الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ١٤
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الرابع عشر
1407 - 1987 م
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
1

باب فضل تمر المدينة
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى
يمسى) وفى الرواية الأخرى من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضر ذلك اليوم سم ولا سحر وفى
الرواية الأخرى إن في عجوة العالية شفاء أو إنها ترياق أول البكرة اللابتان هما الحرتان والمراد
لابتا المدينة وقد سبق بيانهما مرات والسم معروف وهو بفتح السين وضمها وكسرها والفتح
أفصح وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات والترياق بكسر التاء وضمها لغتان ويقال
2

درياق وطرياق أيضا كله فصيح قوله صلى الله عليه وسلم (أول البكرة) بنصب أول على
الظرف وهو بمعنى الرواية الأخرى من تصبح والعالية ما كان من الحوائط والقرى والعمارات
من جهة المدينة العليا مما يلي العليا مما يلي نجدا والسافلة من الجهة الأخرى مما يلي تهامة قال القاضي وأدنى
العالية ثلاثة أميال وأبعدها ثمانية من المدينة والعجوة نوع جيد من التمر وفى هذه الأحاديث
فضيلة تمر المدينة وعجوتها وفضيلة التصبح بسبع تمرات منه وتخصيص عجوة المدينة دون غيرها
وعدد السبع من الأمور التي علمها الشارع ولا نعلم نحن حكمتها فيجب الايمان بها واعتقاد
فضلها والحكمة فيها وهذا كاعداد الصلوات ونصب الزكاة وغيرها فهذا هو الصواب في هذا
الحديث وأما ما ذكره الإمام أبو عبد الله المازري والقاضي عياض فيه فكلام باطل فلا
تلتفت إليه ولا تعرج عليه وقصدت بهذا التنبيه التحذير من الاغترار به والله أعلم
باب فضل الكمأة ومداواة العين بها
فيه قوله صلى الله عليه وسلم (الكماة من المن وماؤها شفاء للعين) وفى رواية من المن الذي أنزل الله تعالى
3

على بني إسرائيل أما الكمأة فبفتح الكاف واسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة وفى الاسناد
الحكم بن عتيبة هو بالتاء المثناة فوق وقد سبق بيانه والحسن العربي بضم العين المهملة وفتح الراء
وبعدها نون منسوب إلى عرينة واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن فقال
أبو عبيد وكثيرون شبهها بالمن الذي كان ينزل على بني إسرائيل لأنه كان يحصل لهم بلا كلفة
ولا علاج والكمأة تحصل بلا كلفة ولا علاج ولا زرع بزر ولا سقى ولاغيره وقيل هي
من المن الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل حقيقة عملا بظاهر اللفظ وقوله صلى الله عليه
وسلم (وماؤها شفاء للعين) قبل هو نفس الماء مجردا وقيل معناه أن يخلط ماؤها بدواء ويعالج
به العين وقيل إن كان لبرودة ما في العين من حرارة فماؤها مجردا شفاء وإن كان لغير ذلك فمركب
4

مع غيره والصحيح بل الصواب أن ماؤها مجردا شفاء للعين مطلقا فيعصر ماؤها ويجعل في العين
منه وقد رأيت أنا وغيري في زمننا من كان عمى وذهب بصره حقيقة فكحل عينه بماء الكمأة
مجردا فشفى وعاد إليه بصره وهو الشيخ العدل الأيمن الكمال بن عبد الله الدمشقي صاحب صلاح
ورواية للحديث وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادا في الحديث وتبركا به والله أعلم
باب فضيلة الأسود من الكباث
فيه جابر (قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ونحن نجئ الكباث فقال النبي صلى
الله عليه وسلم عليكم بالأسود منه فقلنا يا رسول الله كأنك رعيت الغنم قال نعم وهل من نبي الا وقد
رعاها أو نحو هذا من القول) الكباث بفتح الكاف وبعدها مخففة موحدة ثم ألف ثم مثلثة قال
5

أهل اللغة هو النضيج من ثمر الأراك ومر الظهران على دون مرحلة من مكة معروف سبق بيانه
وهو بفتح الظاء المعجمة واسكان الهاء وفيه فضيلة رعاية الغنم قالوا والحكمة في رعاية الأنبياء
صلوات الله وسلامه عليهم لها ليأخذوا أنفسهم بالتواضع وتصفى قلوبهم بالخلوة ويترقوا من
سياستها بالنصيحة إلى سياسة أممهم بالهداية والشفقة والله أعلم
باب فضيلة الخل والتأدم به
فيه حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم الادام أو الأدم الخل) وفى
رواية نعم الأدم بلا شك وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم
فقالوا ما عندنا إلا خل فدعا به فجعل يأكل به ويقول نعم الأدم الخل وذكره من طرق أخرى
بزيادة في الحديث فضيلة الخل وأنه يسمى أدما وأنه أدم فاضل جيد قال أهل اللغة الادام
6

بكسر الهمزة ما يؤتدم به يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الإدام أدم بضم الهمزة والدال
كإهاب وأهب وكتاب كتب والأدم باسكان الدال مفرد كالإدام وفيه استحباب الحديث
على الأكل تأنيسا الآكلين وأما معنى الحديث فقال الخطابي والقاضي عياض معناه مدح
الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الأطعمة تقديره ائتدموا بالخل وما في معناه ما
تخف مؤنته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن هذا كلام
الخطابي ومن تابعه والصواب الذي ينبغي أن يجرم به أنه مدح للخل نفسه وأما الاقتصار في
المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد آخر والله أعلم وأما قول جابرا فمازلت أحب الخل منذ
سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم فهو كقول أنس ما زلت أحب الدباء وقد سبق بيانه وهذا
مما يؤيده ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه وقد ذكرنا مرات أن تأويل الراوي إذا
لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين وهذا كذلك
بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده والله أعلم قوله أخذ النبي صلى الله
عليه وسلم بيدي فأخرج إليه فلقا من خبز) هكذا هو في الأصول فأخرج إليه فلقا وهو صحيح
7

ومعناه أخرج الخادم ونحوه فلقا وهي الكسر قوله (فأخذ بيدي) فيه جواز أخذ الانسان
بيد صاحبه في تماشيهما قوله (فدخلت الحجاب عليها معناه دخلت الحجاب إلى الموضع الذي فيه
المرأة وليس فيه أنه رأى بشرتها قوله (فأتى بثلاثة أقرصة فوضعن على نبي) هكذا هو في
أكثر الأصول نبي بنون مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة ثم ياء مثناة تحت مشددة وفسروه بمائدة
من خوص ونقل القاضي عياض عن كثير من الرواة أو الأكثرين أنه بتى بباء موحدة مفتوحة
ثم مثناة فوق مكسورة مشددة ثم ياء مثناة من تحت مشددة والبت كساء من وبر أو صوف فلعله
منديل وضع عليه هذا الطعام قال ورواه بعضهم بضم الباء وبعدها نون مكسورة مشددة قال
القاضي الكناني هذا هو الصواب وهو طبق من خوص قوله في الاسناد (يحيى بن صالح
الوحاظى) هو بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة منسوب إلى وحاظة قبيلة من
حمير هكذا ضبطه الجمهور وكذا نقله القاضي عياض عن شيوخهم قال وقال أبو الوليد الباجي
هو بفتح الواو قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بثلاثة أقرصة فجعل قدامه
قرصا وقدامي قرصا وكسر الثالث فوضع نصفه بين يديه ونصفه بين يدي) فيه استحباب مواساة الحاضرين
على الطعام وأنه يستحب جعل الخبز ونحوه بين أيديهم بالسوية وأنه لا بأس بوضع الأرغفة
والأقراص صحاحا غير مكسورة
8

باب إباحة أكل الثوم وأنه ينبغي لمن أراد خطاب
(الكبار تركه وكذا ما في معناه)
قوله في الثوم (فسألته أحرام هو قال لا ولكني أكرهه من أجل ريحة) هذا تصريح بإباحة الثوم وهو
مجمع عليه لكن يكره لن أراد حضور جمع في غير المسجد أو مخاطبة الكبار ويلحق
بالثوم كل ماله رائحة كريهة وقد سبقت المسألة مستوفاة في كتاب الصلاة قوله (وكان النبي صلى
الله عليه وسلم يؤتى) معناه تأتيه الملائكة والوحي كما جاء في الحديث الآخر انى أناجي من لا تناجى وأن
الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم وكان صلى الله عليه وسلم يترك الثوم دائما لأنه يتوقع مجئ
الملائكة والوحي كل ساعة واختلف أصحابنا في حكم الثوم في حقه صلى الله عليه وسلم وكذلك البصل
والكراث ونحوها فقال بعض أصحابنا هي محرمة عليه والأصح عندهم أنها مكروه كراهة تنزيه
ليست محرمة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لافى جواب قوله أحرام هو ومن قال بالأول يقول
معنى الحديث ليس بحرام في حقكم والله أعلم قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى
بطعام أكل منه وبعث بفضله إلى) العلماء قال العلماء في هذا أنه يستحب للآكل والشارب أن يفضل
مما يأكل ويشرب فضلة ليواسي بها من بعده لا سيما إن كان ممن يتبرك بفضلته وكذا إذا كان
في الطعام قلة ولهم إليه حاجة ويتأكد هذا في حق الضيف لا سيما ان كانت عادة أهل الطعام أن
9

يخرجوا كل ما عندهم وتنتظر عيالهم الفضلة كما يفعله كثير من الناس ونقلوا أن السلف كانوا
يستحبون افضال هذه الفضلة المذكورة وهذا الحديث أصل ذلك كله قوله (نزل النبي صلى الله
عليه وسلم في السفل وأبو أيوب في العلو ثم ذكر كراهة أبى أيوب لعلوه ومشية فوق رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى العلو) أما نزوله صلى الله عليه وسلم أولا
في السفل فقد صرح بسببه وأنه أرفق به وبأصحابه وقاصديه وأما كراهة أبى أيوب فمن الأدب
المحبوب الجميل وفيه اجلال أهل الفضل والمبالغة في الأدب معهم والسفل والعلو بكسر أولهما
وضمه لغتان وفيه منقبة ظاهرة لأبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه من أوجه منها نزوله صلى الله
عليه وسلم ومنها أدبه معه ومنها موافقته في ترك الثوم وقوله (انى أكره ما تكره) ومن أوصاف
المحب الصادق أن يحب ما أحب محبوبه ويكره ما كره قوله (فكان يصنع للنبي صلى الله عليه
وسلم طعاما فإذا جئ به إليه سأل عن موضع أصابعه فيتتبع موضع أصابعه) يعنى إذا بعث إليه
فأكل منه حاجته ثم رد الفضلة أكل أبو أيوب من موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم
10

تبركا ففيه التبرك بآثار أهل الخير في الطعام وغيره قوله (فقيل له لم يأكل ففزع) يعنى
فزع لخوفه أن يكون حدث منه أمر أوجب الامتناع من طعامه قوله (حدثنا حجاج وأحمد
ابن سعيد قالا حدثنا أبو النعمان حدثنا ثابت في رواية حجاج بن يزيد أخو زيد الأحول)
هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا أخو زيد بالخاء وهو غلط باتفاق الحفاظ وصوابه أبو زيد بالياء
كنية لثابت وكذا نقله القاضي عياض على الصواب عن جميع شيوخهم ونسخ بلادهم وأنه في
كلها أبو زيد بالباء قال ووقع لبعضهم أخو زيد وهو خطأ مخض وإنما هو ثابت بن زيد أبو زيد
الأنصاري البصري الأحول وحكى البخاري في تاريخه عن أبي دارد الطيالسي أنه قال ثابت
ابن ريد قال البخاري والأصح ثابت بن يزيد بالياء أبو زيد وقوله (في أصل كتاب مسلم
الأحول) مرفوع صفة لثابت والله أعلم
باب اكرام الصيف وفضل إيثاره
قوله انى مجهود) أي أصابني الجهد وهو المشقة والحاجة وسوء العيش والجوع قوله (أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما أتاه هذا المجهود أرسل إلى نسائه واحدة فقالت كل واحدة والذي
11

بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال
أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله وذكر صنيعه وصنيع امرأته) هذا الحديث مشتمل على فوائد
كثيرة منها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته من الزهد في الدنيا والصبر على الجوع
وضيق حال الدنيا ومنها أنه ينبغي لكبير القوم أن يبدأ في مواساة الضيف ومن يطرقهم بنفسه
فيواسيه من ماله أولا بما يتيسر ان أمكنه ثم يطلب له على سبيل التعاون على البر والتقوى من
أصحابه ومنها المواساة في حال الشدائد ومنها فضيلة اكرام الضيف وإيثاره ومنها منقبة لهذا
الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما ومنها الاحتيال في اكرام الضيف إذا كان يمتنع منه رفقا
باهل المنزل لقوله اطفئ السراج وأريه أنا نأكل فإنه لو رأى قلة الطعام وأنهما لا يأكلان معه
لامتنع من الأكل وقوله (فانطلق به إلى رحله) إلى منزله ورحل الانسان هو منزله من حجر أو
مدر أو شعر أو وبر قوله (فقال لامرأته هل عدك شئ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم
بشئ هذا محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين إلى الأكل وإنما تطلبه أنفسهم على عادة
الصبيان من غير جوع يضرهم فإنهم لو كانوا على حاجة بحيث يضرهم ترك الأكل لكان اطعامهم
واجبا ويجب تقديمه على الضيافة وقد أثنى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل وامرأته
فدل على أنهما لم يتركا واجبا بل أحسنا وأجملا رضي الله عنهما وأما هو وامرأته فآثرا على أنفسهما
برضاهما مع حاجتهما وخصاصتهما فمدحهما الله تعالى وأنزل فيهما على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة فضيلة الايثار والحث عليه وقد أجمع العلماء على فضيلة الايثار بالطعام ونحوه
من أمور الدنيا وحظوظ النفوس أما القربات فالأفضل أن لا يؤثر بها لأن الحق فيها لله تعالى
12

والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) قال القاضي المراد
بالعجب من الله رضاه ذلك قال وقد يكون المراد عجبت ملائكة الله وأضافه إليه سبحانه وتعالى
تشريفا قوله (أقبلت أنا وصاحبان لي قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد فجلنا نعرض
أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد يقبلنا فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم
فانطلق بنا) أما قوله الجهد فهو بفتح الجيم وهو الجوع والمشقة وقد سبق في أول الباب وقوله
(فليس أحد يقبلنا) هذا محمول على أن الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا مقلين ليس عندهم
13

شئ يواسون به قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجئ من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ
نائما ويسمع اليقظان) هذا فيه آداب السلام على الايقاظ في موضع فيه نيام أو من في معناهم وأنه
يكون سلاما متوسطا بين الرفع والمخافتة بحيث يسمع الايقاظ ولا يهوش على غيرهم قوله
(ما به حاجة إلى هذه الجرعة) هي بضم الجيم وفتحها حكاهما ابن السكيت وغيره وهي الحشوة
من المشروب والفعل منه جرعت بفتح الجيم وكسر الراء قوله (وغلت في بطني) بالغين
المعجمة المفتوحة أي دخلت وتمكنت منه قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم
أطعم من أطعمني وأسق من سقاني) فيه الدعاء للمحسن والخادم ولمن سيفعل خيرا وفيه
14

ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والأخلاق المرضية والمحاسن المرضية وكرم النفس
والصبر والاغضاء من حقوقه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن نصيبه من اللبن قوله في
الأعنز (إذا هن حفل كلهن) هذه من معجزات النبوة وآثار بركته صلى الله عليه وسلم قوله (فحلبت
فيه حتى علته رغوة) هي زبد اللبن الذي يعلوه وهي بفتح الراء وضمها وكسرها ثلاث لغات
مشهورات ورغاوة بكسر الراء وحكى ضمها ورغاية بالضم وحكى الكسر وارتغيت شربت الرغوة
قوله (فلما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قذ روى وأصبت دعوته ضحكت حتى ألقيت
إلى الأرض فقال النبي صلى الله عليه وسلم احدى سوأتك يا مقداد) معناه انه كان عنده حزن
شديد خوفا من أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أذهب نصيب النبي صلى الله
عليه وسلم وتعرض لأذاه فلما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى وأجيبت دعوته
فرح وضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه لذهاب ما كان به من الحزن وانقلابه سرورا
بشرب النبي صلى الله عليه وسلم وإجابة دعوته لمن أطعمه وسقاه وجريان ذلك على يد المقداد
وظهور هذه المعجزة ولتعجبه من قبح فعله أولا وحسنه آخرا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم احدى
سوأتك يا مقداد أي انك فعلت سوءة من الفعلات ما هي فأخبره خبره فقال النبي صلى الله عليه
15

وسلم ما هذه الا رحمة من الله تعالى أي احداث هذا اللبن في غير وقته وخلاف عادته وإن كان
الجميع من فضل الله تعالى قوله (جاء رجل مشرك مشعان) هو بضم الميم واسكان الشين المعجمة
وتشديد النون أي منتفش الشعر ومتفرقة قوله (وأمر بسواد البطن أن يشوى) يعنى
الكبد قوله (وأيم الله ما من الثلاثين ومائه الا حز له رسول الله صلى الله عليه وسلم حزة من
سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاه وإن كان غائبا خبأ له وجعل قصعتين فأكلنا منهما أجمعون
16

وشبعنا وفضل في القصعتين فحملته على البعير) الحزة بضم الحاء وهي القطعة من اللحم وغيره
والقصعة بفتح القاف وفى هذا الحديث معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إحداهما تكثير سواد البطن حتى وسق هذا العدد والأخرى بكثير الصاع ولحم الشاة حتى
أشبعهم أجمعين وفضلت منه فضلة حملوها لعدم حاجة أحد إليها وفيه مواساة الرفقة فيما
يعرض لهم من طرفة وغيرها وأنه إذا غاب بعضهم خبئ نصيبه قوله صلى الله عليه وسلم
(من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس
بسادس) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم فليذهب بثلاثة ووقع في صحيح البخاري
فليذهب بثلاث قال القاضي هذا الذي ذكره البخاري هو الصواب وهو الموافق لسياق
باقي الحديث قلت وللذي في مسلم أيضا وجه وهو محمول على موافقة البخاري وتقديره
فليذهب بمن يتم ثلاثة أو بتمام ثلاثة كما قال الله تعالى " فيها أقواتها في أربعة أيام " أي في تمام
أربعة وسبق في كتاب الجنائز إيضاح هذا وذكر نظائره وفى هذا الحديث فضيلة الايثار
والمواساة وأنه إذا حضر ضيفان كثيرون فينبغي للجماعة أن يتوزعوهم ويأخذ كل واحد منهم
من يحتمله وأنه ينبغي لكبير القوم أن يأمر أصحابه بذلك ويأخذ هو من يمكنه قوله (وان
أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة) هذا مبين لما كان عليه النبي
17

صلى الله عليه وسلم من الأخذ بأفضل الأمور والسبق إلى السخاء والجود فإن عيال النبي صلى الله
عليه وسلم كانوا قريبا من عدد ضيفانه هذه الليلة فأتى بنصف طعامه أو نحوه وأتى أبو بكر رضي الله عنه
بثلث طعامه أو أكثر وأتى الباقون بدون ذلك والله أعلم قوله (فإن أبا بكر تعشى عند النبي
صلى الله عليه وسلم فثم لبث حتى صليت العشاء ثم رجع فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجاء) قوله نعس بفتح العين وفى هذا جواز ذهاب من عنده ضيفان إلى أشغاله ومصالحه
إذا كان له من يقوم بأمورهم ويسد مسده كما كان لأبى بكر هنا عبد الرحمن رضي الله عنهما وفيه
ما كان عليه أبو بكر رضي الله عنه من الحب للنبي صلى الله عليه وسلم والانقطاع إليه وإيثاره
في ليله ونهاره على الأهل والأولاد والضيفان وغيرهم قوله (في الأضياف أنهم امتنعوا من
الأكل حتى يحضر أبو بكر رضي الله عنه) هذا فعلوه أدبا ورفقا بأبى بكر فيما ظنوه لأنهم ظنوا
أنه لا يحصل له عشاء من عشائهم قال العلماء والصواب للضيف أن لا يمتنع مما أراده المضيف
من تعجيل طعام وتكثيره وغير ذلك من أمور الا أن يعلم أنه يتكلف ما يشق عليه حياء منه
فيمنعه برفق ومتى شك لم يعترض عليه ولم يمتنع فقد يكون للمضيف عذر أو غرض في ذلك
لا يمكنه اظهاره فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف كما جرى في قصة أبى بكر رضي الله عنه قوله
(عن عبد الرحمن فذهبت فاختبأت وقال يا غنثر فجدع وسب) أما اختباؤه فخوفا من خصام أبيه
18

له وشتمه إياه وقوله فجدع أي دعا بالجدع وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء والسب الشتم
وقوله يا غنثر بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة لغتان هذه
هي الرواية المشهورة في ضبطه قالوا وهو الثقيل الوخم وقيل هو الجاهل مأخوذ من الغثارة بفتح
الغين المعجمة وهي الجهل والنون فيه زائدة وقيل هو السفيه وقيل هو ذباب أزرق وقيل هو اللئيم
مأخوذ من الغثر وهو اللؤم وحكى القاضي عن بعض الشيوخ أنه قال إنما هو غنثر بفتح الغين
والثاء ورواه الخطابي وطائفة عنتر بعين مهملة وتاء مثناة مفتوحتين قالوا وهو الذباب وقيل هو
الأزرق منه شبهه به تحقيرا له قوله (كلوا لا هنيئا) إنما قاله لما حصل له من الحرج والغيظ
بتركهم العشاء بسببه وقيل إنه ليس بدعاء إنما أخبر أي لم تتهنأوا به في وقته قوله (والله لا أطعمه
أبدا) وذكر في الرواية الأخرى في الأضياف قالوا والله لا نطعمه حتى تطعمه ثم أكل وأكلوا فيه
أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فعل ذلك وكفر عن يمينه كما جاءت به الأحاديث الصحيحة
وفيه حمل المضيف المشقة على نفسه اكرام ضيفانه وإذا تعارض حنثه نفسه لأن
حقهم عليه آكد وهذا الحديث الأول مختصر توضحه الرواية الثانية وتبين ما حذف منه وما هو
مقدم أو مؤخر قوله (ما كنا نأخذ من لقمة الاربا من أسفلها أكثر منها وأنهم أكلوا منها حتى
شبعوا وصارت بعد ذلك أكثر مما كانت بثلاث مرار ثم حملوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل
منها الخلق الكثير) فقوله الاربا من أسفلها أكثر ضبطوه بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة هذا
الحديث فيه كرامة ظاهرة لأبى بكر الصديق رضي الله عنه وفيه اثبات كرامات الأولياء وهو مذهب
أهل السنة خلافا للمعتزلة قوله (فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر) وقوله (لهي الآن أكثر
منها) ضبطوهما أيضا بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة قولها (لا وقرة عيني لهي الآن أكثر منها) قال
أهل اللغة قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الانسان ويوافقه قيل إنما قيل ذلك لأن
19

عينه تقر لبلوغها أمنيته فلا يستشرف لشئ فيكون مأخوذ من القرار وقيل مأخوذ من القر
بالضم وهو البرد أي عينه باردة لسرورها وعدم مقلقها قال الأصمعي وغيره أقر الله عينه أي
أبرد دمعته لأن دمعة الفرح باردة ودمعة الحزن حارة ولهذا يقال في ضده أسخن الله عليه قال
صاحب المطالع قال الداودي أرادت بقرة عينها النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت به ولفظة لافى
قولها لا وقرة عيني زائد ولها نظائر مشهورة ويحتمل أنها نافية وفيه محذوف أي لا شئ غير ما أقول
وهو وقرة عيني لهي أكثر منها قوله (يا أخت بني فراس) هذا خطاب من أبى بكر لامرأته أم ورومان
ومعناه يامن هي من بنى فراس قال القاضي فراس هو ابن غنم بن مالك بن كنانة ولا خلاف في نسب
أم رومان إلى غنم بن مالك واختلفوا في كيفية انتسابها إلى غنم اختلافا كثيرا واختلفوا هل هي
من بنى فراس بن غنم أم من بنى الحارث بن غنم وهذا الحديث الصحيح كونها من بنى فراس بن غنم قوله
(فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس) هكذا هو في معظم النسخ فعرفنا بالعين وتشديد الراء
أي جعلنا عرفاء وفى كثير من النسخ ففرقنا بالفاء المكررة في أوله بقاف من التفريق أي جعل كل
رجل من الاثني عشر مع فرقة فهما صحيحان ولم يذكر القاضي هنا غير الأول وفى هذا الحديث دليل لجواز
تفريق العرفاء على العساكر ونحوها وفى سنن أبي داود العرافة حق لما فيه من مصلحة الناس وليتيسر
ضبط الجيوش ونحوها على الامام باتخاذ العرفاء وأما الحديث الآخر العرفاء في النار فمحمول على
العرفاء المقصرين في ولايتهم المرتكبين فيها ما لا يجوز كما هو معتاد لكثير منهم قوله فعرفنا
اثنا عشر رجلا مع كل واحد منهم أناس هكذا هو في معظم النسخ وفى نادر منها اثنى عشر وكلاهما
صحيح والأول جار على لغة من جعل المثنى بالألف في الرفع والنصب والجر وهي لغة أربع
20

قبائل من العرب ومنها قوله تعالى هذان لساحران ذلك وقد سبقت المسألة مرات
قوله (أفرغ من أضيافك) أي عشهم وقوم بحقهم قوله (جئناهم بقراهم) هو بكسر القاف
مقصور وهو ما يصنع للضيف من مأكول ومشروب قوله (حتى يجئ أبو منزلنا) أي صاحبه
قوله (انه رجل حديد) أي فيه قوة وصلابة ويغضب لانتهاك الحرمات والتقصير في حق
ضيفه ونحو ذلك قوله (مالكم ألا تقبلوا منا قراكم) قال القاضي عياض قوله ألا هو بتخفيف
اللام على التحضيض واستفتاح الكلام هكذا رواه الجمهور قال ورواه بعضهم بالتشديد ومعناه
مالكم لا تقبلوا قراكم وأي شئ منعكم ذلك وأحوجكم إلى تركه قوله (أما الأولى فمن الشيطان)
21

يعنى يمينه قال القاضي وقيل معناه اللقمة الأولى فلقمع الشيطان وارغامه ومخالفته في مراده
باليمين وهو ايقاع الوحشة بينه وبين أضيافه فأخزاه أبو بكر بالحنث الذي هو خير قوله (قال
أبو بكر يا رسول الله بروا وحنثت فقال بل أن أبرهم وأخيرهم قال ولم تبلغني كفارة) ومعناه
بروا في أيمانهم وحنث في يميني فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أنت أبرهم أي أكثرهم طاعة
وخير منهم لأنك حنثت في يمينك حنثا مندوبا إليه محثوثا عليه فأنت أفضل منهم قوله (وأخيرهم
هكذا هو في جميع النسخ وأخيرهم بالألف وهي لغة سبق بيانها مرات وأما قوله (ولم تبلغني
كفارة) يعنى لم يبلغني أنه كفر قبل الحنث فأما وجوب الكفارة فلا خلاف فيه لقوله صلى الله
عليه وسلم من خلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وهذا
نص في عين المسألة مع عموم قوله تعالى يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته اطعام الخ
باب فضيلة المواساة في الطعام القليل
(وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة ونحو ذلك
قوله صلى الله عليه وسلم (طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة) وفى رواية جابر
22

طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام يكفي الأربعة يكفي الثمانية) هذا
فيه الحث على المواساة في الطعام وأنه وإن كان قليلا حصلت منه الكفاية المقصودة ووقعت
فيه بركة تعم الحاضرين عليه والله أعلم
باب المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء
قوله صلى الله عليه وسلم (الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد) وفى الرواية
23

الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام بعد أن ضاف كافرا فشرب حلاب سبع شياه
ثم أسلم من الغد فشرب حلاب شاة ولم يستتم حلاب الثانية قال القاضي قيل إن هذا في رجل
بعينه فقيل له على جهة التمثيل وقيل إن المراد أن المؤمن يقتصد في أكله وقيل المراد المؤمن
يسمى الله تعالى عند طعامه فلا يشركه فيه الشيطان والكافر لا يسمى فيشاركه الشيطان فيه
وفى صحيح مسلم أن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه قال أهل الطب
لكل انسان سبعة أمعاء المعدة ثم ثلاثة متصلة بها رقاق ثم ثلاثة غلاظ فالكافر لشرهه
وعدم تسميته لا يكفيه إلا ملؤها والمؤمن لاقتصاده وتسميته يشبعه ملء أحدها ويحتمل
أن يكون هذا في بعض المؤمنين وبعض الكفار وقيل المراد بالسبعة سبع صفات
الحرص والشره وطول الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد والسمن وقيل المراد بالمؤمن
هنا تام الايمان المعرض عن الشهوات المقتصر على سد خلته والمختار أن معناه بعض المؤمنين
24

يأكل في معي واحد وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء ولا يلزم أن كل واحد من
السبعة مثل معي المؤمن والله أعلم قال العلماء ومقصود الحديث التقليل من الدنيا والحث على
الزهد فيها والقناعة مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجل وكثرة الأكل بضده وأما قول
ابن عمر في المسكين الذي أكل عنده كثيرا لا يدخلن هذا على فإنما قال هذا لأنه أشبه الكفار
ومن أشبه الكفار كرهت مخالطته لغير حاجة أو ضرورة ولأن القدر الذي يأكله هذا يمكن
25

أن يسد به خلة جماعة وأما الرجل المذكور في الكتاب الذي شرب حلاب سبع شياه فقيل
هو ثمامة بن أثال وقيل جهجاه الغفاري وقيل نضرة بن أبي نضرة الغفاري والله أعلم
باب لا يعيب الطعام
قوله (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط كان إذا اشتهى شيئا أكله وان كرهه تركه)
هذا من آداب الطعام المتأكدة وعيب الطعام كقوله مالح قليل الملح حامض رقيق غليظ غير
ناضج ونحو ذلك وأما حديث ترك أكل الضب كل فليس هو من عيب الطعام إنما هو اخبار بان
هذا الطعام الخاص لا أشتهيه وذكر مسلم في الباب اختلاف طرق هذا الحديث فرواه أولا
من رواية الأكثرين عن الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة ثم رواه عن أبي معاوية عن
الأعمش عن أبي يحيى مولى آل جعدة عن أبي هريرة وأنكر عليه الدارقطني هذا الاسناد الثاني
وقال هو معلل قال القاضي وهذا الاسناد من الأحاديث المعللة في كتاب مسلم التي بين مسلم علتها
26

كما وعد في خطبته وذكر الاختلاف فيه ولهذه العلة لم يذكر البخاري حديث أبي معاوية
ولأخرجه من طريقه بل خرجه من طريق آخر وعلى كل حال فالمتن صحيح لا مطعن فيه والله أعلم
كتاب اللباس والزينة
باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة
(في الشرب وغيره على الرجال والنساء)
قوله صلى الله عليه وسلم (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفى رواية
ان الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب وفى رواية من شرب في إناء من ذهب أو فضة
فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم اتفق العلماء من أهل الحديث واللغة والغريب وغيرهم على
كسر الجيم الثانية من يجر جر واختلفوا في راء النار في الرواية الأولى فنقلوا فيها النصب والرفع
وهما مشهوران في الرواية وفى كتب الشارحين وأهل الغريب واللغة والنصب هو الصحيح
27

المشهور الذي جزم به الأزهري وآخر ومن المحققين ورجحه الزجاج والخطابي والأكثرون
ويؤيده الرواية الثالثة يجرجر في بطنه نارا من جهنم ورويناه في مسند أبى عوانة الأسفرايني
وفى الجعديات من رواية عائشة رضي الله عنها إنما يجرجر في جوفه نارا كذا هو في الأصول
نار من غير ذكر جهنم وأما معناه فعلى رواية النصب الفاعل هو الشارب مضمر في يجرجر
أي يلقيها في بطنه يجرع متتابع يسمع له جرجرة وهو الصوت لتردده في حلقه وعلى رواية
الرفع تكون النار فاعله ومعناه تصوت النار في بطنه والجرجرة هي التصويت وسمى المشروب
نارا لأنه يؤول إليها كما قال تعالى الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم
نارا جهنم عافانا الله منها ومن كل بلاء فقال الواحدي قال يونس وأكثر النحويين هي
عجمية لا تنصرف للتعريف والعجمية وسميت بذلك لبعد قعرها يقال بئر جهنام إذا كانت
عميقة القعر وقال بعض اللغويين مشقة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك لغلظ أمرها
في العذاب والله أعلم قال القاضي واختلفوا في المراد بالحديث فقيل هو إخبار عن الكفار من
ملوك العجم وغيرهم الذين عادتهم فعل ذلك كما قال في الحديث الآخر هي لهم في الدنيا ولكم
في الآخرة أي هم المستعملون لها في الدنيا وكما قال صلى الله عليه وسلم في ثوب الحرير إنما
يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب قال وقيل المراد نهى المسلمين عن ذلك وأن
28

من ارتكب هذا النهى استوجب هذا الوعيد وقد يعفو الله عنه هذا كلام القاضي والصواب
أن النهى يتناول جميع من يستعمل إناء الذهب أو الفضة من المسلمين والكفار لأن الصحيح أن
الكفار مخاطبون بفروع الشرع والله أعلم وأجمع المسلمون على تحريم الأكل والشرب في إناء
الذهب وإناء الفضة على الرجل وعلى المرأة ولم يخالف في ذلك أحد من العلماء إلا ما حكاه أصحابنا
العراقيون أن للشافعي قولا قديما أنه يكره ولا يحرم وحكوا عن داود الظاهري تحريم الشرب
وجواز الأكل وسائر وجوه الاستعمال وهذان النقلان باطلان أما قول داود فباطل لمنابذة صريح
هذه الأحاديث في النهى عن الأكل والشرب جميعا ولمخالفة الاجماع قبله قال أصحابنا انعقد الاجماع
على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمال في إناء ذهب أو فضة إلا ما حكى عن داود وقول الشافعي
في القديم فهما مردودان بالنصوص والاجماع وهذا إنما يحتاج إليه على قول من يعتد بقول داود
في الاجماع والخلاف والا فالمحققون يقولون لا يعتد به لاخلاله بالقياس وهو أحد شروط المجتهد
الذي يعتد به وأما قول الشافعي القديم فقال صاحب التقريب أن سياق كلام الشافعي في القديم
يدل على أنه أراد أن نفس الذهب والفضة الذي اتخذ منه الاناء ليست حراما ولهذا لم يحرم الحلى على
المرأة هذا كلام صاحب التقريب وهو من متقدمي أصحابنا وهو أتقنهم لنقل نصوص الشافعي
ولأن الشافعي رجع عن هذا القديم والصحيح عند أصحابنا وغيرهم من الأصولين أن المجتهد
إذا قال قولا ثم رجع عنه لا يبقي قولا له ولا ينسب إليه قالوا وإنما يذكر القديم وينسب
إلى الشافعي مجازا وباسم ما كان عليه لا أنه قول له الآن فحصل مما ذكرناه أن الاجماع منعقد
على تحريم استعمال اناء الذهب واناء الفضة في الأكل والشرب والطهارة والأكل بملعقة من
أحدهما والتجمر بمجمرة منهما والبول غي الإناء منهما وجميع وجوه الاستعمال ومنها المكحلة
والميل وطرف العالية وغير ذلك سواء الاناء الصغير والكبير ويستوى في التحريم الرجل
29

والمرأة بلا خلاف وإنما فرق بين الرجل والمرأة في التحلي لما يقصد منها من التزين للزوج
والسيد قال أصحابنا ويحرم استعمال ماء الورد والادهان من قارورة الذهب والفضة قالوا
فإن ابتلى بطعام في اناء ذهب أو فضة فيخرج الطعام إلى اناء آخر من غيرهما ويأكل منه
فإن لم يكن اناء آخر فليجعله على رغيف ان أمكن وان ابتلى بالدهن في القارورة فضة فليصبه
في يده اليسرى ثم يصبه من اليسرى في اليمين ويستعمله قال أصحابنا ويحرم تزيين الحوانيت
والبيوت والمجالس بأواني الفضة والذهب هذا هو الصواب وجوزه بعض أصحابنا قالوا وهو
غلط قال الشافعي والأصحاب لو توضأ أو اغتسل من اناء ذهب أو فضة عصى بالفعل وصح
وضوءه وغسله هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة والعلماء كافة الا داود فقال لا يصح والصواب
الصحة وكذا لو أكل منه أو شرب عصى بالفعل ولا يكون المأكول والمشروب حراما هذا
كله في حال الاختبار وأما إذا اضطر إلى استعمال اناء فلم يجد الا ذهبا أو فضة فله استعماله في حال
الضرورة بلا خلاف صرح به أصحابنا قالوا كما تباح الميتة في حال الضرورة قال أصحابنا ولو باع
هذا الاناء صح بيعه لأنه عين طاهرة يمكن الانتفاع بها بأن تسبك وأما اتخاذ هذه الأواني
من غير استعمال فللشافعي والأصحاب فيه خلاف والأصح تحريمه والثاني كراهته فإن كرهناه
استحق صانعه الأجرة ووجب على كاسره أرش النقص والا فلا وأما اناء الزجاج النفيس
فلا يحرم بالاجماع وأما اناء الياقوت والزمرد والفيروزج ونحوها فالأصح عند أصحابنا جواز
استعمالها ومنهم من حرمها والله أعلم
30

باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء
(وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء)
(وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع
قوله (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض
واتباع الجنازة وتشميت العاطس وابرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء
السلام ونهانا عن خواتيم أو عن تختم بالذهب وعن شرب بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن
لبس الحرير والإستبرق والديباج) وفى رواية وانشاد الضالة بدل ابرار القسم أو المقسم
وفى رواية ورد السلام بدل افشاء السلام أما عيادة المريض فبسنة بالاجماع وسواء فيه
من يعرفه ومن لا يعرفه والقريب والأجنبي واختلف العلماء في الأوكد ولأفضل منهما
وأما اتباع الجنائز فسنة بالاجماع أيضا وسواء فيه من يعرفه وقريبة وغيرهما وسبق ايضاحه
في الجنائز وأما تشميت العاطس فهو أن يقول له يرحمك الله ويقال بالسين المهملة والمعجمة
لغتان مشهورتان قال الأزهري قال الليث التشميت ذكر الله تعالى على كل شئ ومنه قوله
للعاطس يرحمك الله وقال ثعلب يقال سمت العاطس وشمته إذا دعوت له بالهدى وقصد السمت
المستقيم قال والأصل فيه السين المهملة فقلبت شينا معجمة وقال صاحب المحكم تسميت العاطس
معناه هداك الله إلى السمت قال وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق قال أبو عبيد وغيره
31

الشين المعجمة على اللغتين قال ابن الأنباري ويقال منه شمته وسمت عليه إذا دعوت له بخير وكل
داع بالخير فهو مشمت ومسمت العاطس سنة وهو سنة على الكفاية إذا فعل بعض
الحاضرين سقط الأمر عن الباقين وشرطه أن يسمع قول العاطس الحمد لله كما سنوضحه مع
فروع تتعلق به في بابه إن شاء الله تعالى وأما ابرار القسم فهو سنة أيضا مستحبة متأكدة
وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف ضرر أو نحو ذلك فإن كان شئ من هذا لم يبر
قسمه كما ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه لما عبر الرؤيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني
فقال لا تقسم ولم يخبره وأما نصر المظلوم فمن فروض الكفاية وهو من جملة الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر وإنما يتوجه الأمر به لي من قدر عليه ولم يخف ضررا وأما إجابة الداعي
فالمراد به الداعي إلى وليمة ونحوها من الطعام وسبق ايضاح ذلك بفروعه في باب الوليمة من
كتاب النكاح وأما افشاء السلام فهو اشاعته واكثاره وأن يبذله لكل مسلم كما قال صلى الله
عليه وسلم في الحديث الآخر وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وسبق بيان هذا في
كتاب الايمان في حديث افشوا السلام وسنوضح فروعه في بابه إن شاء الله تعالى وأما رد
السلام فهو فرض بالاجماع فإن كان السلام على واحد كان الرد فرض عين عليه وإن كان
على جماعة كان فرض كفاية في حقهم إذا رد أحدهم سقط الحرج عن الباقين وسنوضحه بفروعه
في بابه إن شاء الله تعالى وأما إنشاد الضالة فهو تعريفها وهو مأمور به وسبق تفصيله في
كتاب اللقطة وأما خاتم الذهب فهو حرام على الرجل بالاجماع وكذا لو كان بعضه ذهبا
وبعضه فضة حتى قال أصحابنا لو كانت سن الخاتم ذهبا أو كان مموها بذهب يسير فهو
حرام لعموم الحديث الآخر في الحرير والذهب ان هذين حرام على ذكور أمتي حل
لإناثها وأما لبس الحرير والإستبرق والديباج والقسي وهو نوع من الحرير فكله
حرام على الرجال سواء لبسه للخيلاء أو غيرها الا أن يلبسه للحكة فيجوز في السفر والحضر
وأما النساء فيباح لهن لبس الحرير وجميع أنواعه وخواتيم الذهب وسائر الحلى منه ومن الفضة
سواء المزوجة وغيرها والشابة والعجوز والغتية والفقيرة هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير
على الرجال واباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير وحكى القاضي عن قوم إباحته للرجال
32

والنساء وعن ابن الزبير تحريمه عليهما ثم انعقد الاجماع على إباحته للنساء وتحريمه على الرجال
ويدل عليه الأحاديث المصرحة بالتحريم مع الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا في تشقيق
علي رضي الله عنه الحرير بين نسائه وبين الفواطم خمرا لهن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره
بذلك كما صرح به في الحديث والله أعلم وأما الصبيان فقال أصحابنا يجوز الباسهم الحلى والحرير
في يوم العيد لأنه لا تكليف عليهم وفى جواز الباسهم ذلك في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها
جوازه والثاني تحريمه والثالث يحرم بعد سن التمييز وأما قوله وعن شرب بالفضة فقد سبق
إيضاحه في الباب قبله وأما قوله (وعن المياثر) فهو بالثاء المثلثة قبل الراء قال العلماء هو جمع مئثرة
بكسر الميم وهي وطاء كانت النساء يضعنه لأزواجهن على السروج وكان من مراكب العجم
ويكون من الحرير ويكون من الصوف وغيره وقيل أغشية للسروج تتخذ من الحرير وقيل
هي سروج من الديباج وقيل هي شئ كالفراش الصغير تتخذ من حرير تحشى بقطن أو صوف
يجعلها الراكب على البعير تحته فوق الرحل والمئثرة مهموزة وهي مفعلة بكسر الميم من الوثارة
يقال وثر بضم الثاء وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطئ لين وأصلها موثرة فقلبت الواو ياء
لكسرة ما قبلها كما في ميزان وميقات وميعاد من الوزن والوقت والوعد وأصله موزان وموقات
ومعاد قال العلماء فالمئثرة ان كانت من الحرير كما هو الغالب فيما كان من عادتهم فهي حرام
لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال سواء كان على رحل أو سرج
أو غيرهما وان كانت مئثرة من غير الحرير فليست بحرام ومذهبنا أنها ليست مكروهة أيضا فان
الثوب الأحمر لا كراهة فيه سواء كانت حمراء أم لا وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي
صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء وحكى القاضي عن بعض العلماء كراهتها لئلا يظنها الرائي
من بعيد حريرا وفى صحيح البخاري عن يزيد بن رومان المراد بالمئثرة جلود السباع وهذا قول
باطل مخالف للمشهور الذي أطبق عليه أهل اللغة والحديث وسائر العلماء والله أعلم وأما القسي
فهو بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة وهذا الذي ذكرنا من فتح القاف هو الصحيح
المشهور وبعض أهل الحديث يكسرها قال أبو عبيد أهل الحديث يكسرونها وأهل مصر
33

يفتحونها واختلفوا في تفسيره فالصواب ما ذكره مسلم بعد هذا بنحو رأسه في حديث النهى
عن التختم في الوسطى والتي تليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهاه عن لبس القسي وعن جلوس على المياثر قال فأما القسي فثياب مضلعة يؤتى بها من
مصر والشام فيها شبه كذا هو لفظ رواية مسلم وفى رواية البخاري فيها حرير أمثال الأترج
قال أهل اللغة وغريب الحديث هي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس بفتح القاف وهو موضع
من بلاد مصر وهو قرية على ساحل البحر قريبة من تنيس وقيل هي ثياب كتان مخلوط بحرير
وقيل هي ثياب من القز وأصله القزى بالزاي منسوب إلى القز وهو ردئ الحرير فأبدل من الزاي
سين وهذا القسي إن كان حريره أكثر من كتانه فالنهي عنه لتحريم والا فالكراهة للتنزيه
وأما الإستبرق فغليظ الديباج وأما الديباج فبفتح الدال وكسرها جمعه دبابيج وهو عجمي معرب
الديبا والديباج والإستبرق حرام لأنهما من الحرير والله أعلم قوله في حديث أبي بكر وعثمان
ابن أبي شيبة (وزاد في الحديث وعن الشرب) فالضمير في وزاد يعود إلى الشيباني الراوي عن
34

أشعث بن أبي الشعشاء قوله (فجاء دهقان) هو بكسر الدال على المشهور وحكى ضمها ممن حكاه
صاحب المشارق والمطالع وحكاهما القاضي في الشرح عن حكاية أبى عبيدة ووقع في نسخ صحاح الجوهري
أو بعضها مفتوحا وهذا غريب وهو زعيم فلاحى العجم وقيل زعيم القرية ورئيسها وهو بمعنى
الأول وهو عجمي معرب قيل النون فيه أصلية مأخوذ من الدهقنة وهي الرياسة وقيل زائدة
من الدهق وهو الامتلاء وذكره الجوهري في دهقن لكنه قال إن جعلت نونه أصلية من قولهم
تدهقن الرجل صرفته لأنه فعلان وان جعلته من الدهق لم تصرفه لأنه فعلان قال القاضي يحتمل
أنه سمى به من جمع المال وملأ الأوعية منه يقال دهقت الماء وأدهقته إذا أفرغته ودهق لي دهقة
من ماله أي أعطانيها وأدهقت الاناء أي ملأته قالوا يحتمل أن يكون من الدهقنة والدهمة وهي
لين الطعام لأنهم يلينون طعامهم وعيشهم لسعة أيديهم وأحوالهم وقيل لحذقه ودهائه والله أعلم
قوله (ان حذيفة رماه باناء الفضة حين جاءه بالشراب فيه وذكر أنه إنما رماه به لأنه كان نهاه
قبل ذلك عنه) فيه تحريم الشرب فيه وتعزير من ارتكب معصية لا سيما إن كان قد سبق نهيه
عنها كقضية الدهقان مع حذيفة وفيه أنه لا بأس أن يعزر الأمير ينفسه بعض مستحقي التعزير
وفيه أن الأمير والكبير إذا فعل شيئا صحيحا في نفس الأمر ولا يكون وجهه ظاهرا فينبغي
35

أن ينبه على دليله وسبب فعله ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فإنه لهم في الدنيا وهو لكم
في الآخرة) أي ان الكفار إنما يحصل لهم ذلك في الدنيا وأما الآخرة فمالهم فيها من نصيب
وأما المسلمون فلهم في الجنة الحرير والذهب وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر وليس في الحديث حجة لمن يقول الكفار غير مخاطبين بالفروع لأنه لم يصرح فيه بإباحته
لهم وإنما أخبر عن الواقع في العادة أنهم هم الذين يستعملونه في الدنيا وإن كان حراما
عليهم كما هو حرام على المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم (وهو لكم في الآخرة يوم القيامة)
إنما جمع بينهما لأنه قد يظن أنه بمجرد موته صار في حكم الآخرة في هذا الاكرام فبين
36

أنه إنما هو في يوم القيامة وبعده في الجنة أبدا ويحتمل أن المراد أنه لكم في الآخرة من حين
الموت ويستمر في الجنة أبدا قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تأكلوا في صحافها) جمع صحفة وهي
دون القصعة قال الجوهري قال الكسائي أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم
الصحفة تشبع الخمسة ثم المكيلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل قوله (رأى
حلة سيراء) هي بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مفتوحة ثم راء ثم ألف ممدودة وضبطوا
الحلة هنا بالتنوين على أن سيراء صفة وبغير تنوين على الإضافة وهما وجهان مشهوران
والمحققون ومتقنو العربية يختارون الإضافة قال سيبويه لم تأت فعلاء صفة وأكثر المحدثين
37

ينوون قال الخطابي حلة سيراء كما قالوا ناقة عشراء قالوا هي برود يخالطها حرير وهي مضلعة
بالحرير وكذا فسرها في الحديث في سنن أبي داود وكذا قاله الخليل والأصمعي وآخرون
قالوا كأنها شبهت خطوطها بالستور وقال ابن شهاب هي ثياب مضلعة بالقز وقيل هي مختلفة
الألوان وقال هي وشى من حرير وقيل إنها حرير محض وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى
حلة من إستبرق وفى الأخرى من ديباج أو حرير وفى رواية حلة سندس فهذه الألفاظ تبين
أن هذه الحلة كانت حديرا محضا وهو الصحيح الذي يتعين القول به في هذا الحديث جمعا بين
الروايات ولأنها هي المحرمة أما المختلط من حرير وغيره فلا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر
وزنا والله أعلم قال أهل اللغة الحلة لا تكون إلا ثوبان وتكون غالبا إزارا ورداء وفى حديث
عمر في هذه الحلة دليل لتحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء وإباحة هديته وإباحة ثمنه
وجواز إهداء المسلم إلى المشرك ثوبا وغيره واستحباب لباس أنفس ثيابه يوم الجمعة والعيد وعند
لقاء الوفود ونحوهم وعرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع ما يحتاج إليه من مصالحة
التي قد لا يذكرها وفيه صلة الأقارب والمعارف وان كانوا كفارا وجواز البيع والشراء عند
باب المسجد قوله صلى الله عليه وسلم (إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) قيل
معناه من لا نصيب له في الآخرة وقيل من لا حرمة له وقيل من لادين له فعلى الأول يكون
محمولا على الكفار وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر والله أعلم قوله (فكساها
عمر أخاله مشركا بمكة) هكذا رواه البخاري ومسلم وفى رواية للبخاري في كتاب قال أرسل
38

بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم فهذا يدل على أنه أسلم بعد ذلك وفى رواية في مسند
أبى عوانة الأسفرايني فكساها عمر أخا له من أمه من أهل مكة مشركا وفى هذا كله دليل لجواز
صلة الأقارب الكفار والاحسان إليهم وجواز الهدية إلى الكفار وفيه جواز إهداء ثياب الحرير
إلى الرجال لأنها لا تتعين للبسهم وقد يتوهم متوهم أن فيه دليلا على أن رجال الكفار يجوز لهم
لبس الحرير وهذا وهم باطل لأن الحديث إنما فيه الهدية إلى كافر وليس فيه الاذن له في لبسها
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى عمر وعلى وأسامة رضي الله عنهم ولا يلزم منه إباحة
لبسها لهم بل صرح صلى الله عليه ويلم بأنه إنما أعطاه لينتفع بها بغير اللبس والمذهب الصحيح
الذي عليه المحققون والأكثرون أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع فيحرم عليهم الحرير كما يحرم
على المسلمين والله أعلم قوله (رأى عمر عطارد التميمي يقيم بالسوق حلة) أي يعرضها للبيع
39

قوله صلى الله عليه وسلم (شققها خمرا بين نسائك) هو بضم الميم ويجوز إسكانها جمع خمار وهو ما يوضع
40

على رأس المرأة وفيه دليل لجواز لبس النساء الحرير وهو مجمع عليه اليوم وقد قدمنا أنه كان فيه خلاف
لبعض السلف وزال قوله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت بها إليك لتنتفع بها) أي تبيعها فتنتفع بثمنها
كما صرح به في الرواية التي قبلها وفى حديث ابن مثنى بعدها قوله (حدثني يحيى بن أبي إسحاق
قال قال لي سالم بن عبد الله في الإستبرق قلت ما غلظ من الديباج وخشن منه قال سمعت عبد الله
ابن عمر يقول وذكر الحديث) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وفى كتابي البخاري والنسائي قال لي
سالم ما الإستبرق قلت ما غلظ من الديباج وهذا معنى رواية مسلم لكنها مختصرة ومعناها قال
لي سالم في الإستبرق ما هو فقلت هو ما غلظ فرواية مسلم صحيحة لا قدح فيها وقد أشار القاضي
41

إلى تغليطها وأن الصواب رواية البخاري وليست بغلط بل صحيحة كما أوضحناه قوله (ومئثرة
الأرجوان) تقدم تفسير المئثرة وضبطها وأما الأرجوان فهو بضم الهمزة والجيم هذا هو الصواب
المعروف في روايات الحديث وفى كتب الغريب وفى كتب اللغة وغيرها وكذا صرح به
القاضي في المشارق وفى شرح القاضي عياض في موضعين منه أنه بفتح الهمزة وضم الجيم وهذا
غلط ظاهر من النساخ لامن القاضي عياض في موضعين منه أنه بفتح الهمزة قال أهل اللغة وغيرهم هو
صبغ أحمر شديد الحمرة هكذا قاله أبو عبيد والجمهور وقال الفراء هو الحمرة وقال ابن فارس هو
كل لون أحمر وقيل هو الصوف الأحمر وقال الجوهري هو شجر له نور أحمر أحسن ما يكون
قال وهو معرب وقال آخرون هو عربي قالوا والذكر والأنثى فيه سواء يقال هذا ثوب أرجوان
وهذه قطيفة أرجوان وقد يقولونه على الصفة ولكن الأكثر في استعماله إضافة الأرجوان إلى
ما بعده ثم إن أهل اللغة ذكروه في باب الراء والجيم والواو وهذا هو الصواب ولا يغتر بذكر
القاضي له في المشارق في باب الهمزة والراء والجيم ولا بذكر ابن الأثير له في الراء والجيم والنون
والله أعلم قوله (ان أسماء أرسلت إلى ابن عمر بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب ومئثرة
الأرجوان وصوم رجب كله فقال ابن عمر أما ذكرت من رجب فكيف بمن يصوم الأبد وأما
ما ذكرت من العلم في الثوب فانى سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
42

يقول إنما يلبس الحرير من لا خلاق له فحفت أن يكون العلم منه وأما مئثرة الأرجوان فهذه مئثرة
عبد الله أرجوان فهذه مئثرة عبد الله أرجوان فقالت هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت إلى بجبة طيالسة
كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت
فلما قبضت قبضها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها) أما
جواب ابن عمر في صوم رجب فانكار منه لما بلغها عنه من تحريمه واخبار بأنه يصوم رجبا كله
وأنه يصوم الأبد والمراد بالأبد ما سوى أيام العيدين والتشريق وهذا مذهبه ومذهب أبيه عمر
ابن الخطاب وعائشة وأبى طلحة وغيرهم من سلف الأمة ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه
لا يكره صوم الدهر وقد سبقت المسألة في كتاب الصيام مع شرح الأحاديث الواردة من الطرفين
وأما ما ذكرت عنه من كراهة العلم فلم يعترف بأنه كان يحرم بل أخبره أنه تورع عنه خوفا من دخوله
في عموم النهى عن الحرير وأما المئثرة فأنكر ما بلغها عنه فيها وقال هذه مئثرتى وهي أرجوان
والمراد أنها حمراء وليست من حرير بل من صوف أو غيره وقد سبق أنها قد تكون من حرير وقد
تكون من صوف وأن الأحاديث الواردة في النهى عنها مخصوصة بالتي هي من الحرير وأما اخراج
أسماء جبة النبي صلى الله عليه وسلم المكفوفة بالحرير فقصدت بها بيان أن هذا ليس محرما وهكذا
الحكم عند الشافعي وغيره أن الثوب والجبة والعمامة ونحوها إذا كان مكفوف الطرف بالحرير
جار ما لم يزد على أربع أصابع فان زاد فهو حرام لحديث عمر رضى الله تعالى عنه المذكور بعد
هذا وأما قوله (جبة طيالسة) فهو بإضافة جبة إلى طيالسة والطيالسة جمع طيلسان بفتح اللام
43

على المشهور قال جماهير أهل اللغة لا يجوز فيه غير فتح اللام وعدوا كسرها في تصحيف العوام
وذكر القاضي في المشارق في حرف السين والياء في تفسير الساج أن الطيلسان يقال بفتح اللام
وضمها وكسرها وهذا غريب ضعيف وأما قوله (كسروانية) فهو بكسر الكاف وفتحها والسين
ساكنة والراء مفتوحة ونقل القاضي أن جمهور الرواة رووه بكسر الكاف وهو نسبة إلى كسرى
صاحب العراق ملك الفرس وفيه كسر الكاف وفتحها قال القاضي ورواه الهروي في مسلم فقال
خسروانية وفى هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم وفيه أن النهى عن
الحرير المراد به الثوب المتمحض من الحرير أو ما أكثره حرير وأنه ليس المراد تحريم كل جزء منه
بخلاف الخمر والذهب فإنه يحرم كل جزء منهما وأما قوله في الجبة (ان لها لبنة) فهو بكسر اللام
واسكان الباء ضبطها القاضي وسائر الشراح وكذا هي في كتب اللغة والغريب قالوا وهي
رقعة في جيب القميص هذه عبارتهم كلهم والله أعلم وأما قولها (وفرجيها مكفوفين) فهكذا
وقع في جميع النسخ وفرجيها مكفوفين وهما منصوبان بفعل محذوف أي ورأيت فرجيها مكفوفين
ومعنى المكفوف أنه جعل لها كفة بضم الكاف وهو ما يكف به جوانبها ويعطف عليها ويكون
ذلك في الذيل وفى الفرجين وفى الكمين وفى هذا جواز لباس الجبة ولباس ماله فرجان وأنه لا كراهة فيه
والله أعلم قوله (عن أبي ذبيان) هو بضم الذال وكسرها وقوله (أن عبد الله بن الزبير خطب فقال
لا تلبسوا نساءكم الحرير فانى سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا تلبسوا الحرير) هذا مذهب ابن الزبير وأجمعوا بعده على إباحة الحرير للنساء
كما سبق وهذا الحديث الذي احتج به إنما ورد في لبس الرجال لوجهين أحدهما أنه خطاب
للذكور ومذهبنا ومذهب محققي الأصوليين أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال عند الاطلاق
والثاني أن الأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم قبل هذا وبعده صريحة في اباحته للنساء
44

وأمره صلى الله عليه وسلم عليا وأسامة بأن يكسواه نساءهما مع الحديث المشهور أنه صلى الله
عليه وسلم قال في الحرير والذهب ان هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها والله أعلم قوله
(عن أبي عثمان قال كتب الينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يا عتبة بن فرقد) إلى آخره
هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم وقال هذا الحديث لم يسمعه أبو عثمان
من عمر بل أخبر عن كتاب عمر وهذا الاستدراك باطل فإن الصحيح الذي عليه جماهير
المحدثين ومحققو الفقهاء والأصوليين جواز العمل بالكتاب وروايته عن الكاتب سواء قال
في الكتاب أذنت لك في رواية هذا عنى أو أجزتك روايته عنى أو لم يقل شيئا وقد أكثر
البخاري ومسلم وسائر المحدثين والمصنفين في تصانيفهم من الاحتجاج بالمكاتبة فيقول الراوي
منهم وممن قبلهم كتب إلى فلان كذا أو كتب إلى فلان قال حدثنا فلان أو أخبرني مكاتبة
والمراد به هذا الذي نحن فيه وذلك معمول به عندهم معدود في المتصل لاشعاره بمعنى الإجازة
وزاد السمعاني فقال هي أقوى من الإجازة ودليلهم في المسألة الأحاديث الصحيحة المشهورة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب إلى عماله ونوابه وأمرائه ويفعلون ما فيها وكذلك
الخلفاء ومن ذلك كتاب عمر رضي الله عنه هذا فإنه كتبه إلى جيشه وفيه خلائق من الصحابة
فدل على حصول الاتفاق منه وممن عنده في المدينة ومن في الجيش على العمل بالكتاب والله أعلم
وأما قول أبى عثمان كتب الينا عمر فهكذا ينبغي للراوي بالمكاتبة أن يقول كتب إلى فلان قال
حدثنا فلان أو أخبرنا فلان مكاتبة أو في كتابه أو فيما كتب به إلى ونحو هذا ولا يجوز أن يطلق
قوله حدثنا ولا أخبرنا هذا هو الصحيح وجوزه طائفة من متقدمي أهل الحديث وكبارهم منهم
منصور والليث وغيرهما والله أعلم قوله (ونحن بأذربيجان) هي إقليم معروف وراء العراق
وفى ضبطها وجهان مشهوران أشهرهما وأفصحهما وقول الأكثرين أذربيجان بفتح الهمزة بغير
مدة واسكان الذال وفتح الراء وكسر الباء قال صاحب المطالع وآخرون هذا هو المشهور والثاني
45

مد الهمزة وفتح الذال وفتح الراء وكسر الباء وحكى صاحب المشارق والمطالع أن جماعة فتحوا
الباء على هذا الثاني والمشهور كسرها قوله (كتب الينا عمر يا عتبة بن فرقد أنه ليس من
كدك ولاكد أبيك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياكم والتنعم وزي
أهل الشرك ولبوس الحرير) أما قوله كتب الينا فمعناه كتب إلى أمير الجيش وهو عتبة بن
فرقد ليقرأه على الجيش فقرأه علينا وأما قوله (ليس من كدك) فالكد التعب والمشقة والمراد
هنا أن هذا المال الذي عندك ليس هو من كسبك ومما تعبت فيه ولحقتك الشدة والمشقة
في كده وتحصيله ولا هو من كد أبيك وأمك فورثته منهما بل هو مال المسلمين فشاركهم فيه
ولا تختص عنهم بشئ بل أشبعهم منه وهم في رحالهم أي منازلهم كما تشبع منه في الجنس والقدر
والصفة ولا تؤخر أرزاقهم عنهم ولا تحوجهم يطلبونها منك بل أوصلها إليهم وهم في منازلهم
بلا طلب وأما قوله (وإياكم والتنعم وزي العجم) فهو بكسر الزاي ولبوس الحرير هو بفتح اللام
وضم الباء ما يلبس منه ومقصود عمر رضى الله تعالى عنه حثهم على خشونة العيش وصلابتهم
46

في ذلك ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك وقد جاء في هذا الحديث زيادة في مسند أبى عوانة
الأسفرايني وغيره باسناد صحيح قال أما بعد فاتزروا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات
وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب
وتمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وابرزوا وارموا الأغراض والله أعلم قوله (فرئيتهما
أزرار الطيالسة حتى رأيت الطيالسة) فقوله فرئيتهما هو بضم الراء وكسر الهمزة وضبطه
بعضهم بفتح الراء قوله (فما عتمنا أنه يعنى الاعلام) هكذا ضبطناه عتمنا بعين مهملة مفتوحة
ثم تاء مثناة فوق مشددة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم نون ومعناه ما أبطأنا في معرفة أنه أر
الاعلام يقال عتم الشئ إذا أبطأ وتأخر وعتمته إذا أخرته ومنه حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه
أنه غرس كذا وكذا أودية والنبي صلى الله عليه وسلم يناوله وهو يغرس فما عتمت منها واحدة
أي ما أبطأت أن علقت فهذا الذي ذكرناه من ضبط اللفظة وشرحها هو الصواب المعروف الذي
47

صرح به جمهور الشارحين وأهل غريب الحديث وذكر القاضي فيه عن بعضهم تغييرا واعتراضا
لا حاجة إلى ذكره لفساده قوله (عن قتادة عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه خطب بالجابية فقال نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير الا موضع
إصبعين أو ثلاث أو أربع) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال لم يرفعه عن
الشعبي إلا قتادة وهو مدلس ورواه شعبة عن أبي السفر عن الشعبي من قول عمر موقوفا ورواه
بيان وداود بن أبي هند عن الشعبي عن سويد عن عمر موقوفا عليه وكذا قال شعبة عن الحكم
عن خيثمة عن سويد وقاله ابن عبد الأعلى عن سويد وأبو حصين عن إبراهيم عن سويد هذا
كلام الدارقطني وهذه الزيادة في هذه الراوية انفرد بها مسلم لم يذكرها البخاري وقد قدمنا أن
الثقة إذا انفرد برفع ما وقفه الأكثرون كان الحكم لروايته وحكم بأنه مرفوع على الصحيح الذي
عليه الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين وهذا من ذاك والله أعلم وفى هذه الرواية إباحة العلم
من الحرير في الثوب إذا لم يزد على أربع أصابع وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وعن مالك رواية
48

بمنعه وعن بعض أصحابه رواية بإباحة العلم بلا تقدير بأربع أصابع بل قال يجوز وان عظم وهذان
القولان مردودان بهذا الحديث الصريح والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن عبد الله الرزى) هو
براء مضمومة ثم زاي مشددة قوله (فأطرتها بين نسائي) أي قسمتها قوله (ان أكيدر دومة)
هي بضم الدال وفتحها لغتان مشهورتان وزعم ابن دريد أنه لا يجوز إلا لضم وأن المحدثين
49

يفتحونها وأنهم غالطون في ذلك وليس كما قال بل هما لغتان مشهورتان قال الجوهري أهل الحديث
يقولونها بالضم وأهل اللغة يفتحونها ويقال لها أيضا دوما وهي مدينة لها حصن عادى وهي
في برية في أرض نخل وزرع يسقون بالنواضح وحولها عيون قليلة وغالب زرعهم الشعير وهي
عن المدينة على نحو ثلاث عشرة مرحلة وعن دمشق على نحو عشر مراحل وعن الكوفة على قدر
عشر مراحل أيضا والله أعلم وأما أكيدر فهو بضم الهمزة وفتح الكاف وهو أكيدر بن
عبد الملك الكندي قال الخطيب البغدادي في كتابه المبهمات كان نصرانيا ثم أسلم قال وقيل
بل مات نصرانيا وقال ابن منده وأبو نعيم الأصبهاني في كتابهما في معرفة الصحابة ان أكيدرا
هذا أسلم وأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء قال ابن الأثير في كتابه معرفة
الصحابة أما الهدية والمصالحة فصحيحان وأما الاسلام فغلط قال لأنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل
السير ومن قال أعلم فقد أخطأ خطأ فاحشا قال وكان أكيدر نصرانيا فلما صالحه النبي صلى الله
عليه وسلم عاد إلى حصنه وبقى فيه ثم حاصره خالد بن الوليد في زمان أبى بكر الصديق رضي الله عنه
فقتله مشركا نصرانيا يعنى لنقضه العهد قال وذكر البلاذري أنه قدم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعاد إلى دومة فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد أكيدر فلما سار خالد
من العراق إلى الشام قتله وعلى هذا القول لا ينبغي أيضا عده في الصحابة هذا كلام ابن الأثير
قوله (ان أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فأعطاه عليا فقال
شققه خمرا بين الفواطم) أما الخمر فسبق أنه بضم الميم جمع خمار وأما الفواطم فقال الهروي
والأزهري والجمهور انهن ثلاث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت أسد وهي
50

أم علي بن أبي طالب وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب وذكر
الحافظان عبد الغني بن سعيد وابن عبد البر باسنادهما أن عليا رضي الله عنه قسمه بين الفواطم الأربع
فذكر هؤلاء الثلاث قال القاضي عياض يشبه أن تكون الرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة
عقيل بن أبي طالب لاختصاصها بعلي رضي الله عنه بالمصاهرة وقربها إليه بالمناسبة وهي من المبايعات
شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا ولها قصة مشهورة في الغنائم تدل على ورعها والله أعلم قال
القاضي هذه المذكورات فاطمة بنت أسد أم علي كانت منهن وهو مصحح لهجرتها كما قاله غير واحد
خلافا لمن زعم أنها ماتت قبل الهجرة وفي هذا الحديث جواز قبول هدية الكافر وقد سبق الجمع بين
الأحاديث المختلفة في هذا وفيه جواز هدية الحرير إلى الرجال وقبولهم إياه وجواز لباس النساء له قوله
51

(أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروج حرير فلبسه ثم صلى فيه فنزعه نزعا شديدا
كالكاره له ثم قال لا ينبغي هذا للمتقين) الفروج بفتح الفاء وضم الراء المشددة هذا هو الصحيح
المشهور في ضبطه ولم يذكر الجمهور غيره وحكى ضم الفاء وحكى القاضي في الشرح وفى المشارق
تخفيف الراء وتشديدها والتخفيف غريب ضعيف قالوا وهو قباء له شق من خلفه وهذا
اللبس المذكور في هذا الحديث كان قبل تحريم الحرير على الرجال ولعل أول النهى
والتحريم كان حين نزعه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي ذكره مسلم قبل
هذا بأسطر حين صلى في قباء ديباج ثم نزعه وقال نهاني عنه جبريل فيكون هذا أول التحريم والله أعلم
باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في
قمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما) وفى رواية أنهما شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم القمل فرخص لهما في قمص الحرير في غزاة لهما هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب
52

الشافعي وموافقيه أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة وكذلك
للقمل وما في معنى ذلك وقال مالك لا يجوز وهذا الحديث حجة عليه وفى هذا الحديث دليل
لجواز لبس الحرير عند الضرورة كمن فاجأته الحرب ولم يجد غيره وأما قوله لحكة فهي بكسر
الحاء وتشديد الكاف وهي الجر أو نحوه ثم الصحيح عند أصحابنا والذي قطع به جماهيرهم
أنه يجوز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعا وقال بعض أصحابنا يختص بالسفر
وهو ضعيف
باب النهى عن لبس الرجل الثوب المعصفر
قوله (حدثنا محمد بن مثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى حدثني محمد بن إبراهيم
ابن الحارث أن ابن معدان أخبره أن جبير بن نفير أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص أخبره
53

قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار فلا
تلبسها) وفى الرواية الأخرى قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم على ثوبين معصرفين فقال أمك أمرتك
بهذا قلت أغسلها قال بل أحرقهما وفى رواية علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن لبس القسي والمعصفر هذا الاسناد الذي ذكرنا فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن
بعض وهم يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وخالد بن معدان وجبير
ابن نفير واختلف العلماء في الثياب المعصفرة وهي المصبوغة بعصفر فأباحها جمهور العلماء من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك لكنه قال غيرها أفضل منها
وفى رواية عنه أنه أجاز لبسها في البيوت وأفنية الدور وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها
وقال جماعة من العلماء هو مكروه كراهة تنزيه وحملوا النهى على هذا لأنه ثبت أن النبي صلى
الله عليه وسلم لبس حلة حمراء وفى الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة وقال الخطابي النهى منصرف إلى ما صبغ من الثياب بعد النسج
فأما ما صبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهى وحمل بعض العلماء النهى هنا على المحرم بالحج
أو العمرة ليكون موافقا لحديث ابن عمر رضي الله عنه نهى المحرم أن يلبس ثوبا همسه ورس
أو زعفران وأما البيهقي رضي الله عنه فأتقن المسألة فقال في كتابه معرفة السنن نهى الشافعي
الرجل عن المزعفر وأباح المعصفر قال الشافعي وإنما رخصت في المعصفر لأني لم أجد أحدا يحكى
عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عنه إلا ما قال علي رضي الله عنه نهاني ولا أقول نهاكم قال
البيهقي وقد جاءت أحاديث تدل على النهى على العموم ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص
54

هذا الذي ذكره مسلم ثم أحاديث أخر ثم قال لو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لقال بها إن شاء الله
ثم ذكر باسناده ما صح عن الشافعي أنه قال إذا كان حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فاعملوا
بالحديث ودعوا قولي وفى رواية فهو مذهبي قال البيهقي قال الشافعي وأنهى الرجل الحلال بكل
حال أن يتزعفر قال وآمره إذا تزعفر أن يغسله قال البيهقي فتبع السنة في المزعفر فمتابعتها في المعصفر
أولى قال وقد كره المعصفر بعض السلف وبه قال أبو عبد الله الحليمي من أصحابنا ورخص فيه
جماعة والسنة أولى بالاتباع والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أمك أمرتك بهذا) معناه أن
هذا من لباس النساء وزيهن وأخلاقهن وأما الأمر باحراقهما فقيل هو عقوبة وتغليظ لزجره
55

وزجر غيره عن مثل هذا الفعل وهذا نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بارسلها وأمر أصحاب
بريرة ببيعها وأنكر عليهم اشتراط الولاء ونحو ذلك والله أعلم
باب فضل لباس ثياب الحبرة
هذان الاسنادان اللذان في الباب كل رجالهم بصريون وسبق بيان هذا مرات قوله (كان
أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبرة) هي بكسر الحاء وفتح الباء وهي ثياب
من كتان أو قطن محبرة أي مزينة والتحبير التزيين والتحسن ويقال ثوب حبرة على الوصف
وثوب حبرة على الإضافة وهو أكثر استعمالا والحبرة مفرد والجمع حبر وحبرات كعنبة
وعنب وعنبات ويقال ثوب حبير على الوصف فيه دليل لاستحباب لباس الحبرة وجواز
لباس المخطط وهو مجمع عليه والله أعلم
باب التواضع في اللباس والاقتصار على الغليظ منه
(واليسير في اللباس والفراش وغيرهما وجواز لبس ثوب الشعر وما فيه أعلام)
في هذه الأحاديث المذكورة في الباب ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهادة في الدنيا
والاعراض عن متاعها وملاذها وشهواتها وفاخر لباسها ونحوه واجتزائه بما يحصل به أدنى التحزية
في ذلك كله وفيه الندب للاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا وغيره قوله (أخرجت
56

الينا عائشة رضي الله عنها إزارا وكساء ملبدا فقالت في هذا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال العلماء الملبد بفتح الباء وهو المرقع يقال لبدت القميص ألبده
بالتشديد وقيل هو الذي ثخن وسطه بالتخفيف فيهما ولبدته ألبده حتى صار كاللبد قوله (وعليه مرط مرحل من شعر أسود)
أما المرط فبكسر الميم واسكان الراء وهو كساء يكون تارة من صوف وتارة من شعر أو كتان
أو خز قال الخطابي هو كساء يؤتزر به وقال النضر لا يكون المرط الا درعا ولا يلبسه الا النساء
ولا يكون الا أخضر وهذا الحديث يرد عليه وأما قوله مرحل فهو بفتح الراء وفتح الحاء المهملة
هذا هو الصواب الذي رواه الجمهور وضبطه المتقنون وحكى القاضي أن بعضهم رواه بالجيم أي
عليه صور الرجال والصواب الأول ومعناه عليه صورة رجال الإبل ولا بأس بهذه الصور
57

وإنما يحرم تصوير الحيوان وقال الخطابي المرحل الذي فيه خطوط وأما قوله من شعر أسود
فقيدته بالأسود لأن الشعر قد يكون أبيض قوله (إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي ينام عليه أدما حشوه ليف) وفى رواية وسادة بدل فراش وفى نسخة وساد فيه جواز اتخاذ
الفرش والوسائد والنوم عليها والارتقاق بها وجواز المحشو وجواز اتخاذ ذلك من الجلود وهي
الأدم والله أعلم
باب جواز اتخاذ الأنماط
قوله صلى الله عليه وسلم لجابر حين تزوج (اتخذت أنماطا قال وأنى لنا قال أما انها ستكون)
الأنماط بفتح الهمزة جمع نمط بفتح النون والميم وهو ظهارة الفراش وقيل ظهر الفراش ويطلق
58

أيضا على بساط لطيف له خمل يجعل على الهودج وقد يجعل سترا ومنه حديث عائشة الذي ذكره مسلم
بعد هذا في باب الصور قالت فأخذت نمطا فسترته على الباب والمراد في حديث جابر هو النوع الأول
وفيه جواز اتخاذ الأنماط إذا لم تكن من حرير وفيه معجزة ظاهرة بإخباره بها وكانت كما أخبر قوله
(عن جابر قال وعند امرأتي نمط فأنا أقول نحيه عنى وتقول قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
انها ستكون) قوله نحيه عنى أي أخرجيه من بيتي كأنه كرهه كراهة تنزيه لأنه من زينة الدنيا
وملهياتها والله أعلم
باب كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس
قوله صلى الله عليه وسلم (فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان) قال
العلماء معناه أن ما زاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال والالتهاء بزينة الدنيا وما كان بهذه
الصفة فهو مذموم وكل مذموم يضاف إلى الشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه ويساعد عليه
وقيل أنه على ظاهره وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل كما أنه يحصل له المبيت
بالبيت الذي لا يذكر الله تعالى صاحبه عند دخوله عشاء وأما تعديد الفراش للزوج والزوجة فلا
59

بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه وغير ذلك واستدل بعضهم
بهذا على أنه لا يلزمه النوم مع امرأته وأن له الانفراد عنها بفراش والاستدلال به في هذا ضعيف
لأن المراد بهذا وقت الحاجة كالمرض وغيره كما ذكرنا وإن كان النوم مع الزوجة ليس واجبا لكنه
بدليل آخر والصواب في النوم مع الزوجة أنه إذا لم يكن لواحد منهما عذر في الانفراد فاجتماعهما
في فراش واحد أفضل وهو ظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واظب عليه مع مواظبته
صلى الله عليه وسلم على قيام الليل فينام معها فإذا أراد القيام لوظيفته قام وتركها فيجمع بين
وظيفته وقضاء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف لا سيما ان عرف من حالها حرصها على هذا ثم إنه
لا يلزم من النوم معها الجماع والله أعلم
باب تحريم جر الثوب خلاء
(وبيان حد ما يجوز ارخاؤه إليه وما يستحب)
قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) وفى رواية ان الله لا ينظر إلى من
يجر ازاره بطرا وفى رواية عن ابن عمر مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى إزاري
استرخاء فقال يا عبد الله ارفع ازارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت أتحراها بعد فقال بعض
القوم أين فقال أنصاف الساقين قال العلماء الخيلاء بالمد والمخيلة والبطر والكبر والزهو والتبختر
60

كلها بمعنى واحد وهو حرام يقال خال الرجل خالا واختال اختيالا إذا تكبر وهو رجل خال
أي متكبر وصاحب خال أي صاحب كبر ومعنى لا ينظر الله إليه أي لا يرحمه ولا ينظر إليه
نظر رحمة وأما فقه الأحاديث فقد سبق في كتاب الايمان واضحا بفروعه وذكرنا هناك
61

الحديث الصحيح أن الاسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة وأنه لا يجوز اسباله تحت
الكعبين إن كان للخيلاء فإن كان لغيرها فهو مكروه وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء
تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء وهكذا نص الشافعي على الفرق كما ذكرنا وأجمع العلماء
على جواز الاسبال للنساء وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الاذن لهن في ارخاء ذيولهن
ذراعا والله أعلم وأما القدر المستحب فيما ينزل إليه طرف القميص والإزار فنصف الساقين
كما في حديث ابن عمر المذكور وفى حديث أبي سعيد ازاره المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح
عليه فيما بينه وبين الكعبين ما أسفل من لك فهو في النار فالمستحب نصف الساقين والجائز
62

بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين فما نزل عن الكعبين فهو ممنوع فإن كان للخيلاء فهو ممنوع
منع تحريم والا فمنع تنزيه وأما الأحاديث المطلقة بأن ما تحت الكعبين في النار فالمراد بها
ما كان للخيلاء لأنه مطلق فوجب حمله على المقيد والله أعلم قال القاضي قال العلماء وبالجملة
يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله أعلم قوله (مس
ابن يناق) هو بياء مثناة تحت مفتوحة ثم نون مشددة وبالقاف غير مصروف والله أعلم
باب تحريم التبختر في المشي مع اعجابه بثيابه
قوله صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يمشى قد أعجبته جمته وبراده إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل
63

في الأرض حتى تقوم الساعة) وفى رواية بينما رجل يتبختر يمشى في برديه وقد أعجبته نفسه
فخسف الله به يتجلجل بالجيم أي يتحرك وينزل مضطربا قيل يحتمل أن هذا الرجل من
هذه الأمة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع هذا وقيل بل هو اخبار عمن قبل هذه
الأمة وهذا هو الصحيح وهو معنى ادخال البخاري له في باب ذكر بني إسرائيل والله أعلم
64

باب تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ
(ما كان من إباحته في أول الاسلام)
أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء وأجمعوا على تحريمه على الرجال الا ما حكى عن أبي
بكر بن محمد بن عمر بن محمد بن حزم أنه إباحة وعن بعض أنه مكروه لاحرام وهذان النقلان
باطلان فقائلهما محجوج بهذه الأحاديث التي ذكرها مسلم مع اجماع من قبله على تحريمه له مع قوله
صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير ان هذين حرام على ذكور أمتي حل لانائها قال أصحابنا
ويحرم سن الخاتم إذا كان ذهبا وإن كان باقيه فضة وكذا لو موه خاتم الفضة بالذهب فهو حرام
قوله (نهى عن خاتم الذهب) أي في حق الرجال كما سبق قوله (رأى خاتما من ذهب في يد
رجل فنزعه فطرحه) فيه إزالة المنكر باليد لمن قدر عليها وأما قوله صلى الله عليه وسلم حين
نزعه من يد الرجل يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) ففيه تصريح بأن النهى عن
خاتم الذهب للتحريم كما سبق وأما قول صاحب هذا الخاتم حين قالوا له خذه لا آخذه وقد طرحه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه المبالغة في امتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتناب
نهيه وعدم الترخص فيه بالتأويلات الضعيفة ثم إن هذا الرجل إنما ترك الخاتم على سبيل
الإباحة لمن أراد أخذه من الفقراء وغيرهم وحينئذ يجوز أخذه لمن شاء فإذا أخذه جاز تصرفه
65

فيه ولو كان صاحبه أخذه لم يحرم الأخذ والتصرف فيه بالبيع وغيره ولكن تورع عن أخذه
وأراد الصدقة به على من يحتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن التصرف فيه بكل
وجه وإنما نهاه عن لبسه وبقى ما سواه من تصرفه على الإباحة قوله (فكان يجعل فصه في باطن
كفه) الفص بفتح الفاء وكسرها وفى الخاتم أربع لغات فتح التاء وكسرها وخيتام وخاتام
قوله صلى الله عليه وسلم (والله لا ألبسه أبدا فنبذ الناس خواتيمهم) فيه بيان ما كانت الصحابة
66

رضي الله عنهم عليه من المبادرة إلى امتثال أمره ونهيه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بأفعاله
قوله (اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق) الورق الفضة وقد أجمع المسلمون على جواز
خاتم الفضة للرجال وكره بعض علماء الشام المتقدمين لبسه لغير ذي سلطان ورووا فيه أثرا
وهذا شاذ مردود قال الخطابي ويكره للنساء خاتم الفضة لأنه من شعار الرجال قال فإن لم تجد
خاتم ذهب فلتصفرة بزعفران وشبهه وهذا الذي قاله ضعيف أو باطل لا أصل له والصواب أنا
لا كراهة في لبسها خاتم الفضة قوله (اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم) خاتما من ورق فكان
في يده ثم كان في يد أبى بكر ثم كان في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس
نقشه محمد رسول الله فيه التبرك بآثار الصالحين ولبس لباسهم وجواز ليس الخاتم وأن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يورث إذ لو ورث لدفع الخاتم إلى ورثته بل كان الخاتم والقدح والسلاح
ونحوها من آثاره الضرورية صدقة للمسلمين يصرفها والى الامر حيث رأى من المصالح فجعل
القدح عند أنس اكراما له لخدمته ومن أراد التبرك به لم يمنعه وجعل باقي الأثاث عند ناس
معروفين واتخذ الخاتم عنده للحاجة التي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم لها فإنها موجودة في
الخليفة بعده ثم الخليفة الثاني ثم الثالث وأما بئر أريس فبفتح الهمزة وكسر الراء وبالسين المهملة
67

وهو مصروف وأما قوله (نقشه محمد رسول الله) ففيه جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحب
الخاتم وجواز نقش اسم الله تعالى هذا مذهبنا ومذهب سعيد بن المسيب ومالك والجمهور وعن ابن
سيرين وبعضهم كراهة نقش اسم الله تعالى وهذا ضعيف قال العلماء وله أن ينقش عليه اسم نفسه
أو ينقش عليه كلمة حكمة وأن ينقش ذلك مع ذكر الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينقش
أحد على نقش خاتمي هذا) سبب النهى أنه صلى الله عليه وسلم إنما اتخذ الخاتم ونقش فيه ليختم به كتبه
إلى ملوك العجم وغيرهم فلو نقش غيره مثله لدخلت المفسدة وحصل الخلل قوله (وكان إذا لبسه جعل
فصه مما يلي بطن كفه) قال العلماء لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بشئ فيجوز جعل فصه
68

في باطن كفه وفى ظاهرها وقد عمل السلف بالوجهين وممن اتخذه في ظاهرها ابن عباس رضي الله عنه
قالوا ولكن الباطل أفضل اقتداء به صلى الله عليه وسلم ولأنه أصون لفصه وأسلم له وأبعد من الزهو
والاعجاب قوله ((فصاغ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما حلقة فضة) هكذا هو في جميع النسخ
حلقة فضة بنصب حلقة على البدل من خاتما وليس فيها هاء الضمير والحلقة ساكنة اللام على
المشهور وفيها لغة شاذة ضعيفة حكاها الجوهري وغيره بفتحها قوله (عن ابن شهاب عن أنس رضى
69

الله عنه أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحد فصنع الناس الخواتم
من ورق فلبسوه فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه فطرح الناس خواتمهم) قال القاضي قال
جميع أهل الحديث هذا وهم من ابن شهاب فوهم من خاتم الذهب إلى خاتم الورق والمعروف من
روايات أنس من غير طريق ابن شهاب اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتم فضة ولم يطرحه وإنما
طرح خاتم الذهب كما ذكره مسلم في باقي الأحاديث ومنهم من تأول حديث ابن شهاب وجمع
بينه وبين الروايات فقال لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم خاتم الذهب اتخذ خاتم فضة
فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس في ذلك اليوم ليعلمهم اباحته ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه
فطرح الناس خواتيمهم من الذهب فيكون قوله فطرح الناس خواتمهم أي خواتم الذهب وهذا
التأويل هو الصحيح وليس في الحديث ما يمنعه وأما قوله فصنع الناس الخواتم من الورق فلبسوه
ثم قال فطرح خاتمة فطرحوا خواتمهم فيحتمل أنهم لما علموا أنه صلى الله عليه وسلم يصطنع لنفسه
خاتم فضة اصطنعوا لأنفسهم خواتيم فضة بقيت معهم خواتيم الذهب كما بقي مع النبي صلى الله
70

عليه وسلم إلى أن طرح خاتم الذهب واستبدلوا الفضة والله أعلم قوله (وكان فصه حبشيا)
قال العلماء يعنى حجرا حبشيا أي فصا من جزع أو عتيق فان معدنهما بالحبشة واليمن وقيل لونه
حبشي أي أسود وجاء في صحيح البخاري من رواية حميد عن أنس أيضا فصه منه قال ابن عبد البر
هذا أصح وقال غيره كلاهما صحيح وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت خاتم فصه منه
وفى وقت خاتم فصه حبشي وفى حديث آخر فصه من عقيق قوله (في حديث طلحة بن يحيى
وسليمان بن بلال عن يونس عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لبس خاتم فضة في يمينه) وفى حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس كان خاتم النبي
صلى الله عليه وسلم في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى وفى حديث على نهاني صلى الله عليه
وسلم أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه فأومأ إلى الوسطى والتي تليها وروى هذا الحديث في غيرهم
السبابة والوسطى وأجمع المسلمون على أن السنة جعل خاتم الرجل في الخنصر وأما المرأة فإنها
تتخذ خواتيم في أصابع قالوا والحكمة في كونه في الخنصر أنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد
لكونه طرفا ولأنه لا يشغل اليد عما تتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر ويكره للرجل
جعله في الوسطى والتي تليها لهذا الحديث وهي كراهة تنزيه وأما التختم في اليد اليمنى أو
اليسرى فقد جاء فيه هذان الحديثان وهما صحيحان وقال الدارقطني لم يتابع سليمان بن
71

بلال على هذه الزيادة وهي قوله في يمينه قال وخالفه الحفاظ عن يونس مع أنه لم يذكرها
أحد من أصحاب الزهري مع تضعيف إسماعيل بن أبي أويس رواتها عن سليمان
ابن بلال وقد ضعف إسماعيل بن أبي أويس أيضا يحيى بن معين والنسائي ولكن
وثقه الأكثرون واحتجوا به واحتج به البخاري ومسلم في صحيحهما وقد ذكر مسلم أيضا من
رواية طلحة بن يحيى مثل رواية سليمان بن بلال فلم ينفرد بها سليمان بن بلال فقد اتفق طلحة
وسليمان عليها وكون الأكثرين لم يذكروها لا يمنع صحتها فان زيادة الثقة مقبوله والله أعلم
وأما الحكم في المسألة عند الفقهاء فأجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار
72

ولا كراهة في واحدة منهما واختلفوا أيتهما أفضل فتحتمك كثيرون من السلف في اليمين وكثيرون
في اليسار واستحب مالك اليسار وكره اليمين وفى مذهبنا وجهان لأصحابنا الصحيح أن اليمين
أفضل لأنه زينة واليمين أشرف وأحق بالزينة والاكرام وأما ما ذكره في حديث على رضى الله
تعالى عنه من القسي والمياثر وتفسيرها فقد سبق بيانه واضحا في بابه والله أعلم
باب استحباب لبس النعال وما في معناها
قوله صلى الله عليه وسلم حين كانوا في غزاة (استكثروا من النعال فان الرجل لا يزال راكبا ما
انتعل) معناه أنه شبيه بالراكب في خفة المشقة عليه وقلة تعبه وسلامة رجله مما يعرض
في الطريق من خشونة وشوك وأذى ونحو ذلك وفيه استحباب الاستظهار في السفر بالنعال
وغيرهما مما يحتاج إليه المسافر واستحباب وصية الأمير أصحابه بذلك
73

باب استحباب لبس النعال في اليمنى أولا والخلع من اليسرى أولا
(وكراهة المشي في نعل واحدة)
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا خلع فليبدأ بالشمال ولينعلهما جميعا
أو ليخلعها جميعا) وفى الرواية الأخرى لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعا أو
ليخلعهما جميعا وفى رواية إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في الأخرى حتى يصلها وفى رواية
ولا يمشى في خف واحد أما قوله صلى الله عليه وسلم لينعلهما فبضم الياء وأما قوله صلى الله
عليه وسلم أو ليخلعها فكذا هو في جميع نسخ مسلم ليخلعها بالخاء المعجمة واللام والعين
وفى صحيح البخاري ليحفها بالحاء المهملة والفاء من الحفاء وكلاهما صحيح ورواية البخاري
أحسن وأما الشسع فبشين معجمة مكسورة ثم سين مهملة ساكنة وهو أحد سيور النعال وهو
الذي يدخل بين الأصبعين ويدخل طرفه في النقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام والزمام
هو السير الذي يعقد فيه الشسع وجمعه شسوع أما فقه الأحاديث ففيه ثلاث مسائل أحدها
يستحب البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والزينة والنطافة ونحو ذلك كلبس النعل
والخف والمداس والسراويل والكم وحلق الرأس وترجيله وقص الشارب ونتف الإبط والسواك
والاكتحال وتقليم الأظفار والوضوء والغسل والتيمم ودخول المسجد والخروج من الخلاء
ودفع الصدقة وغيرها من أنواع الدفع الحسنة وتناول الأشياء الحسنة ونحو ذلك الثانية يستحب
البداءة باليسار في كل ما هو ضد السابق في المسألة الأولى فمن ذلك خلع النعل والخف والمداس
والسراويل والكم والخروج من المسجد ودخول الخلاء والاستنجاء وتناول أحجار الاستنجاء
74

ومس الذكر والامتخاط والاستنثار وتعاطى المستقذرات وأشباهها الثالثة يكره المشي في نعل
واحدة أو خف واحد أو مداس واحد لا لعذر ودليله هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم قال العلماء وسببه
أن ذلك تشويه ومثله ومخالف للوقار ولأن المنتعلة تصير أوفع من الأخرى فيعسر مشيه وربما
كان سببا للعثار وهذه الآداب الثلاثة التي في المسائل الثلاث مجمع على استحبابها وأنها ليست
واجبة وإذا انقطع شسعه ونحوه فليخلعهما ولا يمشى في الأخرى وحدها حتى يصلحها وينعلها
كما هو نص في الحديث قوله (حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبي رزين قال خرج الينا
أبو هريرة رضي الله عنه فضرب بيده على جبهته فقال إنكم وذكر الحديث) وفى الرواية الثانية
عن علي بن مسهر قال أخبرنا الأعمش عن أبي رزين وأبى صالح عن أبي هريرة بمعناه هكذا وقع
هذان الاسنادان في جميع نسخ مسلم وذكر القاضي عن أبي على الغساني أنه قال في الرواية الثانية
قال أبو مسعود الدمشقي إنما يرويه أبو رزين عن أبي صالح عن أبي هريرة كذا وأخرجه أبو مسعود
في كتابه عن مسلم وذكر أن علي بن مسهر انفرد بهذا هذا آخر ما ذكره القاضي وهذا استدرك
فاسد لأن أبارزين قد صرح في الرواية الأولى بسماعه من أبي هريرة بقوله خرج الينا أبو هريرة
إلى آخره واسم أبى رزين مسعود بن مالك الأسدي الكوفي كان عالما
75

باب النهى عن اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد كاشفا
(بعض عورته وحكم الاستلقاء على ظهره رافعا إحدى رجليه على الأخرى)
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله أو يمشى في نعل واحدة وأن
يشتمل الصماء وأن يحتبى في ثوب واحد كاشفا عن فرجه) أما الأكل بالشمال فسبق بيانه في بابه
وسبق في الباب الماضي حكم المشي في نعل واحدة وأما اشتمال الصماء بالمد فقال الأصمعي هو أن يشتمل
بالثوب حتى يجلل به جسده لا يرفع منه جانبا فلا يبقى ما يخرج منه يده ومذا يقوله أكثر أهل اللغة
قال ابن قتيبة سميت صماء لأنه سد المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا صدع قال
أبو عبيد وأما الفقهاء فيقولون هو أن يشتمل بثوب ليس عليه غيره ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على
أحد منكبيه قال العلماء فعلى تفسير أهل اللغة يكره الاشتمال المذكور لئلا تعرض له حاجة من دفع
بعض الهوام ونحوها أو غير ذلك فيعسر عليه أو يتعذر فيلحقه الضرر وعلى تفسير الفقهاء يحرم الاشتمال
المذكور ان انكشف به بعض العورة وإلا فيكره وأما الاحتباء بالمد فهو أن يقعد الانسان على أليته
وينصب ساقيه ويحتوي عليهما بثوب أو نحوه أو بيده وهذه القعد يقال لها الحبوة بضم الحاء وكسرهما
76

وكان هذا الاحتباء عادة للعرب في مجالسهم فان انكشف معه شئ من عورته فهو حرام والله أعلم
قوله (نهى عن اشتمال الصماء وأن يرفع الرجل احدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على
ظهره وفى الرواية الأخرى (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد واضعا
احدى رجليه على الأخرى) قال العلماء أحاديث النهى عن الاستلقاء رافعا احدى رجليه على
77

الأخرى محمولة على حالة تظهر فيها العورة أو شئ منها وأما فعله صلى الله عليه وسلم فكان على
وجه لا يظهر منها شئ وهذا لا بأس به ولا كراهة فيه على هذه الصفة وفى هذا الحديث جواز
الاتكاء في المسجد والاستلقاء فيه قال القاضي لعله صلى الله عليه وسلم فعل هذا لضرورة
أو حاجة من تعب أو طلب راحة أو نحو ذلك قال والا فقد علم أن جلوسه صلى الله عليه وسلم
في المجامع على خلاف هذا بل كان يجلس متربعا أو محتبيا وهو كان أكثر جلوسه أو القرفصاء
أو مقعيا وشبهها من جلسات الوقار والتواضع قلت ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم فعله لبيان
الجواز وأنكم إذا أردتم الاستلقاء فليكن هكذا وأن النهى الذي نهيتكم عن الاستلقاء ليس هو
على الاطلاق بل المراد به من ينكشف شئ من عورته أو يقارب انكشافها والله أعلم قوله
(وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا أخبرنا عبد الرزاق) هكذا هو في جميع نسخ
بلادنا وكذا ذكره أبو علي الغساني عن رواية الجلودي قال وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي
عن مسلم قال وفى رواية ابن ماهان إسحاق بن منصور بدل إسحاق بن إبراهيم قال الغساني الأول
هو الذي أعتقد صوابه لكثرة ما يجئ إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد في رواية مسلم مقرونين
عن عبد الرزاق وإن كان إسحاق بن منصور أيضا يروى عن عبد الرزاق وهذا الذي صوبه
الغساني هو الصواب وكذا ذكره الواسطي في الأطراف عن رواية مسلم
78

باب نهى الرجل عن التزعفر
قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزعفر الرجل) هذا دليل لمذهب الشافعي
وموافقيه في تحريم لبس الثوب المرعفر على الرجل وقد سقت المسألة في باب نهى الرجل
عن الثوب المعصفر والله أعلم
باب استحباب خضاب الشيب بفصرة أو حمرة وتحريمه بالسواد
قوله (أتى بأبى قحافة رضي الله عنه يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم غيروا هذا بشئ واجتنبوا السواد) وفى رواية إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم أما الثغامة بثاء مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة مخففة قال أبو عبيد هو نبت أبيض الزهر
والثمر شبه بياض الشيب به وقال ابن الأعرابي شجرة تبيض كأنها الملح وأما أبو قحافة بضم القاف
79

وتخفيف الحاء المهملة واسمه عثمان فهو ولد أبى بكر الصديق أسلم يوم فتح مكة ويقال صبغ يصبغ
بضم الياء وفتحها ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة أو حمرة ويحرم خضابه
بالسواد على الأصح وقيل يكره كراهة تنزيه والمختار التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم واجتنبوا
السواد هذا مذهبنا وقال القاضي اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الخضاب وفى جنسه فقال
بعضهم ترك الخضاب أفضل ورووا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهى عن تغيير الشيب
لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغير شيبه روى هذا عن عمر وعلي وأبي وآخرين رضي الله عنهم وقال
آخرون الخضاب أفضل وخضب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم للأحاديث التي ذكرها
مسلم وغيره ثم اختلف هؤلاء فكان أكثرهم يخضب بالصفرة منهم ابن عمر وأبو هريرة وآخرون
وروى ذلك عن علي وخضب جماعة منهم بالحناء والكتم وبعضهم بالزعفران وخضب جماعة
بالسواد روى ذلك عن عثمان والحسن والحسين ابني على وعقبة بن عامر ابن سيرين وأبى بردة
وآخرين قال القاضي قال الطبراني الصواب أن الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير
الشيب وبالنهي عنه كلها صحيحة وليس فيها تناقض بل الأمر بالتغيير لمن شيبه كشيب أبى قحافة
والنهى لمن له شمط فقط قال واختلاف السلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك
مع أن الأمر والنهى في ذلك ليس للوجوب بالاجماع ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض
خلافه في ذلك قال ولا يجوز أن يقال فيهما ناسخ ومنسوخ قال القاضي وقال غيره هو على
حالين فمن كان في موضع عادة أهل الصبغ أو تركه فخروجه عن العادة شهرة ومكروه والثاني
أنه يختلف باختلاف نظافة الشيب فمن كان شيبته تكون نقية أحسن منها مصبوغة فالترك
أولى ومن كانت شيبته تستبشع فالصبغ أولى هذا ما نقله القاضي والأصح الأوفق للسنة ما قدمناه
عن مذهبنا والله أعلم
80

باب تحريم تصوير صورة الحيوان
(وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه)
(وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب)
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه
متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته
حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار
أو فلس أو اناء أو حائط أو غيرها وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس
فيه صورة حيوان فليس بحرام هذا حكم نفس التصوير وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان
معلقا على حائط أو ثوبا ملبوسا أو عمامة ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا فهو حرام وإن كان في
بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام ولكن هل يمنع دخول ملائكة
الرحمة ذلك البيت فيه كلام نذكره قريبا إن شاء الله ولافرق في هذا كله بين ماله ظل وما لا ظل له
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
81

وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم وقال بعض السلف إنما ينهى عما كان له ظل
ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل فان الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه
وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل
صورة وقال الزهري النهى في الصورة على العموم وكذلك استعمال ما هي فيه ودخول البيت
الذي هي فيه سواء كانت رقما في ثوب أو غير رقم وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن
أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم وهذا مذهب قوى
وقال آخرون يجوز منها ما كان رقما في ثوب سواء امتهن أم لا وسواء علق في حائط أم لا وكرهوا
ما كان له ظل أو كان مصورا في الحيطان وشبهها سواء كان رقما أو غيره واحتجوا بقوله في
بعض أحاديث الباب إلا ما كان رقما في ثوب وهذا مذهب القاسم بن محمد وأجمعوا على منع
ما كان له ظل ووجوب تغييره قال القاضي إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في
ذلك لكن كره مالك شراء الرجل ذلك لابنته وادعى بعضهم أن إباحة اللعب لهن بالبنات منسوخ
بهذه الأحاديث والله أعلم قوله (أصبح يوما واجما) هو بالجيم قال أهل اللغة هو الساكت الذي
يظهر عليه الهم والكآبة وقيل هو الحزين يقال وجم يجم وجوما قوله (أصبح يوما واجما
فقالت ميمونة يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان
جبريل كان وعدني ان يلقاني الليلة فلم يلقني أم والله ما أخلقني) وذكر الحديث فيه أنه يستحب
82

للانسان إذا رأى صاحبه ومن له حق واجما أن يسأله عن سببه فيساعده فيما يمكن مساعدته أو
يتحزن معه أو يذكره بطريق يزول به ذلك العارض وفيه التنبيه على الوثوق بوعد الله ورسله
لكن قد يكون للشئ شرط فيتوقف على حصوله أو يتخيل توقيته بوقت ويكون غير موقت به
ونحو ذلك وفيه أنه إذا تكدر وقت الانسان أو تنكدت وظيفته ونحو ذلك فينبغي أن يفكر في
سببه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا حتى استخرج الكلب وهو من نحو قول الله تعالى
" ان الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " قوله (ثم وقع في
نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه) أما الجرو
فبكسر الجيم وضمها وفتحها ثلاث لغات مشهورات وهو الصغير من أولاد الكلب وسائر السباع
والجمع أجر وجراء وجمع الجراء أجرية وأما الفسطاط ففيه ست لغات فسطاط فستاط بالتاء
وفساط بتشديد السين وضم الفاء فيهن وتكسر وهو نحو الخباء قال القاضي والمراد به هنا بعض
حجال البيت بدليل قولها في الحديث الآخر تحت سرير عائشة وأصل الفسطاط عمود الأخبية
التي يقام عليها والله أعلم وأما قوله ثم أخذ بيده ماء فنضح به مكانه فقد احتج به جماعة في نجاسة
الكلب قالوا والمراد بالنضح الغسل وتأولته المالكية على أنه غسله لخوف حصول بوله أو روثه
83

قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة) قال العلماء سبب امتناعهم
من بيت فيه صورة كونها معصية فاحشة وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى وبعضها في صورة ما يعبد
من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من بيت فيه كلب لكثرة أكله النجاسات ولأن بعضها
يسمى شيطانا كما جاء به الحديث والملائكة ضد الشياطين ولقبح رائحة الكلب والملائكة تكره
الرائحة القبيحة ولأنها منهى عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها
فيه واستغفارها له وتبريكها عليه وفى بيته ودفعها أذى للشيطان وأما هؤلاء الملائكة لذين لا يدخلون
بيتا فيه كلب أو صورة فهم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار وأما الحفظة فيدخلون
في كل بيت ولا يفارقون بني آدم في كل حال لأنهم مأمورون باحصاء أعمالهم وكتابتها قال الخطابي
وإنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور فأما ما ليس
بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما
فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه وأشار القاضي إلى نحو ما قاله الخطابي والأظهر أنه عام في كل
كلب وكل صورة وأنهم يمتنعون من الجميع لاطلاق الأحاديث ولأن الجرو الذي كان
في بيت النبي صلى الله عليه وسلم تحت السرير كان له فيه عذر ظاهر فإنه لم يعلم به ومع هذا
امتنع جبريل صلى الله عليه وسلم من دخول البيت وعلل بالجرو فلو كان العذر في وجود
الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل والله أعلم قوله (فأمر بقتل الكلاب حتى أنه يأمر
بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير) المراد بالحائط البستان وفرق بين
84

الحائطين لأن الكبير تدعو الحاجة إلى حفظ جوانبه ولا يتمكن الناظور من المحافظة على ذلك
بخلاف الصغير والأمر بقتل الكلاب منسوخ وسبق ايضاحه في كتاب البيوع حيث بسط
مسلم أحاديثه هناك قوله (إلا رقما في ثوب) هذا يحتج به من يقول بإباحة ما كان رقما مطلقا
كما سبق وجوابنا وجواب الجمهور عنه أنه محمول على رقم على صورة الشجر وغيره مما ليس
85

بحيوان وقد قدمنا أن هذا جائز عندنا قوله (عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم غزاته فأخذت نمطا فسترته على الباب فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية
في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قالت فقطعنا
منه وسادتين وحشوتهما ليفا فلم بعب ذلك على المراد بالنمط هنا بساط لطيف له خمل وقد سبق
بيانه قريبا في باب اتخاذ الأنماط وقولها (هتكه) هو بمعنى قطعه وأتلف الصورة التي فيه
وقد صرحت في الروايات المذكورات بعد هذه بأن هذا النمط كان فيه صور الخيل ذوات
الأجنحة وأنه كان فيه صورة فيستدل به لتغير المنكر باليد وهتك الصور المحرمة والغضب عند
رؤية المنكر وأنه يجوز اتخاذ الوسائد والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم حين جذب النمط
وأزاله ان الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين فاستدلوا به على أنه يمنع من ستر الحيطان
وتنجيد البيوت بالثياب وهو منع كراهة تنزيه لا تحريم هذا هو الصحيح وقال الشيخ أبو الفتح
نصر المقدسي من أصحابنا هو حرام وليس في هذا الحديث ما يقتضي تحريمه لأن حقيقة
86

اللفظ أن الله تعالى لم يأمرنا بذلك وهذا يقتضى أنه ليس بواجب ولا مندوب ولا يقتضى
التحريم والله أعلم قوله (عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت لنا تمثال طائر وكان الداخل
إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حولي هذا فانى كلما دخلت فرأيته
ذكرت الدنيا) هذا محمول على أنه كان قبل تحريم اتخاذ ما فيه صورة فلهذا كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدخل ويراه ولا ينكره قبل هذه المرة الأخيرة قولها (سترت على
بابي درنوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني فنزعته) أما قولها سترت فهو بتشديد التاء
الأولى وأما الدرنوك فبضم الدال وفتحها حكاهما القاضي وآخرون والمشهور ضمها
والنون مضمومة لاغير ويقال فيه درموك بالميم وهو ستر له خمل وجمعه درانك قولها
87

(دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متسترة بقرام) هكذا هو في معظم النسخ
متسترة بتاءين مثنا بين فوق بينهما سين وفي بعضها مستترة بسين ثم تاءين أي متخذة سترا وأما
القرام فبكسر القاف الرقيق الستر وهو قولها (وقد سترت سهوه لي بقرام) السهوة
بفتح السين المهملة قال الأصمعي هي شبيهة بالرف أو بالطاق يوضع عليه الشئ قال أبو عبيد
وسمعت غير واحد من أهل اليمن يقولون السهوة عندنا بيت صغير متحدر في الأرض وسمكه
مرتفع من الأرض يشبه الخزانة الصغيرة يكون فيها المتاع قال أبو عبيد وهذا عندي أشبه
ما قيل في السهوة وقال الخليل هي أربعة أعواد أو ثلاثة يعرض بعضها على بعض ثم يوضع عليها
88

شئ من الأمتعة وقال ابن الأعرابي هي الكوة بين الدارين وقيل بيت صغير يشبه المخدع وقيل
89

هي كالصفة تكون بين يدي البيت وقيل شبيه دخلة في جانب البيت والله أعلم قوله (اشتريت
نمرقة) هي بضم النون والراء ويقال بكسرهما ويقال بضم النون وفتح الراء ثلاث لغات ويقال
نمرق بلا هاء وهي وسادة صغيرة وقيل هي مرفقة قوله صلى الله عليه وسلم (ان أصحاب هذه الصور
يعذبون ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) وفى الرواية السابقة أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين
يضاهئون بخلق الله تعالى وفى رواية الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم
أحيوا ما خلقتم وفى رواية ابن عباس كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه
في جهنم وفى رواية من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس
ينافخ وفى رواية قال الله تعالى " أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا
حبة أو ليخلقوا شعيرة " أما قوله صلى الله عليه وسلم (ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) فهو الذي يسميه
الأصوليون أمر تعجيز كقوله تعالى فأتوا بعشر سور مثله قوله في رواية ابن عباس
يجعل له فهو بفتح الياء من يجعل والفاعل هو الله تعالى أضمر للعلم به قال القاضي في رواية ابن
عباس يحتمل أن معناها أن الصورة التي صورها هي تعذبه بعد أن يجعل فيها روح وتكون الباء
في بكل بمعنى في قال ويحتمل أن يجعل له بعدد كل صورة ومكانها شخص يعذبه وتكون الباء
بمعنى لام السبب وهذه الأحاديث صريحة في تحريم تصوير الحيوان وانه غليظ التحريم وأما
90

الشجر ونحوه ممالا روح فيه فلا تحرم صنعته ولا التكسب به وسواء الشجر المثمر وغيره وهذا
مذهب العلماء كافة الا مجاهدا فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه قال القاضي لم يقله أحد غير
مجاهد واحتج مجاهد بقوله تعالى " أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي " واحتج الجمهور بقوله
صلى الله عليه وسلم ويقال لهم أحيوا ما خلقتم أي اجعلوه حيونا ذا روح كما ضاهيتم وعليه
رواية أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي حديث ابن عباس رضي الله عنه المذكور في
الكتاب ان كنت لابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له وأما رواية أشد عذابا فقيل هي محمولة
على من فعل الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها فهذا كافر وهو أشد عذابا وقيل هي فيمن
قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاة خلق الله تعالى واعتقد ذلك فهذا كافر له من أشد العذاب
ما للكفار ويزيد عذابه بزيادة قبح كفره فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب
ذنب كبير ولا يكفر كسائر المعاصي وأما قوله تعالى " ذرة أو حبة أو شعيرة " فالذرة بفتح
الذال وتشديد الراء ومعناه فليخلقوا ذرة فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التي هي خلق الله
تعالى وكذلك فليخلقوا حبة حنطة أو شعير أي ليخلقوا حبة فيها طعم تؤكل وتزرع وتنبت
ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة والشعير ونحوهما من الحب الذي يخلقه الله تعالى وهذا
أمر تعجيز كما سبق والله أعلم
91

باب كراهة الكلب والجرس في السفر
قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس) وفى رواية
(الجرس مزامير الشيطان) الرفقة بضم الراء وكسرها والجرس بفتح الراء وهو معروف
هكذا ضبطه الجمهور ونقل القاضي أن هذه رواية الأكثرين قال وضبطناه عن أبي بحر باسكانها
94

وهو اسم للصوت فأصل الجرس بالاسكان الصوت الخفي أما فقه الحديث ففيه كراهة استصحاب
الكلب والجرس في الاسفار وأن الملائكة لا تصحب رفقة فيها أحدهما والمراد بالملائكة ملائكة
الرحمة والاستغفار لا الحفظة وقد سبق بيان هذا قريبا وسبق بيان الحكمة في مجانبة الملائكة
بيتا فيه كلب وأما الجرس فقيل سبب منافرة الملائكة له أنه شبيه بالنواقيس أو لأنه من
المعاليق المنهى عنها وقيل سببه كراهة صوتها وتؤيده رواية مزامير الشيطان وهذا الذي ذكرناه
من كراهة الجرس على الاطلاق هو مذهبنا ومذهب مالك وآخرين وهي كراهة تنزيه وقال
جماعة من متقدمى علماء الشام يكره الجرس الكبير دون الصغير
باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبقين في رقبة بغير قلادة من وتر أو قلادة الا قطعت) قال مالك
أرى ذلك من العين هكذا هو في جميع النسخ قلادة من وتر أو قلادة فقلادة الثانية مرفوعة
معطوفة على قلادة الأولى ومعناه أن الراوي شك هل قال قلادة من وتر أو قال قلادة فقط ولم
يقيدها بالوتر وقول مالك أرى ذلك من العين هو بضم همزة أرى أي أظن أن النهى مختص
فعل ذلك بسبب رفع ضرر العين وأما من فعله لغير ذلك من زينة أو غيرها فلا بأس
القاضي الظاهر من مذهب مالك أن النهى مختص بالوتر دون غيره من القلائد قال وقد اختلف
الناس في تقليد البعير وغيره من الانسان وسائر الحيوان ما ليس بتعاويذ مخافة العين فمنهم من
منعه قبل الحاجة إليه وأجازه إليه وأجازه عند الحاجة لدفع ما أصابه من ضرر العين ونحوه ومنهم من
95

أجازه قبل الحاجة وبعدها كما يجوز الاستظهار بالتداوي قبل المرض هذا كلام القاضي وقال
أبو عبيد كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإزالتها
اعلاما لهم أن الأوتار لا ترد شيئا وقال محمد بن الحسن وغيره معناه لا تقلدوها أوتار القسي لئلا
تضيق على أعناقها فتخنقها وقال النضر معناه لا تطلبوا الدخول التي وترتم بها في الجاهلية وهذا
تأويل ضعيف فاسد والله أعلم
باب النهى عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه
قوله (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الحيوان في الوجه وعن الوسم في
الوجه وفى رواية (مر عليه حماد وقد وسلم في وجهه فقال لعن الله الذي وسمه) وفى رواية
96

ابن عباس رضي الله عنه (فأنكر ذلك قال فوالله لا أسمه الا أقصى شئ من الوجه فأمر بحمار له
فكوى في جاعرتيه فهو أول من كوى الجاعرتين) أما الوسم فبالسين المهملة هذا هو
الصحيح المعروف في الروايات وكتب الحديث قال القاضي ضبطناه بالمهملة قال وبعضهم
يقوله بالمهملة وبالمعجمة وبعضهم فرق فقال بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد وأما
الجاعرتان فيهما حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر وأما القائل فوالله لا أسمه الا أقصى شئ
من الوجه فقد قال القاضي عياض هو العباس بن عبد المطلب كذا ذكره في سنن أبي داود
وكذا صرح به في رواية البخاري في تاريخه قال القاضي وهو في كتاب مسلم مشكل يوهم أنه من
قول النبي صلى الله عليه وسلم والصواب أنه من قول العباس رضي الله عنه كما ذكرنا هذا كلام
القاضي وقوله يوهم أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو بظاهر فيه بل ظاهره أنه من
كلام ابن عباس وحينئذ يجوز أن تكون القضية جرت للعباس ولابنه وأما الضرب في الوجه فمنهى
عنه في كل الحيوان المحترم من الآدمي والحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرها لكنه في الآدمي
أشد لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف لأنه يظهر فيه أثر الضرب وربما شانه وربما آذى بعض
الحواس وأما الوسم في الوجه فمنهى عنه بالاجماع للحديث ولما ذكرناه فأما الآدمي موسمه حرام
لكرامته ولأنه لا حاجة إليه فلا يجوز تعذيبه وأما غير الآدمي فقال جماعة من أصحابنا يكره وقال
البغوي من أصحابنا لا يجوز فأشار إلى تحريمه وهو الأظهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله واللعن
يقتضى التحريم وأما وسم غير الوجه من غير الآدمي فجائز بلا خلاف عندنا لكن يستحب في نعم
الزكاة والجزية ولا يستحب في غيرها ولا ينهى عنه قال أهل اللغة الوسم أثركية يقال بعير موسوم
وقد وسمه يسمه وسما وسمة والميسم الشئ الذي يوسم به وهو بكسر الميم وفتح السين وجمعه مياسم
ومواسم وأصله كله من السمة وهي العلامة ومنه موسم الحج أي معلم جمع الناس وفلان موسوم
بالخير وعليه سمة الخير أي علامته وتوسمت فيه كذا أي رأيت فيه علامته والله أعلم
97

باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه
(وندبه في نعم الزكاة والجزية)
قوله (عن أنس قال لما ولدت أم سليم قالت لي يا أنس انظر هذا الغلام فلا يصيبن شيئا حتى
تغدو به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه فغدوت فإذا هو في الحائط وعليه خميصة حويتية وهو
يسم الظهر الذي قدم عليه في الفتح) وفى رواية فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في مربد يسم غما
قال شعبة وأكثر علمي أنه قال في آذنها وفى رواية رأيت في يد النبي صلى الله عليه وسلم الميسم
وهو يسم إبل الصدقة أما الخميصة فهي كساء من صوف أو خز ونحوهما مربع له أعلام وأما
98

قوله حويتية فاختلف رواة صحيح مسلم في ضبطه فالأشهر أنه بحاء مهملة مضمومة ثم واو مفتوحة
ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم مثناة فوق مكسورة ثم مثناة تحت مشددة وفى بعضهم حوتنية باسكان
الواو وبعدها مثناة فوق مفتوحة ثم نون مكسورة وقد ذكرها القاضي وفى بعضها حونية باسكان
الواو وبعدها نون مكسورة وفى بعضها حريثية بحاء مهملة مضمومة وراء مفتوحة ثم مثناة
تحت ساكنة ثم مثلثة مكسورة منسوبة إلى بني حريث وكذا وقع في رواية البخاري لجمهور رواة
صحيحة وفى بعضها حونبية بفتح الحاء المهملة واسكان الواو ثم نون مفتوحة ثم باء موحدة ذكره
القاضي وفى بعضها خويثية بضم الخاء المعجمة وفتح الواو واسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة
حكاه القاضي وفى بعضها جوينية بجيم مضمومة ثم واو ثم مثناة تحت ثم نون مكسورة ثم مثناة
تحت مشددة وفى بعضها جونية بفتح الجيم واسكان الواو وبعدها نون قال القاضي في المشارق
ووقع لبعض رواة البخاري خيبرية منسوبة إلى خيبر ووقع في الصحيحين حوتكية بفتح الحاء
وبالكاف أي صغيرة ومنه رجل حوتكى أي صغير قال صاحب التحرير في شرح مسلم في الرواية
الأولى هي منسوبة إلى الحويت وهو قبيلة أو موضع وقال القاضي في المشارق هذه الروايات
كلها تصحيف إلا روايتي جونية بالجيم وحريثية بالراء والمثلثة فأما الجونية بالجيم فمنسوبة إلى
بنى الجون قبيلة من الأزد أو إلى لونها من السواد أو البياض أو الحمرة لأن العرب تسمى كل
لون من هذه جونا هذا كلام القاضي وقال ابن الأثير في نهاية الغريب بعد أن ذكر الرواية
الأولى هذا وقع في بعض نسخ مسلم ثم قال والمحفوظ المشهور جونية أي سوداء قال وأما الحويتية
فلا أعرفها وطالما بحثت عنها فلم أقف لها على معنى والله أعلم وأما قوله قال شعبة وأكثر علمي
روى بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة وهما صحيحان والميسم بكسر الميم سبق بيانه في الباب قبله وسبق
هناك أن وسم الآدمي حرام وأما غير الآدمي فالوسم في وجهه منهى عنه وأما غير الوجه فمستحب
في نعم الزكاة والجزية وجائز في غيرها وإذا وسم فيستحب أن يسم الغنم في آذانها والإبل والبقر
في أصول أفخاذها لأنه موضع صلب فيقل الألم فيه ويخف شعره ويظهر الوسم وفائدة الوسم
تمييز الحيوان بعضه من بعض ويستحب أن يكتب في ماشية الجزية جزية أو صغار وفى ماشية
الزكاة زكاة أو صدقة قال الشافعي وأصحابه يستحب كون ميسم الغنم ألطف من ميسم البقر
وميسم البقر ألطف من ميسم الإبل وهذا الذي قدمناه من استحباب وسم نعم الزكاة والجزية هو
99

مذهبنا ومذهب الصحابة كلهم رضي الله عنهم وجماهير العلماء بعدهم ونقل ابن الصباغ وغيره
إجماع الصحابة عليه وقال أبو حنيفة هو مكروه لأنه تعذيب ومثله وقد نهى عن المثلة وحجة
الجمهور هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي ذكرها مسلم وآثار كثيرة عن عمر وغيره من
الصحابة رضي الله عنهم ولأنها ربما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها فيردها والجواب عن
النهى عن المثلة والتعذيب أنه عام وحديث الوسم خاص فوجب تقديمه والله أعلم وأما المربد
فبكسر الميم واسكان الراء وفتح الموحدة وهو الموضع الذي تحبس فيه الإبل وهو مثل الحظيرة
للغنم فقوله هنا في مربد يحتمل أنه أراد الحظيرة التي للغنم فأطلق عليها اسم المربد مجازا لمقاربتها
ويحتمل أنه على ظاهره وأنه أدخل الغنم مربد الإبل ليسمها فيه وأما قوله يسم الظهر فالمراد به
الإبل سميت بذلك لأنها تحمل الأثقال على ظهورها وفى هذا الحديث فوائد كثيرة منها جواز
الوسم في غير الآدمي واستحبابه في نعم الزكاة والجزية وأنه ليس في فعله دناءة ولا ترك مروءة فقد
فعله النبي صلى الله عليه وسلم ومنها بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع وفعل
الأشغال بيده ونظره مصالح المسلمين والاحتياط في حفظ مواشيهم بالوسم وغيره ومنها
استحباب تحنيك المولود وسنبسطه في بابه إن شاء الله تعالى ومنها حمل المولود عند ولادته
إلى واحد من أهل الصلاح والفضل يحنكه بتمرة ليكون أول ما يدخل في جوفة ريق الصالحين
فيتبرك به والله أعلم
باب كراهة القزع
قوله (أخبرني عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع قلت
100

لنافع وما القزع قال يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعض) وفى رواية أن هذا التفسير
من كلام عبيد الله القزع بفتح القاف والزاي وهذا الذي فسره به نافع أو عبيد الله هو
الأصح وهو أن القزع حلق بعض الرأس مطلقا ومنهم من قال هو حلق مواضع متفرقة
منه والصحيح الأول لأنه تفسير الراوي وهو غير مخالف للظاهر فوجب العمل به وأجمع العلماء
على كراهة القزع إذا كان في مواضع متفرقة إلا أن يكون لمداواة ونحوها وهي كراهة تنزيه
وكرهه مالك في الجارية والغلام مطلقا وقال بعض أصحابه لا بأس به في القصة والقفا للغلام
ومذهبنا كراهته مطلقا للرجل والمرأة لعموم الحديث قال العلماء والحكمة في كراهته أنه تشويه
للخلق وقيل لأنه أذى الشر والشطارة وقيل لأنه زي اليهود وقد جاء هذا في رواية لأبى
داود والله أعلم
101

باب النهى عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه
قوله صلى الله عليه وسلم (إياكم والجلوس في الطرقات قالوا يا رسول الله مالنا بد من مجالسنا
نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا وما حقه قال غض البصر وكف
الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا الحديث كثير الفوائد وهو من
الأحاديث الجامعة وأحكامه ظاهرة وينبغي أن يجتنب الجلوس في الطرقات لهذا الحديث ويدخل
في كف الأذى اجتناب الغيبة وظن السوء واحقار بعض المارين وتضييق الطريق وكذا إذا
كان القاعدون ممن يهابهم المارون أو يخافون منهم ويمتنعون من المرور في أشغالهم بسبب
ذلك لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الموضع
باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة
(والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله تعالى
قوله (جاءت امرأة فقالت يا رسول الله ان لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله
102

فقال لعن الله الواصلة والمستوصلة) وفى رواية فتمرق شعر رأسها وزوجها يستحينها أفأصل
شعرها يا رسول الله فنهاها وفى رواية أنها مرضت فتمرط شعرها وفى رواية فاشتكت فتساقط
شعرها وأن زوجها يريدها أما تمرق فبالراء المهملة وهو بمعنى تساقط وتمرط كما ذكر في باقي
الروايات ولم يذكر القاضي في الشرح الا الراء المهملة كما ذكرنا وحكاه في المشارق عن جمهور
الرواة ثم حكى عن جماعة من رواة صحيح مسلم أنه بالزاي المعجمة قال وهذا وإن كان قريبا من
معنى الأول ولكنه لا يستعمل في الشعر في حال المرض وأما قولها (ان لي ابنة عريسا)
فبضم العين وفتح الراء وتشديد الياء المكسورة وتصغير عروس والعروس يقع على المرأة والرجل
عند الدخول بها وأما الحصبة فبفتح الحاء واسكان الصاد المهملتين ويقال أيضا بفتح الصاد
وكسرها ثلاث لغات حكاهن جماعة والاسكان أشهر وهي بثر تخرج في الجلد يقول منه حصب
جلده بكسر الصاد يحصب وأما الواصلة فهي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر والمستوصلة التي
تطلب من يفعل بها ذلك ويقال لها موصولة وهذه الأحاديث صريحة في تحريم الوصل ولعن
الواصلة والمستوصلة مطلقا وهذا هو الظاهر المختار وقد فصله أصحابنا فقالوا ان وصلت شعرها
بشعر آدمي فهو حرام بلا خلاف سواء كان شعر رجل أو امرأة وسواء شعر المحرم والزوج
وغيرهما بلا خلاف لعموم الأحاديث ولأنه يحرم الانتفاع بشعر الآدمي وسائر أجزائه لكرامته
بل يدفن شعره وظفره وسائر أجزائه وان وصلته بشعر غير آدمي فإن كان شعرا نجسا
وهو شعر الميتة وشعر ما لا يؤكل إذا انفصل في حياته فهو حرام أيضا للحديث ولأنه
103

حمل نجاسة في صلاته وغيرها عمدا وسواء في هذين النوعين المزوجة وغيرها من النساء والرجال
وأما الشعر الطاهر من غير الآدمي فإن لم يكن لها زوج ولا سيد فهو حرام أيضا وإن كان
فثلاثة أوجه أحدها لا يجوز لظاهر الأحاديث والثاني لا يحرم وأصحها عندهم ان فعلته باذن الزوج
أو السيد جاز والا فهو حرام قالوا وأما تحمير الوجه والخضاب بالسواد وتطريق الأصابع
فإن لم يكن لها زوج ولا سيد أو كان وفعلته بغير اذنه فحرام وان أذن جاز
على الصحيح هذا تلخيص كلام أصحابنا في المسألة وقال القاضي عياض اختلف العلماء في المسألة
فقال مالك والطبري وكثيرون أو الأكثرون الوصل ممنوع بكل شئ سواء وصلته بشعر أو صوف
أو خرق واحتجوا بحديث جابر الذي ذكره مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر أن
تصل المرأة برأسها شيئا وقال الليث بن سعد النهى مختص بالوصل بالشعر ولا بأس بوصله
بصوف وخرق وغيرها وقال بعضهم يجوز جميع ذلك وهو مروى عن عائشة ولا يصح عنها بل
الصحيح عنا كقول الجمهور قال القاضي فأما ربط خيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه الشعر
104

فليس بمنهى عنه لأنه ليس بوصل ولا هو معنى مقصود الوصل وإنما هو للتجمل والتحسين
قال وفى الحديث أن وصل الشعر من المعاصي الكبائر للعن فاعله وفيه أن المعين على الحرام
يشارك فاعله في الاثم كما أن المعاون في الطاعة يشارك في ثوابها والله أعلم وأما قولها وزوجها
يستحنها فهكذا وقع في جماعة من النسخ باسكان الحاء وبعدها سين مكسورة ثم نون من
الاستحسان أي يستحسنها فلا يصير عنها ويطلب تعجيلها إليه ووقع في كثير منها يستحثنيها
بكسر الحاء وبعدها ثاء مثلثة ثم نون ثم ياء مثناة تحت من الحث وهو سرعة الشئ وفى بعضها
يستحثها بعد الحاء ثاء مثلثة فقط والله أعلم وفى هذا الحديث أن الوصل حرام سواء كان لمعذورة
105

أو عروس أو غيرهما قوله (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات
للحسن المغيرات خلق الله) أما الواشمة بالشين المعجمة ففاعلة الوشم وهي أن تغرز إبرة أو مسلة
أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم ثم تحشو
ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر وقد يفعل ذلك بدارات ونقوش وقد تكثره وقد تقلله
وفاعلة هذا واشمة وقد وشمت تشم وشما والمفعول بها موشومة فان طلبت فعل ذلك بها فهي
مستوشمة وهو حرام على الفاعلة والمفعول بها باختيارها والطالبة له وقد يفعل بالبنت وهي طفلة
فتأثم الفاعلة ولا تأثم البنت لعدم تكليفها حينئذ قال أصحابنا هذا الموضع الذي وشم يصير نجسا
فان أمكن ازالته بالعلاج وجبت ازالته وان لم يمكن الا بالجرح فان خاف منه التلف أو فوات
عضو أو منفعة عضو أو شيئا فاحشا في عضو ظاهر لم تجب إزالته فإذا بان لم يبق عليه اثم وإن
لم يخف شيئا من ذلك ونحوه لزمه إزالته ويعصى بتأخيره وسواء في هذا كله الرجل والمرأة
والله أعلم وأما النامصة بالصاد المهملة فهي التي تزيل الشعر من الوجه والمتنمصة التي تطلب فعل
ذلك بها وهذا الفعل حرام الا إذا نبتت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالتها بل يستحب عندنا
وقال ابن جرير لا يجوز حلق لحيتها ولا عنفقتها ولا شاربها ولا تغيير شئ من خلقتها بزيادة
ولا نقص ومذهبنا ما قدمناه من استحباب إزالة اللحية والشارب والعنفقة وأن النهى إنما هو
في الحواجب وما في أطراف الوجه ورواه بعضهم المنتمصة بتقديم النون والمشهور تأخيرها
ويقال للمنقاش منماص بكسر الميم وأما المتفلجات فبالفاء والجيم والمراد مفلجات الأسنان بأن تبرد
ما بين أسنانها الثنايا والرباعيات وهو من الفلج بفتح الفاء واللام وهي فرجة بين الثنايا والرباعيات
وتفعل ذلك العجوز ومن قاربتها في السن اظهارا للصغر وحسن الأسنان لأن هذه للفرجة اللطيفة
بين الأسنان تكون للبنات الصغار فإذا عجزت المرأة كبرت سنها وتوحشت فتبردها بالمبرد
106

لتصير لطيفة حسنة المنظر وتوهم كونها صغيرة ويقال له أيضا الوشر ومنه لعن الواشرة
والمستوشرة وهذا الفعل حرام على الفاعلة والمفعول بها لهذه الأحاديث ولأنه تغيير لخلق الله
تعالى ولأنه تزوير ولأنه تدليس وأما قوله المتفلجات للحسن فمعناه يفعلن ذلك طلبا للحسن
وفيه إشارة إلى أن الحرام هو المفعول لطلب الحسن أما لو احتاجت إليه لعلاج أو عيب في السن
ونحوه فلا بأس والله أعلم قوله (لو كان ذلك لم نجامعها) قال جماهير العلماء معناه لم نصاحبها
ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها ونفاقها قال القاضي ويحتمل ان معناه لم أطأها وهذا ضعيف
والصحيح ما سبق فيحتج به في أن من عنده امرأة مرتكبة معصية كالوصل أوتر الصلاة
107

أو غيرهما ينبغي له أن يطلقها والله أعلم قوله (حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير حدثنا
الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الاسناد مما استدركه
الدارقطني على مسلم وقال الصحيح عن الأعمش ارساله قال ولم يسنده عنه غير جرير وخالفه
أبو معاوية وغيره فرووه عن الأعمش عن إبراهيم مرسلا قال والمتن صحيح من رواية منصور عن
إبراهيم يعنى كما ذكره في الطرق السابقة وهذا الاسناد فيه أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهم جرير
والأعمش وإبراهيم وعلقمة وقد رأى جرير رجلا من الصحابة وسمع أبا الطفيل وهو صحابي
والله أعلم قوله (ان معاوية تناول وهو على المنبر قصة من شعر كانت في يدي حرسي) قال
الأصمعي وغيره هي شعر مقدم الرأس المقبل على الجبهة وقيل شعر الناصية والحرسى كالشرطي
وهو غلام الأمير قوله (وأخرج كبة من شعر) هي بضم الكاف وتشديد الباء وهي شعر
مكفوف بعضه على بعض قوله (يا أهل المدينة أين علماؤكم) هذا السؤال للانكار عليهم
باهمالهم إنكار هذا المنكر وغفلتهم عن تغييره وفى حديث معاوية هذا اعتناء الخلفاء وسائر
ولاة الأمور بانكار المنكر وإشاعة إزالته وتوبيخ من أهمل إنكاره ممن توجه ذلك عليه قوله
صلى الله عليه وسلم (إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخد هذه نساؤهم) قال القاضي قيل يحتمل
108

أنه كان محرما عليهم فعوقبوا باستعماله وملكوا بسببه وقيل يحتمل أن الهلاك كان به وبغير
مما ارتكبوه من المعاصي فعند ظهور ذلك فيهم هلكوا وفيه معاقبة العامة بظهور المنكر
باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات
قوله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها
109

الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات رؤسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة
ولا يجدن ريحها وان ريحها توجد من مسيرة كذا وكذا) هذا الحديث من معجزات النبوة فقد
وقع هذان الصنفان وهما موجودان وفيه ذم هذين الصنفين قيل معناه كاسيات من نعمة الله عاريات
من شكرها وقيل معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا بحالها ونحوه وقيل معناه
تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها وأما مائلات فقيل معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه
مميلات أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم وقيل مائلات يمشين متبخترات مميلات لأكتافهن
وقيل مائلات يمشطن المشطة المائلة وهي مشطة البغايا مميلات يمشطن غيرهن تلك المشطة
ومعنى رؤسهن كأسنمة البخت أن يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها
باب النهى عن التزوير في اللباس وغيره
(والتشبع مما لم يعط)
قولها امرأة قالت يا رسول الله أقول إن زوجي أعطاني ما لم يعطني فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم المتشبع بما لم يعظ كلابس ثوبي زور) قال العلماء معناه المتكثر بما ليس عنده بأن يظهر
أن عنده ما ليس عنده يتكثر بذلك عند الناس ويتزين بالباطل فهو مذموم كما يذم من لبس ثوبي
زور قال أبو عيد وآخرون هو الذي يلبس ثياب أهل الزهد والعبادة والورع ومقصوده أن
يظهر للناس أنه متصف بتلك الصفة ويظهر من التخشع والزهد أكثر مما في قلبه فهذه ثياب
110

زور ورياء وقيل هو كمن لبس ثوبين لغيره وأوهم أنهما له وقيل هو من يلبس قميصا واحد
ويصل بكمية كمين آخرين فيظهر أن عليه قميصين وحكى الخطابي قولا آخر أن المراد هنا بالثوب
الحالة والمذهب والعرب تكنى بالثوب عن حال لابسه ومعناه أنه كالكاذب القائل ما لم يكن
وقولا آخر أن المراد الرجل الذي تطلب منه شهادة زور فيلبس ثوبين يتجمل بهما فلا ترد
شهادته لحسن هيئته والله أعلم قوله في اسناد الباب (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا وكيع
عبدة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها) وذكر الحديث وبعده عن ابن نمير أيضا عن
عبدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء الحديث وبعده عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعن
إسحاق عن أبي معاوية كلاهما عن هشام بهذا الاسناد هكذا وقعت هذه الأسانيد في جميع نسخ
بلادنا على هذا الترتيب ووقع في نسخة ابن ماهان رواية ابن أبي شيبة وإسحاق عقيب رواية
ابن نمير عن وكيع ومقدمة على رواية ابن نمير عن عبدة وحده واتفق الحفاظ على أن هذا الذي
في نسخة ابن ماهان خطأ قال عبد الغني بن سعيد هذا خطأ قبيح قال وليس يعرف حديث هشام
عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها الامن رواية مسلم عن ابن نمير ومن رواية معمر ين راشد وقال
الدارقطني في كتاب العلل حديث هشام عن أبيه عن عائشة إنما يرويه هكذا معمر والمبارك
ابن فضالة ويرويه غيرهما عن فاطمة عن أسماء وهو الصحيح قال وإخراج مسلم حديث هشام
عن أبيه عن عائشة لا يصح والصواب حديث عبدة ووكيع وغيرهما عن هشام عن فاطمة
عن أسماء والله أعلم
111

كتاب الآداب
باب النهى عن التكني بأبى القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء
قوله (نادي رجل رجلا بالبقيع يا أبا القاسم فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله انى لم أعنك إنما دعوت فلانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمعوا باسمي
ولا تكنوا بكنيتي) اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب كثيرة وجمعها القاضي وغيره
أحدها مذهب الشافعي وأهل الظاهر أنه لا يحل التكني بأبى القاسم لاحد أصلا سواء كان
اسمه محمدا أو حمد أم لم يكن لظاهر هذا الحديث والثاني أن هذا النهى منسوخ فان هذا
الحكم كان في أول الأمر لهذا المعنى المذكور في الحديث ثم نسخ قالوا فيباح التكني اليوم
بأبى القاسم لكل أحد سواء من اسمه محمد وأحمد وغيره وهذا مذهب مالك قال القاضي وبه
قال جمهور السلف وفقهاء الأمصار وجمهور العلماء قالوا وقد اشتهر أن جماعة تكنوا بأبى القاسم
في العصر الأول وفيما بعد ذلك إلى اليوم مع كثرة فاعل ذلك وعدم الانكار الثالث مذهب
ابن جرير أنه ليس بمنسوخ وإنما كان النهى للتنزيه والأدب لا للتحريم الرابع أن النهى عن
112

التكني بأبى القاسم مختص بمن اسمه محمد أو أحمد ولا بأس بالكنية وحدها لمن لا يسمى بواحد
من الاسمين وهذا قول جماعة من السلف وجاء فيه حديث مرفوع عن جابر الخامس أنه ينهى عن
التكني بأبى القاسم مطلقا وينهى عن التسمية بالقاسم لئلا يكنى أبوه بأبى القاسم وقد غير مروان
ابن الحكم اسم ابنه عبد الملك حين بلغه هذا الحديث فسماه عبد الملك وكان سماه أولا القاسم وفعله
بعض الأنصار أيضا السادس أن التسمية بمحمد ممنوعة مطلقا سواء كان له كنية أم لا وجاء
فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تسمون أولادكم محمد اثم تلعنونهم وكتب عمر إلى
الكوفة لا تسموا أحد باسم نبي وأمر جماعة بالمدينة بتغيير أسماء أبنائهم محمد حتى ذكر له جماعة
أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ذلك وسماهم به فتركهم قال القاضي والأشبه أن فعل عمر
هذا إعظام لاسم النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينتهك الاسم كما سبق في الحديث تسمونهم محمدا ثم
تلعنونهم وقيل سبب نهى عمر أنه سمع رجلا يقول لمحمد بن زيد بن الخطاب فعل الله بك يا محمد
فدعاه عمر فقال أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسب بك والله لا تدعى محمدا ما بقيت وسماه
عبد الرحمن قوله (حدثني إبراهيم بن زياد الملقب بسبلان) وهو بسين مهملة مفتوحة ثم موحدة مفتوحة
قوله (عن عبيد الله بن عمر وأخيه عبد الله) هذا صحيح لأن عبيد الله ثقة حافظ وضابط مجمع على
الاحتجاج به وأما أخوه عبد الله فضعيف لا يجوز الاحتجاج فإذا جمع بينهما الرازي جاز ووجب
العمل بالحديث اعتمادا على عبيد الله قوله (صلى الله عليه وسلم (ان أحب أسمائكم إلى الله عبد الله
وعبد الرحمن) فيه التسمية بهذين الاسمين وتفضيلهما على سائر ما يسمى به قوله صلى الله عليه وسلم
113

فإنما أنا قاسم أقسم بينكم) وفى رواية للبخاري في أول الكتاب في من يرد الله به خيرا يفقهه
في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطى القاضي عياض هذا يشعر بأن الكنية إنما تكون
بسبب وصف صحيح في المكنى أو لسبب اسم ابنه وقال ابن بطال في شرح رواية البخاري معناه
114

أنى لم استأثر من مال الله تعالى شيئا دونكم وقاله تطيبا لقلوبهم حين فاضل في العطاء فقال الله
هو الذي يعطيكم لا أنا وإنما أنا قاسم فمن قسمت له شيئا فذلك نصيبه قليلا كان أو
كثيرا وأما غير أبي القاسم من الكنى فأجمع المسلمون على جوازه سواء كان له ابن أو بنت
فكنى به أو بها أو لم يكن له ولد أو صغيرا أو كنى بغير ولده ويجوز أن يكنى الرجل أبا فلان
115

وأبا فلانة وأن تكنى المرأة أم فلانة وأم فلان وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
للصغير أخي أنس يا أبا عمير ما فعل النغير والله أ علم قوله (ولاننعمك عينا) أي لانقر عينك
بذلك وسبق شرح قرت عينه في حديث أبي بكر وضيفانه رضي الله عنهم قوله صلى الله
116

عليه وسلم عن بني إسرائيل (أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم) استدل به جماعة على
جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام وأجمع عليه العلماء إلا ما قدمناه عن عمر رضي الله عنه
وسبق تأويله وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وكان في أصحابه خلائق مسمون بأسماء
الأنبياء قال القاضي وقد كره بعض العلماء التسمي بأسماء الملائكة وهو قول الحارث بن مسكين
قال وكره مالك التسمي بجبريل وياسين
باب كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه
قوله (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمى رقيقنا بأربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع)
وفى رواية لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول اثم هو فلا يكون
117

فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدن على) وفى رواية جابر قال (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى
عن أن يسمى بيعلى وبركة وبأفلح وبيسار وبنافع ونحو ذلك ثم رأيته سكت بعد عنها فلم يقل
شيئا ثم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينه عن ذلك ثم أراد عمر أن ينهى عن ذلك
ثم تركه) هكذا وقع هذا اللفظ في معظم نسخ صحيح مسلم التي ببلادنا أن يسمى بيعلى وفى بعضها
بمقبل بدل يعلى وفى الجمع بين الصحيحين للحميدي بيعلى وذكر القاضي أنه في أكثر النسخ بمقبل
وفى بعضها بيعلى قال والأشبه أنه تصحيف قال والمعروف بمقبل وهذا الذي أنكره القاضي
ليس بمنكر بل هو المشهور وهو صحيح في الرواية وفى المعنى وروى بأبو داود في سننه هذا
الحديث عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عشت إن شاء الله
أنهى أمتي أن يسموا نافعا وأفلح وبركة والله أعلم وأما قوله فلا تزيدون على هو بضم الدال ومعناه
118

الذي سمعته أربع كلمات وكذا روايتهن لكم فلا تزيدوا على في الرواية ولا تنقلوا عنى غير الأربع
وليس فيه منع القياس على الأربع وأن يلحق بها ما في معناها قال أصحابنا يكره التسمية بهذه
الأسماء المذكورة في الحديث وما في معناه ولا تختص الكراهة بها وحدها وهي كراهة تنزيه
لا تحريم والعلة في الكراهة ما بينه صلى الله عليه وسلم في قوله فإنك تقول أثم هو فيقول لافكره
لبشاعة الجواب وربما أوقع بعض الناس في شئ من الطيرة وأما قوله أراد النبي صلى الله عليه وسلم
أن ينهى عن هذه الأسماء فمعناه أراد أن ينهى عنها نهى تحريم فلم ينه وأما النهى الذي هو لكراهة
التنزيه فقد نهى عنه في الأحاديث الباقية
باب استحباب تغير الاسم القبيح إلى حسن وتغير اسم برة
(إلى زينب وجويرية ونحوهما)
قوله (ان ابنة لعمر كان يقال لها عاصية فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميلة) وفى الحديث
الآخر كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية وكان يكره أن
119

يقال خرج من عند برة وذكر في الحديثين الآخرين أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم برة بنت أبي
سلمة برة بنت جحش فسماهما زينب وزينب وقال لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم
معنى هذه الأحاديث تغيير الاسم القبيح أو المكروه إلى حسن وقد ثبت أحاديث بتغيره
120

صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة كثيرين من الصحابة وقد بين صلى الله عليه وسلم العلة في النوعين
وما في معناهما وهي التزكية أو خوف التطير
باب تحريم التسمي بملك الاملاك أو بملك الملوك
قوله صلى الله عليه وسلم (ان أخنع اسم عند الله عز وجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله
قال سفيان مثل شاهان شاه وقال أحمد بن حنبل سألت إبل عمرو عن أخنع فقال أوضع) وفى
رواية أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك هكذا
جاءت هذه الألفاظ هنا أخنع وأغيظ وأخبث وهذا التفسير الذي فسره أبو عمرو مشهور عنه
وعن غيره قالوا معناه أشد ذلا وصغارا يوم القيامة والمراد صاحب الاسم ويدل عليه الرواية
الثانية أغيظ رجل قال القاضي وقد يستدل به على أن الاسم هو المسمى وفيه الخلاف المشهور وقيل
أخنع بمعنى فجر يقال خنع الرجل إلى المرأة والمرأة إليه أي دعاها إلى الفجور وهو بمعنى أخبث أي
أكذب الأسماء وقيل أقبح وفى رواية البخاري أخنأ وهو بمعنى ما سبق أي أفحش وأفجر والخنى
الفحش وقد يكون بمعنى أهلك لصاحبه المسمى الخنى الهلاك يقال أخنى عليه الدهر أي أهلكه
قال أبو عبيد وروى أنخع أي أقتل والنخع القتل الشديد وأما قوله صلى الله عليه وسلم أغيظ
رجل على الله وأغيظه عليه فهكذا وقع في جميع النسخ بتكرير أغيظ قال القاضي ليس تكريره وجه
الكلام قال وفيه وهم من بعض الرواة بتكريره أو تغييره قال وقال بعض الشيوخ لعل أحدهما أغنط بالنون
والطاء والمهملة أي أشده عليه والغنط شدة الكرب قال الماوردي أغيظ هنا مصروف عن ظاهره والله
سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ فيتأول هنا الغيظ على الغضب وسبق شرح معنى الغضب والرحمة في
121

حق الله سبحانه وتعالى والله أعلم وأما قوله قال سفيان مثل شاهان شاه فكذا هو في جميع النسخ
قال القاضي وقع في رواية شاه شاه قال وزعم بعضهم أن الأصوب شاه شاهان وكذا جاء في
بعض الأخبار في كسرى قالوا وشاه الملك وشاهان الملوك وكذا يقولون لقاضي القضاة موبذ موبذان
قال القاضي ولا ينكر صحة ما جاءت به الرجال لأن كلام العجم مبنى على التقديم والتأخير في
المضاف والمضاف إليه فيقولون في غلام زيد زيد غلام فهكذا أكثر كلامهم فرواية مسلم صحيحة
واعلم أن التسمي بهذا الاسم حرم وكذلك التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به كالرحمن والقدوس
والمهيمن وخالق الخلق ونحوها وأما قوله قال أحمد بن حنبل سألت أبا عمر فأبو عمرو هذا
هو إسحاق بن مرار بكسر الميم على وزن قتال وقيل مرار بفتحها وتشديد الراء كعمار وقيل
بفتحها وتخفيف الراء كغزال وهو أبو عمر واللغوي النحوي المشهور وليس بأبى عمرو الشيباني
ذاك تابعي توفى قبل ولادة أحمد بن حنبل والله أعلم
باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته وحمله إلى صالح
(يحنكه وجواز تسميته يوم ولادته واستحباب التسمية)
(بعبد الله وإبراهيم وسائر أسماء الأنبياء عليهم السلام)
اتفق العلماء على استحباب تحنيك المولود عند ولادته بتمر فان تعذر فما في معناه وقريب منه
122

من الحلو فيمضغ المحنك التمر حتى تصير مائعة بحيث تبتلع ثم بفتح فم المولود ويضعها فيه
ليدخل شئ منها جوفة ويستحب أن يكون المحنك من الصالحين وممن يتبرك به رجلا كان أو
امرأة فإن لم يكن حاضرا عند المولود حمل إليه قوله (ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة حين ولد
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له فقال هل معك تمر فقلت نعم فناولته تمرات
فألقاهن في فيه فلاكهن ثم فغر فا الصبي فمجه فيه فجعل الصبي يتلمظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
حب الأنصار التمر وسماه عبد الله) أما العباءة فمعروفة وهي ممدودة يقال فيها عباية بالياء وجمع
العباءة العباء وأما قوله يهنأ فبهمزة آخره أي يطلبه بالقطران وهو الهناء بكسر الهاء والمد يقال
هنأت البعير أهنأه ومعنى لاكهن أي مضغهن قال أهل اللغة اللوك مختص بمضغ الشئ الصلب
وفغر فاه بفتح الفاء والغين المعجمة أي فتحه ومجه فيه أي طرحه فيه ويتلمظ أي يحرك لسانه
ليتتبع ما في فيه من آثار التمر والتلمظ واللمظ فعل ذلك باللسان يقصد به فاعله تنقية الفم من بقايا
الطعام وكذلك ما على الشفتين وأكثر ما يفعل ذلك في شئ يستطيبه ويقال تلمظ يتلمظ تلمظلة
ولمظ يلمظ بضم الميم لمظا باسكانها ويقال لذلك الشئ الباقي في الفم لماظة بضم اللام وقوله صلى الله
عليه وسلم حب الأنصار التمر روى بضم الحاء وكسرها فالكسر بمعنى المحبوب كالذبح بمعنى المدبوح
وعلى هذا فالباء مرفوعة أي محبوب الأنصار التمر وأما من ضم الحاء فهو مصدر وفي الباء على هذا
وجهان النصب وهو الأشهر والرفع فمن نصب فتقديره انظروا حب الأنصار التمر فينصب التمر أيضا
ومن رفع قال هو مبتدأ حذف خبره أي حب الأنصار التمر لازم أو هكذا أو عادة من صغرهم
والله أعلم وفى هذا الحديث فوائد منها تحنيك المولود عند ولادته وهو سنة بالاجماع كما سبق
123

ومنها أن يحنكه صالح من رجل أو امرأة ومنها التبرك بآثار الصالحين وريقهم وكل شئ منهم
ومنها كون التحنيك بتمر وهو مستحب ولو حنك بغيره حصل التحنيك ولكن التمر أفضل
ومنها جواز لبس العباءة ومنها التواضع وتعاطى الكبير أشغاله وأنه لا ينقص ذلك مروءته ومنها
استحباب التسمية بعبد الله ومنها استحباب تقويض تسميته إلى صالح فيختار له اسما يرتضيه ومنها
جواز تسميته يوم ولادته والله أعلم قوله في الرواية الثانية أن الصبي لما مات فجاء أبوه أبو طلحة
سأل أم سليم وهي أم الصبي ما فعل الصبي قالت هو أسكن مما كان فقربت إليه العشاء فتعشى ثم
أصاب منها فلما فرغ قالت واروا الصبي أي ادفنوه فقد مات وفى هذا الحديث مناقب لأم سليم
رضي الله عنها من عظيم صبرها وحسن رضاها بقضاء الله تعالى وجزالة عقلها في اخفائها موته
على أبيه في أول الليل ليبيت مستريحا بلا حزن ثم عشته وتعشت ثم تصنعت له وعرضت له بإصابته
فأصابها وفيه استعمال المعاريض عند الحاجة لقولها هو أسكن مما كان فإنه كلام صحيح مع أن
المفهوم منه أنه قد هان مرضه وسهل وهو في الحياة وشرط المعاريض المباحة أن لا يضيع بها حق
أحد والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أعرستم الليلة) هو باسكان العين وهو كناية عن
الجماع قال الأصمعي والجمهور يقال أعرس الرجل إذا دخل بامرأته قالوا ولا يقال فيه عرس
بالتشديد وأراد هنا الوطء وسماه اعراسا لأنه في معناه في المقصود قال صاحب التحرير روى
أيضا أعرستم بفتح العين وتشديد الراء قال وهي لغة يقال عرس بمعنى أعرس قال لكن قال
أهل اللغة أعرس أفصح من عرس في هذا وهذا السؤال للتعجب من صنيعها وصبرها وسرورا
بحسن رضاها بقضاء الله تعالى ثم دعا صلى الله عليه وسلم لهما بالبركة في ليلتهما فاستجاب الله
124

تعالى ذلك الدعاء وحملت بعبد الله بن أبي طلحة وجاء من أولاد عبد الله إسحاق واخوته التسعة
صالحين علماء رضي الله عنهم قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن عون
عن ابن سيرين عن أنس) هكذا وقع في مسلم ابن سيرين مهملا وفى رواية البخاري هذا الحديث
عن أنس بن سيرين قوله (عن أبي موسى رضي الله عنه قال ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله
عليه وسلم فسماه بإبراهيم وحنكه بتمرة) فيه التحنيك وغيره مما سبق في حديث أنس وفيه
جواز التسمية بأسماء الأنبياء عليهم السلام وقد سبقت المسألة وذكرنا أن الجماهير على ذلك
وفيه جواز التسمية يوم الولادة وفيه أن قوله صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله تعالى
125

عبد الله وعبد الرحمن ليس بمانع من التسمية بغيرهما ولذا سمى ابن أبي أسيد المذكور بعد
هذا المنذر قولها (مسحه وصلى عليه وسماه عبد الله) معنى صلى عليه أي دعا له ومسحه تبركا ففيه
استحباب الدعاء للمولود عند تحنيكه ومسحه للتبريك قوله (أن ابن الزبير جاء وهو ابن سبع سنين
أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك الزبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين رآه مقبلا إليه ثم بايعه) هذا بيعة تبريك وتشريف لا بيعة تكليف قولها (فخرجت وأنا متم)
أي مقاربة للولادة قولها (ثم تفل في فيه) هو بالتاء المثناة فوق أي بصق كما صرح به في الرواية
الأخرى قوله (وكان أول مولود ولد في الاسلام) يعنى أول من لد في الاسلام بالمدينة بعد
الهجرة من أولادها المهاجرين والا فالنعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه ولد قبله بعد الهجرة وفى
هذا الحديث مع ما سبق شرحه مناقب كثيرة لعبد الله بن الزبير رضي الله عنه منها أن النبي
126

صلى الله عليه وسلم مسح عليه وبارك عليه ودعا له وأول شئ دخل جوفه ريقه صلى الله عليه
وسلم وأن أول من ولد في الاسلام بالمدينة والله أعلم قوله (فلهى النبي صلى الله عليه وسلم
بشئ بين يديه) هذه اللفظة رويت على وجهين أحدها فلها بفتح الهاء والثانية فلهى بكسرها
وبالياء والأولى لغة طي والثانية لغة الأكثرين ومعناه اشتغل بشئ بين يديه وأما من الله
فلها بالفتح لاغير يلهو والأشهر في الرواية هنا كسر الهاء وهي لغة أكثر العرب كما ذكر
واتفق أهل الغريب والشراح على أن معناه اشتغل قوله (المنذر بن أبي أسيد) المشهور في أبى
أسد ضم الهمزة وفتح السين ولم يذكر الجماهير غيره قال القاضي وحكى عبد الرحمن بن
127

مهدي عن سفيان أنه بفتح الهمزة قال أحمد بن حنبل وبالضم قال عبد الرزاق ووكيع وهو
الصواب واسمه مالك بن أبي ربيعة قالوا وسبب تسمية النبي صلى الله عليه وسلم هذا المولود
المنذر لأن ابن عم أبيه المنذر بن عمرو كان قد استشهد ببئر معونة وكان أميرهم فيقال بكونه
خلفا منه قوله (فاقلبوه) أي ردوه وصرفوه في جميع نسخ صحيح مسلم فأقلبوه بالألف وأنكره
جمهور أهل اللغة والغريب وشراح الحديث وقالوا صوابه قلبوه بحذف الألف قالوا يقال
قلبت الصبي والشئ صرفته ورددته ولا يقال أقلبته وذكر صاحب التحرير أن أقلبوه بالألف
لغة قليلة فأثبتها لغة والله أعلم فاستفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أي انتبه من شغله
وفكره الذي كان فيه والله أعلم
باب جواز تكنية من لم يولد له وتكنية الصغير
قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير أحسبه قال
كان نطما قال فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في قال أبا عمير ما فعل النغير وكان يلعب به)
128

أما النغير فبضم النون تصغير النغر بضمها وفتح الغين المعجمة وهو طائر صغير جمعه نغران والفطيم
بمعنى المفطوم وفى هذا الحديث فوائد كثيرة جدا منها جواز تكنية من لم يولد له وتكنية
الطفل وأنه ليس كذبا وجواز المزاح فيما ليس أثما وجواز تصغير بعض المسميات وجواز
لعب الصبي بالعصفور وتمكين الولي إياه من ذلك وجواز السجع بالكلام الحسن بلا كلفة
وملاطفة الصبيان وتأنيسهم وبيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم
لشمائل والتواضع وزيارة الأهل لأن أم سليم والدة أبى عمير هي من محارمه صلى الله عليه
وسلم كما سبق بيانه واستدل بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة ولا دلالة فيه
لذلك لأنه ليس في الحديث صراحة ولا كناية أنه من حرم المدينة وقد سبقت الأحاديث
الصحيحة الكثيرة في كتاب الحج المصرحة بتحريم صيد حرام المدينة فلا يجوز تركها بمثل
هذا ولا معارضتها به والله أعلم
باب جواز قوله لغير ابنه يا بنى واستحبابه للملاطفة
قوله صلى الله عليه وسلم لأنس (يا بنى وللمغيرة أي بنى) هو بفتح الياء المشددة وكسرها
وقرئ بهما في السبع الأكثرون بالكسر وبعضهم باسكانها وفى هذين الحديثين جواز
قول الانسان لغير ابنه ممن هو أصغر سنا منه يا ابني ويا بني مصغرا ويا ولدي ومعناه تلطف
وانك عندي بمنزلة ولدى في الشفقة وكذا يقال له ولمن هو في مثل سن المتكلم يا أخي للمعنى
الذي ذكرناه وإذا قصد التلطف كان مستحبا كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله
129

عليه وسلم في الدجال (وما ينصبك منه) هو من النصب وهو التعب والمشقة أي ما يشق عليك
ويتعبك منه قوله صلى الله عليه وسلم (إنه لن يضرك) هو من معجزات النبوة وسيأتي شرح
أحاديث الدجال مستوعبا إن شاء الله تعالى حيث ذكرها مسلم في أواخر الكتاب وبالله التوفيق
باب الاستئذان
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) أجمع العلماء أن الاستئذان
130

مشروع وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة واجماع الأمة والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثا
فيجمع بين السلام والاستئذان كما صرح به في القرآن واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام
ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام الصحيح الذي جاءت به السنة وقاله المحققون
أنه يقدم السلام فيقول السلام عليكم أأدخل والثاني يقدم الاستئذان والثالث وهو اختيار
الماوردي من أصحابنا ان وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام والأقدم
الاستئذان وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام أما إذا أستأذن ثلاثا فلا
يؤذن له وظن أنه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان والثاني
يزيد فيه والثالث إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده وإن كان بغيره إعادة فمن قال بالأظهر
فحجته قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلم يؤذن له فليرجع ومن قال بالثاني حمل الحديث
على من علم أو ظن أنه سمعه فلم يأذن والله أعلم قوله (قال عمر أقم عليه البينة والا أوجعتك فقال
أبي بن كعب لا يقوم معه الا أصغر القوم قال أبو سعيد قلت أنا أصغر القوم فأذهب به) معنى
كلام أبي بن كعب رضي الله عنه الانكار على عمر في انكاره الحديث وأما قوله لا يقوم معه
الا أصغر القوم فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا وصغارنا حتى أن أصغرنا
يحفظه وسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تعلق بهذا الحديث من يقول لا يحتج بخير
الواحد وزعم أن عمر رضي الله عنه رد حديث أبي موسى هذا لكونه خبر واحد وهذا مذهب باطل
وقد أجمع من يعتد به على الاحتجاج بخير الواحد ووجوب العمل به ودلائله من فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم أكثر من أن يحصر وأما قول عمر لأبى
131

موسى أقم عليه البينة فليس معناه رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ولكن خاف عمر
مسارعة الناس إلى القوم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول عليه بعض المبتدعين
أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل وأن كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثا على
النبي صلى الله عليه وسلم فأراد سد الباب خوفا من غير أبى موسى لا شكا في رواية أبى موسى
فإنه عند عمر أجل من أن يظن به أن يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل بل أراد زجر
غيره بطريقة فان من دون أبى موسى إذا رأى هذه القضية أو بلغته وكان في قلبه مرض أو أراد
وضع حديث خاف من مثل قضية أبى موسى فامتنع من وضع الحديث والمسارعة إلى الرواية
بغير يقين ومما يدل على أن عمر لم يرد خبر أبي موسى لكونه خبر واحد أنه طلب منه اخبار
رجل آخر حتى يعمل بالحديث ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد وكذا ما زاد حتى يبلغ
التواتر فما لم يبلغ التواتر فهو خبر واحد مما يؤيده أيضا ما ذكره مسلم في الرواية الأخيرة
من قضية أبى موسى هذه أن أبيا رضي الله عنه قال يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سبحان الله إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت
والله أعلم قوله (فلو ما استأذنت) أي هلا استأذنت ومعناها التخضيض على الاستئذان
132

قوله (فها وإلا فلأجعلنك عظة) أي فهات البينة قوله (يضحكون) سبب ضحكهم التعجب
133

من فزع أبى موسى وذعره وخوفه من العقوبة مع أنهم قد أمنوا أن يناله عقوبة أو غيرها لقوة حجته أو سماعهم ما أنكر عليه من النبي صلى الله عليه وسلم قوله (ألهاني عنه الصفق بالأسواق)
أي التجارة والمعاملة في الأسواق قوله (أقم البينة وإلا أوجعتك) وفى الرواية الأخرى
134

والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد وفى رواية لأجعلنك نكالا هذا كله محمول
على أن تقديره لأفعلن بك هذا الوعيد بان أنك تعمدت كذبا والله أعلم
باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا
قوله (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال من هذا فقلت أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم
أنا أنا) زاد في رواية كأنه كرهها قال العلماء إذا استأذن فقيل له من أنت أو من هذا كره
أن يقول أبا لهذا الحديث ولأنه لم يحصل بقوله أنا فائدة ولا زيادة بل الابهام باق بل ينبغي أن
يقول فلان باسمه وان قال أنا فلان فلا بأس كما قالت أم هانئ حين استأذنت فقال النبي صلى الله
عليه وسلم من هذه فقالت أنا أم هانئ ولا بأس بقوله أنا أبو فلان أو القاضي فلان أو الشيخ
135

فلان إذا لم يحصل التعريف بالاسم لخفائه وعليه يحمل حديث أم فلان ومثله لأبى قتادة وأبي هريرة
والأحسن في هذا أن يقول أنا فلان المعروف بكذا والله أعلم
باب تحريم النظر في بيت غيره
قوله (ان رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى
الله عليه وسلم مدرى يحك به رأسه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أعلم أنك
تنظرني لطعنت به في عينك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الاذن من أجل
البصر) وفى رواية مدرى يرجل به رأسه وأما المدرى فبكسر الميم واسكان الدال المهملة
136

وبالقصر وهي حديدة يسوى بها شعر الرأس وقيل هو شبه المشط وقيل هي أعواد تحدد
تجعل شبه المشط وقيل هو عود تسوى به المرأة شعرها وجمعه مدارى ويقال في الواحد
مدراة أيضا ومدارية أيضا ويقال تدريت بالمدرى وقوله (يرجل به رأسه) هذا يدل لمن
قال أنه مشط أو يشبه المشط وأما قوله يحك به فلا ينافي هذا فكان يحك به ويرجل
به وترجيل الشعر تسريحه ومشطه وفيه استحباب الترجيل وجواز استعمال المدرى قال العلماء
فالترجيل مستحب للنساء مطلقا وللرجل بشرط أن لا يفعله كل يوم أوكل يومين ونحو ذلك
بل بحيث يخف الأول وأما قوله صلى الله عليه وسلم (لو علمت أنك تنظرني) فهكذا هو في أكثر
النسخ أو كثير منها وفى بعضها تنظرني بحذف التاء الثانية قال القاضي الأول رواية الجمهور
قال والصواب الثاني ويحمل الأول عليه وقوله في حجر هو بضم الجيم واسكان الحاء وهو الخرق
قوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الاذن من أجل البصر معناه أن الاستئذان مشروع
137

ومأمور به وإنما جعل لئلا يقع البصر على الحرام فلا يحل لاحد أن ينظر في حجر باب ولا
غيره مما هو متعرض فيه لوقع بصره على امرأة أجنبية وفى هذا الحديث جواز رمي عين المتطلع
بشئ خفيف فلو رماه بخفيف ففقأها فلا ضمان إذا كان قد نظر في بيت ليس فيه امرأة محرم والله أعلم
قوله (فقام إليه بمشقص أو مشاقص فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه)
أما المشاقص فجمع مشقص وهو نصل عريض للسهم وسبق إيضاحه في الجنائز وفى الايمان
وأما يختله فبفتح أوله وكسر التاء أي يراوغه ويستغفله وقوله (ليطعنه) بضم العين وفتحها الضم أشهر
قوله صلى الله عليه وسلم (من اطلع في بيت قوم بغير اذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه) قال العلماء
محمول على ما إذا نظر في بيت الرجل فرماه بحصاة ففقأ عينه وهل يجوز رميه قبل انذاره فيه
وجهان لأصحابنا أصحهما جوازه لظاهر هذا الحديث والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم فخذفته بحصاة
ففقأت عينه هو بهمز فقأت وأما خذفته فبالخاء المعجمة أي رميته بها من بين إصبعيك
138

باب نظر الفجأة
قوله (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصرى)
الفجأة بضم الفاء وفتح الجيم وبالمد ويقال بفتح الفاء وإسكان الجيم والقصر لغتان هي البغتة
ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصره على الأجنبية من غير قصد فلا إثم عليه في أول ذلك ويجب
عليه أن يصرف بصره في الحال فان صرف في الحال فلا إثم عليه وان استدام النظر أثم لهذا
الحديث فإنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصرف بصره مع قوله تعالى للمؤمنين يغضوا من
أبصارهم قال القاضي قال العلماء وفى هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها
وإنما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال إلا لغرض
صحيح شرعي وهو حالة الشهادة والمداواة وإرادة خطبتها أو شراء الجارية أو المعاملة بالبيع
والشراء وغيرهما ونحو ذلك وإنما يباح في جميع هذا قدر الحاجة دون ما زاد والله أعلم
139

كتاب السلام
باب يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير
هذا أدب من آداب السلام واعلم أن ابتداء السلام سنة ورده واجب فإن كان المسلم جماعة
فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم فإن كان المسلم عليه
واحد تعين عليه الرد وان كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم فإذا رد واحد منهم
سقط الحرج عن الباقين والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع وعن أبي يوسف
أنه لابد أن يرد الجميع ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة وأن
رده فرض وأقل السلام أن يقول السلام عليكم فإن كان المسلم عليه واحد فأقله السلام عليك
والأفضل أن يقول السلام عليكم ليتناوله وملكية وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله وأيضا
وبركاته ولو قال سلام عليكم أجزأه واستدل العلماء لزيادة ورحمة الله وبركاته بقوله تعالى
إخبارا عن سلام الملائكة بعد ذكر السلام رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وبقول المسلمين
كلهم في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ويكره أن يقول المبتدى عليكم السلام
فان قاله استحق الجواب على الصحيح المشهور وقيل لا يستحقه وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى والله أعلم وأما صفة الرد فالأفضل
140

والأكمل أن يقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بالواو فلو حذفها جاز وكان تاركا
للأفضل ولو اقتصر على وعليكم السلام أو على عليكم السلام أجزأه ولو اقتصر على عليكم
لم يجزه بلا خلاف ولو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان لأصحابنا قالوا وإذا قال المبتدى
سلام عليكم أو السلام عليكم فقال المجيب مثله سلام عليكم أو السلام عليكم كان جوابا وأجزأه
قال الله تعالى سلاما قال سلام بالألف واللام أفضل وأقل السلم ابتداء
وردا أن يسمع صاحبه ولا يجزئه دون ذلك ويشترط كون الرد على الفور ولو أتاه سلام
من غائب مع رسول أو في ورقة وجب الرد على الفور وقد جمعت في كتاب الأذكار نحو
كراستين في الفوائد المتعلقة بالسلام وهذا الذي جاء به الحديث من تسليم الراكب
على الماشي والقائم على القاعد والقليل على الكثير وفى كتاب البخاري والصغير على
الكبير كله للاستحباب فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل وأما معنى السلام فقيل هو اسم
الله تعالى فقوله السلام عليك أي اسم السلام عليك ومعناه اسم الله عليك أي أنت في حفظه كما يقال
الله معك والله يصحب وقيل السلام بمعنى السلامة أي السلامة ملازمة لك
باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام
قوله (كنا قعودا بالأفنية نتحدث) هي جمع فناء بكسر الفاء والمد وهو حريم الدار ونحوها
وما كان في جوانبها وقريبا منها قوله صلى الله عليه وسلم (اجتنبوا بجالس الصعدات فقلنا إنما
قعدنا لغير ما بأس فقعدنا نتذاكر ونتحدث قال إما لا فأرادوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن
141

الكلام) وفى الرواية الأخرى غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن
المنكر أما الصعدات فبضم الصاد والعين وهي الطرقات واحدها صعيد كطريق يقال صعيد
وصعد وصعدان كطريق وطرق وطرقات على وزنه ومعناه وقد صرح به في الرواية الثانية وأما قوله صلى
الله عليه وسلم إما لا فبكسر الهمزة وبالإمالة ومعناه إن لم تتركوها فأدوا حقها وقد سبق بيان هذه
اللفظة مبسوطا في كتاب الحج وقوله قعدنا لغير ما بأس لفظة ما زائدة وقد سبق شرح هذا الحديث
والمقصود منه أنه يكره الجلوس على الطرقات للحديث ونحوه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم
إلى علة النهى من التعرض للفتن والاثم بمرور النساء وغيرهن وقد يمتد نظر إليهن أو فكر فيهن
أو ظن سوء فيهن أو في غيرهن من المارين ومن أذى الناس باحتقار من يمر أو غيبة أو غيرها
أو إهمال رد السلام في بعض الأوقات أو إهمال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونحو ذلك
من الأسباب التي لو خلا في بيته سلم منها ويدخل في الأذى أن يضيق الطريق على المارين
أو يمتنع النساء ونحوهن من الخروج في أشغالهن بسبب قعود القاعدين في الطريق أو يجلس
بقرب باب دار إنسان يتأذى بذلك أو حيث يكشف من أحوال النساء شيئا يكرهونه وأما حسن
الكلام فيدخل فيه حسن كلامهم في حديثهم بعضهم لبعض فلا يكون فيه غيبة ولا نميمة ولاكذب
142

ولا كلام ينقص المروءة ونحو ذلك من الكلام المذموم ويدخل فيه كلامهم للمار من در السلام
ولطف جوابهم له وهدايته للطريق وارشاده لمصلحته ونحو ذلك
باب من حق المسلم للمسلم رد السلام
قوله صلى الله عليه وسلم (خمس تجب للمسلم على أخيه رد السلام وتشميت العاطس وإجابة
الدعوة وعيادة المريض واتباع الجنائز) وفى الرواية الأخرى حق المسلم على المسلم ست إذا
لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا
مرض فعده وإذا مات فاتبعه وقد سبق شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الباس وذكرنا
هناك أن التشميت بالشين المعجمة والمهملة وبيان اشتقاقه وأما رد السلام وابتداؤه فقد سبقا
في الباب الماضي وأما قوله صلى الله عليه وسلم وإذا استنصحك فمعناه طلب من النصيحة
فعليك أن تنصحه ولا تداهنه ولا تغشه ولا تمسك عن بيان النصيحة والله أعلم
143

باب النهى عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم) وفى رواية ان أهل الكتاب
يسلمون علينا فكيف نرد عليهم قال قولوا وعليكم وفى رواية ان اليهود إذا سلموا
عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل عليك وفى رواية ان رهطا من اليهود استأذنوا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالوا السام عليكم فقالت عائشة بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم وفى رواية قد قلت
عليكم بحذف الواو وفى الحديث الآخر لا تبدأوا اليهود والا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم
في طريق فاضطروه إلى أضيقه اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم
وعليكم السلام بل يقال عليكم فقط أو وعليكم وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم عليكم
وعليكم باثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات باثباتها وعلى هذا في معناه وجهان أحدهما أنه على
ظاهره فقالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضا أي نحن وأنتم فيه سواء وكلنا نموت والثاني أن
الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم وأما من خذف
الواو فتقديره بل عليكم السام قال القاضي اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف
الواو لئلا يقتضى التشريك وقال غيره باثباتها كما هو في أكثر الروايات قال وقال بعضهم يقول
عليكم السلام بكسر السين أي الحجارة وهذا ضعيف وقال الخطابي عامة المحدثين يروون هذا
144

الحرف وعليكم بالواو وكان ابن عيينة يرويه بغير واو قال الخطابي وهذا هو الصواب لأنه إذا
حذف الواو صار كلامهم بعينه مردودا عليهم خاصة وإذا ثبت الواو واقتضى المشاركة معهم فيما
قالوه هذا كلام الخطابي والصواب أن اثبات الواو وحذفها جائزان كما صحت به الروايات وأن الواو
أجود كما هو في أكثر الروايات ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم ولا ضرر
في قوله بالواو واختلف العلماء في رد السلام على الكفار وابتدائهم به فمذهبنا تحريم ابتدائهم به
ووجوب رده عليهم بأن يقول وعليكم أو عليكم فقط ودليلنا في الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم
لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام وفى الرد قوله صلى الله عليه وسلم فقولوا وعليكم وبهذا
الذي ذكرناه عن مذهبنا قال أكثر العلماء وعامة السلف وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم
بالسلام روى ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الماوردي
لكنه قال يقول السلام عليك ولا يقول عليكم بالجمع هؤلاء بعموم الأحاديث وبافشاء
السلام وهي حجة باطلة لأنه عام مخصوص بحديث لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام وقال
بعض أصحابنا يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم وهذا ضعيف أيضا لأن النهى للتحريم فالصواب
تحريم ابتدائهم وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب وهو
قول علقمة والنخعي وعن الأوزاعي أنه قال إن سلمت فقد سلم الصالحون وان تركت فقد ترك
الصالحون وقالت طائفة من العلماء لا يرد عليهم السلام ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك
وقال بعض أصحابنا يجوز أن يقول في الرد عليهم وعليكم السلام ولكن لا يقول ورحمة الله
حكاه الماوردي وهو ضعيف مخالف للأحاديث والله أعلم ويجوز الابتداء بالسلام على جمع
فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكفار ويقصد المسلمين للحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم
سلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين قوله صلى الله عليه وسلم يا عائشة ان الله يحب
الرفق في الأمر كله هذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال حلمه وفيه حث على الرفق والصبر
والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة قولها عليكم السام والذام هو بالذال المعجمة
وتخفيف الميم وهو الذم ويقال بالهمزة أيضا والأشهر ترك الهمز وألفه منقلبة عن واو والذام
والذيم والذم بمعنى العيب وروى الدام بالدال المهملة ومعناه الدائم وممن ذكر أنه روى بالمهملة
ابن الأثير ونقل القاضي الاتفاق على أنه بالمعجمة قال ولو روى بالمهملة لكان له وجه والله أعلم
145

قوله (ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه يا عائشة فان الله لا يحب
الفحش والتفحش) مه كلمة زجر عن الشئ وقوله ففطنت هو بالفاء وبالنون بعد الطاء من الفطنة
هكذا هو في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن الجمهور قال ورواه بعضهم فقطبت بالقاف
وتشديد الطاء وبالباء الموحدة وقد تخفيف الطاء في هذا اللفظ وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى
غضبت ولكن الصحيح الأول وأما سبها لهم ففيه الانتصار من الظالم وفيه الانتصار لأهل الفضل
ممن يؤذيهم وأما الفحش فهو القبيح من القول والفعل وقيل الفحش مجاوزة الحد وفى هذا الحديث
استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة قال الشافعي رحمه الله
الكيس العاقل هو الفطن المتغافل قوله صلى الله عليه وسلم وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه
إلى أضيقه قال أصحابنا لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون
فان خلت الطريق عن الرحمة فلا حرج قالوا وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه
جدار ونحوه والله أعلم
147

باب استحباب السلام على الصبيان
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم وفى رواية مر بصبيان فسلم عليهم
148

الغلمان هم الصبيان بكسر الصاد على المشهور وبضمها ففيه استحباب السلام على الصبيان المميزين
والندب إلى التواضع وبذل السلام للناس كلهم وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته على
العالمين واتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان ولو سلم على رجال وصبيان فرد
السلام صبي منهم هل يسقط فرض الرد عن الرجال ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما يسقط ومثله
الخلاف في صلاة الجنازة هل يسقط فرضها بصلاة الصبي الأصح سقوطه ونص عليه الشافعي ولو
سلم الصبي على رجل لزم الرجل رد السلام هذا هو الصواب الذي أطبق عليه الجمهور وقال بعض
أصحابنا لا يجب وهو ضعيف أو غلط وأما النساء فان كن جميعا سلم عليهن وان كانت واحدة سلم
عليها النساء وزوجها وسيدها ومحرمها سواء كانت جميلة أو غيرها وأما الأجنبي فان كانت عجوزا
لا تشتهي استحب له السلام عليها واستحب لها السلام عليه ومن سلم منهما لزم الآخر رد السلام
عليه وإن شابة أو عجوزا تشتهى لم يسلم عليها الأجنبي ولم تسلم عليه ومن سلم منهما لم يستحق
جوابا ويكره رد جوابه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال ربيعة لا يسلم الرجال على النساء ولا
النساء على الرجال وهذا غلط وقال الكوفيون لا يسلم الرجال عل النساء إذا لم يكن فيهن محرم
والله أعلم
149

باب جواز جعل الأذن رفع حجاب أو غيره من العلامات
قوله (عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آذنك على أن ترفع الحجاب وأن تسمع
سوادي حتى أنهاك) السواد بكسر السين المهملة واتفق العلماء على أن المراد به السرار بكسر
السين وبالراء المكررة وهو السر والمسار ويقال ساودت الرجل مساودة إذا ساررته قالوا وهو
مأخوذ من ادناء سوادك من سواده عند المساررة أي شخصك من شخصه والسواد اسم لكس
شخص وفيه دليل لجواز اعتماد العلامة في الأذن في الدخول فإذا جعل الأمير والقاضي ونحوهما
وغيرهم رفع الستر الذي على بابه علامة في الأذن في الدخول عليه للناس عامة أو لطائفة خاصة أو
لشخص أو جعل علامة غير ذلك جاز اعتمادها والدخول إذا وجدت بغير استئذان وكذا إذا جعل
الرجل ذلك علامة بينه وبين خدمه ومماليكه وكبار أولاده وأهله فمتى أرخى حجابه فلا دخول
عليه إلا باستئذان فإذا رفعه جاز بلا استئذان والله أعلم
باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الانسان
قوله (وكانت امرأة جسمية تفرع النساء جسما لا تخفى على من يعرفها) فقوله جسيمة أي عظيمة
150

الجسم وقوله تفرع هو بفتح التاء واسكان الفاء وفتح الراء وبالعين المهملة أي تطولهن فتكون أطول
منهن والفارع المرتفع العالي وقوله لا تخفى على من يعرفها يعنى لا تخفى إذا كانت متلففة في ثيابها
ومرطها في ظلمة الليل ونحوها على من قد سبقت له معرفة طولها لانفرادها بذلك قولها وأنه ليتعشى وفى
يده عرق هو بفتح العين واسكان الراء وهو العظم الذي عليه بقية لحم هذا هو المشهور وقيل هو القذرة
من اللحم وهو شاذ ضعيف قوله قال هشام يعنى البراز هكذا المشهور في الرواية البراز بفتح الباء
وهو الموضع الواسع البارز الظاهر وقد قال الجوهري في الصحاح البراز بكسر الباء هو الغائط وهذا
أشبه أن يكون هو المراد هنا فان مراد هشام بقوله يعنى البراز تفسير قوله صلى الله عليه وسلم قد
أذن لكن أن تخرجن لحاجتكم فقال هشام المراد بحاجتهن الخروج للغائط لا لكل حاجة من
أمور المعايش والله أعلم قوله كن يخرجن إذا تبرزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح معنى تبرزن
أردن الخروج لقضاء الحاجة والمناصع بفتح الميم وبالصاد المهملة المكسورة وهو جمع منصع وهذه
المناصع مواضع قال الأزهري أراها مواضع خارج المدينة وهو مقتضى قوله في الحديث وهو
صعيد أفيح أي أرض متسعة والأفيح بالفاء المكان الواسع وفى هذا الحديث منقبة ظاهرة لعمر
ابن الخطاب رضي الله عنه وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم ونصيحتهم وتكرار ذلك
عليهم وفيه جواز تعرق العظم وجواز خروج المرأة من بيت زوجها لقضاء حاجة الانسان إلى
الموضع المعتاد لذلك بغير استئذان الزوج لأنه مما أذن فيه الشرع قال القاضي عياض فرض
الحجاب مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه
والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولاغيرها ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن وان
كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز قال الله تعالى سألتموهن متاعا
فاسألوهن من وراء حجاب كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب وإذا خرجن
حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر ولما توفيت زينب رضي الله عنها
جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها هذا آخر كلام القاضي
151

باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحا أو ذا محرم) هكذا هو في نسخ
بلادنا إلا أن يكون بالياء المثناة من تحت أي يكون الداخل زوجا أو ذا محرم وذكره القاضي فقال إلا
أن تكون ناكحا أو ذات محرم بالتاء المثناة فوق وقال ذات بدل ذا قال والمراد بالناكح المرأة المزوجة
وزوجها حاضر فيكون مبيت الغريب في بيتها بحضرة زوجها وهذه الرواية التي اقتصر عليها
والتفسير غريبان مردودان والصواب الرواية الأولى التي ذكرتها عن نسخ بلادنا ومعناه
لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها قال العلماء إنما خص الثيب لكونها التي
يدخل إليها غالبا وأما البكر فمصونة متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانية فلم يحتج إلى ذكرها
ولأنه من باب التنبيه لأنه إذا نهى عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة
فالبكر أولى وفى هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمها
وهذان الأمران مجمع عليهما وقد قدمنا أن المحرم هو كل من حرم عليه نكاحها على التأييد لسبب
مباح لحرمتها فقولنا على التأييد احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن ومن بنتها
قبل الدخول بالأم وقولنا لسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنه حرام على التأييد
لكن لا لسبب مباح فان وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم ولا بغيرهما من أحكام
الشرع الخمسة لأنه ليس فعل مكلف وقولنا لحرمتها احتراز من الملاعنة فهي حرام على التأيد
لا لحرمتها بل تغليظا عليهما والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الحمو الموت) قال الليث بن
153

سعد الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه اتفق أهل اللغة على أن الأحماء
أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم والأختان أقارب زوجة
الرجل والأصهار يقع على النوعين وأما قوله صلى الله عليه وسلم الحمو الموت فمعناه أن الخوف
منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من
غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء
والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ
والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت
وهو أولى بالمنع من أجنبي لما ذكرناه فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث وأما ما ذكره
المازري وحكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج وقال إذا نهى عن أبي الزوج وهو محرم فكيف
بالغريب فهذا كلام فاسد مردود ولا يجوز حمل الحديث عليه فكذا ما نقله القاضي عن أبي عبيد
أن معنى الحمو الموت فليمت ولا يفعل هذا هو أيضا كلام فاسد بل الصواب ما قدمناه وقال
ابن الأعرابي هي كلمة تقولها العرب كما يقال الأسد الموت أي لقاؤه مثل الموت وقال القاضي
معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد
التغليظ قال وفى الحم أربع لغات إحداها هذا حموك بضم الميم في الرفع ورأيت حماك ومررت
بحميك والثانية هذا حمؤك باسكان الميم وهمزة مرفوعة ورأيت حماك ومررت بحمئك والثالثة
حما هذا حماك ورأيت حماك ومررت بحماك كقفا وقفاك والرابعة حم كأب وأصله حمو بفتح
154

الحاء والميم وحماة المرأة أم زوجها لا يقال فيها غير هذا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يدخلن رجل
بعد يومى هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان) المغيبة بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان
الياء وهي التي غاب عنها زوجها والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب
عن المنزل وإن كان في البلد هكذا ذكره القاضي وغيره وهذا ظاهر متعين قال القاضي ودليله
هذا الحديث وأن القصة التي قيل الحديث بسببها وأبو بكر رضي الله عنه غائب عن منزله لاعن
البلد والله أعلم ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو ثلاثة بالأجنبية والمشهور عند
أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو
مروءتهم أو غير ذلك وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل
155

باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خاليا بامرأة وكانت زوجته
(أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به)
قوله في حديث صفية رضي الله عنها وزيارتها للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه عشاء فرأى الرجلين
فقال (انها صفية فقالا سبحان الله فقال إن الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم) الحديث
فيه فوائد منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومراعاته لمصالحهم وصيانة قلوبهم
وجوارحهم بالمؤمنين رحيما صلى الله عليه وسلم أن يلقى الشيطان في قلوبهما فيهلكا فان
ظن السوء بالأنبياء كفر بالاجماع والكبائر غير جائزة عليهم وفيه أن من ظن شيئا من نحو هذا بالنبي
صلى الله عليه وسلم كفر وفيه جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار وأنه لا يضر اعتكافه
لكن يكره الاكثار من مجالستها والاستلذاذ بحديثها لئلا يكون ذريعة إلى الوقاع أو إلى القبلة أو نحوها مما
يفسد الاعتكاف وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الانسان وطلب
السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن
156

يبين حاله ليدفع ظن السوء وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجرى من الانسان
مجرى الدم فيتأهب الانسان للاحتراز من وساوسه وشره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ان
الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم) قال القاضي وغيره قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى
جعل له قوة وقدرة على الجرى في باطن الانسان مجاري دمه وقيل هو على الاسعارة لكثرة
اغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الانسان كما لا يفارقه دمه وقيل يلقى وسوسته في مسام لطيفة
من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم يا فلان هذه زوجتي
فلانة هكذا هو في جميع النسخ بالتاء قبل الياء وهي لغة صحيحة وإن كان الأشهر حذفها وبالحذف
جاءت آيات القرآن والاثبات كثير أيضا قولها فقام معي ليقلبني هو بفتح الياء أ ليردني إلى
منزلي فيه جواز تمشى المعتكف معها ما لم يخرج من المسجد وليس في الحديث أنه خرج من
المسجد قوله صلى الله عليه وسلم على رسلكما هو بكسر الراء وفتحها لغتان والكسر أفصح وأشهر
أي على هينتكما في المشي فما هنا شئ تكرهانه قوله فقال سبحان الله فيه جواز التسبيح تعظيما
للشئ وتعجبا منه وقد كثر في الأحاديث وجاء به القرآن في قوله تعالى إذ سمعتموه قلتم
ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك
157

باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها والا وراءهم
قوله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد الناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل
اثنان) إلى آخره فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد
أفضل فيذاكرهم العلم والخير وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها
ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع
كلامه سماعا بينا ويتأدب بأدبه وأن قاصد الحلقة ان رأى فرجة دخل فيها والا جلس وراءهم وفيه
الثناء على من فعل جميلا فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث وأن الانسان
إذا فعل قبيحا ومذموما وباح به جاز أن ينسب إليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فرأى
فرجة في الحلقة فدخل فيها) الفرجة بضم الفاء وفتحها لغتان وهي الخلل بين الشيئين ويقال لها
أيضا فرج ومنه قوله تعالى من فروج فرج وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فذكر
الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها وقد فرج له في الحلقة والصف ونحوهما بتخفيف الراء
يفرج بضمها وأما الحلقة فباسكان اللام على المشهور وحكى الجوهري فتحها وهي لغة رديئة
قوله صلى الله عليه وسلم (أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله) لفظة أوى بالقصر وآواه بالمد هكذا
الرواية وهذه هي اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازما كان مقصورا وإن كان متعديا
كان ممدودا قال الله تعالى إذا أوينا إلى الصخرة تعالى أوى الفتية إلى الكهف
158

في المتعدى إلى ربوة تعالى يجدك يتيما فآوى القاضي وحكى بعض أهل
اللغة فيهما جميعا لغتين القصر والمد فيقال أويت إلى الرجل بالقصر والمد وآويته بالمد والقصر
والمشهور الفرق كما سبق قال العلماء معنى أوى إلى الله أي لجأ إليه قال القاضي وعندي أن معناه
هنا دخل مجلس ذكر الله تعالى أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه
وانضم إليه ومعنى آواه الله أي قبله وقربه وقيل معناه رحمه أو آواه إلى جنته أي كتبها له قوله صلى
الله عليه وسلم (وأما الآخر فاستحى فاستحى الله منه) أي ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى
ومن النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرين أو استحياء منهم أن يعرض ذاهبا كما فعل الثالث
فاستحى الله منه أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه وقيل جازاه بالثواب قالوا ولم يلحقه بدرجة
صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه وأما الثالث فأعرض الله
عنه أي لم يرحمه وقيل سخط عليه وهذا محمول على أنه ذهب معرضا لا لعذر وضرورة قوله
صلى الله عليه وسلم في الثاني وأما الاخر فاستحى هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة أنه يجوز
في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم الآخر فيقال حضرني ثلاثة أما أحدهم فقرشي وأما
الآخر فأنصاري وأما الآخر فتيمي وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الآخر الا في الآخر
خاصة وهذا الحديث صريح في الرد عليه والله أعلم
159

باب تحريم إقامة الانسان من موضعه المباح الذي سبق إليه
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس) فيه وفى رواية ولكن
تفسحوا وتوسعوا وفى رواية وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه هذا النهى
للتحريم فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها
فهو أحق به ويحرم على غيره اقامته لهذا الحديث الا أن أصحابنا استثنوا منه ما إذا ألف
من المسجد موضعا يفتى فيه أو يقرأ قرآنا أو غيره من العلوم الشرعية فهو أحق به وإذا
حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه وفى معناه من سبق إلى موضع من الشوارع ومقاعد
الأسواق لمعاملة وأما قوله وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه فهذا
160

ورع منه وليس قعوده فيه حرما إذا قام برضاه لكنه تورع عنه لوجهين أحدهما أنه
ربما استحى منه انسان فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا
والثاني أن الايثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا
يرتكب أحد بسببه مكروها أو خلاف الأولى بأن يتأخر عن موضعه من الصف الأول ويؤثره به
وشبه ذلك قال أصحابنا وإنما يحمد الايثار بحظوظ النفوس وأمور الدنيا دون القرب والله أعلم
باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به
قوله صلى الله عليه وسلم (من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به) قال أصحابنا هذا الحديث
فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلا ثم فارقه ليعود بأن فارقه ليتوضأ أو يقضى
161

شغلا يسيرا ثم يعود لم يبطل اختصاصه بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة فإن كان قد
قعد فيه غيره فله أن يقيمه وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث هذا هو الصحيح عند أصحابنا
وأنه يجب على من قعد في مفارقته إذا رجع الأول وقال بعض العلماء هذا مستحب ولا يجب
وهو مذهب مالك والصواب الأول قال أصحابنا ولافرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة
ونحوها أم لا فهذا أحق به في الحالين قال أصحابنا وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها
دون غيرها والله أعلم
باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب
قولها (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولى
الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال إذا أقبلت
162

أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا أرى هذا يعرف ما ههنا
لا يدخل عليكن فحجبوه) قال أهل اللغة المخنث هو بكسر النون وفتحها وهو الذي يشبه النساء في
أخلاقه وكلامه وحركاته وتارة يكون هذا خلقه من الأصل وتارة بتكلف وسنوضحهما قال
أبو عبيد وسائر العلماء معنى قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان أي أربع عكن وثمان عكن قالوا ومعناه
أن لها أربع عكن تقبل بهن من كل ناحية اثنتان ولكل واحد طرفان فإذا أدبرت صارت
الأطراف ثمانية قالوا وإنما ذكر فقال بثمان وكان أصله أن يقول بثمانية فان المراد الأطراف وهي
مذكرة لأنه لم يذكر لفظ المذكر ومتى لم يذكره جاز حذف الهاء كقوله صلى الله عليه وسلم من
صام رمضان وأتبعه بست من شوال سبقت المسألة هناك واضحة وأما دخول هذا المخنث أولا
على أمهات المؤمنين فقد بين سببه في هذا الحديث بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولى الإربة وأنه
مباح دخوله عليهن فلما سمع منه هذا الكلام علم أنه من أولى الإربة فمنعه صلى الله عليه وسلم
الدخول ففيه منع المخنث من الدخول على النساء ومنعهن من الظهور عليه وبيان أن له حكم الرجال
الفحول الراغبين في النساء في هذا المعنى وكذا حكم الخصي والمحبوب ذكره والله أعلم واختلف
في اسم هذا المخنث قال القاضي الأشهر أن اسمه هيت بكسر الهاء ومثناة تحت ساكنة ثم مثناة
فوق قال وقيل صوابه منب بالنون والباء الموحدة قاله بن درستويه وقال إنما سواه تصحيف
قال والهنب الأحمق وقيل ماتع بالمثناة فوق مولى فاختة المخزومية وجاء هذا في حديث آخر ذكر
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب ماتعا هذا وهيتا إلى الحمى ذكره الواقدي وذكر أبو منصور
البادردى نحو الحكاية عن مخنث كان بالمدينة يقال له انه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه إلى
حمراء الأسد والمحفوظ أنه هيت قال العلماء واخراجه ونفيه كان لثلاثة معان أحدها المعنى
المذكور في الحديث أنه كان يظن أنه من غير أولى الإربة وكان منهم ويتكتم بذلك والثاني
وصفه النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال وقد نهى أن تصف المرأة المرأة لزوجها
163

فكيف إذا وصفها الرجل للرجال والثالث أنه ظهر له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن
وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير من النساء فكيف الرجال لا سيما على ما جاد في غير مسلم أنه
وصفها حتى وصف ما بين رجليها أي فرجها وحواليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل
هؤلاء عليكم إشارة إلى جميع المخنثين لما رأى من وصفهم للنساء ومعرفتهم ما يعرفه للرجال منهن
قال العلماء المخنث ضربان أحدهما من خلق كذلك ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن
وكلامهن وحركاتهن بل هو خلقة خلقه الله عليها فهذا لا ذم عليه ولا عتب ولا اثم ولا عقوبة
لأنه معذور لا صنع له في ذلك ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولا دخوله على النساء
ولا خلقه الذي هو عليه حين كان من أصل خلقته وإنما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف
النساء ولم ينكر صفته وكونه مخنثا الضرب الثاني من بالمخنث هو من لم يكن له ذلك خلقه بل
يكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيئاتهن وكلامهن ويتزيا بزيهن فهذا هو المذموم الذي جاء في
الأحاديث الصحيحة لعنه وهو بمعنى الحديث الآخر لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال
والمتشبهين بالنساء من الرجال وأما الضرب بالأول فليس بملعون ولو كان ملعونا لما أقره أولا والله أعلم
باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق
قوله (عن أسماء أنها كانت تعلف فرس زوجها الزبير وتكفيه مؤنته وتسوسه وتدق النوى
لناضحه وتعلفه وتستقي الماء وتعجن) هذا كله من المعروف والمروءات التي أطبق الناس عليها
وهو أن المرأة تخدم زوجها بهذه الأمور المذكورة ونحوها من الخبز والطبخ وغسل والثياب وغير
ذلك وكله بتبرع من المرأة وإحسان منها إلى زوجها وحسن معاشرة وفعل معروف معه ولا يجب
عليها شئ من ذلك بل لو امتنعت من جميع هذا لم تأثم ويلزمه هو تحصيل هذه الأمور لها ولا محل
164

له الزامها بشئ من هذا وإنما تفعله المرأة تبرعا وهي عادة جميلة استمر عليها النساء من الزمن الأول
إلى الآن وإنما الواجب على المرأة شيئان تمكينها زوجها من نفسها وملازمة بيته قولها (وأخرز
غربه) هو بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم باءه موحدة وهو الدلو الكبير قولها (وكنت أنقل
النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهو على ثلثي فرسخ قال
أهل اللغة يقال أقطعه إذا أعطاه قطيعة وهي قطعة أرض سميت قطيعة لأنها اقتطعها من جملة الأرض
وقوله على ثلثي فرسخ أي من مسكنها بالمدينة وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال والميل ستة آلاف
ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات
وفى هذا دليل لجواز إقطاع الامام فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلا يملكها أحد الا باقطاع
الامام ثم تارة يقطع رقبتها ويملكها الانسان يرى فيه مصلحة فيجوز ويملكها كما يملك ما يعطيه
من الدراهم والدنانير وغيرها إذا رأى فيه مصلحة وتارة يقطعه منفعتها فيستحق الانتفاع بها مدة
الاقطاع وأما الموات فيجوز لكل أحد احياؤه ولا يفتقر إلى اذن الامام هذا مذهب مالك والشافعي
والجمهور وقال أبو حنيفة لا يملك الموات بالاحياء الا باذن الامام وأما قولها وكنت أنقل النوى
من أرض الزبير فأشار القاضي إلى أن معناه أنها تلتقطه من النوى الساقط فيها مما أكله الناس
وألقوه قال ففيه جواز التقاط المطروحات رغبة عنها كالنوى والسنابل وخرق المزابل وسقاطتها
وما يطرحه الناس من ردئ المتاع وردئ الخضر وغيرها مما يعرف أنهم تركوه رغبة عنه فكل
هذا يحل التقاطه ويملكه الملتقط وقد اقطه الصالحون وأهل الورع ورأوه من الحلال المحصن
وارتضوه لأكلهم ولباسهم قولها (فجئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
165

ومعه نفر من أصحابه قد وقال إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت وعرفت غيرتك) أما لفظة إخ إخ
فهي بكسر الهمزة واسكان الخاء المعجمة وهي كلمة تقال للبعير ليبرك وفى هذا الحديث جواز
الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة وله نظائر كثيرة في الصحيح سبق بيانها في مواضعها وفيه
ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه
وفيه جواز ارداف المرأة التي ليست محرما إذا وجدت في طريق قد أعيت لا سيما مع جماعة رجال
صالحين ولا شك في جواز مثل هذا وقال القاضي عياض هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم
بخلاف غيره فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء وكانت عادته صلى الله عليه وسلم
مباعدتهن ليقتدى به أمته قال وإنما كانت هذه خصوصية له لكونها بنت أبي بكر وأخت
عائشة وامرأة للزبير فكانت كإحدى أهله ونسائه مع ما خص به صلى الله عليه وسلم أنه أملك لإربه
وأما ارداف المحارم فجائز بلا خلاف بكل حال قولها (أرسل إلى بخادم) أي جارية تخدمني يقال
166

للذكر والأنثى خادم بلا هاء قولها في الفقير الذي استأذنها في أن يبيع في ظل دارها وذكرت
الحيلة في استرضاء الزبير هذا فيه حسن الملاطفة في تحصيل المصالح ومداراة أخلاق الناس
في تتميم ذلك والله أعلم
باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد) وفى رواية حتى يختلطوا
بالناس من أجل أن يحزنه قال أهل اللغة يقال حزنه وأحزنه وقرئ بهما في السبع والمناجاة المسارة
وانتجى القوم وتناجوا أي سار بعضهم بعضا وفى هذه الأحاديث النهى عن تناجى اثنين بحضرة ثالث
وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد وهو نهي تحريم فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم الا أن
يأذن ومذهب ابن عمر رضي الله عنه ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهى عام في كل الأزمان
وفى الحضر والسفر وقال بعض العلماء إنما المنهى عنه المناجاة في السفر دون الحضر لأن السفر مظنة
الخوف وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ وإن كان هذا في أول الاسلام فلما فشا الاسلام وأمن
الناس سقط النهى وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم أما إذا كانوا أربعة فتناجى
167

اثنان دون اثنين فلا بأس بالاجماع والله أعلم
168

باب الطب والمرض والرقى
قوله (إن جبرئيل رقى النبي صلى الله عليه وسلم) وذكر الأحاديث بعده في الرقى الحديث
الآخر في الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقد يظن
مخالفا لهذه الأحاديث ولا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار
والرقى المجهولة والتي بغير العربية ومالا يعرف معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر
أو قريب منه أو مكروه وأما الرقى بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهى فيه بل هو سنة
ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل والذي فعل
الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل وبهذا قال ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه
والمختار الأول وقد نقلوا الاجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تعالى قال المازري جميع
الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله أو بذكره ومنهى عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى
معناه لجواز أن يكون فيه كفر قال واختلفوا في رقية أهل الكتاب فجوزها أبو بكر الصديق
رضي الله عنه وكرهها مالك خوفا أن يكون مما بدلوه ومن جوازها قال الظاهر أنهم لم يبدلوا الرقى
فإنهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بدلوه وقد ذكر مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال اعرضوا على رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شئ وأما قوله في الرواية الأخرى
يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى فأجاب العلماء عنه بأجوبة أحدها كان نهى أولا ثم نسخ ذلك
وأذن فيها وفعلها واستقر الشرع على الاذن والثاني أن النهى عن الرقى المجهولة كما سبق والثالث
أن النهى لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة
أما قوله في الحديث الآخر لا رقية إلا من عين أو حمة فقال العلماء لم يرد به حصر الرقية الجائزة
فيهما ومنعها فيما عداهما وإنما المراد لا رقية أحق وأولى من رقبة العين والحمة لشدة الضرر فيهما
قال القاضي وجاء في حديث في غير مسلم سئل عن النشرة فأضافها إلى الشيطان قال والنشرة
169

معروفة مشهورة عند أهل التعزيم وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تخلى عنه وقال
الحسن هي من السحر قال القاضي وهذا محمول على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى
وأذكاره وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس المباح وقد اختار بعض المتقدمين هذا فكره
حل المعقود عن امرأته وقد حكى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل
به طب أي ضرب من الجنون أو يؤخذ عن امرأته أيخلى عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون
به الصلاح فلم ينه عما ينفع وعن أجاز النشرة الطبري وهو الصحيح قال كثيرون أو الأكثرون
يجوز الاسترقاء للصحيح لما يخاف أن يغشاه من المكرهات والهوام ودليله أحاديث ومنها
حديث عائشة في صحيح البخاري كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه تفل في كفه
ويقرأ " هو الله أحد " والمعوذتين ثم يمسح بها وجهه وما بلغت يده من جسده والله أعلم قوله
(بسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد) هذا تصريح بالرقى بأسماء
الله تعالى وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره وقوله من شر كل نفس قيل يحتمل أن المراد
بالنفس نفس الآدمي وقيل يحتمل أن المراد بها العين فان النفس تطلق على العين ويقال رجل
نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذي عين ويكون قوله
أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف أو شكا من الراوي في لفظه والله أعلم قوله
170

صلى الله عليه وسلم (العين حق ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا
قال الإمام أبو عبد الله المازري أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا العين حق
وأنكره طوائف من المبتدعة والدليل عل فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفا في نفسه
ولا يؤدى إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل فإنه من مجوزات العقول إذا أخبر الشرع بوقوعه
وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من
أمور الآخرة قال وقد زعم بعض الطبائعين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية
تتصل بالعين فيهلك أو يفسد قالوا ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى
والعقرب تتصل باللديغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين قال المازري وهذا غير
مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى وبينا فساد القول بالطبائع وبينا
أن المحدث لا يفعل في غيره شيئا وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه ثم هذا المنبعث من العين
إما جوهر وإما عرض فباطل أن يكون عرضا لأنه لا يقبل الانتقال وباطل أن يكون جوهرا
لأن الجوهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسدا لبعضها بأولى من عكسه فبطل ما قالوه
قال وأقرب طريقة قالها من ينتحل الاسلام منهم أن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة
غير مرئية من العين فتتصل بالعين وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك
عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم عادة أجراها الله تعالى وليست ضرورة ولا طبيعة
ألجأ العقل إليها ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل
الله تعالى أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة الشخص لشخص
171

آخر وهل ثم جواهر خفية أم لا هذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين
وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وبإضافته إلى الله تعالى فمن قطع من أطباء الاسلام بانبعاث الجواهر
فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات هذا ما يتعلق بعلم الأصول أما ما يتعلق بعلم الفقه
فان الشرع ورد بالوضوء لهذا الآمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائنه أن يتوضأ رواه مالك في الموطأ وصفة وضوء العائن عند العلماء
أن يؤتى بقدح ماء ولا يوضع القدح في الأرض فيأخذا منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمحها في القدح
ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفه اليمنى ثم بيمنيه ماء يغسل به مرفقه الأيسر
ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى على الصفة المتقدمة وكل ذلك
في القدح ثم داخلة ازاره وهو الطرف المتدلى الذي يلي حقوه الأيمن وقد ظن بعضهم أن داخلة
الإزار كناية عن الفرج وجمهور العلماء على ما قدمناه فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه
وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات
فلا يدفع هذا بأن لا يعقد معناه قال وقد اختلف العلماء في العائن هل يجير على الوضوء للمعين
أم لا واحتج من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم هذه وإذا استغسلتم فاغسلوا
وبرواية الموطأ التي ذكرناها أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء والأمر للوجوب قال المازري
والصحيح عندي الوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشي على المعين الهلاك وكان وضوء العائن
مما جرت العادة بالبرئ به أو كان الشرع أخبر به خبرا عاما ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء
العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه احياء نفس مشرفة على الهلاك وقد تقرر أنه يجير على
بذل الطعام للمضطر فهذا أولى وبهذا التقرير يرتفع الخلاف فيه هذا آخر كلام المازري قال
القاضي عياض بعد أن ذكر قول المازري الذي حكيته بقي من تفسير هذا الغسل على قول
الجمهور وما فسره به الزهري وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ومضى به
العمل أن غسل العائن وجهه إنما هو صبه وأخذه بيده اليمنى وكذلك باقي أعضائه إنما هو
صبه صبة على ذلك الوضوء في القدح ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره وكذلك
غسل داخلة الإزار إنما هو ادخاله وغمسه في القدح ثم يقوم الذي في يده القدح فيصبه على
رأس المعين من ورغائه على جميع جسده ثم يكفأ القدح وراءه على ظ هر الأرض وقيل يستغفله
172

بذلك عند صبه عليه هذه رواية ابن أبي ذئب وقد جاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثل هذا
إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة وفيه في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما وإنما
قال ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك وداخلة
الإزار هنا المئزر والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه وقيل المراد موضعه من الجسد وقيل المراد
مذاكيره كما يقال عفيف الإزار أي الفرج وقيل المراد وركه إذ هو معقد الإزار وقد جاء في
حديث سهل بن حنيف من رواية مالك في صفته أنه قال للعائن اغتسل له فغسل وجهه ويديه
ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة ازاره وفى رواية فغسل وجهه وظاهر كفيه ومرفقيه
وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه ظاهرهما في الاناء قال وحسبته قال وأمر
فحسا منه حسوات والله أعلم قال القاضي في هذا الحديث من الفقه ما قله بعض العلماء أنه ينبغي
إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه وينبغي للامام منعه من مداخلة الناس
ويأمره بلزوم بيته فإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس فضرره أشد من ضرر
آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذى المسلمين ومن
ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس ومن ضرر المؤذيات
من المواشي التي يؤمر بتغريبها إلى حيث لا يتأذى به أحد وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين
ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه والله أعلم قال القاضي وفى هذا الحديث دليل لجواز النشرة
والتطبب بها وسبق بيان الخلاف فيها والله أعلم قوله (حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي
وحجاج بن الشاعر وأحمد ابن خراش) هكذا هو في جميع النسخ أحمد ابن خراش بالخاء المعجمة
المكسورة وبالراء وبالشين المعجمة وهو الصواب ولا خلاف فيه في شئ من النسخ وهو أحمد
ابن الحسن بن خراش أبو جعفر البغدادي نسب إلى جده وقال القاضي عياض هكذا هو في
الأصول بالخاء المعجمة قال قيل إنه وهم وصوابه أحمد بن جواس بفتح الجيم وبواو مشددة وسين
مهملة هذا كلام القاضي وهو غلط فاحش ولا خلاف أن المذكور في مسلم إنما هو با
المعجمة والراء والشين المعجمة كما سبق وهو الراوي عن مسلم بن إبراهيم المذكور في صحيح مسلم
هنا وأما ابن جواس بالجيم فهو أبو عاصم الحنفي الكوفي روى عنه مسلم أيضا في غير هذا الموضع
ولكنه لا يروى عن مسلم بن إبراهيم ولا هو المراد هنا قطعا وكان سبب غلط من غلط كون
173

أحمد بن خراش وقع منسوبا إلى جده كما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم (ولو كان شئ سابق القدر
سبقته العين) فيه إثبات القدر وهو حق بالنصوص واجماع أهل السنة وسبقت المسألة في أول
كتاب الايمان ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله
تعالى وسبق بها علمه فلا يقع ضرر العين ولاغيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى وفيه صحة
أمر العين وأنها قوية الضرر والله أعلم
باب السحر
قوله (من يهود بنى زريق) بتقديم الزاي قوله (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي
حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشئ وما يفعله) قال الامام المازري رحمه الله مذهب أهل السنة وجمهور
علماء الأمة على اثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافا لمن أنكر
ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها وقد ذكره الله تعالى في
كتابه وذكر أنه مما يتعلم وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به وأنه يفرق بين المرء وزوجه
وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له وهذا الحديث أيضا مصرح باثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت
وهذا كله يبطل ما قالوه فاحلة كونه من الحقائق محال ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى
يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو المزج بين قوى على ترتيب
لا يعرفه إلا الساحر وإذا شاهد الانسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة
كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفر د الساحر بعلم
قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة قال وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب
آخر فزعم أنه يحط منصب النبوة ويشكك وأن تحويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا
174

الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته
وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل
فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلا من أجلها وهو مما يعرض للبشر
فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له وقد قيل إنه إنما كان يتخيل إليه أنه وطئ
زوجاته وليس بواطئ وقد يتخيل الانسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له
وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد
قال القاضي عياض وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر
جوارحه الاعلى عقله وقلبه واعتقاده ويكون معنى قوله في الحديث حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن
ويروى يخيل إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدوة عليهن فإذا دنى منهن أخذته
أخذة السحر فلم يأتيهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور وكل ما جاء في الروايات من أنه
يخيل إليه فعل شئ لم يفعله ونحوه فمحول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق لي العقل وليس
في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولاطعنا لأهل الضلالة والله أعلم قال المازري واختلف
الناس في القدر الذي يقع به السحر ولهم فيه اضطراب فقال بعضهم لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة
بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلاته في حقنا
فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة الا بأعلى أحوال المذكور قال
ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك قال وهذا هو الصحيح عقلا لأنه لا فاعل
إلا الله تعالى وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها
بأولى من بعض ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه ولكن لا يوجد شرع
قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص
في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا قال فان قيل إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على
يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر لكن
النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه فلو كان
كاذبا لم تنخرق العادة على يديه ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء وأما
الولي والساحر فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على النبوة ولو ادعيا شيئا من ذلك لم تنخرق العادة
175

لهما وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين أحدهما وهو المشهور إجماع المسلمين على أن
السحر لا يظهر الا على فاسق والكرامة لا تظهر على فاسق وإنما تظهر على ولى وبهذا جزم امام
الحرمين وأبو سعد المتولي وغيرهما والثاني أن السحر قد يكون ناشئا بفعلها وبمزجها ومعاناة
وعلاج والكرامة لا تفتقر إلى ذلك وفى كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقا من غير أن يستدعيه
أو يشعر به والله أعلم وأما لما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه فعمل السحر حرام وهو من الكبائر
بالاجماع وقد سبق في كتاب الايمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عده من السبع الموبقات وسبق
هناك شرحه ومختصر ذلك أنه قد يكون كفرا وقد لا يكون كفرا بل معصيته كبيرة فإن كان فيه قول
أو فعل يقتضى الكفر كفر وإلا فلا وأما تعلمه وتعليمه فحرام فان تضمن ما يقتضى الكفر كفر والا فلا
وإذا لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر واستتيب منه ولا يقتل عندنا فان تاب قبلت توبته وقال
مالك الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله والمسألة مبنية على
الخلاف في قبول توبة الزنديق لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا وعندنا ليس بكافر عندنا تقبل
توبة المنافق والزنديق قال القاضي عياض ويقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروى عن جماعة
من الصحابة والتابعين قال أصحابنا فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه
يقتل غالبا لزمه القصاص وان قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا فلا قصاص وتجب الدية
والكفارة وتكون الدية في ماله لاعلى عاقلته لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني قال
أصحابنا ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة وإنما يتصور باعتراف الساحر والله أعلم قوله
(حتى إذا كان ذات يوم أو ذوات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا) هذا
دليل لاستحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره وحسن الالتجاء إلى الله
176

تعالى قوله (ما وجع الرجل قال مطبوب) المطبوب المسحور يقال طب الرجل إذا سحر
فكنوا بالطب عن السحر كما كنوا بالسليم عن اللديغ قال ابن الأنباري الطب من الأضداد يقال
لعلاج الداء طب وللسحر طب وهو من أعظم الأدواء ورجل طبيب أي حاذق سمى طبيبا لحذقه
وفطنته قوله (في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر) أما المشاطة فبضم الميموهى الشعر الذي
يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه وأما المشط ففيه لغات مشط ومشط بضم الميم فيهما
واسكان الشين وضمها ومشط بكسر الميم واسكان الشين وممشط ويقال له مشطأ بالهمزة وتركه ومشطاء
ممدود وممكد ومرجل وقليم بفتح القاف حكاهن أبو عمر الزاهد وأما قوله وجب هكذا في أكثر
نسخ بلادنا جب بالجيم وبالباء الموحدة وفى بعضها جف بالجيم والفاء وهما بمعنى وهو وعاء طلع
النخل وهو الغشاء الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده في الحديث بقوله
طلعة ذكر وهو بإضافة طلعة إلى ذكر والله أعلم ووقع في البخاري من رواية ابن عيينة ومشاقة
بالقاف بدل مشاطة وهي المشاطة أيضا وقيل مشاقة الكتان قوله صلى الله عليه وسلم (في بئر ذي
أروان) هكذا هو في جميع نسخ مسلم ذي أروان وكذا وقع في بعض روايات البخاري وفى
معظمها ذروان وكلاهما صحيح والأول أجود وأصح وادعى ابن عتيبة أنه الصواب وهو قول
الأصمعي وهي بذر بالمدينة في بستان بنى زريق قوله صلى الله عليه وسلم (والله لكأن ماءها نقاعة
الحناء) النقاعة بضم النون الماء الذي ينقع فيه الحناء والحناء ممدود قولها (فقلت يا رسول الله
أفلا أحرقته) وفى الرواية الثانية قلت يا رسول الله فأخرجه كلاهما صحيح فطلبت أنه يخرجه ثم يحرقه
المراد اخراج السحر فدفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الله تعالى قد عافاه وأنه يخاف
177

من اخراجه واحرفه وإشاعة هذا ضررا وشرا على المسلمين من تذكر السحر أو تعلمه وشيوعه
والحديث فيه أو ايذاء فاعله فيحمله ذلك أو يحمل بعض أهله ومحبيه والمتعصبين له من المنافقين
وغيرهم على سحر الناس وأذاهم وانتصابهم لمناكدة المسلمين بذلك هذا من باب ترك مصلحة
لخوف مفسدة أعظم منها وهو من أهم قواعد الاسلام وقد سبقت المسألة مرات والله أعلم
باب السم
قوله (ان يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذاك قالت أردت لأقتلك قال وما كان الله ليسلطك
على ذاك قال أو قال على قالوا ألا نقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله
178

عليه وسلم) وفى الرواية الأخرى جعلت سما في لحم أما السم فبفتح السين وضمها وكسرها
ثلاث لغات الفتح أفصح جمعه سمام وسموم وأما اللهوات فبفتح اللام والهاء جمع لهات بفتح
اللام وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك قاله الأصمعي وقيل اللحمات اللواتي في سقف
أقصى الفم وقوله ما زلت أعرفها أي العلامة كأنه نقى للسم علامة وأثر من سواد أو غيره وقولهم
ألا نقتلها هي بالنون في أكثر النسخ وفى بعضها بتاء الخطاب وقوله صلى الله عليه وسلم ما كان
الله ليسلط على ذاك أو قال على فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم كما قال
والله يعصمك من الناس وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السم المهلك
لغيره وفى اعلام الله تعالى له بأنها مسومة وكلام عضو منه له فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله
عليه وسلم قال إن الذراع تخبرني انها مسمومة وهذه المرأة اليهودية الفاعلة لسم اسمها زينب
بنت الحارث أخت مرحب اليهودي روينا تسميتها هذه في مغازي موسى بن عقبة ودلائل
النبوة للبيهقي قال القاضي عياض واختلف الآثار والعلماء هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا
فوقع في صحيح مسلم أنهم قالوا ألا نقتلها قال لا ومثله عن أبي هريرة وجابر وعن جابر من رواية
أبى سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قتلها وفى رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى
أولياء بشر بن البراء بن معرور وكان أكل منها فمات بها فقتلوها وقال ابن سحنون أجمع أهل
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها قال القاضي وجه الجميع بين هذه الروايات والأقاويل
أنه لم يقتلها أولا حين اطلع على سمها وقيل له اقتلها قال لا فلما مات بشر بن البراء من ذلك
سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصا فيصح قولهم لم يقتلها أي في الحال ويصح قولهم قتلها أي بعد ذلك
والله أعلم
179

باب استحباب رقية المريض
ذكر في الباب الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم يرقى المريض وقد سبقت المسألة مستوفاة
في الباب السابق في أول الطلب قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا انسان
مسحه بيمينه ثم قال أذهب الباس إلى آخره) فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له وقد
جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار وهذا المذكور هنا من أحسنها ومعنى
180

لا يغادر سقما أي لا يترك والسقم بضم السين واسكان القاف وبفتحهما لغتان قولها (كان رسول
181

الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) هي بكسر الواو والنفث
نفخ لطيف بلا ريق فيه استحباب النفث في الرقية وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور
من الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال القاضي وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى وأجازوا
فيها النفخ بلا ريق وهذا المذهب والفرق إنما يجئ على قول ضعيف قيل إن النفث معه ريق
قال وقد اختلف العلماء في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان الإبريق قال أبو عبيد
يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه قال وسئلت عائشة عن نفث النبي
صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه قال ولا اعتبار بما
يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع
بزاقه ويتفل والله أعلم قال القاضي وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة
للرقية والذكر الحسن لكن قال كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى وكان
مالك ينفث إذا رقى نفسه وكان يكره الرقية بالحديدة والملح والذي يعقد والذي يكتب خاتم
182

سليمان والعقد عنده أشد كراهة لما في ذلك من مشابهة السحر والله أعلم وفى هذا الحديث استحباب
الرقية بالقران وبالأذكار وإنما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات
جملة وتفصيلا ففيها الاستعاذة من شر ما خلق فيدخل فيه كل شئ شر النفاثات في العقد السواحر
ومن شر الحاسدين شر الوسواس الخناس أعلم قولها (رخص في
الرقية من كل ذي حمة) هي بحاء مهملة مضمومة ثم ميم مخففة وهي السم ومعناه اذن في الرقية
من كل ذات سم قولها (قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته
183

بالأرض ثم رفعها باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا باذن ربنا) قال جمهور العلماء
المراد بأرضنا هنا جملة الأرض وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق ومعنى
الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيلعق بها منه شئ
فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح والله أعلم قال القاضي
واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم وبالجواز قال الشافعي
باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة
أما الحمة فسبق بيانها في الباب قبله والعبن سبق بيانها قبل ذلك وأما النملة فبفتح النون واسكان
الميم هي قروح تخرج في الجنب قال ابن قتيبة وغيره كانت المجوس تزعم أن ولد الرجل من
184

أخته إذا حط على النملة يشفى صاحبها وفى هذه الأحاديث استحباب الرقى لهذه العاهات والأدواء
وقد سبق بيان ذلك مبسوطا والخلاف فيه قوله (رخص في الرقية من العين والحمة والنملة) ليس
معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة وإنما معناه سئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سئل عن
غيرها لأذن فيه وقد أذن لغير هؤلاء وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة والله أعلم
قوله (رأى بوجهها سفعة فقال بها نظرة فاسترقوا لها) يعنى بوجهها صفرة أما السفعة فبسين مهملة
مفتوحة ثم فاء ساكنة وقد فسرها في الحديث بالصفرة وقيل سواد وقال ابن قتيبة هي لون
يخالف لون الوجه وقيل أخذة من الشيطان وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على
البخاري ومسلم لعله فيه قال رواه عقيل عن الزهري عن عروة مرسلا وأرسله مالك وغيره
من أصحاب يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة قال الدارقطني وأسنده أبو معاوية
ولا يصح قال وقال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد ولم يضع شيئا هذا
كلام الدارقطني قوله صلى الله عليه وسلم ماله أرى أجسام بنى أخي ضارعة) بالضاد المعجمة
185

أي نحيفة والمراد أولاد جعفر رضي الله عنه
186

باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار
فيه حديث (أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأن رجلا رقى سيد الحي) هذا الراقي هو أبو سعيد
الخدري الراوي كذا جاء مبينا في رواية أخرى في غير مسلم قوله (فأعطى قطيعا من غنم)
القطيع هو الطائفة من الغنم وسائر النعم قال أهل اللغة الغالب استعماله فيما بين العشر
والأربعين وقيل ما بين خمس عشرة إلى خمس وعشرين وجمعه أقطاع وأقطعة وقطعان وقطاع
وأقاطيع كحديث وأحاديث والمراد بالقطيع المذكور في الحديث ثلاثون شاة كذا جاء
187

مبينا قوله صلى الله عليه وسلم (ما أدراك أنها رقية) فيه التصريح بأنها رقية فيستحب أن يقرأ
بها على اللديغ والمريض وسائر أصحاب الأسقام والعاهات قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا
منهم واضربوا لي بسهم معكم) هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها
حلال لا كراهة فيها وكذا الأجرة على تعليم القرآن وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق
وأبى ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن وأجازها في الرقية
وأما قوله صلى الله عليه وسلم واضربوا لي بسهم معكم وفى الرواية الأخرى اقسموا
واضربوا لي بسهم معكم فهذه القسمة من باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق
والا فجميع الشياه ملك للراقي مختصة به لاحق للباقين فيها عند التنازع فقاسمهم بترعا وجودا
ومروءة وأما قوله صلى الله عليه وسلم واضربوا لي بسهم فإنما قاله تطييبا لقلوبهم ومبالغة في
تعريفهم أنه حلال لا شبهة فيه وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العنبر وفى حديث أبي
قتادة في حمار الوحش مثله قوله (ويجمع بزاقة ويتفل) هو بضم الفاء وكسرها وسبق بيان
مذاهب العملاء في التفل والنفث قوله (سيد الحي سليم) أي لديغ قالوا سمى بذلك تفاؤلا
188

بالسلامة وقيل لأنه مستسلم لما به قوله (ما كنا نأبته برقية) هو بكسر الباء وضمها أي نظنه
كما سبق في الرواية التي قبلها وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ بمعنى نتهمه ولكن المراد هنا نظنه
كما ذكرناه والله أعلم
باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء
فيه حديث عثمان بن أبي العاص ومقصوده أنه يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء
المذكور والله أعلم
189

باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة
قوله (ان الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها على فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ففعلت
ذلك فأذهبه الله عنى) أما خنزب فبخاء معمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة
ومفتوحة ويقال أيضا بفتح الخاء والزاي حكاه القاضي ويقال أيضا بضم الخاء وفتح الزاي
حكاه ابن الأثير في النهاية وهو غريب وفى هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند
وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثا ومعنى يلبسها أي مخلطها ويشككني فيها وهو بفتح أوله
وكسر ثالثه ومعنى حال بيني وبينها أي نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها
190

باب لكل داء دواء واستحباب التداوي
قوله صلى الله عليه وسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله) الدواء بفتح
الدال ممدود وحكى جماعات منهم الجوهري فيه لغة بكسر الدال قال القاضي هي لغة الكلابين
وهو شاذ وفى هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف
وعامة الخلف قال القاضي في هذه الأحاديث جمل من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز
التطيب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وفيها رد على
من أنكر التداوي من غلاة الصوفية وقال كل شئ بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي وحجة
العلماء هذه الأحاديث ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل وأن التداوي هو أيضا من قدر
الله وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصن ومجانية الالقاء باليد إلى التهلكة
مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولابد من وقوع المقدرات
والله أعلم قال الإمام أبو عبد الله المازري ذكر مسلم هذه الأحاديث الكثيرة في الطب والعلاج
وقد اعترض في بعضها من في قلبه مرض فقال الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل فكيف
يوصف لمن به الاسهال ومجمعون أيضا أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة قريب من الهلاك
لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون سببا للتلف وينكروا
أيضا مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة ويرون ذلك خطرا قال
المازري وهذا الذي قال هذا المعترض جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى كذبوا
بما لم يحيطوا بعلمه نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع فنقول قوله صلى الله عليه
191

وسلم (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله) فهذا فيه بيان واضح لأنه قد علم أن
الأطباء يقولون المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعي والمداواة رده إليه وحفظ الصحة
بقاؤه عليه فحفظها يكون باصلاح الأغذية وغيرها ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة
للمرض وبقراط يقال الأشياء تداوى بأضدادها ولكن قد يدق ويغمض حقيقة المرض
وحقيقة طبع الدواء فيقل الثقة بالمضادة ومن ههنا يقع الخطأ من الطبيب فقط فقد يظن العلة
عن مادة حارة فيكون عن غير مادة أو عن مادة باردة أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها
فلا يحصل الشفاء فكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بآخر كلامه على ما قد يعارض به أوله فيقال
قلت لكل داء دواء ونحن كثيرين من المرضى يداوون فلا يبرءون فقال إنما ذلك لفقد العلم
بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء وهذا واضح والله أعلم وأما الحديث الآخر وهو قوله صلى الله
عليه وسلم (إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجكم أو شربة من عسل أو لذعة بنار)
فهذا من بديع الطب عند أهله لأن الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية
أو بلغمية فان كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم وان كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها
بالاسهال بالمسهل اللائق لكل خلط منها فكأنه نبه صلى الله عليه وسلم بالعسل على المسهلات وبالحجامة
192

على إخراج الدم بها وبالفصد ووضع العلق وغيرها مما في معناها وذكر الكي لأنه يستعمل
عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها فآخر الطب الكي وقوله صلى الله عليه وسلم ما أحب
أن أكتوى إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر إليه لما فيه من استعمال الألم الشديد
في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي وأما ما اعترض به الملحد المذكور فنقول في إبطاله
ان علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى أن المريض يكون الشئ دواءه في ساعة
ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض من غضب يحمى مزاجه فيغير علاجه
أو هواء يتغير أو غير ذلك مما لا تحصى كثرته فإذا وجد الشفاء بشئ في حالة بالشخص لم يلزم منه
الشفاء به في سائر الأحوال وجميع الأشخاص والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف
علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدمة والتدبير المألوف وقوة الطباع فإذا
193

عرفت ما ذكرناه فاعلم أن الاسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الاسهال الحادث من التخم
والهيضات وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها وان احتاجت
إلى معين على الاسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فضرر عندهم واستعجال مرض
فيحتمل أن يكون هذا الاسهال للشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة فدواؤه
ترك إسهاله على ما هو أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فرآه إسهالا فزاده عسلا
إلى أن فنيت المادة فوقف الاسهال ويكون الخلط الذي كان يوافقه شرب العسل فثبت بما
ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب وأن المعترض عليه جاهل لها ولسنا نقصد الاستظهار
لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم فلو أوجدوا المشاهدة بصحة
دعواهم تأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذ وخرجناه على ما يصح فذكرنا هذا الجواب
194

وما بعده عدة للحاجة إليه ان اعتضدوا بمشاهدة وليظهر به جهل المعترض وأنه لا يحسن الصناعة
التي اعترض بها وانتسب إليها وكذلك القول في الماء البارد للمحموم فإن المعترض يقول على
النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله ابردوها بالماء
ولم يبين صفته وحالته والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد
الشديد البرودة ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد فلا يبعد أنه صلى
الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والعسل على نحو ما قالوه وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه
195

عن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتصب الماء في جيبها وتقول ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال ابردوها بالماء فهذه أسماء راوية الحديث وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم
معلوم تأولت الحديث على نحو ما قلناه فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب واعتراضه
به فلا يلتفت إليه وأما انكارهم الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل فقد قال بعض قدماء
الأطباء أن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم كان القسط من علاجها وقد ذكر جالينوس وغيره
أنه ينفع من وجع الصدر وقال بعض قدماء الأطباء ويستعمل حيث يحتاج إلى اسخان عضو
من الأعضاء وحيث يحتاج إلى أن يجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره وهكذا قاله ابن سينا
وغيره وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيه سبعة أشفية
فقد أطبق الأطباء في كتبهم على أنه يدر الطمث والبول وينفع من السموم ويحرك شهوة الجماع
ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل ويذهب الكلف إذا طلى عليه وينفع
من برد المعدة والكبد ويردهما ومن حمى الورد والربع وغير ذلك صنفان بحرى وهندي
والبحري هو القسط الأبيض وهو أكثر من صنفين ونص بعضهم أن البحري أفضل من الهندي
وهو أقل حرارة منه وقيل هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة والهندي أشد حرا في الجزء
الثالث من الحرارة وقال ابن سنيا القسط حار في الثالثة يابس في الثانية فقد اتفق العلماء على
هذه المنافع التي ذكرناها في القسط فصار ممدوحا شرعا وطبا وإنما عددنا منافع القسط من
كتب الأطباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر منها عددا مجملا وأما قوله صلى الله عليه وسلم
ان في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السم فيحمل أيضا على العلل الباردة على نحو ما سبق
في القسط وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب أحوال أصحابه رضي الله عنهم
وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه ثم قال وذكر الأطباء في منفعة
196

السوداء التي هي الشونيز أشياء كثيرة وخواص عجيبة يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم
فذكر جالينوس أنها أنها تحل النفخ وتقل ديدان البطن إذا أكل أو وضع على البطن وتنفى الزكام
إذا قلى وصر في خرقة وشم وتزيل العلة التي تقشر منها الجلد ويقلع الثآليل المتعلقة والمنكسة
والخيلان وتدر الطمث المنحبس إذا كان انحبله من أخلاط غليظة لزجة وينفع الصداع إذا
طلى به الجبين وتقلع البثور والجرب وتحلل الأورام البلغمية إذا تضمد به مع الخل وتنفع من
الماء العارض في العين إذا استعط به مسحوقا بدهن الأوليا وتنفع من انتصاب النفس
ويتمضمض به من وجع الأسنان وتدر البول والبن وتنفع من نهشة الرتيلا وإذا بخربه طرد
والهوام قال القاضي وقال غير جالينوس خاصيته إذهاب حمى البلغم والسوداء وتقتل حت القرع
وادا علق في عنق المزكوم نفعه وينفع من حمى الربع قال ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارة
بخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث ويكون استعماله
أحيانا منفردا وأحيانا مركبا قال القاضي وفى جملة هذه الأحاديث ما حوان من علوم الدين والدنيا
وصحة علم الطب وجواز التطبب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة من الحجامة وشرب الأدوية
والسعوط واللدود وقطع العروق والرقى قال قوله صلى الله عليه وسلم أنزل الدواء الذي أنزل الداء
هذا اعلام لهم واذن فيه وقد يكون المراد بانزاله انزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض
من داء ودواء قال وذكر بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم شرطة محجم أو شربة عسل
أو لذعة بنار أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافاة والله أعلم قوله (ان جابر بن عبد الله عاد المقنع)
هو بفتح القاف والنون المشددة قوله (يشتكى خراجا) هو بضم الخاء وتخفيف الراء قوله
(أعلق فيه محجما) هو بكسر الميم وفتح الجيم وهي الآلة التي تمص ويجمع بها وضع الحجامة وأما
قوله (شرطة محجم (فالمراد بالمحجم هنا الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة ليخرج الدم قوله
(فلما رأى تبرمه) أي تضجره وسامته منه قوله (عن جابر بن عبد الله قال رمى أبى يوم الأحزاب
على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقوله أبى بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء
وهكذا صوابه وكذا هو في الروايات والنسخ وهو أبي بن كعب المذكور في الرواية التي قبل
هذه وصفحه بعضهم فقال بفتح الهمزة وكسر الباء وتخفيف الياء وهو غلط فاحش لأن أبا جابر
استشهد يوم أحد قبل الأحزاب بأكثر من سنة وأما الأكحل فهو عرق معروف قال الخليل
197

هو عرق الحياة يقال هو نهر الحياة ففي كل عضو شعبة منه وله فيها اسم متفرد فإذا قطع في اليد لم
يرقأ الدم وقال غيره هو عرق واحد يقال له في اليد الأكحل وفى الفخذ النسا وفى الظهر الأبهر
وأما الكلام في أجرة الحجام فسبق قوله (فحسمه) أي كواه ليقطع دمع وأضل الحسم القطع قوله
صلى الله عليه وسلم (الحمى من فيح) جهنم فابردوها بالماء وفى رواية من فور جهنم هو بفتح الفاء فيهما وهو
شدة حرها ولهبها وانتشارها وأما ابردوها فبهمزة وصل وبضم الراء يقال بردت الحمى أبردها بردا على
وزن قتلتها أقتلها قتلا أي أسكنت حرارتها وأطفأت لهبها كما قال في الرواية الأخرى فأطفئوها بالماء
وهذا الذي ذكرناه من كونه بهمزة وصل وضم الراء هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات وكتب
اللغة وغيرها وحكى القاضي عياض في المشارق أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة قد حكاه الجوهر
وقال هي لغة رديئة وفى هذا الحديث دليل لأهل السنة أن جهنم مخلوقة الآن موجودة قوله (عن
أسماء أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ابردوها بالماء) وفى رواية صبت الماء بينها وبين جيبها قال القاضي هذا يرد قول
الأطباء ويصحح حصول البرء باستعمال المحموم الماء وأنه على ظاهره لاعلى ما سبق من تأويل المازري
198

قال ولولا تجربة أسماء والمسلمين لمنفعة لما استعملوه قولها (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في مرضه فأشار أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فما أفاق لا يبقى منكم أحد إلا لد
غير العباس فإنه لم يشدكم) قال أهل اللغة اللدود بفتح اللام هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي
فم المريض ويسفا أو يدخل هناك بأصبع وغيرها ويحنك به ويقال منه لددته ألده وحكى
الجوهري أيضا ألددته رباعيا والتددت أنا قال الجوهري ويقال للدود لديد أيضا وإنما أمر
صلى الله عليه وسلم بلدهم عقوبة لهم حين خالفوه في إشارته إليهم لا تلدوني ففيه أن الإشارة المفهمة
تصريح العبارة في نحو هذه المسألة وفيه تعزيز المتعدى بنحو من فعله الذي تعدى به إلا أن يكون فعلا
199

محرما قولها (دخلت عليه بابن لي قد أعلقت عليه من العذرة فقال علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق
عليكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود لا هندي فان فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب)
أما قولها أعلقت عليه فهكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم عليه ووقع في صحيح البخاري من رواية معمر
وغيره عليه فأعلقت عليه كما هنا ومن رواية سفيان بن عيينة فأعلقت عنه بالنون وهذا هو المعروف
عند أهل اللغة قال الخطابي المحدثون يروونه أعلقت عليه والصواب عنه وكذا قال غيره وحكاهما
بعضهم لغتين أعلقت عنه وعليه ومعناه عالجت وجع لهاته بإصبعي وأما العذرة فقال العلماء
هي بضم العين وبالذال المعجمة وهي وجع في الحلق يهيج من الدم يقال في علاجها عذرته فهو
معذور وقيل هي قرحة تخرج في الخرم الذي يبن الحلق والأنف تعرض للصبيان غالبا عند طلوع
العذرة وهي خمسة كواكب تحت الشعرى العبور وتسمى العذارى وتطلع في وسط الحز وعادة
النساء في معالجة العذرة أن تأخذ المرأة خرقة فتفتلها فتلا شديدا وتدخلها في أنف الصبي وتطعن
ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته وذلك الطعن يسمى دغرا وغدرا فمعنى
تدغرن أولادكن أنها تغمز حلق الولد بأصبعها فترفع ذلك الموضع وتكبسه وأما العلاق
فبفتح العين وفى الرواية الأخرى الاعلاق وهو الأشهر عند أهل اللغة حتى زعم بعضهم أنه
الصواب وأن العلاق لا يجوز قالوا والعلاق مصدر أعلقت عنه ومعناه أزلت عنه العلوق وهي
الآفة والداهية والاعلاق هو معالجة عذرة الصبي وهي وجع حلقة كما سبق قال ابن الأثير ويجوز
أن يكون العلاق هو الاسم منه وأما ذات الجنب فعلة معروفة والعود الهندي يقال له القسط
200

والكست لغتان مشهورتان قوله صلى الله عليه وسلم (علامة تدغرن أولادكن) هكذا هو
في جميع النسخ علامه وهي هاء السكت ثبت هنا في الدرج قوله (والحبة السوداء الشونيز)
هذا هو الصواب المشهور الذي ذكره الجمهور قال القاضي وذكر الحربي عن الحسن أنها الخردل
قال وقيل هي الحبة الخضراء وهي البطم والعرب تسمى الأخضر أسود ومنه سواد العراق
201

لخضرته بالأشجار وتسمى الأسود أيضا أخضر قوله صلى الله عليه وسلم (التلبينة مجمة لفؤاد
المريض وتذهب بعض الحزن) أما مجمة فبفتح الميم والجيم ويقال بضم الميم وكسر الجيم
أي تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه والجمام المستريح كأهل النشاط وأما التلبينة فبفتح
التاء وهي حساء من دقيق أو نخالة قالوا وربما جعل فيها عسل قال الهروي وغيره سميت تلبينة
202

تشبيها باللبن لبياضها ورقتها وفيه استحباب التلبينة للمحزون قوله (ان أخي عرب بطنه)
هو بفتح العين وكسر الراء معناه فسدت معدته قوله صلى الله عليه وسلم (صدق الله وكذب
بطن أخيك) المراد قوله تعالى من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس العسل
وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الضمير في قوله تعالى فيه شفاء يعود إلى الشراب الذي هو
العسل وهو الصحيح وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم وقال مجاهد الضمير
عائد إلى القرآن وهذا ضعيف مخالف لظاهر القرآن ولصريح هذا الحديث الصحيح قال بعض
العلماء الآية على الخصوص أي شفاء من بعض الأدواء ولبعض الناس وكان داء هذا المبطون
مما يشفى بالعسل وليس في الآية تصريح بأنه شفاء من كل داء ولكن علم النبي صلى الله عليه وسلم
أن داء هذا الرجل مما يشفى بالعسل والله أعلم
203

باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها
قوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون (أنه رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم
فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرار منه) وفى رواية
أن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ثم بقي بعد بالأرض فيذهب المرة
ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار
منه وفى حديث عمر رض الله عنه أن الوباء وقع بالشام أما الوباء فمهموز مقصور وممدود لغتان
القصر أفصح وأشهر وأما الطاعون فهو قروح تخرج في الجسد فتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي
أو الأصابع وسائر البدن ويكون معه ورم وألم شديد وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسود
ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقئ وأما الوباء
فقال الخليل وغيره هو الطاعون وقال هو كل مرض عام والصحيح الذي قاله المحققون أنه مرض
الكثيرين من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض
في الكثرة وغيرها ويكون مرضهم نوعا واحدا بخلاف سائر الأوقات فان أمراضهم فيها مختلفة
قالوا وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا والوباء الذي وقع في الشام في زمن عمر كان طاعونا
وهو طاعون عمواس وهي قرية معروفة بالشام وقد سبق في شرح مقدمة الكتاب في ذكر الضعفاء
من الرواة عند ذكره طاعون الجارف بيان الطواعين وأزمانها وعددها وأما كنها ونفائس
مما يتعلق بها وجاء في هذه الأحاديث أنه أرسل على بني إسرائيل أو من كان قبلكم عذابا لهم هذا
الوصف بكونه عذابا مختص بمن كان قبلنا وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة ففي الصحيحين
قوله صلى الله عليه وسلم المطعون شهيد وفى حديث آخر في غير الصحيحين أن الطاعون كان
عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده
204

صابرا يعلم أنه لن يصبه الا ما كتب الله له الا كان له مثل أجر شهيد وفى حديث اخر الطاعون
شهادة لكل مسلم وإنما يكون شهادة لمن صبر كما بينه في الحديث المذكور وفى هذه الأحاديث منع
القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فرارا من ذلك أما الخروج لعارض فلا بأس به وهذا
الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور قال القاضي هو قوله الأكثرين قال حتى قالت عائشة
الفرار منه كالفرار من الزحف قال ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج منه فرار قال وروى
205

هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ وعن أبي موسى الأشعري
ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون وقال عمرو بن العاص فروا عن هذا
الرجز في الشعاب والأودية ورؤس الجبال فقال معاذ بل هو شهادة ورحمة ويتأول هؤلاء
النهى على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر لكن مخافة
لفتنة على الناس لئلا يظنوا أن هلاك القادم إنما حصا بقدومه وسلامة الفار إنما كانت
206

بفراره قالوا وهو من نحو النهى عن الطيرة والقرب من المجذوم وقد جاء عن ابن مسعود
قال الطاعون فتنة على المقيم والفار أما الفار فيقول فررت فنجوت وأما المقيم فيقول أقمت
فمت وإنما فر من لم يأت أجله وأقام من حضر أجله والصحيح ما قدمناه من النهى عن
القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة قال العلماء وهو قريب المعنى من قوله
صلى الله عليه وسلم لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا وفى
هذا الحديث الاحتراز من المكاره وأسبابها وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الآفات والله أعلم
واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ودليله صريح الأحاديث قوله في رواية أبى
النضر (لا يخرجكم الا فرار منه) وقع في بعض النسخ فرار بالرفع وفى بعضها فرار بالنصب وكلاهما
مشكل من حيث العربية والمعني قال القاضي وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية مفسدة للمعنى
207

لأن ظاهرها المنع من الخروج لكل سبب الا للفرار فلا منع منه وهذا ضد المراد وقال جماعة
ان لفظة إلا هنا غلط من الراوي والصواب حذفنها كما هو المعروف في سائر الروايات قال
القاضي وخرج بعض محققي العربية لرواية النصب وجها فقال هو منصوب على الحال قال ولفظة
الا هنا لايجاب لا للاستثناء وتقديره لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا منه والله أعلم
واعلم أن أحاديث الباب كلها من رواية أسامة بن زيد وذكر في الطرق الثلاث في آخر الباب
ما يوهم أو يقتضى أنه من رواية سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي
وغيره هذا وهم إنما هو من رواية سعد عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم قوله
(حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد) أما سرغ فبسين مهملة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم غين
معجمة وحكى القاضي وغيره أيضا فتح الراء والمشهور اسكانها ويجوز صرفه وتركه وهي قرية
في طرف الشام مما يلي الحجاز وقوله أهل الأجناد وفى غيره هذه الرواية أمراء الأجناد
والمراد بالأجناد هنا مدن الشام الخمس وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين
هكذا فسروه واتفقوا عليه ومعلوم أن فلسطين اسم لناحية بيت المقدس والأردن اسم لناحية
سيان وطبرية وما يتعلق بهما ولا يضر اطلاق اسم المدينة عليه قوله (ادع لي المهاجرين
208

الأولين فدعا ثم دعا الأنصار ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) إنما رتبهم هكذا على
حسب فضائلهم قال القاضي المراد بالمهاجرين الأولين من صلى للقبلتين فأما من أسلم بعد
تحويل القبلة فلا يعد فيهم قال وأما مهاجرة الفتح فقيل هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم
فضل بالهجرة قبل الفتح إذ لا هجرة بعد الفتح وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده فحصل
لهم اسم دون الفضيلة قال القاضي هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشخة قريش وكان
رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين وأنه أحوط ولم يكن
مجرد تقليد لمسلمة الفتح لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع
وبعضهم بالقدوم عليه وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش فكثر القائلين به
مع مالهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأي وحجة الطائفين واضحة مبينة في
الحديث وهما مستمدان من أصلين في الشرع أحدهما التوكل والتسليم للقضاء والثاني الاحتياط
والحذر ومجانبة أسبابا لالقاء باليد إلى التهلكة قال القاضي وقيل إنما رجع عمر لحديث
عبد الرحمن بن عوف كما قال مسلم هنا في روايته عن ابن شهاب ان سالم بن عبد الله قال إن
عمر إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قالوا ولأنه لم يكن ليرجع
209

لرأى دون رأى حتى يجد علما وتأول هؤلاء قوله (أن مصبح على ظهر فأصبحوا) فقالوا
أي مسافر إلى الجهة التي قصدناها أولا لا للرجوع إلى المدينة وهذا تأويل فاسد ومذهب
ضعيف بل الصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر الحديث أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع
أولا بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع مع فضيلة المشيرين به وما فيه من الاحتياط
ثم بلغه حديث عبد الرحمن فحمد الله تعالى وشكره على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه
نص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول مسلم انه إنما رجع لحديث عبد الرحمن فيحتمل
أن سالما لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له ويحتمل أنه
أراد لم يرجع الابعد حديث عبد الرحمن والله أعلم قوله (انى مصبح على ظهر فأصبحوا عليه)
هو باسكان الصاد فبهما أي مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع إلى وطني فأصبحوا عليه وتأهبوا
له قوله (فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره
خلافة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وابل له عدوتان إحداهما خصيبة
والأخرى جدبة أليس ان رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وان رعيت الجدية رعيتها بقدر الله) أما
العدوة فبضم العين وكسرها وهي جانب الوادي والجدبة بفتح الجيم واسكان الدال المهملة وهي ضد
الخصيبة وقال صاحب التحرير الجدبة هنا بسكون الدال وكسرها قال والخصبة كذلك أما قوله لو غيرك
قالها يا أبا عبيدة فجواب لو محذوف وفى تقديره وجهان ذكرهما صاحب التحرير وغيره أحدهما لو قاله
غيرك لأدبته لاعتراضه على مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس وأهل الحل والعقد فيها والثاني
210

لو قالها غيرك لم أتعجب منه وإنما أتعجب من قولك أنت ذلك مع ما أنت عليه من العلم والفضل
ثم ذكر له عمر دليلا واضحا من القياس الجلي الذي لاشك في صحبه وليس ذلك اعتقادا منه أن الرجوع يرد
المقدور وإنما معناه أن الله تعالى أمر بالاحتياط والحزم ومجانية أسباب الهلاك كما أمر سبحانه
بالتحصن من سلاح العدو وتجنب المهالك وإن كان كل واقع فبقضاء الله وقدره السابق في علمه
وقاس عمر على رعى العدوتين لكونه واضحا لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمئلة النزاع قوله
(أكنت معجزه) هو بفتح العين وتشديد الجيم أي تنسبه إلى العجز ومقصود عمر أن الناس رعية
لي استر عانيها الله تعالى فيجب على الاحتياط لها فان تركته نسبت إلى العجز واستوجبت
العقوبة والله أعلم قوله (هذا المحل أو قال هذا المنزل) هما بمعنى وهو بفتح الحاء وكسرها
والفتح أقبس فان ما كان على وزن فعل ومضارعه يفعل بضم ثالثه كان مصدره واسم الزمان
والمكان منه مفعلا بالفتح كقعد يقعد مقعدا ونظائره إلا أحرفا شذت جاءت بالوجهين منها
المحل قوله في الاسناد (عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب
عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس) قال الدارقطني كذا قال مالك
وقال معمر ويونس عن عبد الله بن الحارث قال والحديث صحيح على اختلافهم قال وقد أخرجه
211

مسلم من طريق يونس عن عبد الله بن الحارث وأما البخاري فلم يخرجه إلا من طريق مالك
واعلم أن في حديث عمر هذا فوائد كثيرة منها خروج الامام بنفسه في ولايته في بعض الأوقات
ليشاهد أحوال رعيته ويزيل ظلما لمظلوم ويكشف كرب المكروب ويسد خلة المحتاج ويقمع
أهل الفساد ويخافه أهل البطالة والأذى والولاة ويحذر واتجسسه عليهم ووصول قبائحهم إليه
فينكفوا ويقيم في رعيته شعائر الاسلام ويؤدب من رآهم مخلين بذلك ولغير ذلك من المصالح
ومنها تلقى الأمراء ووجوه الناس الامام عند قدومه وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم من
خير وشر ووباء ورخص وغلاء وشدة ورخاء وغير ذلك ومنها استحباب مشاورة أهل العلم
والرأي في الأمور الحادثة وتقديم أهل السابقة في ذلك ومنها تنزيل الناس منازلهم وتقديم أهل
الفضل غيرهم والابتداء بهم في المكارم ومنها جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها كما يجوز
في الأحكام ومنها قبول خبر الواحد فإنهم قبلوا خبر عبد الرحمن ومنها صحة القياس وجواز
العمل به ومنها ابتداء العالم لما عنده من العلم قبل أن يسأله كما فعل عبد الرحمن ومنها اجتناب
أسباب الهلاك ومنها منع القدوم على الطاعون ومنع الفرار منه والله أعلم
212

باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول
(ولا يورد ممرض على مصح
قوله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة (لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي يا رسول الله
فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجئ البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال
فمن أعدى الأول) وفى رواية لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة وفى رواية أن أبا هريرة
كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال لا يورد ممرض على
مصحح ثم إن أبا هريرة اقتصر على رواية حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث
لا عدوى فراجعوه فيه وقالوا له إنا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الراوي عن أبي
هريرة فلا أدري أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر قال جمهور العلماء يجب الجمع
بين هذين الحديثين وهما صحيحان قالوا وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفى ما كانت
الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدى بطبعها لا بفعل الله تعالى وأما حديث لا يورد
213

ممرض على مصح فأرشد فيه إلى مجانية ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره
فنفى في الحديث الأول العدوي بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله
وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وارادته وقدره فهذا الذي
ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين
المصير إليه ولا يؤثر نسيان أبي هريرة لحديث لا عدوى لوجهين أحدهما أن نسيان الراوي
للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء بل يجب العمل به والثاني أن هذا اللفظ
ثابت من رواية غير أبي هريرة فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجاد بن عبد الله وأنس
ابن مالك وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكى المازري والقاضي عياض عن بعض العلماء
أن حديث لا يورد ممرض على مصح منسوخ بحديث لا عدوى وهذا غلط لوجهين أحدهما
أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين ولم يتعذر بل قد جمعنا بينهما والثاني أنه يشترط
فيه معرفة التاريخ وتأخر الناسخ وليس ذلك موجود هنا وقال آخرون حديث لا عدوى على
ظاهره وأما النهى عن ايراد الممرض على المصح فليس للعدوى بل للتأذى بالرائحة الكريهة
وقبح صورته وصورة المجذوم والصواب ما سبق والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولا صفر)
فيه تأويلان أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسئ الذي كانوا يفعلونه وبهذا
214

قال مالك وأبو عبيدة والثاني أن الصفر دواب في البطن وهي دود وكانوا يعتقدون أن في البطن
دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها وكانت العرب تراها أعدى من الجرب وهذا
التفسير هو الصحيح وبه قال مطرف وابن وهب وابن حبيت وأبو عبيد وخلائق من العلماء
وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فيتعين اعتماده ويجوز أن يكون المراد
هذا والأول جميعا وأن الصفرين جميعا باطلان لا أصل لهما ولا تصريح على واحد منهما
قوله صلى الله عليه وسلم (ولا هامة) فيه تأويلان أحدهما أن العرب كانت تتشاءم باطامة وهي
الطائر المعروف من طير الليل وقيل هي البومة قالوا كانت إذا سقطت على دار أحدهم رآها
ناعية له نفسه أو بعض أهله وهذا تفسير مالك بن أنس والثاني أن العرب كانت تعتقد أن
عظام الميت وقيل روحه تنقلب هامة تطير وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور ويجوز أن
يكون المراد النوعين فإنهما جميعا باطلان فبين النبي صلى الله عليه وسلم ابطال ذلك وضلالة
215

الجاهلية فيما تعتقده من ذلك والهامة بتخفيف الميم على المشهور الذي لم يذكر الجمهور غيره وقيل
بتشديدها قاله جماعة وحكاه القاضي عن أبي زيد الأنصاري الامام في اللغة قوله صلى الله
عليه وسلم (ولا نوء) أي لا تقولوا مطرنا بنوء كذا ولا تعتقدوه وسبق شرحه واضحا في كتاب
الصلاة قوله صلى الله عليه وسلم (ولا غول) قال جمهور العلماء كانت العرب تزعم أن الغيلان
216

في الفلوات هي جنس من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول أي تتلون تلونا فتضلهم عن
الطريق فتهلكهم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال آخرون ليس المراد بالحديث
وجود الغول وإنما معناه ابطال ما تزعمه العرب من تلون الغول الصور المختلفة واغتيالها قالوا
ومعنى لا غول أي لا تستطيع أن تضل أحد ويشهد له حديث آخر لا غول ولكن السعالى قال
العلماء السعالى بالسين المفتوحة والعين المهملتين وهم سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة
لهم تلبيس تخيل وفى الحديث الآخر إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذن أي ارفعوا شرها بذكر
الله تعالى وهذا دليل على أنه ليس المراد نفى أصل وجودها وفى حديث أبي أيوب كان لي تمر
في سهوة وكانت الغول تجئ فتأكل منه قوله صلى الله عليه وسلم (فمن أعدى الأول) معناه
أن البعير الأول الذي جرد من أجر به أي وأنتم تعملون تعترفون أن الله تعالى هو الذي أوجد
ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب فاعملوا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما إنما جرب بفعل
الله تعالى وإرادته لا بعدوى تعدى بطبعها ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يجرب الأول
لعدم المعدى ففي الحديث بيان الدليل القاطع لابطال قولهم في العدوي بطبعها قوله صلى
الله عليه وسلم (لا يورد ممرض على مصح) قوله يورد بكسر الراء والممرض والمصح بكسر
الراء والصاد ومفعول يورد محذوف أي لا يورد إبله المراض قال العلماء الممرض صاحب الإبل
المراض والمصح صاحب الإبل الصحاح فمعنى الحديث لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل
صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعال وقدره الذي أجرى به العادة
لا بطبعها فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوي
بطبعها فيكفر والله أعلم قوله (كان أبو هرير يحدثهما كلتيهما) كذا هو في جميع النسخ كلتيهما
بالتاء والياء مجموعتين والضمير عائد إلى الكلمتين أو القصتين أو المألتين ونحو ذلك قوله (قال
217

أبو الزبير هذه الغول التي تغول) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قال أبو الزبير وكذا نقله القاضي
عن الجمهور قال وفى رواية الطبري أحد رواة صحيح مسلم قال أبو هريرة قال والصواب الأول قوله
(أنه قال في تفسير الصفر هي دواب البطن) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا دواب بدال مهملة وباء
موحدة مشددة وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور قال وفي رواية العذري ذوات بالذال المعجمة
والتاء المثناة فوق وله وجه ولكن الصحيح المعروف هو الأول قال القاضي واختلفوا في قوله
صلى الله عليه وسلم لا عدوى فقيل هو نهى عن أن يقال ذلك أو يعتقد وقيل هو خبر أي
لا تقع عدوى بطبعها
باب الطيرة والفأل وما يكون فيه الشؤم
قوله صلى الله عليه وسلم (لا طيرة وخيرها الفأل) وقيل يا رسول الله وما الفأل قال الكلمة الحسنة
الصالحة يسمعها أحدكم وفى رواية لا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة وفى رواية
وأحب الفأل الصالح أما الطيرة فبكسر الطاء وفتح الياء على وزن العنبة هذا هو الصحيح المعروف في رواية
الحديث وكتب اللغة والغريب وحكى القاضي وابن الأثير أن منهم من سكن الياء والمشهور الأول قالوا
وهي مصدر تطير طيرة قالوا ولم يجئ في المصادر على هذا الوزن إلا تطير طيرة وبخير خيره
بالخاء المعجمة وجاء في الأسماء حرفان وهما شئ طيبة أي طيب والتولة بكسر التاء المثناة وضمها
وهو نوع من السحر وقيل يشبه السحر وقال الأصمعي هو ما تتحبب به المرأة إلى زوجها والتطير
التشاؤم وأصله الشئ المكروه من قول أو فعل أو مرئى وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح
فينفرون الظباء والطيور فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم وان
218

أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها فكانت تصدهم في كثير من
الأوقات عن مصالحهم فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهي عنه وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا
ضر فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا طيرة وفى حديث اخر الطيرة شرك أي اعتقاد أنها
تنفع أو تضر إذ عملوا بمقتضاها معتقدين تأثيرها فهو شرك لأنهم جعلوا لها أثر في الفعل
والايجاد وأما الفأل فمهموز ويجوز ترك همزه وجمعه فؤول كفلس وفلوس وقد فسره النبي صلى الله
عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة قال العلماء يكون الفأل فيما يسر وفيما يسوء والغالب
في السرور والطيرة ولا يكون إلا فيما يسوء قالوا وقد يستعمل مجازا في السرور يقال تفاءلت
بكذا بالتخفيف وتفألت بالشديد وهو الأصل والأول مخفف منه ومقلوب عنه قال العلماء
وإنما أحب الفأل لان الانسان إذا مل فائدة الله تعالى وفضله عند سبب قوى أو ضعيف فهو
219

على خير في الحال وان غلط في جهة الرجاء فالرجاء له خير وأما إذا قطع رجاءه وأمله من الله تعالى
فان ذلك شر له والطيرة فيها سوء الظن وتوقع البلاء ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض
فيتفاءل بما يسمعه فيسمع من يقول يا سالم أو يكون طالب حاجة فيسمع من يقول يا واجد
فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الشؤم في الدار والمرأة
والفرس) وفى رواية إنما الشؤم في ثلاثة المرأة والفرس والدار وفى رواية إن كان الشؤم في
شئ ففي الفرس والمسكن والمرأة وفى رواية إن كان في شئ ففي الربع والخادم والفرس واختلف
العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة هو على ظاهره وأن الدار قد يجعل الله تعالى
220

سكناها سببا للضرر أو الهلاك وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك
عنده بقضاء الله تعالى ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية إن يكن
الشؤم في شئ وقال الخطابي وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهى عنها إلا
أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه
وطلاق المرأة وقال آخرون شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم وشؤم المرأة عدم ولادتها
221

وسلاطة لسانها وتعرضها للريب وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل حرانها وغلاء ثمنها وشؤم
الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة واعترض
بعض الملاحدة بحديث لا طيرة على هذا فأجاب ابن قتيبة وغيره بان هذا مخصوص من حديث
لا طيرة إلا في هذه الثلاثة قال القاضي قال بعض العلماء الجامع لهذه الفصول السابقة في الأحاديث
ثلاثة أقسام أحدها ما لم يقع الضرر به ولا اطردت عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر
الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة والثاني ما يقع عند الضرر عموما الا يخصه وزاد لا متكرا كالوباء
فلا يقدم عليه ولا يخرج منه والثالث ما يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة فهذا يباح
الفرار منه والله أعلم
222

باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان
قوله صلى الله عليه وسلم (فلا تأتوا الكهان) وفى رواية سئل عن الكهان فقال ليسوا بشئ قال
القاضي رحمه الله كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها يكون للانسان ولى من الجن يخبره بما
يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم الثاني أن
يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفى عنه مما قرب أو بعد وهذا لا يبعد وجوده ونفت
المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ولا استحالة في ذلك ولابعد في وجوده
لكنهم يصدقون ويكذبون والنهى عن تصديقهم والسماع منهم عام الثالث المنجمون وهذا الضرب
يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب ومن هذا الفن العرافة وصاحبها
عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعى معرفتها بها وقد يعتضد بعض
هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة وهذه الأضرب كلها تسمى
كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم واتيانهم والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه
وسلم (ليسوا بشئ) فمعناه بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له وفيه جواز اطلاق هذا اللفظ على ما كان
باطلا قوله (كما نتطير قال ذلك شئ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم) معناه أن كراهة ذلك
تقع في نفوسكم في العادة ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا وقد صح
223

عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه قال ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال أحسنها الفأل وليرد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت
ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك رواه أو داود باسناد صحيح قوله صلى الله
عليه وسلم (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذلك) هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الصلاة
قوله صلى الله عليه وسلم (تلك الكلمة الحق يخطفها الجنى فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة)
أما يخطفها فبفتح الطاء على المشهور به جاء القرآن وفى لغة قليلة كسرها ومعناه استرقه واخذه
بسرعة وأما الكذب فبفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما قال القاضي وأنكر بعضهم الكسر
224

إذا زاد الحالة الهيئة وليس هذا موضعها ومعنى يليها قوله صلى الله عليه وسلم (تلك
الكلمة من الجن يخطفها فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا الكلمة
من الجن بالجيم والنون أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي يصح مما نقلته الجن بالجيم والنون
وذكر القاضي في المشارق أنه روى هكذا وروى أيضا من الحق بالحاء والقاف وأما قوله فيقرها
فهو بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء وقر الدجاجة بفتح القاف والدجاجة بالدال الدجاجة
225

المعروفة قال أهل اللغة والغريب القر ترديد الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه يقول قررته
فيه أقره قرا وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته يقال قرت تقر قرا وقريرا فان رددته قلت
قرقرت قرقرة قال الخطابي وغيره معناه أن الجنى يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين
كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها فتتجاوب قال وفيه وجه آخر وهي أن تكون الرواية
كقر الزجاجة بدل عليه رواية البخاري فيقرها في أذنه كما تقر القارورة قال فذكر القارورة
في هذه الرواية يدل على ثبوت الرواية بالزجاجة قال القاضي أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه
أنه الدجاجة بالدال لكن رواية القارورة تصحح الزجاجة قال القاضي معناه يكون لما يلقيه
إلى وليه حس كحس القارورة عند تحريكها مع اليد أو على صفا قوله صلى الله عليه وسلم في رواية
صالح عن ابن شهاب (ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون) هذه اللفظة ضبطوها من رواية صالح
226

على وجهين أحدهما بالراء والثاني بالذال ووقع في رواية الأوزاعي وابن معقل الراء باتفاق
النسخ ومعناه يخلطون فيه الكذب وهو بمعنى يقذفون وفى رواية يونس يرقون قال القاضي
ضبطناه عن شيوخنا بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف قال ورواه بعضهم بفتح الياء واسكان
الراء قال في المشارق قال بعضهم صوابه بفتح الياء واسكان الراء وفتح القاف قال وكذا ذكره
الخطابي قال ومعناه معنى يزيدون يقال رقى فلان إلى الباطلة بكسر القاف أي رفعه وأصله من
الصعود أي يدعون فيها فوق ما سمعوا قال القاضي وقد يصح الرواية الأولى على تضعيف هذا
الفعل وتكثيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة
أربعين ليلة) أما العراف فقد سبق بيانه وأنه من جملة أنواع الكهان قال الخطابي وغيره
العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما وأما عدم قبول صلاته
فمعناه أنه لا ثواب له فيها وان كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى إعادة ونظير
هذه الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها كذا قاله جمهور
أصحابنا قالوا فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها
شيئان سقوط الفرض عنه وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون
الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فان العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف
إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله والله أعلم
227

باب اجتناب المجذوم ونحوه
قوله (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع)
هذا موافق للحديث الآخر في صحيح البخاري وفر من المجذوم فرارك من الأسد وقد سبق شرح
هذا الحديث في باب لا عدوى وأنه غير مخالف لحديث لا يورد ممرض علي مصح قال القاضي
قد اختلف الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له كل ثقة بالله وتوكلا عليه
وعن عائشة قالت مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي قال
وقد ذهب عمر رضي الله عنه وغيره من السلف إلي الأكل معه ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ
والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لانسخ بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل
الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا للوجوب وأما الأكل معه ففعله
لبيان الجواز والله أعلم قال القاضي قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه دليل على أنه
يثبت للمرأة الخيار في فسح النكاح إذا وجدت زوجها مجذوما أو حدث به جذام واختلف
أصحابنا وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من استمتاعه إذا أرادها قال القاضي قالوا
ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس قال وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون
أيتخذوا لأنفسهم موضعا منفردا خارجا عن الناس ولا يمنعوا من التصرف في منافعهم وعليه
أكثر الناس أم لا يلزمهم التنحي قال ولم يختلفوا في القليل منهم في أنهم لا يمنعون قال ولا يمنعون
من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها قال ولو استضر أهل قرية فيهم جذمي بمخالطتهم
في الماء فان قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به والا استنبطه لهم الآخرون أو أقاموا من يستقى لهم والا فلا يمنعون والله أعلم
228

كتاب قتل الحيات وغيرها
قوله صلى الله عليه وسلم (اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان
البصر) وفى رواية أن ابن عمر ذكر هذا الحديث ثم قال فكنت لا أترك حية أراها إلا قتلتها
فبينا أنا أطارد حية يوما من ذوات البيوت مربى زيد بن الخطاب أو أبو لبابة وأنا أطاردها فقال
مهلا يا عبد الله فقلت ان رسول الله أمر بقتلهن قال إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت وفى رواية نهى عن قتل الجنان التي في البيوت وفى رواية
أن فتى من الأنصار قتل حية في بيته فمات في الحال فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن بالمدينة جنا
قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فأذنوا ثلاثة أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان
وفي رواية ان لهذا البيوت عوامر فإذ رأيتم شيئا منها فخرجوا عليها ثلاثا فان ذهب والا فاقتلوه
فإنه كافر وفى الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بقتل الحية التي خرجت عليهم وهم
229

بغار مني قال المازري لا تقتل حيات مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بانذارها كما جاء في هذه
الأحاديث فإذا أنذرها ولم تنصرف قتلها وأما حيات غير المدينة في جميع الأرض والبيوت والدور
فيندب قتلها من غير إنذار لعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بقتلها ففي هذه الأحاديث اقتلوا
الحيات وفي الحديث الآخر خمس يقتلن في الحل والحرام منها الحية ولم يذكر إنذار أو في الحديث الحية
الخارجة بمنى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها ولم يذكر انذروها قالوا فأخذ بهذه
الأحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقا وخصت المدينة بالإنذار للحديث الوارد فيها وسببه صرح به
في الحديث أنه أسلم طائفة من الجن بها وذهبت طائفة من العلماء إلى عموم النهى في حيات البيوت بكل
بلد حتى تنذر وأما ليس في البيوت فيقتل من غير انذار قال مالك يقتل ما وجد منها في المساجد
قال القاضي وقال بعض العلماء الأمر بقتل الحيات مطلقا مخصوص بالنهي عن جنان البيوت
إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنه يقتل على كل حال سواء كانا في البيوت أم غيرها وإلا ما ظهر منها
بعد الانذار قال ويخص من النهى عن قتل جنان البيوت الأبتر وذو الطفيتين والله أعلم وأما صفة
الانذار فقال القاضي روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول أنشدكن بالعهد
الذي أخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذنا ولا تظهرن لنا وقال مالك يكفي أن يقول أخرج
عليك بالله واليوم الآخر أن لا تبدو لنا ولا تؤذينا وأمل مالكا أخذ لفظ التحريج مما وقع في
صحيح مسلم فخرجوا عليها ثلاثا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ذا الطفيتين) هو بضم الطاء المهملة
واسكان الفاء قال العلماء هما الخطان الأبيضان على ظهر الحية وأضل الطفية خوصة المقل وجمعها
طفى شبه الخطين علي ظهرها بخوصتي المقل وأما الأبتر فهو قصير الذنب وقال نضر بن شميل هو
صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها قوله صلى الله عليه
وسلم (يستسقطان الحبل) معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت اليهما وخافت أسقطت الحمل
غالبا وقد ذكر مسلم في روايته عن الزهري أنه قال يرى ذلك من سمهما وأما يلتمسان البصر ففيه تأويلان
ذكرهما الخطابي وآخرون أحدهما معناه يخطفان البصر ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصة
جعلها الله تعالى في بصريهما إذا وقع على بصر الانسان ويؤيده هذا الرواية الأخرى في مسلم
يخطفان البصر والرواية الأخرى يلتمعان البصر والثاني أنهما يقصدان البصر بالسع والنهش
والأول أصح وأشهر قال العلماء وفى الحيات نوع يسمى الناضر إذا وقع نظره على عين انسان
230

مات من ساعته والله أعلم قوله (يطارده حية) أي يطلبها ويتتبعها ليقتلها قوله (نهى عن قتل
231

الجنان) هو بجيم مكسورة ونون مفتوحة وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة
وقيل الدقيقة الخفيفة وقيل الدقيقة البيضاء قوله (يفتح خوخة) هي بفتح الخاء واسكان الواو وهي كوة بين دارين أو بيتين
232

يدخل منها وقد تكون في حائط منفرد قوله صلى الله عليه وسلم (ويتتبعان ما في بطون النساء) أي
يسقطانه كما سبق في الروايات الباقية على ما سبق شرحه وأطبق عليه التتبع مجازا ولعل فيهما طلبا
لذلك جعله الله تعالى خصيصة فيهما قوله (عند الأطم) هو بضم الهمزة وهو القصر وجمعه آطام
233

كعنق وأعناق قوله (أمر محرما بقتل حية بمنى) فيه جواز قتلها للمحرم وفى الحرم وأنه لا ينذرها
في غير البيوت وأن قتلها مستحب قوله (فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله) قال العلماء هذا الاستئذان امتثال لقوله تعالى كانوا معه
على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه النهار بفتح الهمزة أي منتصفه وكأنه وقت
لآخر النصف الأول وأول النصف الثاني فجمعه كما قالوا ظهور الترسين وأما رجوعه إلى أهله
فلطالع حالهم ويقضى حاجتهم ويؤنس امرأته فإنها كانت عروسا كما ذكر في الحديث قوله
234

صلى الله عليه وسلم (فأذنوا ثلاثة أيام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان) قال العلماء
235

معناه وإذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيوت ولا ممن أسلم من الجن بل هو
شيطان فلا حرمة عليكم فاقتلوه ولن يجعل الله له سبيلا للانتصار عليكم بثأره بخلاف العوامر
ومن أسلم والله أعلم
باب استحباب قتل الوزغ
قولها (ان النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ) وفى رواية امر بقتل الوزغ وسماه
فويسقا وفى رواية من قتل وزغه في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة ومن قتلها في الضربة
الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى وان قتلها في الضربة الثالثة فيه كذا وكذا حسنة لدون
الثانية وفى رواية من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفى الثانية دون ذلك وفى
الثالثة دون ذلك وفى رواية في أول ضربة سبعين حسنة قال أهل اللغة الوزغ وسام أبرص جنس
فسام أبرص هو كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذات وجمعه أوزاغ ووزغان
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وحث عليه ورغب فيه لكونه من المؤذيات وأما سبب تكثير
الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعتناء به وتحريس
236

قاتله على أن يقتله بأول ضربة فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله وأما
تسميته فريسقا فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم وأصل الفسق الخروج وهذه
المذكورات خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى وأما تقييد
الحسنات في الضربة الأولى بمائة وفى رواية بسبعين فجوابه من أوجه سبقت في صلاة الجماعة
تزيد بخمس وعشرين درجة وفى روايات بسبع وعشرين أحدها أن هذا مفهوم للعدد ولا
يعمل به عند الأصوليين غيرهم فذكر سبعين لا يمنع المائة فلا معارضة بينهما الثاني لعله أخبرنا
بسبعين ثم تصدق الله تعالى بالزيادة فأعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحى إليه بعد ذلك
237

والثالث أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ بحسب نياتهم واخلاصهم ويقال أحوالهم ونقصها
فتكون المائة للكامل منهم والسبعين لغيره والله أعلم قوله (حدثنا محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل
يعنى ابن زكريا عن سهيل قال حدثني أختي عن أبي هريرة) كذا وقع في أكثر النسخ أختي
وفى بعضها أخي بالتذكير وفى بعضها أبى وذكر القاضي الأوجه الثلاثة قالوا ورواية أبى خطأ
وهي الواقعة في رواية أبى العلاء ابن ماهان ووقع في رواية أبى داود أخي أو أختي قال القاضي
أخت سهيل سودة وأخواه هشام وعباد
باب النهى عن قتل النمل
قوله صلى الله عليه وسلم (ان نملة قرصت نبيا من الأنبياء فامر بقرية النمل فأحرقت
238

فأوحى الله إليه في أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تستبح وفى رواية فهلا نملة
واحدة قال العلماء وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه
جواز قتل النمل وجواز الإحراق بالنار ولم يعتب عليه في أصل القتل والاحراق بل في الزيادة
على نملة واحدة قوله تعالى فهلا نملة واحدة فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي
قرصتك لأنها الجانية وأما غيرها فليس لها جناية وأما في شرعنا فلا يجوز الاحراق بالنار
للحيوان الا إذا أحرق إنسانا فمات بالاحراق فلوليه الاقتصاص باحراق الجاني وسواء
في منع الاحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور لا يعذب بالنار إلا الله وأما قتل النمل
فمذهبنا أنه لا يجوز واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل
أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط البخاري
ومسلم وقوله صلى الله عليه وسلم (فأمر بقرية النمل فأحرقت) وفى رواية فأمر بجهازه فأخرج
من تحت الشجرة أما قربة النمل فهي منزلهن والجهاز بفتح الجيم وكسرها وهو المتاع
239

باب تحريم قتل الهرة
قوله صلى الله عليه وسلم (عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي
أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) في رواية ربطتها وفى
رواية تأكل من حشرات الأرض معناه عذبت بسبب هرة ومعنى دخلت فيها أي بسببها
وخشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة وكسرها وضمها حكاهن في المشارق احتج أشهر وروى
بالحاء المهملة والصواب المعجمة وهي هوام الأرض وحشراتها كما وقع في الرواية الثانية وقيل
المراد به نبات الأرض وهو ضعيف أو غلط وفى الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها
بغير طعام أو شراب وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة وإنما دخلت
النار بسبب الهرة وذكر القاضي أنه يجوز أنها كافرة عذبت لكفرها وزيد في عذابها بسبب الهرة
واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر هذا كلام القاضي
والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث وهذه
المعصية ليست صغيرة بل صارت باصرارها في الحديث أنها تخلد في النار وفيه
240

وجوب نفقة الحيوان على مالكه والله أعلم
باب فضل سقى البهائم المحترمة وإطعامها
قوله صلى الله عليه وسلم (في كل كبد رطبة أجر) معناه في الاحسان إلى كل حيوان حي
بسقيه ونحوه أجر وسمى الحي ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده ففي هذا الحديث
الحث على الاحسان إلى الحيوان المحترم وهو مالا يؤمر بقتله فأما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع
في قتله والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات
في الحديث وما في معناهن وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والاحسان إليه أيضا باطعامه
وغيره سواء كان مملوكا أو مباحا وسواء كان مملوكا له أو لغيره والله أعلم قوله صلى الله عليه
وسلم (فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش) أما الثرى فالتراب الندى ويقال لهث بفتح
الهاء وكسرها يلهث بفتحها لاغير لهثا باسكانها والاسم اللهث بفتحها واللهاث بضم اللام
241

ورجل لهثان وامرأة لهثى كعطشان وعطشى وهو الذي أخرج لسانه من شدة العطش والحر
قوله (حتى رقى فسقى الكلب) يقال رزقي بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة حكى
فتحها وهي لغة طي في كل ما أشبه هذا قوله صلى الله عليه وسلم (إن امرأة بغيا رأت كلبا
في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها) أما البغي فهي
الزانية والبغاء بالمد هو الزنا ومعنى يطيف أي حولها بضم الياء ويقال طاف به وأطاف
إذا دار حوله وأدلع لسانه ودلعه لغتان أي أخرجه لشدة العطش والموق بضم الميم هو الخف
فارسي معرب ومعنى نزعت له بموقها أي استقت يقال نزعت بالدلو استقيت به من البئر
ونحوها نزعت الدلو أيضا قوله (فشكر الله له فغفر له) معناه قبل عمله وأثابه وغفر له والله أعلم
242