الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الثامن
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
1

استحباب الفطر للحاج بعرفات يوم عرفة
مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجمهور العلماء استحباب فطر يوم عرفة بعرفة للحاج وحكاه
ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان بن عفان وابن عمر والثوري قال وكان ابن الزبير
وعائشة يصومانه وروى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن أبي العاص وكان إسحاق يميل إليه وكان
عطاء يصومه في الشتاء دون الصيف وقال قتادة لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء واحتج
الجمهور بفطر النبي صلى الله عليه وسلم فيه ولأنه أرفق بالحاج في آداب الوقوف ومهمات المناسك
واحتج الآخرون بالأحاديث المطلقة أن صوم عرفة كفارة سنتين وحمله الجمهور على من ليس
هناك قوله (ان أم الفضل امرأة العباس أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن وهو
واقف على بعير بعرفة فشربه) فيه فوائد منها استحباب الفطر للواقف بعرفة ومنها استحباب
الوقوف راكبا وهو الصحيح في مذهبنا ولنا قول أن غير الركوب أفضل وقيل أنهما
2

سواء ومنها جواز الشرب قائما وراكبا ومنها إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها
إباحة قبول هدية المرأة المزوجة الموثوق بدينها ولا يشترط أن يسأل هل هو من مالها أم
من مال زوجها أو أنه أذن فيه أم لا إذا كانت موثوقا بدينها ومنها أن تصرف المرأة في مالها
جائز ولا يشترط اذن الزوج سواء تصرفت في الثلث أو أكثر وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور
وقال مالك لا تتصرف فيما فوق الثلث الا باذنه وهو موضع الدلالة من الحديث أنه
صلى الله عليه وسلم لم يسأل هل هو من مالها ويخرج من الثلث أو باذن الزوج أم لا ولو اختلف الحكم
لسأل قوله (عن عمير مولى عبد الله بن عباس) وفي روايتين مولى أم الفضل وفي رواية مولى
ابن عباس فالظاهر أنه مولى أم الفضل حقيقة ويقال له مولى ابن عباس وقال البخاري وغيره من
الأئمة هو مولى أم الفضل حقيقة ويقال له مولى ابن عباس لملازمته له وأخذه عنه وانتمائه
إليه كما قالوا في أبي مرة مولى أم هانئ بنت أبي طالب يقولون أيضا مولى عقيل بن أبي طالب
3

قالوا للزومه إياه وانتمائه إليه وقريب منه مقسم مولى ابن عباس ليس هو مولاه حقيقة وإنما
قيل مولى ابن عباس للزومه إياه قوله (فأرسلت إليه ميمونة بحلاب اللبن) هو بكسر الحاء
المهملة وهو الاناء الذي يحلب فيه ويقال له المحلب بكسر الميم
صوم يوم عاشوراء
اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء اليوم سنة ليس بواجب واختلفوا في حكمه في أول
الاسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان فقال أبو حنيفة كان واجبا واختلف أصحاب
الشافعي فيه على وجهين مشهورين أشهرهما عندهم أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن
واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون
ذلك الاستحباب والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط
نية الصوم الواجب من الليل فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول كان الناس مفطرين أول يوم
عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه وأصحاب الشافعي
يقولون كان مستحبا فصح بنية من النهار ويتمسك أبو حنيفة بقوله أمر بصيامه والأمر
للوجوب وبقوله فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه ويحتج الشافعية بقوله
هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه والمشهور في اللغة أن عاشوراء وتاسوعاء ممدودان
وحكى قصرهما قوله صلى الله عليه وسلم (من شاء صامه ومن شاء تركه) معناه أنه ليس متحتما
4

فأبو حنيفة يقدره بواجب والشافعية يقدرونه ليس متأكدا أكمل التأكيد وعلى
المذهبين فهو سنة مستحبة الآن من حين قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام قال القاضي
عياض وكان بعض السلف يقول كان صوم عاشوراء فرض وهو باق على فرضيته لم ينسخ قال
وانقرض القائلون بهذا وحصل الاجماع على أنه ليس بفرض وإنما هو مستحب وروى عن
ابن عمر كراهة قصد صومه وتعيينه بالصوم والعلماء مجمعون على استحبابه وتعيينه للأحاديث
وأما قول ابن مسعود كنا نصومه ثم ترك فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب وتأكد الندب
قوله في حديث قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح (ان قريشا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر
5

رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان) ضبطوا أمر هنا بوجهين أظهرهما بفتح الهمزة
6

والميم والثاني بضم الهمزة وكسر الميم ولم يذكر القاضي عياض غيره وأما قول معاوية (أين علماؤكم)
إلى آخره فظاهره أنه سمع من يوجبه أو يحرمه أو يكرهه فأراد إعلامه وإنه ليس بواجب ولا محرم
ولا مكروه وخطب به في ذلك الجمع العظيم ولم ينكر عليه قوله عن معاوية (سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول لهذا اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم فمن أحب منكم
أن يصوم فليصم ومن أحب منكم أن يفطر فليفطر) هذا كله من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هكذا
8

جاء مبينا في رواية النسائي قوله (فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك)
وفي رواية فسألهم المراد بالروايتين أمر من سألهم والحاصل من مجموع الأحاديث أن يوم عاشوراء
كانت الجاهلية من كفار قريش وغيرهم واليهود يصومونه وجاء الاسلام بصيامه متأكدا ثم
9

بقي صومه أخف من ذلك التأكد والله أعلم قوله (ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم)
الشارة بالشين المعجمة بلا همز وهي الهيئة الحسنة والجمال أي يلبسونهم لباسهم الحسن الجميل
ويقال لها الشارة والشورة بضم الشين وأما الحلى فقال أهل اللغة هو بفتح الحاء واسكان اللام
مفرد وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها والضم أشهر وأكثر وقد قرئ بهما في السبع وأكثرهم
على الضم واللام مكسورة والياء مشددة فيهما قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة
فوجد اليهود يصومون عاشوراء وقالوا ان موسى صامه وانه اليوم الذي نجوا فيه من فرعون
وغرق فرعون فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال نحن أحق بموسى منهم) قال
10

المازري خبر اليهود غير مقبول فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحى إليه بصدقهم فيما
قالوه أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به قال القاضي عياض ردا على المازري
قد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صامه فلم يحدث
له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه وإنما هي صفة حال وجواب سؤال فقوله صامه ليس
فيه أنه ابتدأ صومه حينئذ بقولهم ولو كان هذا لحملناه على أنه أخبر به من أسلم من علمائهم كابن
سلام وغيره قال القاضي وقد قال قال بعضهم يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة ثم
ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب فيه فصامه قال القاضي وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث
قلت المختار قوله المازري ومختصر ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومه كما تصومه قريش
في مكة ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد
أخبار آحادهم والله أعلم قوله (عن ابن عباس أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرم وأن النبي
11

صلى الله عليه وسلم كان يصوم التاسع) وفي الرواية الأخرى (عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
صام يوم عاشوراء فقالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول
صلى الله عليه وسلم فإذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام
المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن
عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من اظماء الإبل فان العرب تسمى
اليوم الخامس من أيام الورد ربعا وكذا باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشرا
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم وممن
قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق وهذا ظاهر
الأحاديث ومقتضى اللفظ وأما تقدير اخذه من الاظماء فبعيد ثم إن حديث ابن عباس الثاني
يرد عليه لأنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى
تصومه فقال أنه في العام المقبل يصوم التاسع وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو
التاسع فتعين كونه العاشر قال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وآخرون يستحب صوم التاسع
والعاشر جميعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع وقد سبق في
12

صحيح مسلم في كتاب الصلاة من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الصيام
بعد رمضان شهر الله المحرم قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود
في افراد العاشر وفي الحديث إشارة إلى هذا وقيل للاحتياط في تحصيل عاشوراء والأول أولى والله
أعلم قوله (من كان لم يصم فليصم ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل) وفي رواية من كان أصبح
صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه معنى الروايتين أن من كان نوى الصوم
فليتم صومه ومن كان لم ينو الصوم ولم يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه حرمة لليوم كما
لو أصبح يوم الشك مفطرا ثم ثبت أنه من رمضان يجب امساك بقية يومه حرمة لليوم واحتج
أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه أن صوم رمضان وغيره من الفرض يجوز نيته في النهار ولا
يشترط تبييتها قال لأنهم نووا في النهار وأجزأهم قال الجمهور لا يجوز رمضان ولا غيره من
الصوم الواجب الا بنية من الليل وأجابوا عن هذا الحديث بأن المراد امساك بقية النهار لا حقيقة
13

الصوم والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالاتمام وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط
اجزاء النية في النهار في الفرض والنفل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل أو غيره وجواب آخر أن
صوم عاشوراء لم يكن واجبا عند الجمهور كما سبق في أول الباب وإنما كان سنة متأكدة وجواب
ثالث أنه ليس فيه أنه يجزيهم ولا يقضونه بل لعلهم قضوه وقد جاء في سنن أبي داود في هذا الحديث
فأتموا بقية يوم واقضوه قوله (اللعبة من العهن) هو الصوف مطلقا وقيل الصوف المصبوغ
قوله (فنجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الافطار) هكذا
هو في جميع النسخ عند الافطار قال القاضي فيه محذوف وصوابه حتى يكون عند الافطار فبهذا
يتم الكلام وكذا وقع في البخاري من رواية مسدد وهو معنى ما ذكره مسلم في الرواية الأخرى
فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم وفي هذا الحديث تمرين الصبيان
على الطاعات وتعويدهم العبادات ولكنهم ليسوا مكلفين قال القاضي وقد روى عن عروة أنهم
متى أطاقوا الصوم وجب عليهم وهذا غلط مردود بالحديث الصحيح رفع القلم عن ثلاثة عن
الصبي حتى يحتلم وفي رواية يبلغ والله أعلم
تحريم صوم يومى العيدين
فيه (عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
14

نهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى) وعن ابن عمر نحوه وقد أجمع العلماء على تحريم
صوم هذين اليومين بكل حال سواء صامهما عن نذر أو تطوع أو كفارة أو غير ذلك ولو
نذر صومهما متعمدا لعينهما قال الشافعي والجمهور لا ينعقد نذره ولا يلزمه قضاؤهما وقال أبو حنيفة
ينعقد ويلزمه قضاؤهما قال فان صامهما أجزأه وخالف الناس كلهم في ذلك قوله (شهدت
العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال أن هذين يومان نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما) فيه تقديم صلاة العيد على خطبته وقد سبق بيانه
واضحا في بابه وفيه تعليم الامام في خطبته ما يتعلق بذلك العيد من أحكام الشرع من مأمور به
ومنهى عنه قوله (يوم فطركم) أي أحدهما يوم فطركم
15

قوله (جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني نذرت أن أصوم يوما فوافق يوم أضحى أو فطر فقال ابن عمر أمر الله
بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم هذا اليوم) معناه أن ابن عمر توقف عن الجزم
بجوابه لتعارض الأدلة عنده وقد اختلف العلماء فيمن نذر صوم العيد معينا كما قدمناه قريبا
وأما هذا الذي نذر صوم يوم الاثنين مثلا فوافق يوم العيد فلا يجوز له صوم العيد بالاجماع وهل
يلزمه قضاؤه فيه خلاف للعلماء وفيه للشافعي قولان أصحهما لا يجب قضاؤه لأن لفظه لم يتناول
القضاء وإنما يجب قضاء الفرائض بأمر جديد على المختار عند الأصوليين وكذلك لو صادف
أيام التشريق لا يجب قضاؤه في الأصح والله أعلم ويحتمل أن ابن عمر عرض له بأن الاحتياط
لك القضاء لتجمع بين أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
16

تحريم صوم أيام التشريق
(وبيان أنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)
قوله صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق أيام أكل وشرب) وفي رواية وذكر لله عز وجل وفي رواية
أيام منى وفيه دليل لمن قال لا يصح صومها بحال وهو أظهر القولين في مذهب الشافعي وبه قال
أبو حنيفة وابن المنذر وغيرهما وقال جماعة من العلماء يجوز صيامها لكل أحد تطوعا وغيره حكاه
ابن المنذر عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين وقال مالك والأوزاعي وإسحاق والشافعي في
أحد قوليه يجوز صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدى ولا يجوز لغيره واحتج هؤلاء بحديث البخاري في
صحيحه عن ابن عمر وعائشة قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن الا لمن لم يجد الهدى وأيام التشريق
ثلاثة بعد يوم النحر سميت بذلك لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها وهو تقديدها ونشرها في
الشمس وفي الحديث استحباب الاكثار من الذكر في هذه الأيام من التكبير وغيره وقوله
(عن نبيشة الهذلي) هو بضم النون وفتح الباء الموحدة وبالشين المعجمة وهو نبيشة بن عمرو
ابن عوف بن سلمة
17

كراهة افراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته
قوله (سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
صيام يوم الجمعة فقال نعم ورب هذا البيت) وفي رواية أبي هريرة (قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يصم أحدكم يوم الجمعة الا أن يصوم قبله أو يصوم بعده) وفي رواية (لا تختصوا
18

ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام الا أن يكون في
صوم يصومه أحدكم) هكذا وقع في الأصول تختصوا ليلة الجمعة ولا تخصوا يوم الجمعة باثبات
تاء في الأول بين الخاء والصاد وبحذفها في الثاني وهما صحيحان وفي هذه الأحاديث الدلالة
الظاهرة لقول جمهور أصحاب الشافعي وموافقيهم أنه يكره افراد يوم الجمعة بالصوم الا أن
يوافق عادة له فان وصله بيوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن نذر أن يصوم يوم شفاء
مريضه أبدا فوافق يوم الجمعة لم يكره لهذه الأحاديث وأما قول مالك في الموطأ لم أسمع
أحد امن أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت
بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه فهذا الذي قال هو الذي رآه وقد رأى غيره خلاف
ما رأى هو والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره وقد ثبت النهى عن صوم يوم الجمعة فيتعين
القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه قال الداودي من أصحاب مالك لم يبلغ مالكا هذا الحديث
ولو بلغه لم يخالفه قال العلماء والحكمة في النهى عنه أن يوم الجمعة يوم دعاء وذكر وعبادة من
الغسل والتكبير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة واكثار الذكر بعدها لقول الله تعالى
قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا وغير ذلك من
العبادات في يومها فاستحب الفطر فيه فيكون أعون له على هذه الوظائف وأدائها بنشاط
وانشراح لها والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة وهو نظير الحاج يوم عرفة بعرفة فان السنة
له الفطر كما سبق تقريره لهذه الحكمة فان قيل لو كان كذلك لم يزل النهى والكراهة بصوم قبله
أو بعده لبقاء المعنى فالجواب أن يحصل له لفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل
من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه فهذا هو المعتمد في الحكمة في النهى
عن افراد صوم الجمعة وقيل سببه خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت
وهذا ضعيف منتقض بصلاة الجمعة وغيرها مما هو مشهور من وظائف يوم الجمعة وتعظيمه
وقيل سبب النهى لئلا يعتقد وجوبه وهذا ضعيف منتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا
19

يلتفت إلى هذا الاحتمال البعيد وبيوم عرفة ويوم عاشوراء وغير ذلك فالصواب ما قدمنا والله
أعلم وفى هذا الحديث النهى الصريح عن تخصيص ليلة الجمعة بصلاة من بين الليالي ويومها بصوم
كما تقدم وهذا متفق على كراهيته واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى الرغائب
قاتل الله واضعها ومخترعها فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة وفيها منكرات
ظاهرة وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها ودلائل
قبحها وبطلانها وتضلل فاعلها أكثر من أن تحصر والله أعلم
بيان نسخ قول الله تعالى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
قوله (عن سلمة لما نزلت هذه الآية الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن
يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها) وفي رواية (قال كنا في رمضان على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية
شهد منكم الشهر فليصمه القاضي عياض اختلف السلف في الأولى هل هي محكمة أو
20

مخصوصة أو منسوخة كلها أو بعضها فقال الجمهور منسوخة كقول سلمة ثم اختلفوا هل بقي
منها ما لم ينسخ فروى عن ابن عمر والجمهور أن حكم الاطعام باق على من لم يطق الصوم
لكبر وقال جماعة من السلف ومالك وأبو ثور وداود جميع الإطعام منسوخ وليس على
الكبير إذا لم يطق الصوم اطعام واستحبه له مالك وقال قتادة كانت الرخصة لكبير يقدر على
الصوم ثم نسخ فيه وبقى فيمن لا يطيق وقال ابن عباس وغيره نزلت في الكبير والمريض اللذين
لا يقدران على الصوم فهي عنده محكمة لكن المريض يقضى إذا برئ وأكثر العلماء على أنه
لا اطعام على المريض وقال زيد بن أسلم والزهري ومالك هي محكمة ونزلت في المريض
يفطر ثم يبرأ ولا يقضى حتى يدخل رمضان آخر فيلزمه صومه ثم يقضى بعده ما أفطر ويطعم
عن كل يوم مد من حنطة فأما من اتصل مرضه برمضان الثاني فليس عليه اطعام بل عليه
القضاء فقط وقال الحسن البصري وغيره والضمير في يطيقونه عائد على الاطعام لا على الصوم
ثم نسخ ذلك فهي عنده عامة ثم جمهور العلماء على أن الاطعام عن كل يوم مد وقال أبو حنيفة
مدان ووافقه صاحباه وقال أشهب المالكي مد وثلث لغير أهل المدينة ثم جمهور العلماء أن
المرض المبيح للفطر هو ما يشق معه الصوم وأباحه بعضهم لكل مريض هذا آخر كلام القاضي
جواز تأخير قضاء رمضان ما لم يجئ رمضان آخر لمن أفطر بعذر
(كمرض وسفر وحيض ونحو ذلك)
قوله عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه الا في
21

شعبان الشغل من رسول الله الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله) وفي رواية (قالت إن كانت إحدانا
لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى يأتي شعبان) هكذا هو في النسخ الشغل بالألف واللام مرفوع أي يمنعني الشغل
برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعني بالشغل وبقولها في الحديث الثاني فما تقدر على أن تقضيه
أن كل واحدة منهن كانت مهيئة نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مترصدة لاستمتاعه في
جميع أوقاتها أن أراد ذلك ولا تدرى متى يريده ولم تستأذنه في الصوم مخافة أن يأذن وقد
يكون له حاجة فيها فتفوتها عليه وهذا من الأدب وقد اتفق العلماء على أن المرأة لا يحل لها
صوم التطوع وزوجها حاضر الا باذنه لحديث أبي هريرة السابق في صحيح مسلم في كتابه
الزكاة وإنما كانت تصومه في شعبان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان
فلا حاجة له فيهن حينئذ في النهار ولأنه إذا جاء شعبان يضيق قضاء رمضان فإنه لا يجوز تأخيره
عنه ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف أن قضاء رمضان في
22

حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي ولا يشترط المبادرة به في أول الامكان
لكن قالوا لا يجوز تأخيره عن شعبان الآتي لأنه يؤخره حينئذ إلى زمان لا يقبله وهو رمضان
الآتي فصار كمن أخره إلى الموت وقال داود تجب المبادرة في أول يوم بعد العيد من شوال
وحديث عائشة هذا يرد عليه قال الجمهور ويستحب المبادرة به للاحتياط فيه فان أخره فالصحيح
عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول أنه يجب العزم على فعله وكذلك القول في جميع
الواجب الموسع إنما يجوز تأخيره بشرط العزم على فعله حتى لو أخره بلا عزم عصى وقيل
لا يشتطر العزم وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد
من طعام هذا إذا كان تمكن من القضاء فلم يقض فأما من أفطر في رمضان بعذر ثم اتصل
عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات فلا صوم عليه ولا يطعم عنه ولا يصام عنه ومن أراد
قضاء صوم رمضان ندب مرتبا متواليا فلو قضاه غير مرتب أو مفرقا جاز عندنا وعند الجمهور لأن
اسم الصوم يقع على الجميع وقال جماعة من الصحابة والتابعين وأهل الظاهر يجب تتابعه كما
يجب الأداء
قضاء الصوم عن الميت
قوله صلى الله عليه وسلم (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وفي رواية ابن عباس (أن امرأة
23

أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم شهر فقال
أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء) وفي رواية
عن ابن عباس جاء رجل وذكر نحوه وفي رواية أنها قالت (ان أمي ماتت وعليها صوم نذر
أفأصوم عنها قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها قالت نعم قال
24

فصومي عن أمك) وفي حديث بريدة (قال بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أتته امرأة فقالت أني تصدقت على أمي بجارية وانها ماتت فقال وجب أجرك وردها
عليك الميراث قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها
قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها) وفي رواية صوم شهرين اختلف
العلماء فيمن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو نذر أو غيره هي يقضى عنه
وللشافعي في المسألة قولان مشهوران أشهرهما لا يصام عنه ولا يصح عن ميت صوم أصلا
والثاني يستحب لوليه أن يصوم عنه ويصح صومه عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى اطعام
عنه وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده وهو الذي صححه محققو أصحابنا الجامعون
بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وأما الحديث الوارد من مات وعليه
صيام أطعم عنه فليس بثابت ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على
25

جواز الأمرين فان من يقول بالصيام يجوز عنده الاطعام فتثبت أن الصواب المتعين تجويز
الصيام وتجويز الاطعام والولي مخير بينهما والمراد بالولي القريب سواء كان عصبة أو وارثا
أو غيرهما وقيل المراد الوارث وقيل العصبة والصحيح الأول ولو صام عنه أجنبي أن كان
بإذن الولي صح والا فلا في الأصح ولا يجب على الولي الصوم عنه لكن يستحب هذا
تلخيص مذهبنا في المسألة وممن قال به من السلف طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة
وأبو ثور وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد في صوم النذر دون رمضان وغيره وذهب
الجمهور إلى أنه لا يصام عن ميت لا نذر ولا غيره حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس
وعائشة ورواية عن الحسن والزهري وبه قال مالك وأبو حنيفة قال القاضي عياض وغيره
هو قول جمهور العلماء وتأولوا الحديث على أنه يطعم عنه وليه وهذا تأويل ضعيف بل
باطل وأي ضرورة إليه وأي مانع يمنع من العلم بظاهره مع تظاهر الأحاديث مع عدم
المعارض لها قال القاضي وأصحابنا وأجمعوا على أنه لا يصلى عنه صلاة فائتة وعلى أنه لا
يصام عن أحد في حياته وإنما الخلاف في الميت والله أعلم وأما قول ابن عباس أن السائل
رجل وفي رواية امرأة وفي رواية صوم شهر وفي رواية صوم شهرين فلا تعارض بينهما
فسأل تارة رجل وتارة امرأة وتارة عن شهر وتارة عن شهرين وفي هذه الأحاديث جواز
صوم الولي عن الميت كما ذكرنا وجواز سماع كلام المرأة الأجنبية في الاستفتاء ونحوه من
مواضع الحاجة وصحة القياس لقوله صلى الله عليه وسلم فدين الله أحق بالقضاء وفيها قضاء
26

الدين عن الميت وقد أجمعت الأمة عليه ولا فرق بين أن يقضيه عنه وارث أو غيره فيبرأ
به بلا خلاف وفيه دليل لمن يقول إذا مات وعليه دين لله تعالى ودين لآدمي وضاق ماله قدم
دين الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم فدين الله أحق بالقضاء وفي هذه المسألة ثلاثة
أقوال للشافعي أصحها تقديم دين الله تعالى لما ذكرناه والثاني تقديم دين الآدمي لأنه مبنى على
الشح والمضايقة والثالث هما سواء فيقسم بينهما وفيه أنه يستحب للمفتي أن ينبه على وجه
الدليل إذا كان مختصرا واضحا وبالسائل إليه حاجة أو يترتب عليه مصلحة لأنه
صلى الله عليه وسلم قاس على دين الآدمي تنبيها على وجه الدليل وفيه أن من تصدق بشئ ثم ورثه
لم يكره له أخذه والتصرف فيه بخلاف ما إذا أراد شراءه فإنه يكره لحديث فرس عمر رضي الله
عنه فيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي والجهور أن النيابة في الحج جائزة عن الميت والعاجز
المأيوس من برئه واعتذر القاضي عياض عن مخالفة مذهبهم لهذه الأحاديث في الصوم عن
الميت والحج عنه بأنه مضطرب وهذا عذر باطل وليس في الحديث اضطراب وإنما فيه
اختلاف جمعنا بينه كما سبق ويكفى في صحته احتجاج مسلم به في صحيحه والله أعلم قوله (من
مسلم البطين) هو بفتح الباء وكسر الطاء
ندب الصائم إذا دعى إلى طعام ولم يرد الافطار
(أو شوتم أو قوتل أن يقول إني صائم وأنه ينزه صومه عن الرفث والجهل ونحوه)
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دعى أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل أني صائم) وفي
27

رواية (إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث ولا يجهل فان امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل
إني صائم اني صائم) قوله صلى الله عليه وسلم فيما إذا دعى وهو صائم فليقل اني صائم محمول على أنه
يقول له اعتذارا له واعلاما بحاله فان سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور وان لم يسمح
وطالبه بالحضور لزمه الحضور وليس الصوم عذرا في إجابة الدعوة ولكن إذا حضر لا
يلزمه الأكل ويكون الصوم عذرا في ترك الأكل بخلاف المفطر فإنه يلزمه الأكل على
أصح الوجهين عندنا كما سيأتي واضحا إن شاء الله تعالى في بابه والفرق بين الصائم والمفطر
منصوص عليه في الحديث الصحيح كما هو معروف في موضعه وأما الأفضل للصائم فقال
أصحابنا أن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر والا فلا هذا إذا كان
صوم تطوع فإن كان صوما واجبا حرم الفطر وفي هذا الحديث أنه لا بأس باظهار نوافل
العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت إليه حاجة والمستحب اخفاؤها إذا لم تكن حاجة
وفيه الإشارة إلى حسن المعاشرة واصلاح ذات البين وتأليف القلوب وحسن الاعتذار عند
سببه وأما الحديث الثاني ففيه نهى الصائم عن الرفث وهو السخف وفاحش الكلام يقال
رفث بفتح الفاء يرفث بضمها وكسرها ورفث بكسرها يرفث بفتحها رفثا بسكون الفاء في المصدر
ورفثا بفتحها في الاسم ويقال أرفث رباعي حكاه القاضي والجهل قريب من الرفث وهو
خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل قوله صلى الله عليه وسلم (فان امرؤ شاتمه
أو قاتله) معناه شتمه متعرضا لمشاتمته ومعنى قاتله نازعه ودافعه وقوله صلى الله عليه وسلم
(فليقل إني صائم اني صائم) هكذا هو مرتين واختلفوا في معناه فقيل يقوله بلسانه جهرا يسمعه
الشاتم والمقاتل فينزجر غالبا وقيل لا يقوله بلسانه بل يحدث به نفسه ليمنعها من مشاتمته
ومقاتلته ومقابلته ويحرص صومه عن المكدرات ولو جمع بين الأمرين كان حسنا واعلم أن نهى الصائم عن
28

الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصا به بل كل أحد مثله في أصل النهى عن ذلك لكن
الصائم آكد والله أعلم فضل الصيام
قوله صلى الله عليه وسلم
(قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له الا الصيام هو لي وأنا أجزي به)
اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى فقيل سبب اضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد
أحد غير الله تعالى به فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام وان كانوا يعظمونه
بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك وقيل لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه
بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة وقيل لأنه ليس للصائم
ونفسه فيه حظ قال الخطابي قال وقيل إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى فتقرب الصائم
بما يتعلق بهذه الصفة وان كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شئ وقيل معناه أنا المنفرد بعلم مقدار
ثوابه أو تضعيف حسناته وغيره من العبادات أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها وقيل
هي إضافة تشريف كقوله تعالى ناقة الله مع أن العالم كله لله تعالى وفي هذا الحديث بيان عظم فضل
الصوم والحث إليه وقوله تعالى وأنا أجزي به بيان لعظم فضله وكثرة ثوابه لأن الكريم إذا أخبر
بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء قوله صلى الله عليه وسلم (لخلفة
فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة) وفي رواية لخلوف هو بضم الخاء فيهما
وهو تغير رائحة الفم هذا هو الصواب فيه بضم الخاء كما ذكرناه وهو الذي ذكره الخطابي وغيره من
29

أهل الغريب وهو المعروف في كتب اللغة وقال القاضي الرواية الصحيحة بضم الخاء قال وكثير
من الشيوخ يرويه بفتحها قال الخطابي وهو خطأ قال القاضي وحكى عن الفارسي فيه الفتح والضم
وقال أهل المشرق يقولونه بالوجهين والصواب الضم ويقال خلف فوه بفتح الخاء واللام يخلف
بضم اللام وأخلف يخلف إذا تغير وأما معنى الحديث فقال القاضي قال المازري هذا مجاز
واستعارة لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شئ فتستطيبه
وتنفر من شئ فتستقذره والله تعالى متقدس عن ذلك لكن جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة
منا فاستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله تعالى قال القاضي وقيل يجازيه الله تعالى به في الآخرة
فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك وقيل يحصل لصاحبه
من الثواب أكثر ممن يحصل لصاحب المسك وقيل رائحته عند ملائكة الله تعالى أطيب من
رائحة المسك عندنا وان كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه والأصح ما قاله الداوري من المغاربة
وقاله من قال من أصحابنا أن الخلوف أكثر ثوابا من المسك حيث ندب إليه في الجمع والأعياد
ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير واحتج أصحابنا بهذا الحديث على كراهة السواك
للصائم بعد الزوال لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته وإن كان السواك فيه فضل أيضا
لأن فضيلة الخلوف أعظم وقالوا كما أن دم الشهداء مشهود له بالطيب ويترك له غسل الشهيد مع
أن غسل الميت واجب فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب
فترك السواك الذي ليس هو واجبا للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الصيام جنة) هو بضم الجيم ومعناه سترة ومانع
30

من الرفث والآثام ومانع أيضا من النار ومنه المجن وهو الترس ومنه الجن لاستتارهم قوله
صلى الله عليه وسلم (فلا يرفث يومئذ ولا يسخب) هكذا هو هنا بالسين ويقال بالسين والصاد وهو الصياح
وهو بمعنى الرواية الأخرى ولا يجهل ولا يرفث قال القاضي ورواه الطبري ولا
يسخر بالراء قال ومعناه صحيح لأن السخرية تكون بالقول والفعل وكله من الجهل قلت وهذه
الرواية تصحيف وإن كان لها معنى قوله صلى الله عليه وسلم (وللصائم فرحتان يفرحهما إذا
أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه) قال العلماء أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه
من جزائه وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك وأما عند فطره فسببها تمام عبادته
31

وسلامتها من المفسدات وما يرجوه من ثوابها قوله (حدثنا خالد بن مخلد القطواني) هو
بفتح القاف والطاء قال البخاري والكلاباذي معناه البقال كأنهم نسبوه إلى بيع القطنية قال
القاضي وقال الباجي هي قرية على باب الكوفة قال وقاله أبو ذر أيضا وفي تاريخ البخاري
أن قطوان موضع قوله صلى الله عليه وسلم (ان في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه
الصائمون يوم القيامة لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل
آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد) هكذا وقع في بعض الأصول فإذا دخل آخرهم وفي بعضها
فإذا دخل أولهم قال القاضي وغيره وهو وهم والصواب آخرهم وفي هذا الحديث فضيلة
الصيام وكرامة الصائمين
32

فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق
قوله صلى الله عليه وسلم (من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)
فيه فضيلة الصيام في سبيل الله وهو محمول على من لا يتضرر به ولا يفوت به حقا ولا يختل به قتاله
ولا غيره من مهمات غزوه ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها والخريف السنة والمراد سبعين سنة
جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال
(وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر والأولى اتمامه)
فيه حديث عائشة رضي الله عنهما (قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يا عائشة هل
33

عندكم شئ قالت فقلت يا رسول الله ما عندنا شئ قال فانى صائم قالت فخرج صلى الله عليه وسلم
فأهديت لنا هدية أو جاءنا زور فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله أهديت
لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئا قال ما هو قلت حيس قال هاتيه فجئت به فاكل ثم قال
قد كنت أصبحت صائما) وفي الرواية الأخرى قالت (دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم
فقال هل عندكم شئ قلنا لا قال فأني إذا صائم ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدى لنا
حيس قال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل) الحيس بفتح الحاء المهملة هو التمر مع السمن والأقط
وقال الهروي ثريدة من أخلاط والأول هو المشهور والزور بفتح الزاي الزوار ويقع الزور على الواحد
34

والجماعة القليلة والكثيرة وقولها جاءنا زور وقد خبأت لك معناه جاءنا زائرون ومعهم هدية خبأت
لك منها أو يكون معناه جاءنا زور فأهدى لنا بسببهم هدية فخبأت لك منها وهاتان الروايتان هما
حديث واحد والثانية مفسرة للأولى ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين لا في
يوم واحد كذا قال القاضي وغيره وهو ظاهر وفيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز
بنية في النهار قبل زوال الشمس ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم هل عندكم
شئ لكونه ضعف عن الصوم وكان نواه من الليل فأراد الفطر للضعف وهذا تأويل فاسد
وتكلف بعيد وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة
يجوز قطعه والأكل في أثناء النهار ويبطل الصوم لأنه نفل فهو إلى خير الانسان في الابتداء وكذا
في الدوام وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون ولكنهم كلهم والشافعي
معهم متفقون على استحباب اتمامه وقال أبو حنيفة ومالك لا يجوز قطعة ويأثم بذلك وبه قال
الحسن البصري ومكحول والنخعي وأوجبوا قضاءه على من أفطر بلا عذر قال بن عبد البر وأجمعوا
على أن لا قضاء على من أفطره بعذر والله أعلم
أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر
قوله صلى الله عليه وسلم (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله
وسقاه) فيه دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا لا يفطر
وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون وقال ربيعة ومالك يفسد صومه وعليه القضاء
دون الكفارة وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون الأكل وقال أحمد
يجب في الجماع القضاء والكفارة ولا شئ في الأكل
35

صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان
(واستحباب أن لا يخلى شهرا من صوم)
فيه حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما صام شهرا كله الا رمضان ولا أفطره كله
حتى يصيب منه) وفي رواية يصوم منه وفي رواية كان يصوم حتى نقول قد صام قد صام ويفطر
36

حتى نقول قد أفطر قد أفطر وفي رواية يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم
وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان وفي رواية كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان
الا قليلا في هذه الأحاديث أنه يستحب أن لا يخلى شهرا من صيام وفيها أن صوم النفل غير
مختص بزمان معين بل كل السنة صالحة له الا رمضان والعيد والتشريق وقولها كان يصوم شعبان كله كان
يصومه الا قليلا الثاني تفسير للأول وبيان أن قولها كله أي غالبه وقيل كان يصومه كله
في وقت ويصوم بعضه في سنة أخرى وقيل كان يصوم تارة من أوله وتارة من آخره وتارة بينهما وما يخلى منه شيئا بلا
صيام لكن في سنين وقيل في تخصيص شعبان بكثرة الصوم لكونه ترفع فيه أعمال العباد
وقيل غير ذلك فان قيل سيأتي قريبا في الحديث الآخر ان أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم
فكيف أكثر منه في شعبان دون المحرم فالجواب لعله لم يعلم فضل المحرم الا في آخر الحياة
قبل التمكن من صومه أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من اكثار الصوم فيه كسفر ومرض
وغيرهما قال العلماء وإنما لم يستكمل غير رمضان لئلا يظن وجوبه وقوله صلى الله عليه وسلم
37

(خذوا من الأعمال ما تطيقون) إلى آخر هذا الحديث تقدم شرحه وبيانه واضحا في كتاب
الصلاة قبيل كتاب القراءة وأحاديث القرآن (سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب
فقال سمعت ابن عباس يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر
ويفطر حتى نقول لا يصوم) الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال أنه لا نهى عنه ولا ندب
38

فيه لعينه بل له حكم باقي الشهور ولم يثبت في صوم رجب نهى ولا ندب لعينه ولكن أصل
الصوم مندوب إليه وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من
الأشهر الحرم ورجب أحدها والله أعلم
النهى عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوت به حقا
(أولم يفطر العيدين والتشريق وبيان تفضيل صوم يوم وافطار يوم)
فيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وقد جمع مسلم رحمه الله طرقه فأتقنها
وحاصل الحديث بيان رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وارشادهم إلى
مصالحهم وحثهم على ما يطيقون الدوام عليه ونهيهم عن التعمق والاكثار من العبادات التي
يخاف عليهم الملل بسببها أو تركها أو ترك بعضها وقد بين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم عليكم
39

من الأعمال ما تطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا وبقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب لا تكن
مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وفي الحديث الآخر أحب العمل إليه ما داوم صاحبه
عليه وقد ذم الله تعالى قوما أكثروا العبادة ثم فرطوا فيها فقال تعالى ورهبانية ابتدعوها
ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها وفي هذه الروايات المذكورة
في الباب النهى عن صيام الدهر واختلف العلماء فيه فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر
نظرا لظواهر هذه الأحاديث قال القاضي وغيره وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم
الأيام المنهى عنها وهي العيدان والتشريق ومذهب الشافعي وأصحابه أن سر الصيام إذا أفطر العيدين
والتشريق لا كراهة في بل هو مستحب بشرط أن لا يلحقه به ضرر ولا يفوت حقا فان تضرر
أو فوت حقا فمكروه واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو وقد رواه البخاري ومسلم أنه قال
يا رسول الله اني أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال إن شئت فصم ولفظ رواية مسلم فأقره
صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام ولو كان مكروها لم يقره لا سيما في السفر وقد ثبت عن ابن
عمر بن الخطاب أنه كان يسرد الصيام وكذلك أبو طلحة وعائشة وخلائق من السلف قد ذكرت
منهم جماعة في شرح المهذب في باب صوم التطوع وأجابوا عن حديث لا صام من صام
الأبد بأجوبة أحدها أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق وبهذا أجابت
عائشة رضي الله عنها والثاني أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقا ويؤيده أن النهى كان
خطابا لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم
يقبل الرخصة قالوا فنهى ابن عمر وكان لعلمه بأنه سيعجز وأقر حمزة ابن عمرو لعلمه بقدرته
بلا ضرر والثالث أن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره فيكون خبرا لا دعاء
قوله صلى الله عليه وسلم (فإنك لا تستطيع ذلك) فيه إشارة إلى ما قدمناه أنه صلى الله عليه وسلم
40

علم من حال عبد الله بن عمرو أنه لا يستطيع الدوام عليه بخلاف حمزة بن عمرو وأما نهيه
صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل كله فهو على اطلاقه وغير مختص به بل قال أصحابنا يكره صلاة
كل الليل دائما لكل أحد وفرقوا بينه وبين صوم الدهر في حق من لا يتضرر به ولا يفوت
حقا بأن في صلاة الليل كله لا بد فيه من الاضرار بنفسه وتفويت بعض الحقوق لأنه ان لم يتم
بالنهار فهو ضرر ظاهر وان نام نوما ينجبر به سهره فوت بعض الحقوق بخلاف من يصلى بعض الليل
فإنه يستغنى بنوم باقيه وان نام معه شيئا في النهار كان يسيرا لا يفوت به حق وكذا من قام ليلة
كاملة كليلة العيد أو غيرها لا دائما لا كراهة فيه لعدم الضرر والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
في صوم يوم وفطر يوم (لا أفضل من ذلك) اختلف العلماء فيه فقال المتولي من أصحابنا
وغيره من العلماء هو أفضل من السرد لظاهر هذا الحديث وفي كلام غيره إشارة إلى تفضيل السرد
وتخصيص هذا الحديث بعبد الله بن عمرو ومن في معناه وتقديره لا أفضل من هذا في حقك
ويؤيد هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد وأرشده إلى يوم ويوم ولو
41

كان أفضل في حق كل الناس لأرشده إليه وبينه له فان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فان بحسبك أن تصوم) معناه يكفيك أن تصوم قوله صلى الله عليه وسلم
(ولزورك عليك حقا) أي زائرك وقد سبق شرحه قريبا قوله صلى الله عليه وسلم
(واقرأ القرآن في كل شهر ثم قال في كل عشرين ثم قال في كل سبع ولا تزد) هذا من نحو
ما سبق من الارشاد إلى الاقتصاد في العبادة والارشاد إلى تدبر القرآن وقد كانت للسلف عادات مختلفة
فيما يقرءون كل يوم بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر
وبعضهم في عشرين يوما وبعضهم في عشرة أيام وبعضهم أو أكثرهم في سبعة وكثير منهم في ثلاثة وكثير
في كل يوم وليلة وبعضهم في كل ليلة وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات وبعضهم ثمان ختمات وهو
42

أكثر ما بلغنا وقد أوضحت هذا كله مضافا إلى فاعليه وناقليه في كتاب آداب القراء مع جمل من
نفائس تتعلق بذلك والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه ولا يعتاد الا ما يغلب على ظنه
الدوام عليه في حال نشاطه وغيره هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل باكثار
القرآن عنها فان كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يمكنه
المحافظة عليها مع نشاطه وغيره من غير اخلال بشئ من كمال تلك الوظيفة وعلى هذا يحمل
ما جاء عن السلف والله أعلم
قوله (وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
معناه أنه كبر وعجز عن المحافظة على ما التزمه ووظفه على نفسه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فشق عليه فعله ولا يمكنه تركه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الله لا تكن مثل
فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وفي هذا الحديث وكلام ابن عمرو أنه ينبغي الدوام
على ما صار عادة من الخير ولا يفرط فيه قوله صلى الله عليه وسلم (وان لولدك عليك حقا) فيه
43

أن على الأب تأديب ولده وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدين وهذا التعليم واجب
على الأب وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبي والصبية نص عليه الشافعي وأصحابه قال الشافعي
وأصحابه وعلى الأمهات أيضا هذا التعليم إذا لم يكن أب لأنه من باب التربية ولهن مدخل
في ذلك وأجرة هذا التعليم في مال الصبي فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته لأنه مما يحتاج
إليه والله أعلم
44

قوله صلى الله عليه وسلم في وصف داود صلى الله عليه وسلم (كان يصوم يوما
ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى قال من لي بهذه يا نبي الله) معناه هذه الخصلة الأخيرة وهي
عدم الفرار صعبة على كيف لي بتحصيلها قوله صلى الله عليه وسلم (لا صام من صام الأبد لا صام من صام
الأبد) سبق شرحه في هذا الباب وهكذا هو في النسخ مكرر
مرتين وفي بعضها ثلاث مرات قوله صلى الله عليه وسلم (هجمت له العين ونهكت) معنى
هجمت غارت ونهكت بفتح النون وبفتح الهاء وكسرها والتاء ساكنة نهكت العين أي
ضعفت وضبطه بعضهم نهكت بضم النون وكسر الهاء وفتح التاء أي نهكت أنت أي ضنيت
وهذا ظاهر كلام القاضي
45

قوله (ونفهت النفس) بفتح النون وكسر الفاء أي أعيت قوله (حدثنا سفيان
ابن عيينة عن عمرو عن عمرو بن أوس) عمرو الأول هو بن دينار كما بينه في الرواية الثانية
46

قوله (فألقيت له وسادة) فيه اكرام الضيف والكبار وأهل الفضل قوله (فجلس على الأرض
وصارت الوسادة بيني وبينه) فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع ومجانبة
47

الاستئثار على صاحبه وجليسه قوله (حدثنا سليم بن حيان) بفتح السين وكسر اللام وقد
سبق في مقدمة الكتاب أنه ليس في الصحيح سليم بفتح السين غيره قوله (سعيد بن ميناء)
هو بالمد والقصر والقصر أشهر
باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر
(وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس)
فيه حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ولم يكن يبالي
48

من أي أيام الشهر يصوم) وحديث عمران بن حصين (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أو قال
لرجل وهو يسمع يا فلان أصمت من سرة هذا الشهر قال لا قال فإذا أفطرت فصم يومين) هكذا
هو في جميع النسخ من سرة هذا الشهر بالهاء بعد الراء وذكر مسلم بعده حديث أبي قتادة ثم
حديث عمران أيضا في سرر شعبان وهذا تصريح من مسلم بأن رواية عمران الأولى بالهاء
والثانية بالراء ولهذا فرق بينهما وأدخل الأولى مع حديث عائشة كالتفسير له فكأنه يقول
يستحب أن تكون الأيام الثلاثة من سرة الشهر وهي وسطه وهذا متفق على استحبابه وهو
استحباب كون الثلاثة هي أيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وقد جاء
فيها حديث في كتاب الترمذي وغيره وقيل هي الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر قال
العلماء ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعينها ونبه بسرة
الشهر وبحديث الترمذي في أيام البيض على فضيلتها قوله (عن عبد الله بن معبد الزماني)
هو بزاي مكسورة ثم ميم مشددة قوله (عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة
رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تصوم) هكذا هو في معظم النسخ
عن أبي قتادة رجل أتى وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الشأن
والأمر رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال وقد أصلح في بعض النسخ أن رجلا أتى
وكان موجب هذا الاصلاح جهالة انتظام الأول وهو منتظم كما ذكرته فلا يجوز تغييره
والله أعلم قوله (رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف تصوم فغضب رسول الله
49

صلى الله عليه وسلم قال العلماء سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته لأنه يحتاج
إلى أن يجيبه ويخشى من جوابه مفسدة وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه أو استقله أو اقتصر
عليه وكان يقتضى حاله أكثر منه وإنما اقتصر عليه النبي صلى الله عليه وسلم لشغله بمصالح
المسلمين وحقوقهم وحقوق أزواجه وأضيافه والوافدين إليه لئلا يقتدى به كل أحد فيؤدى
إلى الضرر في حق بعضهم وكان حق السائل أن يقول كم أصوم أو كيف أصوم فيخص السؤال بنفسه
ليجيبه بما تقتضيه حاله كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم والله أعلم قوله (كيف من يصوم
يوما ويفطر يومين قال وددت انى طوقت ذاك) قال القاضي قيل معناه وددت أن أمتي تطوقه
لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه وأكثر منه وكان يواصل ويقول انى لست كأحدكم انى أبيت
عند ربى يطعمني ويسقيني قلت ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية
ليت ان الله قوانا لذلك أو يقال إنما قاله لحقوق نسائه وغيرهن من المسلمين المتعلقين به
والقاصدين إليه قوله صلى الله عليه وسلم (صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة
50

التي قبله والسنة التي بعده) معناه يكفر ذنوب صائمه في السنتين قالوا والمراد بها الصغائر وسبق
بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء وذكرنا هناك أنه ان لم تكن صغائر يرجى التخفيف من
الكبائر فإن لم يكن رفعت درجات قوله صلى الله عليه وسلم في صيام الدهر (لا صام ولا أفطر)
قد سبق بيانه قوله في هذا الحديث من رواية شعبة (قال وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس
فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهما) ضبطوه نراه بفتح النون وضمها وهما صحيحان قال القاضي
51

عياض رحمه الله إنما تركه وسكت عنه لقوله فيه ولدت وفيه بعثت أو أنزل على وهذا إنما هو
في يوم الاثنين كما جاء في الروايات الباقيات يوم الاثنين دون ذكر الخميس فلما كان في رواية
شعبة ذكر الخميس تركه مسلم لأنه رآه وهما قال القاضي ويحتمل صحة رواية شعبة ويرجع الوصف
بالولادة والانزال إلى الاثنين دون الخميس وهذا الذي قاله القاضي متعين والله أعلم قال القاضي
واختلفوا في تعيين هذه الأيام الثلاثة المستحبة من كل شهر ففسره جماعة من الصحابة والتابعين
بأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر منهم عمر بن الخطاب وابن مسعود
وأبو ذر وبه قال أصحاب الشافعي واختار النخعي وآخرون آخر الشهر واختار آخرون ثلاثة من
أوله منهم الحسن واختارت عائشة وآخرون صيام السبت والأحد والاثنين من شهر ثم الثلاثاء
والأربعاء والخميس من الشهر الذي بعده واختار آخرون الاثنين والخميس وفي حديث رفعه ابن
عمر أول اثنين في الشهر وخميسان بعده وعن أم سلمة أول خميس والاثنين بعده ثم الاثنين وقيل
أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين وقيل إنه صيام مالك بن أنس وروى عنه كراهة صوم
أيام البيض وقال ابن شعبان المالكي أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي وعشرون والله أعلم
52

باب صوم شهر شعبان فيه
(عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أو لآخر أصمت من سرر شعبان
قال قال فإذا أفطرت فصم يومين) وفي رواية فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه ضبطوا سرر
بفتح السين وكسرها وحكى القاضي ضمها قال وهو جمع سرة ويقال أيضا سرار وسرار بفتح
السين وكسرها وكله من الاستسرار قال الأوزاعي وأبو عبيد وجمهور العلماء من أهل اللغة
والحديث والغريب المراد بالسرر آخر الشهر سميت بذلك لاستسرار القمر فيها قال القاضي قال
أبو عبيد أو أهل اللغة السرر آخر الشهر قال وأنكر بعضهم هذا وقال المراد وسط الشهر قال وسرار
كل شئ وسطه قال هذا القائل لم يأت في صيام آخر الشهر ندب فلا يحمل الحديث عليه بخلاف
وسطه فإنها أيام البيض وروى أبو داود عن الأوزاعي سرره أوله ونقل الخطابي عن الأوزاعي
سرره آخره قال البيهقي في السنن الكبير بعد أن روى الروايتين عن الأوزاعي الصحيح آخره
ولم يعرف الأزهري أن سرره أوله قال الهروي والذي يعرفه الناس أن سرره آخره ويعضد
من فسره بوسطه الرواية السابقة في الباب قبله سرة هذا الشهر وسرارة الوادي وسطه وخياره
53

وقال ابن السكيت سرار الأرض أكرمها ووسطها وسرار كل شئ وسطه وأفضله فقد يكون سرار
الشهر من هذا قال القاضي والأشهر أن المراد آخر الشهر كما قاله أبو عبيد والأكثرون وعلى هذا
يقال هذا الحديث مخالف للأحاديث الصحيحة في النهى عن تقديم رمضان بصوم يوم ويومين
ويجاب عنه بما أجاب المازري وغيره وهو أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره
فتركه بخوفه من الدخول في النهى عن تقدم رمضان فبين له النبي صلى الله عليه وسلم ان الصوم
المعتاد لا يدخل في النهى وإنما ننهى عن غير المعتاد والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم في رواية
محمد بن مثنى (إذا أفطرت رمضان) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح أي أفطرت من رمضان
كما في الرواية التي قبلها وحذف لفظة من في هذه الرواية وهي مراده كقوله تعالى موسى
قومه أي من قومه والله أعلم
باب فضل صوم المحرم
قوله (عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة) اعلم أن أبا هريرة يروى عنه اثنان
كل واحد منهما حميد بن عبد الرحمن أحدهما هذا الحميري والثاني حميد بن عبد الرحمن بن عوف
54

الزهري قال الحميدي في الجمع بين الصحيحين كل ما في البخاري ومسلم حميد بن عبد الرحمن عن أبي
هريرة فهو الزهري الا في هذا الحديث خاصة حديث أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر
الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل فان راوية حميد بن عبد الرحمن الحميري
عن أبي هريرة وهذا الحديث لم يذكره البخاري في صحيحه ولا ذكر للحميري في البخاري
أصلا ولا في مسلم الا في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (أفضل الصيام بعد رمضان
شهر الله المحرم) تصريح بأن أفضل الشهور للصوم وقد سبق الجواب عن اكثار النبي
صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان دون المحرم وذكرنا فيه جوابين أحدهما لعله إنما علم فضله في
آخر حياته والثاني لعله كان يعرض فيه أعذار من سفر أو مرض أو غيرهما قوله
صلى الله عليه وسلم (وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل) فيه دليل لما اتفق العلماء عليه أن
تطوع الليل أفضل من تطوع النهار وفيه حجة لأبي إسحاق المروزي من أصحابنا ومن وافقه
أن صلاة الليل أفضل من السنن الراتبة وقال أكثر أصحابنا الرواتب أفضل لأنها تشبه الفرائض
والأول أقوى وأوفق للحديث والله أعلم
55

باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان
قوله صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر) فيه دلالة
صريحة لمذهب الشافعي وأحمد وداود وموافقيهم في استحباب صوم هذه الستة وقال مالك
وأبو حنيفة يكره ذلك قال مالك في الموطأ ما رأيت أحدا من أهل العلم يصومها قالوا فيكره لئلا
يظن وجوبه ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح وإذا ثبتت السنة لا تترك
لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم عرفة وعاشوراء
وغيرهما من الصوم المندوب قال أصحابنا والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر فان
فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة لأنه يصدق أنه أتبعه ستا
من شوال قال العلماء وإنما كان ذلك كصيام الدهر لان الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بعشرة
أشهر والستة بشهرين وقد جاء هذا في حديث مرفوع في كتاب النسائي وقوله صلى الله عليه وسلم
(ستا من شوال) صحيح ولو قال ستة بالهاء جاز أيضا قال أهل اللغة يقال صمنا خمسا وستا
56

وخمسة وستة وإنما يلتزمون الهاء في المذكر إذا ذكروه بلفظه صريحا فيقولون صمنا ستة أيام ولا
يجوز ست أيام فإذا حذفوا الأيام جاز الوجهان ومما جاء حذف الهاء فيه من المذكر إذا لم يذكر
بلفظه قوله تعالى بأنفسهن أربعة اشهر وعشرا أي عشرة أيام وقد بسطت ايضاح هذه
المسألة في تهذيب الأسماء واللغات وفي شرح المهذب والله أعلم
باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وارجاء أوقات طلبها
قال العلماء وسميت ليلة القدر لما يكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون
في تلك السنة كقوله تعالى يفرق كل أمر حكيم وقوله تعالى الملائكة والروح فيها باذن
ربهم من كل أمر ومهناه يظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم وكل
ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها وأجمع من
يعتد به على وجودها ودوامها إلى آخر الدهر للأحاديث الصحيحة المشهورة قال القاضي واختلفوا
في محلها فقال جماعة هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في ليلة أخرى وهكذا وبهذا
يجمع بين الأحاديث ويقال كل حديث جاء بأحد أوقاتها ولا تعارض فيها قال ونحو هذا قول
مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبى ثور وغيرهم قالوا وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان
وقيل بل في كله وقيل إنها معينة فلا تنتقل أبدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها وعلى
هذا قيل في السنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وصاحبيه وقيل بل في شهر رمضان
كله وهو قول ابن عمر وجماعة من الصحابة وقيل بل في العشر الوسط والأواخر وقيل
في العشر الأواخر وقيل تختص بأوتار العشر وقيل بأشفاعها كما في حديث أبي سعيد وقيل بل
في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو قول ابن عباس وقيل تطلب في ليلة سبع عشرة
57

أو احدى وعشرين أو ثلاث وعشرين وحكى عن علي وابن مسعود وقيل ليلة ثلاث وعشرين
وهو قول كثيرين من الصحابة وغيرهم وقيل ليلة أربع وعشرين وهو محكى عن بلال وابن عباس
والحسن وقتادة وقيل ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة وقيل سبع عشرة
وهو محكى عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وقيل تسع عشرة وحكى عن ابن مسعود أيضا وحكى عن علي
أيضا وقيل آخر ليلة من الشهر قال القاضي وشذ قوم فقالوا رفعت لقوله
صلى الله عليه وسلم حين تلاحا الرجلان فرفعت وهذا غلط من هؤلاء الشاذين لأن آخر الحديث
يرد عليهم فإنه صلى الله عليه وسلم قال فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في السبع
والتسع هكذا هو في أول صحيح البخاري وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفع بيان علم عينها ولو
كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها قوله صلى الله عليه وسلم (أرى رؤياكم قد تواطت)
أي توافقت وهكذا هو في النسخ بطاء ثم تاء وهو مهموز وكان ينبغي أن يكتب بألف
بين الطاء والتاء صورة للهمزة ولا بد من قراءته مهموزا قال الله تعالى عدة
ما حرم الله قوله صلى الله عليه وسلم (تحروا ليلة القدر) أي احرصوا على طلبها
واجتهدوا فيه
58

قوله صلى الله عليه وسلم (فالتمسوها في العشر الغوابر) يعنى البواقي وهي الأواخر قوله
صلى الله عليه وسلم (فلا يغلبن على السبع البواقي) وفي بعض النسخ عن السبع بدل على
وكلاهما صحيح قوله صلى الله عليه وسلم (تحينوا ليلة القدر) أي اطلبوا حينها
وهو زمانها
59

قوله صلى الله عليه وسلم (أيقظني بعض أهلي فنسيتها وقال حرملة فنسيتها) الأول
بضم النون وتشديد السين والثاني بفتح النون وتخفيف السين قوله صلى الله عليه وسلم (فمن
كان اعتكف معي فليبت في معتكفه) هكذا هو في أكثر النسخ فليبت من المبيت وفي
بعضها فليثبت من الثبوت وفي بعضها فليلبث من اللبث وكله صحيح وقوله في الرواية الثانية
غير أنه قال فليثبت هو في أكثر النسخ بالثاء المثلثة من الثبوت وفي بعضها فليبت من
المبيت ومعتكفه بفتح الكاف وهو موضع الاعتكاف قوله (فوكف المسجد) أي قطر
ماء المطر من سقفه قوله (فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه مبتل طينا
60

وماء) قال البخاري وكان الحميدي يحتج بهذا الحديث على أن السنة للمصلى أن لا يمسح
جبهته في الصلاة وكذا قال العلماء يستحب أن لا يمسحها في الصلاة وهذا محمول على أنه
كان شيئا يسيرا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة للأرض فإنه لو كان كثيرا بحيث يمنع ذلك لم
يصح سجوده بعده عند الشافعي وموافقيه في منع السجود على حائل متصل به قوله في
الرواية الثانية (وجبينه ممتلئا طينا وماء) لا يخالف ما تأولناه لأن الجبين غير الجبهة فالجبين
في جانب الجبهة وللانسان جبينان يكتنفان الجبهة ولا يلزم من امتلاء الجبين امتلاء الجبهة
والله أعلم وقوله (ممتلئا) كذا هو في معظم النسخ ممتلئا بالنصب وفي بعضها ممتلئ ويقدر
للمنصوب فعل محذوف أي وجبينه رأيته ممتلئا قوله في حديث محمد بن عبد الأعلى
(ثم اعتكفت العشر الأوسط) هكذا هو في جميع النسخ والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما قال
في أكثر الأحاديث العشر الأواخر وتذكيره أيضا لغة صحيحة باعتبار الأيام أو باعتبار الوقت
61

والزمان ويكفى في صحتها استعمالها في هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم قوله (قبة تركية)
أي قبة صغيرة من لبود قوله (وروثة أنفه) هي بالثاء المثلثة وهي طرفه ويقال لها أيضا أرنبة
الأنف كما جاء في الرواية الأخرى قوله (وما نرى في السماء قزعة) أي قطعة سحاب قوله
62

(أمر بالبناء فقوض) هو بقاف مضمومة وواو مكسورة مشددة وضاد معجمة ومعناه أزيل
يقال قاض البناء وانقاض أي انهدم وقوضته أنا قوله صلى الله عليه وسلم (رجلان يحتقان)
هو بالقاف ومعناه يطلب كل واحد منهما حقه ويدعى أنه المحق وفيه أن المخاصمة والمنازعة
مذمومة وأنها سبب للعقوبة المعنوية قوله (فإذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرون فهي
التاسعة) هكذا هو في أكثر النسخ ثنتين وعشرين بالياء وفي بعضها ثنتان وعشرون بالألف
63

والواو والأول أصوب وهو منصوب بفعل محذوف تقديره أعنى ثنتين وعشرين قوله (وكان
عبد الله بن أنيس يقول ثلاث وعشرين) هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها ثلاث وعشرون
وهذا ظاهر والأول جار على لغة شاذة أنه يجوز حذف المضاف ويبقى المضاف إليه مجرورا أي
ليلة ثلاث وعشرين قوله (أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها) هكذا هو في جميع النسخ أنها تطلع
64

من غير ذكر الشمس وحذفت للعلم بها فعاد الضمير إلى معلوم كقوله تعالى بالحجاب
ونظائره والشعاع بضم الشين قال أهل اللغة هو ما يرى من ضوئها عند بروزها مثل الحبال
والقضبان مقبلة إليك إذا نظرت إليها قال صاحب المحكم بعد أن ذكر هذا المشهور وقيل هو
الذي تراه ممتدا بعد الطلوع قال وقيل هو انتشار ضوئها وجمعه أشعة وشعع بضم الشين والعين
وأشعت الشمس نشرت شعاعها قال القاضي عياض قيل معنى لا شعاع لها أنها علامة جعلها
الله تعالى لها قال وقيل بل لكثرة اختلاف الملائكة في ليلتها ونزولها إلى الأرض وصعودها
بما تنزل به سترت بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوء الشمس وشعاعها والله أعلم قوله (تذاكرنا
65

ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق
جفنة) بكسر الشين وهو النصف والجفنة بفتح الجيم معروفة قال القاضي فيه إشارة إلى أنها إنما
تكون في أواخر الشهر لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه الا في أواخر الشهر والله أعلم
واعلم أن ليلة القدر موجودة كما سبق بيانه في أول الباب فإنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى
من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث السابقة في الباب واخبار الصالحين
بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر
وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن
رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به والله أعلم
الاعتكاف
هو في اللغة الحبس والمكث واللزوم وفي الشرع المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة
مخصوصة ويسمى الاعتكاف جوارا ومنه الأحاديث الصحيحة منها حديث عائشة في أوائل الاعتكاف
من صحيح البخاري قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغى إلى رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا
66

حائض وذكر مسلم الأحاديث في اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان والعشر
الأول من شوال ففيها استحباب الاعتكاف وتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان وقد أجمع
المسلمون على استحبابه وانه ليس بواجب وعلى أنه متأكد في العشر الأواخر من رمضان ومذهب
الشافعي وأصحابه وموافقيهم أن الصوم ليس بشرط لصحة الاعتكاف بل يصح اعتكاف الفطر
ويصح اعتكاف ساعة واحدة ولحظة واحدة وضابطه عند أصحابنا مكث يزيد على طمأنينة
الركوع أدنى زيادة هذا هو الصحيح وفيه خلاف شاذ في المذهب ولنا وجه أنه يصح اعتكاف
المار في المسجد من غير لبث والمشهور الأول فينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة
أو لشغل آخر من آخرة أو دنيا أن ينوى الاعتكاف فيحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد
فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى وليس للاعتكاف ذكر مخصوص ولا فعل آخر سوى اللبث
في المسجد بنية الاعتكاف ولو تكلم بكلام دنيا أو عمل صنعة من خياطة أو غيرها لم يبطل اعتكافه
وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون يشترط في الاعتكاف الصوم فلا يصح اعتكاف مفطر
واحتجوا بهذه الأحاديث واحتج الشافعي باعتكافه صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال
رواه البخاري ومسلم وبحديث عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله انى نذرت أن اعتكفت ليلة
67

في الجاهلية فقال أوف بنذرك ورواه البخاري ومسلم والليل ليس محلا للصوم فدل على أنه ليس
بشرط لصحة الاعتكاف وفي هذه الأحاديث أن الاعتكاف لا يصح الا في المسجد لأن النبي
صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه إنما اعتكفوا في المسجد مع المشقة في ملازمته فلو جاز
في البيت لفعلوه ولو مرة لا سيما النساء لأن حاجتهن إليه في البيوت أكثر وهذا الذي ذكرناه
من اختصاصه بالمسجد وأنه لا يصح في غيره هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وداود والجمهور
سواء الرجل والمرأة وقال أبو حنيفة يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وهو الموضع المهيأ من
بيتها لصلاتها قال ولا يجوز للرجل في مسجد بيته وكمذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف
عند أصحابه وجوزه بعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعية للمرأة والرجل في مسجد
بيتهما ثم اختلف الجمهور المشترطون المسجد العام فقال الشافعي ومالك وجمهورهم يصح
الاعتكاف في كل مسجد وقال أحمد يختص بمسجد تقام الجماعة الراتبة فيه وقال أبو حنيفة
يختص بمسجد تصلى فيه الصلوات كلها وقال الزهري وآخرون يختص بالجامع الذي تقام فيه
الجمعة ونقلوا عن حذيفة بن اليمان الصحابي اختصاصه بالمساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد
المدينة والأقصى وأجمعوا على أنه لاحد لأكثر الاعتكاف والله أعلم قوله (إذا أراد أن
يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) احتج به من يقول يبدأ بالاعتكاف من أول النهار
وبه قال الأوزاعي والثوري والليث في أحد قوليه وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد
يدخل فيه قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر وأولوا الحديث على
68

أنه دخل المعتكف وانقطع فيه وتخلى بنفسه بعد صلاته الصبح لا أن ذلك وقت ابتداء
الاعتكاف بل كان من قبل المغرب معتكفا لابثا في جملة المسجد فلما صلى الصبح انفرد
قوله (وأنه أمر بخبائه فضرب) قالوا فيه دليل على جواز اتخاذ المعتكف لنفسه موضعا من
المسجد ينفرد فيه مدة اعتكافه ما لم يضيق على الناس وإذا اتخذه يكون في آخر المسجد ورحابه
لئلا يضيق على غيره وليكون أخلى له وأكمل في انفراده قوله (نظر فإذا الأخبية فقال
البر يردن فأمر بخبائه فقوض) قوض بالقاف المضمومة والضاد المعجمة أي أزيل وقوله البر
أي الطاعة قال القاضي قال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام انكار لفعلهن وقد كان صلى الله
عليه وسلم أذن لبعضهن في ذلك كما رواه البخاري قال وسبب انكاره أنه خاف أن يكن غير
مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن فكره ملازمتهن
المسجد مع أنه يجمع الناس ويحضره الاعراب والمنافقون وهن محتاجات إلى الخروج والدخول
لما يعرض لهن فيبتذلن بذلك أو لأنه صلى الله عليه وسلم رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد
فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف وهو التخلي عن
الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك أو لأنهن ضيقن المسجد بأبنيتهن وفي هذا الحديث دليل
69

لصحة اعتكاف النساء لأنه صلى الله عليه وسلم كان أذن لهن وإنما منعهن بعد ذلك لعارض
وفيه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف بغير اذنه وبه قال العلماء كافة فلو أذن لها فهل له
منها بعد ذلك فيه خلاف للعلماء فعند الشافعي وأحمد وداود له منع زوجته ومملوكه واخراجهما
من اعتكاف التطوع ومنعهما مالك وجوز أبو حنيفة اخراج المملوك دون الزوجة
باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان
قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره) اختلف العلماء
70

في معنى شد المئزر فقيل هو الاجتهاد في العبادات زيادة على عادته صلى الله عليه وسلم في غيره ومعناه
التشمير في العبادات يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وتفرغت وقيل هو كناية عن اعتزال
النساء للاشتغال بالعبادات وقولها أحيا الليل أي استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها وقولها وأيقظ
أهله أي أيقظهم للصلاة في الليل وجد في العبادة زيادة على العادة ففي هذا الحديث أنه يستحب
أن يزاد من العبادات في العشر الأواخر من رمضان واستحباب احياء لياليه بالعبادات وأما
قول أصحابنا يكره قيام الليل كله فمعناه الدوام عليه ولم يقولوا بكراهة ليلة وليلتين والعشر
ولهذا اتفقوا على استحباب احياء ليلتي العيدين وغير ذلك والمئزر بكسر الميم مهموز وهو
الإزار والله أعلم
باب صوم عشر ذي الحجة
فيه قول عائشة (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط) وفي رواية لم يصم
العشر قال العلماء هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة
من أول ذي الحجة قالوا وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة
استحبابا شديدا لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة وقد سبقت الأحاديث في فضله وثبت في
صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل
منه في هذه يعنى العشر الأوائل من ذي الحجة فيتأول قولها لم يصم العشر أنه لم يصمه
71

لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه
في نفس الأمر ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خال عن امرأته عن بعض أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم
عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر الاثنين من الشهر والخميس ورواه أبو داود وهذا لفظه
وأحمد والنسائي وفي روايتهما وخميسين والله أعلم قوله في الاسناد الأخير (وحدثني أبو بكر
ابن نافع العبدي حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش) وهو سفيان الثوري وفي بعضها
شعبة بدل سفيان وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الفارسي ونقل الأول عن جمهور الرواة
لصحيح مسلم والله أعلم
الحج
الحج بفتح الحاء هو المصدر وبالفتح والكسر جميعا هو الاسم منه وأصله القصد ويطلق على
العمل أيضا وعلى الاتيان مرة بعد أخرى وأصل العمرة الزيارة واعلم أن الحج فرض عين على
كل مكلف حر مسلم مستطيع واختلف العلماء في وجوب العمرة فقيل واجبة وقيل مستحبة
وللشافعي قولان أصحهما وجوبها وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الانسان
الا مرة واحدة الا أن ينذر فيجب الوفاء بالنذر بشرطه والا إذا دخل مكة أو حرمها لحاجة
لا تتكرر من تجارة أو زيارة ونحوهما ففي وجوب الاحرام بحج أو عمرة خلاف العلماء وهما
قولان للشافعي أصحهما استحبابه والثاني وجوبه بشرط أن لا يدخل لقتال ولا خائفا من ظهوره
وبروزه واختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو التراخي فقال الشافعي وأبو يوسف
72

وطائفة هو على التراخي الا أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها وقال أبو حنيفة ومالك
وآخرون هو على الفور والله أعلم
باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة لبسه ومالا يباح
(وبيان تحريم الطيب عليه)
قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما يلبس المحرم (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات
ولا البرانس ولا الخفاف الا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين
ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) قال العلماء هذا من بديع الكلام وجزله
فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبسه المحرم فقال لا يلبس كذا وكذا فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات
ويلبس ما سوى ذلك وكان التصريح بما لا يلبس أولى لأنه منحصر
واما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر فضبط الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم لا يلبس كذا
وكذا يعنى ويلبس ما سواه وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم لبس شئ من هذه المذكورات
وأنه نبه بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما وهو ما كان محيطا أو مخيطا معمولا على
73

قدر البدن أو قدر عضو كالجوشن والتبان والقفاز وغيرها ونبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم
والبرانس على كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره حتى العصابة فإنها حرام فان احتاج إليها
لشجة أو صداع أو غيرهما شدها ولزمته الفدية ونبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف على كل ساتر
للرجل من مداس وجمجم وجورب وغيرهما وهذا كله حكم الرجال وأما المرأة فيباح لها ستر
جميع بدنها بكل ساتر من مخيط وغيره الا ستر وجهها فإنه حرام بكل ساتر وفي ستر يديها
بالقفازين خلاف للعماء وهما قولان للشافعي أصحهما تحريمه ونبه صلى الله عليه وسلم بالورس
والزعفران على ما في معناهما وهو الطيب فيحرم على الرجل والمرأة جميعا في الاحرام جميع
أنواع الطيب والمراد ما يقصد به الطيب وأما الفواكه كالأترج والتفاح وأزهار البراري
كالشيح والقيصوم ونحوهما فليس بحرام لأنه لا يقصد للطيب قال العلماء والحكمة في تحريم
اللباس المذكور على المحرم ولباسه الإزار والرداء أن يبعد عن الترفه ويتصف بصفة الخاشع
الذليل وليتذكر أنه محرم في كل وقت فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره وأبلغ في مراقبته وصيانته
لعبادته وامتناعه من ارتكاب المحظورات
وليتذكر به الموت ولباس الأكفان ويتذكر البعث
يوم القيامة والناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد
عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة وقوله صلى الله عليه وسلم الا أحد
لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين وذكر مسلم بعد هذا من رواية
ابن عباس وجابر من لم يجد نعلين فليلبس خفين ولم يذكر قطعهما واختلف العلماء في هذين
74

الحديثين فقال أحمد يجوز لبس الخفين بحالهما ولا يجب قطعهما لحديث ابن عباس وجابر وكان
أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرح بقطعهما وزعموا أن قطعهما إضاعة مال وقال
مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء لا يجوز لبسهما الا بعد قطعهما أسفل من الكعبين
لحديث ابن عمر قالوا وحديث ابن عباس وجابر مطلقان فيجب حملهما على المقطوعين لحديث
ابن عمر فان المطلق يحمل على المقيد والزيادة من الثقة مقبولة وقولهم أنه إضاعة مال ليس بصحيح
لأن الإضاعة إنما تكون فيما نهى عنه وأما ما ورد الشرع به فليس بإضاعة بل حق يجب
الاذعان له والله أعلم ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين هل عليه فدية أم لا
فقال مالك والشافعي ومن وافقهما لا شئ عليه لأنه لو وجبت فدية لبينها صلى الله عليه وسلم وقال
أبو حنيفة وأصحابه عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه ويفدى والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس) أجمعت الأمة على تحريم
لباسهما لكونهما طيبا وألحقوا بهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب وسبب تحريم الطيب أنه داعية
إلى الجماع ولأنه ينافي تذلل الحاج فان الحاج أشعث أغبر وسواء في تحريم الطيب الرجل والمرأة وكذا جميع
محرمات الاحرام سوى اللباس كما سبق بيانه ومحرمات الاحرام سبعة اللباس بتفصيله السابق
والطيب وإزالة الشعر والظفر ودهن الرأس واللحية وعقد النكاح والجماع وسائر الاستمتاع حتى
الاستمناء والسابع اتلاف الصيد والله أعلم وإذا تطيب أو لبس ما نهى عنه لزمته الفدية إن كان عامدا
بالاجماع وإن كان ناسيا فلا فدية عند الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأوجبها أبو حنيفة ومالك
ولا يحرم المعصفر عند مالك والشافعي وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيبا وأوجبا فيه
الفدية ويكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب ولا يحرم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(السراويل لمن لم يجد الإزار والخفان لمن لم يجد النعلين) يعنى المحرم هذا صريح في الدلالة
75

للشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد إزارا ومنعه مالك لكونه لم يذكر
وفي حديث ابن عمر السابق والصواب اباحته بحديث ابن عباس وهذا مع حديث جابر بعده أما
حديث ابن عمر فلا حجة فيه لأنه ذكر فيه حالة وجود الإزار وذكر في حديث ابن عباس
وجابر حالة العدم فلا منافاة والله أعلم قوله (وهو بالجعرانة) فيها لغتان مشهورتان إحداهما
اسكان العين وتخفيف الراء والثانية كسر العين وتشديد الراء والأولى أفصح بهما قال الشافعي
وأكثر أهل اللغة وهكذا اللغتان في
تخفيف الحديبية وتشديدها والأفصح التخفيف وبه قال
الشافعي وموافقوه قوله (عليه جبة وعليها خلوق) هو بفتح الخاء وهو نوع من الطيب يعمل
76

فيه زعفران قوله (له غطيط) هو كصوت النائم الذي يردده مع نفسه قوله (كغطيط البكر)
هو بفتح الباء وهو الفتى من الإبل قوله (فلما سرى عنه) هو بضم السين وكسر الراء المشددة أي
أزيل ما به وكشف عنه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم للسائل عن العمرة (اغسل عنك أثر الصفرة)
فيه تحريم الطيب على المحرم ابتداء ودواما لأنه إذا حرم دواما فالابتداء أولى بالتحريم وفيه أن
العمرة يحرم فيها من الطيب واللباس وغيرهما من المحرمات السبعة السابقة ما يحرم في الحج وفيه
أن من أصابه طيب ناسيا أو جاهلا ثم علم وجبت عليه المبادرة إلى ازالته وفيه أن من أصابه
في احرامه طيب ناسيا أو جاهلا لا كفارة عليه وهذا مذهب الشافعي وبه قال عطاء والثوري
وإسحاق وداود وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه عليه الفدية
لكن الصحيح من مذهب مالك أنه إنما تجب الفدية على المتطيب ناسيا أو جاهلا إذا طال
لبثه عليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (واخلع عنك جبتك) دليل لمالك وأبي حنيفة
والشافعي والجمهور أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه ولا يلزمه شقه وقال الشعبي والنخعي
لا يجوز نزعه لئلا يصير مغطيا رأسه بل يلزمه شقه وهذا مذهب ضعيف قوله صلى الله عليه وسلم
(واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) معناه من اجتناب المحرمات ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم
77

أراد مع ذلك الطواف والسعي والحلق بصفاتها وهيئاتها واظهار التلبية وغير ذلك
مما يشترك فيه الحج والعمرة ويخص من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج كالوقوف
والرمي والمبيت بمنى ومزدلفة وغير ذلك وهذا الحديث ظاهر في أن هذا السائل كان عالما
بصفة الحج دون العمرة فلهذا قال له صلى الله عليه وسلم واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك
وفي هذا الحديث دليل للقاعدة المشهورة أن القاضي والمفتى إذا لم يعلم حكم المسألة
أمسك عن جوابها حتى يعلمه أو يظنه بشرطه وفيه أن من الأحكام التي ليست في القرآن
ما هو بوحي لا يتلى وقد يستدل به من يقول من أهل الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكن له الاجتهاد وإنما كان يحكم بوحي ولا دلالة فيه لأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لم
يظهر له بالاجتهاد حكم ذلك أو أن الوحي بدره قبل تمام الاجتهاد والله أعلم قوله (وكان يعلى
يقول وددت أنى أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي فقال أيسرك أن تنظر إلى
النبي صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع النسخ فقال أيسرك ولم يبين القائل من هو
ولا سبق له ذكر وهذا القائل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما بينه في الرواية التي بعد
هذه قوله (وعليه مقطعات) هي بفتح الطاء المشددة وهي الثياب المخيطة وأوضحه بقوله يعنى
جبة قوله (متضمخ) هو بالضاد والخاء المعجمتين أي متلوث به مكثر منه
78

قوله (محمر الوجه يغط) هو بكسر الغين وسبب ذلك شدة الوحي وهو له قال الله تعالى سنلقي عليك قولا
ثقيلا قوله صلى الله عليه وسلم (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات) إنما أمر بالثلاث مبالغة في إزالة
لونه وريحه والواجب الإزالة فان حصلت بمرة كفت ولم تجب الزيادة ولعل الطيب الذي كان على هذا الرجل
كثير ويؤيده قوله متضمخ قال القاضي ويحتمل أنه قال له ثلاث مرات اغسله فكرر القول ثلاثا والصواب
ما سبق والله أعلم قوله (عقبة بن مكرم) هو بفتح الراء قوله في بعض هذه الرواية (صفوان
79

ابن يعلى بن أمية) وفي بعضها ابن منية وهما صحيحان فأمية أبو يعلى ومنية أم يعلى وقيل جدته
والمشهور الأول فنسب تارة إلى أبيه وتارة إلى أمه وهي منية بضم الميم بعدها نون ساكنة قوله
(حدثنا رباح) هو بالباء الموحدة قوله (فسكت عنه فلم يرجع إليه) أي لم يرد جوابه قوله
(خمره عمر بالثوب) أي غطاه وأما ادخال يعلى رأسه ورؤيته النبي صلى الله عليه وسلم في تلك
الحال واذن عمر له في ذلك فكله محمول على أنهم علموا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكره الاطلاع
عليه في ذلك الوقت وتلك الحال لأن فيه تقوية الايمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم والله أعلم
80

مواقيت الحج
ذكر مسلم في الباب ثلاثة أحاديث حديث ابن عباس أكملها لأنه صرح فيه بنقله المواقيت
الأربعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا ذكره مسلم في أول الباب ثم حديث ابن عمر
لأنه لم يحفظ ميقات أهل اليمن بل بلغه بلاغا ثم حديث جابر لان أبا الزبير قال أحسب جابرا رفعه
وهذا لا يقتضي ثبوته مرفوعا فوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة بضم الحاء
المهملة وبالفاء وهي أبعد المواقيت من مكة بينهما نحو عشر مراحل أو تسع وهي قريبة من المدينة
على نحو ستة أميال منها ولأهل الشام الجحفة وهي ميقات لهم ولأهل مصر وهي بجيم مضمومة
ثم حاء مهملة ساكنة قيل سميت بذلك لأن السيل أجحفها في وقت ويقال لها مهيعة بفتح الميم
واسكان الهاء وفتح المثناة تحت كما ذكره في بعض روايات مسلم وحكى القاضي عياض عن بعضهم
كسر الهاء والصحيح المشهور اسكانها وهي على نحو ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة
ولأهل اليمن يلملم بفتح المثناة تحت واللامين ويقال أيضا ألملم بهمزة بدل الياء لغتان مشهورتان
وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة ولأهل نجد قرن المنازل بفتح القاف واسكان
الراء بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء وغيرهم وغلط الجوهري
في صحاحه فيه غلطين فاحشين فقال بفتح الراء وزعم أن أويسا القرني رضي الله عنه منسوب
إليه والصواب اسكان الراء وأن أويسا منسوب إلى قبيلة معروفة يقال لهم بنو قرن وهي بطن
من مراد القبيلة المعروفة ينسب إليها المرادي وقرن المنازل على نحو مرحلتين من مكة قالوا وهو
أقرب المواقيت إلى مكة وأما ذات عرق بكسر العين فهي ميقات أهل العراق واختلف العلماء هل
صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم أم باجتهاد عمر بن الخطاب وفي المسألة وجهان
لأصحاب الشافعي أصحهما وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم بتوقيت عمر رضي الله عنه
وذلك صريح في صحيح البخاري ودليل من قال بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم حديث جابر
لكنه غير ثابت لعدم جزمه برفعه وأما قول الدارقطني أنه حديث ضعيف لأن العراق لم تكن
81

فتحت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكلامه في تضعيفه صحيح ودليله ما ذكرته وأما استدلاله
لضعفه بعدم فتح العراق ففاسد لأنه لا يمتنع أن يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم به لعلمه بأنه سيفتح
ويكون ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم والاخبار بالمغيبات المستقبلات كما أنه صلى
الله عليه وسلم وقت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة ومعلوم أن الشام لم يكن
فتح حينئذ وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بفتح الشام واليمن
والعراق وأنهم يأتون إليهم يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وأنه صلى الله عليه وسلم
أخبر بأنه زويت له مشارق الأرض ومغاربها وقال سيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها وأنهم
سيفتحون مصر وهي أرض يذكر فيها القيراط وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء
شرقي دمشق وكل هذه الأحاديث في الصحيح وفي الصحيح من هذا القبيل ما يطول ذكره
والله أعلم وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي
وأحمد والجمهور هي واجبة لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم وصح حجه وقال عطاء
والنخعي لا شئ عليه وقال سعيد بن جبير لا يصح حجه وفائدة المواقيت أن من أراد حجا أو عمرة
حرم عليه مجاوزتها بغير احرام ولزمه الدم كما ذكرنا قال أصحابنا فان عاد إلى الميقات قبل التلبس
بنسك سقط عنه الدم وفي المراد بهذا النسك خلاف منتشر وأما من لا يريد حجا ولا عمرة فلا يلزمه
الاحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم
أولا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما وللشافعي قول ضعيف أنه يجب الاحرام بحج أو عمرة
ان دخل مكة أو غيره من الحرم لما يتكرر بشرط سبق بيانه في أول كتاب الحج وأما من مر
بالميقات غير مريد دخول الحرم بل لحاجة دونه ثم بدا له أن يحرم فيحرم من موضعه الذي
بدا له فيه فان جاوزه بلا احرام ثم أحرم أثم ولزمه الدم وان أحرم من الموضع الذي بدا له
أجزأه ولا دم عليه ولا يكلف الرجوع إلى الميقات هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أحمد
وإسحاق يلزمه الرجوع إلى الميقات
82

قوله (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة
ولأهل نجد قرن) هكذا وقع في أكثر النسخ قرن من غير الف بعد النون وفي بعضها
قرنا بالألف وهو الأجود لأنه موضع واسم لجبل فوجب صرفه والذي وقع بغير ألف
يقرأ منونا وإنما حذفوا الألف كما جرت عادة بعض المحدثين يكتبون يقول سمعت
أنس بغير ألف ويقرأ بالتنوين ويحتمل على بعد أن يقرأ قرن منصوبا بغير تنوين
ويكون أراد به البقعة فيترك صرفه قوله صلى الله عليه وسلم (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير
أهلهن) قال القاضي كذا جاءت الرواية في الصحيحين وغيرهما عند أكثر الرواة قال ووقع عند
بعض رواة البخاري ومسلم فهن لهم وكذا رواه أبو داود وغيره وكذا ذكره مسلم من رواية
ابن أبي شيبة وهو الوجه لأنه تضمير أهل هذه المواضع قال ووجه الرواية المشهورة أن الضمير
في لهن عائد على المواضع والأقطار المذكورة وهي المدينة والشام واليمن ونجد أي هذه
المواقيت لهذه الأقطار والمراد لأهلها فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وقوله
صلى الله عليه وسلم ولمن أتى عليهن من غير أهلهن معناه أن الشامي مثلا إذا مر بميقات المدينة في
ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة ولا يجوز له تأخيره إلى ميقات الشام الذي هو الجحفة
وكذا الباقي من المواقيت وهذا لا خلاف فيه قوله صلى الله عليه وسلم فهن لهن ولمن أتى عليهن من
غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة فيه دلالة للمذهب الصحيح فيمن مر بالميقات لا يريد حجا
ولا عمرة انه لا يلزمه الاحرام لدخول مكة وقد سبقت المسألة واضحة قال بعض العلماء وفيه
دلالة على أن الحج على التراخي لا على الفور وقد سبقت المسألة واضحة في أول كتاب الحج
قوله صلى الله عليه وسلم (فمن كان دونهن فمن أهله) هذا صريح في أن من كان مسكنه بين مك ة
والميقات فميقاته مسكنه إلى الميقات ولا يجوز له مجاوزة مسكنه بغير احرام
83

هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا مجاهد فقال ميقاته مكة بنفسها قوله صلى الله عليه وسلم
(فمن كان دونهن فمن أهله وكذا فكذلك حتى أهل مكة يهلون منها) هكذا هو في جميع النسخ وهو
صحيح ومعناه وهكذا فهكذا مجاوز مسكنها الميقات حتى أهل مكة يهلون منها وأجمع العلماء
على هذا كله فمن كان في مكة من أهلها أو واردا إليها وأراد الاحرام بالحج فميقاته نفس مكة
ولا يجوز له ترك مكة والاحرام بالحج من خارجها سواء الحرم والحل هذا هو الصحيح عند
أصحابنا وقال بعض أصحابنا يجوز له أن يحرم به من الحرم كما يجوز من
مكة لأن حكم الحرم حكم مكة والصحيح الأول لهذا الحديث قال أصحابنا ويجوز ان يحرم من جميع نواحي مكة بحيث
لا يخرج عن نفس المدينة وسورها وفي الأفضل قولان أصحهما من باب داره والثاني من المسجد
الحرام تحت الميزاب والله أعلم وهذا كله في احرام المكي بالحج والحديث إنما هو في احرامه
بالحج وأما ميقات المكي للعمرة فأدنى الحل لحديث عائشة الآتي أن النبي صلى الله عليه وسلم
84

أمرها في العمرة ان تخرج إلى التنعيم وتحريم بالعمرة منه والتنعيم في طرف الحل والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (مهل أهل المدينة) هو بضم الميم وفتح الهاء وتشديد اللام أي موضع
اهلا لهم قوله (قال عبد الله بن عمر وزعموا) اي قالوا وقد سبق في أول الكتاب أن الزعم
قد يكون بمعنى القول المحقق
85

قوله (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال سمعته ثم انتهى
فقال أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم) معنى هذا الكلام أن أبا الزبير قال سمعت
جابرا ثم انتهى أي وقف عن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أراه بضم
الهمزة أي أظنه رفع الحديث فقال أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الرواية الأخرى
أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقوله أحسبه رفع لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا لكونه
لم يجزم برفعه قوله في حديث جابر (ومهل أهل العراق من ذات عرف) هذا صريح في كونه
ميقات أهل العراق لكن ليس رفع الحديث ثابتا كما سبق وقد سبق الاجماع على أن ذات عرق
ميقات أهل العراق ومن في معناهم قال الشافعي ولو أهلوا من العقيق كان أفضل والعقيق أبعد
من ذات عرق بقليل فاستحبه الشافعي لأثر فيه ولأنه قيل أن ذات عرق كانت أولا في موضعه ثم
حولت وقربت إلى مكة والله أعلم وأعلم أن للحج ميقات مكان وهو ما سبق في هذه الأحاديث وميقات
زمان وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة ولا يجوز الا حرام بالحج في غير هذا
الزمان هذا مذهب الشافعي ولو أحرم بالحج في غير هذا الزمان لم ينعقد حجا وانعقد عمرة وأما
العمرة فيجوز الاحرام بها وفعلها في جميع السنة ولا يكره في شئ منها لكن شرطها أن لا يكون
86

في الحج ولا مقيما على شئ من أفعاله ولا يكره تكرار العمرة في السنة بل يستحب عندنا وعند
الجمهور وكره تكرارها في السنة ابن سيرين ومالك ويجوز الاحرام بالحج مما فوق الميقات
أبعد من مكة سواء دويرة أهله وغيرها وأيهما أفضل فيه قولان للشافعي أصحهما من الميقات
أفضل للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
باب التلبية وصفتها ووقتها
قال القاضي قال المازري التلبية مثناة للتكثير والمبالغة ومعناه إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك
فتثنى للتوكيد لا تثنية حقيقية بمنزلة قوله تعالى بل يداه مبسوطتان أي نعمتاه على تأويل اليد
بالنعمة هنا ونعم الله تعالى لا تحصى وقال يونس بن حبيب البصري لبيك اسم مفرد لا مثنى
قال وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدى وعلى مذهب سيبويه أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع
المظهر وأكثر الناس على ما قاله سيبويه قال ابن الأنباري ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك أي تحننا بعد تحنن
وأصل لبيك لببتك فاستثقلوا الجمع بين ثلاث باءات فأبدلوا من الثالثة ياء كما قالوا من الظن تظنيت
والأصل تظننت واختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها فقيل معناها اتجاهي وقصدي إليك مأخوذ
من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها وقيل معناها محبتي قولهم لك مأخوذ من قولهم امرأة لبة
إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه وقيل معناها اخلاص لك مأخوذ من قولهم حب لباب إذا
كان خالصا محضا ومن ذلك لب الطعام ولبابه وقيل معناها أنا مقيم على طاعتك واجابتك مأخوذ
من قولهم لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه قال ابن الأنباري وبهذا قال الخليل قال القاضي
قيل هذه الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج وقال إبراهيم الحربي
في معنى لبيك أي قربا منك وطاعة والألباب القرب وقال أبو النصر معناه أنا ملب بين يديك
أي خاضع هذا آخر كلام القاضي
87

قوله (لبيك ان الحمد والنعمة) يروى بكسر الهمزة من أن وفتحها وجهان مشهوران لأهل
الحديث وأهل اللغة قال الجمهور الكسر أجود قال الخطابي الفتح رواية العامة وقال ثعلب
الاختيار الكسر وهو الأجود في المعنى من الفتح لأن من كسر جعل معناه ان الحمد والنعمة لك
على كل حال ومن فتح قال معناه لبيك لهذا السبب قوله (والنعمة لك) المشهور فيه نصب
النعمة قال القاضي ويجوز رفعها على الابتداء ويكون الخبر محذوفا قال ابن الأنباري وان شئت
جعلت خبر ان محذوفا تقديره ان الحمد لك والنعمة مستقرة لك وقوله (وسعديك) قال القاضي
أعرابها وتثنيتها كما سبق في لبيك ومعناه مساعدة لطاعتك بعد مساعدة قوله (والخير بيديك) أي
الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله قوله (والرغباء إليك والعمل) قال القاضي قال المازري يروى بفتح
الراء والمد وبضم الراء مع القصر ونظيره العلا والعلياء والنعمى والنعماء قال القاضي وحكى أبو علي
فيه أيضا الفتح مع القصر الرغبى مثل سكرى ومعناه هنا الطلب والمسألة إلى من بيده الخير وهو
88

المقصود بالعمل المستحق للعبادة قوله (عن ابن عمر تلقفت التلبية) هو بقاف ثم فاء أي أخذتها
بسرعة قال القاضي وروى تلقنت بالنون قال والأول رواية الجمهور قال وروي تلقيت بالياء
ومعانيها متقاربة قوله (أهل فقال لبيك اللهم لبيك) قال العلماء الاهلال رفع الصوت بالتلبية عند
الدخول في الاحرام وأصل الاهلال في اللغة رفع الصوت ومنه استهل المولود أي صاح ومنه
قوله تعالى وما أهل به لغير الله أي رفع الصوت عند ذبحه بغير ذكر الله تعالى وسمي الهلال هلالا
لرفعهم الصوت عند رؤيته قوله (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا) فيه استحباب
تلبيد الرأس قبل الاحرام وقد نص عليه الشافعي وأصحابنا وهو موافق للحديث الآخر في الذي
89

خر عن بعيره فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا قال العلماء التلبيد ضفر الرأس بالصمغ أو الخطمي
وشبههما مما يضم الشعر ويلزق بعضه ببعض ويمنعه التمعط والقمل فيستحب لكونه أرفق به قوله
(كان المشركون يقولون لبيك لا شريك لك قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلكم
قد قد إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت) فقوله صلى الله عليه وسلم
قدقد قال القاضي روى باسكان الدال وكسرها مع التنوين ومعناه كفاكم هذا الكلام فاقتصروا
عليه ولا تزيدوا وهنا انتهى كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد الرواي إلى حكاية كلام المشركين
فقال الا شريكا هو لك إلى آخره معناه أنهم كانوا يقولون هذه الجملة وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يقول اقتصروا على قولكم لبيك لا شريك لك والله أعلم وأما حكم التلبية فأجمع المسلمون
على أنها مشروعة ثم اختلفوا في إيجابها فقال الشافعي وآخرون هي سنة ليست بشرط لصحة
الحج ولا بواجبة فلو تركها صح حجة ولا دم عليه لكن فاتته الفضيلة وقال بعض أصحابنا هي
واجبة تجبر بالدم ويصح الحج بدونها وقال بعض أصحابنا هي شرط لصحة الاحرام قال ولا يصح
الاحرام ولا الحج الا بها والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي وقال مالك ليست بواجبة
ولكن لو تركها لزمه دم وصحة حجه قال الشافعي ومالك ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير
لفظ كما ينعقد الصوم بالنية فقط وقال أبو حنيفة لا ينعقد الا بانضمام التلبية أو سوق الهدي
إلى النية قال أبو حنيفة ويجزي عن التلبية ما في معناها من التسبيح والتهليل وسائر الأذكار كما
قال هو أن التسبيح وغيره يجزي في الاحرام بالصلاة عن التكبير والله أعلم قال أصحابنا
ويستحب رفع الصوت بالتلبية بحيث لا يشق عليه والمرأة ليس لها الرفع لأنه يخاف الفتنة
90

بصوتها ويستحب الاكثار منها لا سيما عند تغاير الأحوال كإقبال الليل والنهار والصعود
والهبوط واجتماع الرفاق والقيام والقعود والركوب والنزول وأدبار الصلوات وفي المساجد
كلها والأصح أنه لا يلبي في الطواف والسعي لأن لهما أذكارا مخصوصة ويستحب أن يكرر
التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر ويواليها ولا يقطعها بكلام فإن سلم عليه رد السلام باللفظ
ويكره السلام عليه في هذه الحال وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل الله
تعالى ما شاء لنفسه ولمن أحبه وللمسلمين وأفضله سؤال الرضوان والجنة والاستعاذة من النار
وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك ان العيش عيش الآخرة ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى
يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر أو يطوف طواف الإفاضة ان قدمه عليها أو الحلق عند من
يقول الحلق نسك وهو الصحيح وتستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف وتستحب التلبية للمحرم
مطلقا سواء الرجل والمرأة والمحدث والجنب والحائض لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي
الله عنها اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي
أمر أهل المدينة بالاحرام من عند مسجد ذي الحليفة
قوله عن ابن عمر (قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الا من عند المسجد يعنى ذا الحليفة) وفي الرواية الأخرى
91

(ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم الا من عند الشجرة حين قام به بعيره) قال العلماء هذه البيداء هي
الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة وهي بقرب ذي الحليفة وسميت بيداء لأنه ليس فيها
بناء ولا أثر وكل مفازة تسمى بيداء وأما هنا فالمراد بالبيداء ما ذكرناه وقوله تكذبون فيها أي
تقولون انه صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يحرم منها وإنما أحرم قبلها من عند مسجد
ذي الحليفة ومن عند الشجرة التي كانت هناك وكانت عند المسجد وسماهم ابن عمر كاذبين لأنهم
أخبروا بالشئ على خلاف ما هو وقد سبق في أول هذا الشرح في مقدمة صحيح مسلم أن الكذب
عند أهل السنة هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو سواء تعمده أم غلط فيه أو سها وقالت
المعتزلة يشترط فيه العمدية وعندنا أن العمدية شرط لكونه اثما لا لا لكونه يسمى كذبا فقول
ابن عمر جار على قاعدتنا وفيه أنه لا بأس باطلاق هذه اللفظة وفيه دلالة على أن ميقات أهل
المدينة من عند مسجد ذي الحليفة ولا يجوز لهم تأخير الاحرام إلى البيداء وبهذا قال جميع
العلماء وفيه أن الاحرام من الميقات أفضل من دويرة أهله لأنه صلى الله عليه وسلم ترك
الاحرام من مسجده مع كمال شرفه فان قيل إنما أحرم من الميقات لبيان الجواز قلنا هذا غلط
لوجهين أحدهما أن البيان قد حصل بالأحاديث الصحيحة في بيان المواقيت والثاني أن فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمل على بيان الجواز في شئ يتكرر فعله كثيرا فيفعله مرة أو
مرات على الوجه الجائز لبيان الجواز ويواظب غالبا على فعله على أكمل وجوهه وذلك كالوضوء
مرة ومرتين وثلاثا كله ثابت والكثير أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وأما الاحرام
بالحج فلم يتكرر وإنما جرى منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة فلا يفعله الا على أكمل وجوهه
والله أعلم قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به
الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل) فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الاحرام
ويصليهما قبل الاحرام ويكونان نافلة هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه القاضي
92

وغيره عن الحسن البصري أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض قال لأنه روي أن هاتين الركعتين
كانتا صلاة الصبح والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث قال أصحابنا وغيرهم من العلماء
وهذه الصلاة سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا اثم عليه ولا دم قال أصحابنا فإن كان احرامه في وقت
من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يصلهما هذا هو المشهور وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه
يصليهما فيه لأن سببهما إرادة الاحرام وقد وجد ذلك وأما وقت الاحرام فسنذكره في الباب
بعده إن شاء الله تعالى
باب بيان الأفضل أن يحرم حين تنبعث به راحلته
(متوجها إلى مكة لا عقب الركعتين)
قوله في هذا الباب عن ابن عمر قال (فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث
93

به راحلته) وقال في الحديث السابق ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل
وفي الحديث الذي قبله كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل وفي رواية
حين قام به بعيره وفي رواية يهل حين تستوي به راحلته قائمة هذه الروايات كلها متفقة في المعنى
وانبعاثها هو استواؤها قائمة وفيها دليل لمالك والشافعي والجمهور أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت
به راحلته وقال أبو حنيفة يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته وقبل قيامه وهو
قول ضعيف للشافعي وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف وفيه أن التلبية لا تقدم
على الاحرام قوله عن عبيد بن جريج أنه قال لابن عمر (رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك
يصنعها) إلى آخره قال المازري يحتمل أن مراده لا يصنعها غيرك مجتمعة وإن كان يصنع بعضها
قوله (رأيتك لا تمس من الأركان الا اليمانيين) ثم ذكر ابن عمر في جوابه أنه لم ير رسول الله
صلى الله عليه وسلم يمس الا اليمانيين هما بتخفيف الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة وحكى
سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة والصحيح والتخفيف قالوا لأن نسبه إلى اليمن فحقه
أن يقال اليمني وهو جائز فلما قالوا اليماني أبدلوا من احدى ياءي النسب ألفا فلو قالوا اليماني بالتشديد
لزم منه الجمع بين البدل والمبدل والذين شددوها قالوا هذه الألف زائدة وقد تزاد في النسب كما
قالوا في النسب إلى صنعا صنعاني فزادوا النون الثانية والى الري رازي فزادوا الزاي
والى الرقبة رقباني فزادوا النون والمراد بالركنين اليمانيين الركن اليماني والركن الذي فيه
الحجر الأسود ويقال له العراقي لكونه إلى جهة العراق وقيل للذي قبله اليماني لأنه إلى جهة
اليمن ويقال لهما اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين كما قالوا الأبوان للأب والأم والقمران
للشمس والقمر والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ونظائره مشهورة فتارة يغلبون بالفضيلة
كالأبوين وتارة بالخفة كالعمرين وتارة بغير ذلك وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات قال
العلماء ويقال للركنين الآخرين اللذين يليان الحجر بكسر الحاء الشاميان لكونهما بجهة الشام
قالوا فاليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم بخلاف الشاميين فلهذا لم يستلما
94

واستلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم إن العراقي من اليمانيين اختص
بفضيلة أخرى وهي الحجر الأسود فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله ووضع الجبهة عليه بخلاف
اليماني والله أعلم قال القاضي وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين
لا يستلمان وإنما كان الخلاف في ذلك العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ثم ذهب
وقوله (ورأيتك تلبس النعال السبتية) وقال ابن عمر في جوابه (وأما النعال السبتية فإني رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها وأنا أحب أن ألبسها)
فقوله ألبس وتلبس كله بفتح الباء وأما السبتية فبكسر السين واسكان الباء الموحدة وقد أشار
ابن عمر إلى تفسيرها بقوله التي ليس فيها شعر وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل الغريب
وأهل الحديث انها التي لا شعر فيها قالوا وهي مشتقة من السبت بفتح السين وهو الحلق والإزالة
ومنه قولهم سبت رأس أي حلقه قال الهروي وقيل سميت بذلك لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت
يقال رطبة منسبتة أي لينة قال أبو عمرو الشيباني السبت كل جلد مدبوغ وقال أبو زيد السبت
جلود البقر مدبوغة كانت أو غير مدبوغة وقيل هو نوع من الدباغ يقلع الشعر وقال ابن وهب
النعال السبتية كانت سودا لا شعر فيها قال القاضي وهذا ظاهر كلام ابن عمر في قوله النعال التي
ليس فيه شعر قال وهذا لا يخالف ما سبق فقد تكون سودا مدبوغة بالقرظ لا شعر فيها لأن
بعض المدبوغات يبقى شعرها وبعضها لا يبقى قال وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير
مدبوغة وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره وإنما كان يلبسها أهل الرفاهية كما قال شاعرهم
تحذى نعال السبت ليس بتوأم قال القاضي والسين في جميع هذا مكسورة قال والأصح عندي
أن يكون اشتقاقها واضافتها إلى السبت الذي هو الجلد المدبوغ أو إلى الدباغة لأن السين مكسورة
في نسبتها ولو كانت من السبت الذي هو الحلق كما قاله الأزهري وغيره لكانت النسبة سبتية
بفتح السين ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره ولا في الشعر فيما علمت الا بالكسر
هذا كلام القاضي وقوله (ويتوضأ فيها) معناه يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان قوله (ورأيتك
تضبغ بالصفرة وقال ابن عمر في جوابه وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها) فقوله يصبغ وأصبغ بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان حكاهما
الجوهري وغيره قال الامام المازري قيل المراد في هذا الحديث صبغ الشعر وقيل صبغ الثوب
95

قال والأشبه أن يكون صبغ الثياب لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ ولم ينقل عنه
صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره قال القاضي عياض هذا أظهر الوجهين والا فقد جاءت آثار عن
ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس
والزعفران رواه أبو داود وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته قوله (ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم
تهل أنت حتى يكون يوم التروية) وقال ابن عمر في جوابه (وأما الاهلال فإني لم أر رسول الله
صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته) أما يوم التروية فبالتاء المثناة فوق وهو الثامن
من ذي الحجة سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي يحملونه معهم من مكة إلى
عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره وأما فقه المسألة فقال المازري أجابه ابن عمر بضرب من
القياس حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسألة
بعينها فاستدل بما في معناه ووجه قياسه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في
أفعال الحج والذهاب إليه فأخر ابن عمر الاحرام إلى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه وهو
يوم التروية فإنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى ووافق ابن عمر على هذا الشافعي وأصحابه
وبعض أصحاب مالك وغيرهم وقال آخرون الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة ونقله القاضي عن
أكثر الصحابة والعلماء والخلاف في الاستحباب وكل منهما جائز بالاجماع والله أعلم قوله
(ابن قسيط) هو يزيد بن عبد الله بن قسيط بقاف مضمومة وسين مهملة مفتوحة واسكان الياء
96

قوله (وضع رجله في الغرز) هو بفتح الغين المعجمة ثم راء ساكنة ثم زاي وهو ركاب كور
البعير إذا كان من جلد أو خشب وقيل هو الكور مطلقا كالركاب للسرج قوله (بات رسول الله
صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها) قال القاضي هو بفتح الميم وضمها
والباء ساكنة فيهما أي ابتداء حجة ومبدأه منصوب على الظرف أي في ابتدائه وهو المبيت ليس من
أعمال الحج ولا من سننه قال القاضي لكن من فعله تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم فحسن والله أعلم
97

استحباب الطيب قبل الاحرام في البدن واستحبابه بالمسك
(وأنه لا بأس ببقاء وبيصه وهو بريقه ولمعانه)
قولها (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)
ضبطوا لحرمه بضم الحاء وكسرها وقد سبق بيانه في شرح مقدمة مسلم والضم أكثر ولم يذكر
الهروي وآخرون غيره وأنكر ثابت الضم على المحدثين وقال الصواب الكسر والمراد بحرمه
الاحرام بالحج وفيه دلالة على استحباب الطيب عند إرادة الاحرام وأنه لا بأس باستدامته
بعد الاحرام وإنما يحرم ابتداؤه في الاحرام وهذا مذهبنا وبه قال خلائق من الصحابة
والتابعين وجماهير المحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الزبير ومعاوية
وعائشة وأم حبيبة وأبو حنيفة والثوري وأبو يوسف وأحمد وداود وغيرهم وقال آخرون بمنعه
منهم الزهري ومالك ومحمد بن الحسن وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين قال القاضي
وتأول هؤلاء حديث عائشة هذا على أنه تطيب ثم اغتسل بعده فذهب الطيب قبل الاحرام ويؤيد
هذا قولها في الرواية الأخرى طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احرامه ثم طاف
على نسائه أصبح محرما فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما
وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ولا يبقى مع ذلك ويكون قولها ثم
أصبح ينضخ طيبا أي قبل غسله وقد سبق في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذرة وهي مما
يذهبه الغسل قال وقولها كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو محرم المراد به أثره لا جرمه هذا كلام القاضي ولا يوافق عليه بل الصواب ما قاله
الجمهور أن الطيب مستحب للاحرام لقولها طيبته لحرمه وهذا ظاهر في أن الطيب
98

للاحرام لا للنساء ويعضده قولها كأني أنظر إلى وبيص الطيب والتأويل الذي قاله القاضي
غير مقبول لمخالفته الظاهر بلا دليل يحملنا عليه وأما قولها ولحله قبل أن يطوف فالمراد
به طواف الإفاضة ففيه دلالة لاستباحة الطيب بعد رمي جمرة العقبة والحلق وقبل الطواف
وهذا مذهب الشافعي والعلماء كافة الا مالكا كرهه قبل طواف الإفاضة وهو محجوج بهذا
الحديث وقولها لحله دليل على أنه حصل له تحلل وفي الحج تحلالان يحصلان بثلاثة أشياء رمي
جمرة العقبة والحلق وطواف الإفاضة مع سعيه أن لم يكن سعى عقب طواف القدوم فإذا فعل
الثلاثة حصل التحلالان وإذا فعل اثنين منهما حصل التحلل الأول أي اثنين كانا ويحل بالتحلل
الأول جميع المحرمات الا الاستمتاع بالنساء فإنه لا يحل الا بالثاني وقيل يباح منهن غير الجماع
بالتحلل الأول وهو قول بعض أصحابنا وللشافعي قول أنه لا يحل بالأول الا اللبس والحلق وقلم
الأظفار والصواب ما سبق والله أعلم وقولها في الرواية الأخرى (ولحله حين حل قبل أن
يطوف بالبيت) فيه تصريح بان التحلل الأول يحصل بعد رمي جمرة العقبة والحلق قبل الطواف
99

وهذا متفق عليه قولها (بذريرة) هي بفتح الذال المعجمة وهي قناب قصب طيب
يجاء به من الهند قولها (وبيص الطيب في مفرقه) الوبيص البريق واللمعان والمفرق
100

بفتح الميم وكسر الراء قوله (عن ابن عمر ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا)
102

وقولها (ينضخ طيبا) كله بالخاء المعجمة أي يفور منه الطيب ومنه قوله تعالى عينان
نضاختان هذا هو المشهور أنه بالخاء المعجمة ولم يذكر القاضي غيره وضبطه بعضهم بالحاء المهملة
وهما متقاربان في المعنى قال القاضي قيل النضخ بالمعجمة أقل من النضح بالمهملة وقيل عكسه وهو
اشهر وأكثر قولها (ثم يطوف على نسائه) قد يقال قد قال الفقهاء أقل القسم ليلة لكل امرأة فكيف
طاف على الجميع في ليلة واحدة وجوابه من وجهين أحدهما أن هذا كان برضاهن ولا خلاف في
جوازه برضاهن كيف كان
والثاني أن القسم في حق النبي صلى الله عليه وسلم هل كان واجبا في
الدوام فيه خلاف لأصحابنا قال أبو سعيد الإصطخري لم يكن واجبا وإنما كان يقسم بالسوية
ويقرع بينهن تكرما وتبرعا لا وجوبا وقال الأكثرون كان واجبا فعلى قول الإصطخري لا
اشكال والله أعلم
تحريم الصيد المأكول البري
(أو ما أصله ذلك على المحرم بحج أو عمرة أو بهما)
قوله (عن الصعب بن جثامة) هو بجيم مفتوحة ثم ثاء مثلثة مشددة قوله (وهو بالأبوا
103

أو بودان) أما الأبواء فبفتح الهمزة واسكان الموحدة وبالمد بفتح الواو وتشديد
الدال المهملة وهما مكانان بين مكة والمدينة قوله صلى الله عليه وسلم (انا لم نرده عليك الا أنا حرم)
هو بفتح الهمزة من أنا حرم وحرم بضم الحاء والراء أي محرمون قال القاضي عياض رحمه الله تعالى رواية
المحدثين في هذا الحديث لم نرده بفتح الدال قال وأنكره محققو شيوخنا من أهل العربية وقالوا هذا غلط من
الرواة وصوابه ضم الدال قال ووجدته بخط بعض الأشياخ بضم الدال وهو الصواب عندهم
على مذهب سيبويه في مثل هذا من المضاعف إذا دخلت عليه الهاء أن يضم ما قبلها في الامر
ونحوه من المجزوم مراعاة للواو والتي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء فكان ما قبلها ولى
الواو ولا يكون ما قبل الواو الا مضموما هذا في المذكر وأما المؤنث مثل ردها وجبها
فمفتوح الدال ونظائرها مراعاة للألف هذا آخر كلام القاضي فأما ردها ونظائرها من المؤنث
ففتحة الهاء لازمة بالاتفاق وأما رده ونحوه للمذكر ففيه ثلاثة أوجه أفصحها وجوب الضم كما
ذكره القاضي والثاني الكسر وهو ضعيف والثالث الفتح وهو أضعف منه وممن ذكره ثعلب في
الفصيح لكن غلطوه لكونه أوهم فصاحته ولم ينبه على ضعفه قوله (عن الصعب بن جثامة
الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا) وفي رواية حمار وحش وفي
رواية من لحم حمار وحش وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما وفي رواية شق حمار وحش
وفي رواية عضوا من لحم صيد هذه روايات مسلم وترجم له البخاري باب إذا أهدي للمحرم
حمارا وحشيا حيا لم يقبل ثم رواه باسناده وقال في روايته حمارا وحشيا وحكي هذا التأويل أيضا
عن مالك وغيره وهو تأويل باطل وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه مذبوح وأنه
إنما أهدي بعض لحم صيد لا كله واتفق العلماء على تحريم الاصطياد على المحرم وقال الشافعي
وآخرون يحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما وفي ملكه إياه بالإرث خلاف وأما لحم
الصيد فان صاده أو صيد له فهو حرام سواء صيد له باذنه أم بغير اذنه فان صاده حلال لنفسه
104

ولم يقصد المحرم ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه هذا مذهبنا وبه قال مالك
وأحمد وداود وقال أبو حنيفة لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه وقالت طائفة لا يحل له لحم
الصيد أصلا سواء صاده أو صاده غيره له أو لم يقصده فيحرم مطلقا حكاه القاضي عياض عن
علي وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم لقوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما قالوا
المراد بالصيد المصيد ولظاهر حديث الصعب بن جاثمة فان النبي صلى الله عليه وسلم رده وعلل
رده أنه محرم ولم يقل لأنك صدته لنا واحتج الشافعي وموافقوه بحديث أبي قتادة المذكور
في صحيح مسلم بعد هذا فان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة
وهو حلال قال للمحرمين هو حلال فكلوا وفي الرواية الأخرى قال فهل معكم منه شئ قالوا
معنا رجله فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صيد البر لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم
105

هكذا الرواية يصاد بالألف وهي جائزة على لغة ومنه قول الشاعر ألم يأتيك والانباء تنمى
قال أصحابنا يجب الجمع بين هذه الأحاديث وحديث جابر هذا صريح في الفرق وهو ظاهر في
الدلالة للشافعي وموافقيه ورد لما قاله أهل المذهبين الآخرين ويحمل حديث أبي قتادة على
أنه لم يقصدهم باصطياده وحديث الصعب أنه قصدهم باصطياده وتحمل الآية الكريمة على
الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المذكورة المبينة للمراد من الآية وأما قولهم في
حديث الصعب أنه صلى الله عليه وسلم علل بأنه محرم فلا
يمنع كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد
على الانسان إذا صيد له بشرط أنه محرم فبين الشرط الذي يحرم به قول صلى الله
106

عليه وسلم (انا لم نرده عليك الا أنا حرم) فيه جواز قبول الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم
بخلاف الصدقة وفيه أنه يستحب لمن امتنع من قبل هدية ونحوها لعذر أن يعتذر
بذلك إلى المهدي تطييبا لقلبه قوله (سمعت أبا قتادة يقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم) إلى آخره القاحة بالقاف وبالحاء المهملة
107

المخففة هذا هو الصواب المعروف في جميع الكتب والذي قاله العلماء من كل طائفة قال القاضي
كذا قيدها الناس كلهم قال ورواه بعضهم عن البخاري بالفاء وهو وهم والصواب القاف وهو واد
على نحو ميل من السقيا وعلى ثلاث مراحل من المدينة (والسقيا) بضم السين المهملة واسكان القاف
وبعدها ياء مثناة من تحت وهي مقصورة وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة من أعمال الفرع
بضم الفاء واسكان الراء وبالعين المهملة والأبواء وودان قريتان من أعمال الفرع أيضا (وتعهن)
المذكورة في هذا الحديث هي عين ماء هناك على ثلاثة أميال من السقيا وهي بتاء مثناة فوق
مكسورة ومفتوحة ثم عين مهملة ساكنة ثم هاء مكسورة ثم نون قال القاضي عياض هي بكسر
التاء وفتحها قال وروايتنا عن الأكثرين بالكسر قال وكذا قيدها البكري في معجمه قال
القاضي وبلغني عن أبي ذر الهروي أنه قال سمعت العرب تقولها بضم التاء وفتح العين وكسر
الهاء وهذا ضعيف وأما (غيقة) فهي بغين معجمة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم قاف
108

مفتوحة وهي موضع من بلاد بني غفار بين مكة والمدينة قال القاضي وقيل هي بئر ماء لبني
ثعلبة قوله (فمنا المحرم ومنا غير المحرم) قد يقال كيف كان أبو قتادة وغيره منهم
غير محرمين وقد جاوزوا ميقات المدينة وقد تقرر أن من أراد حجا أو عمرة لا يجوز له مجاوزة الميقات
غير محرم قال القاضي في جواب هذا قيل أن المواقيت لم تكن وقتت بعد وقيل لأن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل كما ذكره مسلم في الرواية
الأخرى وقيل أنه لم يكن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بل بعثه أهل المدينة
بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمه أن بعض العرب يقصدون الإغارة على المدينة
109

وقيل أنه خرج معهم ولكنه لم ينو حجا ولا عمرة قال القاضي وهذا بعيد والله أعلم قوله
(فسقط مني سوطي فقلت لأصحابي وكانوا محرمين ناولوني السوط فقالوا والله لا نعنيك
عليه بشئ) وقال في الرواية الأخرى (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل أشار إليه
انسان منكم أو أمره بشئ قالوا لا قال فكلوه) هذا ظاهر في الدلالة على تحريم الإشارة
والإعانة من المحرم في قتل الصيد وكذلك الدلالة عليه وكل سبب وفيه دليل للجمهور على
أبي حنيفة في قوله لا تحل الإعانة من المحرم الا إذا لم يمكن اصطياده بدونها قوله (فقال
بعضهم كلوه وقال بعضهم لا تأكلوه) ثم قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو حلال فكلوه
فيه دليل على جواز الاجتهاد في مسائل الفروع والاختلاف فيها والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (هو حلال فكلوه) صريح في أن الحلال إذا صاد صيدا ولم يكن من المحرم
إعانة ولا إشارة ولا دلالة عليه حل للمحرم أكله وقد سبق أن هذا مذهب الشافعي والأكثرين
قوله (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا) وفي الرواية الأخرى (يضحك بعضهم إلي إذ
نظرت فإذا أنا بحمار وحش) هكذا وقع في جميع نسخ بلادنا يضحك إلي بتشديد الياء قال القاضي
هذا خطأ وتصحيف ووقع في رواية بعض الرواة عن مسلم والصواب يضحك إلي بعض
فأسقط لفظه بعض والصواب اثباتها كما هو مشهور في باقي الروايات لأنهم لو ضحكوا إليه
لكانت إشارة منهم وقد قالوا إنهم لم يشيروا إليه قلت لا يمكن رد هذه الرواية فقد صحت هي
والرواية الأخرى وليس في واحدة منهما دلالة ولا إشارة إلى الصيد فان مجرد الضحك ليس
فيه إشارة قال العلماء وإنما ضحكوا تعجبا من عروض الصيد ولا قدرة لهم عليه لمنعهم منه
والله أعلم قوله (فإذا حمار وحش) وكذا ذكر في أكثر الروايات حمار وحش وفي رواية أبي
كامل الجحدري إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فأكلوا من لحمها فهذه
111

الرواية تبين ان الحمار في أكثر الروايات المراد به أنثى وهي الأتان وسميت حمارا مجازا قوله
صلى الله عليه وسلم (هل معكم من لحمه شئ) وفي الرواية الأخرى هل معكم منه شئ قالوا
معنا رجله فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلها إنما أخذها وأكلها تطييبا
لقلوبهم في اباحته ومبالغة في إزالة الشك والشبهة عنهم بحصول الاختلاف بينهم فيه قبل
ذلك قوله (فقال إنما هي طعمة) هي الطاء أي طعام قوله (أرفع فرسي شأوا
وأسير شأوا) هو بالشين المعجمة مهموز والشأو الطلق والغاية ومعناه أركضه شديدا وقتا وأسوقه
بسهولة وقتا قوله (فقلت أين لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركته بتعهن وهو قائل
السقيا) أما غيقة والسقيا وتعهن فسبق ضبطهن وبيانهن وقوله قائل روي بوجهين أصحهما وأشهرهما
قائل بهمزة بين الألف واللام من القيلولة ومعناه تركته بتعهن وفي عزمه أن يقيل بالسقيا ومعنى
قائل سيقيل ولم يذكر القاضي في شرح مسلم وصاحب المطالع والجمهور غير هذا بمعناه والوجه
الثاني أنه قابل بالباء الموحدة وهو ضعيف وغريب وكأنه تصحيف وأن صح تعهن
موضع مقابل للسقيا قوله (قلت يا رسول الله ان أصحابك يقرءون عليك السلام ورحمة الله)
فيه استحباب ارسال السلام إلى الغائب سواء كان أفضل من المرسل أم لا لأنه إذا أرسله إلى
من هو أفضل فمن دونه أولى قال أصحابنا ويجب على الرسول تبليغه ويجب على المرسل إليه رد
الجواب حين يبلغه على الفور قوله (يا رسول الله اني اصدت ومعي منه فاضلة) هكذا هو في
بعض النسخ وهو بفتح الصاد المخففة والضمير في منه يعود على الصيد المحذوف الذي دل عليه
أصدت ويقال بتشديد الصاد وفي بعض النسخ صدت وفي بعضها اصطدت وكله صحيح
قوله صلى الله عليه وسلم (أشرتم أو أعنتم أو أصدتم) روي بتشديد الصاد وتخفيفها وروى
صدتم قال القاضي رويناه بالتخفيف في أصدتم ومعناه أمرتم بالصيد أو جعلتم من يصيده وقيل
معناه أثرتم الصيد من موضعه يقال أصدت الصيد مخفف أي أثرته قال وهو أولى
من رواية من رواه صدتم أو اصدتم بالتشديد لأنه صلى الله عليه وسلم قد علم أنهم لم يصيدوا وإنما سألوه
112

عما صاد غيرهم والله أعلم قوله (فلما استيقظ طلحة وفق من أكله) معناه صوبه والله أعلم
ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم
قوله صلى الله عليه وسلم (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة
والكلب العقور والحديا) وفي رواية الحدأة وفي رواية العقرب بدل الحية وفي الرواية الأولى
أربع بحذف الحية والعقرب فالمنصوص عليه الست واتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في
الحل والحرم والاحرام واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن ثم اختلفوا في المعنى
113

فيهن وما يكون في معناهن فقال الشافعي المعنى في جواز قتلهن كونهن مما لا يؤكل وكل مالا
يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه وقال مالك المعنى
فيهن كونهن مؤذيات فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله ومالا فلا واختلف العلماء في المراد بالكلب
العقور فقيل هو الكلب المعروف وقيل كل ما يفترس لأن كل مفترس من السباع يسمى كلبا
عقورا في اللغة وأما تسمية هذه المذكورات فواسق فصحيحة جارية على وفق اللغة وأصل الفسق
في كلام العرب الخروج وسمي الرجل الفاسق لخروجه عن أمر الله تعالى وطاعته فسميت هذه
فواسق لخروجها بالإيذاء والافساد عن طريق معظم الدواب وقيل لخروجها عن حكم الحيوان
في تحريم قتله في الحرم والاحرام وقيل فيها لأقوال أخر ضعيفة لا نعتنيها وأما الغراب الأبقع فهو
الذي في ظهره وبطنه بياض وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يجوز للمحرم قتل الفارة وحكى
غيره عن علي ومجاهد أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمى وليس بصحيح عن علي واتفق العلماء
على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم واختلفوا في المراد به فقيل هذا
الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنفية والحسن بن صالح وألحقوا به
الذئب وحمل زفر معنى الكلب على الذئب وحده وقال جمهور العلماء ليس المراد بالكلب
114

العقور تخصيص هذا الكلب المعروف بل المراد هو كل عاد مفترس غالبا كالسبع والنمر والذئب
والفهد ونحوها وهذا قول زيد بن أسلم وسفيان الثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد وغيرهم
وحكاه القاضي عياض عنهم وعن جمهور العلماء ومعنى العقور والعاقر الجارح وأما الحدأة فمعروفة
وهي بكسر الحاء مهموزة وجمعها حدأ بكسر الحاء مقصور مهموز كعنبة وعنب وفي الرواية الأخرى
الحديا بضم الحاء وفتح الدال وتشديد الياء مقصور قال القاضي قال ثابت الوجه فيه الهمز على
معنى التذكير والا فحقيقته حدية وكذا قيده الأصيلي في صحيح البخاري فموضع أو الحدية
على التسهيل والادغام وقوله في الحية (تقتل بصغر لها) هو بضم الصاد أي بمذلة وإهانة قوله
صلى الله عليه وسلم (خمس فواسق) وهو بتنوين خمس وقوله بقتل خمس فواسق بإضافة خمس
لا بتنوينه قوله صلى الله عليه وسلم في رواية زهير (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم
والاحرام) اختلفوا في ضبط الحرم هنا فضبطه جماعة من المحققين بفتح الحاء والراء أي الحرم
المشهور وهو حرم مكة والثاني بضم الحاء والراء ولم يذكر القاضي عياض في المشارق غيره قال
وهو جمع حرام كما قال الله تعالى حرم قال والمراد به المواضع المحرمة والفتح أظهر والله
أعلم وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب
115

عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا أو قتل في المحاربة وغير ذلك وأنه يجوز إقامة كل الحدود فيه
سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارجه ثم لجأ صاحبه إلى الحرم وهذا مذهب
مالك والشافعي وآخرين وقال أبو حنيفة وطائفة ما ارتكبه من ذلك في الحرم يقام عليه فيه
وما فعله خارجه ثم لجأ إليه إن كان اتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم بل يضيق عليه ولا يكلم
116

ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه خارجه وما كان دون النفس
يقام فيه قال القاضي وروي عن ابن عباس وعطاء والشعبي والحكم نحوه لكنهم لم يفرقوا بين
النفس ودونها وحجتهم ظاهر قول الله تعالى ومن دخله كان آمنا وحجتنا عليهم هذه الأحاديث
لمشاركة فاعل الجناية لهذه الدواب في اسم الفسق بل فسقه أفحش لكونه مكلفا ولان التضييق
117

الذي ذكروه لا يبقى لصاحبه أمان فقد خالفوا ظاهر ما فسروا به الآية قال القاضي ومعنى الآية
عندنا وعند أكثر المفسرين أنه اخبار عما كان قبل الإسلام وعطفه على ما قبله من الآيات وقيل
آمن من النار وقالت طائفة يخرج ويقام عليه الحد وهو قول ابن الزبير والحسن ومجاهد وحماد والله أعلم
جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى
(وجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها)
قوله صلى الله عليه وسلم أتؤذيك هوام رأسك قال نعم قال فاحلق وصم ثلاث أيام أو أطعم
118

ستة مساكين أو أنسك نسيكة وفي رواية فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر
وفي رواية صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك ما تيسر وفي رواية وأطعم فرقا
119

بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة وفي رواية أو اذبح شاة وفي
رواية أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين وفي رواية قال صوم ثلاثة أيام أو
120

اطعام ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين وفي رواية قال هل عندك
نسك قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكينين صاع)
هذه روايات الباب وكلها متفقة في المعنى ومقصودها أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من
قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الاحرام وعليه الفدية قال الله تعالى كان منكم مريضا
أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصيام
ثلاثة أيام والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين لكل مسكين نصف صاع والنسك شاة وهي
شاة تجزئ في الأضحية ثم أن الآية الكريمة والأحاديث متفقة على أنه مخير بين هذه الأنواع
الثلاثة وهكذا الحكم عند العلماء أنه مخير بين الثلاثة وأما قوله في رواية هل عندك نسك
قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام فليس المراد به أن الصوم لا يجزي الا لعادم
الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فان وجده أخبره بأنه مخير بينه وبين الصيام
والاطعام وان عدمه فهو مخير بين الصيام والاطعام واتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث
الا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري أن نصف الصاع لكل مسكين إنما هو في الحنطة فأما التمر
والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين وهذا خلاف نصفه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث
ثلاثة آصع من تمر وعن أحمد بن حنبل رواية أنه لكل مسكين مد من حنطة أو نصف صاع
من غيره وعن الحسن البصري وبعض السلف أنه يجب اطعام عشرة مساكين أو صوم عشرة أيام وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود قوله صلى الله عليه وسلم (أو أطعم ثلاثة آصع من
121

تمر على ستة مساكين) معناه مقسومة على ستة مساكين والآصع جمع صاع وفي الصاع لغتان
التذكير والتأنيث وهو مكيال يسع خمسة أرطال وثلثا بالبغدادي هذا مذهب مالك والشافعي
وأحمد وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة يسع ثمانية أرطال وأجمعوا على أن الصاع أربعة
أمدادا وهذا الذي قدمناه من أن الآصع جمع صاع صحيح وقد ثبت استعمال الآصع في هذا
الحديث الصحيح من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك هو مشهور في كلام
الصحابة والعلماء بعدهم وفي كتب اللغة وكتب النحو والتصريف ولا خلاف في جوازه
وصحته وأما ما ذكره ابن مكي في كتابه تثقيف اللسان أن قولهم في جمع الصاع آصع لحن من
خطأ العوام وأن صوابه أصوع فغلط منه وذهول وعجب قوله هذا مع اشتهار اللفظة في كتب
الحديث واللغة والعربية وأجمعوا على صحتها وهو من باب المقلوب قالوا فيجوز في جمع صاع
آصع وفي دار آدر وهو باب معروف في كتب العربية لأن فاء الكلمة في آصع صاد وعينها
واو فقلبت الواو همزة ونقلت إلى موضع الفاء ثم قلبت الهمزة ألفا حين اجتمعت هي وهمزة
الجمع فصار آصعا ووزنه عندهم أعقل وكذلك القول في آدر ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم
(هوام رأسك) أي القمل قوله صلى الله عليه وسلم (انسك نسيكة) وفي رواية ما تيسر
وفي رواية شاة الجميع بمعنى واحد وهو شاة وشرطها أن تجزئ في الأضحية ويقال للشاة
وغيرها مما يجزي في الأضحية نسيكة ويقال نسك ينسك وينسك بضم السين وكسرها في
المضارع والضم أشهر قوله (كعب بن عجرة) بضم العين واسكان الجيم قوله (ورأسه
يتهافت قملا) أي يتساقط ويتناثر قوله صلى الله عليه وسلم (تصدق بفرق) هو بفتح الراء
واسكانها لغتان وفسره في الرواية الثانية بثلاثة آصع وهكذا هو وقد سبق بيانه واضحا في كتاب
الطهارة قوله (فقمل رأسه) هو بفتح القاف وكسر الميم أي كثر قمله
جواز الحجامة للمحرم
قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه) وسط الرأس
122

بفتح السين قال أهل اللغة كل ما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف والقلادة والسبحة
وحلقة الناس ونحو ذلك فهو وسط بالاسكان وما كان مصمتا لا يبين بعضه من بعض كالدار
والساحة والرأس والراحة فهو وسط بفتح السين قال الأزهري والجوهري وغيرهما وقد أجازوا
في المفتوح الاسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم
وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك وان قطع الشعر حينئذ
لكن عليه الفدية لقطع الشعر فإن لم يقطع فلا فدية عليه ودليل المسألة قوله تعالى فمن كان منكم
مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية وهذا الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له
عذر في الحجامة في وسط الرأس لأن لا ينفك عن قطع شعر أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير
حاجة فان تضمنت قلع شعر فهي حرام لتحريم قطع الشعر وان لم تتضمن ذلك بأن كانت في موضع
لا شعر فيه فهي جائزة عندنا وعند الجمهور ولا فدية فيها وعن ابن عمر ومالك كراهتها وعن الحسن
البصري فيها الفدية دليلنا أن اخراج الدم ليس حراما في الاحرام وفي هذا الحديث بيان قاعدة
من مسائل الإحرام وهي أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة
وعليه الفدية كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد أو قتل صيد للحاجة وغير ذلك
والله أعلم
123

جواز مداواة المحرم عينيه
قوله (عن نبيه بن وهب) هو بنون مضمومة ثم باء مفتوحة موحدة ثم مثناة تحت ساكنة قوله
(مع أبان بن عثمان) قد سبق في أول الكتاب أن في أبان وجهين الصرف وعدمه والصحيح الأشهر
الصرف فمن صرفه قال وزنه فعال ومن منعه قال هو أفعل قوله (حتى إذا كنا بملل) هو بفتح
الميم بلامين وهو موضع على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة وقيل اثنان وعشرون حكاهما القاضي
عياض في المشارق قوله (أضمدهما بالصبر) هو بكسر الميم وقوله بعده ضمدهما بالصبر هو بتخفيف
الميم وتشديدها يقال ضمد وضمد بالتخفيف والتشديد وقوله أضمدها بالصبر جاء على لغة التخفيف
معناه اللطخ وأما الصبر فبكسر الباء ويجوز اسكانها واتفق العلماء على جواز تضميد العين
وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك فان احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله
وعليه الفدية واتفق العلماء على أن للمحرم أن يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية
124

عليه فيه وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين ومنعه جماعه منهم أحمد وإسحاق
وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين وفي ايجاب الفدية عندهم بذلك خلاف والله أعلم
جواز غسل المحرم بدنه ورأسه
ذكر في الباب حديث ابن حنين أن ابن عباس والمسور اختلفا فقال ابن عباس للمحرم غسل رأسه
وخالفه المسور وأن ابن عباس أرسله إلى أبي أيوب يسأله عن ذلك فوجده يغتسل بني القرنين
وهو يستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك
عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم فوضع
أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا إلى رأسه ثم قال لانسان يصب عليه اصبب فصب
125

على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل
قوله (بين القرنين) هو بفتح القاف تثنية قرن وهما الخشبتان القائمتان على رأس البئر وشبههما
من البناء وتمد بينهما خشبة يجر عليها الحبل المستقى به وتعلق عليها البكرة وفي هذا الحديث
فوائد منها جواز اغتسال المحرم وغسله رأسه وامرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا ومنها
قبول خبر الواحد وأن قبوله كان مشهورا عند الصحابة رضي الله عنهم ومنها الرجوع إلى النص
عند الاختلاف وترك الاجتهاد والقياس عند وجود النص ومنها السلام على بالمتطهر في وضوء
وغسل بخلاف الجالس على الحدث ومنها جواز الاستعانة في الطهارة ولكن الأولى تركها
الا لحاجة واتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة بل هو واجب عليه
وأما غسله تبردا فمذهبنا ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة ويجوز عندنا غسل رأسه بالسدر
والخطمي بحيث لا ينتف شعرا فلا فيدة عليه ما لم ينتف شعرا وقال أبو حنيفة ومالك هو حرام
موجب للفدية
ما يفعل بالمحرم إذا مات
فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه (أن رجلا خر من بعيره وهو واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم
بعرفة فوقص فمات فقال اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فان الله
126

يبعثه يوم القيامة ملبيا) وفي رواية وقع من راحلته فأوقصته أو قال فأقعصته
وفي رواية فوقصته وفي رواية وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي وفي
رواية ولا تخمروا وجهه ولا رأسه وفي رواية فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا في هذه الروايات
دلالة بينه لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وموافقيهم في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس
المخيط ولا تخمر رأسه ولا يمس طيبا وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم يفعل به
ما يفعل بالحي وهذا الحديث راد قولهم وقوله صلى الله عليه وسلم (واغسلوه بماء وسدر)
دليل على استحباب السدر في غسل الميت وأن المحرم في ذلك كغيره وهذا مذهبنا وبه قال
127

طاوس وعطاء ومجاهد وابن المنذر وآخرون ومنعه مالك وأبو حنيفة وآخرون وقوله
صلى الله عليه وسلم (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) أما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع
على تحريمه وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة هو كرأسه وقال الشافعي والجمهور لا احرام
في وجهه بل له تغطيته وإنما يجب كشف الوجه في حق المرأة هذا حكم المحرم الحي وأما
الميت فمذهب الشافعي وموافقيه أنه يحرم تغطية رأسه كما سبق ولا يحرم تغطية وجهه بل يبقى
كما كان في الحياة ويتأول هذا الحديث على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكونه وجها إنما
هو صيانة للرأس فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولا بد من تأويله لأن مالكا
128

وأبا حنيفة وموافقيهما يقولون لا يمنع من ستر رأس الميت ووجهه والشافعي وموافقوه يقولون
يباح ستر الوجه فتعين تأويل الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم (وكفنوه في ثوبيه)
وفي رواية ثوبين قال القاضي أكثر الروايات ثوبيه وفيه فوائد منها الدلالة لمذهب الشافعي
وموافقيه في أن حكم الاحرام باق فيه ومنها أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز وهو مجمع
عليه ومنها جواز التكفين في ثوبين والأفضل ثلاثة ومنها أن الكفن مقدم على الدين وغيره
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسال هل عليه دين مستغرق أم لا ومنها أن التكفين واجب
وهو اجماع في حق المسلم وكذلك غسله والصلاة عليه ودفنه وقوله خر من بعيره أي سقط وقوله
وقص أي انكسر عنقه وقصته وأوقصته بمعناه قوله (فأقعصته) أي قتلته في الحال ومنه قعاص
الغنم وهو موتها بداء يأخذها تموت فجأة قوله صلى الله عليه وسلم (فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا
وملبدا ويلبي) معناه على هيأته التي مات عليها ومعه علامة لحجه وهي دلالة الفضيلة كما يجئ
129

الشهيد يوم القيامة وأوداجه تشخب دما وفيه دليل على استحباب دوام التلبية في الاحرام
وعلى استحباب التلبيد وسبق بيان هذا قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تحنطوه) هو بالحاء المهملة
أي لا تمسوه حنوطا والحنوط بفتح الحاء ويقال له الحناط بكسر الحاء وهو أخلاط من طيب
تجمع للميت خاصة لا تستعمل في غيره قوله في رواية علي بن خشرم (أقبل رجل حراما) هكذا
هو في معظم النسخ وفي بعضها حرام وهذا هو الوجه وللأول وجه ويكون حالا وقد جاءت الحال
من النكرة على قلة قوله (حدثنا محمد بن الصباح حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر حدثنا سعيد
ابن جبير) أبو بشر هذا هو الغبري واسمه الوليد بن مسلم بن شهاب البصري وهو تابعي
روى عن جندب بن عبد الله الصحابي رضي الله عنه وانفرد مسلم بالرواية عن أبي بشر هذا
واتفقوا على توثيقه قوله (حدثنا عبد بن حميد قال حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن منصور
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس) قال القاضي هذا الحديث ما استدركه الدارقطني على مسلم
130

وقال إنما سمعه منصور من الحكم وكذا أخرجه البخاري عن منصور عن الحكم عن سعيد وهو
الصواب وقيل عن منصور عن سلمه ولا يصح والله أعلم
جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه
فيه حديث ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حجي واشترطي
أن محلي حيث حبستني ففيه دلالة لمن قال يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في احرامه أنه ان مرض
تحلل وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة رضي الله عنهم وجماعة
131

من التابعين وأحمد واسحق وأبي ثور وهو الصحيح من مذهب الشافعي وحجتهم هذا الحديث الصحيح
الصريح وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين لا يصح الاشتراط وحملوا الحديث على أنها قضية
عين وأنه مخصوص بضباعة وأشار القاضي عياض إلى تضعيف الحديث فإنه قال قال الأصيلي لا يثبت
في الاشتراط اسناد صحيح قال النسائي لا أعلم أحدا أسنده عن الزهري غير معمر وهذا الذي عرض
به القاضي وقال الأصيلي من تضعيف الحديث غلط فاحش جدا نبهت عليه لئلا يغتر به لأن
هذا الحديث مشهور في صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وسائر كتب
الحديث المعتمدة من طرق متعددة بأسانيد كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيما ذكره مسلم من
تنويع طرقه أبلغ كفاية وفي هذا الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشتراط
في حال الاحرام والله أعلم وأما ضباعة فبضاد معجمة مضمومة ثم موحدة مخففة وهي ضباعة
بنت الزبير بن عبد المطلب كما ذكره مسلم في الكتاب وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم
وأما قول صاحب الوسيط هي ضباعة الأسلمية فغلط فاحش والصواب الهاشمية قوله (فأدركت)
132

معناه أدركت الحج ولم تتحلل حتى فرغت منه
احرام النفساء واستحباب اغتسالها للاحرام وكذا الحائض
فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (نفست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه يأمرها أن تغتسل) قولها نفست أي ولدت
وهي بكسر الفاء لاغير وفي النون لغتان المشهورة ضمها والثانية فتحها سمي نفاسا لخروج النفس
وهو المولود والدم أيضا قال القاضي وتجري اللغتان في الحيض أيضا يقال نفست أي حاضت
بفتح النون وضمها قال ذكرهما صاحب الافعال قال وأنكر جماعة الضم في الحيض وفيه صحة
احرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهما للاحرام وهو مجمع على الأمر به لكن مذهبنا
ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور أنه مستحب وقال الحسن وأهل الظاهر هو واجب والحائض
والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج الا الطواف وركعتيه لقوله صلى الله عليه وسلم اصنعي ما يصنع
الحاج غير أن لا تطوفي وفيه أن ركعتي الاحرام سنة ليستا بشرط لصحة الحج لأن أسماء لم تصلهما
وقوله (نفست بالشجرة) وفي رواية بذي الحليفة وفي رواية بالبيداء هذه المواضع الثلاثة متقاربة
133

فالشجرة بذي الحليفة وأما البيداء فهي بطرف ذي الحليفة قال القاضي يحمل انها نزلت بطرف
البيداء لتبعد عن الناس وكان منزل النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة حقيقة وهناك بات
وأحرم فسمي منزل الناس كلهم باسم منزل امامهم
بيان وجوه الاحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع
(والقران وجواز ادخال الحج على العمرة ومتى يحل القارن من نسكه)
قولهم حجة الوداع سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة
غيرها وكانت سنة عشر من الهجرة اعلم أن أحاديث الباب متظاهرة على جواز افراد الحج عن
العمرة وجواز التمتع والقران وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة وأما النهي الوارد عن عمر
وعثمان رضي الله عنهما فسنوضح معناه في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى والافراد أن يحرم بالحج في
أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منه ثم يحج من عامه والقران أن
يحرم بهما جميعا وكذا لو أحرم بالعمرة وأحرم بالحج قبل طوافها صح وصار قارنا فلو أحرم بالحج
ثم أحرم بالعمرة فقولان للشافعي أصحهما لا يصح احرامه بالعمرة والثاني يصح ويصير قارنا
بشرط أن يكون قبل الشروع في أسباب التحلل من الحج وقيل قبل الوقوف بعرفات وقيل قبل
فعل فرض وقيل قبل طواف القدوم أو غيره واختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل
فقال الشافعي ومالك وكثيرون أفضلها الافراد ثم التمتع ثم القران وقال أحمد وآخرون أفضلها
134

التمتع وقال أبو حنيفة وآخرون أفضلها القران وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي
والصحيح تفضيل الافراد ثم التمتع ثم القران واما حجة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا
فيها هل كان مفردا أم متمتعا أم قارنا وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة وكل
طائفة رجحت نوعا وادعت أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك والصحيح أنه
صلى الله عليه وسلم كان أولا مفردا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارنا
وقد اختلفت روايات أصحابه رضي الله عنهم في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة
الوداع هل كان قارنا أم مفردا أم متمتعا وقد ذكر البخاري ومسلم رواياتهم كذلك وطريق
الجمع بينها ما ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان أولا مفردا ثم صار قارنا فمن روى الافراد
هو الأصل ومن روى القران اعتمد آخر الأمر ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو
الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقران كارتفاق المتمتع وزيادة في الاقتصار على فعل واحد
وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها وقد جمع بينها أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب صنفه
في حجة الوداع خاصة وادعى أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا وتأول باقي الأحاديث والصحيح
ما سبق وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب بأدلته وجميع طرق الحديث وكلام العلماء المتعلق
بها واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الافراد بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عمر وابن
عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة
لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة
إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقة النبي
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال كان أنس
يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وانى كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني
لعابها أسمعه يلبي بالحج وأما عائشة فقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف وكذلك
اطلاعها على باطن أمره وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فقهها وعظم فطنتها وأما
ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة ومن دلائل ترجيح
الافراد أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا
135

على افراده كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم واختلف فعل علي رضي الله عنه
ولو لم يكن الافراد أفضل وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا عليه مع أنهم
الأئمة الأعلام وقادة الاسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم فكيف يليق بهم المواظبة على
خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الخلاف عن علي رضي الله عنه وغيره فإنما
فعلوه لبيان الجواز وقد ثبت في الصحيح ما يوضح ذلك ومنها أن الافراد لا يجب فيه دم بالاجماع
وذلك لكماله ويجب الدم في التمتع والقران وهو دم جبران لفوات الميقات وغيره فكان مالا
يحتاج إلى جبر أفضل ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الافراد من غير كراهة وكره عمر وعثمان
وغيرهما التمتع وبعضهم التمتع والقران فكان الافراد أفضل والله أعلم قيل كيف وقع الاختلاف
بين الصحابة رضي الله عنهم في صفة حجته صلى الله عليه وسلم وهي حجة واحدة كل واحد
منهم يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة قال القاضي عياض قد أكثر الناس الكلام على هذه
الأحاديث فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن مطيل مكثر ومن مقتصر مختصر قال وأوسعهم
في ذلك نفسا أبو جعفر الطحاوي الحنفي فإنه تكلم في ذلك في زيادة على ألف ورقة وتكلم معه
في ذلك أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلب والقاضي أبو عبد الله بن
المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم قال
القاضي عياض وأولى ما يقال في هذا على ما فحصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما
هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس فعل هذه الأنواع
الثلاثة ليدل على جواز جميعها ولو أمر بواحد لكان غيره يظن أنه لا يجزي فأضيف الجميع إليه
وأخبر كل واحد بما أمره به واباحه له ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما لأمره به واما
لتأويله عليه وأما احرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل فاحرم مفردا للحج وبه تظاهرت
الروايات الصحيحة وأما الروايات بأنه كان متمتعا فمعناها أمر به وأما الروايات بأنه كان قارنا
فاخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء احرامه بل أخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من
حجهم وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية الا من كان معه هدي وكان هو صلى الله عليه وسلم
ومن معه هدى في آخر احرامهم قارنين بمعنى أنهم أدخلوا
العمرة على الحج وفعل ذلك مواساة
لأصحابه وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج ولم يمكنه
136

التحلل معهم بسبب الهدي واعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم فصار صلى الله عليه وسلم
قارنا في آخر أمره وقد اتفق جمهور العلماء على جواز ادخال الحج على العمرة وشذ بعض
الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا تدخل صلاة على صلاة واختلفوا في
ادخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي وهو قول الشافعي لهذه الأحاديث ومنعه آخرون
وجعلوا هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج قال
وكذلك يتناول قول من قال كان متمتعا أي تمتع بفعل العمرة في أشهر الحج وفعلها مع الحج
لأن لفظ التمتع يطلق على معان فانتظمت الأحاديث واتفقت قال ولا يبعد رد ما ورد عن الصحابة
من فعل مثل ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة أنهم أحرموا بالحج مفردا فيكون الافراد
اخبارا عن فعلهم أولا والقران اخبارا عن احرام الذين معهم هدي بالعمرة ثانيا والتمتع
لفسخهم الحج إلى العمرة ثم اهلالهم بالحج بعد التحلل منها كما فعل كل من لم يكن معه هدي
قال القاضي وقال بعض علمائنا أنه أحرم صلى الله عليه وسلم إحراما مطلقا منتظرا
ما يؤمر به من افراد أو تمتع أو قران ثم أمر بالعمرة معه في وادي العقبة بقوله
صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة قال القاضي والذي سبق أبين وأحسن في التأويل هذا
آخر كلام القاضي عياض ثم قال القاضي في موضع آخر بعده لا يصح قول من قال أحرم النبي
صلى الله عليه وسلم احراما مطلقا مبهما لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة
مصرحة بخلافه قال الخطابي قد أنعم الشافعي ببيان هذا في كتابه اختلاف الحديث وجود
الكلام قال الخطابي وفي اقتصاص كل ما قاله تطويل ولكن الوجيه والمختصر من جوامع ما قال إن
معلوما في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الأمر كجواز اضافته إلى الفاعل كقولك بنى فلان
دارا إذا أمر ببنائها وضرب الأمير فلانا إذا أمر بضربه ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا
وقطع سارق رداء واصفوان وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام وكان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم منهم المفرد والمتمتع والقارن كل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن
تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها
قال ويحتمل أن بعضهم سمعه يقول لبيك بحجة فحكى عنه أنه أفرد وخفى عليه قوله وعمرة فلم
يحك الا ما سمع وسمع أنس وغيره الزيادة وهي لبيك بحجة وعمرة ولا ينكر قبول الزيادة وإنما
137

يحصل التناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فاما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه
تناقض قال ويحتمل أن الراوي سمعه يقول لغيره على وجه التعليم فيقول له لبيك بحجة وعمرة
على سبيل التلقين فهذه الروايات المختلفة ظاهرا ليس فيها تناقض والجمع بينها سهل كما ذكرنا والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (من كان معه هدي) يقال هدي باسكان الدال وتخفيف الياء
وهدي بكسر الدال وتشديد الياء لغتان مشهورتان الأولى افصح وأشهر وهو اسم لما يهدى إلى
الحرم من الأنعام وسوق الهدي سنة لمن أراد أن يحرم بحج أو عمرة قوله (عن عروة عن
عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة) وفي الرواية
الأخرى قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة
ومنا من أهل بحج قالت ولم أهل الا بعمرة قال القاضي عياض اختلفت الروايات عن عائشة
فيما أحرمت به اختلافا كثيرا فذكر مسلم من ذلك ما قدمناه وفي رواية لمسلم أيضا عنها خرجنا
لا نرى الا الحج وفي رواية القاسم عنها خرجنا مهلين بالحج وفي رواية لا نذكر الا الحج وكل
هذه الروايات صريحة في أنها أحرمت بالحج وفي رواية الأسود عنها نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة
قال القاضي واختلف العلماء في الكلام على حديث عائشة فقال مالك ليس العمل على حديث
عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا وقال بعضهم يترجح أنها كانت محرمة بحج لأنها رواية
عمرة والأسود والقاسم وغلطوا عروة في العمرة وممن ذهب إلى هذا القاضي إسماعيل ورجحوا
رواية غير عروة على روايته لأن عروة قال في رواية حماد بن زيد عن هاشم عنه حدثني غير
واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها دعي عمرتك فقد بان أنه لم يسمع الحديث منها قال
القاضي رحمه الله وليس هذا بواضح لأنه يحتمل أنها ممن حدثه ذلك قالوا أيضا ولأن رواية عمرة
138

والقاسم نسقت عمل عائشة في الحج من أوله إلى آخره ولهذا قال القاسم عن رواية عمرة أنبأتك
بالحديث على وجهه قالوا ولأن رواية عروة أنما أخبر عن احرام عائشة والجمع بين الروايات
ممكن فأحرمت أولا بالحج كما صح عنها في رواية الأكثرين وكما هو الأصح من فعل النبي
صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه ثم أحرمت بالعمرة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفسخ
الحج إلى العمرة وهكذا فسره القاسم في حديثه فأخبر عروة عنها باعتمارها في آخر الأمر ولم
يذكر أول أمرها قال القاضي وقد تعارض هذا بما صح عنها في اخبارها عن فعل الصحابة و
اختلافهم في الاحرام وأنها أحرمت هي بعمرة فالحاصل أنها أحرمت بحج ثم فسخته إلى عمرة
حين أمر الناس بالفسخ فلما حاضت وتعذر عليها اتمام العمرة والتحلل منها وادراك الاحرام
بالحج أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاحرام بالحج فأحرمت فصارت مدخلة للحج على
العمرة وقارنة وقوله صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ليس معناه ابطالها بالكلية والخروج منها فان العمرة والحج لا يصح الخروج منهما بعد الاحرام بنية الخروج وإنما
يخرج منها بالتحلل بعد فراغها بل معناه ارفضي العمل فيها واتمام أفعالها التي هي الطواف
والسعي وتقصير شعر الرأس فأمرها صلى الله عليه وسلم بالاعراض عن أفعال العمرة وان
تحرم بالحج فتصير قارنة وتقف بعرفات وتفعل المناسك كلها الا الطواف فتؤخره حتى تطهر
وكذلك فعلت قال العلماء ومما يؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية عبد بن
حميد وامسكي عن العمرة ومما يصرح بهذا التأويل رواية مسلم بعد هذا في آخر روايات
عائشة عن محمد بن حاتم عن بهز عن وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عائشة
رضي الله عنها أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها
وقد أهلت بالحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك
فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج هذا لفظه فقوله صلى الله عليه وسلم
يسعك طوافك لحجك وعمرتك تصريح بأن عمرتها باقية صحيحة مجزئة وانها لم تلغها
139

وتخرج منها فيتعين تأويل ارفضي عمرتك ودعي عمرتك على ما ذكرناه من رفض العمل فيها
واتمام أفعالها والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى لما مضت
مع أخيها عبد الرحمن ليعمرها من التنعيم (هذه مكان عمرتك) فمعناه أنها أرادت أن يكون
لها عمرة منفردة عن الحج كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا
الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية ثم أحرموا بالحج من مكة يوم
التروية فحصل لهم عمرة منفردة وحجة منفردة وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في
حجة بالقران فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفر يسعك طوافك لحجك وعمرتك
أي وقد تما وحسبا لك جميعا فأبت وأرادت عمرة منفردة كما حصل لباقي الناس فلما اعتمرت
عمرة منفردة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم هذه مكان عمرتك أي التي كنت تريدين حصولها
منفردة غير مندرجة فمنعك الحيض من ذلك وهكذا يقال في قولها يرجع الناس بحج وعمرة
وارجع بحج أي يرجعون بحج منفرد وعمرة منفردة وأرجع انا وليس لي عمرة منفردة وإنما
حرصت على ذلك لتكثر أفعالها وفي هذا تصريح بالرد على من يقول القران أفضل
والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم (انقضى رأسك وامتشطي) فلا يلزم
منه ابطال العمرة لأن نقض الرأس والامتشاط جائزان عندنا في الاحرام بحيث
لا ينتف شعرا ولكن يكره الامتشاط الا لعذر وتأول العلماء فعل عائشة هذا على أنها كانت
معذورة بأن كان في رأسها أذى فأباح لها الامتشاط كما أباح لكعب بن عجرة الحلق للأذى وقيل ليس
المراد بالامتشاط هنا حقيقة الامتشاط بالمشط بل تسريح الشعر بالأصابع للغسل لاحرامها
بالحج لا سيما أن كانت لبدت رأسها كما هو السنة وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح
غسلها الا بايصال الماء إلى جميع شعرها ويلزم من هذا نقضه والله أعلم قولها (وأما الذين كانوا
140

جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا) هذا دليل على أن القارن يكفيه
طواف واحد عن طواف الركن وأنه يقتصر على أفعال الحج وتندرج أفعال العمرة كلها في أفعال الحج وبهذا قال
الشافعي وهو محكي عن ابن عمر وجابر وعائشة ومالك وأحمد وإسحاق وداود وقال أبو حنيفة
يلزمه طوافان وسعيان وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود والشعبي والنخعي والله
أعلم قولهن (عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
141

عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل
بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) قال القاضي عياض رحمه الله الذي تدل
عليه نصوص الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من رواية عائشة وجابر
وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال لهم هذا القول بعد احرامهم بالحج في منتهى
سفرهم ودنوهم من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافه بالبيت وسعيه كما جاء في رواية
جابر ويحتمل تكرارا الأمر بذلك في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج
إلى العمرة قولها (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة
ومنا من أهل بحج حتى قدمنا مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحرم بعمرة ولم يهد
فليتحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجه) هذا
الحديث ظاهر في الدلالة لمذهب أبي حنيفة وأحمد وموافقهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه
هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه
إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ في الحال سواء كان ساق هديا أم لا
واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ كما
لو تحلل المحرم بالحج وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الروايات التي ذكرها مسلم
بعدها والتي ذكرها قبلها عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة
الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة
ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها
أبو حنيفة وتقديرها ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه ولا بد من هذا
التأويل لأن القضية واحدة والراوي واحد فيتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكرناه والله أعلم
142

قوله صلى الله عليه وسلم (وأمسكي عن العمرة) فيه دلالة ظاهرة على أنها لم تخرج منها وإنما
أمسكت عن أعمالها وأحرمت بالحج فأدرجت أعمالها بالحج كما سبق بيانه وهو مؤيد للتأويل الذي
قدمناه في قوله صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ودعي عمرتك ان المراد رفض اتمام أعمالها لا ابطال
أصل العمرة قولها (فأردفني) فيه دليل على جواز الارداف إذا كانت الدابة مطيقة وقد
تظاهرت الأحاديث الصحيحة بذلك وفيه جواز ارداف الرجل المرأة من محارمه والخلوة بها
وهذا مجمع عليه قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن
يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل) فيه دليل لجواز الأنواع الثلاثة وقد أجمع المسلمون
143

على ذلك وإنما اختلفوا في أفضلها كما سبق قولها (فلما كانت ليلة الحصبة) هي بفتح الحاء
واسكان الصاد المهملتين وهي التي بعد أيام التشريق وسميت بذلك لأنهم نفروا من منى فنزلوا
في المحصب وباتوا به قولها (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع موافين
لهلال ذي الحجة) أي مقارنين لاستهلاله وكان خروجهم قبله لخمس في ذي القعدة كما صرحت
به في رواية عمرة التي ذكرها مسلم بعد هذا من حديث عبد الله بن سلمه عن سليمان بن
بلال عن يحيى عن عمرة قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد منكم أن يهل بعمرة
فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة) هذا مما يحتج به من يقول بتفضيل التمتع ومثله قوله
صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ووجه الدلالة منهما أنه
صلى الله عليه وسلم لا يتمنى الا الأفضل وأجاب القائلون بتفضيل الأفراد بأنه صلى الله عليه وسلم
إنما قال هذا من أجل فسخ الحج إلى العمرة الذي هو خاص لهم في تلك السنة خاصة لمخالفة
الجاهلية ولم يرد بذلك التمتع الذي فيه الخلاف وقال هذا تطييبا لقلوب أصحابه وكانت نفوسهم
لا تسمح بفسخ الحج إلى العمرة كما صرح به في الأحاديث التي بعد هذا فقال لهم صلى الله عليه وسلم
هذا الكلام ومعناه ما يمنعني من موافقتكم فيما أمرتكم به الا سوقي الهدي ولولاه لوافقتكم
ولو استقبلت هذا الرأي وهو الإحرام بالعمرة في اشهر الحج من أول أمري لم أسق الهدى وفي
هذه الرواية تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعا قولها (فقضى الله حجنا وعمرتنا
ولم يكن في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم) هذا محمول على أخبارها عن نفسها أي لم يكن
144

علي في ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم ثم أنه مشكل من حيث أنها كانت قارنة والقارن يلزمه
الدم وكذلك المتمتع ويمكن أن يتأول هذا على أن المراد لم يجب علي دم ارتكاب شئ من
محظورات الاحرام كالطيب وستر الوجه وقتل الصيد وإزالة شعر وظفر وغير ذلك أي لم أرتكب
محظورا فيجب بسببه هدي أو صدقه أو صوم هذا هو المختار في تأويله وقال القاضي عياض
فيه دليل على أنها كانت في حج مفرد لا تمتع ولا قران لأن العلماء مجمعون على وجوب الدم فيهما
الا داود الظاهري فقال لا دم على القارن هذا كلام القاضي وهذا اللفظ وهو قوله ولم يكن في
ذلك هدى ولا صدقة ولا صوم ظاهرة في الرواية الأولى أنه من كلام عائشة ولكن صرح في
الرواية التي بعدها بأنه من كلام هشام بن عروة فيحمل الأول عليه ويكون الأول في معنى
المدرج قولها (خرجنا موافين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال ذي الحجة لا نرى الا الحج
معناه لا نعتقد أنا نحرم الا بالحج لأنا كنا نظن امتناع العمرة في أشهر الحج
145

قولها (حتى إذا كنا بسرف) هو بفتح السين المهملة وكسر الراء وهو ما بين مكة والمدينة بقرب مكة على
أميال منها قيل ستة وقيل سبعة وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل اثنا عشر ميلا قوله صلى الله عليه وسلم
(أنفست) معناه أحضت وهو بفتح النون وضمها لغتان مشهورتان الفتح أفصح والفاء مكسورة
فيهما وأما النفاس الذي هو الولادة فيقال فيه نفست بالضم لا غير قوله صلى الله عليه وسلم في
الحيض (هذا شئ كتبه الله على بنات آدم) هذا تسلية لها وتخفيف لهما ومعناه أنك لست مختصة
به بل كل بنات آدم يكون منهم هذا كما يكون منهن ومن الرجال البول والغائط وغيرهما واستدل البخاري
في صحيحه في كتاب الحيض بعموم هذا الحديث على أن الحيض كان في جميع بنات آدم وأنكر
به على من قال أن الحيض أول ما أرسل ووقع في بني إسرائيل قوله صلى الله عليه وسلم (فاقضي
ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) معنى اقضي إفعلي كما قال في الرواية الأخرى
فاصنعي وفي هذا دليل على أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج
وأقواله وهيأته الا الطواف وركعتيه فيصح الوقوف بعرفات وغيره كما ذكرنا وكذلك الأغسال
146

المشروعة في الحج تشرع للحائض وغيرها ممن ذكرنا وفيه دليل على أن الطواف لا يصح
من الحائض وهذا مجمع عليه لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة
للطواف فقال مالك والشافعي وأحمد هي شرط وقال وأبو حنيفة ليست بشرط وبه قال داود فمن
شرط الطهارة قال العلة في بطلان طواف الحائض عدم الطهارة ومن لم يشترطها قال العلة فيه كونها
ممنوعة من اللبث في المسجد قولها (وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه بالبقر) هذا
محمول على أنه صلى الله عليه وسلم استأذنهن في ذلك فان تضحية الانسان عن غيره لا تجوز
الا بإذنه واستدل به مالك في أن التضحية بالبقر أفضل من بدنة ولا دلالة فيه لأنه ليس فيه ذكر
تفضيل البقر ولا عموم لفظ إنما هي قضية عين محتملة لأمور فلا حجة فيها لما قاله وذهب الشافعي
والأكثرون إلى أن التضحية بالبدنة أفضل من البقرة لقوله صلى الله عليه وسلم من راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة إلى آخره قولها (فطمثت) هو
147

بفتح الطاء وكسر الميم أي حضت يقال حاضت المرأة وتحيضت وطمثت وعركت بفتح الراء ونفست
وضحكت وأعصرت وأكبرت كله بمعنى واحد والاسم منه الحيض والطمس والعراك والضحك
والاكبار والاعصار وهي حائض وحائضة في لغة غربية حكاها الفراء وطامث وعارك ومكبر ومعصر
وفي هذه الأحاديث جواز حج الرجل بامرأته وهو مشروع بالاجماع وأجمعوا على أن
الحج يجب على المرأة إذا استطاعته واختلف السلف هل المحرم لها من شروط الاستطاعة
وأجمعوا على أن لزوجها أن يمنعها من حج التطوع وأما حج الفرض فقال جمهور العلماء ليس
له منعها منه وللشافعي فيه قولان أحدهما لا يمنعها منه كما قال الجمهور وأصحهما له منعها لأن
حقه على الفور والحج على التراخي قال أصحابنا ويستحب له أن يحج بزوجته للأحاديث الصحيحة
فيه قولها (ثم أهلوا حين راحوا) يعني الذين تحللوا بعمرة وأهلوا بالحج حين راحوا إلى منى وذلك
يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وفيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن الأفضل فيمن هو بمكة أن
يحرم بالحج يوم التروية ولا يقدمه عليه وقد سبقت المسألة قولها (أنعس) هو بضم العين قولها
(فأهللت منها بعمرة جزاء لعمرة الناس) أي تقوم مقام عمرة الناس وتكفيني عنها قولها (خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج في اشهر الحج وفي حرم الحج وليالي الحج) قولها
148

حرم الحج هو بضم الحاء والراء كذا ضبطناه وكذا نقله القاضي عياض في المشارق عن جمهور
الرواة قال وضبطه الأصيلي بفتح الراء قال فعلى الضم كأنها تريد الأوقات والمواضع والأشياء
والحالات أما بالفتح فجمع حرمة أي ممنوعات الشرع ومحرماته وكذلك قيل للمرأة المحرمة
بنسب حرمة وجمعها حرم وأما قولها في اشهر الحج فاختلف العلماء في المراد بأشهر الحج في
قوله الله تعالى الحج أشهر معلومات فقال الشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن
بعدهم هي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة تمتد إلى الفجر ليلة النحر وروي هذا
عن مالك أيضا والمشهور عنه شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله وهو مروي أيضا عن ابن
عباس وابن عمر والمشهور عنهما ما قدمناه عن الجمهور قولها (فخرج إلى أصحابه فقال من لم يكن
149

معه منكم هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا فمنهم الآخذ بها والتارك
لها ممن لم يكن معه هدي) وفي الحديث الآخر بعد هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال أو ما شعرت
أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون وفي حديث جاب فأمرنا أن نحل يعني بعمرة وقال في
آخره قال فحلوا قال فحللنا وسمعنا وأطعنا وفي الرواية الأخرى أحلوا ما احرامكم فطوفوا بالبيت
وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا
الذي قدمتم بها متعة قالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج قال افعلوا ما آمركم به هذه الروايات
صحيحة في أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة أمر عزيمة وتحتم بخلاف الرواية
الأولى وهي قوله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل
قال العلماء خيرهم أولا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسا بالعمرة في أشهر الحج لأنهم
كانوا يرونها من أفجر الفجور ثم حتم عليهم بعد ذلك الفسخ وأمرهم به أمر عزيمة وألزمهم
إياه وكره ترددهم في قبول ذلك ثم قبلوه وفعلوه الا من كان معه هدي والله أعلم قولها (سمعت
كلامك مع أصحابك فسمعت بالعمرة) كذا هو في النسخ فسمعت بالعمرة قال القاضي كذا
رواه جمهور رواة مسلم ورواه بعضهم فمنعت العمرة وهو الصواب قولها (قال ومالك قلت
150

لا أصلي) فيه استحباب الكناية عن الحيض ونحوه مما يستحى منه ويستشنع لفظه الا إذا
كانت حاجة كإزالة وهم ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (اخرج بأختك من الحرم فلتهل
بعمرة) فيه دليل لما قاله العلماء أن من كان بمكة وأراد العمرة فميقاته لها أدنى الحل
ولا يجوز أن يحرم بها من الحرم فان خالف وأحرم بها من الحرم وخرج إلى الحل قبل
الطواف أجزأه ولا دم عليه وان لم يخرج وطاف وسعى وحلق ففيه قولان أحدهما لا تصح
عمرته حتى يخرج إلى الحال ثم يطوف ويسعى ويحلق والثاني وهو الأصح يصح وعليه دم لتركه
الميقات قال العلماء وإنما وجب الخروج إلى الحل ليجمع في نسكه بين الحل والحرم كما أن الحاج
يجمع بينهما فإنه يقف بعرفات وهي في الحل ثم يدخل مكة للطواف وغيره هذا تفصيل
مذهب الشافعي وهكذا قال جمهور العلماء أنه يجب الخروج لاحرام العمرة إلى أدنى الحل
وأنه لو أحرم بها في الحرم ولم يخرج لزمه دم وقال عطاء لا شئ عليه وقال مالك لا يجزئه
151

حتى يخرج إلى الحل قال القاضي عياض وقال مالك لا بد من احرامه من التنعيم خاصة
قالوا وهو ميقات المعتمرين من مكة وهذا شاذ مردود والذي عليه الجماهير ان
جميع جهات الحل سواء ولا تختص بالتنعيم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولكنها
على قدر نصبك أو قال نفقتك) هذا ظاهر في أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة
152

النصب والنفقة والمراد النصب الذي لا يذمه الشرع وكذا النفقة قولها (قالت صفية
ما أراني حابستكم قال عقرى حلقي أو ما كنت طفت يوم النحر قالت بلى قال لا بأس انفرى)
معناه أن صفية أم المؤمنين رضي الله عنها حاضت قبل طواف الوداع فلما أراد النبي
صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى المدينة قالت ما أظنني الا حابستكم لانتظار طهري وطوافي
للوداع فانى لم أطف للوداع وقد حضت ولا يمكنني الطواف الآن وظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما كنت طفت طواف الإفاضة يوم النحر قالت بلى قال يكفيك
ذلك لأنه هو الطواف الذي هو ركن ولا بد لكل أحد منه وأما طواف الوداع فلا يجب
على الحائض وأما قوله صلى الله عليه وسلم (عقرى حلقي) فهكذا يرويه المحدثون بالألف التي
هي ألف التأنيث ويكتبونه بالياء ولا ينونونه وهكذا نقله جماعة لا يحصون من أئمة اللغة وغيرهم
عن رواية المحدثين وهو صحيح فصيح قال الأزهري في تهذيب اللغة قال أبو عبيد معنى عقرى
153

عقرها الله تعالى وحلقى حلقها الله قال يعنى عقر الله جسدها وأصابها بوجع في حلقها قال أبو
عبيد أصحاب الحديث يروونه عقرى حلقي وإنما هو عقرا حلقا قال وهذا على مذهب العرب في
الدعاء على الشئ من غير إرادة وقوعه قال شمر قلت لأبي عبيد لم لا تجيز عقرى فقال لأن فعلى
تجئ نعتا ولم تجئ في الدعاء فقلت روى ابن شميل عن العرب مطبرى وعقرى أخف منها فلم
ينكره هذا آخر ما ذكره الأزهري وقال صاحب المحكم يقال للمرأة عقرى حلقي معناه عقرها الله
وحلقها أي حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها قال فعقرى ههنا مصدر كدعوى وقيل معناه
تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها وقيل العقرب الحائض وقيل عقرى حلقي أي عقرها الله وحلقها هذا
آخر كلام صاحب المحكم وقيل معناه جعلها الله عاقرا لا تلد وحلقى مشؤمة على أهلها وعلى كل قول
فهي كلمة كان أصلها ما ذكرناه ثم اتسعت العرب فيها فصارت تطلقها ولا تريد حقيقة ما وضعت
له أولا ونظيره تربت يداه وقاتله الله ما أشجعه وما أشعره والله أعلم وفي هذا الحديث دليل على
أن طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر إلى طهرها لتأتي به ولا دم عليها في تركه
وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه القاضي عن بعض السلف وهو شاذ مردود وقولها
154

(فدخل على وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أو ما شعرت أنى
أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون) أما غضبه صلى الله عليه وسلم فلانتهاك حرمة الشرع وترددهم
في قبول حكمه وقد قال الله تعالى وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فغضب صلى الله عليه وسلم لما ذكرناه من انتهاك
حرمة الشرع والحزن عليهم في نقص ايمانهم بتوقفهم وفيه دلالة لاستحباب الغضب عند
انتهاك حرمة الدين وفيه جواز الدعاء على المخالف لحكم الشرع والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون قال الحكم كأنهم يترددون أحسب) قال
القاضي كذا وقع هذا اللفظ وهو صحيح وإن كان فيه اشكال قال وزاد اشكاله تغيير وهو قوله
قال الحكم كأنهم يترددون وكذا رواه ابن أبي شيبة عن الحكم ومعناه أن الحكم شك في لفظ
النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع ضبطه لمعناه فشك هل قال يترددون أو نحوه من الكلام ولهذا
قال بعده أحسب أي أظن أن هذا لفظه ويؤيده قول مسلم بعده في حديث غندر ولم يذكر
الشك من الحكم في قوله يترددون والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولو أنى استقبلت
من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى) هذا دليل على جواز قول لو في التأسف على فوات أمور
155

الدين ومصالح الشرع وأما الحديث الصحيح في أن لو تفتح عمل الشيطان فمحمول على التأسف
على حظوظ الدنيا ونحوها وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال لو في غير حظوظ
الدنيا ونحوها فيجمع بين الأحاديث بما ذكرناه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (يجزى عنك
طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك) فيه دلالة ظاهرة على أنها كانت قارنة ولم ترفض
العمرة رفض ابطال بل تركت الاستمرار في أعمال العمرة بانفرادها وقد سبق تقرير هذا في
أول هذا الباب وسبق هناك الاستدلال أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم هنا يسعك طوافك لحجك و
عمرتك قوله في حديث صفية بنت شيبة (عن عائشة فجعلت أرفع خماري أحسره عن عنقي فيضرب
156

رجلي بعلة الراحلة قلت له وهل ترى من أحد قالت فأهللت بعمرة) أما قولها أحسره فبكسر
السين وضمها لغتان أي أكشفه وأزيله وأما قولها بعلة الراحلة فالمشهور في اللغة أنه بباء موحدة
ثم عين مهملة مكسورتين ثم لام مشددة ثم هاء وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى وقع في بعض
الروايات نعلة يعنى بالنون وفي بعضها بالباء قال وهو كلام مختل قال قال بعضهم صوابه
ثغنة الراحلة أي فخذها يريد ما خشن من مواضع مباركها قال أهل اللغة كان ما ولى الأرض من
كل ذي أربع إذا برك فهو ثغنة قال القاضي ومع هذا فلا يستقيم هذا الكلام ولا جوابها لأخيها
بقولها وهل ترى من أحد ولأن رجل الراكب قل ما تبلغ ثغنة الراحلة قال وكل هذا وهم قال
والصواب فيضرب رجلي بنعلة السيف يعنى أنها لما حسرت خمارها ضرب أخوها رجلها بنعلة
السيف فقالت وهل ترى من أحد هذا كلام القاضي قلت ويحتمل أن المراد فيضرب رجلي
بسبب الراحلة أي يضرب رجلي عامدا لها في صورة من يضرب الراحلة ويكون قولها بعلة معناه
بسبب والمعنى أنه يضرب رجلها بسوط أو عصا أو غير ذلك حين تكشف خمارها عن عنقها
غيرة عليها فتقول له هي وهل ترى من أحد أي نحن في خلاء ليس هنا أجنبي أستتر منه وهذا التأويل
متعين أو كالمتعين لأنه مطابق للفظ الذي صحت به الرواية وللمعنى ولسياق الكلام فتعين
اعتماده والله أعلم قولها (وهو بالحصبة) هو بفتح الحاء واسكان الصاد المهملتين أي بالمحصب
قولها (فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا
مصعدة وهو منهبط منها) وقالت في الرواية الأخرى (فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
في منزله فقال هل فرغت فقلت نعم فاذن في أصحابه فخرج فمر بالبيت وطاف) وفي الرواية
الأخرى (فأقبلنا حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحصبة) وجه الجمع بين هذه الروايات
أنه صلى الله عليه وسلم بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب وواعدها أن تلحقه بعد
اعتمارها ثم خرج هو صلى الله عليه وسلم بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع
157

ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع وكل هذا في الليل وهي الليلة التي تلي أيام التشريق
فلقيها صلى الله عليه وسلم وهو صادر بعد طواف الوداع وهي داخلة لطواف عمرتها ثم
فرغت من عمرتها ولحقته صلى الله عليه وسلم وهو بعد في منزله بالمحصب وأما قولها فأذن
في أصحابه فخرج فمر بالبيت وطاف فيتأول على أن في الكلام تقديما وتأخيرا وأن طوافه
صلى الله عليه وسلم كان بعد خروجها إلى العمرة وقبل رجوعها وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة
قوله في حديث جابر (أن عائشة عركت) هو بفتح العين والراء ومعناه حاضت يقال عركت
تعرك عروكا كقعدت تقعد قعودا قوله (أهللنا يوم التروية) وهو اليوم الثامن من ذي الحجة
وسبق بيانه وفيه دليل لمذهب الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج استحب
158

له أن يحرم يوم التروية ولا يقدمه عليه وسبقت المسألة ومذاهب العلماء فيها في أوائل كتاب الحج
قوله صلى الله عليه وسلم (هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) هذا الغسل هو
الغسل للاحرام وقد سبق بيانه وأنه يستحب لكل من أراد الاحرام بحج أو عمرة سواء الحائض
وغيرها قوله (حتى إذا طهرت) بفتح الطاء وضمها والفتح أفصح قوله (حتى إذا طهرت طافت
بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا) هذا صريح في أن عمرتها
لم تبطل ولم تخرج منها وأن قوله صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك ودعى عمرتك متأول كما سبق
بيانه واضحا في أوائل هذا الباب قوله (حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم
قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا) يستنبط منه ثلاث مسائل حسنة إحداها أن عائشة
رضي الله عنها كانت قارنة ولم تبطل عمرتها وأن الرفض المذكور متأول كما سبق والثانية أن القارن يكفيه
طواف واحد وسعى واحد وهو مذهب الشافعي والجمهور وقال أبو حنيفة وطائفة يلزمه
طوافان وسعيان والثالثة أن السعي بين الصفا والمروة يشترط وقوعه بعد طواف صحيح وموضع
الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصنع ما يصنع الحاج غير الطواف بالبيت ولم
تسع كما لم تطف فلو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته واعلم أن طهر عائشة
159

هذا المذكور كان يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع وكان ابتداء حيضها هذا يوم
السبت أيضا لثلاث خلون من ذي الحجة سنة عشر ذكره أبو محمد بن حزم في كتاب حجة
الوداع قوله (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا حتى إذا هويت الشئ
تابعها عليه) معناه إذا هويت شيئا لا نقص فيه في الدين مثل طلبها الاعتمار وغيره أجابها إليه
وقوله سهلا اي سهل الخلق كريم الشمائل لطيفا ميسرا في الخلق كما قال الله تعالى عنه لعلى
خلق عظيم وفيه حسن معاشر الأزواج قال الله تعالى بالمعروف لا سيما فيما كان
من باب الطاعة والله أعلم قوله (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء
والولدان) الولدان هم الصبيان ففيه صحة حج الصبي والحج به ومذهب مالك والشافعي وأحمد
والعلماء كافة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم أنه يصح حج الصبي ويثاب عليه ويترتب عليه
أحكام حج البالغ الا أنه لا يجزيه عن فرض الاسلام فإذا بلغ بعد ذلك واستطاع لزمه فرض
160

الاسلام وخالف أبو حنيفة الجمهور فقال لا يصح له احرام ولا حج ولا ثواب فيه ولا يترتب
عليه شئ من أحكام الحج قال وإنما يحج به ليتمرن ويتعلم ويتجنب محظوراته للتعلم قال
وكذلك لا تصح صلاته وإنما يؤمر بها لما ذكرناه وكذلك عنده سائر العبادات والصواب
مذهب الجمهور لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة رفعت صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا
حج قال نعم والله أعلم قوله (ومسسنا الطيب) هو بكسر السين الأولى هذه اللغة المشهورة
وفي لغة قليلة بفتحها حكاها أبو عبيد والجوهري قال الجوهري يقال مسست الشئ بكسر السين
أمسه بفتح الميم مسا فهذه اللغة الفصيحة قال وحكى أبو عبيدة مسست الشئ بالفتح أمسه بضم
الميم قال وربما قالوا مست الشئ يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها إلى الميم قال ومنهم
من لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة قوله (وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة)
يعنى القارن منا وأما المتمتع فلا بد له من السعي بني الصفا والمروة في الحج بعد رجوعه من
عرفات وبعد طواف الإفاضة قوله فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن نشترك في
الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة) البدنة تطلق على البعير والبقرة والشاة لكن غالب استعمالها
في البعير والمراد بها ههنا البعير والبقرة وهكذا قال العلماء تجزى البدنة من الإبل والبقر كل
واحدة منهما عن سبعة ففي هذا الحديث دلالة لاجزاء كل واحدة منهما عن سبعة أنفس وقيامها عن
مقام سبع شياه وفيه دلالة لجواز الاشتراك في الهدى والأضحية وبه قال الشافعي وموافقوه فيجوز
عند الشافعي اشتراك السبعة في بدنة سواء كانوا متفرقين أو مجتمعين وسواء كانوا مفترضين أو
متطوعين وسواء كانوا متقربين كلهم أو كان بعضهم متقربا وبعضهم يريد اللحم روى هذا عن
161

ابن عمر وأنس وبه قال أحمد وقال مالك يجوز أن كانوا متطوعين ولا يجوز ان كانوا مفترضين
وقال أبو حنيفة ان كانوا متقربين جاز سواء اتفقت قربتهم أو اختلفت وإن كان بعضهم متقربا
وبعضهم يريد اللحم لم يصح للاشتراك قوله (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم
إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح) الأبطح هو بطحاء مكة وهو متصل بالمحصب وقوله
إذا توجهنا إلى منى يعنى يوم التروية كما صرح به في الرواية السابقة وفيه دليل لمذهب الشافعي
وموافقيه أن الأفضل للمتمتع وكل من أراد الاحرام بالحج من مكة أن لا يحرم به الا يوم التروية
وقال مالك وآخرون يحرم من أول ذي الحجة وسبقت المسألة بأدلتها أما قوله فأهللنا من الأبطح
فقد يستدل به من يجوز للمكي والمقيم بها الاحرام بالحج من الحرم وفي المسألة وجهان
لأصحابنا أصحهما لا يجوز أن يحرم بالحج الا من داخل مكة وأفضله من باب داره وقيل من المسجد
الحرام والثاني يجوز من مكة ومن سائر الحرم وقد سبقت المسألة في باب المواقيت فمن قال
بالثاني احتج بحديث جابر هذا لأنهم أحرموا من الأبطح وهو خارج مكة لكنه من الحرم
ومن قال بالأول وهو الأصح قال إنما أحرموا من الأبطح لأنهم كانوا نازلين به وكل من كان
دون الميقات المحدود فميقاته منزله كما سبق في باب المواقيت والله أعلم قوله (لم يطف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة الا طوافا واحدا وهو طوافه الأول) يعنى النبي
162

صلى الله عليه وسلم ومن كان من أصحابه قارنا فهؤلاء لم يسعوا بين الصفا والمروة الا مرة واحدة
وأما من كان متمتعا فإنه سعى سعيين سعيا لعمرته ثم سعيا آخر لحجة يوم النحر وفي هذا
الحديث دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في أن القارن ليس عليه الا طواف واحد للإفاضة
وسعى واحد وممن قال بهذا ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وطاوس وعطاء والحسن
البصري ومجاهد ومالك وبان الماجشون وأحمد واسحق وداود وابن المنذر وقالت طائفة
يلزمه طوافان وسعيان وممن قاله الشعبي والنخعي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود والثوري
والحسن بن صالح وأبو حنيفة وحكى ذلك عن علي وابن مسعود قال ابن المنذر لا يثبت هذا
عن علي رضي الله عنه قوله (صبح رابعة) هو بضم الصاد وكسرها قوله (فأمرنا أن نحل قال
عطاء قال حلوا وأصيبوا النساء قال عطاء ولم يعزم عليهم ولكن أحلهن لهم) معناه لم يعزم
عليهم في وطء النساء بل أباحه ولم يوجبه وأما الاحلال فعزم فيه على من لم يكن معه هدى
قوله (فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى) هو إشارة إلى قرب العهد بوطء النساء قوله
163

(فقدم على من سعايته فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأهد وامكث حراما قال وأهدى له علي رضي الله عنه هديا) السعاية بكسر
السين قال القاضي عياض قوله من سعايته أي من عمله في السعي في الصدقات قال وقال بعض
علمائنا الذي في غير هذا الحديث أنه إنما بعث عليا رضي الله عنه أميرا لا عاملا على الصدقات
إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقات لقوله صلى الله عليه وسلم للفضل بن عباس وعبد المطلب
ابن ربيعة حين سألاه ذلك ان الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ولم يستعملهما قال القاضي
يحتمل أن عليا رضي الله عنه ولى الصدقات وغيرها احتسابا أو أعطى عمالته عليها من غير
الصدقة قال وهذا أشبه لقوله من سعايته والسعاية تختص بالصدقة هذا كلام القاضي وهذا
الذي قاله حسن الا قوله إن السعاية تختص بالعمل على الصدقة فليس كذلك لأنها تستعمل
في مطلق الولاية وإن كان أكثر استعمالها في الولاية على الصدقة ومما يدل لما ذكرته حديث حذيفة
السابق في كتاب الايمان من صحيح مسلم قال في حديث رفع الأمانة ولقد أتى على زمان وما أبالي
أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه على دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه يعنى
الوالي عليه والله أعلم قوله (فقدم علي رضي الله عنه من سعايته فقال بم أهللت قال بما أهل به
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فاهد وامكث حراما قال وأهدى له على
هديا) ثم ذكر مسلم بعد هذا بقليل حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قدمت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي حججت فقلت نعم فقال بم أهللت
قال قلت لبيك باهلال كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال قد أحسنت طف بالبيت وبالصفا
والمروة ثم حل وفي الرواية الأخرى عن أبي موسى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بم
أهللت قال أهللت باهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال هل سقت من هدى قلت لا قال طف
بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل هذان الحديثان متفقان على صحة الاحرام معلقا وهو أن يحرم
164

احراما كاحرام فلان فينعقد احرامه ويصير محرما بما أحرم به فلان واختلف آخر الحديثين
في التحلل فأمر عليا بالبقاء على احرامه وأمر أبا موسى بالتحلل وإنما اختلف آخرهما لأنهما
أحرما كاحرام النبي صلى الله عليه وسلم وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم الهدى فشاركه
على في أن معه الهدى فلهذا أمره بالبقاء على احرامه كما بقي النبي صلى الله عليه وسلم على
احرامه بسبب الهدى وكان قارنا وصار علي رضي الله عنه قارنا وأما أبو موسى فلم يكن
معه هدى فصار له حكم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معه هدى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
أنه لولا الهدى لجعلها عمرة وتحلل فأمر أبا موسى بذلك فلذلك اختلف في أمره صلى الله عليه وسلم
لهما فاعتمد ما ذكرته فهو الصواب وقد تأولهما الخطابي والقاضي عياض تأويلين غير
مرضيين والله أعلم قوله (وأهدى له على هديا) يعنى هديا اشتراه لا أنه من السعاية على الصدقة وفي
هذين الحديثين دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يصح الاحرام معلقا بأن ينوى احراما
كاحرام زيد فيصير هذا المعلق كزيد فإن كان زيد محرما بحج كان هذا بالحج أيضا وإن كان بعمرة
فبعمرة وإن كان بهما فبهما وإن كان زيد أحرم مطلقا صار هذا محرما احراما مطلقا فيصرفه إلى
ما شاء من حج أو عمرة ولا يلزمه موافقة زيد في الصرف ولهذه المسألة فروع كثيرة مشهورة
في كتب الفقه وقد استقصيتها في شرح المهذب ولله الحمد قوله (فقال سراقة بن مالك بن جعشم
يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد قال لأبد) وفي الرواية الأخرى فقام سراقة بن جعشم فقال
يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال
165

دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد وأبد واختلف العلماء في معناه على أقوال أصحها وبه
قال جمهورهم معناه أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلى يوم القيامة والمقصود به
بيان ابطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في اشهر الحج والثاني معناه جواز
القران وتقدير الكلام دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلى يوم القيامة والثالث تأويل
بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة قالوا معناه سقوط العمرة قالوا ودخولها في الحج
معناه سقوط وجوبها وهذا ضعيف أو باطل وسياق الحديث يقتضى بطلانه والرابع
تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه جواز فسخ الحج إلى العمرة وهذا أيضا ضعيف قوله
(حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج) فيه دليل للشافعي وموافقيه أن المتمتع
وكل من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج فالسنة له أن يحرم يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة
وقد سبقت المسألة مرات وقوله (جعلنا مكة بظهر) معناه أهللنا عند إرادتنا الذهاب
إلى منى قوله (حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عام ساق
الهدى معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلوا من احرامكم
فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا
بالحج واجعلوا الذي قدمتم بها متعة) اعلم أن هذا الكلام فيه تقديم وتأخير وتقديره وقد أهلوا بالحج
166

مفردا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا احرامكم عمرة وتحللوا بعمل العمرة وهو معنى فسخ
الحج إلى العمرة وقد اختلف العلماء في هذا الفسخ هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة أم باق
لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة
فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدى أن يقلب احرامه عمرة ويتحلل بأعمالها وقال مالك
والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف هو مختص بهم فتلك السنة لا يجوز بعدها
وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ومما
يستدل به للجماهير حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي ذكره مسلم بعده هذا بقليل كانت المتعة في
الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة يعنى فسخ الحج إلى العمرة وفي كتاب النسائي عن الحارث
ابن بلال عن أبيه قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة
وأما الذي في حديث سراقة ألعامنا هذا أم لأبد فقال لأبد أبد فمعناه جواز الاعتمار في أشهر
الحج كما سبق تفسيره فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم
القيامة وكذلك القران وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة والله أعلم قول صلى الله عليه وسلم
(حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا الذي قدمتم بها متعة قالوا كيف نجعلها متعة وقد
سمينا الحج فقال افعلوا ما آمركم به فلولا أنى سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم به) هذا دليل ظاهر
لمذهب الشافعي ومالك وموافقيهما في ترجيح الافراد وان غالبهم كانوا محرمين بالحج ويتأول رواية
من روى متمتعين أنه أراد في آخر الامر صاروا متمتعين كما سبق تقريره في أوائل هذا الباب
167

وفيه دليل للشافعي وموافقيه في أن من كان بمكة وأراد الحج إنما يحرم به من يوم التروية وقد
ذكرنا المسألة مرات قوله (كان ابن عباس يأمرنا بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت
ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
قام عمر قال إن الله يحل لرسوله ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة
كما أمركم الله وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل الا رجمته بالحجارة)
وفي الرواية الآخرى عن عمر رضي الله عنه فافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم
وذكر بعد هذا من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يفتى بالمتعة ويحتج بأمر
168

النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك وقول عمر رضي الله عنه أن نأخذ بكتاب الله فان الله تعالى
أمر بالاتمام وذكر عن عثمان أنه كان ينهى عن المتعة أو العمرة وأن عليا خالفه في ذلك وأهل
بهما جميعا وذكر قول أبي ذر رضي الله عنه كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
خاصة وفي رواية رخصة وذكر قول عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر طائفة
من أهله في العشر فلم تنزل آية تفسخ ذلك وفي رواية جمع بني حج وعمرة ثم لم ينزل فيها
كتاب ولم ينه قاله المازري اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج فقيل هي فسخ الحج
إلى العمرة وقيل هي العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه وعلى هذا إنما نهى عنها ترغيبا في
الافراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها وقال القاضي عياض ظاهر حديث جابر
وعمران وأبي موسى أن المتعة التي اختلفوا فيها إنما هي فسخ الحج إلى العمرة قال ولهذا
كان عمر رضي الله عنه يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج وإنما
ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصا في تلك السنة
للحكمة التي قدمنا ذكرها قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن التمتع المراد بقوله الله تعالى
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج قال ومن
التمتع أيضا القران لأنه تمتع بسقوط سفره للنسك الآخر من بلده قال ومن التمتع أيضا
فسخ الحج إلى العمرة هذا كلام القاضي قلت والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما إنما نهوا عن
المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامة ومرادهم نهى أولوية للترغيب في الأفراد
لكونه أفضل وقد انعقد الاجماع بعد هذا على جواز الافراد والتمتع والقران من غير كراهة
وإنما اختلفوا في الأفضل منها وقد سبقت هذه المسألة في أوائل هذا الباب مستوفاة والله
أعلم وأما قوله في متعة النكاح وهي نكاح المرأة إلى أجل فكان مباحا ثم نسخ يوم
169

خيبر ثم أبيح يوم الفتح ثم نسخ في أيام الفتح واستمر تحريمه إلى الآن والى يوم القيامة
وقد كان فيه خلاف في العصر الأول ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه وسيأتي بسط أحكامه في
كتاب النكاح إن شاء الله
تعالى حجة النبي صلى الله عليه وسلم
فيه حديث جابر رضي الله عنه وهو حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من
مهمات القواعد وهو من افراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه ورواه أبو داود كرواية مسلم
قال القاضي وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنف فيه أبو بكر بن المنذر
جزءا كبيرا وخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا ولو تقصى لزيد على هذا القدر
قريب منه وقد سبق الاحتجاج بنكت منه في أثناء شرح الأحاديث السابقة وسنذكر
ما يحتاج إلى التنبيه عليه على ترتيبه إن شاء الله تعالى قوله (عن جعفر بن محمد عن أبيه قال
دخلنا على جابر بن عبد الله فسأل عن القوم حتى انتهى إلى فقلت أنا محمد بن علي بن حسين
فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زرى الاعلى ثم نزع زرى الأسفل ثم وضع كفه بين ثديي وأنا
يومئذ غلام شاب فقال مرحبا بك يا ابن أخي سل عما شئت فسألته وهو أعمى فحضر وقت الصلاة
فقام في نساجة ملتحفا بها كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ورداؤه إلى جنبه على
170

المشجب فصلى بنا) هذه القطعة فيها فوائد منها أنه يستحب لمن ورد عليه زائرون أو ضيفان
ونحوهم أن يسأل عنهم لينزلهم منازلهم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وفيه اكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
فعل جابر بمحمد بن علي ومنها استحباب قوله للزائر والضيف ونحوهما مرحبا ومنها ملاطفة الزائر بما
يليق به وتأنيسه وهذا سبب حل جابر زرى محمد بن علي ووضع يده بين ثدييه وقوله وأنا يومئذ غلام
شاب فيه تنبيه على أن سبب فعل جابر ذلك التأنيس لكونه صغيرا وأما الرجل الكبير فلا يحسن
ادخال اليد في جيبه والمسح بين ثدييه ومنها جواز إمامة الأعمى البصراء ولا خلاف في جواز ذلك
لكن اختلفوا في الأفضل على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها إمامة الأعمى أفضل
من امامة البصير لأن الأعمى أكمل خشوعا لعدم نظره إلى الملهيات والثاني البصير أفضل لأنه
أكثر احترازا من النجاسات والثالث هما سواء لتعادل فضيلتهما وهذا الثالث هو الأصح
عند أصحابنا وهو نص الشافعي ومنها أن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره ومنها جواز الصلاة
في ثوب واحد مع التمكن من الزيادة عليه ومنها جواز تسمية الثدي للرجل وفيه خلاف
لأهل اللغة منهم من جوزه كالمرأة ومنهم من منعه وقال يختص الثدي بالمرأة ويقال في الرجل
ثندؤة وقد سبق ايضاحه في أوائل كتاب الايمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه فقال
فيه النبي صلى الله عليه وسلم انه من أهل النار وقوله (قام في نساجة) هي بكسر النون وتخفيف
السين المهملة وبالجيم هذا هو المشهور في نسخ بلادنا ورواياتنا لصحيح مسلم وسنن أبي
داود ووقع في بعض النسخ في ساجة بحذف النون ونقله القاضي عياض عن رواية الجمهور
قال وهو الصواب قال والساجة والساج جميعا ثوب كالطيلسان وشبهه قال ورواية النون وقعت
في رواية الفارسي قال ومعناه ثوب ملفق قال قال بعضهم النون خطأ وتصحيف قلت ليس
كذلك بل كلاهما صحيح ويكون ثوبا ملفقا على هيأة الطيلسان قال القاضي في المشارق الساج
والساجة الطيلسان وجمعه سيجان قال وقيل هي الخضر منها خاصة وقال الأزهري هو طيلسان
مقور ينسج كذلك قال وقيل هو الطيلسان الحسن قال ويقال الطيلسان بفتح اللام وكسرها
وضمها وهي أقل وقوله (ورداؤه إلى جنبه على المشجب) هو بميم مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم
جيم ثم باء موحدة وهو واسم لاعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البيت
171

قوله (أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم) هي بكسر الحاء وفتحها والمراد حجة الوداع قوله
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج) يعنى مكث بالمدينة بعد الهجرة قوله (ثم
أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم
ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والاحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ
الشاهد الغائب وتشيع دعوة الاسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد وفيه أنه يستحب للامام
ايذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها قوله (كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله
صلى الله عليه وسلم) قال القاضي هذا مما يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج لأنه صلى الله عليه وسلم
أحرم بالحج وهم لا يخالفونه ولهذا قال جابر وما عمل من شئ عملنا به ومثله توقفهم عن
التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إليهم ومثله تعليق على وأبي موسى احرامهما
على احرام النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس وقد ولدت
(اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي) فيه استحباب غسل الاحرام للنفساء وقد سبق بيانه في
باب مستقل فيه أمر الحائض والنفساء والمستحاضة بالاستثفار وهو أن تشد في وسطها
شيئا وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك
المشدود في وسطها وهو شبيه بثفر الدابة بفتح الفاء وفيه صحة احرام النفساء وهو مجمع عليه
172

والله أعلم قوله (فصلى ركعتين) فيه استحباب ركعتي الاحرام وقد سبق الكلام فيه مبسوطا
قوله (ثم ركب القصواء) هي بفتح القاف وبالمد قال القاضي ووقع في نسخة العذري القصوى
بضم القاف والقصر قال وهو خطأ قال القاضي قال ابن قتيبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم
نوق القصواء والجدعاء والعضباء قال أبو عبيد العضباء اسم لناقة البني صلى الله عليه وسلم ولم تسم
بذلك لشئ أصابها قال القاضي قد ذكر هنا انه ركب القصواء وفي آخر هذا الحديث خطب
على القصواء وفي غير مسلم خطب على ناقته الجدعاء وفي حديث آخر على ناقة خرماء وفي آخر
العضباء وفي حديث آخر كانت له ناقة لا تسبق وفي آخر تسمى مخضرمة وهذا كله يدل على أنها
ناقة واحدة خلاف ما قاله ابن قتيبة وان هذا كان اسمها أو وصفها لهذا الذي بها خلاف ما قال
أبو عبيد لكن يأتي في كتاب النذر أن القصواء غير العضباء كما سنبينه هناك قال الحربي العضب
والجدع والخرم والقصو والخضرمة في الآذان قال ابن الأعرابي القصواء التي قطع طرف أذنها
والجدع أكثر منه وقال الأصمعي والقصو مثله قال وكل قطع في الأذن جدع فان جاوز
الربع فهي عضباء والمخضرم مقطوع الأذنين فان اصطلمتا فهي صلماء وقال أبو عبيد القصواء
المقطوعة الأذن عرضا والمخضرمة المستأصلة والمقطوعة النصف فما فوقه وقال الخليل المخضرمة
مقطوعة الواحدة والعضباء مشقوقة الأذن قال الحربي فالحديث يدل على أن العضباء اسم لها
وان كانت عضباء الأذن فقد جعل اسمها هذا آخر كلام القاضي وقال محمد ابن إبراهيم التيمي
التابعي وغيره أن العضباء والقصواء والجدعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
والله أعلم قوله (نظرت إلى مد بصرى) هكذا هو في جميع النسخ مد بصرى وهو صحيح ومعناه
منتهى بصرى وأنكر بعض أهل اللغة مد بصرى وقال الصواب مدى بصرى وليس هو بمنكر
بل هما لغتان المد أشهر قوله (بين يديه من راكب وماش) فيه جواز الحج راكبا وماشيا وهو
مجمع عليه وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة واجماع الأمة قال الله تعالى واذن في الناس
173

بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر واختلف العلماء في الأفضل منهما فقال مالك والشافعي وجمهور
العلماء الركوب أفضل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون له على وظائف مناسكه
ولأنه أكثر نفقه وقال داود ماشيا أفضل لمشقته وهذا فاسد لأن المشقة ليست مطلوبة قوله
(وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله) معناه الحث على التمسك بما أخبركم عن فعله في
حجته تلك قوله (فأهل بالتوحيد) يعنى قوله لبيك لا شريك لك وفيه إشارة إلى مخالفة ما كانت
الجاهلية تقوله في تلبيتها من لفظ الشرك وقد سبق ذكر تلبيتهم في باب التلبية قوله (فأهل بالتوحيد
لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس
بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا منه ولزم رسول الله
صلى الله عليه وسلم تلبيته) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى فيه إشارة إلى ما روى من زيادة الناس في
التلبية من الثناء والذكر كما روى في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد لبيك ذا النعماء والفضل
الحسن لبيك مرهوبا مرهوبا منك ومرغوبا إليك وعن ابن عمر رضي الله عنه لبيك وسعديك والخير
بيديك والرغباء إليك والعمل وعن أنس رضي الله عنه لبيك حقا تعبدا ورقا قال القاضي
قال أكثر العلماء المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه قال
مالك والشافعي والله أعلم قوله (قال جابر لسنا ننوي الا الحج لسنا نعرف العمرة)
فيه دليل لمن قال بترجيح الافراد وقد سبقت المسألة مستقصاة في أول الباب السابق
قوله (حتى أتينا البيت) فيه بيان أن السنة للحاج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف بعرفات ليطوفوا
174

للقدوم وغير ذلك قوله (حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا) فيه
أن المحرم إذا دخل مكة قبل الوقوف بعرفات يسن له طواف القدوم وهو مجمع عليه وفيه أن
الطواف سبع طوافات وفيه أن السنة أيضا الرمل في الثلاث الأول ويمشي على عادته في الأربع
الأخيرة قال العلماء الرمل هو أسرع المشي مع تقارب الخطا وهو الخبب قال أصحابنا ولا يستحب
الرمل الا في طواف واحد في حج أو عمرة أما إذا طاف في غير حج أو عمرة فلا رمل بلا خلاف
ولا يسرع أيضا في كل طواف حج وإنما يسرع في واحد منها وفيه قولان مشهوران للشافعي
أصحهما طواف يعقبه سعى ويتصور ذلك في طواف القدوم ويتصور في طواف الإفاضة ولا يتصور في
طواف الوداع والقول الثاني أنه لا يسرع الا في طواف القدوم سواء أراد السعي بعده أم لا ويسرع في
طواف العمرة إذ ليس فيها الا طواف واحد والله أعلم قال أصحابنا والاضطباع سنة في الطواف
وقد صح فيه الحديث في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما وهو أن يجعل وسط ردائه تحت
عاتقه الأيمن ويجعل طرفيه على عاتقه الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا قالوا وإنما يسن
الاضطباع في طواف يسن فيه الرمل على ما سبق تفصيله والله أعلم وأما قوله استلم الركن فمعناه
مسحه بيده وهو سنة في كل طواف وسيأتي شرحه واضحا حيث ذكره مسلم بعد هذا إن شاء الله
تعالى قوله (ثم نفر إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى فجعل المقام بينه وبين البيت) هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل طائف إذا
فرغ من طوافه أن يصلى خلف المقام ركعتي الطواف واختلفوا هل هما واجبتان أم سنتان
وعندنا فيه خلاف حاصله ثلاثة أقوال أصحها أنهما سنة والثاني أنهما واجبتان والثالث إن
كان طوافا واجبا فواجبتان والا فسنتان وسواء قلنا واجبتان أو سنتان لو تركهما لم يبطل
طوافه والسنة أن يصليهما خلف المقام فإن لم يفعل ففي الحجر والا ففي المسجد والا ففي مكة
وسائر الحرم ولو صلاهما في وطنه وغيره من أقاصي الأرض جاز وفاتته الفضيلة ولا تفوت
هذه الصلاة ما دام حيا ولو أراد أن يطوف أطوفة استحب أن يصلى عقب كل طواف
175

ركعتيه فلو أراد أن يطوف أطوفة بلا صلاة ثم يصلى بعد الأطوفة لكل طواف ركعتيه قال
أصحابنا يجوز ذلك وهو خلاف الأولى ولا يقال مكروه وممن قال بهذا المسور بن مخرمة
وعائشة وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأحمد وإسحاق وأبو يوسف وكرهه ابن عمر
والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن
المنذر ونقله القاضي عن جمهور الفقهاء قوله (فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره الا عن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون) معنى
هذا الكلام أن جعفر بن محمد روى هذا الحديث عن أبيه عن جابر قال كان أبي يعنى محمدا يقول
أنه قرأ هاتين السورتين قال جعفر ولا أعلم أبي ذكر تلك القراءة عن قراءة جابر في صلاة جابر
بل عن جابر عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة هاتين الركعتين قوله (قل هو الله أحد
وقل يا أيها الكافرون) معناه قرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية
بعد الفاتحة قل هو الله أحد وأما قوله لا أعلم ذكره الا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو شكا
في ذلك لأن لفظة العلم تنافى الشك بل جزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره البيهقي
باسناد صحيح على شرط مسلم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما قل يا أيها الكافرون
وقل هو الله أحد قوله (ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا) فيه
دلالة لما قاله الشافعي وغيره من العلماء أنه يستحب للطائف طواف القدوم إذا فرغ من الطواف
وصلاته خلف المقام أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا ليسعى واتفقوا
على أن هذا الاستلام ليس بواجب وإنما هو سنة لو تركه لم يلزمه دم قوله (ثم خرج من الباب
إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ أن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به فبدأ
176

بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبر وقال لا إله الا الله وحده لا شريك
له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم
الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة) في هذا اللفظ أنواع من
المناسك منها أن السعي يشترط فيه أن يبدأ من الصفا وبه قال الشافعي ومالك والجمهور وقد ثبت
في رواية النسائي في هذا الحديث باسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابدؤا بما بدأ
الله به هكذا بصيغة الجمع ومنها أنه ينبغي أن يرقى على الصفا والمروة وفي هذا الرقى خلاف
قال جمهور أصحابنا هو سنة ليس بشرط ولا واجب فلو تركه صح سعيه لكن فاتته الفضيلة وقال
أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا لا يصح سعيه حتى يصعد على شئ من الصفا والصواب الأول
قال أصحابنا لكن يشترط أن لا يترك شيئا من المسافة بين الصفا والمروة فليلصق عقبيه بدرج
الصفا وإذا وصل المروة ألصق أصابع رجليه بدرجها وهكذا في المرات السبع يشترط في كل
مرة أن يلصق عقبيه بما يبدأ منه وأصابعه بما ينتهى إليه قال أصحابنا يستحب أن يرقى على
الصفا والمروة حتى يرى البيت إن أمكنه ومنها أنه يسن أن يقف على الصفا مستقبل الكعبة
ويذكر الله تعالى بهذا الذكر المذكور ويدعو يكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات هذا هو المشهور
عند أصحابنا وقال جماعة من أصحابنا يكرر الذكر ثلاثا والدعاء مرتين فقط والصواب الأول
قوله صلى الله عليه وسلم (وهزم الأحزاب وحده) معناه هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب
من جهتهم والمراد بالأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكان
الخندق في شوال سنة أربع من الهجرة وقيل سنة خمس قوله (ثم نزل إلى المروة حتى
177

انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشي حتى أتى المروة) هكذا هو في النسخ وكذا
نقله القاضي عياض عن جميع النسخ قال وفيه اسقاط لفظة لا بد منها وهي حتى انصبت قدماه
رمل في بطن الوادي ولا بد منها وقد ثبتت هذه اللفظة في غير رواية مسلم وكذا ذكرها
الحميدي في الجمع بين الصحيحين وفي الموطأ حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى
خرج منه وهو بمعنى رمل هذا كلام القاضي وقد وقع في بعض نسخ صحيح مسلم حتى إذا
انصبت قدماه في بطن الوادي سعى كما وقع في الموطأ وغيره والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب
السعي الشديد في بطن الوادي حتى يصعد ثم يمشى باقي المسافة إلى المروة على عادة مشيه
وهذا السعي مستحب في كل مرة من المرات السبع في هذا الموضع والمشي مستحب
فيما قبل الوادي وبعده ولو مشى في الجميع أو سعى في الجميع أجزأه وفاتته الفضيلة هذا مذهب
الشافعي وموافقيه وعن مالك فيمن ترك السعي الشديد في موضعه روايتان إحداهما كما ذكر
والثانية تجب عليه اعادته قوله (ففعل على المروة مثل ما فعل على الصفا) فيه أنه يسن عليها
من الذكر والدعاء والرقى مثل ما يسن على الصفا وهذا متفق عليه قوله (حتى إذا كان آخر
طواف على المروة) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن الذهاب من الصفا إلى المروة يحسب
مرة والرجوع إلى الصفا ثانية والرجوع إلى المروة ثالثة وهكذا فيكون ابتداء السبع من الصفا
وآخرها بالمروة وقال ابن بنت الشافعي وأبو بكر الصيرفي من أصحابنا يحسب الذهاب إلى المروة
والرجوع إلى الصفا مرة واحدة فيقع آخر السبع في الصفا وهذا الحديث الصحيح يرد عليهما
وكذلك عمل المسلمين على تعاقب الأزمان والله أعلم قوله (فقام سراقة بن مالك بن جعشم
178

فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد) إلى آخره هذا الحديث سبق شرحه واضحا في آخر الباب
الذي قبل هذا وجعشم بضم الجيم وبضم الشين المعجمة وفتحها ذكره الجوهري وغيره قوله
(فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها) فيه انكار الرجل
على زوجته ما رآه منها من نقض في دينها لأنه ظن أن ذلك لا يجوز فأنكره قوله (فذهبت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة) التحريش الاغراء والمراد هنا أن يذكر له
ما يقتضى عتابها قوله (قلت إني أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا قد
سبق شرحه في الباب قبله وأنه يجوز تعليق الاحرام باحرام كاحرام فلان قوله (فحل الناس
كلهم وقصروا الا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى) هذا أيضا تقدم شرحه في الباب
السابق وفيه اطلاق اللفظ العام وإرادة الخصوص لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدى
والمراد بقوله حل الناس كلهم أي معظمهم والهدى باسكان الدال وكسرها وتشديد الياء مع
الكسر وتخفف مع الاسكان وأما قوله وقصروا فإنما قصروا ولم يلحقوا مع أن الحلق أفضل
179

لأنهم أرادوا أن يبقى شعر يحلق في الحج فلو حلقوا لم يبق شعر فكان التقصير هنا أحسن ليحصل
في النسكين إزالة شعر والله أعلم قوله (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج)
يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة سبق بيانه واشتقاقه مرات وسبق أيضا مرات أن الأفضل عند
الشافعي وموافقيه أن من كان بمكة وأراد الاحرام بالحج أحرم يوم التروية عملا بهذا
الحديث وسبق بيان مذاهب العلماء فيه وفي هذا بيان أن السنة أن لا يتقدم أحد إلى منى قبل
يوم التروية وقد كره مالك ذلك وقال بعض السلف لا بأس به ومذهبنا أنه خلاف السنة قوله
(وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر) فيه بيان
سنن إحداها أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي كما أنه في جملة الطريق أفضل من المشي
هذا هو الصحيح في الصورتين أن الركوب أفضل وللشافعي قول آخر ضعيف أن المشي أفضل
وقال بعض أصحابنا الأفضل في جملة الحج الركوب الا في مواطن المناسك وهي مكة ومنى ومزدلفة
وعرفات والتردد بينهما والسنة الثانية أن يصلى بمنى هذه الصلوات الخمس والثالثة أن يبيت بمنى
هذه الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا دم
عليه بالاجماع قوله (ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس) فيه أن السنة أن لا يخرجوا من
منى حتى تطلع الشمس وهذا متفق عليه قوله (وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) فيه
استحباب النزول بنمرة إذا ذهبوا من منى لأن السنة أن لا يدخلوا عرفات الا بعد زوال الشمس
وبعد صلاتي الظهر والعصر جمعا فالسنة أن ينزلوا بنمرة فمن كان له قبة ضربها ويغتسلون
للوقوف قبل الزوال فإذا زالت الشمس سار بهم الامام إلى مسجد إبراهيم عليه السلام وخطب
بهم خطبتين خفيفتين ويخفف الثانية جدا فإذا فرغ منها صلى بهم الظهر والعصر جامعا بينهما فإذا
فرغ من الصلاة سار إلى الموقف وفي هذا الحديث جواز الاستظلال للمحرم بقبة وغيرها ولا
180

خلاف في جوازه للنازل واختلفوا في جوازه للراكب فمذهبنا جوازه وبه قال كثيرون وكرهه
مالك وأحمد وستأتي المسألة مبسوطة في موضعها إن شاء الله تعالى وفيه جواز اتخاذ القباب
وجوازها من شعر وقوله (بنمرة) هي بفتح النون وكسر الميم هذا أصلها ويجوز فيها ما يجوز
في نظيرها وهو اسكان الميم مع فتح النون وكسرها وهي موضع بجنب عرفات وليست من عرفات
قوله (ولا تشك قريش الا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية)
معنى هذا أن قريشا كانت في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام وهو جبل في المزدلفة يقال له قزح
وقيل إن المشعر الحرام كل المزدلفة وهو بفتح الميم على المشهور وبه جاء القرآن وقيل بكسرها
وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم
يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى
عرفات لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى أفيضوا من حيث أفاض الناس أي سائر
العرب غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لأنها من الحرم وكانوا يقولون نحن
أهل حرم الله فلا نخرج منه قوله (فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد
القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس) أما أجاز فمعناه جاوز المزدلفة
ولم يقف بها بل توجه إلى عرفات وأما قوله حتى أتى عرفة فمجاز والمراد قارب عرفات
لأنه فسره بقوله وجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها وقد سبق ان نمرة ليست من عرفات
وقد قدمنا أن دخول عرفات قبل صلاتي الظهر والعصر جميعا خلاف السنة قوله (حتى إذا
زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس) أما القصواء فتقدم ضبطها
وبيانها واضحا في أول هذا الباب وقوله فرحلت هو بتخفيف الحاء أي جعل عليها الرحل وقوله
(بطن الوادي) هو وادي عرنة بضم العين وفتح الراء وبعدها نون وليست عرنة من أرض
181

عرفات عند الشافعي والعلماء كافة الا مالكا فقال هي من عرفات وقوله فخطب الناس فيه استحباب
الخطبة للامام بالحجيج يوم عرفة في هذا الموضع وهو سنة باتفاق جماهير العلماء وخالف فيها
المالكية ومذهب الشافعي أن في الحج أربع خطب مسنونة إحداها يوم السابع من ذي الحجة
يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهرة والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات والثالثة يوم النحر
والرابعة يوم النفر الأول وهو اليوم الثاني من أيام التشريق قال أصحابنا وكل هذه الخطب أفراد
وبعد صلاة الظهر الا التي يوم عرفات فإنها خطبتان وقبل الصلاة قال أصحابنا ويعلمهم في كل
خطبة من هذه ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ان دماءكم
وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا) معناه متأكدة التحريم شديدته وفي هذا
دليل لضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير قياسا قوله صلى الله عليه وسلم (ألا كل شئ من
أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم أضع دم ابن ربيعة بن
الحارث كان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوعة وأول ربا أضع ربانا ربا
العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) في هذه الجملة ابطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل
بها قبض وأنه لا قصاص في قتلها وأن الامام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ينبغي
أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله والى طيب نفس من قرب عهده بالاسلام وأما قوله
صلى الله عليه وسلم تحت قدمي فإشارة إلى ابطاله وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأن أول دم أضع
دم ابن ربيعة فقال المحققون والجمهور اسم هذا الابن اياس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
وقيل اسمه حارثة وقيل آدم قال الدارقطني وهو تصحيف وقيل اسمه تمام وممن سماه آدم الزبير
182

ابن بكار قال القاضي عياض ورواه بعض رواة مسلم دم ربيعة بن الحارث قال وكذا رواه أبو
داود قيل هو وهم والصواب ابن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر
ابن الخطاب وتأوله أبو عبيد فقال دم ربيعة لأنه ولى الدم فنسبه إليه قالوا وكان هذا الابن المقتول
طفلا صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بنى سعد وبنى ليث بن بكر قاله
الزبير بن بكار قوله صلى الله عليه وسلم في الربا (أنه موضوع كله) معناه الزائد على رأس المال
كما قاله الله تعالى وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم وهذا الذي ذكرته ايضاح والا فالمقصود مفهوم من
نفس لفظ الحديث لأن الربا هو الزيادة فإذ وضع الربا فمعناه وضع الزيادة والمراد بالوضع
الرد والابطال قوله صلى الله عليه وسلم (فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله)
فيه الحث على مرعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف وقد جاءت أحاديث كثيرة
صحيحة في الوصية بهن وبيان حقوقهن والتحذير من التقصير في ذلك وقد جمعتها أو معظمها
في رياض الصالحين وقوله صلى الله عليه وسلم (أخذتموهن بأمان الله) هكذا هو في كثير من
الأصول وفي بعضها بأمانة الله قوله صلى الله عليه وسلم (واستحللتم فروجهن بكلمة الله)
قيل معناه قوله تعالى فامساك بمعروف أو تسريح باحسان وقيل المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقيل المراد بإباحة الله
والكلمة قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهذا الثالث هو الصحيح وبالأول قال الخطابي
والهروي وغيرهما وقيل المراد بالكلمة الايجاب والقبول ومعناه على هذا بالكلمة التي أمر الله
تعالى بها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه
فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح) قال المازري قيل المراد بذلك أن لا يستخلين
بالرجال ولم يرد زناها لأن ذلك يوجب جلدها ولأن ذلك حرام مع من يكرهه الزوج ومن
لا يكرهه وقال القاضي عياض كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء ولم يكن ذلك عيبا ولا
183

ريبة عندهم فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك هذا كلام القاضي والمختار أن معناه أن لا يأذن
لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم والجلوس في منازلكم سواء كان المأذون له رجلا أجنبيا أو امرأة
أو أحدا من محارم الزوجة فالنهي يتناول جميع ذلك وهذا حكم المسألة عند الفقهاء أنها لا يحل لها أن
تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج الا من علمت أو ظنت أن الزوج
لا يكرهه لأن الأصل تحريم دخول منزل الانسان حتى يوجد الاذن في ذلك منه أو ممن أذن له
في الاذن في ذلك أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه ومتى حصل الشك في الرضا ولم
يترجح شئ ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الاذن والله أعلم وأما الضرب المبرح فهو الضرب
الشديد الشاق ومعناه اضربوهن ضربا ليس بشديد ولا شاق والبرح المشقة والمبرح بضم الميم وفتح
الموحدة وكسر الراء وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب فان ضربها الضرب المأذون
فيه فماتت منه وجبت ديتها على عاقلة الضارب ووجبت الكفارة في ماله قوله صلى الله عليه وسلم
(ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك
ثابت بالاجماع قوله (فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد)
هكذا ضبطناه ينكتها بعد الكاف تاء مثناة فوق قال القاضي كذا الرواية بالتاء المثناة فوق قال
وهو بعيد المعنى قال قيل صوابه ينكبها بباء موحدة قال ورويناه في سنن أبي داود بالتاء المثناة
من طريق ابن الاعرابي وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس
مشيرا إليهم ومنه نكب كنانته إذا قلبها هذا كلام القاضي قوله (ثم أذن ثم أقام فصلى
الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا) فيه أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر
184

هناك في ذلك اليوم وقد أجمعت الأمة عليه واختلفوا في سببه فقيل بسبب النسك وهو
مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وقال أكثر أصحاب الشافعي هو بسبب السفر
فمن كان حاضرا أو مسافرا دون مرحلتين كاهل مكة لم يجز له الجمع كما لا يجوز له القصر
وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولى أولا وأنه يؤذن للأولى وأنه يقيم لكل
واحدة منهما وأنه لا يفرق بينهما وهذا كله متفق عليه عندنا قوله (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه
واستقبل القبلة فلم يزل وافقا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) في
هذا الفصل مسائل وآداب للوقوف منها أنه إذا فرع من الصلاتين عجل الذهاب إلى الموقف ومنها
أن الوقوف راكبا أفضل وفيه خلاف بين العلماء وفي مذهبنا ثلاثة أقوال أصحها أن الوقوف راكبا
أفضل والثاني غير الراكب أفضل والثالث هما سواء ومنها أنه يستحب أن يقف عند الصخرات
المذكورات وهي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات
فهذا هو الموقف المستحب وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل وتوهمهم أنه
لا يصح الوقوف الا فيه فغلط بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات وأن
الفضيلة في موقف رسول اله صلى الله عليه وسلم عند الصخرات فان عجز فليقرب منه بحسب
الامكان وسيأتي في آخر الحديث بيان حدود عرفات إن شاء الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم
وعرفة كلها موقف ومنها استحباب استقبال الكعبة في الوقوف ومنها أنه ينبغي أن يبقى في
الوقوف حتى تغرب الشمس ويتحقق كمال غروبها ثم يفيض إلى مزدلفة فلو أفاض قبل غروب
الشمس صح وقوفه وحجه ويجبر ذلك بدم وهل الدم واجب أم مستحب فيه قولان للشافعي
أصحهما أنه سنة والثاني واجب وهما مبنيان على أن الجمع بين الليل والنهار واجب على من وقف
بالنهار أم لا وفيه قولان أصحهما سنة والثاني واجب وأما وقت الوقوف فهو ما بين زوال الشمس
185

يوم عرفة وطلوع الفجر الثاني يوم النحر فمن حصل بعرفات في جزء من هذا الزمان صح وقوفه ومن
فاته ذلك فاته الحج هذا مذهب الشافعي وجماهير العلماء وقال مالك لا يصح الوقوف في النهار
منفردا بل لا بد من الليل وحده فان اقتصر على الليل كفاه ان اقتصر على النهار لم يصح
وقوفه وقال أحمد يدخل وقت الوقوف من الفجر يوم عرفة وأجمعوا على أن أصل الوقوف ركن
لا يصح الحج الا به والله أعلم وأما قوله (وجعل حبل المشاة بين يديه) فروى حبل بالحاء المهملة
واسكان الباء وروى جبل بالجيم وفتح الباء قال القاضي عياض رحمه الله الأول أشبه بالحديث
وحبل المشاة أي مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث
تسلك الرجالة وأما قوله (فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب
القرص) هكذا هو في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ قال قيل لعل صوابه حين
غاب القرص هذا كلام القاضي ويحتمل أن الكلام على ظاهره ويكون قوله حتى غاب القرص بيانا
لقوله غربت الشمس وذهبت الصفرة فان هذه تطلق مجازا على مغيب معظم القرص فأزال ذلك
الاحتمال بقوله حتى غاب القرص والله أعلم قوله وأردف أسامة خلفه فيه جواز الإرداف إذا كانت
الدابة مطيقة وقد تظاهرت به الأحاديث قوله (وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب
مورك رحله) معنى شنق ضم وضيق وهو بتخفيف النون ومورك الرحل قال الجوهري قال أبو عبيد
المورك والموركة يعنى بفتح الميم وكسر الراء هو الموضع الذي يثنى الراكب رجله عليه قدام
واسطة الرحل إذا مل من الركوب وضبطه القاضي بفتح الراء قال وهو قطعة ادم يتورك عليها
الراكب تجعل في مقدم الرحل شبه المخدة الصغيرة وفي هذا استحباب الرفق في السير من الراكب
بالمشاة وبأصحاب الدواب الضعيفة قوله (ويقول بيده السكينة السكينة) مرتين منصوبا أي
الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة ففيه أن السكينة في الدفع من عرفات سنة فإذا وجد فرجة
يسرع كما ثبت في الحديث الآخر
186

قوله (كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة)
الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة جمع حبل وهو التل اللطيف من الرمل الضخم
وقوله (حتى تصعد) هو بفتح الياء المثناة فوق وضمها يقال صعد في الحبل وأصعد
ومنه قوله تعالى إذ تصعدون وأما المزدلفة فمعروفة سميت بذلك من التزلف والازدلاف وهو
التقرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها تقربوا منها وقيل سميت
بذلك لمجئ الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات وتسمى جمعا بفتح الجيم واسكان الميم
سميت بذلك لاجتماع الناس فيها وعلم أن المزدلفة كلها من الحرم قال الأزرقي في تاريخ مكة
والماوردي وأصحابنا في كتب المذهب وغيرهم حد مزدلفة ما بين مازمي عرفة ووادي محسر وليس
الحدان منها ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب والجبال الداخلية في حد المذكور قوله (حتى أتى
المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا) فيه فوائد منها أن السنة
للدافع من عرفات أن يؤخر المغرب إلى وقت العشاء ويكون هذا التأخير بنية الجمع ثم يجمع بينهما في
المزدلفة في وقت العشاء وهذا مجمع عليه لكن مذهب أبي حنيفة وطائفة أنه يجمع بسبب النسك ويجوز
لأهل مكة والمزدلفة ومنى وغيرهم والصحيح عند أصحابنا أنه جمع بسبب السفر فلا يجوز إلا لمسافر سفرا
يبلغ به مسافة القصر وهو مرحلتان قاصدتان وللشافعي قول ضعيف أنه يجوز الجمع في كل سفر وإن كان
قصيرا وقال بعض أصحابنا هذا الجمع بسبب النسك كما قال أبو حنيفة والله أعلم قال أصحابنا
ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو في موضع آخر وصلى كل واحدة
في وقتها جاز جميع ذلك لكنه خلاف الأفضل هذا مذهبنا وبه قال جماعات من الصحابة والتابعين
وقاله الأوزاعي وأبو يوسف وأشهب وفقهاء أصحاب الحديث وقال أبو حنيفة وغيره من الكوفيين
يشترط أن يصليهما بالمزدلفة ولا يجوز قبلها وقال مالك لا يجوز أن يصليهما قبل المزدلفة الا من
به أو بدابته عذر فله أن يصليهما قبل المزدلفة بشرط كونه بعد مغيب الشفق ومنها أن يصلي الصلاتين
187

في وقت الثانية بأذان للأولى وإقامتين لكل واحدة إقامة وهذا هو الصحيح عند أصحابنا وبه قال
أحمد بن حنبل وأبو ثور وعبد الملك الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي وقال مالك يؤذن ويقيم
للأولى ويؤذن ويقيم أيضا للثانية وهو محكى عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف أذان واحد وإقامة واحدة وللشافعي وأحمد قول أنه يصلى كل واحدة بإقامتها بلا أذان
وهو محكى عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وقال الثوري يصليهما جميعا بإقامة واحدة وهو
يحكي أيضا عن ابن عمر والله أعلم وأما قوله (لم يسبح بينهما) فمعناه لم يصل بينهما نافلة والنافلة تسمى
سبحة لاشتمالها على التسبيح ففيه الموالاة بين الصلاتين المجموعتين ولا خلاف في هذا لكن اختلفوا هل
هو شرط للجمع أم لا والصحيح عندنا أنه ليس بشرط بل هو سنة مستحبة وقال بعض أصحابنا هو شرط
أما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فالموالاة شرط بلا خلاف قوله (ثم اضطجع رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح باذان وإقامة) في هذا الفصل
مسائل إحداها أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر بعد الدفع من عرفات نسك وهذا مجمع عليه
لكن اختلف العلماء هل هو واجب أم ركن أم سنة والصحيح من قولي الشافعي أنه
واجب لو تركه أثم وصح حجه ولزمه دم والثاني أنه سنة لا اثم في تركه ولا يجب فيه دم
ولكن يستحب وقال جماعة من أصحابنا هو ركن لا يصح الحج الا به كالوقوف بعرفات قاله من
أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة وقاله خمسة من أئمة التابعين وهم
علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري والله أعلم والسنة أن يبقى بالمزدلفة حتى يصلى
بها الصبح الا الضعفة فالسنة لهم الدفع قبل الفجر كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفي
أقل المجزى من هذا المبيت ثلاثة أقوال عندنا الصحيح ساعة في النصف الثاني من الليل والثاني
ساعة في النصف الثاني أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس والثالث معظم الليل والله أعلم المسألة
الثانية السنة أن يبالغ بتقديم صلاة الصبح في هذا الموضع ويتأكد التبكير بها في هذا اليوم
أكثر من تأكده في سائر السنة للاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن وظائف هذا
188

اليوم كثيرة فسن المبالغة بالتبكير بالصبح ليتسع الوقت للوظائف الثالثة يسن الآذان والإقامة
لهذه الصلاة وكذلك غيرها من صلوات المسافر وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالأذان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كما في الحضر والله أعلم قوله (ثم ركب القصواء حتى
أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا
ودفع قبل أن تطلع الشمس) أما القصواء فسبق في أول الباب بيانها وأما قوله ثم ركب ففيه أن
السنة الركوب وأنه أفضل من المشي وقد سبق بيانه مرات وبيان الخلاف فيه وأما المشعر الحرام
فبفتح الميم هذا هو الصحيح وبه جاء القرآن وتظاهرت به روايات الحديث ويقال أيضا بكسر
الميم والمراد به هنا قزح بضم القاف وفتح الزاي وبحاء مهملة وهو جبل معروف في المزدلفة
وهذا الحديث حجة الفقهاء في أن المشعر الحرام هو قزح وقال جماهير المفسرين وأهل السير
والحديث المشعر الحرام جميع المزدلفة وأما قوله فاستقبل القبلة يعني الكعبة فدعاه إلى آخره
فيه أن الوقوف على قزح من مناسك الحج وهذا لا خلاف فيه لكن اختلفوا في وقت الدفع
منه فقال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء لا يزال واقفا فيه يدعو
ويذكر حتى يسفر الصبح جدا كما في هذا الحديث وقال مالك يدفع منه قبل الاسفار والله أعلم
وقوله (أسفر جدا) الضمير في أسفر يعود إلى الفجر المذكور أولا وقوله (جدا) بكسر الجيم أي
أسفارا بليغا قوله في صفة الفضل بن عباس (أبيض وسيما) أي حسنا قوله (مرت به ظعن
يجرين) الظعن بضم الظاء والعين ويجوز إسكان العين جميع ظعينة كسفينة وسفن وأصل الظعينة
البعير الذي عليه امرأة ثم تسمى به المرأة مجازا لملابستها البعير كما أن الرواية أصلها الجمل الذي
189

يحمل الماء ثم تسمى به القرية لما ذكرناه وقوله يجرين بفتح الياء قوله (فطفق الفضل ينظر
إليهن فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل) فيه الحث على غض البصر عن الأجنبيات وغضهن عن الرجال الأجانب وهذا معنى قوله وكان أبيض وسيما حسن الشعر
يعنى أنه بصفة من تفتتن النساء به لحسنه وفي رواية الترمذي وغيره في هذا الحديث أن النبي
صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل فقال له العباس لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة
فلم آمن الشيطان عليهما فهذا يدل على أن وضعه صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل كان
لدفع الفتنة عنه وعنها وفيه أن من رأى منكرا وأمكنه ازالته بيده لزمه ازالته فان قال بلسانه ولم
ينكف المقول له وأمكنه بيده اثم ما دام مقتصرا على اللسان والله أعلم قوله (حتى أتى بطن
محسر فحرك قليلا) أما محسر فبضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين سمى بذلك
لأن قيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعي فيه وكل منه قوله تعالى وقد إليك البصر خاسئا وهو
حسير وأما قوله فحرك قليلا فهي سنة من سنن السير في ذلك الموضع قال أصحابنا يسرع الماشي
ويحرك الراكب دابته في وادي محسر ويكون ذلك قدر رمية حجر والله أعلم قوله (ثم سلك
الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع
حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي) أما قوله سلك الطريق الوسطى
ففيه أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة وهو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى
عرفات وهذا معنى قول أصحابنا يذهب إلى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق المازمين
ليخالف الطريق تفاؤلا بغير الحال كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخول مكة حين دخلها من
190

الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى وخرج إلى العيد في طريق ورجع في طريق آخر وحول رداءه
في الاستسقاء وأما الجمرة الكبرى فهي جمرة العقبة وهي التي عند الشجرة وفيه أن السنة للحاج إذا
دفع من مزدلفة فوصل منى أن يبدأ بجمرة العقبة ولا يفعل شيئا قبل رميها ويكون ذلك قبل نزوله
وفيه أن الرمي بسبع حصيات وأن قدرهن بقدر حصى الخذف وهو نحو حبة الباقلاء وينبغي ألا يكون
أكبر ولا أصغر فإن كان أكبر أو أصغر أجزأه بشرط كونها حجرا ولا يجوز عند الشافعي
والجمهور الرمي بالكحل والزرنيخ والذهب والفضة وغير ذلك مما لا يسمى حجرا وجوزه
أبو حنيفة بكل ما كان من أجزاء الأرض وفيه أنه يسن التكبير مع كل حصاة وفيه أنه يجب
التفريق بين الحصيات فيرميهن واحدة واحدة فان رمى السبعة رمية واحدة حسب ذلك كله
حصاة واحدة عندنا وعند الأكثرين وموضع الدلالة لهذه المسألة يكبر مع كل حصاة فهذا تصريح
بأنه رمى كل حصاة وحدها مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي بعد هذا في أحاديث
الرمي لتأخذوا عنى مناسككم وفيه أن السنة أن يقف للرمي في بطن الوادي بحيث تكون منى
وعرفات والمزدلفة عن يمينه ومكة عن يساره وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث
الصحيحة وقيل يقف مستقبل الكعبة وكيفما رمى أجزأه بحيث يسمى رميا بما يسمى حجرا
والله أعلم وأما حكم الرمي فالمشروع منه يوم النحر رمى جمرة العقبة لا غير باجماع المسلمين وهو
نسك باجماعهم ومذهبنا أنه واجب ليس بركن فان تركه حتى فاتته أيام الرمي عصى ولزمه دم
وصح حجه وقال مالك يفسد حجه ويجب رميها بسبع حصيات فلو بقيت منهن واحدة لم تكفه الست
وأما قوله فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف فهكذا هو في النسخ وكذا
نقله القاضي عياض عن معظم النسخ قال وصوابه مثل حصى الخذف قال
وكذلك رواه غير مسلم وكذا رواه بعض رواة مسلم هذا كلام القاضي قلت والذي في النسخ من غير لفظة مثل هو
الصواب بل لا يتجه غيره ولا يتم الكلام الا كذلك ويكون قوله حصى الخذف متعلقا بحصيات
أي رماها بسبع حصيات حصى الحذف يكبر مع كل حصاة فحصى الحذف متصل بحصيات
واعترض بينهما يكبر مع كل حصاة وهذا هو الصواب والله أعلم قوله (ثم انصرف إلى
191

النحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه) هكذا هو في النسخ
ثلاثا وستين بيده وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة سوى ابن ماهان فإنه رواه بدنه قال وكلامه
صواب والأول أصوب قلت وكلاهما حرى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده قال القاضي فيه دليل
على أن المنحر موضع معين من منى وحيث ذبح منها أو من الحرم أجزأه وفيه استحباب تكثير
الهدى وكان هدى النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة وفيه استحباب ذبح المهدى
هديه بنفسه وجواز الاستنابة فيه وذلك جائز بالاجماع إذا كان النائب مسلما ويجوز عندنا أن
يكون النائب كافرا كتابيا بشرط أن ينوى صاحب الهدى عند دفعه إليه أو عند ذبحه وقوله ما غبر
أي ما بقي وفيه استحباب تعجيل ذبح الهدايا وإن كانت كثيرة في يوم النحر ولا يؤخر بعضها إلى
أيام التشريق وأما قوله وأشركه في هديه فظاهره أنه شاركه في نفس الهدى قال القاضي
عياض وعندي أنه لم يكن تشريكا حقيقة بل أعطاه قدرا يذبحه والظاهر أن النبي
صلى الله عليه وسلم نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما جاء في رواية
الترمذي وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمين وهي تمام المائة والله أعلم قوله (أمر من
كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا هذه من لحمها وشربا من مرقها) البضعة بفتح الباء لا غير
وهي القطعة من اللحم وفيه استحباب الأكل من هدى التطوع وأضحيته قال العلماء لما كان
الأكل من كل واحدة سنة وفي الأكل من كل واحدة من المائة منفردة كلفة جعلت في قدر
ليكون آكلا من مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة ويأكل من اللحم المجتمع في الرق
ما تيسر وأجمع العلماء على أن الأكل من هدى التطوع وأضحيته سنة ليس بواجب قوله
(ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر) هذا الطواف هو
طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج باجماع المسلمين وأول وقته عندنا من نصف ليلة
النحر وأفضله بعد رمى جمرة العقبة وذبح الهدى والحلق ويكون ذلك ضحوة يوم النحر ويجوز
192

في جميع يوم النحر بلا كراهة ويكره تأخيره عنه بلا عذر وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة
ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة ولا آخر لوقته بل يصح ما دام الانسان حيا وشرطه أن يكون
بعد الوقوف بعرفات حتى لو طاف للإفاضة بعد نصف ليلة النحر قبل الوقوف ثم أسرع إلى
عرفات فوقف قبل الفجر لم يصح طوافه لأنه قدمه على الوقوف واتفق العلماء على أنه لا يشرع
في طواف الإفاضة رمل ولا اضطباع إذا كان قد رمل واضطبع عقب طواف القدوم ولو طاف
بنية الوادع أو القدوم أو التطوع وعليه طواف إفاضة وقع عن طواف الإفاضة بلا خلاف
عندنا نص عليه الشافعي واتفق الأصحاب عليه كما لو كان عليه حجة الاسلام فحج بنية قضاء
أو نذر أو تطوع فإنه يقع عن حجة الاسلام وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء لا يجزئ طواف
الإفاضة بنية غيره واعلم أن طواف الإفاضة له أسماء فيقال أيضا طواف الزيارة وطواف
الفرض والركن وسماه بعض أصحابنا طواف الصدر وأنكره الجمهور قالوا وإنما طواف الصدر
طواف الوداع والله أعلم وفي هذا الحديث استحباب الركوب في الذهاب من منى إلى
مكة ومن مكة إلى منى ونحو ذلك من مناسك الحج وقد ذكرنا قبل هذا مرات المسألة وبينا أن الصحيح
استحباب الركوب وأن من أصحابنا من استحب المشي هناك وقوله (فأفاض إلى البيت فصلى الظهر)
فيه محذوف تقديره فأفاض فطاف بالبيت طواف الإفاضة ثم صلى الظهر فحذف ذكر الطواف
لدلالة الكلام عليه وأما قوله فصلى بمكة الظهر فقد ذكر مسلم بعد هذا في أحاديث طواف
الإفاضة من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر
فصلى الظهر بمنى ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم طاف للإفاضة قبل الزوال ثم صلى
الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك
فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى وهذا كما ثبت في الصحيحين في صلاته صلى الله عليه وسلم
ببطن نخل أحد أنواع صلاة الخوف فإنه صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه
الصلاة بكمالها وسلم بهم ثم صلى بالطائفة الأخرى تلك الصلاة مرة أخرى فكانت له صلاتان
ولهم صلاة وأما الحديث الوارد عن عائشة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الزيارة
يوم النحر إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة ولا بد
من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث وقد بسطت ايضاح هذا الجواب في شرح المهذب والله أعلم
193

قوله (فأتى بنى عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بنى عبد المطلب فلولا أن يغلبكم
الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه) أما قوله صلى الله عليه وسلم انزعوا
فبكسر الزاي ومعناه استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء وأما قوله فأتى بنى عبد المطلب فمعناه
أتاهم بعد فراغه من طواف الإفاضة وقوله يسقون على زمزم معناه يغرفون بالدلاء ويصبونه
في الحياض ونحوها ويسبلونه للناس وقوله صلى الله عليه وسلم لولا أن يغلبكم الناس لنزعت
معكم معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث
يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء وفيه فضيلة العمل
في هذا الاستقاء واستحباب شرب ماء زمزم وأما زمزم فهي البئر المشهورة في المسجد الحرام
بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعا قيل سميت زمزم لكثرة مائها يقال ماء زمزوم
وزمزم وزمازم إذا كان كثيرا وقيل لضم هاجر رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها
إياه وقيل لزمزمة جبريل عليه السلام وكلامه عند فجره إياها وقيل إنها غير مشتقة ولها
أسماء أخر ذكرتها في تهذيب اللغات مع نفائس أخرى تتعلق بها منها أن عليا رضي الله عنه
قال خير بئر في الأرض زمزم وشر بئر في الأرض برهوت والله أعلم قوله (وكانت العرب يدفع
بهم أبو سيارة) هو بسين مهملة ثم ياء مثناة تحت مشددة أي كان يدفع بهم في الجاهلية
قوله فلما أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر
عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل أما المشعر فسبق بيانه وأنه
194

بفتح الميم على المشهور وقيل بكسرها وان قزح الجبل المعروف في المزدلفة وقيل كل المزدلفة
وأوضحنا الخلاف فيه بدلائله وهذا الحديث ظاهر الدلالة في أنه ليس كل المزدلفة وقوله أجاز
أي جاوز وقوله ولم يعرض هو بفتح الياء وكسر الراء ومعنى الحديث أن قريشا كانت قبل الإسلام
تقف بالمزدلفة وهي من الحرم ولا يقفون بعرفات وكان سائر العرب يقفون بعرفات وكانت
قريش تقول نحن أهل الحرم فلا نخرج منه فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل المزدلفة
اعتقدوا أنه يقف بالمزدلفة على عادة قريش فجاوز إلى عرفات لقول الله عز وجل ثم أفيضوا
من حيث أفاض الناس أي جمهور الناس فان من سوى قريش كانوا يقفون بعرفات ويفيضون
منها وأما قوله (فأجاز ولم يعرض له حتى أتى عرفات فنزل) ففيه مجاز تقديره فأجاز متوجها إلى
عرفات حتى قاربها فضربت له القبة بنمرة قريب من عرفات فنزل هناك حتى زالت الشمس
ثم خطب وصلى الظهر والعصر ثم دخل أرض عرفات حتى وصل الصخرات فوقف هناك
وقد سبق هذا واضحا في الرواية الأولى قوله صلى اله عليه وسلم (نحرت ههنا ومنى كلها
منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها
موقف) في هذه الألفاظ بيان رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم في تنبيههم على
مصالح دينهم ودنياهم فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم الأكمل والجائز فالأكمل موضع نحره ووقوفه
والجائز كل جزء من أجزاء المنحر من أجزاء عرفات وخيرهن أجزاء المزدلفة وهي جمع
بفتح الجيم واسكان الميم وسبق بيانها وبيان حدها وحد منى في هذا الباب وأما عرفات فحدها
195

ما جاوز وادي عرنه إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين ابن عامر هكذا نص عليه الشافعي وجميع
أصحابه ونقل الأزرقي عن ابن عباس أنه قال حد عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنة إلى
جبال عرفات إلى وصيق بفتح الواو وكسر الصاد المهملة وآخره قاف إلى ملتقى وصيق وادي
عرنة وقيل في حدها غير هذا مما هو متقارب له وقد بسطت القول في ايضاحه في شرح المهذب
وكتاب المناسك والله أعلم قال الشافعي وأصحابنا يجوز نحر الهدى ودماء الحيوانات في جميع
الحرم لكن الأفضل في حق الحاج النحر بمنى وأفضل موضع منها للنحر موضع نحر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وما قاربه والأفضل في حق المعتمر أن ينحر في المروة لأنها موضع تحلله
كما أن منى موضع تحلل الحاج قالوا ويجوز الوقوف بعرفات في أي جزء كان منها وكذا يجوز
الوقوف على المشعر الحرام وفي كل جزء من أجزاء المزدلفة لهذا الحديث والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم فالمراد بالرحال المنازل قال أهل اللغة رحل
الرجل منزله سواء كان من حجر أو مدر أو شعر أو وبر ومعنى الحديث منى كلها منحر يجوز
النحر فيها فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري بل يجوز لكم النحر في منازلكم من منى قوله
(ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا
ومشى أربعا) في هذا الحديث أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم ويقدمه على
كل شئ وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه وأن يرمل في ثلاث طوفات من السبع ويمشي
في الأربع الأخيرة وسيأتي هذا كله واضحا حيث ذكر مسلم أحاديثه والله أعلم قوله (كانت
196

قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس) إلى آخره الحمس بضم الحاء المهملة
واسكان الميم وبسين مهملة قال أبو الهيثم الحمس هم قريش ومن ولدته قريش وكنانة وجديلة
قيس سموا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا وقيل سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء
حجرها أبيض يضرب إلى السواد وقد سبق قريبا شرح هذا الحديث وسبب وقوفهم بالمزدلفة
قوله (كانت العرب تطوف بالبيت عراة الا الحمس) هذا من الفواحش التي كانوا عليها في الجاهلية
وقيل نزل فيه قوله تعالى وإذا فعلوا
فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ولهذا أمر النبي
صلى الله عليه وسلم في الحجة التي حجها أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع أن ينادى مناديه أن لا يطوف
بالبيت عريان
197

قوله (عن جبير بن مطعم قال أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة فرأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم واقفا مع الناس بعرفة فقلت والله ان هذا لمن الحمس فما شأنه ههنا وكانت قريش
تعد من الحمس) قال القاضي عياض كان هذا في حجه قبل الهجرة وكان جبير حينئذ كافرا وأسلم
يوم الفتح وقيل يوم خبير فتعجب من وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات والله أعلم
جواز تعليق الاحرام
(وهو ان يحرم باحرام كاحرام فلان فيصير محرما باحرام مثل احرام فلان)
في الباب حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أحججت
قال فقلت نعم فقال بم أهللت قال قلت لبيك باهلال كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال قد
أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل قال فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة
198

من بنى قيس ففلت رأسي ثم أهللت بالحج) في هذا الحديث فوائد منها جواز تعليق الاحرام فإذا
قال أحرمت باحرام كاحرام زيد صح احرامه وكان احرامه كاحرام زيد فإن كان زيد محرما
بحج أو بعمرة أو قارنا كان المعلق مثله وإن كان زيد أحرم مطلقا كان المعلق مطلقا ولا يلزمه أن
يصرف احرامه إلى ما يصرف زيد احرامه إليه فلو صرف زيد احرامه إلى حج كان للمعلق
صرف احرامه إلى عمرة وكذا عكسه ومنها استحباب الثناء على من فعل فعلا جميلا لقوله
صلى الله عليه وسلم أحسنت وأما قوله صلى الله عليه وسلم (طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل)
فمعناه أنه صار كالنبي صلى الله عليه وسلم وتكون وظيفته أن يفسخ حجه إلى عمرة فيأتي
بأفعالها وهي الطواف والسعي والحلق فإذا فعل ذلك صار حلالا وتمت عمرته وإنما لم يذكر
الحلق هنا لأنه كان مشهورا عندهم ويحتمل أنه داخل في قوله وأحل وقوله (ثم أتيت امرأة
من بنى قيس ففلت رأسي) هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرما له وقوله (ثم أهللت
بالحج) يعنى أنه تحلل بالعمرة وأقام بمكة حلالا إلى يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة
ثم أحرم بالحج يوم التروية كما جاء مبينا في غير هذه الرواية فان قيل قد علق علي بن أبي
طالب وأبو موسى رضي الله عنهما احرامهما باحرام النبي صلى الله عليه وسلم فأمر عليا
بالدوام على احرامه قارنا وأمر أبا موسى بفسخه إلى عمرة فالجواب أن عليا رضي الله عنه
كان معه الهدى كما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم الهدى فبقي على احرامه كما بقي النبي
ص وكل من معه هدى وأبو موسى لم يكن معه هدى فتحلل بعمرة كمن لم يكن
معه هدى ولولا الهدى مع النبي صلى الله عليه وسلم لجعلها عمرة وقد سبق ايضاح هذا الجواب
في الباب الذي قبل هذا قوله ففلت رأسي هو بتخفيف اللام قوله (رويدك بعض
فتياك) معنى رويدك ارفق قليلا وأمسك عن الفتيا ويقال فتيا وفتوى لغتان مشهورتان
199

قوله إن عمر رضي الله عنه قال (ان نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام وان نأخذ
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدى محله)
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى ظاهر كلام عمر هذا انكار فسخ الحج إلى العمرة وأن نهيه
عن التمتع إنما هو من باب ترك الأولى لأنه منع ذلك منع تحريم وابطال ويؤيد هذا قوله
بعد هذا قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه لكن كرهت أن يظلوا معرسين
200

بهن في الأراك وقوله (معرسين) هو باسكان العين وتخفيف الراء والضمير في بهن يعود إلى
النساء للعلم بهن وان لم يذكرن ومعناه كرهت التمتع لأنه يقتضى التحلل ووطء النساء إلى حين
الخروج إلى عرفات
201

جواز التمتع
قوله (كان عثمان رضي الله عنه عن المتعة وكان على يأمر بها) المختار أن المتعة التي نهى
فيها عثمان هي التمتع المعروف في الحج وكان عمر وعثمان ينهيان عنها نهى تنزيه لا تحريم وإنما
نهيا عنها لأن الافراد أفضل فكان عمر وعثمان يأمران بالافراد لأنه أفضل وينهيان عن التمتع نهى
تنزيه لأنه مأمور بصلاح رعيته وكان يرى الأمر بالافراد من جملة صلاحهم والله أعلم قوله (ثم قال
على لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أجل ولكن كنا خائفين) فقوله أجل
باسكان اللام أي نعم وقوله كنا خائفين لعله أراد بقوله خائفين يوم عمرة القضاء سنة سبع قبل فتح
مكة لكن لم يكن تلك السنة حقيقة تمتع إنما كان عمرة وحدها قوله (فقال عثمان دعنا عنك
فقال يعنى عليا انى لا أستطيع أن أدعك فلما أن رأى على ذلك أهل بهما) ففيه إشاعة العلم
واظهاره ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه ووجوب مناصحة المسلم في ذلك وهذا معنى قول
202

على لا أستطيع أن أدعك وأما اهلال على بهما فقد يحتج به من يرجح القران وأجاب عنه من رجح
الافراد بأنه إنما أهل بهما ليبين جوازهما لئلا يظن الناس أو بعضهم أنه لا يجوز القران ولا التمتع
وأنه يتعين الافراد والله أعلم قوله (عن أبي ذر قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم خاصة) وفي الرواية الأخرى كانت لنا رخصة يعنى المتعة في الحج وفي الرواية
الأخرى قال أبو ذر لا تصلح المتعتان الا لنا خاصة يعنى متعة النساء ومتعة الحج وفي الرواية
الأخرى إنما كانت لنا خاصة دونكم قال العلماء معنى هذه الروايات كلها أن فسخ الحج إلى العمرة كان
للصحابة في تلك السنة وهي حجة الوداع ولا يجوز بعد ذلك وليس مراد أبي ذر ابطال التمتع
مطلقا بل مراده فسخ الحج كما ذكرنا وحكمته ابطال ما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في
أشهر الحج وقد سبق بيان هذا كله في الباب السابق والله أعلم قوله (لا تصلح المتعتان الا لنا
خاصة) معناه إنما خاصة في الوقت الذي فعلناهما فيه ثم صارتا حراما بعد ذلك
203

إلى يوم القيامة والله أعلم قوله (سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة فقال فعلناها وهذا يومئذ
كافر بالعرش يعنى بيوت مكة) وفي الرواية الأخرى يعنى معاوية وفي الرواية الأخرى المتعة في
الحج أما العرش فبضم العين والراء وهي بيوت مكة كما فسره في الرواية قال أبو عبيد سميت بيوت مكة
عرشا لأنها عيدان تنصب وتظلل قال ويقال لها أيضا عروش بالراء وواحدها عرش كفلس وفلوس
ومن قال عرش فواحدها عريش كقليب وقلب وفي حديث آخر أن عمر رضي الله عنه كان
إذا نظر عروش مكة قطع التلبية وأما قوله وهذا يومئذ كافر بالعرش فالإشارة بهذا إلى معاوية
ابن أبي سفيان وفي المراد بالكفر هنا وجهان أحدهما ما قاله المازري وغيره المراد وهو مقيم في
بيوت مكة قال ثعلب يقال اكتفر الرجل إذا لزم الكفور وهي القرى وفي الأثر عن عمر رضي الله عنه
أهل الكفور هم أهل القبور يعنى القرى البعيدة عن الأمصار وعن العلماء والوجه الثاني
المراد الكفر بالله تعالى والمراد أنا تمتعنا ومعاوية يومئذ كافر على دين الجاهلية مقيم بمكة وهذا
اختيار القاضي عياض وغيره وهو الصحيح المختار والمراد بالمتعة العمرة التي كانت سنة سبع من
204

الهجرة وهي عمرة القضاء وكان معاوية يومئذ كافرا وإنما أسلم بعد ذلك عام الفتح سنة ثمان وقيل أنه
أسلم بعد عمرة القضاء سنة سبع والصحيح الأول وأما غير هذه العمرة من عمر النبي
صلى الله عليه وسلم فلم يكن معاوية فيها كافرا ولا مقيما بمكة بل كان معه صلى الله عليه وسلم قال القاضي
عياض وقاله بعضهم كافر بالعرش بفتح العين واسكان الراء والمراد عرش الرحمن قال القاضي
هذا تصحيف وفي هذا الحديث جواز المتعة في الحج قوله (عن عمران بن حصين أن
رسول الله أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه
عنه حتى مضى لوجهه) وفي الرواية الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة
ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وفي الرواية الأخرى نحوه ثم قال قال رجل
برأيه ما شاء يعنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي الرواية الأخرى تمتعنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلم ينزل فيه القرآن قال رجل برأيه ما شاء وفي الرواية الأخرى تمتع وتمتعنا معه وفي
الرواية الأخرى نزلت آية المتعة في كتاب الله يعنى متعة الحج وأمر بها رسول الله صلى الله عليه
205

وسلم وهذه الروايات كلها متفقة على أن مراد عمران أن التمتع بالعمرة إلى الحج جائز وكذلك
القران وفيه التصريح بانكاره على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التمتع وقد سبق تأويل
فعل عمر أنه لم يرد ابطال التمتع بل ترجيح الافراد عليه قوله (وقد كان يسلم على حتى اكتويت
فتركت ثم تركت الكي فعاد) فقوله يسلم على هو بفتح اللام المشددة وقوله فتركت هو بضم التاء أي
انقطع السلام على ثم تركت بفتح التاء أي تركت الكي فعاد السلام على ومعنى الحديث أن عمران بن
الحصين رضي الله عنه كانت به بواسير فكان يصبر على المهمات وكانت الملائكة تسلم عليه فاكتوى
فانقطع سلامهم عليه ثم ترك الكي فعاد سلامهم عليه قوله (بعث إلى عمران بن حصين في مرضه
الذي توفي فيه فقال إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فان عشت فاكتم
عنى وان مت فحدث بها ان شئت أنه قد سلم على واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد
جمع بين حج وعمرة أما قوله فان عشت فاكتم عنى فأراد به الاخبار بالسلام عليه لأنه كره
206

أن يشاع عنه ذلك في حياته لما فيه من التعرض للفتنة بخلاف ما بعد الموت وأما قوله لعل
الله أن ينفعك بها فمعناه تعمل بها وتعلمها غيرك وأما قوله أحاديث فطاهره أنها ثلاثة فصاعدا
ولم يذكر منها الا حديثا واحدا وهو الجمع بين الحج والعمرة وأما اخباره بالسلام فليس حديثا
فيكون باقي الأحاديث محذوفا من الرواية قوله (حدثنا حامد بن عمر البكراوي) هو
207

منسوب إلى جد جد أبيه أبي بكرة الصحابي رضي الله عنه فإنه حامد بن عمر بن حفص بن
عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه
وجوب الدم على المتمتع وانه إذا عدمه لزمه
(صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)
قوله (عن ابن عمر رضي الله عنه قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدى من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج
قال القاضي قوله تمتع هو محمول على التمتع اللغوي وهو القران آخرا ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم
أحرم أولا بالحج مفردا ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا في آخر أمره والقارن هو متمتع من
حيث اللغة ومن حيث المعنى لأنه ترفه باتحاد الميقات والاحرام والفعل ويتعين هذا التأويل
هنا لما قدمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك وممن روى افراد النبي
صلى الله عليه وسلم ابن عمر الراوي هنا وقد ذكره مسلم بعد هذا وأما قوله بدأ رسول الله صلى
208

الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فهو محمول على التلبية في أثناء الاحرام وليس المراد
أنه أحرم في أول أمره بعمرة ثم أحرم بحج لأنه يفضى إلى مخالفة الأحاديث السابقة وقد سبق
بيان الجمع بين الروايات فوجب تأويل هذا على موافقتها ويؤيد هذا التأويل قوله تمتع الناس
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ومعلوم أن كثيرا منهم أو أكثرهم أحرموا
بالحج أولا مفردا وإنما فسخوه إلى العمرة آخرا فصاروا متمتعين فقوله وتمتع الناس يعنى في
آخر الأمر والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا
والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجع إلى أهله) أما قوله صلى الله عليه وسلم فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل
فمعناه يفعل الطواف والسعي والتقصير وقد صار حلالا وهذا دليل على أن التقصير أو الحلق نسك
من مناسك الحج وهذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وقيل إنه استباحة محظور
وليس بنسك وهذا ضعيف وسيأتي ايضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى وإنما أمره رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالتقصير ولم يأمر بالحلق مع أن الحلق أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج
فان الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة وأما قوله صلى الله عليه وسلم وليحلل فمعناه وقد
209

صار حلالا فله فعل ما كان محظورا عليه في الاحرام من الطيب واللباس والنساء والصيد وغير
ذلك وأما قوله صلى الله عليه وسلم ثم ليهل بالحج فمعناه يحرم به في وقت الخروج إلى عرفات
لا أنه يهل به عقب تحلل العمرة ولهذا قال ثم ليهل فأتى بثم التي هي للتراخي والمهلة وأما قوله
صلى الله عليه وسلم وليهد فالمراد به هدى التمتع فهو واجب بشروط اتفق أصحابنا على أربعة منها
واختلفوا في ثلاثة أحد الأربعة أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج الثاني أن يحج من عامه الثالث
أن يكون أفقيا لا من حاضري المسجد وحاضروه أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر
فيها الصلاة الرابع أن لا يعود إلى الميقات لاحرام الحج وأما الثلاثة فأحدها نية التمتع والثاني كون
الحج والعمرة في سنة في شهر واحد الثالث كونهما عن شخص واحد والأصح أن هذه الثلاثة
لا تشترط والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يجد هديا فالمراد لم يجده هناك اما لعدم الهدى
واما لعدم ثمنه واما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل واما لكونه موجودا لكنه لا يبيعه صاحبه
ففي كل هذه الصور يكون عادما للهدى فينتقل إلى الصوم سواء كان واجدا لثمنه في بلده أم لا وأما قوله
صلى الله عليه وسلم فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع فهو موافق لنص كتاب الله
تعالى ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر ويجوز صوم يوم عرفة منها لكن الأولى أن يصوم
الثلاثة قبله والأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة فان صامها بعد فراغه من
العمرة وقبل الاحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا وان صامها بعد الاحرام
بالعمرة وقبل فراغها لم يجزه على الصحيح فإن لم يصمها قبل يوم النحر وأراد صومها في أيام
التشريق ففي صحته قولان مشهوران للشافعي أشهرهما في المذهب أنه لا يجوز وأصحهما من حيث
210

الدليل جوازه هذا تفصيل مذهبنا ووافقنا أصحاب مالك في أنه لا يجوز صوم الثلاثة قبل الفراغ
من العمرة وجوزه الثوري وأبو حنيفة ولو ترك صيامها حتى مضى العيد والتشريق لزمه
قضاؤها عندنا وقال أبو حنيفة يفوت صومها ويلزمه الهدى إذا استطاعه والله أعلم وأما صوم
السبعة فيجب إذا رجع وفي المراد بالرجوع خلاف الصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع إلى أهله
وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح والثاني إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة
من منى وهذان القولان للشافعي ومالك وبالثاني قال أبو حنيفة ولو لم يصم الثلاثة ولا السبعة حتى
عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام وفي اشتراط التفريق بين الثلاثة والسبعة إذا أراد صومها
خلاف قيل لا يجب والصحيح أنه يجب التفريق الواقع في الأداء وهو بأربعة أيام ومسافة الطريق
بين مكة ووطنه والله أعلم قوله (وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة واستلم الركن
أول شئ ثم حسب ثلاثة أطواف) من السبع ومشى أربعة أطواف إلى آخر الحديث فيه اثبات
طواف القدوم واستحباب الرمل فيه وأن الرمل هو الخبب وأنه يصلى ركعتي الطواف وأنهما
يستحبان خلف المقام وقد سبق بيان هذا كله وسنذكره أيضا حيث ذكره مسلم بعد هذا إن شاء الله تعالى
بيان أن القارن لا يتحلل الا في وقت تحلل الحاج المفرد
فيه قول حفصة رضي الله عنها (يا رسول الله ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك قال إني
لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) وهذا دليل للمذهب الصحيح المختار الذي قدمناه
211

واضحا بدلائله في الأبواب السابقة مرات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجة الوداع
فقولها من عمرتك إلى العمرة المضمومة إلى الحج وفيه أن القارن لا يتحلل بالطواف والسعي ولا بد له
في تحلله من الوقوف بعرفات والرمي والحلق والطواف كما في الحاج المفرد وقد تأوله من يقول
بالافراد تأويلات ضعيفة منها أنها أرادت بالعمرة الحج لأنهما يشتركان في كونهما قصدا وقيل المراد بها
الاحرام وقيل إنها ظنت أنه معتمر وقيل معنى من عمرتك أي بعمرتك بان تفسخ حجك إلى عمرة كما فعل
غيرك وكل هذا ضعيف والصحيح ما سبق وقوله صلى الله عليه وسلم (لبدت رأسي وقلدت هديي) فيه
استحباب التلبيد وتقليد الهدى وهما سنتان بالاتفاق وقد سبق بيان هذا كله
212

جواز التحلل بالاحصار وجواز القران واقتصار
(القارن على طواف واحد وسعى واحد)
قوله (عن نافع أن عبد الله بن عمر خرج في الفتنة معتمرا وقال إن صددت عن البيت
صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فأهل بعمرة وسار حتى إذا ظهر على البيداء
التفت إلى أصحابه فقال ما أمرهما الا واحد أشهدكم أنى قد أوجبت الحج مع العمرة فخرج حتى
إذا جاء البيت طاف سبعا وبين الصفا والمروة سبعا لم يزد ورأي أنه مجزئ عنه وأهدى)
في هذا الحديث جواز القران وجواز ادخال الحج على العمرة قبل الطواف وهو مذهبنا
ومذهب جماهير العلماء وسبق بيان المسألة وفيه جواز التحلل بالاحصار وأما قوله
(أشهدكم) فإنما قاله ليعلمه من أراد الاقتداء به فلهذا قال أشهدكم ولم يكتف بالنية مع أنها
كافية في صحة الاحرام وقوله (ما أمرهما الا واحد) يعنى في جواز التحلل منهما بالاحصار
وفيه صحة القياس والعمل به وإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملونه فلهذا قاس الحج على
العمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تحلل من الاحصار عام الحديبية من احرامه بالعمرة
وحدها وفيه أن القارن يقتصر على
طواف واحد وسعى واحد هو مذهبنا ومذهب الجمهور
وخالف فيه أبو حنيفة وطائفة وسبقت المسألة وأما قوله (صنعنا كما صنعنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فخرج فأهل بعمرة) فالصواب في معناه أنه أراد ان صددت وحصرت
213

تحللت كما تحللنا عام الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال القاضي يحتمل أنه أراد أهل
بعمرة كما أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة في العام الذي أحصر قال ويحتمل أنه أراد الامرين
قال وهو الأظهر وليس هو بظاهر كما ادعاه بل الصحيح الذي يقتضيه سياق كلامه ما قدمناه والله
أعلم قوله (حتى أهل منهما بحجة يوم النحر) معناه حتى أهل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة
214

في الافراد والقران
قوله (عن ابن عمر رضي الله عنه قال أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا) وفي
رواية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا هذا موافق للروايات السابقة عن
جابر وعائشة وابن عباس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مفردا وفيه بيان أن
الرواية السابقة قريبا عن ابن عمر التي أخبر فيها بالقران متأولة وسبق بيان تأوليها قوله
(عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا) يحتج به من يقول
بالقران وقد قدمنا أن الصحيح المختار في حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في أول احرامه
مفردا ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع فحديث ابن عمر
هنا محمول على أول احرامه صلى الله عليه وسلم وحديث أنس محمول على أواخره وأثنائه وكأنه
216

لم يسمعه أولا ولا بد من هذا التأويل أو نحوه لتكون رواية أنس موافقة لرواية الأكثرين كما سبق والله أعلم
استحباب طواف القدوم للحاج والسعي بعده
قوله (عن وبرة) هو بفتح الباء قوله (كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال أيصلح لي أن
أطواف قبل أن آتى الموقف فقال نعم فقال فان ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتى الموقف
فقال ابن عمر فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس ان كنت صادقا) هذا الذي
قاله ابن عمر هو اثبات طواف القدوم للحاج وهو مشروع قبل الوقوف بعرفات وبهذا الذي
قاله ابن عمر قال العلماء كافة سوى ابن عباس وكلهم يقولون إنه سنة ليس بواجب الا بعض
أصحابنا ومن وافقه فيقولون واجب يجبر تركه بالدم والمشهور أنه سنة ليس بواجب ولا دم
في تركه فان وقف بعرفات قبل طواف القدوم فات فان طاف بعد ذلك بنية طواف القدوم
لم يقع عن طواف القدوم بل يقع عن طواف الإفاضة ان لم يكن طاف للإفاضة فإن كان
217

طاف للإفاضة وقع الثاني تطوعا لا عن القدوم ولطواف القدوم أسماء طواف القدوم والقادم
والورود والوارد والتحية وليس في العمرة طواف قدوم بل الطواف الذي يفعله فيها يقع
ركنا لها حتى لو نوى به طواف القدوم وقع ركنا ولغت نيته كما لو كان عليه حجة واجبة
فنوى حجة تطوع فإنها تقع واجبة والله أعلم وأما قوله إن كنت صادقا فمعناه ان كنت صادقا
في اسلامك واتباعك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعدل عن فعله وطريقته إلى قول ابن
عباس وغيره والله أعلم قوله (رأيناه قد فتنته الدنيا) هكذا في كثير من الأصول فتنته الدنيا وفي
كثير منها أو أكثرها أفتنته وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين وهما لغتان صحيحتان فتن
وأفتن والأولى أصح وأشهر وبها جاء القرآن وأنكر الأصمعي أفتن ومعنى قولهم فتنته
الدنيا لأنه تولى البصرة والولايات محل الخطر والفتنة وأما ابن عمر فلم يتول شيئا وأما قول
ابن عمر وأينا لم تفتنه الدنيا فهذا من زهده وتواضعه وانصافه وفي بعض النسخ وأينا أو أيكم
وفي بعضها وأينا أو قال وأيكم وكله صحيح
بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي
(وان المحرم بحج لا يتحلل بطواف القدوم وكذلك القارن)
قوله (سألنا ابن عمر رضى اله عنه عن رجل قدم بعمرة فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا
218

والمروة أيأتي امرأته فقال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف
المقام ركعتين وبين الصفا والمروة سبعا وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) معناه لا يحل له
ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتحلل من عمرته حتى طاف وسعى فتجب متابعته والاقتداء
به وهذا الحكم الذي قاله ابن عمر هو مذهب العلماء كافة وهو أن المعتمر لا يتحلل الا بالطواف
والسعي والحلق الا ما حكاه القاضي عياض عن ابن عباس وإسحاق بن راهويه أنه يتحلل بعد
الطواف وان لم يسع وهذا ضعيف مخالف للسنة قوله (فتصداني الرجل) أي تعرض لي
219

هكذا هو في جميع النسخ تصداني بالنون والأشهر في اللغة تصدى لي قوله (أول شئ بدأ به حين قدم
مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت) فيه دليل لاثبات الوضوء للطواف لأن النبي
صلى الله عليه وسلم فعله ثم قال صلى الله عليه وسلم لتأخذوا عنى مناسككم وقد أجمعت الأئمة على أنه يشرع
الوضوء للطواف ولكن اختلفوا في أنه واجب وشرط لصحته أم لا فقال مالك والشافعي وأحمد
والجمهور هو شرط لصحة الطواف وقال أبو حنيفة مستحب ليس بشرط واحتج الجمهور بهذا
الحديث ووجه الدلالة أن هذا الحديث خذوا عنى مناسككم يقتضيان أن الطواف
واجب لأن كل ما فعله هو داخل في المناسك فقد أمرنا بأخذ المناسك وفي حديث ابن عباس
في الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الطواف بالبيت صلاة الا أن الله أباح
فيه الكلام ولكن رفعه ضعيف والصحيح عند الحفاظ أنه موقوف على ابن عباس وتحصل به
الدلالة مع أنه موقوف لأنه قول لصحابي انتشر وإذا انتشر قول الصحابي بلا مخالفة كان حجة
على الصحيح قوله (ثم لم يكن غيره) وكذا قال فيما بعده ولم يكن غيره هكذا هو في جميع النسخ
220

غيره بالغين المعجبة والياء قال القاضي عياض كذا هو في جميع النسخ قال وهو تصحيف
وصوابه ثم لم تكن عمرة بضم العين المهملة وبالميم وكان السائل لعروة إنما سأله عن نسخ الحج
إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة
الوداع فأعمله عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه ولا من جاء بعده هذا
كلام القاضي قلت هذا الذي قاله من أن قول غيره تصحيف ليس كما قال بل هو صحيح في
الرواية وصحيح في المعنى لأن قوله غيره يتناول العمرة وغيرها ويكون تقدير الكلام ثم
حج أبو بكر فكان أول شئ بدأ به الطوف بالبيت ثم لم يكن غيره أي لم يغير الحج ولم ينقله
وينسخه إلى غيره لا عمرة ولا قران والله أعلم قوله (ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام) أي مع والده
الزبير فقوله الزبير بدل من أبي قوله (ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون شيئا حين يضعون
أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون) فيه أن المحرم بالحج إذا قدم مكة ينبغي له أن
يبدأ بطواف القدوم ولا يفعل شيئا قبله ولا يصلى تحية المسجد بل أول شئ يصنعه الطواف
وهذا بطواف القدوم ولا يفعل شيئا قبله ولا يصلي تحية المسجد بل أول شئ يصنعه الطواف
وهذا كله متفق عليه عندنا وقوله يضعون أقدامهم يعنى يصلون مكة وقوله ثم لا يحلون فيه
التصريح بأنه لا يجوز التحلل بمجرد طواف القدوم كما سبق قوله (وقد أخبرتني أمي أنها
أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط فلما مسحوا الركن حلوا) فقولها مسحوا
المراد بالماسحين من سوى عائشة والا فعائشة لم تمسح الركن قبل الوقوف بعرفات في حجة
الوداع بل كانت قارنة ومنعها الحيض من الطواف قبل يوم النحر وهكذا قول أسماء بعد هذا
اعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان فلما مسحنا البيت أحللنا ثم أهللنا بالحج
221

المراد به أيضا من سوى عائشة وهكذا تأويله القاضي عياض والمراد الاخبار عن حجتهم مع النبي
صلى الله عليه وسلم حجة الوداع على الصفة التي ذكرت في أول الحديث وكان المذكورون
سوى عائشة محرمين بالعمرة وهي عمرة الفسخ التي فسخوا الحج إليها وإنما لم تستثن عائشة
لشهرة قصتها قال القاضي عياض وقيل يحتمل أن أسماء أشارت إلى عمرة عائشة التي فعلتها بعد
الحج مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم قال القاضي وأما قول من قال يحتمل أنها أرادت في غير
حجة الوداع فخطأ لأن في الحديث التصريح بأن ذلك كان في حجة الوداع هذا كلام القاضي
وذكر مسلم بعد هذه الرواية رواية إسحاق بن إبراهيم وفيها أن أسماء قالت خرجنا محرمين
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدى فليقم على احرامه ومن لم يكن معه هدى فليحلل فلم يكن معي
هدى فحللت وكان مع الزبير هدى فلم يحل فهذا تصريح بأن
الزبير لم يتحلل في حجة الوداع قبل يوم النحر فيجب استثناؤه مع عائشة أو يكون
احرامه بالعمرة وتحلله منها في غير حجة الوداع والله أعلم وقولها فلما مسحوا الركن
حلوا هذا متأول عن ظاهره لأن الركن هو الحجر الأسود ومسحه يكون في
أول الطواف ولا يحصل التحلل بمجرد مسحه باجماع المسلمين وتقديره فلما مسحوا الركن وأتموا
طوافهم وسعيهم وحلقوا أو قصروا أحلوا ولا بد من تقدير هذا المحذوف وإنما حذفته للعلم
به وقد أجمعوا على أنه لا يتحلل قبل اتمام الطواف ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا بد أيضا من
السعي بعده ثم الحلق أو التقصير وشذ بعض السلف فقال السعي ليس بواجب ولا حجة
222

لهذا القائل في الحديث لان ظاهره غير مراد بالاجماع فيتعين تأويله كما ذكرنا ليكون
موافقا لباقي الأحاديث والله أعلم قولها (عن الزبير فقال قومي عنى فقالت أتخشى أن أثب
عليك) إنما أمرها بالقيام مخافة من عارض قد يندر منه كلمس بشهوة أو نحوه فان اللمس بشهوة
حرام في الاحرام فاحتاط لنفسه بمباعدتها من حيث إنها زوجة متحللة تطمع بها النفس قوله
(استرخى عنى استرخى عنى) هكذا هو في النسخ مرتين أي تباعدي قوله (مرت بالحجون)
هو بفتح الحاء وضم الجيم وهو من حرم مكة وهو الجبل المشرف على مسجد الحرس
بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد عند المحصب قولها (خفاف الحقائب) جمع حقيبة وهو
223

كل ما حمل في مؤخر الرحل والقتب ومنه احتقب فلان كذا قوله عن مسلم القرى هو
بقاف مضمومة ثم راء مشددة قال السمعاني هو منسوب إلى بني قرة حي من عبد القيس قال
وقال ابن ماكولا هذا ثم قال وقيل بل لأنه كان ينزل فنظره قرة
224

جواز العمرة في اشهر الحج
قوله كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض الضمير في كانوا يعود
إلى الجاهلية قوله ويجعلون المحرم صفر هكذا هو في النسخ صفر من غير الف بعد الراء
وهو منصوب مصروف بلا خلاف وكان ينبغي أن يكتب بالألف وسواء كتب بالألف
أم بحذفها لا بد من قراءته هنا منصوبا لأنه مصروف قال العلماء المراد الإخبار عن
النسئ الذي كانوا يفعلونه وكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه وينسئونه المحرم أي يؤخرن
تحريمه إلى ما بعد صفر لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة تضيق عليهم أمورهم من الغارة
وغيرها فأفضلهم الله تعالى في ذلك فقال تعالى إنما النسئ زيادة في الكفر الآية قوله (ويقولون
إذا برأ الدبر) يعنون دبر ظهور الإبل بعد انصرافها من الحج فإنها كانت تدبر بالسير عليها
للحج قوله (وعفا الأثر) أي درس وامحى والمراد أثر الإبل وغيرها في سيرها عفا أثرها لطول
مرور الأيام هذا هو المشهور وقال الخطابي المراد أثر الدبر والله أعلم وهذه الألفاظ تقرأ
225

كلها ساكنة الآخر ويوقف عليها لان مرادهم السجع قوله (عن أبي العالية البراء) هو بتشديد
الراء لأنه كان يبرى النبل قوله (حدثنا أبو داود المباركي) هو سليمان بن محمد ويقال
سليمان بن داود وأبو محمد المباركي بفتح الراء منسوب إلى المبارك وهي بليدة بقرب واسط بينها
وبين بغداد وهي على طرف دجلة قوله (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بذى طوى)
226

هو بفتح الطاء وضمها وكسرها لغات حكاهن القاضي وغيره الأصح الأشهر الفتح ولم
يذكر الأصمعي وآخرون غيره وهو مقصور منون وهو واد معروف بقرب مكة قال القاضي
ووقع لبعض الرواة في البخاري بالمد وكذا ذكره ثابت وفي هذا الحديث دليل لمن قال
يستحب للمحرم دخول مكة نهارا لا ليلا وهو أصح الوجهين لأصحابنا وبه قال ابن عمر وعطاء
والنخعي وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والثاني دخولها ليلا ونهارا سواء لا فضلية لأحدهما
على الآخر وهو قول القاضي أبى الطيب والماوردي وابن الصباغ والعبد رى من أصحابنا وبه
قال طاوس والثوري وقالت عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز يستحب دخولها ليلا وهو
أفضل من النهار والله أعلم
اشعار الهدى وتقليده عند الاحرام
قوله (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذى الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها
227

الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج) أما الاشعار
فهو أن يجرحها في صفحة سنامها اليمنى بحربه أو سكن أو حديدة أو نحوها ثم يسلت الدم
عنها وأصل الاشعار والشعور الاعلام والعلامة واشعار الهدى لكونه علامة له وهو مستحب
ليعلم أنه هدى فان ضل رده واجده وان اختلط بغيره تميز ولأن فيه اظهار شعار وفيه تنبيه
غير صاحبه على فعل مثل فعله وأما صفحة السنام فهي جانبه والصفحة مؤنثة فقوله الأيمن
بلفظ التذكير يتأول على أنه وصف لمعنى الصفحة لا للفظها ويكون المراد بالصفحة الجانب
فكأنه قال جانب سنامها الأيمن ففي هذا الحديث استحباب الاشعار والتقليد في الهدايا من
الإبل وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف وقال أبو حنيفة الاشعار بدعة لأنه
مثلة وهذا يخالف الأحاديث الصحيحة المشهورة في الاشعار وأما قوله أنه مثلة فليس كذلك
بل هذا كالفصد والحجامة والختان والكي والوسم وأما محل الاشعار فمذهبنا ومذهب جماهير
العلماء من السلف والخلف أنه يستحب الاشعار في صفحة السنام اليمنى وقال مالك في اليسرى
وهذا الحديث يرد عليه وأما تقليد الغنم فهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة من السلف والخلف
الا مالكا فإنه لا يقول بتقليدها قال القاضي عياض ولعله لم يبلغه الحديث الثابت في ذلك
قلت قد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة بالتقليد فهي حجة صريحة في الرد على من خالفها واتفقوا
على أن الغنم لا تشعر لضعفها عن الجرح ولأنه يستتر بالصوف وأما البقرة فيستحب عند الشافعي
وموافقيه الجمع فيها بين الاشعار والتقليد كالإبل وفي هذا الحديث استحباب تقليد الإبل
بنعلين وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة فان قلدها بغير ذلك من جلود أو خيوط مفتولة
ونحوها فلا بأس وأما قوله ثم ركب راحلته فهي راحلة غير التي أشعرها وفيه استحباب الركوب
في الحج وأنه أفضل من المشي وقد سبق بيانه مرات وأما قوله فلما استوت به على البيداء أهل
228

بالحج فيه استحباب الاحرام عند استواء الراحلة لا قبله ولا بعده وقد سبق بيانه واضحا وأما
احرامه صلى الله عليه وسلم بالحج فهو المختار وقد سبق بيان الخلاف في ذلك واضحا والله أعلم
قوله لابن عباس ما هذا الفتيا التي قد تشغفت
(أو قد تشغبت بالناس)
وفي الرواية الأخرى (ان هذا الامر قد تفشع بالناس) أما اللفظة الأولى فبشين ثم غين معجمتين
ثم فاء والثانية كذلك لكن بدل الفاء باء موحدة والثالثة بتقديم الفاء وبعدها شين ثم عين ومعنى
هذه الثالثة انتشرت وفشت بين الناس وأما الأولى فمعناها علقت بالقلوب وشغفوا بها وأما الثانية
فرويت أيضا بالعين المهملة وممن ذكر الروايتين فيها المعجمة والمهملة أبو عبيد والقاضي عياض
ومعنى المهملة أنها فرقت مذاهب الناس وأوقعت الخلاف بينهم ومعنى المعجمة خلطت عليهم أمرهم
قوله (ما هذا الفتيا) هكذا هو في معظم النسخ هذا الفتيا وفي بعضها هذه وهو الأجود ووجه
الأول أنه أراد بالفتيا الافتاء فوصفه مذكرا ويقال فتيا وفتوى قوله (عن ابن عباس أن من
طاف بالبيت فقد حل فقال سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وان رغمتم) وفي الرواية الأخرى
حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء قال كان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا
229

غير حاج الا حل قلت لعطاء من أين يقول ذلك قال من قول الله عز وجل محلها
إلى البيت العتيق قلت فان ذلك بعد المعرف فقال كان ابن عباس يقول هو بعد المعرف
وقبله كان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلوا في حجة
الوداع هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف
والخلف فان الذي عليه العلماء كافة سوى ابن عباس أن الحاج لا يتحلل بمجرد طواف
القدوم بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات ويرمى ويحلق ويطوف طواف الزيارة فحينئذ
يحصل التحللان ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاثة التي هي رمى جمرة العقبة والحلق والطواف
وأما احتجاج ابن عباس بالآية فلا دلالة له فيها لأن قوله تعالى محلها إلى البيت العتيق معناه
لا تنحر الا في الحرم وليس فيه تعرض للتحلل من الاحرام لأنه لو كان المراد به التحلل من
الاحرام لكان ينبغي أن يتحلل بمجرد وصول الهدى إلى الحرم قبل أن يطوف وأما احتجاجه
بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم في حجة الوداع بأن يحلوا فلا دلالة فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم
أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة في تلك السنة فلا يكون دليلا في تحلل من هو
ملتبس باحرام الحج والله أعلم قال القاضي قال المازري وتأويل بعض شيوخنا قول ابن عباس
في هذه المسألة على من فاته الحج أنه يتحلل بالطواف والسعي قال وهذا تأويل بعيد لأنه
قال بعده وكان ابن عباس يقول لا يطوف بالبيت حاج ولا غيره الا حل والله أعلم
230

جواز تقصير المعتمر من شعره وأنه لا يجب حلقه
(وأنه يستحب كون حلقه أو تقصيره عند المروة)
قوله (قال ابن عباس قال لي معاوية أعلمت أني قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند المروة بمشقص فقلت لا أعلم هذه الا حجة عليك) وفي الرواية الأخرى قصرت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة
في هذا الحديث جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل وسواء في ذلك الحاج
والمعتمر الا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل
العبادتين وقد سبقت الأحاديث في هذا وفيه أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه
عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج أن يكون حلقه أو تقصيره في منى لأنها موضع
تحلله وحيث حلقا أو قصرا من الحرم كله جاز وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي
صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما
سبق ايضاحه وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس
فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ولا يصلح حمله أيضا على عمرة القضاء الواقعة سنة
سبع من الهجرة لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان هذا هو
الصحيح المشهور ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان
231

متمتعا لأن هذا غلط فاحش فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره أن النبي
صلى الله عليه وسلم قيل له ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي
فلا أحل حتى أنحر الهدى وفي رواية حتى أحل من الحج والله أعلم قوله (بمشقص) هو بكسر الميم
واسكان الشين المعجمة وفتح القاف قال أبو عبيد وغيره هو نصل السهم إذا كان طويلا ليس بعريض
وقال أبو حنيفة الدينوري هو كل نصل فيه عترة وهو الناتئ وسط الحربة وقال الخليل هو
سهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش والله أعلم
جواز التمتع في الحج والقران
قوله (خرجنا مع رسول صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها
عمرة الا من ساق الهدى فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج) فيه استحباب رفع
الصوت بالتلبية وهو متفق عليه بشرط أن يكون رفعا مقتصدا بحيث لا يؤذى نفسه والمرأة لا
ترفع بل تسمع نفسها لأن صوتها محل فتنه ورفع الرجل مندوب عند العلماء كافة وقال أهل
الظاهر هو واجب ويرفع الرجل صوته بها في غير المساجد وفي مسجد مكة ومنى وعرفات
وأما سائر المساجد ففي رفعه فيها
خلاف للعلماء وهما قولان للشافعي ومالك أصحهما استحباب
الرفع كالمساجد الثلاثة والثاني لا يرفع لئلا يهوش على الناس بخلاف المساجد الثلاثة لأنها محل
المناسك وفي هذا الحديث جواز العمرة في أشهر الحج وهو مجمع عليه وفيه حجة للشافعي
وموافقيه أن المستحب للمتمتع أن يكون احرامه بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة
232

عند ارادته التوجه إلى منى وقد سبقت المسألة مرات قوله (ورحنا إلى منى) معناه أردنا الرواح
وقد سبق بيان الخلاف في أنه يستحب الرواح إلى منى يوم التروية من أول النهار أو بعد الزوال
والله أعلم قوله (حدثني سليم بن حيان) هو بفتح السين وكسر اللام قوله صلى الله عليه
233

وسلم (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما) قوله
صلى الله عليه وسلم ليثنينهما هو بفتح الياء في أوله معناه يقرن بينهما وهذا يكون بعد نزول
عيسى عليه السلام من السماء في آخر الزمان وأما فج الروحاء فبفتح الفاء وتشديد الجيم قال
الحافظ أبو بكر الحارثي هو بين مكة والمدينة قال وكان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
بدر والى مكة عام الفتح وعام حجة الوداع
بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن
قوله (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة الا التي مع حجته عمرة من الحديبية
234

أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من الجعرانة حيث
قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجته وفي الرواية الأخرى حج حجة واحدة واعتمر
أربع عمر هذه رواية أنس وفي رواية ابن عمر أربع عمر إحداهن في رجب وأنكرت ذلك
عائشة وقالت لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قط في رجب فالحاصل من رواية أنس وابن عمر
اتفاقهما على أربع عمر وكانت إحداهن في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة وصدوا
فيها فتحللوا وحسبت لهم عمرة والثانية في ذي القعدة وهي سنة سبع وهي عمرة القضاء والثالثة
في ذي القعدة سنة ثمان وهي عام الفتح والرابعة مع حجته وكان احرامها في ذي القعدة
وأعمالها في ذي الحجة وأما قول ابن عمر أن إحداهن في رجب فقد أنكرته عائشة وسكت ابن
عمر حين أنكرته قال العلماء هذا يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك ولهذا سكت عن الإنكار
على عائشة ومراجعتها بالكلام فهذا الذي ذكرته هو الصواب ا لذي يتعين المصير إليه وأما القاضي
عياض فقال ذكر أنس أن العمرة الرابع كانت مع حجته فيدل على أنه كان قارنا قال وقد رده
كثير من الصحابة قال وقد قلنا إن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وهذا يرد قول
أنس وردت عائشة قول ابن عمر قال فحصل أن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا وهذا يرد قول
انس وردت عائشة قول ابن عمر قال فحصل أن الصحيح ثلاث عمر قال ولا يعلم للنبي صلى الله عليه وسلم
اعتمار الا ما ذكرناه قال واعتمد مالك في الموطأ على أنهن ثلاث عمر هذا آخر كلام
القاضي وهو قول ضعيف بل باطل والصواب أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كما صرح
به ابن عمر وأنس وجزما الرواية به فلا يجوز رد روايتهما بغير جازم وأما قوله إن النبي
صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع مفردا لا قارنا فليس كما قال بل الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان مفردا في أول احرامه ثم أحرم بالعمرة فصار قارنا ولا بد من هذا التأويل والله أعلم قال
العلماء وإنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر
235

ولمخالفة الجاهلية في ذلك فإنهم كانوا يرونه من أفجر الفجور كما سبق ففعله صلى الله عليه وسلم
في هذه الأشهر ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها وأبلغ في ابطال ما كانت الجاهلية عليه
والله أعلم وأما قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم حج حجة واحدة) فمعناه بعد الهجرة لم يحج
الا حجة واحدة وهي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة وقوله قال أبو إسحاق وبمكة أخرى يعنى
قبل الهجرة وقد روى في غير مسلم قبل الهجرة حجتان قوله (عن زيد بن أرقم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة) معناه أنه غزا تسع عشرة وأنا معه أو
أعلم له تسع
عشرة غزوة وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين وقيل سبعا وعشرين وقيل غير
ذلك وهو مشهور في كتب المغازي وغيرها قوله (عن عائشة قالت لعمري ما اعتمر في رجب)
هذا دليل على جواز قول الانسان لعمري وكرهه مالك لأنه من تعظيم غير الله تعالى ومضاهاته بالحلف
236

بغيره قوله (انهم سألوا ابن عمر عن صلاة الذين كانوا يصلون الضحى في المسجد فقال بدعة)
هذا قد حمله القاضي وغيره على أن مراده أن اظهارها في المسجد والاجتماع لها هو البدعة لا أن
أصل صلاة الضحى بدعة وقد سبقت المسألة في كتاب الصلاة والله أعلم.
237