الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ١٠
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء العاشر
ناشر دار الكتاب العربي
بيروت. لبنان
الطبعة الأولى 1407 ه‍. 1987 م
1

لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره
(ويطأها ثم يفارقها وتنقضي عدتها) قولها (فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير) هو بفتح الزاي وكسر الباء بلا خلاف وهو الزبير بن باطاء ويقال
باطياء وكان عبد الرحمن صحابيا والزبير قتل يهوديا في غزوة بني قريظة وهذا الذي ذكرنا
من أن عبد الرحمن بن الزبير بن باطاء القرظي هو الذي تزوج امرأة رفاعة القرظي هو الذي ذكره
أبو عمر بن عبد البر والمحققون وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة
إنما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف
ابن مالك بن أوس والصواب الأول قولها فبت طلاقي أي طلقني ثلاثا قولها هدبة الثوب هو بضم
الهاء وسكان الدال وهي طرفة الذي لم ينسج شبهوها بهدب العين وهو شعر جفنها قوله
صلى الله عليه وسلم (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) هو بضم العين وفتح السين تصغير
2

عسلة وهي كناية عن الجماع شبه لذته بلذة العسل وحلاوته قالوا وأنث العسيلة لأن العسيلة
نعتين التذكير والتأنيث وقيل أنثها على إرادة النطفة وهذا ضعيف لأن الانزال لا يشترط وفي
هذا الحديث أن المطلقة ثلاثا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره ويطأها ثم يفارقها وتنقضي
عدتها فأما مجرد عقدة عليها فلا يبيحها للأول وبه قال جميع العلماء من الصحابة والتابعين فمن
بعدهم وانفرد سعيد بن المسيب فقال إذا عقد الثاني عليها ثم فارقها حلت للأول ولا يشترط وطء
الثاني لقول الله تعالى حتى تنكح زوجا غيره والنكاح حقيقة في العقد على الصحيح وأجاب الجمهور
بأن هذا الحديث مخصص لعموم الآية ومبين للمراد بها قال العلماء ولعل سعيدا لم يبلغه هذا الحديث
قال القاضي عياض لم يقل أحد يقول سعيد في هذا الا طائفة من الخوارج واتفق العلماء على أن
تغييب الحشفة في قبلها كاف في ذلك من غير إنزال المنى وشذ الحسن البصري فشرط إنزال المنى
وجعله حقيقة العسيلة قال الجمهور بدخول الذكر تحصل اللذة والعسيلة ولو وطئها في نكاح فاسد
لم تحل للأول على الصحيح لأنه ليس بزوج قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم تبسم) قال العلماء
3

ان التبسم للتعجب من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي النساء منه في العادة أو لرغبتها في
زوجها الأول وكراهة الثاني والله أعلم
4

ما يستحب أن يقوله عند الجماع
قوله صلى الله عليه وسلم (لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا فإنه ان يقدر بينهما في ذلك ولد لم يضره شيطان أبدا) قال
القاضي قيل المراد بأنه لا يضره أنه لا يصرعه شيطان وقيل لا يطعن فيه الشيطان عند ولادته
بخلاف غيره قال ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والوسوسة والاغواء هذا كلام القاضي
5

جواز جماعة امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها
(من غير تعرض للدبر)
قول جابر (كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) وفي رواية ان شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك
في صمام واحد المجبية بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم باء موحدة مشددة مكسورة ثم ياء مثناة
من تحت أي مكبوبة على وجهها والصمام بكسر الصاد أي ثقب واحد والمراد به القبل قال
العلماء وقوله تعالى فأتوا حرثكم أنى شئتم أي موضع الزرع من المرأة وهو قبلها الذي يزرع فيه
المنى لابتغاء الولد ففيه إباحة وطئها في قبلها إن شاء من بين يديها وإن شاء من ورائها وإن شاء
مكبوبة وأما الدبر فليس هو بحرث ولا موضع زرع ومعنى قوله أنى شئتم أي كيف شئتم واتفق
العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها حائضا كانت أو طاهرا لأحاديث كثيرة
مشهورة كحديث ملعون من أتى امرأة في دبرها قال أصحابنا لا يحل الوطء في الدبر في شئ من
الآدميين ولا غيرهم من الحيوان في حال من الأحوال والله أعلم قوله (إن يهود كانت تقول)
هكذا هو في النسخ يهود غير مصروف لان المراد قبيلة اليهود فامتنع صرفه للتأنيث والعلمية
6

تحريم امتناعها من فراش زوجها
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح
وفي رواية حتى ترجع هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي وليس الحيض
7

بعذر الامتناع لان له حقا في الاستمتاع بها فوق الأزرار ومعنى الحديث أن اللعنة تستمر
عليها حتى تزول المعصية بطلوع الفجر والاستغناء عنها أو بتوبتها ورجوعا إلى الفراش قوله
صلى الله عليه وسلم (فبات غضبان عليها) وفي بعض النسخ غضبانا تحريم إفشاء المرأة
قوله صلى الله عليه وسلم (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته
وتفضي إليه ثم ينشر سرها) قال القاضي هكذا وقعت الرواية أشر بالألف وأهل النحو يقولون
لا يجوز أشر وأخير وإنما يقال هو خير منه وشر منه قال وقد جاءت الأحاديث الصحيحة
باللغتين جميعا وهي حجة في جوازهما جميعا وأنهما لغتان وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل
ما يجرى بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجرى من المرأة فيه من
قول أو فعل ونحوه فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه لأنه خلاف
8

المروءة وقد قال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت
وإن كان إليه حاجة أو ترتب عليه فائدة بأن ينكر عليه اعراضه عنها أو تدعى عليه العجز عن
الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال صلى الله عليه وسلم انى لأفعله أنا وهذه وقال
صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة أعرستم الليلة وقال لجابر الكيس الكيس والله أعلم
حكم العزل
العزل هو أن يجامع فإذا قارب الانزال نزع وأنزل خارج الفرج وهو مكروه عندنا في كل حال
وكل امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل ولهذا جاء في الحديث الآخر تسميته
الوأد الخفي لأنه قطع طريق الولادة كما يقتل المولود بالوأد وأما التحريم فقال أصحابنا لا يحرم في
مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيتا أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد
وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه وأما زوجته الحرة فإن
أذنت فيه لم يحرم ولا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم هذه الأحاديث مع غيرها يجمع بينها بأن ما ورد
في النهى محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الاذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس
9

معناه نفى الكراهة هذا مختصر ما يتعلق بالباب من الأحكام والجمع بين الأحاديث وللسلف
خلاف كنحو ما ذكرناه من مذهبنا ومن حرمه بغير إذن الزوجة الحرة قال عليها ضرر في العزل
فيشترط لجوازه إذنها قوله (غزوة بلمصطلق) أي بنى المصطلق وهي غزوة المريسيع قال
القاضي قال أهل الحديث هذا أولى من رواية موسى بن عقبة أنه كان في غزوة أوطاس قوله
(كرائم العرب) أي النفيسات منهم قوله (فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء) معناه احتجنا
إلى الوطء وخفنا من الحبل فتصير أم ولد يمتنع علينا بيعها وأخذ الفداء فيها فيستنبط منه منع
بيع أم الولد وأن هذا كان مشهورا عندهم قوله صلى الله عليه وسلم (لا عليكم ألا تفعلوا
ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة الا ستكون) معناه ما عليكم ضرر في ترك العزل
لان كل نفس قدر الله تعالى خلقها لابد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا وما لم بقدر خلقها الا يقع سواء
10

سواء عزلتم أم لا فلا فائدة في عزلكم فإنه إن كان الله تعالى قدر خلقها سبقكم الماء فلا ينفع حرصكم
في منع الخلق وفي هذا الحديث دلالة لمذهب جماهير العلماء أن العرب يجرى عليهم الرق كما يجرى
على العجم وأنهم كانوا مشركين وسبوا جاز استرقاقهم لان بنى المصطلق عر ب صلبية من
11

خزاعة وقد استرقوهم ووطئوا سباياهم واستباحوا بيعهن وأخذ فدائهن وبهذا قال مالك والشافعي
12

في قوله الصحيح الجديد وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة والشافعي في قوله القديم لا يجرى عليهم
الرق لشرفهم والله أعلم (قوله إن لي جارية) هي خادمنا وسانيتنا أي التي تسقى لنا شبهها بالبعير
في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي اخبره بأن له جارية يعزل عنها (إن شئت ثم أخبره أنها
حبلت) إلى آخره فيه دلالة على الحاق النسب مع العزل لأن الماء قد سبق وفيه أنه إذا اعترف
بوطء أمته صارت فراشا له وتلحقه أولادها الا أن يدعى الاستبراء وهو مذهبنا ومذهب مالك
قوله صلى الله عليه وسلم (انا عبد الله ورسوله) معناه هنا أن ما أقول لكم حق فاعتمدوه واستيقنوه
فإنه يأتي مثل فلق الصبح
13

تحريم وطء الحامل المسبية
قوله (عن يزيد بن خمير) هو بالخاء المعجمة قوله (أتى بامرأة مجح على باب فسطاط) المجح بميم
مضمومة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة وهي الحامل التي قربت ولادتها وفي الفسطاط ست
لغات فسطاط وفستاط وفساط بحذف الطاء والتاء لكن بتشديد السين وبضم الفاء وكسرها
في الثلاثة وهو نحو بيت الشعر قوله (أتى بامرأة على باب فسطاط فقال لعله يريد أن يلم
بها فقالوا نعم فقال لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف
14

يستخدمه وهو لا يحل له) معنى يلم بها أي يطأها وكانت حاملا مسبية لا يحل جماعها حتى تضع
وأما قوله صلى الله عليه وسلم كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له فمعناه انه
قد تتأخر ولادتها ستة اشهر حيث يحتمل كون الولد من هذا السابي ويحتمل أنه كان ممن قبله فعلى
تقدير كونه من السابي يكون ولدا له ويتوارثان وعلى تقدير كونه من غير السابي لا يتوارثان
هو ولا السابي لعدم القرابة بل له استخدامه لأنه مملوكه فتقدير الحديث أنه قد يستلحقه ويجعله
ابنا له ويورثه مع أنه لا يحل له توريثه لكونه ليس منه ولا يحل توارثه ومزاحمته لباقي الورثة
وقد يستخدمه استخدام العبيد ويجعله عبدا يمتلكه مع أنه لا يحل له ذلك لكونه منه إذا وضعته
لمدة محتملة كونه من كل واحد منهما فيجب عليه الامتناع من وطئها خوفا من هذا المحظور فهذا
هو الظاهر في معنى الحديث وقال القاضي عياض معناه الإشارة إلى أنه قد ينمى
هذا الجنين بنطفة هذا السابي فيصير مشاركا فيه فيمتنع الاستخدام قال وهو نظير الحديث الآخر من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره هذا كلام القاضي وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل
وكيف ينتظم التوريث مع هذا التأويل بل الصواب ما قدمناه والله أعلم
جواز الغيلة وهي وطء المرضع وكراهة العزل
قوله (عن جدامة بنت وهب) ذكر مسلم اختلاف الرواة فيها هل هي بالدال المهملة أم بالذال المعجمة
15

قال والصحيح أنه بالدال يعنى المهملة وهكذا قال جمهور العلماء أن الصحيح أنها بالمهملة والجيم
مضمومة بلا خلاف وقوله جدامة بنت وهب وفي الرواية الأخرى جدامة بنت وهب أخت عكاشة
قال القاضي عياض قال بعضهم أنها أخت عكاشة على قول مقال أنها جدامة بنت وهب بن محصن
وقال آخرون هي أخت رجل آخر يقال له عكاشة بن وهب ليس بعكاشة بن محصن المشهور
وقال الطبري هي جدامة بنت جندل هاجرت قال والمحدثون قالوا فيها جدامة بنت وهب هذا
ما ذكره القاضي والمختار أنها جدامة بنت وهب الأسدية أخت عكاشة بن محصن المشهور
الأسدي وتكون أخته من أمه وفي عكاشة لغتان سبقتا في كتاب الايمان تشديد الكاف وتخفيفها
والتشديد أفصح وأشهر قوله صلى الله عليه وسلم (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت
أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم) قال أهل اللغة الغيلة هنا بكسر الغين ويقال
لها الغيل بفتح الغين مع حذف الهاء والغيال بكسر الغين كما ذكره مسلم في الرواية الأخيرة
وقال جماعة من أهل اللغة الغيلة بالفتح المرة الواحدة وأما بالكسر فهي الاسم من الغيل وقيل إن
أريد بها وطء المرضع جاز الغيلة والغيلة بالكسر والفتح واختلف العلماء في المراد بالغيلة
في هذا الحديث وهي الغيل فقال مالك في الموطأ والأصمعي وغيره من أهل اللغة أن يجامع امرأته
وهي مرضع يقال منه أغال الرجل وأغيل إذا فعل ذلك وقال ابن السكيت هو أن ترضع المرأة
وهي حامل يقال منه غالت وأغيل قال العلماء سبب همه صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها أنه
يخاف من ضرر الولد الرضيع قالوا والأطباء يقولون إن ذلك اللبن داء والعرب تكرهه وتتقيه
وفي الحديث جواز الغيلة فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها وبين سبب ترك النهى وفيه جواز
16

الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال جمهور أهل الأصول وقيل لا يجوز لتمكنه
من الوحي والصواب الأول قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا هم يغيلون) هو بضم الياء لأنه من أغال
يغيل كما سبق قوله (ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الوأد الخفي)
وهي وإذا الموؤودة سئلت الوأد والموؤودة بالهمز والوأد دفن البنت وهي حية وكانت العرب
تفعله خشية الاملاق وربما فعلوه خوف العار والموؤودة البنت المدفونة حية ويقال وأدت المرأة
ولدها وأدا قيل سميت موؤودة لأنها تثقل بالتراب وقد سبق في باب العزل وجه تسمية هذا وأدا
وهو مشابهته الوأد في تفويت الحياة وقوله في هذا الحديث وإذا الموؤودة سئلت معناه أن العزل
يشبه الوأد المذكور في هذه الآية قوله (حدثني عياش بن عباس) الأول بالشين المعجمة وأبوه بالسين
17

المهملة وهو عياش بن عباس القتباني بكسر القاف منسوب إلى قتبان بطن من رعين قوله (أشفق على
ولدها) هو بضم الهمزة وكسر الفاء أي أخاف قوله صلى الله عليه وسلم (ما ضار ذلك فارس ولا الروم)
هو بتخفيف الراء أي ما ضرهم يقال ضاره يضيره ضيرا وضره يضره ضرا وضرا والله أعلم
كتاب الرضاع
هو بفتح الراء وكسرها والرضاعة بفتح الراء وكسرها وقد رضع الصبي أمه بكسر الضاد
يرضعها بفتحها غالبا قال الجوهري ويقول أهل نجد رضع يرضع بفتح الضاد في الماضي
وكسرها في المضارع رضعا كضرب يضرب ضربا وأرضعته أمه امرأة مرضع أي لها ولد
ترضعه فإن رضعتها بارضاعه قلت مرضعة بالهاء والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إن
18

الرضاعة تحرم ما تحرمه الولادة وفي رواية يحرم من الرضاع ما يحر من الولادة وفي حديث
قصة حفصة وحديث قصة عائشة الاذن لدخول العم من الرضاعة عليها وفي الحديث الآخر
فليلج عليك عمك قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال إنه عمك فليلج عليك هذه
الأحاديث متفقة عل ثبوت حرمة الرضاع وأجمعت الأمة على ثبوتها بين الرضيع والمرضعة
وأنه يصير ابنها يحرم عليه نكاحها أبدا ويحل له النظر إليها والخلوة بها والمسافرة ولا يترتب
عليه أحكام الأمومة من كل وجه فلا يتوارثان ولا يجب على واحد منهما نفقة الآخر ولا يعتق
عليه بالملك ولا ترد شهادته لها ولا يعقل عنها ولا يسقط عنها القصاص بقتله فهما كالأجنبيين
في هذه الأحكام وأجمعوا أيضا على انتشار الحرمة بين المرضعة
وأولاد الرضيع وبين الرضيع
وأولاد المرضعة وأنه في ذلك كولدها من النسب لهذه الأحاديث وأما الرجل المنسوب ذلك
اللبن إليه لكونه زوج المرأة أو وطئها بملك أو شبهة فمذهبنا ومذهب العلماء كافة ثبوت
حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع ويصير ولدا له وأولاد الرجل أخوة الرضيع وأخواته
وتكون أخوة الرجل أعمام الرضيع وأخواته عماته وتكون أولاد الرضيع أولاد الرجل
ولم يخالف في هذا إلا أهل الظاهر وابن عليه فقالوا لا تثبت حرمة الرضاع بين الرجل والرضيع
ونقله المازري عن ابن عمر وعائشة واحتجوا بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم
من الرضاعة ولم يذكر البنت والعمة كما ذكرهما في النسب واحتج الجمهور بهذه الأحاديث
الصحيحة الصريحة في عم عائشة وعم حفصة قوله صلى الله عليه وسلم مع إذنه فيه أنه يحرم من
الرضاعة ما يحرم من الولادة وأجابوا عما احتجوا به من الآية أنه ليس فيها نص بإباحة البنت
والعمة ونحوهما لأن ذكر الشئ لا يدل على سقوط الحكم عما سواه لو لم يعارضه دليل آخر كيف
وقد جاءت هذه الأحاديث الصحيحة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أراه فلانا) لعم حفصة
هو بضم الهمزة أي أظنه قوله (حدثنا علي بن هاشم بن البريد) هو بباء موحدة مفتوحة
19

ثم راء مكسورة ثم ياء مثناة تحت قوله (عن عائشة أنها أخبرته أن أفلح أخا أبى القعيس
جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة) إلى آخره وذكر الحديث السابق في أول الباب
عن عائشة أنها قالت يا رسول الله لو كان فلانا حيا لعمها من الرضاعة دخل على قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ان الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة اختلف العلماء في عم
عائشة المذكور فقال أبو الحسن القابسي هما عمان لعائشة من الرضاعة أحدهما أخو أبيها أبى بكر
من الرضاعة ارتضع هو وأبو بكر رضي الله عنه من امرأة واحدة والثاني أخو أبيها من الرضاعة
الذي هو أبو القعيس وأبو القعيس أبوها من الرضاعة وأخوه أفلح عمها وقيل عم واحد وهذا
غلط فإن عمها في الحديث الأول ميت وفي الثاني حي جاء يستأذن فالصواب ما قاله القابسي وذكر
القاضي القولين ثم قال قول القابسي أشبه لأنه لو كان واحدا لفهمت حكمه من المرة الأولى ولم تحتجب
منه بعد ذلك فإن قيل فإذا كان عمين كيف سألت على الميت وأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أنه عم
20

لها يدخل عليها واحتجت عن عمها الآخر أخي أبي القعيس حتى أعلمها النبي صلى الله عليه وسلم
بأنه عمها يلج عليها فهلا اكتفت بأحد السؤالين فالجواب أنه يحتمل أن أحدهما كان عما من أحد
الأبوين والآخر منهما أو عما أعلى والآخر أدنى أو نحو ذلك من الاختلاف فخافت أن تكون
الإباحة مختصة بصاحب الوصف المسؤول عن أولا والله أعلم قوله (عن عائشة أن أفلح أخا
أبى القعيس جاء يستأذن عليها) وفي رواية أفلح بن أبي قعيس وفي رواية استأذن على عمى من
الرضاعة أبو الجعد فرددته قال لي هشام إنما هو أبو القعيس وفي رواية أفلح بن قعيس قال
الحفاظ الصواب الرواية الأولى وهي التي كررها مسلم في أحاديث الباب وهي المعروفة في كتب
الحديث وغيرها أن عمها من الرضاعة هو أفلح أخو أبى القعيس وكنية أفلح أبو الجعد والقعيس
بضم القاف وفتح العين وبالسين المهملة قوله صلى الله عليه وسلم (تربت يداك أو يمينك)
21

سبق شرحه في كتاب الغسل قوله (مالك تنوق في قريش) هو بتاء مثناة فوق
مفتوحة ثم نون مفتوحة ثم واو مفتوحة مشددة ثم قاف أي تختار وتبالغ في الاختيار قال القاضي وضبطه بعضهم
بتاءين مثناتين الثانية مضمومة أي تميل قوله (وحدثنا هداب) هو بفتح الهاء وتشديد الدال
المهملة ويقال له هدبه بضم الهاء وسبق بيانه مرات قوله (أريد على ابنة حمزة) هو بضم الهمزة
23

وكسر الراء ومعناها قيل له يتزوجها قوله (محمد بن يحيى بن مهران القطعي) هو بضم القاف وفتح
الطاء منسوب إلى قطيعة قبيلة معروفة وهو قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد
ابن قيس بن عيلان بالعين المهملة قوله (كليهما عن قتادة) كذا وقع في بعض النسخ وفى بعضها
كلاهما وهو الجاري على المشهور والأول صحيح أيضا وقد سبق بيان وجهه في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح قوله (وفى رواية بشر سمعت جابر بن زيد) يعنى في رواية بشر أن قتادة
قال سمعت جابر بن زيد وهذا مما يحتاج إلى بيانه لأن قتادة مدلس وقد قال في الرواية الأولى
قتادة عن جابر وقد علم أن المدلس لا يحتج بعنعنته حتى يثبت سماعه لذلك الحديث فنبه مسلم على
ثبوته قوله (أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت عبد الله بن مسلم يقول سمعت محمد بن مسلم
يقول سمعت حميد بن عبد الرحمن يقول سمعت أم سلمة) هذا الاسناد فيه أربعة تابعيون أولهم
بكير بن عبد الله بن الأشج روى عن جماعة من الصحابة والثاني عبد الله بن مسلم الزهري
24

أخو الزهري المشهور وهو تابعي سمع ابن عمر وآخرين من الصحابة وهو أكبر من أخيه الزهري
المشهور والثالث محمد بن مسلم الزهري المشهور وهو أخو عبد الله الراوي عنه كما ذكرنا والرابع
حميد بن عبد الرحمن بن عوف وهو والزهري تابعيان مشهوران ففي هذا الاسناد ثلاث لطائف
من علم الاسناد أحدها كونه جمع أربعة تابعيين بعضهم عن بعض الثانية أن فيه رواية الكبير
عن الصغير لأن عبد الله أكبر من أخيه محمد كما سبق الثالثة أن فيه رواية الأخ عن أخيه
قولها (لست لك بمخلية) هو بضم الميم وإسكان الخاء المعجمة أي لست أخلى لك بغير ضرة
قولها (وأحب من شركني في الخير أختي) هو بفتح الشين وكسر الراء أي أحب من شاركني
فيك وفي صحبتك والانتفاع منك بخيرات الآخرة والدنيا قولها (تخطب درة بنت أبي سلمة) هي
بضم الدال وتشددي الراء وهذا لا خلاف فيه وأما ما حكاه القاضي عياض عن بعض الرواة
كتاب مسلم أنه ضبطه ذرة بفتح الذال المعجمة فتصحيف لا شك فيه قولها (قال ابنة أم سلمة
قلت نعم) هذا سؤال استثبات ونفي احتمال إرادة غيرها قوله صلى الله عليه وسلم (لو أنها لم تكن
ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) معناه أنه حرام على بسببين كونها
ربيبة وكونها بنت أخي فلو فقد أحد السببين حرمت بالآخر والربيبة بنت الزوجة مشتقة
من الرب وهو الاصلاح لأنه يقوم بأمورها ويصلح أحوالها ووقع في بعض كتب الفقه أنها
25

مشتقة من التربية وهذا غلط فاحش فإن من شرط الاشتقاق الاتفاق في الحروف الأصلية
ولام الكلمة وهو الحرف الأخير مختلف فإن آخر رب باء موحدة وفي آخر ربى ياء مثناة من
تحت والله أعلم والحجر بفتح الحاء وكسرها وأما قوله صلى الله عليه وسلم ربيبتي في حجري
ففيه حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم الا إذا كانت في حجر زوج أمها فإن
لم تكن في حجره فهي حلال له وهو موافق لظاهر قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم
ومذهب العلماء كافة سوى داود أنها حرام سواء كانت في حجره أم لا قولوا والتقييد إذا خرج
على سبب لكونه الغالب لم يكن له مفهوم يعمل به فلا يقصر الحكم عليه ونظيره قوله تعالى
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ومعلوم أنه يحرم قتلهم بغير ذلك أيضا لكن خرج التقييد بالاملاق
لأنه الغالب وقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ونظائره في القرآن
كثيرة قوله (صلى الله عليه وسلم أرضعتني وأباها ثويبة) أباها بالباء الموحدة أي أرضعت أنا
وأبوها أبو سلمة من ثويبة بثاء مثلثة مضمومة ثم واو مفتوحة ثم ياء التصغير ثم ياء موحدة
ثم هاء وهي مولاة لأبي لهب ارتضع منها صلى الله عليه وسلم قبل حليمة السعدية رضي الله عنها قوله
صلى الله عليه وسلم (فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن) إشارة إلى أخت أم حبيبة وبنت
أم سلمة واسم أخت أم حبيبة هذه عزة بفتح العين المهملة وقد سماها في الرواية الأخرى وهذا
26

محمول على أنها لم تعلم حينئذ تحريم الجمع بين الأختين وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الريبة
وكذا لم تعلم من عرض بنت حمزة تحريم بنت الأخ من الرضاعة أو لم تعلم أن حمزة أخ له من الرضاع
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا تحرم المصة والمصتان) وفي رواية لا تحرم الا ملاجة
والاملاجتان وفي رواية قال يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا وفي رواية عائشة قالت كان
فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن أما الاملاجة فبكسر الهمزة والجيم المخففة وهي
27

المصة يقال ملج الصبي أمه وأملجته وقولها (فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ)
هو بضم الياء من يقرأ ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى أنه صلى الله عليه وسلم
توفى وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه السنخ لقرب عهده
فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى والنسخ ثلاثة أنواع
أحدها ما نسخ حكمه وتلاوته كعشر رضعات والثاني ما نسخت تلاوته دون حكمة كخمس
رضعات وكالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما والثالث ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته وهذا هو
الأكثر ومنه قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية والله أعلم
واختلف العلماء في القدر الذي يثبت به حكم الرضاع فقالت عائشة والشافعي وأصحابه لا يثبت
بأقل من خمس رضعات وقال جمهور العلماء يثبت برضعة واحدة حكاه ابن المنذر عن علي
وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس وابن المسيب والحسن ومكحول والزهري
وقتادة والحكم وحماد ومالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة رضي الله عنهم وقال أبو ثور
وأبو عبيدة بن المنذر وداود يثبت بثلاث رضعات ولا يثبت بأقل فأما الشافي وموافقوه فأخذوا
بحديث عائشة خمس رضعات معلومات وأخذ مالك بقوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم
ولم يذكر عددا وأخذ داود بمفهوم حديث لا تحرم المصة والمصتان وقال هو مبين للقرآن
29

واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي
أرضعنكم أمهاتكم واعترض أصحاب مالك على الشافعية بأن حديث عائشة هذا لا يحتج به عندكم وعند
محققي الأصوليين لأن القرآن لا يثبت بخبر الواحد وإذا لم يثبت قرآنا لم يثبت بخبر الواحد عن النبي
صلى الله عليه وسلم لأن خبر الواحد إذا توجه إليه قادح يوقف عن العمل به وهذا إذا لم يجئ إلا بآحاد
مع أن العادة مجيئه متواترا توجب ريبة والله أعلم واعترضت الشافعية على المالكية بحديث المصة
والمصتان وأجابوا عنه بأجوبة باطلة لا ينبغي ذكرها لكن ننبه عليها خوفا من الاغترار بها منه أن بعضهم
ادعى أنها منسوخة وهذا باطل لا يثبت بمجرد الدعوى ومنها أن بعضهم زعم أنه موقوف على
عائشة وهذا خطأ فاحش بل قد ذكره مسلم وغيره من طرق صحاح مرفوعا من رواية عائشة
ومن رواية أم الفضل ومنها أن بعضهم زعم أنه مضطرب وهذا غلط ظاهر وجسارة على رد السنن
بمجرد الهوى وتوهين صحيحها لنصرة المذاهب وقد جاء في اشتراط العدد أحاديث كثيرة مشهورة
والصواب اشتراطه قال القاضي عياض وقد شذ بعض الناس فقال لا يثبت الرضاع إلا بعشر
رضعات وهذا باطل مردود والله أعلم قوله (امرأتي الحدثى) هو بضم الحاء وإسكان
الدال أي الجديدة قوله (حدثنا حبان حدثنا همام) هو حبان بن هلال وهو بفتح الحاء وبالباء
الموحدة وذكر مسلم سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة وإرضاعها سالما وهو رجل واختلف
العلماء في هذه المسألة فقالت عائشة وداود تثبت حرمة الرضاع برضاع البالغ كما تثبت برضاع
الطفل لهذا الحديث وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن لا يثبت
الا بإرضاع من له دون سنتين إلا أبا حنيفة فقال سنتين ونصف وقال زفر ثلاث سنين وعن مالك
رواية سنتين وأيام واحتج الجمهور بقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن
أراد أن يتم الرضاعة وبالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا إنما الرضاعة من المجاعة وبأحاديث
30

مشهورة وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(أرضعيه) قال القاضي لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما وهذا الذي
قاله القاضي حسن ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر والله أعلم
31

قوله (مكثت سنة أو قريبا منها لا أحدث به وهبته) هكذا هو في بعض النسخ وهبته من الهيبة
وهي الاجلال وفي بعضها رهبته بالراء من الرهبة وهي الخوف وهي بكسر الهاء وإسكان الباء
وضم التاء وضبطه القاضي وبعضهم رهبته بإسكان الهاء وفتح الباء ونصب التاء قال القاضي هو
منصوب بإسقاط حرف الجر والضبط الأول أحسن وهو الموفق للنسخ الآخر وهبته بالواو
32

وقولها يدخل عليك الغلام الأيفع هو بالياء المثناة من تحت وبالفاء وهو الذي قارب البلوغ
ولم يبلغ وجمعه أيفاع وقد أيفع الغلام ويفع وهو يافع والله أعلم
33

جواز وطء المسبية بعد الاستبراء
(وإن كان لها زوج انفسخ نكاحه بالسبي) قوله (حدثنا يزيد بن زريع
حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن صالح أبى الخليل عن أبي علقمة
الهاشمي عن أبي سعيد الخدري) وفي الطريق الثاني عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي
الخليل عن أبي علقمة عن أبي سعيد الخدري وفي الطريق الآخر عن شعبة عن قتادة عن أبي
الخليل عن أبي سعيد الخدري من غير ذكر أبي علقمة هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا
ذكره أبو علي الغساني عن رواية الجلودي وابن ماهان
قال وكذلك ذكره أبو مسعود الدمشقي قال
ووقع في نسخة ابن الحذاء باثبات أبي علقمة بين أبي الخليل وأبي سعيد قال الغساني ولا أدري
ما صوابه قال القاضي عياض قال غير الغساني اثبات أبي علقمة هو الصواب قلت ويحتمل أن
34

إثباته وحذفه كلاهما صواب ويكون أبو الخليل سمع بالوجهين فرواه تارة كذا تارة كذا وقد سبق
في أول الكتاب بيان أمثال هذا قوله (بعث جيشا إلى أوطاس) أوطاس موضع عند الطائف
يصرف ولا يصرف سبق بيانه قريبا قوله (فأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من اجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله تعالى
في ذلك والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم) أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن
معنى تحرجوا خافوا الحرج وهو الاثم من غشيانهن أي من وطئهن من أجل أنهن زوجات
والمزوجة لا تحل لغير زوجها فأنزل الله تعالى إباحتهن بقوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم والمراد بالمحصنات هنا المزوجات ومعناه والمزوجات حرام على غير أزواجهن الا ما ملكتم
بالسبي فإنه ينفسخ نكاح زوجها الكافر وتحل لكم إذا انقضى استبراؤها والمراد بقوله إذا انقضت
عدتهن أي استبراؤهن وهي بوضع الحمل عن الحامل وبحيضة من الحائل كما جاءت به الأحاديث
الصحيحة وأعلم ان مذهب الشافعي ومن قال بقوله من العلماء أن المسبية من عبدة الأوثان وغيرهم
35

من الكفار الذين لا كتاب لهم لا يحل وطؤها بملك اليمين حتى تسلم فما دامت على دينها فهي محرمة
وهؤلاء المسبيات كن من مشركي العرب عبدة الأوثان فيؤول هذا الحديث وشبهه على أنهن
أسلمن وهذا التأويل لا بد منه والله أعلم واختلف العلماء في الأمة إذا بيعت وهي
مزوجة مسلما هل ينفسخ النكاح وتحل لمشتريها أم لا فقال ابن عباس ينفسخ لعموم
قوله تعالى والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم وقال سائر العلماء لا ينفسخ وخصوا
الآية بالمملوكة بالسبي قال المازري هذا الخلاف مبنى على أن العموم إذا خرج على سبب
هل يقصر على سببه أم لا فمن قال يقصر على سببه لم يكن فيه هنا حجة للمملوكة بالشراء لأن
التقدير الا ما ملكت أيمانكم بالسبي ومن قال لا يقصر بل يحمل على عمومة قال ينفسخ نكاح
المملوكة بالشراء لكن ثبت في حديث شراء عائشة بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة
في زوجها فدل على أنه لا ينفسخ بالشراء لكن هذا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وفي
جوازه خلاف والله أعلم
36

الولد للفراش وتوقى الشبهات
قوله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قال العلماء العاهر الزاني وعهر زنى
وعهرت زنت والعهر الزنا ومعنى له الحجر أي له الخيبة ولا حق له في الولد وعادة العرب أن
تقول له الحجر وبفيه الأثلب وهو التراب ونحو ذلك يريدون ليس له الا الخيبة وقيل المراد
بالحجر هنا أنه يرجم بالحجارة وهذا ضعيف لأنه ليس كل زان يرجم وإنما يرجم المحصن خاصة
ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد عنه والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه وأما قوله
صلى الله عليه وسلم الولد للفراش فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجه أو مملوكه صارت فراشا له فأتت بولد
لمدة الامكان منه لحقه الولد وصار ولدا يجرى بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة سواء
37

كان موافقا له في الشبه أم مخالفا ومدة امكان كونه منه ستة أشهر من حين اجتماعهما أماما تصير به
المرأة فراشا فإن كانت زوجة صارت فراشا بمجرد عقد النكاح ونقلوا في هذا الاجماع وشرطوا
امكان الوطء بعد ثبوت الفراش فإن لم يمكن بأن نكح المغربي مشرقية ولم يفارق واحد منهما
وطنه ثم أتت بولد لستة أشهر أو أكثر لم يلحقه لعدم امكان كونه منه هذا قول مالك والشافعي
والعلماء كافة الا أبا حنيفة فلم يشترط الامكان بل اكتفى بمجرد العقد قال حتى لو طلق عقب
العقد من غير امكان وطء فولدت لستة أشهر من العقد لحقه الولد وهذا ضعيف ظاهر الفساد
ولاجة له في اطلاق الحديث لأنه خرج على الغالب وهو حصول الامكان عند العقد هذا حكم
الزوجة وأما الأمة فعند الشافعي ومالك تصير فراشا بالوطء ولا تصير فراشا بمجرد الملك حتى
لو بقيت في ملك سنين وأتت بأولاد ولم يطأها ولم يقر بوطئها لا يلحقه أحد منهم فإذا وطئها صارت
فراشا فإذا أتت بعد الوطء بولد أو أولاد لمدة الامكان لحقوه وقال أبو حنيفة لا تصير فراشا الا إذا
ولدت ولدا واستلحقه فما تأتي به بعد ذلك يلحقه الا أن ينفيه قال لأنها صارت فراشا بالوطء
لصارت بعقد الملك كالزوجة قال أصحابنا الفرق أن الزوجة تراد للوطء خاصة فجعل الشرع العقد
عليها كالوطء لما كان هو المقصود وأما الأمة تراد لملك الرقبة وأنواع من المنافع غير الوطء
ولهذا يجوز أن يملك أختين وأما وبنتها ولا يجوز جمعهما بعقد النكاح فلم تصر بنفس العقد
فراشا فإذا حصل الوطء صارت كالحرة وصارت فراشا واعلم أن حديث عبد بن زمعة المذكور
هنا محمول على أنه ثبت مصير أمة أبيه زمعة فراشا لمنعه فلهذا ألحق النبي صلى الله عليه وسلم به الولد
وثبوت فراشه إما بينه على إقراره بذلك في حياته وإما بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وفي هذا
دلالة للشافعي ومالك على أبي حنيفة فإنه لم يكن لزمعة ولد آخر من هذه الأمة قبل هذا فدل على أنه
ليس بشرط خلاف ما قاله أبو حنيفة وفي هذا الحديث دلالة للشافعي وموافقيه على مالك وموافقيه
38

في استلحاق النسب لأن الشافعي يقول يجوز أن يستلحق الوارث نسبا لمورثه بشرط أن يكون
حائزا للإرث أو يستلحقه كل الورثة وبشرط أن يمكن كون المستلحق ولدا للميت وبشرط أن
لا يكون معروف النسب من غيره وبشرط أن يصدقه المستلحق إن كان عاقلا بالغا وهذه الشروط
كلها موجودة في هذا الولد الذي ألحقه النبي صلى الله عليه وسلم بزمعة حين استلحقه عبد
ابن زمعة ويتأول أصحابنا هذا التأويلين أحدهما أن سودة بنت زمعة أخت عبد استلحقته معه
ووافقته في ذلك حتى تكون كل الورثة مستحلقين والتأويل الثاني أن زمعة مات كافرا فلم ترث
سودة لكونها مسلمة وورثه عبد بن زمعة وأما قوله صلى الله عليه وسلم واحتجبي منه يا سودة
فأمرها به ندبا واحتياطا لأنه في ظاهر الشرع أخوها لأنه ألحق بأبيها لكن لما رأى الشبه البين
بعتبة بن أبي وقاص خشي أن يكون من مائة فيكون أجنبيا منها فأمرها بالاحتجاب منه احتياطا
قال المازري وزعم بعض الحنفية أنه إنما أمرها بالاحتجاب لأنه جاء في رواية احتجبي منه
فإنه ليس بأخ لك وقوله ليس بأخ لك لا يعرف في هذا الحديث بل هي زيادة باطلة مردودة
والله أعلم قال القاضي عياض رضي الله عنه كانت عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنا وكانوا يستأجرون
الإماء للزنا فمن اعترفت الأم بأنه له ألحقوه به فجاء الاسلام بإبطال ذلك وبإلحاق الولد
بالفراش الشرعي فلما تخاصم عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص وقام سعد بما عهد إليه أخوه
عتبة من سيرة الجاهلية ولم يعلم سعد بطلان ذلك في الاسلام ولم يكن حصل إلحاقه في الجاهلية
إما لعدم الدعوى وإما لكون الأم لم تعترف به لعتبة واحتج عبد بن زمعة بأنه ولد على فراش
أبيه فحكم له به النبي صلى الله عليه وسلم قوله (رأى شبها بينا بعتبة ثم قال صلى الله عليه وسلم
الولد للفراش) دليل على أن الشبه وحكم القافة إنما يعتمد إذا لم يكن هناك أقوى منه كالفراش
كما لم يحكم صلى الله عليه وسلم بالشبه في قصة المتلاعنين مع أنه جاء على الشبه المكروه واحتج بعض
39

الحنفية وموافقيهم بهذا الحديث على أن الوطء بالزنا له حكم الوطء بالنكاح في حرمة المصاهرة وبهذا
قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وقال مالك والشافعي وأبو ثور وغيرهم لا أثر لوطء الزنا بل
للزاني أن يتزوج أم المزني بها وبنتها بل زاد الشافعي فجوز نكاح البنت المتولدة من مائة بالزنا
قالوا ووجه الاحتجاج به أن سودة أمرت بالاحتجاب وهذا احتجاج باطل والعجب ممن ذكره لأن هذا
على تقدير كونه من الزنا وهو أجنبي من سودة لا يحل لها الظهور له سواء ألحق بالزاني أم لا فلا
تعلق له بالمسألة المذكورة وفي هذا الحديث أن حكم الحاكم لا يحيل الأمر في الباطن فإذا حكم
بشهادة شاهدي زور أو نحو ذلك لم يحل المحكوم به للمحكوم له وموضع الدلالة أنه
صلى الله عليه وسلم حكم به لعبد بن زمعة وأنه أخ له ولسودة واحتمل بسبب الشبه أن يكون من عتبة
فلو كان الحكم يحيل الباطن لما أمرها بالاحتجاب والله أعلم
باب العمل بإلحاق القائف الولد
قوله (عن عائشة أنها قالت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على مسرور تبرق
أسارير وجهه فقال ألم ترى أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال إن بعض
هذه الاقدام لمن بعض) قال أهل اللغة قوله تبرق بفتح التاء وضم الراء أي تضئ وتستنير من
السرور والفرح والأسارير هي الخطوط التي في الجبهة واحدها سر وسرور وجمعه أسرار وجمع
الجمع أسارير وأما مجزز فبميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم زاي مشددة مكسورة ثم زاي أخرى
40

هذا هو الصحيح المشهور وحكى القاضي عن الدارقطني وعبد الغنى أنهما حكيا عن ابن جريج
أنه بفتح الزاي الأولى وعن ابن عبد البر وأبي علي الغساني أن ابن جريج قال إنه محرز بإسكان
الحاء المهملة وبعدها راء والصواب الأول وهو من بني مدلج بضم الميم وإسكان الدال وكسر
اللام قال العلماء وكانت القيافة فيهم وفي بني أسد تعترف لهم العرب بذلك ومعنى نظر آنفا
أي قريبا وهو بمد الهمزة على المشهور وبقصرها وقربهما في السبع قال القاضي قال
المازري وكانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه اسود شديد السواد وكان زيد أبيض
كذا قاله أبو داود عن أحمد بن صالح فلما قضى هذا القائف بإلحاق نسبه مع اختلاف اللون
وكانت الجاهلية تعتمد قول القائف فرح النبي صلى الله عليه وسلم لكونه زاجرا لهم عن الطعن
في النسب قال القاضي قال غير أحمد بن صالح كان زيد أزهر اللون وأم أسامة هي أم أيمن واسمها
بركة وكانت حبشية سوداء قال القاضي هي بركة بنت محصن بن ثعلبة بن عمرو بن حصين بن
مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان والله أعلم واختلف العلماء في العمل بقول القائف فنفاه
أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإسحاق وأثبته الشافعي وجماهير العلماء والمشهور عن مالك
إثباته في الإماء ونفيه في الحرائر وفي رواية عنه اثباته فيهما ودليل الشافعي حديث مجزز لأن
النبي صلى الله عليه وسلم فرح لكونه وجد في أمته من يميز أنسابها عند اشتباهها ولو كانت القيافة
باطلة لم يحصل بذلك سرور واتفق القائلون بالقائف على أنه يشترط فيه العدالة واختلفوا
في أنه هل يكتفى بواحد والأصح عند أصحابنا الاكتفاء بواحد وبه قال ابن القاسم المالكي
وقال مالك يشترط اثنان وبه قال بعض أصحابنا وهذا الحديث يدل للاكتفاء بواحد واختلف
أصحابنا في اختصاصه ببني مدلج والأصح أنه لا يختص واتفقوا على أنه يشترط أن يكون خبيرا
41

بهذا مجربا واتفق القائلون بالقائف على أنه إنما يكون فيما أشكل من وطئين محترمين
كالمشترى والبائع يطآن الجارية المبيعة في طهر قبل الاستبراء من الأول فتأتي بولد لستة أشهر
فصاعدا من وطء الثاني ولدون أربع سنين من وطء الأول إذا رجعنا إلى القائف فألحقه
بأحدهما لحق به فإن أشكل عليه أو نفاه عنهما ترك الولد حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل إليه
منهما وإن ألحقه بهما فمذهب عمر بن الخطاب ومالك والشافعي أنه يتركه يبلغ فينتسب إلى من
يميل إليه منهما وقال أبو ثور وسحنون يكون ابنا لهما وقال الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان
يلحق بأكثرهما له شبها قال ابن مسلمة إلا أن يعلم الأول فيلحق به واختلف النافون للقائف
في لولد المتنازع فيه فقال أبو حنيفة يلحق بالرجلين المتنازعين فيه ولو تنازع فيه امرأتان لحق بهما
وقال أبو يوسف ومحمد يلحق بالرجلين ولا يلحق الا بامرأة واحدة وقال إسحاق يقرع بينهما
قدر ما تستحقه البكر والثيب
(من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف)
قوله (عن سفيان بن محمد بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
42

عن أبيه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا الخ) وفي
رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الملك بن أبي بكر عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم
حين تزوج أم سلمة وكذا رواه من رواية سليمان بن بلال مرسلا ورواه بعد هذا من
رواية حفص بن غياث متصلا كرواية سفيان قال الدارقطني قد أرسله عبد الله بن أبي بكر
وعبد الرحمن بن حميد كما ذكره مسلم وهذا الذي ذكره الدارقطني من استدراكه هذا على مسلم
فاسد لأن مسلما رحمه الله قد بين اختلاف الرواة في وصله وإرساله ومذهبه ومذهب الفقهاء والأصوليين
ومحققي المحدثين أن الحديث إذا روى متصلا ومرسلا حكم بالاتصال ووجب العمل به لأنها زيادة
ثقة وهي مقبولة عند الجماهير فلا يصح استدراك الدارقطني والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
لأم سلمة رضي الله عنها لما تزوجها وأقام عندها ثلاثا (أنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت
لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي) وفي رواية وإن شئت ثلثت ثم درت قال ثلث وفي رواية دخل
عليها فلما أراد أن يخرج أخذت بثوبه فقال رسول الله إن شئت زدتك وحاسبتك للبكر سبع
وللثيب ثلاث وفي حديث أنس للبكر سبع وللثيب ثلاث أما قوله صلى الله عليه وسلم ليس بك
على أهلك هوان فمعناه لا يلحقك هوان ولا يضيع من حقك شئ بل تأخذينه كاملا ثم بين
43

صلى الله عليه وسلم حقها وأنها مخيرة بين ثلاث بلا قضاء وبيع سبع ويقضى لباقي نسائه لأن
في الثلاث مزية بعدم القضاء وفي السبع مزية لها بتواليها وكمال الأنس فيها فاختارت الثلاث
لكونها لا تقضى وليقرب عودة إليها فإنه يطوف عليهن ليلة ليلة ثم يأتيها ولو أخذت سبعا طاف
بعد ذلك عليهن سبعا سبعا فطالب غيبته عنها قال القاضي المراد بأهل هنا نفسه صلى الله عليه وسلم
أي لا أفعل فعلا به هوانك على وفي هذا الحديث استحباب ملاطفة الأهل والعيال وغيرهم
وتقريب الحق من فهم المخاطب ليرجع إليه وفيه العدل بين الزوجات وفيه أن حق الزفاف ثابت
للمزفوفة وتقدم به على غيره فإن كانت بكرا كان له سبع ليال بأيامها بلا قضاء وإن كانت ثيبا كان
لها الخياران شاءت سبعا ويقضى السبع لباقي السناء وان شاءت ثلاثا ولا يقضى هذا مذهب
الشافعي وموافقيه وهو الذي ثبت فيه هذه الأحاديث الصحيحة وممن قال به مالك وأحمد وإسحاق
وأبو ثور وابن جرير وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة والحكم حماد يجب قضاء الجميع في الثيب
والبكر واستدلوا بالظواهر الواردة بالعدل بين الزوجات وحجة الشافعي هذه الأحاديث وهي
مخصصة للظواهر العامة واختلف العلماء في أن هذا الحق للزوج أو للزوجة الجديدة ومذهبنا
ومذهب الجمهور أنه حق لها وقال بعض المالكية حق له على بقية نسائه واختلفوا في اختصاصه
بمن له زوجات غير الجديدة قال ابن عبر البر جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة
44

بسبب الزفاف سواء كان عنده زوجه أم لا لعموم الحديث إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا لم يخص من لم يكن له
زوجه وقالت طائفة الحديث فيمن له زوجة أو زوجات غير هذه لأن من لا زوجة له فهو مقيم مع هذه كل دهره مؤنس لها متمتع
بها مستمتعة به بلا قاطع بخلاف من له زوجات فله جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسا لها
متصلا لتستقر عشرتها له وتذهب حشمتها ووحشتها منه ويقضى كل واحد منهما لذته من
صاحبه ولا ينقطع بالدوران على غيرها ورجح القاضي هذا القول وبه جزم البغوي
من أصحابنا في فتاويه فقال إنما يثبت هذا الحق للجديدة إذا كان عنده أخرى يبيت عندها
فإن لم تكن أخرى أو لم تكن أخرى أو كان لا يبيت عندها لم يثبت للجديدة حق الزفاف كما لا يلزمه أن
يبيت عند زوجاته ابتداء والأول أقوى وهو المختار لعموم الحديث واختلفوا في أن هذا المقام
عند البكر والثيب إذا كان له زوجة أخرى واجب أم مستحب فمذهب الشافعي وأصحابه وموافقيهم
أنه واجب وهي رواية ابن القاسم عن مالك وروى عنه ابن عبد الحكم أنه على الاستحباب
قوله
(عن أنس قال من السنة أن يقيم عند البكر سبعا) هذا اللفظ يقتضى رفعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
كذا هذا مذهبنا ومذهب المحدثين وجماهير السلف واخلف وجعله بعضهم موقوفا
45

وليس بشئ قوله (قال خالد ولو قلت أنه رفعه لصدقت) وفي الرواية الأخرى لو شئت قلت
رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم معناه أن هذه اللفظة وهي قوله من السنة كذا صريحة في رفعه
فلو شئت أن أقولها بناء على الرواية بالمعنى لقلتها ولو قلتها كنت صادقا والله أعلم
القسم بين الزوجات وبيان أن السنة
(أن تكون لكل واحدة ليلة مع يومها)
مذهبنا أنه لا يلزمه أن يقسم لنسائه بل له اجتنابهن كلهن يكره تعطيلهن مخافة من الفتنة
عليهن والاضرار بهن فإن أراد القسم لم يجز له أن يبتدئ بواحدة منهن الا بقرعة ويجوز أن
يقسم ليلة ليلة وليلتين ليلتين وثلاثا ثلاثا ولا يجوز أقل من ليلة ولا يجوز الزيادة على الثلاثة الا
برضاهن هذا هو الصحيح في مذهبنا وفيه أوجه ضعيفه في هذه المسائل غير ما ذكرته واتفقوا على
أنه يجوز أن يطوف عليهن كلهن ويطأهن في الساعة الواحدة برضاهن ولا يجوز ذلك بغير رضاهن
وإذا قسم كان لها اليوم الذي بعد ليلتها ويقسم للمريضة والحائض والنفساء لأنه يحصلها
الانس به ولأنه يستمتع بها بغير الوطئ من قبلة ونظر ولمس وغير ذلك قال أصحابنا وإذا قسم
لا يلزمه الوطء ولا التسوية فيه بل له أن يبيت عندهن ولا يطأ واحدة منهن وله أن يطأ بعضهن
في نوبتها دون بعض لكن يستحب أن لا يعطلهن وأن يسوى بينهن في ذلك كما قدمناه والله أعلم
قوله (كان للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة فكان إذا قسم بينهن لا ينتهى إلى المرأة الأولى الا
في تسع وكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة
46

فجاءت زينت فمد يده إليها فقالت هذه زينت فكف النبي صلى الله عليه وسلم يده فتقاولتا حتى
استخبتا فمر أبو بكر على ذلك فسمع أصواتهما فقال اخرج يا رسول الله صلى الله عليه وسلم واحث في
أفواههن التراب) أما قوله تسع نسوة فهن اللاتي توفى عنهن صلى الله عليه وسلم وهن عائشة
وحفصة وسودة وزينب وأم سلمة وأم حبيبة وميمونة وجويرية وصفية رضي الله عنهن ويقال
نسوة ونسوة بكسر النون وضمها لغتان الكسر أفصح وأشهر وبه جاء القرآن العزيز وأما قوله
فكان إذا قسم لهن لا ينتهى إلى الأولى الا في تسع فمعناه بعد انقضاء التسع وفيه أنه
يستحب أن لا يزيد في القسم على ليلة ليلة لأن فيه مخاطرة بحقوقهن وأما قوله وكن يجتمعن كل ليلة
إلى آخره ففيه أنه يستحب للزوج أن يأتي كل امرأة في بيتها ولا يدعوهن إلى بيته لكن لو دعا كل
واحدة في نوبتها إلى بيته كان له ذلك وهو خلاف الأفضل ولو دعاها إلى بيت ضرائرها لم تلزمها
الإجابة ولا تكون بالامتناع ناشزة بخلاف ما إذا امتنعت من الاتيان إلى بيته لأن عليها ضررا في
الاتيان إلى ضرتها وهذا الاجتماع كان برضاهن وفيه أنه لا يأتي غير صاحبة النوبة في بتيها في الليل
بل ذلك حرام عندنا الا لضرورة بأن حضرها الموت أو نحوه من الضرورات وأما مد يده إلى زينب
وقول عائشة هذه زينب فقيل إنه لم يكن عمدا بل ظنها عائشة صاحبة النوبة لأنه كان
في الليل وليس في البيوت مصابيح وقيل كان مثل هذا برضاهن وأما قوله حتى استخبتا فهو بخاء معجمة ثم باء
موحدة مفتوحتين ثم تاء مثناة فوق من السخب وهو اختلاط الأصواب وارتفاعها ويقال أيضا
صخب بالصاد هكذا هو في معظم الأصول وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور وفي بعض النسخ
47

استخبثتا بثاء مثلثة أي قالتا الكلام الردئ وفي بعضها استحيتا من الاستحياء ونقل القاضي عن
رواية بعضهم استحثتا بمثلثة ثم مثناة قال ومعناه أن لم يكن تصحيفا أن كل واحدة حثت في
وجه الأخرى التراب وفي هذا الحديث ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق
وملاطفة الجميع وقد يحتج الحنفية بقوله مد يده ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ولا حجة فيه فإنه
لم يذكر أنه لمس بلا حائل ولا يحصل مقصودهم حتى يثبت أنه لمس بشرتها بلا حائل ثم صلى
ولم يتوضأ وليس في الحديث شئ من هذا وأما قوله احث في أفواههن التراب فمبالغة في زجرها
وقطع خصامهن وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وشفقته ونظره في المصالح وفيه إشارة
الفضول على صاحبه الفاضل بمصلحته والله أعلم
جواز هبتها نوبتها لضرتها
قوله (عن عائشة رضي الله عنها ما رأيت امرأة أحب إلى أن أكون في مسلاخها من سودة بنت
زمعة من امرأة فيها حدة) المسلاخ بكسر الميم وبالخاء المعجمة وهو الجلد ومعناه أن أكون أنا هي
وزمعة بفتح الميم وإسكانها وقولها من امرأة قال القاضي من هنا للبيان واستفتاح الكلام ولم ترد
عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة بكسر الحاء قولها (
فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة) فيه جواز هبتها نوبتها
لضرتها لأنه حقها لكن يشترط رضا الزوج بذلك لأن له حقا في الواهبة فلا يفوته الا برضاه
ولا يجوز أن تأخذه على هذه الهبة عوضا ويجوز أن تهب للزوج فيجعل الزوج نوبتها لمن شاء
وقيل يلزمه توزيعها على الباقيات ويجعل الواهبة كالمعدومة والأول أصح وللواهبة الرجوع
متى شاءت فترجع في المستقبل دون الماضي لأن الهبات يرجع
فيما لم يقض منها دون المقبوض
48

وقولها جعلت يومها أي نوبتها وهي يوم وليلة وقولها كان يقسم لعائشة يومين يومها ويوم
سودة ومعناه أنه كان يكون عند عائشة في يومها ويكون عندها أيضا في يوم سودة لا أنه يوالي
لها اليومين والأصح عند أصحابنا أنه لا يجوز الموالاة للموهوب لها الا برضى الباقيات وجوزه بعض
أصحابنا بغير رضاهن وهو ضعيف قولها (وكانت أول امرأة تزوجها بعدي) كذا ذكره مسلم من
رواية يونس عن شريك أنه صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة قبل سودة وكذا ذكره يونس أيضا
عن الزهري وعن عبد الله بن محمد بن عقيل وروى عقيل بن خالد عن الزهري أنه تزوج سودة
قبل عائشة قال ابن عبد البر وهذا قول قتادة وأبي عبيدة قلت وقال أيضا محمد بن إسحاق ومحمد بن
سعد كاتب الواقدي وابن قتيبة وآخرون قولها (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) هو بفتح
49

الهمزة من أرى ومعناه يخفف عنك ويوسع عليك في الأمور ولهذا خيرك قوله (عن
عائشة قال كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول وتهب المرأة
نفسها فلما أنزل الله تعالى ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء إلى آخره) هذا من خصائص
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو زواج من وهبت نفسها له بلا مهر قال الله تعالى خالصة لك
من دون المؤمنين واختلف العلماء في هذه الآية وهي قوله تعالى ترجى من تشاء فقيل ناسخة
لقوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ومبيحة له أن يتزوج ما شاء وقيل بل نسخت تلك الآية
بالسنة قال زيد بن أرقم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ميمونة ومليكة
وصفية وجويرية وقالت عائشة ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء وقيل عكس هذا وأن قوله تعالى لا تحل لك النساء ناسخة لقوله تعالى ترجى من تشاء والأول
أصح قال أصحابنا الأصح أنه صلى الله عليه وسلم ما توفى حتى أبيح له النساء مع أزواجه قوله
(أخبرنا ابن جريج قال اخبرني عطاء قال حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم بسرف) اتفق العلماء على أنها توفيت بسرف بفتح السين وكسر الراء وبالفاء وهو
مكان بقرب مكة بينه وبينها ستة أميال وقيل سبعة وقيل تسعة وقيل اثنا عشر قوله (كان عند
50

رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة) قال عطاء التي لا يقسم لها صفية
بنت حي بن أخطب أما قوله تسع فصحيح وهن معروفات سبق بيان أسمائهن قريبا وقوله
يقسم لثمان مشهور وأما قول عطاء التي لا يقسم لها صفية فقال العلماء هو وهم من ابن جريج
الراوي عن عطاء وإنما الصواب سودة كما سبق في الأحاديث واختلفوا في التي وهبت نفسها
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال الزهري هي ميمونة وقيل أم شريك وقيل زينب بنت خزيمة
قوله (قال عطاء كانت آخرهن موتا ماتت بالمدينة) قال القاضي ظاهر كلام عطاء أنه أراد بآخرهن
موتا ميمونة وقد ذكر في الحديث أنها ماتت بسرف وهي بقرب مكة فقوله بالمدينة وهم قوله
آخرهن موتا قيل ماتت ميمونة سنة ثلاث وستين وقيل ست وستين وقيل احدى وخمسين قبل
عائشة لأن عائشة توفيت سنة سبع وقيل ثمان وخمسين وأما صفية فتوفيت سنة خمسين بالمدينة هذا كلام
القاضي ويحتمل أن قوله ماتت بالمدينة عائد على صفية ولفظه فيه صحيح يحتمله أو ظاهر فيه والله أعلم
استحباب نكاح ذات الدين
قوله صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر
بذات الدين
ترتب يداك) الصحيح في معنى هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما يفعله الناس
51

في العادة فإنهم يقصدون هذه الخصال الأربع وآخرها عندهم ذات الدين فاظفر أنت أيها المسترشد
بذات الدين لا أنه أمر بذلك قال شمر الحسب الفعل الجميل للرجل وآبائه وسبق في كتاب الغسل
معنى تربت يداك وفي هذا الحديث الحث على مصاحبة أهل الدين في كل شئ لأن صاحبهم
يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وحسن طرائفهم ويأمن المفسدة من جهتهم استحباب نكاح البكر
قوله صلى الله عليه وسلم لجابر (تزوجت قال نعم قال أبكرا أم ثيبا قلت ثيبا قال فأين أنت من
العذارى ولعابها) وفي رواية فهلا جارية تلاعبها
وتلاعبك وفي رواية فهلا تزوجت بكرا
تضاحكك وتضاحكها وتلاعبك وتلاعبها أما قوله صلى الله عليه وسلم ولعابها فهو بكسر اللام
ووقع لبعض رواة البخاري بضمها قال القاضي وأما الرواية في كتاب مسلم فبالكسر لا غير
وهو من الملاعبة مصدر لاعب ملاعبة كقاتل مقاتلة قال وقد حمل جمهور المتكلمين في شرح هذا
الحديث قوله صلى الله عليه وسلم تلاعبها على اللعب المعروف ويؤيده تضاحكها وتضاحكك
52

قال بعضهم يحتمل أن يكون من اللعاب وهو الريق وفيه فضيلة تزوج الأبكار وثوابهن أفضل
وفيه ملاعبة الرجل امرأته وملاطفته لها ومضاحكتها وحسن العشرة وفيه سؤال الامام والكبير
أصحابه عن أمورهم وتفقد أحوالهم وإرشادهم إلى مصالحهم وتنبيههم على وجه المصلحة فيها قوله
(قلت له ان عبد الله هلك وترك تسع بنات أو سبع بنات وإني كرهت أن آتيهن أو أجيئهن بمثلهن
فأحببت أن أجئ بامرأة تقوم عليهن وتصلحهن قال فبارك الله لك أو قال لي خيرا) فيه فضيلة
لجابر وإيثاره مصلحة إخوانه على حظ نفسه وفيه الدعاء لمن فعل خيرا وطاعة سواء تعلقت بالداعي
أم لا وفيه جواز خدمة المرأة زوجها وأولاده وعياله برضاها وأما من غير رضاها فلا قوله
(تمشطهن) هو بفتح التاء وضم الشين قوله (فلما أقبلنا تعجلت) هكذا هو في نسخ بلادنا
53

أقبلنا وكذا نقله القاضي عن رواية ابن سفيان عن مسلم قال وفي رواية ابن ماهان أقفلنا بالفاء
قال ووجه الكلام قفلنا أي رجعنا ويصح أقبلنا بفتح اللام أي قفلنا النبي صلى الله عليه وسلم
وأقفلنا بضم الهمزة لما لم يسم فاعله قوله (تعجلت على بعير لي قطوف) هو بفتح القاف
أي بطئ المشي قوله (فنخس بعيري بعنزة) هي بفتح النون وهي عصار نحو نصف الرمح في أسفلها زج
قوله (فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل) هذا فيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأثر بركته قوله صلى الله عليه وسلم (أمهلوا حتى ندخل ليلا) أي عشاء كي تمتشط
الشعثة وتستحد المغيبة الاستحداد استعمال الحديدة في شعر العانة وهو ازالته بالموسى والمراد
ههنا ازالته كيف كانت والمغيبة بضم الميم وكسر الغين وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها
وإن حضر زوجها فهي مشهد بلا هاء وفي هذا الحديث استعمال مكارم الأخلاق والشفقة على
المسلمين والاحتراز من تتبع العورات واجتلاب ما يقتضى دوام الصحبة وليس في هذا الحديث
معارضة للأحاديث الصحيحة في النهى عن الطروق ليلا لأن ذلك فيمن جاء بغتة وأما هنا فقد
تقدم خبر مجيئهم وعلم الناس وصولهم وأنهم سيدخلون عشاء فتستعد لذلك المغيبة والشعثة وتصلح
حالها وتتأهب للقاء زوجها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا قدمت فالكيس الكيس)
54

قال ابن الأعرابي الكيس الجماع والكيس العقل والمراد حثه على ابتغاء الولد قوله (فحجنه بمحجنه)
هو بكسر الميم وهو عصا فيها تعقف يلتقط بها الراكب ما سقط منه قوله صلى الله عليه وسلم (ادخل
فصل ركعتين) فيه استحباب ركعتين عند القدوم من السفر قوله (فوزن لي بلال فأرجح في
الميزان) فيه استحباب ارجاح الميزان في وفاء الثمن وقضاء الديون ونحوها وسيأتي الكلام في حديث
55

جابر وبيعه الجمل في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى قوله (وأنا على ناضح) هو البعير الذي
يستقى عليه قوله (إنما هو في أخريات) هو بضم الهمزة وفتح الراء والله أعلم
56

الوصية بالنساء
قوله صلى الله عليه وسلم (ان المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة فإن استمتعت بها
استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها) العوج ضبطه بعضهم
بفتح العين وضبطه بعضهم بكسرها ولعل الفتح أكثر وضبطه الحافظ أبو القاسم بن عساكر
وآخرون بالكسر وهو الأرجح على مقتضى ما سننقله عن أهل اللغة إن شاء الله تعالى قال أهل اللغة
العوج بالفتح في كل منتصب كالحائط والعود وشبهه وبالكسر ما كان في بساط أو أر ض أو معاش
أو دين ويقال فلان في دينه عوج بالكسر هذا كلام أهل اللغة قال صاحب المطالع قال أهل اللغة
العوج بالفتح في كل شخص وبالكسر فيما ليس بمرئى كالرأي والكلام قال وانفرد عنهم
أبو عمرو الشيباني فقال كلاهما بالكسر ومصدرهما بالفتح والضلع بكسر الضاد وفتح اللام
وفيه دليل لما يقوله الفقهاء أو بعضهم أن حواء خلقت من ضلع آدم قال الله تعالى خلقكم من
نفس واحدة وخلق منها زوجها وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت من ضلع وفي هذا
الحديث ملاطفة النساء والاحسان إليهن والصبر على أخلاقهن واحتمال ضعف عقولهن
وكراهة طلاقهن بلا سبب وأنه لا يطمع باستقامتها والله أعلم
57

قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا شهد أمر فليتكلم بخير أو ليسكت واستوصوا بالنساء) فيه الحث على الرفق
بالنساء واحتمالهن كما قدمناه وأنه ينبغي للانسان أن لا يتكلم الا بخير فأما الكلام المباح الذي لا فائدة فيه
فيمسك مخافة من انجراره إلى حرام أو مكروه قوله صلى الله عليه وسلم (لا يفرك مؤمن مؤمنة
ان كره منها خلقا رضى منها آخر أو قال غيره) يفرك بفتح الياء والراء واسكان الفاء بينهما قال
أهل اللغة فركه بكسر الراء يفركه بفتحها إذا أبغضه والفرك بفتح الفاء وإسكان الراء البغض
قال القاضي عياض هذا ليس على النهى قال هو خبر أي لا يقع منه بغض تام لها قال وبغض
الرجال للنساء خلاف بغضهن لهم قال ولهذا قال إن كره منها خلقا رضى منها آخر هذا كلام
القاضي وهو ضعيف أو غلط بل الصواب أنه نهى أي ينبغي أن لا يبغضها لأنه ان وجد فيها
خلقا يكره وجد فيها خلقا مرضيا بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة أو جميلة أو عفيفة
أو رفيقة به أو نحو ذلك وهذا الذي ذكرته من أنه نهى يتعين لوجهين أحدهما أن المعروف في
الروايات لا يفرك بإسكان الكاف لا برفعها وهذا يتعين فيه النهى ولو روى مرفوعا لكان نهيا
58

بلفظ الخبر والثاني أنه قد وقع خلافه فبعض الناس يبغض زوجته بغضا شديدا ولو كان خبرا
لم يقع خلافه وهذا واقع وما أدرى ما حمل القاضي على هذا التفسير قوله صلى الله عليه وسلم
(لولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر) أي لم تخنه أبدا وحواء بالمد روينا عن ابن عباس قال
سميت حواء لأنها أم كل حي قيل إنها ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن
ذكر وأنثى واختلفوا متى خلقت من ضلع آدم فقيل قبل دخولها الجنة فدخلاها وقيل في الجنة قال
القاضي ومعنى هذا الحديث أنها أم بنات آدم فأشبهنها ونزع العرق لما جرى لها في قصة الشجرة
مع إبليس فزين لها أكل الشجرة فأغواها فأخبرت آدم بالشجرة فأكل منها قوله صلى الله عليه وسلم
(لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم) هو بفتح الياء والنون وبكسر
النون والماضي منه خنز بكسر النون وفتحها ومصدره الخنز والخنوز وهو إذا تغير وأنتن قال
العلماء معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى نهوا عن ادخارهما فادخروا
ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت والله أعلم
59

الطلاق
هو مشتق من الاطلاق وهو الارسال والترك ومنه طلقت البلاد أي تركتها ويقال طلقت
المرأة وطلقت بفتح اللام وضمها والفتح أفصح تطلق بضمها فيهما
تحريم طلاق الحائض بغير رضاها (وأنه لو خالف وقع الطلاق ويؤمر برجعتها)
أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها ووقع طلاقه
ويؤمر بالرجعة لحديث ابن عمر المذكور في الباب وشذ بعض أهل الظاهر فقال لا يقع طلاقه
لأنه غير مأذون له فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول وبه قال العلماء كافة ودليلهم
أمره بمراجعتها ولو لم يقع لم تكن رجعة فإن قيل المراد بالرجع الرجعة اللغوية وهي الرد إلى
حالها الأول لا أنه تحسب عليه طلقة قلنا هذا غلط لوجهين أحدهما أن حمل اللفظ على الحقيقة
الشرعية يقدم على حمله على الحقيقة اللغوية كما تقرر في أصول الفقه الثاني ان ابن عمر صرح
في روايات مسلم وغيره بأنه حسبها عليه طلقة والله أعلم وأجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها
كما ذكرنا وهذه الرجعة مستحبة لا واجبة وآخرون هذا مذهبنا وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وسائر
الكوفيين وأحمد وفقهاء المحدثين وآخرون وقال مالك وأصحابه هي واجبة فإن قيل ففي حديث
ابن عمر هذا أنه أمر بالرجعة ثم بتأخير الطلاق على طهر بعد الطهر الذي يلي هذا الحيض فما
فائدة التأخير فالجواب من أربعة أوجه أحدها لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق فوجب أن
يمسكها زمانا كان يحله فيه الطلاق وإنما أمسكها لتظهر فائدة الرجعة وهذا جواب أصحابنا
والثاني عقوبة له وتوبة من معصية باستدراك جنايته والثالث أن الطهر الأول مع الحيض الذي
يليه وهو الذي طلق فيه كقرء واحد فلو طلقها في أول طهر لكان كمن طلق في الحيض والرابع
60

أنه نهى عن طلاقها في الطهر ليطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب
طلاقها فيمسكها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر
ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل ان يمس فتلك العدة التي أمر الله
أن تطلق لها النساء يعنى قبل أن يمس أي قبل أن يطأها ففيه تحريم الطلاق في طهر جامعها
فيه قال أصحابنا يحرم طلاقها في طهر جامعها فيه حتى يتبين حملها لئلا تكون حاملا فيندم فإذا
بان الحمل دخل بعد ذلك في طلاقها على بصيرة فلا يندم فلا تحرم ولو كانت الحائض حاملا
فالصحيح عندنا وهو نص الشافعي أنه لا يحرم طلاقها لأن تحريم الطلاق في الحيض إنما كان
لتطويل العدة لكونه لا يحسب قرءا وأما الحامل الحائض فعدتها بوضع الحمل فلا يحصل في
حقها تطويل وفي قوله صلى الله عليه وسلم ان شاء أمسك وإن شاء طلق دليل على أنه لا اثم
في الطلاق بغير سبب لكن يكره للحديث المشهور في سنن أبي داود وغيره أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال أبغض الحلال إلى الله الطلاق فيكون حديث ابن عمر لبيان أنه ليس بحرام
وهذا الحديث لبيان كراهة التنزيه قال أصحابنا الطلاق أربعة أقسام حرام ومكروه وواجب
ومندوب ولا يكون مباحا مستوى الطرفين فأما الواجب ففي صورتين وهما في الحكمتين إذا
بعثهما القاضي عند الشقاق بين الزوجين ورأيا المصلحة في الطلاق وجب عليهما الطلاق وفي
المولى إذا مضت عليه أربعة أشهر وطالبت المرأة بحقها فامتنع من الفيئة والطلاق فالأصح
عندنا أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعية وأما المكروه فأن يكون الحال بينهما
61

مستقيما فيطلق بلا سبب وعليه يحمل حديث أبغض الحلال إلى الله الطلاق وأما الحرام ففي ثلاث
صور أحدها في الحيض بلا عوض منها ولا سؤالها والثاني في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل
والثالث إذا كان عنده زوجات يقسم لهن وطلق واحدة قبل أن يوفيها قسمها وأما المندوب
فهو أن لا تكون المرأة عفيفة أو يخافا أو أحدهما أن لا يقيما حدود الله أو نحو ذلك والله أعلم
وأما جمع الطلقات الثلاث دفعة فليس بحرام عندنا لكن الأولى تفريقها وبه قال أحمد
وأبو ثور وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة والليث هو بدعة قال الخطابي وفي قوله صلى الله عليه وسلم
مره فليراجعها دليل على أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ووليها ولا تجديد عقد والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء) فيه دليل لمذهب الشافعي
ومالك وموافقيهما أن الأقراء في العدة هي الأطهار لأنه صلى الله عليه وسلم قال ليطلقها في الطهر
ان شاء فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء أي فيها ومعلوم أن الله لم يأمر بطلاقهن في
الحيض بل حرمه فإن قيل الضمير في قوله فتلك يعود إلى الحيضة قلنا هذا غلط لأن الطلاق في
الحيض غير مأمور به بل محرم وإنما الضمير عائد إلى الحالة المذكورة وهي حالة الطهر أو إلى العدة
وأجمع العلماء من أهل الفقه والأصول واللغة على أن القرء يطلق في اللغة على الحيض وعلى
الطهر واختلفوا في الافراد المذكورة في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفيما
تنقضي به العدة فقال مالك والشافعي وآخرون هي الأطهار وقال أبو حنيفة والأوزاعي وآخرون
هي الحيض وهو مروى عن عمر وعلى وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال الثوري وزفر وإسحاق
62

وآخرون من السلف وهو أصح الروايتين عن أحمد قالوا لأن من قال بالأطهار يجعلها قرءين
وبعض الثالث وظاهر القرآن أنها ثلاثة والقائل بالحيض يشترط ثلاث حيضات كوامل فهو أقرب
إلى موافقة القرآن ولهذا الاعتراض صار ابن شهاب الزهري إلى أن الأقراء هي الأطهار قال
ولكن لا تنقضي العدة الا بثلاثة أطهار كاملة ولا تنقضي بطهرين وبعض الثالث وهذا مذهب
انفرد به بل اتفق القائلون بالأطهار على أنها تنقضي بقرءين وبعض الثالث حتى لو طلقها وقد بقي
من الطهر لحظة يسيرة حسب ذلك قرءا ويكفيها طهران بعده وأجابوا عن الاعتراض بأن الشيئين
وبعض الثالث يطلق عليها اسم الجميع قال الله تعالى الحج أشهر معلومات ومعلوم أنه شهران
وبعض الثالث وكذا قوله تعالى فمن تعجل في يومين المراد في يوم وبعض الثاني واختلف القائلون
بالأطهار متى تنقضي عدتها فالأصح عندنا أنه بمجرد رؤية الدم بعد الطهر الثالث وفي قول لا تنقضي
حتى يمضى يوم وليلة والخلاف في مذهب مالك كهو عندنا واختلف القائلون بالحيض أيضا فقال
أبو حنيفة وأصحابه حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة وقال عمر وعلى وابن
مسعود والثوري وزفر وإسحاق وأبو عبيد حتى تغتسل احتياطا وخروجا من الخلاف والله أعلم قوله (قال مسلم جود الليث
في قوله تطليقه واحدة) يعنى أنه حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره ولم يهمله كما أهمله غيره
ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره وقد تظاهرت روايات مسلم بأنها طلقة واحدة
63

قوله صلى الله عليه وسلم (ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا) فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها
وهو مذهب الشافعي قال ابن المنذر وبه قال أكثر العلماء منهم طاوس والحسن وابن سيرين
وربيعة وحماد بن أبي سليمان ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد قال ابن المنذر
وبه أقول وبه قال بعض المالكية وقال بعضهم هو حرام وحكى ابن المنذر رواية أخرى عن الحسن أنه
قال طلاق الحامل مكروه ثم مذهب الشافعي ومن وافقه أن له أن يطلق الحامل ثلاثا بلفظ واحد
وبألفاظ متصلة وفي أوقات متفرقة وكل ذلك جائز لا بدعة فيه وقال أبو حنيفة وأبو يوسف
يجعل بين الطلقتين شهرا وقال مالك وزفر ومحمد بن الحسن لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى
تضع قوله (أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا وان كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك) أما قوله أمرني
بهذا فمعناه أمرني بالرجعة وأما
قوله أما أنت فقال القاضي عياض رضي الله عنه هذا مشكل قال قيل أنه بفتح الهمزة من أما أي
65

أما ان كنت فحذفوا الفعل الذي يلي أن وجعلوا ما عوضا من الفعل وفتحوا أن وأدغموا النون
في ما وجاؤا بانت مكان العلامة في كنت ويدل عليه قوله بعده وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت
عليك قوله (لقيت أبا غلاب يونس بن جبير) هو بفتح الغين المعجمة وتشديد اللام وآخره
باء موحدة هكذا ضبطناه وكذا ذكره ابن ماكولا والجمهور وذكر القاضي عن بعض الرواة
تخفيف اللام قوله (وكان ذا ثبت) هو بفتح الثاء والباء أي مثبتا قوله (قلت أفحسبت عليه
قال فمه أوان عجز واستحمق) معناه أفيرتفع عنه الطلاق وإن عجز واستحمق هو استفهام انكار
وتقديره نعم تحسب ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته قال القاضي أي أن عجز عن الرجعة وفعل
فعل الأحمق والقائل لهذا الكلام هو ابن عمر صاحب القصة وأعاد الضمير بلفظ الغيبة وقد بينه
بعد هذه في رواية أنس بن سيرين قال قلت يعنى لابن عمر فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت
وهي حائض قال ما لي لا أعتد بها وإن كنت عجزت واستحمقت وجاء في غير مسلم أن ابن عمر
قال رأيت إن كان ابن عمر عجزوا واستحمق فما يمنعه أن يكون طلاقا وأما قوله فمه فيحتمل أن
يكون للكف والزجر عن هذا القول أي لا تشك في وقع الطلاق وأجزم بوقوعه وقال
القاضي المراد بمه ما فيكون استفهاما أي فيما يكون ان لم أحتسب بها ومعناه لا يكون الا الاحتساب
66

بها فأبدل من الألف هاء كما قالوا في مهما أن أصلها ماما أي أي شئ قوله صلى الله عليه وسلم
يطلقها في قبل عدتها هو بضم القاف والباء أي في وقت تستقبل فيه العدة وتشرع فيها وهذا يدل
على أن الأقراء هي الأطهار وأنها إذا طلقت في الطهر شرعت في الحال في الأقراء لأن الطلاق
المأمور به هو في الطهر لأنها إذا طلقت في الحيض لا يحسب ذلك الحيض قرءا بالاجماع فلا
67

تستقبل فيه العدة وإنما تستقبلها إذا طلقت في الطهر والله أعلم قوله (عن ابن جريج عن
ابن طاوس عن أبيه أنه سمع ابن عمر يسأل عن رجل طلق امرأته إلى آخره) وقال في آخره
لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه فقوله لأبيه بالباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحت ومعناه أن ابن
طاوس قال لم أسمعه أي لم أسمع أبي طاوسا يزيد على هذا القدر من الحديث والقائل لأبيه هو
68

ابن جريج وأراد تفسير الضمير في قوله ابن طاوس لم أسمعه واللام زائدة فمعناه
يعنى أباه ولو قال يعنى أباه لكان أوضح قوله (وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم فطلقوهن في قبل عدتهن)
هذه قراءة ابن عباس وابن عمر وهي شاذة لا تثبت قرآنا بالاجماع ولا يكون لها حكم خبر
الواحد عندنا وعند محققي الأصوليين والله أعلم
69

طلاق الثلاث
قوله (عن ابن عباس قال كان طلاق الثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين
من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت
لهم فيها أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم) وفي رواية عن أبي الصهباء أنه قال لابن عباس أتعلم
أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثا من امارة
عمر فقال ابن عباس نعم وفي رواية أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هناتك إليكن طلاق
الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة فقال قد كان ذلك فلما كان في
عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم وفي سنن أبي داود عن أبي الصهباء عن ابن عباس
نحو هذا الا أنه قال كان الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها جعلوه واحدة هذه ألفاظ
هذا الحديث وهو معدود من الأحاديث المشكلة وقد اختلف العلماء فيمن قال لامرأته أنت
طالق ثلاثا فقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء من السلف والخلف يقع
الثلاث وقال طاوس وبعض أهل الظاهر لا يقع بذلك الا واحدة وهو رواية عن الحجاج بن
أرطاة ومحمد بن إسحاق والمشهور عن الحجاج بن أرطاة قول ابن مقاتل
ورواية عن محمد بن إسحاق واحتج هؤلاء بحديث ابن عباس هذا وبأنه وقع في بعض روايات
حديث ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثا في الحيض ولم يحتسب به وبأنه وقع في حديث ركانة أنه
طلق امرأته ثلاثا وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها واحتج الجمهور بقوله تعالى ومن
يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا قالوا معناه أن المطلق قد
يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة فلو كانت الثلاث لا تقع لم يقع طلاق هذا
70

الا رجعيا فلا يندم واحتجوا أيضا بحديث ركانة أنه طلق امرأته البتة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
ما أردت الا واحدة قال الله ما أردت الا واحدة فهذا دليل على أنه لو أراد الثلاث لوقعن والا فلم يكن
لتحليفه معنى وأما الرواية التي رواها المخالفون أن ركانة طلق ثلاثا فجعلها واحدة فرواية ضعيفة عن قوم
مجهولين وإنما الصحيح منها ما قدمناه أنه طلقها البتة ولفظ البتة محتمل للواحدة وللثلاث ولعل صاحب
هذه الرواية الضعيفة اعتقد أن لفظ البتة يقتضي الثلاث فرواه بالمعنى الذي فهمه وغلط في ذلك
وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة وأما حديث
ابن عباس فاختلف العلماء في جوابه وتأويله فالأصح أن معناه أنه كان في أول الأمر إذا قال
لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم ينو تأكيدا ولا استئنافا يحكم بوقوع طلقة لقلة ارادتهم
الاستئناف بذلك فحمل على الغالب الذي هو إرادة التأكيد فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه
وكثر استعمال الناس بهذه الصيغة وغلب منهم إرادة الاستئناف بها حملت عند الاطلاق على الثلاث
عملا بالغالب السابق إلى الفهم منها في ذلك العصر وقيل المراد أن المعتاد في الزمن الأول كان طلقة
واحدة وصار الناس في زمن عمر يوقعون الثلاث دفعة فنفذه عمر فعلى هذا يكون اخبارا عن
اختلاف عادة الناس لا عن تغير حكم في مسألة واحدة قال المازري وقد زعم من لا خبرة له
بالحقائق أن ذلك كان ثم نسخ قال وهذا غلط فاحش لأن عمر رضي الله عنه لا ينسخ ولو نسخ
وحاشاه لبادرت الصحابة إلى انكاره وإن أراد هذا القائل أنه نسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
فذلك غير ممتنع ولكن يخرج عن ظاهر الحديث لأنه لو كان كذلك لم يجز للراوي أن يخبر
71

ببقاء الحكم في خلافة أبى بكر وبعض خلافة عمر فإن قيل فقد يجمع الصحابة على النسخ
فيقبل ذلك منهم قلنا إنما يقبل ذلك لأنه يستدل بإجماعهم على ناسخ وأما أنهم ينسخون من
تلقاء أنفسهم فمعاذ الله لأنه اجماع على الخطأ وهم معصومون من ذلك فإن قيل فلعل النسخ إنما
ظهر لهم في زمن عمر قلنا هذا غلط أيضا لأنه يكون قد حصل الاجماع على الخطأ في زمن أبى بكر
والمحققون من الأصوليين لا يشترطون انقراض العصر في صحة الاجماع والله أعلم وأما الرواية
التي في سنن أبي داود أن ذلك فيمن لم يدخل بها فقال بها قوم من أصحاب ابن عباس فقالوا
لا يقع الثلاث على غير المدخول بها لأنها تبين بواحدة بقوله أنت طالق فيكون قوله ثلاثا حاصل
بعد البينونة فلا يقع به شئ وقال الجمهور هذا غلط بل يقع عليها الثلاث لأن قوله أنت طالق
معناه ذات طلاق وهذا اللفظ للواحدة والعدد وقوله بعده ثلاثا تفسير له وأما هذه الرواية
التي لأبي داود فضعيفة رواها أيوب السختياني عن قوم مجهولين عن طاوس عن ابن عباس
فلا يحتاج بها والله أعلم قوله (كانت لهم فيه أناة) هو بفتح الهمزة أي مهلة وبقية استمتاع
لانتظار المراجعة قوله (تتايع الناس في الطلاق) هو بياء مثناة من تحت بين الألف والعين هذه رواية
الجمهور وضبطه بعضهم بالموحدة وهما بمعنى ومعناه أكثروا منه وأسرعوا إليه لكن بالمثناة أنما
يستعمل في الشر وبالموحدة يستعمل في الخير والشر فالمثناة هنا أجود وقوله (هات من هناتك)
هو بكسر التاء من هات والمراد بهناتك أخبارك وأمورك المستغربة والله أعلم
72

باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق
قوله (عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام يمين يكفرها) وقال ابن عباس لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة وفى رواية عن ابن عباس قال إذا حرم الرجل امرأته فهي
يمين يكفرها وذكر مسلم حديث عائشة في سبب نزول قوله تعالى لم تحرم ما أحل الله لك
وقد اختلف العلماء فيما إذا قال لزوجته أنت على حرام فمذهب الشافعي أنه إن نوى طلاقها
كان طلاقا وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى تحريم عينها بغير طلاق ولا ظهار لزمه بنفس
اللفظ كفارة يمين ولا يكون ذلك يمينا وإن لم ينو شيئا ففيه قولان للشافعي أصحهما يلزمه
كفارة يمين والثاني أنه لغو لا شئ فيه ولا يترتب عليه شئ من الأحكام هذا مذهبنا وحكى
القاضي عياض في المسألة أربعة عشر مذهبا أحدها المشهور من مذهب مالك أنه يقع به
ثلاث طلقات سواء كانت مدخولا بها أم لا لكن لو نوى أقل من الثلاث قبل في غير المدخول
بها خاصة قال وبهذا المذهب قال أيضا علي بن أبي طالب وزيد والحسن والحكم والثاني
أنه يقع به ثلاث طلقات ولا تقبل نيته في المدخول بها ولا غيرها قاله ابن أبي ليلى وعبد
الملك بن الماجشون المالكي والثالث أنه يقع به على المدخول بها ثلاث وعلى غيرها واحدة
73

قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم المالكيان والرابع أنه يقع به طلقة واحدة بائنة سواء
المدخول بها وغيرها وهو رواية عن مالك والخامس انها طلقة رجعية قاله عبد العزيز بن أبي
مسلمة المالكي والسادس أنه يقع ما نوى ولا يكون أقل من طلقة واحدة قاله الزهري
والسابع أنه ان نوى واحدة أو عددا أو يمينا فهو ما نوى والا فلغو قاله سفيان الثوري
والثامن مثل السابع الا أنه إذا لم ينو شيئا لزمه كفارة يمين قاله الأوزاعي وأبو ثور والتاسع
مذهب الشافعي وسبق ايضاحه وبه قال أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم
والعاشر ان نوى الطلاق وقعت طلقة بائنة وإن نوى ثلاثا وقع الثلاث وإن نوى اثنتين
وقعت واحدة وإن لم ينو شيئا فيمين وإن نوى الكذب فلغو قاله أبو حنيفة وأصحابه والحادي
عشر مثل العاشر الا أنه إذا نوى اثنتين وقعت قاله زفر والثاني عشر أنه تجب به كفارة
الظهار قاله إسحاق بن راهويه والثالث عشر هي يمين فيها كفارة اليمين قاله ابن عباس وبعض
التابعين الرابع عشر أنه كتحريم الماء والطعام فلا يجب فيه شئ أصلا ولا يقع به شئ
بل هو لغو قاله مسروق والشعبي وأبو سلمة واصبغ المالكي هذا كله إذا قال لزوجته الحرة
أما إذا قاله فمذهب الشافعي أنه إن نوى عتقها عتقت وإن نوى تحريم عينها لزمه كفارة
يمين ولا يكون يمينا وإن لم ينو شيئا وجب كفارة يمين على الصحيح من المذهب وقال مالك
هذا في الأمة لغو لا يترتب عليه شئ قال القاضي وقال عامة العلماء عليه كفارة يمين بنفس
التحريم وقال أبو حنيفة يحرم عليه ما حرمه من أمة وطعام وغيره ولا شئ عليه حتى يتناوله
فيلزمه حينئذ كفارة يمين ومذهب مالك والشافعي والجمهور أنه أن قال هذا الطعام حرام على
أو هذا الماء وهذا الثوب أو دخول البيت أو كلام زيد وسائر ما يحرمه غير الزوجة والأمة
يكون هذا لغوا لا شئ فيه ولا يحرم عليه ذلك الشئ فإذا تناوله فلا شئ عليه وأم الولد
كالأمة فيما ذكرناه والله أعلم قولها (فتواطيت أنا وحفصة) هكذا هو في النسخ فتواطيت وأصله
فتواطأت بالهمز أي اتفقت
74

قولها أنى أجد منك ريح مغافير) هي بفتح الميم وبغين معجمة وفاء وبعد الفاء ياء هكذا
هو في الموضع الأول في جميع النسخ وأما الموضعان الأخيران فوقع فيهما في بعض النسخ بالياء
وفى بعضها بحذفها قال القاضي الصواب اثباتها لأنها عوض من الواو التي في المفرد وإنما حذفت
في ضرورة الشعر وهو جمع مغفور وهو صمغ حلو كالناطف وله رائحة كريهة ينضحه شجر
يقال له العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز وقيل أن العرفط نبات له ورقة عريضة
تفترش على الأرض له شوكة حجناء وثمرة بيضاء كالقطن مثل زر القميص خبيث الرائحة قال
القاضي وزعم المهلب أن رائحة المغافير والعرفط حسنة وهو خلا ف ما يقتضيه الحديث وخلاف
75

ما قاله الناس قال أهل اللغة العرفط من شجر العضاه وهو كل شجر له شوك وقيل رائحته كرائحة
النبيذ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة كريهة قولها (جرست نحله
العرفط) هو بالجيم والراء والسين المهملة أي أكلت العرفط ليصير منه العسل قولها (فقال
بل شربت عسلا عند زينب بن جحش ولن أعود فنزل لم تحرم ما أحل الله لك) هذا ظاهر
في أن الآية نزلت في سبب ترك العسل وفى كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية قال القاضي
اختلف فسبب نزولها فقالت عائشة في قصة العسل وعن زيد بن أسلم أنها نزلت في تحريم مارية
جاريته وحلفه أن لا يطأها قال ولا حجة فيه لمن أوجب بالتحريم كفارة محتجا بقوله تعالى قد فرض
الله لكم تحلة أيمانكم لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال والله لا أطأها ثم قال هي على حرام وروى
مثل ذلك من حلفه على شربه العسل وتحريمه ذكره ابن المنذر وفى رواية البخاري لن أعود له
وقد حلفت أن لا تخبره بذلك أحدا وقال الطحاوي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شرب العسل
لن أعود إليه أبدا ولم يذكر يمينا لكن قوله تعالى قد فرض الله عليكم في التحريم كفارة
يمين وهكذا يقدره الشافعي وأصحابه وموافقوهم قولها (فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت
جحش) وفى الرواية التي بعدها أن شرب العسل كان عند حفصة قال القاضي ذكر مسلم في حديث
76

حجاج عن ابن جريج ان التي شرب عندها العسل زينب وان المتظاهرتين عليه عائشة وحفصة
وكذلك ثبت في حديث عمر بن الخطاب وابن عباس أن المتظاهرتين عائشة وحفصة وذكر مسلم
أيضا من رواية أبي أسامة عن هشام أن حفصة هي التي شرب العسل عندها وأن عائشة وسودة
وصفية من اللواتي تظاهرن عليه وقال والأول أصح قال النسائي اسناد حديث حجاج صحيح جيد
غاية وقال الأصيلي حديث حجاج أصح وهو أولى بظاهر كتاب الله تعالى وأكمل فائدة يريد قوله تعالى
وإن تظاهرا عليه فهما ثنتان لا ثلاث وأنهما عائشة وحفصة كما قال فيه وكما اعترف به عمر
رضي الله عنه وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى كما أن الصحيح في سبب
نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروى في غير الصحيحين ولم تأت قصة مارية
من طريق صحيح قال النسائي اسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية هذا آخر كلام
القاضي ثم قال القاضي بعد هذا الصواب أن شرب العسل كان عند زينب قوله تعالى (وإذ أسر
النبي إلى بعض أزواجه حديثا لقوله بل شربت عسلا) هكذا ذكره مسلم قال القاضي فيه اختصار وتمامه ولن أعود إليه وقد حلفت أن لا تخبري بذلك أحدا كما رواه البخاري وهذا أحد
الأقوال في معنى السر وقيل بل ذلك في قصة مارية وقيل غير ذلك قولها (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل) قال العلماء المراد بالحلواء هنا كل شئ حلو وذكر العسل
بعدها تنبيها على شرافته ومزيته وهو من باب ذكر الخاص بعد العام والحلواء بالمد وفيه جواز
كل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل اتفاقا
قولها (فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن) فيه دليل لما يقوله أصحابنا أنه يجوز
لمن قسم بين نسائه أن يدخل في النهار إلى بيت غير المقسوم لها لحاجة ولا يجوز الوطء قولها
(والله لقد حرمناه) هو بتخفيف الراء أي منعناه منه يقال حرمته وأحرمته والأول أفصح
قوله (قال إبراهيم حدثنا الحسن بن بشر حدثنا أبو أسامة بهذا معناه أن إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم
77

ساوى مسلما في إسناد هذا الحديث فرواه عن واحد عن أبي أسامة كما رواه مسلم عن واحد عن أبي
أسامة فعلا برجل والله أعلم
بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقا الا بالنية
قوله (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال إن ذاكر لك
أمرا فعلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت قد علم أن أبوى لم يكونا ليأمراني بفراقه
إنما بدأ بها لفضيلتها وقوله صلى الله عليه وسلم (فلا عليك أن لا تعجلي) معناه ما يضرك أن لا تعجلي
وإنما قال لها هذا شفقة عليها وعلى أبويها ونصيحة لهم في بقائها عنده صلى الله عليه وسلم فإنه
خاف أن يحملها صغر سنها وقلة تجاربها على اختيار الفراق فيجب فراقها فتضر هي وأبواها وباقي
78

النسوة بالاقتداء بها وفي هذا الحديث منقة ظاهرة لعائشة ثم لسائر أمهات المؤمنين رضي الله
عنهن وفيه المبادرة إلى الخير وإيثار أمور الآخرة على الدنيا وفيه نصيحة الانسان صاحبه وتقديمه
في ذلك ما هو أنفع في الآخرة قولها (إن كان ذلك إلى لم أوثر على نفسي أحدا) هذه المنافسة
فيه صلى الله عليه وسلم ليست لمجرد الاستمتاع ولمطلق العشرة وشهوات النفوس وحظوظها
التي تكون من بعض الناس بل هي منافسة في أمور الآخرة والقرب من سيد الأولين والآخرين
والرغبة فيه وفي خدمته ومعاشرته والاستفادة منه وفي قضاء حقوقه وحوائجه وتوقع نزول
الرحمة والوحي عليه عندها ونحو ذلك ومثل هذا حديث ابن عباس وقوله في القدح لا أوثر
بنصيبي منك أحدا ونظائره ذلك كثيره قولها (خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نعده
طلاقا) وفي رواية فلم يكن طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم يعده طلاقا وفي رواية فاخترناه فلم
يحددها علينا شيئا وفي بعض النسخ فلم يعدها علينا شيئا في هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك
والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وجماهير العلماء أن من خير زوجته فاختارته لم يكن ذلك طلاقا
ولا يقع به فرقة وروى عن علي وزيد بن ثابت والحسن والليث بن سعد أن نفس التخيير
يقع به طلقة بائنة سواء اختارت زوجها أم لا وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك قال القاضي
79

لا يصح هذا عن مالك ثم هو مذهب ضعيف مردود بهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ولعل
80

القائلين به لم تبلغهم بهذه الأحاديث والله أعلم قوله (واجما) هو بالجيم قال أهل اللغة هو الذي
اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام يقال وجم بفتح الجيم وجوما قوله (لأقولن شيئا يضحك
النبي صلى الله عليه وسلم) وفي بعض النسخ أضحك النبي صلى الله عليه وسلم فيه استحباب مثل
هذا وأن الانسان إذا رأى صاحبه مهموما حزينا يستحب له أن يحدثه بما يضحكه أيشغله
ويطيب نفسه وفيه فضيلة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله (فوجأت عنقها) وقوله
81

يجأ عنقها هو بالجيم وبالهمزة وجأيجأ إذا طعن قوله (عن سماك أبي زميل) هو بضم الزاي
وفتح الميم قوله (فإذا الناس ينكتون بالحصى) هو بتاء مثناة بعد الكاف أي يضربون الأرض
كفعل المهموم المفكر قولها (فإذا الناس ينكتون بالحصى) هو بتاء مثناة بعد الكاف أي يضربون الأرض
كفعل المهموم المفكر قولها (عليك بعيبتك) هي بالعي المهملة ثم ياء مثناة تحت ثم ياء موحدة
والمراد عليك بوعظ بنتك حفصة قال أهل اللغة العيبة في كلام العرب وعاء يجعل الانسان فيه
أفضل ثيابه ونفيس متاعه فشبهت ابنته بها قوله (هو في المشربة) هي بفتح الراء وضمها قوله
(فإذا أنا برباح) هو بفتح الراء وبالباء الموحدة قوله (قاعدا على أسكفة المشربة) هي بضم الهمزة
والكاف وتشديد الفاء وهي عتبة الباب السفلى قوله (على نقير من خشب) هو بنون
82

مفتوحة ثم قاف مكسورة هذا هو الصحيح الموجود في جميع النسخ وذكر القاضي أنه بالفاء بدل
النون وهو فقير بمعنى مفقور مأخوذ من فقار الظهر وهو جذع فيه درج قوله (وإذا أفيق
معلق) هو بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو الجلد الذي لم يتم دباغه وجمعه أفق بفتحها كأديم وأدم
83

وقد أفق أديمه بفتحها بكسر الفاء قوله (تحسر الغضب عن وجهه) أي زال وانكشف قوله (
وحتى كشر فضحك) هو بفتح الشين المعجمة المخففة أي أبدى أسنانه تبسما ويقال أيضا في الغضب
وقال ابن السكيت كشر وبسم وابتسم وافتر كله بمعنى واحد فإن زاد قيل قهقه وزهدق وكركر
قوله (أتشبث بالجذع) هو بالثاء المثلثة في آخره أي استمسك
84

قوله (فبينما أنا في أمر أئتمره) معناه أشاور فيه نفسي وأفكر ومعنى بينما وبينا أي بين أوقات
ائتماري وكذا ما أشبهه وسبق بيانه
85

قوله (حتى أدخل على حفصة) هو بفتح اللام قوله (وكان لي صاحب من الأنصار
إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر) في هذا استحباب حضور مجالس العلم
واستحباب التناوب في حضور العلم إذا لم يتيسر لكل واحد الحضور بنفسه قوله (من ملوك
غسان) الأشهر ترك صرف غسان وقيل يصر ف وسبق إيضاحه في أول الكتاب قوله (فقلت
جاء الغساني فقال أشد من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه) فيه ما كانت
الصحابة رضي الله عنهم عليه من الاهتمام بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم والقلق التام
لما يقلقه أو يغضبه قوله (رغم أنف حفصة) هو بفتح الغين وكسرها يقال رغم يرغم رغما
86

ورغما ورغما بفتح الراء وضمها وكسرها أي لصق بالرغام وهو التراب هذا هو الأصل ثم استعمل
في كل من عجز من الانتصاف وفي الذل والانقياد كرها قوله (فآخذ ثوبي فأخرج حتى
جئت) فيه استحباب التجمل بالثوب والعمامة ونحوهما عند لقاء الأئمة والكبار احتراما لهم قوله (
في مشربه له يرتقى إليها بعجلها) وقع في بعض النسخ بعجلها وفي بعضها بعجلتها وفي بعضها بعجلة
وكله صحيح والأخيرة أجود قال ابن قتيبة وغيره هي درجة من النخل كما قال في الرواية السابقة جذع قوله
(وإن عند رجليه قرظا مضبورا) وقع في بعض الأصول مضبورا بالضاد المعجمة وفي بعضها بالمهملة
وكلاهما صحيح أي مجموعا قوله (وعند رأسه أهبا معلقة) بفتح الهمزة والهاء وبضمهما لغتان
مشهورتان جمع إهاب وهو الجلد قبل الدباغ على قول الأكثرين وقيل الجلد مطلقا وسبق بيانه في آخر
كتاب الطهارة قوله (فرأيت أثر الحصير في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكيت فقال
ما يبكيك فقلت يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن يكون لهما الدنيا ولك الآخرة هكذا هو
في الأصول
87

ولك الآخرة وفي بعضها لهم الدنيا وفي أكثرها لهما بالتثنية وأكثر الروايات في غير هذا الموضوع
لهم الدنيا ولنا الآخرة وكله صحيح قوله (وكان آلى منهن شهرا) هو بمد الهمزة وفتح اللام ومعناه
حلف لا يدخل عليهن شهرا وليس هو من الايلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء ولا له حكمه
وأصل الايلاء في اللغة الحلف على الشئ يقال منه آلى يؤالى ايلاء وتألى تأليا وائتلى ائتلاء وصار
في عرف الفقهاء مختصا بالحلف على الامتناع من وطء الزوجة ولا خلاف في هذا الا ما حكى
عن ابن سيرين أنه قال الايلاء الشرعي محمول على ما يتعلق بالزوجة من ترك جماع أو كلام أو
انفاق قال القاضي عياض لا خلاف بين العلماء أن مجرد الايلاء لا يوجد في الحال طلاقا ولا
كفارة ولا مطالبة ثم اختلفوا في تقدير مدته فقال علماء الحجاز ومعظم الصحابة والتابعين ومن ب
عدهم المؤلى من حلف على أكثر من أربعة أشهر فإن حلف على أربعة فليس بمؤل وقال الكوفيون
هو من حلف على أربعة أشهر فأكثر وشذ ابن أبي ليلى والحسن وابن شبرمة في آخرين فقالوا إذا
حلف لا يجامعها يوما أو أقل ثم تركها حتى مضت أربعة أشهر فهو مؤل وعن ابن عمر أن كل من
وقت في يمينه وقت وإن طالت مدته فليس بمؤل وإنما المؤلى من حلف على الأبد قال ولا
خلاف بينهم أنه لا يقع عليه طلاق قبل أربعة أشهر ولا خلاف أنه لو جامع قبل انقضاء المدة
سقط الايلاء فأما إذا لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر فقال الكوفيون يقع الطلاق وقال
علماء الحجاز ومصر وفقهاء أصحاب الحديث وأهل الظاهر كلهم يقال للزوج أما أن تجامع وإما
أن تطلق فإن امتنع طلق القاضي عليه وهو المشهور من مذهب مالك وبه قال الشافعي وأصحابه
وعن مالك رواية كقول الكوفيون وللشافعي قول أنه لا يطلق القاضي عليه بل يجبر على الجماع
88

أو الطلاق ويعزر على ذلك ان امتنع واختلف الكوفيون هل يقع طلاق رجعي أم بائن فأما
الآخرون فاتفقوا على أن الطلاق الذي يوقعه هو أو القاضي يكون رجعيا الا أن مالكا
يقول لا تصح فيها الرجعة حتى يجامع الزوج في العدة قال القاضي عياض ولم يحفظ هذا الشرط
عن أحد سوى مالك ولو مضت ثلاثة أقراء في الأشهر الأربعة فقال جابر بن زيد إذا طلق انقضت
عدتها بتلك الأقراء وقال الجمهور يجب استئناف العدة واختلفوا في أنه هل يشترط للايلاء أن تكون
يمينه في حال الغضب ومع قصد الضرر فقال جمهورهم لا يشترط بل يكون مؤليا في كل حال وقال
مالك والأوزاعي لا يكون مؤليا إذا حلف لمصلحة ولده لفطامه وعن علي وابن عباس رضي الله
عنه أنه لا يكون مؤليا الا إذا حلف على وجه الغضب قوله (حدثنا سفيان بن عيينة عن يحيى
ابن سعيد سمع عبيد بن حنين مولى العباس) هكذا هو في جميع النسخ مولى العباس قالوا وهذا
قول سفيان بن عيينة قال البخاري لا يصح قول ابن عيينة هذا وقال مالك هو مولى آل زيد بن
الخطاب وقال محمد بن جعفر بن أبي كثير هو مولى بني زريق قال القاضي وغيره الصحيح عند
الحفاظ وغيرهم في هذا قول مالك قوله في هذه الرواية (كنت أريد أن أسأل عمر عن المرأتين
اللتين تظاهرتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو جميع النسخ على عهد قال
89

القاضي إنما قال على عهده توقيرا لهما والمراد تظاهرتا عليه في عهده كما قال الله تعالى وإن تظاهرا
عليه وقد صرح في سائر الروايات بأنهما تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله
(فسكبت على يديه فتوضأ) فيه جواز الاستعانة في الوضوء وقد سبق ايضاحها في أوائل الكتاب
وهو أنها ان كانت لعذر فلا بأس بها وإن كانت بغيره فهي خلاف الأولى ولا يقال مكروهة على
90

الصحيح قوله (ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم) قوله أن كانت بفتح الهمزة والمراد بالجارة
هنا الضرة وأوسم أحسن وأجمل والوسامة الجمال قوله (غسان تنعل الخيل هو بضم التاء
91

قوله (متكئ على رمل حصير) هو بفتح الراء وإسكان الميم وفي غير هذه الرواية رمال بكسر الراء
يقال رملت الحصير وأرملته إذا نسجته قوله صلى الله عليه وسلم (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم
في الحياة الدنيا) قال القاضي عياض ها مما يحتج به من يفضل الفقر على الغنى لما في مفهومه
أن بمقدار ما يتعجل من طيبات الدنيا يفوته من الآخرة مما كان مدخرا له لو لم يتعجله قال وقد
92

يتأوله الآخرون بأن المراد أن حظ الكفار هو ما نالوه من نعيم الدنيا ولاحظ لهم في الآخرة
والله أعلم قوله (من شدة موجدته) أي الغضب قوله صلى الله عليه وسلم (ان الشهر تسع وعشرون)
أي هذا الشهر وفي هذه الأحاديث جواز احتجاب الامام والقاضي ونحوهما في بعض الأوقات
لحاجاتهم المهمة وفيها أن الحاجب إذا علم منع الاذن بسكون المحجوب لم يأذن والغالب من عادة النبي
صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يتخذ حاجا واتخذه في هذا اليوم للحاجة وفيه وجوب الاستئذان على
الانسان في منزله وإن علم أنه وحده لأنه قد يكون على حالة يكره الاطلاع عليه فيها وفيه تكرار الاستئذان
إذا لم يؤذن وفيه أنه لا فرق بين الرجل الجليل وغيره في أنه يحتاج إلى الاستئذان وفيه تأديب الرجل
ولده صغيرا كان أو كبيرا أو بنتا مزوجة لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا بنتيهما ووجأ
كل واحد منهما بنته وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التقلل من الدنيا والزهادة فيها
وفيه جواز سكنى الغرفة ذات الدرج واتخاذ الخزانة لأثاث البيت وفيه ما كانوا عليه من حرصهم
على طلب العلم وتناوبهم فيه وفيه جواز قبول خبر الواحد
لأن عمر رضي الله عنه كان يأخذ عن
صاحبه الأنصاري ويأخذ الأنصاري عنه وفيه أخذ العلم عمن كان عنده وإن كان الآخذ أفضل
من المأخوذ منه كما أخذ عمر عن هذا وفيه الأنصاري أن الانسان إذا رأى صاحبه مهموما وأراد إزالة همه ومؤانسته بما يشرح صدره ويكشف همه ينبغي له أن يستأذنه في ذلك كما قال
93

عمر رضي الله عنه استأنس يا رسول الله ولأنه قد يأتي من الكلام بما لا يوافق صاحبه فيزيدهما
وربما أحرجه وربما تكلم بما لا يرتضيه وهذا من الآداب المهمة وفيه توقير الكبار وخدمتهم
وهيبتها كما فعل ابن عباس مع عمر وفيه الخطاب بالألفاظ الجميلة كقوله أن كانت جارتك ولم يقل
ضرتك والعرب تستعمل هذا لما في لفظ الضرة من الكراهة وفيه جواز قرع باب غيره الاستئذان
وشدة الفزع للأمور المهمة وفيه جواز نظر الإنسان إلى نواحي بيت صاحبه وما فيه إذا علم
عدم كراهة صاحبه لذلك وقد كره السلف فضول النظر وهو محمول على ما إذا علم كراهته لذلك
وشك فيها وفيه أن الزوج هجران زوجته واعتزاله في بيت آخر إذا جرى منها سبب يقتضيه
وفيه جواز قوله لغيره رغم أنفه إذا أساء كقول عمر رغم أنف حفصة وبه قال عمر بن عبد العزيز
وآخرون وكرهه مالك وفيه فضيلة عائشة للابتداء بها في التخيير وفي الدخول بعد انقضاء الشهر
وفيه غير ذلك والله أعلم
المطلقة البائن لا نفقة لها
فيه حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمر بن حفص طلقها هكذا قاله الجمهور أنه أبو عمرو بن
حفص وقيل أبو حفص بن عمرو وقيل أبو حفص بن المغيرة واختلفوا في اسمه والأكثرون على
94

أن أسمه عبد الحميد وقال النسائي اسمه أحمد وقال آخرون اسمه كنيته وقوله (أنه طلقها)
هذا هو الصحيح المشهور الذي رواه الحفاظ واتفق على روايته الثقات على اختلاف ألفاظهم
في أنه طلقها ثلاثا أو البتة أو آخر ثلاث تطليقات وجاء في آخر صحيح مسلم في حديث الجساسة
ما يوهم أنه مات عنها قال العلماء وليست هذه الرواية على ظاهرها بل هي وهم أو مؤولة
وسنوضحها في موضعها إن شاء الله تعالى وأما قوله في رواية أنه طلقها ثلاثا وفي رواية أنه طلقها
البتة وفي رواية طلقها آخر ثلاث تطليقات وفي رواية طلقها طلقة كانت بقيت من طلاقها وفي
رواية طلقها ولم يذكر عددا ولا غيره فالجمع بين هذه الروايات أنه كان طلقها قبل هذا طلقتين
ثم طلقها هذه المرة الطلقة الثالثة فمن روى أنه طلقها مطلقا أو طلقها واحدة أو طلقها آخر ثلاث
تطليقات فهو ظاهر ومن روى البتة فمراده طلقها طلاقا صارت به مبتوتة بالثلاث ومن روى
ثلاثا أراد تمام الثلاث قوله صلى الله عليه وسلم (ليس لك عليه نفقة) وفي رواية لا نفقة
لك ولا سكنى وفي رواية لا نفقة من غير ذكر السكنى واختلف العلماء في المطلقة البائن الحائل
هل لها النفقة والسكنى أم لا فقال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة وآخرون لها السكنى والنفقة
وقال ابن عباس وأحمد لا سكنى لها ولا نفقة وقال مالك والشافعي وآخرون تجب لها السكنى
ولا نفقة لها واحتج من أوجبها جميعا بقوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم فهذا
أمر بالسكنى وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه وقد قال عمر رضي الله عنه لا ندع كتاب ربنا
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم بقول امرأة جهلت أو نسيت قال العلماء الذي في كتاب ربنا إنما
هو إثبات السكنى قال الدارقطني قوله
وسنة نبينا هذه زيادة غير محفوظة لم يذكرها جماعة من
الثقات واحتج من لم يوجب نفقة ولا سكنى بحديث فاطمة بنت قيس واحتج من أوجب السكنى دون
النفقة لوجوب السكنى بظاهر قوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم ولعدم وجوب النفقة
بحديث فاطمة مع ظاهر قول الله تعالى وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن
95

فمفهومه أنهن إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن وأجاب هؤلاء عن حديث فاطمة في سقوط
النفقة بما قاله سعيد بن المسيب وغيره أنها كانت امرأة لسنة واستطالت على أحمائها فأمرها
بالانتقال عند ابن أم مكتوم وقيل لأنها خافت في ذلك المنزل بدليل ما رواه مسلم من قولها أخاف أن
يقتحم على ولا يمكن شئ من هذا التأويل في سقوط نفقتها والله أعلم وأما البائن الحامل فتجب
لها السكنى والنفقة وأما الرجعية فتجبان لها بالاجماع وأما المتوفى عنها زوجها فلا نفقة لها بالاجماع
والأصح عندنا وجوب السكنى لها فلو كانت حاملا فالمشهور أنه لا نفقة كما لو كانت حائلا وقال
بعض أصحابنا تجب وهو غلط والله أعلم قوله (طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله
بشعير فسخطته) فيه أن الطلاق يقع في غيبة المرأة وجواز الوكالة في أداء الحقوق وقد أجمع العلماء
على هذين الحكمين وقوله وكيله مرفوع هو المرسل قوله (فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك
ثم قال تلك امرأة يغشاها أصحابي) قال العلماء أم شريك هذه قرشية عامرية وقيل أنها أنصارية وقد
ذكر مسلم في آخر الكتاب في حديث الجساسة أنها أنصارية واسمها غزية وقيل غزيلة بغين
معجمة مضمومة ثم زاي فيهما وهي بنت داود أن ابن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حجير
ابن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب وقيل في نسبها غير هذا قيل إنها التي وهبت نفسها
للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل غيرها ومعنى هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون
أم شريك ويكثرون التردد إليها لصلاحها فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من
الاعتداد عندها حرجا من حيث أن يلزمها التحفظ من نظرهم إليها ونظرها إليهم وانكشاف شئ
منها وفي التحفظ من هذا مع كثرة دخولهم وترددهم مشقة ظاهرة فأمرها بالاعتداد عند ابن أم
مكتوم لأنه لا يبصرها ولا يتردد إلى بيته من يتردد إلى بيت أم شريك وقد احتج بعض الناس
بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها وهذا قول ضعيف بل الصحيح الذي
عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها
لقوله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ولأن الفتنة
مشتركة وكما يخاف الافتتان بها تخاف الافتنان به ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة
96

عن أم سلمة أنها كانت هي وميمونة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي
صلى الله عليه وسلم احتجبا منه فقالتا انه أعمى لا يبصر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفعمياوان
أنتما فليس تبصرانه وهذا الحدي حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي
هو حديث حسن ولا يلتفت إلى قدح من قدح فيه بغير حجة متعمدة وأما حديث فاطمة بنت
قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها وهي
مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك
قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا حللت فآذنيني) هو بمد الهمزة أي أعلميني وفيه جواز التعريض بخطبة
البائن وهو الصحيح عندنا قوله صلى الله عليه وسلم (أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه)
فيه تأويلان مشهوران أحدهما أنه كثير الأسفار والثاني أنه كثير الضرب للنساء وهذا أصح
بدليل الرواية التي ذكرها مسلم بعد هذه أنه ضرا ب للنساء وفيه دليل على جواز ذكر الانسان
بما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة
وقد قال العلماء أن الغيبة تباح في ستة مواضع أحدها الاستنصاح وذكرتها بدلائلها في كتاب
الأذكار ثم في رياض الصالحين (واعلم أن أبا الجهم) هذا بفتح الجيم مكبر وهو أبو الجهم
المذكور في حديث الانبجانية وهو غير أبو الجهيم المذكور في التيمم وفي المرور بين يدي المصلى
فإن ذاك بضم الجيم مصغر وقد أوضحتهما باسميهما ونسبيهما ووصفيهما في باب التيمم ثم في باب
المرور بين يدي المصلى وذكرنا أن أبا الجهم هذا هو ابن حذيفة القرشي العدوي قال القاضي
وذكره الناس كلهم ولم ينسبوه في الرواية الا يحيى بن يحيى الأندلسي أحد رواة الموطأ فقال
أبو جهم بن هشام قال وهو غلط ولا يعرف في الصحابة أحد يقال له أبو جهم بن هشام قال ولم يوافق
يحيى على ذلك أحد من رواة الموطأ ولا غيرهم قوله صلى الله عليه وسلم (فلا يضع العصا عن
97

عاتقه) العاتق هو ما بين العنق والمنكب وفي هذا استعمال المجاز وجواز اطلاق مثل هذه العبارة
في قوله صلى الله عليه وسلم لا يضع العصا عن عاتقه وفي معاوية أنه صعلوك لا مال له مع العلم
بأنه كان لمعاوية ثوب يلبسه ونحو ذلك من المال المحقر وأن أبا الجهم كان يضع العصا عن عاتقه
في حال نومه وأكله وغيرهما ولكن لما كان كثير الحمل للعصا وكان معاوية قليل المال جدا
جاز اطلاق هذا اللفظ عليهما مجازا ففي هذا جواز استعمال مثله في نحو ها وقد نص عليه أصحابنا
وقد أوضحته في آخر كتاب الأذكار قوله صلى الله عليه وسلم (وأما معاوية فصعلوك) هو
بضم الصاد وفي هذا جواز ذكره بما فيه للنصيحة كما سبق في ذكر أبي جهم قولها (فلما حللت
ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا الجهم خطباني) هذا تصريح بأن معاوية الخاطب في
هذا الحديث هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب وهو الصواب وقيل أنه معاوية آخر وهذا
غلط صريح نبهت عليه لئلا يغتر به وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة معاوية والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (انكحي أسامة بن زيد فكرهته ثم قال انكحي أسامة فنكحته
فجعل الله فيه خيرا واغتبطت) فقولها اغتبطت هو بفتح التاء والباء وفي بعض النسخ واغتبطت
به ولم تقع لفظه به في أكثر النسخ قال أهل اللغة الغبطة أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير
إرادة زوالها عنه وليس هو بحسد أقول منه غبطته بما نال أغبطه بكسر الباء غبطا وغبطة فاغتبط
هو كمنعته فامتنع وحبسته فاحتبس وأما إشارته صلى الله عليه وسلم بنكاح أسامة فلما علمه من
دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله فنصحها بذلك فكرهته لكونه مولى ولكونه كان أسود
جدا فكرر عليها النبي صلى الله عليه وسلم الحث على زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك وكان
كذلك ولهذا قالت فجعل الله لي في خيرا واغتبطت ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرواية
التي بعد هذا طاعة الله وطاعة رسوله خير لك قوله (حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري)
98

كليهما هو القاري بتشديد الياء سبق بيانه مرات وهكذا وقع في النسخ كليهما وهو صحيح وقد سبق
وجهه في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح قوله (وكان أنفق عليها نفقة دون) هكذا
هو في النسخ نفقة دون بإضافة نفقة إلى دون قال أهل اللغة الدون الردئ الحقير قال الجوهري
ولا يشتق منه فعل قال وبعضهم يقول منه دان يدون دونا وأدين إدانة قوله صلى الله عليه وسلم
(تضعين ثيابك عنده) وفي الرواية الأخرى فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك هذا لرواية
99

مفسرة للأولى ومعناه لا تخافين من رؤية رجل إليك قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبقيني
بنفسك) هو من التعريض بالخطبة وهو جائز في عدة الوفاة وكذا عدة البائن بالثلاث وفيه
قول ضعيف في عدة البائن والصواب الأول لهذا الحديث قوله (كتبت ذلك منفيها كتابا)
100

الكتاب هنا مصدر لكتبت قوله (فاستأذنته في الانتقال فأذن لها) هذا محمول على أنه أذن لها
في الانتقال لعذر وهو البذاءة على أحمائها أو خوفها أن يقتحم عليها أو النحو ذلك وقد سبقت
الإشارة إلى هذا في أوائل هذا الباب وأما لغير حاجة فلا يجوز لها الخروج والانتقال ولا يجوز
نقلها قال الله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال ابن عباس
وعائشة المراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق وقيل هو البذاءة على أهل زوجها وقيل
101

معناه إلا أن يأتين بفاحشة الزنا فيخرجن لإقامة الحد ثم ترجع إلى المسكن قوله (سنأخذ
بالعصمة التي وجدنا الناس عليها) هكذا هو في معظم النسخ بالعصمة بكسر العين وفي بعضها
بالقضية بالقاف والضاد وهذا واضح ومعنى الأول بالثقة والأمر القوى الصحيح قوله
(ومجاهد) هو بالجيم وهو ضعيف وإنما ذكره مسلم هنا متابعة والمتابعة يدخل فيها بعض
الضعفاء قولها (انه طلقها زوجها البتة قالت فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي
خاصمت وكيله قوله (فأتحفتنا برطب ابن طاب وسقتنا سويق سلت) معنى أتحفتنا
ضيفتنا
102

ورطب بن طاب نوع من الرطب الذي بالمدينة وقد ذكرنا أن أنواع تمر المدينة مائة وعشرون
نوعا وأما السلت فبسين مهملة مضمومة ثم لام ساكنة ثم مثناة فوق وهو حب متردد بين الشعير
والحنطة قيل طبعه طبع الشعير في البرودة ولونه قريب من لون الحنطة وقيل عكسه واختلف
أصحابنا في حكمه على ثلاثة أوجه مشهورة الصحيح أنه جنس من الحبوب ليس هو حنطة ولا
شعيرا والثاني أنه حنطة والثالث أنه شعير وتظهر فائدة الخلاف في بيعه بالحنطة أو بالشعير
متفاضلا وفي ضمه اليهما في إتمام نصاب الزكاة وفي غير ذلك وفي هذا الحديث استحباب
الضيافة واستحبابها من النساء لزوارهن من فضلاء الرجال وإكرام الزائر وإطعامه والله أ
علم قوله (سألتها عن المطلقة ثلاثا أين تعتد قالت طلقني بعلى ثلاثا فأذن لي النبي صلى الله عليه وسلم
أن أعتد في أهلي) هذا محمول على أنه أجاز لها ذلك لعذر في الانتقال من مسكن
الطلاق كما سبق إيضاحه قريبا قوله (فقال انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم)
هكذا وقع هنا وكذا جاء في صحيح مسلم في آخر الكتاب وزاد فقال هو رجل من بنى فهر من
البطن الذي هي منه قال
القاضي والمشهور خلاف هذا وليس هما من بطن واحد هي من
بن محارب بن فهر وهو من بنى عامر بن لؤي قلت وهو ابن عمها مجازا يجتمعان في فهر واختلفت
103

الرواية في اسم ابن أم مكتوم فقيل عمرو وقيل عبد الله وقيل غير ذلك قوله (عن أبي بكر بن أبي
الجهم بن صخير) هكذا هو في نسخ بلادنا صخير بضم الصاد على التصغير وحكى القاضي عن
بعض رواتهم أنه صخر بفتحها على التكبير والصواب المشهور هو الأول قوله صلى الله عليه وسلم
(أما معاوية فرجل ترب لا مال له) هو بفتح التاء وكسر الراء وهو الفقير فأكده
104

بأنه لا مال له لأن الفقير قد يطلق على من له شئ يسير لا يقع موقعا من كفايته قوله صلى الله عليه وسلم
(فإنه ضرير البصر تلقى ثوبك عنده) هكذا هو في جميع النسخ تلقى وهي لغة صحيحة
والمشهور في اللغة تلقين بالنون قوله صلى الله عليه وسلم (وأبو الجهيم منه شدة على النساء)
هكذا هو في النسخ في هذا الموضع أبو الجهيم بضم الجيم مصغر والمشهور أنه بفتحها مكبر وهو
105

المعروف في باقي الروايات وفي كتب الأنساب وغيرها قولها (فشرفني الله
بأبى زيد وكرمني بأبى زيد) هكذا هو في بعض النسخ بأبى زيد في الموضعين على أنه كنية وفي بعضها بابن زيد
بالنون في الموضعين وادعى القاضي أنها رواية الأكثرين وكلاهما صحيح هو أسامة بن زيد
وكنيته أبو زيد ويقال أبو محمد واعلم أن في حديث فاطمة بنت قيس فوائد كثيرة إحداها جواز
طلاق الغائب الثانية جواز التوكيل في الحقوق في القبض والدفع الثالثة لا نفقة للبائن وقالت
طائفة لا نفقة ولا سكنى الرابعة جواز سماع كلام الأجنبية والأجنبي في الاستفتاء ونحوه الخامسة
جواز الخروج من منزل العدة للحاجة السادسة استحباب زيارة النساء الصالحات للرجال بحيث
لا تقع خلوة محرمة لقوله صلى الله عليه وسلم في أم شريك تلك امرأة يغشاها أصحابي السابعة
جواز التعريض لخطبة المعتدة البائن بالثلاث الثامنة جواز الخطبة على خطبة غيره إذا لم يحصل
للأول إجابة لأنها أخبرته أن معاوية وأبا الجهم وغيرهما خطبوها التاسعة جواز ذكر الغائب
106

بما فيه من العيوب التي يكرهها إذا كان للنصيحة ولا يكون حينئذ غيبة محرمة العاشرة جواز
استعمال المجاز لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يضع العصا عن عاتقه ولا مال له) الحادية عشرة
استحباب إرشاد الانسان إلى مصلحته وان كرهها وتكرار ذلك عليه لقولها قال انكحي
أسامة فكرهته ثم يقال انكحي أسامة فنكحته الثانية عشر قبول نصيحة أهل الفضل والانقياد
إلى إشارتهم وأن عاقبتها محمودة الثالثة عشر جواز نكاح غير الكفء إذا رضيت به الزوجة
والولي لأن فاطمة قرشية وأسامة مولى الرابعة عشر الحرص
على مصاحبة أهل التقوى
والفضل وإن دنت أنسابهم الخامسة عشر جواز إنكار المفتى على مفت آخر خالف النص
أو عمم ما هو خاص لأن عائشة أنكرت على فاطمة بنت قيس تعميمها أن لا سكنى للمبتوتة
وإنما كان انتقال فاطمة من مسكنها لعذر من خوف اقتحامه عليها أو لبذاءتها أو نحو ذلك
السادسة عشر استحباب ضيافة الزائر وإكرامه بطيب الطعام والشراب سواء كان المضيف
رجلا أو امرأة والله أعلم
107

جواز خروج المعتدة البائن
(والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها) فيه حديث جابر (قال طلقت خالتي فأردت أن تجد نخلها فزجرها رجل أن تخرج فأتت
النبي صلى الله عليه وسلم فقال بلى فجدي نخلك فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفا) هذا
الحديث دليل الخروج المعتدة البائن للحاجة ومذهب مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد
وآخرين جواز خروجها في النهار للحاجة وكذلك عند هؤلاء يجوز لها الخروج في عدة الوفاة
ووافقهم أبو أبو حنيفة في عدة الوفاة وقال تفي البائن لا تخرج ليلا ولا نهارا وفيه استحباب الصدقة
من التمر عند جداده والهدية واستحباب التعريض لصاحب التمر بفعل ذلك وتذكير المعروف
والبر والله تعالى أعلم
انقضاء عدة المتوفي عنها زوجها (
وغيرها بوضع الحمل)
فيه حديث سبيعة بضم السين المهملة وفتح الباء الموحدة أنها وضعت بعد وفاة زوجها بليال
108

فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن عدتها انقضت وإنها حلت للزواج فأخذ بهذا جماهير العلماء
من السلف والخلف فقالوا عدة المتوفي عنها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها
بلحظة قبل غسله انقضت عدتها وحلت وهي الحال للأزواج هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة
وأحمد والعلماء كافة الا رواية عن علي وابن عباس وسحنون المالكي أن عدتها بأقصى الأجلين
وهي أربعة أشهر وعشرا ووضع الحمل وإلا ما روى عن الشعبي والحسن وإبراهيم النخعي
وحماد أنها لا يصح زواجها حتى تطهر من نفاسها وحجة الجمهور حديث سبيعة لمذكور وهو
مخصص لعموم قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر
وعشرا ومبين أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن عام في المطلقة والمتوفي
عنها وأنه على عمومه قال الجمهور وقد تعارض عموم هاتين الآيتين وإذا تعارض العمومان
وجب الرجوع إلى مرجح لتخصيص أحدهما وقد وجد هنا حديث سبيعة المخصص لأربعة
أشهر وعشرا وأنها محمولة على غير الحامل وأما الدليل على الشعبي وموافقيه فهو ما رواه مسلم
في الباب أنها قالت فأفتاني النبي صلى الله عليه وسلم بأني قد حللت حين وضعت حملي وهذا تصريح
بانقضاء العدة بنفس الوضع فان احتجوا بقوله فلما تعلت من نفاسها أي طهرت منه فالجواب
أن هذا إخبار عن وقت سؤالها ولا حجة فيه وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم
أنها حلت حين وضعت ولم يعلل بالطهر من النفاس قال العلماء من أصحابنا وغيرهم سواء كان
حملها ولدا أو أكثر كامل الخلقة أو ناقصها أو علقة أو مضغة فتنقضي العدة بوضعه إذا كان
فيه صورة خلق آدمي سواء كانت صورة خفية تختص النساء بمعرفتها أم جلية يعرفها
كل أحد ودليله إطلاق سبيعة من غير سؤال عن صفة حملها قوله (كانت تحت سعد بن
109

خولة وهو في بنى عامر بن لؤي) هكذا هو في النسخ في بنى عامر بالفاء وهو صحيح ومعناه ونسبه
في بنى عامر أي هو منهم قوله (فلم تنشب) أي لم تمكث قوله (أبو السنابل بن بعكك)
السنابل بفتح السين وبعكك بموحدة مفتوحة ثم عين ساكنة ثم كافين الأولى مفتوحة واسم
أبى السنابل عمرو وقيل حبة بالباء الموحدة وقيل بالنون حكاهما ابن ماكولا وهو أبو السنابل
ابن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار كذا نسبة ابن الكلبي وابن عبد البر وقيل
110

في نسبه غير هذا قوله (نفست بعد وفاة زوجها بليال) هو بضم النون على المشهور وفي لغة
بفتحها وهما لغتان في الولادة وقوله بعد وفاته بليال قيل إنها شهر وقيل خمس وعشرون ليلة وقيل
دون ذلك والله أعلم
باب وجوب الاحداد في عدة الوفاة
(وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام)
قال أهل اللغة الاحداد والحداد مشتق من الحد وهو المنع لأنها تمنع الزينة والطيب يقال
أحدت المرأة تحد احدادا وحدت تحد بضم الحاء وتحد بكسرها حدا كذا قال الجمهور أنه يقال
أحدت وحدت وقال الأصمعي لا يقال الا أحدت رباعيا ويقال امرأة حاد ولا يقال حادة
وأما الاحداد في الشرع فهو ترك الطيب والزينة وله تفاصيل مشهورة في كتب الفقه قوله
111

صلى الله عليه وسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث الا على
زوج أربعة أشهر وعشرا) فيه دليل على وجوب الاحداد على المعتدة من وفاة زوجها وهو مجمع
عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفصيله فيجب على كل معتدة عن وفاة سواء المدخول بها
وغيرها والصغيرة والكبيرة والبكر والثيب والحرة والأمة والمسلمة والكافرة هذا مذهب
الشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين وأبو ثور وبعض المالكية لا يجب
على الزوجة الكتابية بل يختص بالمسلمة لقوله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله
فخصه بالمؤمنة ودليل الجمهور أن المؤمن هو الذي يستثمر خطاب الشارع وينتفع به وينقاد
له فلهذا قيد به وقال أبو حنيفة أيضا لا احداد على الصغيرة ولا على الزوجة الأمة وأجمعوا على
أنه لا احداد على أم الولد ولا على الأمة إذا توفى عنهما سيدهما ولا على الزوجة الرجعية
واختلفوا في المطلقة ثلاثا فقال عطاء وربيعة ومالك والليث والشافعي وابن المنذر لا احداد عليها
وقال الحكم وأبو حنيفة والكوفيون وأبو ثور وأبو عبيد عليها الاحداد وهو قول ضعيف
للشافعي وحكى القاضي قولا عن الحسن البصري أنه لا يجب الاحداد على المطلقة ولا على
المتوفى عنها وهذا شاذ غريب ودليل من قال لا احداد على المطلقة ثلاثا قوله صلى الله عليه وسلم
الا على الميت فخص الاحداد بالميت بعد تحريمه في غيره قال القاضي واستفيد وجوب الاحداد
في المتوفي عنها من اتفاق العلماء على حمل الحديث على ذلك مع أنه ليس في لفظه ما يدل على الوجوب
ولكن اتفقوا على حمله على الوجوب مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر حديث أم سلمة
وحديث أم عطية في الكحل والطيب واللباس ومنعها منه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم أربعة
أشهر وعشرا فالمراد به وعشرة أيام بلياليها هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكى عن يحيى بن أبي
كثير والأوزاعي أنها أربعة أشهر وعشر ليال وأنها تحل في اليوم العاشر وعندنا وعند
الجمهور لا تحل حتى تدخل ليلة الحادي عشر واعلم أن التقييد عندنا بأربعة أشهر وعشر خرج
على غالب المعتدات أنها تعتد بالأشهر أما إذا كانت حاملا فعدتها بالحمل ويلزمها الاحداد
في جميع العدة حتى تضع سواء قصرت المدة أم طالت فإذا وضعت فلا احداد بعده وقال بعض
112

العلماء لا يلزمها الاحداد بعد أربعة أشهر وعشر وان لم تضع الحمل والله أعلم قال العلماء والحكمة
في وجوب الاحداد في عدة الوفاة دون الطلاق لأن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان
فيه فنهيت عنه ليكون الامتناع من ذلك زاجرا عن النكاح لكون الزوج ميتا لا يمنع معتدته
من النكاح ولا يراعيه ناكحها ولا يخاف منه بخلاف المطلق الحي فإنه يستغنى بوجوده عن
زاجرا آخر ولهذه العلة وجبت العدة على كل متوفى عنها وإن لم تكن مدخولا بها بخلاف الطلاق
فاستظهر للميت بوجوب العدة وجعلت أربعة أشهر وعشرا لأن الأربعة فيها ينفخ الروح
في الولد إن كان والعشر احتياطا وفي هذه المدة يتحرك الولد في البطن قالوا ولم يوكل ذلك إلى
أمانة النساء ويجعل بالأقراء كالطلاق لما ذكرناه من الاحتياط للميت ولما كانت الصغيرة من
الزوجات نادرة ألحقت بالغالب في حكم وجوب العدة والاحداد والله أعلم قوله (فدعت
أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره) هو برفع خلوق وبرفع غيره أي دعت بصفرة وهي
خلوق أو غيره والخلوق بفتح الخاء هو طيب مخلوط قوله (مست بعارضيها) هما جانبا الوجه
فوق الذقن إلى ما دون الأذن وإنما فعلت هذا لدفع صورة الاحداد وفي هذا الذي فعلته
أم حبيبة وزينب مع الحديث المذكور دلالة لجواز الاحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فما دونها
قولها (وقد اشتكت عينها) هو برفع النون ووقع في بعض الأصول عيناها بالألف قولها
113

(أفنكحلها فقال لا) هو بضم الحاء وفي هذا الحديث أم عطية المذكور بعده في قوله
صلى الله عليه وسلم لا تكتحل دليل على تحريم الاكتحال على الحادة سواء احتاجت إليه أم لا
وجاء في الحديث الآخر في الموطأ وغيره في حديث أم سلمة اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار
ووجه الجمع بين الأحاديث أنها إذا لم تحتج إليه لا يحل لها وإن احتاجت لم يجز بالنهار ويجوز
بالليل مع أن الأولى تركه فإن فعلته مسحته بالنهار فحديث الاذن فيه لبيان أنه بالليل للحاجة
غير حرام وحديث النهى محمول على عدم الحاجة وحديث التي اشتكت عينها فنهاها محمول على
أنه نهى تنزيه وتأوله بعضهم على أنه لم يتحقق الخوف على عينا وعد اختلف العلماء في اكتحال
المحدة فقال سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار ومالك في رواية عنه يجوز إذا خافت على عينها
بكحل لا طيب فيه وجوزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طيب ومذهبنا جوازه ليلا عند الحاجة
بما لا طيب فيه قوله صلى الله عليه وسلم (إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن
في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول) معناه لا تستكثرن العدة ومنع الاكتحال فيها فإنها
مدة قليلة وقد خففت عنكن وصارت أربعة أشهر وعشرا بعد أن كانت سنة وفي هذا تصريح
بنسخ الاعتداد سنة المذكور في سورة البقرة في الآية الثانية وأما رميها بالبعرة على رأس الحول
فقد فسره في الحديث قال بعض العلماء معناه أنها رمت بالعدة وخرجت منها كانفصالها من
هذه البعرة ورميها بها وقال بعضهم هو إشارة إلى أن الذي فعلت وصبرت عليه من الاعتداد
سنة ولبسها شر ثيابها ولزومها بيتا صغيرا هين بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة
كما يهون الرمي بالبعرة قوله (دخلت حفشا) هو بكسر الحاء المهملة وإسكان الفاء وبالشين
المعجمة أي بيتا صغيرا حقيرا قريب السمك قوله (ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير
114

فتفتض به) هكذا هو في جميع النسخ فتفتض بالفاء والضاد قال ابن قتيبة سألت الحجازيين
عن معنى الافتضاض فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ثم تخرج
بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض أي تكسر ما هي فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه
فلا يكاد يعيش ما تفتض به وقال مالك معناه تمسح به جلدها وقال ابن وهب معناه تمسح بيدها
عليه أو على ظهره وقيل معناه تمسح به ثم تفتض أي تغتسل والافتضاض الاغتسال بالماء العذب
للانقاء وإزالة الوسخ حتى تصير بيضاء نقية كالفضة وقال الأخفش معناه تتنظف وتتنقى من الدرن
تشبيها لها بالفضة في نقائها وبياضها وذكر الهروي أن الأزهري قال رواه الشافعي تقبض بالقاف
والصاد المهملة والباء الموحدة مأخوذ من القبض وهو القبض بأطراف الأصابع قوله (توفى
حميم لأم حبيبة) أي قريب
115

قوله صلى الله عليه وسلم (في شر أحلاسها) هو بفتح الهمزة وإسكان الحاء المهملة جمع حلس
بكسر الحاء والمراد في شر ثيابها كما قال في الرواية الأخرى وهو مأخوذ من حلس البعير
وغيره من الدواب وهو كالمسح يجعل على ظهره قوله (نعى أبي سفيان) هو بكسر العين
مع تشديد الياء وبإسكانها مع تخفيف الباء أي خبر موته
116

قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب) العصب بعين مفتوحة ثم صاد
ساكنة مهملتين وهو برود اليمن يعصب غزلها ثم يصبغ معصوبا ثم تنسج ومعنى الحديث النهى
عن جميع الثياب المصبوغة للزينة الا ثوب العصب قال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه لا يجوز
للحادة لبس الثياب المعصفرة والمصبغة الا ما صبغ بسواد فرخص بالمصبوغ بالسواد عروة بن
الزبير ومالك والشافعي وكرهه الزهري وكره عروة العصب وأجازه الزهري وأجاز مالك غليظة
والأصح عند أصحابنا بحريمه كطلقا وهذا الحديث حجة لمن أجازه قال ابن المنذر رخص جميع
العلماء في الثياب البيض ومنع بعض متأخري المالكية جيد البيض الذي يتزين به وكذلك
جيد السواد قال أصحابنا ويجوز كل ما صبغ ولا تقصد منه الزينة ويجوز لها لبس الحرير
في الأصح ويحرم حلي الذهب والفضة وكذلك اللؤلؤ وفي اللؤلؤ وجه أنه يجوز قوله صلى الله عليه وسلم
(ولا تمس طيبا الا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) النبذة بضم النون القطعة
118

والشئ اليسير وأما القسط فبضم القاف ويقال فيه كست بكاف مضمومة بدل القاف وبتاء
بدل الطاء وهو والأظفار نوعان معروفان من البخور وليسا من مقصود الطيب رخص فيه
للمغتسلة من الحيض لإزالة الرائحة الكريهة تتبع به أثر الدم لا للتطيب والله تعالى أعلم
كتاب اللعان
اللعان والملاعنة والتلاعن ملاعنة الرجل امرأته يقال تلاعنا والتعنا ولاعن القاضي بينهما وسمى
لعانا لقول الزوج على لعنة الله ان كنت من الكاذبين قال العلماء من أصحابنا وغيرهم واختير لفظ
اللعن على لفظ الغضب وإن كانا موجودين في الآية الكريمة وفي صورة اللعان لأن لفظ اللعنة
متقدم في الآية الكريمة وفي صورة اللعان ولأن جانب الرجل فيه أقوى من جانبها لأنه قادر على
الابتداء باللعان دونها ولأنه قد ينفك لعانه عن لعانها ولا ينعكس وقيل سمى لعانا من اللعن وهو
الطرد والابعاد لأن كلا منهما يبعد عن صاحبه ويحرم النكاح بينهما على التأبيد بخلاف المطلق
وغيره واللعان عند جمهور أصحابنا يمين وقيل شهادة وقيل يمين فيها ثبوت شهادة وقيل عكسه قال
العلماء وليس من الأيمان شئ متعدد الا اللعان والقسامة ولا يمسن في جانب المدعى الا فيهما
والله أعلم قال العلماء وجوز اللعان لحفظ الأنساب ودفع المعرة عن الأزواج وأجمع العلماء
على صحة اللعان في الجملة والله أعلم واختلف العلماء في نزول آية اللعان هل هو بسبب عويمر العجلاني
أم بسبب هلال بن أمية فقال بعضم بسبب عويمر العجلاني واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكره مسلم
في الباب أولا لعويمر قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك وقال جمهور
العلماء سبب نزولها قصة هلال ابن أمية واستدلوا بالحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا في قصة هلال
119

قال وكان أول رجل لاعن في الاسلام قال الماوردي من أصحابنا في كتابه الحاوي قال الأكثرون
قصة هلال بن أمية أسبق من قصة العجلاني قال والنقل فيهما مشتبه ومختلف وقال ابن الصباغ من
أصحابنا في كتابه الشامل قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا قال وأما قوله صلى الله عليه وسلم
لعويمر ان الله قد أنزل فيك وفى صاحبتك فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع
الناس قلت ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت الآية فيهما
وسبق هلال باللعان فيصدق أنها نزلت في ذا وفي ذاك وأن هلالا أول من لاعن والله أعلم قالوا
وكانت قصة اللعان في شعبان سنة تسع من الهجرة وممن نقله القاضي عياض عن ابن جرير الطبري
قوله (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها) المراد كراهة المسائل التي لا يحتاج
إليها لا سيما ما كان فيه هتك ستر مسلم أو مسلمة أو إشاعة فاحشة أو شناعة على مسلم أو مسلمة
قال العلماء أما إذا كانت المسائل مما يحتاج إليه في أمور الدين وقد وقع فلا كراهة فيها وليس
هو المراد في الحديث وقد كان المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحكام
الواقعة فيجيبهم ولا يكرهها وإنما كان سؤال عاصم في هذا الحديث عن قصة لم تقع بعد ولم يحتج
إليها وفيها شناعة على المسلمين والمسلمات وتسليط اليهود والمنافقين ونحوهم على الكلام في أعراض
المسلمين وفي الاسلام ولأن من المسائل ما يقتضى جوابه تضييقا وفي الحديث الآخر أعظم الناس
120

حربا من سأل عما لم يحرم فحرم من أجل مسألته قوله (يا رسول الله أرأيت رجلا وجد
مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل فيك
وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا) هذا الكلام فيه حذف ومعناه أنه سأل وقذف
امرأته وأنكرت الزنا وأصر كل واحد منهما على قوله ثم تلاعنا قوله (أيقتل فتقتلونه) معناه
إذا وجد رجلا مع امرأته وتحقق أنه زنا بها فإن قتله قتلتموه وإن تركه صبر على عظيم فكيف طريقه
وقد اختلف العلماء فيمن قتل رجلا وزعم أنه وجده قد زنى بامرأته فقال جمهورهم لا يقبل قوله
بل يلزمه القصاص الا أن تقوم بذلك بينه أو يعترف به ورثة القتيل والبينة أربعة من عدول الرجال
يشهدون على نفس الزنا ويكون القتيل محصنا وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان صادقا
فلا شئ عليه وقال بعض أصحابنا يجب على كل من قتل زانيا محصنا القصاص ما لم يأمر السلطان
بقتله والصواب الأول وجاء عن بعص السلف تصديقه في أنه زنى بامرأته وقتله بذلك قوله (قال
سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه أن اللعان يكون بحضرة
الامام أو القاضي وبمجمع من الناس وهو أحد أنواع تغليظ اللعان فإنه تغليظ بالزمان والمكان
والجمع فأما الزمان فبعد العصر والمكان في أشرف موضع في ذلك البلد والجمع طائفة من الناس
أقلهم أربعة وهل هذه التغليظات واجبة أم مستحبة فيه خلاف عندنا الأصح الاستحباب قوله
(فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها) فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين وفي الرواية الأخرى فطلقها ثلاثا
121

قبل أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ذاكم التفريق بين كل متلاعنين وفي الرواية الأخرى أنه لاعن ثم لاعنت ثم فرق
بينهما وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا سبيل لك عليها اختلف العلماء في الفرقة باللعان
فقال مالك والشافعي والجمهور تقع الفرقة بين الزوجين بنفس التلاعن ويحرم عليه نكاحها على التأبيد
لهذه الأحاديث لكن قال الشافعي وبعض المالكية تحل الفرقة بلعان الزوج وحده
ولا تتوقف على لعان الزوجة وقال بعض المالكية تتوقف على لعانها وقال أبو حنيفة لا تحصل
الفرقة الا بقضاء القاضي بها بعد التلاعن لقوله ثم فرق بينهما وقال الجمهور لا تفتقر إلى قضاء القاضي
لقول صلى الله عليه وسلم لا سبيل لك عليها والرواية الأخرى ففارقها وقال الا لا أثر للعان في
الفرقة ولا يحصل به فراق أصلا واختلف القائلون بتأبيد التحريم فيما إذا أكذب بعد ذلك نفسه
فقال أبو حنيفة تحل له لزوال المعنى المحرم وقال مالك والشافعي وغيرهما لا تحل له أبدا لعموم
قوله صلى الله عليه وسلم لا سبيل لك عليها والله أعلم وأما قوله كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها
فهو كلام تام مستقل ثم ابتدأ فقال هي طالق ثلاثا تصديقا لقوله في أنه لا يمسكها وإنما طلقها لأنه ظن
أن اللعان لا يحرمها عليه فأراد تحريمها بالطلاق فقال هي طالق ثلاثا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك وهذا ليل على أن الفرقة تحصل
بنفس اللعان واستدل به أصحابنا على أن جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد ليس حراما وموضع
الدلالة أنه لم ينكر عليه اطلاق لفظ الثلاث وقد يعتر ض على هذا فيقال إنما لم ينكر عليه لأنه
لم يصادق الطلاق محلا مملوكا له ولا نفوذا ويجاب عن هذا الاعتراض بأنه لو كان الثلاث
محرما لأنكر عليه وقال له كيف ترسل لفظ الطلاق الثلاث مع أنه حرام والله أعلم وقال ابن
نافع من أصحاب مالك إنما طلقها ثلاثا بعد اللعان لأنه يستحب اظهار الطلاق بعد اللعان مع
أنه قد حصلت الفرقة بنفس اللعان وهذا فاسد وكيف يستحب للانسان أن يطلق من صارت
أجنبية وقال محمد بن أبي صفرة المالكي لا تحصل الفرقة بنفس اللعان واحتج بطلاق عويمر
وبقوله أن أمسكتها وتأوله الجمهور كما سبق والله أعلم وأما قوله (قال ابن شهاب فكانت سنة
122

المتلاعنين) فقد تأوله ابن نافع المالكي على أن معناه استحباب الطلاق بعد اللعان كما سبق
وقال الجمهور معناه حصول الفرقة بنفس اللعان وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ذاكم التفريق
بين كل متلاعنين فمعناه عند مالك والشافعي والجمهور بيان أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بين كل
متلاعنين وقيل معناه تحريمها على التأبيد كما قال جمهور العلماء قال القاضي عياض واتفق علماء
الأمصار على أن مجرد قذفه لزوجته لا يحرمها عليه الا أبا عبيد فقال تصير محرمه عليه بنفس
القذف بغير لعان قوله (وكانت حاملا فكان ابنها يدعى إلى أمه ثم جرت السنة أنه يرثها وترث
منه ما فرض الله لها) فيه جواز لعان الحامل وأنه إذا لاعنها ونفى عنه نسب الحمل انتفى عنه وأنه
يثبت نسبه من الأم ويرثها وترث منه ما فرض ألح ح له للأم وهو الثلث ان لم يكن للميت
ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة أو الأخوات وإن كان شئ من ذلك فلها السدس وقد أجمع
123

العلماء على جريان التوارث بينه وبين أمه وبينه وبين أصحاب الفروض من جهة أمه وهم اخوته
وأخواته من أمه وجداته من أمه ثم إذا دفع إلى أمه فرضها أو إلى أصحاب الفروض وبقى شئ
فهو لموالي أمه إن كان عليها ولاء ولم يكن عليه هو ولا بمباشرة اعتاقه فإن لم يكن لها موال فهو
لبيت المال هذا تفصيل مذهب الشافعي وبه قال الزهري ومالك وأبو ثور وقال الحكم وحماد ترثه
ورثة أمه وقال آخرون عصبة أمه روى هذا عن علي وابن مسعود وعطاء وأحمد بن حنبل قال
أحمد فإن انفردت الأم أخذت جميع ماله بالعصوبة وقال أبو حنيفة إذا انفردت أخذت الجميع
لكن الثلث بالفرض والباقي بالرد على قاعدة مذهبه في اثبات الرد والله أعلم قوله (فتلاعنا في
المسجد) فيه استحباب كون اللعان في المسجد وقد سبق بيانه قوله (فقلت للغلام استأذن لي قال إنه
قائل فسمع صوتي فقال ابن جبير قلت نعم) أما قوله أنه قائل فهو من القيلولة وهي النوم
نصف النهار وأما قوله ابن جبير فهو برفع ابن وهو استفهام أي أأنت ابن جبير قوله (فوجدته
124

مفترشا برذعة) هو بفتح الباء وفيه زهادة ابن عمر وتواضعه قوله (ووعظه وذكره وأخبره
أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة) وفعل بالمرأة مثل ذلك فيه أن الامام يعظ المتلاعنين
ويخوفهما من وبال اليمين الكاذبة وأن الصبر على عذاب الدنيا وهو الحد أهون من عذاب
الآخرة قوله (فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات إلى آخره) فيه أن الابتداء في اللعان يكون
بالزوج لأن الله تعالى بدأ به ولأنه يسقط عن نفسه حد قذفها وينفى النسب إن كان ونقل
القاضي وغيره اجماع المسلمين على الابتداء بالزوج ثم قال الشافعي وطائفة لولا عنت المرأة قبله
لم يصح لعانها وصححه أبو حنيفة وطائفة قوله (فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين
والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) هذه ألفاظ اللعان وهي مجمع عليها قوله صلى الله عليه وسلم
125

للمتلاعنين (حسابكما على الله أحدكما كاذب) قال القاضي ظاهره أنه قال هذا
الكلام بعد فراغهما من اللعان والمراد بيان أنه يلزم الكاذب التوبة قال وقال الداودي إنما
قاله قبل اللعان تحذيرا لهما منه قال والأول أظهر وأولى بسياق الكلام قال وفيه رد على
من قال من النحاة أن لفظة أحد لا تستعمل الا في النفي وعلى من قال منهم لا تستعمل الا في الوصف
ولا تقع موقع واحد وقد وقعت في هذا الحديث في غير نفي ولا وصف ووقعت موقع
واحد وقد أجازه المبرد ويؤيده قوله تعالى فشهادة أحدهم وفي هذا الحديث أن الخصمين
المتكاذبين لا يعاقب واحد منهما وإن علما كذب أحدهما على الابهام قوله (يا رسول الله
مالي قال لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت
عليها فذاك أبعد لك منها) في هذا دليل على استقرار المهر بالدخول وعلى ثبوت مهر الملاعنة
المدخول بها والمسئلتان مجمع عليهما وفيه أنها لو صدقته وأقرت بالزنا لم يسقط مهرها
126

قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم افتح) معناه بين لنا الحكم في هذا قوله (ان هلال بن أمية قذف
امرأته بشريك ابن سحماء) هي بسين مفتوحة ثم حاء ساكنة مهملتين وبالمد وشريك هذا
صحابي بلوى حليف الأنصار قال القاضي وقول من قال إنه يهودي باطل قوله (وكان أول
رجل لاعن في الاسلام) سبق بيانه في أول هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم لعلها
أن تجئ به اسود جعدا) وفى الرواية الأخرى فإن جاءت به سبطا قضئ العينين فهو لهلال
وان جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك أما الجعد فبفتح الجيم وإسكان العين قال
الهروي الجعد في صفات الرجال يكون مدحا ويكون ذما فإذا كان مدحا فله معنيان أحدهما
128

أن يكون معصوب الحلق شديد الأسر والثاني أن يكون شعره غير سبط لأن السبوطة أكثرها
في شعور العجم وأما الجعد المذموم فله معنيان أحدهما القصير المتردد والآخر البخيل يقال
جعد الأصابع وجعد اليدين أي بخيل وأما السبط فبكسر الباء وإسكانها وهو الشعر المسترسل
وأما حمش الساقين فبحاء مهملة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم شين معجمة أي رقيقهما والحموشة
الدقة وأما قضئ العينين فمهموز ممدود على وزن فعيل وهو بالضاد المعجمة ومعناه
فاسدهما بكثرة دمع أو حمرة أو غير ذلك قوله (وكان خذلا) هو بفتح الخاء المعجمة
129

وإسكان الدال المهملة وهو الممتلئ الساق قوله صلى الله عليه وسلم (لو رجمت أحدا بغير
بينة رجمت هذه) وفسرها ابن عباس بأنها كانت تظهر في الاسلام السوء وفي رواية
أنها امرأة أعلنت معنى الحديث أنه اشتهر وشاع عنها الفاحشة ولكن لم يثبت ببينة ولا اعتراف
ففيه أنه لا يقام الحد بمجرد الشياع والقرائن بل لابد من بينة أو اعتراف قوله (ان سعد
ابن عبادة قال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا قال سعد بلى والذي أكرمك بالحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمعوا
130

إلى ما يقول سيدكم) وفي الرواية الأخرى كلا والذي بعثك بالحق ان كنت لأعاجله بالسيف
قال الماوردي وغيره ليس قوله هو ردا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ولا مخالفة من سعد بن
عبادة لأمره صلى الله عليه وسلم وإنما معناه الاخبار عن حالة الانسان عند رؤيته الرجل
عند امرأته واستيلاء الغضب عليه فإنه حينئذ يعاجله بالسيف وإن كان عاصيا وأما السيد
فقال ابن الأنباري وغيره هو الذي يفوق قومه في الفخر قالوا والسيد أيضا الحليم وهو أيضا
حسن الخلق وهو أيضا الرئيس ومعنى الحديث تعجبوا من قول سيدكم قوله (لضربته
بالسيف غير مصفح) هو بكسر الفاء أي غير ضارب بصفح السيف وهو جانبه بل أضربه بحده
131

قوله صلى الله عليه وسلم (انه لغيور وأنا أغير منه) وفي الرواية الأخرى والله أغير منى من
أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال العلماء الغيرة بفتح العين وأصلها المنع
والرجل غيور على أهله أي يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر أو حديث أو غيره والغيرة صفة كمال
فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن سعدا غيور وأنه أغير منه وأن الله أغير منه صلى الله عليه وسلم
وأنه من أجل ذلك حرم الفواحش فهذا تفسير لمعنى غيرة الله تعالى أي أنها منعه سبحانه
وتعالى الناس من الفواحش لكن الغيرة في حق الناس يقارنها تغير حال الانسان وانزعاجه
وهذا مستحيل في غيرة الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (لا شخص أغير من الله تعالى)
أي لا أحد وإنما قال لا شخص استعارة وقيل معناه لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله
تعالى ولا يتصور ذلك منه فينبغي أن يتأدب الانسان بمعاملته سبحانه وتعالى لعباده فإنه
لا يعاجلهم بالعقوبة بل حذرهم وأنذرهم وكرر ذلك عليهم وأمهلهم فكذا ينبغي للعبد أن
لا يبادر بالقتل وغيره في غير موضعه فإن الله تعالى لم يعاجلهم بالعقوبة مع أنه لو عاجلهم كان
عدلا منه سبحانه وتعالى قوله صلى الله عليه وسلم (ولا شخص أحب إليه العذر من الله تعالى
من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من
أجل ذلك وعد الجنة) معنى الأول ليس أحد أحب إليه الأعذار من الله تعالى فالعذر هنا بمعنى
الاعذار والانذار قبل أخذهم بالعقوبة ولهذا بعث المرسلين كما قال سبحانه وتعالى وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا والمدحة بكسر الميم وهو المدح بفتح الميم فإذا ثبتت الهاء كسرت الميم
132

وإذا حذفت فتحت ومعنى من أجل ذلك وعد الجنة أنه لما وعدها ورغب فيها كثر سؤال
العباد إياها منه والثناء عليه والله أعلم قوله (ان امرأتي ولدت غلاما أسود فقال النبي
صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل قال نعم قال فما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها
لورقا قال فأنى أتاها ذاك قال عسى أن يكون نزعه عرق) أما الأورق فهو الذي فيه سواد
ليس بصاف ومنه قيل للرماد أورق وللحمامة ورقاء وجمعه ورق بضم الواو وإسكان الراء
كأحمر وحمر والمراد بالعرق هنا الأصل من النسب تشبيها بعرق الثمرة ومنه قولهم فلان معرق
في النسب والحسب وفي اللؤم والكرم ومعنى نزعه أشبهه واجتذبه إليه وأظهر لونه عليه وأصل
133

النزع الجذب فكأنه جذبه إليه لشبهه يقال منه نزع الولد لأبيه وإلى أبيه ونزعه أبوه ونزعه إليه
وفي هذا الحديث أن الولد يلحق الزوج وإن خالف لونه لونه حتى لو كان الأب أبيض والولد
أسود أو عكسه لحقه ولا يحل له نفيه بمجرد المخالفة في اللون وكذا لو كان الزوجان أبيضين
فجاء الولد أسود أو عكسه لاحتمال أنه نزعه عرق من أسلافه وفي الحديث أن التعريض بنفي
الولد ليس نفيا وأن التعريض بالقذف ليس قذفا وهو مذهب الشافعي وموافقيه وفيه إثبات
القياس والاعتبار بالأشباه وضرب الأمثال وفيه الاحتياط للأنساب وإلحاقها بمجرد الامكان
قوله في الرواية الأخرى (ان امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته) معناه استغربت بقلبي
أن يكون منى لا أنه نفاه عن نفسه بلفظه والله أعلم
134

كتاب العتق
قال أهل اللغة العتق الحرية يقال منه عتق يعتق عتقا بكسر العين وعتقا بفتحها أيضا حكاه
صاحب المحكم وغيره وعتاقا وعتاقة فهو عتيق وعاتق أيضا حكاه الجوهري وهم عتقاء وأعتقه فهو
معتق وهم عتقاء وأمه عتيق وعتيقة وإماء عتائق وحلف بالعتاق أي الاعتاق قال الأزهري هو
مشتق من قولهم عتق الفرس إذا سبق ونجا وعتق الفرخ طار واستقال لأن العبد يخلص بالعتق
ويذهب حيث شاء قال الأزهري وغيره وإنما قيل لمن أعتق نسمة أنه أعتق رقبة وفك رقبة فخصت
الرقبة دون سائر الأعضاء مع أن العتق يتناول الجميع لأن حكم السيد عليه وملكه له كحبل في رقبة
العبد وكالغل المانع له من الخروج فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد عوم عليه قيمة العدل فأعطى
شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق وفي نسخة ما أعتق) هذا حديث ابن عمر
وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما قال
يضمن وفي رواية قال من أعتق شقصا له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال
استسعى العبد غير مشقوق عليه وفى رواية ان لم يكن له مال قوم عليه العبد قيمة عدل ثم يستسعى في
نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه قال القاضي عياض في ذكر الاستسعاء هنا خلاف بين الرواة
135

قال قال الدارقطني روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة وهما أثبت فلم يذكرا فيه الاستسعاء
ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث فجعله من رأى أبى قتادة قال وعلى هذا أخرجة
البخاري وهو الصواب قال الدارقطني وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام
وضبطه ففصل قول قتادة عن الحديث قال القاضي وقال الأصيلي وابن القصار وغيرهما من
أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها لأنه ليست في الأحاديث الآخر من رواية ابن عمر وقال
ابن عبد البر الذين لم يذكروا السعاية
أثبت ممن ذكروها قال غيره وقد اختلف فيها
عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فتارة ذكرها وتارة لم يذكرها فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث كما قال غيره هذا
آخر كلام القاضي والله أعلم قال العلماء ومعنى الاستسعاء في هذا الحديث أن العبد يكلف
الاكتساب والطلب حتى تحصل قيمة نصيب الشريك الآخر فإذا دفعها إليه عتق هكذا فسره جمهور
القائلين بالاستسعاء وقال بعضهم هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ماله فيه من الرق فعلى هذا
136

تتفق الأحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم (غير مشقوق عليه) أي لا يكلف ما يشف عليه والشقص
بكسر الشين النصيب قليلا كان أو كثيرا ويقال له الشقيص أيضا يزيادة الياء ويقال له أيضا الشرك
بكسر الشين وفي هذا الحديث أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك قوم عليه باقيه إذا كان موسرا
بقيمة عدل سواء كان العبد مسلما أو كافر أو سواء كان الشريك مسلما أو كافرا وسواء كان العتيق عبدا
أو أمة ولا خيار للشريك في هذا ولا للعبد ولا للمعتق بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهه كلهم مراعاة لحق الله
تعالى في الحرية وأجمع العلماء على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الاعتاق الا ما حكاه القاضي عن
ربيعة أنه قال لا يعتق نصيب المعتق موسرا كان أو معسرا وهذا مذهب باطل مخالف للأحاديث
الصحيحة كلها والاجماع وأما نصيب الشريك فاختلفوا في حكمه إذا كان المعتق موسرا على ستة مذاهب
أحدها وهو الصحيح في مذهب الشافعي وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى
وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية أنه عتق بنفس الاعتاق
ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الاعتاق ويكون ولاء جميعة للمعتق وحكمة من حين الاعتاق حكم
137

الأحرار في الميراث وغيره وليس للشريك الا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله قال هؤلاء ولو أعسر المعتق
بعد ذلك استمر نفوذ العتق وكانت القيمة دينا في ذمته ولو مات أخذت من تركته فإن لم تكن له تركة
ضاعت القيمة واستمر عتق جميعة قالوا ولو أعتق الشريك نصيبه بعد اعتاق الأول نصيبه كان اعتاقه
لغوا لأنه قد صار كله حرا والمذهب الثاني انه لا يعتق الا بدفع القيمة وهو المشهور من مذهب مالك
وبه قال أهل الظاهر وهو قول الشافعي والثالث مذهب أبي حنيفة للشريك الخيار ان شاء استسعى العبد
في نصف قيمته وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما وإن شاء قوم نصيبه على شريكه المعتق ثم يرجع المعتق
بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك والولاء كله للمعتق قال والعبد في مدة الكتابة بمنزلة
المكاتب في كل أحكامه الرابع مذهب عثمان البتي لا شئ على المعتق الا أن تكون جارية رائعة تراد
للوطء فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر الخامس حكاه ابن سيرين أن القيمة في بيت المال
السادس محكى عن إسحاق بن راهويه أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء وهذا القول شاذ خالف
للعلماء كافة والأقوال الثلاثة قبله فاسدة مخالفة لصريح الأحاديث فهي مردودة على قائليها هذا كله
فيما إذا كان المعتق لنصيبه موسرا فأما إذا كان معسرا حال الاعتاق ففيه أربعة
مذاهب أحدها مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبى عبيد وموافقيهم ينفذ العتق في نصيب
المعتق فقط ولا يطالب المعتق بشئ ولا يستسعى العبد بل يبقى نصيب الشريك رقيقا كما كان وبهذا قال جمهور علماء الحجاز
لحديث ابن عمر المذهب الثاني مذهب ابن شبرمة والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وسائر
الكوفيين وإسحاق يستسعى العبد في حصة الشريك واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى في
سعايته على معتقه فقال ابن أبي ليلى يرجع به عليه وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يرجع ثم هو عند أبي
حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب وعند الآخرين هو حر بالسراية المذهب الثالث مذهب
زفر وبعض البصريين أنه يقوم على المعتق ويؤدى القيمة إذا أيسر الرابع حكاه القاضي عن
بعض العلماء أنه لو كان المعتق معسرا بطل عتقه في نصيبه أيضا فيبقى العبد كله رقيقا كما كان وهذا
مذهب باطل أما إذا ملك الانسان عبدا بكماله فأعتق بعضه فيعتق كله في الحال تغير استسعاء
هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة وانفرد أبو حنيفة فقال يستسعى في بقيته لمولاه
وخالفه أصحابه في ذلك فقالوا يقول الجمهور وحكاه القاضي أنه روى عن طاوس وربيعة وحماد
ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة وقال أهل الظاهر وعن الشعبي وعبيد الله بن الحسن
138

الغبرى أن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء والله أعلم قال القاضي عياض وقوله في حديث ابن
عمر (والا فقد عتق منه ما عتق) ظاهره أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه مالك
وعبيد الله العمرى فوصلاه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وجعلاه منه ورواه أيوب عن نافع
فقال نافع وإلا فقد عتق منه ما عتق ففصله من الحديث وجعله من قول نافع وقال أيوب
مرة لا أدرى هو من الحديث أم هو شئ قاله نافع ولهذه الرواية قال ابن وضاح ليس هذا من
كلام النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي وما قاله مالك وعبيد الله العمرى أولى وقد وجده وهما
في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن كيف وقد شك أيوب فيه كمنا ذكرناه قال وقد
رواه يحيى بن سعيد عن نافع وقال في هذا الموضع والا فقد جاز ما صنع فأتى به على المعنى قال
وهذا كله يرد قول من قال بالاستسعاء والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (قيمة عدل) بفتح
العين أي لا زيادة ولا نقص والله أعلم
باب بيان أن الولاء لمن أعتق
فيه حديث عائشة في قصة بريرة وأنها كانت مكاتبة فاشترتها عائشة وأعتقتها وأنهم شرطوا
ولاءها وقول النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الولاء لمن أعتق) وهو حديث عظيم كثير الأحكام
والقواعد وفيه مواضع تشعبت فيها المذاهب أحدها أنها كانت مكاتبة وباعها الموالي واشترتها
عائشة وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بيعها فاحتج به طائفة من العلماء في أنه يجوز بيع المكاتب وممن
جوزه عطاء والنخعي وأحمد ومالك وفي رواية عنه وقال ابن مسعود وربيعة وأبو حنيفة والشافعي
وبعض المالكية ومالك في رواية عنه لا يجور بيعه وقال بعض العلماء يجوز بيعه للعتق لا للاستخدام
وأجاب من أبطل بيعه عن حديث بريرة بأنها عجزت نفسها وفسخوا الكتابة والله أعلم الموضع
139

الثاني قوله صلى الله عليه وسلم (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق) وهذا
مشكل من حيث أنها اشترتها وشرطت لهم الولاء وهذا الشرط يفسد البيع ومن حيث إنها
خدعت البائعين وشرطت لهم مالا يصح ولا يحصل لهم وكيف أذن لعائشة في هذا ولهذا الاشكال أنكر
بعض العلماء هذا الحديث بجملته وهذا منقول عن يحيى بن أكثم واستدل بسقوط هذه اللفظة
في كثير من الروايات وقال جماهير العلماء هذه اللفظة صحيحة واختلفوا في تأويلها فقال
بعضهم بعضهم قوله اشترطي لهم أي عليهم كما قال تعالى لهم اللعنة بمعنى عليهم وقال تعالى ان
أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها أي فعليها وهذا منقول عن الشافعي والمزني وقاله غيرهما أيضا
وهو ضعيف لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم الاشتراط ولو كان كما قاله صاحب هذا التأويل لم ينكره
وقد يجاب عن هذا بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أنكر ما أرادوا اشتراطه في أول الأمر وقيل
معنى اشترطي لهم الولاء أظهري لهم حكم الولاء وقيل المراد الزجر والتوبيخ لهم لأنه
صلى الله عليه وسلم كان بين لهم حكم الولاء وأن هذا الشرط لا يحل فلما الحول في اشتراطه ومخالفة
الامر قال لعائشة هذا بمعنى لا تبالي سواء شركته أم لا فإنه شرط باطل مردود لأنه قد سبق
بيان ذلك لهم فعلى هذا بمعنى لا تكون لفظة اشترطي هنا للإباحة والأصح في تأويل الحديث
ما قال أصحابنا في كتب الفقه أن هذا الشرط خاص في قصة عائشة واحتمل هذا الإذن وابطاله
في هذه القصة الخاصة وهي قصية عين لا عموم لها قالوا والحكمة في اذنه ثم ابطاله أن يكون
أبلغ في قطع عادتهم في ذلك وزجرهم عن مثله كما أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الاحرام بالحج
في حجة الوداع ثم أمرهم بفسخه وجعله عمرة بعد أن أحرموا بالحج وإنما فعل ذلك ليكون
أبلغ في زجرهم وقطعهم عما اعتادوه من منع العمرة في أشهر الحج وقد تحتمل المفسدة
اليسيرة لتحصيل مصلحة عظيمة والله أعلم الموضع الثالث قوله صلى الله عليه وسلم إنما
الولاء لمن أعتق وقد أجمع المسلمون على ثبوت الولاء لمن أعتق عبده أو أمته عن نفسه وأنه
يرث به وأما العتيق فلا يرث سيده عند الجماهير وقال جماعة من التابعين يرثه كعكسه وفي هذا
الحديث دليل على أنه لا ولاء لمن أسلم على يديه ولا لملتقط ولا لمن حالف انسانا على
140

المناصرة وبهذا كله قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وداود وجماهير العلماء
قالوا وإذا لم يكن لأحد من هؤلاء المذكورين وارث فماله لبيت المال وقال ربيعة والليث
وأبو حنيفة وأصحابه من أسلم على يديه رجل فولاؤه له وقال إسحاق بن راهويه يثبت للملتقط
الولاء على اللقيط وقال أبو حنيفة يثبت الولاء بالحلف ويتوارثان به دليل الجمهور حديث
إنما الولاء لمن أعتق وفيه دليل على أنه إذا أعتق عبده سائبة أي على أن لا ولاء له عليه
يكون الشرط لاغيا ويثبت له الولاء عليه وهذا مذهب الشافعي وموافقيه وأنه لو أعتقه على مال
أو باعه نفسه يثبت له عليه الولاء وكذا لو كاتبه أو استولدها وعتقت بموته ففي كل هذه الصور
يثبت الولاء ويثبت الولاء للمسلم على الكافر وعكسه وإن كانا لا يتوارثان في الحال لعموم الحديث
الموضع الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة في فسخ نكاحها وأجمعت الأمة على أنها إذا
عتقت كلها تحت زوجها وهو عبد كان لها الخيار في فسخ النكاح فإن كان حرا فلا خيار لها عند
مالك والشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة لها الخيار واحتج برواية من روى أنه كان زوجها حرا وقد
ذكرها مسلم من رواية شعبة بن عبد الرحمن بن القاسم لكن قال شعبة ثم سألته عن زوجها فقال
لا أدرى واحتج الجمهور بأنها قضية واحدة والروايات المشهورة في صحيح مسلم وغيره أن زوجها كان
عبدا قال الحفاظ ورواية من روى أنه كان حرا غلط وشاذة مردودة لمخالفتها المعروف في
روايات الثقات ويؤيده أيضا قول عائشة قالت كان عبدا ولو كان حرا لم يخيرها رواه مسلم
وفي هذا الكلام دليلان أحدهما اخبارها أنه كان عبدا وهي صاحبة القضية والثاني
قولها لو كان حرا لم يخيرها ومثل هذا لا يكاد أحد يقوله الا توقيفا ولأن الأصل في النكاح
اللزوم ولا طريق إلى فسخه الا بالشرع وإنما ثبت في العبد فبقي الحر على الأصل ولأنه
لا ضرر ولا عار عليها وهي حرة في المقام تحت حر وإنما يكون ذلك إذا قامت تحت عبد فأثبت
لها الشرع الخيار في العبد لإزالة الضرر بخلاف الحر قالوا ولأن رواية هذا الحديث تدور على
عائشة وابن عباس فأما ابن عباس فاتفقت الروايات عنه أن زوجها كان عبدا وأما
عائشة فمعظم الروايات عنها أيضا أنه كان عبدا فوجب ترجيحها والله أعلم الموضع الخامس قوله
141

صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط صريح في ابطال
كل شرط ليس له أصل في كتاب الله تعالى ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم وإن كان مائة شرط أنه
لو شرطه مائة مرة توكيدا فهو باطل كما قال صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى من اشترط
شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرطه مائة مرة قال العلماء الشرط في البيع ونحوه أقسام
أحدها شرط يقتضيه اطلاق العقد بأن شرط تسليمه إلى المشترى أو تبقية الثمرة على الشجر إلى
أوان الجداد أو الرد بالعيب الثاني شرط فيه مصلحة وتدعو إليه الحاجة كاشتراط الرهن والضمين
والخيار وتأجيل الثمن ونحو ذلك وهذان القسمان جائزان ولا يؤثران في صحة العقد بلا خلاف
الثالث اشتراط العتق
في العبد المبيع أو الأمة وهذا جائز أيضا عند الجمهور لحديث عائشة وترغيبا في العتق لقوته وسرايته الرابع ما سوى ذلك من الشروط كشرط استثناء منفعة وشرط أن
يبيعه شيئا آخر أو يكريه داره أو نحو ذلك فهذا شرط باطل مبطل للعقد هكذا قال الجمهور
وقال احمد لا يبطله شرط واحد وإنما يبطله شرطان والله أعلم الموضع السادس قوله
صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق على بريرة به هو لها صدقة ولنا هديه دليل على أنه إذا
تغيرت الصفة تغير حكمها فيجوز للغنى شراؤها من الفقير وأكلها إذا أهداها إليه وللهاشمي ولغيره
ممن لا تحل له الزكاة ابتداء والله أعلم واعلم أن في حديث بريرة هذا فوائد وقواعد كثيرة وقد
صنف فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين إحداها ثبوت الولاء للمعتق الثانية انه لا ولاء
لغيره الثالثة ثبوت الولاء للمسلم على الكافر وعكسه الرابعة جواز الكتابة الخامسة جواز فسخ
الكتابة إذا عجز المكاتب نفسه واحتج به طائفة لجواز بيع المكاتب كما سبق السادسة جواز
كتابة الأمة ككتابة العبد السابعة جواز كتابة المزوجة الثامنة أن المكاتب لا يصير حرا بنفس
الكتابة بل هو عبد ما بقي عليه درهم كما صرح به في الحديث المشهور في سنن أبي داود وغيره
وبهذا قال الشافعي ومالك وجماهير العلماء وحكى القاضي عن بعض السلف أنه يصير حرا
بنفس الكتابة ويثبت المال في ذمته ولا يرجع إلى الرق أبدأ وعن بعضهم أنه إذا أدى نصف
المال صار حرا ويصير الباقي دينا عليه قال وحكى عن عمر وابن مسعود وشريح مثل هذا إذا
142

أدى الثلث وعن عطاء مثله إذا أدى ثلاثة أرباع المال التاسعة ان الكتابة تكون على نجوم
لقوله في بعض روايات مسلم هذه ان بريرة قالت إن أهلها كاتبوها على تسع أواق في تسع سنين
كل سنة وقية ومذهب الشافعي أنها لا تجوز على نجم واحد بل لا بد من نجمين فصاعدا وقال
مالك والجمهور تجوز على نجوم وتجوز على نجم واحد العاشرة ثبوت الخيار للأمة إذا عتقت
تحت عبد الحادية عشر تصحيح الشروط التي دلت عليه أصول الشرع وابطال ما سواها الثانية
عشر جواز الصدقة على موالي قريش الثالثة عشر جواز قبول هدية الفقير والمعتق الرابعة عشر جواز الصدقة على موالي قريش الثالثة عشر جواز قبول هدية الفقير والمعتق الرابعة عشر
تحريم الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها وأنت لا تأكل الصدقة ومذهبنا انه كان
تحرم عليه صدقة الفرض بلا خلاف وكذا صدقة التطوع على الأصح الخامسة عشر أن الصدقة
لا تحرم على قريش غير بني هاشم وبني المطلب لأن عائشة قرشية وقبلت ذلك اللحم من بريرة
على أن له حكم الصدقة وإنما حلال لها دون النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها النبي
صلى الله عليه وسلم هذا الاعتقاد السادسة عشر جواز سؤال الرجل عما يراه في بيته وليس هذا مخالفا
لما في حديث أم زرع في قولها ولا يسأل عما عهد لأن معناه لا يسأل عن شئ عهده وفات
فلا يسأل أين ذهب وأما هنا فكانت البرمة واللحم فيها موجودين حاضرين فسألهم النبي
صلى الله عليه وسلم عما فيها ليبين لهم حكمه لأنه يعلم أنهم لا يتركون احضاره له شحا عليه به بل
لتوهمهم تحريمه عليه فأراد بيان ذلك لهم السابعة عشر جواز السجع إذ لم يتكلف وإنما نهى عن
سجع الكهان ونحوه مما فيه تكلف الثامنة عشر إعانة المكاتبة في كتابته التاسعة عشر جواز
تصرف المرأة في مالها بالشراء والاعتاق وغيره إذا كانت رشيدة العشرون أن بيع الأمة
المزوجة ليس بطلاق ولا ينفسخ به النكاح وبه قال جماهير العلماء وقال سعيد بن المسيب
هو طلاق وعن ابن عباس أنه ينفسخ النكاح وحديث بريرة يرد المذهبين لأنها خيرت في بقائها
معه الحادية والعشرون جواز اكتساب المكاتب بالسؤال الثانية والعشرون احتمال أخف
المفسدتين لدفع أعظمهما واحتمال مفسدة يسيرة لتحصيل مصلحة عظيمة على ما بيناه في تأويل
شرط الولاء لهم الثالثة والعشرون جواز الشفاعة
من الحاكم إلى المحكوم له للمحكوم عليه وجواز
143

الشفاعة إلى المرأة في البقاء مع زوجها الرابعة والعشرون لها الفسخ بعتقها وإن تضرر الزوج
بذلك لشدة حبه إياها لأنه كان يبكى على بريرة الخامسة والعشرون جواز خدمة العتيق لمعتقه
برضاه السادسة والعشرون انه يستحب للامام عند وقوع بدعة أو أمر يحتاج إلى بيانه أن يخطب
الناس ويبين لهم حكم ذلك وينكر على من ارتكب ما يخالف الشرع السابعة والعشرون استعمال
الأدب وحسن العشرة وجميل الموعظة كقوله صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يشترطون شروطا
ليست في كتاب الله ولم يواجه صاحب الشرط بعينه لأن المقصود يحصل له ولغيره من غير
فضيحة وشناعة عليه الثامنة والعشرون أن الخطب تبدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله
التاسعة والعشرون أنه يستحب في الخطبة أن يقول بعد الحمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد وقد تكرر هذا في خطب النبي صلى الله عليه وسلم وسبق
بيانه في مواضع الثلاثون التغليظ في إزالة المنكر والمبالغة في تقبيحه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(شرط الله أحق) قيل المراد به قوله تعالى فإخوانكم في الدين ومواليكم وقوله تعالى وما آتاكم الرسول
فخذوه الآية قال القاضي وعندي أنه قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق قوله (قالوا إن شاءت ان
تحتسب عليك فلتفعل) معناه ان أرادت الثواب عند الله وأن لا يكون لها ولاء فلتفعل قولها (في كل عام
144

أوقية) وقع في الرواية الأولى في بعض النسخ وقية وفي بعضها أوقية بالألف وأما الرواية الثانية
فوقية بغير ألف باتفاق النسخ وكلاهما صحيح وهما لغتان اثبات الألف أفصح والأوقية الحجازية
أربعون درهما قولها (فانتهرتها فقالت لاها الله ذلك) وفي بعض النسخ لا هاء الله إذا
هكذا هو في النسخ وفي روايات المحدثين لا هاء الله إذا بمد قوله هاء وبالألف في إذا قال
المازري وغيره من أهل العربية هذان لحنان وصوابه لاها الله ذا بالقصر في ها وحذف
الألف من إذا قالوا وما سواه خطأ
قالوا ومهناه ذا يميني وكذا قال الخطابي وغيره ان الصواب
لاها الله ذا بحذف الألف وقال أبو زيد النحوي وغيره يجوز القصر والمد في ها وكلهم ينكرون
الألف في إذا ويقولون صوابه ذا قالوا وليست الألف من كلام العرب قال أبو حاتم السجستاني
جاء في القسم لا هاء الله قال والعرب تقوله بالهمزة والقياس تركه قال ومهناه لا والله هذا ما أقسم
به فأدخل اسم الله تعالى بين ها وذا واسم زوج برير مغيث بضم الميم والله أعلم
145

باب النهى عن بيع الولاء وهبته
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الولاء وهبته) فيه تحريم بيع الولاء وهبته وأنهما لا يصلحان وأنه لا ينتقل الولاء عن مستحقة بل هو لحمة كلحمة النسب
وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف وأجاز بعض السلف نقله ولعلهم لم يبلغهم الحديث
148

باب تحريم تولى العتيق غير مواليه فيه نهيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى العتيق غير مواليه وأنه لعن فاعل ذلك ومعناه أن
ينتمي العتيق إلى ولاء غير معتقه وهذا حرام لتفويته حق المنعم عليه لأن الولاء كالنسب فيحرم
تضييعه كما يحرم تضييع النسب وانتساب الانسان إلى غير أبيه وأما قوله صلى الله عليه وسلم (
من تولى قوما بغير إذن مواليه) فقد احتج به قوم على جواز التولي بإذن مواليه والصحيح الذي
عليه الجمهور أنه لا يجوز وإن أذنوا كما لا يجوز الانتساب إلى غير أبيه وإن أذن أبوه فيه وحملوا
التقييد في الحديث على الغالب لأن غالب ما يقع هذا بغير اذن الموالي فلا يكون له مفهوم
يعمل به ونظيره قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم وقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم من
املاق وغير ذلك من الآيات التي قيد فيها بالغالب وليس لها مفهوم يعمل به قوله (كتب
النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله) بضم العين والقاف ونصب اللام مفعول كتب
149

والهاء ضمير البطن والعقول الديات وأحدها عقل كفلس وفلوس ومهناه أن الدية في قتل
الخطأ وعمد الخطأ تجب على العاقلة وهم العصبات سواء الآباء والأبناء وان علوا أو سفلوا
وأما حديث علي رضي الله عنه في الصحيفة وأن المدينة حرم إلى آخره فسبق شرحه واضحا
150

باب فضل العتق
قوله (داود بن رشيد) بضم الراء قوله صلى الله عليه وسلم (من أعتق رقبة أعتق الله
بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه) وفي رواية من أعتق رقبه مؤمنة
أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار الإرب بكسر الهمزة وإسكان الراء هو العضو بضم
العين وكسرها وفي هذا الحديث بيان فضل العتق وأنه من أفضل الأعمال ومما يحصل به
العتق من النار ودخول الجنة وفيه استحباب عتق كامل الأعضاء فلا يكون خصيا ولا فاقد
غيره من الأعضاء وفي الخصي وغيره أيضا الفضل العظيم لكن الكامل أولى وأفضله أعلاه
ثمنا وأنفسه كما سبق بيانه في أول الكتاب في كتاب الايمان في حديث أي الرقاب أفضل
وقد روى أبو داود والترمذي النسائي وغيرهم عن سالم بن أبي الجعد عن أبي أمامة وغيره من
الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما
كان فكاكه من النار يجزى كل عضو منها عضوا منه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة
كانتا فكاكها من النار يجزى كل عضو منه عضوا منها قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
151

قال هو وغيره وهذا الحديث دليل على أن عتق العبد أفضل من عتق الأمة قال القاضي عياض
واختلف العلماء أيما أفضل عتق الإناث أم عتق الذكور فقال بقضهم الإناث أفضل لأنها إذا
عتقت كاهن ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد وقال آخرون عتق الذكور أفضل لهذا
الحديث ولما في الذكر من المعاني العامة المنفعة التي لا توجد في الإناث من الشهادة والقضاء
والجهاد وغير ذلك مما يختص بالرجال إما شرعا وإما عادة ولأن من الإماء من لا ترغب في العتق
وتضيع به بخلاف العبيد وهذا القول هو
الصحيح وأما التقييد في الرقبة بكونها مؤمنة فيدل على
أن هذا الفضل الخاص إنما هو في عتق المؤمنة وأما غير المؤمنة ففيه أيضا فضل بلا خلاف ولكن دون
فضل المؤمنة ولهذا أجمعوا على أنه يشترط في عتق كفارة القتل كونها مؤمنة وحكى القاضي عياض
عن مالك أن الأعلى ثمنا أفضل وإن كان كافرا وخالفه غير واحد من أصحابه وغيرهم قال وهذا أصح باب
فضل عتق الوالد
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يجزى ولد والدا إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه) يجزى
152

بفتح أوله أي لا يكافئه بإحسانه وقضاء حقه إلا أن يعتقه واختلفوا في عتق الأقارب إذا ملكوا
فقال أهل الظاهر لا يعتق أحد منهم بمجرد الملك سواء الوالد والولد وغيرهما بل لابد من
إنشاء عتق واحتجوا بمفهوم هذا الحديث وقال جماهير العلماء يحصل العتق في الآباء والأمهات
والأجداد والجدات وإن علوا وعلون وفي الأبناء والبنات وأولادهم الذكور والإناث وإن سفلوا
بمجرد الملك سواء المسلم والكافر والقريب والبعيد والوارث وغيره ومختصره أنه يعتق عمود
النسب بكل حال واختلفوا فيما وراء عمودي النسب فقال الشافعي وأصحابه لا يعتق غيرهما
بالملك لا الأخوة ولا غيرهم وقال مالك يعتق الأخوة أيضا وعنه رواية أنه يعتق جميع ذوي
الأرحام المحرمة ورواية ثالثة كمذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يعتق جميع ذوي الأرحام المحرمة
وتأويل الجمهور الحديث المذكور على أنه لما تسبب في شراء الذي يترتب عليه عتقه أضيف
العتق إليه والله أعلم
كتاب البيوع
قال الأزهري تقول العرب بعت بمعنى بعت ما كنت ملكته وبعت بمعنى اشتريته قال وكذلك
شريت بالمعنيين قال وكل واحد بيع وبائع لأن الثمن والمثمن كل منهما مبيع وكذا قال ابن
قتيبة يقول بعت الشئ بمعنى بعته وبمعنى اشتريته وشريت الشئ بمعنى اشتريته وبمعنى بعته
153

وكذا قاله آخرون من أهل اللغة ويقال بعته وابتعته فهو مبيع ومبيوع قال الجوهري كما يقول
مخيط ومخيوط قال الخليل المحذوف من مبيع واو مفعول لأنها زائدة فهي أولى بالحذف وقال
الأخفش المحذوف عين الكلمة قال المازري كلاهما حسن وقول الأخفش أقيس والابتياع
الاشتراء وتبايعا وبايعته ويقال استبعته أي سألته البيع وأبعت الشئ أي عرضته للبيع وبيع
الشئ بكسر الباء وضمها وبوع لغة فيه وكذلك القول في قيل وكيل
باب ابطال بيع الملامسة والمنابذة
قوله في الإسناد الأول (مالك عن محمد بن يحيى ين حبان عن الأعرج) هكذا هو في جميع النسخ
ببلادنا وذكر القاضي أنه وقع في نسخهم من طريق عبد الغافر الفارسي مالك عن نافع عن محمد
ابن يحي بن حبان بزيادة نافع قال وهو غلط وليس لنافع ذكر في هذا الحديث ولم يذكر مالك
في الموطأ نافعا في هذا الحديث وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة فقد فسره في
الكتب بأحد الأقوال في تفسيره ولأصحابنا ثلاثة أوجه في تأويل الملامسة أحدها تأويل الشافعي
154

وهو أن يأتي بثوب مطوى أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول صاحبه بعتكه هو بكذا بشرط
أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته والثاني أن يجعلا نفس اللمس بيعا فيقول إذا
لمسته فهو مبيع لك والثالث أن يبيعه شيئا على أنه متى يمسه انقطع خيار المجلس وغيره وهذا
الحديث باطل على التأويلات كلها وفي المنابذة ثلاثة أوجه أيضا أحدها أن يجعلا نفس النبذ
بيعا وهو تأويل الشافعي والثاني أن يقول بعتك فإذا نبذته إليك انقطع الخيار ولزم البيع والثالث
المراد نبذ الحصاة كما سنذكره انشاء الله تعالى في بيع الحصاة وهذا البيع باطل للغرر قوله (ويكون
ذلك بيعهما عن نظر ولا تراض) معناه بلا تأمل ورضى بعد التأمل والله أعلم
155

بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة وبيع الغرر أما بيع الحصاة ففيه ثلاث تأويلات
أحدها أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها أو بعتك من هذه الأرض
من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة والثاني أن يقول بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمى بهذه
الحصاة والثالث أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعا فيقول إذا رميت هذا الثوب بالحصاة فهو
مبيع منك بكذا وأما النهى عن بيع الغرر فهو أصل عظيم من أصول كتاب البيوع ولهذا قدمه
ويحدث ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الآبق والمعدوم والمجهول وما لا يقدر على
تسليمه ولم يتم ملك البائع عليه وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع وبيع الحمل
في البطن وبيع بعض الصبرة مبهما وبيع ثوب من أثواب وشاة من شياه ونظائر ذلك وكل
هذا بيعه باطل لأنه غرر من غير حاجة وقد يحتمل بعض الغرر بيعا إذ دعت إليه حاجة كالجهل
بأساس الدار وكما إذا باع الشاة الحامل والتي في ضرعها لبن فإنه يصح للبيع لأن الأساس تابع
للظاهر من الدار ولأن الحاجة تدعو إليه فإنه لا يمكن رؤيته وكذا القول في حمل الشاة ولبنها
وكذلك أجمع المسلمون على جواز أشياء فيها غرر حقير منها أنهم أجمعوا على صحة بيع الجبة
المحشوة وإن لم ير حشوها ولو بيع حشوها بإنفراده لم يجز وأجمعوا على جواز إجارة الدار والدابة
والثوب ونحو ذلك شهرا مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين وأجمعوا
على جواز دخول الحمام بالأجرة مع اختلاف الناس في استعمالهم الماء وفي قدر مكثهم وأجمعوا
على جواز الشرب من السقاء بالعوض مع جهالة قدر المشروب واختلاف عادة الشاربين وعكس
هذا وأجمعوا على بطلان بيع الأجنة في البطون والطير في الهواء قال العلماء مدار البطلان بسبب
الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن
الاحتراز عنه الا بمشقة وكان الغرر حقيرا جاز البيع والا فلا وما وقع في بعض مسائل الباب
156

من اختلاف العلماء في صحة البيع فيها وفساده كبيع العين الغائبة مبنى على هذه القاعدة فبعضهم
يرى أن الغرر حقير فيجعله كالمعدوم فيصح البيع وبعضهم يراه ليس بحقير فيبطل البيع والله أعلم
واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسب الفحل وأشباهها
من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهى عن بيع الغرر ولكن أفردت بالذكر
ونهى عنها لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة والله أعلم
تحريم بيع حبل الحبلة
فيه حديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة) هي بفتح الحاء
والباء في الحبل وفي الحبلة قال القاضي ورواه بعضهم بإسكان الباء في الأول وهو قوله حبل وهو
غلط والصواب الفتح قال أهل اللغة الحبلة هنا جمع حابل كظالم وظلمة وفاجر وفجرة وكاتب
وكتبة قال الأخفش يقال حبلت المرأة فهي حابل والجمع نسوة حبلة وقال ابن الأنباري الهاء
في الحبلة للمبالغة ووافقه بعضهم واتفق أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات ويقال
في غيرهن الحمل يقال حملت المرأة ولدا وحبلت بولد وحملت الشاة سخلة ولا يقال حبلت قال
أبو عبيد لا يقال لشئ من الحيوان حبل إلا ما جاء في هذا الحديث واختلف العلماء في المراد بالنهي
157

عن بيع حبل الحبلة فقال جماعة هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة ويلد ولدها وقد ذكر
مسلم في هذا الحديث هذا التفسير عن ابن عمر وبه قال مالك والشافعي ومن تابعهم وقال
آخرون هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال وهذا تفسير أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه
أبي عبيد القاسم بن سلام وآخرين من أهل اللغة وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهذا
أقرب إلى اللغة لكن الراوي هو ابن عمر وقد فسره بالتفسير الأول وهو أعرف ومذهب الشافعي
ومحققي الأصوليين أن تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر وهذا البيع باطل على
التفسيرين أما الأول فلأنه بيع بثمن إلى أجل مجهول والأجل يأخذ قسطا من الثمن وأما الثان
فلأنه بيع معدوم ومجهول وغير مملوك البائع وغير مقدور على تسليمه والله أعلم
تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه
(وتحريم النجش وتحريم التصرية)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبيع بعضكم على بيع بعض) وفي رواية لا يبيع الرجل على
بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه الا أن يأذن له وفي رواية لا يسم المسلم على سوم المسلم
أما البيع على بيع أخيه فمثاله أن يقول لمن اشترى شيئا في مدة الخيار افسخ هذا البيع وأنا
أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه ونحو ذلك وهذا حرام يحرم أيضا الشراء على
شراء أخيه وهو أن يقول للبائع في مدة الخيار افسخ هذا البيع وأنا أشتريه منك بأكثر
من هذا الثمن ونحو هذا وأما السوم على سوم أخيه فهو أن يكون قد اتفق مالك السلعة
والراغب فيها على البيع ولم يعقداه فيقول الآخر للبائع أنا أشتريه وهذا حرام بعد
استقرار الثمن وأما السوم في السلعة التي تباع فيمن يزيد فليس بحرام وأما الخطبة على خطبة
158

أخيه وسؤال المرأة طلاق أختها فسبق بيانهما واضحا في كتاب النكاح وسبق هنالك أن
الرواية لا يبيع ولا يخطب بالرفع على سبيل الخبر الذي يراد به النهى وذكرنا أنه أبلغ وأجمع
العلماء على منع البيع على بيع أخيه والشراء على شرائه والسوم على سومه فلو خالف وعقد
فهو عاص وينعقد البيع هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين وقال داود لا ينعقد وعن
مالك روايتان كالمذهبين وجمهورهم على إباحة البيع والشراء فيمن يزيد وقال الشافعي وكرهه
بعض السلف وأما النجش فبنون مفتوحة ثم جيم ساكنة ثم شين معجمة وهو أن يزيد في ثمن
السلعة لا لرغبة فيها بل ليخدع غيره ويغره ليزيد ويشتريها وهذا حرام بالاجماع والبيع صحيح
والاثم مختص بالناجش ان لم يعلم به البائع فإن واطأه على ذلك اثما جميعا ولا خيار للمشترى ان
لم يكن من البائع مواطأه وكذا ان كانت في الأصح لأنه قصر في الاغترار وعن مالك رواية
أن البيع باطل وجعل النهى عنه مقتضيا للفساد وأصل النجش الاستثارة ومنه نجشت الصيد
أنجشه بضم الجيم نجشا إذا استثرته سمى الناجش في السلعة ناجشا لأنه يثير الرغبة فيها ويرفع
ثمنها وقال ابن قتيبة أصل النجش الختل وهو الخداع ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يختل الصيد
ويختال له وكل من استثار شيئا فهو ناجش وقال الهروي قال أبو بكر النجش المدح والاطراء
وعلى هذا معنى الحديث لا يمدح أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها بلا رغبة والصحيح الأول قوله
(حدثنا شعبة عن العلاء وسهيل عن أبيهما عن أبي هريرة) هكذا هو في جميع النسخ عن أبيهما وهو
159

مشكل لأن العلاء هو ابن عبد الرحمن وسهيل هو ابن أبي صالح وليس بأخ له فلا يقال عن أبيهما
بكسر الباء بل كانت حقه أن يقول عن أبويهما وينبغي أن يعتبر الموجود في النسخ عن أبيهما
بفتح الباء الموحدة ويكون تثنية أب على لغة من قال هذان أبان ورأيت أبين فثناه بالألف
والنون وبالياء والنون وقد سبق مثله في كتاب النكاح وأوضحنا هناك قال القاضي الرواية فيه
عند جميع شيوخنا بكسر الباء قال وليس هو بصواب لأنهما ليس أخوين قال ووقع في بعض
الروايات عن أبويهما وهو الصواب قال وقال بعضهم في الأول لعله عن أبيهما بفتح الباء قوله
(وفي رواية الدورقي على سيمة أخية) هو بكسر السين وإسكان الياء وهي لغة في السوم ذكرها
الجوهري وغيره من أهل اللغة قال الجوهري ويقال انه تغالى السيمة قوله صلى الله عليه وسلم
(ولا تصروا الإبل) هو بضم التاء وفتح الصاد ونصب الإبل من التصرية وهي الجمع يقال صرى
يصرى تصرية وصراها يصريها تصرية فهي مصراة كغشاها يغشيها تغشية فهي مغشاى وزكاها
يزكيها تزكية فهي مزكاة قال القاضي ورويناه في غير صحيح مسلم عن بعضهم لا تصروا بفتح
160

التاء وضم الصاد من الصر قال وعن بعضهم لا تصر الإبل بضم التاء من تصرى بغير واو بعد
الراء وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله من الصر أيضا وهو ربط أخلافها والأول هو الصواب
المشهور ومعناه لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشترى أن
كثرة لبنها عادة لها مستمرة ومنه قول العرب صربت الماء في الحوض أي جمعته وصرى الماء
في ظهره أي حبسه فلم يتزوج قال الخطابي اختلف العلماء وأهل اللغة في تفسير المصراة وفي
اشتقاقها فقال الشافعي التصرية أن
يربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها اليومين والثلاثة
حتى يجمع لبنها فيزيد مشتريها في ثمنها بسبب ذلك لظنه أنه عادة لها وقال أبو عبيد هو من صرى
اللبن في ضرعها أي حقنه فيه وأصل التصرية حبس الماء قال أبو عبيد ولو كانت من الربط
لكانت مصرورة أو مصررة قال الخطابي وقول أبى عبيد حسن وقول الشافعي صحيح قال
161

والعرب تصر ضروع المحلوبات واستدل لصحة قول الشافعي بقول العرب لا يحسن الكر إنما
يحسن الحلب والصر وبقول مالك بن نويرة
فقلت لقومي هذه صدقاتكم مصررة أخلافها لم تجرد
قال ويحتمل أن أصل المصراه مصرورة أبدلت احدى الراءين ألفا كقوله تعالى خاب من
دساها أي دسسها كرهوا اجتماع ثلاثة أحرف من جنس واعلم أن التصرية حرام سواء تصرية
الناقة والبقرة والشاة والجارية والفرس والأتان وغيرها لأنه غش وخداع وبيعها صحيح مع
أنه حرام وللمشتري الخيار في امساكها وردها وسنوضحه في الباب الآتي إن شاء الله تعالى
وفيه دليل على تحريم التدليس في كل شئ وأن البيع من ذلك ينعقد وأن التدليس بالفعل
حرام كالتدليس بالقول
باب تحريم تلقى الجلب
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتلقى السلع حتى تبلغ الأسواق) وفي رواية نهى
عن التلقي وفي رواية نهى عن تلقى البيوع وفي رواية أن يتلقى الجلب وفي رواية لا تلقوا الجلب
فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيد السوق فهو بالخيار وفي رواية نهى أن يتلقى الركبان
162

قوله صلى الله عليه وسلم أتى سيده أي مالكه البائع وفى هذه الأحاديث تحريم تلقى
الجلب وهو مذهب الشافعي ومالك والجمهور وقال أبو حنيفة والأوزاعي يجوز التلقي إذا
لم يضر بالناس فإن أضر كره والصحيح الأول للنهي الصريح قال أصحابنا وشرط التحريم أن
يعلم النهى عن التلقي ولو لم يقصد التلقي بل خرج لشغل فاشترى منه ففي تحريمه وجهان لأصحابنا
وقولان لأصحاب مالك أصحهما عند أصحابنا التحريم لوجود المعنى ولو تلقاهم وباعهم ففي تحريمه
وجهان وإذا حكمنا بالتحريم فاشترى صح العقد قال العلماء وسبب التحريم إزالة الضرر عن
الجالب وصيانته ممن يخدعه قال الامام أو عبد الله المازري فإن قيل المنع من بيع الحاضر
للبادي سببه الرفق بأهل البلد واحتمل فيه غبن البادى والمنع من التلقي أن لا يغبن البادى ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار فالجواب أن الشرع ينظر في مثل هذه
المسائل إلى مصلحة الناس والمصلحة تقتضي أن ينظر للجماعة على الواحد لا للواحد على الواحد
فلما كان البادى إذا باع بنفسه انتفع جميع أهل السوق واشتروا رخيصا فانتفع به جميع سكان
البلد نظر الشرع لأهل البلد على البادى ولما كان في التلقي إنما ينتفع المتلقى خاصة وهو واحد
في قبالة واحد لم يكن في إباحة التلقي مصلحة لا سيما وينضاف إلى ذلك علة ثانية وهي لحوق
الضرر بأهل السوق في انفراد المتلقى عنهم بالرخص وقطع المواد عنهم وهم أكثر من المتلقى
فنظر الشرع لهم عليه فلا تناقض بين المسئلتين بل هما متفقتان في الحكمة والمصلحة والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار قال أصحابنا لا خيار للبائع قبل
أن يقدم ويعلم السعر فإذا قدم فإن كان الشراء بأرخص من سعر البلد ثبت له الخيار سواء أخبر
المتلقى بالسعر كاذبا أم لم يخبر وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر فوجهان الأصح لا خيار له
لعدم الغبن والثاني ثبوته لاطلاق الحديث والله أعلم قوله (أخبرني هشام القردوسي) هو بضم
القاف والدال وإسكان الراء بينهما منسوب إلى القراديس قبيلة معروفة والله أعلم
163

باب تحريم بيع الحاضر للبادي
قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد) وفى رواية قال طاوس لابن عباس
ما قوله حاضر لباد قال لا يكن له سمسارا وفى رواية لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله
بعضهم من بعض وفى رواية عن أنس نهينا أن يبيع حاضر للبادي وإن كان أخاه أو أباه هذه
الأحاديث تتضمن تحريم بيع الحاضر للبادي وبه قال الشافعي والأكثرون قال أصحابنا والمراد به
أن يقد غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول له
البلدي اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأعلى قال أصحابنا وإنما يحرم بهذه الشروط وبشرط
أن يكون عالما بالنهي فلو لم يعلم النهى أو كان المتاع مما لا يحتاج في البلد ولا يؤثر فيه لقلة ذلك
المجلوب لم يحرم ولو خالف وباع الحاضر للبادي صح البيع مع التحريم هذا مذهبنا وبه قال
جماعة من المالكية وغيرهم وقال بعض المالكية يفسخ للبيع ما لم يفت وقال عطاء ومجاهد
وأبو حنيفة يجوز بيع الحاضر للبادي مطلقا لحديث الدين النصيحة قالوا وحديث النهى عن
164

بيع الحاضر للبادي منسوخ وقال بعضهم إنه على كراهة التنزيه بمجرد الدعوى
باب حكم بيع المصراة
قد سبق بيان التصرية وبيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا تصروا الإبل والغنم في باب تحريم بيع
الرجل على بيع أخيه قوله صلى الله عليه وسلم (من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها فإن رضى
حلابها أمسكها والا ردها ومعها صاع تمر) وفى رواية من ابتاع شاة مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام ان
165

شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر وفى رواية من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام
فان شاء ردها ومعها صاعا من طعام لا سمراء وفى رواية من اشترى شاة مصراة فهو بخير الناظرين ان شاء
أمسكها وان شاء ردها وصاعا من تمر لا سمراء وفى رواية إذا ما أحدكم اشترى لقحة مصراة أو شاة مصراة
فهو بخير الناظرين بعد أن يحلبها اما هي والا فليردها وصاعا من تمر أما المصراة واشتقاقها فسبق
أن التصرية حرام وأن في هذه الأحاديث مع تحريمها يصح البيع وأنه يثبت الخيار في سائر البيوع
المشتملة على تدليس بأن سود شعر الجارية الشائبة أو جعد شعر السبطة ونحو ذلك واختلف
أصحابنا في خيار مشترى المصراة هل هو على الفور بعد العلم أو يمتد ثلاثة أيام فقيل يمتد ثلاثة
أيام لظاهر هذه الأحاديث والأصح عندهم أنه على الفور ويحملون التقييد بثلاثة أيام في بعض
الأحاديث على ما إذا لم يعلم أنها مصراة الا في ثلاثة أيام لأن الغالب أنه لا يعلم فيما دون ذلك
فإنه إذا نقص لبنها في اليوم الثاني عن الأول احتمل كون النقص لعارض من سوء مرعاها في
ذلك اليوم أو غير ذلك فإذا استمر كذلك ثلاثة أيام علم أنها مصراة ثم إذا اختار رد المصراة
166

بعد أن حلبها ردها وصاعا من تمر سواء كان اللبن قليلا أو كثيرا سواء كانت ناقة أو شاة أو بقرة
هذا مذهبنا وبع قال مالك والليث وابن أبي ليلى وأبو يوسف وأبو ثور وفقهاء المحدثين وهو
الصحيح الموافق للسنة وقال بعض أصحابنا يرد صاعا من قوت البلد ولا يختص بالتمر وقال أبو حنيفة
وطائفة من أهل العراق وبعض المالكية ومالك في رواية غريبة عنه يردها ولا يرد صاعا من
تمر لأن الأصل أنه إذا أتلف شيئا لغيره رد مثله إن كان مثليا والا فقيمته واما جنس آخر من
العروض فخلاف الأصول وأجاب الجمهور عن هذا بأن السنة إذا وردت لا يعترض عليها
بالمعقول وأما الحكمة في تقييده بصاع التمر فلأنه كان غالب قوتهم في ذلك الوقت فاستمر حكم
الشرع على ذلك وإنما لم يجب مثله ولا قيمته بل وجب صاع في القليل والكثير ليكون ذلك
حدا يرجع إليه ويزول به التخاصم وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على رفع الخصام والمنع
من كل ما هو سبب له وقد يقع بيع المصراة في البوادي والقرى وفي مواضع لا يوجد
من يعرف القيمة ويعتمد قوله فيها وقد يتلف اللبن ويتنازعون في قتله وكثرته وفي عينه فجعل
الشرع لهم ضابطا لا نزاع معه وهو صاع تمر ونظير هذا الدية فإنها مائة بعير ولا يختلف
باختلاف حال القتيل قطعا للنزاع ومثله الغرة في الجناية على الجنين سواء كان ذكرا أو أنثى
تام الخلق أو ناقصه جميلا كان أو قبيحا ومثله الجبران في الزكاة بين الشيئين جعله الشرع شاتين
أو عشرين درهم قطعا للنزاع سواء كان التفاوت بينهما قليلا أو كثيرا وقد ذكر الخطابي وآخرون
نحو هذا المعنى والله أعلم فإن قيل كيف يلزم المشترى رد عوض اللبن مع أن الخراج بالضمان
167

وإن من اشترى شيئا معيبا ثم علم العيب فرد به لا يلزمه رد الغلة والاكساب الحاصلة في
يده فالجواب أن اللبن ليس من الغلة الحاصلة في يد المشترى بل كان موجودا عند البائع
وفي حالة العقد ووقع العقد عليه وعلى الشاة جميعا فهما مبيعان بثمن واحد وتعذر رد اللبن
لاختلاطه بما حدث في ملك المشتري فوجب رد عوضه والله أعلم
باب بطلان بيع المبيع قبل القبض
قوله صلى الله عليه وسلم (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه) قال ابن عباس وأحسب كل شئ مثله
وفي رواية حتى يقبضه وفي رواية من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله فقلت لابن عباس لم قال ألا تراهم
يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ وفي رواية ابن عمر قال كم في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتاع
الطعام فيبعث علينا من يأمرا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه
وفي رواية كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله
من مكانه وفي رواية عن ابن عمر أنهم كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا
168

طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه وفي رواية رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا ابتاعوا الطعام جزافا يضربون أن يبيعوه في مكانهم ذلك حتى يؤووه إلى رحالهم قوله (مرجأ
أي مؤخرا ويجوز همزه وترك همزه والجزاف بكسر الجيم ضمها وفتحها ثلاث لغات الكسر أفصح
وأشهر وهو البيع بلا كيل ولا وزن ولا تقدير وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا وهو مذهب
الشافعي قال الشافعي وأصحابه بيع الصبرة من الحنطة والتمر وغيرهما جزافا صحيح وليس بحرام وهل
هو مكروه فيه قولان للشافعي أصحهما مكروه كراهة تنزيه والثاني ليس بمكروه قالوا والبيع
بصبرة الدراهم جزافا حكمه كذلك ونقل أصحابنا عن مالك أنه لا يصح البيع إذا كان بائع
الصبرة جزافا يعلم قدرها وفي هذه الأحاديث النهى عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع واختلف
العلماء في ذلك فقال الشافعي لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعاما أو عقارا أو منقولا
169

أو نقدا أو غيره وقال عثمان البتي يجوز في كل مبيع وقال أبو حنيفة لا يجوز في كل شئ إلا العقار
وقال مالك لا يجوز في الطعام ويجوز فيما سواه ووافقه كثيرون وقال آخرون لا يجوز في المكيل
والموزون ويجوز فيما سواهما أما مذهب عثمان البتي فحكاه المازري والقاضي ولم يحكه
الأكثرون بل نقلوا الاجماع على بطلان بيع الطعام المبيع قبل قبضه قالوا وإنما الخلاف
فيما سواه فهو شاذ متروك والله أعلم قوله (كانوا يضربون إذا باعوه) يعنى قبل قبضه هذا
170

دليل على أن ولي الأمر يعزر من تعاطى بيعا فاسدا ويعزره بالضرب وغيره مما يراه من
العقوبات في البدن على ما تقرر في كتب الفقه قوله (قال أبو هريرة لمروان أحللت بيع الصكاك
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يستوفى فخطب مروان الناس فنهى
عن بيعها) الصكاك جمع صك وهو الورقة المكتوبة بدين ويجمع أيضا على صكوك والمراد هنا الورقة
التي تخرج من ولى الأمر بالرزق لمستحقه بأن يكتب فيها للانسان كذا وكذا من طعام أو غيره
فيبيع صاحبها ذلك لانسان قبل أن يقبضه وقد اختلف العلماء في ذلك والأصح عند أصحابنا
وغيرهم جواز بيعها والثاني منعها فمن منعها أخذ بظاهر قول أبي هريرة وبحجته ومن أجازها
تأول قضية أبي هريرة على أن المشترى ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشترى
فكان النهى عن البيع الثاني لا عن الأول لأن الذي خرجت له مالك لذلك ملكا مستقرا
وليس هو بمشتر فلا يمتنع بيعه قبل القبض كما لا يمتنع بيعه ما ورثه قبل قبضه قال القاضي
عياض بعد أن تأوله على نحو ما ذكرته وكانوا يتبايعونها ثم يبيعها المشترون قبل قبضها فنهوا
171

عن ذلك قال فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فرده عليه وقال لا تبع طعاما ابتعته حتى تستوفيه
انتهى هذا تمام الحديث في الموطأ وكذا جاء الحديث مفسرا في الموطأ أن صكوكا خرجت
للناس في زمن مروان بطعام فتبايع الناس تلك الصكوك قبل أن يستوفوها وفي الموطأ ما هو أبين
من هذا وهو أن حكيم بن حزام ابتاع طعاما أمر به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فباع حكيم
الطعام الذي اشتراه قبل قبضه والله أعلم
باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بتمر
قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر) هذا تصريحا تصريح بتحريم بيع التمر بالتمر حتى يعلم المماثلة قال القماء لأن الجهل بالمماثلة في هذا
الباب كحقيقة المفاضلة لقوله صلى الله عليه وسلم إلا سواء بسواء ولم يحصل المساواة مع
الجهل وحكم الحنطة بالحنطة والشعير بالشعير وسائر الربويات إذا بيع بعضها ببعض حكم
172

التمر بالتمر والله أعلم
باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين
قوله صلى الله عليه وسلم (البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا الا بيع الخيار) هذا
الحديث دليل لثبوت خيار المجلس لكل واحد من المتبايعين بعد انعقاد البيع حتى يتفرقا من ذلك
المجلس بأبدانهما وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن قال به علي بن أبي طالب وابن عمر
وابن عباس وأبو هريرة وأبو برزة الأسلمي وطاوس وسعيد بن المسيب وعطاء وشريح
القاضي والحسن البصري والشعبي الزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والشافعي
وابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وأبو عبيد والبخاري
وسائر المحدثين وآخرون وقال أبو حنيفة ومالك لا يثبت خيار المجلس بل يلزم البيع بنفس الايجاب
والقبول وبه قال ربيعة وحكى عن النخعي وهو رواية عن الثوري وهذه الأحاديث الصحيحة ترد
على هؤلاء وليس عنها جواب صحيح والصواب ثبوته كما قاله الجمهور والله أعلم وأما قوله
173

صلى الله عليه وسلم الا بيع الخيار ففيه ثلاثة أقوال ذكرها أصحابنا وغيرهم من العلماء أصحهما أن
المراد التخيير بعد تمام العقد قبل مفارقة المجلس وتقديره يثبت لهما الخيار ما لم يتفرقا الا أن يتخايرا
في المجلس ويختارا امضاء البيع فيلزم البيع بنفس التخاير ولا يدوم إلى المفارقة والقول الثاني
أن معناه الا بيعا شرط فيه خيار الشرط ثلاثة أيام أو دونها فلا ينقضي الخيار فيه بالمفارقة بل
يبقى حتى تنقضي المدة المشروطة والثالث مهناه الا بيعا شرط فيه أن لا خيار لهما في المجلس فيلزم
البيع بنفس البيع ولا يكون فيه خيار وهذا تأويل من يصحح البيع على هذا الوجه والأصح
عند أصحبنا بطلانه بهذا الشرط فهذا تنقيح الخلاف في تفسير هذا الحديث واتفق أصحابنا على
ترجيح القول الأول وهو المنصوص للشافعي ونقلوه عنه وأبطل كثير منهم ما سواه وغلطوا قائله
وممن رجحه من المحدثين البيهقي ثم بسط دلائله وبين ضعف ما يعارضها ثم قال وذهب كثير من
العلماء إلى تضعيف الأثر المنقول عن عمر رضي الله عنه البيع صفقة أو خيار وأن البيع لا يجوز
فيه شرط قطع الخيار وأن المراد ببيع الخيار التخيير بعد البيع أو بيع شرط فيه الخيار ثلاثة أيام
ثم قال والصحيح أن المراد التخيير بعد البيع لأن نافعا ربما عبر عنه ببيع الخيار وربما فسره به
وممن قال بتصحيح هذا أبو عيسى الترمذي ونقل ابن المنذر في الاشراق هذا التفسير عن الثوري
والأوزاعي وابن عيينة وعبد الله بن الحسن العنبري والشافعي وإسحاق بن راهويه والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو
يخير أحدهما فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) ومعنى أو يخير
174

أحدهما الآخر أن يقول له اختر امضاء البيع فإذا اختار وجب البيع أي لزم وانبرم فإن خير
أحدهما الآخر فسكت لم ينقطع خيار الساكت وفي انقطاع خيار القائل وجهان لأصحابنا أصحهما
الانقطاع لظاهر لفظ الحديث قوله (فكان ابن عمر إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله قام فمشى هنية)
ثم رجع هكذا هو في بعض الأصول هنية بتشديد الياء غير مهموز وفي بعضها هنيهة بتخفيف
الياء وزيادة هاء أي شيئا يسيرا وقوله فأراد أن لا يقيله ألا ينفسخ البيع وفي هذا دليل على
أن التفرق بالأبدان كما فسره ابن عمر الراوي وفيه رد على تأويل من تأول التفرق
بالقول وهو لفظ البيع قوله صلى الله عليه وسلم (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا) أي ليس بينهما
175

بيع لازم قوله صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما)
أي بين كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن وصدق في ذلك
وفي الاخبار بالثمن وما يتعلق بالعوضين ومعنى محقت بركة بيعهما أي ذهبت بركته وهي
زيادته ونماؤه
باب من يخدع في البيع
قوله (ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من بايعت فقل لا خلابة وكان إذا بايع يقول خيابة) أما قوله صلى الله عليه وسلم فقل لا خلابة
176

هو بخاء معجمة مكسورة وتخفيف الكلام وبالباء الموحدة وقوله وكان إذا بايع قال لا خيابه هو
بياء مثناة تحت بدل اللام هكذا هو في جميع النسخ قال القاضي ورواه بعضهم لا خيانة بالنون
قال وهو تصحيف قال ووقع في بعض الروايات في غير مسلم خذابة بالذال المعجمة والصواب
الأول وكان الرجل ألثغ فكان يقولها هكذا ولا يمكنه أن يقول لا خلابة ومعنى لا خلابة
لا خديعة أي لا تحل لك خديعتي أو لا يلزمني خديعتك وهذا الرجل هو حبان بفتح الحاء وبالباء
الموحدة ابن منقد بن عمرو الأنصاري والد يحيى وواسع بني حبان شهدا أحدا وقيل بل هو ولده
منقد بن عمرو وكان قد بلغ مائة وثلاثين سنة وكان قد شج في بعض مغازيه مع النبي صلى الله عليه وسلم
في بعض الحصون بحجر فأصابته في رأسه مأمومة فتغير بها لسانه وعقله لكن لم يخرج
عن التمييز وذكر الدارقطني أنه كان ضريرا وقد جاء في رواية ليست بثابتة أن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل له مع هذا القول الخيار ثلاثة أيام في كل سلعة يبتاعها واختلف العلماء
في هذا الحديث فجعله بعضهم خاصا في حقه وأن المغابنة بين المتبايعين لازمة لا خيار للمغبون
بسببها سواء قلت أم كثرت وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وآخرين وهي أصح الروايتين عن
مالك وقال البغداديون من المالكية للمغبون الخيار لهذا الحديث بشرط أن يبلغ الغبن الغبن ثلث
القيمة فإن كان دونه فلا والصحيح الأول لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت له
الخيار وإنما قال له قل لا خلابة أي لا خديعة ولا يلزم من هذا ثبوت الخيار ولأنه لو ثبت
أو أثبت له الخيار كانت قضية عين لا عموم لها فلا ينفذ منه إلى غيره الا بدليل والله أعلم
باب النهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع
فيه (عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو
177

صلاحها نهى البائع والمبتاع) وفي رواية نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض
ويأمن العاهة وفي رواية لا تبتاعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة قال يبدو صلاحه
حمرته وصفرته وفي رواية قيل لابن عمر ما صلاحه قال تذهب عاهته وفي رواية نهى عن بيع
الثمر حتى يطيب وفي رواية نهى عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل وحتى يوزن فقلت ما يوزن
فقال رجل عنه يعنى عند ابن عباس حتى يحزر أما ألفاظ الباب فمعنى يبدو يظهر وهو بلا
همز ومما ينبغي أن ينبه عليه أن يقع في كثير من كتب المحدثين وغيرهم حتى يبدو بالألف
في الخط وهو خطأ والصواب حذفها في مثل هذا للناصب وإنما اختلفوا في اثباتها إذا لم يكن
ناصب مثل زيد يبدو والاختيار حذفها أيضا ويقع مثله في حتى يزهو وصوابه حذف الألف
كما ذكر قوله (يزهو) هو بفتح الياء كذا ضبطوه وهو صحيح كما سنذكره إن شاء الله تعالى قال ابن
الاعرابي يقال زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته وأزهى يزهى إذا احمر أو اصفر وقال
الأصمعي لا يقال في النخل أزهى إنما يقال زها وحكاهما أبو زيد لغتين وقال الخليل أزهى
النخل بدا صلاحه وقال الخطابي هكذا يروى حتى يزهو قال والصواب في العربية حتى يزهى
والأزهاء في الثمر أن يحمر أو يصفر وذلك علامة الصلاح فيها ودليل خلاصها من الآفة
قال ابن الأثير منهم من أنكر يزهى كما أن منهم من أنكر يزهو وقال الجوهري الزهو بفتح
الزاي وأهل الحجاز يقولون بضمها وهو البسر الملون يقال إذا ظهرت الحمرة أو الصفرة في النخل
فقد ظهر فيه الزهو وقد زها النخل زهوا وأزهى لغة فهذه أقوال أهل العلم فيه ويحصل من
مجموعها جواز ذلك كله فالزيادة من الثقة مقبولة ومن نقل شيئا لم يعرفه غيره قبلناه إذا كان
178

ثقة قوله (وعن السنبل حتى يبيض) مهناه يشتد حبه وهو بدو صلاحه قوله (ويأمن العاهة) هي
الآفة تصيب الزرع أو الثمر ونحوه فتفسده قوله (حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة عن أبي الزبير
عن جابر وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا أبو الزبير عن جابر) فقوله أولا عن جابر
179

كان ينبغي له على مقتضى عادته وقاعدته وقاعدة غيره حذفه في الطريق الأول ويقتصر على أبى الزبير
لحصول الغرض به لكنه أراد زيادة البيان والايضاح وقد سبق بيان مثل هذا غير مرة قوله (حدثنا
أحمد بن عثمان النوفلي حدثنا أبو عاصم ح وحدثنا محمد بن حاتم واللفظ له قال حدثنا روح
قال أنبأنا زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار) هكذا يوجد في النسخ هذا وأمثاله فينبغي أن يقرأ
القارئ بعد روح قالا حدثنا زكريا لأن أبا عاصم وروحا يرويان عن زكريا فلو قال القارئ
قال أنبأنا زكريا كان خطأ لأنه يكون محدثا عن روح وحده وتاركا لطريق أبى عاصم ومثل هذا مما
يغفل عنه فنبهت عليه ليتفطن لأشباهه وينبغي أن يكتب هذا في الكتاب فيقال قالا حدثنا زكرياء
وإن كانوا يحذفون لفظه قال إذا كان المحدث عنه واحدا لأنه لا يلبس بخلاف هذا فإن قال قائل
يجوز أن يقال هنا قال حدثنا زكريا ويكون المراد قال روح ويدل عليه أنه قال واللفظ له قلنا
هذا محتمل ولكن الظاهر المختار ما ذكرناه أولا لأنه أكثر فائدة لئلا يكون تاركا لرواية أبى عاصم
والله أعلم قوله (عن أبي البختري) وهو بفتح الباء الموحدة واسكان الخاء المعجمة وفتح التاء
المثناة فوق واسمه سعيد بن عمران ويقال ابن فيروز الكوفي الطائي مولاهم
قال هلال بن حبان بالمعجمة وبالموحدة كان من أفاضل أهل الكوفة وقال حبيب بن أبي ثابت الامام
180

الجليل اجتمعت أنا وسعيد بن جبير وأبو البختري وكان أبو البختري أعلمنا وأفقهنا قتل بالجماجم سنة
ثلاث وثمانين وقال ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة ثقة وإنما ذكرت ما ذكرت فيه لأن الحاكم أبا أحمد
قال في كتابه الأسماء والكنى أن أبا البختري هذا ليس قويا عندهم ولا يقبل قول الحاكم لأنه جرح غير
مفسر والجرح إذا لم يفسر لا يقبل وقد نص جماعات على أنه ثقة وقد سبق بيان هذه القاعدة في أول
الكتاب والله أعلم قوله (سألت ابن عباس عن بيع النخل فقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل منه وحتى توزن فقلت ما يوزن فقال رجل عنده حتى يحزر)
وأما قوله يأكل أو يؤكل فمعناه حتى يصلح لأن يؤكل في الجملة وليس المراد كمال أكله بل ما ذكرناه وذلك
يكون عند بدو الصلاح وأما تفسيره يوزن بيحزر فظاهر لان الحزر طريق إلى معرفة قدره وكذا الوزن
وقوله حتى يحزر هو بتقديم الزاي على الراء اي يخرص ووقع في بعض الأصول بتقديم الراء وهو تصحيف
وإن كان يمكن تأويله لو صح والله أعلم وهذا التفسير عند العلماء أو بعضهم في معنى المضاف
إلى ابن عباس لأنه أقر قائله عليه ولم ينكره وتقريره كقوله والله أعلم قوله (عن ابن أبي نعم) هو
بإسكان العين بلا ياء بعدها واسمه تدكين بن الفضيل وشروح مسلم كلها ساكتة عنه أما أحكام
الباب فإن باع الثمرة قبل بدو صالحها بشرط القطع صح بالإجماع قال أصحابنا ولو شرط
القطع ثم لم يقطع فالبيع صحيح ويلزمه البائع بالقطع فإن تراضيا على ابقائه جاز وان باعها
بشرط التبقية فالبيع باطل بالاجماع لأنه ربما تلفت الثمرة قبل إدراكها فيكون البائع قد اكل
مال أخيه بالباطل كما جاءت به الأحاديث وأما إذا شرط القطع فقد انتفى هذا الضرر وإن باعها
مطلقا بلا شرط فمذهبنا ومذهب جمهور العلماء أن البيع باطل لإطلاق هذه الأحاديث وإنما
صححناه بشرط القطع للاجماع فخصصنا الأحاديث بالاجماع فيما إذا شرط القطع ولأن العادة
في الثمار الابقاء فصار كالمشروط وأما إذا بيعت الثمرة بعدو الصلاح فيجوز بيعها مطلقا
181

وبشرط القطع وبشرط التبقية لمفهوم هذه الأحاديث ولأن ما بعد الغاية يخالف ما قبلها إذا
لم يكن من جنسها ولأن الغالب فيها السلامة بخلاف ما قبل الصلاح ثم إذا بيعت بشرط التبقية
أو مطلقا يلزم البائع بسقايتها إلى أوان الجذاذ لأن ذلك هو العادة فيها هذا مذهبنا وبه قال
مالك وقال أبو حنيفة يجب شرط القطع والله أعلم قوله (وعن السنبل حتى يبيض) فيه دليل
لمذهب مالك والكوفيين وأكثر العلماء أنه يجوز بيع السنبل المشتد وأما مذهبنا ففيه تفصيل
فإن كان السنبل شعيرا أو ذرة أو ما في معناهما مما ترى حباته جاز بيعه وإن كان حنطة ونحوها
مما تستر حباته بالقشور التي تزال بالدياس ففيه قولان للشافعي رضي الله عنه الجديد أنه لا يصح
وهو أصح قوليه والقديم أنه يصح وأما قبل الاشتداد فلا يصح بيع الزرع إلا بشرط القطع
كما ذكرنا وإذا باع الزرع قبل الاشتداد مع الأرض شرط جاز تبعا للأرض وكذا الثمر قبل
بدو الصلاح إذا بيع مع الشجر جاز بلا شرط تبعا وهكذا حكم البقول في الأرض لا يجوز
بيعها في الأرض دون الأرض إلا بشرط القطع وكذا لا يصح بيع البطيخ ونحوه قبل بدو
182

صلاحه وفروع المسألة كثيرة وقد نقحت مقاصدها في روضة الطالبين وشرح المهذب وجمعت
فيها جملا مستكثرات وبالله التوفيق قوله (في الحديث نهى البائع والمشترى) أما البائع
فلأنه يريد أكل المال بالباطل وأما المشترى فلأنه يوافقه على حرام ولأنه يضيع ماله وقد
نهى عن إضاعة المال
باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا
فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر
ورخص في بيع العرايا) وفي رواية رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير
ذلك وفي رواية رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر وباقي روايات الباب بمعناه
وفيها ذكر المحاقلة والمزابنة وكراء الأرض وهذا نؤخره إلى بابه وأما ألفاظ الباب فقوله
وعن بيع الثمر بالتمر وفي رواية لا تبتاعوا التمر بالتمر هما في الروايتين الأول الثمر بالثاء المثلثة
والثاني التمر بالمثناة ومعناه الرطب بالتمر وليس المراد كل الثمار بالثاء المثلثة فإن سائر الثمار
183

يجوز بيعها بالتمر قوله (حدثنا حجين) هو بضم الحاء وآخره نون قوله (رخص في بيع
العرية بخرصها من التمر) هو بفتح الخاء وكسرها الفتح أشهر ومعناه بقدر ما فيها إذا صار تمرا
184

فمن فتح قال هو مصدر أي اسم للفعل ومن كسر قال هو اسم للشئ المخروص قوله (عن بشير
ابن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة)
أما بشير فبضم الموحدة وفتح الشين وأما يسار فبالمثناة تحت والسين مهملة وهو بشير بن يسار
المدني الأنصاري الحارثي مولاهم قال يحي بن معين ليس هو بأخي سليمان بن يسار وقال محمد المدني الأنصاري الحارثي مولاهم قال يحيى بن معين ليس هو بأخي
سليمان بن يسار وقال محمد
ابن سعد كان شيخا كبيرا فقيها قد أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
قليل الحديث وقوله (من أهل دراهم) يعنى بنى حارثة والمراد بالدار المحلة وقوله (عن
بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي جماعة منهم ثم ذكر بعضهم فقال منهم
سهل بن أبي حثمة والبعض يطلق على القليل والكثير وحثمة بفتح الحاء المهملة واسكان الثاء
المثلثة واسم أبى حثمة عبد الله بن ساعدة وقيل عامر بن ساعدة وكنية سهل أبو يحيى وقيل
أبو محمد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين قوله (في هذا الاسناد حدثنا
عبد الله بن مسلمة القعنبي حدثنا سليمان يعنى ابن بلال عن يحيى هو ابن سعيد عن بشير ابن يسار
185

عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم منهم سهل بن أبي حثمة) في هذا
الاسناد أنواع من معارف علم الاسناد وطرقه منها أنه اسناد كله مدنيون وهذا نادر في صحيح
مسلم بخلاف الكوفيين والبصريين فإنه كثير قدمناه في مواضع كثيرة من أوائل هذا الكتاب
وبعدها بيانه ومنها أن فيه ثلاثة أنصاريين مدنيين بعضهم عن بعض وهذا نادر جدا وهم يحيى بن
سعيد الأنصاري وبشير وسهل ومنها قوله سليمان يعنى ابن بلال وقوله يحيى وهو ابن سعيد وقد
قدمنا في الفصول التي في أول الكتاب وبعدها بيان فائدة قوله يعنى وقوله وهو وأن المراد انه
لم يقع في الرواية بيان نسبهما بل اقتصر الراوي على قوله سليمان ويحي فأراد مسلم بيانه ولا يجوز
أن يقول سليمان بن بلال فإنه يزيد على ما سمعه من شيخه فقال يعنى ابن بلال فحصل البيان من
غير زيادة منسوبة إلى شيخه ومنها ما يتعلق بضبط الأسماء والأنساب وهو بشير بن يسار وقد
بيناه والقعنبي وهو منسوب إلى جده وهو عبد الله بن مسلمة بن قعنب ومنها أن فيه رواية تابعي
عن التابعي ومنها قوله عن بعض أصحاب رسول الله منهم سهل بن أبي حثمة فيه أنه يجوز إذا سمع
من جماعة ثقات جاز أن يحذف بعضهم ويروى عن بعض وقد تقدم بيان هذا وتفصيله
مبسوطا في الفصول والله أعلم قوله (فذكر بمثل حديث سليمان بن بلال) الذاكر هو
الثقفي الذي هو في درجة سليمان بن بلال وإنما ذكرت هذا وإن كان ظاهرا لأنه قد يغلط فيه
بل قد غلط فيه قوله (غير أن إسحاق وابن مثنى جعلا مكان الربا الزبن وقال ابن أبي عمر الربا) يعنى
186

أن ابن أبي عمر رفيق إسحاق وابن مثنى قال في روايته ذلك الربا كما سبق في رواية سليمان بن بلال
وأما إسحاق وابن مثنى فقالا ذلك الزبن وهو بفتح الزاي وإسكان الموحدة وبعدها نون وأصل
الزبن الدفع ويسمى هذا العقد مزابنة لأنهم يتدافعون في مخاصمتهم بسببه لكثرة الغرر والخطر
قوله (مولى بنى حارثة) بالحاء قوله (عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد) قال الحاكم أبو أحمد
أبو سفيان هذا ممن لا يعرف اسمه قال ويقال مولى أبى أحمد بن جحش فنسب إلى ولائهم وهو مدني ثقة
قوله (خمسة أوسق) هي جمع وسق بفتح الواو ويقال بكسرها والفتح أفصح ويقال في الجمع
187

أيضا أوساق ووسوق قال الهروي كل شئ حملته فقد وسقته وقال غيره الوسق ضم الشئ
بعضه إلى بعض وأما قدر الوسق فهو ستون صاعا والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي وأما
العرايا فواحدتها عرية بتشديد الياء كمطية ومطايا وضحية وضحايا مشتقة من التعري وهو التجرد
لأنها عريت عن حكم باقي البستان قال الأزهري والجمهور هي فعلية بمعنى فاعلة وقال الهروي
وغيره فعلية بمعنى مفعولة من عراه يعروه إذا أتاه وتردد إليه لان صاحبها يتردد إليها وقيل
سميت بذلك لتخلي صاحبها الأول عنها من بين سائر نخله وقيل غير ذلك والله أعلم قوله
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر ورخص في العرايا تباع بخرصها) فيه
تحريم بيع الرطب بالتمر وهو المزابنة كما فسره في الحديث مشتقة من الزبن وهو المخاصمة والمدافعة
وقد اتفق العلماء على تحريم بيع الرطب بالتمر في غير العرايا وأنه ربا وأجمعوا أيضا على تحريم
بيع العنب بالزبيب وأجمعوا أيضا على تحريم بيع الحنطة في سنبلها بحنطة صافية وهي المحاقلة
مأخوذة من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع وسواء عند جمهورهم كان الرطب والعنب على
الشجر أو مقطوعا وقال أبو حنيفة إن كان مقطوعا جاز بيعه بمثله من اليابس وأما العرايا
فهي أن يخرص الخارص نخلات فيقول هذا الرطب الذي عليها إذا يبس تجئ منه ثلاثة أوسق
188

من التمر مثلا فيبيعه صاحبه لانسان بثلاثة أوسق تمر ويتقابضان في المجلس فيسلم المشترى التمر
ويسلم بائع الرطب الرطب بالتخلية وهذا جائز فيما دون خمسة أوسق ولا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق وفي جوازه في خمسة أوسق قولان للشافعي أصحهما لا يجوز لأن الأصل تحريم بيع
التمر بالرطب وجاءت العرايا رخصة وشك الراوي في خمسة أوسق أو دونها فوجب الأخذ
باليقين وهو دون خمسة أوسق وبقيت الخمسة على التحريم والأصح أن يجوز ذلك للفقراء
والأغنياء وأنه لا يجوز في غير الرطب والعنب من الثمار وفيه قول ضعيف أنه يختص بالفقراء
وقول أنه لا يختص بالرطب والعنب هذا تفصيل مذهب الشافعي في العرية وبه قال أحمد
وآخرون وتأولها مالك وأبو حنيفة على غير هذا وظواهر الأحاديث ترد تأويلها قوله
(رخص في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غير ذلك) فيه دلالة لأحد أوجه أصحابنا
أنه يجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض والأصح عند جمهوره بطلانه ويتأولون
هذه الرواية على أن أو للشك لا للتخيير والإباحة بل معناه رخص في بيعها بأحد النوعين وشك
189

فيه الراوي فيحمل على أن المراد التمر كما صرح به في سائر الروايات
باب من باع نخلا عليها تمر
قوله صلى الله عليه وسلم (من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع الا أن يشترط المبتاع) قال
أهل اللغة يقال أبرت النخل آبره أبرا بالتخفيف كأكلته أكلا وأبرته بالتشديد أؤبره تأبيرا
كعلته أعلمه تعليما وهو أن يشق طلع النخلة ليذر فيه شئ من طلع ذكر النخل والابار هو شقه
190

سواء حط فيه شئ أولا ولو تأبرت بنفسها أي تشققت فحكمها في البيع حكم المؤبرة بفعل
الآدمي هذا مذهبنا وفى هذا الحديث جواز الأبار للنخل وغيره من الثمار وقد أجمعوا على
جوازه وقد اختلف العلماء في حكم بيع النخل المبيعة بعد التأبير وقبله هل تدخل فيها الثمرة عند
اطلاق بيع النخلة من غير تعرض للثمرة بنفي ولا اثبات فقال مالك والشافعي والليث والأكثرون
ان باع النخلة بعد التأبير فثمرتها للبائع الا أن يشترطها المشترى بأن يقول اشتريت النخلة
بثمرتها هذه وإن باعها قبل التأبير فثمرتها للمشترى فإن شرطها البائع لنفسه جاز عند الشافعي
والأكثرين وقال مالك لا يجوز شرطها للبائع وقال أبو حنيفة هي للبائع قبل التأبير وبعده عند
الاطلاق وقال ابن أبي ليلى هي للمشترى قبل التأبير وبعده فأما الشافعي والجمهور فأخذوا في المؤبرة
بمنطوق الحديث وفي غيرها بمفهومه وهو دليل الخطاب وهو حجة عندهم وأما أبو حنيفة
فأخذ بمنطوقه في المؤبرة وهو لا يقول بدليل الخطاب فألحق غير المؤبرة بالمؤبرة واعترضوا
عليه بأن الظاهر يخالف المستتر في بيع حكم التبعية في البيع كما أن الجنين يتبع الام في البيع
ولا يتبعها الولد المنفصل وأما ابن أبي ليلى فقوله باطل منابذ لصريح السنة ولعله لم يبلغه الحديث
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه الا أن يشترط المبتاع)
هكذا روى هذا الحكم البخاري ومسلم من رواية سالم عن أبيه ابن عمر ولم تقع هذه الزيادة
في حديث نافع عن ابن عمر ولا يضر ذلك فسالم ثقة بل هو أجل من نافع فزيادته مقبولة وقد
أشار النسائي والدارقطني إلى ترجيح رواية نافع وهذه إشارة مردودة وفى هذا الحديث دلالة
لمالك وقول الشافعي القديم أن العبد إذا ملكه سيده مالا ملكه لكنه إذا باعه بعد ذلك كان
191

ماله للبائع الا أن يشترط المشترى لظاهر هذا الحديث وقال الشافعي في الجديد وأبو حنيفة
لا يملك العبد شيئا أصلا وتأولا الحديث على أن المراد أن يكون في يد العبد شئ من مال
السيد فأضيف ذلك المال إلى العبد للاختصاص والانتفاع لا للملك كما يقال جل الدابة وسرج
الفرس والا فإذا باع السيد العبد فذلك المال للبائع لأنه ملكه الا ان يشترط الاحتراز
من الربا قال الشافعي فإن كان المال دراهم لم يجز بيع العبد وتلك الدراهم بدراهم فكذا إن كان
دنانير لم يجز بيعها بذهب وإن كان حنطة لم يجز بيعها بحنطة وقال مالك يجوز أن يشترط المشترى
وإن كان دراهم والثمن دراهم وكذلك في جميع الصور لاطلاق الحديث قال وكأنه لا حصة
للمال من الثمن وفى هذا الحديث دليل للأصح عند أصحابنا أنه إذا باع العبد أو الجارية وعليه ثيابه
لم تدخل في البيع بل تكون للبائع الا أن يشترطها المبتاع لأنه مال في الجملة وقال بعض أصحابنا
تدخل وقال بعضهم يدخل ساتر العورة فقط والأصح أنه لا يدخل ساتر العورة ولا غيره لظاهر
هذا الحديث ولأن اسم العبد لا يتناول الثياب والله أعلم
باب النهى عن المحاقلة والمزابنة عن المخابرة وبيع الثمرة
(قبل بدو صلاحها وعن بيع المعاومة وهو بيع السنين)
أما المحاقلة والمزابنة وبيع الثمرة قبل بدو صلاحها فسبق بيانها في الباب الماضي وأما المخابرة فهي
192

والمزارعة متقاربتان وهما المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها من الزرع كالثلث والربع
وغير ذلك من الأجزاء المعلومة لكن في المزارعة يكون البذر من مالك الأرض وفى المخابرة يكون البذر
من العامل هكذا قاله جمهور أصحابنا وهو ظاهر نص الشافعي وقال بعض أصحابنا وجماعة من أهل
اللغة وغيرهم هما بمعنى قالوا والمخابرة مشتقة من الخبر وهو الايكار أي الفلاح هذا قول الجمهور
وقيل مشتقة من الخبار وهي الأرض اللينة وقيل من الخبرة وهي النصيب وهي بضم الخاء وقال
الجوهري قال أبو عبيدة هي النصيب من سمك أو لحم يقال تخبروا خبرة إذا اشتروا شاة فذبحوها
واقتسموا لحمها وقال ابن الاعرابي مأخوذة من خيبر لأن أول هذه المعاملة كان فيها وفى صحة
المزارعة والمخابرة خلاف مشهور للسلف وسنوضحه في باب بعده إن شاء الله تعالى وأما النهى
عن بيع المعاومة وهو بيع السنين فمعناه أن يبيع ثمر الشجرة عامين أو ثلاثة أو أكثر فيسمى بيع
المعاومة وبيع السنين وهو باطل بالإجماع نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره لهذه الأحاديث
ولأنه بيع غرر لأنه بيع معدوم ومجهول غير مقدور على تسليمه وغير مملوك للعاقد والله أعلم
قوله (نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ولا يباع إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا) معناه
لا يباع الرطب بعد بدو صلاحه بتمر بل يباع بالدينار والدرهم وغيرهما والممتنع إنما هو بيعه
193

بالتمر إلا العرايا فيجوز بيع الرطب فيها بالتمر بشرطه السابق في بابه قوله (نهى عن بيع الثمرة
حتى تطعم) هو بضم التاء وكسر العين أي يبدو صلاحه وتصير طعاما يطيب أكلها قوله
(نهى وأن يشترى النخل حتى يشقه والاشقاه أن يحمر أو يصفر) وفي رواية حتى تشقح بالحاء
هو بضم التاء واسكان الشين فيهما وتخفيف القاف ومنهم من فتح الشين في
تشقه وهما جائزان تشقه وتشقح ومعناهما واحد ومنهم من أنكر تشقه وقال المعروف بالحاء والصحيح جوازها
وقيل إن الهاء بدل من الحاء كما قالوا مدحه ومدهه وقد فسر الراوي الاشقاه والاشقاح بالاحمرار
والاصفرار قال أهل اللغة ولا يشترط في ذلك حقيقة الاصفرار والاحمرار بل ينطلق عليه هذا
194

الاسم إذا تغير يسير إلى الحمرة أو الصفرة قال الخطابي الشقحة لون غير خالص الحمرة أو الصفرة
بل هو تغير اليهما في كمودة قوله (سليم بن حيان) بفتح السين وحيان بالمثناة وسعيد بن
ميناء بالمد والقصر قوله (نهى عن الثنيا) هي استثناء والمراد الاستثناء في البيع وفي رواية
الترمذي وغيره بإسناد صحيح نهى عن الثنيا الا أن يعلم والثنيا المبطلة للبيع قولة بعتك هذه الصبرة
الا بعضها وهذه الأشجار أو الأغنام أو الثياب ونحوها إلا بعضها فلا يصح البيع لان المستثنى
مجهول فلو قال بعتك هذه الأشجار إلا هذه الشجرة أو هذه الشجرة إلا ربعها أو الصبرة
إلا ثلثها أو بعتك بألف إلا درهما وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء
ولو باع الصبرة إلا صاعا منها فالبيع باطل عند الشافعي وأبي حنيفة وصحح مالك أن يستثنى
منها ما لا يزيد على ثلثها أما إذا باع ثمرة نخلات فاستثنى من ثمر عشرة آصع مثلا للبائع فمذهب
الشافعي وأبي حنيفة والعلماء كافة بطلان البيع وقال مالك وجماعة من علماء المدينة يجوز ذلك
ما لم يزد على قدر ثلث الثمرة قوله (حدثنا أبو الوليد المكي عن جابر) وفي رواية أخرى سعيد
ابن ميناء عن جابر قال ابن أبي حاتم أبو الوليد هذا اسمه يسار قال عبد الغنى هذا غلط إنما هو
سعيد بن ميناء المذكور باسمه في الرواية الأخرى وقد بينه البخاري في تاريخه
195

باب كراء الأرض قوله (عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض) وفي رواية من كانت
له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه
وفي رواية من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكرها وفي رواية نهى عن
المخابرة وفي رواية فليزرعها أخاه ولا تبيعوها وفسره الراوي بالكراء وفي
رواية فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها وفي رواية كنا نأخذ الأرض بالثلث
والربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال من كانت له أرض فليزرعها
فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها وفي رواية من كانت له أرض فليهبها
أو ليعرها وفي رواية نهى عن يع أرض بيضاء سنتين أو ثلاثا وفي رواية نهى عن الحقول
196

وفسره جابر بكراء الأرض ومثله من رواية أبي سعيد الخدري وفي رواية ابن عمر كنا نكري
أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج وفي رواية عنه كنا لا نرى بالخبر بأسا
حتى كان عام أول فزعم رافع أن النبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وفي رواية عن نافع أن
ابن عمر كان يكرى مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي إمارة أبى بكر وعمر وعثمان
وصدرا من خلافة معاوية ثم بلغه آخر خلافة معاوية أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي
صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأنا معه فسأله فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن
كراء المزارع فتركها ابن عمر وفي رواية عن حنظلة بن قيس قال سألت رافع بن خديج عن
كراء الأرض بالذهب والورق فقال لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم
هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شئ معلوم مضمون فلا بأس به
وفي رواية كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه
197

فنهانا عن ذلك وأما الورق فلم ينهنا وفي رواية عن عبد الله بن معقل بالعين المهملة والقاف قال
زعم ثابت يعنى ابن ضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة
وقال لا بأس به أما الماذيانات فبذال معجمة مكسورة ثم ياء مثناه تحت ثم الف ثم نون ثم
الف ثم مثناة فوق هذا هو المشهور وحكى القاضي عن بعض الرواة فتح الذال في غير صحيح مسلم
وهي مسايل المياه وقيل ما ينبت على حافتي مسيل الماء وقيل ما ينبت حول السواقي وهي لفظة
معربة ليست عربية وأما قوله وإقبال فبفتح الهمزة أي أوائلها ورؤسها والجداول جمع
جدول وهو النهر الصغير كالساقية وأما الربيع فهو الساقية الصغيرة وجمعه أربعاء كنبي وأنبياء
وربعا كصبي وصبيان ومعنى هذه الألفاظ أنهم كانوا يدفعون الأرض إلى من يزرعها ببذر
من عنده على أن يكون لمالك الأرض ما ينبت على الماذيانات وإقبال الجداول أو هذه القطعة
والباقي للعامل فنهوا عن ذلك لما فيه من الغرر فربما هلك هذا دون ذاك وعكسه واختلف
العلماء في كراء الأرض فقال طاوس والحسن البصري لا يجوز بكل حال سواء أكراها بطعام
أو ذهب أو فضة أو بجزء من زرعا لاطلاق حديث النهى عن كراء الأرض وقال الشافعي
وأبو حنيفة وكثيرون تجوز إجارتها بالذهب والفضة وبالطعام والثياب وسائر الأشياء سواء
كان من جنس ما يزرع فيها أم من غيره ولكن لا تجوز اجارتها بجزء ما يخرج منها كالثلث والربع
وهي المخابرة ولا يجوز أيضا أن يشترط له زرع قطعة معينة وقال ربيعة يجوز بالذهب والفضة
فقط وقال مالك يجوز بالذهب والفضة وغيرهما الا الطعام وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن
الحسن وجماعة من المالكية وآخرون تجوز اجارتها بالذهب والفضة وتجوز المزارعة بالثلث
والربع وغيرهما وبهذا قال ابن شريح وابن خزيمة والخطابي وغيرهم من محققي أصحابنا وهو الراجح
المختار وسنوضحه في باب المساقاة إن شاء الله تعالى فأما طاوس والحسن فقد ذكرنا حجتهما وأما
الشافعي وموافقوه فاعتمدوا بصريح رواية رافع بن خديج وثابت بن الضحاك السابقين في جواز
الإجارة بالذهب والفضة ونحوها وتأولوا أحاديث النهى تأويلين أحدهما حملهما على إجارتها بما
على الماذيانات أو بزرع قطعة معينة أو بالثلث والربع ونحو ذلك كما فسره
الرواة في هذه
198

الأحاديث التي ذكرناها والثاني حملها على كراهة التنزيه والارشاد إلى اعارتها كما
نهى عن بيع الغرر نهى تنزيه بل يتواهبونه ونحو ذلك وهذان التأولان لابد منهما أو من أحدهما للجمع بين
الأحاديث وقد أشار إلى هذا التأويل الثاني البخاري وغيره ومعناه عن ابن عباس والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (أو ليزرعها أخاه) أي يجعلها مزرعة له ومعناه يعيره إياها بلا عوض وهو
معنى الرواية الأخرى فليمنحها أخاه بفتح الياء والنون أي يجعلها منيحة أي عارية وأما الكراء فممدود
ويكرى بضم الياء قوله
(فتصيب من القصرى) هو بقاف مكسورة ثم صاد مهملة ساكنة ثم راء
مكسورة ثم ياء مشددة على وزن القبطي هكذا ضبطناه وكذا ضبطه الجمهور وهو المشهور قال
199

القاضي هكذا رويناه عن أكثرهم وعن الطبري بفتح القاف والراء مقصور وعن ابن الخزاعي بضم
200

القاف مقصور قال والصواب الأول وهو ما بقي من الحب في السنبل بعد الدياس ويقال له القصارة
بضم القاف وهذا الاسم أشهر من القصرى قوله (كنا لا نرى بالخبر بأسا) ضبطناه بكسر الخاء
وفتحها والكسر أصح وأشهر ولم يذكر الجوهري وآخرون من أهل اللغة غيره وحكى القاضي فيه
201

الكسر والفتح والضم ورجح الكسر ثم الفتح وهو بمعنى المخابرة قوله (أتاه بالبلاط) هو بفتح الباء
202

مكان معروف بالمدينة مبلط بالحجارة وهو بقرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (عن نافع
أن ابن عمر كان يأخذ الأرض فنبئ حديثا عن رافع بن خديج) فذكروا في آخره فتركه ابن عمر
ولم يأخذه هكذا هو في كثير من النسخ يأخذ بالخاء والدال من الأخذ وفي كثير منها يأجر
بالجيم المضمونة والراء في الموضعين قال القاضي وصاحب المطالع هذا هو المعروف لجمهور رواة
صحيح مسلم قال صاحب المطالع والأول تصحيف وفي بعض النسخ يؤاجر وهذا صحيح قوله
(أن عبد الله بن عمر كان يكرى أرضه) كذا في بعض النسخ
أرضيه بفتح الراء وكسر الضاد على
الجمع وفي بعضها أرضه على الافراد وكلاهما صحيح
203

قوله (عن أبي النجاشي عن رافع أن ظهير ابن رافع وهو عمه قال أتاني ظهير فقال لقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح وتقديره عن رافع أن ظهيرا
عمه حدثه بحديث قال رافع في بيان ذلك الحديث أتاني ظهير فقال لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا التقدير دل عليه فحوى الكلام ووقع في بعض النسخ أنبأني بدل أتاني والصواب
المنتظم أتاني من الاتيان قوله في هذا الحديث (نؤاجرها يا رسول الله على الربيع أو الأوسق)
هكذا هو في معظم النسخ الربيع وهو الساقية والنهر الصغير
وحكى القاضي عن رواية ابن ماهان
الربع بضم الراء وبحذف الياء وهو أيضا صحيح
205

قوله (أن مجاهدا قال لطاوس انطلق بنا إلى ابن رافع بن خديج فاسمع منه الحديث عن أبيه)
روى فاسمع بوصل الهمزة مجزوما على الأمر وبقطعها مرفوعا على الخبر وكلاهما صحيح والأول
أجود قوله صلى الله عليه وسلم (يأخذ عليها خرجا) أي أجرة والله أعلم
207

كتاب المساقاة والمزارعة
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع)
208

وفي رواية على أن يعتملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها في هذه
الأحاديث جواز المساقاة وبه قال مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وجميع فقهاء المحدثين
وأهل الظاهر وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة لا يجوز وتأويل هذه الأحاديث على أن خيبر فتحت
عنوة وكان أهلها عبيدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما أخذه فهو له وما تركه فهو له واحتج
الجمهور بظواهر هذه الأحاديث وبقوله صلى الله عليه وسلم أقركم ما أقركم الله وهذا صريح في
أنهم لم يكونوا عبيدا قال القاضي وقد اختلفوا في خيبر هل فتحت عنوة أو صلحا أو بجلاء أهلها
عنها بغير قتال أو بعضها صلحا وبعضها عنوة وبعضها جلاء عنه أهله أو بعضها صلحا وبعضها
عنوة قال وهذا أصح الأقوال وهي رواية مالك ومن تابعه وبه قال ابن عيينة قال وفي كل
قول أثر مروى وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد
اخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين وهذا يدل لمن قال
عنوة إذ حق المسلمين إنما هو في العنوة وظاهر قول من قال صلحا أنهم صولحوا على كون
الأرض للمسلمين والله أعلم وأبلغوا فيما تجوز عليه المساقاة من الأشجار فقال داود تجوز
على النخل خاصة وقال الشافعي على النحل والعنب خاصة وقال مالك تجوز على جميع الأشجار
وهو قول للشافعي فأما داود فرآها رخصة فلم يتعد فيه المنصوص عليه وأما الشافعي فوافق
داود في كونها رخصة لكن قال حكم العنب حكم النخل في معظم الأبواب وأما مالك فقال
مذهب الجواز الحاجة والمصلحة وهذا يشمل الجميع فيقاس عليه والله أعلم قوله (بشطر ما يخرج
209

منها) فيه بيان الجزء المساقى عليه من نصف أو ربع أو غيرهما من الأجزاء المعلومة فلا يجوز
على مجهول كقوله على أن لك بعض الثمر واتفق المجوزون للمساقاة على جوازها بما اتفق
المتعاقدان عليه من قليل أو كثير قوله (من ثمر أو زرع) يحتج به الشافعي وموافقوه الأكثرون في
جواز المزارعة تبعا للمساقاة وإن كانت المزارعة عندهم لا تجوز منفردة فتجوز تبعا للمساقاة فيساقيه على
النخل ويزارعه على الأرض كما جرى خيبر وقال مالك لا تجوز المزارعة لا منفردة ولا تبعا الا ما كان من
الأرض بين الشجر وقال أبو حنيفة وزفر المزارعة والمساقاة فاسدتان سواء جمعهما أو فرقهما
ولو عقدتا فسختا وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وسائر الكوفيين وفقهاء المحدثين
وأحمد وابن خزيمة وابن شريح وآخرون تجوز المساقاة والمزارعة مجتمعتين وتجوز كل واحدة
منهما منفردة وهذا هو الظاهر المختار لحديث خيبر ولا يقبل دعوى كون المزارعة في خيبر
إنما جازت تبعا للمساقاة بل جازت مستقلة ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة
قياسا على القراض فإنه جائز بالاجماع
وهو كالمزارعة في كل شئ ولأن المسلمين في جميع الأمصار
والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة وأما الأحاديث السابقة في النهى عن المخابرة فسبق
الجواب عنها وأنها محمولة على ما إذا شرطا لكل واحد قطعة معينة من الأرض وقد صنف
210

ابن خزيمة كتابا في جواز المزارعة واستقصى فيه وأجاد وأجاب من الأحاديث بالنهي والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أقركم فيها على ذلك ما شئنا) وفي رواية الموطأ أقركم
ما أقركم الله قال العلماء وهو عائد إلى مدة العهد والمراد إنما نمكنكم من المقام في خيبر ما شئنا
ثم نخرجكم إذا شئنا لأنه صلى الله عليه وسلم كان عازما على اخراج الكفار من جزيرة العرب
كما أمر به في آخر عمره وكما دل عليه هذا الحديث وغيره واحتج أهل الظاهر بهذا على جواز
المساقاة مدة مجهولة وقال الجمهور لا تجوز المساقاة الا إلى مدة معلومة كالإجارة وتأولوا الحديث
على ما ذكرناه وقيل جاز ذلك في أول الاسلام خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل معناه أن
لنا اخراجكم بعد انقضاء المدة المسماة وكانت سميت مدة ويكون المراد بيان أن المساقاة ليست
بعقد دائم كالبيع والنكاح بل بعد انقضاء المدة تنقضي المساقاة فإن شئنا عقدنا عقدا آخر وإن
شئنا أخرجناكم وقال أبو ثور إذا أطلقنا المساقاة اقتضى ذلك سنة واحدة والله أعلم قوله (على
أن يعتملوها من أموالهم) بيان لوظيفة عامل المساقاة وهو أن عليه كل ما يحتاج إليه في اصلاح
الثمر واستزادته مما يتكرر كل سنة كالسقي وتنقية الأنهار واصلاح منابت الشجر وتلقيحه
وتنحية الحشيش والقضبان عنه وحفظ الثمرة وجذابها ونحو ذلك وأما ما يقصد به حفظ الأصل
ولا يتكرر كل سنة كبناء الحيطان وحفر الأنهار فعلى المالك والله أعلم قوله (فكان يعطى
أزواجه كل سنة مائة وسق ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير) قال العلماء هذا
دليل على أن البياض الذي كان بخيبر الذي هو موضع الزرع أقل من الشجر وفي هذه الأحاديث
دليل لمذهب الشافعي وموافقيه أن الأرض التي تفتح عنوة تقسم بين الغانمين الذين افتتحوها
كما تقسم بينهم الغنيمة المنقولة بالاجماع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر بينهم وقال مالك
وأصحابه يقفها الامام على المسلمين كما فعل عمر رضي الله عنه في أرض سواد العراق وقال
أبو حنيفة والكوفيون يتخير الامام بحسب المصلحة في قسمتها أو تركها في أيدي من كانت لهم
211

بخراج يوظفه عليها وتصير ملكا لهم كأرض الصلح قوله (وكان الثمر يقسم على السهمان
في نصف خيبر فيأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس) هذا يدل على أن خيبر فتحت عنوة
لأن السهمان كانت للغانمين وقوله يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس أي يدفعه إلى مستحقه
وهم خمسة الأصناف المذكورة في قوله تعالى واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول
فيأخذ لنفسه خمسا واحدا من الخمس ويصرف الأخماس الباقية من الخمس إلى الأصناف
الأربعة الباقين واعلم أن هذه المعاملة مع أهل خيبر كانتا برضى الغانمين وأهل السهمان وقد اقتسم
أهل السهمان بين المستحقين وسلم إليهم نفس الأرض حين أخذها من اليهود حين أجلاهم عنها قوله
(فأجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء) هما ممدودتان وهما قريتان معروفتان وفي هذا دليل أن
212

مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب اخراجهم من بعضها
وهو الحجاز خاصة لأن تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز والله أعلم
باب فضل الغرس والزرع
قوله صلى الله عليه وسلم (ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق
منه له صدقة وما أكل السبع فهو له صدقة وما أكلت الطير فهو له صدقة ولا يرزؤه أحد
الا كان له صدقة) وفي رواية لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه انسان ولا
دابة ولا شئ الا كانت له صدقة وفي رواية الا كان له صدقة إلى يوم القيامة في هذه الأحاديث
فضيلة الغرس وفضيلة الزرع وأن أجر فاعلي ذلك مستمر ما دام الغراس والزرع وما تولد منه
إلى يوم القيامة وقد اختلف العلماء في أطيب المكاسب وأفضلها فقيل التجارة
وقيل الصنعة باليد وقيل الزراعة وهو الصحيح وقد بسطت ايضاحه في آخر باب الأطعمة من شرح المهذب وفي
هذه الأحاديث أيضا أن الثواب والأجر في الآخرة مختص بالمسلمين وأن الانسان يثاب على
ما سرق من ماله أو أتلفته دابة أو طائر ونحوهما وقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يرزؤه) هو
براء ثم زاي بعدها همزة أي ينقصه ويأخذ منه قوله في رواية الليث (عن أبي الزبير عن جابر أن
النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أن مبشر الأنصارية في نخل لها) هكذا هو في أكثر النسخ دخل علي
213

أم مبشر وفي بعضها دخل على أم معبد أو أم مبشر قال الحافظ المعروف في رواية الليث أم مبشر بلا شك
ووقع في رواية غيره أم معبد كما ذكره مسلم بعد هذه الرواية ويقال فيها أيضا أم بشير
فحصل أنها يقال لها أم مبشر وأم معبد وأم بشير قيل اسمها الخليدة بضم الخاء ولم يصح وهي امرأة زيد
ابن حارثة أسلمت وبايعت قوله (حدثنا أحمد بن سعيد بن إبراهيم حدثنا روح بن عبادة حدثنا
زكريا بن إسحاق أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله قال أبو مسعود الدمشقي هكذا
وقع في نسخ مسلم في هذا الحديث عمرو بن دينار والمعروف فيه أبو الزبير عن جابر
214

قوله (عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر زاد عمرو في روايته عن عمار وأبو بكر في روايته عن أبي
معاوية فقالا عن أم مبشر) إلى آخره هكذا وقع في نسخ مسلم وأبو بكر ووقع في بعضها وأبو
كريب بدل أبي بكر قال القاضي قال بعضهم الصواب أبو كريب لأن أول الاسناد لأبى بكر بن أبي
شيبة عن حفص بن غياث ولأبي كريب وإسحاق بن إبراهيم عن أبي
معاوية هو أبو كريب لا أبو بكر وهذا واضح وبين والله تعالى أعلم
215

باب وضع الجوائح
قوله صلى الله عليه وسلم (لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه
شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق) وفى رواية عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
النخل حتى تزهو فقلنا لأنس ما زهوها قال تحمر وتصفر أرأيتك ان منع الله الثمرة بم تستحل
مال أخيك وفي رواية عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن لم يثمرها الله فبم يستحل
أحدكم مال أخيه وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وعن أبي سعيد قال
أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك اختلف العلماء في الثمرة إذا
بيعت بعد بدو الصلاح وسلمها البائع إلى المشترى بالتخلية بينه وبينها ثم تلفت قبل أوان الجذاذ
بآفة سماوية هل تكون من ضمان البائع أو المشترى فقال الشافعي في أصح قوليه وأبو حنيفة
والليث بن سعد وآخرون هي في ضمان المشترى ولا يجب وضع الجائحة لكن يستحب وقال الشافعي
في القديم وطائفة هي في ضمان البائع ويجب وضع الجائحة وقال مالك إن كانت دون الثلث
لم يجب وضعها وإن كانت الثلث فأكثر وجب وضعها وكانت من ضمان البائع واحتج القائلون
216

بوضعها بقوله أمر بوضع الجوائح وبقوله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا
ولأنها في معنى الباقية في يد البائع من حيث إنه يلزمه سقيها فكأنها تلفت قبل القبض فكانت
من ضمان البائع واحتج القائلون بأنه لا يجب وضعها بقوله في الرواية الأخرى في ثمار ابتاعها
فكثر دينه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة عليه ودفعه إلى غرمائه فلو كانت توضع لم يفتقر
إلى ذلك وحملوا الأمر بوضع الجوائح على الاستحباب أو فيما بيع قبل بدو الصلاح وقد أشار
في بعض هذه الروايات التي ذكرناها إلى شئ من هذا وأجاب الأولون عن قوله فكثر دينه
إلى آخره بأنه يحتمل أنها تلفت بعد أوان الجذاذ وتفريط المشترى في تركها بعد ذلك على الشجر
فإنها حينئذ تكون من ضمان المشترى قالوا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث ليس
لكم إلا ذلك ولو كانت الجوائح لا توضع لكان لهم طلب بقية الدين وأجاب الآخرون عن هذا بأن
معناه ليس لكم الآن هذا ولا تحل لكم مطالبته ما دام معسرا بل ينظر إلى ميسرة والله أعلم وفي
217

الرواية الأخيرة التعاون على البر والتقوى ومواساة المحتاج ومن عليه دين والحث على الصدقة عليه
وأن المعسر لا تحل مطالبته ولا ملازمته ولا سجنه وبه قال الشافعي ومالك وجمهورهم وحكى عن ابن شريح
حبسه حتى يقضى الدين وإن كان قد ثبت اعساره وعن أبي حنيفة ملازمته وفيه أن يسلم إلى الغرماء
جميع مال المفلس ما لم يقض دينهم ولا يترك للمفلس سوى ثيابه ونحوها وهذا المفلس المذكور قيل هو
معاذ بن جبل رضي الله عنه قوله (حدثني محمد بن عباد حدثنا عبد العزير بن محمد عن حميد عن أنس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال إن لم يثمرها الله فبم يستحل أحدكم مال أخيه قال الدارقطني هذا وهم من
محمد بن عباد أو من عبد العزيز في حال إسماعه محمدا لأن إبراهيم بن حمزة سمعه من عبد العزيز
مفصولا مبينا أنه من كلام أنس وهو الصواب وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط
محمد بن عباد كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بكلام أنس وجعله مرفوعا وهو خطأ قوله
(قال أبو إسحق حدثني عبد الرحمن بن بشر عن سفيان بهذا) أبو إسحاق هذا هو إبراهيم
ابن محمد بن سفيان روى هذا الكتاب عن مسلم ومراده أنه علا برجل فصار في رواية هذا الحديث
كشيخه مسلم بينه وبين سفيان بن عيينة واحد فقط والله أعلم
218

باب استحباب الوضع من الدين
قوله (وحدثني غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال وحدثني أخي) قال جماعة من الحفاظ هذا أحد الأحاديث المقطوعة في صحيح مسلم وهي اثنا عشر حديثا سبق
بيانها في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح لأن مسلما لم ينكر من سمع منه هذا الحديث
قال القاضي إذا قال الراوي حدثني غير واحد أو حدثني الثقة أو حدثني بعض أصحابنا ليس هو من
المقطوع ولا من المرسل ولا من المعضل عند أهل هذا الفن بل هو من باب الرواية عن المجهول
وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب لكن كيف كان فلا يحتج بهذا المتن من هذه الرواية لو لم
يثبت من طريق آخر ولكن قد ثبت من طريق آخر فقد رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل
ابن أبي أويس ولعل مسلما أراد بقوله غير واحد البخاري وغيره وقد حدث مسلم عن إسماعيل
هذا من غير واسطة في كتاب الحج وفي آخر كتاب الجهاد وروى مسلم أيضا عن أحمد بن يوسف
الأزدي عن إسماعيل في كتاب اللعان وفي كتاب الفضائل والله أعلم قوله (وفي هذا الباب
قال مسلم بن الحجاج روى الليث بن سعد قال حدثني جعفر بن ربيعة) هذا أحد الأحاديث
المقطوعة في صحيح مسلم ويسمى معلقا وسبق في التيمم مثله بهذا الاسناد وهذا الحديث المذكور
هنا متصل عن الليث رواه البخاري في صحيحه عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة
بإسناده المذكور هنا ورواه النسائي عن الربيع بن سليمان عن شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر
ابن ربيعة قوله (وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه) أي يطلب منه ان يضع عنه بعض
219

الدين ويرفق به في الاستيفاء والمطالبة وفي هذا الحديث دليل على أنه لا بأس بمثل هذا ولكن
بشرط أن لا ينتهى إلى الالحاح وإهانة النفس أو الايذاء ونحو ذلك الا من ضرورة والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (أين المتألى على الله لا يفعل المعروف قال أنا يا رسول الله وله) أي
ذلك أحب المتألى الحالف والأولية اليمين وفي هذا كراهة الحلف على ترك الخير وانكار ذلك وأنه
يستحب لمن حلف لا يفعل خيرا أن يحنث فيكفر عن يمينه وفيه الشفاعة إلى أصحاب الحقوق
وقبول الشفاعة في الخير قوله (تقاضى
ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المسجد فارتفعت أصواتهم) معنى تقاضاه طالبه به وأراد قضاه وحد رد
بفتح الحاء والراء وفي هذا الحديث جواز المطالبة بالدين في المسجد والشفاعة إلى صاحب الحق
والاصلاح بين الخصوم وحسن التوسط بينهم وقبول الشفاعة في غير معصية وجواز الإشارة
واعتمادها لقول فأشار إليه بيده أن ضع الشطر قوله (كشف سجف حجرته) هو بكسر
السين وفتحها لغتان واسكان الجيم والله أعلم
220

باب من أدرك ما باعه عند المشترى وقد أفلس فله الرجوع فيه
قوله (حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا يحيى بن سعيد أخبرني أبو
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ان عمر بن عبد العزيز أخبره أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث
ابن هاشم أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول) هذا الاسناد فيه أربعة من التابعين يروى بعضهم
عن بعض وهم يحيى بن سعيد الأنصاري وأبو بكر بن محمد بن عمرو وعمر وأبو بكر بن
عبد الرحمن ولهذا نظائر سبقت قوله صلى الله عليه وسلم (من أدرك ماله بعينه عند رجل
قد أفلس فهو أحق به من غيره) وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يعدم
221

إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه اختلف العلماء فيمن اشترى سلعة فأفلس
أو مات قبل أن يؤدى ثمنها ولا وفاء عنده وكانت السلعة باقية بحالها فقال الشافعي وطائفة
بائعها بالخيار إن شاء بركها وضارب مع الغرماء بثمنها وإن شاء رجع فيها بعينها في صورة
الافلاس والموت وقال أبو حنيفة لا يجوز له الرجوع فيها بل تتعين المضاربة وقال مالك يرجع
في صورة الافلاس ويضارب في الموت واحتج الشافعي بهذه الأحاديث مع حديثه في الموت في سنن أبي
داود وغيره وتأولها أبو حنيفة تأويلات ضعيفة مردودة وتعلق بشئ يروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما
وليس بثابت عنهما قوله (حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن
222

مهدي قالا حدثنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس ثم قال وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل
ابن إبراهيم حدثنا سعيد) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا في الإسناد الأول شعبة بضم الشين
المعجمة وهو شعبة بن الحجاج وفي الثاني سعيد بفتح السين المهملة وهو سعيد بن أبي عروبة
وكذا نقله القاضي عن رواية الجلودي قال ووقع في رواية ابن ماهان في الثاني شعبة أيضا
بضم الشين المعجمة قال والصواب الأول قوله (وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف وحجاج
ابن الشاعر قال حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال الحجاج منصور بن سلمة قال أخبرنا سليمان بن بلال)
هكذا هو في معظم نسخ بلادنا وأصولهم المحققة قال حجاج منصور بن سلمة ومعناه أن أبا سلمة
الخزاعي هذا اسمه منصور بن سلمة فذكره محمد بن أحمد بن أبي خلف بكنيته وذكره حجاج باسمه
وهذا صحيح وذكر القاضي عياض أنه وقع في معظم بلادهم ولعامة رواتهم قال حجاج
حدثنا منصور بن سلمة فزاد لفظه حدثنا قال القاضي والصواب حذف لفظه حدثنا كما وقع
لبعض الرواة قال ويمكن تأويل هذا الثاني على موافقة الأول على أن المراد أن محمد بن أحمد
كناه وحجاج سماه
223

باب فضل أنظار المعسر والتجاوز
(في الاقتضاء من الموسر والمعسر)
قوله (كنت أداين الناس فأمر فتياني أن ينظروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر) قال الله
تجوزوا عنه وفي رواية كنت أقبل الميسور وأتجاوز عن المعسور وفي رواية كنت أنظر
المعسر وأتجوز في السكة أو في النقد وفي رواية وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسر على
الموسر وأنظر المعسر فقوله فتياني معناه غلماني كما صرح به في الرواية الأخرى والتجاوز
والتجوز معناهما المسامحة في الاقتضاء والاستيفاء وقبول ما فيه نقص يسير
كما قال وأتجوز في
السكة وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسر والوضع عنه إما كل الدين وإما بعضه من
كثير أو قليل وفضل المسامحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء سواء استوفى من موسر أو معسر
وفضل الوضع من الدين وأنه لا يحتقر شئ من أفعال الخير فلعله سبب السعادة والرحمة وفيه
جواز توكيل العبيد والإذن لهم في التصرف وهذا على قول من يقول شرع من قبلنا شرع لنا
224

قوله (الميسور والمعسور) أي آخذ ما تيسر وأسامح بما تعسر قوله (حدثنا أبو سعيد الأشج)
قال حدثنا أبو خالد الأحمر عن سعد بن طارق عن ربعي بن حراش عن حذيفة) ثم قال في آخر
الحديث فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري هكذا سمعناه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم هكذا هو في جميع النسخ فقال عقبة بن عامر وأبو مسعود قال الحفاظ هذا
الحديث إنما هو محفوظ لأبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري وحده وليس لعقبة
225

ابن عامر فيه رواية قال الدارقطني والوهم في هذا الاسناد من أبي خالد الأحمر قال وصوابه عقبة بن
عمر وأبو مسعود الأنصاري كذا رواه أصحاب أبي مالك سعد بن طارق وتابعهم نعيم بن أبي
هند وعبد الملك بن عمير ومنصور وغيرهم عن ربعي عن حذيفة فقالوا في آخر الحديث فقال
226

عقبة بن عمر وأبو مسعود وقد ذكر مسلم في هذا الباب حديث منصور ونعيم وعبد الملك
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس
عن معسر) كرب بضم الكاف وفتح الراء جمع كربة ومعنى ينفس أي يمد ويؤخر المطالبة وقيل معناه يفرج عنه والله أعلم
تحريم مطل الغنى وصحة الحوالة واستحباب قبولها
(إذا أحيل على ملئ)
قوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغنى ظلم) قال القاضي وغيره المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغنى ظلم وحرام ومطل غير الغنى ليس بظلم ولا حرام لمفهوم الحديث ولأنه معذور
ولو كان غنيا ولكنه ليس متمكنا من الأداء لغيبة المال أو لغير ذلك جاز له التأخير إلى الامكان
وهذا مخصوص من مطل الغنى أو يقال المراد بالغنى المتمكن من الأداء فلا يدخل هذا فيه قال
بعضهم وفيه دلالة لمذهب مالك والشافعي والجمهور أن المعسر لا يحل حبسه ولا ملازمته
ولا مطالبته حتى يوسر وقد سبقت المسألة في باب المفلس وقد اختلف أصحاب مالك وغيرهم
في أن المماطل هل يفسق وترد شهادته بمطله مرة واحد أم لا ترد شهادته حتى يتكرر ذلك منه
ويصير عادة ومقتضى مذهبنا اشتراط التكرار وجاء في الحديث الآخر في غير مسلم لي الواجد
يحل عرضه وعقوبته اللى بفتح اللام وتشديد الياء وهو المطل والواجد بالجيم الموسر قال العلماء
يحل عرضه بأن يقول ظلمني ومطلني وعقوبته الحبس والتعزير قوله صلى الله عليه وسلم
227

(وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع) هو بإسكان التاء في أتبع وفي فليتبع مثل أخرج فليخرج
هذا هو الصواب المشهور في الروايات والمعروف في كتب اللغة وكتب غريب الحديث ونقل القاضي وغيره عن بعض المحدثين أنه يشددها في الكلمة الثانية والصواب الأول ومعناه وإذا
أحيل بالدين الذي له على موسر فليحتل يقال منه تبعت الرجل لحقي أتبعه تباعه فأنا تبع وإذا
طلبته قال الله تعالى ثم لا تجدوا لكم علينا تبيعا ثم مذهب أصحابنا والجمهور أنه إذا أحيل على ملى
استحب له قبول الحوالة وحملوا الحديث على الندب وقال بعض العلماء القبول مباح لا مندوب
وقال بعضهم واجب لظاهر الأمر وهو مذهب داود الظاهري وغيره
باب تحريم بيع فضل الماء الذي يكون بالفلاة ويحتاج إليه
(لرعى الكلأ وتحريم منع بذله وتحريم بيع ضراب الفحل)
قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء) وفي رواية عن بيع
ضراب الجمل وعن بيع الماء والأرض لتحرث وفي رواية لا يمنع فضل الماء به الكلأ
وفي رواية لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ أما النهى عن بيع فضل الماء ليمنع بها الكلأ
فمعناه أن تكون لانسان
بئر مملوكة له بالفلاة وفيها فاضل عن حاجته ويكون هناك كلأ
228

ليس عنده ماء الا هذه فلا يمكن أصحاب المواشي رعيه الا إذا حصل لهم السقي من هذه البئر
فيحرم عليه منع فضل هذا الماء للماشية ويجب بذله لها بلا عوض لأنه إذا منع بذبله امتنع
الناس من رعى ذلك الكلأ خوفا على مواشيهم من العطش ويكون بمنعه الماء مانعا من رعى
الكلأ وأما الرواية الأولى نهى عن بيع فضل الماء فهي محمولة على هذه الثانية التي فيها ليمنع
به الكلأ ويحتمل أنه في غيره ويكون نهى تنزيه قال أصحابنا يجب بذل فضل الماء بالفلاة كما
ذكرناه بشروط أحدها أن لا يكون ماء آخر يستغنى به والثاني أن يكون البذل لحاجة الماشية
لا لسقى الزرع والثالث ان لا يكون مالكه محتاجا إليه واعلم أن المذهب الصحيح أن من تبع
في ملكه ماء صار مملوكا له وقال بعض أصحابنا لا يملكه أما إذا أخذ الماء في إناء من الماء المباح فإنه
يملكه هذا هو الصواب وقد نقل بعضهم الاجماع عليه وقال بعض أصحابنا لا يملكه بل يكون
أخص به وهذا غلط ظاهر وأما قوله لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ فمعناه أنه إذا كان فضل
ماء بالفلاة كما ذكرنا وهناك كلأ لا يمكن رعيه الا إذا تمكنوا من سقى الماشية من هذا الماء
فيجب عليه بذل هذا الماء للماشية بلا عوض ويحرم عليه بيعه لأنه إذا باعه كأنه باع الكلأ
المباح للناس كلهم الذي ليس مملوكا لهذا البائع وسبب ذلك أن أصحاب الماشية لم يبذلوا الثمن
في الماء كأنه باع الكلأ والله أعلم قال أهل اللغة الكلأ مهموز مقصور هو النبات سواء كان رطبا
أو يابسا وأما الحضيض والهشيم فهو مختص باليابس وأما الخلي فمقصور غير مهموز والعشب
مختص بالرطب ويقال له أيضا الرطب بضم الراء واسكان الطاء قوله (نهى عن بيع الأرض
لتحرث) معناه نهى عن إجارتها للزرع وقد سبقت المسألة واضحة في باب كراء الأرض وذكرنا
أن الجمهور يجوزون اجارتها بالدراهم والثياب ونحوها ويتأولوا النهى تأويلين أحدهما أنه
نهى تنزيه ليعتادوا إعارتها وإرفاق بعضه بعضا والثاني أنه محمول على إجارتها على أن تكون
229

لمالكها قطعة معينة من الزرع وحملة القائلون بمنع المزارعة على اجارتها مما يخرج
منها والله أعلم قوله (نهى عن ضراب الجمل) معناه عن أجرة ضرابه وهو عسب الفحل
المذكور في حديث آخر وهو بفتح العين واسكان السين المهملتين وبالباء الموحدة وقد اختلف
العلماء في إجارة الفحل وغيره من الدواب للضراب فقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور
وآخرون استئجاره لذلك باطل وحرام ولا يستحق فيه عوض ولو أنزاه المستأجر لا يلزمه
المسمى من أجره ولا أجرة مثل ولا شئ من الأموال قالوا لأنه
غرر مجهول وغير مقدور
على تسليمه وقال جماعة من الصحابة والتابعين ومالك وآخرون يجوز استئجاره لضرب مدة
معلومة أو لضربات معلومة لأن الحاجة تدعو إليه وهي منفعة مقصودة وحملوا النهى على التنزيه
والحث على مكارم الأخلاق كما حملوا عليه ما قرنه به من النهى عن إجارة الأرض والله أعلم
230

باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي
(والنهي عن بيع السنور)
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) وفي
الحديث الآخر شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام وفي رواية ثمن الكلب
خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث وفي الحديث الآخر سألت جابرا عن ثمن
الكلب والسنور فقال زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أما مهر البغي فهو ما تأخذه الزانية
على الزنا وسماه مهرا لكونه على صورته وهو حرام بإجماع المسلمين وأما حلوان الكاهن فهو
ما يعطاه على كهانته يقال منه حلوته حلوانا إذا أعطيته قال الهروي وغيره أصله من الحلاوة شبه
بالشئ الحلو من حيث إنه يأخذه سهلا بلا كلغة ولا في مقابلة مشقة يقال حلوته إذا أطعمته الحلو
كما يقال عسلته إذا أطعمته العسل قال أبو عبيد ويطلق الحلوان أيضا على غير هذا وهو أن يأخذ
الرجل مهر ابنته لنفسه وذلك عيب عند النساء قالت امرأة تمد زوجها لا يأخذ الحلوان عن
بناتنا قال البغوي من أصحابنا والقاضي عياض أجمع المسلمون على تحريم حلوان الكاهن لأنه
عوض عن محرم ولأنه أكل المال بالباطل وكذلك أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء
والنائحة للنوح وأما الذي جاء في غير صحيح مسلم من النهى عن كسب الإماء فالمراد به كسبهن
بالزنا وشبهه لا بالغزل والخياطة ونحوهما وقال الخطابي قال ابن الاعرابي ويقال حلوان الكاهن
الشنع والصهميم قال الخطابي وحلوان العراف أيضا حرام قال والفرق بين الكاهن والعراف
أن الكاهن إنما يتعاطى الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعى معرفة الأسرار
231

والعراف هو الذي يدعى معرفة الشئ المسروق ومكان الضالة ونحوهما من الأمور هكذا ذكره
الخطابي في معالم السنن في كتاب البيوع ثم ذكره في آخر الكتاب أبسط من هذا فقال إن الكاهن
هو الذي يدعى مطالعة علم الغيب ويخبر الناس عن الكوائن قال وكان في العرب كهنة يدعون
أنهم يعرفون كثيرا من الأمور فمنهم من يزعم أن له رفقاء من الجن وتابعة تلقى إليه الأخبار
ومنهم من يدعى أنه يستدرك الأمور بفهم أعطيه وكان منهم من يسمى عرافا وهو الذي
يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها كالشئ يسرق فيعرف المظنون
به السرقة وتتهم المرأة بالريبة فيعرف من صاحبها ونحو ذلك من الأمور ومنهم من كان يسمى
المنجم كاهنا قال وحديث النهى عن اتيان الكهان يشتمل على النهى عن هؤلاء كلهم وعلى النهى
عن تصديقهم والرجوع إلى قولهم ومنهم من كان يدعو الطبيب كاهنا وربما سموه عرافا فهذا
غير داخل في النهى هذا آخر كلام الخطابي قال الإمام أبو الحسن الماوردي من أصحابنا في
آخر كتابه الأحكام السلطانية ويمنع المحتسب من يكتسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ
والمعطى والله أعلم وأما النهى عن ثمن الكلب وكونه من شر الكسب وكونه خبيثا فيدل عل
تحريم بيعه وأنه لا يصح بيعه ولا يحل ثمنه ولا قيمة على متلفه سواء كان معلما أم لا وسواء
كان مما يجوز اقتناؤه أم لا وبهذا قال جماهير العلماء منهم أبو هريرة والحسن البصري وربيعة
232

والأوزاعي والحكم وحماد والشافعي وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم وقال أبو حنيفة يصح
بيع الكلاب التي فيها منفعة وتجب القيمة على متلفها وحكى ابن المنذر عن جابر وعطاء والنخعي
جواز بيع كلب الصيد دون غيره وعن مالك روايات إحداها لا يجور بيعه ولكن تجب القيمة
على متلفه والثانية يصح بيعه وتجب القيمة والثالثة لا يصح ولا تجب القيمة على متلفه دليل
الجمهور هذه الأحاديث وأما الأحاديث الواردة في النهى عن ثمن الكلب الا كلب صيد وفي
رواية الا كلبا ضاريا وأن عثمان غرم انسانا ثمن كلب قتله عشرين بعيرا وعن ابن عمرو بن العاص
التغريم في اتلافه فكلها ضعيفة باتفاق أئمة الحديث وقد أوضحتها في شرح المهذب في باب ما يجوز
بيعه وأما كسب الحجام وكونه خبيثا ومن شر الكسب ففيه دليل لمن يقول بتحريمه وقد
اختلف العلماء في كسب الحجام فقال الأكثرون من السلف والخلف لا يحرم كسب الحجام
ولا يحرم أكله لا على الحر ولا على العبد وهو المشهور من مذهب أحمد وقال فرواية عنه
قال بها فقهاء المحدثين يحرم على الحر دون العبد واعتمدوا هذه الأحاديث وشبهها واحتج
الجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام
أجره قالوا ولو كان حراما لم يعطه رواه البخاري ومسلم وحملوا هذه الأحاديث التي في النهى
على التنزيه والارتفاع عن دنئ الاكساب والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور ولو كان
حراما لم يفرق فيه بين الحر والعبد فإنه لا يجوز للرجل أن يطعم عبده مالا يحل وأما النهى عن
ثمن السنور فهو محمول على أنه لا ينفع أو على أنه نهى تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته والسماحة
به كما هو الغالب فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع وكان ثمنه حلالا هذا مذهبنا ومذهب
233

العلماء كافة الا ما حكى ابن المنذر وعن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز
بيعه واحتجوا بالحديث وأجاب الجمهور عنه بأنه محمول على ما ذكرناه فهذا هو الجواب المعتمد وأما
ما ذكره الخطابي وأبو عمرو بن عبد البر من أن الحديث في النهى عنه ضعيف فليس كما قالا بل
الحديث صحيح رواه مسلم وغيره وقول ابن عبد البر انه لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة
غلط منه أيضا لأن مسلما قد رواه في صحيحه كما تروى من رواية معقل بن عبيد الله عن أبي
الزبير فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير وهو ثقة أيضا والله أعلم
باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها
(الا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك)
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب) وفي رواية أمر بقتل الكلاب
فأرسل في أقطار المدينة أن تقتل وفي رواية أنه كان يأمر بقتل الكلاب فتتبعت في المدينة
وأطرافها فلا ندع كلبا الا قتلناه حتى انا لنقتل كلب المرية من أهل البادية يتبعها وفي رواية
أمر بقتل الكلاب الا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية فقيل لابن عمر إن أبا هريرة يقول أو
كلب زرع فقال ابن عمر إن لأبى هريرة زرعا وفي رواية جابر أمرنا رسول الله بقتل الكلاب
حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها
234

وقال عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان وفي رواية ابن المفضل قال أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال ما بالهم وبال الكلاب ثم رخص في كلب الصيد
وكلب الغنم وفي رواية له في كلب الغنم والصيد والزرع وفي حديث ابن عمر من اقتنى كلبا الا
كلب ماشية أو ضار نقص من عمله كل يوم قيراطان وفي رواية ينقص من أجره كل يوم
قيراط وفي رواية أبي هريرة من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينقص من
أجره قيراطان كل يوم وفي رواية له انتقص من أجره كل يوم قيراط وفي رواية سفيان بن أبي
زهير من اقتنى كلبا لا يغنى عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط أجمع العلماء على
قتل الكلب الكلب والكلب العقور واختلفوا في قتل مالا ضرر فيه فقال امام الحرمين من
أصحابنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولا بقتلها كلها ثم نسخ ذلك ونهى عن قتلها الا الأسود
البهيم ثم استقر الشرع على النهى عن قتل جميع الكلاب التي لا ضر فيها سواء الأسود وغيره
ويستدل لما ذكره بحديث ابن المغفل وقال القاضي عياض ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ
بالحديث في قتل الكلاب الا ما استثنى من كلب الصيد وغيره قال وهذا مذهب مالك وأصحابه
قال واختلف القائلون بهذا هل كلب الصيد ونحوه منسوخ من العموم الأول في الحكم بقتل
الكلاب وإن القتل كان عاما في الجميع أم كان مخصوصا بما سوى ذلك قال وذهب آخرون
إلى جواز اتخاذ جميعها البهيم قال القاضي
وعندي أن النهى أولا كان نهيا عاما عن اقتناء جميعها وأمر بقتل جميعها ثم نهى عن قتلها
ما سوى الأسود ومنع الاقتناء في جميعها الا كلب صيد أو زرع أو ماشية وهذا الذي قاله القاضي
235

هو ظاهر الأحاديث ويكون حديث ابن المغفل مخصوصا بما سوى الأسود لأنه عام فيخص منه
الأسود بالحديث الآخر وأما أقناء الكلاب فمذهبنا أنه يحرم اقتناء الكلب بغير حاجة ويجوز
اقتناؤه للصيد وللزرع وللماشية وهل يجوز لحفظ الدور والدروب ونحوها فيه وجهان أحدهما
لا يجوز لظواهر الأحاديث فإنها مصرحة بالنهي الا لزرع أو صيد أو ماشية وأصحها يجوز
قياسا على الثلاثة عملا بالعلة المفهومة من الأحاديث وهي الحاجة وهل يجوز اقتناء الجرو
وتربيته للصيد أو الزرع أو الماشية فيه وجهان لأصحابنا أصحهما جوازه قوله (قال ابن عمران
لأبى هريرة زرعا) وقال سالم في الرواية الأخرى وكان أبو هريرة يقول أو كلب حرث وكان
صاحب حرث قال العلماء ليس هذا توهينا لرواية أبي هريرة ولا شكا فيها بل معناه أنه لما كان
صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه والعادة أن المبتلى بشئ يتقنه مالا يتقنه
غيره ويتعرف من أحكامه مالا يعرفه غيره وقد ذكر مسلم هذه الزيادة وهي اتخاذه للزرع من
رواية ابن المغفل ومن رواية سفيان بن أبي زهير عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكرها
أيضا مسلم من رواية ابن الحكم واسمه عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي عن ابن عمر فيحتمل أن ابن
عمر لما سمعها من أبي هريرة وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم رواها عنه بعد ذلك
وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي
صلى الله عليه وسلم فرواها ونسيها في وقت فتركها والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه
الزيادة بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو انفرد بها
236

لكانت مقبولة مرضية مكرمة قوله صلى الله عليه وسلم (بالأسود البهيم ذي النقطتين) فإنه
شيطان معنى البهيم الخالص السواد وأما النقطتان فهما نقطتان معروفتان بيضاوان فوق عينيه وهذا
مشاهد معروف وقوله صلى الله عليه وسلم (فإنه شيطان) احتج به أحمد بن حنبل وبعض
أصحابنا في أنه لا يجوز صيد الكلب الأسود البهيم ولا يحل إذا قتله لأنه شيطان وإنما حل صيد
الكلب وقال الشافعي ومالك وجماهير العلماء يحل صيد الكلب الأسود كغيره وليس المراد
بالحديث اخراجه عن جنس الكلاب ولهذا لو ولغ في اناء وغيره وجب غسله كما
يغسل من
ولوغ الكلب الأبيض قوله صلى الله عليه وسلم (ما بالهم وبال الكلاب) أي ما شأنهم أي
ليتركوها قوله صلى الله عليه وسلم (من اقتنى كلبا الا كلب ماشية أو ضاري) هكذا هو في معظم
النسخ ضاري بالياء وفي بعضها ضاريا بالألف بعد الياء منصوبا وفي الرواية الثانية من اقتنى كلبا
237

الا كلب ضارية وذكر القاضي أن الأول روى ضاري بالياء وضار بحذفها وضار فاما ضاريا فهو
ظاهر الاعراب وأما ضاري وضار فهما مجروران على العطف على ماشية ويكون من إضافة
الموصوف إلى صفته كماء البارد ومسجد الجامع ومنه قوله تعالى بجانب الغربي ولدار الآخرة وسبق
بيان هذا مرات ويكون ثبوت الياء في ضاري على اللغة القليلة في اثباتها في المنقوص من غير ألف
ولام والمشهور حذفها وقيل إن لفظة ضار هنا صفة للرجل الصائد صاحب الكلاب المعتاد للصيد
فسماه ضاريا استعارة كما في الرواية الأخرى الا كلب ماشية أو كلب صائد وأما رواية الا كلب
ضارية فقالوا تقديره الا كلب ذي كلاب ضارية والضارى هو المعلم الصيد المعتاد له يقال منه ضري
الكلب يضرى كشرى يشرى ضرا وضراوة وأضراه صاحبه أي عوده ذلك وقد ضري بالصيد إذا لهج
به ومنه قول عمر رضي الله عنه اللحم ضراوة كضراوة الخمر قال جماعة معناه ان له عادة ينزع إليها كعادة
الخمر وقال الأزهري معناه ان لأهله عادة في أكله كعادة شارب
الخمر في ملازمته وكما أن من اعتاد الخمر لا يكاد يصبر عنها كذا من اعتاد
اللحم قوله صلى الله عليه وسلم (نقص من أجره) وفي رواية من
238

عمله كل يوم قيراطان وفي رواية قيراط فأما رواية عمله فمعناه من أجر عمله وأما القيراط هنا فهو مقدار
معلوم عند الله تعالى والمراد نقص جزء من أجر عمله وأما اختلاف الرواية في قيراط وقيراطين فقيل
يحتمل أنه في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ولمعنى فيهما أو يكون ذلك مختلفا
باختلاف المواضع فيكون القيراطان في المدينة خاصة لزيادة فضلها والقيراط في غيرها أو القيراطان
في المدائن ونحوها من القرى والقيراط في البوادي أو يكون ذلك في زمنين فذكر القيراط أولا ثم زاد
التغليظ فذكر القيراطين قال الروياني من أصحابنا في كتابه البحر اختلفوا في المراد بما ينقص منه
فقيل ينقص مما مضى من عمله وقيل من مستقبله قال واختلفوا في محل نقص القيراط فقيل
ينقص قيراط من عمل النهار وقيراط من عمل الليل أو قيراط من عمل الفرض وقيراط من عمل النفل
والله أعلم واختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب فقيل لامتناع الملائكة من دخول
بيته بسببه وقيل لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده أباهم وقيل إن ذلك عقوبة
له لاتخاذه ما نهى عن اتخاذه وعصيانه في ذلك وقيل لما يبتلى به من ولوغه في غفلة صاحبه ولا يغسله
239

بالماء والتراب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا)
المراد بالضرع الماشية كما في سائر الروايات ومعناه من اقتنى كلبا لغير زرع وماشية وقوله (وفد عليهم
سفيان بن أبي زهير الشنائي) هكذا هو في معظم النسخ بشين معجمة مفتوحة ثم نون مفتوحة
ثم همزة مكسورة منسوب إلى أزد شنوءة بشين مفتوحة ثم نون مضمومة ثم همزة ممدودة ثم هاء ووقع
في بعض النسخ المعتمدة الشنوى بالواو وهو صحيح على إرادة التسهيل ورواه بعض رواة البخاري
شنوى بضم النون على الأصل
حل أجرة الحجامة
ذكر فيه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام أجره قال ابن عباس ولو كان سحتا لم
يعطه وقد سبق قريبا في باب تحريم ثمن الكلب بيان اختلاف العلماء في أجرة الحجامة وفي هذه
241

الأحاديث إباحة نفس الحجامة وأنها من أفضل الأدوية وفيها إباحة التداوي وإباحة الأجرة على
المعالجة بالتطبب وفيها الشفاعة إلى أصحاب الحقوق والديون في أن يخففوا منها وفيها جواز مخارجة
العبد برضاه ورضاء سيده وحقيقة المخارجة أن يقول السيد لعبده تكتسب وتعطيني من الكسب
كل يوم درهما مثلا والباقي لك أو في كل أسبوع كذا وكذا ويشترط رضاهما قوله (حجمه أبو طيبة) هو بطاء مهملة مفتوحة ثم ياء مثناة تحت ثم باء موحدة وهو عبد لبني بياضة اسمه
نافع وقيل غير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فلا تعذبوا صبيانكم بالغمز) هو بغين معجمة
242

مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم زاي معناه لا تغمزوا حلق الصبي بسبب العذرة وهو وجع الحلق بل
داووه بالقسط البحري وهو العود الهندي.
تم الجزء العاشر ويليه الجزء الحادي عشر وأوله باب تحريم بيع الخمر
243