الصائل إذا قتل هو في النار فمعناه أنه يستحق ذلك وقد يجازى وقد
يعفى عنه الا أن يكون مستحيلا لذلك بغير تأويل فإنه يكفر ولا يعفى عنه والله أعلم
باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته
165

الا حرم الله عليه الجنة) وفى الرواية الأخرى (ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح
الا لم يدخل معهم الجنة) أما فقه الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم حرم الله عليه الجنة فيه
التأويلان المتقدمان في نظائره أحدهما أنه محمول على المستحيل والثاني حرم عليه دخولها مع
الفائزين السابقين ومعنى التحريم هنا المنع قال القاضي عياض رحمه الله معناه بين في التحذير
من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئا من أمرهم واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم
أو دنياهم فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده اما بتضيعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم
وأخذهم به واما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل متصد لا دخال داخلة
فيها أو تحريف لمعانيها أو اهمال حدودهم أو تضييع حقوقهم أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم
أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم قال القاضي وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك من
الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة والله أعلم وأما قول معقل رضي الله عنه لعبيد الله بن زياد
(لو علمت أن لي حياة ما حدثتك) وفى الرواية الأخرى (لولا أنى في الموت لم أحدثك فقال
166

القاضي عياض رحمه الله إنما فعل هذا لأنه علم قبل هذا انه ممن لا ينفعه الوعظ كما ظهر منه مع
غيره ثم خاف معقل من كتمان الحديث ورأي تبليغه أو فعله لأنه خافه لو ذكره في حياته لما
يهيج عليه هذا الحديث ويثبته في قلوب الناس من سوء حاله هذا كلام القاضي والاحتمال
الثاني هو الظاهر والأول ضعيف فان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يسقط باحتمال
عدم قبوله والله أعلم وأما ألفاظ الباب ففيه شيبان عن أبي الأشهب عن الحسن عن معقل بن
يسار رضي الله عنه وهذا الاسناد كله بصريون وفروخ غير مصروف لكونه عجميا تقدم مرات
وأبو الأشهب اسمه جعفر بن حيان بالمثناة العطاردي السعدي البصري وفيه عبيد الله بن زياد
هو زياد بن أبيه الذي يقال له زياد بن أبي سفيان وفيه أبو غسان المسمعي وقد تقدم بيانه في
المقدمة وأن غسان يصرف ولا يصرف والمسمعي بكسر الميم الأولى وفتح الثانية منسوب
إلى مسمع بن ربيعة واسم أبى غسان مالك بن عبد الواحد وفيه أبو المليح بفتح الميم واسمه عامر
وقيل زيد بن أسامة الهذلي البصري والله أعلم
باب رفع الأمانة والايمان من بعض القلوب
(وعرض الفتن على القلوب)
فيه قول حذيفة رضي الله عنه (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما
وأنا أنتظر الآخر إلى آخره) وفيه حديث حذيفة الآخر في عرض الفتن وأنا أذكر شرح
لفظهما ومعناهما على ترتيبهما ان شاء تعالى فأما الحديث الأولى فقال مسلم (حدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع قال وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو ماوية عن الأعمش
عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه) هذا الاسناد كله كوفيون وحذيفة مدايني كوفي
وقوله عن الأعمش عن زيد والأعمش مدلس وقد قدمنا أن المدلس لا يحتج بروايته إذا قال
167

عن وجوابه ما قدمناه مرات في الفصول وغيرها أنه ثبت سماع الأعمش هذا الحديث من زيد
من جهة أخرى فلم يضره بعد هذا قوله فيه عن وأما قول حذيفة رضي الله عنه حدثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم حديثين فمعناه حدثنا حديثين في الأمانة والا فروايات حذيفة كثيرة
في الصحيحين وغيرهما قال صاحب التحرير وعنى بأحد الحديثين قوله حدثنا أن الأمانة
نزلت في جذر قلوب الرجال وبالثاني قوله ثم حدثنا عن رفع الأمانة إلى آخره قوله (أن
الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال) أما الجذر فهو بفتح الجيم وكسرها لغتان وبالذال
المعجمة فيهما وهو الأصل قال القاضي عياض رحمه الله مذهب الأصمعي في هذا الحديث
فتح الجيم وأبو عمرو يكسرها وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكيف الذي كلف الله تعالى
به عباده والعهد الذي أخذه عليهم قال الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله في قول الله تعالى
ان عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الفرائض
التي افترضها الله تعالى على العباد وقال الحسن هو الدين والدين كله أمانة وقال أبو العالية الأمانة
ما أمروا به وما نهوا عنه وقال مقاتل الأمانة الطاعة قال الواحدي وهذا قول أكثر المفسرين قال
فالأمانة في قول جميعهم الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب والله أعلم
وقال صاحب التحرير الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى عرضنا الأمانة
وهي عين الايمان فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد قام حينئذ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد
عليه منها وجد في اقامتها والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيظل أثرها مثل الوكت
فهو بفتح الواو واسكان الكاف وبالتاء المثناة من فوق وهو الأثر اليسير كذا قاله الهروي وقال
غيره هو سواد يسير وقيل هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله
168

وأما (المجل) فبفتح الميم واسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب التحرير والمشهور الاسكان يقال
منه مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلا بفتحها أيضا ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلا باسكانها لغتان
مشهورتان وأمجلها غيرها قال أهل اللغة والغريب المجل هو التنفط الذي يصير في اليد من العمل
بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل وأما قوله (كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه
منتبرا وليس فيه شئ) فالجمر والدحرجة معروفان ونفط بفتح النون وكسر الفاء ويقال تنفط
بمعناه ومنتبرا مرتفعا وأصل هذه اللفظة الارتفاع ومنه المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه
وقوله نفط ولم يقل نفطت مع أن الرجل مؤنثة أما أن يكون ذكر نفط اتباعا للفظ الرجل وأما
أن يكون اتباعا لمعنى الرجل وهو العضو وأما قوله (ثم أخذ حصى فدحرجه) فهكذا
ضبطناه وهو ظاهر ووقع في أكثر الأصول ثم أخذ حصاة فدحرجه بافراد لفظ الحصاة
وهو صحيح أيضا ويكون معناه دحرج ذلك المأخوذ أو الشئ وهو الحصاة والله أعلم
قال صاحب التحرير معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا فإذا زال أول جزء
منها زل نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله فإذا زال شئ
آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول الا بعد مدة وهذه الظلمة فوق التي قبلها ثم شبه
زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر
يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى التنفط وأخذه الحصاة ودحرجته إياها
أراد بها زيادة البيان وايضاح المذكور والله أعلم وأما قول حذيفة رضي الله عنه (ولقد أتى
169

على زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا
ليردنه على ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع الا فلان وفلانا) فمعنى المبايعة هنا البيع
والشراء المعروفان ومراده انى كنت أعلم أن الأمانة لم ترتفع وأن في الناس وفاء بالعهود
فكنت أقدم على مبايعة من اتفق غير باحث عن حاله وثوقا بالناس وأمانتهم فإنه إن كان
مسلما فدينه وأمانته تمنعه من الخيانة وتحمله على أداء الأمانة وإن كان كافرا فساعيه وهو
الوالي عليه كان أيضا يقوم بالأمانة في ولايته فيستخرج حقي منه وأما اليوم فقد ذهبت
الأمانة فما بقي لي وثوق بمن أبايعه ولا بالساعي في أدائهما الأمانة فما أبايع الا فلانا وفلانا
يعنى أفرادا من الناس أعرفهم وأثق بهم قال صاحب التحرير والقاضي عياض رحمهما الله
وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمر الدين
قالا وهذا خطأ من قاله وفى هذا الحديث مواضع تبطل قوله منها قوله ولئن كان
نصرانيا أو يهوديا ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يعاقد على شئ من أمور الدين والله أعلم
وأما الحديث الثاني في عرض الفتن ففي اسناده سليمان بن حيان بالمثناة وربعي بكسر الراء
وهو ابن حراش بكسر الحاء المهملة وقوله (فتنة الرجل في أهله وجاره تكفرها الصلاة
والصيام والصدقة) قال أهل اللغة أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار
170

قال القاضي ثم صارت في عرف الكلام لكل امر كشفه الاختبار عن سوء قال أبو زيد فتن
الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة وفتنة الرجل في أهله
وماله وولده ضروب من فرط محبته لهم وشحه عليهم وشغله بهم عن كثير من الخير كما قال
تعالى أموالكم وأولادكم فتنة أو لتفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم
فإنه راع لهم ومسئول عن رعيته وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا فهذه كلها فتن تقتضي
المحاسبة ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات كما قال تعالى الحسنات يذهبن السيئات وقوله
(التي تموج كما يموج البحر) أي تضطرب ويدفع بعضها بعضا وشبهها بموج البحر لشدة عظمها
وكثرة شيوعها وقوله (فأسكت القوم) هو بقطع الهمزة المفتوحة قال جمهور أهل اللغة
سكت وأسكت لغتان بمعنى صمت وقال الأصمعي سكت صمت وأسكت أطرق وإنما سكت
القوم لأنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة وإنما حفظوا النوع الأول وقوله (لله
أبوك) كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها فان الإضافة إلى العظيم تشريف ولهذا يقال بيت الله
وناقة الله قال صاحب التحرير فإذا وجد من الولد ما يحمد قيل له لله أبوك حيث أتى بمثلك وقوله
صلى الله عليه وسلم (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا) هذان الحرفان مما
اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه أظهرها وأشهرها عودا بضم العين وبالدال المهملة
والثاني بفتح العين وبالدال المهملة أيضا والثالث بفتح العين وبالذال المعجمة ولم يذكر صاحب
التحرير غير الأول وأما القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم واختار الأول
أيضا قال واختار شيخنا أبو الحسين بن سراج فتح العين والدال المهملة قال ومعنى تعرض
أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها
به قال ومعنى عودا عودا أي تعاد وتكرر شيئا بعد شئ قال ابن سراج ومن رواه بالذال
المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها كما يقال غفرا غفرا وغفرانك أي نسألك أن تعيذنا من
171

ذلك وأن تغفر لنا وقال الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه تظهر على القلوب أي تظهر
لها فتنة بعد أخرى وقوله كالحصير أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى
قال القاضي وعلى هذا يترجح رواية ضم العين وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع
عودا أخذ آخر ونسجه فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان
الحصير على صانعها واحدا بعد واحد قال القاضي وهذا معنى الحديث عندي وهو الذي يدل
عليه سياق لفظه وصحة تشبيهه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فأي قلب أشربها نكت
فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء) معنى أشربها دخلت فيه دخولا
تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب ومنه قوله تعالى في قلوبهم العجل أي حب
العجل ومنه قولهم ثوب مشرب بحمرة أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها ومعنى نكت
نكتة نقط نقطة وهي بالتاء المثناة في آخره قال ابن دريد وغيره كل نقطة في شئ بخلاف لونه فهو نكت ومعنى
أنكرها ردها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم (حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة
ما دامت السماوات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
الا ما اشرب من هواه) قال القاضي عياض رحمه الله ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه لكن صفة أخرى
لشدته على عقد الايمان وسلامته من الخلل وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر
الأملس الذي لا يعلق به شئ وأما قوله مربادا فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا وهو
منصوب على الحال وذكر القاضي عياض رحمه الله خلافا في ضبطه وأن منهم من ضبطه كما
172

ذكرناه ومنهم من رواه مربئد بهمزة مكسورة بعد الباء قال القاضي وهذه رواية أكثر شيوخنا
وأصله أن لا يهمز ويكون مربد مثل مسود ومحمر وكذا ذكره أبو عبيد والهروي وصححه
بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سراج لأنه من أربد الا على لغة من قال احمأر بهمزة بعد الميم
لالتقاء الساكنين فيقال اربأد ومربئد والدال مشددة على القولين وسيأتي تفسيره وأما قوله
مجخيا فهو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم خاء معجمة مكسورة معناه مائلا كذا قاله الهروي
وغيره وفسره الراوي في الكتاب بقوله منكوسا وهو قريب من معنى المائل قال القاضي
عياض قال لي ابن سراج ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده بل هو وصف
آخر من أوصافه بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة ومثله بالكوز المجخى وبينه بقوله
لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا قال القاضي رحمه الله شبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز
المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه وقال صاحب التحرير معنى الحديث ان الرجل إذا تبع
هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة وإذا صار كذلك افتتن وزال
عنه نور الاسلام والقلب مثل الكوز فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شئ بعد ذلك
وأما قوله في الكتاب (قلت لسعد ما أسود مربادا فقال شدة البياض في سواد) فقال القاضي
عياض رحمه الله كان بعض شيوخنا يقول إنه تصحيف وهو قول القاضي أبى الوليد الكناني
قال أرى ان صوابه شبه البياض في سواد وذلك أن شدة البياض في سواد لا يسمى ربدة
وإنما يقال لها بلق إذا كان في الجسم وحورا إذا كان في العين والربدة إنما هو شئ من بياض
يسير يخالط السواد كلون أكثر النعام ومنه قيل للنعامة ربداء فصوابه شبه البياض لا شدة
البياض قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره الربدة لون بين السواد والغبرة وقال ابن دريد
الربدة لون أكدر وقال غيره هي ان يختلط السواد بكدرة وقال الحربي لون النعام بعضه
أسود وبعضه أبيض ومنه أربد لونه إذا تغير ودخله سواد وقال نفطويه المربد الملمع بسواد
173

وبياض ومنه تربد لونه أي تلون والله أعلم قوله حدثته ان بينك وبينها بابا مغلقا يوشك
ان يكسر قال عمر رضي الله عنه أكسرا لا أبا لك فلو أنه فتح لعله كان يعاد أما قوله إن بينك
وبينها بابا مغلقا فمعناه ان تلك الفتن لا يخرج شئ منها في حياتك وأما قوله يوشك فبضم الياء
وكسر الشين ومعناه يقرب وقوله أكسرا أي أيكسر كسرا فان المكسور لا يمكن اعادته بخلاف
المفتوح ولأن الكسر لا يكون غالبا الا عن اكراه وغلبة وخلاف عادة وقوله لا أبا لك قال
صاحب التحرير هذه كلمة تذكرها العرب للحث على الشئ ومعناها أن الانسان إذا كان له أب
وحزبه أمر ووقع في شدة عاونه أبوه ورفع عنه بعض الكل فلا يحتاج من الجد والاهتمام إلى
ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون فإذا قيل لا أبا لك فمعناه جد في هذا الأمر وشمر
وتأهب تأهب من ليس له معاون والله أعلم قوله وحدثته ان ذلك الباب رجل يقتل أو يموت
حديثا ليس بالأغاليط أما الرجل الذي يقتل فقد جاء مبينا في الصحيح أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقوله يقتل أو يموت يحتمل أن يكون حذيفة رضي الله عنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
174

هكذا على الشك والمراد به الابهام على حذيفة وغيره ويحتمل أن يكون حذيفة علم أنه يقتل
ولكنه كره أن يخاطب عمر رضي الله عنه بالقتل فان عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه هو الباب
كما جاء مبينا في الصحيح أن عمر كان يعلم من الباب كما يعلم أن قبل غد الليلة فاتى حذيفة رضي الله عنه
بكلام يحصل منه الغرض مع أنه ليس اخبارا لعمر بأنه يقتل وأما قوله حديثا ليس بالأغاليط
فهي جمع أغلوطة وهي التي يغالط بها فمعناه حدثته حديثا صدقا محققا ليس هو من صحف
الكتابيين ولا من اجتهاد ذي رأى بل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحاصل أن الحائل
بين الفتن والاسلام عمر رضي الله عنه وهو الباب فما دام حيا لا تدخل الفتن فإذا مات دخلت
الفتن وكذا كان والله أعلم وأما قوله في الرواية الأخرى عن ربعي قال لما قدم حذيفة من عند
عمر رضي الله عنهما جلس فحدثنا فقال إن أمير المؤمنين أمس لما جلست إليه سأل أصحابه
أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن إلى آخره فالمراد بقوله أمس الزمان
الماضي لا أمس يومه وهو اليوم الذي يلي يوم تحديثه لأن مراده لما قدم حذيفة الكوفة
في انصرافه من المدينة من عند عمر رضي الله عنهما وفى أمس ثلاث لغات قال الجوهري
أمس اسم حرك آخره لالتقاء الساكنين واختلف العرب فيه فأكثرهم يبنيه على الكسر
معرفة ومنهم من يعربه معرفة وكلهم يعربه إذا دخلت عليه الألف واللام أو صيره نكرة
أو أضافة تقول مضى الأمس المبارك ومضى أمسنا وكل غد صائر أمسا وقال سيبويه جاء
في الشعر مذ أمس بالفتح هذا كلام الجوهري وقال الأزهري قال الفراء ومن العرب من
يخفض الأمس وأن ادخل عليه الألف واللام والله أعلم
باب بيان ان الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا
(وأنه يأرز بين المسجدين)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الاسلام غربيا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء
175

وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية في جحرها) وفى الرواية الأخرى (ان الايمان
ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أما ألفاظ الباب ففيه أبو حازم عن أبي هريرة
واسم أبى حازم هذا سلمان الأشجعي مولى عزة الأشجعية وتقدم ان اسم أبي هريرة عبد الرحمن
ابن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولا وقوله صلى الله عليه وسلم بدأ الاسلام غريبا كذا
ضبطناه بدأ بالهمز من الابتداء وطوبى فعلى من الطيب قاله الفراء قال وإنما جاءت الواو
لضمة الطاء قال وفيها لغتان تقول العرب طوباك وطوبى لك وأما معنى طوبى فاختلف
المفسرون في معنى قوله تعالى لهم وحسن مآب فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
معناه فرح وقرة عين وقال عكرمة نعم ما لهم وقال الضحاك غبطة لهم وقال قتادة حسنى لهم
وعن قتادة أيضا معناه أصابوا خيرا وقال إبراهيم خير لهم وكرامة وقال ابن عجلان دوام الخير
وقيل الجنة وقيل شجرة في الجنة وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث والله أعلم وفى
176

الاسناد شبابة بن سوار فشبابة بالشين المعجمة المفتوحة وبالباء الموحدة المكررة وسوار
بتشديد الواو وشبابة لقب واسمه مروان وقد تقدم بيانه وفيه عاصم بن محمد العمرى بضم
العين وهو عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وقوله
صلى الله عليه وسلم وهو يأرز بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة ثم زاي معجمة هذا هو
المشهور وحكاه صاحب المطالع مطالع الأنوار عن أكثر الرواة قال وقال أبو الحسين بن
سراج ليأرز بضم الراء وحكى القابسي بفتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع هذا هو المشهور عند أهل
اللغة والغريب وقيل في معناه غير هذا مما لا يظهر وقوله صلى الله عليه وسلم بين المسجدين
أي مسجدي مكة والمدينة وفى الاسناد الآخر خبيب بن عبد الرحمن وهو بضم الخاء المعجمة
وتقدم بيانه والله أعلم وأما معنى الحديث فقال القاضي عياض رحمه الله في قوله غريبا روى
ابن أبي أويس عن مالك رحمه الله أن معناه في المدينة وأن الاسلام بدأ بها غريبا وسيعود
إليها قال القاضي وظاهر الحديث العموم وأن الاسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة
ثم انتشر وظهر ثم سيلحقه النقص والاخلال حتى لا يبقى الا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ وجاء
في الحديث تفسير الغرباء وهم النزاع من القبائل قال الهروي أراد بذلك المهاجرين الذين
هجروا أوطانهم إلى الله تعالى قال القاضي وقوله صلى الله عليه وسلم وهو يأرز إلى المدينة معناه
أن الايمان أولا وآخرا بهذه الصفة لأنه في أول الاسلام كان كل من خلص ايمانه وصح
اسلامه أتى المدينة اما مهاجرا مستوطنا واما متشوقا إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومتعلما منه ومتقربا ثم بعده هكذا في زمن الخلفاء كذلك ولأخذ سيرة العدل منهم والاقتداء
بجمهور الصحابة رضوان الله عليهم فيها ثم من بعدهم من العلماء الذين كانوا سرج الوقت وأئمة
الهدى لأخذ السنن المنتشرة بها عنهم فكان كل ثابت الايمان منشرح الصدر به يرحل إليها ثم
بعد ذلك في كل وقت إلى زماننا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بمشاهده وآثاره وآثار
أصحابه الكرام فلا يأتها الا مؤمن هذا كلام القاضي والله أعلم بالصواب
177

باب ذهاب الايمان آخر الزمان فيه قوله صلى الله عليه وسلم
(لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وفى الرواية الأخرى (لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) أما معنى الحديث فهو أن القيامة إنما تقوم على شرار الخلق
كما جاء في الرواية الأخرى (وتأتي الريح من قبل اليمن فتقبض أرواح المؤمنين عند قرب الساعة)
وقد تقدم قريبا في باب الريح التي تقبض أرواح المؤمنين بيان هذا والجمع بينه وبين قوله
صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة) وأما ألفاظ الباب
ففيه عبد بن حميد قيل اسمه عبد الحميد وقد تقدم بيانه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم على
أحد يقول الله الله هو برفع اسم الله تعالى وقد يغلط فيه بعض الناس فلا يرفعه واعلم أن الرويات
كلها متفقة على تكرير اسم الله تعالى في الروايتين وهكذا هو في جميع الأصول قال القاضي
عياض رحمه الله وفى رواية ابن أبي جعفر يقول لا الله الا الله والله سبحانه وتعالى أعلم
باب جواز الاستسرار بالايمان للخائف
قال مسلم رحمه الله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب واللفظ
لأبي كريب قالوا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال كنا مع رسول الله
178

صلى الله عليه وسلم فقال أحصوا لي كم يلفظ الاسلام فقلنا يا رسول الله أتخاف علينا ونحن
ما بين الستمائة إلى السبعمائة قال إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا قال فابتلينا حتى جعل الرجل
منا لا يصلى الا سرا) هذا الاسناد كله كوفيون وأما متنه فقوله صلى الله عليه وسلم (أحصوا)
معناه عدوا وقد جاء في رواية البخاري اكتبوا وقوله صلى الله عليه وسلم (كم يلفظ الاسلام)
هو بفتح الياء المثناة من تحت والاسلام منصوب مفعول يلفظ باسقاط حرف الجر أي يلفظ بالاسلام
ومعناه كم عدد من يتلفظ بكلمة الاسلام وكم هنا استفهامية ومفسرها محذوف وتقديره كم شخصا
يلفظ بالاسلام وفى بعض الأصول تلفظ بتاء مثناة من فوق وفتح اللام والفاء المشددة وفى بعض
الروايات للبخاري وغيره اكتبوا من يلفظ بالاسلام فكتبنا وفى رواية النسائي وغيره أحصوا
لي من كان يلفظ بالاسلام وفى رواية أبى يعلى الموصلي أحصوا كل من تلفظ بالاسلام وأما قوله
ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة فكذا وقع في مسلم وهو مشكل من جهة العربية وله وجه وهو أن يكون
مائة في الموضعين منصوبا على التمييز على قول بعض أهل العربية وقيل أن مائة في الموضعين
مجرورة على أن تكون الألف واللام زائدتين فلا اعتداد بدخولهما ووقع في رواية غير مسلم
ستمائة إلى سبعمائة وهذا ظاهر لا اشكال فيه من جهة العربية ووقع في رواية البخاري فكتبنا
له ألفا وخمسمائة فقلنا تخاف ونحن ألف وخمسمائة وفى رواية للبخاري أيضا فوجدناهم خمسمائة وقد
يقال وجه الجمع بين هذه الألفاظ أن يكون قولهم ألف وخمسمائة المراد به النساء والصبيان والرجال
ويكون قولهم ستمائة إلى سبعمائة الرجل خاصة ويكون خمسمائة المراد به المقاتلون ولكن
هذا الجواب باطل برواية البخاري في أواخر كتاب السير في باب كتابة الامام الناس قال فيها
فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل والجواب الصحيح إن شاء الله تعالى أن يقال لعلهم أرادوا بقولهم
ما بين الستمائة إلى السبعمائة رجال المدينة خاصة وبقولهم فكتبنا له ألفا وخمسمائة هم مع المسلمين
حولهم وأما قوله ابتلينا فجعل الرجل لا يصلى الا سرا فلعله كان في بعض الفتن التي جرت
179

بعد النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يخفى نفسه ويصلى سرا مخافة من الظهور والمشاركة
في الدخول في الفتنة والحروب والله أعلم
باب تألف قلب من يخاف على ايمانه لضعفه
(والنهى عن القطع بالايمان من غير دليل قاطع)
فيه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أما ألفاظه فقوله (قسم رسول صلى الله عليه وسلم
قسما) هو بفتح القاف وقوله صلى الله عليه وسلم (أو مسلم) هو باسكان الواو وقوله صلى الله عليه وسلم
(مخافة أن يكبه الله في النار) يكبه بفتح الياء يقال أكب الرجل وكبه الله وهذا بناء غريب فان
العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة فيعدى بالهمزة وهنا عكسه والضمير في يكبه يعود على المعطى
أي أتألف قلبه بالاعطاء مخافة من كفره إذا لم يعط وقوله (أعطى رهطا) أي جماعة وأصله الجماعة
دون العشرة وقوله (وهو أعجبهم إلى) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي وقوله (انى لأراه
180

مؤمنا) هو بفتح الهمزة من لأواه أي لأعلمه ولا يجوز ضمها فإنه قال غلبني ما أعلم منه ولأنه راجع
النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ولو لم يكن جازما باعتقاده لما كرر المراجعة وقوله عن
صالح عن ابن شهاب قال حدثني عامر بن سعد هؤلاء ثلاثة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهو
من رواية الأكابر عن الأصاغر فان صالحا أكبر من الزهري وأما فقهه ومعانيه ففيه الفرق
بين الاسلام والايمان وفى هذه المسألة خلاف وكلام طويل وقد تقدم بيان هذه المسألة
وايضاح شرحها في أول كتاب الايمان وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم إن الاقرار باللسان
لا ينفع الا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب خلافا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم يكفي الاقرار
وهذا خطأ ظاهر يراه اجماع المسلمين والنصوص في اكفار المنافقين وهذه صفتهم وفيه
الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما ليس بمحرم وفيه مراجعة المسؤول في الأمر الواحد وفيه تنبيه
المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة وفيه ان الفاضل لا يقبل ما يشار عليه به مطلقا بل يتأمله
فإن لم تظهر مصلحته لم يعمل به وفيه الأمر بالتثبت وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه وفيه أن
الامام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين
الا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم وهذا مجمع عليه عند أهل السنة وأما قوله
صلى الله عليه وسلم أو مسلما فليس فيه انكار كونه مؤمنا بل معناه النهى عن القطع بالايمان وان لفظة
الاسلام أولى به فان الاسلام معلوم بحكم الظاهر وأما الايمان فباطن لا يعلمه الا الله تعالى
وقد زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل لم يكن مؤمنا وليس كما زعم
بل فيه إشارة إلى ايمانه فان النبي صلى الله عليه وسلم قال في جوابه سعد (اني لأعطي الرجل وغيره
181

أحب إلى منه) معناه أعطى من أخاف عليه لضعف ايمانه ان يكفر وأدع غيره ممن هو أحب إلى
منه لما أعلمه من طمأنينة قلبه وصلابة أيمانه وأما قول مسلم رحمه الله في أول الباب (حدثنا أبن
أبى عمر قال حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر) فقال أبو علي الغساني قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي
هذا الحديث إنما يرويه سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري قاله الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن
ومحمد بن الصباح الجرجاني كلهم عن سفيان عن معمر عن الزهري باسناده وهذا هو المحفوظ
عن سفيان وكذلك قال أبو الحسن الدارقطني في كتابه الاستدراكات قلت وهذا الذي قاله
هؤلاء في هذا الاسناد قد يقال لا ينبغي أن يوافقوا عليه لأنه يحتمل أن سفيان سمعه من الزهري
مرة وسمعه من معمر عن الزهري مرة فرواه على الوجهين فلا يقدح أحدهما في الآخر ولكن
انضمت أمور اقتضت ما ذكروه منها أن سفيان مدلس وقد قال عن ومنها أن أكثر أصحابه رووه
عن معمر وقد يجاب عن هذا بما قدمناه من أن مسلما رحمه الله لا يروى عن مدلس قال عن
الا أن يثبت انه سمعه ممن عنعن عنه وكيف كان فهذا الكلام في الاسناد لا يؤثر في المتن فإنه
صحيح على كل تقدير متصل والله أعلم
182

باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بالشك من إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال أرني
كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى
ركن شديد ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) اختلف العلماء في معنى نحن
أحق بالشك من إبراهيم على أقوال كثيرة أحسنها وأصحها ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزني صاحب
الشافعي وجماعات من العلماء معناه ان الشك مستحيل في حق إبراهيم فان الشك في احياء الموتى
لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أنى لم أشك فاعلموا ان إبراهيم
عليه السلام لم يشك وإنما خص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لكون الآية قد يسبق إلى بعض
الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك وإنما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعا وأدبا
أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم قال صاحب التحرير قال جماعة من العلماء لما
نزل قول الله تعالى تؤمن قالت طائفة شك إبراهيم ولم يشك نبينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
نحن أحق بالشك منه فذكر نحو ما قدمته ثم قال ويقع لي فيه معنيان أحدهما أنه خرج مخرج
العادة في الخطاب فان من أراد المدافعة عن انسان قال للمتكلم فيه ما كنت قائلا لفلان أو فاعلا
معه من مكروه فقله لي وافعله معي ومقصودة لا تقل ذلك فيه والثاني أن معناه أن هذا الذي
تظنونه شكا أنا أولى به فإنه ليس بشك وإنما هو طلب لمزيد اليقين وقيل غير هذا من الأقوال
183

فنقصر على هذه لكونها أصحها وأوضحها والله أعلم وأما سؤال إبراهيم صلى الله عليه وسلم فذكر
العلماء في سببه أوجها أظهرها أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الاحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالا فان
علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة بخلاف علم المعاينة فإنه ضروري وهذا مذهب
الامام أبى منصور الأزهري وغيره والثاني أراد اختبار منزلته عند ربه في إجابة دعائه وعلى هذا
قالوا معنى قوله تعالى تؤمن أي تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك والثالث
سأل زيادة يقين وان لم يكن الأول شكا فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين فان بين العلمين
تفاوتا قال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين
تمكنا الرابع انه لما احتج على المشركين بأن ربه سبحانه وتعالى يحيي ويميت طلب ذلك
منه سبحانه وتعالى ليظهر دليله عيانا وقيل أقوال أخر كثيرة ليست بظاهرة قال الإمام أبو
الحسن الواحدي رحمه الله اختلفوا في سبب سؤاله فالأكثرون على أنه رأى جيفة
بساحل البحر يتناولها السباع والطير ودواب البحر فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك
الجيفة وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه ولم يكن شاكا في إحياء الموتى ولكن أحب
رؤية ذلك كما أن المؤمنين يحبون أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم والجنة ويحبون رؤية الله
تعالى مع الايمان بكل ذلك وزوال الشكوك عنه قال العلماء والهمزة في قوله تعالى تؤمن
همزة اثبات كقول جرير ألستم خير من ركب المطايا والله أعلم وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم
ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد فالمراد بالركن الشديد هو الله سبحانه وتعالى
184

فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها ومعنى الحديث والله أعلم أن لوطا صلى الله عليه وسلم لما
خاف على أضيافه ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد حزنه عليهم فغلب
ذلك عليه فقال في ذلك الحال لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوى إلى عشيرة تمنع
لمنعتكم وقصد لوط صلى الله عليه وسلم اظهار العذر عند أضيافه وانه لو استطاع دفع المكروه
عنهم بطريق ما لفعله وأنه بذل وسعه في اكرامهم والمدافعة عنهم ولم يكن ذلك اعراضا منه
صلى الله عليه وسلم عن الاعتماد على الله تعالى وإنما كان لما ذكرناه من تطيب قلوب
الأضياف ويجوز أن يكون نسي الالتجاء إلى الله تعالى في حمايتهم ويجوز أن يكون التجأ
فيما بينه وبين الله تعالى وأظهر للأضياف التألم وضيق الصدر والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (ولو لثبت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) فهو ثناء على
يوسف صلى الله عليه وسلم وبيان لصبره وتأنيه والمراد بالداعي رسول الملك الذي أخبر
الله سبحانه تعالى أنه قال به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال
النسوة اللاتي قطعن أيديهن فلم يخرج يوسف صلى الله عليه وسلم مبادرا إلى الراحة
ومفارقة السجن الطويل بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه
ولتظهر براءته عند الملك وغيره ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه ولا خجل من
يوسف ولا غيره فبين نبينا صلى الله عليه وسلم فضيلة يوسف في هذا وقوة نفسه في الخير
وكمال صبره وحسن نظره وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قاله تواضعا وايثارا
للابلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم والله أعلم وأما ما يتعلق بأسانيد
الباب ففيه مما تقدم بيانه المسيب والد سعيد وهو بفتح الياء على المشهور الذي قاله الجمهور
ومنهم من يكسرها وهو قوله أهل المدينة وفيه أو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف واسمه عبد
الله على المشهور وقيل اسمه إسماعيل وقل لا يعرف اسمه وفيه قول مسلم رحمه الله وحدثني
به إن شاء الله تعالى عبد الله بن أسماء هذا مما قد ينكره على مسلم من العلم عنده ولا خبرة لديه
لكون مسلم رحمه الله قال وحدثني به إن شاء الله تعالى فيقول كيف يحتج بشئ يشك فيه
وهذا خيال باطل من قائله فان مسلما رحمه الله لم يحتج بهذا الاسناد وإنما ذكره متابعة
واستشهادا وقد قدمنا أنهم يحتملون في المتابعات والشواهد مالا يحتملون في الأصول والله
185

تعالى أعلم وفيه أبو عبيد عن أبي هريرة واسم أبى عبيد هذا سعد بن عبيد المدني مولى
عبد الرحمن بن أزهر ويقال مولى عبد الرحمن بن عوف وفيه أبو أويس واسمه
عبد الله بن عبد الله بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني ومن ألفاظ الباب قوله قرأ الآية
حتى جازها وفى الرواية الأخرى معنى جازاها فرغ منها ومعنى أنجزها أتمها وفيه يوسف
وفيه ست لغات ضم السين وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه والله أعلم
باب وجوب الايمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
(إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (ما من نبي من الأنبياء الا قد أعطى من الآيات ما مثله آمن
عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله أي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة) وفى الرواية الأخرى (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي
ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من أصحاب النار) وفيه حديث (ثلاثة
يؤتون أجرهم مرتين) أما ألفاظ الباب فقوله صلى الله عليه وسلم ما مثله آمن عليه البشر
186

آمن بالمد وفتح الميم ومثله مرفوع وفيه قول مسلم حدثني يونس قال حدثنا ابن وهب قال
وأخبرني عمرو أن أبا يونس حدثه فقوله وأخبرني عمرو هو بالواو في أول وأخبرني وهي
واو حسنة فيها دقيقة نفيسة وفائدة لطيفة وذلك أن يونس سمع من ابن وهب أحاديث من
جملتها هذا الحديث وليس هو أولها فقال ابن وهب في روايته الحديث الأول أخبرني عمرو
بكذا ثم قال وأخبرني عمرو بكذا وأخبرني عمرو بكذا إلى آخر تلك الأحاديث فإذا روى
يونس عن ابن وهب غير الحديث الأول فينبغي أن يقول قال ابن وهب وأخبرني
عمرو فيأتي بالواو لأنه سمعه هكذا ولو حذفها لجاز ولكن الأولى الاتيان بها ليكون راويا
كما سمع والله أعلم وأما أبو يونس فاسمه سليم بن جبير وفيه (هشيم عن صالح بن صالح
الهمداني عن الشعبي قال رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال يا أبا عمرو) أما
هشيم فبضم الهاء وهو مدلس وقد قال عن صالح وقد قدمنا أن مثل هذا إذا كان
الصحيح محمول على أن هشيما ثبت سماعه لهذا الحديث من صالح وأما صالح فهو صالح
ابن صالح بن مسلم بن حيان ولقب حيان حي قاله أبو علي الغساني وغيره وأما الهمداني
فباسكان الميم وبالدال المهملة وأما الشعبي بفتح الشين فاسمه عامر وفى هذا الاسناد لطيفة
يتكرر مثلها وقد تقدم بيانها وهو أنه قال عن صالح عن الشعبي قال رأيت رجلا سأل الشعبي
وهذا الكلام ليس منتظما في الظاهر ولكن تقديره حدثنا صالح عن الشعبي قال رأيت رجلا سأل
الشعبي بحديث وقصة طويلة قال فيها صالح رأيت رجلا سأل الشعبي والله أعلم وفيه أبو بردة
187

عن أبي موسى اسم أبى بردة عامر وقيل الحرث واسم أبى موسى عبد الله بن قيس وفيه قوله
صلى الله عليه وسلم (فغذاها فأحسن غذاءها) أما الأول فبتخفيف الذال وأما الثاني فبالمد أما
معاني الحديث فالحديث الأول اختلف فيه على أقوال أحدها أن كل نبي أعطى من المعجزات
ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء فآمن به البشر وأما معجزتي العظيمة الظاهرة فهي القرآن
الذي لم يعط أحد مثله فلهذا قال أنا أكثرهم تابعا والثاني معناه أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه
تخييل بسحر وشبهة بخلاف معجزة غيري فإنه قد يخيل الساحر بشئ مما يقارب صورتها كما
خيلت السحرة في صورة عصا موسى صلى الله عليه وسلم والخيال قد يروج على بعض
العوام والقرق بين المعجزة والسحر والتخييل يحتاج إلى فكر ونظر وقد يخطئ الناظر فيعتقدهما
سواء والثالث معناه ان معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ولم يشاهدها الا
من حضرها بحضرتهم ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن المستمر إلى يوم القيامة مع
خرق العادة في أسلوبه وبلاغته واخباره بالمغيبات وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة
من مثله مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار مع اعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون
مع غير ذلك من وجوه اعجازه المعروفة والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعا علم من أعلام النبوة فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين ثم من الله
تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم حتى انتهى الامر واتسع الاسلام في المسلمين إلى هذه
الغاية المعروفة ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى والله أعلم وأما الحديث الثاني
ففيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وفى مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة
الإسلام فهو معذور وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح
والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي من هو موجود في
زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليهم الدخول في طاعته وإنما ذكر اليهودي والنصراني
تنبيها على من سواهما وذلك لأن اليهود النصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا
فغيرهم ممن لا كتاب له أولى والله أعلم وأما الحديث الثالث ففيه فضيلة من آمن من أهل الكتاب
188

بنبينا صلى الله عليه وسلم وأن له أجرين لايمانه بنبيه قبل النسخ والثاني لايمانه بنبينا صلى الله عليه وسلم
وفيه فضيلة العبد المملوك القائم بحقوق الله تعالى وحقوق سيدة وفضيلة من أعتق مملوكته
وتزوجها وليس هذا من الرجوع في الصدقة في شئ بل هو احسان إليها بعد احسان وقول الشعبي
(خذ هذا الحديث بغير شئ فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة) ففيه جواز قول
العالم مثل هذا تحريضا للسامع على حفظ ما قاله وفيه بيان ما كان السلف رحمهم الله عليه من الرحلة إلى
البلدان البعيدة في حديث واحد أو مسألة واحدة والله أعلم
باب بيان نزول عيسى بن مريم حاكما
(بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)
(واكرام الله تعالى هذه الأمة زادها الله شرفا وبيان الدليل على أن هذه الملة لا تنسخ)
(وانه لا تزال طائفة منها ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة)
فيه الأحاديث المشهورة فنذكر ألفاظها ومعانيها وأحكامها على ترتيبها فقوله صلى الله عليه وسلم
(ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حكما مقسطا فيكسر
189

الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) أما ليوشكن
فهو بضم الياء وكسر الشين ومعناه ليقربن وقوله فيكم أي في هذه الأمة وإن كان خطابا
لبعضها ممن لا يدرك نزوله وقوله صلى الله عليه وسلم (حكما) أي ينزل حاكما بهذه
الشريعة لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل هو حاكم من حكام هذه الأمة والمقسط
العادل يقال أقسط يقسط أقساطا فهو مقسط إذا عدل والقسط بكسر القاف العدل وقسط يقسط
قسطا بفتح القاف فهو قاسط إذا جار وقوله صلى الله عليه وسلم (فيكسر الصليب) معناه يكسره
حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل وقتل
الخنزير من هذا القبيل وفيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في
دار الكفر أو غيرها وتمكنا من قتله قتلناه وابطال لقول من شذ من أصحابنا وغيرهم فقال يترك
إذا لم يكن فيه ضراوة وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ويضع الجزية) فالصواب في معناه
أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار الا الاسلام ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل
الا الاسلام أو القتل هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى
وحكى القاضي عياض رحمه الله عن بعض العلماء معنى هذا ثم قال وقد يكون فيض المال هنا من
وضع الجزية وهو ضربها على جميع الكفرة فإنه لا يقاتله أحد فتضع الحرب أوزارها وانقياد
جميع الناس له اما بالاسلام واما بالقاء يد فيضع عليه الجزية ويضربها وهذا كلام القاضي وليس
بمقبول والصواب ما قدمناه وهو أنه لا يقبل منه الا الاسلام فعلى هذا قد يقال هذا خلاف حكم
الشرع اليوم فان الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا اكراهه على الاسلام وجوابه
ان هذا الحكم ليس بمستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل عيسى عليه السلام وقد أخبرنا
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخة وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ
بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ فان عيسى يحكم بشرعنا فدل على أن الامتناع من قبول
الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
(ويفيض المال) فهو بفتح الياء ومعناه يكثر وتنزل البركات وتكثر الخيرات بسبب العدل
190

وعدم التظالم وتقئ الأرض أفلاذ كبدها كما جاء في الحديث الآخر وتقل أيضا الرغبات لقصر
الآمال وعلمهم بقرب الساعة فان عيسى صلى الله عليه وسلم علم من أعلام الساعة والله أعلم
وأما قوله في الرواية الأخرى (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) فمعناه
والله أعلم أن الناس تكثر رغبتهم في الصلاة وسائر الطاعات لقصر آمالهم وعلمهم بقرب
القيامة وقلة رغبتهم في الدنيا لعدم الحاجة إليها وهذا هو الظاهر من معنى الحديث وقال القاضي
عياض رحمه الله معناه أن أجرها خير لمصليها من صدقته بالدنيا وما فيها لفيض المال حينئذ
وهوانه وقلة الشح وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد قال والسجدة هي السجدة بعينها أو تكون
عبارة عن الصلاة والله أعلم واما قوله (ثم يقول أبو هريرة اقرؤا ان شئتم من أهل الكتاب
الا ليؤمنن به قبل موته) ففيه دلالة ظاهرة على أن مذهب أبي هريرة في الآية أن
الضمير في موته يعود على عيسى عليه السلام ومعناها وما من أهل الكتاب يكون في زمن
عيسى عليه السلام الا من آمن به وعلم أنه عبد الله وابن أمته وهذا مذهب جماعة من المفسرين
وذهب كثيرون أو الأكثرون إلى أن الضمير يعود على الكتابي ومعناها وما من أهل الكتاب
أحد يحضره الموت الا آمن عند الموت قبل خروج روحه بعيسى صلى الله عليه وسلم وانه عبد
191

الله وابن أمته ولكن لا ينفعه هذا الايمان لأنه في حضرة الموت وحالة النزع وتلك الحالة
لا حكم لما يفعل أو يقال فيها فلا يصح فيها اسلام ولا كفر ولا وصية ولا بيع ولا عتق ولا
غير ذلك من الأقوال لقول الله تعالى التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر
أحدهم الموت قال إني تبت الآن وهذا المذهب أظهر فان الأول يخص الكتابي وظاهر القرآن
عمومه لكل كتابي في زمن عيسى وقبل نزله ويؤيد هذا قراءه من قرأ موتهم وقيل إن الهاء
في به يعود على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والهاء في موته تعود على الكتابي والله أعلم قوله
في الاسناد (عن عطاء بن ميناء) هو بكسر الميم بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم نون ثم ألف
ممدودة هذا هو المشهور وقال صاحب المطالع يمد ويقصر والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
(وليتركن القلاص فلا يسعى عليها) فالقلاص بكسر القاف جمع قلوص بفتحها
وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث من الرجال ومعناه أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها
لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب القيامة وإنما ذكرت القلاص لكونها
أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب وهو شبيه بمعنى قول الله عز وجل
العشار عطلت ومعنى لا يسعى عليها لا يعتنى بها أي يتساهل أهلها فيها ولا يعتنون بها هذا
هو الظاهر وقال القاضي عياض وصاحب المطالع رحمهما الله معنى لا يسعى عليها أي لا تطلب
زكاتها إذ لا يوجد من يقبلها وهذا تأويل باطل من وجوه كثيرة تفهم من هذا الحديث
وغيره بل الصواب ما قدمناه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولتذهبن الشحناء)
فالمراد به العداوة وقوله صلى الله عليه وسلم (وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) هو بضم العين
192

وفتح الواو وتشديد النون وإنما لا يقبله أحد لما ذكرنا من كثرة الأموال وقصر الآمال
وعدم الحاجة وقلة الرغبة للعلم بقرب الساعة وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تزال طائفة
من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) فقد قدمنا بيانه والجمع بينه وبين حديث
193

لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله وقوله (تكرمة الله هذه الأمة) هو بنصب تكرمة
على المصدر أو على أنه مفعول له والله أعلم
باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الايمان
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من
مغربها آمن الناس كلهم أجمعون لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت
194

في ايمانها خيرا أو وفى الرواية الأخرى (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض)
قال القاضي عياض رحمه الله هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين
من أهل السنة خلافا لما تأولته الباطنية وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر في
الشمس (مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) فهذا مما اختلف المفسرون فيه فقال جماعة
195

بظاهر الحديث قال الواحدي وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن
تطلع من مغربها وقال قتادة ومقاتل معناه تجرى إلى وقت لها وأجل لا تتعداه قال الواحدي
وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج وقال الكلبي تسير في
196

منازلها حتى تنتهى إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول منازلها واختار ابن قتيبة
هذا القول والله أعلم وأما سجود الشمس فهو بتميز وادراك بخلق الله تعالى فيها وفى
الاسناد عبد الحميد بن بيان الواسطي هو بباء موحدة ثم ياء مثناة من تحت وفى هذا الحديث
بقايا تأتى في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى حيث ذكره مسلم رحمه الله تعالى والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب
باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه الأحاديث المشهورة فنذكرها إن شاء الله تعالى على ترتيب ألفاظها ومعانيها فقوله في الاسناد
(أبو الطاهر بن السرح) هو بالسين والحاء المهملتين والسين مفتوحة قوله (ان عائشة رضي الله عنها
قالت كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة) هذا
الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فان عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية
فتكون قد سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابي وقد قدمنا في الفصول أن مرسل
الصحابي حجة عند جميع العلماء الا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني والله أعلم
وقولها رضي الله عنها (الرؤيا الصادقة) وفى رواية البخاري رحمه الله الرؤيا الصاحلة وهما بمعنى
واحد وفى من هنا قولان أحدهما أنها لبيان الجنس والثاني للتبعيض ذكرهما القاضي وقولها (فكان
لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح) قال أهل اللغة فلق الصبح وفرق الصبح بفتح الفاء
واللام والراء هو ضياؤه وإنما يقال هذا في الشئ الواضح البين قال القاضي رحمه الله وغيره من
197

العلماء إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها
قوى البشرية فبدئ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا وما جاء في الحديث
الآخر من رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة قولها (ثم حبب
إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى
أهله ويتزود ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق) أما الخلاء
فممدود وهو الخلوة وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله
حببت العزلة إليه صلى الله عليه وسلم لأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر
ويتخشع قلبه والله أعلم وأما الغار فهو الكهف والنقب في الجبل
وجمعه غيران والمغار والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار غوير وأما حراء فبكسر الحاء المهملة
وتخفيف الراء وبالمد وهو مصروف ومذكر هذا هو الصحيح وقال القاضي فيه لغتان التذكير
والتأنيث والتذكير أكثر فمن ذكره صرفه ومن أنثه لم يصرفه أراد البقعة أو الجهة التي فيها
الجبل قال القاضي وقال بعضهم فيه حرى بفتح الحاء والقصر وهذا ليس بشئ قال أبو عمر
الزاهد صاحب ثعلب وأبو سليمان الخطابي وغيرهما أصحاب الحديث والعوام يخطئون في حراء في
ثلاثة مواضع يفتحون الحاء وهي مكسورة ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف
وهي ممدودة وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى
والله أعلم وأما التحنث بالحاء المهملة والنون والثاء المثلة فقد فسره بالتعبد وهو تفسير
صحيح وأصل الحنث الاثم فمعنى يتحنث يتجنب الحنث فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث
ومثل يتحنث يتحرج ويتأثم أي يتجنب الحرج والاثم وأما قولها الليالي أولات العدد
فمتعلق يتحنث لا بالتعبد ومعناه يتحنث الليالي ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى فان
التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على القليل والكثير وهذا التفسير اعتراض بين كلام
198

عائشة رضي الله عنها وأما كلامها فيتحنث فيه الليالي أولات العدد والله أعلم وقولها فجئه
الحق أي جاءه الوحي بغتة فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي ويقال فجئه بكسر
الجيم وبعدها همزة مفتوحة ويقال فجأه بفتح الجيم والهمزة لغتان مشهورتان حكاهما
الجوهري وغيره قوله صلى الله عليه وسلم (ما أنا بقارئ) معناه لا أحسن القراءة فما
نافية هذا هو الصواب وحكى القاضي عياض رحمه الله فيها خلافا بين العلماء منهم من
جعلها نافية ومنهم من جعلها استفهامية وضعفوه بادخال الباء في الخبر قال القاضي ويصحح
قول من قال استفهامية رواية من روى ما أقرأ ويصح أن تكون ما في هذه الرواية أيضا نافية
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فغطني حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلني) أما غطني
فبالغين المعجمة والطاء المهملة ومعناه عصرني وضمني يقال غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه
وغمزه كله بمعنى واحد وأما الجهد فيجوز فتح الجيم وضمها لغتان وهو الغاية والمشقة
ويجوز نصب الدال ورفعها فعلى النصب بلغ جبريل منى الجهد وعلى الرفع بلغ الجهد منى
مبلغه وغايته وممن ذكر الوجهين في نصب الدال ورفعها صاحب التحرير وغيره وأما
أرسلني فمعناه أطلقني قال العلماء والحكمة في الغط شغله من الالتفات والمبالغة في أمره باحضار
قلبه لما يقول له وكرره ثلاثا مبالغة في التنبيه ففيه أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم
وأمره باحضار قلبه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ثم أرسلني فقال باسم ربك
الذي خلق أو هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن وهذا هو الصواب الذي عليه
الجماهير من السلف والخلف وقيل أوله أيها المدثر وليس بشئ وسنذكره بعد هذا في
199

موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى واستدل بهذا الحديث بعض من يقول إن بسم الله
الرحمن الرحيم ليست من القرآن في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا وجواب المثبتين لها
أنها لم تنزل أولا بل نزلت البسملة في وقت آخر كما نزل باقي السورة في وقت آخر قولها (ترجف
بوادره) بفتح الباء الموحدة ومعنى ترجف ترعد وتضطرب وأصله شدة الحركة قال أبو عبيد
وسائر أهل اللغة والغريب وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الانسان قوله
صلى الله عليه وسلم (زملوني زملوني) هكذا هو في الروايات مكرر مرتين ومعنى زملوني
غطوني بالثياب ولفوني بها وقولها فزملوه حتى ذهب عنه الورع هو بفتح الراء وهو الفزع قوله
صلى الله عليه وسلم (لقد خشيت على نفسي) قال القاضي عياض رحمه الله ليس هو بمعنى
الشك فيما أتاه من الله تعالى لكنه ربما خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر
على حمل أعباء الوحي فتزهق نفسه أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع
الصوت قبل لقاء الملك وتحققه رسالة ربه فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم فأما
منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك فيه ولا يخشى من تسلط
الشيطان عليه وعلى هذا الطريق يحمل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث هذا كلام القاضي
رحمه الله في شرح صحيح مسلم وذكر أيضا في كتابه الشفاء هذين الاحتمالين في كلام مبسوط
وهذا الاحتمال الثاني ضعيف لأنه خلاف تصريح الحديث لان هذا كان بعد غط الملك
واتيانه باقرأ باسم ربك خلق والله أعلم قولها (قالت له خديجة كلا أبشر فوالله
لا يخزيك الله أبدا والله انك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم
200

وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) أما قولها كلا فهي هنا كلمة نفى وابعاد وهذا أحد
معانيها وقد تأتى كلا بمعنى حقا وبمعنى ألا التي للتنبيه يستفتح بها الكلام وقد جاءت في القرآن
العزيز على أقسام وقد جمع الإمام أبو بكر بن الأنباري أقسامها ومواضعها في باب من كتابه
الوقف والابتداء وأما قولها لا يخزيك فهو بضم الياء وبالخاء المعجمة كذا هو في رواية
يونس وعقيل وقال معمر في روايته يحزنك بالحاء المهملة والنون ويجوز فتح الياء في أوله
وضمها وكلاهما صحيح والخزي الفضيحة والهوان وأما صلة الرحم فهي الاحسان إلى الأقارب
على حسب حال الواصل والموصول فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام
وغير ذلك وأما الكل فهو بفتح الكاف وأصله الثقل ومنه قوله تعالى وهو كل على مولاه
ويدخل في حمل الكل الانفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك وهو من الكلال وهو
الاعياء وأما قولها وتكسب المعدوم فهو بفتح التاء هذا هو الصحيح المشهور ونقله
القاضي عياض عن رواية الأكثرين قال ورواه بعضهم بضمها قال أبو العباس ثعلب
وأبو سليمان الخطابي وجماعات من أهل اللغة يقال كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا لغتان
أفصحها باتفاقهم كسبته بحذف الألف وأما معنى تكسب المعدوم فمن رواه بالضم فمعناه
تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه إياه تبرعا فحذف أحد المفعولين وقيل معناه تعطى
الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق وأما رواية الفتح فقيل
معناها كمعنى الضم وقيل معناها تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله
وكانت العرب تتمادح بكسب المال المعدوم لا سيما قريش وكان النبي صلى الله عليه وسلم
محظوظا في تجارته وهذا القول حكاه القاضي عن ثابت صاحب الدلائل وهو ضعيف أو
غلط وأي معنى لهذا القول في هذا الموطن الا أنه يمكن تصحيحه بأن يضم إليه زيادة فيكون
معناه تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم
كما ذكرت من حمل الكل وصلة الرحم وقرى الضيف والإعانة على نوائب الحق فهذا هو
201

الصواب في هذا الحرف وأما صاحب التحرير فجعل المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج
المعدم العاجز عن الكسب وسماه معدوما لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف في
المعيشة كتصرف غيره قال وذكر الخطابي أن صوابه المعدم بحذف الواو قال وليس كما قال
الخطابي بل ما رواه الرواة صواب قال وقيل معنى تكسب المعدوم أي تسعى في طلب عاجز
تنعشه والكسب هو الاستفادة وهذا الذي قاله صاحب التحرير وإن كان له بعض الاتجاه
كما حررت لفظه فالصحيح المختار ما قدمته والله أعلم وأما قولها وتقري الضيف فهو بفتح
التاء قال أهل اللغة يقال قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف مقصور وقراء بفتح القاف
والمد ويقال للطعام الذي يضيفه به قرى بكسر القاف مقصور ويقال لفاعله قار مثل قضى
فهو قاض وأما قولها وتعين على نوائب الحق فالنوائب جمع نائبة وهي الحادثة وإنما
قالت نوائب الحق لان النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر قال لبيد
نوائب من خير وشر كلاهما * فلا الخير ممدود ولا الشر لازب
قال العلماء رضي الله عنهم معنى كلام خديجة رضي الله عنها انك لا يصيبك مكروه لما جعل الله
فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل وذكرت ضروبا من ذلك وفى هذا دلالة على أن مكارم
الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء وفيه مدح الانسان في وجهه في بعض
الأحوال لمصلحة نظر أو فيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة
له وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها
وعظم فقهها والله أعلم قولها (وكان امرأ تنصر في الجاهلية) معناه صار نصرانيا والجاهلية
ما قبل رسالته صلى الله عليه وسلم سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالة والله أعلم قولها
(وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب)
هكذا هو في مسلم الكتاب العربي ويكتب بالعربية ووقع في أول صحيح البخاري يكتب
202

الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وكلاهما صحيح وحاصلهما أنه يمكن من
معرفة دين النصارى بحيث أنه صار يتصرف في الإنجيل فيكتب أي موضع شاء منه
بالعبرانية ان شاء وبالعربية ان شاء والله أعلم قولها (فقالت له خديجة رضي الله عنها أي
عم اسمع من ابن أخيك) وفى الرواية الأخرى (قالت خديجة أي ابن عم) هكذا هو في
الأصول في الأول عم وفى الثاني ابن عم وكلاهما صحيح وأما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة
كما ذكره أولا في الحديث فإنه ورقة بن نوفل بن أسد وهي خديجة بنت خويلد بن أسد وأما الأول فسمته
عما مجازا للاحترام وهذه عادة العرب في آداب خطابهم يخاطب الصغير الكبير بيا عم احتراما له ورفعا
لمرتبته ولا يحصل هذا الغرض بقولها يا ابن عم والله أعلم قوله (هذا الناموس الذي أنزل على موسى
صلى الله عليه وسلم) الناموس بالنون والسين المهملة وهو جبريل صلى الله عليه وسلم قال أهل
اللغة وغريب الحديث الناموس في اللغة صاحب سر الخير والجاسوس صاحب سر الشر ويقال
نمست السر بفتح النون والميم أنمسه بكسر الميم نمسا أي كتمته ونمست الرجل ونامسته
ساررته واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس واتفقوا على أنه المراد هنا يقال
الهروي سمى بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي وأما قوله الذي أنزل على موسى
صلى الله عليه وسلم فكذا هو في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور ورويناه في غير الصحيح نزل
على عيسى صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح قوله (يا ليتني فيها جذعا) الضمير فيها يعود
إلى أيام النبوة ومدتها وقوله جذعا يعنى شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك والأصل في الجذع للدواب
وهو هنا استعارة وأما قوله جذعا فهكذا هو الرواية المشهورة في الصحيحين وغيرهما بالنصب
قال القاضي ووقع في رواية ابن ماهان جذع بالرفع وكذلك هو في رواية الأصيلي في البخاري
وهذه الرواية ظاهرة وأما النصب فاختلف العلماء في وجهه فقال الخطابي والمازري وغيرهما
203

نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره ليتني أكون فيها جذعا وهذا يجئ على مذهب النحويين
الكوفيين وقال القاضي الظاهر عندي أنه منصوب على الحال وخبر ليت قوله فيها وهذا الذي
اختاره القاضي هو الصحيح الذي اختاره أهل التحقيق والمعرفة من شيوخنا وغيرهم ممن يعتمد
عليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أو مخرجى هم) هو بفتح الواو وتشديد الياء هكذا
الرواية ويجوز تخفيف الياء على وجه والصحيح المشهور تشديدها وهو مثل قوله تعالى
وهو جمع مخرج فالياء الأولى ياء الجمع والثانية ضمير المتكلم وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسرة
والياءان بعد كسرتين قوله (وان يدركني يومك) أي وقت خروجك قوله (أنصرك نصرا
مؤزرا) هو بفتح الزاي وبهمزة قبلها أي قويا بالغا قوله في الرواية الأخرى (أخبرنا
معمر قال قال الزهري وأخبرني عروة) هكذا هو في الأصول واخبرني عروة بالواو وهو
الصحيح والقائل وأخبرني هو الزهري وفى هذه الواو فائدة لطيفة قدمناها في مواضع وهي أن معمرا
سمع من الزهري أحاديث قال الزهري فيها أخبرني عروة بكذا وأخبرني عروة بكذا إلى آخرها
فإذا أراد معمر رواية غير الأول قال قال الزهري وأخبرني عروة فأتى بالواو ليكون راويا كما
سمع وهذا من الاحتياط والتحقيق والمحافظة على الألفاظ والتحري فيها والله أعلم قوله في هذه
الرواية أعنى رواية معمر (فوالله لا يحزنك الله) هو بالحاء المهملة والنون وقد قدمنا بيانه قوله
204

في رواية عقيل وهو بضم العين (يرجف فؤاده) قد قدمنا في حديث أهل اليمن أرق قلوبا
بيان الاختلاف في القلب والفؤاد وأما علم خديجة رضي الله عنها برجفان فؤاده صلى الله عليه وسلم
فالظاهر أنها رأته حقيقة ويجوز أنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال والله أعلم
قوله (أن جابر بن عبد الله الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) هذا
نوع مما يتكرر في الحديث ينبغي التنبيه عليه وهو أنه قال عن جابر وكان من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من مشهوري الصحابة
أشد شهرة بل هو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجوابه ان بعض الرواة خاطب به من يتوهم أنه يخفى عليه كونه صحابيا فبينه إزالة للوهم
واستمرت الرواية به فان قيل فهؤلاء الرواة في هذا الاسناد أئمة جلة فكيف يتوهم خفاء
صحبة جابر في حقهم فالجواب أن بيان هذا لبعضهم كان في حالة صغره قبل تمكنه ومعرفته
ثم رواه عند كماله كما سمعه وهذا الذي ذكرته في جابر يتكرر مثله في كثيرين من
الصحابة وجوابه كله ما ذكرته والله أعلم قوله (يحدث عن فترة الوحي) يعنى احتباسه
205

وعدم تتابعه وتواليه في النزول قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)
جالسا) هكذا هو في الأصول جالسا منصوب على الحال قوله صلى الله عليه وسلم (فجئثت منه)
رواه مسلم من رواية يونس وعقيل ومعمر ثم كلهم عن ابن شهاب وقال في رواية يونس
فجئثت بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير وقال في رواية
عقيل ومعمر فجثثت بعد الجيم ثاءان مثلثتان هكذا هو الصواب في ضبط رواية الثلاثة وذكر
القاضي عياض رحمه الله تعالى أنه ضبط على ثلاثة أوجه منهم من ضبطه بالهمزة في المواضع
الثلاثة ومنهم من ضبطه بالثاء في المواضع الثلاثة قال القاضي وأكثر الرواة للكتاب على أنه
بالهمز في الموضعين الأولين وهما رواية يونس وعقيل وبالثاء في الموضع الثالث وهي رواية
معمر وهذه الأقوال التي نقلها القاضي كلها خطأ ظاهر فان مسلما رحمه الله قال في رواية عقيل
(ثم ذكر بمثل حديث يونس غير أنه قال فجثثت منه فرقا) ثم قال مسلم في رواية معمر أنها
206

نحو حديث يونس الا أنه قال فحثثت منه كما قال عقيل فهذا تصريح من مسلم بأن رواية معمر
وعقيل متفقتان في هذه اللفظة وأنهما مخالفتان لرواية يونس فيها فبطل بذلك قول من قال
الثلاثة بالثاء أو الهمزة وبطل أيضا قول من قال إن رواية يونس وعقيل متفقة ورواية معمر
مخالفة لرواية عقيل وهذا ظاهر لاخفاء به ولا شك فيه والله أعلم وقد ذكر صاحب المطالع
أيضا روايات أخر باطلة مصحفة تركت حكايتها لظهور بطلانها والله أعلم وأما معنى هذه
اللفظة فالروايتان بمعنى واحد أعنى رواية الهمز ورواية الثاء ومعناها فزعت ورعبت وقد جاء
في رواية البخاري فرعبت قال أهل اللغة جئث الرجل إذا فزع فهو مجؤوث قال الخليل
والكسائي جئث وجث فهو مجؤوث ومجثوث أي مذعور فزع والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(هويت إلى الأرض) هكذا في الرواية هويت وهو صحيح يقال هوى إلى الأرض وأهوى إليها
لغتان أي سقط وقد غلط وجهل من أنكر هوى وزعم أنه لا يقال الا أهوى والله أعلم
قوله (ثم حمى الوحي وتتابع) هما بمعنى فأكد أحدهما بالآخر ومعنى حمى كثر نزوله وازداد
من قولهم حميت النار والشمس أي قويت حرارتها قوله (أن أول ما انزل قوله تعالى أيها
المدثر) ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما أنزل على الاطلاق باسم ربك كما صرح
به في حديث عائشة رضي الله عنها واما أيها المدثر فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح
به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر والدلالة صريحة فيه في مواضع منها قوله وهو
يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ومنها قوله صلى الله عليه وسلم
فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال فأنزل الله تعالى يا أيها المدثر ومنها قوله ثم تتابع
207

الوحي يعنى بعد فترته فالصواب أن أول ما نزل اقرأ وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي أيها
المدثر وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فاستبطنت الوادي) أي صرت في باطنه قوله صلى الله عليه وسلم
في جبريل عليه الصلاة والسلام (فإذا هو على العرش في الهواء) المراد
بالعرش الكرسي كما تقدم في الرواية الأخرى على كرسي بين السماء والأرض قال أهل
اللغة العرش هو السرير وقيل سرير الملك قال الله تعالى ولها عرش عظيم والهواء هنا ممدود يكتب
بالألف وهو الجو بين السماء والأرض كما في الرواية الأخرى والهواء الخالي قال الله تعالى
هواء قوله صلى الله عليه وسلم (فأخذتني رجفة شديدة) هكذا هو في الروايات المشهورة رجفة
بالراء قال القاضي ورواه السمرقندي وجفة بالواو وهما صحيحان متقاربان ومعناهما الاضطراب قال
الله تعالى يومئذ واجفة وقال تعالى ترجف الراجفة ترجف الأرض والجبال قوله
صلى الله عليه وسلم (فصبوا على ماء) فيه أنه ينبغي أن يصب على الفزع الماء ليسكن فزعه
والله أعلم وأما تفسير قوله تعالى أيها المدثر فقال العلماء المدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل
بمعنى واحد ثم الجمهور على أن معناه المدثر بثيابه وحكى الماوردي قولا عن عكرمة أن معناه
المدثر بالنبوة وأعبائها وقوله تعالى فأنذر معناه حذر العذاب من لم يؤمن وربك فكبر
208

أي عظمه ونزهه عما لا يليق به فطهر قيل معناه طهرها من النجاسة وقيل قصرها وقيل
المراد بالثياب النفس أي طهرها من الذنب وسائر النقائص إلى بكسر الراء في قراءة
الأكثرين وقرأ حفص بضمها وفسره في الكتاب بالأوثان وكذا قاله جماعات من المفسرين
والرجز في اللغة العذاب وسمى الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنه سبب العذاب وقيل المراد
بالرجز في الآية الشرك وقيل الذنب وقيل الظلم والله أعلم
باب الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم
(إلى السماوات وفرض الصلوات)
هذا باب طويل وأنا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصده مختصرة من الألفاظ والمعاني على ترتيبها
وقد لخص القاضي عياض رحمه الله في الاسراء جملا حسنة نفيسة فقال اختلف الناس في
الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل إنما كان جميع ذلك في المنام والحق الذي عليه
أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسرى
بجسده صلى الله عليه وسلم والآثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها ولا يعدل عن ظاهرها
الا بدليل ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل وقد جاء في رواية شريك في هذا
الحديث في الكتاب أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله فقدم وأخر وزاد
ونقص منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فان الاسراء أقل ما قيل فيه
انه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا وقال الحربي كان ليلة سبع وعشرين
من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة وقال الزهري كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم
بخمس سنين وقال ابن إسحاق أسرى به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الاسلام بمكة والقبائل
209

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق إذ لم يختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلت
معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل
بثلاث سنين وقيل بخمس ومنها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء
فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفى الرواية
الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة
فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما
في القصة كلها هذا كلام القاضي رحمه الله وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم
أنكروها قد قاله غيره وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في كتاب
التوحيد من صحيحه وأتى بالحديث مطولا قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه الجمع بين
الصحيحين بعد ذكر هذه الرواية هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن
أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الاسراء جماعة
من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعنى عن أنس فلم يأت
أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال والأحاديث التي تقدمت
قبل هذا هي المعول عليها هذا كلام الحافظ عبد الحق رحمه الله قول مسلم (حدثنا شيبان بن
فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه) هذا الاسناد كله
بصريون وفروخ عجمي لا ينصرف تقدم بيانه مرات والبناني بضم الباء منسوب إلى بنانة قبيلة
معروفة قوله صلى الله عليه وسلم (أتيت بالبراق) هو بضم الباء الموحدة قال أهل
اللغة البراق اسم الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء قال الزبيدي
في مختصر العين وصاحب التحرير هي دابة كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يركبونها
وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح قال ابن دريد اشتقاق البراق
من البرق إن شاء الله تعالى يعنى لسرعته وقيل سمى بذلك لشدة صفائه وتلألئه وبريقه وقيل
210

لكونه أبيض وقال القاضي يحتمل أنه سمى بذلك لكونه ذا لونين يقال شاة برقاء إذا كان في خلال
صوفها الأبيض طاقات سود قال ووصف في الحديث بأنه أبيض وقد يكون من نوع الشاة البرقاء
وهي معدودة في البيض والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته
بالحلقة التي تربط به الأنبياء صلوات الله عليهم) أما بيت المقدس ففيه لغتان مشهورتان غاية
الشهرة إحداهما بفتح الميم واسكان القاف وكسر الدال المخففة والثانية بضم الميم وفتح القاف
والدال المشددة قال الواحدي أما من شدده فمعناه المطهر وأما من خففه فقال أبو علي
الفارسي لا يخلو أما أن يكون مصدرا أو مكانا فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى مرجعكم
ونحوه من المصادر وإن كان مكانا فمعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة
وتطهيره اخلاؤه من الأصنام وابعاده منها وقال الزجاج البيت المقدس المطهر وبيت المقدس أي
المكان الذي يطهر فيه من الذنوب ويقال فيه أيضا ايلياء والله أعلم وأما الحلقة فباسكان اللام
على اللغة الفصيحة المشهورة وحكى الجوهري وغيره فتح اللام أيضا قال الجوهري حكى يونس
عن أبي عمرو بن العلاء حلقة بالفتح وجمعها حلق وحلقات وأما على لغة الاسكان فجمعها
حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها وأما قوله صلى الله عليه وسلم الحلقة التي يربط به فكذا هو في
الأصول به بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشئ قال صاحب التحرير المراد حلقة
باب مسجد بيت المقدس والله أعلم وفى ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطى
الأسباب وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(فجاءني جبريل باناء من خمر واناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة)
هذا اللفظ وقع مختصرا هنا والمراد أنه صلى الله عليه وسلم قيل له اختر أي الإناءين شئت كما
جاء مبينا بعد هذا في هذا الباب من رواية أبي هريرة فألهم صلى الله عليه وسلم اختيار اللبن
211

وقوله (اخترت الفطرة) فسروا الفطرة هنا بالاسلام والاستقامة ومعناه والله أعلم اخترت
علامة الاسلام والاستقامة وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين سليم
العاقبة وأما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمال والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل له من
أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه) أما قوله عرج
فبفتح العين والراء أي صعد وقوله جبريل فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه
فقيل له من أنت فينبغي أن يقول زيد مثلا إذا كان اسمه زيدا ولا يقول أنا فقد جاء الحديث
بالنهي عنه ولأنه لا فائدة فيه وأما قول بواب السماء وقد بعث إليه فمراده وقد بعث
إليه للاسراء وصعود السماوات وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فان ذلك
لا يخفى عليه إلى هذه المدة فهذا هو الصحيح والله أعلم في معناه ولم يذكر الخطابي في شرح
البخاري وجماعة من العلماء غيره وإن كان القاضي قد ذكر خلافا أو أشار إلى خلاف في أنه
استفهم عن أصل البعثة أو عما ذكرته قال القاضي وفى هذا أن للسماء أبوابا حقيقية وحفظة
موكلين بها وفيه اثبات الاستئذان والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا أنا بآدم
صلى الله عليه وسلم فرحب بي ودعا لي بخير) ثم قال صلى الله عليه وسلم في السماء الثانية (فإذا أنا بابنى
الخالة فرحبا بي ودعوا) وذكر صلى الله عليه وسلم في باقي الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم نحوه فيه استحباب لقاء أهل الفضل بالبشر والترحيب والكلام الحسن والدعاء
212

لهم وان كانوا أفضل من الداعي وفيه جواز مدح الانسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب
وغيره من أسباب الفتنة وقوله صلى الله عليه وسلم فإذ أنا بابني الخالة قال الأزهري قال ابن
السكيت يقال هما ابنا عم ولا يقال ابنا خال ويقال هما ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة وقوله
صلى الله عليه وسلم (فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور)
قال القاضي رحمه الله يستدل به على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها قوله صلى الله عليه وسلم
213

(ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى) هكذا وقع في الأصول السدرة بالألف
واللام وفى الروايات بعد هذا سدرة المنتهى قال ابن عباس والمفسرون وغيرهم سميت سدرة
المنتهى لان علم الملائكة ينتهى إليها ولم يجاوزها أحد الا رسول صلى الله عليه وسلم
وحكى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها سميت بذلك لكونها ينتهى إليها ما يهبط من
فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا ثمرها كالقلال)
هو بكسر القاف جمع قلة والقلة جرة عظيمة تسع قربتين أو أكثر قوله صلى الله عليه وسلم
(فرجعت إلى ربى) معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولا فناجيته فيه ثانيا
وقوله صلى الله عليه وسلم (فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم)
214

معناه بين موضع مناجاة ربى والله أعلم قوله عقب هذا الحديث (قال الشيخ
أبو أحمد حدثنا أبو العباس الماسرجسي حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة بهذا
الحديث) أبو أحمد هذا هو الجلودي راوي الكتاب عن ابن سفيان عن مسلم وقد علا له هذا
الحديث برجل فإنه رواه أولا عن سفيان عن مسلم عن شيبان بن فروخ ثم رواه عن
الماسرجسي عن شيبان واسم الماسرجسي أحمد بن محمد بن الحسين النيسابوري وهو بفتح
السين المهملة واسكان الراء وكسر الجيم وهو منسوب إلى جده ماسرجس وهذه الفائدة
وهي قوله قال الشيخ أبو أحمد إلى آخره تقع في بعض الأصول في الحاشية وفى أكثرها في
نفس الكتاب وكلاهما له وجه فمن جعلها في الحاشية فهو الظاهر المختار لكونها ليست من
كلام مسلم ولا من كتابه فلا يدخل في نفسه إنما هي فائدة فشأنها أن تكتب في الحاشية ومن
أدخلها في الكتاب فلكون الكتاب منقولا عن عبد الغافر الفارسي عن شيخه الجلودي وهذه
الزيادة من كلام الشيخ الجلودي فنقلها عبد الغافر في نفس الكتاب لكونها من جملة المأخوذ
عن الجلودي مع أنه ليس فيه لبس ولا ايهام أنها من أصل مسلم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت) معنى شرح شق كما قال في رواية التي
بعد هذه وقوله صلى الله عليه وسلم ثم أنزلت هو باسكان اللام وضم التاء هكذا ضبطناه
215

وكذا هو في جميع الأصول والنسخ وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن جميع الروايات وفى معناه خفاء
واختلاف قال القاضي قال الوقشى هذا وهم من الرواة وصوابه تركت فتصحف قال القاضي فسألت
عنه ابن سراج فقال أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح وليس فيه تصحيف قال القاضي وظهر لي أنه صحيح
بالمعنى المعروف في أنزلت فهو ضد رفعت لأنه قال انطلقوا بي إلى زمزم ثم أنزلت أي ثم صرفت إلى موضعي
الذي حملت منه قال ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبى بكر
البرقاني وانه طرف حديث وتمامه ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وايمانا هذا
آخر كلام القاضي عياض رحمه الله ومقتضى رواية البرقاني أن يضبط أنزلت بفتح اللام واسكان
التاء وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي وحكى الحميدي هذه الزيادة المذكورة
عن رواية البرقاني وزاد عليها وقال أخرجها البرقاني باسناد مسلم وأشار الحميدي إلى أن رواية
مسلم ناقصة وأن تمامها ما زاده البرقاني والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ثم غسله في
طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه) أما الطست فبفتح الطاء واسكان السين المهملتين وهي
إناء معروف وهي مؤنثة قال وحكى القاضي عياض كسر الطاء لغة والمشهور الفتح كما ذكرنا
ويقال فيها طس بتشديد السين وحذف التاء وطسة أيضا وجمعها طساس وطسوس وطسات
وأما لأمه فبفتح اللام وبعدها همزة على وزن ضربه وفيه لغة أخرى لآمه بالمد على وزن
آذنه ومعناه جمعه وضم بعضه إلى بعض وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال اناء الذهب لنا
فان هذا فعل الملائكة واستعمالهم وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا ولأنه كان أول الأمر
قبل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الذهب والفضة قوله (يعنى ظئره) هي بكسر الظاء
216

المعجمة بعدها همزة ساكنة وهي المرضعة ويقال أيضا لزوج المرضعة ظئر قوله (فاستقبلوه
وهو منتقع اللون) هو بالقاف المفتوحة اي متغير اللون قال أهل اللغة امتقع لونه فهو ممتقع
وانتفع فهو منتقع وابتقع بالباء فهو مبتقع فيه ثلاث لغات والقاف مفتوحة فيهن قال الجوهري
وغيره والميم أفصحهن ونقل الجوهري اللغات الثلاث عن الكسائي قال ومعناه تغير من
حزن أو فزع وقال الهروي في الغريبين في تفسير هذا الحديث يقال انتقع لونه وابتقع
وامتقع واستقع والتمى وانتسف وانتشف بالسين والشين والتمع والتمغ بالعين والغين وابتسر
والتهم قوله (كنت أرى أثر المخيط في صدره) هو بكسر الميم واسكان الخاء وفتح الياء
وهي الإبرة وفى هذا دليل على جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل ولا خلاف في جوازه
وكذا يجوز ان ينظر إلى ما فوق سرته وتحت ركبته الا أن ينظر بشهوة فإنه يحرم النظر
بشهوة إلى كل آدمي الا الزوج لزوجته ومملوكته وكذا هما إليه والا أن يكون المنظور إليه
أمرد حسن الصورة فإنه يحرم النظر إليه إلى وجهه وسائر بدنه سواء كان بشهوة أو بغيرها
الا أن يكون لحاجة البيع والشراء والتطبيب والتعليم ونحوها والله أعلم قوله (حدثنا
هارون الأيلي وحدثني حرماة التجيبي) قد تقدم ضبطهما مرات فالأيلي بالمثناة والتجيبي
217

بضم التاء وفتحها وأوضحنا أصله وضبطه في المقدمة قوله (جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة
وايمانا فأفرغها في صدري) قد قدمنا لغات الطست وأنها مؤنثة فجاء ممتلئ على معناها وهو
الاناء وأفرغها على لفظها وقد تقدم بيان الايمان في أول كتاب الايمان وبيان الحكمة في
حديث الحكمة يمانية والضمير في أفرغها يعود على الطست كما ذكرناه وحكى صاحب
التحرير قولا أنه يعود على الحكمة وهذا القول وإن كان له وجه فالأظهر ما قدمناه لأن عوده
على الطست يكون تصريحا بافراغ الايمان والحكمة وعلى قوله يكون افراغ الايمان
مسكوتا عنه والله أعلم وأما جعل الايمان والحكمة في اناء وافراغهما مع أنهما معنيان
وهذه صفة الأجسام فمعناه والله أعلم أن الطست كان فيها شئ يحصل به كمال الايمان
والحكمة وزيادتهما فسمى ايمانا وحكمة لكونه سببا لهما وهذا من أحسن المجاز والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا رجل عن يمينه أسودة) فسر الأسودة في الحديث بأنها نسم
بنيه أما الأسودة فجمع سواد كقذال وأقذلة وسنام وأسنمة وزمان وأزمنة وتجمع الأسودة
على أساود وقال أهل اللغة السواد الشخص وقيل السواد الجماعات وأما النسم فبفتح النون
والسين والواحدة نسمة قال الخطابي وغيره هي نفس الانسان والمراد أرواح بني آدم قال
القاضي عياض رحمه الله في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم وجد آدم ونسم بنيه من أهل
218

الجنة والنار وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين قيل في الأرض السابعة وقيل تحتها وقيل
في سجن وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة فيحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا فوافق وقت
عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن كونهم في النار والجنة أنما هو في أوقات
دون أوقات بدليل قوله تعالى يعرضون عليها غدوا وعشيا وبقوله صلى الله عليه وسلم في
المؤمن عرض منزله من الجنة عليه وقيل له هذا منزلك حتى يبعثك الله إليه ويحتمل أن الجنة
كانت في جهة يمين آدم عليه السلام والنار في جهة شماله وكلاهما حيث شاء الله والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله وبكى) فيه شفقة الوالد
على ولده وسروره بحسن حاله وحزنه وبكاؤه لسوء حاله قوله في هذه الرواية (وجد إبراهيم
صلى الله عليه وسلم في السماء السادسة) وتقدم في الرواية الأخرى أنه في السابعة فإن كان
الاسراء مرتين فلا اشكال فيه ويكون في كل مرة وحده في سماء وإحداهما موضع استقراره
ووطنه والأخرى كان فيها غير مستوطن وإن كان الاسراء مرة واحدة فلعله وجده في السادسة
219

ثم ارتقى إبراهيم أيضا إلى السابعة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم في إدريس
صلى الله عليه وسلم (مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح) قال القاضي عياض رحمه الله
هذا مخالف لما يقوله أهل النسب والتاريخ من أن إدريس أب من آباء النبي صلى الله عليه وسلم
وانه وجد أعلى لنوح صلى الله عليه وسلم وأن نوحا هو ابن لامك بن متوشلخ بن
خنوخ وهو عندهم إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آم! عليه السلام
ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرناه وإنما يختلفون في ضبط بعضها
وصورة لفظه وجاء جواب الآباء هنا إبراهيم وآدم مرحبا بالابن الصالح وقال إدريس مرحبا
بالأخ الصالح كما قال موسى وعيسى وهارون ويوسف ويحيى وليسوا بآباء صلوات الله وسلامه
عليهم وقد قيل عن إدريس انه الياس وانه ليس بجد لنوح فان الياس من ذرية إبراهيم وانه
من المرسلين وان أول المرسلين نوح عليه السلام كما جاء في حديث الشفاعة هذا كلام القاضي
عياض رحمه الله وليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس عليه السلام أبا لنبينا محمد
صلى الله عليه وسلم فان قوله الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا وهو أخ وإن كان ابنا
فالأنبياء اخوة والمؤمنون اخوة والله أعلم قوله (ان ابن عباس وأبا حبة الأنصاري يقولان)
أبو حبة بالحاء المهملة والباء الموحدة هكذا ضبطناه هنا وفى ضبطه واسمه اختلاف فالأصح
220

الذي عليه الأكثرون حبة بالباء الموحدة كما ذكرنا وقيل حية بالياء المثناة تحت وقيل حنة
بالنون وهذا قول الواقدي وروى عن ابن شهاب والزهري وقد اختلف في اسم أبى حبة
فقيل عامر وقيل مالك وقيل ثابت وهو بدري باتفاقهم واستشهد يوم أحد وقد جمع الإمام أبو
الحسن بن الأثير الجزري رحمه الله الأقوال الثلاثة في ضبطه والاختلاف في اسمه في
كتابه معرفة الصحابة رضي الله عنهم وبينها بيانا شافيا رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم
(حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) معنى ظهرت علوت والمستوى بفتح الواو
قال الخطابي المراد به المصعد وقيل المكان المستوى وصريف الأقلام بالصاد المهملة تصويتها
حال الكتابة قال الخطابي هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه
من اللوح المحفوظ أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره
قال القاضي في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الايمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب
الله تعالى من اللوح المحفوظ وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الآيات
من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة وأن ما جاء من ذلك على ظاهره لكن كيفية ذلك
وصورته وجنسه ممالا يعلمه الا الله تعالى أو من أطلعه على شئ من ذلك من ملائكته
ورسله وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره الا ضعيف النظر والايمان إذ جاءت به الشريعة
المطهرة ودلائل العقول لا تحيله والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حكمة من الله تعالى
واظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه والا فهو غنى عن الكتب
والاستذكار سبحانه وتعالى قال القاضي رحمه الله وفى علو منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم
وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبلوغه حيث بلغ من
ملكوت السماوات دليل على علو درجته وإبانة فضله وقد ذكر البزار خبرا في الاسراء عن علي
كرم الله وجهه وذكر مسير جبريل عليه السلام على البراق حتى أتى الحجاب وذكر كلمة
وقال خرج ملك من وراء الحجاب فقال جبريل والذي بعثك بالحق ان هذا الملك ما رأيته
منذ خلقت وانى أقرب الخلق مكانا وفى حديث آخر فارقني جبريل وانقطعت عنى الأصوات
221

هذا آخر كلام القاضي رحمه الله والله تعالى أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ففرض الله تعالى
على أمتي خمسين صلاة إلى قوله صلى الله عليه وسلم فراجعت ربى فوضع شطرها وبعده
فراجعت ربى فقال هي خمس وهي خمسون) وهذا المذكور هنا لا يخالف الرواية المتقدمة
انه صلى الله عليه وسلم قال حط عنى خمسا إلى آخره فالمراد بحط الشطر هنا أنه حط في مرات
بمراجعات وهذا هو الظاهر وقال القاضي عياض رحمه الله المراد بالشطر هنا الجزء وهو الخمس
وليس المراد به النصف وهذا الذي قاله محتمل ولكن لا ضرورة إليه فان هذا الحديث الثاني
مختصر لم يذكر فيه كرات المراجعة والله أعلم واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ
الشئ قبل فعله والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ثم انطلق بي حتى نأتي سدرة المنتهى)
هكذا هو في الأصول حتى نأتي بالنون في أوله وفى بعض الأصول حتى أتى وكلاهما صحيح
قوله صلى الله عليه وسلم (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ) أما الجنابذ فبالجيم المفتوحة
وبعدها نون مفتوحة ثم ألف ثم باء موحدة ثم ذال معجمة وهي القباب واحدتها جنبذة
222

ووقع في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري كذلك ووقع في أول كتاب الصلاة منه حبائل
بالحاء المهملة والباء الموحدة وآخره لام قال الخطابي وغيره هو تصحيف والله أعلم واما اللؤلؤ
فمعروف وفيه أربعة أوجه بهمزتين وبحذفهما وباثبات الأولى دون الثانية وعكسه والله أعلم
وفى هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان وأن الجنة في السماء والله أعلم
قوله (حدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدى عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه
لعله قال عن مالك بن صعصعة) قال أبو علي الغساني هكذا هو هذا الحديث في رواية
ابن ماهان وأبى العباس الرازي عن أبي أحمد الجلودي وعند غيره عن أبي أحمد عن قتادة عن
223

أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة بغير شك قال أبو الحسن الدارقطني لم يروه عن أنس بن
مالك عن مالك بن صعصعة غير قتادة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم في موسى عليه السلام
(فلما جاوزته بكى فنودي ما يبكيك قال رب هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة
أكثر مما يدخل من أمتي) معنى هذا والله أعلم أن موسى عليه السلام حزن
على قومه لقلة المؤمنين منهم مع كثرة عددهم فكان بكاؤه حزنا عليهم وغبطة لنبينا صلى الله عليه وسلم
على كثرة أتباعه والغبطة في الخير محبوبة ومعنى الغبطة أنه ود أن يكون من أمته المؤمنين مثل هذه
الأمة لا أنه ود أن يكونوا أتباعا له وليس لنبينا صلى الله عليه وسلم مثلهم والمقصود أنه إنما بكى
حزنا على قومه وعلى فوات الفضل العظيم والثواب الجزيل بتخلفهم عن الطاعة فان من دعا إلى الخير
وعمل الناس به كان له مثل أجورهم كما جاءت به الأحاديث الصحيحة ومثل هذا يبكى عليه ويحزن
على فواته والله أعلم (وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من
أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت يا جبريل ما هذه الأنهار قال أما النهران الباطنان فنهران
في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات) هكذا هو في أصول صحيح مسلم يخرج
من أصلها والمراد من أصل سدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره قال مقاتل الباطنان هما السلسبيل
والكوثر قال القاضي عياض رحمه الله هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض
224

لخروج النيل والفرات من أصلها قلت هذا الذي قاله ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها
ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو
ظاهر الحديث فوجب المصير إليه والله أعلم واعلم أن الفرات بالتاء الممدودة في الخط في حالتي
الوصل والوقف وهذا وإن كان معلوما مشهورا فنبهت عليه لكون كثير من الناس يقولونه بالهاء
وهو خطأ والله أعلم قوله (هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه
لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) قال صاحب مطالع الأنوار ورويناه آخر ما عليهم برفع الراء ونصبها
فالنصب على الظرف والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم من دخوله قال والرفع أوجه وفى هذا
أعظم دليل على كثرة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(أتيت باناءين أحدهما خمر والآخر لبن فعرضا على فاخترت اللبن فقيل أصبت أصاب الله بك
أمتك على الفطرة) قد تقدم في أول الباب الكلام في هذا الفصل والذي يزاد هنا معنى أصبت
أي أصبت الفطرة كما جاء في الرواية المتقدمة وتقدم بيان الفطرة ومعنى أصاب الله بك أي أراد بك
الفطرة والخير والفضل وقد جاء أصاب بمعنى أراد قال الله تعالى فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء
حيث أصاب أي حيث أراد اتفق عليه المفسرون وأهل اللغة كذا نقل الواحدي اتفاق أهل اللغة
عليه وأما قوله أمتك على الفطرة فمعناه أنهم أتباع لك وقد أصبت الفطرة فهم يكونون عليها والله
225

أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فشق من النخر إلى مراق البطن) هو بفتح الميم وتشديد القاف
وهو ما سفل من البطن ورق من جلده قال الجوهري لا واحد لها وقال صاحب المطالع واحدها
مرق قول مسلم رحمه الله (حدثني محمد بن مثنى وابن بشار قال ابن مثنى حدثنا محمد بن جعفر
حدثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أبا العالية يقول حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم يعنى ابن
عباس رضي الله عنهما) هذا الاسناد كله بصريون وشعبة وإن كان واسطيا فقد انتقل إلى البصرة
واستوطنها وابن عباس أيضا سكنها واسم أبى العالية رفيع بضم الراء وفتح الفاء ابن مهران الرياحي بكسر
الراء وبالمثناة من تحت والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (موسى آدم طوال كأنه من رجال
شنوءة وقال عيسى جعد مربوع) أما طوال فبضم الطاء وتخفيف الواو ومعناه طويل وهما لغتان
وأما شنوءة فبشين معجمة مفتوحة ثم نون ثم واو ثم همزة ثم هاء وهي قبيلة معروفة قال ابن قتيبة
في أدب الكاتب سموا بذلك من قولك رجل فيه شنوءة أي تقزز قال ويقال سموا بذلك لأنهم تشانؤا
وتباعدوا وقال الجوهري النشوءة التقزز وهو التباعد من الأدناس ومنه أزدشنوءه وهم حي من
اليمين ينسب إليهم شنئ قال قال ابن السكيت وربما قالوا أزدشنوة بالتشديد غير المهموز وينسب
إليها شنوى وأما قوله صلى الله عليه وسلم مربوع فقال أهل اللغة هو الرجل بين الرجلين في
القامة ليس بالطويل البائن ولا بالقصير الحقير وفيه لغات ذكرهن صاحب المحكم وغيره مربوع
ومرتبع ومرتبع بفتح الباء وكسرها وربع وربعة وربعة الأخيرة بفتح الباء والمرأة ربعة وربعة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في عيسى صلى الله عليه وسلم أنه جعد ووقع في أكثر
226

الروايات في صفته سبط الرأس فقال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماعه
واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر وأما الجعد في صفة موسى عليه السلام فقال
صاحب التحرير فيه معنيان أحدهما ما ذكرناه في عيسى عليه السلام وهو اكتناز الجسم
والثاني جعودة الشعر قال والأول أصح لأنه قد جاء في رواية أبي هريرة في الصحيح أنه
رجل الشعر هذا كلام صاحب التحرير والمعنيان فيه جائزان وتكون جعودة الشعر
على المعنى الثاني ليست جعودة القطط بل معناها أنه بين القطط والسبط والله أعلم
والسبط بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان ويجوز اسكان الباء مع كسر السين وفتحها على
التخفيف كما في كتف وبابه قال أهل اللغة الشعر السبط هو المسترسل ليس فيه تكسر ويقال
في الفعل منه سبط شعره بكسر الباء يسبط بفتحها سبطا بفتحها أيضا والله أعلم قوله في
الرواية الأخرى (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مررت ليلة أسرى بي على موسى بن
عمران) هكذا وقع في بعض الأصول وسقطت لفظة مررت في معظمها ولا بد منها فان
حذفت كانت مرادة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وأرى مالكا خازن النار) هو
بضم الهمزة وكسر الراء ومالكا بالنصب ومعناه أرى النبي صلى الله عليه وسلم مالكا وقد
ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث ورأيت مالكا ووقع في أكثر الأصول مالك بالرفع
وهذا قد ينكر ويقال هذا لحن لا يجوز في العربية ولكن عنه جواب حسن وهو أن لفظة مالك
منصوبة ولكن أسقطت الألف في الكتابة وهذا يفعله المحدثون كثيرا فيكتبون سمعت أنس بغير
ألف ويقرؤونه بالنصب وكذلك مالك كتبوه بغير ألف ويقرؤونه بالنصب فهذا إن شاء الله تعالى من أحسن
227

ما يقال فيه وفيه فوائد يتنبه بها على غيره والله أعلم قوله (وأرى مالكا خازن النار والدجال
في آيات أراهن الله إياه فلا تكن في مرية من لقائه قال كان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قد لقى موسى عليه السلام) هذا الاستشهاد بقوله تعالى فلا تكن في مرية هو من
استدلال بعض الرواة وأما تفسير قتادة فقد وافقه عليه جماعة منهم مجاهد والكلبي والسدي
وعلى مذهبهم معناه فلا تكن في شك من لقائك موسى وذهب كثيرون من المحققين من المفسرين
وأصحاب المعاني إلى أن معناها فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب وهذا مذهب ابن عباس
ومقاتل والزجاج وغيرهم والله أعلم قوله (حدثنا أحمد بن حنبل وسريج بن يونس) هو
بالسين المهملة والجيم قوله صلى الله عليه وسلم (كأني انظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم
هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية) ثم قال صلى الله عليه وسلم في يونس بن متى
صلى الله عليه وسلم (رأيته وهو يلبى) قال القاضي عياض رحمه الله أكثر الروايات في وصفهم
تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك ليلة أسرى به وقد وقع ذلك مبينا في رواية أبى العالية
عن ابن عباس وفى رواية ابن المسيب عن أبي هريرة وليس فيها ذكر التلبية قال فان قيل
كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الآخرة وليست دار عمل فاعلم أن للمشايخ
وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة أحدهما أنهم كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند
ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما
استطاعوا لأنهم وان كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت
228

مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل الوجه الثاني أن عمل الآخرة ذكر
ودعاء قال الله تعالى دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام الوجه الثالث أن تكون هذه
رؤية منام في غير ليلة الاسراء أو في بعض ليلة الاسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما
بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم الوجه
الرابع أنه صلى الله عليه وسلم أرى أحوالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف
كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم كما قال صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى موسى وكأني أنظر إلى عيسى
وكأني أنظر إلى يونس عليهم السلام الوجه الخامس أن يكون أخبر عما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم
من أمرهم وما كان منهم وان لم يرهم رؤية عين هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم له جؤار بضم الجيم وبالهمز وهو رفع الصوت قوله (نية
هرشى) هي بفتح الهاء واسكان الراء وبالشين المعجمة مقصورة الألف وهو جبل على طريق
الشام والمدينة قريب من الجحفة قوله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من
صوف خطام ناقته خلبه قال هشيم يعني ليفا أما الجعدة فهي مكتنزة اللحم كما تقدم قريبا
وأما الخطام بكسر الخاء فهو الحبل الذي يقاد به البعير يجعل على خطمه وقد تقدم بيانه واضحا
في أول كتاب الإيمان وأما الخلبة فبضم الخاء المعجمة بالباء الموحدة بينهما لام فيها لغتان مشهورتان
الضم والإسكان حكاهما ابن السكيت والجوهري وآخرون وكذلك الخلب والخلب وهو الليف
كما فسره هشيم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى موسى واضعا إصبعيه
229

في أذنيه) أما الأصبع ففيها عشر لغات كسر الهمزة وفتحها وضمها مع فتح الباء وكسرها
وضمها والعاشرة أصبوع على مثال عصفور وفي هذا دليل على استحباب وضع الإصبع في
الاذن عند رفع الصوت بالاذان ونحوه مما يستحب له رفع الصوت وهذا الاستنباط والاستحباب
يجئ على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم أن شرع من قبلنا شئ لنا والله أعلم قوله
(فقال أي ثنية هذه قالوا هرشى أو لفت) هكذا ضبطناها لفت بكسر اللام واسكان الفاء وبعدها
تاء مثناة من فوق وذكر القاضي وصاحب المطالع فيها ثلاثة أوجه أحدها ما ذكرته والثاني
فتح اللام مع اسكان الفاء والثالث فتح اللام والفاء جميعا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(خطام ناقته ليف خلبة) روى بتنوين ليف وروى بإضافته إلى خلبة فمن نون جعل خلبة
بدلا أو عطف بيان قوله (عن مجاهد قال كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما فذكروا
الدجال فقال إنه مكتوب بين عينيه كافر قال فقال ابن عباس لم أسمعه قال ذلك ولكنه قال أما
إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم) كذا هو في الأصول وهو صحيح وقوله فقال إنه مكتوب
أي قال قائل من الحاضرين ووقع في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق في هذا الحديث من رواية
مسلم فذكروا الدجال فقالوا انه مكتوب بين عينيه هكذا رواه فقالوا وفى رواية الحميدي عن
الصحيحين وذكروا الدجال بين عينيه كافر فحذف لفظة قال وقالوا وهذا كله يصحح ما تقدم
230

وقوله فقال ابن عباس لم أسمعه يعنى النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم (كأني
أنظر إليه إذا انحدر) هكذا هو في الأصول كلها إذا بالألف بعد الذال وهو صحيح وقد حكى
القاضي عياض عن بعض العلماء أنه أنكر اثبات الألف وغلط رواية وغلطه القاضي وقال هذا
جهل من هذا القائل وتعسف وجسارة على التوهم لغير ضرورة وعدم فهم بمعاني الكلام إذ لا فرق
بين إذا وإذ هنا لأنه وصف حاله حين انحداره فيما مضى قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا موسى عليه
السلام ضرب من الرجال) هو باسكان الراء قال القاضي عياض هو الرجل بين الرجلين في كثرة
اللحم وقلته قال القاضي لكن ذكر البخاري فيه من بعض الروايات مضطرب وهو الطويل
غير الشديد وهو ضد جعد اللحم مكتنزه ولكن يحتمل أن الرواية الأولى أصح يعنى رواية ضرب
لقوله في الرواية الأخرى حسبته قال مضطرب فقد ضعفت هذه الرواية للشك ومخالفة الأخرى
التي لا شك فيها وفى الرواية الأخرى جسيم سبط وهذا يرجع إلى الطويل ولا يتأول جسيم
بمعنى سمين لأنه ضد ضرب وهذا إنما جاء في صفة الدجال هذا كلام القاضي وهذا الذي قاله
من تضعيف رواية مضطرب وأنها مخالفة لرواية ضرب لا يوافق عليه فإنه لا مخالفة بينهما فقد
قال أهل اللغة الضرب هو الرجل الخفيف اللحم كذا قاله ابن السكيت في الاصلاح وصاحب
المجمل والزبيدي والجوهري وآخرون لا يحصون والله أعلم
231

قوله (دحية بن خليفة) هو بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان قوله صلى الله عليه وسلم
(رجل الرأس) هو بكسر الجيم أي رجل الشعر وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان
ترجيل الشعر قوله صلى الله عليه وسلم في صفة عيسى صلى الله عليه وسلم (فإذا ربعة أحمر
كأنما خرج من ديماس يعنى حماما) أما الربعة فباسكان الباء ويجوز فتحها وقد تقدم
قريبا بيان اللغات فيه وبيان معناه وأما الديماس فبكسر الدال واسكان الياء والسين
في آخره مهملة وفسره الراوي بالحمام والمعروف عند أهل اللغة أن الديماس هو السرب
وهو أيضا الكن قال الهروي في هذا الحديث قال بعضهم الديماس هنا هو الكن أي كأنه
مخدر لم ير شمسا قال وقال بعضهم المراد به السرب ومنه دمسته إذا دفتنه وقال الجوهري
في صحاحه في هذا الحديث قوله خرج من ديماس يعنى في نضارته وكثرة ماء وجهه كأنه
خرج من كن لأنه قال في وصفه كأن رأسه يقطر ماء وذكر صاحب المطالع الأقوال الثلاثة فيه
فقال الديماس قيل هو السرب وقيل الحمام هذا ما يتعلق الديماس وأما الحمام فمعروف
وهو مذكر باتفاق أهل اللغة وقد نقل الأزهري في تهذيب اللغة تذكيره عن العرب والله أعلم
وأما وصف عيسى صلوات الله عليه وسلامه في هذه الرواية وهي رواية أبي هريرة رضي الله عنه
بأنه أحمر ووصفه في رواية ابن عمر رضي الله عنهما بعدها بأنه آدم والآدم الأسمر وقد روى
232

البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما انه أنكر رواية أحمر وحلف ان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يقله يعنى وأنه اشتبه على الراوي فيجوز أن يتأول الأحمر على الآدم ولا يكون المراد حقيقة
الأدمة والحمرة بل ما قاربها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أراني ليلة عند الكعبة فرأيت
رجلا آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهي
تقطر ماء متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت فسألت من هذا فقيل هذا
المسيح ابن مريم ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا فقيل
هذا المسيح الدجال) أما قوله صلى الله عليه وسلم أراني فهو بفتح الهمزة وأما الكعبة فسميت
كعبة لارتفاعها وتربعها وكل بيت مربع عند العرب فهو كعبة وقيل سميت كعبة لاستدارتها
وعلوها ومنه كعب الرجل ومنه كعب ثدي المرأة إذا علا واستدار وأما اللمة فهي بكسر اللام
وتشديد الميم وجمعها لمم كقربة وقرب قال الجوهري ويجمع على لمام يعنى بكسر اللام وهو
الشعر المتدلي الذي جاوز شحمة الاذنين فإذا بلغ المنكبين فهو جمة وأما رجلها فهو بتشديد
الجيم ومعناه سرحها بمشط مع ماء أو غيره واما قوله صلى الله عليه وسلم يقطر ماء فقد قال
القاضي عياض يحتمل أن يكون على ظاهره أي يقطر بالماء الذي رجلها به لقرب ترجيله
233

والى هذا نحا القاضي الباجي قال القاضي عياض ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارة عن
نضارته وحسنه واستعارة لجماله وأما العواتق فجمع عاتق قال أهل اللغة هو ما بين المنكب
والعنق وفيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أفصح وأشهر قال صاحب المحكم ويجمع
العاتق على عواتق كما ذكرنا وعلى عتق وعتق باسكان التاء وضمها وأما طواف عيسى عليه
السلام فقال القاضي عياض رحمه الله ان كانت هذه رؤيا عين فعيسى حي لم يمت يعنى فلا
امتناع في طوافه حقيقة وإن كان مناما كما نبه عليه ابن عمر رضي الله عنهما في روايته فهو
محتمل لما تقدم ولتأويل الرؤيا قال القاضي وعلى هذا يحمل ما ذكر من طواف الدجال
بالبيت وأن ذلك رؤيا إذ قد ورد في الصحيح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة مع أنه لم يذكر في
رواية مالك طواف الدجال وقد يقال إن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو في زمن فتنته
والله أعلم وأما المسيح فهو صفة لعيسى صلى الله عليه وسلم وصفة للدجال فأما عيسى فاختلف
العلماء في سبب تسميته مسيحا قال الواحدي ذهب أبو عبيد والليث إلى أن أصله بالعبرانية
مشيحا فعربته العرب وغيرت لفظه كما قالوا موسى واصله موشى أو ميشا بالعبرانية فلما عربوه
غيروه فعلى هذا لا اشتقاق له قال وذهب أكثر العلماء إلى أنه مشتق وكذا قال غيره انه مشتق
على قول الجمهور ثم اختلف هؤلاء فحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لأنه لم يمسح ذا
عاهة الا برئ وقال إبراهيم وابن الأعرابي المسيح الصديق وقيل لكونه ممسوح أسفل القدمين
لا أخمص له وقيل لمسح زكريا إياه وقيل لمسحه الأرض أي قطعها وقيل لأنه خرج من بطن
أمه ممسوحا بالدهن وقيل لأنه مسح بالبركة حين ولد وقيل لان الله تعالى مسحه أي
خلقه خلقا حسنا وقيل غير ذلك والله أعلم وأما الدجال فقيل سمى بذلك لأنه ممسوح
العين وقيل لأنه أعور والأعور يسمى مسيحا وقيل لمسحه الأرض حين خروجه وقيل غير
ذلك قال القاضي ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى انه بفتح الميم وكسر
السين مخففة واختلف في الدجال فأكثرهم يقوله مثله ولا فرق بينهما في اللفظ ولكن عيسى
صلى الله عليه وسلم مسيح هدى والدجال مسيح ضلالة ورواه بعض الرواة مسيح بكسر الميم
والسين المشددة وقاله غير واحد كذلك الا أنه بالخاء المعجمة وقاله بعضهم بكسر الميم وتخفيف
السين والله أعلم وأما تسمية الدجال فقد تقدم بيانها في شرح المقدمة وأما قوله صلى الله عليه وسلم
234

في وصفة الدجال جعد قطط فهو بفتح القاف والطاء هذا هو المشهور قال القاضي عياض
رويناه بفتح الطاء الأولى وبكسرها قال وهو شديد الجعودة وقال الهروي الجعد في صفات الرجال
يكون مدحا ويكون ذما فإذا كان ذما فله معنيان أحدهما القصير المتردد والآخر البخيل
يقال رجل جعد اليدين وجعد الأصابع أي بخيل وإذا كان مدحا فله أيضا معنيان أحدهما أن
يكون معناه شديد الخلق والآخر يكون شعره جعدا غير سبط فيكون مدحا لأن السبوطة
أكثرها في شعور العجم قال القاضي قال غير الهروي الجعد في صفة الدجال ذم وفى صفة
عيسى عليه السلام مدح والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم أعور العين اليمنى كأنها
عنبة طافية فروي بالهمز وبغير الهمز فمن همز معناه ذهب ضوؤها ومن لم يهمز معناه
ناتئة بارزة ثم إنه جاء هنا أعور العين اليمنى وجاء في رواية أخرى أعور العين اليسرى
وقد ذكرهما جميعا مسلم في آخر الكتاب وكلاهما صحيح قال القاضي عياض رحمه الله روينا هذا
الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز وهو الذي صححه أكثرهم قال وهو الذي ذهب إليه الأخفش
ومعناه ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها قال وضبطه بعض شيوخنا بالهمز وأنكره بعضهم ولا
وجه لانكاره وقد وصف في الحديث بأنه مسموح العين وأنها ليست جحراء ولا ناتئة بل مطموسة
وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها وهذا يصحح رواية الهمز وأما ما جاء في الأحاديث الاخر
جاحظ العين وكأنها كوكب وفى رواية لها حدقة جاحظة كأنها نخاعة في حائط فتصحح رواية
ترك الهمزة ولكن يجمع بين الأحاديث وتصحح الروايات جميعا بأن تكون المطموسة والممسوحة
والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز وهي العين اليمنى كما جاء هنا وتكون الجاحظة
والتي كأنها كوكب وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى
وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافية بالهمز وبتركه وأعور العين اليمنى واليسرى لان
كل واحدة منهما عوراء فان الأعور من كل شئ المعيب لا سيما ما يختص بالعين وكلا عيني الدحال
معيبة عوراء إحداهما بذهابها والأخرى بعيبها هذا آخر كلام القاضي وهو في نهاية من الحسن
والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي) هو بفتح الياء منسوب إلى جد له وهو محمد
235

ابن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب بن أبي السائب أبو عبد الله المخزومي
قوله (بين ظهراني الناس) هو بفتح الظاء واسكان الهاء وفتح النون أي بينهم وتقدم بيانه
أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله تبارك وتعالى ليس بأعور ألا ان المسيح الدجال أعور
عين اليمنى) معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع النقائص وأن الدجال مخلوق
من خلق الله تعالى ناقص الصورة فينبغي لكم أن تعلموا هذا وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال
من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة وأما أعور عين اليمنى فهو عند النحويين من الكوفيين على
ظاهره من الإضافة وعند البصريين يقدر فيه محذوف كما يقدر في نظائره فالتقدير أعور عين
صفحة وجهه اليمنى والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (كأشبه من رأيت بابن قطن) ضبطناه
236

رأيت بضم التاء وفتحها وهما ظاهران وقطن هذا بفتح القاف والطاء قوله صلى الله عليه وسلم
(فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته) روى فجلا بتشديد اللام وتخفيفها وهما
ظاهران ومعناه كشف وأظهر وتقدم بيان لغات بيت المقدس واشتقاقه في أول هذا الباب وآياته
علاماته قوله صلى الله عليه وسلم (ينطف رأسه ماء أو يهراق) أما ينطف فمعناه يقطر ويسيل
يقال نطف بفتح الطاء ينطف بضمها وكسرها وأما يهراق فبضم الياء وفتح الهاء ومعناه ينصب
قوله (حدثنا حجين بن المثنى) هو بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم ياء ثم نون قوله صلى الله عليه وسلم
237

(فكربت كربة ما كربت مثله قط) هو بضم الكافين والضمير في مثله يعود
على معنى الكربة وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشئ قال الجوهري الكربة بالضم الغم الذي
يأخذ بالنفس وكذلك الكرب وكربه الغم إذا اشتد عليه قوله صلى الله عليه وسلم (وقد
رأيتني في جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم فإذا موسى صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وإذا
عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلى وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي فحانت الصلاة فأممتهم
قال القاضي عياض رحمه الله قد تقدم الجواب في صلاتهم عند ذكر طواف موسى وعيسى عليهما
السلام قال وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء وهي من أعمال الآخرة قال القاضي فان
قيل كيف رأى موسى عليه السلام يصلى في قبره وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت
المقدس ووجدهم على مراتبهم في السماوات وسلموا عليه ورحبوا به فالجواب أنه يحتمل أن
تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعود النبي صلى الله عليه وسلم
إلى السماء وفى طريقه إلى بيت المقدس ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم
رأى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلى بهم على تلك الحال لأول ما رآهم
ثم سألوه ورحبوا به أو يكون اجتماعه بهم وصلاته ورؤيته موسى بعد انصرافه ورجوعه
عن سدرة المنتهى والله أعلم
238