الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ١٣
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الثالث عشر
الناشر
دار الكتب العربي
بيروت - لبنان
1407 ه‍ - 1987 م‍.
دار الكتب العربي
الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع - تلفون 800832 - 800811 - 805478
تلكس 40139 -. E. L كتاب - برقيا: الكتاب ص. ب 5769 - 11 بيروت لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
1

باب استحباب مبايعة الامام الجيش
عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة
قوله (كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة) وفى رواية ألفا وخمسمائة وفى رواية ألفا وثلاثمائة
وقد ذكر البخاري ومسلم هذه الروايات الثلاث في صحيحهما وأكثر روايتهما ألف وأربعمائة
وكذا ذكر البيهقي أن أكثر روايات هذا الحديث ألفا وأربعمائة ويمكن أن يجمع بينهما بأنهم
كانوا أربعمائة وكسرا فمن قال أربعمائة لم يعتبر الكسر ومن قال خمسمائة اعتبره ومن قال ألف
وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد أو لغير ذلك قوله في رواية جابر ورواية معقل بن
يسار (بايعناه يوم الحديبية على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت) وفى رواية سلمة أنهم بايعوه
2

يومئذ على الموت وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم وفى رواية مجاشع بن مسعود البيعة على
الهجرة والبيعة على الاسلام والجهاد وفى حديث ابن عمر وعبادة بايعنا على السمع والطاعة وأن
لا ننازع الأمر أهله وفى رواية عن ابن عمر في غير صحيح مسلم البيعة على الصبر قال العلماء هذه
الرواية تجمع المعاني كلها وتبين مقصود كل الروايات فالبيعة على أن لا نفر معناه الصبر حتى نظفر
بعدونا أو نقتل وهو معنى البيعة على الموت أي نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت لا أن الموت
مقصود في نفسه وكذا البيعة على الجهاد أي والصبر فيه والله أعلم وكان في أول الاسلام يجب
على العشرة من المسلمين أن يصبروا لمائة من الكفار ولا يفروا منهم وعلى المائة الصبر لألف
كافر ثم نسخ ذلك وصار الواجب مصابرة المثلين فقط هذا مذهبنا ومذهب ابن عباس ومالك
3

والجمهور أن الآية منسوخة وقال أبو حنيفة وطائفة ليست بمنسوخة واختلفوا في أن المعتبر مجرد
العدد من غير مراعاة القوة والضعف أم يراعى والجمهور على أنه لا يراعى لظاهر القرآن وأما
حديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا
إلى آخره فإنما كان ذلك في أول الأمر في ليلة العقبة قبل الهجرة من مكة وقبل فرض
الجهاد قوله (سألت جابرا عن أصحاب الشجرة فقال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا ألفا
وخمسمائة) هذا مختصر من الحديث الصحيح في بئر الحديبية ومعناه أن الصحابة لما وصلوا
الحديبية وجدوا بئرها إنما تنزه مثل الشراك فبسق النبي صلى الله عليه وسلم فيها ودعا فيها
4

بالبركة فجاست فهي إحدى المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأن السائل
في هذا الحديث علم أصل الحديث والمعجزة في تكثير الماء وغير ذلك مما جرى
فيها ولم يعلم عددهم فقال جابر كنا ألفا وخمسمائة ولو كنا مائة ألف أو أكثر لكفانا وقوله
في الرواية التي قبل هذه دعا على بئر الحديبية أي دعا فيها بالبركة قوله في الشجرة (انها
خفى عليهم مكانها في العام المقبل) قال العلماء سبب خفائها أن لا يفتتن الناس بها لما جرى
تحتها من الخير ونزول الرضوان والسكينة وغير ذلك فلو بقيت ظاهرة معلومة لخيف تعظيم
الأعراب والجهال إياها لها فكان خفاؤها رحمة من الله تعالى
5

باب تحريم رجوع المهاجر إلى استيطان وطنه
قوله (ان الحجاج قال لسلمة بن الأكوع رضي الله عنه ارتددت على عقبيك تعربت قال لا ولكن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو) قال القاضي عياض أجمعت الأمة على تحريم
ترك المهاجر هجرته ورجوعه إلى وطنه وعلى أن ارتداد المهاجر أعرابيا من الكبائر قال ولهذا
أشار الحجاج إلى أن أعلمه سلمة أن خروجه إلى البادية إنما هو بإذن النبي صلى الله عليه وسلم قال
ولعله رجع إلى غير وطنه أو لأن الغرض في ملازمة المهاجر أرضه التي هاجر إليها وفرض ذلك
عليه إنما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته أو ليكون معه أو لأن ذلك إنما كان قبل
فتح مكة فلما كان الفتح وأظهر الله الاسلام على الدين كله وأذل الكفر وأعز المسلمين سقط
فرض الهجرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح وقال مضت الهجرة لأهلها
أي الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم قبل فتح مكة لمواساة النبي صلى الله عليه وسلم ومؤازرته
6

ونصرة دينه وضبط شريعته قال القاضي ولم يختلف العلماء في وجوب الهجرة على أهل مكة قبل
الفتح واختلف في غيرهم فقيل لم تكن واجبة على غيرهم بل كانت ندبا ذكره أبو عبيد في كتاب
الأموال لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر الوفود عليه قبل الفتح بالهجرة وقيل إنما كانت واجبة
على من لم يسلم كل أهل بلدة لئلا يبقى في طلوع أحكام الكفار
باب المبايعة بعد فتح مكة على الاسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح
قوله (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة فقال إن الهجرة قد مضت لأهلها ولكن
على الاسلام والجهاد والخير) معناه أن الهجرة الممدوحة الفاضلة التي لأصحابها المزية الظاهرة
7

إنما كانت قبل الفتح ولكن أبايعك على الاسلام والجهاد وسائر أفعال الخير وهو من باب
ذكر العام بعد الخاص فإن الخير أعم من الجهاد ومعناه أبايعك على أن تفعل هذه الأمور قوله
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية) وفى الرواية
الأخرى لا هجرة بعد الفتح قال أصحابنا وغيرهم من العلماء الهجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام
باقية إلى يوم القيامة وتأولوا هذا الحديث تأويلين أحدهما لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها
صارت دار اسلام فلا تتصور منها الهجرة والثاني وهو الأصح أن معناه أن الهجرة الفاضلة
المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين
هاجروا قبل فتح مكة لأن الاسلام قوى وعز بعد فتح مكة عزا ظاهرا بخلاف ما قبله قوله
صلى الله عليه وسلم (ولكن جهاد ونية) معناه أن تحصيل الخير بسبب الهجرة قد انقطع بفتح مكة
ولكن حصلوه بالجهاد والنية الصالحة وفى هذا الحث على نية الخير مطلقا وأنه يثاب على النية
قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) معناه إذا طلبكم الامام للخروج إلى الجهاد
8

فاخرجوا وهذا دليل على أن الجهاد ليس فرض عين بل فرض كفاية إذا فعله من تحصل
بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين وان تركوه كلهم اثموا كلهم قال أصحابنا الجهاد اليوم فرض
كفاية إلا أن ينزل الكفار ببلد المسلمين فيتعين عليهم الجهاد فإن لم يكن في أهل ذلك البلد كفاية
وجب على من يليهم تتميم الكفاية واما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فالأصح عند أصحابنا
أنه كان أيضا فرض كفاية والثاني أنه كان فرض عين واحتج القائلون بأنه كان فرض كفاية
بأنه كان يغزوا السرايا وفيها بعضهم دون بعض قوله صلى الله عليه وسلم للاعرابي الذي سأله
عن الهجرة (إن شأن الهجرة لشديد فهل لك من إبل قال نعم قال هل تؤتى صدقتها قال نعم قال
فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا) أما يترك فبكسر التاء معناه لن ينقصك
من ثواب أعمالك شيئا حيث كنت قال العلماء والمراد بالبحار هنا القرى والعرب تسمى القرى
البحار والقرية البحيرة قال العلماء والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة
مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه فخاف عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى
لها ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه فقال له إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد
ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئا والله أعلم
9

باب كيفية بيعة النساء
قولها (كانت المؤمنات إذا هاجرن يمتحن يقول الله تعالى أيها النبي إذا جاءك المؤمنات آخره
معنى يمتحن يبايعهن على هذا المذكور في الآية الكريمة وقولها (فمن أقر بهذا فقد أقر بالمحنة)
معناه فقد بايع البيعة الشرعية قولها (والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة
قط غير أنه يبايعهن بالكلام) فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف وفيه أن بيعة الرجال
بأخذ الكف مع الكلام وفيه كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة وأن صوتها ليس
بعورة وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة كتطبب وقصد وحجامة وقل ضرس وكحل
عين ونحوها مما لا توجد امرأة تفعله جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة وفى قط خمس لغات
10

فتح القاف وتشديد الطاء مصمومة ومكسورة وبضمهما والطاء مشددة وفتح القاف مع تخفيف
الطاء ساكنة ومكسورة وهي لنفى الماضي قولها في الرواية الأخرى (ما مس رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط إلا أن يأخذ عليها فإذا أخذ عليها فأعطته قال اذهبي فقد بايعتك) هذا
الاستثناء منقطع وتقدير الكلام ما مس امرأة قط لكن يأخذ عليها البيعة بالكلام فإذا أخذها
بالكلام قال اذهبي فقد بايعتك وهذا التقدير مضرح به في الرواية الأولى ولا بد منه والله أعلم
باب البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع
قوله (كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا فيما استطعت)
هكذا هو في جميع النسخ فيما استطعت أي قل فيما استطعت وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه
وسلم ورأفته بأمته يلقنهم أن يقول أحدهم فيما استطعت لئلا يدخل في عموم بيعة مالا يطيقه
وفيه أنه إذا رأى الانسان من يلتزم مالا يطيقه ينبغي أن يقول له لا تلتزم مالا تطيق فيترك
بعضه وهو من نحو قوله صلى الله عليه وسلم عليكم من الأعمال ما تطيقون
11

بيان سن البلوغ وهو السن الذي يجعل صاحبه من المقاتلين ويجرى عليه حكم الرجال في أحكام القتال وغير
ذلك قوله (عن ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع
عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه) هذا دليل
لتحديد البلوغ بخمس عشرة سنة وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وابن وهب وأحمد وغيرهم
قالوا باستكمال خمس عشرة سنة يصير مكلفا وان لم يحتلم فتجرى عليه الأحكام من وجوب
العبادة وغيره ويستحق سهم الرجال من الغنيمة ويقتل إن كان من أهل الحرب وفيه دليل
على أن الخندق كانت سنة أربع من الهجرة وهو الصحيح وقال جماعة من أهل السير والتواريخ
كانت سنة خمس وهذا الحديث يرده لأنهم أجمعوا على أن أحدا كانت سنة ثلاث فيكون الخندق سنة
أربع لأنه جعلها في هذا الحديث بعده بسنة قوله (لم يجزني وأجازني) المراد جعله رجلا
له حكم الرجال المقاتلين
12

باب النهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار
إذا خيف وقوعه بأيديهم
قوله (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) وفى الرواية
الأخرى مخافة أن يناله العدو وفى الرواية الأخرى فإني لا آمن أن يناله العدو فيه النهى عن
المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهي خوف أن يناله
فينتهكوا حرمته فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة
ولا منع منه حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبو حنيفة والبخاري وآخرون وقال
مالك وجماعة من أصحابنا بالنهي مطلقا وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة الجواز مطلقا
والصحيح عنه ما سبق وهذه العلة المذكورة في الحديث هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وغلط بعض المالكية فزعم أنها من كلام مالك واتفق العلماء على أنه يجوز أن يكتب
13

إليهم كتاب فيه آية أو آيات والحجة فيه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قال القاضي
وكره مالك وغيره معاملة الكفار بالدراهم والدنانير التي فيها اسم الله تعالى وذكره سبحانه وتعالى
باب المسابقة بين الخيل وتضميرها
فيه ذكر حديث مسابقة النبي صلى الله عليه وسلم بين الخيل المضمرة وغير المضمرة وفيه جواز
المسابقة بين الخيل وجواز تضميرها وهما مجمع عليهما للمصلحة في ذلك وتدريب الخيل ورياضتها
وتمرنها على الجاري واعدادها لذلك لينتفع بها عند الحاجة في القتال كرا وفرا واختلف العلماء
في أن المسابقة بينهما مباحة أم مستحبة ومذهب أصحابنا أنها مستحبة لما ذكرناه وأجمع العلماء
على جواز المسابقة بغير عوض بين جميع أنواع الخيل قويها مع ضعيفها وسابقها مع غيره سواء
كان معها ثالث أم لا فأما المسابقة بعوض فجائزة بالاجماع لكن يشترط أن يكون العوض
من غير المتسابقين أو يكون بينهما ويكون معهما محلل وهو ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما
ولا يخرج المحلل من عنده شيئا ليخرج هذا العقد عن صورة القمار وليس في هذا الحديث
ذكر عوض في المسابقة قوله (سابق بالخيل التي أضمرت) يقال أضمرت وضمرت وهو
أن يقلل علفها مدة وتدخل بيتا كنينا وتجلل فيه لتعرق ويجف عرقها فيجف لحمها وتقوى
على الجرى قوله (من الحفياء إلى ثنية الوداع) هي بحاء مهملة وفاء ساكنة وبالمد والقصر
حكاهما القاضي وآخرون القصر أشهر والحاء مفتوحة بلا خلاف وقال صاحب المطالع وضبطه
بعضهم بضمها قال وهو خطأ قال الحازمي في المؤتلف ويقال فيها أيضا الحيفاء بتقديم الياء على
الفاء والمشهور المعروف في كتب الحديث وغيرها الحفياء قال سفيان بن عيينة بين ثنية الوداع
والحفياء خمسة أميال أو ستة وقال موسى بن عقبة ستة أو سبعة وأما ثنية الوداع فهي عند المدينة
سميت بذلك لأن الخارج من المدينة يمشى معه المودعون إليها
14

قوله (مسجد بنى زريق) بتقديم الزاي وفيه دليل لجواز قول مسجد فلان ومسجد بنى فلان وقد ترجم
له البخاري بهذه الترجمة وهذه الإضافة للتعريف قوله (وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل عن
أيوب عن نافع عن ابن عمر) هكذا هو في جميع النسخ قال أبو علي الغساني وذكره أبو مسعود
الدمشقي عن مسلم عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن علية عن أيوب عن ابن نافع عن نافع
عن ابن عمر فزاد ابن نافع قال والذي قاله أبو مسعود محفوظ عن الجماعة من أصحاب ابن علية
قال الدارقطني في كتاب العلل في هذا الحديث يرويه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وداود عن
ابن علية عن أيوب عن ابن نافع عن نافع عن ابن عمر وهذا شاهد لما ذكره أبو مسعود ورواه
جماعة عن زهير عن ابن علية عن أيوب عن نافع كما رواه مسلم من غير ذكر ابن نافع قوله
15

(عن ابن عمر فجئت سابقا فطفف بي الفرس المسجد) أي علا وثب إلى المسجد وكان جداره
قصيرا وهذا بعد مجاوزته الغاية لأن الغاية هي هذا المسجد وهو مسجد بنى زريق والله أعلم
باب فضيلة الخيل وأن الخير معقود بنواصيها
قوله صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة) وفى رواية
الخير معقوص بنواصي الخيل وفى رواية البركة في نواصي الخيل المعقود والمعقوص بمعنى ومعناه
ملوى مضفور فيها والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة قال الخطابي وغيره قالوا وكنى
بالناصية عن جميع ذات الفرس يقال فلان مبارك الناصية ومبارك الغرة أي الذات وفى هذه
الأحاديث استحباب رباط الخيل واقتنائها للغزو وقتال أعداء الله وأن فضلها وخيرها والجهاد باق
إلى يوم القيامة وأما الحديث الآخر الشؤم قد يكون في الفرس فالمراد به غير الخيل المعدة للغزو
ونحوه أو أن الخير والشؤم يجتمعان فيها فإنه فسر الخير بالأجر والمغنم ولا يمتنع مع هذا أن يكون
16

الفرس مما يتشاءم به قوله (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعه) قال
القاضي فيه استحباب خدمة الرجل فرسه المعدة للجهاد قوله (عن عروة البارقي) هو بالموحدة
17

والقاف وهو منسوب إلى بارق وهو جبل باليمن تركته الأزد وهم الأسد باسكان السين فنسبوا
إليه وقيل إلى بارق بن عوف بن عدي ويقال له عروة بن الجعد كما وقع في رواية مسلم وعروة بن أبي
الجعد وعروة بن عياض بن أبي الجعد
باب ما يكره من صفات الخيل رسول الله
قوله صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل) وفسره في الرواية الثانية بان
يكون في رجله اليمنى بياض وفى يده اليسرى أو يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا التفسير أحد الأقوال
في الشكال وقال أبو عبيد وجمهور أهل اللغة والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة وواحدة
18

مطلقة تشبيها بالشكال الذي تشكل به الخيل فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبا قال أبو عبيد وقد يكون
الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة قال ولا تكون المطلقة من الأرجل أو المحجلة إلا الرجل
وقال ابن دريد الشكال أن يكون محجلا من شق واحد في يده ورجله فإن كان مخالفا قيل الشكال
مخالف قال القاضي قال أبو عمر والمطرز قيل الشكال بياض الرجل اليمنى واليد اليمنى وقيل بياض
الرجل اليسرى واليد اليسرى وقيل بياض اليدين وقيل بياض الرجلين وقيل بياض الرجلين ويد
واحدة وقيل بياض اليدين ورجل واحدة وقال العلماء إنما كرهه لأنه على صورة المشكول وقيل
يحتمل أن يكون قد جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة قال بعض العلماء إذا كان مع ذلك
أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال
باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله
قوله صلى الله عليه وسلم (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا إلى قوله أن أدخله
19

الجنة) وفى الرواية الأخرى تكفل الله ومعناهما أوجب الله تعالى له الجنة بفضله وكرمه سبحانه
وتعالى وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة قوله سبحانه وتعالى (لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي) هكذا هو في جميع
النسخ جهادا بالنصب وكذا قال بعده وإيمانا وتصديقا وهو منصوب على أنه مفعول
وتقديره لا يخرجه المخرج ويحوكه المحرك الا للجهاد والايمان والتصديق قوله (لا يخرجه إلا
جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي) معناه لا يخرجه إلا محض الايمان والاخلاص لله
تعالى قوله في الرواية الأخرى (وتصديق كلمته) أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله في
الاخبار بما للمجاهد من عظيم ثوابه قوله تعالى (فهو على ضامن) ذكروا في ضامن هنا وجهين
أحدهما أنه بمعنى مضمون كماء دافق ومدفوق والثاني أنه بمعنى ذو ضمان قوله تعالى (أن أدخله
الجنة) قال القاضي يحتمل أن يدخل عند موته كما قال تعالى في الشهداء بكر عند ربهم يرزقون
20

وفى الحديث أرواح الشهداء في الجنة قال ويحتمل أن يكون المراد دخوله الجنة عند دخول
السابقين والمقربين بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب وتكون الشهادة مكفرة لذنوبه
كما صرح به في الحديث الصحيح قوله (أو أرجعه إلى مسكنه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) قالوا معناه
ما حصل له من الأجر بلا غنيمة ان لم يغنم أو من الاجر والغنيمة معا ان غنموا وقيل إن أو هنا بمعنى الواو
أي من أجر وغنيمة وكذا وقع بالواو وفى رواية أبى داود وكذا وقع في مسلم في رواية يحيى بن يحيى التي بعد
هذه بالواو ومعنى الحديث أن الله تعالى ضمن أن الخارج للجهاد ينال خيرا بكل حال فاما أن يستشهد
فيدخل الجنة وإما أن يرجع بأجر وإما أن يرجع بأجر وغنيمة قوله صلى الله عليه وسلم (والذي
نفس محمد بيده مامن كلم يكلم في سبيل الله الا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم
وريحه مسك) أما الكلم بفتح الكاف واسكان اللام فهو الجرح ويكلم باسكان الكاف أي
يجرح وفيه دليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولاغيره والحكمة في مجيئه يوم القيامة
على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلة وبذله نفسه في طاعة الله تعالى وفيه دليل على جواز اليمين
وانعقادها بقوله والذي نفسي بيده ونحو هذه الصيغة من الحلف بما يدل على الذات ولا خلاف
في هذا قال أصحابنا اليمين تكون بأسماء الله تعالى وصفاته أو ما دل على ذاته قال القاضي واليد هنا
21

بمعنى القدرة والملك قوله (والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف
سرية تغزو في سبيل الله) أي خلفها وبعدها وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة
على المسلمين والرأفة بهم وأنه كان يترك بعض ما يختاره للرفق بالمسلمين وأنه إذا تعارضت المصالح
بدأ بأهمها وفيه مراعاة الرفق بالمسلمين والسعي في زوال المكروه والمشقة عنهم قوله (لوددت
أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل) فيه فضيلة الغزو والشهادة وفيه
تمنى الشهادة والخير وتمنى ما لا يمكن في العادة من الخيرات وفيه أن الجهاد فرض كفاية لافرض
عين قوله صلى الله عليه وسلم (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) هذا تنبيه على الاخلاص في
الغزو وأن الثواب المذكور فيه إنما هو لمن أخلص فيه وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا قالوا
وهذا الفضل وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفار فيدخل فيه من خرج في سبيل الله في قتال
البغاة وقطاع الطريق وفى إقامة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونحو ذلك والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (وجرحه يثعب) بفتح الياء والعين واسكان المثلثة بينهما ومعناه
يجرى متفجرا أي كثيرا وهو بمعنى الرواية الأخرى يتفجر دما قوله صلى الله عليه وسلم
(تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت) الضمير في كهيئتها يعود على الجراحة وذا طعنت بالألف
بعد الذال كذا في جميع النسخ قوله صلى الله عليه وسلم (والعرف عرف المسك) هو
22

بفتح العين المهملة واسكان الراء وهو الريح
باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى
قوله (حدثنا أبو خالد الأحمر عن شعبة عن قتادة وحميد عن أنس) قال أبو علي الغساني
ظاهر هذا الاسناد أن شعبة ترويه عن قتادة وحميد جميعا عن أنس قال وصوابه أن أبا خالد يرويه
عن حميد عن أنس ويرويه أبو خالد أيضا عن شعبة عن قتادة عن أنس قال وهكذا قاله
عبد الغنى بن سعيد قال القاضي فيكون حميد معطوفا على شعبة لا على قتادة قال وقد ذكره
ابن أبي شيبة في كتابه عن أبي خالد عن حميد وشعبة عن قتادة عن أنس فبينه وإن كان
فيه أيضا ايهام فان ظاهره أن حميدا يرويه عن قتادة وليس المراد كذلك بل المراد أن
23

حميدا يرويه عن أنس كما سبق قوله صلى الله عليه وسلم (مامن نفس تموت لها عند الله
خير يسرها أنها ترجع إلى الدنيا ولا أن لها الدنيا وما فيها الا الشهيد إلى آخره) هذا من
صرائح الأدلة في عظيم فضل الشهادة والله المحمود المشكور وأما سبب تسميته شهيدا فقال
النضر بن شميل لأنه حي فان أرواحهم شهدت وحضرت دار الاسلام وأرواح غيرهم إنما
تشهدها يوم القيامة وقال ابن الأنباري ان الله تعالى وملائكته عليهم الصلاة والسلام
يشهدون له بالجنة وقيل لأنه شهد عند خروج روحه ما أعده الله تعالى له من الثواب والكرامة
وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه وقيل لأنه شهد له بالايمان وخاتمة الخير بظاهر
حاله وقيل لأن عليه شاهد بكونه شهيدا وهو الدم وقيل لأنه ممن يشهد على الأمم يوم القيامة بابلاغ
الرسل الرسالة إليهم وعلى هذا القول يشاركهم غيرهم في هذا الوصف قوله (ما يعدل الجهاد
في سبيل الله قال لا تستطيعوه) هكذا هو في معظم النسخ لا تستطيعوه وفى بعضها لا تستطيعونه
24

بالنون وهذا جار على اللغة المشهورة والأول صحيح أيضا وهي لغة فصيحة حذف النون من غير
ناصب ولا جازم وقد سبق بيانها ونظائرها مرات قوله صلى الله عليه وسلم (مثل المجاهد في
سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله إلى آخره) معنى القانت هنا المطيع وفى هذا
الحديث عظيم فضل الجهاد لأن الصلاة والصيام والقيام بآيات الله أفضل الأعمال وقد جعل المجاهد
مثل من لا يفتر عن ذلك في لحظة من اللحظات ومعلوم أن هذا لا يتأتى لأحد ولهذا قال صلى الله
عليه وسلم لا تستطيعونه والله أعلم قوله (أن عمر رضي الله عنه زجر الرجال الذين رفعوا أصواتهم
يوم الجمعة عند المنبر) فيه كراهة رفع الصوت في المساجد يوم الجمعة وغيره وأنه لا يرفع الصوت
بعلم ولاغيره عند اجتماع الناس للصلاة لما فيه من التشويش عليهم وعلى المصلين
والذاكرين والله أعلم
25

باب فضل الغدوة والروحة في سبيل الله
قوله صلى الله عليه وسلم (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) الغدوة بفتح
الغين السير أول النهار إلى الزوال والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار وأو هنا للتقسيم لا
للشك ومعناه أن الروحة يحصل بها هذا الثواب وكذا الغدوة والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو
والرواح من بلدته بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو وكذا غدوه
وروحة في موضع القتال لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله ومعنى هذا الحديث
أن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابهما خير من نعيم الدنيا كلها لو ملكها انسان وتصور
تنعمه بها كلها لأنه زائل ونعيم الآخرة باق قال القاضي وقيل في معناه ومعنى نظائره من تمثيل
26

أمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا أنها خير من الدنيا وما فيها لو ملكها انسان وملك جميع ما فيها
وأنفقه في أمور الآخرة قال هذا القائل وليس تمثيل الباقي بالفاني على ظاهر اطلاقه والله أعلم
قوله (وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا مروان بن معاوية عن يحيى بن سعيد) هكذا هو في جميع نسخ
بلادنا وكذا نقله أبو علي الغساني عن رواية الجلودي قال ووقع وفى نسخة ابن ماهان حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا مروان فذكر أين أبى شيبة بدل ابن بي عمر قال والصواب الأول
27

باب بيان ما أعده الله تعالى للمجاهد في الجنة من الدرجات
قوله صلى الله عليه وسلم (وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كا درجتين كما بين
السماء والأرض قال وما هي يا رسول الله قال الجهاد في سبيل الله) قال القاضي عياض رضي الله عنه
يحتمل أن هذا على ظاهره وأن الدرجات هنا المنازل التي بعضها أرفع من بعض في الظاهر
وهذه صفة منازل الجنة كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراءون كالكوكب الدري قال ويحتمل أن
المراد الرفعة بالمعنى من كثرة النعيم وعظيم الاحسان مما لم يخطر على قلب بشر ولا بصفة مخلوق
وأن أنواع ما أنعم الله به عليه من البر والكرامة يتفاضل تفاضلا كثيرا ويكون تباعده في
الفضل كما بين السماء والأرض في البعد قال القاضي والاحتمال الأول أظهر وهو كما قال والله أعلم
28

باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين
قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن تكفير خطاياه ان قتل (نعم ان قتلت في سبيل الله وأنت
صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم أعاده فقال إلا الدين فان جبريل قال لي ذلك) فيه هذا الفضيلة
العظيمة للمجاهد وهي تكفير خطاياه كلها إلا حقوق الآدميين وإنما يكون تكفيرها بهذه
الشروط المذكورة وهو أن يقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر وفيه أن الأعمال لا تنفع إلا بالنية
والاخلاص لله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (مقبل غير مدبر) لعله احتراز ممن يقبل
في وقت ويدبر في وفت والمحتسب هو المخلص لله تعالى فان قاتل لعصبية أو لغنيمة أو لصيت
أو نحو ذلك فليس له هذا الثواب ولاغيره وأما قوله صلى الله عليه وسلم إلا الذين ففيه تنبيه على
جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين
وإنما يكفر حقوق الله تعالى وأما قوله صلى الله عليه وسلم نعم ثم قال بعد ذلك إلا الدين فمحمول
على أنه أوحى إليه به في الحال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم إلا الدين فان جبريل قال لي ذلك
والله أعلم قوله (حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عن عمرو بن دينار عن محمد ين قيس قال
29

وحدثنا ابن عجلان عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله بن أبي قتادة) القائل وحدثنا ابن عجلان هو
سفيان قوله (عن عياش بن عباس القتباني) الأول بالشين المعجمة والثاني بالمهملة والقتباني
بالقاف مكسورة ثم مثناة فوق ساكنة ثم موحدة منسوب إلى قتبان بطن من رعين
باب في بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم احياء عند ربهم يرزقون
حدثني يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وذكر اسناده إلى مسروق قال سألنا عبد الله
30

عن هذه الآية تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون أما انا
قد سألنا عن ذلك فقال أرواحهم في جوف طير خضر) قال المازري كذا جاء عبد الله غير
منسوب قال أبو علي الغساني ومن الناس من ينسبه فيقول عبد الله بن عمرو وذكره أبو مسعود
الدمشقي في مسند ابن مسعود قال القاضي عياض ووقع في بعض النسخ من صحيح مسلم عبد الله
ابن مسعود قلت وكذا وقع في بعض نسخ بلادنا المعتمدة ولكن لم يقع منسوبا في معظمها
وذكره خلف الواسطي والحميدي وغيرهما في مسند ابن مسعود وهو الصواب وهذا الحديث
مرفوع لقوله انا قد سألنا عند ذلك فقال يعنى النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم
في الشهداء (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث
شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل) فيه بيان أن الجنة مخلوفة موجودة وهو مذهب أهل السنة
وهي التي أهبط منها آدم وهي التي ينعم فيها المؤمنون في الآخرة هذا إجماع أهل السنة وقالت
المعتزلة وطائفة من المبتدعة أيضا وغيرهم انها ليست موجودة وإنما توجد بعد البعث في القيامة
قالوا والجنة التي أخرج منها آدم غيرها وظواهر القرآن والسنة تدل لمذهب أهل الحق وفيه
إثبات مجازاة الأموات بالثواب والعقاب قبل القيامة قال القاضي وفيه أن الأرواح باقية لا تفنى
فينعم المحسن ويعذب المسئ وقد جاء به القرآن والآثار وهو مذهب أهل السنة خلافا لطائفة من
المبتدعة قالت تفنى قال القاضي وقال هنا أرواح الشهداء وقال في حديث مالك إنما نسمة المؤمن
والنسمة تطلق على ذات الانسان جسما وروحا وتطلق على الروح مفردة وهو المراد بها في هذا
التفسير في الحديث الآخر بالروح ولعلمنا بأن الجسم يفنى ويأكله التراب ولقوله في الحديث حتى
31

يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم القيامة قال القاضي وذكر في حديث مالك رحمه الله تعالى نسمة
المؤمن وقال هنا الشهداء لأن هذه صفتهم لقوله تعالى بكر عند ربهم يرزقون فسره في هذا
الحديث وأما غيرهم فأنما يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي كما جاء في حديث ابن عمر وكما قال
في آل فرعون يعرضون عليها غدوا وعشيا قال القاضي بل المراد جميع المؤمنين
الذين يدخلون الجنة بغير عذاب فيدخلونها الآن بدليل عموم الحديث وقيل بل أرواح المؤمنين
على أفنية قبورهم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في جوف طير خضر
وفى غير مسلم بطير خضر وفى حديث آخر بحواصل طير وفى الموطأ إنما نسمة المؤمن طير
وفى حديث آخر عن قتادة في صورة طير أبيض قال القاضي قال بعض المتكلمين على هذا الأشبه
صحة قول من قال طير أو صورة طير وهو أكثر ما جاءت به الرواية لا سيما مع قوله تأوى إلى
قناديل تحت العرش قال القاضي واستبعد بعضهم هذا ولم ينكره آخرون وليس فيه ما ينكر
ولا فرق بين الأمرين بل رواية طير أو جوف طير أصح معنى وليس للأقيسة والعقول في هذا
حكم وكله من المجوزات فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن أو الشهيد
في قناديل أو أجوف طير أو حيث يشاء كان ذلك ووقع ولم يبعد لا سيما مع القول بأن
الأرواح أجسام قال القاضي وقيل إن هذا المنعم أو المعذب من الأرواح جزء من الجسد تبقى فيه
الروح وهو الذي يتألم ويعذب ويلتذ وينعم وهو الذي يقول رب ارجعون وهو الذي يسرح في شجر
الجنة فغير مستحيل أن يصور هذا الجزء طائرا أو يجعل في جوف طائر وفى قناديل تحت العرش
وغير ذلك مما يريد الله عز وجل قال القاضي وقد اختلف الناس في الروح ما هي اختلافا
لا يكاد يحصر فقال كثير من أرباب المعاني وعلم الباطن المتكلمين لا تعرف حقيقته ولا يصح
وصفه وهو مما جهل العباد علمه واستدلوا بقوله تعالى الروح من أمر ربى الفلاسفة
فقالت بعدم الروح وقال جمهور الأطباء هو البخار اللطيف الساري في البدن وقال كثيرون
من شيوخنا هو الحياة وقال آخرون هي أجسام لطيفة مشابكة للجسم يحيى لحياته أجرى الله
تعالى العادة بموت الجسم عند فراقه وقيل هو بعض الجسم ولهذا وصف بالخروج والقبض
وبلوغ الحلقوم وهذه صفة الأجسام لا المعاني وقال بعض مقدمي أئمتنا هو جسم لطيف
متصور على صورة الإنسان داخل الجسم وقال بعض مشايخنا وغيرهم إنه النفس الداخل
32

والخارج وقال آخرون هو الدم هذا ما نقله القاضي والأصح عند أصحابنا أن الروح أجسام
لطيفة متخللة في البدن فإذا فارقته مات قال القاضي واختلفوا في النفس والروح فقيل هما بمعني
وهما لفظان لمسمى واحد وقيل إن النفس هي النفس الداخل والخارج وقيل هي الدم وقيل
هي الحياة والله أعلم قال القاضي وقد تعلق بحديثنا هذا وشبهه بعض الملحدة القائلين بالتناسخ
وانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة المسخرة
وزعموا أن هذا هو الثواب والعقاب وهذا ضلال بين وإبطال لما جاءت به الشرائع من
الحشر والنشر والجنة والنار ولهذا قال في الحديث حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه يعنى
يوم يجئ بجميع الخلق والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فقال لهم الله تعالى هل تشتهون شيئا الخ)
هذا مبالغة في اكرامهم وتنعيمهم إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر ثم رغبهم في سؤال
الزيادة فلم يجدوا مزيدا على ما أعطاهم فسألوا حين رأوه أنه لابد من سؤال أن يرجع أرواحهم
إلى أجسادهم ليجاهدوا ويبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى ويستلذوا بالقتل في سبيله والله أعلم
باب فضل الجهاد والرباط
قوله (أي الناس أفضل فقال رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه) قال القاضي هذا عام
33

مخصوص وتقديره هذا من أفضل الناس وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به
الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم (ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس
من شره) فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفى ذلك خلاف مشهور فمذهب
الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ومذهب طوائف
أن الاعتزال أفضل وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في رمن الفتن
والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص وقد
كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد
مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر
وغير ذلك وأما الشعب فهو ما انفرج بين جبلين وليس المراد نفس الشعب خصوصا بل المراد
الانفراد والاعتزاب وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا وهذا الحديث نحو
الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة فقال أمسك عليك لسانك وليسعك
بيتك وابك على خطيئتك قوله صلى الله عليه وسلم (من خير معاش الناس لهم رجل ممسك
34

عنان فرسه) المعاش هو العيش وهو الحياة وتقديره والله أعلم من خير أحوال عيشهم رجل
ممسك قوله صلى الله عليه وسلم (يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه ينبغي
القتل والموت مظانه) معناه يسارع على ظهر وهو متنه كلما سمع هيعة وهي الصوت عند
حضور العدو وهي بفتح الهاء وإسكان الياء والفزعة باسكان الزاي النهوض إلى العدو ومعنى
يبتغى القتل مظانه يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها لشدة رغبته في الشهادة وفى هذا الحديث
فضيلة الجهاد والرباط والحرص على الشهادة قوله صلى الله عليه وسلم (أو رجل في غنيمة
في رأس شغفة) الغنيمة بضم الغين تصغير الغنم أي قطعة منها والشفعة بفتح الشين والعين
أعلى الجبل
35

باب بيان الرجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة
قوله صلى الله عليه وسلم (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل
هذا في سبيل الله فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) قال القاضي
الضحك هنا استعارة في حق الله تعالى لأنه لا يجوز عليه سبحانه الضحك المعروف في حقنا لأنه
إنما يصح من الأجسام وممن يجوز عليه تغير الحالات والله تعالى منزه عن ذلك وإنما المراد به الرضا
بفعلها والثواب عليه وحمد فعلهما ومحبته وتلقى رسل الله لهما بذلك لأن الضحك من أحدنا إنما
يكون عند موافقته ما يرضاه وسروره وبره لمن يلقاه قال ويحتمل أن يكون المراد هنا ضحك ملائكة الله
تعالى الذين يوجههم لقبض روحه وادخاله الجنة كما يقال قتل السلطان فلانا أي أمر بقتله
36

باب من قتل كافرا ثم سدد
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا) وفى رواية لا يجتمعان في النار
اجتماعا يضر أحدهما الآخر قيل من هم يا رسول الله قال مؤمن قتل كافرا ثم سدد قال القاضي في
الرواية الأولى يحتمل أن هذا مختص بمن قتل كافرا في الجهاد فيكون ذلك مكفرا لذنوبه حتى
لا يعاقب عليها أو يكون بنية مخصوصة أو حالة مخصوصة ويحتمل أن يكون عقابه ان عوقب
بغير النار كالحبس في الأعراف عن دخول الجنة أو لا يدخل النار أو يكون ان عوقب بها في
غير موضع عقاب الكفار ولا يجتمعان في ادراكها قال وأما قوله في الرواية الثانية (اجتماعا يضر
أحدهما الآخر) فيدل على أنه اجتماع مخصوص قال وهو مشكل المعنى وأوجه ما فيه أن يكون
معناه ما أشرنا إليه أنهما لا يجتمعان في وقت ان استحق العقاب فيعيره بدخوله معه وأنه لم ينفعه
ايمانه وقتله إياه وقد جاء مثل هذا في بعض الحديث لكن قوله في هذا الحديث مؤمن قتل كافرا
ثم سدد مشكل لأن المؤمن إذا سدد ومعناه استقام على الطريقة المثلى ولم يخلط لم يدخل النار
أصلا سواء قتل كافرا أو لم يقتله قال القاضي ووجهه عندي أن يكون قوله ثم سدد عائدا على
الكافر القاتل ويكون بمعنى الحديث السابق يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان
الجنة ورأي بعضهم أن هذا اللفظ تغير من بعض الرواة وأن صوابه مؤمن قتله كافر ثم سدد
ويكون معنى قوله لا يجتمعان في النار اجتماعا يضر أحدهما الآخر أي لا يدخلانها للعقاب ويكون
هذا استثناء من اجتماع الورود وتخاصمهم على جسر جهنم هذا آخر كلام القاضي
37

باب فضل الصدقة في سبيل الله تعالى وتضعيفها
قوله (جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك بها
يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) معنى مخطومة أي فيها خطام وهو قريب من الزمام وسبق
شرحه مرات قيل يحتمل أن المراد له أجر سبعمائة ناقة ويحتمل أن يكون على ظاهره ويكون له
في الجنة بها سبعمائة كل واحدة منهن مخطوبة يركبهن حيث شاء للتنزه كما جاء في خيل الجنة ونجبها
وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم
باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب
وغيره وخلافته في أهله بخير
قوله (أبدع بي) هو بضم الهمزة وفى بعض النسخ بدع بي بحذف الهمزة وبتشديد الدال ونقله القاضي
عن جمهور رواة مسلم قال والأول هو الصواب ومعروف في اللغة وكذا رواه أبو داود وآخرون
38

بالألف ومعناه هلكت دابتي وهي مركوبي قوله صلى الله عليه وسلم (من دل على خسر فله مثل
أجر فاعله) فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبه عليه والمساندة لفاعله وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف
العبادات لا سيما لمن يعمل بها من المتبعدين وغيرهم والمراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك
الفعل كما أن لفاعله ثوابا ولا يلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء قوله (أن فتى من أسلم قال
يا رسول الله انى أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به قال ائت فلانا فإنه قد كان تجهز فمرض إلى
آخره) فيه فضيلة الدلالة على الخير وفيه أن ما نوى الانسان صرفه في جهة بر فتعذرت عليه
تلك الجهة يستحب له بذله في جهة أخرى من البر ولا يلزمه ذلك ما لم يلتزمه بالنذر قوله صلى
39

الله عليه وسلم (من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) أي حصل له أجر
بسبب الغزو وهذا الأجر يحصل بكل جهاد وسواء قليلة وكثيره ولكل خالف له في أهله بخير
من قضاء حاجة لهم وانفاق عليهم أو مساعدتهم في أمرهم ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته
وفى هذا الحديث الحث على الاحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا إلى بنى لحيان من هذيل فقال لينبعث من كل رجلين
أحدهما والأجر بينهما) أما بنو لحيان فبكسر اللام وفتحها والكسر أشهر وقد اتفق العلماء على أن
بنى لحيان كانوا في ذلك الوقت كفارا فبعث إليهم بعثا يغزونهم وقال لذلك البعث ليخرج من كل قبيلة
نصف عددها وهو المراد بقوله من كل رجلين أحدهما وأما كون الأجر بينهما فهو محمول على ما إذا
خلف المقيم الغازي في أهله بخير كما شرحناه قريبا وكما صرح به في باقي الأحاديث قوله (في
40

اسنادها الحديث أبو سعيد مولى المهري) هو بالراء واسمه سالم بن عبد الله أبو عبد الله النصرى
بالنون المدني مولى شداد بن الهادي ويقال مولى مالك ين أوس بن الحدثان ويقال مولى دوس
ويقال له سالم سبلات بالسين المهملة والباء الموحدة المفتوحتين وهو سالم البرد بالراء وآخره دال
وهو سالم مولى النصريين بالنون وهو أبو عبد الله مولى شداد وهو سالم أبو عبد الله المديني وهو سالم
مولى مالك بن أوس وهو سالم مولى المهريين وهو سالم دوس وهو سالم أبو عبد الله الدوسي
ولسالم هذا نظائر في هذا وهو أن يكون للانسان أسماء أو صفات وتعريفات يعرفه كل إنسان
بواحد منها وصنف الحافظ عبد الغنى بن سعيد المصري في هذا كتابا حسنا وصنف فيه غيره
باب حرمة نساء المجاهدين وإثم من خانهم فيهن
قوله صلى الله عليه وسلم (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم هذا في شيئين
أحدهما تحريم التعرض لهن بريبة من بريبة من نظر محرم وخلوة وحديث محرم وغير ذلك والثاني في برهن
41

والاحسان إليهن وقضاء حوائجهن التي لا يترتب عليها مفسدة ولا يتوصل بها إلى ريبة ونحوها
قوله صلى الله عليه وسلم في الذي يخون المجاهد في أهله (ان المجاهد يأخذ يوم القيامة من حسناته
ما شاء فما ظنكم) معناه تظنون في رغبته في أخذ حسناته والاستكثار منها في ذلك المقام
أي لا يبقى منها شيئا ان أمكنه والله أعلم
باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين
قوله (فجاء بكتف يكتبها) فيه جواز كتابة القرآن في الألواح والأكتاف وفيه طهارة عظم
المذكى وجواز الانتفاع به قوله تعالى: لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر
الآية فيه دليل لسقوط الجهاد عن المعذورين ولكن لا يكون ثوابهم ثواب المجاهدين بل لهم ثواب
نياتهم إن كان لهم نية صالحة كما قال صلى الله عليه وسلم ولكن جهاد ونية أن الجهاد فرض
42

كفاية ليس بفرض عين وفيه رد على من يقول إنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فرض
عين وبعده فرض كفاية والصحيح أنه لم يزل فرض كفاية من حين شرع وهذه الآية ظاهرة
في ذلك لقوله تعالى " وعد الله الحسنى وفضل المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " وفي
وقوله تعالى أولى الضرر غير ينضب الراء ورفعها قراءتان مشهورتان في السبع
قرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصبها والباقون برفعها وقرئ في الشاذ بجرها فمن نصب فعلى
الاستثناء ومن رفع فوصف للقاعدين أو بدل منهم ومن جر فوصف للمؤمنين أو بدل منهم
قوله (فشكا إليه ابن أم مكتوم ضرارته) أي عماه هكذا هو في جميع نسخ بلادنا ضرارته بفتح
الضاد وحكى صاحب المشارق والمطالع عن بعض الرواة أنه ضبط ضررا به والصواب الأول
باب ثبوت الجنة للشهيد
(قال رجل أين أنا يا رسول الله ان قتلت قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل فيه ثبوت
43

الجنة للشهيد وفيه المبادرة بالخير وأنه لا يشتغل عنه بحظوظ النفوس قوله (وحدثنا أحمد بن جناب
المصيصي) بالجيم والنون وأما المصيصي فبكسر الميم والصاد المشددة ويقال بفتح الميم وتخفيف
الصاد وجهان معروفان الأول أشهر منسوب إلى المصيصة المدينة المعروفة قوله (جاء رجل من بنى
النبيت هو بنون مفتوحة ثم باء مكسورة ثم مثناة تحت ساكنة ثم مثناة فوق وهم قبيلة من الأنصار كما
ذكر في الكتاب قوله (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا) هكذا هو في جميع
النسخ بسيسة بباء موحدة مضمومة وبسينين مهملتين مفتوحتين بينهما ياء مثناة تحت ساكنة
قال القاضي هكذا هو في جميع النسخ قال وكذا رواه أبو داود وأصحاب الحديث قال والمعروف
في كتب السيرة بسبس ببائين موحدتين مفتوحتين بينهما سين ساكنة وهو بسبس بن عمرو
ويقال ابن بشر من الأنصار من الخزرج ويقال حليف لهم قلت يجوز أن يكون أحد اللفظين
اسما له والآخر لقبا وقوله (عينا) أي متجسسا ورقيبا قوله (ما صنعت عير أبي سفيان)
هي الدواب التي تحمل الطعام وغيره من الأمتعة قال في المشارق العير هي الإبل والدواب تحمل
44

الطعام وغيره من التجارات قال ولا تسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك وقال الجوهري في الصحاح
العير الإبل تحمل الميرة وجمعها عيرات بكسر العين وفتح الياء قوله صلى الله عليه وسلم (لن لنا
طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب) هي بفتح الطاء وكسر اللام أي شيئا نطلبه والظهر
الدواب التي تركب قوله (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم) هو بضم الظاء واسكان الهاء
أي مركوباتهم في هذا استحباب التورية في الحرب وأن لا يبين الامام جهة إغارته وإغارة سراياه
لئلا يشبع ذلك فيحذرهم العدو قوله (في علو المدينة) بضم العين وكسرها قوله صلى الله
عليه وسلم (لا يتقدمن أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دونه) أي قدامه متقدما في ذلك الشئ
لئلا يفوت شئ من المصالح التي لا تعلمونها قوله (عمير بن الحمام) بضم الحاء المهملة وتخفيف
الميم قوله (بخ بخ) فيه لغتان اسكان الخاء وكسرها منونا وهي كلمة تطلق لتفخيم الأمر
وتعظيمه في الخير قوله (لا والله يا رسول الله الا رجاءة أن أكون من أهلها) هكذا هو
في أكثر النسخ المعتمدة رجاءة بالمد ونصب التاء وفى بعضها رجاء بلا تنوين وفى بعضها بالتنوين
45

ممدودان بحذف التاء وكله صحيح معروف في اللغة ومعناه والله ما فعلته لشئ إلا لرجاء أن أكون
من أهلها قوله (فأخرج تمرات من قرنه) فهو بقاف وراء مفتوحتين ثم نون أي جعبة
النشاب ووقع في بعض نسخ المغاربة فيه تصحيف قوله (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي
هذه انها لحياة طويلة فرمى مما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل) فيه جواز الانغمار
في الكفار والتعرض للشهادة وهو جائز بلا كراهة عند جماهير العلماء قوله (وهو بحضرة العدو)
هو بفتح الحاء وضمها وكسرها ثلاث لغات ويقال أيضا بحضر بفتح الحاء والضاد بحذف الهاء
قوله صلى الله عليه وسلم (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) قال العلماء معناه إن الجهاد
وحضور معركة القتال طريق إلى الجنة وسبب لدخولها قوله (كسرة فن سيفه) هو بفتح
46

الجيم واسكان الفاء وبالنون وهو غمده قوله (وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد)
معناه يضعونه في المسجد مسبلا لمن أراد استعماله لطهارة أو شرب أو غيرهما وفيه جواز وضعه
في المسجد وقد كانوا يضعون أيضا أعذاق التمر لمن أراد في المسجد في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم ولا خلاف في جواز هذا وفضله قوله (يحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام
لأهل الصفة) أصحاب الصفة هم الفقراء الغرباء الذين كانوا يأوون إلى المسجد النبي صلى الله عليه
وسلم وكانت لهم في آخره صفة وهو مكان منقطع من المسجد مظلل عليه يبتون فيه قاله
إبراهيم الحربي والقاضي وأصله من صفة البيت وهي شئ كالظلة قدامه فيه فضيلة الصدقة وفضيلة
الاكتساب من الحلال لها وفيه جواز الصفة في المسجد وجواز المبيت فيه بلا كراهة وهو
مذهبنا ومذهب الجمهور قوله (اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا)
فيه فضيلة ظاهرة للشهداء وثبوت الرضا منهم ولهم وهو موافق لقوله تعالى الله عنهم ورضوا عنه
47

قال العلماء رضي الله عنهم بطاعتهم ورضوا عنه بما أكرمهم به وأعطاهم إياه من الخيرات والرضى
من الله تعالى إفاضة الخير والاحسان والرحمة فيكون من صفات الأفعال وهو أيضا بمعنى ارادته
فيكون من صفات الذات قوله (ليراني الله ما أصنع) هكذا هو في أكثر النسخ ليراني
بالألف وهو صحيح ويكون ما أصنع بدلا من الضمير في أراني أي ليرى الله ما أصنع ووقع
في بعض النسخ ليرين الله بياء بعد الراء ثم نون مشددة وهكذا وقع في صحيح البخاري وعلى هذا
ضبطوه بوجهين أحدهما ليرين بفتح الياء والراء أي يراه الله واقعا بارزا والثاني ليرين بضم
الياء وكسر الراء ومعناه ليرين الله الناس ما أصنعه ويبرزه الله تعالى لهم قوله (فهاب
أن يقول غيرها) معناه أنه اقتصر على هذه اللفظة المهمة أي قوله ليرين الله ما أصنع مخافة أن
يعاهد الله على غيرها فيعجز عنه أو تضعف بنيته عنه أو نحو ذلك وليكون ابراء له من الحول
والقوة قوله (واها لريح الجنة أجده دون أحد) قال العلماء واها كلمة تحنن وتلهف قوله
(أجده دون أحد) محمول على ظاهره وأن الله تعالى أوجده ريحها من موضع المعركة وقد
ثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام
48

باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
قوله صلى الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فيه بيان أن
الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين في سبيل الله يختص
بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا قوله (الرجل يقاتل للذكر) أي ليذكره الناس
بالشجاعة وهو بكسر الذال قوله (ويقاتل حمية) هي الأنفة والغيرة والمحاماة عن عشيرته
49

(فرفع رأسه إليه وما رفع رأسه إليه الا أنه كان قائما) فيه أنه لا بأس أن يكون المستفتى
واقفا إذا كان هناك عذر من ضيق مكان أو غيره وكذلك طالب الحاجة وفيه اقبال المتكلم
على من يخاطبه
باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار
قوله (تفرق الناس عن أبي هريرة فقال له ناتل أهل الشام أيها الشيخ) وفى الرواية الأخرى
فقال له ناتل الشامي هو بالنون في أوله وبعد الألف تاء مثناة فوق وهو ناتل بن قيس الحزامي
الشامي من أهل فلسطين وهو تابعي وكان أبوه صحابيا وكان ناتل كبير قومه قوله صلى الله
عليه وسلم في الغازي والعالم والجواد وعقابهم على فعلهم ذلك لغير الله وادخالهم النار دليل على
50

تغليظ تحريم الرياء وشدة عقوبته وعلى الحث على وجوب الاخلاص في الأعمال كما قال الله
تعالى أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين أن العمومات الواردة في فضل الجهاد
إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلصا وكذلك الثناء على العلماء وعلى المنفقين في وجوه
الخيرات كله محمول على من فعل ذلك لله تعالى مخلصا قوله (تفرج الناس عن أبي هريرة)
أي تفرقوا بعد اجتماعهم
باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم
قوله صلى الله عليه وسلم (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي
51

أجرهم من الآخر ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم) وفى الرواية الثانية
ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم الا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية
تخفق وتصاب إلا تم أجورهم قال أهل اللغة الاخفاق أن يغزو فلا يغنموا شيئا وكذلك كل
طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق ومنه أخفق الصائد إذا لم يقع له صيد وأما معنى الحديث
فالصواب الذي لا يجوز غيره أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم
يسلم أو سلم ولم يغنم وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم فإذا حصلت لهم فقد تعجلوا
ثلثي أجرهم المترتب على الغزو وتكون هذه الغنيمة من جملة الأجر وهذا موافق للأحاديث
الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله منا من مات ولم يأكل من أجر شيئا ومنا من أينعت له
ثمرته فهو يهدبها أي يجتنيها فهذا الذي ذكرنا هو الصواب وهو طاهر الحديث ولم يأت
حديث صريح صحيح يخالف هذا فتعين حمله على ما ذكرنا وقد اختار القاضي عياض معنى هذا
الذي ذكرناه بعد حكايته في تفسيره أقوالا فاسدة منها قول من زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح
ولا يجوز أن ينقص ثوابهم بالغنيمة كما لم ينقص ثواب أهل بدر وهم أفضل المجاهدين وهي أفضل
غنيمة قال وزعم بعض هؤلاء أن أبا هانئ حميد بن هانئ راوية مجهول ورجحوا الحديث السابق
في أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة فرجحوه على هذا الحديث لشهرته وشهرة رجاله
ولأنه في الصحيحين وهذا في مسلم خاصة وهذا القول باطل من أوجه فإنه لا تعارض بينه وبين
هذا الحديث المذكور فان الذي في الحديث السابق رجوعه بما نال من أجر وغنيمة ولم يقل
أن الغنيمة تنقص الاجر أم لا ولا قال أجره من لم يغنم فهو مطلق وهذا مقيد فوجب حمله
عليه وأما قولهم أبو هانئ مجهول فغلط فاحش بل هو ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحياة
وابن وهب وخلائق من الأئمة ويكفى في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه وأما قولهم أنه
52

ليس في الصحيحين فليس لازما في صحة الحديث كونه في الصحيحين ولا في أحدهما وأما
قولهم في غنيمة بدر فليس في غنيمة بدر نص أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد
غنموا فقط وكونهم مغفورا لهم مرضيا عنهم ومن أهل الجنة لا يلزم أن تكون وراء هذا
مرتبة أخرى هي أفضل منه مع أنه شديد الفضل عظيم القدر ومن الأقوال الباطلة ما حكاه
القاضي عن بعضهم أنه قال لعل الذي تعجل ثلثي أجره إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها
وهذا غلط فاحش إذ لو كانت على خلاف وجهها لم يكن ثلث الأجر وزعم بعضهم أن المراد أن
التي أخفقت يكون لها أجر بالأسف على ما فاتها من الغنيمة فيضاعف ثوابها كما يضاعف لمن
أصيب في ماله وأهله وهذا القول فاسد مباين لصريح الحديث وزعم بعضهم أن الحديث محمول
على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فنقص ثوابه وهذا أيضا ضعيف والصواب
ما قدمناه والله أعلم
باب قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنية
وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال
قوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنية) الحديث أجمع المسلمون على عظم موقع هذا
الحديث وكثرة فوائده وصحته قال الشافعي وآخرون هو ثلث الاسلام وقال الشافعي يدخل في
سبعين بابا من الفقه وقال آخرون هو ربع الاسلام وقال عبد الرحمن بن مهدي وغيره ينبغي
لمن صنف كتابا أن يبدأ فيه بهذا الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية ونقل الخطابي هذا
53

عن الأئمة مطلقا وقد فعل ذلك البخاري وغيره فابتدؤا به قبل كل شئ وذكره البخاري في سبعة
مواضع من كتابه قال الحفاظ ولم يصح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الا من رواية
عمر بن الخطاب ولا عن عمر لا من رواية علقمة ابن وقاص ولا عن علقمة الا من رواية
محمد بن إبراهيم التيمي ولا عن محمد الا من رواية يحيى بن سعيد الأنصاري وعن يحيى انتشر
فرواه عنه أكثر من مائتي انسان أكثرهم أئمة ولهذا قال الأئمة ليس هو متواترا وإن كان مشهورا
عند الخاصة والعامة لأنه فقد شرط التواتر في أوله وفيه طرفة من طوف الاسناد فإنه رواه ثلاثة
تابعيون بعضهم عن بعض يحيى ومحمد وعلقمة قال جماهير العلماء من أهل العربية والأصول
وغيرهم لفظة إنما موضوعة للحصر تثبت المذكور وتنفى ما سواه فتقدير هذا الحديث أن الأعمال
تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية وفيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم
لا تصح الا بالنية وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات وأما
إزالة النجاسة فالمشهور عندنا أنها لا تفتقر إلى نية لأنها من باب التروك والترك لا يحتاج إلى
نية وقد نقلوا الاجماع فيها وشذ بعض أصحابنا فأوجبها وهو باطل وتدخل النية في الطلاق
والعتاق والقذف ومعنى دخولها أنها إذا قارنت كناية صارت كالصريح وان أتى بصريح طلاق
ونوى طلقتين أو ثلاثا وقع ما نوى وان نوى بصريح غير مقتضاه دين فيما بينه وبين الله تعالى
ولا يقبل منه في الظاهر قوله صلى الله عليه وسلم (وإنما لامرئ ما نوى) قالوا فائدة ذكره بعد
إنما الأعمال بالنية بيان أن تعيين المنوي شرط فلو كان على انسان صلاة مقضية لا يكفيه أن
ينوى الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوى كونها ظهرا أو غيرها ولولا اللفظ الثاني لاقتضى
الأول صحة النية بلا تعيين أو أوهم ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فمن كان هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله معناه من قصد بهجرته وجه الله وقع أجره على الله ومن
قصد بها دنيا أو امرأة فهي حظ ولا نصيب له في الآخرة بسبب هذه الهجرة وأصل الهجرة)
54

الترك والمراد هنا ترك الوطن وذكر المرأة مع الدنيا يحتمل وجهين أحدهما أنه جاء أن سبب هذا
الحديث أن رجلا هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له مهاجر أم قيس والثاني أنه للتنبيه
على زيادة التحذير من ذلك وهو من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على مزيته والله أعلم
باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم (من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه) وفى الرواية الأخرى
من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وان مات على فراشه معنى الرواية الأولى
مفسر من الرواية الثانية ومعناها جميعا أنه إذا سأل الشهادة بصدق أعطى من ثواب الشهداء
وإن كان على فراشه وفيه استحباب سؤال الشهادة واستحباب نية الخير
55

باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو
قوله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه مات على شعبة من نفاق قال
عبد الله بن المبارك فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قوله نرى
بضم النون أي نظن وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل وقد قال غيره انه عام والمراد أن من فعل
هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في هذا الوصف فان ترك الجهاد أحد شعب النفاق
وفى هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على
من مات ولم ينوها وقد اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها فأخرها بنية أن
يفعلها في إثنائه فمات قبل فعلها أو أخر الحج بعد التمكن إلى سنة أخرى فمات قبل فعله هل
يأثم أم لا والأصح عندهم أنه يأثم في الحج دون الصلاة لان مدة الصلاة قريبة فلا تنسب إلى
تفريط بالتأخير بخلاف الحج وقيل يأثم فيهما وقيل لا يأثم فيهما وقيل يأثم في الحج الشيخ دون
الشاب والله أعلم
56

باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر
قوله صلى الله عليه وسلم (ان بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم
حبسهم المرض) وفى رواية الا شركوكم في الاجر قال أهل اللغة شركه بكسر الراء بمعنى شاركه
وفى هذا الحديث فضيلة النية في الخير وأن من نوى الغزو وغيره من الطاعات فعرض له عذر
منعه حصل له ثواب نيته وأنه كلما أكثر من التأسف على فوات ذلك وتمنى كونه مع الغزاة
ونحوهم كثر ثوابه والله أعلم
باب فضل الغزو في البحر
قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وتفلي رأسه
وينام عندها) اتفق العلماء على أنها كانت محرما له صلى الله عليه وسلم واختلفوا في كيفية ذلك
فقال ابن عبد البر وغيره كانت احدى خالاته من الرضاعة وقال آخرون بل كانت خالة لأبيه
57

أو لجده لان عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار قوله (تفلى) بفتح التاء واسكان الفاء
فيه جواز فلي الرأس وقتل منه ومن غيره قال أصحابنا قتل القمل وغيره من المؤذيات
مستحب وفيه جواز ملامسة المحرم في الرأس وغيره مما ليس بعورة وجواز الخلوة بالمحرم
والنوم عندها وهذا كله مجمع عليه وفيه جواز أكل الضيف عند المرأة المزوجة مما قدمته له
الا أن يعلم أنه من مال لزوج ويعلم أنه يكره أكله من طعامه قولها (فاستيقظ وهو يضحك) هذا
الضحك فرحا وسرورا بكون أمته تبقى بعده متظاهرة بأمور الاسلام قائمة بالجهاد حتى البحر
قوله صلى الله عليه وسلم (يركبون ثبج هذا البحر) الثبج بثاء مثلثة ثم باء موحدة مفتوحتين
ثم جيم وهو ظهره ووسطه وفى الرواية الأخرى يركبون ظهر البحر قوله صلى الله عليه وسلم
(كالملوك على الأسرة) قيل هو صفة لهم في الأخرة إذا دخلوا الجنة والأصح أنه صفة لهم في الدنيا
أي يركبون مواكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثرة عددهم قولها في المرة الثانية
(ادع الله أن يجعلني منهم وكان دعا لها في الأولى قال أنت من الأولين) هذا دليل على أن رؤياه
الثانية غير الأولى وأنه عرض فيها غير الأولين وفيه معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم منها اخباره
ببقاء أمته بعده وأنه تكون لهم شوكة وقوة وعدد وانهم يغزون وأنهم يركبون البحر وأن أم
حرام تعيش إلى ذلك الزمان وأنها تكون معهم وقد وجد بحمد الله تعالى كل ذلك وفيه فضيلة
58

لتلك الجيوش وأنهم غزاة في سبيل الله واختلف العلماء متى جرت الغزوة التي توفيت فيها أم
حرام في البحر وقد ذكر في هذه الرواية في مسلم أنها ركبت البحر في زمان معاوية فصرعت
عن دابتها فهلكت قال القاضي قال أكثر أهل السير والأخبار أن ذلك كان في خلافة عثمان
ابن عفان رضي الله عنه وأن فيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرس فصرعت عن دابتها هناك
فتوفيت ودفنت هناك وعلى هذا يكون قوله في زمان معاوية معناه في زمان غزوة في البحر لا في
أيام خلافته قال وقيل بل كان ذلك في خلافته قال هو أظهر في دلالة قوله في زمانه وفى هذا
الحديث جواز ركوب البحر للرجال والنساء وكذا قاله الجمهور وكره مالك ركوبه للنساء لأنه
لا يمكنهن غالبا التستر فيه ولا غض البصر عن المتصرفين فيه ولا يؤمن انكشاف عوراتهن
في تصرفهن لا سيما فيما صغر من السفيان مع ضرورتهن إلى قضاء الحاجة بحضرة الرجال
قال القاضي رحمه الله تعالى وروى عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما
منع ركوبه وقيل إنما منعه العمران للتجارة وطلب الدنيا لا للطاعات وقد روى عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن ركوب البحر الا لحاج أو معتمر أو غاز وضعف
أبو داود هذا الحديث وقال رواته مجهولون واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن القتال
59

في سبيل الله تعالى والموت فيه سواء في الاجر لان أم حرام ماتت ولم تقتل ولا دلالة فيه
لذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل انهم شهداء إنما يغزون في سبيل الله ولكن قد ذكر
مسلم في الحديث الذي بعد هذا بقليل حديث زهير بن حرب من رواية أبي هريرة من قتل
في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد وهو موافق لمعنى قول الله تعالى
ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله
قوله في الرواية الأولى (وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأطعمته) وقال في الرواية الأخرى فتزوجها عبادة بن الصامت بعد فظاهر الرواية
الأولى أنها كانت زوجة لعبادة حال دخول النبي صلى الله عليه وسلم إليها ولكن الرواية الثانية
صريحة في أنه إنما تزوجها بعد ذلك فتحمل الأولى على موافقة الثانية ويكون قد أخبر عما صار
حالا لها بعد ذلك قوله (وحدثناه محمد بن رمح بن المهاجر أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد) هكذا
60

هو في نسخ بلادنا ونقل القاضي عن بعض نسخهم حدثنا محمد بن رمح ويحيى بن يحيى أخبرنا الليث
فزاد يحيى بن يحيى مع محمد بن رمح
باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل
قوله (عن عبد الرحمن بن بهرام) بفتح الباء وكسرها قوله (شرحبيل بن السمط) يقال
بفتح السين وكسر الميم ويقال بكسر السين واسكان الميم قوله صلى الله عليه وسلم (رباط
يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله) هذه فصيلة
ظاهرة للمرابط وجريان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيها أحد وقد جاء
صريحا في غير مسلم كل ميت يختم على عمله الا المرابط فإنه ينمى له عمله اليوم القيامة قوله
صلى الله عليه وسلم (وأجرى عليه رزقه) موافق لقول الله تعالى في الشهداء بكر عند ربهم
يرزقون السابقة أن أرواح الشهداء بأكل من ثمار الجنة قوله صلى الله عليه وسلم
(أمن الفتان) ضبطوا أمن بوجهين أحدهما أمن بفتح الهمزة وكسر الميم من غير واو والثاني
أو من بضم الهمزة وبواو وأما الفتان فقال القاضي رواية الأكثرين بضم الفاء جمع فاتن قال
ورواية الطبري بالفتح وفى رواية أبى داود في سننه أمن من فتانى القبر
61

باب بيان الشهداء
قوله صلى الله عليه وسلم (بينما رجل بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له
فغفر له) فيه فضيلة إماطة الأذى عن الطريق وهو كل مؤذ وهذه الإماطة أدنى شعب الايمان كما
سبق في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغرق وصاحب
الهدم والشهيد في سبيل الله) وفى رواية مالك في الموطأ من حديث جابر بن عتيك الشهداء
سبعة سوى القتل في سبيل الله فذكر المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم وصاحب ذات
الجنب والحرق والمرأة تموت بجمع وفى رواية لمسلم من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل
الله فهو شهيد وهذا الحديث الذي رواه مالك صحيح بلا خلاف وإن كان البخاري ومسلم لم يخرجاه فأما
المطعون فهو الذي يموت في الطاعون كما في الرواية الأخرى الطاعون شهادة لكل مسلم وأما المبطون
فهو صاحب داء البطن وهو الاسهال قال القاضي وقيل هو الذي به الاستسقاء وانتفاخ البطن وقيل
62

هو الذي تشتكي بطنه وقيل هو الذي يموت بداء بطنه مطلقا وأما الغرق فهو الذي يموت غريقا
في الماء وصاحب الهدم من يموت تحته وصاحب ذات الجنب معروف وهي قرحة تكون
في الجنب باطنا والحريق الذي يموت بحريق النار وأما المرأة تموت بجمع فهو بضم الجيم وفتحها
وكسرها والضم أشهر قيل التي تموت حاملا جامعة ولدها في بطنها وقيل هي البكر والصحيح
الأول وأما قوله صلى الله عليه وسلم ومن مات في سبيل الله فهو شهيد فمعناه بأي صفة مات
وقد سبق بيانه قال العلماء وإنما كان هذه الموتات شهادة بتفضل الله تعالى بسبب شدتها
وكثرة ألمها وقد جاء في حديث آخر في الصحيح من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله
فهو شهيد وسبق بيانه في كتاب الايمان وفى حديث آخر صحيح من قتل دون سيفه فهو شهيد
قال العلماء المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله انهم يكون لهم في الآخرة ثواب
الشهداء وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وقد سبق في كتاب الايمان بيان هذا وأن
الشهداء ثلاثة أقسام شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وشهيد في الآخرة
دون أحكام الدنيا وهم هؤلاء المذكورون وهنا وشهيد في الدنيا دون الآخرة وهو من غل في الغنيمة
أو قتل مدبرا قوله في حديث عبد الحميد بن بيان (قال عبد الله بن مقسم اشهد على أخيك
أنه زاد في هذا الحديث ومن غرق فهو شهيد) هكذا وقع في أكثر نسخ بلادنا على أخيك بالخاء
63

وفى بعضها على أبيك بالياء وهذا هو الصواب قال القاضي وقع في رواية ابن ماهان على أبيك
وهو الصواب وفى رواية الجلودي على أخيك وهو خطأ والصواب على أبيك كما سبق في رواية
زهير وإنما قاله ابن مقسم لسهيل بن أبي صالح وكذا ذكره أيضا في الرواية التي بعدها والله أعلم
باب فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه
قوله (ثمامة بن شفى) هو بشين معجمة مضمومة ثم فاء مفتوحة ثم ياء مشددة قوله صلى الله عليه وسلم
في تفسير قوله تعالى لهم ما استطعتم من قوة (ألا ان القوة الرمي قالها ثلاثا) هذا تصريح
بتفسيرها ورد لما يحكيه المفسرون من الأقوال سوى هذا وفيه وفى الأحاديث بعده فضيلة
الرمي والمناضلة والاعتناء بذلك بنية الجهاد في سبيل الله تعالى وكذلك المشاجعة وسائر أنواع
استعمال السلاح وكذا المسابقة بالخيل وغيرها كما سبق في بابه والمراد بهذا كله التمرن على القتال
والتدرب والتحذق فيه ورياضة الأعضاء بذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ستفتح عليكم
أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه) الأرضون بفتح الراء على المشهور
64

وحكى الجوهري لغة شاذة بإسكانها ويعجز بكسر الجيم على المشهور وبفتحها في لغة ومعناه
الندب إلى الرمي قوله (ابن شماسة) بضم الشين وفتحها قوله (لم أعانيه) هكذا هو في معظم
النسخ لم أعانيه بالياء وفى بعضها لم أعانه بحذفها وهو الفصيح والأول لغة معروفة سبق بيانها مرات
قوله صلى الله عليه وسلم (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى) هذا تشديد عظيم في نسيان
الرمي بعد علمه وهو مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر وسبق تفسير فليس منافي كتاب الايمان
باب قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
(على الحق لا يضرهم من خالفهم)
قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى
65

يأتي أمر الله وهم كذلك) هذا الحديث سبق شرحه مع ما يشبهه في أواخر كتاب الايمان وذكرنا
هناك الجمع بين الأحاديث الواردة في هذا المعنى وأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي
أمر الله من الريح التي تأتى فتأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة وأن المراد برواية من روى حتى تقوم
الساعة أي تقرب الساعة وهو خروج الريح وأما هذا الطائفة فقال البخاري هم أهل العلم وقال
66

أحمد بن حنبل إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدرى من هم قال القاضي عياض إنما أراد أحمد
أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث قلت ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين
أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون
بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين
بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة فان هذا الوصف
ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور
في الحديث وفيه دليل لكون الاجماع حجة وهو أصح ما استدل به له من الحديث وأما حديث
لا تجتمع أمتي على ضلالة فضعيف والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ظاهرين على من
ناوأهم) هو بهمزة بعد الواو أي عاداهم وهو مأخوذ من نأى إليهم نأوا إليه أي نهضوا للقتال قوله
(مسلمة بن مخلد) بضم الميم وفتح الخاء وتشديد اللام قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزال أهل
67

الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) قال علي بن المديني المراد بأهل الغرب العرب
والمراد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالبا وقال آخرون المراد به الغرب من الأرض
وقال معاذهم بالشام وجاء في حديث آخرهم ببيت المقدس وقيل هم أهل الشام وما وراء ذلك
قال القاضي وقيل المراد بأهل الغرب أهل الشدة والجلد وغرب كل شئ حده
باب مراعاة مصلحة الدواب في السير
والنهى عن التعريس في الطريق
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم
68

بها في السنة فبادروا بها نقيها) الخصب بكسر الخاء وهو كثرة العشب والمرعى وهو ضد
الجدب والمراد بالسنة هنا القحط ومنه قوله تعالى أخذنا آل فرعون بالسنين بالقحوط
ونقيها بكسر النون واسكان القاف وهو المخ ومعنى الحديث الحث على الرفق بالدواب ومراعاة
مصلحتها فان سافروا في الخصب قللوا السير وتركوها ترعى في بعض النهار وفى أثناء السير
فتأخذ حظها من الأرض بما ترعاه منها وان سافروا في القحط عجلوا السير ليصلوا المقصد
وفيها بقية من قوتها ولا يقللوا السير فيلحقها الضرر لأنها لا تجد ما ترعى فتضعف ويذهب نقيها
وربما كلت ووقفت وقد جاء في أول هذا الحديث في رواية مالك في الموطأ ان الله رفيق يحب
الرفق قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام
بالليل) قال أهل اللغة التعريس النزول في أواخر الليل للنوم والراحة هنا قول الخليل والأكثرين
وقال أبو زيد هو النزول أي وقت كان من ليل أو نهار والمراد بهذا الحديث هو الأول وهذا
أدب من آداب السير والنزول أرشد إليه صلى الله عليه وسلم لأن الحشرات ودواب الأرض
من ذوات السموم والسباع تمشى في الليل على الطرق لسهولتها ولأنها تلتقط منها ما يسقط من
مأكول ونحو وما تجد فيها من رمة ونحوها فإذا عرس الإنسان في الطريق ربما مر به منها
ما يؤذيه فينبغي أن يتباعد عن الطريق
69

باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل
المسافر إلى أهله بعد قضاء شغله
قوله صلى الله عليه وسلم (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه) معناه يمنعه كمالها
ولذيذها لما فيه من المشقة والتعب ومقاساة الحر والبرد والسري والخوف ومفارقة الأهل
والأصحاب وخشونة العيش قوله صلى الله عليه وسلم (فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل
إلى أهله) النهمة بفتح النون واسكان الهاء هي الحاجة والمقصود في هذا الحديث استحباب
تعجيل الرجوع إلى الأهل بعد قضاء شغله ولا يتأخر بما ليس له بمهم
باب كراهة الطروق وهو الدخول ليلا لمن ورد من سفر
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله ليلا وكان يأتيهم غدوة أو عشية) وفى
70

رواية إذا قدم أحدكم ليلا فلا يأتين أهله طروقا حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة وفى الرواية
الأخرى نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا وفى
الرواية الأخرى نهى أن يطرق أهله ليلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم أما قوله صلى الله عليه وسلم
في الأخيرة يطرق أهله ليلا يتخونهم فهو بفتح اللام واسكان الياء أي في الليل والطروق بضم
الطاء هو الاتيان في الليل وكل آت في الليل فهو طارق ومعنى تستحد المغيبة أي تزيل شعر عانتها
والمغيبة التي غاب زوجها والاستحداد استفعال من استعمال الحديدة وهي الموسى والمراد ازالته
كيف كان ومعنى يتخونهم يظن خيانتهم ويكشف أستارهم ويكشف هل خانوا أم لا ومعن هذه
الروايات كلها أنه يكره لمن طال سفره أن يقرم على امرأته ليلا بغتة فأما من كان سفره قريبا
تتوقع امرأته اتيانه ليلا فلا بأس كما قال في احدى هذه الرايات إذا أطال الرجل الغيبة وإذا
كان في قفل عظيم أو عسكر ونحوهم واشتهر قدومهم ووصولهم وعلمت امرأته وأهله أنه
71

قادم معهم وأنهم لآن داخلون فلا بأس بقدومه متى شاء لزوال المعنى الذي نهى بسببه فإن
المراد أن يتأهبوا وقد حصل ذلك ولم يقدم بغتة ويؤيد ما ذكرناه ما جاء في الحديث الآخر
أمهلوا حتى ندخل ليلا أي عشاء كي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة فهذا صريح
فيما قلناه وهو مفروض في أنهم أرادوا الدخول في أوائل النهار بغتة فأمرهم بالصبر إلى آخر النهار
ليبلغ قدومهم إلى المدينة وتتأهب النساء وغيرهن والله أعلم
72

الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان
باب الصيد بالكلاب المعلمة
قوله (انى أرسل كلابي المعلمة إلى آخره) مع الأحاديث المذكورة في الاصطياد فيها كلها
إباحة الاصطياد وقد أجمع المسلمون عليه وتظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة والاجماع قال
القاضي عياض هو مباح لمن اصطاد للاكتساب والحاجة والانتفاع به بالأكل وثمنه قال واختلفوا
فيمن اصطاد للهو ولكن قصد تذكيته والانتفاع به فكرهه مالك وأجازه الليث وابن عبد الحكم
قال فإن فعله بغير نية التذكية فهو حرام لأنه فساد في الأرض واتلاف نفس عبثا قوله صلى
الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل قلت وان قتلن قال وان قتلن ما لم
يشركها كلب ليس معها) وفى رواية فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره في هذا الأمر بالتسمية
على ارسال الصيد وقد أجمع المسلمون على التسمية عند الارسال على الصيد وعند الذبح والنحر
واختلفوا في أن ذلك واجب أم سنة فمذهب الشافعي وطائفة أنها سنة فلو تركها سهوا أو عمدا
حل الصيد والذبيحة وهي رواية عن مالك وأحمد وقال أهل الظاهر إن تركها عمدا أو سهوا لم يحل لم
يحل وهو الصحيح عن أحمد في صيد الجوارح وهو مروى عن ابن سيرين وأبى ثور وقال أبو
حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء ان تركها سهوا حلت الذبيحة والصيد وان تركها عمدا
73

فلا وعلى مذهب أصحابنا يكره تركها وقيل لا يكره بل هو خلاف الأولى والصحيح الكراهة
واحتج من أوجبها بقوله تعالى ولا تأكلوها مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق وبهذه الأحاديث
واحتج أصحابنا بقوله تعالى عليكم الميتة قوله ما ذكيتم بالتذكية من غير اشتراط
التسمية ولا وجوبها فان قيل التذكية لا تكون إلا بالتسمية قلنا هي في اللغة الشق والفتح وبقوله
تعالى وطعام الذين الكتاب حل لكم لا يسمون وبحديث عائشة انهم قالوا يا رسول
الله ان قوما حديث عهدهم بالجاهلية يأتونا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله أم لم يذكروا فنأكل
منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا وكلوا رواه البخاري فهذه التسمية هي المأمور
بها عند أكل كل طعام وشرب كل شراب وأجابوا عن قوله تعالى تأكلوا مما لم يذكر اسم
الله عليه المراد ما ذبح للأصنام كما قال تعالى في الآية الأخرى وما ذبح على النصب وما أهل
به لغير الله ولأن الله تعالى قال وانه لفسق وقد أجمع المسلمون على من أكل متروك التسمية
ليس بفاسق فوجب حملها على ما ذكرناه ليجمع بينها وبين الآيات السابقات وحديث عائشة
وحملها بعض أصحابنا على كراهة التنزيه وأجابوا عن الأحاديث في التسمية أنها للاستحباب قوله
صلى الله عليه وسلم (إذا أرسلت كلبك المعلم) في اطلاقة دليل لإباحة الصيد بجميع الكلاب المعلمة
من الأسود وغيره وبه قال مالك والشافع وأبو حنيفة وجماهير العلماء وقال الحسن البصري
والنخعي وقتادة وأحمد واسحق لا يحل صيد الكلب الأسود لأنه شيطان قوله صلى الله عليه وسلم
(إذا أرسلت كلبك المعلم) فيه أنه يشترط في حل ما قتله الكلب المرسل كونه كلبا معلما وأنه يشترط
الارسال فلو أرسل غير معلم أو استرسل المعلم بلا إرسال لم يحل ما قتله فأما غير
المعلم فمجمع عليه وأما المعلم إذا استرسل فلا يحل ما قتله عندنا وعند العلماء كافة إلا ما حكى عن الأصم من اباحته وألا
ما حكاه ابن المنذر عن عطاء والأوزاعي أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه للاصطياد قوله صلى الله
عليه وسلم (ما لم بشركها كلب ليس معها) فيه تصريح بأنه لا يحل إذا شاركه كلب آخر والمراد كلب
آخر استرسل بنفسه أو أرسله من ليس هو من أهل الذكاة أو شككنا في ذلك فلا يحل أكله في كل
هذه الصور فان تحققنا أنه إنما شاركه كلب أرسله من هو من أهل الذكاة على ذلك الصيد حل
قوله (قلت انى أرمى بالمعراض الصيد فأصيب فقال إذا رميت بالمعراض فخرق فخزق فكله وان أصابه
74

بعرضه فلا تأكله) وفى رواية الأخرى ما أصاب بحده فكل وما أصاب بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل
المعراض بكسر الميم وبالعين المهملة وهي خشية ثقيلة أو عصا في طرفها حديدة وقد تكون بغير
حديدة هذا هو الصحيح في تفسيره وقال الهروي هو سهم لا ريش فيه ولا نصل وقال ابن دريد
هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمى به اعترض وقال الخليل كقول الهروي ونحوه عن
الأصمعي وقيل هو عود رقيق الطرفين غليظ الوسط إذا رمى به ذهب مستويا وأما خزق فهو
بالخاء المعجمة والزاي ومعناه نفذ والوقذ والموقوذ هو الذي يقتل بغير محدد من عصا أو حجر
وغيرهما ومذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجماهير أنه إذا اصطاد بالمعراض فقتل
الصيد بحده حل وان قتله بعرضه لم يحل لهذا الحديث وقال مكحول والأوزاعي وغيرهما من
فقهاء الشام يحل مطلقا وكذا قال هؤلاء وابن أبي ليلى أنه يحل ما قتله بالبندقية وحكى أيضا عن سعيد
ابن المسيب وقال الجماهير لا يحل صيد البندقية مطلقا لحديث المعراض لأنه كله رض ووقد وهو
معنى الرواية الأخرى فإنه وقيذ أي مقتول بغير محدد والموقوذة المقتولة بالعصا ونحوها وأصله
من الكسر والرض قوله صلى الله عليه وسلم (فإن أكل فلا تأكل) هذا الحديث من رواية
عدى بن حاتم وهو صريح في منع أكل ما أكلت منه الجارحة وجاء في سنن أبي داود وغيره
بإسناد حسن عن أبي ثعلبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كل وان أكل منه الكلب واختلف
العلماء فيه فقال الشافعي في أصح قوليه إذا قتلته الجارحة المعلمة من الكلاب والسباع وأكلت منه فهو
حرام وبه قال أكثر العلماء منهم ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والشعبي
75

والنخعي وعكرمة وقتادة وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد واسحق وأبو ثور وابن المنذر وداود وقال
سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي وابن عمر ومالك يحل وهو قول ضعيف للشافعي واحتج هؤلاء
بحديث أبى ثعلبة وحملوا حديث عدى على كراهة التنزيه واحتج الأولون بحديث عدى وهو في
الصحيحين مع قول الله عز وجل مما أمسكن عليكم مما لم يمسك علينا بل على نفسه
76

وقدموا هذا على حديث أبي ثعلبة لأنه أصح ومنهم من تأول حديث أبي ثعلبة على ما إذا أكل منه
بعد أن قتله وخلاه وفارقه ثم عاد فأكل منه فهذا لا يضر والله أعلم وأما جوارح الطير إذا أكلت
مما صادته فالأصح عند أصحابنا والراجح من قول الشافعي تحريمه وقال سائر العلماء بإباحته لأنه
لا يمكن تعليمها ذلك بخلاف السباع وأصحابنا ويمنعون هذا الدليل وقوله صلى الله عليه وسلم فان
أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه معناه أن الله تعالى قال مما أمسكن عليكم بعد
إباحته بشرط أن نعلم أنه أمسك علينا وإذا أكل منه لم نعلم أنه أمسك لنا أم لنفسه فلم يوجد
شرط إباحته والأصل تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم وإذا أصاب بعرضه) هو بفتح العين
أي غير المحدد منه قوله صلى الله عليه وسلم (فإن ذكاته أخذه) معناه ان أخذ الكلب الصيد وقتله
إياه ذكاة شرعية بمنزلة ذبح الحيوان الانسي وهذا مجمع عليه ولو لم يقتله الكلب لكن تركه
ولم تبق فيه حياة مستقرا أو بقيت ولم يبق زمان يمكن صاحبه لحاقه وذبحه فمات حل لهذا الحديث
فإن ذكاته أخذه قوله سمعت عدي بن حاتم وكان لنا جارا ودخيلا وربيطا بالنهرين قال
أهل اللغة الدخيل والدخال الذي يداخل الانسان ويخالطه في أموره والربيط هنا بمعنى المرابط
وهو الملازم والرباط الملازمة قالوا والمراد هنا ربط نفسه على العبادة وعن الدنيا قوله صلى الله
77

عليه وسلم (فإني أمسك عليك فأدركته حيا فأذبحه) هذا تصريح بأنه إذا أدرك ذكاته وجب
ذبحه ولم إلا بالذكاة وهو مجمع عليه وما نقل عن الحسن والنخعي خلافه فباطل لا أظنه
يصح عنهما وأما إذا أدركه ولم تبق فيه حياة مستقرة بأن كان قد قطع حلقومه ومريه أو أخافه
أو خرق أمعاءه أو أخرج حشوته فيحل من غير ذكاة بالاجماع قال أصحابنا وغيرهم ويستحب
إمرار السكين على حلقه ليريحه قوله صلى الله عليه وسلم (وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره
وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدرى أيهما قتله) فيه بيان قاعدة مهمة وهي إنه إذا حصل الشك
في الذكاة المبيحة للحيوان لم يحل لأن الأصل تحريمه وهذا لا خلاف فيه وفيه تنبيه على أنه
لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاه حل ولا يضرونكم اشتراك في إمساكه كلبه وكلب غيره لأن
الاعتماد حينئذ في الإباحة على تذكية الآدمي لا على إمساك الكلب وإنما تقع الإباحة بامساك
الكلب إذا قتله وحينئذ إذا كان معه كلب آخر لم يحل إلا إن يكون أرسله من هو من أهل الذكاة
كما أوضحناه قربيا قوله صلى الله عليه وسلم (وان رميت بسهمك فاذكر اسم الله فان غاب عنك
78

يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت) هذا دليل لمن يقول إذا أثر جرحه فغاب عنه
فوجده ميتا وليس فيه أثر غير سهمه حل وهو أحد قولي الشافعي ومالك في الصيد والسهم
والثاني يحرم وهو الأصح عند أصحابنا والثالث يحرم في الكلب دون السهم والأول أقوى وأقرب
إلى الأحاديث الصحيحة وأما الأحاديث المخالفة له فضعيفة ومحمولة على كراهة التنزيه وكذا
الأثر عن ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت أي كل ما لم يغب عنك دون ما غاب قوله
صلى الله عليه وسلم (وان وجدته غريقا في الماء فلا تأكل) هذا متفق على تحريمه قوله
في حديث أبي ثعلبة (إنا بأرض قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها وان لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا) هكذا روى هذا
79

الحديث البخاري ومسلم وفى رواية أبى داود قال انا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم
الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان وجدتم غيرها فكلوا
فيها واشربوا وان لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا قد يقال هذا الحديث مخالف
لما يقول الفقهاء فإنهم يقولون أنه يجوز استعمال أواني المشركين إذا غسلت ولا كراهة فيها بعد
الغسل سواء وجد غيرها أم لا وهذا الحديث يقتضى كراهة استعمالها ان وجد غيرها ولا يكفي
غسلها في نفى الكراهة وإنما يغسلها ويستعملها إذا لم يجد غيرها والجواب أن المراد النهى عن
الأكل في آنيته التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون الخمر كما صرح به في رواية أبى
داود وإنما نهى عن الأكل فيها بعد الغسل للاستقذار وكونها معتادة للنجاسة كما يكره الأكل
في المحجمة المغسولة وأما الفقهاء فمرادهم مطلق آنية الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات فهذه يكره
استعمالها قبل غسلها فإذا غسلت فلا كراهة فيها لأنها طاهرة وليس فيها استقذار ولم يريدوا نفى
الكراهة عن آنيتهم المستعملة في الخنزير وغيره من النجاسات والله أعلم قوله صلى الله عليه
وسلم (وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل) هذا مجمع عليه أنه لا يحل
80

لا بذكاة قوله (حدثنا محمد بن مهران الرازي قال حدثنا أبو عبد الله حماد بن خالد الخياط)
هذا الحديث هو أول عود سماع إبراهيم بن سفيان من مسلم والذي قبله هو آخر فواته الثالث ولم يبق
له في الكتاب فوات بعد هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إذا رميت بسهمك فغاب عنك
فأدركته فكل ما لم ينتن) وفى رواية فيمن يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم يتبن هذا النهى عن أكله
للنتن محمول على التنزيه لا على التحريم وكذا سائر اللحوم والأطعمة المنتنة يكره أكلها ولا يحرم
الا ان يخاف منها الضرر خوفا معتمدا وقال بعض أصحابنا يحرم اللحم المنتن وهو ضعيف
والله أعلم
81

باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع
وكل ذي مخلب من الطير
قوله النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وفى
رواية كل ذي ناب من السباع فأكله حرام) المخلب بكسر الميم وفتح اللام قال أهل اللغة
المخلب للطير والسباع بمنزلة الظفر للانسان في هذه الأحاديث دلالة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة
وأحمد وداود والجمهور أنه يحرم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وقال
82

مالك يكره ولا يحرم قال أصحابنا المراد بذى الناب ما يتقوى به ويصطاد واحتج مالك بقوله
تعالى لا أجد فيما أوحى إلى محرما واحتج أصحابنا بهذه الأحاديث قالوا والآية ليس فيها
إلا الاخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرما إلا المذكورات في الآية ثم أوحى إليه بتحريم
كل ذي ناب من السباع فوجب قبوله والعمل به قوله (عن عبيدة بن سفيان) هو بفتح العين
83

وكسر الياء قوله (عن ميمون بن مهران عن ابن عباس) هكذا ذكره مسلم من هذه الطرق
وهو صحيح وقد صح سماع ميمون من ابن عباس ولا تغتر بما قد يخالف هذا
باب إباحة ميتات البحر
قوله بعثا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة) فيه أن الجيوش لا بد لها من أمير يضبطها
وينقادون لأمره ونهيه وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم أو من أفضلهم قالوا ويستحب للرفقة
من الناس وان قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم وينقادوا له قوله (نتلقى عيرا لقريش) قد سبق
أن العير هي الإبل التي تحمل الطعام وغيره وفى هذا الحديث جواز صد أهل الحرب واغتيالهم
والخروج لأخذ مالهم واغتيامه قوله (وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة
يعطينا تمرة تمرة نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل)
أما الجراب فبكسر الجيم وفتحها الكسر أفصح وسبق بيانه تمرات ونمصها بفتح الميم وضمها
الفتح أفصح وأشهر وسبق بيان لغاته في كتاب الايمان وفى هذا بيان ما كان الصحابة رضي الله عنهم
عليه من الزهد في الدنيا والتقلل منها والصبر على الجوع وخشونة العيش واقدامهم على
الغزو مع هذا الحال قوله (وزودنا جرابا لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة)
84

وفى رواية من هذا الحديث ونحن نحمل أزوادنا على رقابنا وفى رواية ففنى
زادهم فجمع أبو عبيدة زادهم في مزود فكان يقوتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة وفى الموطأ ففنى زادهم وكان مزودى
تمرا وكان يقوتنا حتى كان يصيبنا كل يوم تمرة وفى الرواية الأخرى لمسلم كان يعطينا قبضة
قبضة ثم أعطانا تمرة قال القاضي الجمع بين هذه الروايات أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
زودهم المزود زائد على ما كان معهم من الزاد من أموالهم وغيرها مما واساهم به الصحابة ولهذا
قال ونحن نحمل أزوادنا قال ويحتمل أنه لم يكن في زادهم تمر غير هذا الجراب وكان معهم غيره
من الزاد وأما إعطاء أبي عبيدة إياهم تمرة تمرة فإنما كان في الحال الثاني بعد أن فنى زادهم وطال
لبثهم كما فسره في الرواية الأخيرة فالرواية الأولى معناها الاخبار عن آخر الأمر لا عن أوله
والظاهر أن قوله تمرة تمرة إنما كان بعد أن قسم عليهم قبضة قبضة فلما قل تمرهم قسمه عليهم
تمرة تمرة ثم فرغ وفقدوا التمرة ووجدوا ألما لفقدها وأكلوا الخبط إلى أن فتح الله عليهم بالعنبر
قوله (فجمع أبو عبيدة زادنا في مزود فكان يقوتنا) هذا محمول على أنه جمعه برضاهم وخلطه
ليبارك لهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواطن وكما كان الأشعريون يفعلون وأثنى
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقد قال أصحابنا وغيرهم من العلماء يستحب للرفقة من
المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك وأحسن في العشرة وأن لا يختص بعضهم بأكل دون بعض
والله أعلم قوله (كهيئة الكثيب الضخم) هو بالثاء المثلثة وهو الرمل المستطيل المحدودب
قوله فإذا هي دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة ميتة ثم قال بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفى سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا فأقما عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا) وذكر في آخر الحديث
85

أنهم تزودوا منه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم حين رجعوا هل معكم من لحمه شئ فتطعمونا
قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله معنى الحديث أن أبا عبيدة رضي الله عنه
قال أولا باجتهاده ان هذا ميتة والميتة حرام فلا يحل لكم أكلها ثم تغير اجتهاده فقال بل
هو حلال لكم وإن كان ميتة لأنكم في سبيل الله وقد اضطررتم وقد أباح الله تعالى الميتة لمن كان
مضطرا غير باغ ولا عاد فكلوا فأكلوا منه وأما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه وأكله
ذلك فإنما أراد به المبالغة في تطيب نفوسهم في حله وأن لا شك في اباحته وأنه يرتضيه لنفسه
أو أنه قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى خارقة للعادة أكرمهم الله بها وفى هذا دليل
على أنه لا بأس بسؤال الانسان من مال صاحبه ومتاعه إدلالا عليه وليس هو من السؤال المنهى
عنه إنما ذلك في حق الأجانب للتمول ونحو وأما هذه فللمؤانسة والملاطفة والادلال وفيه جواز
الاجتهاد في الأحكام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما يجوز بعده وفيه أنه يستحب للمفتي أن
يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتى إذا لم يكن فيه مشقة على المفتى وكان فيه طمأنينة
للمستفتي وفيه إباحة ميتات البحر كلها سواء في ذلك ما مات بنفسه أو باصطياد وقد أجمع المسلمون
على إباحة السمك قال أصحابنا يحرم الضفدع للحديث في النهى عن قتلها قالوا وفيما سوى ذلك ثلاثة
أوجه أصح يحل جميعه لهذا الحديث والثاني لا يحل والثالث يحل ما له نظير مأكول في البر دون
ما لا يؤكل نظيره فعلى هذا تؤكل خيل البحر وغنمه وظباؤه دون كلبه وخنزيره وحماره قال أصحابنا
والحمار وإن كان في البر مأكول وغيره ولكن الغالب غير المأكول هذا تفصيل مذهبنا وممن
قال بإباحة جميع حيوانات البحر إلا الضفدع أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم
وأباح مالك الضفدع والجميع وقال أبو حنيفة لا يحل غير السمك وأما السمك الطافئ وهو
الذي يموت في البحر بلا سبب فمذهبنا أباحته وبه قال جماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم منهم
أبو بكر الصديق وأبو أيوب وعطاء مكحول والنخعي ومالك وأحمد وأبو ثور وداود وغيرهم
وقال جابر بن عبد الله وجابر بن زيد وطاوس وأبو حنيفة لا يحل دليلنا قوله تعالى لكم صيد
البحر وطعامه ابن عباس والجمهور صيده ما صدتموه وطعامه ما قذفه وبحديث جابر هذا وبحديث
هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهو حديث صحيح وبأشياء مشهورة غير ما ذكرنا وأما الحديث المروى
عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ألقاه البحر وجزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا
86

تأكلوا فحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شئ كيف وهو
معارض بما ذكرنا وقد أوضحت ضعف رجاله في شرح المهذب في باب الأطعمة فإن قيل
لا حجة في حديث العنبر لأنهم كانوا مضطرين قلنا الاحتجاج بأكل النبي صلى الله عليه وسلم
منه في المدينة من غير ضرورة قوله (ولقد رأيتنا تغترف من وقب عينه بالقلال الدهن
ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور) أما الوقب فبفتح الواو واسكان القاف والباء الموحدة
وهو داخل عينه ونقرتها والقلال بكسر القاف جمع قلة بضمها وهي الجرة الكبيرة التي يقلها
الرجل بين يديه أي يحملها والفدر بكسر الفاء وفتح الدال هي القطع وقوله كقدر الثور رويناه
بوجهين مشهورين في نسخ بلادنا أحدهما بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة أي مثل الثور والثاني
كفدر بفاء مكسورة ثم دال مفتوحة جمع فدرة والأول أصح وادعى القاضي أنه تصحيف وأن
الثاني هو الصواب وليس كما قال قوله (ثم رحل أعظم بعير) هو بفتح الحاء أي جعل عليه رحلا قوله
(وتزودنا من لحمه وشائق) هو بالشين المعجمة والقاف قال أبو عبيد هو اللحم يؤخذ فيغلى اعلاء ولا ينضج
87

ويحمل في الأسفار يقال وشقت اللحم فاتشق والوشيقة الواحدة منه والجمع وشائق ووشق وقيل
الوشيقة القديد قوله (ثابت أجسامنا) أي رجعت إلى القوة قوله (فيأخذ أبو عبيدة ضلعا
من أضلاعه فتصبه) كذا هو في النسخ فتصبه وفى الرواية الأولى فأقامها فأنثها وهو المعروف ووجه
التذكير أنه أراد به العضو قوله (وجلس في حجاج عينه نفر) هو بحاء ثم جيم مخففة والحاء مكسورة
ومفتوحة لغتان مشهورتان وهو بمعنى وقب عينه المذكور في الرواية السابقة وقد شرحناه قوله
(ان رجلا نحر ثلاث جزائر ثم ثلاثا ثم ثلاثا ثم نهاه أبو عبيدة) وهذا الرجل الذي نحر الجزائر هو
قيس بن سعد بن عبادة رضى الله قوله في الرواية الأولى (فأقمنا عليه شهرا) وفى الرواية الثانية
فأكلنا منها نصف شهر وفى الثالثة فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة طريق الجمع بين الروايات أن
من روى شهرا هو الأصل ومعه زيادة علم ومن روى دونه لم ينف الزيادة ولو نفاها قدم المثبت
وقد قدمنا مرات أن المشهور الصحيح عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له فلا يلزم منه
نفى الزيادة لو لم يعارضه إثبات الزيادة كيف وقد عارضه فوجب قبول الزيادة وجمع القاضي بينهما
88

بأن من قال نصف شهر أراد أكلوا منه تلك المدة طريا ومن قال شهرا أراد قددوه فأكلوا
منه بقية الشهر قديدا والله أعلم قوله (سيف البحر) هو بكسر السين وإسكان المثناة تحت
وهو ساحله كما قاله في الروايتين قبله قوله (وحدثنا حجاج بن الشاعر وذكر في هذا الاسناد
أخبرنا أبو المنذر القزاز) هكذا هو في نسخ بلادنا القزاز بالقاف وفى أكثرها البزاز بالباء
وذكر القاضي أيضا اختلاف الرواة فيه والأشهر بالقاف وهو الذي ذكره السمعاني في الأنساب
وآخرون وذكره خلف الواسطي في الأطراف بالباء عن رواية مسلم لكن عليه تضبيب فلعله
يقال بالوجهين فالقزاز بزاز وأبو المنذر هذا اسمه إسماعيل بن حسين بن المثني كذا سماه أحمد بن
حنبل فيما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه واقتصر الجمهور على أنه إسماعيل بن عمر قال أبو حاتم هو
صدوق وأمر أحمد بن حنبل بالكتابة عنه وهو من أفراد مسلم
89

باب تحريم أكل لحم الحمر الانسية
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الانسية)
أما الانسية فبإسكان النون مع كسر الهمزة وبفتحها لغتان مشورتان سبق بيانهما وسبق بيان
حكم نكاح المتعة وشرح أحاديثه في كتاب النكاح وأما الحمر الانسية فقد وقع في أكثر الروايات
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحومها وفى رواية حرم رسول الله صلى الله عليه
90

وسلم لحوم الحمر الأهلية وفى روايات أنه صلى الله عليه وسلم وجد القدور تغلي فأمر بإراقتها
وقال لا تأكلوا من لحومها شيئا وفى رواية نهينا عن لحوم الحمر الأهلية وفى رواية أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال أهريقوها واكسروها فقال رجل يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها
قال أو ذاك وفى رواية نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم ألا ان الله ورسوله ينهيانكم
عنها فإنه رجس من عمل الشيطان وفى رواية ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس أو نجس
فأكفئت القدور بما فيها اختلف العلماء في المسألة فقال الجماهير من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم بتحريم لحومها لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة وقال ابن عباس ليست بحرام
وعن مالك ثلاث روايات أشهرها أنها مكروهة كراهية تنزيه شديدة والثانية حرام والثالثة
مباحة والصواب التحريم كما قاله الجماهير الأحاديث الصريحة وأما الحديث المذكور في سنن أبي
داود عن غالب بن أبجر قال أصابتنا سنة فلم يكن في مالي شئ أطعم أهلي إلا شئ من حمر
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فقلت يا رسول الله أصابتنا السنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وانك حرمت لحوم
الحمر الأهلية فقال أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية يعنى بالجوال
91

التي تأكل الجلة وهي العذرة فهذا الحديث مضطرب مختلف الاسناد شديد الاختلاف لو صح
حمل على الأكل منها في حال الاضطرار والله أعلم قوله (نادى أن اكفؤا القدور) قال القاضي
ضبطناه بألف الوصل وفتح الفاء من كفأت ثلاثي ومعناه قلبت قال ويصح قطع الألف وكسر
الفاء من أكفات رباعي وهما لغتان بمعنى عند كثيرين من أهل اللغة منهم الخليل والكسائي وابن
92

السكيت وابن قتيبة وغيرهم وقال الأصمعي يقال كفأت ولا يقال أكفأت بالألف قوله (لحوم
الحمر نيئة ونضيجة) هو بكسر النون وبالهمز أي غير مطبوخة قوله (كان حمولة الناس)
بفتح الحاء أي الذي يحمل متاعهم قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في قدور لحوم الحمر
الأهلية أهريقوها واكسروها فقال رجل أو نهريقها ونغسلها قال أو ذاك) هذا صريح في
93

نجاستها وتحريمها ويؤيده الرواية الأخرى فإنها رجس وفى الآخرى رجس أو نجس وفيه وجوب
غسل ما أصابته النجاسة وأن الاناء النجس يطهر بغسله مرة واحدة ولا يحتاج إلى سبع إذا كانت
غير نجاسة الكلب والخنزير وما تولد من أحدهما وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وعند أحمد يجب
سبع في الجميع على أشهر الروايتين عنه وموضع الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأمر
بالغسل ويصدق ذلك على مرة ولو وجبت الزيادة لبينها فإن في المخاطبين من هو قريب العهد بالاسلام
ومن في معناه ممن لا يفهم من الأمر بالغسل إلا مقتضاه عند الاطلاق وهو مرة وأما أمره صلى الله
عليه وسلم أولا بكسرها فيحتمل أنه كان بوحي أو باجتهاد ثم نسخ وتعين الغسل ولا يجوز اليوم
الكسر لأنه اتلاف مال وفيه دليل على أنه إذا غسل الإناء النجس فلا بأس باستعماله والله أعلم
94

باب إباحة أكل لحم الخيل
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم
الخيل) وفى رواية قال جابر أكلنا زمن خبير الخيل وحمر الوحش ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم
عن الحمار الأهلي وفى حديث أسماء قالت نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه
اختلف العلماء في إباحة لحوم الخيل فمذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف أنه مباح
لا كراهة فيه وبه قال عبد الله بن الزبير وفضالة بن عبيد وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر
وسويد بن غفلة وعلقمة والأسود وعطاء وشريح وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم
النخعي وحماد بن سليمان وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد وداود وجماهير المحدثين
وغيرهم وكرهها طائفة منهم ابن عباس والحكم ومالك وأبو حنيفة قال أبو حنيفة يأثم بأكله
ولا يسمى حراما واحتجوا بقوله تعالى والبغال والحمير لتركبوها وزينة يذكر الأكل
وذكر الأكل من الأنعام في الآية التي قبلها وبحديث صالح بن يحيى بن المقدم عن أبيه عن
جده عن خالد بن الوليد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير
95

وكل ذي ناب من السباع رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بقية بن الوليد عن صالح
ابن يحيى واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم على أنه حديث ضعيف وقال بعضهم هو
منسوخ روى الدارقطني والبيهقي بإسنادهما عن موسى بن هارون الحمال بالحاء الحافظ قال
هذا حديث ضعيف قال ولا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه وقال البخاري هذا الحديث
فيه نظر وقال البيهقي هذا سناد مضطرب وقال الخطابي في اسناده نظر قال وصالح بن
يحيى عن أبيه عن جده لا يعرف سماع بعضهم من بعض وقال أبو داود هذا الحديث
منسوخ وقال النسائي حديث الإباحة أصح قال ويشبه إن كان هذا صحيحا أن
يكون منسوخا واحتج الجمهور بأحاديث الإباحة التي ذكرها مسلم وغيره وهي صحيحة
صريحة وبأحاديث أخر صحيحة جاءت بالإباحة ولم يثبت في النهى حديث وأما الآية فأجابوا
عنها بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أن منفعتهما مختصة بذلك فإنما خص هذان بالذكر
لأنهما معظم المقصود من الخيل كقوله تعالى عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير من
اللحم لأنه أعظم المقصود وقد أجمع المسلمون على تحريم شحمه ودمه سائر أجزائه قالوا ولهذا
سكت عن ذكر حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: وتحمل أثقالكم يلزم من
هذا تحريم حمل الأثقال على الخيل والله أعلم قولها (نحرنا فرسا) في رواية البخاري ذبحنا
فرسا وفى رواية له نحرنا كما ذكر مسلم فيجمع بين الروايتين بأنهما قضيتان فمرة نحروها ومرة
ذبحوها ويجوز أن تكون قضية واحدة ويكون أحد اللفظين مجازا والصحيح الأول لأنه لا يصار
إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة والحقيقة غير متعذرة بل في الحمل على الحقيقة فائدة مهمة وهي
96

أنه يجوز ذبح المنحور ونحر المذبوح وهو مجمع عليه وإن كان فاعله مخالفا الأفضل والفرس
يطلق على الذكر والأنثى والله أعلم
باب إباحة الضب
ثبتت هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الضب كل لست بآكله
ولا محرمه وفى روايات لا آكله ولا أحرمه وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال كلوا فإنه حلال
ولكنه ليس من طعامي وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم رفع يده منه فقيل أحرام هو يا رسول الله
قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه فأكلوه بحضرته وهو ينظر صلى الله عليه وسلم
قال أهل اللغة معنى أعافه أكرهه تقذرا وأجمع المسلمون على أن حلال ليس بمكروه إلا
97

ما حكى عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو
98

حرام وما أظنه يصح عن أحد وان صح عن أحد فمحجوج بالنصوص واجماع من قبله قوله
(ضب محنوذ) أي مشوي وقيل المشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة قوله (ان خالدا
اخذ الضب كل فأكله من غير استئذان) هذا من باب الا دلال والأكل من بيت القريب والصديق
الذي لا يكره ذلك وخالد أكل هذا في بيت خالته ميمونة وبيت صديقه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلا يحتاج إلى استئذان لا سيما والمهدية خالته ولعله أراد بذلك جبر قلب خالته أم حفيد المهدية
قوله في ميمونة (وهي خالته وخالة ابن عباس) يعنى خالد بن الوليد وخالة ابن عباس وأم
خالد لبابة الصغرى وأم ابن عباس لبابة الكبرى وميمونة وأم حفيد كلهن أخوات والدهن الحارث
قوله (قدمت به أختها حفيدة) وفى الرواية الأخر أم حفيد وفى بعض النسخ أم حفيدة بالهاء
99

وفى بعضها في رواية أبى بكر بن النضر أم حميد وفى بعضها حميدة وكله بضم الحاء مصغر قال
القاضي وغيره والأصوب والأشهر أم حفيد بلا هاء واسمها هزيلة وكذا ذكرها ابن عبد البر
وغيره في الصحابة والله أعلم قوله (فقالت امرأة من النسوة الحضور) كذا هو في جميع
100

النسخ النسوة الحضور قوله (ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم)
هذا تصريح بما اتفق عليه العلماء وهو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم الشئ وسكوته عليه إذا فعل
بحضرته يكون دليلا لإباحته ويكون بمعنى بقوله أذنت فيه وأبحته فإنه لا يسكت على باطل ولا يقر
منكرا والله أعلم قوله (دعانا عروس بالمدينة) يعنى رجلا تزوج قريبا والعروس يقع على
101

المرأة وعلى الرجل قوله (قرب إليهم خوان) هو بكسر الخاء وضمها لغتان الكسر أفصح
والجمع أخونة وخون وليس المراد بهذا الخوان ما نفاه في الحديث المشهور في قوله ما أكل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قط بل شئ من نحو السفرة قوله إنا بأرض مضبة)
فيها لغتان مشهورتان إحداهما فتح الميم والضاد والثانية ضم الميم وكسر الضاد والأول أشهر
102

وأفصح أي ذات ضباب كثيرة قوله (انى في غائط مضبة) الغائط الأرض المطمئنة قوله صلى
الله عليه وسلم (فمسخهم دواب يدبون في الأرض) أما يدبون فبكسر الدال وأما دواب فكذا
وقع في بعض النسخ ووقع في أكثرها دوابا بالألف والأول هو الجاري على المعروف المشهور
في العربية والله أعلم
باب إباحة الجراد
قوله (عن أبي يعفور) هو بالفاء والراء وهو أبو يعفور الأصغر اسمه عبد الرحمن بن عبيد
ابن نسطاس وأما أبو يعفور الأكبر فيقال له واقد ويقال وقدان وسبق بيانهما في كتاب
الايمان وكتاب الصلاة قوله (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل
الجراد) فيه إباحة الجراد أجمع المسلمون على إباحته ثم قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد
والجماهير يحل سواء مات بذكاة أو باصطياد مسلم أو مجوسي أو مات حتف أنفه سواء قطع بعضه
103

أو أحدث فيه سبب وقال مالك في المشهور عنه وأحمد في رواية لا يحل إلا إذا مات بسبب بأن
يقطع بعضه أو يسلق أو يلقى في النار حيا أو يشوى فإن مات حتف أنفه أو في وعاء
لم يحل والله أعلم
باب إباحة الأرنب
قوله (فاستنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعوا عليه فلغبوا) معنى استنفجنا أثرنا ونفرنا ومر الظهران
بفتح الميم والظاء وهو موضع قريب من مكة قوله (فلغبوا) هو بفتح الغين المعجمة في اللغة الفصيحة
المشهورة وفى لغة ضعيفة بكسرها حكاها الجوهري وغيره وضعفوها أي أعيوا وأكل الأرنب
104

حلال عند مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد والعلماء كافة الا ما حكى عن عبد الله بن
عمرو بن العاص وابن أبي ليلى انهما كرهاها دليل الجمهور هذا الحديث مع أحاديث مثله
ولم يثبت في النهى عنها شئ
باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو وكراهة الخذف
ذكر في الباب النهى عن الحذف لكونه لا ينكأ العدو ولا يقتل الصيد ولكن يفقأ العين ويكسر
السن أما الخذف فبالخاء والذال معجمتين وهو رمى الانسان بحصاة أو نواة ونحوهما يجعلها بين
أصبعيه السبابتين أو الابهام والسبابة وقوله (ينكأ) بفتح الياء وبالهمزة في آخره هكذا هو في
105

الروايات المشهورة قال القاضي كذا رويناه قال وفى بعض الروايات ينكى بفتح الياء وكسر
الكاف غير مهموز قال القاضي وهو أوجه لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة وليس
هذا موضعه الا على تجوز وإنما هذا من النكاية يقال نكيت العدو وأنكيته نكاية ونكأت
بالهمز لغة فيه قال فعلى هذه اللغة تتوجه رواية شيوخنا ويفقأ العين مهموز في هذا الحديث
النهى عن الخذف لأنه لا مصلحة فيه ويخاف مفسدته ويلتحق به كل ما شاركه في هذا وفيه
أن ما كان فيه مصلحة أو حاجة في قتال العدو وتحصيل الصيد فهو جائز ومن ذلك رمى الطيور
الكبار بالبندق إذا كان لا يقتلها غالبا بل تدرك حية وتذكى فهو حائز قوله (أحدثك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ثم تخذف لا أكلمك أبدا) فيه هجران أهل البدع
والفسوق ومنابذي السنة مع العلم وأنه يجوز هجرانه دائما والنهى عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما
هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائما وهذا الحديث
مما يؤيده مع نظائر له كحديث كعب بن مالك وغيره
باب الأمر باحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة
قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم
106

فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) أما القتلة فبكسر القاف وهي الهيئة
والحالة وأما قوله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الذبح فوقع في كثير من النسخ أو أكثرها
فأحسنوا الذبح بفتح الذال بغيرها وفى بعضها الذبحة بكسر الذال وبالهاء كالقتلة وهي الهيئة والحالة
أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (وليحد) هو بضم الياء يقال أحد السكين وحددها واستحدها
بمعنى وليرح ذبيحته باحداد السكين وتعجيل امرارها وغير ذلك ويستحب أن لا يحد السكين
بحضرة الذبيحة وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى ولا يجرها إلى مذبحها وقوله صلى الله عليه وسلم
فأحسنوا القتلة عام في كل قتيل من الذبائح والقتل قصاصا وفى حد ونحو ذلك وهذا الحديث
من الأحاديث الجامعة لقواعد الاسلام والله أعلم
باب النهى عن صبر البهائم
وهو حبسها لتقتل برمى ونحوه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصير البهائم) وفى
107

رواية لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا قال العلماء صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو
معنى لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من
الجلود وغيرها وهذا النهى للتحريم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن عمر التي بعد هذه لعن الله
من فعل هذا ولأنه تعذيب للحيوان واتلاف لنفسه وتضييع لماليته وتفويت لذكاته إن كان مذكى
ولمنفعته ان لم يكن مذكى قوله (نصبوا طيرا وهم يرمونه) هكذا هو في النسخ طيرا والمراد به واحد
والمشهور في اللغة أن الواحد يقال له طائر والجمع طير وفى لغة قليلة اطلاق الطير على الواحد
وهذا الحديث جار تلك اللغة قوله (وقد جعلوا لصاحب كل خاطئة من نبلهم)
108

هو بهمز خاطئة أي ما لم يصب المرمى وقوله خاطئة لغة والأفصح مخطئة يقال لمن قصد شيئا
فأصاب غيره غلطا أخطأ فهو مخطئ وفى لغة قليلة خطأ فهو خاطئ وهذا الحديث جاء على
اللغة الثانية حكاها أبو عبيد والجوهري وغيرهما والله أعلم
كتاب الأضاحي
باب وقتها
قال الجوهري قال الأصمعي فيها أربع لغات أضحية بضم الهمزة وكسرها وجمعها
أضاحى بتشديد الياء وتخفيفها واللغة الثالثة ضحية وجمعها ضحايا والرابعة أضحاة بفتح الهمزة
والجمع أضحى كأرطاة وأرطى وبها سمى يوم الأضحى قال القاضي وقيل سميت بذلك لأنها تفعل
في الضحى وهو ارتفاع النهار وفى الأضحى لغتان التذكير لغة قيس والتأنيث لغة تميم قوله
109

صلى الله عليه وسلم (من كان ذبح أضحيته قبل يصلى أو نصلى فليذبح مكانها أخرى ومن كان
لم يذبح فليذبح باسم الله) وفى رواية على اسم الله قال الكتاب من أهل العربية إذا قيل باسم
الله تعين كتبه بالألف وإنما تحذف الألف إذا كتب بسم الله الرحمن الرحيم بكمالها وقوله
قبل أن يصلى أو نصلى الأول بالياء والثاني بالنون والظاهر أنه شك من الراوي واختلف العلماء
في وجوب الأضحية على الموسر فقال جمهورهم هي سنة في حقه أن تركها بلا عذر لم يأثم ولم يلزمه
القضاء وممن قال بهذا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود البدري وسعيد
ابن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني
وابن المنذر وداود وغيرهم وقال ربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والليث هي واجبة على الموسر وبه
قال بعض المالكية وقال النخعي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى وقال محمد بن الحسن واجبة
على المقيم بالأمصار والمشهور عن أبي حنيفة أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا والله أعلم
وأما وقت الأضحية فينبغي أن يذبحها بعد صلاته مع الامام وحينئذ تجزيه بالاجماع قال ابن المنذر
وأجمعوا أنها لا تجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر واختلفوا فيما بعد ذلك فقال الشافعي
وداود وابن المنذر وآخرون يدخل وقتها إذا طلعت الشمس ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين
فان ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى الامام أم لا وسواء صلى الضحى أم لا وسواء كان
من أهل الأمصار أو من أهل القرى والبوادي والمسافرين وسواء ذبح الامام أضحيته أم لا
وقال عطاء وأبو حنيفة يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني
ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلى الامام ويخطب فان ذبح قبل ذلك لم يجزه وقال
مالك لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الامام وخطبته وذبحه وقال أحمد لا يجوز قل صلاة
الامام ويجوز بعدها قبل ذبح الامام وسواء عنده أهل الأمصار والقرى ونحوه عن الحسن
110

والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وقال الثوري لا يجوز بعد صلاة الامام قبل خطبته وفى أثنائها
وقال ربيعة فيمن لا امام له ان ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزيه وبعد طلوعها يجزيه وأما
آخر وقت التضحية فقال الشافعي تجوز في يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بعده وممن قال بهذا
على ابن أبي طالب وجبير بن مطعم وابن عباس وعطاء الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز
وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ومكحول وداود الظاهري وغيرهم وقال أبو حنيفة
ومالك وأحمد تختص بيوم النحر ويومين بعده وروى هذا عن عمر بن الخطاب وعلى وابن عمر
وأنس رضي الله عنهم وقال سعيد بن جبير تجوز لأهل الأمصار يوم النحر خاصة ولأهل القرى
يوم النحر وأيام التشريق وقال محمد بن سيرين لا تجوز لأحد إلا في يوم النحر خاصة وحكى
القاضي عن بعض العلماء أنها تجوز في جميع ذي الحجة واختلفوا في جواز التضحية في ليالي
أيام الذبح فقال الشافعي تجوز ليلا مع الكراهة وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور
والجمهور وقال مالك في المشهور عنه وعامة أصحابه ورواية عن أحمد لا تجزيه في الليل بل
تكون شاة لحم قوله صلى الله عليه وسلم (فليذبح على اسم الله) هو بمعنى رواية فليذبح
باسم الله أي قائلا باسم الله هذا هو الصحيح في معناه وقال القاضي يحتمل أربعة أوجه أحدها
أن يكون معناه فليذبح لله والباء بمعنى اللام والثاني معناه فليذبح بسنة الله والثالث بتسمية الله
111

على ذبيحته إظهارا للإسلام ومخالفة لمن يذبح لغيره وقمعا للشيطان والرابع تبركا باسمه وتيمنا
بذكره كما يقال سر على بركة الله وسر باسم الله وكره بعض العلماء أن يقال افعل كذا على
اسم الله قال لأن اسمه سبحانه على كل شئ قال القاضي هذا ليس بشئ قال وهذا الحديث يرد على
هذا القائل قوله (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أضحى ثم خطب) قوله
أضحى مصروف وفى هذا أن الخطبة للعيد بعد الصلاة وهو اجماع الناس اليوم وقد سبق بيانه
واضحا في كتاب الايمان ثم في كتاب الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم (تلك شاة لحم) معناه أي
ليست ضحية ولا ثواب فيها بل هي لحم لك تنتفع به كما في الرواية الأخرى إنما هو لحم قدمته
لأهلك قوله (إن عندي جذعة من المعز فقال ضح بها ولا تصلح لغيرك) وفى رواية
ولا تجزى جذعة عن أحد بعدك أما قوله صلى الله عليه وسلم ولا تجزى فهو بفتح التاء هكذا
الرواية فيه جميع الطرق والكتب ومعناه لا تكفى من نحو قوله تعالى يوما لا يجزى
112

والد عن ولده وفيه أن جذعة المعز لا تجزى في الأضحية وهذا متفق عليه وقوله (يا رسول الله
إن هذا يوم اللحم فيه مكروه) قال القاضي كذا رويناه في مسلم مكروه بالكاف والهاء من
طريق السنجري والفارسي وكذا ذكره الترمذي قال ورويناه في مسلم من طريق العذري
مقروم بالقاف والميم قال وصوب بعضهم هذه الرواية وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال قرمت
إلى اللحم وقرمته إذا اشتهيته قال وهي بمعنى قوله في غير مسلم عرفت أنه يوم أكل وشرب
فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني وكما جاء في الرواية الأخرى إن هذا يوم يشتهى
اللحم وكذا رواه البخاري قال القاضي وأما رواية مكروه فقال بعض شيوخنا صوابه اللحم فيه
مكروه بفتح الحاء أي ترك الذبح والتضحية وبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه واللحم بفتح
الحاء اشتهاء اللحم قال القاضي وقال لي الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان معناه ذبح ما لا يجزى
في الأضحية ما هو لحم مكروه لمخالفة السنة هذا آخر ما ذكره القاضي وقال الحافظ أبو موسى
الأصبهاني معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق وهذا حسن والله أعلم قوله (عندي
عناق لبن) العناق بفتح العين وهي الأنثى من المعز إذا قويت ما لم تستكمل سنة وجمعها أعنق
وعنوق وأما قوله عناق لبن فمعناه صغيرة قريبة مما ترضع قوله (عندي عناق لبن هي خير من
شاتي لحم) أي أطيب لحما وأنفع لسمنها ونفاستها وفيه إشارة إلى أن المقصود في الضحايا
طيب اللحم لا كثرته فشاة نفيسة أفضل من شاتين غير سمينتين بقيمتها وقد سبقت المسألة
في كتاب الايمان مع الفرق بين الأضحية والعق ومختصرة أن تكثير العدد في العق مقصود
فهو الأفضل بخلاف الأضحية قوله صلى الله عليه وسلم (هي خير نسيكتيك) معناه أنك ذبحت
صورة نسيكتين وهما هذه والتي ذبحها قبل الصلاة وهذه أفضل لأن هذه حصلت بها التضحية
والأولى وقعت شاة لحم لكن له فيها ثواب لا بسبب التضحية فإنها لم تقع أضحية بل لكونه
113

قصد بها الخير وأخرجها في طاعة الله فلهذا دخلهما أفعل التفضيل فقال هذه خير النسيكتين
فإن هذه الصيغة تتضمن أن في الأولى خيرا أيضا قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تجزى جذعة
عن أحد بعدك) معناه جذعة المعز وهو مقتضى سياق الكلام وإلا فجدعة الضأن تجزى قوله
(عندي جذعة خير من مسنة) المسنة هي الثنية وهي أكبر من الجذعة بسنة فكانت هذه
114

الجذعة أجود لطيب لحمها وسمنها قوله (وذكره من جيرانه) أي حاجة قوله في حديث
أنس في الذي رخص له في جذعة المعز (لا أدرى أبلغت رخصته من سواه أم لا) هذا الشك بالنسبة
إلى علم أنس رضي الله عنه وقد صرح النبي صلى الله وعليه وسلم في حديث البراء بن عازب السابق
بأنها لا تبلغ غيره ولا تجزى أحدا بعده قوله (وانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
كبشين فذبحهما) انكفأ مهموز أي مال وانعطف وفيه إجزاء الذكر في الأضحية وأن الأفضل
أن يذبحها بنفسه وهما مجمع عليهما وفيه جواز التضحية بحيوانين قوله (فقام الناس إلى غنيمة
فتوزعوها أو قال فتجزعوها) هما بمعنى وهذا شك من الراوي في أحد اللفظتين وقوله غنيمة
بضم الغين تصغير الغنم قوله في حديث محمد بن عبيد الغبرى (ثم خطب فأمر من كان ذبح
قبل الصلاة أن يعيد ذبحا) أما ذبحا فاتفقوا على ضبطه بكسر الذال أي حيوانا يذبح كقول الله
تعالى بذبح قوله أن يعيد فكذا هو في بعض الأصول المعتمدة بالياء من الإعادة
116

وفى كثير منها أن يعد بحذف الياء ولكن بتشديد الدال من الاعداد وهو التهيئة والله أعلم
باب سن الأضحية
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تذبحوا إلا مسنة الا إن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) قال
العلماء المسنة هي الثنية من كل شئ من الإبل والبقر والغنم فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز
الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ونقل
العبدري وغيره من أصحابنا عن الأوزاعي أنه قال يجزى الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن
وحكى هذا عن عطاء وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ومذهب العلماء كافة يجزى سواء وجد غيره
أم لا وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا لا يجزى وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث قال
الجمهور هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل وتقديره يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا
مسنة فان عجزتم فجذعة ضأن وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن وأنها لا تجزى بحال وقد أجمعت
الأمة أنه ليس على ظاهره لأن الجمهور يجوزون الجذع الضأن مع وجود غيره وعدمه وابن
عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب
والله أعلم وأجمع العلماء على أنه لا تجزى الضحية بغير الإبل والبقر والغنم إلا ما حكاه ابن المنذر
عن الحسن بن صالح أنه قال تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة وبالظبي عن واحد وبه قال
117

داود في بقرة الوحش والله أعلم والجذع من الضأن ما له سنة تامة هذا هو الأصح عند أصحابنا
وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم وقيل ماله ستة أشهر وقيل سبعة وقيل ثمانية وقيل ابن عشرة
حكاه القاضي وهو غريب وقيل إن كان متولدا من بين شابين فستة أشهر وإن كان من هرمين
فثمانية أشهر ومذهبنا ومذهب الجمهور أن أفضل الأنواع البدنة ثم البقرة ثم الضأن ثم المعز وقال
مالك الغنم أفضل لأنها أطيب لحما حجة الجمهور أن البدنة تجزى عن سبعة وكذا البقرة وأما الشاة
فلا تجزى إلا عن واحد بالاتفاق فدل على تفصيل البدنة والبقرة واختلف أصحاب مالك فيما بعد
الغنم فقيل الإبل أفضل من البقرة وقيل البقرة أفضل من الإبل وهو الأشهر عندهم وأجمع
العلماء على استحباب سمينها وطيبها واختلفوا في تسمينها فمذهبنا ومذهب الجمهور استحبابه
وفى صحيح البخاري عن أبي أمامة كنا نسمن الأضحية وكان المسلمون يسمنون وحكى القاضي
عياض عن بعض أصحاب مالك كراهة ذلك لئلا يتشبه باليهود وهذا قول باطل قوله (فأمرهم
أن لا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم) هذا مما يحتج به مالك في أنه لا يجزى الذبح
إلا بعد ذبح الإمام كما سبق في مسألة اختلاف العلماء في ذلك والجمهور يتأولونه على أن المراد
زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد
بالصلاة وأن من ضحى بعدها أجزأه ومن لا فلا قوله في حديث عقبة أن النبي صلى الله عليه
وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه ضحايا فبقي عتود فقال ضح به أنت قال أهل اللغة العتود من
أولاد المعز خاصة وهو ما رعى وقوي قال الجوهري وغيره هو ما بلغ سنة وجمعه أعتدة وعدان
118

بإدغام التاء في الدال قال البيهقي وسائر أصحابنا وغيرهم هذه رخصة لعقبة بن عامر كما كان مثلها
رخصة لأبى بردة بن نيار المذكور في حديث البراء بن عازب السابق قال البيهقي وقد روينا ذلك
من رواية الليث بن سعد ثم روى ذلك باسناده الصحيح عن عقبة بن عامر قال أعطاني رسول الله
صلى الله عليه وسلم غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها فقال ضح بها أنت ولا رخصة
لأحد فيها بعدك قال البيهقي وعلى هذا يحمل أيضا ما رويناه عن زيد بن خالد قال قسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم في أصحابه غنما فأعطاني عتودا جذعا فقال ضح به فقلت انه جذع من المعز
أضحى به قال نعم ضح به فضحيت هذا كلام البيهقي وهذا الحديث رواه أبو داود بإسناد جيد حسن
وليس فيه رواية أبى داود من المعز ولكنه معلوم من قوله عتود وهذا التأويل الذي قاله البيهقي
وغيره متعين والله أعلم قوله (عن يحيى بن أبي كثير عن بعجة) هو بالباء الموحدة مفتوحة
باب استحباب الضحية وذبحها مباشرة
(بلا توكيل والتسمية والتكبير
قوله (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملجين أقرنين وذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله
119

على صفاحهما) قال ابن الأعرابي وغيره الأملح وهو الأبيض الخالص البياض وقال الأصمعي هو
الأبيض ويشوبه شئ من السواد وقال أبو حاتم هو الذي يخالط بياضه حمرة وقال بعضهم هو
الأسود يعلوه حمرة وقال الكسائي هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر وقال الخطابي
هو الأبيض الذي خلل صوفه طبقات سود وقال الداودي هو المتغير الشعر بسواد
وبياض وقوله أقرنين أي لكل واحد منهما قرنان حسنان قال العلماء فيستحب الأقرن وفى
هذا الحديث جواز تضحية الانسان بعدد من الحيوان واستحباب الأقرن وأجمع
العلماء على جواز التضحية بالاجم الذي لم يخلق له قرنان واختلفوا في مكسورة القرن فجوزه
الشافعي وأبو حنيفة والجمهور سواء كان يدمى أم لا وكرهه مالك إذا كان يدمى وجعله
عيبا وأجمعوا على استحباب استحسانها واختيار أكملها وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة
في حديث البراء وهو المرض والعجف والعور والعرج البين لا تجزى التضحية بها وكذا ما كان
في معناها أو أقبح كالعمى وقطع الرجل وشبهه وحديث البراء هذا لم يخرجه البخاري ومسلم
في صحيحهما ولكنه صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من أصحاب السنن بأسانيد
صحيحة وحسنة قال أحمد بن حنبل ما أحسنه من حديث وقال الترمذي حديث حسن صحيح والله أعلم
وأما قوله أملحين ففيه استحباب استحسان لون الأضحية وقد أجمعوا عليه قال أصحابنا أفضلها
البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء وهي التي لا يصفوا بياضها ثم البلقاء وهي التي بعضها أبيض وبعضها
أسود ثم السوداء وأما قوله في الحديث الآخر يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فمعناه
أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود والله أعلم قوله (ذبحهما بيده) فيه أنه يستحب أن يتولى
الانسان ذبح أضحيته بنفسه ولا يوكل في ذبحها الا لعذر وحينئذ يستحب أن يشهد ذبحها وان استناب
فيها مسلما جاز بلا خلاف وإن استناب كتابيا كره كراهية تنزيه وأجزأه ووقعت التضحية عن الموكل
120

هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا مالكا في إحدى الروايتين عنه فإنه لم يجوزها ويجوز أن
يستنيب صبيا أو امرأة حائضا لكن يكره توكيل الصبي وفى كراهة توكيل الحائض وجهان قال
أصحابنا الحائض أولى بالاستنابة من الصبي والصبي أولى من الكتابي قال أصحابنا والأفضل لمن
وكل أن يوكل مسلما فقيها بباب الذبائح والضحايا لأنه أعرف بشروطها وسننها والله أعلم قوله
(وسمى) فيه إثبات التسمية على الضحية وسائر الذبائح وهذا مجمع عليه لكن هل هو شرط
أم مستحب فيه خلاف سبق إيضاحه في كتاب الصيد قوله (وكبر) فيه استحباب التكبير
مع التسمية فيقول بسم الله والله أكبر قوله (ووضع رجله على صفاحهما) أي صفحة العنق
وهي جانبه وإنما فعل هذا ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من
إكمال الذبح أو تؤذيه وهذا أصح من الحديث الذي جاء بالنهي عن هذا قوله صلى الله عليه
وسلم (هلم المدية) أي هاتيها وهي بضم الميم وكسرها وفتحها وهي السكين قوله صلى الله
عليه وسلم (اشحذيها بحجر) هو بالشين المعجمة والحاء المهملة المفتوحة وبالذال المعجمة
121

أي حدديها وهذا موافق للحديث السابق في الأمر باحسان القتلة والذبح واحداد الشفرة قوله
(وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى
به) هذا الكلام فيه تقديم وتأخير وتقديره فأضجعه وأخذ في ذبحه قائلا باسم الله اللهم تقبل من محمد
وآل محمد وأمته مضحيا به ولفظه ثم هنا متأولة على ما ذكرته بلا شك وفيه استحباب إضجاع
الغنم في الذبح وأنها لا تذبح قائمة ولا باركة بل مضجعة لأنه أرفق بها وبهذا جاءت الأحاديث
واجمع المسلمون عليه واتفق العلماء وعمل المسلمين على أن اضجاعها يكون على جانبها الأيسر
لأنه أسهل على الذابح في أخذ السكين باليمين وامساك رأسها باليسار قوله صلى الله عليه وسلم
(اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) فيه دليل لاستحباب قول المضحي حال الذبح
مع التسمية والتكبير اللهم تقبل منى قال أصحابنا ويستحب معه اللهم منك وإليك تقبل منى
فهذا مستحب عندنا وعند الحسن وجماعة وكرهه أبو حنيفة وكره مالك اللهم منك وإليك
وقال هي بدعة واستدل بهذا من جوز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب
وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وكرهه الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وزعم الطحاوي أن هذا الحديث
منسوخ أو مخصوص وغلطه العلماء في ذلك فان النسخ والتخصيص لا يثبتان بمجرد الدعوى
باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم
(الا السن والظفر وسائر العظام
قوله (قلت يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى قال أعجل أو أرن) أما أعجل فهو بكسر
122

الجيم وأما أرني فبفتح الهمزة وكسر الراء وإسكان الراء وكسر النون
وروى أرني باسكان الراء وزيادة ياء وكذا وقع هنا في أكثر النسخ قال الخطابي صوابه أرن
على وزن أعجل وهو بمعناه وهو من النشاط والخفة أي أعجل ذبحها لئلا تموت خنقا قال وقد يكون
أرن على وزن أطع أي أهلكها ذبحها من أران القوم إذا هلكت مواشيهم قال ويكون أرن
على وزن أعط بمعنى أدم الحز ولا تفتر من قولهم رنوت إذا أدمت النظر وفى الصحيح أرن بمعنى
أعجل وأن هذا شك من الراوي هل قال أرن أو قال أعجل قال القاضي عياض وقد رد بعضهم
على الخطابي قوله إنه من أران القوم إذا هلكت مواشيهم لأن هذا لا يتعدى والمذكور في الحديث
متعد على ما فسره ورد عليه أيضا قوله إنه أأرن إذ لا تجتمع همزتان أحدهما ساكنة في كلمة واحدة
وإنما يقال في هذا أيرن بالياء قال القاضي وقال بعضهم معنى أربى بالياء سيلان الدم وقال بعض
أهل اللغة صواب اللفظة بالهمزة والمشهور بلا همز والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ما أنهر
الدم ذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر) أما السن والظفر فمنصوبان بالاستثناء بليس وأما
أنهره فمعناه أساله وصبه بكثرة وهو مشبه بجري الماء في النهر يقال نهر الدم وأنهرته قوله
صلى الله عليه وسلم (وذكر اسم الله) هكذا هو في النسخ كلها وفيه محذوف أي وذكر اسم الله عليه
أو معه ووقع في رواية أبى داود وغيره وذكر اسم الله عليه قال العلماء في هذا الحديث تصريح
بأنه يشترط في الذكاة ما يقطع ويجرى الدم ولا يكفي رضها ودمغها بما لا يجرى الدم قال القاضي
وذكر الخشني في شرح هذا الحديث ما أنهز بالزاي والنهز بمعنى الدفع قال وهذا غريب والمشهور
بالراء المهملة وكذا ذكره إبراهيم الحربي والعلماء كافة بالراء المهملة قال بعض العلماء والحكمة
في اشتراط الذبح وانهار الدم تميز حلال اللحم والشحم من حرامهما وتنبيه على أن تحريم الميتة
لبقاء دمها وفى هذا الحديث تصريح بجواز الذبح بكل محدد يقطع الا الظفر والسن وسائر العظام
فيدخل في ذلك السيف والسكين والسنان والحجر والخشب والزجاج والقصب والخزف والنحاس
وسائر الأشياء المحددة فكلها تحصل بها الذكاة الا السن والظفر والعظام كلها أما الظفر فيدخل
فيه ظفر الآدمي وغيره من كل الحيوانات وسواء المتصل والمنفصل الطاهر والنجس فكله لا تجوز
الذكاة به للحديث وأما السن فيدخل فيه سن الآدمي وغيره الطاهر والنجس والمتصل والمنفصل
ويلحق به سائر العظام من كل الحيوان المتصل منها والمنفصل الطاهر والنجس فكله لا تجوز الذكاة
123

بشئ منه قال أصحابنا وفهمنا العظام من بيان النبي صلى الله عليه وسلم العلة في قوله إما السن فعظم
أي نهيتكم عنه لكونه عظما فهذا تصريح بأن العلة كونه عظما فكل ما صدق عليه اسم العظم
لا تجوز الذكاة به وقد قال الشافعي وأصحابه بهذا الحديث في كل ما تضمنه على ما شرحته وبهذا
قال النخعي والحسن بن صالح والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وفقهاء الحديث وجمهور
العلماء وقال أبو حنيفة وصاحباه لا يجوز بالسن والعظم المتصلين ويجوز بالمنفصلين وعن
مالك روايات أشهرها جوازها بالعظم دون السن كيف كانا والثانية كمذهب الجمهور والثالثة
كأبي حنيفة والرابعة حكاها عنه ابن المنذر يجوز بكل شئ حتى بالسن والظفر وعن ابن جريح
جواز الذكاة بعظم الحمار دون القرد وهذا مع ما قبله باطلان منابذان للسنة قال الشافعي وأصحابه
وموافقوهم لا تحصل الذكاة إلا بقطع الحلقوم والمرئ بكمالهما ويحتسب قطع الودجين ولا يشترط
وهذا أصح الروايتين عن أحمد وقال ابن المنذر أجمع العلماء على أنه إذا قطع الحلقوم والمرئ
والودجين وأسال الدم حصلت الذكاة قال واختلفوا في قطع بعض هذا فقال الشافعي يشترط
قطع الحلقوم والمرئ ويستحب الودجان وقال الليث وأبو تور وداود وابن المنذر يشترط الجميع
وقال أبو حنيفة إذا قطع ثلاثة من هذه الأربعة أجزأه وقال مالك يجب قطع الحلقوم والودجين
ولا يشترط المرئ وهذه رواية عنن الليث أيضا وعن مالك رواية أنه يكفي قطع الودجين
وعنه اشتراط قطع الأربعة كما قال الليث وأبو ثور وعن أبي يوسف ثلاث روايات إحداها
كأبي حنيفة والثانية إن قطع الحلقوم واثنين من الثلاثة الباقية حلت وإلا فلا والثالثة يشترط
قطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين وقال محمد بن الحسن ان قطع من كل واحد من الأربعة
أكثره حل وألا فلا والله أعلم قال بعض العلماء وفى قوله صلى الله عليه وسلم ما أنهر الدم
فكل دليل على جواز ذبح المنحور ونحر المذبوح وقد جوزه العلماء كافة إلا داود فمنعهما وكرهه
مالك كراهة تنزيه وفى رواية كراهة تحريم وفى رواية عنه إباحة ذبح المنحور دون نحر المذبوح
وأجمعوا أن السنة في الإبل النحر وفى الغنم الذبح والبقر كالغنم عندنا وعند الجمهور وقيل يتخير بين
ذبحها ونحرها قوله صلى الله عليه وسلم (أما السن فعظم) معناه فلا تذبحوا به فإنه يتنجس
124

بالدم وقد نهيتم عن الاستنجاء بالعظام ولئلا تتنجس لكونها زاد إخوانهم من الجن وأما قوله
صلى الله عليه وسلم وأما الظفر فمدى الحبشة فمعناه أنهم كفار وقد نهيتم عن التشبيه بالكفار
وهذا شعار لهم قوله (فأصبنا نهب إبل وغنم فندمنها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شئ فاصنعوا به هكذا)
أما النهب بفتح النون فهو المنهوب وكان هذا النهب غنيمة وقوله (فندمنها بعير) أي شرد وهرب
نافرا والأوابد النفور والتوحش وهو جمع آبدة بالمد وكسر الباء المخففة ويقال منه أبدت
بفتح الباء تأبد بضمها وتأبد بكسرها وتأبدت ومعناه نفرت من الانس وتوحشت وفى هذا الحديث
125

دليل لإباحة عقر الحيوان الذي يندو ويعجز عن ذبحه ونحره قال أصحابنا وغيرهم الحيوان المأكول
الذي لا تحل ميتته ضربان مقدور على ذبحه ومتوحش فالمقدور عليه لا يحل الا بالذبح في الحلق
واللبة كما سبق وهذا مجمع عليه وسواء في هذا الانسي والوحشي إذا قدر على ذبحه بأن أمسك
الصيد أو كان متأنسا فلا يحل الا بالذبح في الحلق واللبة وأما المتوحش كالصيد فجميع أجزائه
يذبح ما دام متوحشا فإذا رماه بسهم أو أرسل عليه جارحة فأصاب شيئا منه ومات به حل بالاجماع
وأما إذا توحش انسى بأن ند بعير أو بقرة أو فرس أو شردت شاة أو غيرها فهو كالصيد فيحل
بالرمي إلى غير مذبحه وبإرسال الكلب وغيره من الجوارح عليه وكذا لو تردى بعير أو غيره
في بئر ولم يمكن قطع حلقومه مريئه فهو كالبعير الناد في حله بالرمي بلا خلاف عندنا وفى حله
بإرسال الكلب وجهان أصحهما لا يحل قال أصحابنا وليس المراد بالتوحش مجرد الافلات بل متى
تيسر لحوقه بعد ولو باستعانة بمن يمسكه ونحو ذلك فليس متوحشا ولا يحل حينئذ الا بالذبح
في المذبح وان تحقق العجز في الحال جاز رميه ولا يكلف الصبر إلى القدرة عليه وسواء كانت
الجراحة في فخذه أو خاصرته أو غيرهما من بدنه فيحل هذا تفصيل مذهبنا وممن قال بإباحة
عقر الناد كما ذكرنا علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وطاوس وعطاء والشعبي
والحسن البصري والأسود بن يزيد والحكم وحماد والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد
وإسحاق وأبو ثور والمزني وداود والجمهور وقال سعيد بن المسيب وربيعة والليث ومالك لا يحل
الا بذكاة في حلقه كغيره دليل الجمهور حديث رافع المذكور والله أعلم قوله (كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذى الحليفة من تهامة) قال العلماء الحليفة هذه مكان من تهامة
بين حاذة وذات عرق ليست بذى الحليفة التي هي ميقات أهل المدينة هكذا ذكره الحازمي
في كتابه المؤتلف في أسماء الأماكن لكنه قال الحليفة من غير لفظ ذي والذي في صحيح
البخاري ومسلم بذى الحليفة فكأنه يقال بالوجهين قوله (فأصبنا غنما وابلا فعجل القوم
فاغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت) معنى كفئت أي قلبت وأريق ما فيها وإنما أمر بإراقتها
لأنهم كانوا قد انتهوا إلى دار الاسلام والمحل الذي لا يجوز فيه الأكل من مال الغنيمة المشتركة
فان الأكل من الغنائم فبل القسمة إنما يباح في دار الحرب وقال المهلب بن أبي صفرة المالكي
إنما أمروا بإكفاء القدور عقوبة لهم لاستعجالهم في السير وتركهم النبي صلى الله عليه وسلم
126

في أخريات القوم متعرضا لمن يقصده من عدو ونحوه والأول أصح واعلم أن المأمور به
من إراقة القدور إنما هو اتلاف لنفس المرق عقوبة لهم وأما نفس اللحم فلم يتلفوه بل يحمل
على أنه جمع ورد إلى المغنم ولا يظن أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتلافه لأنه مال للغانمين وقد نهى
عن إضاعة المال مع أن الجناية بطبخه لم تقع من جميع مستحقي الغنيمة إذ من جملتهم أصحاب
الخمس ومن الغانمين من لم يطبخ فإن قيل فلم ينقل أنهم حملوا اللحم إلى المغنم قلنا ولم ينقل
أيضا أنهم أحرقوه وأتلفوا وإذا لم يأت فيه نقل صريح وجب تأويله على وفق القواعد
الشرعية وهو ما ذكرناه وهذا بخلاف اكفاء قدور لحم الحمر الأهلية يوم خيبر فإنه أتلف
ما فيها من لحم ومرق لأنها صارت نجسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها انها رجس
أو نجس كما سبق في بابه وأما هذه اللحوم فكانت طاهرة منتفعا بها بلا شك فلا يظن
اتلافها والله أعلم قوله (ثم عدل عشرا من الغنم بجزور) هذا محمول على أن هذه كانت قيمة
هذه الغنم والإبل فكانت الإبل نفيسة دون الغنم بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه ولا يكون
هذا مخالفا لقاعدة الشرع في باب الأضحية في إقامة البعير مقام سبع شياه لأن هذا هو الغالب في
قيمة الشياه والإبل المعتدلة وأما هذه القسمة فكانت قضية اتفق فيها ما ذكرناه من نفاسة الإبل
دون الغنم وفيه أن قسمة الغنيمة لا يشترط فيها قسمة كل نوع على حدة قوله (فنذكى بالليط)
هو بلام مكسورة ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم طاء مهملة وهي قشور القصب وليط كل شئ
قشوره والواحدة ليطة وهو معنى قوله في الرواية الثانية أفنذبح بالقصب وفى رواية أبى داود
وغيره أفنذبح بالمورة فهو محمول على أنهم قالوا هذا وهذا فأجابهم صلى الله عليه وسلم بجواب
جامع لما سألوه ولغيره نفيا واثباتا فقال كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر
قوله (فرميناه بالنبل حتى وهصناه) هو بهاء مفتوحة مخففة ثم صاد مهملة ساكنة ثم نون
127

ومعناه رميناه رميا شديدا وقيل أسقطناه إلى الأرض ووقع في غير مسلم رهصنا بالراء أي حبسناه
باب بيان ما كان من النهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد
(ثلاث في الاسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء
قوله (حدثني عبد الجبار بن العلاء حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن أبي عبيد قال شهدت العيد
مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكر الحديث) قال القاضي لهذا الحديث من رواية سفيان
عند أهل الحديث علة في رفعه لأن الحفاظ من أصحاب سفيان لم يرفعوه ولهذا لم يروه البخاري
من رواية سفيان ورواه من غير طريقة قال الدارقطني هذا مما وهم قيه عبد الحبار بن العلاء لأن
علي بن المديني وأحمد بن حنبل والقعنبي وأبا خيثمة وإسحاق وغيرهم رووه عن ابن عيينة موقوفا
قال ورفع الحديث عن الزهري صحيح من غير طريق سفيان فقد رفعه صالح ويونس ومعمر
والزبيدي ومالك من رواية جويرية كلهم رووه عن الزهري مرفوعا هذا كلام الدارقطني
والمتن صحيح بكل حال والله أعلم قوله في حديث علي رضي الله عنه أنه خطب فقال (إن رسول الله
128

صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا) وفى حديث
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأكل أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام قال سالم وكان
ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث وذكر حديث جابر مثله في النهى ثم قال كلوا بعد
وادخروا وتزودوا وحديث عائشة أنه دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ادخروا ثلاثة أيام ثم تصدقوا ثم ذكر الحديث إنما كنت نهيتكم من أجل
الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا وذكر معناه من حديث جابر وسلمة بن الأكوع
وأبى سعيد وثوبان وبريدة قال القاضي واختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم
يحرم امساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث وان حكم التحريم باق كما قاله على وابن عمر
وقال جماهير العلماء يباح الأكل والامساك بعد الثلاث والنهى منسوخ بهذه الأحاديث المصرحة
بالنسخ لا سيما حديث بريدة وهذا من نسخ السنة بالسنة وقال بعضهم ليس هو نسخا بل كان التحريم
لعلة فلما زالت زال لحديث سلمة وعائشة وقيل كان النهى الأول للكراهة لا للتحريم قال هؤلاء
والكراهة باقية إلى اليوم ولكن لا يحرم قالوا ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس
وحملوا على هذا مذهب على وابن عمرو الصحيح نسخ النهى مطلقا وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة فيباح
129

اليوم الادخار فوق ثلاث والاكل إلى متى شاء لصريح حديث بريدة وغيره والله أعلم قوله صلى الله
عليه وسلم (بعد ثلاث) قال القاضي يحتمل أن يكون ابتداء الثلاث من يوم ذبحها ويحتمل من يوم
النحر وان تأخر ذبحها إلى أيام التشريق قال وهذا أظهر قوله صلى الله عليه وسلم (إنما نهيتكم من أجل
الدافة التي دفت) قال أهل اللغة الدافة بتشديد الفاء قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا ودف يدف
بكسر الدال ودافة الأعراب من يرد منهم المصر والمراد هنا من ورد من ضعفاء الاعراب للمواساة قوله
(دف ابيات من أهل البادية حضرة الأضحى) هي بفتح الحاء وضمها كسرها والضاد ساكنة فيها كلها
وحكى فتحها وهو ضعيف وإنما تفتح إذا حذفت الهاء فيقال بحضر فلان قوله (ان الناس يتخذون
130

الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك) قوله يجملون بفتح الياء مع كسر الميم وضمها ويقال بضم الياء
مع كسر الميم يقال جملت الدهن أجمله بكسر الميم وأجمله بضمها جملا وأجملته أجمله اجمالا أي
أدبته وهو بالجيم قوله صلى الله عليه وسلم (إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا
وادخروا وتصدقوا) هذا تصريح بزوال النهى عن ادخارها فوق ثلاث وفيه الأمر بالصدقة
منها والأمر بالأكل فاما الصدقة منها إذا كانت أضحية تطوع فواجبه على الصحيح عند أصحابنا
بما يقع عليه الاسم منها ويستحب أن يكون بمعظمها قالوا وأدنى الكمال أن يأكل الثلث
ويتصدق بالثلث ويهدى الثلث وفيه قول أنه يأكل النصف ويتصدق بالنصف وهذا الخلاف
في قدر أدني الكمال في الاستحباب فأما الاجزاء فيجزيه الصدقة بما يقع عليه الاسم كما ذكرنا
ولنا وجه أنه لا تجب الصدقة بشئ منها وأما الأكل منها فيستحب ولا يجب هذا مذهبنا
ومذهب العلماء كافة إلا ما حكى عن بعض السلف أنه أوجب الأكل منها وهو قول أبى الطيب
ابن سلمة من أصحابنا حكاه عنه الماوردي لظاهر هذا الحديث في الأمر بالأكل مع قوله تعالى
فكلوا منها الجمهور هذا الأمر على الندب أو الإباحة لا سيما وقد ورد بعد الحظر كقوله
تعالى " حللتم فاصطادوا " وقد اختلف الأصوليون المتكلمون في الأمر الوارد بعد الحظر
131

فالجمهور من أصحابنا وغيرهم عل أنه للوجوب كما لو ورد ابتداء وقال جماعة منهم من أصحابنا وغيرهم
أنه للإباحة قوله في حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر (قلت لعطاء قال جابر حتى
جئنا المدينة قال نعم) ووقع في البخاري لابدل قوله هنا نعم فيحتمل أنه نسي وقت فقال لا
وذكر في وقت فقال نعم قوله (وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة
عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري) هكذا وقع في نسخ بلادنا سعيد عن قتادة عن أبي نضرة
وكذا ذكره أبو علي الغساني والقاضي عن نسخة الجلودي والكسائي قالا وفى نسخة ابن ماهان
سعيد عن أبي نضرة من غير ذكر قتادة وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي في الأطراف
وخلف الواسطي قال أبو علي الغساني وهذا هو الصواب عندي والله أعلم قوله في طريق
ابن أبي شيبة وابن المثنى (عن أبي نضرة عن أبي سعيد) هذا خلاف عادة مسلم في الاقتصار وكان
مقتضى عادته حذف أبي سعيد في الطريق الأول ويقتصر على أبى نضرة ثم يقول ح ويتحول
132

فان مدار الطريقين على أبى نضرة والعبارة فيهما عن أبي سعيد الخدري بلفظ واحد وكان
ينبغي تركه في الأولى قوله (ان لهم عيالا وحشما وخدما) قال أهل اللغة الحشم بفتح
الحاء والشين هم اللائذون بالانسان يخدمونه ويقومون بأموره وقال الجواهري هم خدم الرجل
ومن يغضب له سموا بذلك لأنهم يغضبون له والحشمة الغضب ويطلق على الاستحياء أيضا ومنه
قولهم فلان لا يحتشم أي لا يستحى يقال حشمته إذا أعضبته وإذا أخجلته فاستحى
الخجلة وكأن الحشم أعم من الخدم فلهذا جمع بينهما في الحديث وهو من باب ذكر الخاص
بعد العام والله أعلم قوله صلى الله أعلم (ان ذلك عام كان الناس فيه يجهد فأردت أن يفشو
فيهم) هكذا هو في جميع نسخ مسلم يفشو بالفاء والشين أي يشيع لحم الأضاحي في الناس
وينتفع به المحتاجون ووقع في البخاري يعينوا بالعين من الإعانة قال القاضي في شرح مسلم
الذي في مسلم أشبه وقال في المشارق كلاهما صحيح والذي في البخاري أوجه والله أعلم والجهد
هنا بفتح الجيم وهو المشقة والفاقة قوله (عن ثوبان قال ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم
133

ضحيته ثم قال يا ثوبان أصلح هذه فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة هذا فيه تصريح بجواز
ادخار لحم الأضحية فوق ثلاث وجواز التزود منه وفيه أن الادخار والتزود في الأسفار
لا يقدح في التوكل ولا يخرج صاحبه عن التوكل وفيه أن الضحية مشروعة للمسافر كما
هي مشروعة للمقيم وهذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وقال النخعي وأبو حنيفة لا ضحية على
المسافر وروى هذا عن علي رضى الله تعالى عنه وقال مالك وجماعة لا تشرع للمسافر
بمنى ومكة قوله صلى الله عليه وسلم (نهيتكم عن زيارة القبور فزورها ونهيتكم
134

عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا
في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا) هذا الحديث مما صرح فيه بالناسخ والمنسوخ جميعا قال
العلماء يعرف نسخ الحديث تارة بنص كهذا وتارة باخبار الصحابي ككان آخر الأمرين من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار وتارة بالتاريخ إذا تعذر الجمع وتارة
بالاجماع كترك قتل شارب الخمر في المرة الرابعة والاجماع لا ينسخ لكن يدل على وجود
ناسخ أما زيارة القبور فسبق بيانها في كتاب الجنائز وأما الانتباذ في الأسقية فسبق شرحه
في كتاب الايمان وسنعيده قريبا في كتاب الأشربة إن شاء الله تعالى ونذكر هناك اختلاف
ألفاظ هذا الحديث وتأويل المؤول منها وأما لحوم الأضاحي فذكرنا حكمها والله أعلم
باب الفرع والعتيرة
قوله صلى الله عليه وسلم (لا فرع ولا عتيرة) والفرع أول النتاج كان ينتج لهم فيذبحونه قال
135

أهل اللغة وغيرهم الفرع بفاء ثم راء مفتوحتين ثم عين مهملة ويقال فيه الفرعة بالهاء
والعتيرة بعين مهملة مفتوحة ثم تاء مثناة من فوق قالوا والعتيرة ذبيحة كانوا يذبحونها في
العشر الأول من رجب ويسمونها الرجبية أيضا واتفق العلماء على تفسير العتيرة بهذا وأما
الفرع فقد فسره هنا بأنه أول النتاج كانوا يذبحونه قال الشافعي وأصحابه وآخرون هو أول نتاج
البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الأم وكثرة نسلها وهكذا فسره كثيرون من
أهل اللغة وغيرهم وقال كثيرون منهم هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم وهي طواغيتهم وكذا
جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري وسنن أبي داود وقيل هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة
يذبحونه وقال شمر قال أبو مالك كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه ويسمونه
الفرع وقد صحل الامر بالعتيرة والفرع في هذا الحديث وجاءت به أحاديث منها حديث نبيشة
رضي الله عنه قال نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية
في رجب قال اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا لله وأطعموا قال إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية
فما تأمرنا فقال في كل سائمة فرع تعدوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه
رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة قال ابن المنذر هو حديث صحيح قال أبو قلابة أحد رواة هذا
الحديث السائمة مائة ورواه البيهقي بإسناده الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالفرعة من كل خمسين واحدة وفى رواية من كل خمسين شاة شاة قال
ابن المنذر حديث عائشة صحيح وفى سنن أبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي أراه
عن جده قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرع قال الفرع حق وان تتوكوه حتى يكون
بكرا أو ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه
فيلزق لحمه بوبره وتكنأ إناؤك وتوله ناقتك قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث قال النبي صلى الله
عليه وسلم الفرع حق ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه ولهذا قال تذبحه فيلزق
لحمه بوبره وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها ولهذا قال خير من أن تكفئ يعنى إذا فعلت ذلك
فكأنك كفأت إنائك وأرقته وأشاربه إلى ذهاب اللبن وفيه أنه يفجعها بولدها ولهذا قال وتوله
136

ناقتك فأشار بتركه حتى يكون ابن مخاض وهو ابن سنة ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه
ولا تشق عليها مفارقته لأنه استغنى عنها هذا كلام أبى عبيدة وروى البيهقي بإسناده عن الحارث
ابن عمر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات أو قال بمني وسأله رجل عن العتيرة فقال
من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع وعن أبي رزين قال يا رسول الله
إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب فنأكل منها ونطعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا بأس بذلك وعن أبي رملة عن مخنف بن سليم قال كنا وقوفا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعرفات فسمعته يقول يا أيها الناس أن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدرى
ما العتيرة هي التي تسمى الرجبية رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي
حديث حسين وقال الخطابي هذا الحديث ضعيف المخرج لأن أبا رملة مجهول هذا مختصر ما جاء
من الأحاديث في الفرع والعتيرة قال الشافعي رضي الله عنه الفرع شئ كان أهل الجاهلية
يطلبون به البركة في أموالهم فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته فلا يغذوه رجاء البركة فيما يأتي
بعده فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال فرعوا إن شئتم أي اذبحوا إن شئتم كانوا
يسألونه عما كانوا يصنعونه في الجاهلية خوفا أن يكره في الاسلام فأعلمهم أنه لا كراهة عليهم
فيه وأمرهم استحبابا أن يعذوه ثم يحمل عليه في سبيل الله قال الشافعي وقوله صلى الله عليه وسلم
الفرع حق معناه ليس بباطل وهو كلام عربي خرج على جواب السائل قال وقوله صلى الله
عليه وسلم لا فرع ولا عتيرة أي لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة قال والحديث الآخر يدل علي
هذا المعنى فإنه أباح له الذبح واختار له أن يعطيه أرملة أو يحمل عليه في سبيل الله قال وقوله
صلى الله عليه وسلم في العتيرة اذبحوا لله في أي شهر كان أي اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح
لله في أي شهر كان لا أنها في رجب دون غيره من الشهور والصحيح عند أصحابنا وهو نص
الشافعي استحباب الفرع والعتيرة وأجابوا عن حديث لا فرع ولا عتيرة بثلاثة أوجه أحدها
جواب الشافعي السابق أن المراد نفى الوجوب والثاني أن المراد نفى ما كانوا يذبحون لأصنامهم
والثالث أنهما ليسا كالأضحية في الاستحباب أو في ثواب إراقة الدم فأما تفرقة اللحم على المساكين
فبر وصدقة وقد نص الشافعي في سنن حرملة أنها ان تيسرت كل شهر كان حسنا هذا تلخيص حكمها
في مذهبنا وادعى القاضي عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع والعتيرة والله أعلم
137

باب نهى من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية
(أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئا)
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحى فلا يمس من شعره وبشره شيئا) وفى
رواية فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا واختلف العلماء فيمن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد
أن يضحى فقال سعيد بن المسيب وربيعة وأحمد وإسحاق وداود بعض أصحاب الشافعي أنه يحرم
عليه أخذ شئ من شعره وأظفاره حتى يضحى في وقت الأضحية وقال الشافعي وأصحابه هو مكروه
كراهة تنزيه وليس بحرام وقال أبو حنيفة لا يكره وقال مالك في رواية لا يكره وفى رواية يكره
وفى رواية يحرم في التطوع دون الواجب واحتج من حرم بهذه الأحاديث واحتج الشافعي والآخرون
بحديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أفتل قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلده
ويبعث به ولا يحرم عليه شئ أحله الله حتى ينحر هديه رواه البخاري ومسلم قال الشافعي البعث
بالهدى أكثر من إرادة التضحية فدل على أنه لا يحرم ذلك وحمل أحاديث النهى على كراهة التنزيه
قال أصحابنا والمراد بالنهي عن أخذ الظفر والشعر النهى عن إزالة الظفر بقلم أو كسر أو غيره والمنع
138

من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو إحراق أو أخذه بنورة أو غير ذلك وسواء شعر الإبط
والشارب والعانة والرأس وغير ذلك من شعور بدنه قال إبراهيم المروزي وغيره من أصحابنا حكم
أجزاء البدن كلها حكم الشعر والظفر ودليله الرواية السابقة فلا يمس من شعره وبشره شيئا قال
أصحابنا والحكمة في النهى أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار وقيل والتشبه بالمحرم قال أصحابنا هذا
غلط لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم قوله (عن عمر
ابن مسلم عن سعيد بن المسيب) كذا رواه مسلم عمر بضم العين في كل هذه الطرق الا طريق حسن
ابن علي الحلواني ففيها عمرو بفتح العين الا طريق أحمد بن عبد الله بن الحكم ففيها عمرا أو عمر
وقال العلماء الوجهان منقولان في اسمه قوله (عمار بن أكمية الليثي) بضم الهمزة وفتح
الكاف واسكان الياء وآخره تاء تكتب هاء قوله صلى الله عليه وسلم (من كان له ذبح يذبحه)
هو بكسر الذال أي حيوان يريد ذبحه فهو فعل بمعنى مفعول كحمل بمعنى محمول ومنه قوله تعالى
139

وفدينا بذبح قوله (كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه أناس فقال بعض أهل الحمام ان
سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال يا ابن أخي هذا
حديث قد نسي وترك حدثتني أم سلمة وذكر حديثها السابق) أما قوله فأطلى فيه أناس فمعناه أزالوا
شعر العانة بالنورة والحمام مذكر مشتق من الحميم وهو الماء الحار وقوله إن سعيدا يكره هذا
يعنى يكره إزالة الشعر في عشر ذي الحجة لمن يريد التضحية لا أنه يكره مجرد الاطلاء ودليل
ما ذكرناه احتجاجه بحديث أم سلمة وليس فيه ذكر الاطلاء إنما فيه النهى عن إزالة الشعر وقد
نقل ابن عبد البر عن ابن المسيب جواز الاطلاء في العشر بالنورة فإن صح هذا عنه فهو محمول
على أنه أفتى به انسانا لا يريد التضحية قوله (عن عمر بن مسلم الجندعي) وفى الرواية السابقة
قال الليثي الجندعي بضم الجيم وإسكان النون وبفتح الدال وضمها وجندع بطن من بنى ليث
وسبق بيانه أول الكتاب والله أعلم
140

باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله
قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله من لعن والده ولعن الله من ذبح لغير الله
ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الأرض) وفى رواية لعن الله من لعن والديه أما لعن الوالد والوالدة فمن
الكبائر وسبق ذلك مشروحا واضحا في كتاب الايمان والمراد بمنار الأرض بفتح الميم علامات
حدودها وأما المحدث بكسر الدال فهو من يأتي بفساد في الأرض وسبق شرحه في آخر كتاب الحج
واما لذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى
صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما
أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له
غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا وذكر
الشيخ إبراهيم المروزي من أصحابنا أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى
أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله تعالى قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشارا
بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم والله أعلم قوله
(ان عليا غضب حين قال له رجل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسر إليك إلى
آخره فيه إبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة والامامية من الوصية إلى علي وغير ذلك
141

من اختراعاتهم وفيه جواز كتابة العلم وهو مجمع عليه الآن وقد قدمنا ذكر المسألة في مواضع
قوله (ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ لم يعم به الناس كافة الا ما كان في قراب
سيفي) هكذا تستعمل كافة حالا وأما ما يقع في كثير من كتب المصنفين من استعمالها مضافة
وبالتعريف كقولهم هذا قول كافة العلماء ومذهب الكافة فهو خطأ معدود في لحن العوام
وتحريفهم وقوله قراب سيفي هو بكسر القاف وهو وعاء من جلد ألطف من الجراب يدخل
فيه السيف بغمده وما خف من الآلة والله أعلم
142

كتاب الأشربة
باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب
(ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر
قوله (أصبت شارفا) هي بالشين المعجمة وبالفاء وهي الناقة المسنة وجمعها شرف بضم الراء
واسكانها قوله (أريد أن أحمل عليها إذخرا لأبيعه ومعنى صائغ من بنى قينقاع فأستعين به على
وليمة فاطمة) أما قينقاع فبضم النون وكسرها وفتحها وهم طائفة من يهود المدينة فيجوز صرفه على
إرادة الحي وترك صرفه على إرادة القبيلة أو الطائفة وفيه اتخاذ الوليمة للعرس سواء في ذلك من
له مال كثير ومن دونه وقد سبقت المسألة في كتاب النكاح وفيه جواز الاستعانة في الاعمال
والاكتساب باليهود وفيه جواز الاحتشاش للتكسب وبيعه وأنه لا ينقص المروءة وفيه جواز
بيع الوقود للصواغين ومعاملتهم قوله (معه قينة تغنيه) القينة بفتتح القاف الجارية المغنية
قوله (ألا ياحمز للشرف النواء) الشرف بضم الشين والراء وتسكين الراء أيضا كما سبق جمع
143

شارف والنواء بكسر النون وتخفيف الواو وبالمد أي السمان جمع ناوية بالتخفيف وهي السمينة
وقد نوت الناقة تنوى كرمت ترمى يقال لها ذلك إذا سميت هذا الذي ذكرناه في النواء أنها بكسر
النون وبالمد هو الصواب المشهور في الروايات في الصحيحين وغيرهما ويقع في بعض النسخ
النوى بالياء وهو تحريف وقال الخطابي رواه ابن جرير ذا الشرف النوى بفتح الشين والراء
وبفتح النون مقصورا قال وفسره بالبعد قال الخطابي وكذا رواه أكثر المحققين قال وهو غلط
في الرواية والتفسير وقد جاء في غير مسلم تمام هذا الشعر
ألا يا حمز للشرف النواء * وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها * وضرجهن حمزة بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب * قديدا من طبيخ أو شواء
قوله (فجب أسمنتهما) وفى الرواية الأخرى اجتب وفى رواية البخاري أجب وهذه غريبة في
اللغة والمعنى قطع قوله (وبقر خواصرهما) أي شقها وهذا الفعل الذي جرى من حمزة رضي الله عنه
من شربه الخمر وقطع أسنمة الناقتين وبقر خواصرهما وأكل لحمها وغير ذلك لا اثم
عليه في شئ منه أما أصل الشرب والسكر فكان مباحا لأنه قبل تحريم الخمر وأما ما قد يقوله
بعض من لا تحصيل له أن السكر لم يزل محرما فباطل لا أصل له ولا يعرف أصلا وأما باقي
الأمور فجرت منه في حال عدم التكليف فلا اثم عليه فيها كمن شرب دواء لحاجة فزال به عقله
أو شرب شيئا يظنه خلا فكان خمرا أو أكراه على شرب الخمر فشربها وسكر فهو في حال السكر
غير مكلف ولا اثم عليه فيما يقع منه في تلك الحال بلا خلا وأما غرامة ما أتلفه فيجب في ماله
144

فلعل عليا رضي الله عنه أبرأه من ذلك بعد معرفته بقيمة ما أتلفه أو أنه أداه إليه حمزة بعد
ذلك أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أداه عنه لحرمته عنده وكمال حقه ومحبته إياه وقرابته وقد جاء
في كتاب عمر بن شيبة من رواية أبى بكر بن عياش أن النبي صلى الله عليه وسلم غرم حمزة الناقتين
وقد أجمع العلماء أن ما أتلفه السكران من الأموال يلزمه ضمانة كالمجنون فان الضمان لا يشترط
فيه التكليف ولهذا أوجب الله تعالى في كتابه في قتل الخطأ الدية والكفارة وأما هذا السنام المقطوع
فإن لم سكن تقدم نحرهما فهو حرام باجماع المسلمين لأن ما أبين منحى فهو ميت وفيه حديث مشهور
في كتب السنن ويحتمل أنه ذكاهما ويدل عليه الشعر الذي قدمناه فإن كان ذكاهما فلحمهما حلال
باتفاق العلماء إلا ما حكى عن عكرمة وإسحاق وداود أنه لا يحل ما ذبحه سارق أو غاصب أو متعد
والصواب الذي عليه الجمهور حله وان لم يكن ذكاهما وثبت أنه أكل منهما فهو أكل في حالة السكر
المباح ولا اثم فيه كما سبق والله أعلم قوله (فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر) وفى
الرواية الأخرى فنكص على عقبيه القهقرى قال جمهور أهل اللغة وغيرهم القهقرى الرجوع إلى
وراء ووجهه إليك إذا ذهب عنك وقال أبو عمر وهو الاخصار في الرجوع أي الاسراع فعلى هذا معناه
خرج مسرعا والأول هو المشهور المعروف وإنما رجع القهقرى خوفا من أن يبدو من حمزة رضى الله تعالى
145

عنه امر يكرهه ولا مظهره لكونه مغلوبا بالسكر قوله (أردت أن أبيعه من الصواغين) هكذا هو
في جميع نسخ مسلم وفى بعض الأبواب من البخاري من الصواغين ففيه دليل لصحة استعمال الفقهاء في
قولهم بعت منه ثوبا وزوجت منه ووهبت منه جارية وشبه ذلك والفصيح حذف من فإن الفعل متعد
بنفسه ولكن استعمال من في هذا صحيح وقد كثر ذلك في كلام العرب وقد جمعت من ذلك نظائر
كثيرة في تهذيب اللغات في حرف الميم مع النون وتكون من زائد على مذهب الأخفش ومن وافقه
في زيادتها في الواجب قوله (وشارفاى مناخان) هكذا في معظم النسخ مناخان وفى بعضها
مناختان بزيادة التاء وكذلك اختلف فيه نسخ البخاري وهما صحيحان فأنث باعتبار المعنى وذكر
باعتبار اللفظ قوله (فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاى
مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار وجمعت حين جمعت ما فإذا جمعت شارفي قد اجتبت
أسنمتهما) هكذا في بعض نسخ بلادنا ونقله القاضي عن أكثر نسخهم وسقطت لفظة وجمعت
التي عقب قوله رجل من الأنصار من أكثر نسخ بلادنا ووقع في بعض النسخ حتى جمعت مكان
حين جمعت قوله (فإذا شار في قد اجتببت أسنمتها) هكذا هو في معظم النسخ فإذا شارفي
وفى بعضها فإذا شارفاى وهذا هو الصواب أو يقول فإذا شارفتاى إلا أن يقرأ فإذا شارفي
بتخفيف الياء على لفظ الافراد ويكون المراد جنس الشارف فيدخل فيه الشارفان والله أعلم
قوله (فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما) هذا البكاء والحزن الذي أصابه سببه
ما خافه من تقصيره في حق فاطمة رضي الله عنها وجهازها والاهتمام بأمر تقصيره أيضا بذلك
في حق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن لمجرد الشارفين من حيث هما من متاع الدنيا بل لما قدمناه
146

والله أعلم قوله (هو في هذا البيت في شرب من الأنصار) والشرب بفتح الشين واسكان
الراء وهم الجماعة الشاربون قوله (فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه فارتداه) هكذا
هو في النسخ كلها فارتداه وفيه جواز لباس الرداء وترحم له البخاري بابا وفيه أن الكبير إذا خرج
من منزله تجمل بثيابه ولا يقتصر على ما يكون عليه في خلوته في بيته وهذا من المروءات والآداب
المحبوبة قوله (فطفق يلوم حمزة) أي جعل يلومه يقال بسكر الفاء فتحها حكاه القاضي وغيره
والمشهور الكسر وبه جاء القرآن قال الله تعالى " مسحا بالسوق والأعناق " ثمل) بفتح
147

الثاء المثلثة وكسر الميم أي سكران قوله (وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر) قال إبراهيم
الحربي الفضيخ أن يفضخ البسر ويصب عليه الماء ويتركه حتى يغلى وقال أبو عبيد هو ما فضخ من البسر
من غير أن تمسه نار فإن كان معه تمر فهو خليط وفى هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم تصريح
بتحريم جميع الأنبذة المسكرة وأنها كلها تسمى خمرا وسواء في ذلك الفضيخ ونبيذ التمر والرطب
والبسر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيرهما وكلها محرمة وتسمى خمرا هذا مذهبنا وبه قال
مالك وأحمد والجماهير من السلف والخلف وقال قوم من أهل البصرة إنما يحرم عصير العنب
ونقيع الزبيب النئ فأما المطبوخ منهما والنئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يشرب ويسكر
وقال أبو حنيفة إنما يحرم عصير ثمرات النخل والعنب قال فسلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها
إلا أن يطبخ حتى ينقص ثلثاها وأما نقيع التمر والزبيب فقال يحل مطبوخهما وان وان مسته النار
شيئا قليلا من غير اعتبار لحد كما اعتبر في سلافة العنب قال والنئ منه حرام قال ولكنه لا يحد
شاربه هذا كله ما لم يشرب ويسكر فان أسكر فهو حرام باجماع المسلمين واحتج الجمهور بالقرآن
والسنة أما القرآن فهو أن الله تعالى نبه على أن علة تحريم الخمر كونها تصد عن ذكر الله وعن
الصلاة وهذه العلة موجودة في جميع المسكرات فوجب طرد الحكم في الجميع فان قيل إنما يحصل
هذا المعنى في الاسكار وذلك مجمع على تحريمه قلنا قد أجمعوا على تحريم عصير العنب وان لم
148

يسكر وقد علل الله سبحانه وتعالى تحريمه كما سبق فإذ كان ما سواه في معناه وجب طرد الحكم في الجميع
ويكون التحريم للجنس المسكر وعلل بما يحصل من الجنس في العادة قال المازني هذا الاستدلال
آكد من كل ما يستدل به في هذه المسألة قال ولنا في الاستدلال طريق آخر وهو أن يقول إذا
شرب سلافة العنب عند اعتصارها وهي حلوة لم تسكر فهي حلال بالاجماع وان اشتدت وأسكرت
حرمت بالاجماع فان تخللت من غير تخليل آدمي حلت فنظرنا إلى مستبدل هذه الأحكام وتجديدها
عند تجدد الصفات وتبدلها فأشعرنا ذلك بارتباط هذه الأحكام بهذه الصفة وقام ذلك مقام
التصريح بذلك بالنطق فوجب جعل الجميع سواء في الحكم وأن الاسكار هو علة التحريم هذه
إحدى الطريقتين في الاستدلال لمذهب الجمهور والثانية الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي
ذكرها مسلم وغيره كقوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام وقوله نهى عن كل مسكر
وحديث كل مسكر خمر وحديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكره مسلم هنا في آخر
كتاب الأشربة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وفى رواية
له كل مسكر خمر وكل خمر حرام وحديث النهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة والله أعلم قوله
149

في حديث أنس (أنهم أراقوها بحبر الرجل الواحد) فيه العمل بخبر الواحد وأن هذا كان معروفا عندهم
قوله (فجرت في سكك المدينة) أي طرقها وفى هذه الأحاديث أنها لا تطهر بالتخليل وهو مذهبنا
ومذهب الجمهور وجوزه أبو حنيفة وفيه أنه لا يجوز امساكها وقد اتفق عليه الجمهور
قوله (انى لقائم أسقيهم وأنا أصغرهم) فيه أنه يستحب لصغير السن خدمة الكبار هذا إذا
150

تتساووا في الفضل أو تقاربوا قوله (فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت)
المهراس بكسر الميم وهو حجر منقور وهذا الكسر محمول على أنهم ظنوا أنه يجب كسرها
واتلافها كما يجب اتلاف الخمر وان لم يكن في نفس الأمر هذا واجبا فلما ظنوه كسروها ولهذا
لم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعذرهم لعدم معرفتهم الحكم وهو غسلها من غير كسر
وهكذا الحكم اليوم في أواني الخمر وجميع ظروفه سواء الفخار والزجاج والنحاس والحديد
والخشب والجلود فكلها تطهر بالغسل ولا يجوز كسرها
151

باب تحريم تخليل الخمر
قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلا فقال لا) هذا دليل الشافعي
والجمهور أنه لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر بالتخليل هذا إذا خللها بخبز أو بصل أو خميرة أو غير
ذلك مما يلقى فيها فهي باقية على نجاستها وينجس ما ألقى فيها ولا يطهر هذا الخل بعده أبدا
لا بغسل ولا بغيره أما إذا نقلت من الشمس إلى الظل أو من الظل إلى الشمس في طهارتها وجهان
لأصحابنا أصحهما تطهر هذا الذي ذكرناه من أنها لا تطهر إذا خللت بالقاء شئ فيها هو مذهب
الشافعي وأحمد والجمهور وقال الأوزاعي والليث وأبو حنيفة تطهر وعن مالك ثلاث روايات
أصحها عنه أن التخليل حرام فلو خللها عصى وطهرت والثانية حرام ولا تطهر والثالثة حلال
وتطهر وأجمعوا أنها إذا انقلبت بنفسها خلا طهرت وقد حكى عن سحنون المالكي أنها
لا تطهر فان صح عنه فهو محجوج باجماع من قبله والله أعلم
باب تحريم التداوي بالخمر وبيان أنها ليست بدواء
قوله طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهى أو كره أن يصنعها
152

فقال إنما أصنعها للدواء فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء) هذا دليل لتحريم اتخاذ الخمر وتخليلها
وفيه التصريح بأنها ليست بدواء فيحرم التداوي بها لأنها ليست بدواء فكأنه يتناولها بلا سبب
وهذا هو الصحيح عند أصحابنا أنه يحرم التداوي بها وكذا يحرم شربها للعطش وأما إذا غص
بلقمة ولم يجد ما يسيغها به إلا خمرا فليلزمه الإساغة بها لأن حصول الشفاء بها حينئذ مقطوع
به بخلاف التداوي والله أعلم
باب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ
(من النخل والعنب يسمى خمرا
قوله لصلى الله عليه وسلم (الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة) وفى رواية الكرمة
والنخلة وفى رواية الكرم والنخل هذا دليل على أن الأنبذة المتخذة من التمر والزهور والزبيب
وغيرها تسمى خمرا وهي حرام إذا كانت مسكرة وهو مذهب الجمهور كما سبق وليس فيه نفى
الخمرية عن نبيذ الذرة والعسل والشعير وغير ذلك فقد ثبت في تلك الألفاظ أحاديث صحيحة بأنها
153

كلها خمر وحرام ووقع في هذا الحديث تسمية العنب كرما وثبت في الصحيح النهى عنه فيحتمل
أن هذا الاستعمال كان قبل النهى ويحتمل أنه استعمله بيانا للجواز وأن النهى عنه ليس للتحريم
بل لكراهة التنزيه ويحتمل أنهم خوطبوا به للتعريف لأنه المعروف في لسانهم الغالب في استعمالهم
باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين
قوله (ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخلط
التمر والزبيب والبسر والتمر) وفى رواية نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا وفى رواية لا تجتمعوا بين الرطب والبسر
وبين الزبيب والتمر بنبذ وفى رواية من شرب النبيذ منكم فليشربه زبيبا فردا أو تمرا فردا
أو بسرا فردا وفى رواية لا تنبذوا الزهور والرطب جميعا هذه الأحاديث في النهى عن انتباذ
الخليطين وشربهما وهما تمر وزبيب أو تمر ورطب أو تمر وبسر أو رطب وبسر أو زهور وواحد
من هذه المذكورات ونحو ذلك قال أصحابنا وغيرهم من العلماء سبب الكراهة فيه أن الاسكار
يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه فيظن الشارب أنه ليس مسكرا ويكون مسكرا
ومذهبنا ومذهب الجمهور أن هذا النهى لكراهة التنزيه ولا يحرم ذلك ما لم يصر مسكرا وبهذا
قال جماهير العلماء وقال بعض المالكية هو حرام وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية عنه
لا كراهة فيه ولا بأس به لأن ما حل مفردا حل مخلوطا وأنكر عليه الجمهور وقالوا منابذة
154

لصاحب الشرع فقد ثبت الأحاديث الصحيحة الصريحة في النهى عنه فإن لم يكن حراما كان
مكروها واختلف أصحاب مالك في أن النهى هل يختص بالشرب أن يعمه وغيره والأصح
155

التعميم وأما خلطهما في الانتباذ بل في معجون وغيره فلا بأس به والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(لا تنتبذوا الزهو) هو بفتح الزاي وضمها لغتان مشهورتان قال الجوهري أهل الحجاز
يضمون والزهو هو البسر الملون الذي بدا فيه حمرة أو صفرة وطاب وزهت النخل تزهو زهوا
وأزهت تزهى وأنكر الأصمعي أزهت بالألف وأنكر غيره زهت بلا ألف وأثبتهما الجمهور
156

ورجحوا زهت بحذف الألف وقال ابن الأعرابي زهت ظهرت وأزهت احمرت أو اصفرت
والأكثرون على خلافة قوله (وهو أبو كثير الغبرى) بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة
قوله (كتب إلى أهل جرش) بضم الجيم وفتح الراء وهو بلد باليمن
157

باب النهى عن الانتباذ في المزفت والدباء والحتنم والنقير
(وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال ما لم يصر مسكرا
هذا الباب قد سبق شرحه وبيان هذه الألفاظ وحكم الانتباذ وذكرنا أنه منسوخ عندنا
وعند جماهير العلماء وأوضحنا كل ما يتعلق به في أول كتاب الايمان في حديث وفد
عبد القيس ولا نعيد هنا الا هنا الا ما يحتاج إليه مع ما لم يسبق هناك ومختصر القول فيه أنه كان
158

الانتباذ في هذه الأوعية منهيا عنه في أول الاسلام خوفا من أن يصير مسكرا فيها
ولا نعلم به لكشافتها فتتلف ماليته وربما شربه الانسان ظانا أنه لم يصر مسكرا فيصير
شاربا للمسكر وكان العهد قريبا بإباحة المسكر فلما طال الزمان واشتهر تحريم المسكر وتقرر
ذلك في نفوسهم نسخ ذلك وأبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط أن لا تشربوا مسكرا وهذا
صريح قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة المذكور في آخر هذه الأحاديث (كنت
نهيتكم عن الانتباذ الا في سقاء فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا) قوله في حديث
نصر بن علي الجهضمي (أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير والحنتم المزادة المحبوبة ولكن
اشرب في سقائك وأوكه) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا والحنتم المزادة المحبوبة وكذا نقله
القاضي عن جماهير رواة صحيح مسلم ومعظم النسخ قال ووقع في بعض النسخ والحنتم والمزادة
المحبوبة قال وهذا هو الصواب والأولى تغيير ووهم قال وكذا ذكره النسائي وعن الحنتم وعن
المزادة المحبوبة وفى سنن أبي داود والحنتم والدباء والمزادة المحبوبة قال وضبطناه في جميع هذه الكتب
المحبوبة بالجيم وبالباء الموحدة المكررة قال ورواه بعضهم المخنوثة بخاء معجمة ثم نون وبعد
الواو ثاء مثلثة كأنه أخذه من اختناث الأسقية المذكورة في حديث آخر وهذه الرواية ليست
بشئ والصواب الأول أنها بالجيم قال إبراهيم الحربي وثابت هي التي قطع رأسها فصارت كهيئة
الدن وأصل الجب القطع وقيل هي التي قطع رأسها وليست لها عزلاء من أسفلها يتنفس الشراب
منها فيصير شرابها مسكرا ولا يدرى به قوله صلى الله عليه وسلم (ولكن اشرب في سقائك وأوكه)
159

قال العلماء معناه أن السقاء إذا أوكى أمنت مفسدة الاسكان لأنه متى تغير نبيذه واشتد وصار
مسكرا شق الجلد الموكى فما لم يشقه لا يكون مسكرا بخلاف الدباء والحنتم والمزادة المجبوبة
والمزفت وغيرها من الأوعية الكثيفة فإنه قد يصير فيها مسكرا ولا يعلم قوله (حدثنا شيبان بن
فروخ حدثنا القاسم يعنى ابن الفضل) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا الفضل بغير ميم وكذا نقله
القاضي عن معظم نسخ بلادهم وهو الصواب ووقع في بعض نسخ المغاربة المفضل بالميم وهو خطأ
160

صريح وقد ذكره مسلم بعد هذا في باب الانتباذ للنبي صلى الله عليه وسلم على الصواب
161

باتفاق نسخ الجميع قوله (حدثنا محمد بن المثنى وذكر الاسناد الثاني إلى شعبة عن يحيى أبى عمر
البهراني) هكذا هو في معظم نسخ بلادنا يحيى أبى عمر بالكنية وهو الصواب وذكر القاضي
أنه وقع لجميع شيوخهم يحيى بن عمر بالباء والنون نسبة قال ولبعضهم يحيى بن أبي عمر
قال وكلاهما وهم وإنما هو يحيى بن عبيد أبو عمر البهراني وكذا جاء بعد هذا في باب
الانتباذ للنبي صلى الله عليه وسلم على الصواب قوله (نهى عن الجر) هو بمعنى الجرار
الواحدة جرة وهذا يدخل فيه جميع أنواع الجرار من الحنتم وغيره وهو منسوخ كما سبق
162

قوله (قلت يعنى لابن عباس وأي شئ نبيذ الجر فقال كل شئ يصنع من المدر) هذا
تصريح من ابن عباس بأن الجر يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر الذي هو التراب
163

قوله (ونهى عن النقير وهي النخلة تنسح نسحا أو تنقر نقرا) هكذا هو في معظم
الروايات والنسخ بسين وحاء مهملتين أي تقشر ثم نتقر فتصير نقيرا ووقع لبعض الرواة
في بعض نسخ تنسج بالجيم قال القاضي وغيره هو تصحيف وادعى بعض المتأخرين أنه وقع
في نسخ صحيح مسلم وفى الترمذي بالجيم وليس كما قال بل معظم نسخ مسلم بالحاء قوله (أخبرنا
عبد الخالق بن سلمة) هو بفتح اللام وكسرها سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح
165

قوله (ينبذ له في نور من حجارة) هو بالتاء المثناة فوق وفى الرواية الأخرى تور من برام وهو
بمعنى قوله من حجارة وهو قدح كبير كالقدر يتخذ تارة من الحجارة وتارة من النحاس وغيره
قوله في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في تور من حجارة فيه التصريح
بنسخ النهى عن الانتباذ في الأوعية الكثيفة كالدباء والحنتم والنقير وغيرها لأن تور الحجارة
أكثف من هذه كلها وأولى بالنهي منها فلما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم انتبذ له فيه دل على النسخ
166

وهو موافق لحديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم إلى آخره وقد ذكرناه
في أول الباب قوله صلى الله عليه وسلم (نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية
كلها ولا تشربوا مسكرا) وفى الرواية الثانية نهيتكم عن الظروف أو ظرفا
لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام وفى الرواية الثالثة كنت نهيتكم عن الأشربة
في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا قال القاضي هذه الرواية الثانية
فيها تغيير من بعض الرواة وصوابه كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم فحذف لفظة
إلا التي للاستثناء ولابد منها قال والرواية الأولى فيها تغيير أيضا وصوابها فاشربوا في الأوعية
كلها لأن الأسقية وظروف الأدم لم تزل مباحة مأذونا فيها وإنما نهى عن غيرها من
167

الأوعية كما قال في الرواية الأولى كنت نهيتكم عن الانتباذ الا في سقاء فالحاصل أن صواب
الروايتين كنت نهيتكم عن الانتباذ الا في سقاء فانتبذوا واشربوا في كل وعاء وما سوى
هذا تغيير من الرواة والله أعلم قوله (عن معرف بن واصل) هو بكسر الراء على المشهور
ويقال بفتحها حكاه صاحب المشارق والمطالع ويقال فيه معروف قوله (عن أبي
عياض عند عبد الله بن عمرو قال لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ) الحديث
هكذا هو في النسخ المعتمدة ببلادنا ومعظم النسخ عن عبد الله بن عمرو وبفتح العين من عمرو
بواو في الخط وهو ابن عمرو بن العاص ووقع في بعضها ابن عمر بضم العين يعنى ابن الخطاب
وذكر القاضي أن نسخهم أيضا اختلفت فيهم وأن أبا على الغساني قال المحفوظ ابن عمرو بن العاص
وقد ذكره الحميدي صاحب ابن عيينة وابن أبي شيبة كلاهما عن سفيان بن عيينة في مسند
ابن عمرو بن العاص وكذا ذكره البخاري وأبو داود وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين
ونسبه إلى رواية البخاري ومسلم وكذا ذكره جمهور المحدثين وهو الصحيح والله أعلم قوله
(لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية قالوا ليس كل الناس يجد فأرخص
لهم في الجر غير المزفت) هكذا هو في مسلم عن النبيذ في الأوعية وهو الصواب ووقع في غير
مسلم عن النبيذ في الأسقية وكذا نقله الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن رواية على المديني
168

عن سفيان بن عيينة قال الحميدي ولعله نقص منه فيكون عن النبيذ إلا في الأسقية قال وفى
رواية عبد الله بن محمد وأبى بكر بن أبي شيبة ومحمد بن أبي عمر عن سفيان عن النبيذ في الأوعية
وأما قوله (ليس كل الناس يجد) فمعناه يجد أسقية الأدم وأما قوله (فرخص لهم في الجر
غير المزفت) فمحمول على أنه رخص فيه أولا ثم رخص في جميع الأوعية في حديث بريدة
وغيره والله أعلم
باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام
قد سبق مقصود هذا الباب وذكرنا دلائله في الباب الأول مع مذاهب لناس فيه وهذه الأحاديث
المذكورة هنا صريحة في أن كل مسكر فهو حرام وهو خمر واتفق أصحابنا على تسمية جميع هذه
الأنبذة خمرا لكن قال أكثرهم هو مجاز وإنما حقيقة الخمر عصير العنب وقال جماعة منهم
هو حقيقة لظاهر الأحاديث والله أعلم قوله (سئل عن البتع) هو بباء موحدة مكسورة
ثم تاء مثناة فوق ساكنة ثم عين مهملة وهو نبيذ العسل وهو شراب أهل اليمن قال الجوهري
ويقال أيضا بفتح التاء المثناة كقمع وقمع قوله (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع
فقال كل شراب أسكر فهو حرام) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وفيه أنه يستحب
للمفتي إذا رأى بالسائل حاجة إلى غير ما سأل أن يضمه في الجواب إلى المسؤول عنه نظير هذا
169

الحديث حديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته قوله (ان شرابا يقال له المزر من الشعير) هو
بكسر الميم ويكون من الذرة ومن الشعير ومن الحنطة قوله (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه) أي ايجاز اللفظ مع تناوله المعاني الكثيرة جدا وقوله
(بخواتمه) أي كأنه يختم على المعاني الكثيرة التي تضمنها اللفظ اليسير فلا يخرج منها شئ عن
طالبه ومستنبطه لعذوبة لفظه وجزالته قوله (يطبخ حتى يعقد) هو بفتح الياء كسر القاف
يقال عقد العسل ونحوه وأعقدته قوله (حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان عن عمرو سمعه من
سعيد بن أبي بردة) هذا الاسناد استدركه الدارقطني وقال لم بتابع ابن عباد على هذا قال ولا يصح
170

هذا عن عمرو بن دينار قال وقد روى عن ابن عيينة عن مسعر ولم يثبت ولم يخرجه البخاري
171

من رواية ابن والله أعلم
172

باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة
قوله صلى الله عليه وسلم (من شرب الخمر في الدنيا لم شربها في الآخرة إلا أن يتوب) وفى رواية
حرمها في الآخرة معناه أنه يحرم شربها في الجنة وان دخلها فإنها من فاخر شراب الجنة فيمنعها
هذا العاصي بشرابها في الدنيا قيل إنه ينس شهوتها لأن الجنة فيها كل ما يشتهى وقيل لا يشتهيها
وان ذكرها ويكون هذا نقص نعيم في حقه تمييزا بينه وبين تارك شربها وفى هذا الحديث دليل
على أن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وهو مجمع عليه واختلف متكلموا أهل السنة في أن
تكفيرها قطعي أو ظني وهو الأقوى والله أعلم
باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا
فيه ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتبذ له أول الليل
فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجئ والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي
شئ سقاه الخادم أو أمر به فصب) والأحاديث الباقية بمعناه في هذه الأحاديث دلالة على جواز
173

الانتباذ وجواز شرب النبيذ ما دام حلوا لم يتغير ولم يغل وهذا جائز باجماع الأمة وأما سقيه
الخادم بعد الثلاث وصه فلأنه لا يؤمن بعد الثلاث تغيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتنزه
عنه بعد الثلاث قوله (سقاه الخادم أو صبه) معناه تارة يسقيه الخادم وتارة يصبه وذلك
الاختلاف لاختلاف حال النبيذ فإن كان لم يظهر فيه تغير ونحوه من مبادئ الاسكار سقاه
الخادم ولا يريقه لأنه مال تحرم إضاعته ويترك شربه تنزها وإن كان قد ظهر فيه شئ من
مبادئ الاسكار والتغير أراقه لأنه إذا أسكر صار حراما ونجسا فيراق ولا يسقيه الخادم لأن
المسكر لا يجوز سقيه الخادم كما لا يجوز شربه وأما شربه صلى الله عليه وسلم قبل الثلاث فكان
حيث لا تغير ولا مبادئ تغير ولا شك أصلا والله أعلم وأما قوله في حديث عائشة (ينبذ
غدوة فيشربه عشاء وينبذ عشاء فيشربه غدوة) فليس مخالفا لحديث ابن عباس في الشرب
إلى ثلاث لأن الشرب في يوم لا يمنع الزيادة وقال بعضهم لعل حديث عائشة كان زمن الحر
وحيث يخشى فساده في الزيادة على يوم وحديث ابن عباس في زمن يؤمن فيه التغير قبل الثلاث
وقيل حديث عائشة محمول على نبيذ قليل يفرغ في يومه وحديث ابن عباس في كثير لا يفرغ
فيه والله أعلم قوله (فإن فضل منه شئ) يقال بفتح الضاد وكسرها وقد سبق بيانه مرات
174

قوله (إلى مساء الثالثة) يقال بضم الميم وكسرها لغتان الضم أرجح قوله (عن زيد عن يحيى
النخعي) زيد هو ابن أبي أنيسة ويحيى النخعي هو يحيى البهراني المذكور في الرواية السابقة يقال
له البهراني النخعي الكوفي قوله (حدثنا القاسم يعنى ابن الفضل الحداني) هو بضم الحاء وتشديد
الدال المهملتين وهو منسوب إلى بنى حدان ولم يكن من أنفسهم بل كان نازلا فيهم وهو من بنى
175

الحارث بن مالك قولها (وأوكيه) أي أشده بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به رأس القربة قوله
(عن الحسن عن أمه) هو الحسن البصري وأمه اسمها خيرة وكانت مولاة لأم سلمة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم روى عنها ابناها الحسن وسعيد قولها (في سقاء يوكأ) هذا مما رأيته يكتب ويضبط
فاسدا وصوابه يوكى بالياء غير مهموز ولا حاجة إلى ذكر وجوه الفساد التي قد يوجد عليها قولها
(وله عزلاء) هي بفتح العين المهملة واسكان الزاي وبالمد وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة
والقربة قولها (فيشربه عشاء) هو بكسر العين وفتح الشين وبالمد وضبطه بعضهم عشيا بفتح
العين وكسر الشين وزيادة ياء مشددة قوله (أنقعت له تمرات في تور) هكذا هو في الأصول
أنقعت وهو صحيح يقال أنقعت ونقعت وأما التور فهو بفتح التاء المثناة فوق وهو اناء من الصفر
أو حجارة ونحوهما كالإجانة وقد يتوضأ منه قوله (عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال دعا
أبو أسيد الساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه فكانت امرأته يومئذ خادمتهم وهي
العروس قال سهل تدرون ما سقت رسول الله صلى الله عليه وسلم انقعت له تمرات من الليل في
176

تور فلما زكل سقته إياه) هذا محمول على أنه كان قبل الحجاب ويبعد حمله على أنها كانت مستورة
البشرة وأبو أسيد بضم الهمزة واسمه مالك تقدم ذكره قوله (أماثته فسقته تخصه بذلك)
هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول بلادنا أماثته بمثلثة ثم مثناة فوق يقال مائة وأمائه لغتان
مشهورتان وقد غلط من أنكر أماثه ومعناه عركته واستخرجت قوته وأذابته ومنهم من يقول
أي لينته وهو محمول على معنى الأول وحكى القاضي عياض أن بعضهم رواه أماثته بتكرير المثناة
وهو بمعنى الأول وقوله تخصه كذا هو في صحيح مسلم تخصه من التخصيص وكذا روى في
صحيح البخاري ورواه بعض رواة البخاري تتحفه من الاتحاف وهو بمعناه يقال أتحفته به إذا
خصصته وأطرفته وفى هذا جواز تخصيص صاحب الطعام بعض الحاضرين يفاخر من الطعام
والشراب إذا لم يتأذ الباقون لايثارهم المخصص لعلمه أو صلاحه أو شرفه أو غير ذلك كما كان
الحاضرون هناك يؤثرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسرون باكرامه ويفرحون بما جرى
وإنما شربه النبي صلى الله عليه وسلم لعلتين إحداهما اكرام صاحب الشراب واجابته التي
177

لا مفسدة فيها وفى تركها كسر قلبه والثانية بيان الجواز والله أعلم قوله في أجم بنى ساعدة) هو
بضم الهمزة والجيم وهو الحصن وجمعه آجام بالمد كعنق وأعناق قال أهل اللغة الآجام الحصون
قوله (فإذا امرأة منكسة رأسها) يقال نكس رأسه بالتخفيف فهو ناكس ونكس بالتشديد فهو منكس إذا
طأطأه وقوله صلى الله عليه وسلم (أعذتك منى) معناه تركتك وتركه صلى الله عليه وسلم
تزوجها لأنها لم تعجبه إما لصورتها وإما لخلقها واما لغير ذلك وفيه دليل على جواز نظر الخاطب
إلى من يريد نكاحها وفى الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استعاذكم بالله فأعيذوه
فلما استعاذت بالله تعالى لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدا من إعاذتها وتركها ثم إذا ترك شيئا
لله تعالى لا يعود فيه والله أعلم قوله (فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه قال ثم استوهبه
بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له) يعنى القدح الذي شرب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا فيه التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب وهذا نحو
ما أجمعوا عليه وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الروضة الكريمة ودخول الغار الذي دخله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من هذا
اعطاؤه صلى الله عليه وسلم أبا طلحة شعره ليقسمه بين الناس واعطاؤه صلى الله عليه وسلم حقوه
178

لتكفن فيه بنته رضي الله عنها وجعله الجريدتين على القبرين وجمعت بنت ملحان عرقه صلى الله
عليه وسلم وتمسحوا بوضوئه صلى الله عليه وسلم ودلكوا وجوههم بنخامته صلى الله عليه وسلم
وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح وكل ذلك واضح لاشك فيه قوله (سبقت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن) المراد بالنبيذ ههنا ما سبق
تفسيره في أحاديث الباب وهو ما لم ينته إلى حد الاسكار وهذا متعين لقوله صلى الله عليه وسلم
في الأحاديث السابقة كل مسكر حرام والله أعلم
باب جواز شرب اللبن
فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه (قال لما خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مررنا
براع وقد عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبت له كثبة من لبن فأتيته بها فشرب حتى رضيت) وفيه
الرواية الأخرى وحديث أبي هريرة الكثبة بضم الكاف واسكان الثاء المثلثة وبعدها موحدة وهو
الشئ القليل وقوله فشرب حتى رضيت معناه شرب حتى علمت أنه شرب حاجته وكفايته وقوله
179

مررنا براعي هكذا هو في الأصول براعي بالياء وهي لغة قليلة والأشهر براع وأما شربه صلى الله عليه وسلم
من هذا اللبن وليس صاحبه حاضرا لأنه كان راعيا لرجل من أهل المدينة كما جاء في الرواية الأخرى
وقد ذكرها مسلم في آخر الكتاب والمراد بالمدينة هنا مكة وفى رواية لرجل من قريش
فالجواب عنه من أوجه أحدهما أن هذا كان رجلا حربيا لا أمان له فيجوز لاستيلاء على ماله
والثاني يحتمل أنه كان رجلا يدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكره شربه صلى الله عليه وسلم
من لبنه والثالث لعله كان في عرفهم مما يتسامحون به لكل أحد ويأذنون لرعاتهم ليسقوا من يمر بهم
والرابع أنه كان مضطرا قوله (سراقة ابن مالك بن جعشم) هو بضم الجيم والشين المعجمة واسكان
العين بينهما ويقال بفتح الشين حكاه الجوهري في الصحاح عن الفراء والصحيح المشهور ضمها
قوله (فساخت فرسه) هو بالسين المهملة والخاء المعجمة ومعناه نزلت في الأرض وقبضتها
الأرض وكان في جلد من الأرض كما جاء في الرواية الأخرى وقوله (فقال ادعوا الله لي
ولا أضرك فدعا له) هكذا وقع في بعض الأصول ادعو الله لفظ التثنية للنبي صلى الله عليه
وسلم وأبى بكر رضي الله عنه وفى بعضها ادع بلفظ الواحد وكلاهما ظاهر وقوله فدعا له ثمامة
فانطلق كما جاء في غير هذا الرواية وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (ان
180

النبي صلى الله عليه وسلم أتى ليلة أسرى به بايلياء بقدحين من خمر ولبن فنظر اليهما فأخذ اللبن
فقال له جبريل الحمد لله الذي هداك للفطرة لو أخذت الخمر غوت أمتك) قوله بايلياء هو
بيت المقدس وهو بالمد ويقال إلياء بحذف الياء الأولى وقد سبق بيانه وفى هذا
الرواية محذوف تقديره أتى بقدحين فقيل له اختر أيهما شئت كما جاء مصرحا به في البخاري وقد
ذكره مسلم في كتاب الايمان في أول الكتاب فألهمه الله تعالى اختيار اللبن لما أراده سبحانه
وتعالى من توفيق هذه الأمة واللطف بها فلله الحمد والمنة وقول جبريل عليه والسلام أصبت الفطرة
قيل في معناه أقوال المختار منها أن الله تعالى أعلم جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم ان اختار
اللبن كان كذا وان اختار الخمر كان كذا وأما الفطرة فالمراد بها هنا الاسلام والاستقامة وقد
181

قدمنا شرح هذا كله وبيان الفطرة وسبب اختيار اللبن في أول الكتاب في باب الاسراء من كتاب
الايمان وقوله الحمد لله فيه استحباب حمد الله عند تجدد النعم وحصول ما كان الانسان يتوقع حصوله
واندفاع ما كان يخاف وقوعه قوله غوت أمتك معناه ضلت وانهمكت في الشر والله أعلم
باب استحباب تخمير الاناء وهو تغطيته وإيكاء السقاء
(وإغلاق الأبواب وذكر اسم الله تعالى عليها وإطفاء السراج
(والنار عند النوم وكف الصبيان والمواشي بعد المغرب
فيه أبو حميد رضي الله عنه أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن من النقيع ليس مخمرا فقال
ألا خمرته ولو تعرض عليه عودا وفيه الأحاديث الباقية بما ترجمنا عليه قوله (من النقيع
روى بالنون والياء حكاهما القاضي عياض والصحيح الأشهر الذي قاله الخطابي والأكثرون
بالنون وهو موضع بوادي العقيق وهو الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله (وليس مخمرا)
أي ليس مغطى والتخمير التغطية ومنه الخمر لتغطيتها على العقل وخمار المرأة لتغطية رأسها وقوله
صلى الله عليه وسلم (ولو تعرض عليه عودا) المشهور في ضبطه تعرض بفتح التاء وضم الراء وهكذا
قال الأصمعي والجمهور ورواه أبو عبيد بكسر الراء والصحيح الأول ومعناه تمده عليه عرضا
أي خلاف الطول وهذا عند عدم ما يغطيه به كما ذكره في الرواية بعده ان لم يجد أحدكم الا أن
182

يعرض على إنائه عودا أو يذكر اسم الله فليفعل فهذا ظاهر في أنه إنما يقتصر على العود عند
عدم ما يغطيه به وذكر العلماء للأمر بالتغطية وفوائد منها الفائدتان اللتان وردتا في هذه الأحاديث
وهما صيانته من الشيطان فإن الشيطان لا يكشف غطاء ولا يحل سقاء وصيانته من الوباء الذي
ينزل في ليلة من السنة والفائدة الثالثة صيانته من النجاسة والمقذرات والرابعة صيانته من الحشرات
والهوام فربما وقع شئ منها فيه فشربه وهو غافل أو في الليل فيتضرر به والله أعلم قوله (قال
أبو حميد وهو الساعدي راوي هذا الحديث إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلا وبالأبواب أن تغلق
ليلا) هذا الذي قاله أبو حميد من تخصيصها بالليل ليس في اللفظ ما يدل عليه والمختار عند الأكثرين
من الأصوليين وهو مذهب الشافعي وغيره رضي الله عنهم أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف
ظاهر اللفظ ليس بحجة ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره وأما إذا لم يكن في ظاهر
الحديث ما يخالفه بأن كان مجملا فيرجع إلى تأويله ويجب الحمل عليه لأنه إذا كان مجملا لا يحل له
حمله على شئ إلا بتوقيف وكذا لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي عند الشافعي والأكثرين
والأمر بتغطية الإناء عام فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي بل يتمسك بالعموم وقوله في حديث
جابر فجاء بقدح نبيذ هو محمول على ما سبق في الباب السابق أنه نبيذ لم يشتد ولم يصر مسكرا
قوله (عن الأعمش عن أبي سفيان) اسم أبي سفيان طلحة بن نافع تابعي مشهور سبق
183

بيانه مرات قوله صلى الله عليه وسلم (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم)
المراد بالفويسقة الفأرة وتضرم بالتاء واسكان الضاد أي تحرق سريعا قال أهل اللغة ضرمت
النار بكسر الراء وتضرمت وأضرمت أي التهمت وأضرمتها أنا وضرمتها قول مسلم رحمه الله
(ولم يذكر تعريض العود على الاناء) هكذا هو في أكثر الأصول وفى بعضها تعرض فأما هذه
فظاهرة وأما تعرض ففيه تسمح في العبارة والوجه أن يقول ولم يذكر عرض العود لأنه المصدر
الجاري على تعرض والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا
صبيانكم فان الشيطان ينتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الباب واذكروا
184

اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا وأكوا قربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا
اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا) هذا الحديث فيه جمل من أنواع الخير والأدب الجامعة
لمصالح الآخرة والدنيا فأمر صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب التي هي سبب للسلامة من ايذاء
الشيطان وجعل الله عز وجل هذه الأسباب أسبابا للسلامة من ايذائه فلا يقدر على كشف اناء
ولا حل سقاء ولا فتح باب ولا ايذاء صبي وغيره إذا وجدت هذه الأسباب وهذا كما جاء في الحديث
الصحيح أن العبد إذا سمى عند دخول بيته قال الشيطان لا مبيت أي لا سلطان لنا على المبيت عند
هؤلاء وكذلك إذا قال الرجل عند جماع أهله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا كان
سبب سلامة المولود من ضرر الشيطان وكذلك شبه هذا مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة
وفى هذا الحديث الحث على ذكر الله تعالى في هذه المواضع ويلحق بها في معناها قال أصحابنا
يستحب أني ذكر اسم الله تعالى على كل أمر
ذي بال للحديث الحسن المشهور فيه قوله (جنح الليل) هو بضم الجيم وكسرها لغتان مشهورتان
وهو ظلامه يقال أجنح الليل أي أقبل ظلامه وأصل الجنوح الميل قوله صلى الله عليه وسلم
(فكفوا صبيانكم) أي امنعوهم من الخروج ذلك الوقت قوله صلى الله عليه وسلم (فإن الشيطان
ينتشر) أي جنس الشيطان ومعناه أنه يخاف على الصبيان ذلك الوقت من ايذاء الشياطين لكثرتهم
185

حينئذ والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس
حتى تذهب فحمة العشاء) قال أهل اللغة الفواشى كل منتشر من المال كالإبل والغنم وسائر البهائم
وغيرها وهي جمع فاشية لأنها تفشو أي تنتشر في الأرض وفحمة العشاء ظلمتها وسوادها وفسرها
بعضهم هنا باقباله وأول ظلامه وكذا ذكره صاحب نهاية الغريب قال ويقال للظلمة التي بين
صلاتي المغرب والعشاء الفحمة وللتي بين العشاء والفجر العسعسة قوله صلى الله عليه وسلم
(فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء) وفى الرواية الأخرى يوما بدل ليلة قال الليث فالأعاجم عندنا
يتقون ذلك في كانون الأول الوباء يمد ويقصر لغتان حكاهما الجوهري وغيره والقصر أشهر
186

قال الجوهري جمع المقصور أوباء وجمع الممدود أوبية قالوا والوباء مرض عام يفضى إلى الموت
غالبا وقوله (يتقون ذلك) أي يتوقعونه ويخافونه وكانون غيره مصروف لأنه علم أعجمي وهو
الشهر المعروف وأما قوله في الرواية يوما وفى رواية ليلة فلا منافاة بينهما إذ ليس في أحدهم نفى
الآخر فهما ثابتان وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) هذا
عام تدخل فيه نار السراج وغيرها وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها
دخلت في الأمر بالاطفاء وان أمن ذلك كما هو الغالب فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة لأن النبي
صلى الله عليه وسلم علل الأمر بالاطفاء في الحديث السابق بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم
فإذا انتفت العلة زال المنع قوله (سعيد بن عمر الأشعثي) تقدم مرات أنه منسوب إلى جده الأعلى
الأشعث بن قيس قوله (بريدة عن أبي بردة) تقدم أيضا مرات أنه بضم الموحدة والله أعلم
باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما
قوله (عن الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة رضي الله عنه قال كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه
187

وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده إلى آخره) هذا الاسناد فيه
ثلاثة تابعيون كوفيون بعضهم عن بعض الأعمش عن خيثمة وهو خيثمة بن عبد الرحمن العبد الصالح
وأبو حذيفة واسمه سلمة بن صهيب وقيل ابن صهيبة وقيل ابن صهبان وقيل ابن صهبة وقيل ابن
صهيبة الهمداني الأرحبي بالحاء المهملة وبالموحدة وقوله (لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم) فيه بيان هذا الأدب وهو أنه يبدأ الكبير والفاضل في غسل اليد للطعام
وفى الأكل قوله فجاءت جارية كأنها تدفع) وفى الرواية الأخرى كأنها تطرد يعنى لشدة
سرعتها فذهبت لتضع يدها في الطعام نأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ثم جاء أعرابي
كأنما يدفع بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر
اسم الله تعالى عليه وانه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به
فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها ثم زاد في الرواية الأخرى في آخر
الحديث ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل في هذا الحديث فوائد منها جواز الحلف من غير
استحلاف وقد تقدم بيانه مرات وتفصيل الحال في استحبابه وكراهته ومنها استحباب التسمية
في ابتداء الطعام وهذا مجمع عليه وهذا يستحب حمدا لله تعالى في آخره كما سيأتي في موضعه
إن شاء الله تعالى وكذا تستحب التسمية في أول الشراب بل في أول كل أمر ذي بال كما ذكرنا
قريبا قال العلماء ويستحب أن يجهر بالتسمية ليسمع غيره وينبهه عليها ولو ترك التسمية
في أول الطعام عامدا أو ناسيا أو جاهلا أو مكرها أو عاجزا لعارض آخر ثم تمكن في اثنا
أكله منها يستحب أن يسمى ويقوله بسم الله أوله وآخره لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أكل
188

أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي أن يذكر الله في أوله وآخره رواه أبو داود
والترمذي وغيرهما قال الترمذي حديث صحيح والتسمية في شرب الماء واللبن والعسل
والمرق والدواء وسائر المشروبات كالتسمية على الطعام في كل ما ذكرناه وتحصيل التسمية بقوله
بسم الله فإن قال بسم الله الرحمن الرحيم كان حسنا وسواء في استحباب التسمية الجنب والحائض
وغيرهما وينبغي أن يسمى كل واحد من الآكلين فان سمى واحد منهم حصل أصل السنة نص
عليه الشافعي رضي الله عنه ويستدل له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطان إنما
يتمكن من الطعام إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليه ولأن المقصود يحصل بواحد ويؤيده أيضا
ما سيأتي في حديث الذكر عند دخول البيت وقد أوضحت هذه المسائل وما يتعلق بها في كتاب
أذكار الطعام والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إن يده في يدي مع يدها) هكذا هو
في معظم الأصول يدها وفى بعضها يدهما فهذا ظاهر والتثنية تعود إلى الجارية والأعرابي
ومعناه إن يدي في يد الشيطان مع يد الجارية والأعرابي وأما على رواية يدها بالافراد فيعود
الضمير على الجارية وقد حكى القاضي عياض رضي الله عنه أن الوجه التثنية والظاهر أن
رواية الأفراد أيضا مستقيمة فان إثبات يدها لا ينفى يد الأعرابي وإذا صحت الرواية بالافراد
وجب قبولها وتأويلها على ما ذكرناه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يستحل
الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه) معنى يستحل يتمكن من أكله ومعناه أنه يتمكن من
189

أكل الطعام إذا شرع فيه انسان بغير ذكر الله تعالى وأما إذا لم يشرع فيه أحد فلا يتمكن
وإن كان جماعة فذكر اسم الله بعضهم دون بعض لم يتمكن منه ثم الصواب الذي عليه جماهير
العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه من الأحاديث
الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظواهرها وأن الشيطان يأكل حقيقة إذ العقل لا يحيله
والشرع لم ينكره بل أثبته فوجب قبوله واعتقاده والله أعلم قوله في الرواية الثانية وقدم مجئ
الأعرابي قبل مجئ الجارية عكس الرواية الأولى والثالثة كالأولى ووجه الجمع بينهما أن المراد
بقوله في الثانية قدم مجئ الأعرابي أنه قدمه في اللفظ بغير حرف ترتيب فذكره بالواو فقال
جاء أعرابي وجاءت جارية والواو لا تقتضي ترتيبا وأما الرواية الأولى فصريحة في الترتيب
وتقديم الجارية لأنه قال ثم جاء أعرابي وثم للترتيب فيتعين حمل الثانية على الأولى ويبعد حمله
على واقعتين وقوله صلى الله عليه وسلم (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله
وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله
قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء)
معناه قال الشيطان لاخوانه وأعوانه ورفقته وفى هذا استحباب ذكر الله تعالى عند دخول
190

البيت وعند الطعام قوله صلى الله عليه وسلم (لا تأكلوا بالشمال فان الشيطان يأكل
بالشمال) وفى رواية ابن عمر رضي الله عنه إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب
فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وكان نافع يزيد فيها ولا يأخذ بها
ولا يعطى بها فيه استحباب الأكل والشرب باليمين وكراهتهما بالشمال وقد زاد نافع الأخذ
والاعطاء وهذا إذا لم يكن عذر فإن كان عذر يمنع الأكل والشرب باليمين من مرض أو جراحة
191

أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال وفيه أنه ينبغي اجتناب الأفعال التي تشبه أفعال الشياطين
وأن للشياطين يدين قوله (ان رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال كل
بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال فما رفعها إلى فيه) هذا الرجل هو
بسر بضم الباء وبالسين المهملة ابن راعى العير بفتح العين وبالمثناة الأشجعي كذا ذكره ابن منده
وأبو نعيم الأصبهاني وابن ماكولا وآخرون وهو صحابي مشهور عده هؤلاء وغيرهم في الصحابة
رضي الله عنهم وأما قول القاضي عياض رضي الله عنه أن قوله ما منعه إلا الكبر يدل على أنه كان
منافقا فليس بصحيح فان مجرد الكبر والمخالفة لا يقتضى النفاق والكفر لكنه معصية إن كان
الأمر أمر ايجاب وفى هذا الحديث جواز الدعاء على من خالف الحكم الشرعي بلا عذر وفيه
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في كل حال حتى في حال الاكل واستحباب تعليم الآكل
آداب الأكل إذا خالفه كما في حديث عمر بن أبي سلمة الذي بعد هذا قوله (عن عمر بن أبي
192

سلمة رضي الله عنه قال كنت في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة
فقال لي يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) قوله تطيش بكسر الطاء وبعدها مثناة تحت
ساكنة أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد والصحفة دون
القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة فالقصعة تشبع عشرة كذا قاله الكسائي فيما حكاه الجوهري
وغيره عنه وقيل الصحفة كالقصعة وجمعها صحاف وفى هذا الحديث بيان ثلاث سنن من سنن
الأكل وهي التسمية والأكل باليمين وقد سبق بيانهما والثالثة الأكل مما يليه لأن أكله من موضع
يد صاحبه سوء عشرة ترك مروءة قفد يتقذره صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها وهذا في الثريد
والأمراق وشبهها فإن كان تمرا أو أجناسا فقد نقلوا إباحة اختلاف الأيدي في الطبق ونحوه
والذي ينبغي تعميم انتهى حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص قوله (محمد بن عمرو
ابن حلحلة) هو بفتح الحاءين المهملتين واسكان اللام بينهما والله أعلم قوله (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية) قال في الرواية الأخرى واختناثها أن يقلب رأسها حتى
193

يشرب منه الاختناث بخاء معجمة ثم تاء مثناة فوق ثم نون ثم ألف ثم مثلثة وقد فسره
في الحديث وأصل هذه الكلمة التكسر والانطواء ومنه سمى الرجل المتشبه بالنساء في
طبعه وكلامه وحركاته مخنثا واتفقوا على أن النهى عن اختناثها نهى تنزيه لا بحريم ثم قيل
سببه أنه لا يؤمن أن يكون في البقاء ما يؤذيه فيدخل في جوفه ولا يدرى وقيل لأنه يقذره على
غيره وقيل أنه ينتنه أو لأنه مستقذر وقد روى الترمذي وغيره عن كبشة بنت ثابت وهي أخت
حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنهما قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب
من قربة معلقة لوجهين قائما فقمت إلى فيها فقطعته قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقطع لفم
القربة فعلته لوجهين أحدهما أن تصون موضعا أصابه فم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن
يبتذل ويمسه كل أحد والثاني أن تحفظه التبرك به والاستشفاء والله أعلم فهذا الحديث يدل على
أن النهى ليس للتحريم والله أعلم
باب في الشرب قائما
فيه حديث قتادة (عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما) وفى
194

رواية نهى عن الشرب قائما قال قتادة قلنا فالأكل أشر أو أخبث وفى رواية عن قتادة عن أبي
عيسى الأسواري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما
وفى رواية عنهم نهى عن الشرب قائما وفى رواية عن عمر بن حمزة قال أخبرني أبو غطفان المري أنه سمع
أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشربن أحدكم قائما فمن نسي فليستقي وعن
ابن عباس سيقت رسول الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم وفى الرواية الأخرى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم وفى صحيح البخاري أن عليا رضي الله عنه
شرب قائما وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت على أن هذه الأحاديث
أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة وزاد حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها
وادعى فيها دعاوى باطلة لا غرض لنا في ذكرها ولاوجه لإشاعة الأباطيل والغلطات في تفسير
السنن بل نذكر الصواب ويشار إلى التحذير من الاغترار بما خالفه وليس في هذه الأحاديث بحمد الله
تعالى اشكال ولا فيها ضعف بل كلها صحيحة والصواب فيها أن النهى فيها محمول على كراهة التنزيه
وأما شربه صلى الله عليه وسلم قائما فبيان للجواز فلا اشكال ولا تعارض وهذا الذي ذكرناه يتعين
المصير إليه وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط غلطا فاحشا وكيف يصار إلى النسخ مع امكان الجمع
بين الأحاديث لو ثبت التاريخ وأنى له بذلك والله أعلم فان قيل كيف يكون الشرب قائما مكروها
وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانا للجواز لا يكون
مكروها بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا كان بيانا للجواز لا يكون
عليه وسلم توضأ مرة مرة وطاف على بعير مع أن الاجماع على أن الوضوء ثلاث ثلاثا والطواف
ماشيا أكمل ونظائر هذا غير منحصرة فكان صلى الله عليه وسلم ينبه على جواز الشئ مرة أو مرات
ويواظب على الأفضل منه وهكذا كان أكثر وضوئه صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثلاثا وأكثر طوافه
ماشيا وأكثر شربه جالسا وهذا واضح لا يتشكك فيه من له أدنى نسبة إلى علم والله أعلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (فمن نسي فليستقئ) فمحمول على الاستحباب والندب فيستحب لمن شرب
قائما أن يتقايأه لهذا الحديث الصحيح الصريح فان الأمر إذا تعذر حمله على الوجوب حمل
على الاستحباب وأما قول القاضي عياض لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيا ليس عليه
ان يتقايأه فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارة وكون أهل العلم لم يوجبوا
195

الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة فان ادعى مدع منع الاستحباب فهو مجازف لا يلتفت إليه
فمن أين له الاجماع على منع الاستحباب وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات
والدعاوى والترهات ثم اعلم أنه تستحب الاستقاءة لمن شرب قائما ناسيا أو متعمدا وذكر
الناسي في الحديث ليس المراد به أن القاصد يخالفه بل للتنبيه به على غيره بطريق الأولى لأنه
إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المخاطب المكلف أولى وهذا واضح لاشك فيه
لا سيما على مذهب الشافعي والجمهور في أن القاتل عمدا تلزمه الكفارة وأن قوله تعالى " قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة " لا يمنع وجوبها على العامد بل للتنبيه والله أعلم وأما ما يتعلق بأسانيد
الباب وألفاظه فقال مسلم حدثنا هداب بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس رضى الله
تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحدثنا محمد بن مثنى حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد
عن قتادة عن أنس هذان الاسنادان بصريون كلهم وقد سبق مرات أن هدابا يقال فيه هدبة
وأن أحدهما اسم والآخر لقب واختلف فيهما وسعيد هذا هو ابن أبي عروبة وقوله (قال
قتادة قلنا يعنى لأنس فالأكل قال أشر وأخبث) هكذا وقع في الأصول أشر بالألف
والمعروف في العربية شر بغير ألف وكذلك خير قال الله تعالى وقال الجنة يومئذ خير
مستقرا تعالى " من هو شر مكانا " ولكن هذه اللفظة وقعت هنا على الشك فإنه
قال أشر وأخبث فشك قتادة في أن أنسا قال أشر أو قال أخبث فلا يثبت عن أنس أشر بهذه
الرواية فان جاءت هذه اللفظة بلا شك وثبتت عن أنس فهو عربي فصيح فهي لغة وان كانت
قليلة الاستعمال ولهذا نظائر مما لا يكون معروفا عند النحويين وجاريا على قواعدهم وقد صحت
به الأحاديث فلا ينبغي رده إذا ثبت بل يقال هذه لغة قليلة الاستعمال ونحو هذا من العبارات
وسببه أن النحويين لم يحيطوا إحاطة قطعية بجميع كلام العرب ولهذا يمنع بعضهم ما ينقله غيره
196

عن العرب كما هو معروف والله أعلم وقوله (عن أبي عيسى الأسواري) هو بضم الهمزة
وحكى كسرها والذي ذكره السمعاني وصاحبا المشارق والمطالع هو الضم فقط قال أبو علي
الغساني والسمعاني وغيرهما لا يعرف اسمه قال الإمام أحمد بن حنبل لا نعلم أحدا روى عنه
غير قتادة وقال الطبراني هو بصرى ثقة وهو منسوب إلى الأسوار وهو الواحد من أساورة
الفرس قال الجوهري قال أبو عبيدة هو الفرسان قال والأساورة أيضا قوم من العجم بالبصرة
نزولها قديما كالأخامرة بالكوفة قوله (أبو غطفان المري) هو بضم الميم وتشديد الراء
197

ولا يعرف اسمه وفيه سريج بن يونس تقدم معناه مرات أنه بالمهملة والجيم قوله (واستسقى
وهو عند البيت) معناه طلب وهو عند البيت ما يشربه والمراد بالبيت الكعبة زادها الله شرفا
باب كراهة التنفس في نفس الاناء
(واستحباب التنفس ثلاثا خارج الاناء)
فيه حديث (نهى أن يتنفس في الاناء) وحديث كان يتنفس في الاناء ثلاثا وفى رواية
198

في الشراب ويقول إنه أروى وأبرأ وأمرأ هذان الحديثان محمولان على ما ترجمناه لهما فالأول
محمول على أول الترجمة والثاني على آخرها وقوله صلى الله عليه وسلم (أروى) من الري
أي أكثر ريا وأمرأ وأبرأ مهموزان معنى أبرأ أي أبرأ من ألم العطش وقيل أبرأ أي أسلم
من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد ومعنى أمرأ أي أجمل انسياغا والله أعلم
قوله (عن أبي عصام عن أنس) اسم أبى عصام خالد بن أبي عبيد وقوله في الحديث الثاني (كان يتنفس في الاناء أو في الشراب) معناه في أثناء شربه من الاناء أو في أثناء شربه
الشراب والله أعلم
باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما على يمين المبتدى
فيه أنس رضى الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلبن قد شيب بماء وعن
يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر الصديق فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال الأيمن فالأيمن
وفى الرواية الأخرى فقال له عمر وأبو بكر عن شماله يا رسول الله اعط أبا بكر فأعطاه أعرابيا
عن يمينه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمن فالأيمن وفى الرواية الأخرى والأيمنون الأيمنون
الأيمنون قال أنس فهي سنة فهي سنة وفى الرواية الأخرى أتى بشراب فشرب منه
وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ فقال للغلام أتأذن لي أن أعطى هؤلاء فقال الغلام لا والله
لا أوثر بنصيبي منك أحد فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده في هذه الأحاديث
199

بيان هذه السنة الواضحة وهو موافق لما تظاهرت عليه دلائل الشرع من استحباب التيامن
في كل ما كان من أنواع الاكرام وفيه أن الأيمن في الشراب ونحوه يقدم وإن كان صغيرا أو
مفضولا لأن رسول الله صلى عليه وسلم قدم الأعرابي والغلام على أبى بكر رضى الله تعالى عنه
وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف ولهذا يقدم الأعلم والأقرأ
على الأسن النسيب في الإمامة في الصلاة وقوله (شيب) أي خلط وفيه جواز ذلك وإنما
200

ونهى عن شوبه إذا أراد بيعه لأنه غش قال العلماء والحكمة في شوبه أن يبرد أو يكثر أو للمجموع
وقوله (فتله في يده) أي وضعه فيها وقد جاء في مسند أبى بكر بن أبي شيبة أن هذا الغلام هو
عبد الله بن عباس ومن الأشياخ خالد بن الوليد رضي الله عنه قيل إنما استأذن الغلام دون
الأعرابي إدلالا على الغلام وهو ابن عباس وثقة بطيب نفسه بأصل الاستئذان لا سيما والأشياخ
أقاربه قال القاضي عياض وفى بعض الروايات عمك وابن عمك أتأذن لي أن أعطيه وفعل ذلك
أيضا تألف لقلوب الأشياخ واعلاما بودهم وايثار كرامتهم إذا لم تمنع منها سنة وتضمن ذلك أيضا بيان
هذه السنة وهي أن الأيمن أحق ولا يدفع إلى غيره إلا بأذنه وأنه لا بأس باستئذان وزنه لا يلزمه الأذن
وينبغي له أيضا أن لا يأذن إن كان فيه تفويت فضيلة أخروية ومصلحة دينية كهذه الصورة وقد نص
أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يؤثر في القرب وإنما الايثار المحمود ما كان في حظوظ النفس
دون الطاعات قالوا فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذلك نظائره وأما الأعرابي
201

فلم يستأذنه مخافة من ايحاشه في استئذان في صرفة إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم وربما سبق
إلى قلب ذلك الأعرابي شئ يهلك به لقرب عهده بالجاهلية وأنفتها وعدم تمكنه في معرفته خلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تظاهرت النصوص على تألفه صلى الله عليه وسلم قلب من
يخاف عليه وفى هذه الأحاديث أنواع من العلم منها أن البداءة باليمين في الشراب ونحوه سنة وهذا
مما لا خلاف فيه ونقل عن مالك تخصيص ذلك بالشراب قال ابن عبد البر وغيره لا يصح هذا
عن مالك قال القاضي عياض يشبه أن يكون قول مالك رحمه الله تعالى أن السنة وردت في
الشراب خاصة وإنما يقدم الأيمن فالأيمن في غيره بالقياس لا بسنة منصوصة فيه وكيف كان
فالعلماء متفقون على استحباب التيامن في الشراب وأشباهه وفيه جواز شرب اللبن المشوب
وفيه أن من سبق إلى موضع مباح أو مجلس العالم والكبير فهو أحق به ممن يجئ بعده والله أعلم
قوله (عن أنس رضي الله عنه وكن أمهاتي يحثثني على خدمته) المراد بأمهاته أمه أم سليم وخالته
أم حرام وغيرهما من محارمه فاستعمل لفظ الأمهات في حقيقته ومجازه وهذا على مذهب
الشافعي رحمه الله والقاضي أبى بكر الباقلاني وغيرهما ممن يجوز اطلاق اللفظ الواحد على حقيقته
ومجازه وقوله كن أمهاتي على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة صحيحة وان كانت قليلة الاستعمال وقد
تقدم ايضاحها عند قوله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة ونظائره والله أعلم قوله (فحلبنا
له من شاة داجن) هي بكسر الجيم وهي التي تعلف في البيوت يقال دجنت تدجن دجونا
ويطلق الداجن أيضا على كل ما يألف البيت من طير وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم (الأيمن
فالأيمن) ضبط بالنصب والرفع وهما صحيحان النصب على تقدير أعطى الأيمن والرفع على تقدير
الأيمن أحق أو نحو ذلك وفى الرواية الأخرى الأيمنون وهو يرجح الرفع وقول عمر رضي الله عنه
يا رسول الله اعط أبا بكر إنما قاله للتذكير بأبى بكر مخافة من نسيانه واعلاما لذلك الأعرابي
الذي على اليمن بجلالة أبى بكر رضي الله عنه قوله (عن أبي طوالة) هو بضم الطاء هذا هو
الصحيح المشهور وحكى صاحب المطالع ضمها وفتحها قالوا ولا يعرف في المحدثين من يكنى
أبا طوالة غيره وقد ذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى المفردة قوله (وعمر رضي الله عنه وجاهه)
202

هو بضم الواو وكسرها لغتان أي قدامه مواجها له قوله (يعقوب بن عبد الرحمن القاري)
هو بشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة وقد سبق بيانه مرات والله أعلم
باب استحباب لعق الأصابع والقصعة وأكل اللقمة الساقطة
(بعد مسح ما يصيبها من أذى وكراهة مسح اليد قبل لعقها لاحتمال)
(كون بركة الطعام في ذلك الباقي وأن السنة الأكل بثلاثة أصابع)
(فيه صلى الله عليه وسلم (إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها)
وفي الرواية الأخرى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع ويلعق يده قبل
أن يمسحها وفى رواية يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها وفى رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال إنكم لا تدرون في أية البركة وفى رواية إذا وقعت لقمة
أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل
حتى يعلق أصابعه فإنه لا يدرى في أي طعامه البركة وفى رواية ان الشيطان يحضر أحدكم عند
كل شئ من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط وذكر نحو
ما سبق وفي رواية وأمرنا أن نسلت القصعة وفى رواية وليسلت أحدكم الصفحة في هذه
الأحاديث أنواع من سنن الأكل منها استحباب لعق اليد محافظة على بركة الطعام وتنظيفا لها
واستحباب الأكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا لعذر بأن يكون مرقا
203

وغيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الأعذار واستحباب لعق القصعة وغيرها واستحباب
أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها هذا إذا لم تقع على موضع نجس فان وقعت على موضع
نجس تنجست ولابد من غسلها إن أمكن فإن تعذر أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان ومنها
اثبات الشياطين وأنهم يأكلون وقد تقدم قريبا ايضاح هذا ومنها جواز مسح اليد بالمنديل لكن
204

السنة أن يكون بعد لعقها وقوله صلى الله عليه وسلم (ان الشيطان يحضر أحدكم عند كل شئ من
شأنه) فيه التحذير منه والتنبيه على ملازمته للانسان في تصرفاته فينبغي أن يتأهب ويحترز منه ولا
205

يغتر بما يرينه له وقوله صلى الله عليه وسلم (يلعقها أو يلعقها) معناه والله أعلم لا يمسح يده حتى يلعقها فإن لم يفعل فحتى
يلعقها غيره ممن لا يتقذر ذلك كزوجة وجارية وولد وخادم يحبونه ويلتذون
بذلك ولا يتقذرون وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد بركته ويود التبرك بلعقها وكذا
لو ألعقها شاة ونحوها والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم (لا تدرون في أية البركة) معناه والله أعلم
أن الطعام الذي يحضره الانسان فيه بركة ولا يدرى أن تلك البركة فيما أكله أو فيما بقي على
أصابعه أو في ما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل
البركة وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والامتاع به والمراد هنا والله أعلم ما يحصل به التغذية
وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله تعالى وغير ذلك قوله (أن عبد الرحمن بن كعب
ابن مالك أو عبد الله بن كعب أخبره عن أبيه) هذا قد تقدم مثله مرات وذكرنا أنه لا يضر
الشك في الراوي إذا كان الشك بين ثقتين لأن ابني كعب هذين ثقتان قوله صلى الله عليه وسلم
(فليمط ما كان بها من أذى ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعقها) أما يمط فبضم الياء ومعناه
يزيل وينحى وقال الجوهري حكى أبو عبيد ماطه وأماطه نحاه وقال الأصمعي أماطه لاغير
ومنه إماطة الأذى ومطت أنا عنه أي تنحيت والمراد بالأذى هنا المستقذر من غبار وتراب
وقذى ونحو ذلك فان كانت نجاسة فقد ذكرنا حكمها وأما المنديل فمعروف وهو بكسر الميم قال
ابن فارس في المجمل لعله مأخوذ من الندل وهو النقل وقال غيره هو مأخوذ من الندل وهو
الوسخ لأنه يندل به قال أهل اللغة يقال تندلت بالمنديل قال الجوهري ويقال أيضا تمندلت قال
وأنكر الكسائي تمندلت قوله (أخبرنا أبو داود الحفري) هو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين
206

واسمه عمر بن سعد منسوب إلى حفر موضع بالكوفة قوله (عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر
اسم أبي سفيان طلحة بن نافع) تقدم مرات قوله (وأمرنا أن نسلت القصعة) هو بفتح النون
وضم اللام ومعناه نمسحها ونتتبع ما بقي فيها من الطعام ومنه سلت الدم عنها قوله صلى الله عليه
وسلم في الرواية الأخيرة وهي رواية أبي هريرة (إذا أكل أحدكم طعاما فليلعق أصابعه فإنه
لا يدرى في أيتهن البركة) هكذا هو في معظم الأصول وفى بعضها لا ندري أيتهما وكلاهما
صحيح أما رواية في أيتهن فظاهرة وأما رواية لا يدرى أيتهن البركة فمعناه أيتهن صاحبة البركة
فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والله أعلم
207

باب ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام
(واستحباب اذن صاحب الطعام للتابع)
فيه (أن رجلا من الأنصار يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ثم دعاه خامس
خمسة واتبعهم رجل فلما بلغ الباب قال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا اتبعنا فإن شئت أن تأذن
له وان شئت رجع قال لابل آذن له يا رسول الله) وفيه (أن جارا لرسول صلى الله عليه وسلم فلوسيا
كان طيب المرق فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما ثم جاء يدعوه فقال وهذه لعائشة
فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لافعاد يدعوه فقال رسول صلى الله عليه وسلم وهذه
لعائشة فقال لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ثم عاد يدعوه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهذه قال نعم في الثالثة فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله) أما الحديث الأول ففيه أن
المدعو إذا تبعه رجل بغير استدعاء ينبغي له أن لا يأذن له وينهاه وإذا بلغ باب دار صاحب
الطعام أعلمه به ليأذن له أو وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له إن لم يترتب على
حضوره مفسدة بأن يؤذى الحاضرين أو يشيع عنهم ما يكرهونه أو يكون جلوسه معهم مزريا بهم
لشهرته بالفسق ونحو ذلك فان خيف من حضوره شئ من هذا لم يأذن له وينبغي أن يتلطف في
رده ولو أعطاه شيئا من الطعام إن كان يليق به ليكون ردا جميلا كان حسنا وأما الحديث الثاني
208

في قصة الفارسي وهي قضية أخرى فمحمول على أنه كان هناك عذر يمنع وجوب إجابة الدعوة
فكان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا بين اجابته وتركها فاختار أحد الجائزين وهو تركها الا أن
يأذن لعائشة معه لما كان من الجوع أو نحوه فكره صلى الله عليه وسلم الاختصاص بالطعام
دونها وهذا من جميل المعاشرة وحقوق المصاحبة وآداب المجالسة المؤكدة فلما أذن لها اختار
النبي صلى الله عليه وسلم الجائز الآخر المصلحة وهو حصول ما كان يريده من اكرام
جليسه وايفاء حق معاشرته ومواساته فيما يحصل وقد سبق في باب الوليمة بيان الأعذار في ترك
إجابة الدعوة واختلاف العلماء في وجوب الإجابة وأن منهم من لم يوجبها في غير وليمة العرس
209

كهذه الصورة والله أعلم قوله (فقاما يتدافعان) معناه يمشى كل واحد منهما في أثر صاحبه
قالوا ولعل الفارسي إنما لم يدع عائشة رضي الله عنها أولا لكون الطعام كان قليلا فأراد توفيره
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى هذا الحديث جوازا أكل المرق والطيبات قال الله تعالى
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق في الحديث الأول كان
لأبى شعيب غلام لحام أي يبيع اللحم وفيه دليل على جواز الجزارة وحل كسبها والله أعلم
باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك
(ويتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام)
فيه ثلاث أحاديث الأول حديث أبي هريرة في خروج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من الجوع
وذهابهم إلى بيت الأنصاري وادخال امرأته إباهم ومجئ الأنصاري وفرحه بهم واكرامه لهم وهذا
الأنصاري هو أبو الهيثم بن التيهان واسم أبى الهيثم مالك هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد
منها قوله (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبى بكر وعمر رضي الله عنهما
فقال ما أخرجكما من بيوتكما قالا الجوع يا رسول الله قال فانا والذي نفسي بيده لأخرجني
الذي أخرجكما قوموا فقاموا معه فأتى رجلا من الأنصار إلى آخره) هذا فيه ما كان عليه النبي صلى الله
210

عليه وسلم وكبار أصحابه رضي الله عنهم من التقلل من الدنيا وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش
في أوقات وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم وهذا زعم باطل فان
راوي الحديث أبو هريرة ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر فان قيل لا يلزم من كونه رواه أن يكون
أدرك القضية فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره فالجواب أن هذا خلاف الظاهر
ولا ضرورة إليه بل الصواب خلافه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار
والقلة حتى توفى صلى الله عليه وسلم فتارة يوسر وتارة ينفد ما عنده كما ثبت في الصحيح عن أبي
هريرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير وعن عائشة ما شبع
آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعا حتى قبض وتوفى صلى الله
عليه وسلم وذرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله وغير ذلك مما هو معروف فكان النبي صلى الله
عليه وسلم في وقت يوسر ثم بعد قليل ينفد ما عنده لاخراجه في طاعة الله من وجوه البر وإيثار
المحتاجين وضيافة الطارقين وتجهيز السرايا وغير ذلك وهكذا كان خلق صاحبيه رضي الله عنهما
بل أكثر أصحابه وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم مع برهم له صلى الله
عليه وسلم وإكرامهم إياه واتحافه بالطرف وغيرهما ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان
لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت بإيثاره به ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق
الحال في ذلك الوقت كما جرى لصاحبيه ولا يعلم أحد من الصحابة علم حاجة النبي صلى الله عليه
وسلم وهو متمكن من إزالتها الا بادر إلى إزالتها لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم
إيثارا لتحمل المشاق وحملا عنهم وقد بادر أبو طلحة حين قال سمعت صوت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أعرف فيه الجوع إلى إزالة تلك الحاجة وكذا حديث جابر وسنذكرهما بعد هذا إن شاء الله
تعالى وكذا حديث أبي شعيب الأنصاري الذي سبق في الباب قبله أنه عرف في وجهه
صلى الله عليه وسلم الجوع فبادر بصنيع الطعام وأشباه هذا كثيرة في الصحيح مشهورة وكذلك
كانوا يؤثرون بعضهم بعضا ولا يعلم أحد منهم ضرورة صاحبه الا سعى في إزالتها وقد وصفهم الله
سبحانه بذلك فقال تعالى على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة تعالى
211

" بينهم " وأما قولهما رضي الله عنهما (أخرجنا الجوع) وقوله صلى الله عليه وسلم (وأنا والذي نفسي بيده
لأخرجن الذي أخرجكما) فمعناه أنهما لما كانا عليه من مراقبة الله تعالى ولزوم طاعته والاشتغال به
فعرض لهما هذا الجوع الذي يزعجهما ويقلقلهما ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة وتمام التلذذ
بها سعيا في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح يدفعانه به وهذا من أكمل الطاعات وأبلغ أنواع
المراقبات وقد نهى عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين وبحضرة طعام تتوق النفس إليه وفى ثوب
له أعلام وبحضرة المتحدثين وغير ذلك مما يشغل قلبه ونهى القاضي عن القضاء في حال غضبه
وجوعه وهمه وشدة فرحه وغير ذلك مما يشغل قلبه ويمنعه كمال الفكر والله أعلم وقوله (بيوتكما)
هو بضم الباء وكسرها لغتان قرئ بهما في السبع وقوله صلى الله عليه وسلم وأنا والذي نفسي
بيده لأخرجني الذي أخرجكما فيه جواز ذكر الانسان ما يناله من ألم ونحوه لاعلى سبيل
التشكي وعدم الرضا بل للتسلية والتصبر كفعله صلى الله عليه وسلم هنا ولالتماس دعاء أو مساعدة
على التسبب في إزالة ذلك العارض فهذا كله ليس بمذموم إنما يذم ما كان تشكيا وتسخطا
وتجزعا وقوله صلى الله عليه وسلم (فأنا) هكذا هو في بعض النسخ فأنا بالفاء وفى بعضها بالواو
وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وقد تقدم قريبا بسط الكلام فيه وتقدم بيانه مرات
وقوله صلى الله عليه وسلم (قوموا فقاموا) هكذا هو في الأصول بضمير الجمع وهو جائز بلا خلاف
لكن الجمهور يقولون اطلاقه على الاثنين مجاز وآخرون يقولون حقيقة وقوله (فأتى رجلا من
الأنصار) هو أبو الهيثم مالك بن التيهان بفتح المثناة فوق وتشديد المثناة تحت مع كسرها وفيه
جواز الا دلال على الصاحب الذي يوثق به كما ترجمنا له واستتباع جماعة إلى بيته وفيه منقبة لأبى
الهيثم إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم أهلا لذلك وكفى به شرفا ذلك وقوله (فقالت مرحبا
وأهلا) كلمتان معروفتان للعرب ومعناه صادفت رحبا وسعة وأهلا تأنس بهم وفيه استحباب
اكرام الضيف بهذا القول وشبهه واظهار السرور بقدومه وجعله أهلا لذلك كل هذا وشبهه
اكرام للضيف وقد قال صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وفيه
جواز سماع كلام الأجنبية ومراجعتها الكلام للحاجة وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها
212

لمن علمت علما محققا أنه لا يكرهه بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة وقولها (ذهب يستعذب لنا
الماء) أي يأتينا بماء عذب وهو الطيب وفيه جواز استعذابه وتطييبه قوله (الحمد لله ما أحد
اليوم أكرم ضيفا منى) فيه فوائد منها استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة وكذا
يستحب عند اندفاع نقمة كانت متوقعة وفى غير ذلك من الأحوال وقد جمعت في ذلك قطعة
صالحة في كتاب الأذكار ومنها استحباب اظهار البشر والفرح بالضيف في وجهه وحمد الله
تعالى وهو يسمع على حصول هذه النعمة والثناء على ضيفه ان لم يخف عليه فتنة فان خاف لم
يثن عليه في وجهه وهذا طريق الجمع بين الأحاديث الواردة بجواز ذلك ومنعه وقد جمعتها مع
بسط الكلام فيها في كتاب الأذكار وفيه دليل على كمال فضيلة هذا الأنصاري وبلاغته وعظيم
معرفته لأنه أتى بكلام مختصر بديع في الحسن في هذا الموطن رضي الله عنه قوله (فانطلق فجاءهم بعذق
فيه بسر وتمر ورطب فقال كلوا من هذه) العذق هنا بكسر العين وهي الكباسة وهي الغصن
من النخل وإنما أتى بهذا العذق وفيه الملون ليكون أطرف وليجمعوا بين أكل الأنواع فقد يطيب
لبعضهم هذا ولبعضهم هذا وفيه دليل على استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما
وفيه استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسر واكرامه بعده بطعام يصنعه له لا سيما ان غلب على
ظنه حاجته في الحال إلى الطعام وقد يكون شديد الحاجة إلى التعجيل وقد يشق عليه انتظار
ما يصنع له لاستعجاله للانصراف وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف وهو محمول على
ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة لأن ذلك يمنعه من الاخلاص وكمال السرور بالضيف
وربما ظهر عليه شئ من ذلك فيتأذى به الضيف وقد يحضر شيئا يعرف الضيف من حاله أنه يشق
عليه وأنه يتكلفه له فيتأذى الضيف لشفقته عليه وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه لأن أكمل اكرامه إراحة خاطره وإظهار السرور به وأما فعل
213

الأنصاري وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه بل لو ذبح أغناما بل جمالا وأنفق أموالا في ضيافة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما كان مسرورا بذلك مغبوطا فيه والله أعلم قوله (وأخذ
المدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب) المدية بضم الميم وكسرها هي السكين وتقدم
بيانها مرات والحلوب ذات اللبن فعول بمعنى مفعول كركوب ونظائره قوله (فلما أن شبعوا ورووا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وعمر رضي الله عنهما والذي نفسي بيده لتسألن
عن هذا النعيم يوم القيامة) فيه دليل على جواز الشبع وما جاء في كراهة الشبع فمحمول على
المداومة عليه لأنه يقسي القلب وينسى أمر المحتاجين وأما السؤال عن هذا النعيم فقال القاضي
عياض المراد السؤال عن القيام بحق شكره والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم
وإعلام بالامتنان بها وإظهار الكرامة باسباغها لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة والله أعلم
قوله في إسناد الطريق الثاني (وحدثني إسحاق بن منصور أنبأنا أبو هشام يعنى المغيرة بن سلمة
أنبأنا يزيد أنبأنا أبو حازم قال سمعت أبا هريرة يقول) هكذا وقع هذا الاسناد في النسخ ببلادنا
وحكى القاضي عياض أنه وقع هكذا في رواية ابن ماهان وفى رواية الرازي من طريق الجلودي
وأنه وقع من رواية السنجري عن الجلودي بزيادة رجل بين المغيرة بن سلمة ويزيد بن كيسان
هو عبد الواحد بن زياد قال أبو علي الجياني ولابد من إثبات عبد الواحد ولا يتصل الحديث
214

إلا به قال وكذلك خرجه أبو مسعود الدمشقي في الأطراف عن مسلم عن إسحاق عن مغيرة
عن عبد الواحد عن يزيد بن أبي كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال الجياني وما وقع
في رواية ابن ماهان وغيره من إسقاطه خطأ بين قلت ونقله خلف الواسطي في الأطراف باسقاط
عبد الواحد والظاهر الذي يقتضيه حال مغيرة ويزيد أنه لابد من إثبات عبد الواحد كما قاله
الجياني والله أعلم هذا ما يتعلق بالحديث الأول أما الحديث الثاني وهو حديث طعام جابر
ففيه أنواع من الفوائد وجمل من القواعد منها الدليل الظاهر والعلم الباهر من أعلام نبوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تظاهرت أحاديث آحاد بمثل هذا حتى زاد مجموعها على
التواتر وحصل العلم القطعي بالمعنى الذي اشتركت فيه هذه الآحاد وهو انخراق العادة بما أتى به
صلى الله عليه وسلم من تكثير الطعام القليل الكثرة الظاهرة ونبع الماء وتكثيره وتسبيح
الطعام وحنين الجذع وغير ذلك مما هو معروف وقد جمع ذلك العلماء في كتب دلائل النبوة
كالدلائل للقفال الشاشي وصاحبه أبى عبد الله الحليمي وأبى بكر البيهقي الامام الحافظ وغيرهم
بما هو مشهور وأحسنها كتاب البيهقي فلل ه الحمد على ما أنعم به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
وعلينا باكرامه صلى الله عليه وسلم وبالله التوفيق قوله (حدثنا سعيد بن ميناء) هو بالمد
والقصر وقد تقدم بيانه مرات قوله (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصا) هو بفتح
الخاء والميم أي رأيته ضامر البطن من الجوع قوله (فانكفأت إلى امرأتي) هو بفتح الخاء والميم أي انقلبت
ورجعت ووقع في نسخ فانكفيت وهو خلاف المعروف في اللغة بل الصواب انكفأت بالهمز
215

قوله (فأخرجت لي جرابا) وهو وعاء من جلد معروف بكسر الجيم وفتحها الكسر أشهر
وقد سبق بيانه قوله (ولنا بهيمة داجن) هي بضم الياء تصغير بهيمة وهي الصغيرة من
أولاد الضأن قال الجوهري وتطلق على الذكر والأنثى كالشاة والسخلة الصغيرة من أولاد المعز
وقد سبق قريبا أن الداجن ما ألف البيوت قوله (فجئته فساررته فقلت يا رسول الله) فيه
جواز المساررة بالحاجة بحضرة الجماعة وإنما نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث كما نوضحه
في موضعه إن شاء الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (ان جابرا قد صنع لكم سورا فحي هلا
بكم) أما السور فبضم السين وإسكان الواو غير مهموز وهو الطعام الذي يدعى إليه وقيل
الطعام مطلقا وهي لفظة فارسية وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تكلم بألفاظ غير العربية فيدل على جوازه وأما حي هلا بتنوين هلا وقيل بلا تنوين على وزن علا
ويقال حي هل فمعناه عليك بكذا أو ادع بكذا قاله أبو عبيد وغيره وقيل معناه اعجل به وفال
الهروي معناه هات وعجل به قوله (وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس) إنما
فعل هذا لأنه صلى الله عليه وسلم دعاهم فجاؤوا تبعا له كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشى
قدامهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحال لا يتقدمهم ولا يمكنهم من وطء
216

عقبيه وفعله هنا لهذه المصلحة قوله (حتى جئت امرأتي فقالت بك وبك) أي ذمته ودعت
عليه وقيل معناه بك تلحق الفضيحة وبك يتعلق الذم وقيل معناه جرى هذا برأيك وسوء
نظرك وتسببك قوله (قد فعلت الذي قلت لي) معناه أنى أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم
بما عندنا فهو أعلم بالمصلحة قوله (ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ثم قال ادعى خابزة
فلتخبز معك) هذه اللفظة وهي ادعى وقعت في بعض الأصول هكذا ادعى بعين ثم باء وهو
الصحيح الظاهر لأنه خطاب للمرأة ولهذا قال فلتخبز معك وفى بعضها ادعوني بواو ونون
وفى بعضها ادعني وهما أيضا صحيحان وتقديره اطلبوا واطلب لي خابزة وقوله عمد بفتح الميم
وقوله بصق هكذا هو في أكثر الأصول وفى بعضها بسق وهي لغة قليلة والمشهور بصق وبزق
وحكى جماعة من أهل اللغة بسق لكنها قليلة كما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم (ولقد حي
من برمتكم) أي اغرفي والقدح المغرفة يقال قدحت المرق أقدحه بفتح الدال غرفته قوله (وهم
ألف فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وان برمتنا لتغط كما هي وإن عجينتنا لتخبز كما هو)
قوله تركوه وانحرفوا أي شبعوا وانصرفوا وقوله تغط بكسر الغين المعجمة وتشديد الطاء
أي تغلى ويسمع غليانها وقوله كما هو يعود إلى العجين وقد تضمن هذا الحديث علمين
من أعلام النبوة أحدهما تكثير الطعام القليل والثاني علمه صلى الله عليه وسلم بأن هذا
الطعام القليل الذي يكفي خمسة أنفس أو نحوهم فيكفي ألفا وزيادة فدعا له ألفا
قبل أن يصل إليه وقد علم أنه صاع شعير وبهيمة والله أعلم وأما الحديث الثالث وهو حديث
أنس في طعام أبى طلحة ففيه أيضا هذان العلمان من أعلام النبوة وهما تكثير القليل وعلمه
217

صلى الله عليه وسلم بأن هذا القليل سيكثره الله تعالى فيكفي هؤلاء الخلق الكثير فدعاهم له
واعلم أن أنسا رضي الله عنه روى هنا حديثين الأول من طريق والثاني من طريق
وهما قضيتان جرت فيهما هاتان المعجزتان وغيرهما من المعجزات ففي الحديث الأول أن أبا طلحة
وأم سليم رضي الله عنهما أرسلا أنسا رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقراص شعير
قال أنس فذهبت فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في المسجد ومعه أصحابه فقمت
عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلك أبو طلحة فقلت نعم فقال الطعام فقلت نعم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه قوموا فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة
فأخبرته فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم
فقالت الله ورسوله أعلم قال فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلمي ما عندك يا أم سليم
فأتت بذلك الخبز فأمر به صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت عليه عكة لها فأدمته ثم قال فيه رسول الله
ما شاء الله أن يقول ثم قال ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال ائذن
لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون قوله صلى الله
218

عليه وسلم (أرسلك أبو طلحة فقلت نعم) وقوله (الطعام فقلت نعم) هذان علمان من أعلام النبوة
وذهابه صلى الله عليه وسلم بهم علم ثالث كما سبق وتكثير الطعام علم رابع وفيه ما تقدم في حديث أبي
هريرة وحديث جابر من ابتلاء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والاختبار بالجوع
وغيره من المشاق ليصبروا فيعظم أجرهم ومنازلهم وفيه ما كانوا عليه من كتمان ما بهم
وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليهم من الاعتناء بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه استحباب بعث الهدية وان كانت قليلة بالنسبة إلى مرتبة المبعوث إليه لأنها وان قلت فهي
خير من العدم وفيه جلوس العالم لأصحابه يفيدهم ويؤدبهم واستحباب ذلك في المساجد وفيه انطلاق
صاحب الطعام بين يدي الضيفان وخروجه ليتلقاهم وفيه منقبة لأم سليم رضي الله عنه ودلالة
على عظيم فقهها ورجحان عقلها لقولها الله ورسوله أعلم ومعناه أنه قد عرف الطعام فهو أعلم
بالمصلحة فلو لم يعلمها في مجئ الجمع العظيم لم يفعلها فلا تحزن من ذلك وفيه استحباب فت الطعام
واختيار الثريد على الغمس باللقم وقوله (عصرت عليه عكة) هي بضم العين وتشديد الكاف وهي
وعاء صغير من جلد للسمن خاصة وقوله (فآدمته) هو بالمد والقصر لغتان آدمية وأدمته أي جعلت
فيه إداما وإنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم فإن القصعة التي فت فيها تلك الأقراص
219

لا يتحلق عليها أكثر من عشرة الا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم والله أعلم وأما الحديث الآخر
ففيه أن أنسا قال بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه وقد جعل طعاما
فأقبلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس فنظر إلى فاستحييت فقلت أجب أبا طلحة فقال
للناس قوموا وذكر الحديث وأخرج لهم شيئا من بين أصابعه وهذا الحديث قضية أخرى بلا شك
220

وفيها ما سبق في الحديث وزيادة هذا العلم الآخر من أعلام النبوة وهو اخراج ذلك الشئ
من بين أصابعه الكريمات صلى الله عليه وسلم قوله (وتركوا سؤرا) هو بالهمز أي بقية
قوله (فقام أبو طلحة على الباب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا رسول الله إنما كان
شئ يسير قال هلمه فان الله سيجعل فيه البركة) أما قيام أبى طلحة فلانتظار اقبال النبي صلى الله
عليه وسلم فلما أقبل تلقاه وقوله إنما كان شئ يسير هكذا هو في الأصول وهو صحيح وكان
هنا تامة لا تحتاج خبرا قوله صلى الله عليه وسلم (فإن الله سيجعل فيه البركة) فيه علم ظاهر من
221

أعلام النبوة وقوله (ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أهل البيت) فيه أنه يستجيب
لصاحب الطعام وأهله أن يكون أكلهم بعد فراغ الضيفان والله أعلم قوله (يتقلب
ظهرا لبطن) وفي الرواية الأخرى وقد عصب بطنه بعصابة لا مخالفه بينهما وأحدهما يبين
الآخر ويقال عصب وعصب بالتخفيف والتشديد قوله (فذهبت إلى أبي طلحة وهو زوج
222

أم سليم بنت ملحان فقلت يا أبتاه) فيه استعمال المجاز لقوله يا أبتاه وإنما هو زوج أمه وقوله
بنت ملحان هو بكسر الميم والله أعلم
باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين وايثار أهل
(المائدة بعضهم بعضا وان كانوا ضيفانا إذا لم يكره ذلك صاحب الطعام
فيه حديث أنس رضي الله عنه (أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب إليه خبزا
من شعير مرقا فيه دباء وقديد قال أنس فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء
223

من حوالي الصحفة فلم أزل أحب الدباء من يومئذ) وفى رواية قال أنس فلما رأيت ذلك جعلت
ألقيه إليه ولا أطعمه وفى رواية قال أنس فما صنع لي طعام بعد أقدر على أن بصنع فيه دباء
الاصنع فيه فوائد منها إجابة الدعوة وإباحة كسب الخليط وإباحة المرق وفضيلة أكل الدباء
وانه يستحب أن يحب الدباء وكذلك كل شئ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وأنه
يحرص على تحصيل ذلك وأنه يستحب لأهل المائدة ايثار بعضهم بعضا إذا لم يكرهه صاحب
الطعام وأما تتبع الدباء من حوالي الصحفة فيحتمل وجهين أحدهما من حوالي جانبه وناحيته
من الصحفة لامن حوالي جميع جوانبها فقد أمر بالأكل مما يلي الانسان والثاني أن يكون
من جميع جوانبها وإنما نهى ذلك لئلا يتقذره جليسه ورسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يتقذره أحد بل يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يتبركون ببصاقه صلى الله
عليه وسلم ونخامته ويدلكون بذلك وجوههم وشرب بعضهم بوله وبعضهم دمه وغير ذلك
مما هو معروف من عظيم اعتنائهم بآثاره صلى الله عليه وسلم التي يخالفه فيها غيره والدباء
224

هو اليقطين وهو بالمد هذا هو المشهور وحكى القاضي عياض فيه القصر أيضا الواحدة دباءة
أو دباة والله أعلم
باب استحباب وضع النوى خارج التمر واستحباب دعاء الضيف
(لأهل الطعام وطلب الدعاء من الضيف الصالح واجابته إلى ذلك)
فيه يزيد بن خمير عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أبى فقربنا له طعاما ورطبة فأكل منها ثم أتى بتمر فكان يأكله ويلقى النوى بين إصبعيه
ويجمع السبابة والوسطى قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله القاء النوى بين الإصبعين ثم
أتى بشراب فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه فقال أبى وأخذ بلجام دابته ادع الله لنا فقال اللهم
بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم) وفى الرواية الأخرى ذكره وقال لم يشك في القاء النوى
بين الأصبعين عبد الله بن بسر بضم الباء ويزيد بن خمير بضم الخاء المعجمة وفتح الميم
وقوله ووطبة هكذا رواية الأكثرين وطبة بالواو واسكان الطاء وبعدها باء موحدة وهكذا
رواه النضر بن شميل راوي هذا الحديث عن شعبة والنضر امام من أئمة اللغة وفسره النضر
فقال الوطبة الحيس يجمع التمر البرنى والأقط المدقوق والسمن وكذا ضبطه أبو مسعود
الدمشقي وأبو بكر البرقاني وآخرون وهكذا هو عندنا في معظم النسخ وفى بعضها رطبة
225

براء مضمومة وفتح الطاء وكذا ذكره الحميدي وقال هكذا جاء فيما رأيناه من نسخ مسلم
رطبة بالراء قال وهو تصحيف من الراوي وإنما هو بالواو وهذا الذي ادعاه على
نسخ مسلم هو فيما رآه هو والا فأكثرها بالواو وكذا نقله أبو مسعود البرقاني والأكثرون
عن نسخ مسلم ونقل القاضي عياض عن رواية بعضهم في مسلم وطئه بفتح الواو
وكسر الطاء وبعدها همزة وادعى أنه الصواب وهكذا ادعاه آخرون والوطئه بالهمز
عند أهل اللغة طعام يتخذ من التمر كالحيس هذا ما ذكروه ولا منافاة بين هذا كله فيقبل
ما صحت به الروايات وهو صحيح في اللغة والله أعلم وقوله ويلقى النوى بين أصبعيه أي
يجعله بينهما لقلته ولم يلقه في إناء التمر لئلا يختلط بالتمر وقيل كان يجمعه على ظهر الأصبعين
ثم يرمى به وقوله قال شعبة هو ظني وهو فيه إن شاء الله إلقاء النوى معناه أن شعبة قال الذي
أظنه أن إلقاء النوى مذكور في الحديث فأشار إلى تردد فيه وشك وفى الطريق الثاني جزم
بإثباته ولم يشك فهو ثابت بهذه الرواية وأما رواية الشك فلا تضر سواء تقدمت على هذه
أو تأخرت لأنه تيقن في وقت وشك في وقت فاليقين ثابت ولا يمنعه النسيان في وقت آخر
وقوله فشربه ثم ناوله الذي عن يمينه فيه أن الشراب ونحوه يدار على اليمين كما سبق تقريره
في بابه قريبا وفيه استحباب طلب الدعاء من الفاضل ودعاء الضيف بتوسعة الرزق والمغفرة
والرحمة وقد جمع صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء خيرات الدنيا والآخرة والله أعلم
226

باب أكل القثاء بالرطب
فيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب)
والقثاء بكسر القاف هو المشهور وفيه لغة بضمها وقد جاء في غير مسلم زيادة قال يكسر حر هذا
برد هذا فيه جواز أكلهما معا وأكل الطعامين معا والتوسع في الأطعمة ولا خلاف بين
العلماء في جواز هذا وما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمحمول على كراهة اعتياد
التوسع والترفه والاكثار منه لغير مصلحة دينية والله أعلم
باب استحباب تواضع الآكل وصفة قعوده
فيه أنس رضي الله عنه (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقعيا يأكل تمرا) وفى الرواية
الأخرى أتى بتمر فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقسمه وهو محتفر يأكل منه أكلا ذريعا
وفى رواية أكلا حثيثا قوله (مقعيا) أي جالسا على أليتيه ناصبا ساقيه ومحتفز هو بالزاي
أي مستعجل مستوفز غير متمكن في جلوسه وهو بمعنى قوله مقعيا وهو أيضا معنى قوله صلى الله
عليه وسلم في الحديث الآخر في صحيح البخاري وغيره لا أكل متكئا على ما فسره الامام
الخطابي فإنه قال المتكئ هنا المتمكن في جلوسه من التربع وشبهه المعتمد على الوطاء تحته قال
وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ ومعناه لا أكل أكل من يريد الاستكثار من
الطعام ويقعد له متمكنا بل أقعد مستوفزا وآكل قليلا وقوله أكلا ذريعا وحثيثا هما بمعنى
أي مستعجلا صلى الله عليه وسلم لاستيفازه لشغل آخر فأسرع في الأكل وكان استعجاله
ليقضى حاجته منه ويرد الجوعة ثم يذهب في ذلك الشغل وقوله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
227

يقسمه أي يفرقه على من يراه أهلا لذلك وهذا التمر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرع
بتفريقه صلى الله عليه وسلم فلهذا كان يأكل منه والله أعلم
باب نهى الآكل مع جماعة عن قران تمرتين
(ونحوهما في لقمة إلا باذن أصحابه)
(فيه شعبة عن جبلة بن سحيم قال كان ابن الزبير رضي الله عنه يرزقنا التمر وكان أصاب الناس
يومئذ جهد فكنا نأكل فيمر علينا ابن عمر رضي الله عنه ونحن نأكل فيقول لا تقارنوا فان
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الاقران إلا أن يستأذن الرجل أخاه قال شعبة لا أرى
هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر رضي الله عنه يعنى الاستئذان) وفى الرواية الأخرى عن سفيان
عن جبلة عن ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين حتى يستأذن
أصحابه هذا النهى متفق عليه حتى يستأذن فإذا أذنوا فلا بأس واختلفوا في أن هذا النهى على
التحريم أو على الكراهة والأدب فنقل القاضي عياض عن أهل الظاهر أنه للتحريم وعن غيرهم
أنه للكراهة والأدب والصواب التفصيل فإن كان الطعام مشتركا بينهم فالقران حرام إلا برضاهم
228

ويحصل الرضا بتصريحهم به أو بما يقوم مقام التصريح من قرينة حال أو إدلال عليهم كلهم
بحيث يعلم يقينا أو ظنا قويا أنهم يرضون به ومتى شك في رضاهم فهو حرام وإن كان الطعام
لغيرهم أو لأحدهم اشترط رضاه وحده فإن قرن بغير رضاه فحرام ويستحب أن يستأذن
الآكلين معه ولا يجب وإن كان الطعام لنفسه وقد ضيفهم به فلا يحرم عليه القران ثم إن كان
في الطعام قلة فحسن أن لا يقرن لتساوي بهم وإن كان كثيرا بحيث يفضل عنهم فلا بأس بقرانه
لكن الأدب مطلقا التأدب في الأكل وترك الشره الا أن يكون مستعجلا ويريد الاسراع
لشغل آخر كما شبق في الباب قبله وقال الخطابي إنما كان هذا في زمنهم وحين كان الطعام ضيقا
فأما اليوم مع اتساع الحال فلا حاجة إلى الاذن وليس كما قال بل الصواب ما ذكرنا من التفضيل
فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لو ثبت السبب كيف وهو غير ثابت والله أعلم
وقوله أصاب الناس جهد يعنى قلة وحاجة ومشقة وقوله يقرن أي يجمع وهو بضم الراء
وكسرها لغتان وقوله نهى عن الاقران هكذا هو في الأصول والمعروف في اللغة القران يقال
قرن بين الشيئين قالوا ولا يقال أقرنت وقوله قال شعبة لا أرى هذه الكلمة إلا من كلمة ابن عمر
يعني بالكلمة الكلام وهذا شائع معروف وهذا الذي قاله شعبة لا يؤثر في رفع الاستئذان إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نفاه بظن وحسبان وقد أثبته سفيان في الرواية الثانية فثبت
229

باب في ادخار التمر ونحوه من الأقوات للعيال
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (لا يجوع أهل بيت عندهم التمر) وفى الرواية الأخرى بيت لا تمر فيه جياع أهله
فيه فضيلة التمر وجواز الادخال للعيال والحث عليه وفى اسناده عبد الله بن مسلمة
عن يعقوب بن محمد بن طحلاء عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمهم عائشة أما طحلاء
فبفتح الطاء واسكان الحاء المهملتين وبالمد وأما أبو الرجال فلقب له لأنه كان له عشرة أولاد
رجال وأمه عمرة بنت عبد الرحمن وهذا الاسناد كله مدنيون
230