الكتاب: نهج السعادة
المؤلف: الشيخ المحمودي
الجزء: ٧
الوفاة: معاصر
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٨٥ - ١٩٦٥ م
المطبعة: مطبعة النعمان - النجف الأشرف
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

نهج السعادة
في مستدرك نهج البلاغة
1

نهج السعادة
في
مستدرك نهج البلاغة
الجزء الأول
من باب الوصايا
تأليف
محمد باقر محمودي
مطبعة النعمان - النجف الأشرف
3

الطبعة الأولى
1385 ه‍ 1965 م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
4

تحية واهداء
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا خليفة الله في أرضه وحجته على خليقته، يا مولاي
يا صاحب الزمان اني أتقرب إلى الله وإليك، وأستشفعك إلى الله والى
رسوله سيد الأنبياء والمرسلين، باهداء هذه الصحائف - التي نحكي لجامعها
خلوص الولاء، وتشهد لراقمها بمزيد التعب والعناء - إلى جدك صاحب
الولاية الكبرى والإمامة العظمى أمير المؤمنين وسيد الوصيين، وقائد الغر
المحجلين علي بن أبي طالب عليه وعلى أبنائه الطاهرين آلاف التحية والسلام.
يا مولاي هذه بضاعتكم أهديت وردت إليكم، إذ لم أجد أحدا حقيقا
بالرد إليه والاهداء له، فان كانت الهدايا على مقدار مهديها، فهديتي هذه
على مقدار مبدعها، وزنة منشيها.
يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر فأتينا بتجارة رابحة، وجئنا ببضاعة رائجة
فأوف لنا الكيل (في الدنيا والآخرة)، وأحسن إلينا، وتصدق علينا، فان
الله يحب المحسنين ويجزي المتصدقين.
المؤلف
5

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
أما بعد فيقول المفتقر إلى رحمة الله، المحتاج إلى عناية ولي الله (أمير
المؤمنين عليه السلام) أبو جعفر المحمودي: انا لما قدمنا نشر هذا الباب
- باب الوصايا - من كتابنا (نهج السعادة) لمصالح اقتضت ذلك، وأجلنا
طبع المجلدات والأبواب الأربعة الباقية إلى حين، أحببنا أن نشير إجمالا إلى
ما ذكرناه في مقدمة المجلد الأول من كتابنا هذا، إجابة لما يخطر في ذهن القراء
الكرام من الأسئلة، وإلفاتا لانظار طالبي حكم أمير المؤمنين عليه السلام إلى
ما جمعناه وأودعناه في كتابنا هذا، فنقول:
ان - كتابنا هذا مشتمل على خمسة أبواب:
الباب الأول في الخطب والأوامر، وقد جمعنا منها في الحال الحاضرة
ما يزيد على خطب النهج بكثير.
الباب الثاني في الكتب والرسائل، ومن هذا الباب أيضا جمعنا مالا
يقل من ضعف ما في نهج البلاغة.
الباب الثالث في الوصايا وهي التي بين يدي القراء العظام، وهو
نموذج لما لم ينشر بعد من الأبواب والمجلدات.
الباب الرابع في غرر أدعية أمير المؤمنين عليه السلام وحسان مناجاته،
وقد دونا وكتبنا فعلا ما يزيد على مأة دعاء من أدعيته عليه السلام.
الباب الخامس في قصار كلامه (ع)، ومختصر حكمه، وقد قسمناه
6

إلى قسمين: (القسم الأول) المسانيد، و (القسم الثاني) المراسيل أي
ما وجدته مرسلا، وإن كان واقعا وبحسب اطلاع غيري مسندا.
ولاحد لهذا الباب، إذ كل يوم نظفر بما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين
وتستريح إليه القلوب وتستأنس به الاسماع، وكأني بمنظوم كلامه (ع)، وما وجدته
من أشعاره، قد توجه إلي من نضيد نظامه، وهو يخاطبني بلطيف كلامه،
ويشافهني بحسن بيانه، ويقول: أتأذن لي ان أكون للأبواب الخمسة سادسا؟
فأقول له: أنت من الأبواب، فإن شملني ألطاف الله، وساعدني عناية ولي
الله سألبسنك كساء التحرير، وسأكسونك لباس التسديس.
وليعلم اني لم أكن عازما على شرح كلامه (ع) والتعليق عليه، بل
كان همي مقصورا على جمع الشوارد من حكمه، وترتيب الشوامل من
كلمه (ع) إذ لم يقم بهذا الواجب - حق القيام - أحد بعد السيد الرضي (ره)
فكان الجمع أهم من الشرح، لا سيما إذا نظرت إلى قصوري بيانا وبنانا وقلما
ولسانا، وبملاحظة ما القى في روعي من أنه سيشرحه من هو أهله ومستحقه،
ولكن أشار إلي وأمرني بالتعليق من لا أستطيع مخالفته، ولا أستجيز
ملالته وسامته، فامتثلت أمره بحسب مقدوري، وعلفت على كلامه (ع)
بمقدار ميسوري، فان وافق الواقع وانظار أهل الحق والتحقيق فليس من
صنع الله وعناية ولي الله ببعيد، وان لم يصادف الواقع ولم يحظ بالقبول
عند ذوي الأذهان الثواقب، فليس من قاصر مثلي بعجيب، ولا من مبتلى
بلا معين بغريب، فليعذرني الأكابر، ولينصرف على لومي الأماثل، فإن العذر
عند كرام الناس مقبول.
ثم لا يخفى اننا نظرنا في كل مورد من كلامه (ع) المحتاج إلى شرح
أو تعليق، فان اقتضى تعليقا مختصرا مثل الإشارة إلى شاهد خارجي للكلام
ومثل توضيح لفظي ولغوي، علقنا عليه في ذيل الصفحة، وان اقتضى كلامه
7

عليه السلام تعليقا مبسوطا وشرحا مطنبا، نذكره بعد ختام كلامه (ع) وبعد
البحث عن سند الكلام، بعقد مباحث أو فوائد أو تعليقات - على اختلاف
تعبيراتنا في مختلف المقامات - فنذكر التعليق الأول فالأول.
ثم ليعلم أيضا انا لأجل الاختصار وضعنا رموزا في الكتاب، فاستعملنا
رمز: خ، للإشارة إلى ما في بعض النسخ من المصدر المنقول عنه، وجعلنا
حرف: ص، إشارة إلى صفحة المصدر، وحرف: س: إشارة إلى سطر
الصفحة، وكلمة عكسا، إشارة إلى تعداد الأسطر من الأسفل إلى الاعلى
إذ ربما يكون السطر المشار إليه قريبا من ذيل الصفحة، فعددنا من الذيل
تسهيلا.
وكذلك لأجل الاختصار والتسهيل جرينا في ضبط هيئة فعل المضارع
مجرى كتاب المنجد مثلا، إذا كان الخط هكذا: -، فالمقصود ان المضارع
مضموم العين، وإذا كان هكذا: -، يراد منه ان المضارع مفتوح العين،
وإن كان الخط هكذا: -، فالمعنى انه مكسور العين، وقد يكون هكذا
فيقصد منه ان عين الفعل يجوز فيه ثلاثة أوجه، وهكذا إذا جمع بين
الصورتين، يعني يجوز فيه الوجهان، ومع ذلك كله في كثير من الموارد نضع
هلالين ونكتب بينهما انه من باب نصر مثلا، لئلا يقع القارئ في الغلط
بواسطة الأغلاط المطبعية، وانحراف الرموز عن مجراها.
وأيضا بنينا على أن نشير إلى كتاب الدر النظيم، بلفظ: در، والى
تاريخ الطبري، بلفظ: طب، والى كتاب من لا يحضره الفقيه بلفظ: الفقيه،
والى مقاتل الطالبيين، بلفظ: مقا.
من المؤلف
8

بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فهذا هو الباب الثالث من كتاب (نهج السعادة) في الوصايا
وما يجري مجراها، من كلام سيد الموحدين، وأمام المتقين، ويعسوب
الدين، وقائد الغر المحجلين، وقسيم الجنة والسجين، مولا الكونين،
وامام الثقلين، والمصلي إلى القبلتين، ومبايع البيعتين، والشافع في النشأتين
أعني أبا السبطين الطيبين الطاهرين - الحسن والحسين - علي بن أبي طالب
عليه وعلى أولاده الطاهرين آلاف التحية والسلام، وعلى أعدائه وشانئيه
أشد اللعنة وسوء العذاب، ما دامت السماوات والأرضون.
جمعه وألفه العبد القاصر محمد باقر ابن ميرزا محمد المحمودي المردوشتي
الشيرازي، خدمة للدين، وتقربا إلى الله تعالى، وترويجا لمذهب سيد
الوصيين، وأرجو من الله أن ينفع به العالمين، ويجعله طريق سعادتهم
وسبيل قربهم إلى مرضاته، إنه ولي التوفيق.
9

- 1 -
ومن وصية له عليه السلام
في الحث على العلم
ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس الله نفسه الزكية، عن
علي بن محمد وغيره، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن
محمد بن عيسى جميعا، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة،
عن أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه، قال: سمعت أمير المؤمنين عليه
السلام يقول:
أيها الناس إعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل
به (1)، وأن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال (2)،
إن المال مقسوم بينكم، مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم
وضمنه، وسيفي لكم به، والعلم مخزون عليكم عند أهله،

(1) اي لا العلم وحده، كما عليه عمل نوع البشر فإنهم راغبون في العلم
غاية الرغبة، وزاهدون في العمل نهاية الزهد.
(2) المستفاد من هذا الكلام الشريف، ان طلب العلم والمال كليهما واجبان،
الا ان تحصيل العلم أوجب من تحصيل المال، واكتسابه أهم من اكتساب المال،
وهذا هو المستفاد من الأدلة العقلية والنقلية بأجمعها.
واما مقدار الواجب منهما فخلاصته: انه يجب من العلم ما يؤدى به
الواجبات الاعتقادية والعملية وما يخرج به من خوف الهلاك، ويجب من المال
قوته وقوت عياله، وكذا كل مال يتوقف عليه واجب مطلق أو واجب مشروط
حصل شرطه.
10

قد أمرتم بطلبه منهم فاطلبوه (2) واعلموا أن كثرة المال
مفسدة للدين، مقساة للقلوب، وأن كثرة العلم والعمل
به مصلحة للدين سبب إلى الجنة (3)، والنفقات تنقص
المال، والعلم يزكو على انفاقه (4) وإنفاقه بثه إلى حفظته
ورواته (5)

(2) إلى هنا رواها ثقة الاسلام قدس سره في الحديث 4 من الباب 1 من
كتاب العلم من الكافي بالسند الذي مر، رواها عنه الفيض الكاشاني (ره) في
المحجة البيضاء 1: 29، ط 2، وللمقام بقية يأتي الكلام عليها بعد الفراغ من
البحث الرجالي.
(3) قوله عليه السلام: مفسدة ومقساة ومصلحة واضرابهما، اما اسم
فاعل، أو اسم مكان، أو اسم آلة، وفى بعضها لا يحتمل بعض الوجوه، والظاهر أنها
(هنا) مصادر ميمية، أو اسم مصدر، وفيها من المبالغة (على هذا التقدير)
مالا يفي به البيان، حيث حذر عليه السلام من تكثير المال بأنه نفس الفساد
وعين القساوة فليحذره العقلاء، ورغب (ع) في الاكثار من العلم بأنه محض
الصلاح، وعين السبب الذي يجر إلى الجنة ويؤدي إلى جوار الصالحين ودار
الكرامة التي أعدها تبارك وتعالى للمقربين، فليغتنمه الصلحاء والعرفاء.
(4) وهذا قريب جدا مما ذكره (ع) في وصيته إلى كميل الآتية، من قوله
عليه السلام: يا كميل محبة العلم دين يدان الله به، به يكسب الانسان الطاعة
في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، وقوله (ع): العلم يزكو، أي ينمو ويزيد
بالانفاق، وانفاقه بذله لمستحقه، وإنما يزيد العلم بالانفاق مع أن الأشياء ينقص
به، لان بدل العلم لا ينفك عن التعمق فيه، والمباحثة مع التلميذ والراوي، ونفس
التكلم والتعمق فيه ومباحثته هو نماؤه، وهذا أمر جلي لمن صرف عمره في
تحصيل العلم والبحث مع ذويه في وقت ما.
(5) ومن قوله عليه السلام: واعلموا ان كثرة المال مفسدة للدين - إلى
هنا - مما تفرد بروايته الحسن بن علي بن شعبة (ره) في كتاب تحف العقول،
هذا بحسب النظر الابتدائي، واما النظر الدقيق فحاكم بأنهما معا اشتركا في
نقل جميع الوصية، إذ ديدن الكليني (ره) والفقهاء تفريق جملات الروايات على
الأبواب المناسبة، فالكليني (ره) لما فرق فقرات الوصية الشريفة على أبواب
الفقه، بقيت هذه القطعة مغفولا عنها.
11

واعلموا أن صحبة العالم (6) واتباعه دين يدان الله
به (7) وطاعته مكسبة للحسنات، ممحاة للسيئات،
وذخيرة للمؤمنين، ورفعة في حياتهم (8)، وجميل الأحدوثة

(6) وفى بعض نسخ الكافي: واعلموا أن محبة العالم وأتباعه دين.. الخ.
قال الفيض (ره): العالم هنا يحتمل معنيين: أحدهما الامام المعصوم، والثاني
الأعم منه ومن كل عالم عامل بعلمه، والأول أظهر.
(7) المراد من الدين هنا: الطريقة، هذا ان قرئ بكسر الدال على ما هو
الظاهر، ويحتمل فتح الدال أيضا، وهو - بالفتح - بمعنى القرض المؤجل،
وقوله (ع): يدان الله به، اما ان يقصد به الجزاء كما في قولهم: كما تدين تدان
ودان فلانا أي جازاه، واما ان يقصد به الطاعة كما قالوا دان زيد الخليفة أي
أطاعه.
وعلى التقديرين الفعل من باب باع، ولكن المراد يختلف، (فعلى الوجه
الأول) فمعناه: ان الله يجزى بمحبة العالم أو بصحبته، أي ان جزاء نعم الله
وشكر آلاء الله تبارك وتعالى هو صحبة العالم أو محبته.
كما في الحديث المعتبر: الصوم لي وأنا أجزى به، وفيه من المبالغة مالا
يحيط به البيان، (واما على الوجه الثاني) فمعناه: أن محبة العالم أو صحبته
دين أي طريق يطاع الله به، وفيه حث على اتباع العالم والتمسك بذيل محبته،
بأن اتباعه عين اتباع الله وإطاعته، فيكون الكلام نظير الآية 79 من النساء: من
يطع الرسول فقد أطاع الله الخ.
وعلى التقديرين تتجلى صحة ما قاله المحقق الكاشاني (ره): من أن المراد
من العالم - هنا - على الأظهر هو الامام المعصوم.
(8) وفى بعض نسخ الكافي: ورحمة فيهم في حياتهم، وجميل بعد مماتهم.
12

عنهم بعد موتهم (9)، وأن العلم (10) ذو فضائل كثيرة،
فرأسه التواضع، وعينه البراءة من الحسد، وأذنه الفهم،
ولسانه الصدق، وحفظه الفحص، وقلبه حسن النية،
وعقله معرفة الأسباب بالأمور، ويده الرحمة، وهمته
السلامة، ورجله زيارة العلماء، وحكمته الورع، ومستقره
النجاة، وقائده العافية، ومركبه الوفاء، وسلاحه لين
الكلام، وسيفه الرضا، وقوسه المداراة، وجيشه محاورة

(9) من قوله (ع): واعلموا أن صحبة العالم، إلى قوله (ع): وجميل
الأحدوثة عنهم بعد موتهم - رواه في الحديث 14 من الباب 8 من الكتاب 4 من
الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم
عن أبي حمزة عن أبي إسحاق، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام
قال: قال أمير المؤمنين: وأعلموا أن صحبة (محبة خ ل) العالم الخ.
(10) شبه (ع) العلم بشخص كامل روحاني له أعضاء وقوى كلها روحانية
بعضها ظاهرة، وبعضها باطنة، فالظاهرة كالرأس والعين والاذن واللسان واليد
والرجل، والباطنة كالحفظ واللب والعقل والهمة والحكمة، وله مستقر روحاني
ومركب وسلاح وسيف وقوس وجيش ومال وذخيرة وزاد ومأوى ودليل ورفيق
وكلها أمور معنوية، ثم أنه عليه السلام بين انطباق هذا الشخص الروحاني
بجميع أجزائه على هذا الهيكل الجسماني اكمالا للتشبيه، وإفصاحا بأن العلم
إذا استقر في قلب انسان يملك جميع جوارحه، ويظهر آثاره من كل منها،
فرأس العلم - وهو التواضع - يملك هذا الرأس الجسداني ويخرج منه التكبر
والنخوة التي هو مسكنها، ويستعمله فيما يقتضيه التواضع من الانكسار
والتخشع، فكما ان الرأس البدني بانتفائه تنتفي حياة البدن، فكذا بانتفاء
التواضع عند الخالق والخلائق تنتفي حياة العلم، فهو كجسد بلا روح، ولا
يصير مصدرا لاثر، وهاتان الجهتان ملحوظتان في جميع الفقرات.
13

العلماء، وماله الأدب، وذخيرته اجتناب الذنوب،
وزاده المعروف، ومأواه الموادعة، ودليله الهدى، ورفيقه
صحبة الأخيار.
انتهى
وقد تبين مما تقدم ان الكليني رحمه الله، يروي الوصية الشريفة،
تارة من طريق سهل بن زياد عن رجال أبي إسحاق عن أمير المؤمنين (ع)،
وأخرى يرويها من طريق أحمد بن محمد بن عيسى، عن رجال أبي إسحاق
أيضا، عن أمير المؤمنين (ع) كما في الحديث: 4 من الباب 1 من كتاب
فضل العلم من الكافي.
وثالثة من طريق إبراهيم بن هاشم، عن رجال أبي إسحاق عنه (ع)
كما في الحديث: 14 من الباب 8 من كتاب الحجة من الكافي.
ورابعة يرويها من طريق أحمد بن محمد بن عيسى (ره)، عن الإمام الصادق
(ع)، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في الحديث: 2 من
باب النوادر من فضل العلم من الكافي فإنه روى قوله: و (اعلموا) ان
العلم ذو فضائل كثيرة، (إلى آخر الوصية الشريفة) عن عدة من أصحابنا،
عن أحمد بن محمد، عن نوح بن شعيب النيسابوري، عن عبيد الله بن عبد الله
الدهقان عن درست بن أبي منصور، عن عروة ابن أخي (أخت خ) شعيب
العقرقوفي، عن شعيب، عن أبي بصير، قال: سمعت (الامام) الصادق
عليه السلام يقول: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: يا طالب العلم - إلى
آخر ما تقدم.
أقول: ورواها أيضا بأسرها علي بن حسن بن شعبة (ره) في المختار:
25 من كلام أمير المؤمنين (ع) في كتابه تحف العقول، 137، ط النجف،
14

وفي ط ص 199.
ورواها عنه في الحديث 40 من الباب 1 من أبواب فضل العلم من البحار:
1، 56، ط الكمباني.
* * *
هنا أبحاث
البحث الأول:
حول رجال السند على سبيل الاختصار، ونقدم الأول فالأول على
حسب ما ذكرناه، فنقول:
أما علي بن محمد، فهو مشترك بين جماعة من أجلاء مشايخ الكليني
أعلى الله مقامه، وكفاهم بذلك جلالة وعظمة وفخامة ومكرمة.
وأما غيره (الذي عطفه الكليني رحمه الله على علي بن محمد) فهو غير
غير مشخص عندي فعلا، وأيضا وحدته وتعدده غير معلوم لدي، ولعله
متعدد، فلابد من الرجوع إلى القرائن.
واما سهل بن زياد الادمي المكنى بأبي سعيد، فقد قال شيخ الطائفة
رحمه الله: انه ثقة من أهل الري، وفاز بلقاء الإمام الجواد والعسكريين
عليهم السلام. ومما يدل على عظمته وكونه في أعلى مراتب الثقة، انه معدود
من مشايخ الإجازة، وكذلك كثرة رواياته المعمول بها عند أصحابنا، وشدة
عنايته بنقل الاخبار السديدة عن المعصومين (ع) يرشدنا إلى جلالته والوثوق
به، وأيضا اكثار العلماء من الرواية عنه يسوقنا إلى الاعتراف والاذعان
15

بديانته، وانه من المعتمدين الذين يركن إليهم، لا سيما إذا نظرنا إلى صنيع
ثقة الاسلام الكليني رحمه الله فإنه قد شحن كتابه الشريف (الكافي) بالنقل
منه، والرواية عنه، مع العلم بغاية احتياطه، واجتنابه الرواية من المتهمين،
خصوصا إذا لو حظ تصريحه وقوله في مقدمة الكافي: ان فيه من جميع فنون
الدين ما يكتفي به المتعلم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم
الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام، والسنن
القائمة التي عليها العمل، (انتهى المهم من محصل كلامه وملخصه، رفع
الله درجاته في عليين).
وأما محمد بن يحيى أبو جعفر العطار الأشعري القمي فهو أستاذ الكليني
(ره)، وقد أكثر من الرواية عنه، وذكره الشيخ (ره) في باب من لم يرو
عن الأئمة عليهم السلام (1) فقال: قمي كثير الرواية، روى عنه الكليني
رحمة الله عليهما. وقال النجاشي (ره): محمد بن يحيى أبو جعفر العطار
القمي شيخ أصحابنا في زمانه، ثقة عين كثير الحديث، له كتب، منها كتاب
مقتل الحسين، وكتاب النوادر، أخبرني عدة من أصحابنا عن ابنه احمد
عن أبيه بكتبه.
واما أحمد بن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص
ابن السائب بن مالك بن عامر الأشعري من بني ذخران بن عوف الجماهر ابن
الأشعر، فهو كان (ره) شيخ الشيوخ، ورئيس علماء الفرقة المحقة وأهل
الرسوخ، وتشرف بلقاء الإمام الرضا وابنه أبي جعفر الثاني عليهما السلام،
وكان رحمه الله أحد الشهود على أبي جعفر الجواد عليه السلام بالإمامة

(1) قيل: هذا اصطلاح، يعني انهم إذا أرادوا ان يبينوا ان فلانا لم يعاصر
الأئمة (ع) أو لم يرو عنهم (ع) بلا واسطة، يقولون لم يرو عنهم (ع).
ويؤيده انهم أطلقوا هذه العبارة على من أكثر النقل والرواية عنهم (ع)
بالواسطة كشيخنا المترجم هنا المجمع على عدالته وثقته.
16

والوصاية من قبل أبيه الإمام الرضا عليه السلام. وقد جمع الله تعالى لأحمد
ابن محمد هذا، رئاسة الدين والدنيا، وكان شيخا فقيها، وعينا وجيها
من علماء قم، وكان وافدهم إلى الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، وقد
اتفقت كلمة الأصحاب على عدالته وجلالته، وانه من الأركان.
واما ابن محبوب فهو كابن عيسى، رفيع المقام، عظيم المنزلة، جليل
القدر، منيع الساحة، محبوب الطائفة الحقة.
قال الشيخ (ره): الحسن بن محبوب السراد، ويقال له: الزراد
أيضا، ويكنى أبا علي، مولى بجيلة، كوفي ثقة، روى عن أبي الحسن
الرضا (ع) وعن ستين رجلا من أصحاب أبي عبد الله (ع)، وكان جليل القدر،
يعد في الأركان الأربعة في عصره. وله كتب كثيرة، منها كتاب المشيخة،
كتاب الحدود، كتاب الديات، كتاب الفرائض، كتاب النكاح، كتاب الطلاق،
كتاب النوادر نحو الف ورقة، أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدة من أصحابنا
عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، عن أبيه، عن
سعد بن عبد الله، عن الهيثم بن أبي مسروق، ومعاوية بن حكيم، وأحمد ابن
محمد بن عيسى، عن الحسين بن محبوب.
وقريب منه عن آية الله العلامة في الخلاصة، وابن داود في رجاله.
وقريب منهما عن السيد ابن طاوس (ره). وكلهم أرخوا ووفاته في آخر سنة
أربع وعشرين ومأتين.
وقال ابن إدريس (ره) في مستطرفات السرائر: ان كتاب المشيخة
تصنيف الحسن بن محبوب السراد صاحب (الامام) الرضا عليه السلام،
وهو ثقة عند أصحابنا، جليل القدر، حسن الرواية، أحد الأركان الأربعة
في عصره وكتاب المشيخة معتمد.
واما هشام بن سالم الجواليقي الجعفي العلاف مولى بشر بن مروان
17

أبو محمد أو أبو الحكم، فهو من أصحاب الإمام الصادق والإمام الكاظم
عليهما السلام، قال النجاشي رحمه الله: هشام بن سالم الجواليقي مولى
بشر بن مروان أبو الحكم، كان من سبي الجوزجان ثقة ثقة، روى عن أبي
عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام، وله كتاب يرويه جماعة، أخبرنا محمد
ابن عثمان قال حدثنا جعفر بن محمد، قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد، قال:
حدثنا ابن أبي عمير عنه بكتابه وكتابه الحج، وكتابه التفسير، وكتابه المعراج.
وقريب منه عن شيخ الطائفة (ره) في الفهرست، وآية الله العلامة في
الخلاصة، وجميع من تأخر عنهم فإنهم اطبقوا على توثيقه.
والمحكى عن السيد ابن طاوس (ره) في التحرير الطاوسي أنه قال: ان
هشام بن سالم صحيح العقيدة، معروف الولاية، غير مدافع.
وأما أبو حمزة، فهو ثابت بن أبي صفية المتوفى سنة خمسين ومأة ه‍،
قال النجاشي رضوان الله عليه: ثابت بن أبي صفية أبو حمزة الثمالي مولى
كوفي ثقة، واسم أبي صفية: دينار، وكان آل المهلب يدعون ولاءه وليس
من قبلهم، لأنهم من العتيك.
قال محمد بن عمر الجعابي: ثابت بن دينار، مولى المهلب بن أبي صفرة،
وأولاده نوح ومنصور وحمزة قتلوا مع زيد، لقى علي بن الحسين وأبا
جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسن عليهم السلام، وروى عنهم، وكان من خيار
أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم، في الرواية والحديث، وهو رحمه الله ممن يروى
عنه العامة.
وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: أبو حمزة في زمانه مثل
سلمان في زمانه، وله (ره) كتب، وتوفي سنة خمسين ومأة.
وقال ابن النديم في الفهرست، في عنوان الكتب المصنفة في التفسير:
ومنها كتاب تفسير أبي حمزة، واسمه ثابت بن دينار، وكنية دينار: أبو صفية
18

وكان أبو حمزة من أصحاب علي بن الحسين عليه السلام من النجباء الثقاة،
وصحب أيضا أبا جعفر عليه السلام.
وأما أبو إسحاق السبيعي المتوفى 127 وقيل 128، وقيل 129، فهو
كنية عمرو بن عبد الله بن علي الكوفي الهمداني من أجلاء التابعين، قال معلم
الأمة الشيخ المفيد رضوان الله عليه في كتاب الاختصاص ص 83، ط 2:
روى محمد بن جعفر المؤدب: ان أبا إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي
صلى أربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة، وكان يختم القرآن في كل
ليلة، ولم يكن في زمانه أعبد منه، ولا أوثق في الحديث عند الخاص والعام،
وكان من ثقات علي بن الحسين (ع)، وولد في الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين
عليه السلام (2) وقبض وله تسعون سنة، وهو من همدان، اسمه عمرو بن
عبد الله بن علي ابن ذي حمير بن السبيع بن يبلع الهمداني، ونسب إلى السبيع
لأنه نزل فيهم.
وقال المحدث القمي: وكان أبو إسحاق المذكور ابن أخت يزيد بن
حصين من أصحاب الحسين (ع)، وله رواية مرفوعة عن النبي صلى الله عليه
وآله أنه قال: ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والآخرة: تصل من قطعك
وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
وكان له مسجد معروف بالكوفة، قرأ ابن عساكر فيه الحديث سنة
501 (3) على الشريف أبي البركات عمر العلوي.

(2) هذا سهو من قلمه الشريف لاستفاضة النقل من الخاصة والعامة
عن أبي إسحاق أنه قال: رفعني أبي على يديه فرأيت عليا يخطب على المنبر
وهو شيخ أبيض الرأس واللحية، كما في البحار والمعجم للطبراني، ووفيات ابن
خلكان وآخر ترجمته (ع) من أسد الغابة. ويجئ أيضا في كلام ابن حجر من
تذكرة الحفاظ.
(3) هذا لا يلائم ما ذكره في معجم الأدباء من ولادة ابن عساكر في سنة
499، بل قيل إن ابن عساكر نفسه أيضا أرخ ولادته بسنة 499 ه‍.
19

قال صاحب رياض العلماء: وكان له ولد اسمه يونس كان محدثا زاهدا
مثله، توفى سنة 160، ولولده يونس ولد اسمه إسرائيل، كان عابدا زاهدا
توفي سنة 164. انتهى ما عن المحدث القمي.
قال أبو الفرج قيل لأبي إسحاق: متى ذل الناس، فقال: حين مات
الحسن وادعي زياد، وقتل حجر بن عدي. وقال أبو الفرج أيضا: قال
عمرو بن ثابت: كنت اختلف إلى أبي إسحاق السبيعي سنة أسأله عن الخطبة
التي خطب بها الحسن بن علي عليه السلام عقيب وفاة أبيه، ولا يحدثني بها
فدخلت عليه في يوم شات وهو في الشمس وعليه برنسه فكأنه غول، فقال
لي: من أنت؟ فأخبرته، فبكى وقال: كيف أبوك وكيف أهلك؟ قلت:
صالحون، قال: في أي شئ تتردد منذ سنة؟ قلت في خطبة الحسن بن علي
بعد وفاة أبيه.
وقال ابن أبي الحديد: فاما أبو إسحاق السبيعي فقال: ان معاوية قال
في خطبته بالنخيلة: ألا ان كل شئ أعطيته الحسن بن علي، تحت قدمي
هاتين، لا أفي به، قال أبو إسحاق: وكان والله غدارا.
وقال في تذكرة الحفاظ: 1، 107، وفي ط: 101 -: أبو إسحاق
السبيعي عمرو بن عبد الله الهمداني الكوفي الحافظ، أحد الاعلام، رأى عليا
رضي الله عنه وهو يخطب، وروى عن زيد بن أرقم، وعبد الله بن عمرو،
وعدي بن حاتم، والبراء بن عازب، ومسروق، وخلق كثير، يقال: حدث
عن ثلاثمائة شيخ، وروى عنه الأعمش، وشعبه والثوري وإسرائيل وزهير
وأبو الأحوص وزائدة وشريك وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة وخلائق وكان قد قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي والأسود بن يزيد، عرض
عليه حمزة الزيات وقد غزا الروم في خلافة معاوية وقال: سألني معاوية كم
عطاء أبيك؟ قلت: ثلاث مائة، فقرضها لي. وقيل إنه سمع من ثمانية وثلاثين
20

صحابيا، قال أبو حاتم: ثقة يشبه الزهري في الكبر، وهو أحفظ من أبي
إسحاق الشيباني، قال فضيل بن غزوان: كان أبو إسحاق يختم في كل ثلاث،
وقيل كان صواما قواما متبتلا من أوعية العلم، ومناقبه غزيرة، قال احمد
ابن عبده: سمعت أبا داود الطيالسي يقول: وجدنا الحديث عند أربعة:
الزهري وقتادة وأبي إسحاق والأعمش، فكان قتادة اعلمهم بالاختلاف،
والزهري اعلمهم بالاسناد، وأبو إسحاق اعلمهم بحديث علي وابن مسعود،
وكان عند الأعمش من كل هذا، ولم يكن عند واحد من هؤلاء الا الفين الفين،
قال يحيى القطان: توفي أبو إسحاق السبيعي سنة سبع وعشرين ومأة،
يوم دخل الضحاك بن قيس الكوفة، وكذا أرخه جماعة، وشذ أبو نعيم
فقال: سنة ثمان وعشرين، قال مغيرة: كنت إذا رأيت أبا إسحاق ذكرت
به الضرب الأول، قال أحمد بن عمران الأخنسي، أنا أبو بكر بن عياش،
سمعت أبا إسحاق يقول: ما أفلت عيني غمضا منذ أربعين سنة، قال ابن
عيينة: قال عون بن عبد الله لأبي إسحاق: ما بقي منك؟ قال: أصلي فاقرأ
البقرة في ركعة، قال ذهب شرك وبقى خيرك، وقال أبو الأحوص عن أبي
إسحاق: قد كبرت وضعفت، ما أصوم الا ثلاثة أيام من الشهر والاثنين
والخميس والشهور الحرم.
وقع لي عدة أحاديث من عوالي أبي إسحاق منها: أنبأنا أحمد بن سلامة
وغيره عن عبد المنعم بن كليب، أخبرنا علي بن بيان، انا ابن مخلد، أنا
إسماعيل الصفار، أنا الحسن بن عرفة، حدثني أبو بكر بن عياش، عن أبي
إسحاق، عن البراء، قال: خرج رسول الله عليه وآله وسلم وأصحابه،
فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال: اجعلوا حجكم عمرة فقالوا: قد أحرمنا
بالحج وكيف نجعلها عمرة؟ فقال: انظروا الذي آمركم به فافعلوا، فردوا
عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فرأت الغضب
21

في وجهه، فقالت: من أغضبك أغضبه الله، فقال: ومالي لا أغضب وأنا آمر
بالامر فلا اتبع.
وروى عن ميزان الذهبي أنه قال في حق أبي إسحاق: هو من أئمة
التابعين بالكوفة، وأثباتهم.
وحكى عن التقريب أنه قال: ان أبا إسحاق ثقة مكثر عابد.
هذا كله مختصر الكلام في الطريق الأول، والثاني.
واما الطريق الثالث الذي هو واسطة بين ثقة الاسلام الكليني (ره)
وبين أبي إسحاق الراوي عن الحارث الأعور - على ما اخترنا - الذي سمع
هذه الوصية من أمير المؤمنين عليه السلام فأولهم: هو شيخ الكليني وأستاذه
الذي جل نفائس الكليني وبضاعته الرابحة منه، وهو علي بن إبراهيم بن
هاشم القمي، قال النجاشي (ره): علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، أبو
الحسن القمي ثقة في الحديث ثبت متعمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر،
وصنف كتبا، وأضر في وسط عمره، وله كتاب التفسير، كتاب الناسخ
والمنسوخ، كتاب قرب الإسناد، كتاب الشرائع، كتاب الحيض، كتاب
التوحيد والشرك، كتاب فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، كتاب المغازي،
كتاب الأنبياء، رسالة في معنى هشام ويونس، جوابات مسائل سأله عنها
محمد بن بلال، كتاب يعرف بالمشذر، الله أعلم انه مضاف إليه.
أخبرنا محمد بن محمد وغيره، عن الحسن بن حمزة بن علي بن عبيد الله
قال: كتب إلي علي بن إبراهيم بإجازة سائر حديثه وكتبه.
وقريب منه عن الشيخ (ره) في الفهرست، ونقل عن كتاب أعلام الورى
أنه قال: علي بن إبراهيم من أجل رواة أصحابنا.
وبالجملة عدالته ومناعة محله غير خفي على أولى الألباب، وقد اتفقت
عليها كلمة الأصحاب.
22

واما أبوه إبراهيم بن هاشم فعند المحصلين (الذين يدركون من عمل
الأشخاص بواطنه وما انطوت عليه سريرته) لا يقل في الرتبة عن ابنه علي،
بل هو الأصل، وابنه من ثمرات تلك الشجرة الطيبة، وصدقة من صدقاته،
لا سيما إذا أمعنا النظر فما ثبت من المعصومين عليهم السلام من قولهم:
اعرفوا منازل الرجال بقدر روايتهم عنا وفهمهم منا، وقد وردت بهذا المضمون
روايات ستة - على ما اطلعت عليه -، مع العلم بأن كثيرا من الروايات
- على الخصوص روايات الكافي - مروية عنه بواسطة ابنه علي، ومخصوصا
إذا تأملنا ما نقله الشيخ والنجاشي (ره) من قولهما: وأصحابنا يقولون:
أول من نشر حديث الكوفيين بقم هو أبو إسحاق القمي إبراهيم بن هاشم
وكان كوفي الأصل فانتقل إلى قم. انتهى ما عن الشيخ والنجاشي نقلا بالمعنى.
فان كنت قاصرا عن ادراك شواهد البواطن والأحوال من الاعمال، وكنت
متعبدا بقول أهل الخبرة: فلان ثقة، وفلان عدل، فنقول:
قد وثقه ابنه في أول تفسيره، وكذلك ادعى الاجماع على وثاقته السيد
ابن طاوس (ره) في الفصل التاسع عشر من كتاب فلاح السائل 158 ط 1.
وأجمع المحققون من المتأخرين أيضا على توثيقه، كالمجلسيين، ووالد
الشيخ بهاء الدين، والمحقق الأردبيلي، والمحقق الهمداني في كتاب الزكاة
من المصباح، وغيرهم قدس الله أسرارهم.
ونحن نقول كما قال المحقق الداماد: مدح الأصحاب إبراهيم بن هاشم
بأنه أول من نشر حديث الكوفيين بقم، كلمة جامعة، وكل الصيد في
جوف الفراء.
نعم جميع مراتب كمالاته الظاهرية والباطنية باعتقاد معاصريه منطو في
هذه الجملة التي مدحوه بها، بعد ملاحظة معاملة القميين من أرباب الحديث
وطعنهم في الاجلاء بأدنى شئ، فالرجل في أعلى مراتب العدالة، وهو في
23

حد ذاته أجل من أن يحتاج إلى الموثق.
واما الطريق الرابع الذي روى عنهم الكليني (ره) في الحديث 2، من
باب النوادر، من فضل العلم، من الكافي، بقوله: عدة من أصحابنا الخ،
فالعدة هنا: من رجال أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري - دون البرقي -
وهم (بناء على ما نقله الأصحاب من نص الكليني رحمه الله):
علي بن إبراهيم صاحب التفسير. وأبو جعفر محمد بن يحيى العطار
الأشعري القمي. وأبو سليمان داود بن كورة القمي. وعلي بن موسى بن
جعفر الكمنداني (الكميداني خ) يعني القمي، وغيرهم.
ونظمهم العلامة الطباطبائي (ره) على ما حكى عنه وقال:
عدة أحمد بن عيسى بالعدد * خمسة أشخاص بهم تم السند
علي العلى والعطار * ثم ابن إدريس وهم أخيار
ثم ابن كورة وابن موسى * فهؤلاء عدة ابن عيسى
اما أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وعلي بن إبراهيم، ومحمد بن
يحيى العطار الأشعري، فقد مرت خلاصة القول في ترجمتهم.
واما أحمد بن إدريس بن أحمد، أبو علي الأشعري القمي المتوفى سنة
306 ست وثلاثمأة بالقرعاء من طريق مكة، فهو شيخ المحدثين، وأستاذ
المحصلين، وثقة الرواة، وعلم الهداة.
قال النجاشي (ره): أحمد بن إدريس بن أحمد، أبو علي الأشعري
القمي، كان ثقة فقيها في أصحابنا، كثير الحديث صحيح الرواية، له كتاب
النوادر، أخبرني عدة من أصحابنا إجازة عن أحمد بن جعفر بن سفيان عنه
ومات أحمد بن إدريس بالقرعاء، سنة ست وثلاثمأة، من طريق مكة على
طريق الكوفة.
وقال الشيخ (ره) في الفهرست: أحمد بن إدريس أبو علي الأشعري
24

القمي، كان ثقة في أصحابنا كثير الحديث صحيحه، وله كتاب النوادر
كتاب كبير كثير الفائدة، أخبرنا بسائر رواياته الحسين بن عبيد الله، عن أحمد
بن محمد بن جعفر بن سفيان البزوفري، عن أحمد بن إدريس، ومات
بالقرعاء (4) في طريق مكة، سنة ست وثلاثمأة.
وقال في الرقم: 37، من باب من لم يرو عن الأئمة عليهم السلام من
رجاله ص 444: أحمد بن إدريس القمي الأشعري: يكنى أبا علي، وكان
من القواد، روى عنه التلعكبري، قال: سمعت منه أحاديث يسيرة في دار
ابن همام، وليس لي منه إجازة.
وقال أيضا في باب الهمزة من أصحاب العسكري (ع): أحمد بن إدريس
القمي المعلم، لحقه عليه السلام، ولم يرو عنه.
واما أبو سليمان داود بن كورة القمي، فهو أيضا من مشايخ ثقة الاسلام
الكليني (ره)، وكفى للرجل مقاما ان يعد من مشايخ الكليني، ويكون هو
من خريجي مدرسته.
وقال الشيخ (ره) في الفهرست والرجال: داود بن كورة القمي بوب
كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن عيسى، وله كتاب الرحمة، مثل كتاب
سعد بن عبد الله.
وقال النجاشي (ره): داود بن كورة أبو سليمان القمي، وهو الذي
بوب كتاب النوادر لأحمد بن محمد بن عيسى، وكتاب المشيخة للحسن بن
محبوب السراد على معاني الفقه، وله كتاب الرحمة في الوضوء والصلاة
والزكاة والصوم والحج، أخبرنا محمد بن علي القزويني، قال: حدثنا احمد
ابن محمد يحيى قال: حدثنا داود به.

(4) القرعاء: منهل بطريق مكة، بين القادسية والعقبة.
25

واما علي بن موسى بن جعفر الكمنداني (ره) (5)، فهو أيضا من مشائخ
الكليني والصدوق الأول (ره)، ولم نعرف من ترجمته غير هذا.
هذا خلاصة القول حول العدة التي يروي الكليني عنهم عن الأشعري.
واما نوح بن شعيب، فقد قيل: إنه البغدادي الذي ذكر الفضل بن
شاذان: انه كان فقيها عالما صالحا مرضيا. وقيل: إنه نوح بن صالح،
كما في رجال الشيخ في أصحاب الإمام الجواد عليه السلام. ووصفه بعضهم
بالخراساني، وقيل: انهما متعددان.
وأما عبيد الله بن عبد الله الدهقان، فعده الشيخ في الفهرست: 133
ط 2، من المصنفين، وقال: له كتاب رواه لنا ابن أبي جيد، عن ابن الوليد
عن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان.
واما درست بن أبي منصور، فقد ذكره الشيخ (ره) في رجاله في غير
مورد، وصرح انه واقفي. وذكره أيضا في الفهرست ص 94 وقال: درست
الواسطي، له كتاب، وهو ابن أبي منصور، أخبرنا بكتابه أحمد بن عبدون
عن علي بن محمد بن الزبير القرشي، عن أحمد بن عمر بن كيسبة، عن علي
ابن الحسن الطاطري، عنه. ورواه حميد، عن ابن نهيك عنه.
وقال النجاشي (ره): درست بن أبي منصور محمد الواسطي، روى
عن أبي عبد الله، وأبي الحسن عليهما السلام، ومعنى درست أي صحيح،
له كتاب يرويه جماعة، منهم: سعد بن محمد الطاطري، عم علي بن الحسن
الطاطري. منهم: محمد بن أبي عمير، أخبرنا الحسين بن عبيد الله، قال:
حدثنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا حميد بن زياد، قال: حدثنا محمد بن

(5) وضبطه بعضهم بالياء، وقال: انه المعروف في زماننا عند أهالي تلك
الديار. وقيل: انم اسم لبلدة قم في أيام الفرس، ولما فتحها المسلمون اختصروها
وخففوها وقالوا: قم.
26

غالب الصيرفي، قال: حدثنا علي بن الحسن الطاطري، قال حدثنا عمي سعد
ابن محمد أبو القاسم، قال: حدثنا درست بكتابه. وأخبرنا محمد بن عثمان
قال: حدثنا جعفر بن محمد، قال حدثنا عبيد الله بن أحمد بن نهيك، قال:
حدثنا محمد بن أبي عمير عن درست بكتابه.
وأما عروة فلم نعثر لحد الان، على ترجمة له.
وأما شعيب العقرقوفي، فعده الشيخ (ره) في رجاله من أصحاب الإمام الصادق
، والإمام الكاظم عليهما السلام. وقال في الفهرست، ص 108:
شعيب بن يعقوب العقرقوفي، ابن أخت أبي بصير، له أصل، أخبرنا الحسين
ابن عبيد الله، عن الحسن بن حمزة العلوي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه،
عن حماد بن عيسى، ومحمد بن أبي عمير، عنه. وأخبرنا بن ابن أبي جيد،
عن ابن الوليد، عن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، وعلي ابن السندي، عن
ابن أبي عمير، وحماد بن عيسى، عن شعيب.
وقال النجاشي (ره): شعيب ابن العقرقوفي أبو يعقوب، ابن أخت أبي
بصير (يحيى بن القاسم)، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه السلام،
ثقة عين، له كتاب يرويه حماد بن عيسى، وغيره.
أخبرنا عدة من أصحابنا، عن الحسن بن حمزة، قال: حدثنا ابن بطة
قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى
عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن شعيب به.
وذكر الكشي (ره) في ترجمته رواية تدل على أنه كان من حملة الاسرار
للإمام الصادق عليه السلام.
وأما أبو بصير، فهو يحيى بن القاسم الأسدي، بقرينة رواية شعيب
ابن أخته عنه، وهو (ره) وإن كان كثر الاختلاف فيه - وتحقيق حاله ونقض
الأباطيل التي وقعت من بعض يستدعي بسط الكلام - الا انا نكتفي بما
أفاده المحقق النجاشي (ره)، - فإنه، إذا قالت حذام فصدقوها - قال (ره):
27

يحيى بن القاسم أبو بصير الأسدي، وقيل: أبو محمد، ثقة وجيه، روى
عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع)، وقيل: يحيى ابن أبي القاسم، واسم
أبي القاسم إسحاق، وروى عن أبي الحسن موسى عليه السلام، له كتاب
يوم وليلة، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد
قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن شيبان، قال: حدثنا الحسن بن علي بن أبي
حمزة، عن أبي بصير بكتابه، ومات أبو بصير سنة خمس ومأة.
وروى الكشي عن ابن أبي عمير، عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت
لأبي عبد الله (ص): ربما احتجنا أن نسأل عن الشئ، ممن نسأل؟ قال: عليك
بالأسدي، يعني أبا بصير. كما في ترجمة أبي بصير ليث المرادي من رجال
الكشي ص 153. وحكي عن علي بن أحمد العقيقي أنه قال: يحيى بن
القاسم الأسدي مولاهم، ولد مكفوفا، رأى الدنيا مرتين، مسح أبو
عبد الله عليه السلام على عينيه، وقال: انظر ما ترى، قال: أرى كوة في البيت
وقد أرانيها أبوك من قبل.
وقال الشيخ المفيد في الإختصاص: 83، ط 2: ومن جملة أصحاب الإمام
الباقر عليه السلام أبو بصير يحيى بن أبي القاسم مكفوف، مولى لبني
أسد، واسم أبي القاسم إسحاق، وأبو بصير كان يكنى بأبي محمد.
البحث الثاني:
تعليق على قوله (ع): والعلم مخزون عليكم عند أهله، قد أمرتم
بطلبه منهم، الخ.
فان قيل: ما هو العلم الذي قال عنه أمير المؤمنين هنا: انكم قد أمرتم
بطلبه منهم، وورد أيضا في غير واحد من الاخبار ان طلبه فريضة على كل
مسلم؟ هل المراد منه مطلق الكشف والادراك القائم بالنفس، سواء أكان
المكشوف والمدرك من الأمور المعنوية المجردة، أم كان من الماديات؟ وبعبارة
أخرى: هل المراد من العلم الذي قد حث الشارع على طلبه، هو خصوص
28

علم المبدأ والمعاد، وعرفان الرب والنفس، أم المراد أعم منه ومن العلوم
التي فائدتها منحصرة في الحياة الدنيا، والاستنتاج والانتفاع من متاعها،
كالصنائع والرياضيات والهندسيات وغيرها؟
ربما ادعى بعض المشغوفين بنتائج الصنائع، القاصرين طرفهم على
لذات الماديات، البعيدين عن الكمالات المعنوية: ان المراد من العلم الذي
وقع التحضيض عليه، والترغيب فيه من الشارع هو معناه العام، ومفهومه
الشامل السعي المنطبق بحسب وضعه اللغوي على كل ادراك وكشف قائم
بالنفس، سواء كان المنكشف دنيويا أو أخرويا، وسواء أكان من المعنويات
والمجردات، أم من الماديات، وسواء أكان له مساس بعرفان الرب والنفس، أم لا
ولكن يقال في جواب أصل السؤال، وفي تفنيد قول من زعم أن المراد
من العلم مطلق إحاطة الفكر على الأشياء وخواصها ولوازمها ومنافعها:
ان المتأمل في الآثار الواردة عن الشارع، وحفاظ الشريعة، وأوعية
علم الله، يقطع بأن المراد من العلم المرغب فيه من جانب الشرع، هو العلم
الذي ينجي من الهلاك، ويقرب الانسان إلى الله، ويعرفه الرب، فيحمله
على اطاعته وإطاعة سفرائه وخلفائه، ويعرفه نفسه، فيحمله على التحلي
بالكمالات النفسانية، والتخلي عن الرذائل الأخلاقية.
وان من ادعى بالنظر البدوي: شمول العلم حتى للصنائع والفنون
المادية، فهو عن صراط الحق لناكب، وعن نيل الحقيقة لبعيد.
ومن تصفح آثار المعصومين، وتعمق فيها أدنى تعمق ينكشف له
جليا ان مرادهم من العلم الذي حثوا عليه، ورغبوا فيه غاية الترغيب، هو
علم المبدأ والمعاد، وان غيره ليس بعلم.
فالعلم في عرف الشرع، إذا أطلق مجردا عن القرينة يراد منه عرفان
مقام الربوبية والعبودية، وما يتبعهما من معرفة النبي والوصي، وما يقرب
29

إلى الله، وما يبعد عنه.
فان قيل: كيف يصح نفي العلم وسلبه عن الادراكات الفكرية المتعلقة
بالماديات، وهل هذا الا سلب الشئ عن نفسه، ونفى الشئ عن ذاته؟
قلنا: قد أغمضت النظر عن الاعتبارات العقلائية، والملاحظات العرفية،
وان الاعتبار أمر هين بملاحظة الاغراض المطلوبة من الأشياء جليلها وحقيرها
وانه قد ينزل وجود الشئ منزلة عدمه لأجل فقدانه النتيجة المطلوبة، أو
لما يترتب عليه من المضار والمفاسد، وانه قد ينزل المعدوم منزلة الموجود،
ارشادا إلى ما يترتب عليه أو يترقب منه في أزمنة وجوده، وذلك في العرفيات
فوق حد الاحصاء، وملحوظ عند جميع الأمم، على اختلاف آرائها
وألسنتها وأقطارها ومذاهبها، وقد اعتبره الشارع في أمور كثيرة، واستعمله
في كثير من المقامات.
وكفاك شاهدا لما ذكرنا الصوت السماوي، والنداء الملكوتي يوم بدر:
لا فتى الا علي، ولا سيف الا ذو الفقار.
وحسبك الخبر المعروف المشهور لدى الطائفتين، المروي في الكافي
والمعاني في الباب: 77 ص 141، وغيرهما من الكتب المعتبرة:
انه دخل رسول الله (ص) المسجد، فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال:
ما هذا؟ قالوا: علامة يا رسول الله، فقال: وما العلامة؟ قالوا: اعلم الناس
بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية وبالأشعار والعربية، قال فقال النبي
صلى الله عليه وآله: ذاك علم لا يضر من جهله ولا ينفع من علمه، ثم قال
النبي صلى الله عليه وآله: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة،
أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل. كما في الحديث 1 من الباب، 2،
من كتاب العلم، من الكافي ص 32، وكما في الحديث 6، من الباب 6،
من البحار: 1، 65.
30

وناهيك قول أمير المؤمنين عليه السلام: العالم من عرف قدره، ولم
يتعد طوره، وكفى بالمرء جهلا ان لا يعرف قدره، الخ. كما في المختار
99، من خطب نهج البلاغة، إلى غير ذلك من الشواهد التي لا تحصى.
فان سأل سائل وقال: ما مقصود أمير المؤمنين (ع) من أهل العلم،
في قوله: العلم مخزون عند أهله قد أمرتم بطلبه منهم؟ هل لعلم الدين أهل
مخصوص يجب الاخذ منهم فقط، أم ان علم الدين أيضا كسائر العلوم والصنائع
يجوز أخذه وتعلمه من كل من كان عالما به؟
قلنا: نعم لعلم الدين أهل مخصوص، علموا الدين وعقلوه عقل دراية
ورعاية، لاعقل سماع ورواية، ويجب الاخذ منهم، ولا يجوز التعدي
عنهم، لقول النبي صلى الله عليه وآله: لا تتأخروا عنهم فتهلكوا، ولا تتقدموهم
فتمرقوا.
فان قيل: ومن هم المنعوتون بهذه الصفات، وهل لعرفانهم من سبيل؟
قلنا: المنعوتون بهذه الصفات هم الذين أمر الله الناس بالكون معهم
في قوله: وكونوا مع الصادقين، وأمر بإطاعتهم أيض في قوله عز ممن قائل:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. ووصفهم بقوله: وتعيها
أذن واعية. وبقوله: ومن عنده علم الكتاب. ومدحهم بقوله: إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
فان قلت: لم يتضح المراد، فهل لك معرف وطريق آخر يكشف عن
مرادك جليا؟
قلنا: نعم لنا طرق كثيرة لتعريفهم، ونشير هنا إلى بعضها ونقول:
ان المراد من أهل علم الدين هو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله في
حقه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فيأت الباب، ومن أتاها
من غير بابها يعد سارقا.
31

نعم ان المراد من أهل علم الدين هو الذي قال رسول الله (ص) في حقه:
علي مع الحق، والحق معه، يدور معه حيثما دار.
نعم، ان المراد من أهل علم الدين هو الذي قال: علمني رسول الله
صلى الله عليه وآله الف باب من العلم، ينفتح من كل باب الف باب. وفي
طريق: ينفتح من كل باب الف الف باب.
نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي قال رسول الله (ص) في شأنه:
علي مع القرآن، والقرآن مع علي.
نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي كان في صهوات المنابر يضع يده
على صدره ويقول: هذا سفط العلم، هذا ما زقني به رسول الله زفا.
نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي كان يتنفس الصعداء ويقول:
- مشيرا إلى قلبه - ان ههنا لعلما جما، لو وجدت له حملة.
نعم، ان المراد من أهل العلم الذي يجب الاخذ عنه ولا يجوز التعدي
منه، هو من كان يصيح على الأعواد: سلوني قبل أن تفقدوني فاني بطرق
السماء أعلم مني بطرق الأرض.
نعم، ان علم الدين يجب ان يؤخذ ممن كان يقول: فوالله، لو أشاء
ان أخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت، ولكني أخاف
أن تشركوا في برسول الله، فأفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه.
نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي كان يقول: لو ثنيت لي الوسادة
وجلست عليها، لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل
بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، الخ.
نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي كان يقول: والله مامن آية
نزلت في بر أو بحر أو سفر أو حضر في جبل أو في سهل، الا وقد علمت
فيمن نزلت، وعلى ما نزلت، الخ.
32

نعم، ان المراد من أهل العلم هو الذي يحكي عن نفسه الشريفة بداية
أمره وحال صباوته، ويقول: ولقد كنت أتبع النبي اتباع الفصيل لامه،
وكنت أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان إذ
نزل على النبي الوحي، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذه رنة
الشيطان، أيس أن يعبد بعد ذلك، انك ترى ما أرى، وتسمع ما أسمع،
إلا انك لست بنبي، بل وزير، الخ.
نعم، ان أهل العلم هم الذين قال النبي (ص) مرة بعد أخرى في شأنهم:
اني تارك فيكم الثقلين، مان تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي،
انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، الخ.
نعم، يجب ان يقتبس العلم من الذين قال النبي في حقهم: مثل أهل
بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى.
نعم، يجب تحمل العلم من الذين شبههم النبي (ص) بنجوم الهداية
فقال: مثل أهل بيتي مثل نجوم السماء، كلما خوى نجم طلع نجم آخر، الخ.
نعم، أهل العلم هم الذين نعتهم النبي (ص) بقوله: ان في كل خلف من
أهل بيتي عدولا، ينفون عن هذا الدين تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين.
ان قلت: كل ما ذكرت جلي، وأدلته غير محصورة، ومن يريد النجاة
من الهلاك الدائم، والاتصال بالمقربين في جوار رب العالمين لا يترك عليا
وأولاده المعصومين، ولا يتوصل بغيرهم ممن يشك في نجاته، وقد قال الله
عز من قائل: أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يهدي الا ان يهدى
فمالكم كيف تحكمون.
ولكن هل يجوز في أمثال زماننا هذا، أخذ العلم وتحمله من كل متلبس
بالعلم وموصوف بالفقه، ولو لم يكن علمه مأخوذا من الكتاب والسنة،
بل كان مصدر فتياه القياس أو الرمل والأسطرلاب أو الاستخارة مثلا،
33

أو كان علمه متخذا من الكتاب والسنة، ولكن يكون منحرفا عقيدة أو عملا
أو تراكمت عليه ظلمات بعضها فوق بعض؟
وببيان آخر: هل يجوز اتباع كل عالم بالعلوم الشرعية، وتصديقه
بأن ما يقول هو حكم الله، وهل يجوز التحمل عنه والنقل عنه لغيره ولو لم
يكن هذا العالم المأخوذ منه عادلا أي عاملا بالواجبات، وتاركا للمحرمات،
أو ولو لم يكن علمه مأخوذا من الكتاب والسنة، أم جواز الاخذ والرواية،
والتصديق منوط وموقوف على أن يكون علم المفتي مأخوذا من الكتاب
الكريم، والسنة الصحيحة، ومشروط أيضا بصحة عقيدة المفتي، وكونه
عاملا بعلمه المعبر عنه بالعدالة؟
قلت: اما تحمل العلم - بمعنى تصديق العالم فيما يخبر عن الله -
فلا يجوز الا إذا كان العالم والمفتي من أهل الحق، وكان مخالفا لهواه،
ومطيعا لامر مولاه، وكان علمه مأخوذا من الكتاب والسنة المعتبرة، واما
تحمل العلم - بمعنى التعلم عن العالم بالعلوم الشرعية الاعتقادية والعملية،
والتلمذ عليه ثم النقل لغيره - فإن كان المتعلم قاصرا عن تشخيص الحق من
الباطل، والغث من السمين، عاجزا عن معرفة الصدق والصواب، فلا يجوز
له تعلم المسائل الاعتقادية أو العملية، ولا النقل من غير أهل الحق ممن كان
له انحراف اعتقادي أو عملي، لأنه لا يأمن الضلال والهلاك، واما لو كان
المتعلم راسخ القدم في العقائد، ثابت الأركان في عبادة الله، وبيده معرفة
الحق والباطل، وله حذاقة في خصوصيات الشريعة بحيث لا تحركه العواصف
ولا تكسره القواصف، فيجوز له التعلم من غير مستقيم الطريقة اعتقادا
وعملا، حيث إنه مأمون من الضرر، محفوظ من توجه الخطر، وكذا يجوز
له ان ينقل عنه لغيره، ويروي عنه إذا لم يوجب التباس الحق بالباطل،
واضلال عباد الله، والقسمان الأخيران وهما عدم جواز التلمذ والنقل في
34

صورة احتمال الضرر والاضلال، وجواز التعلم والرواية مع الامن من الضرر
والاضلال، قياساتهما معهما، فهما مستغنيان عن الاستدلال وإقامة البرهان
عليهما.
واما القسم لأول (أي عدم جواز تحمل العلم - الذي يعتبر فيه
التصديق والاذعان، أو الجري العملي عليه ونسبته إلى الشارع - من علماء
السوء من حيث الاعتقاد أو العمل) فإليك دليله.
1 - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله لا يقبض العلم انتزاعا
ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم ينزل عالم إلى عالم يصرف
عنه طلاب حطام الدنيا وحرامها، ويمنعون الحق أهله، ويجعلونه لغير أهله،
واتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فافتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (6).
2 - وقال صلى الله عليه وآله: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في
الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان،
فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم (7).
3 - وقال صلى الله عليه وآله: من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء
وملائكة الأرض (8).
4 - وقال صلى الله عليه وآله: تعلموا من عالم أهل بيتي، ومن تعلم
من عالم أهل بيتي تنجوا من النار، دعائم الاسلام: 1، 80.
5 - وقال صلى الله عليه وآله في الحديث المتواتر بين الفريقين: مثل

(6) الحديث 8، من الباب 14، من البحار: 1، 90، وقريب منه في
عقد الفريد: 1، 269، ط 2.
وكما في الحديث 20، من الباب 15، من البحار: 1، 99.
وكما في الحديث 41، من الباب 16، من البحار: 1: 101.
(7) الحديث 16، من الباب 16، من البحار 1، وقريب منه في دعائم
الاسلام: 81، ج 1.
(8) كما في الدعائم: 1، 96، ورواه العامة عن النبي (ص) وعن أمير
المؤمنين.
35

أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق (9).
6 - وقال صلى الله عليه وآله: أربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنساء،
والاستماع منهن، والاخذ برأيهن، ومجالسة الموتى، قيل: يا رسول الله!
وما هم؟ قال: كل ضال وحائر في الاحكام.
7 - وقال صلى الله عليه وآله: لا تجلسوا عند كل عالم الا عالم يدعوكم
من الخمس إلى الخمس، من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع،
ومن الرياء إلى الاخلاص، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرغبة إلى الزهد.
8 - وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: يا معشر شيعتنا والمنتحلين
مودتنا إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، تفلتت منهم الأحاديث
ان يحفظوها، وأعيتهم السنة أن يعوها، فاتخذوا عباد الله خولا وماله
دولا، فذلت لهم الرقاب، وأطاعهم الخلق أشباه الكلاب، ونازعوا الحق
أهله، وتمثلوا بالأئمة الصادقين، وهم من الكفار الملاعين، فسئلوا عما
لا يعلمون فأنفوا ان يعترفوا بأنهم لا يعلمون، فعارضوا الدين بآرائهم،
فضلوا وأضلوا، أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولى بالمسح
من ظاهرهما.
9 - وقال (ع) تعلموا العلم قبل أن يرفع، أما إني لا أقول: هكذا
(ورفع عليه السلام يده) ولكن يكون العالم في القبيلة فيموت فيذهب بعلمه
ويكون الاخر في القبيلة فيموت فيذهب بعلمه، فإذا كان ذلك اتخذ الناس
رؤساء جهالا يفتون بالرأي، ويتركون الآثار فيضلون ويضلون فعند ذلك
هلكت هذه الأمة. دعائم الاسلام: 1، 96.
10 - وقال (ع): من دخل في الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما
أدخلوه فيه، ومن دخل فيه بالكتاب والسنة، زالت الجبال قبل أن يزول.

(9) ورواه في دعائم الاسلام: 1، 80 بلفظ: منزلة أهل بيتي فيكم، الخ.
36

كما في مقدمة الرسالة السعدية لآية الله العلامة الحلي (ره)، ولكن لم يحضرني
الان، ولكن هذا اللفظ للإمام الصادق عليه السلام كما في الحديث 66، من
كتاب العلم، من البحار: 1، 68 (10).
11 - وقال السبط الشهيد صلوات الله عليه: مجاري الأمور والاحكام
على أيدي العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه، الخ (11).
12 - وقال سيد الساجدين الإمام زين العابدين عليه السلام، في كلام
طويل: الرجل كل الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لامر الله، وقواه مبذولة
في رضى الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل،
ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم، في دار لا تبيد
ولا تنفد، وان كثير ما يلحقه من سرائها ان اتبع هواه يؤديه إلى عذاب
لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل، نعم الرجل، فيه فتمسكوا، وبسنته
فاقتدوا، والى ربكم به فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة
كما في الحديث 10، من الباب 14، من كتاب العلم، من البحار: 1، 91.
13 - وقال الإمام الباقر عليه السلام: أما إنه ليس عند أحد من الناس
حق ولا صواب الا شئ أخذوه منا أهل البيت، ولا أحد من الناس يقضي
بحق وعدل وصواب الا مفتاح ذلك القضاء وبابه وأوله وسببه علي بن أبي
طالب عليه السلام، فإذا اشتبهت عليهم الأمور، كان الخطأ من قبلهم،
والصواب من قبل علي بن أبي طالب عليه السلام.

(10) ان قلت: فعلى هذا لاوجه لنسبته إلى أمير المؤمنين عليه السلام
بل اللازم روايته عن الإمام الصادق (ع) قلنا: نسبناه إلى أمير المؤمنين (ع)
لوجهين. الأول: ان المغايرة بينهما لا تكون الا في ألفاظ طفيفة، ونقل الحديث بالمعنى
جائز باتفاق أهل العلم. الثاني: ما ثبت من طريق أهل البيت (ع) من جواز نسبة
ما ثبت عن بعضهم إلى البعض الاخر منهم.
(11) كما في المختار 1 من كلمه (ع) في تحف العقول.
37

14 - وقال (ع): كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل.
15 - وقال عليه السلام: إنا أهل بيت من علم الله علمنا ومن حكمه
أخذنا. ومن قول الصادق سمعنا، فان تتبعونا تهتدوا.
16 - وروى الشيخ المفيد (ره) في الاختصاص: 31، ط 2، أنه قال
عليه السلام: كل شئ لم يخرج من هذا البيت فهو وبال.
17 - وسأله زرارة عن قول أمير المؤمنين (ع) " سلوني عما شئتم،
ولا تسألوني عن شئ الا أنبأتكم به ".
فقال: أنه ليس أحد عنده علم شئ الا خرج من عند أمير المؤمنين،
فليذهب الناس حيث شاؤوا فوالله ليأتين الامر هاهنا (12).
18 - وقال (ع) في تفسير قوله تعالى: فلينظر الانسان إلى طعامه،
أي إلى علمه الذي يأخذه عمن يأخذه (13).
19 - وقال عليه السلام: أما انه ليس عند أحد علم ولا حق ولا فتيا،
الا شئ أخذ عن علي بن أبي طالب، وعنا أهل البيت، وما من قضاء يقضى
به بحق وصواب الا بدء ذلك ومفتاحه وسببه وعلمه من علي ومنا، فإذا
اختلف عليهم أمرهم قاسوا وعملوا بالرأي، وكان الخطأ من قبلهم إذا قاسوا
وكان الصواب إذا اتبعوا الآثار من قبل علي عليه السلام (14).
20 - وروى بشير الدهان، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال:

(12) الحديث 33 من الباب، من كتاب العلم، من البحار: 1.
قال المجلسي (ره) قوله (ع): ليأتين، بفتح الياء ورفع الامر، أي يأتي
الامر وما يتعلق بأمور الخلق إلى صدورنا، ويهبط الينا، ويحتمل نصب الامر
فيكون ضمير الفاعل راجعا إلى كل أحد من الناس، أو كل من أراد اتضاح الامر.
(13) الحديث 6 من رجال الكشي (ره) ص 11.
(14) الحديث 35، وقريب منه في الحديث 34، من الباب، من كتاب
العلم، من البحار: 1.
38

لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا، يا بشير ان الرجل منكم إذا لم يستغن
بعلمه، احتاج إليهم، فإذا أحتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم،
كما في الحديث: 58 من الباب 6، من كتاب العلم، من البحار: 1، 68.
21 - وقال عليه السلام: كذب من زعم أنه يعرفنا وهو مستمسك
بعروة غيرنا. كما في الحديث: 7 و 48 من الباب، من كتاب البحار: 1، 68.
22 - وقال عليه السلام: ان العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أن الأنبياء
لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ
شيئا منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فان
فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال
المبطلين، وتأويل الجاهلين.
23 - وقال علي بن سويد: كتب إلي أبو الحسن موسى بن جعفر
عليه السلام وهو في السجن: لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك
ان تعديتهم أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله، الخ، كما
في الحديث: 4 من رجال الكشي، والحديث: 2 من الباب 6، من كتاب
العلم، من البحار: 1.
24 - وروى ثقة الاسلام قدس سره في الحديث: 95 من روضة الكافي
معنعنا، انه عليه السلام أجاب كتاب علي بن سويد بمطالب جمة إلى أن
قال (ع) فاستمسك بعروة الدين آل محمد، والعروة الوثقى الوصي بعد
الوصي، والمسالمة لهم، والرضا بما قالوا، ولا تلتمس دين من ليس من
شيعتك، ولا تحبن دينهم فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا
أماناتهم، الخ (15).
25 - وقال الإمام الجواد عليه السلام: من اصغي إلى ناطق فقد عبده

(15) وقال العلامة المجلسي: ان للحديث سنة طرق صحيحة.
39

فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس
فقد عبد إبليس. (16).
26 - وكتب الإمام الهادي عليه السلام، إلى أحمد بن حاتم بن
ماهويه وأخيه:
فاعتمدا في دينكما على مسن في حبتكما (على كبير في حبنا خ ل)
وكل كثير القدم في أمرنا، فإنهم كافو كما انشاء الله تعالى. (17).
27 - وقال الإمام العسكري عليه السلام، في حديث طويل: فأما
من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لامر
مولاه فللعوام ان يقلدوه، وذلك لا يكون الا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم،
فأما من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا
تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة: الخ (18).
وعن الكليني رضوان الله عليه، عن إسحاق بن يعقوب، قال:
سألت محمد بن عثمان العمري (ره) ان يوصل لي كتابا سألت فيه عن
مسائل أشكلت علي، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام:
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنهم حجتي عليكم،
وانا حجة الله، الخبر. (19)
إلى غير ذلك من الاخبار التي ذكرها في كتاب العلم من البحار وسنذكر
طرفا آخر منها فيما سيأتي انشاء الله تعالى.

(16) تحف العقول، 339.
(17) الحديث 4، من رجال أبي عمرو الكشي (ره)، 10.
(18) الحديث 11، من الباب 14، من كتاب العلم، من البحار: 1.
(19) الحديث 12، من الباب 14، من كتاب فضل العلم، من البحار:
1. ونقله أيضا مع مسائل إسحاق بن يعقوب في البحار 17: 219.
40

البحث الثالث:
في الإشارة إلى نبذ من فضيلة العم والعلماء، المنقول من أهل بيت
الوحي صلوات الله عليهم أجمعين.
1 - قال رسول الله صلى الله عليه وآله: العلم وديعة الله في ارضه،
والعلماء أمناؤه عليه، فمن عمل بعلمه أدى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كتب
في ديوان الله من الخائنين. (20)
2 - وقال (ص): فضل العلم خير من فضل العبادة.
3 - وقال (ص): ان قليل العمل مع العلم كثير، كما أن كثيره مع
الجهل قليل. رواهما في الكتاب 6 من عقد الفريد: 1، 266، ط 2.
4 - وعن ثقة الاسلام قدس الله سره، في الحديث 1، و 2، من باب
فرض العلم، من الكافي معنعنا، بثلاثة أسانيد، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا ان الله يحب بغاة العلم.
5 - وفي الحديث 45، من الباب 8، من كتاب العلم، من البحار:
1، 76، نقلا عن السرائر معنعنا، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
المؤمن العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله، وإذا مات
ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شئ إلى يوم القيامة.
وهذا الحديث قد بلغ حد الاستفاضة عن غير واحد من المعصومين
عليه السلام.
6 - وعن كتاب قرب الإسناد معنعنا، عن أمير المؤمنين (ع) انه

(20) الحديث 39، من الباب، من كتاب العلم، من بحار الأنوار: 1،
80، الكمباني، وكما في الحديث: 525، من مستدرك البحار: 17،
423، س 6.
41

قال إياكم والجهال من المتعبدين والفجار من العلماء، فإنهم فتنة كل
مفتون. ورواه عنه في الحديث 3، من الباب 5، من كتاب العلم من
البحار: 1، 64.، وفي نفس الباب والباب 15، منه اخبار كثيرة بهذا المعنى.
7 - وروى كثير من أصحابنا كالصدوق (ره) في الأمالي،
وشيخ الطائفة في الحديث 9، من المجلس 7، من أماليه 311،
والطبرسي (ره) في مقدمة مجمع البيان، وغيرهم بأسانيد كثيرة صحيحة،
عن الإمام الرضا عليه السلام، عن ابائه، عن النبي صلوات الله عليهم
أجمعين، قال الطبرسي (ره): وقد صح عن النبي (ص) فيما رواه لنا
الثقات، بالأسانيد الصحيحة، مرفوعا إلى امام الهدى، وكهف الورى،
أبى الحسن علي بن موسى الرضا (ع)، عن آبائه سيد عن سيد، وامام
عن امام، إلى اتصل به عليه وآله السلام، أنه قال: طلب العلم فريضة
على كل مسلم ومسلمة، فاطلبوا العلم من مظانه، واقتبسوه من أهله،
فان تعلمه لله حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد،
وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله تعالى، لأنه معالم
الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والمصاحب
في الغربة والوحدة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء،
والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم
في الخير قادة تقتبس آثارهم، يقتدى بفعالهم، وينتهى إلى أرائهم، ترغب
الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتها تبارك عليهم،
يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر
وانعامه، ان العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الابصار من الظلمة،
وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار، ومجالس الأبرار،
والدرجات العلى في الآخرة والأولى، الذكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته
42

بالقيام، به يطاع الرب ويعبد، وبه يوصل الأرحام، ويعرف الحلال
والحرام، العلم أمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه
الأشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله منه حظه.
وهذا الخبر الشريف رواه العامة أيضا، كما في محكى كتاب المختصر
27، عن ابن عبد البر في العلم، ورواه أيضا في حاشية دعائم الاسلام: 1، 81
8 - وقال (ص): مجالسة العلماء عبادة، والنظر إلى علي عبادة،
والنظر إلى البيت عبادة، والنظر إلى المصحف عبادة، والنظر إلى الوالدين
عبادة. (21)
9 - وقال (ص): النظر في وجه العالم حبا له عبادة (22).
10 - وقال (ص) أربعة تلزم كل ذي حجى وعقل من أمتي، قيل:
يا رسول الله وما هي؟ قال: استماع العلم، وحفظه، والعمل به، ونشره.
كما في دعائم الاسلام: 1، 81، وعقد الفريد: 1، 266، ط 2.
11 - وقال (ص): يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون
عنه (23) تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين. (24)
12 - وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: والله ما برأ الله من
برية أفضل من محمد ومنى وأهل بيتي وان الملائكة لتضع أجنحتها لطلبة

(21) الحديث 25، من الباب 4، من كتاب العلم، من البحار: 1، 64،
نقلا عن كشف الغمة معنعنا.
(22) الحديث 30، من الباب 4، من كتاب العلم، من البحار: 1،
64، معنعنا.
(23) وروى الكشي (ره) في الحديث 5، من رجاله 10، معنعنا، أنه قال
(ص): يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين
وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد.
(24) دعائم الاسلام: 1، 81، ط 1. والعقد الفريد: 1، 266، ط 2.
43

العلم من شيعتنا. (25)
13 - وقال عليه السلام: كفى بالعلم شرفا ان يدعيه من لا يحسنه
ويفرح إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذما ان يبرأ منه من هو فيه. كما عن
منية المريد، ومعجم الأدباء، ومن كلامه (ع) أخذ الشاعر وقال:
كفى شرفا للعلم دعواه جاهل * ويفرح ان يدعى إليه وينسب
ويكفي خمولا للجهالة انني * أراع متى انسب إليها واغضب
14 - وجمع الامام المجتبى السبط الأكبر عليه السلام بنيه وبني
أخيه فقال: إنكم صغار قوم، ويوشك ان تكونوا كبار قوم آخرين،
فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم ان يحفظه فليكتبه وليضعه في
بيته. (26)
15 - وقال (ع): علم الناس علمك، وتعلم علم غيرك، فتكون قد
أتقنت علمك، وعلمت ما لم تعلم. (27)
16 - وقال صلى الله عليه وآله: إذا خرج الرجل في طلب العلم،
كتب الله له أثره حسنات، فإذا التقى هو والعالم فتذاكرا من امر الله تعالى
شيئا أظلتهما الملائكة، ونوديا من فوقهما ان قد غفرت لكما.
17 - وقال الإمام الباقر عليه السلام: من علم باب هدى كان له أجر
من عمل به، ولا ينقص أولئك من أجورهم، ومن علم باب ضلال كان عليه
وزر من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم. كما في الحديث 56،
من الباب 8، من كتاب العلم، من البحار: 1، 75، معنعنا ونقلا عن
محاسن البرقي.

(25) الاختصاص 234، ط 2، ورواه عنه في البحار: 1، 58.
(26) منية المريد، ورواه منه في كتاب العلم، من البحار: 1، 120
(27) البحار: 17، 146، نقلا عن كشف الغمة.
44

18 - وقال (ع): تذاكر العلم ساعة خير من قيام ليلة. (28)
19 - وقال (ع): رحم الله عبدا أحيى العلم، فقيل: وما احياؤه؟
قال: ان يذاكر به أهل الدين والورع (29)
20 - وقال (ع) تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة.
كما في الحديث 37، من الباب 4، من كتاب العلم، من البحار: 1، 64.
21 - وقال الإمام الصادق عليه السلام: العلماء امناء، والأتقياء
والأوصياء سادة.
22 - وفي رواية أخرى عنه (ع) قال: العلماء منار، والأتقياء
حصون، والأوصياء سادة. كما في الحديث 5، من الباب 2، من باب
فضل العلم والعلماء، من الكافي معنعنا.
23 - وقال (ع): اطلبوا العلم، وتزينوا معه بالحلم والوقار،
وتواضعوا لمن تعلمونه العلم، ولا تكونوا علماء جبابرة، فيذهب باطلكم
بحقكم. كما في دعائم الاسلام: 1، 80، وغير واحد من المصادر.
24 - وروى البرقي في المحاسن، والصدوق في الأمالي معنعنا، أنه قال
(ع): لا يقبل الله عز وجل عملا الا بمعرفة، ولا معرفة الا بعمل، فمن
عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، ان الايمان
بعضه من بعض.
25 - وبالسندين قال (ع): العامل على غير بصيرة كالسائر على
غير الطريق، لا يزيده سرعة السير الا بعدا.
كما في الحديث 1 و 2، من الباب 5، من كتاب العلم، من
البحار: 1، 64.

(28) كتاب العلم، من البحار: 1، 64، نقلا عن كتاب الاختصاص.
(29) كتاب العلم، من البحار: 1، 64، نقلا عن منية المريد.
45

وقال الإمام الكاظم عليه السلام: أولى العلم بك، مالا يصلح
لك العمل الا به، وأوجب العلم عليك، ما أنت مسؤول عن العمل به، والزم
العلم لك، ما دلك على صلاح قلبك، واظهر لك فساده، واحلى العلم
عاقبة، ما زاد في عملك العاجل، فلا تشغلن بعلم مالا يضرك جهله، ولا
تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه. (30)
27 - وقال عليه السلام: محادثة العالم على المزبلة خير من محادثة
الجاهل على الزرابي. (31)
28 - وروى أبو الصلت عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: رحم
الله عبدا أحيى أمرنا، فقلت له: وكيف يحيى امركم؟ قال: يتعلم علومنا
ويعلمها الناس، فأن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا، قال أبو
الصلت: قلت له: فقد روى لنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من
تعلم علما ليمارى به السفهاء، أو يباهي به العلماء، أو ليقبل بوجوه الناس
إليه فهو في النار، فقال (ع): صدق جدي (ع)، أفتدري من السفهاء؟
فقلت: لا، يا ابن رسول الله، قال: هم قصاص مخالفينا، وتدري من
العلماء؟ فقلت: لا، يا ابن رسول الله، فقال: هم علماء آل محمد الذين
فرض الله طاعتهم، وأوجب مودتهم، ثم قال: وتدري ما معنى قوله: أو
ليقبل بوجوه الناس إليه؟ قلت: لا، قال: يعني والله بذلك ادعاء الإمامة
بغير حقها، ومن فعل بذلك فهو في النار. كما في الحديث 11، من الباب
9، من كتاب العلم، من البحار: 1، 78، عن العيون والمعاني معنعنا.
29 - وقال (ع): مودة عشرين سنة قرابة، والعلم اجمع لأهله

(30) البحار: 17، 206، نقلا عن كتاب اعلام الدين. وقريب منه،
رويناه عن أمير المؤمنين (ع) كما يجئ في الباب الخامس.
(31) الحديث 28، من الباب 4، من كتاب العلم، من البحار: 1، 64.
46

من الاباء. كما في الحديث 8، من الباب 12، من البحار: 16، 48:
نقلا عن عيون أخبار الرضا معنعنا.
البحث الرابع:
في ذكر ما ورد عن العلماء والصلحاء والحكماء والامراء في فضيلة
العلم والعلماء.
1 - روى في البحار: 17، 267، ط الكمباني، عن الإمام الصادق
عليه السلام، أنه قال: لقمان لابنه: يا بني ان تأدبت صغيرا انتفعت به
كبيرا، ومن عنى بالأدب اهتم به، ومن اهتم به تكلف علمه، ومن تكلف
علمه اشتد له طلبه، أدرك به منفعة فأتخذه عادة، وإياك والكسل منه
والطلب لغيره، وان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة، وانه ان فاتك
طلب العلم فإنك لن تجد تضييعا أشد من تركه، يا بني استصلح الأهلين
والاخوان من أهل العلم ان استقاموا لك على الوفاء، واحذرهم عند انصراف
الحال بهم عتك، فان عداوتهم أشد مضرة من عداوة الأباعد، لتصديق
الناس إياهم لاطلاعهم عليك.
2 - وروى عنه بسند آخر أنه قال: يا بني أخلص طاعة الله حتى
لا تخالطها بشئ من المعاصي، ثم زين الطاعة باتباع أهل الحق، فان طاعتهم
متصلة بطاعة الله تعالى، وزين ذلك بالعلم، وحصن علمك بحلم لا يخالطه
حمق، واخزنه بلين لا يخالطه جهل، وشدده بحزم لا يخالطه الضياع،
وامزج حزمك برفق لا يخالطه العنف.
3 - وبهذا السند قال الإمام الصادق (ع): قال أمير المؤمنين عليه
السلام: قيل للعبد الصالح لقمان: أي الناس أفضل؟ قال: المؤمن الغني،
قيل: الغني من المال، فقال: لا، ولكن الغني من العلم، الذي ان احتيج
47

إليه انتفع بعلمه، وان استغني عنه اكتفى، قيل: فأي الناس أشر؟ قال:
الذي لا يبالي ان يراه الناس مسيئا.
4 - وقال داود لابنه سليمان عليهما السلام: لف العلم حول عنقك
واكتبه في ألواح قلبك. كما في عقد الفريد: 1، 264، ط 2.
5 - وروى معلم الأمة الشيخ المفيد (ره) معنعنا، في الحديث 2،
من المجلس 39، من أماليه عن عكرمة، قال: سمعت عبد الله بن عباس
يقول لابنه علي بن عبد الله: ليكن كنزك الذي تدخره العلم، وكن به أشد
اغتباطا منك بكنز الذهب الأحمر، فاني مودعك كلاما ان أنت وعينه اجتمع
لك به خير الدنيا والآخرة: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر
التوبة لطول الامل، ويقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل
الراغبين، ان أعطي منها لم يشبع، وان منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر
ما أوتي، ويبغي الزيادة فيما بقي، ويأمر بما لا يأتي، يحب (يصحب خ ل)
الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الفجار وهو أحدهم، ويقول لم أعمل
فأتعنى، ولا أجلس فأتمنى (32) وهو يتمنى المغفرة وقد دأب في المعصية،
قد عمر ما يتذكر فيه من تذكر، يقول فيما ذهب: لو كنت عملت ونصبت
كان ذخرا لي، ويعصي ربه تعالى فيما بقي غير مكترث، ان سقم ندم على
العمل، وان صح امن واغتر وأخر العمل، معجب (معجبا خ) بنفسه ما
عوفي، وقانط (وقانطا خ) إذا ابتلى، ان رغب أشر، وان بسط (سخط خ)
له هلك، تغلبه نفسه على ما يظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، لا يثق من
الرزق بما قد ضمن له، ولا يقنع بما قسم له، لم يرغب قبل ان ينصب،
ولا ينصب فيما يرغب، ان استغنى بطر، وان افتفر قنط، فهو يبتغي الزيادة
وان لم يشبع، ويضيع من نفسه ما هو اكره (أكبر خ) يكره الموت

(32) كذا في النسخة.
48

لاساءته، ولا يدع الإساءة في حياته، ان عرضت شهوته واقع الخطيئة ثم
تمنى التوبة، وان عرض له عمل الآخرة دافع، ويبالغ في الرغبة حين يسأل،
ويقصر في العمل حين يعمل، فهو بالطول مدل، وفي العمل مقل، يبادر في
الدنيا يعبأ بمرض، فإذا افاق واقع الخطايا، ولم يعوض (ولم يعرض خ)،
يخشى الموت، ولا يخاف الفوت، يخاف على غيره بأقل من ذنبه، ويرجو
لنفسه بدون عمله، وهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، يرى (يرجو خ)
الأمانة ما رضى، ويرى الخيانة ما سخط، ان عوفي ظن أنه قد تاب، وان
ابتلي طمع في العافية وعاد، لا يبيت قائما، ولا يصبح صائما، يصبح وهمه
الغذاء، ويمسى ونيته العشاء وهو مفطر، يتعوذ بالله ممن فوقه، ولا ينجو
بالعوذ منه من هو دونه، يهلك في بغضه إذا أبغض، ولا يقصر في حبه إذا
أحب، يغضب من اليسير، ويعصى على الكثير، فهو يطاع ويعصى الله،
والله المستعان. (33)
6 - وقال بعض الحكماء: ليس طلبي للعلم طمعا في بلوغ قاصيته،
واستيلاء على غايته، ولكن لالتماسي شيئا لا يسع جهله، ولا يحسن
بالعاقل خلافة.
7 - وقال أيضا بعض الحكماء: ان لم تكن عالما فتعلم، وان لم تكن
حكيما فتحكم، فإنه قل ما تشبه رجل بقوم الا أن يكون منهم (34).
8 - وقال بعض منهم أيضا: العلم روح، والعمل بدن، والعلم أصل،
والعمل فرع، والعلم والد، والعمل مولود، وكان العمل بمكان العلم،
ولم يكن العلم بمكان العمل.

(33) هذا كله اخذه حبر الأمة رحمه الله من باب مدينة علم النبي (ص)
وهيبة علم الله: أمير المؤمنين (ع) كما سنفصل القول في ذلك انشاء الله تعالى.
(34) هذا أيضا مروى عن أمير المؤمنين (ع) الا انه (ع) قال: ان لم
تكن حليما فتحلم، الخ.
49

9 - قال بعضهم: من طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهوة
كان حظه منه، ومن طلب العلم لكرم العلم، والتمسه لفضل الاستبانة،
كان حظه منه بقدر كرمه، وانتفاعه به حسب استحقاقه.
10 - وقال بعضهم: كل شئ يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى العلم.
11 - وقيل لخليل بن أحمد (ره): أيهما أفضل العلم أو المال؟ قال:
العلم، قيل له: فما بال العلماء يزدحمون على أبواب الملوك، والملوك
لا يزدحمون على أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بحق الملوك،
وجهل الملوك بحق العلماء.
12 - وقال أحنف بن قيس: كاد العلماء ان يكونوا أربابا، وكل عز
لم يكسب بعلم، فإلى ذل ما يصير.
13 - وقال أبو الأسود الدئلي (ره): الملوك حكام على الدنيا،
والعلماء حكام على الملوك.
قال أبو جعفر: وهذا أخذه أبو الأسود (ره) من كلام سيد الموحدين
أمير المؤمنين عليه السلام كما سيأتي في قصار حكمه (ع).
14 - وقالت الحكماء: علم علمك من يجهل، وتعلم ممن يعلم،
فإذا فعلت ذلك، حفظت ما علمت، وعلمت ما جهلت.
15 - وقالوا أيضا: العلم قائد، والعقل سائق، والنفس ذود، فإن كان
قائد بلا سائق هلكت، وإن كان سائق بلا قائد اخذت يمينا وشمالا،
وإذا اجتمعا أنابت طوعا أو كرها.
16 - قيل للمهلب: بم أدركت ما أدركت؟ قال: بالعلم، قيل له:
فأن غيرك قد علم أكثر مما علمت، ولم يدرك ما أدركت؟ قال: ذاك علم
حمل، وهذا علم استعمال.
17 - وقال بعضهم: ان مذاكرة العلم عون على أدائه، وزيادة في
الفهم، ولابد للعالم من الجهل، أي ان يجهل كثيرا مما يسأل عنه، اما لأنه
50

ما سمعه أو نسيه.
18 - وقال بعض حكماء الفرس: الانسان الواحد لا يحسن الأشياء
كلها، ولكن يحسن كل انسان شيئا.
19 - وقال بعض الاعلام: ان العزلة بدون عين العلم زلة، وبدون
زاء الزهد علة.
البحث الخامس:
في شذرة مما انشده العلماء من الشعر في عظمة العلم.
قال أبو الأسود رحمه الله على ما في غير واحد من كتب الرجال:
العلم زين وتشريف لصاحبه * فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كم سيد بطل آباؤه نجب * كانوا رؤسا، فأضحى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الاباء ذي أدب * نال المعالي بالآداب والرتبا (35)
العلم كنز وذخر لا نفاد له * نعم القرين ونعم الخدن إن صحبا
قد يجمع المال شخص ثم يحرمه * عما قليل، الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا * فلا يحاذر فيه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه * لا تعدلن به درا ولا ذهبا
وقال غيره:
العالم العاقل ابن نفسه * أغناه جنس علمه عن جنسه
كم بين من تكرمه لغيره * وبين من تكرمه لنفسه
وقال آخر:
العلم أنفس شئ أنت ذاخره * من يدرس العلم لم تدرس مفاخره
أقبل على العلم واستقبل مقاصده * فأول العلم اقبال وآخره

(35) قيل: المقرف، هو الذي تكون أمه كريمة، وأبوه غير كريم،
والهجين: عكسه، والذي يكون أبواه كلاهما غير كريم يقال له: الضلنقس.
51

وأنشد الرياشي:
طلبت يوما مثلا سائرا * فكنت في الشعر له ناظما
لا خير للمرء إذا ماغدا * لا طالب العلم ولا عالما
وقال آخر:
من كان مفتخرا بالمال والنسب * فإنما فخرنا بالعلم والأدب
لا خير في رجل حر بلا أدب * لا، لا، وإن كان عالي الرهط والنسب
وذكر العلامة الكراجكي (ره) لبعضهم، وكأنه أخذه من أبي الأسود،
أو العكس:
العلم زين وتشريف لصاحبه * فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصل بلا أدب * حتى يكون على ما زانه حربا
كم من حسيب أخي عي وطمطمة * فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا
وخامل مقرف الاباء ذي أدب * نال المعالي به والمال والنسبا
فالعلم ذخر وكنز لا نفاد له * نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
وقال آخر:
أرى العلم نورا والتأدب حلية * فخذ منهما في رغبة بنصيب
وليس يتم العلم في الناس للفتى * إذا لم يكن في علمه بأديب
وقال الحكيم مؤمن الجزائري:
ينفع المرء علمه أبدا * دون مالا يزال يجمعه
ان من لا يكون ذا سعة * لا يكون الكمال ينفعه (36)

(36) قال العلامة النراقي قدس سره: وفى البيتين تناقض ظاهر، ودفعه
ان قوله: لا يكون، ثانيا تأكيد لفظي لقوله: لا يكون أولا، ولا يفيد معنى ثانيا.
52

- 2 -
ومن وصية له عليه السلام
محمد بن يعقوب الكليني أعلى الله مقامه، عن أحمد بن محمد بن أحمد
الكوفي - وهو العاصمي - عن عبد الواحد بن الصواف، عن محمد بن
إسماعيل الهمداني، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال: كان
أمير المؤمنين عليه السلام يوصي أصحابه ويقول:
أوصيكم بتقوى الله فإنها غبطة الطالب (1) الراجي، وثقة
الهارب اللاجي واستشعروا التقوى شعارا باطنا واذكروا
الله ذكرا خالصا تحيوا به أفضل الحياة، وتسلكوا به
طريق النجاة (2)، أنظروا في الدنيا نظر الزاهد (3) المفارق

(1) سيجئ الكلام في التقوى، واما الغبطة فهو اسم من قولهم: غبطه
(من باب ضرب ومنع) غبطا وغبطة، أي تمنى مثل حال غيره من غير أن
يريد زواله منه، وهو بخلاف الحسد فإنه أمل عين النعمة التي أعطيت
غيره، أو أمل مثلها مع إرادة زوالها منه، وهو من أكبر الكبائر، ولذا ورد
في ذمه وكونه مصدرا للمهالك أخبار كثيرة، كقولهم (ع): الحسد يأكل الايمان
كما تأكل النار الحطب، وأما الغبطة فإنها ليست بمذمومة، بل بعض أقسامها
ممدوح مثل ان يتمنى توفيق العلم أو بعض الأعمال الصالحة أو التحلي بالمكارم.
(2) كأنه إشارة إلى قوله تعالى في الآية 24، من سورة الأنفال: " يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ".
(3) من قوله (ع): انظروا في الدنيا، إلى قوله: والبقاء فيها إلى الضعف
والوهن، مذكور في صدر المختار 99، أو 101 من خطب نهج البلاغة.
وأيضا رواه صاحب عيون الحكم والمواعظ، ومطالب السئول 148 و 149
ورواه عنهما في البحار: 17، 121 س 18، وص 400.
53

لها، فإنها تزيل الثاوي الساكن (4)، وتفجع المترف
الامن (5)، لا يرجى منها ما تولى فأدبر، ولا يدرى ما هو
آت فينتظر، وصل البلاء منها بالرخاء، والبقاء منها
إلى الفناء، فسرورها مشوب بالحزن، والبقاء فيها إلى الضعف
والوهن، فهي كروضة إعتم مرعاها (6)، وأعجبت من يراها،
عذب شربها، طيب تربها (7)، تمج عروقها الثرى (8)،
وتنطف فروعها الندى (9) حتى إذا بلغ العشب

(4) ثوى يثوي (كرمى يرمي) ثواء وثويا (على زنة هواء وهويا) المكان
وفيه وبه، أي أقام فيه، ومنه قوله تعالى في الآية 45، من سورة القصص.
" وما كنت ثاويا في أهل مدين " أي مقيما فيهم.
(5) فجعه - فجعا (من باب منع) وفجعه الامر تفجيعا، أي جعله
ذا وجع بنزول ما يكرهه، أو باعدام ما يحبه، والمترف: الطاغي من أترفته
النعمة، أي أطغته، أو المصر على البغي، من أترف الرجل أي أصر على البغي،
أو من صار ذا بطر، من أترفه المال أي أبطره، والجميع متقارب.
(6) اعتم النبت اعتماما: اكتهل أي تم طوله، وبلغ غاية الامتداد،
وظهر نوره.
(7) وفى نسخة الوافي وتنبيه الخواطر: طيب تربتها. والترب والترباء
والتربة - كقفل وفلس، وحمراء وحمرة: التراب. الأرض.
(8) مج (من باب مد) مجا الشراب، أو الشئ وبه من فمه أي
رمى وقذف به. والثرى - أريد به ههنا - النداوة والرطوبة. وفى تنبيه
الخواطر: يبهج عروقها الثرى، وينظف فروعها الندى.
(9) نطف (من باب ضرب ونصر) نطفا وتنطافا ونطافة ونطفانا الماء،
أي سال قليلا قليلا، ونطفت القربة الماء، أي رشته وصبته، أي ان الدنيا في
بهائها ورونقها كأغصان أشجار من شدة نضارتها وريعانها بحيث تتقاطر بالماء
وترش به. وقال المحقق الفيض (ره): كأن الأول كناية عن أحكام العروق
واعراقها في الأرض، والثاني عن نضرة الفروع وخضرتها وطراوتها.
وعلى ما في نسخة تنبيه الخواطر، كأنه (ع) أراد من قوله: يبهج، التزيين
والاهتزاز، وأيضا المقصود من الثرى - بناء على هذه النسخة -: وجه الأرض،
وكذا المراد من العروق كأنه الأغصان الممتدة، والأوراق المتدلية، المنبسطة
على وجه الأرض، أي ان الدنيا كروضة اهتزت الأرض ببهجتها، وزينت الغبراء
والبسيطة بنضارة أغصان أشجارها، والتفاف أوراقها الرائعة عليها، وقوله
عليه السلام: ينظف فروعها الندى، كأنه إشارة إلى ما عد في عصرنا من
البديهيات،: من جذب الأشجار والنباتات الخضرة، الهواء الملوث ونشر الهواء
الملطف، وإذاعة المروح منها، عكس الحيوانات.
54

إبانه (10) واستوى بنانه (11) هاجت ريح تحت الورق، وتفرق ما
اتسق فأصبحت - كما قال الله - هشيما تذروه الرياح، وكان الله على
كل شئ مقتدرا (12) أنظروا في الدنيا في كثرة ما يعجبكم
وقلة ما ينفعكم.

(10) العشب - كقفل -: الكلأ الرطب وابان الشئ: أوانه أو أوله،
ومنه الحديث: كل الفواكه في ابانها.
(11) وفى تنبيه الخواطر والوافي: واستوى نباته.
(12) الآية 46، من السورة 18: الكهف.
والهشيم فعيل بمعنى مفعول من قولهم: هشم (من باب ضرب)
هشما الشئ أي كسره، الا انه يختص بكسر الشئ اليابس أو المجوف، وتذروه
أي تطيره وتفرقه في كل جهة، وتجعله هباء منثورا. ولطافة هذه الوصية
الشريفة، والكلام القدسي لا تدرك كما هي الا بذكر تمام الآية الشريفة،
وبذكرها والمقايسة بينهما تتجلى صحة ما قيل في وصف كلامه (ع): من أنه
دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق، فأقول تمام الآية الكريمة هكذا:
" وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا ".
فدقق النظر كيف بين (ع) تأثير الماء النازل من السماء في التراب القابل
بقوله: فهي كروضة أعتم مرعاها وأعجبت من يراها، الخ. وكيف كشف (ع)
عن حال النباتات في أوان اشتدادها، وحال ريعانها وأوقاف اخضرارها،
واعراقها في الأرض، والثاني عن نضرة الفروع وخضرتها وطراوتها.
وعلى ما في نسخة تنبيه الخواطر، كأنه (ع) أراد من قوله: يبهج، التزيين
والاهتزاز، وأيضا المقصود من الثرى - بناء على هذه النسخة -: وجه الأرض،
وكذا المراد من العروق كأنه الأغصان الممتدة، والأوراق المتدلية، المنبسطة
على وجه الأرض، أي ان الدنيا كروضة اهتزت الأرض ببهجتها، وزينت الغبراء
والبسيطة بنضارة أغصان أشجارها، والتفاف أوراقها الرائعة عليها، وقوله
عليه السلام: ينظف فروعها الندى، كأنه إشارة إلى ما عد في عصرنا من
البديهيات،: من جذب الأشجار والنباتات الخضرة، الهواء الملوث ونشر الهواء
الملطف، وإذاعة المروح منها، عكس الحيوانات.
55

انتهى الحديث 3، من روضة الكافي. ورواه عنه في المختار 1 من
باب مواعظه (ع) من الوافي: 4، 62. ورواه أيضا في تنبيه الخواطر 342.
ورواه أيضا في المختار 41، من كلامه (ع) في تحف العقول 139. ورواه
أيضا في المختار 52، من الباب 2، من مستدرك نهج البلاغة.
وههنا مباحث
البحث الأول:
في الإشارة إلى ترجمة رواة الوصية.
قال النجاشي (ره): أحمد بن محمد بن أحمد بن طلحة، أبو عبد الله
- وهو ابن أخي أبى الحسن علي بن عاصم المحدث - (1) يقال له: العاصمي
كان ثقة في الحديث، سالما خيرا، أصله كوفي سكن بغداد، وروى عن
شيوخ الكوفيين، وله كتب، منها كتاب نجوم السماء، وكتاب مواليد
الأئمة وأعمارهم، أخبرنا أحمد بن علي بن نوح، قال: حدثنا الحسين بن
علي بن السفيان عن العاصمي.
وقريب منه عن شيخ الطائفة في الفهرست، والعلامة في الخلاصة،
وابن شهرآشوب في معالم العلماء.
وقال (في محكى التعليقة): إنه (ره) من الوكلاء الذين تشرفوا برؤية
ولي العصر عليه السلام، ووقفوا على معجزاته.

(1) وفى محكى رسالة أبي غالب الزراري: وقيل له العاصمي لأنه كان
ابن أخت علي بن عاصم.
56

وقال (في محكى الوجيزة) انه (ره) أستاذ الكليني (ره) وحسبه بذلك
فخرا ومنقبة، وثوابا وحسنة. وهو رحمه الله يروى عن علي بن الحسن
(الحسين خ ل) التيمي، ويروى عنه تلميذه الكليني وأحمد بن عبدون،
وابن الجنيد، والحسين بن علي بن سفيان، ومحمد بن أحمد النهدي
رحمهم الله جميعا.
واما عبد الواحد بن الصواف فلم نقف على ترجمته فعلا.
واما محمد بن إسماعيل الهمداني، فعده الشيخ رحمه الله في رجاله
من أصحاب الإمام الصادق (ع)، ولم نعرف فعلا غير هذا من ترجمته.
البحث الثاني:
في التعليقات الراجعة إلى متن كلامه (ع) ولنبدأ بالتعليق على قوله
عليه السلام: أوصيكم بتقوى الله، وببيان حقيقة التقوى، فنقول:
التقوى، استعملت في اللغة في معان مختلفة، واطلقت عليها كالصيانة
والستر من الأذى، ومخافة الله والعمل بطاعته، والخشية، والهيبة، وغيرها
بحيث يظن في أول نظرة انها متباينة، وكل واحدة منها قسيم للاخر، ولكن
بالنظر العميق يستكشف انها جمعاء ترجع إلى معنى واحد، وهو التحفظ
عن الوقوع في المكروه، وصون النفس عن المكاره وستره عن حلول الأذى
فيها، وهذا المعنى يختلف في المقامات، فتارة يحصل صون النفس وحفظها
عن المضرات بالعمل وايجاد فعل، وأخرى يتوقف حفظ النفس وصيانتها
من الآلام والأذى على ترك العمل وكف النفس عن الفعل، فمرجع الجميع
إلى ما ذكر، هذا بحسب اللغة والعرف.
واما بحسب الشرع فلها مراتب، وأول مراتبها الذي تنعقد به العدالة
هو اتيان ما أوجب الله عليه، وترك ما نهى الله عنه، والظاهر أنها عند الشارع
أيضا باقية على معناها الأولي، أي اللغوي والعرفي، إذ صون النفس وحفظه
57

عن سخط الله وعذابه على نحو اليقين والقطع يتوقف على العمل بما أوجب
الله عليه، وترك ما حرم الله ونهاه عنه، فعلى هذا يقال إن حقيقة التقوى
في اللغة والعرف والشرع، هو صون النفس عن توجه الأذى والألم إليها،
والتحرز عن الضرر وما لا يلائم النفس، وهذا المعنى لا يكون مقطوعا به
للمكلف الا إذا أتى بالواجبات وترك المحرمات.
وقال السمي العلامة (المجلسي) قدس سره: التقوى في اللغة، فرط
الصيانة، وفي العرف هي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، وقصرها على
ما ينفعها فيها، ولها ثلاث مراتب، الأولى: وقاية النفس عن العذاب المخلد
بتصحيح العقائد الايمانية، والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو
ترك، وهو المعروف عند الشرع، والثالثة: التوقي عن كل ما يشغل القلب
عن الحق، وهذه درجة الخواص، بل خاص الخاص.
أقول: ولعل هذه المرتبة مراد رسول الله (ص) من قوله: لا يبلغ العبد
حقيقة التقوى حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به الباس.
وكذلك مقصود أمير المؤمنين (ع) هي المرتبة الثالثة من قوله (ع)
حينما سئل عن التقوى، فقال عليه السلام ما معناه: المتقي هو الذي لو
وضع عمله على طبق مكشوف، ويدور به على العالمين، لم يكن فيه ما
يستخفي به، ويستحيى منه (2).
وأيضا الظاهر أن هذه المرتبة هي التي أرادها الإمام الصادق (ع) لما سئل
عن التقوى فقال: أن لا يفقدك حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك (3).

(2) رواه جمال المفسرين أبو الفتوح الرازي (ره) بالفارسية في تفسير
قوله تعالى (في أول سورة البقرة): ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
(3) ويمكن ارجاع هذا إلى ما ذكرناه أولا، من أنه أول المراتب التي تنعقد
وتتحقق بها ومعها العدالة، من أنه اتيان ما أوجب الله عليه، وترك ما حرم
الله عليه.
58

وسئل بعض السالكين عن التقوى، فقال: هل دخلتم أرضا فيها
شوك؟ فقيل: نعم فقال: كيف تعمل وما تصنع؟ قيل: نتوفى ونتحرز،
فقال: اصنعوا في طريق الدين كذلك، فتوقوا عن المعاصي، كما يتوقى،
الماشي رجله من الشوك. ونظمها بعض الشعراء وقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى
وقيل: التقوى بحسب العرف الشرعي تعود إلى خشية الله سبحانه
المستلزمة للاعراض عن كل ما يوجب الالتفات عنه تعالى، من متاع الدنيا
وزينتها، وتنحية ما دون وجهة القصد.
وقيل: إن خيرات الدنيا والآخرة جمعت تحت لفظة واحدة، وهي
التقوى، انظر إلى ما في القرآن الكريم من ذكرها، فكم علق عليها من خير
ووعد لها من ثواب، وأضاف إليها من سعادة دنيوية، وكرامة أخروية.
وقال ابن فهد رحمه الله، في محكى عدة الداعي: التقوى هي العدة
الكافية في قطع الطريق إلى الجنة، بل هي الجنة الواقية من متالف الدنيا
والآخرة، وهي الممدوحة بكل لسان، والمشرفة لكل انسان، وقد شحن بمدحها
القرآن، وكفاها شرفا قوله تعالى: " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم وأياكم ان اتقوا الله " (4) ولو كانت في العالم خصلة هي أصلح
للعبد وأجمع للخير، وأعظم بالقدر، وأولى بالايجال، وأنجح للآمال من
هذه الخصلة التي هي التقوى لكان الله أوصى بها عباده لمكان حكمته ورحمته

(4) الآية 30 من سورة النساء، وفى الصافي في تفسير الآية، عن مصباح
الشريعة قال الصادق عليه السلام: في هذه الآية قد جمع الله ما يتواصى به
المتواصون من الأولين والآخرين، في خصلة واحدة هي التقوى، وفيها جماع
كل عبادة صالحة، وبها وصل من وصل إلى الدرجات العلى.
59

فلما أوصى بهذه الخصلة الواحدة جميع الأولين والآخرين واقتصر عليها علم أنها
الغاية التي لا يتجاوز عنها، ولا مقتصر دونها، والقرآن مشحون بمدحها
وعدد في مدحها خصالا:
(الأول) المدح والثناء " وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم
الأمور " (5).
(الثاني) الحفظ والتحصين من الأعداء " وان تصبروا وتتقوا لا يضركم
كيدهم شيئا " (6).
(الثالث) التأييد والنصر " ان الله مع المتقين " (7).
(الرابع " اصلاح العمل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا
سديدا يصلح لكم أعمالكم " (8).
(الخامس) غفران الذنوب " ويغفر لكم ذنوبكم " (9).
(السادس) محبة الله " ان الله يحب المتقين " (10).
(السابع) قبول الاعمال " إنما يتقبل الله من المتقين " (11).
(الثامن) الاكرام " ان أكرمكم عند الله أتقاكم " (12).
(التاسع) البشارة عند الموت " الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " (13).
.

(5) الآية 186، من سورة آل عمران.
(6) الآية 120، من سورة آل عمران.
(7) الآية 194، من سورة البقرة.
(8) الآية 70 من سورة الأحزاب.
(9) لم أجد آية راجعة إلى التقوى بهذه اللفظة.
(10) وفى الآية 75، من سورة آل عمران هكذا: بلى من أوفى بعهده
واتقى فان الله يحب المتقين.
(11) الآية 26، من سورة المائدة.
(12) الآية 12، من سورة الحجرات.
(13) الآية 62، من سورة يونس
60

(العاشر) النجاة عن النار " ثم ننجي الذين اتقوا " (14).
(الحادي عشر) الخلود في الجنة " أعدت للمتقين " (15).
(الثاني عشر) تيسير الحساب " وما على الذين يتقون من حسابهم
من شئ " (16).
(الثالث عشر) النجاة من الشدائد والرزق الحلال " ومن يتق الله
يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه
ان الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا (17).
فانظر ما جمعت هذه الخصلة الشريفة من السعادات فلا تنس نصيبك منها.
(التعليق الثاني) في ذكر بعض الآثار الواردة في الزهد في الدنيا عن
المعصومين عليهم السلام:
فعن رسول الله (ص) أنه قال: لا تكونوا ممن خدعته العاجلة، وغرته
الأمنية، فاستوته الخدعة، فركن إلى دار السوء، سريعة الزوال، وشيكة
الانتقال، انه لم يبق من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب أو
صر جالب، فعلى ما تعرجون، وماذا تنتظرون، فكأنكم والله وما أصبحتم
فيه من الدنيا لم يكن، وما تصيرون إليه من الآخرة لم تزل، فخذوا أهبة
لا زوال لنقلة (*)، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة، وأعلموا ان كل امرئ على
ما قدم قادم، وعلى ما خلف نادم.

(14) الآية 71، من سورة مريم.
(15) الآية 133، من سورة آل عمران.
(16) الآية 68، من سورة الأنعام.
(17) الآية 2، من سورة الطلاق.
ولا يخفى انه ليس مراده انحصار الفوائد المرتبة في الذكر الحكيم على
التقوى، فيما ذكره، بل المقصود من كلامه الإشارة إلى نتائج التقوى، وان
ما علقه الله تعالى في الموارد المذكورة مما تحن إليه قلوب الأولياء، وتشتاق إليه
نفوس الأزكياء والعرفاء، فليشمر المجدون إليه، وليتنافس المتنافسون فيه.
* كذا في النسخة.
61

وقال (ص): يا معشر المسلمين شمروا فان الامر جد، وتأهبوا فان
الرحيل قريب، وتزودوا فان السفر بعيد، وخففوا أثقالكم فان وراءكم
عقبة كئودا لا يقطعها الا المخففون، أيها الناس ان بين يدي الساعة أمورا
شدادا، وأهوالا عظاما، وزمانا صعبا يتملك فيه الظلمة، ويتصدر فيه الفسقة
ويضام فيه الآمرون بالمعروف، ويضطهد فيه الناهون عن المنكر، فأعدوا
لذلك الايمان، وعضوا عليه بالنواجذ، والجأوا إلى العمل الصالح، وأكرهوا
عليه النفوس، تفضوا إلى النعيم الدائم.
وقال السبط الأكبر الامام المجتبى عليه السلام: اعلموا ان الله لم
يخلقكم عبثا، وليس بتارككم سدى، كتب آجالكم، وقسم بينكم معايشكم
ليعرف كل ذي لب منزلته، وأن ما قدر له أصابه، وما صرف عنه فلن
يصيبه، قد كفاكم مئونة الدنيا، وفرغكم لعبادته، وحثكم على الشكر
وافترض عليكم الذكر. وأوصاكم بالتقوى، وجعل التقوى منتهى رضاه،
والتقوى باب كل توبة، ورأس كل حكمة، وشرف كل عمل بالتقوى، فاز
من فاز من المتقين، قال الله تبارك وتعالى: ان للمتقين مفازا، وقال:
وينجي الله الذين اتقوا بمازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون، فاتقوا
الله عباد الله، واعلموا انه من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن، ويسدده
في أمره، ويهيئ له رشده، ويفلجه بحجته، ويبيض وجهه، ويعطيه رغبته،
مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
وحسن أولئك رفيقا. البحار: 17، 146.
وقال السبط الشهيد بكربلاء، الحسين بن علي عليهما السلام:
أوصيكم بتقوى الله، وأحذركم أيامه، وأرفع لكم أعلامه، فكأن
المخوف قد أفد بمهول وروده، ونكير حلوله، وبشع مذاقه، فاعتلق
مهجكم، وحال بين العمل وبينكم، فبادروا بصحة الأجسام، في مدة
62

الاعمار، كأنكم ببغتات طوارقه، فتنقلكم من ظهر الأرض إلى بطنها، ومن
علوها إلى سفلها، ومن أنسها إلى وحشتها، ومن روحها وضوئها إلى ظلمتها
ومن سعتها إلى ضيقها، حيث لا يزار حميم، ولا يعاد سقيم، ولايجاب
صريخ، أعاننا الله وإياكم على أهوال ذلك اليوم، ونجانا وإياكم من عقابه،
وأوجب لنا ولكم الجزيل من ثوابه، عباد الله فلو كان ذلك قصر مرماكم،
ومدى مظعنكم، كان حسب العامل شغلا يستفرغ عليه أحزانه، ويذهله
عن دنياه، ويكثر نصبه لطلب الخلاص منه، فكيف وهو بعد ذلك مرتهن
باكتسابه، مستوقف على حسابه، لا وزير له يمنعه، ولا ظهير عنه يدفعه،
ويومئذ لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في ايمانها خيرا
قل انتظروا انا منتظرون، أوصيكم بتقوى الله، فان الله قد ضمن لمن اتقاه
أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإياك أن
تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم، ويأمن العقوبة من ذنبه، فان الله
تبارك وتعالى لا يخدع عن جنته، ولا ينال ما عنده الا بطاعته إن شاء الله.
وفي مستدرك البحار: 17، 275، في الحديث 26: حدث شاكر بن
غنيمة ابن أبي الفضل، عن عبد الجبار الهاشمي، قال: سمعت هذه الندبة
من الشيخ أبي بشر ابن أبي طالب الكندي، يرويها عن أبي عيينة الزهري
قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يناجي ويقول: قل لمن قل عزاؤه،
وطال بكاؤه، ودام عناؤه، وبان صبره، وتقسم فكره، والتبس عليه أمره،
من فقد الأولاد، ومفارقة الاباء والأجداد، والامتعاض بشماتة الحساد،
ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد.
تعز فكل للمنية ذائق * وكل ابن أنثى للحياة مفارق
فعمر الفتى للحادثات ذريئة * تناهبه ساعاتها والدقائق
كذا تتفانى واحد بعد واحد * وتطرقنا بالحادثات الطوارق
63

فحسن الاعمال، وجمل الافعال، وقصر الآمال الطوال، فما عن سبيل
المنية مذهب، ولاعن سيف الحمام مهرب، ولا إلى قصد النجاة مطلب،
فيا أيها الانسان المتسخط على الزمان، والدهر الخوان، مالك والخلود
إلى دار الأحزان، والسكون إلى دار الهوان، وقد نطق القرآن بالبيان
الواضح في سورة الرحمن: كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والاكرام:
وفيم وحتام الشكاية والردى * جموع لآجال البرية لاحق
فكل ابن أنثى هالك وابن هالك * لمن ضمنته غربها والمشارق
فلابد من ادراك ما هو كائن * ولابد من إتيان ما هو سابق
فالشباب للهرم، والصحة للسقم، والوجود للعدم، وكل حي لاشك
مخترم، بذلك جرى القلم، على صفحة اللوح في القدم، فما هذا التلهف
والندم، وقد خلت من قبلكم الأمم:
أترجو نجاة من حياة سقيمة * وسهم المنايا للخليقة راشق
سرورك موصول بفقدان لذة * ومن دون ما تهواه تأتى العوائق
وحبك للدنيا غرور وباطل * وفي ضمنها للراغبين البوائق
أفي الحياة طمع، أم إلى الخلود نزع، أم لما فات مرتجع، ورحى المنون
دائرة، وفراسها غائرة، وسطواتها قاهرة، فقرب الزاد ليوم المعاد، ولا
تنوط على غير مهاد وتعمد الصواب، وحقق الجواب، فلكل أجل كتاب
يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
فسوف تلاقي حاكما ليس عنده * سوى العدل لا يخفى عليه المنافق
يميز أفعال العباد بلطفه * ويظهر منه عند ذاك الحقائق
فمن حسنت أفعاله فهو فائز * ومن قبحت أفعاله فهو زاهق
أين السلف الماضون، والأهلون والأقربون، والأولون والآخرون،
64

والأنبياء والمرسلون، طحنتهم والله المنون، وتوالت عليهم السنون، وفقدتهم
العيون، وإنا إليهم صائرون، فإنا لله وانا إليه راجعون.
إذا كان هذا نهج من كان قبلنا * فإنا على آثارهم نتلاحق
فكن عالما ان سوف تدرك من مضى * ولو عصمتك الراسيات الشواهق
فما هذه دار المقامة فاعلمن * ولو عمر الانسان ماذر شارق
أين من شق الأنهار، وغرس الأشجار، وعمر الديار، ألم تمح منهم
الآثار، وتحل بهم دار البوار، فاخش الجوار، فلك اليوم بالقوم اعتبار،
فان الدنيا متاع والآخرة هي دار القرار.
تخرمهم ريب المنون فلم تكن * لتنفعهم جناتهم والحدائق
ولا حملتهم حين ولوا بجمعهم * نجائبهم والصافنات السوابق
وراحوا عن الأموال صفرا وخلفوا * ذخائرهم بالرغم منهم وفارقوا
أين من بنى القصور والدساكر، وهزم الجيوش والعساكر وجمع
الأموال، وحاز الآثام والجرائر، أين الملوك والفراعنة، والأكاسرة والسياسنة
أين العمال والدهاقنة، أين ذوو النواحي والرساتيق، والاعلام والمجانيق،
والعهود والمواثيق.
كأن لم يكونوا أهل عز ومنعة * ولا رفعت أعلامهم والمجانق
ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا * ولا اخذت منهم بعد مواثق
وصاروا قبورا دارسات وأصبحت * منازلهم تسفي عليه الخوافق
ما هذه الحيرة والسبيل واضح، والمشير ناصح، والصواب لائح،
عقلت فأغفلت، وعرفت فأنكرت، وعلمت فأهملت، هذا هو الداء الذي
عز دواؤه، والمرض الذي لا يجرى شفاؤه، والأمل الذي لا يدرك انتهاؤه،
أفأمنت الأيام، وطول الأسقام، ونزول الحمام، والله يدعو إلى دار السلام.
لقد شقيت نفسي تتابع غيها * وتصدف عن ارشادها وتفارق
65

وتأمل مالا يستطاع بحيلة (بحمله خ) * وتعصيك ان خالفتها وتشاقق
وتصغي إلى قول الغوي وتنثني * وتعرض عن تصديق من هو صادق
فيا عاقلا راحلا، ولبيبا جاهلا، ومتيقظا غافلا، أتفرح بنعيم زائل
وسرور حائل، ورفيق خاذل، فيا أيها المفتون بعمله، الغافل عن حلول أجله،
والخائض في بحار زلله، ما هذا التقصير وقد وخطك القتير، ووافاك النذير
والى الله المصير.
طلابك أمر لا يتم سروره * وجهدك باستصحاب من لا يوافق
وأنت كمن يبني بناء وغيره * يعاجله في هدمه ويسابق
وينسج آمالا طوالا بعيدة * ويعلم ان الدهر للنسج خارق
ليست الطريقة لمن ليس له الحقيقة، ولا يرجع إلى خليفة، إلى كم
تكدح ولا تقنع، وتجمع ولا تشبع، وتوفر لما تجمع، وهو لغيرك مودع،
ماذا الرأي العازب، والرشد الغايب، والأمل الكاذب، ستنقل عن القصور
وربات الخدور، والجذل والسرور، إلى ضيق القبور، ومن دار الفناء
إلى دار الحبور، كل نفس ذائقة الموت، وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور.
فعالك هذا غرة وجهالة * وتحسب يا ذا الجهل انك حاذق
تظن بجهل منك انك راتق * وجهلك بالعقبى لدينك فاتق
توخيك من هذا أدل دلالة * وأوضح برهانا بأنك مائق
عجبا لغافل عن صلاحه، مبادر إلى لذاته وأفراحه، والموت طريدة
مسائه وصباحه، فيا قليل التحصيل ويا كثير التعطيل، ويا ذا الامل الطويل،
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، بناؤك للخراب، ومالك للذهاب،
وأجلك إلى اقتراب.
وأنت على الدنيا حريص مكاثر * كأنك منها بالسلامة واثق
تحدثك الأطماع انك للبقا * خلقت وان الدهر خل موافق
66

كأنك لم تبصر أناسا ترادفت * عليهم بأسباب المنون اللواحق
هذه حالة من لا يدوم سروره، ولا تتم أموره، ولا يفك أسيره،
أتفرح بمالك ونفسك، وولدك وغرسك (وعرسك)، وعن قليل تصير إلى
رمسك، وأنت بين طي ونشر، وغنى وفقر، ووفاء وغدر، فيا من القليل
لا يرضيه، والكثير لا يغنيه، إعمل ما شئت انك ملاقيه، يوم يفر المرء
من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه.
سيقفر بيت كنت فرحة أهله * ويهجر مثواك الصديق المصادق
وينساك من صافيته وألفته * ويجفوك ذو الود الصحيح الموافق
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة * وميت ومولود وقال ووامق
أف لدنيا لا يرقى سليمها، ولا يصح سقيمها، ولا يندمل كلومها،
وعودها كاذبة، وسهامها صائبة، وآمالها خائبة، لا تقيم على حال، ولا
تمتع بوصال، ولا تسر بنوال.
وتلك لمن يهوى هواها ملكية * تعبده أفعالها والطرائق
يسر بها من ليس يعرف غدرها * ويسعى إلى تطلابها ويسابق
إذا عدلت جارت على اثر عدلها * فمكروهة أفعالها والخلائق
فيا ذا السطوة والقدرة، والمعجب بالكثرة، ما هذه الحيرة والفترة،
لك فيمن مضى عبرة، وليؤذن الغافلون، عما إليه يصيرون، إذا تحققت
الظنون، وظهر السر المكنون، وتندمون حين لا تقالون، ثم انكم بعد
ذلك لميتون.
سيندم فعال على سوء فعله * ويزداد منه عند ذاك التشاهق
إذا عاينوا من ذي الجلال اقتداره * وذو قوة من كان قدما يداقق
هنالك تتلوا كل نفس كتابها * فيطفو ذو عدل ويرسب فاسق
إلى كم ذا التشاغل بالتجاير (*) والأرباح، إلى كم ذا التهور بالسرور

* كذا في النسخة.
67

والأفراح، وحتام التغرير بالسلامة في مراكب (18) النياح، من ذا الذي سالمه
الدهر فسالم (19)، ومن ذا الذي تاجره الزمان فغنم، ومن ذا الذي استرحم
الأيام فرحم، اعتمادك على الصحة والسلامة خرق، وسكونك إلى المال
والولد حمق، والاغترار بعواقب الأمور خلق، فدونك وحزم الأمور،
والتيقظ ليوم النشور، وطول اللبث في صفحات القبور، فلا تغرنكم الحياة
الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
فمن صاحب الأيام سبعين حجة * فلذاتها لاشك منه طوالق
فعقبى حلاوات الزمان مريرة * وان عذبت حينا فحينا خرابق
ومن طرفته الحادثات بويلها * فلابد ان تأتيه فيها الصواعق
فما هذه الطمأنينة وأنت مزعج، وما هذا الولوج وأنت مخرج، جمعك
إلى تفريق، ورفوك (وفرك خ) إلى تمزيق، وسعتك إلى ضيق، فيا أيها
المفتون، والطامع بما لا يكون، أفحسبتم إنما خلقناكم عبثا وانكم الينا
لا ترجعون.
ستندم عند الموت شر ندامة * إذا ضم أعضاك الثرى والمطابق
وعاينت أعلام المنية والردى * ووافاك ما تبيض منه المفارق
وصرت رهينا في ضريحك مفردا * وباعدك الجار القريب الملاصق
فيا من عدم رشده، وجار قصده، ونسي ورده، إلى متى تواصل
بالذنوب وأوقاتك محدودة، وأفعالك مشهودة، افتعول على الاعتذار، وتهمل
الاعذار والانذار، وأنت مقيم على الاصرار، ولا تحسبن الله غافلا عما
يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار.
إذا نصب الميزان للفصل والقضا * وأبلس محجاج وأخرس ناطق
وأججت النيران واشتد غيظها * إذا فتحت أبوابها والمغالق

(18) كذا. (19) كذا.
68

وقطعت الأسباب من كل ظالم * يقيم على أسراره وينافق
فقدم التوبة، واغسل الحوبة، فلابد ان تبلغ إليك النوبة، وحسن
العمل قبل حلول الأجل، وانقطاع الامل، فكل غائب قادم، وكل عريب عازم
(وكل غريب غارم خ)، وكل مفرط نادم، فاعمل للخلاص قبل القصاص،
والاخذ بالنواص.
فإنك مأخوذ بما قد جنيته * وانك مطلوب بما أنت سارق
وذنبك ان أبغضته فمعانق * ومالك ان أحببته فمفارق
فقارب وسدد واتق الله وحده * ولا تستقل الزاد فالموت طارق
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم
لا يظلمون.
ومن كلام بعض الحكماء: رحم الله امرء لا يغره ما يرى من كثرة
الناس، فإنه يموت وحده، ويقبر وحده، ويحاسب وحده.
وقال بعضهم: لاوجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا، ولا الاعتداد بشئ
من متاعها، ولا التخلي منها. اما ترك الاهتمام لها، فمن جهة انه لا سبيل
إلى دفع الكائن من مقدورها، واما ترك الاعتداد بها، فان مرجع كل إلى
تركها، واما ترك التخلي عنها، فان الآخرة لا تدرك الا بها.
وقال بعضهم: أفضل اختيار الانسان ما توجه به إلى الآخرة وأعرض
به عن الدنيا، وقد تقدمت الحجة، وأوذنا بالرحيل، ولنا من الدنيا على
الدنيا دليل، وإنما أحدنا في مدة بقائه صريع المرض، أو مكتئب بهم، أو
مطروق بمصيبة، أو مترقب لمخوف، لا يأمن المرء من أصناف لذته من
المطعوم والمشروف أن يكون موته فيه، ولا يأمن مملوكه وجاريته ان يقتلاه
بحديد أو سم، وهو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال،
وسمعه من صمم، وبصره من عمى، ولسانه من خرس، وسائر جوارحه من
69

زمانة، ونفسه من تلف، وماله من بوار، وحبيبه من فراق، وكل ذلك
يشهد شهادة قطعية انه فقير إلى ربه، ذليل في قبضته، محتاج إليه، لا يزال
المرء بخير ما حاسب نفسه، وعمر آخرته بتخريب دنياه، وإذا اعترضته بحار
المكاره جعل معابرها الصبر والتأسي، لم يغتر بتتابع النعم، وابطاء حلول
النقم، وأدام صحبة التقى، وفطم النفس عن الهوى، فإنما حياته كبضاعة
ينفق من رأس المال منها، ولا يمكنه أن يزيد فيها، ومثل ذلك يوشك فناؤه،
وسرعة زواله.
وقالت حرقة بنت النعمان، حين حضرت عند سعد بن أبي وقاص:
ان الدنيا دار زوال، ولا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالا، وتعقبهم
بعد حال حالا، كنا ملوك هذا المصر، يجبى لنا خراجه، ويطيعنا أهله
مدى المدة، وزمان الدولة، فلما أدبر الامر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر،
فصدع عصانا، وشتت شملنا، وكذلك الدهر يا سعد، انه ليس يأتي قوما
بمسرة إلا ويعقبهم بحسرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والامر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف
فأف لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلب تارات بنا وتصرف
فقال سعد: قاتل الله عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرتها * لا تبيتن قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى * ولقد كان آمنا مسرورا
فبينا هي واقفة، إذ دخل عمرو بن معد يكرب، وكان زوارا لأبيها في
الجاهلية، فلما نظر إليها، قال: أنت حرقة؟ قالت نعم. قال: فما دهمك
فأذهب محمودات شيمك، وأين تتابع نعمتك، وسطوات نقمتك؟ فقالت:
يا عمرو! ان للدهر لسطوات وعثرات وعبرات، تعثر بالملوك وأبنائهم،
فتخفضهم بعد رفعة، وتفردهم بعد منعة، وتذلهم بعد عزة، ان هذا الامر
70

كنا ننتظره، فلما حل بنا لم ننكره.
" (البحث في ذكر جملة من الاشعار التي تناسب المقام) "
نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
تزود من الدنيا فإنك راحل * وبادر فان الموت لاشك نازل
سرورك في الدنيا غرور وحسرة * وعيشك في الدنيا محال وباطل
ألا إنما الدنيا كمنزل راكب أناخ عشيا وهو في الصبح راحل
وقال (ع) - على ما نسبه إليه العلامة النراقي في الخزائن، 145 -:
هون الامر تعش في راحة * قل ما هونت الا سيهون
ليس أمر المرء سهلا كله * إنما الامر سهول وحزون
تطلب الراحة في دار العنا * خاب من يطلب شيئا لا يكون
وقال الامام المجتبى عليه السلام:
قل للمقيم بغير دار إقامة * حان الرحيل فودع الا حبابا
إن الذين لقيتهم وصحبتهم * صاروا جميعا في القبور ترابا
وقال السبط الشهيد الامام التابع لمرضاة الله (ع):
ناديت سكان القبور فاسكتوا * فأجابني عن صمتهم ترب الجثا
قالت أتدري ما صنعت بساكني؟ * مزقت لحمهم وخرقت الكسا
وحشيت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تأذى بالقليل من القذا
أما العظام، فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوى
قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا * فتركتها مما يطول بها البلى
قال أبو العتاهية:
ستباشر الترباء خدك * وسيضحك الباكون بعدك
ولينزلن بك البلى * وليخلقن الموت عهدك
وليفنينك مثل ما * أفنا أباك به وجدك
71

لو قد رحلت عن القصور * وطيبها وسكنت لحدك
لم تنتفع الا بفعل * صالح قد كان عندك
وترى الذين قسمت ما * لك بينهم حصصا وكدك
يتلذذون بما جمعت * لهم ولا يجدون فقدك
وجد مكتوبا في خرابة:
هذا منازل أقوام عهدتهم * في خفض عيش وعز ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا * إلى القبور فلا عين ولا أثر
للتهامي الشامي الشيعي (ره):
ننافس في الدنيا غرورا وإنما * قصارى غناها ان تعود إلى الفقر
واما لفي الدنيا كركب سفينة * نظن وقوفا والزمان بنا يجري
وله رحمه الله في رثاء ولده وقد مات صغيرا:
حكم المنية في البرية جار * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الانسان فيها مخبرا * حتى يرى خيرا من الاخبار
طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأقذار والاقدار
ومكلف الأيام ضد طباعها * متطلب في الماء جذوة نار
فالعيش نوم والمنية يقظة * والمرء بينهما خيال سار
فاقضوا مأربكم عجالا إنما * أعماركم سفر من الاسفار
اني وترت بصارم ذي رونق * أعددته لطلابة الأوتار
والنفس ان رضيت بذلك أو أبت * منقادة بأزمة المقدار
يا كوكبا ما كان أقصر عمره * وكذا تكون كواكب الأسحار
ان يحتقر صغرا قرب مفخم * يبدو ضئيل الشخص للنظار
ان الكواكب في علو محلها * لترى صغارا وهي غير صغار
ولد المعزى بعضه فإذا مضى * بعض الفتى، فالكل في الآثار
72

أبكيه ثن أقول معتذرا له * وفقت حين تركت الام دار
جاورت أعدائي وجاور ربه * شتان بين جواره وجواري
أشكو بعادك لي وأنت بموضع * لولا الردى لسمعت فيه مزاري
والشرق نحو الغرب أقرب شقة من بعد تلك الخمسة الأشبار
فإذا نطقت فأنت أول منطقي * وإذا سكت فأنت في مضماري
اني لأرحم حاسدي لحرء ما * ضمنت صدورهم من الأوغار
نظروا صنيع الله بي فعيونهم * في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي * فكأنما برقعت وجه نهار
وقال آخر:
فإنك لا تدري متى أنت ميت * وقبرك لا تدري بأي مكان
وحسبك قول الناس فيما رأيته * لقد كان هذا مرة لفلان
وقال المتنبي:
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها * منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب * وفارقها الماضي فراق سليب
وروى جمال المفسرين، أبو الفتوح الرازي (ره)، عن جرير بن عبد الله:
ان نعمان الأكبر خرج مع عدي بن زيد العبادي يوما للتفرج، فلما وصلا إلى
مقابر الحيرة، قال عدي بن زيد: أبيت اللعن أيها الملك، أتعرف ما يقول
أهل هذه المقابر؟ قال: لا. يقولون:
أيها الركب المخبون * على الأرض مجدون
كما أنتم كنا * كما نحن تكونون
فرجع النعمان وقد نغص عليه تفرجه. فخرج للتفرج ثانيا، بعد مضي
أيام من المرة الأولى، فصادفا جبانة ومقبرة أخرى، فقال عدي: أيها الملك
أتدري ما يقول أهل هذه المقابر بلسان الاعتبار؟ قال: لا. قال: يقولون:
73

من رآنا فليحدث نفسه * انه موف على قرن الزوال
وصروف الدهر لا تبقى لها * ولما تأتي به صم الجبال
رب ركب قد أناخوا حولنا * يشربون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها قدم * وعتاق الخيل تردي في الجلال
عمروا دهرا بعيش حسن * آمني دهرهم غير عجال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم * وكذاك الدهر حالا بعد حال (20)
وقال آخر:
قد نادت الدنيا على نفسها * لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واريته * وجامع بددت ما يجمع
وقال آخر:
لا تغبطن أخا الدنيا لزخرفها * ولا للذة وقت عجلت فرحا
فالدهر أسرع شئ في تقلبه وفعله بين للخلق قد وضحا
كم شارب عملا فيه منيته * وكن تقلد سيفا من به ذبحا
وقال آخر:
وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم * قطعوا إليك مسافة الآجال
وصل البنون إلى محل أبيهم * وتجهز الاباء للترحال
وقال أبو الفتح ابن عميد القمي:
سكن الدنيا أناس قبلنا * رحلوا عنها وخلوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا * ونخليها لقوم بعدنا
ومر صاحب بن عباد (ره) على باب داره بعد انقراضه، فلم ير هناك
أحدا، بعد إن كان الدهليز من زحام الناس، فأنشد:
أيها الربع لم علاك اكتئاب * أين ذاك الحجاب والحجاب؟

(20) ويروى: وكذاك الدهر يلهو بالرجال
74

أين من كان يفزع الدهر منه * فهو اليوم في التراب تراب؟
قل بلا رهبة وغير احتشام * مات مولاي فاعتراني اكتئاب
- 3 -
ومن وصية له عليه السلام
قال الإمام الكاظم عليه السلام: كان أمير المؤمنين عليه السلام يوصي
أصحابه ويقول:
أوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية، والعدل
في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن
تصلوا من قطعكم، وأن تعفوا عمن ظلمكم، وتعطوا على
من حرمكم، وليكن نظركم عبرا (1)، وصمتكم فكرا،
وقولكم ذكرا، والسخاء (2) فإنه لا يدخل الجنة بخيل،

(1) العبرة: العظة، وإنما حذف (ع) التاء ليتلائم لفظا مع قوله (ع):
وصمتكم فكرا، وقولكم ذكرا، أي إذا نظرتم إلى شئ فليكن نظركم للاتعاظ
لا سفها ولغوا، وكذلك إذا سكتم فليكن سكوتكم للتأمل في موجبات السعادة
وأيضا إذا تكلمتم فاجعلوا كلامكم ذكر الله، أو تذكير عباد الله.
كتب سلمان الفارسي رضوان الله عليه إلى أبى الدرداء: أما بعد فإنك
لن تنال ما تريد الا بترك ما تشتهي، ولن تنال ما تأمل الا بالصبر على ما تكره
فليكن كلامك ذكرا، وصمتك فكرا، ونظرك عبرا، قال الدنيا تتقلب، وبهجتها
تتغير، فلا تغتر بها، الخ.
(2) قوله (ع): " والسخاء " مجرور بالعطف على قوله: بالخشية من الله.
75

ولا يدخل النار سخي.
وهذه الوصية الشريفة رواها الحسن بن علي بن شعبة رحمه الله في
كتابه القيم: تحف العقول 191، عن العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر
عليهما السلام في ضمن وصاياه القدسية، وحكمه الربانية، التي ألقاها
وحملها على نصير أهل البيت: هشام بن الحكم رحمه الله. ورواها عن
تحف العقول في الحديث 30، من الباب 3، من البحار: 1، 47 وفي ج
17، من البحار 199، من 7 عكسا.
وهذه الوصايا وإن كان ناقلها ثبتا معتمدا، ومتنها أيضا يشهد شهادة
قطعية على أنها من أهل بيت الوحي، وخزان علم الله، ومن هذه الجهة
لا نحتاج إلى معاضد ومؤيد داخلي أو خارجي آخر، ولكن لما التزمنا نحن
احياء ذكر رواتها وايفاء حقوقهم، فمن هذه الناحية مست حاجتنا إلى تعيين
نقلتها، وترجمة حفظتها، وتعدد طرقها، لنحيي ما دثر من مآثر الرواة،
ونؤدي ما وجب علينا من حق الحماة، ولأجله تفحصنا وبحثنا بقدر وسعنا
في مظانه من أسفار العلماء، وحملة أسرار أهل بيت النبوة، فلم نجد الوصية
الشريفة مسندة الا في الحديث 12، من كتاب العقل، من الكافي، الا ان
ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه، لم يتعرض لذكرها كاملة بل ذكر
موضع حاجته منها. وحيث احتملنا تعدد الطرق، وان سند الكافي غير سند
تحف العقول كففنا عن ترجمة الرواة التي في سند الكافي.
وههنا تعليقات
التعليق الأول:
فيما يتعلق بقوله عليه السلام: والاكتساب في الفقر والغنى.
أقول: اطلاق الاكتساب وإن كان يعم الاكتساب الدنيوي والأخروي،
76

لكن المتبادر إلى الذهن، والمأنوس للخاطر من هذه العبارة، هو الاكتساب
الدنيوي أي الاشتغال بالعمل وتحمل المشقة لازدياد المال والثراء، ورغد
العيش، وطيب الحياة، من الزراعة والتجارة وجري الأنهار وتعمير القصور،
وغير ذلك مما يعمر به الدنيا.
ومما يدل أيضا على الامر بالاكتساب وعدم اهمال الدنيا، ما ذكره
عليه السلام في المختار 95، من خطب نهج البلاغة: وأن تعمل لدنياك بقدر
عمرك فيها، وان تعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، الخ.
ويدل عليه أيضا ما رواه في البحار: 17، 422، س 22، وفي تنبيه
الخواطر 339، عن النبي الأكرم (ص) أنه قال لجابر: فاحرث حرث من
يظن أنه لا يموت الا هرما، واعمل عمل من يخاف انه يموت غدا.
ويدل عليه أيضا ما أوصى به لقمان ابنه من قوله: يا بني لا تدخل
في الدنيا دخولا يضر بآخرتك، ولا ترفضها كل الرفض فتكون كلا
على غيرك.
والآثار من هذا النمط غير قليل، ومن أراد الزيادة فعليه بمظانها.
ونظير ما قاله عليه السلام في صدر هذه الوصية، قد ورد عن غير واحد من
المعصومين (ع). قال النبي (ص): أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها، أوصيكم
بالاخلاص في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى
والفقر، وان اعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني،
وأن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرا، كما في عقد الفريد:
1، 355.
وعن الشيخ المفيد رحمه الله، كما في الحديث الأخير من الفصول
المختارة 123 معنعنا، عن الإمام السجاد (ع) قال قال رسول الله (ص): ثلاث
منجيات، وثلاث مهلكات، فاما المنجيات: فخوف الله في السر والعلانية،
77

والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، واما المهلكات:
فشح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء نفسه.
وقال السبط الأكبر الامام المجتبى عليه السلام: ان الله عز وجل أدب
نبيه أحسن الأدب فقال: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين،
فلما وعى الذي أمره، قال تعالى: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا، فقال لجبرئيل عليه السلام: وما أقفو؟ قال: ان تصل من قطعك،
وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فلما فعل ذلك أوحى الله إليه:
انك لعلى خلق عظيم. كما في البحار: 17، 147.
التعليق الثاني:
في الإشارة إلى بعض ما ورد في الشريعة، من الامر بصلة الأرحام.
قال الله تعالى في الآية 27، من سورة البقرة: " الذين ينقضون عهد
الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به ان يوصل ويفسدون في الأرض
أولئك هم الخاسرون ". وقال تعالى في الآية 90، من سورة النحل: " ان
الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى ". إلى غير ذلك من الآيات
الواردة في الذكر الحكيم.
واما الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله، وعترته المعصومين
في الحث على صلة الرحم، والردع عن قطعها فكثيرة.
فعن ثقة الاسلام الكليني قدس سره معنعنا، في الحديث 2، من
الباب 68، من كتاب الكفر والايمان، من الكافي: إن رجلا أتى النبي صلى
الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله، أهل بيتي أبوا الا توثبا علي، وقطيعة
لي، وشتيمة فأرفضهم؟ قال (ص): إذا يرفضكم الله جميعا، قال: فكيف
أصنع. قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك،
78

فإنك إذا فعلت ذلك كان لكم من الله عليهم ظهير.
وفي الحديث 21، من الباب معنعنا، عنه صلى الله عليه وآله: ان
القوم ليكونون فجرة، ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم،
وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبرارا بررة.
وفي الحديث 22، من الباب معنعنا، عن أمير المؤمنين عليه السلام:
صلوا أرحامكم ولو بالتسليم، يقول الله تبارك وتعالى: واتقوا الله الذي
تساءلون به والأرحام، ان الله كان عليكم رقيبا (1).
وروى العياشي (ره) عن الأصبغ بن نباتة (ره) قال: سمعت أمير المؤمنين
عليه السلام يقول: ان أحدكم ليغضب، فما يرضى حتى يدخل به النار،
فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه، فان الرحم إذا مسها
الرحم استقرت، وانها متعلقة بالعرش ينقضه انتقاض الحديد، فينادي:
اللهم صلى من وصلني واقطع من قطعني، وذلك قول الله في كتابه: واتقوا
الله الذي تساءلون به والأرحام، ان الله كان عليكم رقيبا، وأيما رجل غضب
وهو قائم فليلزم الأرض من فوره، فإنه يذهب رجز الشيطان.
وقالت الزهراء المرضية صلوات الله عليها في خطبتها: فرض الله صلة
الأرحام منماة للعدد، الخ (2).
وعن الصدوق (ره) بأسانيد ثلاثة، عن السبط الشهيد عليه السلام،
قال: من سره أن ينسأ في أجله، ويزاد في رزقه، فليصل رحمه. كما في
الحديث 18، من الباب 3، من البحار: 16، 27، نقلا عن عيون
أخبار الرضا.
وعنه (ره) مسندا، عن الإمام السجاد عليه السلام، قال: مامن خطوة

(1) الآية: 1 من سورة النساء.
(2) الحديث 26، من الباب 3، من البحار: 16، 27، ط الكمباني.
79

أحب إلى الله عز وجل من خطوتين: خطوة يسد بها المؤمن صفا في الله،
وخطوة إلى ذي رحم قاطع، الخبر. كما في الحديث 8، من الباب 3،
من الكتاب، ص 26، نقلا عن كتاب الخصال.
وفي الحديث 12، من الباب، من الكتاب، نقلا عن الخصال معنعنا،
قال الإمام الباقر عليه السلام: أربعة أسرع شئ عقوبة: رجل أحسنت إليه
ويكافيك بالاحسان إليه إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل
عاهدته على أمر فمن أمرك الوفاء له، ومن أمره الغدر بك، ورجل يصل
قرابته ويقطعونه.
وقال عليه السلام: إذا قطعت الأرحام، جعلت الأموال في أيدي الأشرار
كما في البحار: 16، 27.
وعن أبي حمزة (ره) قال: قال أبو جعفر عليه السلام: صلة الأرحام
تزكي الاعمال، وتنمي الأموال، وترفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ
في الأجل.
وعن أبي حمزة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: صلة الأرحام
تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتطيب النفس، وتزيد في الرزق، وتنسئ
في الأجل، كما في شرح المختار 23، من الخطب، من منهاج البراعة:
3، 342.
وعن معلم الأمة الشيخ المفيد قدس الله أسراره معنعنا، عن داود الرقي
قال: كنت جالسا عند أبي عبد الله عليه السلام إذ قال لي مبتدئا من قبل نفسه:
يا داود لقد عرضت علي أعمالكم يوم الخميس، فرأيت فيما عرض علي من
عملك صلتك لابن عملك فلان، فسرني ذلك، اني علمت أن صلتك له أسرع
لفناء عمره وقطع أجله، قال داود: وكان لي ابن عم معاندا خبيثا،
بلغني عنه وعن عياله سوء حال، فصككت له نفقة يفقه قبل خروجي إلى
80

مكة، فلما صرت بالمدينة خبرني أبو عبد الله عليه السلام بذلك.
وعن شيخ الطائفة قدس سره، في كتاب الغيبة معنعنا، عن سالمة مولاة
أبي عبد الله عليه السلام قالت: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام حين حضرته
الوفاة وأغمي عليه، فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين
وهو الأفطس سبعين دينارا، واعط فلانا كذا، وفلانا كذا، فقلت: أتعطي
من حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: تريدين أن لا أكون من الذين
قال الله عز وجل: والذين يصلون ما أمر الله به ان يوصل ويخشون ربهم
ويخافون سوء الحساب، نعم يا سالمة، ان الله خلق الجنة فطيبها وطيب
ريحها، وان ريحها ليوجد من مسيرة الفي عام، فلا يجد ريحها عاق ولا
قاطع رحم، كما في الحديث 34، من الباب 3، من البحار: 16، 28.
وقريب منه في تفسير الآية من مجمع البيان.
وعن الراوندي رحمه الله في الدعوات قال: روى أن موسى بن جعفر
عليه السلام دخل على الرشيد يوما فقال له هارون: اني والله قاتلك، فقال:
لا تفعل فاني سمعت أبي عن آبائه عليهم السلام قال، قال رسول الله (ص):
ان العبد ليكون واصلا لرحمه وقد بقي من أجله ثلاث سنين، فيجعلها ثلاثين
سنة، ويكون الرجل قاطعا لرحمه وقد بقي من أجله ثلاثون سنة، فيجعلها
الله ثلاث سنين، فقال الرشيد: الله لقد سمعت هذا من أبيك؟ قال: نعم،
فأمر له بمأة ألف درهم ورده.
وعن الشيخ المفيد (ره) في الاختصاص، 55، ط 2: أنه قال (ع)
لهارون: حدثني أبي عن جدي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله: ان
الرحم إذا مست رحما تحركت واضطربت، الخ.
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: يكون الرجل يصل رحمه فيكون
قد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيرها الله ثلاثين سنة، ويفعل الله ما يشاء،
81

رواه عنه في البحار: 16، 31، في الباب 3، الحديث 84، معنعنا عن الكافي
وروى شيخ الطائفة (ره) معنعنا انه: بعث المنصور إلى أبي عبد الله
عليه السلام وأمر له بفرش، فطرحت إلى جانبه، فأجلسه عليها، ثم قال:
علي بمحمد، علي بالمهدي، يقول ذلك مرارا، فقيل له: الساعة الساعة
يأتي يا أمير المؤمنين، ما يحبسه الا انه يبخر، فما لبث ان وافى وقد سبقه
ريحه، فأقبل المنصور على أبي عبد الله عليه السلام فقال: حديث حدثته في
صلة الرحم، اذكره يسمعه المهدي، قال: نعم، حدثني أبي، عن أبيه،
عن جده، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله (ص): ان الرجل
ليصل رحمه وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيرها الله عز وجل ثلاثين
سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصيرها الله ثلاث سنين، ثم
تلا عليه السلام: يمحو الله ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب، الآية.
قال: هذا حسن يا أبا عبد الله، وليس إياه أردت، قال أبو عبد الله: نعم،
حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص):
صلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الاعمار، وإن كان أهلها غير أخيار،
قال: هذا حسن، وليس هذا أردت، فقال أبو عبد الله عليه السلام: نعم،
حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (ع) قال: قال رسول الله (ص):
صلة الرحم تهون الحساب، وتقي ميتة السوء، قال المنصور: نعم هذا أردت.
التعليق الثالث:
في الإشارة إلى بعض ما ورد في مدح السخاء وذم البخل.
فعن الشيخ الصدوق (ره) معنعنا، عن أمير المؤمنين عليه السلام،
أنه قال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، في الآخرة الأتقياء. كما في
البحار: 2، 200. وعنه عليه السلام أخذ تلميذه ابن عباس، كما في عقد
الفريد: 1، 114، ط 2.
82

وعن رسول الله صلى عليه وآله: تجاوزوا عن ذنب السخي، فان
الله تعالى آخذ بيده كلما عثر، وفاتح له كلما افتقر. كما في البحار: 17،
422، عن نزهة الناظر.
وعن الشيخ المفيد مسندا عنه، (ص) قال: ان الله تعالى يقول: أيما
عبد خلقته فهديته إلى الايمان، وحسنت خلقه، ولم أبلته بالبخل، فاني
أريد به خيرا.
وعن شيخ الطائفة (ره) معنعنا، عن رسول الله (ص) أنه قال: ان السخاء
شجرة من أشجار الجنة، لها أغصان متدلية في الدنيا، الخ.
وعن الشيخ الصدوق (ره) معنعنا، عن رسول الله (ص) أنه قال:
السخاء شجرة، في الجنة أصلها، وهي مظلة على الدنيا، من تعلق بغصن
منها اجتره إلى الجنة.
وفي الكافي: 4، 41 معنعنا، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال
لبعض جلسائه: ألا أخبرك بشئ يقرب من الله ويقرب من الجنة، ويباعد
من النار؟ فقال بلى، فقال: عليك بالسخاء، فان الله خلق خلقا برحمته
لرحمته، فجعلهم للمعروف أهلا، وللخير موضعا، وللناس وجها، يسعى
إليهم لكي يحيوهم كما يحيي المطر الأرض المجدبة، أولئك هم المؤمنون
الآمنون يوم القيامة.
وعنه (ره) في الكافي: 4، 39، عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال:
السخي الحسن الخلق في كنف الله، لا يستخلي الله منه حتى يدخله الجنة،
وما بعث الله عز وجل نبيا ولا وصيا إلا سخيا، وما كان أحد من الصالحين
الا سخيا، وما زال أبي يوصيني بالسخاء حتى مضى.
وعن اختصاص الشيخ المفيد (ره)، وكتاب فقه الرضا، انه روي عن
العالم، أنه قال: السخاء شجرة من الجنة، أغصانها في الدنيا، فمن تعلق
83

بغصن منها أدته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا،
فمن تعلق بغصن من أغصانها أدته إلى النار. وذيل الرواية نقله في الكافي
مسندا.
وعن الإمام الهادي عليه السلام: الجهل والبخل أذم للأخلاق.
وقال ارسطاطاليس: من انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن
بك والثقة بما عندك.
وقال أبو ذر رحمه الله: ان لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث،
فان استطعت أن لا تكون أبخس الشركاء حظا فافعل.
وقال كسرى: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظن
بالله، ولو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضر بخلهم، ومذمة الناس لهم
واطباق القلوب على بغضهم، الا سوء ظنهم بربهم في الخلف، لكان عظيما.
ومنه أخذ محمود الوراق فقال:
من ظن بالله خيرا جاد مبتدأ * والبخل من سوء ظن المرء بالله
وقال بزرجمهر: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها فإنها لا تبقى، وقال
الشاعر:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف
وان تولت فأحرى ان تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وقال آخر:
أسعد بمالك في الحياة فإنما * يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا جمعت لمفسد لم يغنه * وأخو الصلاح قليله يتزيد
وقال الغزالي في الاحياء (كما في المحجة البيضاء: ج 6، 63):
وقال علي عليه السلام: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها، فإنها لا تفنى،
وإذا أدبرت عنك فانفق منها، فإنها لا تبقى، وأنشد:
84

لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف
فان تولت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
ونسب أيضا إليه عليه السلام كما في الديوان، 89:
سأمنح مالي كل من جاء طالبا * وأجعله وقفا على الفرض والقرض
فأما كريم صنت بالمال عرضه * واما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
وعن الصدوق (ره) معنعنا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
يا علي، لا تشاور جبانا، فإنه يضيق عليك المخرج، ولا تشاور البخيل،
فإنه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاور حريصا، فإنه يزين لك شرهما، واعلم
يا علي ان الجبن والبخل والحرص غريزة واحدة، يجمعها سوء الظن.
وسئل الامام المجتبى عليه السلام عن البخل، فقال: هو ان يرى الرجل
ما أنفقه تلفا، وما أمسكه شرفا، كما في المختار 42، مما اختار من كلمه
عليه السلام، في البحار: 17، 147.
85

- 4 -
ومن وصية له عليه السلام
رواها حافظ الشيعة وصدوق الشريعة ابن بابويه رحمه الله، عن إبراهيم
ابن الوليد، عن محمد بن أحمد الكاتب رفعه، ان أمير المؤمنين عليه السلام
قال لبنيه:
يا بني إياكم ومعاداة الرجال، فإنهم لا يخلون من ضربين،
من عاقل يمكر بكم، أو جاهل يعجل عليكم، والكلام ذكر
والجواب أنثى، فإذا اجتمع الزوجان فلابد من النتاج،
ثم أنشأ عليه السلام يقول:
سليم العرض من حذر الجوابا
ومن داري الرجال فقد أصابا
ومن هاب الرجال تهيبوه
ومن حقر الرجال فلن يهابا (1)

(1) هاب يهاب ويهيب (من باب خاف وباع) هيبا وهيبة ومهابة - فلانا
أي عظمه ووقره، ومراده عليه السلام: ان من أراد المهابة والجلالة والتوقير
والاحترام فلابد له من تجرع الغصص وتحمل المرارة بتعظيم الناس، وغض
النظر عن سوء سيرتهم وسريرتهم، وانهم غير مستحقين للاحترام، بل أهل
للتوهين والملام، إذ بالمعاملة بالمثل وقدر الاستحقاق يختل نظام المجتمع، ويؤول
أمر الصداقة والمحبة إلى العداوة والبغضاء، فلابد للعاقل أن لا ينظر إلى قابلية
الأشخاص، بل ينظر إلى قابليته وشخصيته، فيوصل من قطعه، ويقرب من
هجره، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ويذكر بالحسن من
اغتابه وآذاه باللسان، ويتفقد من نسيه، وينصر من خذله، إلى غير ذلك من
انحاء مجازاة الإساءة بالاحسان، وهذا هو الذي حث عليه الشارع المقدس
ببيانات مختلفة وتأكيدات بليغة لا تحصى، وبهذا العمل يجتمع الشمل المبدد،
والنظام المختل، ويحسن هذا الصنيع ترتفع البغضاء، وترجع العداوة إلى
الصداقة، والمنافرة إلى المؤانسة والعلاقة، ويجتث أصل الحقد، ويستأصل
بذر الغل، كما قال الله تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " إذ النفوس غالبا مجبولة على المقابلة
بالمثل، وجزاء الاحسان بالاحسان، ومكافأة الإساءة باضعافها من الشرارة
والطغيان، وأنشد الإمام الصادق (ع): تنح عن القبيح فلا ترده. ثم قال لابنه
الإمام الكاظم (ع) وهو صبي: يا بني تممه، فأتمه الإمام الكاظم عليه السلام
بقوله: ومن أوليته حسنا فزده. ثم قال الإمام الصادق عليه السلام: ستلقى
من عدوك كل كيد. فأجابه الإمام الكاظم (ع) بقوله: إذا كاد العدو فلا تكده.
وروى الشيخ الصدوق طاب ثراه مسندا في عيون أخبار الرضا كلاما
طويلا من أسئلة المأمون عن الإمام الرضا عليه السلام، منها: أنه قال للإمام الرضا
عليه السلام: أنشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدو حتى يكون
صديقا، فقال: الرضا عليه السلام:
وذى غلة سالمته فقهرته * فأو قرته مني لعفو التجمل
ومن لا يدافع سيئات عدوه * باحسانه لم يأخذ الطول من عل
ولم أر في الأشياء أسرع مهلكا * لغمر قديم من وداد معجل
فقال المأمون: ما أحسن هذا، هذا من قاله؟ فقال عليه السلام: بعض
فتياننا، الخ.
وروى الشيخ الطوسي (ره) في الحديث 22، من المجلس، من أماليه،
مسندا عن رسول الله (ص) أنه قال: إياكم ومشاجرة الناس، فإنها تظهر
الغرة، وتدفن العزة.
86

انتهى الحديث 109، من باب الاثنين، من كتاب الخصال.
ورواه عنه في الحديث 1، من الباب 64، من البحار: 16، 174.
87

- 5 -
ومن وصية له عليه السلام
لما ضربه ابن ملجم المرادي لعنه الله
ثقة الاسلام الكليني قدس الله نفسه الزكية. عن الحسين بن الحسن
الحسني، رفعه (1).
ومحمد بن الحسن عن إبراهيم بن إسحاق الأحمري، رفعه، قال: لما
ضرب أمير المؤمنين عليه السلام حف به العواد (2) وقيل له: يا أمير المؤمنين
أوص، فقال (عليه السلام): اثنوا لي وسادة (3) ثم قال:

(1) سنذكر في البحث الرجالي ترجمتهم، ونبين أيضا ان الوصية الشريفة
مروية بلا رفع، وان لها مصادر وثيقة.
(2) حف - (من باب مد وفر) حفا القوم الرجل وبه وحوله أي
أحدقوا به واستداروا عليه، وحفه بكذا أي أحاطه به، والعواد: جمع عائد
وهو الذي يذهب إلى المصاب للتسلي واذهاب الغم عنه، أو ليداويه، أو ليرشده
إلى المحيص مما هو فيه، أو ليتزود من رؤيته وسماع كلامه، أو غير ذلك
مما يقصد من العيادة.
(3) اثنوا طلب من قولهم ثنى - (من باب ضرب) ثنيا الشئ أي عطفه
وطواه ورد بعضه إلى بعض، والوسادة (مثلث الواو): المخدة والمتكأ، أي
اجعلوا لي الوسادة بحيث أتكئ عليها، وأتمكن بالاعتماد عليها من الجلوس،
وهذا مثل قوله (ع): لو ثنيت لي الوسادة وجلست عليها، لحكمت بين أهل
التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم،
وبين أهل الفرقان بفرقانهم الخ. وقال العلامة المجلسي (ره): وثني الوسادة
اما للجلوس عليها ليرتفع ويظهر للسامعين، أو للاتكاء عليها لعدم قدرته على
الجلوس.
88

الحمد لله حق قدره متبعين أمره (4) وأحمده كما أحب،
ولا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد كما انتسب (5)، أيها
الناس كل امرئ لاق في فراره مامنه يفر (6)، والأجل
مساق النفس إليه، والهرب منه موافاته (7)، كم أطردت
الأيام أبحثها عن مكنون هذا الامر، فأبى الله عز ذكره إلا
إخفاءه (8)، هيهات علم مكنون (9) أما وصيتي. فأن لا تشركوا

(4) قوله (ع) حق قدره، أي حمدا يكون حسب قدره، وكما هو أهله.
وقوله (ع): متبعين حال عن فاعل الحمد، لأنه في قوة نحمد الله.
(5) أي كما نسب نفسه المقدسة إلى الوحدانية والصمدانية، في سورة
التوحيد المعروفة (في الروايات) بنسبة الرب.
(6) أي كل أحد يلاقي في فراره ما يفر منه من الأمور المقدرة الحتمية
كالموت، قال الله تعالى: قل ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، وأنما
قال (ع) في فراره، لان كل أحد يفر دائما من الموت.
(7) والمساق مصدر ميمي، وليست فيما أختاره السيد (ره) في النهج
كلمة (إليه)، فيحتمل أن يكون المراد بالأجل منتهى العمر، والمساق ما يساق
إليه، ويحتمل أن يكون المراد به المدة، فالمساق زمان السوق، وقوله (ع):
والهرب منه موافاته، من حمل اللازم على الملزوم، فان الانسان ما دام يهرب
من موته بحركات وتصرفات يفني عمره فيها فكان الهرب منه موافاته، والمعنى
انه إذا قدر زوال عمر أو دولة فكل ما يدبره الانسان لرفع ما يهرب منه يصير
سببا لحصوله.
(8) قال السمى العلامة (المجلسي رحمه الله): يحتمل أن يكون الاطراد
بمعنى الطرد والجمع، أو الامر به مجازا، ويمكن ان يقرأ اطردت على صيغة
الغائب بتشديد اللام، فالأيام فاعله، قال أكثر شراح النهج: كأنه (ع) جعل
الأيام اشخاصا يأمر باخراجهم وابعادهم عنه، أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلى
يوما فيوما فإذا لم أجده في طردته واستقبلت يوما آخر، وهكذا حتى وقع
المقدور، وللكلام بقية تجئ في البحث المذهبي، فانتظر.
(9) أي بعد اطلاع غير المؤتمنين على الاسرار عليه، لأنه من علم الله المكنون
ولا يمسه الا المطهرون المأمونون على الاسرار والغيوب، والله العالم بالغيب
لا يظهر على غيبة أحدا الا من ارتضى من رسول، والرسول المرتضى لا يودع
أسرار الملك العلام الا عند مدينة علمه وخليفته.
89

بالله جل ثناؤه شيئا، ومحمدا صلى الله عليه وآله فلا تضيعوا
سنته (10)، أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين،
وخلاكم ذم ما لم تشردوا (11)، حمل كل امرئ (منكم) مجهوده، وخفف عن الجهلة رب رحيم، وإمام عليم، ودين
قويم (12) أنا بالأمس صاحبكم، و (أنا) اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك
المراد (13)، وإن تدحض القدم فانا كنا في أفياء أغصان،

(10) محمدا عطف على أن لا تشركوا، قال المجلسي (ره): ويمكن ان
يقدر فيه فعل، أي أذكركم محمدا، أو هو نصب على الاغراء، وفى بعض
النسخ بالرفع. أقول: وحمل نصبه على شرط التفسير أحسن من تقدير
فعل آخر، أو الحمل على الاغراء.
(11) العمودان: التوحيد والنبوة، واقامتهما كناية عن احقاق حقوقهما،
وخلاكم ذم، أي سقط وذهب عنكم الذم، وجاوزكم اللوم، ما دام لم تميلوا عن
إقامة التوحيد والنبوة، أو ما دام لم تتفرقوا، فيكون الكلام إشارة إلى عظم
معصية المفارقة وفساد ذات البين.
(12) قوله (ع): رب رحيم وما عطف عليه مرفوع على الفاعلية لقوله:
حمل كل امرئ مجهوده، أي ان الله تعالى جعل تكليف الجهال دون تكليف
أهل العلم وجعل لكل منها على حسب وسعه تكليفا، وقيل: إن حمل وخفف
خبر، أريد بهما الانشاء والطلب، أي فليحمل كل امرئ مقدوره، وليخفف
عن الجهلة، ولا ينتظر منها ما يتوقع من أهل المعرفة.
(13) وفى نهج البلاغة: ان ثبتت الوطاة، ومراده (ع) من ثبوت الوطاة:
معافاته من الضربة، وسلامته من القتل، والمزلة: محل الزلل.
90

وذرى رياح، وتحت ظل غمامة (14)، اضمحل في الجو
متلفقها، وعفا في الأرض مخطها (15)، وإنما كنت جارا
جاوركم بدني أياما (16)، وستعقبون (17) مني جثة خلاء

(14) وفى النهج: فأنا كنا في افياء أغصان، ومهب رياح وتحت ظل
غمام. يقال: دحض (من باب منع) دحضا القدم: زلت وزلقت، والمراد
من دحض القدم قتله (ع) من ضربة العين. والافياء: جمع فئ، وهو الظل
ينسخ ضوء الشمس من بعض الأمكنة. والذري: اسم لما ذرته الرياح، وقيل:
المراد محال ذروها، يقال: ذرى يذري ذريا (من باب رمى) وذرا يذرو ذروا
(من باب دعا يدعو) وذري تذرية، وأذرى اذراء - الريح التراب، أي
أطارته وفرقته، شبه (ع) الانسان وما فيه من حياة الدنيا وزخارفها بفئ
أغصان الأشجار وما ذرته الرياح من حيث عدم الثبات وقلة الانتفاع، فإنها
مجموعة ساعة ثم يضمحل.
(15) اضمحل السحاب أي تقشع وذهب، ولغة الكلابيين اضمحل -
بتقديم الميم -. والمتلفق - بكسر الفاء -: المنضم بعضه إلى بعض، وضمير
متلفقها للغمام، وضمير مخطها للرياح، وعفا الأثر، أي امحى واندرس، ومخطها:
ما يحدث في الأرض من الخط الفاصل بين الظل والنور، قال المجلسي (ره):
وفى بعض النسخ محطها - بالحاء المهملة - والحاصل اني ان مت فلا عجب،
فاني كنت في أمور فانية شبيهة بتلك الأمور، أولا أبالي فاني كنت في الدنيا غير
متعلق بها، كمن كان في تلك الأمور، وكنت دائما مترصدا للانتقال.
(16) إنما خص (ع) المجاورة بالبدن اما لأنها من خواص الأجسام، أو
لان روحه (ع) كانت معلقة بالملأ الاعلى وهو بعد في هذه الدنيا، كما قال (ع)
في وصف إخوانه: وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الاعلى، كما في
وصيته (ع) إلى كميل.
(17) وفى النهج: وستعقبون منى جثة خلاء ساكنة بعد حراك، وصامتة
بعد نطوق. وفى نسخة ابن أبي الحديد: وصامتة بعد نطق، ستعقبون -
بالبناء على المفعول - من الاعقاب وهو اعطاء الشئ عقيب الشئ، يقال: أكل اكلة
أعقبته سقما، أي أورثته، والجثة - بالضم -: الجسد والشخص، والحركة
والحراك - كسحاب - بمعنى واحد، والكاظم - كالصامت والساكت - لفظا
ومعنى - وجمعه كظم - كراكع وركع - والنطق والنطوق والمنطق: التكلم،
يقال: نطق (من باب ضرب) نطقا ونطوقا ومنطقا: تكلم.
91

ساكنة بعد حركة، وكاظمة بعد نطق، ليعظكم هدوي،
وخفوت إطراقي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ من الناطق
البليغ (18) ودعتكم وداع مرصد للتلاقي (19)، غدا ترون
أيامي، ويكشف الله عز وجل عن سرائري، وتعرفوني
بعد خلو مكاني، وقيام غيري مقامي (20) إن أبق فأنا ولي

(18) أي ستستبدلون بي جثة وبدنا خالية من الروح وخواص الحياة.
وفى النهج: ليعظكم هدوئي، وخفوت أطرافي، وسكون أطرافي، فإنه أوعظ
للمعتبرين من المنطق البليغ، والقول المسموع، الخ. قال صعصعه (ره) في
مرثيته (ع):
وكانت في حياتك لي عظات * وأنت اليوم منك حيا
ليعظكم - بكسر اللام ونصب الفعل بأن المقدرة بعد اللام - وفاعله الهدوء
المضافة إلى الياء، ويحتمل فتح اللام - على أنها للابتداء - ورفع الفعل
واسناده إلى المرفوع بعده أيضا، ويحتمل فيه الجزم لكونه أمرا، وهذا اظهر.
والهدوء - بالهمزة -: السكون، وقد تقلب الهمزة واوا وتشدد. والخفوت
كالسكون لفظا ومعنى، ولهذا قيل للميت: خفت إذا أنقطع كلامه وسكت.
والاطراق - بكسر الهمزة -: ارخاء العينين إلى الأرض، وهو كناية عن عدم
تحريك الأجفان، والأطراف - جمع الطرف بالتحريك -: الرأس واليدان
والرجلان، وفيهما وجوه آخر.
(19) وفى النهج: وداعيكم وداع امرئ مرصد للتلاقي، الخ. الوداع -
بالفتح - اسم من قولهم: ودعته توديعا أي شيعته ودعوت له بالسلامة. واما
الوداع - بالكسر - فهو بمعنى المتاركة والمسالمة والمصالحة من قولهم: وادعته
موادعة.
(20) غدا ظرف لما بعده من الافعال، أي بعد مفارقتي لكم وخلو مكاني
منى، واشغال غيري إياه واستيلائه على دست الخلافة والرئاسة - تعرفون
بركات أيامي، وسوابغ انعامي، وسوانح احساني، وينكشف لكم سرائري،
وما نويته من أعمالي التي كانت مرا عليكم وبشعة عندكم. قوله (ع):
وقيام، الخ - قال المجلسي (ره) وفى أكثر نسخ الكافي: وقيامي غير مقامي.
وفيها وجوه آخر يطلب من المطولات.
92

دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة،
ولكم حسنة، فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم،
فيالها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة،
أو توديه أيامه إلى شقوة، جعلنا الله وإياكم ممن لا يقصر
به عن طاعة الله رغبة، أو تحل به بعد الموت نقمة فإنما
نحن له وبه.
ثم أقبل (ع) إلى الحسن عليه السلام فقال:
يا بني ضربة مكان ضربة ولا تأثم.
انتهى الحديث 6، من الباب 65، من الكتاب 4، من الكافي، 299.
قال أبو جعفر المحمودي: وهذه الوصية الشريفة رواها أيضا ابن
عساكر (في مقتل أمير المؤمنين عليه السلام)، في تاريخه ص 152، عن أبي
علي الحداد، عن جماعة باختلاف طفيف في بعض ألفاظها، وزيادة ابيات
نذكرها فيما جمعنا من ديوانه (ع) انشاء الله تعالى.
وأيضا هي مروية عن علي بن إبراهيم رحمه الله في تفسيره.
وأيضا رواها الحسين بن سعيد، وكذلك رواها المسعودي كما سنفصل
القول بذكرها بألفاظها الخاصة وطرقها المخصوصة، في مناهج البلاغة، في
شواهد المختار - 145 - من خطب النهج.
93

وههنا أبحاث
البحث الأول:
في تحقيق اجمالي حول سند الوصية من كتاب الكافي، فأقول:
أما الراوي الأول، وهو الحسين بن الحسن الحسنى، فهو من
مشايخ ثقة الاسلام الكليني رحمة الله عليهما، وقد ترحم عليه في الحديث 1،
من باب مولد علي بن الحسين عليهما السلام، من كتاب الكافي، وكفى
بالرجل صدقة جارية وعملا صالحا خالد أن يكون مثل الكليني عليه الرحمة،
تلميذه وحامل العلم عنه.
واما الراوي الثاني (أو الطريق الثاني)، فهو محمد بن الحسن
الصفار، قال النجاشي (ره): محمد بن الحسن بن فروخ الصفار مولى
عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله بن السائب بن مالك بن عامر الأشعري
أبو جعفر الأعرج، كان وجها في أصحابنا القميين ثقة عظيم القدر، راجحا
قليل السقط في الرواية، له كتب، منها كتاب الصلاة (2) كتاب
الوضوء (3) كتاب الجنائز (4) كتاب الصيام " 5 " كتاب الحج " 6 "
كتاب النكاح (7) كتاب الطلاق (8) كتاب العتق والتدبير والمكاتبة " 9 "
كتاب التجارات " 10 " كتاب المكاسب " 11 " كتاب الصيد والذبائح " 12 " كتاب الحدود " 13 " كتاب الديات " 14 " كتاب الفرائض " 15 " كتاب
المواريث " 16 " كتاب الدعاء " 17 " كتاب المزار " 18 " كتاب الرد على
الغلاة " 19 " كتاب الأشربة " 20 " كتاب المروءة " 21 " كتاب الزهد " 22 "
كتاب الخمس " 23 " كتاب الزكاة " 24 " كتاب الشهادات " 25 " كتاب
الملاحم " 26 " كتاب التقية " 27 " كتاب المؤمن " 28 " كتاب الايمان
94

والنذور والكفارات " 29 " كتاب المناقب " 30 " كتاب المثالب " 31 "
كتاب بصائر الدرجات " 32 " كتاب ما روى في أولاد الأئمة " 33 " كتاب
ما روى في شعبان " 34 " كتاب الجهاد " 35 " كتاب فضل القرآن.
أخبرنا بكتبه كلها ما خلا بصائر الدرجات، أبو الحسين علي بن أحمد بن
بن محمد بن طاهر الأشعري، قال حدثنا محمد بن الحسن بن الوليد عنه
بها، وأخبرنا أبو عبد الله ابن شاذان، قال حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى،
عن أبيه، عنه بجميع كتبه وببصائر الدرجات، وتوفي محمد بن الحسن
الصفار بقم سنة 290 تسعين ومأتين رحمه الله، انتهى ما عن النجاشي (ره)
وقريب منه عن الشيخ (ره) في فهرسته، وعده في رجاله من أصحاب الإمام العسكري
عليه السلام.
وأما إبراهيم بن إسحاق الأحمري، فضعفه قوم، ولكن صرح جماعة
من الاجلاء كالوحيد البهبهاني وصاحب عين الغزال والسيد الأمين وغيرهم،
قدس الله أسرارهم، بتوثيق الرجل، وأيدوا توثيقه بوجوه نشير إلى بعضها،
منها اكثار الوكيل الجليل القاسم بن محمد الرواية عنه وسماعه منه، ومنها
رواية الشيخين العظيمين الصفار وعلي بن شبل (وكذا رواية شيخ المشايخ
ابن الوليد) (ره) عنه، ومنها رواية شيخ أصحابنا القميين ووافد علمائنا
الراسخين (إلى الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم): أحمد بن محمد بن
عيسى الأشعري - قدس الله نفسه - عنه، مع ما هو المعلوم من سيرته
المكشوف من دأبه، وهو الاجتناب عن الرواية من الضعفاء، بل الاحتراز
عمن يروى عن الضعفاء والمجاهيل، بل كان رضي الله عنه يراقب الرواة،
ويترصد حملة العلم، فمتى تحقق لديه وثبت عنده ان العالم الفلاني يكون
مسامحا في تحمل الرواية، وأخذ الحديث، وانه ينقل عن كل من روى له
الحديث، (وان لم يعلم وثاقته) - كان رحمه الله يخرج هذا المسامح عن
95

محروسة قم ودار علم الشيعة (في تلك الأنصار).
وأكثر رحمه الله الطعن على الاجلاء، لأجل روايتهم أحيانا عن بعض
الضعفاء والمجاهيل، وإن كان عنده رحمه الله محتملا ان النقل عن الضعفاء
لعله كان من باب التأييد، أو لشاهد يدل على صدق الراوي في مورد النقل
عنه بخصوصه، ومع ذلك كان رحمه الله يواخذ الناقل ويعاتبه، ولعا منه
بسد باب الرواية، وتحمل الحديث من الضعفاء.
البحث الثاني:
في ذكر شئ يسير من كلامه (ع) في الاخبار بشهادته، وأما تفصيله
فسيوافيك في باب اخباره (ع) بالمغيبات، فأقول:
روى محمد بن طلحة، في مطالب السئول 135، ط النجف: أنه (ع)
لما فرغ من قتل الخوارج وعاد إلى الكوفة، قام في المسجد فصلى ركعتين،
ثم صعد المنبر فخطب خطبة حسناء، ثم التفت إلى ابنه الحسن، فقال:
يا أبا محمد، كم مضى من شهرنا هذا؟ قال: ثلاث عشرة يا أمير المؤمنين.
ثم التفت إلى الحسين، فقال: يا أبا عبد الله، كم بقي من شهرنا هذا -
يعني رمضان الذي هم فيه -؟ فقال الحسين (ع): سبع عشرة يا أمير
المؤمنين. فضرب (ع) بيده إلى لحيته، وهي يومئذ بيضاء، فقال: الله
أكبر، والله ليخضبنها بدمها إذا انبعث أشقاها، ثم جعل يقول:
أريد حياته ويريد قتلى * خيلي من عذيري من مراد
وعبد الرحمان بن ملجم المرادي يسمع، فوقع في قلبه من ذلك شئ،
فجاء حتى وقف بين يدي علي (ع) وقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين،
هذه يميني وشمالي بين يديك فاقطعهما أو فقتلني. قال (ع): وكيف
أقتلك ولا ذنب عليك؟ ألا ولو اعلم انك قاتلي لم أقتلك، ولكن هل كانت
لك حاضنة يهودية فقالت لك يوما من الأيام: يا شقيق عاقر ناقة ثمود؟
96

قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، فسكت (ع) وركب.
وروى ابن الأثير في أسد الغابة: 4، 35، وأبو الفرج، في مقاتل
الطالبيين معنعنا، عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، قال: جمع علي عليه
السلام الناس للبيعة، فجاء عبد الرحمن بن ملجم، فرده مرتين أو ثلاثا،
ثم مد يده فبايعه، فقال له علي: ما يحبس أشقاها، فوالذي نفسي بيده
لتخضبن هذه من هذه، انشد (ع):
اشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
وقال: وقد روي لنا من طريق آخر: ان عليا أعطي الناس، فلما بلغ
ابن ملجم أعطاه وقال له:
أريد حياته ويريد قتلى * عذيرك من خليلك من مراد
وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة، 182، بعد رواية الحديث الأول عن جده أبى الفرج: وفي رواية، ان عليا عليه السلام رده مرتين أو ثلاثا،
ثم بايعه وقال عند بيعته: ما يحبس أشقاها، فوالذي نفسي بيده ليخضبن
هذه من هذه، ووضع يده على لحيته ورأسه وأنشد البيتين.
ثم قال - بعد ذكر ثلاثة أحاديث -: وذكر ابن سعد في الطبقات،
ان عليا عليه السلام قال للمرادي لما أتاه يطلب منه عطاءه:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
وفي رواية ان ابن ملجم قال: يا أمير المؤمنين احملني، فحمله على
فرس أشقر، فركبه وولى، وأنشد أمير المؤمنين (ع) البيت.
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام بن حسان،
عن محمد بن عبيدة قال: قال علي (ع): ما يحبس أشقاكم ان يجئ
فيقتلني، اللهم قد سئمتهم وسئموني، فأرحهم منى، وأرحني منهم.
97

وقال ابن سعد: أخبرنا وكيع بن الجراح، حدثنا الأعمش، عن سالم
بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول:
لتخضبن هذه من هذه، فما ينتظر بالأشقى. قالوا: يا أمير المؤمنين فأخبرنا
به نبيد عشيرته، قال: إذا والله تقتلون غير قاتلي، الخ. وقريب منه معنعنا،
في أسد الغابة: 4، 34، ورواه أيضا ابن عساكر، من طرق كثيرة بألفاظ
مختلفة.
وقال معلم الأمة، الشيخ المفيد - رضوان الله عليه - في الفصل
الثالث والرابع، من كتاب الارشاد، 13: فمن الاخبار التي جاءت بذكره
عليه السلام الحادث قبل كونه، وعلمه به قبل حدوثه:
ما أخبر به علي بن المنذر الطريفي، عن أبي الفضل العبدي، عن
فطر، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، قال: جمع أمير المؤمنين
عليه السلام الناس للبيعة، فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله،
فرده مرتين أو ثلاثا، ثم بايعه، فقال عند بيعته له: ما يحبس أشقاها،
فوالذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا، ووضع يده على لحيته ورأسه
فلما أدبر ابن ملجم منصرفا عنه، قال عليه السلام متمثلا:
أشدد حيازيمك للموت * فان الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديك
كما أضحكك الدهر * كذاك الدهر يبكيك
وروى الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي إسحاق
السبيعي، عن الأصبغ بن نباته، قال: أتى ابن ملجم أمير المؤمنين (ع)
فبايعه فيمن بايع، ثم ادبر عنه، فدعاه أمير المؤمنين (ع) فتوثق منه وتوكد
عليه ان لا يغدر ولا ينكث، فقال ابن ملجم لعنه الله، والله يا أمير المؤمنين
ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري، فقال أمير المؤمنين (ع):
98

أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
امض يا بن ملجم، فوالله ما أرى ان تفي بما قلت.
وروى جعفر بن سليمان الضبعي، من المعلي بن زياد، قال: جاء
عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله إلى أمير المؤمنين (ع) يستحمله، فقال:
يا أمير المؤمنين احملني، فنظر إليه أمير المؤمنين (ع) ثم قال له: أنت
عبد الرحمن بن ملجم المرادي؟ قال: نعم. ثم قال: أنت عبد الرحمن بن
ملجم المرادي؟ قال: نعم. قال: يا غزوان، أحمله على الأشقر. فجاء
بفرس أشقر، فركبه ابن ملجم لعنه الله وأخذ بعنانه فلما ولى قال أمير
المؤمنين (ع):
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
قال: فلما كان من أمره ما كان، وضرب أمير المؤمنين (ع) قبض
عليه، وقد خرج من المسجد، فجئ به إلى أمير المؤمنين (ع)، فقال له:
فوالله لقد كنت اصنع بك ما اصنع وانا أعلم انك قاتلي، ولكن كنت افعل
ذلك بك لأستظهر بالله عليك.
وروى أبو زيد الأحول، عن الأجلح، عن أشياخ كندة، قال: سمعتهم
أكثر من عشرين مرة، يقولون: سمعنا عليا (ع) على المنبر يقول: ما يمنع
أشقاها ان يخضبها من فوقها بدم، ويضع يده على لحيته عليه السلام (1).

(1) ولأجل اكثاره (ع) من نعي نفسه. وقتله وشيكا، تواعد عدة من
أصحابه (ع) على أن يحرسه في كل ليلة جماعة منهم، كما يحدثنا بذلك عدة
من العلماء روى ابن عبد ربه، في العقد الفريد: 3، 123، ط 2، عن سفيان بن
عيينة، قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد،
فقال أناس من أصحابه: نخشى ان يصيبه بعض عدوه، ولكن تعالوا نحرسه،
فخرج ذات ليلة فإذا هو بنا، فقال: ما شأنكم؟ فكتمناه، فعزم علينا، فأخبرناه.
فقال: تحرسوني من أهل السماء، أو من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض.
قال: انه ليس يقضى في الأرض حتى يقضى في السماء.
99

وروى علي بن الحزور، عن الأصبغ بن نباته، قال: خطبنا أمير
المؤمنين (ع) في الشهر الذي قتل فيه، فقال: أتاكم شهر رمضان، وهو
سيد الشهور، وأول السنة، وفيه تدور رحى السلطان، ألا وانكم حاج
العام صفا واحدا، وآية ذلك اني لست فيكم. قال: فهو ينعى نفسه عليه
السلام، ونحن لا ندري.
وروى الفضل بن دكين، عن حيان بن العباس، عن عثمان بن المغيرة
قال: لما دخل شهر رمضان كان أمير المؤمنين (ع) يتعشى ليلة عند الحسن،
وليلة عند الحسين، وليلة عند عبد الله بن العباس، وكان لا يزيد على ثلاث
لقم، فقيل له ليلة من تلك الليالي في ذلك، فقال: يأتيني أمر الله وأنا
خميص، إنما هي ليلة أو ليلتان، فأصيب عليه السلام في آخر الليل.
وروى إسماعيل بن زياد، قال حدثتني أم موسى خادمة علي، (ع)
وهي حاضنة ابنته فاطمة (ع)، قالت: سمعت عليا (ع) يقول لابنته أم
كلثوم: يا بنية اني أراني قل ما أصحبكم. قالت: وكيف ذلك يا أبتاه؟
قال: اني رأيت رسول الله (ص) في منامي، وهو يمسح الغبار عن وجهي

وروى ابن عساكر، في ترجمته (ع) من تاريخ الشام مسندا، عن يعلى
بن مرة، قال: ائتمرنا ان نحرس عليا كل ليلة عشرة، قال: فخرج فصلى كما
كان يصلي، لم أتانا فقال: ما شان السلاح؟ قلنا: نحرسك. فقال: من أهل
السماء، أم من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض. قال: فإنه لا يكون في الأرض
شئ، حتى يقضى في السماء، وان على من الله جنة حصينة، فإذا جاء أجلي
كشف عني، وانه لا يجد عبد يذوق حلاوة الايمان حتى يستيقن يقينا غير ظان
ان ما أصابه لم يكن ليخطأه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال قتادة: ان آخر ليلة اتى على علي، جعل لا يستقر، فارتاب به
أهله، فجعل يدس بعضهم إلى بعض حتى اجتمعوا، قال: فناشدوه، فقال:
انه ليس من عبد الا ومعه ملكان يدفعان عنه ما لم يقدر (ما لم يأت القدر، خ)،
فإذا أتى القدر خليا بينه وبين القدر، قال فخرج إلى المسجد فقتل.
100

ويقول: يا علي لا عليك، قضيت ما عليك. قالت: فما مكث الا ثلاثا حتى
ضرب تلك الضربة، فصاحت أم كلثوم. فقال: يا بنية لا تفعلي، فاني أرى
رسول الله (ص) يشير إلى بكفه ويقول: يا علي، هلم الينا، فان ما عندنا
هو خير لك.
وروى عمار الدهني، عن أبي صالح الحنفي، قال: سمعت عليا (ع)
يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وآله في منامي، فشكوت إليه ما لقيت
من أمته من الأود واللدد وبكيت. فقال: لا تبك يا علي، والتفت فإذا
رجلان مصفدان، وإذا جلاميد ترضخ بها رؤسهما. قال أبو صالح: فغدوت
إليه من الغد، كما كنت أغدو إليه كل يوم، حتى إذا كنت في الجزارين لقيت
الناس يقولون: قتل أمير المؤمنين (ع).
وروى عبد الله بن موسى، عن الحسن بن دينار، عن الحسن البصري
قال: سهر أمير المؤمنين علي (ع) في الليلة التي قتل في صبيحتها، ولم
يخرج إلى المسجد لصلاة الليل عادته، فقالت له ابنته أم كلثوم رحمة
الله عليها: ما هذا الذي قد أسهرك؟ فقال: اني مقتول لو قد أصبحت،
فأتاه ابن النباح، فآذنه بالصلاة، فمشى غير بعيد، ثم رجع فقالت له أم
كلثوم: مر جعدة فليصل بالناس. قال: نعم، مروا جعدة ليصلي، ثم قال:
لا مفر من الأجل، فخرج إلى المسجد، وإذا هو بالرجل قد سهر ليلته كلها
يرصده، فلما برد السحر نام، فحركه أمير المؤمنين عليه السلام برجله،
وقال له: الصلاة، فقام إليه فضربه.
وفي حديث آخر: ان أمير المؤمنين (ع) قد سهر تلك الليلة، فأكثر
الخروج والنظر إلى السماء، وهو يقول: والله: ما كذبت ولا كذبت، وانها
الليلة التي وعدت بها، ثم يعاود مضجعه، فلما طلع الفجر شد ازاره وخرج
وهو يقول:
101

أشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
فلما خرج إلى صحن الدار استقبلته الإوز فصحن في وجهه، فجعلوا
يطردونهن، فقال: دعوهن فإنهن نوائح، ثم خرج فأصيب عليه السلام.
وروى الخوارزمي مسندا، في الحديث 7، من الفصل 26، من مقتله،
282، عن سلمة بن كميل (كهيل ظ)، عن عبد الله بن سميع، قال:
قال. علي بن أبي طالب قبل ان يضرب بثلاث: أين شقيكم هذا أما والله
ليخضبن هذه من هذا، الخ.
وروى أيضا معنعنا، في الحديث 8، من الباب، عن خالد بن مخلد
ومحمد بن الصلت، قالا أخبرنا الربيع بن المنذر، عن أبيه، عن محمد بن
الحنفية، قال: دخل علينا ابن ملجم لعنه الله الحمام، وانا والحسن والحسين
جلوس في الحمام، فلما دخل كأنهما اشمأزا منه، فقالا: ما أجرأك تدخل
علينا، قال: فقلت لهما دعاه عنكما، فلعمري ما يريد بكما اثم من هذا،
فلما كان يوم أتي به أسيرا، قال ابن الحنفية: ما أنا اليوم بأعرف به من
يوم دخل علينا الحمام، فقال علي (ع): انه أسير، فأحسنوا إليه وأكرموا
مثواه، فان بقيت قتلت أو عفوت، وان مت فاقتلوه كما قتلني،، ولا تعتدوا
ان الله لا يحب المعتدين. (2)

(2) ورواه أيضا مسندا، في مقتله (ع) من أسد الغابة: 4، 35. ورواه
أيضا معنعنا ابن عساكر، في تاريخه 151. وقال سبط ابن الجوزي في
التذكرة ص 186: وحمل علي (ع) إلى القصر، وقال علي بالرجل، فأدخل
عليه، فقال: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلي. قال: فما حملك على
هذا؟ أشار علي (ع) إلى احسانه إليه وحمله على الأشقر. وفى رواية أنه قال
: ولقد كنت اعلم انك قاتلي، وإنما أحسنت إليك لأستظهر بالله عليك.
ثم قال لبنيه: يا بني ان هلكت والنفس بالنفس، اقتلوه كما قتلني، وان بقيت
رأيت فيه رأيا. وفى رواية: وان عشت فضربة بضربة أو أعفوا.
102

وروى الصفار (ره) في بصائر الدرجات: ان أمير المؤمنين (ع) دخل
الحمام، فسمع صوت الحسن والحسين عليهما السلام قد علا، فقال لهما
ما لكما فداكما أبي وأمي؟ فقالا: اتبعك هذا الفاجر فظننا انه يريد ان
يضرك. قال (ع): دعاه والله ما أطلق الاله. البحار: 9، 648.
وقال ابن عساكر في تاريخه، 150: أخبرنا أبو القاسم ابن السمرقندي،
عن جوين الحضرمي قال عرض: (على) علي الخيل، فمر عليه ابن ملجم، فسأله
عن اسمه (أو قال نسبه)، فانتهى إلى غير أبيه، فقال له: كذبت، حتى
انتسب إلى أبيه، فقال: صدقت، أما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثني ان قاتلي شبه اليهود، هو يهودي فامصه. (كذا). في البحار: 9، ص 658،
س 4، عن كتاب الخرائج: انه (ع) دخل الحمام، ذ فسمع صوت الحسن
والحسين فخرج اليهما، فقال: ما لكما؟ فقالا: اتبعك هذا الفاجر ابن
ملجم، فظننا انه يغتالك. فقال: لهما دعاه لا بأس.
وروى ابن شهرآشوب في المناقب: انه سمع ابن ملجم يقول: لأضربن
عليا بسيفي هذا، فذهبوا به إليه، فقال له: ما اسمك؟ قال: عبد الرحمن
ابن ملجم. قال: نشدتك بالله عن شئ تخبرني؟ قال: نعم. قال: هل
مر عليك شيخ يتوكأ على عصاه وأنت في الباب، فمشقك بعصاه، ثم قال:
بؤسا لك، أشقى من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم. قال: هل كان الصبيان
يسمونك ابن راعية الكلاب وأنت تلعب معهم؟ قال: نعم. قال: هل أخبرتك
أمك أنها حملت بك وهي طامث؟ قال: نعم، قال: فبايع، فبايع، ثم
قال: خلوا سبيله.
وروى الخوارزمي مسندا - وكذلك ابن الأثير في أسد الغابة 354 الا أنه قال
وليلة عند ابن جعفر - في الحديث 11، من الفصل المتقدم ذكره، عن
عثمان بن المغيرة، قال: انه لما دخل رمضان، كان علي عليه السلام يتعشى
103

ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند ابن عباس، ولا يزيد على
ثلاث لقم، ويقول: يأتيني امر الله وانا أخمص، إنما هي ليلة أو ليلتان،
فأصيب (ع) من الليل.
وفي الحديث 13، من الفصل معنعنا، عن حفص بن خالد، عن أبيه،
عن جده جابر، قال: اني لشاهد لعلي (ع) واتاه المرادي يستحمله فحمله،
ثم قال:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: هذا والله قاتلي. قالوا: يا أمير المؤمنين أفلا تقتله؟ قال:
فمن يقتلني إذا؟ ثم قال: أشدد حيازيمك للموت فان الموت لاقيكا، الخ.
وروى في الاستيعاب، بهامش الإصابة: 3، 60، معنعنا، عن ابن
سيرين، عن عبيده قال: كان علي رضي الله عنه، إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
وكان رضي الله عنه كثيرا ما يقول: ما يمنع أشقاها (أو ما ينتظر
أشقاها) ان يخضب هذه من دم هذا، يقول: والله لتخضبن هذه من دم
هذا - ويشير إلى لحيته ورأسه - خضاب دم لا خضاب عطر ولا عبير.
وذكر عمر بن شبه، عن أبي عاصم النبيل وموسى بن إسماعيل، عن سكين
بن عبد العزيز العبدي، انه سمع أباه يقول: جاء عبد الرحمن بن ملجم
يستحمل عليا فحمله، ثم قال:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
أما ان هذا قاتلي. قيل: فما يمنعك منه؟ قال: انه لم يقتلني بعد.
وأتي علي رضي الله عنه فقيل له: ان ابن ملجم يسم سيفه ويقول: انه
سيفتك بك فتكة يتحدث بها العرب، فبعث إليه فقال له: لم تسم سيفك؟
قال: لعدوي وعدوك، فخلى عنه وقال: ما قتلني بعد.
104

البحث الثالث:
في الآثار الواردة في كيفية شهادته (ع) وسببها.
واجمال القصة على ما ذكره جمهور العلماء من الخاصة والعامة (3)
ما أوردها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين 29، حيث قال:
ان نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة فتذاكروا أمر المسلمين، فعابوهم
وعابوا أعمالهم عليهم، وذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم، وقال بعضهم
لبعض: لو أنا شرينا أنفسنا لله عز وجل، فأتينا أئمة الضلال وطلبنا غرتهم
وأرحنا منهم العباد والبلاد، وثأرنا لاخواننا الشهداء بالنهروان، فتعاقدوا
عند انقضاء الحج، فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أكفيكم عليا، وقال
واحد: انا أكفيكم معاوية، وقال الثالث: أنا أكفيكم عمرو بن العاص،

(3) كالشيخ المفيد في الارشاد، والطبري وابن الأثير في تاريخيهما، وابن
طلحة في مطالب السؤل، والمسعودي في مروج الذهب، وسبط ابن الجوزي
في التذكرة نقلا عن محمد بن إسحاق وهشام بن محمد والسدي وغيرهم،
واليعقوبي في تاريخه، والكنجي في كفاية الطالب، والزرندي في نظم درر
السمطين. وابن عساكر في تاريخه 152، وابن شهرآشوب في مناقبه،
والخوارزمي في المناقب، وكلهم اتفقوا على سرد أصل القضية مثل ما سرده
أبو الفرج، نعم بينهم اختلاف من حيث السند، ومن جهة ذكر بعض الخصوصيات
ومن طريق الاجمال والتفصيل، واسناد الرواية إلى راويها أو ارسالها، وحسن
التعبير وجودته. نعم وللمدائني سياق آخر في مبدأ القصة، قال ابن قتيبة
في الإمامة والسياسة 159، قال المدائني: حج ناس من الخوارج، سنة تسع
وثلاثين، وقد اختلف عامل على وعامل معاوية، فاصطلح الناس على شبيب
ابن عثمان، فلما انقضى الموسم أقام النفر من الخوارج مجاورين بمكة، فقالوا:
كان هذا البيت معظما في الجاهلية، جليل الشأن في الاسلام، وقد انتهك
هؤلاء حرمته، فلو ان قوما شروا أنفسهم فقتلوا هذين الرجلين الذين قد
أفسدا في الأرض، واستحلا حرمة هذا البيت استراحت الأمة، واختار الناس
لهم اماما، فقال عبد الرحمن بن ملجم: انا أكفيكم أمر علي، وقال الحجاج
ابن عبد الله: انا أقتل معاوية (ثم ساق القصة) مثل ما قاله أبو الفرج الا نادرا.
105

فتعاقدوا، وتواثقوا على الوفاء، وان لا ينكل أحد منهم عن صاحبه الذي
يتوجه إليه ولاعن قتله، واتعدوا لشهر رمضان في الليلة التي قتل فيها ابن
ملجم عليا.
قال أبو الفرج: قال أبو مخنف: قال أبو زهير العبسي: الرجلان
الآخران: البرك بن عبد الله التميمي، وهو صاحب معاوية، وعمرو بن بكر
التميمي، وهو صاحب عمرو بن العاص.
قال: فأما صاحب معاوية، فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه،
فوقعت ضربته على أليته، وأخذ فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة فقال:
ان السيف مسموم، فاختر اما أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة،
واما ان أسقيك دواء فتبرأ وينقطع نسلك، فقال: أما النار فلا أطيقها، وأما
انسل ففي يزيد وعبد الله ما تقر عيني وحسبي بهما، فسقاه الدواء فعوفي،
وعالج جرحه حتى التأم، ولم يولد له بعد ذلك. وقال البرك: ان لك
عندي بشارة، قال: وما هي؟ فأخبره خبر صاحبه، وقال له: ان عليا قتل
في هذه الليلة، فاحتبسني عندك، فان قتل فأنت ولي ما تراه في أمري،
وان لم يقتل أعطيتك العهود والمواثيق ان أمضى إليه فأقتله، ثم أعود إليك
فأضع يدي في يدك حتى تحكم في بما ترى، فحبسه عنده، فلما اتى الخبر
ان عليا قتل في تلك الليلة خلى سبيله.
هذه رواية إسماعيل بن راشد، وقال غيره من الرواة: بل قتله
من وقته.
واما صاحب عمرو بن العاص، فإنه وافاه في تلك الليلة، وقد وجد
علة فأخذ دواء واستخلف رجلا يصلي بالناس، يقال: له خارجة بن حنيفة أحد
بني عامر بن لؤي، فخرج للصلاة، فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف
فأثبته، وأخذ الرجل فأتي به عمرو بن العاص فقتله، ودخل من غد إلى
106

خارجة وهو يجود بنفسه، فقال: أما والله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك. قال
عمرو: ولكن الله أراد خارجة.
وأما ابن ملجم فإنه قتل عليا تلك الليلة.
قال: وحدثني أحمد بن عيسى العجلي بأسناد ذكره في الكتاب إلى أبي
زهير العبسي. قال: كان ابن ملجم من مراد، وعداده في كنده، فأقبل
حتى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه، وكتمهم أمره، (4) وطوى عنهم
ما تعاقد هو وأصحابه عليه بمكة من قتل أمراء المسلمين مخافة ان ينتشر،
وزار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب، فصادف عنده قطام
بنت الأخضر من بني تيم الرباب، وكان علي قتل أخاها وأباها بالنهروان،
وكانت من أجمل نساء أهل زمانها، فلما رآها شغف بها، واشتد اعجابه
فخطبها، فقالت له: ما الذي تسمى لي من الصداق؟ فقال: احتكمي ما بدا
لك. فقالت: احتكم عليك ثلاثة آلاف درهم، ووصيفا وخادما، وان
تقتل علي بن أبي طالب. فقال لها: لك جميع ما سألت، وأما قتل علي فأنى
لي بذلك؟ قالت: تلتمس غرته، فان أنت قتلته شفيت نفسي، وهناك العيش
معي، وان قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا. قال لها: أما والله ما أقدمني
هذا المصر، وقد كنت هاربا منه، لامن أهله الا ما سألتني من قتل علي.
قالت له: فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا ويقويك. ثم بعثت

(4) وقال اليعقوبي (ره): وقدم عبد الرحمان بن ملجم المرادي الكوفة،
لعشر بقين من شعبان، سنة أربعين، فلما بلغ عليا قدومه قال: أو قد وافى؟ اما
انه ما بقي علي غيره وهذا أوانه. فنزل على الأشعث بن قيس الكندي، فأقام
عنده شهرا يستحد سيفه، وكانوا ثلاثة نفر توجهوا، فواحد منهم إلى معاوية
بالشام، وآخر إلى عمرو بن العاص بمصر، والاخر إلى علي (ع) وهو ابن
ملجم. فأما صاحب معاوية فضربه، فوقعت الضربة على أليته، وبادر فدخل
داره. وأما صاحب عمرو بن العاص فإنه ضرب خارجة خليفة عمرو في صلاة
الصبح وكان عمرو تخلف لعلة، الخ.
107

إلى وردان بن مجالد، أحد بني تيم الرباب، فخبرته الخبر، وسألته معاونة
ابن ملجم، فتحمل لها ذلك.
وخرج ابن ملجم فأتى رجلا من أشجع، يقال له شبيب بن بجيرة،
وقال له: يا شبيب! هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟
قال: تساعدني على قتل علي. وكان شبيب على رأي الخوارج، فقال له
هبلتك الهبول، لقد جئت شيئا إدا، (5) وكيف تقدر ويحك على ذلك؟
قال ابن ملجم: نكمن له في المسجد الأعظم، فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا
به وشفينا أنفسنا منه، فلم يزل به حتى أجابه. فأقبل به حتى دخلا على
قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم، قد ضربت لها قبة، فقالا لها:
قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل. قالت: لهما فإذا أردتما ذلك فالقياني

(5) وههنا لعبارة الطبري والكامل، ومروج الذهب والاستيعاب مزية
على ما ذكره أبو الفرج، ونحن نذكر لفظ أبي عمر لفوائده الخاصة. قال في
الاستيعاب بهامش الإصابة: 3، 58: ولقي ابن ملجم شبيب بن بجرة الأشجعي
فقال: يا شبيب هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: تساعدني
على قتل علي بن أبي طالب. قال له: ثكلتك أمك لقد جئت شيئا إدا، كيف
تقدر على ذلك؟ قال: انه رجل لا حرس له، ويخرج إلى المسجد منفردا ليس
له من يحرسه، فنكمن له في المسجد، فإذا خرج إلى الصلاة قتلناه، فان نجونا
نجونا، وان قتلنا سعدنا بالذكر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة. فقال: ويلك
ان عليا ذو سابقة في الاسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما تنشرح
نفسي لقتله. فقال: ويحك انه حكم الرجال في دين الله عز وجل، وقتل إخواننا
الصالحين، فنقتله ببعض من قتل فلا تشكن في دينك، فأجابه، واقبلا حتى
دخلا على قطام، وهي معتكفة في المسجد الأعظم في قبة ضربتها لنفسها، فدعت
لهم، وأخذوا سيوفهم وجلسوا قبالة السدة التي يخرج منها علي رضي الله عنه
، فخرج لصلاة الصبح، فبدره شبيب فضربه فأخطأه، وضربه ابن ملجم
على رأسه، وقال: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، فقال علي رضي الله عنه:
فزت ورب الكعبة، لا يفوتنكم الكلب. فشد الناس عليه من كل جانب فأخذوه،
وهرب شبيب خارجا من باب كندة، الخ. وقال ابن عساكر في تاريخه ص
153، أخبرنا أبو القاسم ابن السمرقندي، عن شيخ من قريش، ان عليا قال
لما ضربه ابن ملجم: فزت ورب الكعبة.
108

في هذا الموضع، فانصرنا من عندها فلبثا أياما، ثم أتياها، ومعهما وردان
ابن مجالد الذي كلفته مساعدة ابن ملجم، وذلك في ليلة الجمعة، لتسع
عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين، قال أبو الفرج: هكذا في رواية
أبي مخنف. وفي رواية أبي عبد الرحمان السلمي انها كانت ليلة سبع عشرة
من شهر رمضان، فقال لها ابن ملجم: هذه الليلة هي التي وعدت فيها صاحبي
ووعداني ان يقتل كل واحد منا صاحبه الذي يتوجه إليه، فدعت لهم بحرير
فعصبت به صدورهم، وتقلدوا سيوفهم، ومضوا فجلسوا مقابل السدة
التي كان يخرج منها علي. قال الشيخ المفيد وأبو الفرج (6): وقد كان
ابن ملجم اتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة فخلا به في بعض نواحي
المسجد، (7) فمر بهما حجر بن عدي فسمع الأشعث وهو يقول لابن ملجم:

(6) هذا الذي ذكرناه هو لفظ أبي الفرج في مقاتل الطالبيين: وذكره أيضا
جل المؤرخين. ولكن لفظ الشيخ المفيد في الارشاد أوضح، فإنه بعد ما ذكر
نحو ما نقلناه عن أبي الفرج، من أنهم مضوا وجلسوا مقابل السدة التي كان
يخرج منها أمير المؤمنين عليه السلام إلى الصلاة قال: وقد كانوا قبل ذلك
ألقوا إلى الأشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين
عليه السلام، وواطأهم على ذلك، وحضر الأشعث لعنه الله في تلك الليلة لمعونتهم
على ما اجتمعوا عليه، وكان حجر بن عدي رحمه الله في تلك الليلة بائتا في
المسجد، فسمع الأشعث يقول لابن ملجم: النجا النجا لحاجتك فقد فضح
الصبح فأحس حجر بما أراد الأشعث، فقال له: قتلته يا أعوز، وخرج
مبادرا ليمضي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليخبره الخبر، ويحذره من القوم،
وخالفه أمير المؤمنين عليه السلام من الطريق فدخل المسجد، فسبقه ابن
ملجم لعنه الله فضربه بالسيف، فأقبل حجر والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين.
(7) قال أبو الفرج: وللأشعث في انحرافه عن أمير المؤمنين اخبار يطول
شرحها.
منها: انه جاء في تلك الأيام إلى علي يستأذن عليه، فرده قنبر، فأدمى
الأشعث انفه، فخرج علي وهو يقول: مالي ولك يا أشعث؟ أما والله لو بعبد
ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك. قيل يا أمير المؤمنين: ومن عبد ثقيف؟
قال: غلام لهم لا يبقى أهل بيت من العرب الا أدخلهم ذلا. قيل يا أمير المؤمنين:
كم يلي أو كم يمكث؟ قال: عشرين ان بلغها.
ومنها: ان الأشعث دخل على علي (ع) في تلك الأيام فكلمه، فأغلظ علي
له، فعرض له الأشعث انه سيفتك به، فقال له علي (ع): أبالموت تخوفني؟
(أو تهددني)، فوالله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي.
109

النجا، النجا فقد فضحك الصبح. قال له حجر: قتلته يا أعور، فخرج
مبادرا إلى علي عليه السلام وقد سبقه ابن ملجم فضربه، فأقبل حجر
والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين.
وقال ابن شهرآشوب في المناقب: روى أبو مخنف الأزدي، وابن
راشد، والرفاعي، والثقفي جميعا: انه اجتمع نفر من الخوارج بمكة،
فقالوا: انا شرينا أنفسنا لله، فلو أتينا أئمة الضلال، وطلبنا غرتهم فأرحنا
منهم البلاد والعباد. فقال عبد الرحمان بن ملجم: انا أكفيكم عليا. وقال
الحجاج بن عبد الله السعدي الملقب بالبرك: انا أكفيكم معاوية. وقال عمرو
ابن بكر التميمي: انا أكفيكم عمرو بن عاص. واتعدوا التاسع عشر من شهر
رمضان، ثم تفرقوا، فدخل ابن ملجم الكوفة، فرأى رجلا من تيم الرباب
وعنده قطام التيمية، وكان أمير المؤمنين (ع) قتل أباها الأخضر، وأخاها الأصبغ
النهروان، فشغف بها ابن ملجم، فخطبها فأجابته بمهر ذكره العبدي في
كلمة له فقال:
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام من فصحيح واعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة * وضرب علي بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي وان غلا * ولا قتل الا دون قتل ابن ملجم
فقال ابن ملجم: ويحك من يقدر على قتل علي، وهو فارس الفرسان،
والسباق إلى الطعان، ومغالب الاقران؟! وأما المالية فلا بأس علي منها.
قالت: انتظر غفلته، فافتك به. فقبل ابن ملجم، فبعثت إلى وردان بن
110

مجالد وسألته معونة ابن ملجم، واستعان ابن ملجم بشبيب بن بجرة فأعانه،
وأعانه رجل من وكلاء عمرو بن العاص بخط فيه مأة ألف درهم فجعله
مهرها، فأطعمتها الموزينج والجوزينق وسقتهما الخمر العكبري، فنام
شبيب وتمتع ابن ملجم معها، (8) ثم قامت فأيقظتهما، وعصبت صدورهم
بحرير، فتقلدوا أسيافهم، وكمنوا له مقابل السدة، وحضر الأشعث بن
قيس لمعونتهم، فقال لابن ملجم: النجا النجا، فقد فضحك الصبح، فأحس
الحجر بن عدي بما أراد الأشعث، وخرج مبادرا ليمضي إلى أمير المؤمنين
عليه السلام فدخل (ع) المسجد فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف.
وقال محمد بن عبد الله الأزدي اقبل أمير المؤمنين (ع) وهو ينادي
الصلاة الصلاة، فإذا هو مضروب، وسمعت قائلا يقول: الحكم لله يا علي
لا لك ولا لأصحابك، وسمعت عليا (ع) يقول: فزت ورب الكعبة، ثم
يقول: لا يفوتنكم الرجل.
وكان قد ضربه شبيب فأخطأه، ووقعت ضربته في الطاق، ومضى هاربا
حتى دخل منزله، ودخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره،
فقال: ما هذا لعلك قتلت أمير المؤمنين؟ فأراد ان يقول لا، فقال: نعم.
فقتله الأزدي.
وأما ابن ملجم، فان رجلا من همدان لحقه وطرح عليه قطيفة فصرعه،
وانسل الثالث بين الناس.
وجئ بابن ملجم إلى أمير المؤمنين (ع) فلما رآه قال: النفس بالنفس
ان أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وان سلمت رأيت فيه رأيي.

(8) قال سبط ابن الجوزي في التذكرة، ص 185: وروي ان ابن ملجم
دخل بها، فلما فرغ منها ازداد عشقا لها، فقالت له: والله لا تساكني حتى
تقتل عليا، ثم قالت: اني سأطلب لك رجلا يساعدك، الخ.
111

وفي رواية: ان أنا عشت رأيت فيه رأيي، وان هلكت فاصنعوا به
ما يصنع يقاتل النبي. فسئل عن معناه، فقال: اقتلوه ثم احرقوه بالنار.
فقال ابن ملجم: لقد ابتعته بألف وسممته بألف فان خانني فأبعده الله،
ولقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم.
وروى أنه (ع) قال: أطعموه واسقوه وأحسنوا أساره، فان أصح
فأنا ولي دمي، ان شئت عفوت، وان شئت استفذت، وان هلكت فاقتلوه،
ثم أوصى (ع) فقال: يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين
خوضا، تقولون قتل أمير المؤمنين، الا لا يقتلن بي الا قاتلي. ونهى عن
المثلة. انتهى ما أردنا نقله عنه بتصرف ما يقتضيه السياق.
قال أبو الفرج: قال أبو مخنف: حدثني أبي، عن عبد الله بن محمد
الأزدي، قال: اني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل
المصر كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره، إذ نظرت إلى
رجال يصلون قريبا من السدة قيام وقعودا وركوعا وسجودا ما يسأمون،
إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر، فأقبل ينادي: الصلاة الصلاة فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول: الحكم لله يا علي لا لك، ثم رأيت
بريق سيف آخر، وسمعت صوت علي يقول: لا يفوتنكم الرجل.
وروى أبو الفرج معنعنا، عن الإمام الحسن عليه السلام قال: خرجت
وأبي يصلي في المسجد، فقال لي: يا بني اني بت الليلة أوقظ أهلي، لأنها
ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر، لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان،
فملكتني عيناي فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقلت: يا رسول
الله، ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد، فقال لي: ادع عليهم، فقلت: (9)

(9) وقريب منه في تاريخ ابن عساكر، بطرق كثيرة.
وذكره في الإمامة والسياسة 160، قال: وروى عن الحسن أنه قال: اتيت
أبي فقال لي: أرقت الليلة، ثم ملكتني عيناي فسنح لي، الخ.
ورواه في المختار 68، من خطب النهج بلفظ: ملكتني عيناي، وانا جالس،
فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله، الخ.
وذكره أيضا سبط ابن الجوزي في التذكرة، قريبا من لفظ نهج البلاغة.
وقريب منه ما رواه في الاستيعاب بهامش الإصابة: 3، 62، مع قوله: فجاء
ابن النباح فآذنه بالصلاة، فخرج فاعتوره الرجلان، الخ. وكذلك نقله
السيوطي، في تاريخ الخلفاء ص 175، ط 1.
112

اللهم أبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني. قال الحسن عليه
السلام: وجاء ابن النباح فآذنه بالصلاة فخرج، وخرجت خلفه، فاعتوره
الرجلان، فأما أحدهما فوقعت ضربته على الطاق، واما الاخر فأثبتها في رأسه.
وقال الشيخ المفيد رحمه الله في الارشاد: روى عمار الدهني عن أبي
صالح الحنفي، قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: رأيت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في منامي، فشكوت إليه ما لقيت من أمته من الأود واللدد،
وبكيت، فقال: لا تبك يا علي والتفت، فالتفت فإذا رجلان مصفدان، وإذا
جلاميد ترضخ بهما رؤسهما. قال أبو صالح: فغدوت إليه من الغد كما كنت
أغدو إليه كل يوم، حتى إذا كنت في الجزارين لقيت الناس يقولون: قتل
أمير المؤمنين. وقريب منه في مناقب ابن شهرآشوب عن أبي صالح.
وروى الخوارزمي بأسناده، والشيخ المفيد (ره) عن إسماعيل بن
زياد، قال: حدثتني أم موسى خادمة علي عليه السلام، وهي حاضنة فاطمة
ابنته (ع)، قالت سمعت عليا (ع) يقول لابنته أم كلثوم: يا بنية اني
أراني قل ما أصحبكم، قالت: وكيف ذلك يا أبتاه؟ اني رأيت رسول
الله في منامي، وهو يمسح الغبار عن وجهي ويقول: يا علي لا عليك، قضيت
ما عليك. قال: فما مكثنا الا ثلاثا حتى ضرب (ع) تلك الضربة، فصاحت
أم كلثوم، فقال: يا بنية لا تفعلي، فاني أرى رسول الله (ص) يشير إلى
بكفه ويقول: يا علي هلم الينا، فان ما عندنا هو خير لك. وقريب منه
113

مرسلا عن ابن شهرآشوب.
وروى المجلسي العظيم، عن كتاب العدد القوية، عن أبي مخنف قال:
جاء رجل من مراد إلى أمير المؤمنين (ع) يصلي في المسجد فقال: احترس
فان أناسا من مراد يريدون قتلك، فقال (ع): ان مع كل رجل ملكين
يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه (10) وان الأجل جنة
حصينة، وقال الشعبي: انشد أمير المؤمنين (ع) قبل ان يستشهد بأيام:
تلكم قريش تمناني لتقتلني * فلا وربك ما فازوا ولا ظفروا
فان بقيت فرهن ذمتي لهم * وان عدمت فلا يبقى لها أثر
وسوف يورثهم فقدي على وجل * ذل الحياة بما خانوا وما غدروا (11)
وقال المسعودي: وكان علي رضي الله عنه كثيرا ما يتمثل:
تلكم قريش تمناني لتقتلني * فلا وربك ما بروا وما ظفروا
فان هلكت فرهن ذمتي لهم * بذات ودقين لا يعفو لها اثر. (12)
ورواها ابن شهرآشوب، في المناقب، عن أبي عثمان المازني، عنه (ع)
بزيادة قوله:

(10) وفى الإمامة والسياسة 162: وجاء رجل من مراد إلى علي فقال له:
يا أمير المؤمنين احترس فان هنا قوما يريدون قتلك، فقال: ان لكل انسان
ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خلياه. ورواه سبط ابن الجوزي في التذكرة
182 معنعنا عن طبقات ابن سعد كما رواه المجلسي (ره) عن كتاب العدد القوية
ولكن بسند آخر. ورواه ابن عساكر بألفاظ مختلفة واسناد متعددة وفى أوقات
مختلفة من حياته (ع).
(11) ورواه أيضا سبط ابن الجوزي، في التذكرة 183، قال: قال
الشعبي: انشد علي (ع) قبيل قتله بأيام: تلكم قريش تمناني ليقتلني، الخ.
(12) ونقلها معجم الأدباء 14، ص 43. في ترجمة أمير المؤمنين (ع)
الا أنه قال: فلا وجدك ما بروا ولا ظفروا. وفى الأخير قال: بذات روقين الخ،
ثم قال: يقال ذات روقين وذات ودقين، إذا كانت عظيمة.
114

وان هلكت فاني سوف أوترهم * ذل الممات فقد خانوا وقد غدروا
قال المسعودي: وكان (عليه السلام) يكثر من ذكر هذين البيتين:
أشدد حيازيمك للموت * فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
وسمعا منه في الوقت الذي قتل فيه، فإنه قد خرج إلى المسجد وقد
عسر عليه فتح باب داره (13)، وكان من جذوع النخل، فاقتلعه وجعله
ناحية، وانحل ازاره، فشده وجعل ينشد هذين البيتين المتقدمين (14).
وقال الطبري وابن الأثير - بعد ما ذكرا أصل القضية كالمسعودي
والشيخ المفيد وأبي الفرج وغيرهم الا في خصوصيات نادرة - واللفظ من
كامل ابن الأثير -: فلما كان ليلة الجمعة - وهي التي واعد ابن ملجم أصحابه
على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص - فأخذ (ابن ملجم) سيفه ومعه
شبيب ووردان، وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة (15)،
فلما خرج علي نادى: أيها الناس الصلاة الصلاة، فضربه شبيب بالسيف
فوقع سيفه بعضادة الباب، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف وقال:
الحكم لله، لا لك يا علي ولا لأصحابك، وهرب وردان فدخل منزلة فأتاه

(13) وفى مطالب السئول 136، قبيل الفصل العاشر من ترجمته. وبيان
حاله (ع): فلما كانت ليلة ثلاث وعشرين من الشهر فقام ليخرج من داره
إلى المسجد لصلاة الصبح، وقال: ان قلبي ليشهد اني لمقتول في هذا الشهر،
وفتح الباب، فتعلق الباب بمئزره فجعل ينشد:
اشدد حيازيمك للموت * فان الموت لاقيكا، الخ.
فخرج وقتل.
(14) وقال في الإمامة والسياسة 162: وخرج علي في الليلة التي قتل
فيها وهو يقول: اشدد حيازيمك، الخ.
(15) وقال اليعقوبي: وخرج علي في الغلس فتبعته إوز كن في الدار
فتعلقن بثوبه فقال (ع): صوائح تتبعها نوائح. وقريب منه في تاريخ ابن
عساكر 150،
115

رجل من أهله فأخبره وردان بما كان، فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب
به وردان حتى قتله، وهرب شبيب في الغلس وصاح الناس فلحقه رجل
من حضر موت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف فأخذه وجلس عليه،
فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي
على نفسه فتركه، ونجا شبيب في غمار الناس.
ولما ضرب ابن ملجم عليا قال: لا يفوتنكم الرجل، فشد الناس عليه
فأخذوه (16)، وتأخر علي، وقدم جعدة (وفي الطبري: ودفع في ظهر
جعدة) ابن هبيرة، وهو ابن أخته أم هاني ليصلي بالناس الغداة.
وقال علي (ع) أحضروا الرجل عندي، فادخل عليه، فقال: أي عدو
الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى. قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته
أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه. فقال علي: لا أراك
إلا مقتولا به، ولا أراك الا من شر خلق الله، ثم قال: النفس بالنفس،

(16) قال في الإمامة والسياسة 160، فلما خرج علي للصلاة، وثب
(ابن ملجم) عليه وقال: الحكم لله لا لك يا علي، وضربه على قرنه بالسيف،
فقال علي: فزت ورب الكعبة، ثم قال: لا يفوتنكم الرجل، فشد الناس عليه
فأخذوه، فلما قتل عليا قال: لقد أحددت سيفي بكذا وكذا، وسممته بكذا،
وضربت به عليا ضربة لو كانت بأهل المصر لأتت عليهم. ثم قال ابن قتيبة:
وادخل ابن ملجم على علي بعد ضربه إياه فقال: أطيبوا اطعامه، وألينوا فراشه،
فان أعش فأنا ولي دمي، اما عفوت واما اقتصصت، وان أمت فالحقوه بي،
ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين.
قالوا: وبكت أم كلثوم، وقالت لابن ملجم: يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين،
قال: ما قتلت أمير المؤمنين، ولكني قتلت أباك، قالت: والله اني لأرجو أن
لا يكون عليه بأس، قال: ولم تبكين إذا؟ والله لقد أرهفت السيف، ونفيت
الخوف، وحببت الأجل، وقطعت الامل، وضربته لو كانت بأهل المشرق
لأتت عليهم.
116

إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطلب،
لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين،
ألا لا يقتلن الا قاتلي، انظر يا حسن، ان أنا مت من ضربتي هذه فاضربه
ضربة بضربة، ولا تمثل بالرجل، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إياكم والمثلة، ولو بالكلب العقور.
هذا كله وابن ملجم مكتوف، فقالت له أم كلثوم ابنة علي: أي عدو
الله، لا بأس على أبي، والله مخزيك، قال: فعلى من تبكين؟ والله ان
سيفي اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر
ما بقي منهم أحد.
البحث الرابع:
حول أعماله عليه السلام في الليلة التي ضرب فيها:
روى الشيخ الزاهد أبو الحسين ورام ابن أبي فراس (ره)، في أول
الجزء الثاني، من كتاب تنبيه الخواطر، عن محمد بن الحسن القصباني،
عن إبراهيم محمد بن مسلم الثقفي قال: حدثنا عبد الله بن بلخ المنقري، عن
شريك، عن جابر، عن أبي حمزة اليشكري، عن قدامة الأودي، عن إسماعيل
ابن عبد الله الصلعي، وكانت له صحبة قال: لما كثر الاختلاف بين أصحاب
رسول الله (ص) وقتل عثمان بن عفان تخوفت على نفسي الفتنة، فاعتزمت
على اعتزال الناس فتنحيت إلى ساحل البحر، فأقمت فيه حينا، لا أدري ما
فيه الناس معتزلا لأهل الهجر والارجاف، فخرجت من بيتي لبعض حوائجي
وقد هدأ الليل، ونام الناس، فإذا انا برجل على ساحل البحر يناجي ربه
ويتضرع إليه بصوت شجي وقلب حزين، فنهضت إليه وأصغيت إليه من
حيث لا يراني، فسمعته يقول: يا حسن الصحبة، يا خليفة النبيين، يا أرحم
117

الراحمين، البدئ البديع الذي ليس مثلك شئ، والدائم غير الغافل،
والحي الذي لا يموت، أنت كل يوم في شأن، أنت خليفة محمد، وناصر
محمد، ومفضل محمد أنت الذي أسألك ان تنصر وصي محمد، وخليفة
محمد، والقائم بالقسط بعد محمد، اعطف عليه بنصر، أو توفاه برحمة.
قال: ثم رفع رأسه وقعد مقدار التشهد، ثم إنه سلم فيما أحسب
تلقاء وجهه، ثم مضى فمشى على الماء، فناديته من خلفه كلمني يرحمك الله،
فلم يلتفت، وقال: الهادي خلفك فاسأله عن أمر دينك. فقتل: من هو
يرحمك الله؟ فقال: وصي محمد من بعده. فخرجت متوجها إلى الكوفة،
فأمسيت دونها، فبت قريبا من الحيرة، فلما اجنني الليل إذا أنا برجل قد
أقبل حتى استتر برابية ثم صف قدميه فأطال المناجاة، وكان فيما قال:
اللهم إني سرت فيهم ما أمرني رسولك وصفيك فظلموني، فقتلت المنافقين
كما أمرتني فجهلوني، وقد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني، ولم تبق
خلة إلا المرادي، اللهم فعجل له الشقاوة، وتغمدني بالسعادة، اللهم قد
وعدني نبيك أن تتوفاني إذا سألتك، اللهم وقد رغبت إليك في ذلك.
قال: ثم مضى فقفوته، فدخل منزله، فإذا هو علي بن أبي طالب عليه
السلام، قال: فلم البث إذ نادى المنادي بالصلاة فخرج، واتبعته حتى دخل
المسجد، فعممه ابن ملجم لعنه الله بالسيف.
وقال ابن شهرآشوب (ره) في المناقب: روي أنه عليه السلام في تلك
الليلة قال لابنته أم كلثوم: يا بنية اني أراني قل ما أصحبكم، قالت:
وكيف ذلك يا أبتاه؟ قال رأيت رسول الله (ص) في منامي وهو يمسح الغبار
عن وجهي، ويقول: يا علي لا عليك، قد قضيت ما عليك. قالت: فما
مكثنا حتى ضربت تلك الليلة الضربة.
وروى غير واحد من أصحابنا وغيرهم، كالشيخ المفيد في الارشاد،
118

والراوندي في الخرائج، وابن شهرآشوب في المناقب، وكذا روي الخوارزمي
في المناقب 282، والزرندي في نظم درر السمطين 137، ط 1، وابن الأثير
في أسد الغابة: 4، 35، والكامل: انه عليه السلام كان يفطر في هذا الشهر
(يعني شهر رمضان الذي استشهد فيه) ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين
وليلة عند عبد الله بن جعفر (17)، ولا يزيد على ثلاث لقم، فقال له أحد ولديه
الحسن أو الحسين عليهما السلام في ذلك، فقال: يا بني يأتي أمر الله وأنا
خميص، وإنما هي ليلة أو ليلتان.
وروى ابن شهرآشوب في المناقب، عن الحسن البصري: انه (ع) سهر
في تلك الليلة لصلاة الليل على عادته، فقالت أم كلثوم، ما هذا السهر؟
قال: اني مقتول لو قد أصبحت. فقالت: مر جعدة فليصل بالناس، قال:
نعم مروا جعدة ليصل، ثم مر (ع) وقال: لا مفر من الأجل، وخرج قائلا:
خلوا سبيل المجاهد * في الله ذي الكتب وذي المجاهد
في الله لا يعبد غير الواحد * ويوقظ الناس إلى المساجد

(17) هذا هو الصحيح، وفى تاريخ ابن عساكر 150، وبعض كتب التواريخ
والمقاتل ابدل ابن جعفر يا بن عباس، وهو وهم، لان ابن عباس لم يثبت حضوره
في الكوفة في الشهر الذي قتل فيه أمير المؤمنين (ع) بالكوفة، ولو ثبت حضور
ابن عباس بالكوفة لم يصح أيضا افطار أمير المؤمنين (ع) في بعض الليالي عنده
على سبيل النوبة كما هو المستفاد من هذا الخبر المستفيض، لأنه لم يكن لابن
عباس في الكوفة أهل حتى يفطر أمير المؤمنين (ع) في بعض الليالي عنده، بل
الامر بالعكس، يعني ابن عباس بما انه ضيف كان افطاره عند أمير المؤمنين،
فالصحيح الذي يناسب العرف وعادة البشر، هو انه (ع) فرق افطاره في الليالي
على بيت السيدين الحسن والحسين، وعلى بيت عبد الله بن جعفر ابن أخيه
لأنه كان من ساكني الكوفة، وكان ابن أخيه، وكانت بنت أمير المؤمنين (ع)
زينب الكبرى زوجته.
119

أقول: ويدل على صدق هذه الحكاية ما ذكره معنعنا، في الحديث 4،
من الباب 47، من الكتاب 4، من الكافي، 259، عن الحسن بن الجهم
قال: قلت للرضا عليه السلام: ان أمير المؤمنين عليه السلام قد عرف قاتله،
والليلة التي يقتل فيها، والموضع الذي يقتل فيه، وقوله لما سمع صياح الإوز
في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول أم كلثوم: لو صليت الليلة داخل
الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس فأبى عليها، وكثر دخوله وخروجه بلا
سلاح، وقد عرف عليه السلام ان ابن ملجم قاتله بالسيف، الخ.
قال الحسن البصري على ما في المناقب: وكان عليه السلام في تلك
الليلة يكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول: والله ما كذبت، وانها
الليلة التي وعدت بها، ثم يعاود مضجعه، فلما طلع الفجر أتاه ابن النباح
ونادى الصلاة فاستقبله الإوز في وجهه (فطردوهن) فقال عليه السلام:
دعوهن فإنهن صوائح تتبعها نوائح، ولما أراد الخروج تعلقت حديدة من
الباب على مئزره، فشد ازاره وهو يقول:
أشدد حيازيمك للموت * فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
وقال ابن الأثير في الكامل: وقال الحسن بن كثير، عن أبيه، قال:
خرج علي من الفجر، فأقبل الإوز يصحن في وجهه، فطردوهن عنه، فقال:
ذروهن فإنهن نوائح (18)، فضربه ابن ملجم في ليلته.

(18) وذكره مسندا في أسد الغابة: 4، 36، ثم قال: وهذا يدل على أنه
(ع) علم السنة والشهر والليلة التي يقتل فيها، والله أعلم.
قال أبو جعفر: ونعم ما استفاد وأنصف، ولكن كان عليه أن يضيف إلى
ما ذكره لفظ الساعة ويقول: وهذا يدل على أنه (ع) علم السنة والشهر والليلة
والساعة التي يقتل فيها، وكأنه اتقى من أهل نحلته.
120

وقال الحسن بن علي يوم قتل علي: خرجت البارحة وأبي يصلي في
مسجد داره فقال لي: يا بني اني بت أوقظ أهلي لأنها ليلة الجمعة صبيحة
بدر، فملكتني عيناي فنمت فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقلت: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد - قال: والاود:
العوج، واللدد: الخصومات - فقال لي: ادع عليهم. فقلت: اللهم أبدلني
بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني (19). فجاء ابن النباح
فآذنه بالصلاة فخرج وخرجت خلفه فضربه ابن ملجم فقتله، وكان عليه السلام
إذا رأى ابن ملجم قال:
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
قال: وقيل من غير وجه: ان عليا (ع) كان يقول: ما يمنع أشقاكم أن
يخضب هذه من هذه - يعني لحيته من دم رأسه -.
وقال المسعودي: وقيل: إن عليا لم ينم تلك الليلة، وانه لم يزل يمشي

(19) وقريب منه مسندا في مقتله (ع) من أسد الغابة: 4، 36 عن الحسين
ابن علي (ع). ثم قال ابن الأثير: كذا في هذه الرواية الحسين بن علي، وإنما
هو الحسن. ثم ذكر مرسلا الحديث عن الحسن (ع) وروي مسندا عن الإمام الحسن
(ع) بطرق كثيرة، في تاريخ ابن عساكر.
وقال ابن عبد ربه، في العقد الفريد: 3، 124، ط 2: قال الحسن
ابن علي صبيحة الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثني
أبي البارحة في هذا المسجد، فقال: يا بني اني صليت البارحة ما رزق الله،
ثم نمت نومة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكوت إليه ما
أنا فيه من مخالفة أصحابي، وقلة رغبتهم في الجهاد، فقال: ادع الله أن يريحك
منهم، فدعوت الله.
وقال الحسن في صبيحة تلك الليلة: أيها الناس انه قتل فيكم الليلة
رجل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل
عن يساره، فلا ينثني حتى يفتح الله له، ما ترك الا ثلاثمأة درهم.
121

بين الباب والحجرة وهو يقول: والله ما كذبت، ولا كذبت، وانها لليلة
التي وعدت فيها. فلما خرج صاح بط كان للصبيان، فصاح بهن بعض من
في الدار، فقال علي (ع): ويحك دعهن فإنهن نوائح.
ثم إنه عليه السلام قد خرج إلى المسجد، وقد عسر عليه فتح باب داره،
وكان من جذوع النخل، فاقتلعه وجعله ناحية، وانحل إزاره، فشده
وجعل ينشد:
أشدد حيازيمك للموت * فان الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
وقال المسعودي أيضا: وكان علي (ع) يخرج كل غداة أول الاذان
يوقظ الناس للصلاة، وقد كان ابن ملجم مر بالأشعث وهو في المسجد،
فقال له: فضحك الصبح (20)، فسمعهما حجر بن عدي، فقال: قتلته يا أعور
فتلك الله، وخرج علي رضي الله عنه ينادي أيها الناس الصلاة، فشد عليه
ابن ملجم وأصحابه، وهم يقولون: الحكم لله لا لك، وضربه ابن ملجم
على رأسه بالسيف في قرنه، وأما شبيب فوقعت ضربته بعضادة الباب، وأما
مجاشع بن وردان فهرب، وقال علي: لا يفوتنكم الرجل، وشد الناس
على ابن ملجم يرمونه بالحصباء ويتناولونه ويصيحون، فضرب ساقه رجل
من همدان برجله، وضرب المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وجهه
فصرعه، وأقبل به إلى الحسن، ودخل ابن وردان بين الناس فنجا بنفسه،

(20) قال سبط ابن الجوزي في التذكرة، ص 186: وذكر بعضهم ان
الأشعث بن قيس كان مواطئا لهم على قتل أمير المؤمنين (ع) فاجتمعوا في الليل
في المسجد، وكان حجر بن عدي نائما في المسجد، فسمع الأشعث يقول: لهم
اسرعوا فقد ضحك الصبح، فقال له حجر: ما تقول يا أعور، ثم قصد عليا
ليخبره فوجده قد جاء من موضع آخر، فقيل: فخرج يريد صلاة الصبح،
فأقبلن الإوز يصحن في وجهه، فقال: انهن نوائح، فلما حصل في المحراب
هجموا عليه، فضربه ابن ملجم، الخ.
122

وهرب شبيب حتى أتى رحله، فدخل إليه عبد الله بن نجدة - وهو أحد بني
أبيه - فرآه ينزع الحرير عن صدره، فسأله عن ذلك فخبره (خبره) فانصرف
عبد الله إلى رحله، وأقبل إليه بسيفه فضربه حتى قتله.
وقال الطبري: وذكر ان محمد بن الحنفية (21) قال: كنت والله اني
لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي في المسجد الأعظم، في رجال كثير
من أهل المصر يصلون قريبا من السدة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود،
وما يسأمون من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل
ينادي أيها الناس الصلاة الصلاة، فما أدري أخرج من السدة فتكلم بهذه
الكلمات أم لا، فنظرت إلى بريق وسمعت: الحكم لله يا علي، لا لك ولا
لأصحابك، فرأيت سيفا ثم رأيت ثانيا، ثم سمعت عليا يقول: لا يفوتنكم
الرجل (22)، وشد الناس عليه من كل جانب. قال: فلم أبرح حتى أخذ
ابن ملجم، وادخل على علي، فدخلت فيمن دخل من الناس فسمعت عليا
يقول: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وان بقيت رأيت فيه
رأيي. قال: وذكر ان الناس دخلوا على الحسن فزعين لما حدث من أمر علي،
فبينما هم عنده وابن ملجم مكتوف بين يديه، إذ نادته أم كلثوم بنت علي
وهي تبكي: أي عدو الله لا بأس على أبي والله مخزيك. قال: فعلى من
تبكين؟ والله لقد اشتريته بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة
على جميع أهل المصر ما بقي منهم أحد.

(21) وكذلك ذكره الزرندي في نظم درر السمطين: 141، ط 1.
ولعل الصواب محمد بن حنيف، كما ذكره الخوارزمي في الحديث 3،
من الفصل 26، من المناقب 277، ط 1.
(22) وروى ابن الأثير في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من أسد الغابة
4، 38، معنعنا عن هارون ابن أبي يحيى، عن شيخ من قريش: ان عليا
لما ضربه ابن ملجم قال: فزت ورب الكعبة.
123

وقال الشيخ المفيد (ره) في الارشاد: فأخرج من بين يديه (ع) وان
الناس ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم سباع، وهم يقولون: يا عدو الله ما
فعلت، أهلكت أمة محمد (ص)، وقتلت خير الناس، وانه لصامت لم ينطق
فذهب به إلى الحبس، وجاء الناس إلى أمير المؤمنين (ع) فقالوا: يا أمير
المؤمنين مرنا بأمرك في عدو الله، والله لقد أهلك الأمة وأفسد الملة، فقال
لهم: إن عشت رأيت فيه رأيي، وان هلكت فاصنعوا به كما يصنع بقاتل
النبي (ص)، اقتلوه ثم حرقوه بعد ذلك بالنار، الخ (23).
تنبيه:
قد استقرت آراء الفرقة المحقة على أنه عليه السلام كان في الصلاة
حين ضربه اللعين، فلما أحس عليه السلام بالضربة قال: فزت ورب الكعبة،
ثم نادى، أيها الناس لا يفوتنكم الرجل.
فان سأل سائل: بأنه هل لهذه العقيدة مستند، وهل تعرض أحد لهذه
المسألة، أو هل يمكن استفادة مدرك لهذه الآراء من كلام المؤرخين أو
المحدثين أو غيرهم من علماء الاسلام، أم هذه عقيدة مجردة غير مدعمة
بعماد، ولا لها استناد؟
والجواب: لا ننكر ان بعض علماء العامة شك في هذه القضية كما ذكر
أبو عمر في الاستيعاب، حيث قال: اختلفوا في صفة أخذ ابن ملجم، فلما
أخذ قال علي رضي الله عنه: احبسوه فان مت فاقتلوه، ولا تمثلوا به،

(23) وقريب من ذيل الرواية مذكور في تاريخ ابن عساكر من ترجمته (ع)
150، وقال أيضا في ترجمته (ع) من تاريخه 153: أخبرنا أبو علي ابن السبط،
قال: لما ضرب ابن ملجم عليا الضربة قال علي: افعلوا به كما أراد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان يفعل برجل أراد قتله، فقال: اقتلوه ثم حرقوه.
وسيجئ في تعليقات المختار 54، شواهد أخر.
124

ان لم أمت فالامر إلي في العفو والقصاص، واختلفوا أيضا هل ضربه في
الصلاة، أو قبل الدخول فيها، وهل استخلف من أتم بهم الصلاة أو هو
أتمها، والأكثرون انه استخلف جعدة بن هبيرة، فصلى بهم تلك الصلاة،
والله أعلم.
ولكن شيعة أهل البيت - وهم الذين لم يفارقوهم أبدا، وفدوهم
بنفسهم ونفيسهم - لا ريب عندهم، انه عليه السلام استشهد وهو في الصلاة،
ويشعر به كلام الطبري وغيره ممن عبر بتعبيره، حيث قال: فشد الناس
على ابن ملجم فأخذوه، وتأخر علي، ودفع في ظهر جعدة ليصلي بالناس
الغداة، الخ. وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة ص 186: فلما حصل
علي في المحراب هجموا عليه فضربه ابن ملجم، وتأخر علي عن المحراب،
وقدم جعدة فصلى بالناس، الخ. وهذا ظاهر في أنه (ع) كان في المحراب
حين وقع عليه سيف اللعين.
فان قلت أولا: ان هذا التعبير معارض بما ذكره الطبري وغيره من
قول الراوي: ما أدري ان عليا دخل السدة أم لا، إذ رأيت بريق سيف
وسمعت قائلا يقول: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك، ثم رأيت بريق
سيف آخر وسمعت عليا يقول: فزت ورب الكعبة، أيها الناس لا يفوتنكم
الرجل، الخ. فان هذا الكلام ظاهر بل صريح بأنه عليه السلام ضرب بالسيف
بمجرد دخوله في السدة، أو في آن دخوله في المسجد.
وثانيا: ان المستفاد من عبارة الطبري ومن حذا حذوه في التعبير هو
الاشعار بما ذكرت، والاشعار ليس بحجة، بل لابد في الدلالة من الصراحة
أو الظهور، وهما مفقودان.
قلت: أما قول الرواي: ما أدري أدخل السدة أم لا إذ سمعت قائلا
يقول الخ، فمحمول على أنه لم تطل المدة بين دخوله عليه السلام وبين وقوع
125

الضربة عليه.
وأما الاشكال الثاني فمدفوع، بأنا لم نجعل تعبير الطبري دليلا،
بل قلنا فيه اشعار بالمطلب، لا سيما بملاحظة ان القدماء كانوا خائفين من
ذكر مناقب علي (ع) وأولاده، وكانوا يلوحون إلى المطلب.
واما ما حضرني فعلا من الدليل على مذهب الشيعة فهو:
ما رواه شيخ الطائفة (ره) في الحديث 18، من المجلس 13، من الأمالي
معنعنا، عن الإمام السجاد عليه السلام قال: لما ضرب ابن ملجم لعنه الله
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكان معه آخر فوقعت ضربته
على الحائط، واما ابن ملجم فضربه فوقعت الضربة وهو ساجد على
الضربة التي كانت، فخرج الحسن والحسين عليهما السلام وأخذا ابن ملجم
وأوثقاه، واحتمل أمير المؤمنين فادخل داره، فقعدت لبابة عند رأسه،
وجلست أم كلثوم عند رجليه، ففتح عينيه فنظر اليهما فقال: الرفيق الاعلى
خير مستقرا وأحسن مقيلا، ضربة بضربة أو العفو إن كان ذلك، ثم عرق
عليه السلام ثم افاق فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرني
بالرواح إليه عشاء (ثلاث مرات).
وممن تعرض وصرح بوقوع الضربة على رأسه الشريف في حال
الصلاة، محمد بن طلحة، في مطالب السئول 184، قال: فلما كانت الليلة
التي تقدم ذكرها، خرج من منزله لأجل صلاة الصبح، وكان في داره شيئا
من الإوز، فلما صار في صحن الدار تصايح الإوز في وجهه، فقال (ع):
صوائح تتبعها النوائح، ثم خرج فلما وقف في موضع الاذان أذن ودخل
المسجد وقد كان ابن ملجم في تلك الليلة في بيت قطام، فلما سمعت صوت
علي (ع) قامت إلى ابن ملجم وقالت: يا أخا مراد هذا أمير المؤمنين علي،
فقم واقض حاجتنا وارجع قرير العين، ثم ناولته سيفه، فأخذ السيف وجاء
126

ودخل المسجد ورمى بنفسه بين النيام، وأذن علي ودخل المسجد فجعل
ينبه من بالمسجد من النيام، ثم صار إلى محرابه فوقف فيه، واستفتح وقرأ
فلما ركع وسجد سجدة ضربه عليل رأسه، فوقعت الضربة على ضربة عمرو
ابن عبد ود يوم الخندق بين يدي رسول الله (ص)، الخ.
وأيضا قال ابن عساكر في ترجمة علي (ع) من تاريخه 151: أخبرنا
أبو القاسم إسماعيل بن أحمد: ان عبد الرحمن بن ملجم ضرب عليا في صلاة
الصبح على دهش، بسيف كان سمه بالسم، ومات من يومه، ودفن
بالكوفة ليلا.
البحث الخامس:
في ذكر العواد وما قالوا لأمير المؤمنين عليه السلام، وما قال لهم.
فعن كتاب دستور معالم الحكم، وتاريخ ابن عساكر 153، وكشف الغمة
عن الإمام الحسن عليه السلام قال: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام
وهو يجود بنفسه لما ضربه ابن ملجم، فجزعت لذلك، فقال لي: أتجزع؟
فقلت: وكيف لا أجزع وأنا أراك على هذه الحالة؟ فقال (ع): ألا أعلمك
خصالا أربع، ان أنت حفظتهن نلت بهن النجاة، وإن أنت ضيعتهن فاتك
الداران، يا بني لاغنى أكبر من العقل، ولا فقر مثل الجهل، ولا وحشة
أشد من العجب، ولا عيش ألذ من حسن الخلق (24).

(24) هذا الذي ذكرناه من كتاب كشف الغمة، واما ابن عساكر فقال:
أخبرنا أبو السعود أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن المحلى، قال: لما ضرب
ابن ملجم عليا دخل عليه الحسن وهو باك، فقال له: ما يبكيك يا بني؟ قال:
ومالي لا أبكي وأنت في أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا. فقال:
يا بني احفظ أربعا وأربعا، لا يضرك ما عملت معهن. قال: وما هن يا أبة؟
قال إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب،
وأكرم الحسب الكرم حسن الخلق. قال: قلت يا أبة هذه الأربع، فاعطني
الأربع الاخر. قال: إياك ومصادقة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك،
وإياك ومصادقة الكذاب، فإنه يقرب إليك البعيد، ويبعد عليك القريب، وإياك
ومصادقة البخيل، فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصادقة الفاجر،
فإنه يبيعك بالتافه.
127

وروى شيخ الطائفة (ره) في الحديث 67، من الجزء 11، من أماليه
معنعنا، عن ميثم (ره) قال: سمعت عليا أمير المؤمنين (ع) وهو يجود بنفسه
يقول: يا حسن، فقال الحسن: لبيك يا أبتاه، قال: ان الله تعالى أخذ
ميثاق أبيك - وربما قال: أعطى ميثاقي - وميثاق كل مؤمن على بغض كل
منافق وفاسق، وأخذ ميثاق كل منافق وفاسق على بغض أبيك.
وروى الصدوق (ره) معنعنا عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير
المؤمنين عليه السلام في مرضه الذي قبض فيه، فحل عن جراحته، فقلت
يا أمير المؤمنين: ما جرحك هذا بشئ وما بك من بأس. فقال لي:
يا حبيب أنا والله مفارقكم الساعة. قال: فبكيت عند ذلك، وبكت أم كلثوم،
فقال لها: يا بنية ما يبكيك؟ فقال: ذكرت يا أبة انك تفارقنا الساعة فبكيت.
فقال لها: يا بنية لا تبكين فوالله لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت. قال
حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا حبيب أرى
ملائكة السماوات والنبيين بعضهم في اثر بعض وقوفا إلى أن يتلقوني،
وهذا أخي محمد رسول الله (ص) جالس عندي يقول: أقدم فان امامك
خير لك مما أنت فيه. قال (حبيب): فما خرجت من عنده حتى توفى
عليه السلام، الخ.
وعن القطب الراوندي (ره) في كتاب الخرائج، عن عمرو بن الحمق
(ره) قال: دخلت على علي أمير المؤمنين (ع) حين ضرب الضربة بالكوفة،
فقلت: ليس عليك بأس إنما هو خدش. قال عليه السلام: لعمري اني
128

لمفارقكم، ثم أغمي عليه، فبكت أم كلثوم، فلما أفاق قال: لا تؤذيني
يا أم كلثوم، فإنك لو ترين ما أرى، ان الملائكة من السماوات السبع بعضهم
خلف بعض، والنبيين يقولون: انطلق يا علي فما امامك خير مما أنت فيه،
كما في البحار: 9، 655.
وعن ابن الأثير معنعنا في أسد الغابة: 4، 38، عن عمرو ذي مر قال:
لما أصيب علي بالضربة دخلت عليه وقد عصب رأسه فقلت: يا أمير المؤمنين
أرني ضربتك، فحلها، فقلت: خدش وليس بشئ. قال إني مفارقكم،
فبكت أم كلثوم من وراء الحجاب، فقال لها: أسكتي فلو ترين ما أرى لما
بكيت. فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا ترى؟ قال هذه الملائكة وفود والنبيون،
وهذا محمد (ص) يقول: يا علي ابشر فما تصير إليه خير مما أنت فيه.
وروى أبو الفرج عن أبي مخنف عن عبد الله بن محمد الأزدي قال:
ادخل ابن ملجم على علي عليه السلام، ودخلت عليه فيمن دخل، فسمعت
عليا (ع) يقول: النفس بالنفس ان أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وان سلمت
رأيت فيه رأيي، فقال ابن ملجم: ولقد اشتريته - يعني السيف - بألف،
وسممته بألف، فان خانني فأبعده الله (25).
وعن كثير من أرباب التاريخ والتأليف: أنه قال اللعين - وأوردناه
بلفظ الدينوري في كتاب محاسن الجوابات -: سألت الله أن يقتل به شر
خلقه. فقال علي (ع): قد أجاب الله دعوتك، يا حسن إذا مت فاقتله

(25) وذكره مسندا في الحديث 1 من الباب العاشر من كفاية الطالب
318، في عنوان ذكر ما صنع بقاتله وما قال فيه: عن قثم مولى الفضل، قال:
لما قتل ابن ملجم لعنه الله عليا عليه السلام ودخلت عليه فيمن دخل، سمعته
يقول للحسن والحسين ومحمد بن الحنفية: النفس بالنفس ان أنا مت فاقتلوه
كما قتلني، وان سلمت رأيت فيه رأيي، الخ.
129

بسيفه (26). قال أبو الفرج: فنادته أم كلثوم: يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين.
قال: إنما قتلت أباك. قالت: يا عدو الله اني لأرجو أن لا يكون عليه بأس.
قال: فأراك إنما تبكين عليه، والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل
الأرض لأهلكتهم.
قال أبو الفرج: وانصرف الناس من صلاة الصبح فأحدقوا بابن ملجم
ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع ويقولون: يا عدو الله ماذا صنعت
أهلكت أمة محمد وقتلت خير الناس، وانه لصامت ما ينطق، قال: ثم جمع
له أطباء الكوفة، فلم يكن منهم أحد أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هاني
السكوني، وكان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات، وكان من الأربعين
غلاما الذين كان ابن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم، فلما نظر أثير إلى
جرح أمير المؤمنين عليه السلام دعا برئة شاة حارة، فاستخرج منها عرقا
وأدخله في الجرح ثم نفخه، ثم استخرجه وإذا عليه بياض الدماغ فقال:
يا أمير المؤمنين أعهد عهدك فان عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك (27)
فدعا علي عليه السلام عند ذلك بدواة وصحيفة وكتب وصيته: هذا ما أوصى
به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أوصى (إلى آخر ما يجئ في المختار 54،
باختلاف طفيف في بعض الألفاظ).
قال أبو الفرج: وروى أبو مخنف عن أبي الطفيل، ان صعصعة بن
صوحان استأذن على علي عليه السلام وقد أتاه عائدا لما ضربه ابن ملجم،

(26) وقال في نظم درر السمطين 145: وأخذوا ابن ملجم وأتوا به عليا
عليه السلام فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قال: فما
حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به شر
خلقه. فقال علي (ع): فلا أراك الا مقتولا به، ولا أراك الا من شر خلق الله.
(27) ورواه معنعنا في الاستيعاب 3: 62 بهامش الإصابة الا انه لم يشر
إلى الوصية الشريفة.
130

فلم يكن عليه إذن، فقال صعصعة للاذن: قل له يرحمك الله يا أمير المؤمنين
حيا وميتا، فلقد كان الله في صدرك عظيما، ولقد كنت بذات الله عليما،
فأبلغه الاذن مقالته، فقال: قل له: وأنت يرحمك الله فلقد كنت خفيف المؤنة
كثير المعونة.
وروى الشيخ المفيد (ره) في الحديث 3، من المجلس 42، من الأمالي،
والشيخ الطوسي (ره) أيضا في الحديث 4، من المجلس 5، من مجالسه،
عن أبي بكر محمد بن عمر الجعابي، قال حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد
ابن سعيد الهمداني، قال حدثنا أبو عوانة موسى بن يوسف العطار الكوفي،
قال حدثنا محمد بن سليمان المقري الكندي، عن عبد الصمد بن علي النوفلي
عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة العبدي قال: لما ضرب ابن
ملجم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) عدونا عليه نفر من أصحابنا أنا
والحرث وسويد بن غفلة وجماعة معنا، فقعدنا على الباب فسمعنا البكاء
فبكينا، فخرج الينا الحسن بن علي عليه السلام، فقال يقول لكم أمير المؤمنين
انصرفوا إلى منازلكم فانصرف القوم غيري، واشتد البكاء من منزله فبكيت،
فخرج الحسن (ع) فقال: ألم أقل لكم انصرفوا فقلت لا والله يا بن رسول الله
ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي ان أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين (ع)،
قال: فبكيت فدخل فلم يلبث ان خرج فقال لي ادخل، فدخلت على أمير
المؤمنين عليه السلام، فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد
نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أم العمامة، فأكببت عليه فقبلته
وبكيت، فقال لي: لا تبك يا أصبغ فإنها والله الجنة، فقلت له: جعلت فداك
اني أعلم والله انك تصير إلى الجنة، وإنما أبكي لفقدي إياك، يا أمير المؤمنين
جعلت فداك، حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله،
فاني أراك لا أسمع منك حديثا بعد يومي هذا أبدا. قال: نعم يا أصبغ،
131

دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله يوما فقال لي: يا علي انطلق حتى تأتي
مسجدي ثم تصعد منبري صم تدعو الناس إليك، فتحمد الله تعالى وتثني
عليه وتصلي علي صلاة كثيرة ثم تقول:
أيها الناس اني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله إليكم، وهو
يقول لكم: ان لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على
من انتمى إلى غير أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيرا أجره.
فأتيت مسجده صلى الله عليه وآله وصعدت منبره، فلما رأتني قريش
ومن كان فيها في المسجد اقبلوا نحوي، فحمدت الله وأثنيت عليه وصليت
على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة ثم قلت: أيها الناس اني
رسول رسول الله صلى الله عليه وآله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة
الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى إلى غير
أبيه، أو ادعى إلى غير مواليه، أو ظلم أجيرا أجره، قال: فلم يتكلم أحد
من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال قد أبلغت يا أبا الحسن ولكنك
جئت بكلام غير مفسر، فقلت: أبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله،
فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال: ارجع إلى
مجسدي حتى تصعد منبري فاحمد الله واثن عليه وصل علي ثم قال:
يا أيها الناس ما كنا لنجيئكم بشئ إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا
واني أنا أبوكم، ألا واني أنا مولاكم، ألا واني أنا أجيركم. انتهى.
أقول: ويجئ ما يوضحه، ويبين اجماله.
وفي المناقب 96، ج 3، ط النجف، وفي خبر عن الأصبغ ان عليا (ع)
قال: لقد ضربت في الليلة التي قبض فيها يوشع بن نون، ولا قبض في الليلة
التي رفع فيها عيسى بن مريم.
132

البحث السادس:
قال أبو جعفر المحمودي: ربما تخيل متخيل، وتمسك غافل، وتعلق
متجاهل، بقول أمير المؤمنين (ع): " كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون
هذا الامر، فأبى الله الا إخفاءه، هيهات علم مكنون " ويقول: ان أمير
المؤمنين (ع) لم يكن عالما تفصيلا بزمان قتله، وإنما كان عالما اجمالا،
لان رسول الله (ص) أخبره بنحو الاجمال، لا بالصراحة والتفصيل.
وتقريب التمسك والاستدلال: إن معنى قوله (ع): كم اطردت الأيام
أبحثها عن مكنون هذا الامر الخ: ما زلت أبحث عن كيفية قتلي يوما فيوما،
فإذا لم أجده في يوم طردته وانصرفت عنه واستقبلت يوما آخر، وهكذا
حتى وقع المقدور، وهذا يدل على أنه (ع) لم يعلم خصوصيات ما جرى
عليه وابتلي به.
أقول: هذا الكلام خبط من قائله، وسهو من ناسجه، وتيه من
مستدله.
اما أولا: فلاجمال هذه الفقرات من كلامه (ع) وتعدد الوجوه المحتملة
منه، وصلاحيته للحمل على معنى صحيح لا ينافي ساحة صاحب الولاية،
ووصي رسول الله، وحافظ الدين القويم والشريعة الأبدية وقابليته لان
يراد منه معنى لا يصادم الأخبار المتواترة الدالة على أن أمير المؤمنين (ع)
كان عالما بجميع الحوادث بتعليم من رسول الله (ص) وإفاضة من الله تبارك
وتعالى.
والمعنى الذي يصح ان يحمل الكلام عليه: هو ان يراد من الكلام:
أني مرارا وفي كثير من الأوقات أردت ان أخبركم بمكنون أمري وما لاقيته
وسألاقيه من الفتن الحاجزة بيني وبين وصولي بحقي واستيلائي على منصبي
133

الخلافة، فأبى الله إلا اخفاءه عنكم، لأنه علم مكنون لا يمسه الا المطهرون
من قدح الشك في قلوبهم، ولاني لو أخبرتكم لتضعضعتم ووهنتم عن الجهاد
معي أعدائي أعداء الله - الجهاد الذي غايته العظمى إعلام الجامعة البشرية
وإلفات أنظار العقلاء على أني ومن تبعني بواد، وعدوي ومن تبعه ومن
أسس أساسه بواد آخر.
فعلى هذا يكون هذا الكلام مثل قوله (ع) في المختارة، من خطب
النهج: " بل اندمجت على مكنون أمر لو بحت به لاضطربتم اضطراب
الأرشية في الطوى البعيدة " فالمراد من إباء الله الا اخفاء الامر، اخفاؤه على
أصحابه عليه السلام لا اخفاؤه عليه.
ويصح أيضا ان يريد عليه السلام من قوله: " كم أطردت الأيام ابحثها
عن مكنون هذا الامر. الخ " الشهادة في سبيل الله، والفوز بلقاء الله،
ومرافقة الصديقين والشهداء والصالحين، لأنه عليه السلام كان آنس بالموت
من الطفل بثدي أمه، وكان مشتاقا إلى لقاء ربه، فيرجع معنى الكلام إلى أنه
عليه السلام لفرط اشتياقه الشهادة كان يطلبها في كل يوم فإذا لم ينلها
فيه يستقبل يوما آخر، ويتمنى الشهادة والقتل في سبيل الله فيه، وهكذا
حتى وقع المقدور، ومعنى قوله: فأبى الله إلا اخفاءه، أي أبي الله اظهاره
بوقوعه قبل وقته المقدر له، بل أخفاه بابقائه إلى الزمان الذي قدر وقوعه
فيه ولهذا الاحتمال شواهد.
منها: انه عليه السلام بكى يوم استشهد حمزة وبعض أهل بيته،
فسأله رسول الله (ص) عن سبب بكائه، فقال: يا رسول الله لأني لم أفز
بالشهادة كما فازوا، فقال رسول الله (ص): لا تبك فان الشهادة من ورائك،
فكيف صبرك إذا خضبت هذه من هذه بدم؟ وأشار (ص) بيده إلى لحيته
ورأسه. فقال علي: يا رسول الله أما ان تثبت لي ما أثبت فليس ذلك من
134

مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشري والكرمة. كما في ترجمته (ع)
من أسد الغابة: 4، 34، وغيره.
ومنها: ما يأتي في المختار 8، من الباب، من قوله (ع): " والله ما فجأني
من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت الا كقارب ورد، وطالب
وجد، وما عند الله خير للأبرار " حيث إنه عليه السلام شبه نفسه الكريمة
في طلب الموت والشهادة في سبيل الله بعطشان حمله العطش على طلب الماء
ليلا، ولا يمكنه التصبر إلى الصباح، أو ظمآن طوى السباسب والبراري
لورود الماء وقد قرب منه ولم يبق بينه وبين الماء إلا يومان، أو ليلة.
وحينئذ فمعنى قوله (ع) كم اطردت الأيام ابحثها عن مكنون، الخ،
اني لشدة ظمئي في الشهادة، وفرط رغبتي في القتل في سبيل الله لا زلت
اطلبها من الأيام، وابحثها عن مطلوبي وأمنيتي، فإذا لم أجدها في يوم طردته
وتركته واستقبلت يوما آخر، إلا أن الله عز وجل أخر وقتها ولم يعجلها
لمصالح اقتضت ذلك.
واما ثانيا: فلوجوب رفع اليد وارتكاب التأويل لو فرض ان الكلام
ظاهر أو صريح فيما ادعى من دلالته على ما ذكروه، إذ الأدلة القاطعة متواترة
على أنه عليه السلام كان عالما بالبلايا والمنايا، وأخبر بوقوع الحوادث قبل
وقوعها فكان الامر على ما أخبر، واجمع أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنهم
عالمون - بإفاضة من الله ووراثة من رسول الله - بما كان وما يكون
إلى يوم القيامة، واحتجوا على المرتابين بوجوه.
منها: انه يستحيل أن يوجب الله طاعة شخص على العالمين ثم يحجب
عنه خبر السماء والأرض.
ومنها: انهم (ع) قالوا للشاكين: ويلكم ان ميثم التمار ورشيد الهجري
وأمثالهم كانوا يعلمون علم المنايا والبلايا، فكيف لا يعلمه قوام دين الله،
135

وحفاظ الشريعة الخالدة؟!
فان قلت: قد دل غير واحد من الآيات القرآنية على أن الغيب لله،
وان مفاتح الغيب عند الله، وانه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب
الا الله، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، فكيف يصح ادعاء اجماع أهل البيت
على أنهم يعلمون الغيب؟
قلت: ان كل واحدة من الآيات ناظرة إلى جهة خاصة لا تنافي اتفاق
أئمة أهل البيت (ع) على أنهم يعلمون الغيب، وحيث لا مجال لنا فعلا
لبيان تلك الجهات الخاصة التي كانت ملحوظة في الآيات المذكورة، فلنذكر
ما هو أقرب لتفنيد تلك المزعمة، وأسهل لعرفان صحة ما اجمع عليه خزان
علم الله، وورثة رسول الله، فنقول:
ان القرآن المقدس مشحون بالاخبار بالغيب، وكذلك تواتر عن
النبي (ع) انه أخبر بالغيب ثم وقع الامر على ما أخبر به. اخبر النبي (ص)
ان أبا لهب يموت على الكفر، وسيصلى هو امرأته نارا ذات لهب (كما
في سورة تبت) وأخبر صلى الله عليه وآله ان جماعة المستهزئين سيهلكون،
قال الله تعالى: " إنا كفيناك المستهزئين " وأخبر ان جماعة معهودة من الكفار
لا يؤمنون، كما في الآية 5، من سورة البقرة " ان الذين كفروا سواء عليهم
أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "، وأخبر ان الكفار سيغلبون ويموتون
على الكفر، كما في قوله تعالى " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى
جهنم " وأخبر ان الفرس سيغلبون بعد غلبتهم وظفرهم، وان الروم سيغلبون
بعد مغلوبيتهم وانهزامهم، قال الله تعالى " آلم غلبت الروم في أدنى الأرض
وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " إلى غير ذلك من الآيات،
ولعل الاخبار الغيبية لا تقل عن عشر القرآن المقدس، فان كنت قاصر الهمة
عن لحاظها بجملتها، فالحظ على الأقل سورة الفتح، فان فيها عدة أخبار
136

غيبية تغنيك عن ملاحظة سائر الآيات، وعما أخبره الرسول الأكرم (ص)
ببيانه الشريف.
وحينئذ نسأل المنكرين لعلم الغيب لغير الله ونقول: أأنتم مذعنون
ومصدقون بما أخبر الله ورسوله به، أم أنتم منكرون أو شاكون؟ ونقول:
أيضا أكان سلفكم وأكابركم في عهد الرسول (ص) مؤمنين بهذه المغيبات
التي أخبر الله ورسوله بها ايمانا قطعيا وتصديقا علميا أم كانوا منكرين لها
أو شاكين فيها؟
فان قلتم: انا مع سلفنا منكرون لها، وغير مصدقيها، أو شاكون
فهيا، لا مصدقون ولا مكذبون لا مذعنون ولا رادون.
قلنا لكم: يا معاشر المنكرين والمكذبين، ويا ملا الشاكين والمرتابين،
ان مسألتنا هذه فرع التصديق بالقرآن الكريم والرسول العظيم، تعالوا
إلى البحث في اعجاز القرآن وهل انه حجة الله وبرهانه لاثبات نبوة من جاء
به وتحدى به، أم لا، فإذا فرغنا من ذلك نتكلم بأنه هل يصح لحافظ القرآن
والمهيمن على الشريعة ان يعلم الغيب أم لا، إذ ان اثبات الفرع قبل الأصل
غير ممكن.
فان قلتم: إنا كأسلافنا مصدقون بما في القرآن العظيم تصديقا يقينيا،
وايمانا قطعيا، فكان سلفنا يعلمون باخبار الله ونبيه ان أبا لهب يموت ويصلى
مع امرأته نارا ذات لهب، وان المعهودين من الكفار لا يؤمنون سواء أنذرهم
الرسول أم لا، وإن الفرس سيغلبون، وان الروم سيغلبون، وان الله سيفتح لهم
فتحا مبينا، إلى الكثير من المغيبات التي ورد الاخبار عنها في الكتاب العزيز.
قلنا: ثبتكم الله أيها المصدقون، أليس تصديق أسلافكم وتصديقكم هذا
تصديقا وعلما بالغيب؟ أليس هذا اذعانا بالشئ قبل وقوعه، وعلما بأمر
يغيب عن الحواس والقوى الادراكية؟ وهل العلم بالغيب الا الاعتراف العلمي
137

بشئ يغيب عن الحواس؟
فان قلت: إن هذا علم بالغيب بنحو جزئي وليس مثل ما ادعيتم لائمة
أهل البيت (ع)، مع أن هذا القسم خارج عن محل النزاع لأنه باعلام الله
لنبيه بالوحي، والنبي أيضا أعلم أمته بذلك.
قلنا: انكم ادعيتم ان المستفاد من الآيات ان الغيب لله، ويستحيل ان
يعلمه غير الله، وإلا يكون مناقضا للآيات، ومخالفا لها وهو باطل، وقد
اعترفتم الان ان التصديق ببعض ما غاب عنا والعلم بشئ ما، لا ينافي الآيات،
وهذا المقدار يكفينا في نفي ما قلتم من أنه لا يعلم الغيب الا الله، وفي عدم
التنافي بين كون الغيب لله وعلم الأئمة بالغيب.
واما ما قلتم: ان هذا خارج عن محل البحث، لأنه باعلام القرآن
والنبي فعجيب، لان هذا عين ما ندعيه لأنا نعتقد ان الرسول يتلقى الغيب
من الله تعالى كما قال الله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من
ارتضى من رسول " والأئمة يتلقون من رسول الله (ص) كما قال رسول الله
صلى الله عليه وآله في الخبر المتواتر: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وكما قال
أمير المؤمنين (ع) في الخبر الصحيح المتفق عليه: علمني رسول الله (ص)
الف باب من العلم، يفتح من كل باب الف باب. وفي خبر: ينفتح من كل
باب ألف الف باب من العلم.
نعم، قد يلهم الله تبارك وتعالى وليه ببعض الغيوب بلا وساطة النبي
صلى الله عليه وآله كما أنه تبارك قد يري ويلهم نبيه في المنام أو في اليقظة
ببعض الغيوب بلا واسطة امين الوحي، كما أرى نبيه انه دخل مسجد الحرام
مع أصحابه محلقين آمنين، وكما أراه في المنام ان جماعة من بني أمية
ينزون على منبره نزو القردة.
بل قد يلهم الله بالغيب غير النبي والولي أيضا كما قال الله تبارك وتعالى:
138

" وأوحينا إلى أم موسى ان ارضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي
ولا تحزني انا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فقد تبين مما ذكرنا ان
القول بأن الأئمة عليهم السلام لا يعلمون الغيب باطل، ومرجعه إما الجهل
بالحقائق ومقامات أولياء الله عليهم السلام، وأما الغفلة عن قدرة الله والتجاهل
عن شؤون أصفيائه، وإما العناد واللجاج والمشاقة لتراجمة وحي الله وحفظة
سر الله.
أما الطائفة الثالثة فلا يقنعهم شئ ولو جئناهم بكل نبي ووصي، ومعجز
تكويني، إذ لا يعدون ان يقولوا - كأسلافهم الجهال المردة -: ان هذا
إلا سحر مبين، والبرهان الوحيد الذي أعد الله تبارك وتعالى لهؤلاء هو
الخلود في النار.
واما الطائفتين الأوليين فيكفيهم ما ذكره علماؤنا قدس سرهم وقد
أتينا على نبذة منه، ونذكر أيضا شذرة أخرى.
ولنا طريقة أخرى لاثبات العلم بالغيب لأوصياء رسول الله صلى الله
عليه وآله وتقريره:
انا معاشر الامامية نقول: الاطلاع على ما غاب عنا - سواء أكان
موجودا فعلا، أم لا - أمر ممكن وشئ جائز، والله الغالب القاهر قادر
على كل ممكن، والأئمة المعصومون عليهم السلام قابلون وصالحون لان
يكونوا محلا لهذه الموهبة الفائضة من الله، وهم عليهم السلام أهل للاتصاف
بهذه الصفة الكمالية، والأدلة على اتصافهم بها متواترة متكاثرة، وكلما كان
الامر على ما وصفنا يجب أن يكونوا عالمين بالغيب، ويجب على الناس ان
يقروا لهم بذلك.
ومنكر هذه الخصيصة لأهل بيت الوحي إما أن يقول باستحالة الامر
139

الأول وانه غير معقول، فنقول له: بينوا لنا ما وجه استحالته وعدم امكانه،
هل يلزم من امكانه اجتماع النقيضين أو الخلف والدور أو التسلسل أو
شئ آخر من جهات الامتناع؟ وكل ذلك مفقود، وهو كسائر الأمور الممكنة.
ويقال له: أليس وقوع الشئ أدل دليل على إمكانه؟ وأنتم قد اعترفتم
بتحققه للأنبياء، وقد تواتر عن النبي (ع) انه أخبر ببعض المغيبات، وقد
نطق القرآن المجيد على أن المسيح (ع) كان يخبر بني إسرائيل بما يأكلون
وما يدخرون في بيوتهم.
وإما ان يقول بعدم القدرة لله تعالى لإفاضة التمكين على عبد من عباده
بالاطلاع على ما غاب عنه، ولا نعهد أحدا من أهل الاسلام أنكر قدرته
تعالى شأنه.
وإما ان يقول المنكر: إن سيد العترة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين
غير صالحين لان يكونوا محلا لهذه الموهبة، ولا جديرون بالاتصاف
بهذه الصفة.
وهذا أيضا مما لم يلتزم به أحد من المسلمين، بل من عرف أمير المؤمنين
وأولاده عليهم السلام يذعن ويعترف بأنه ليس في الكون من هو أحق منهم
بأن يكونوا موردا للفيوضات الربانية والعنايات الرحمانية.
ولو فرض ان بعض من لم يخرج من قلبه حب الأوثان وبغض كاسر
الأصنام، ادعى ذلك، وقال بعدم صلاحية أمير المؤمنين والمعصومين من
أولاده للاتصاف بهذه الخصيصة والتحلي بهذه الموهبة، فهو محجوج بقول
الرسول الكريم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وبقوله (ص): أنا مدينة الحكمة
وعلي بابها، وبقوله: علي أقضاكم، إلى غير ذلك مما تواتر عنه صلى الله
عليه وآله في شأن أمير المؤمنين وأولاده الأئمة الاثني عشر عليهم السلام.
وأيضا يرد قول هذا المنكر المعاند للحق، بما أجمع عليه المسلمون
140

- حتى خصوم أمير المؤمنين عليه السلام كمعاوية وأضرابه ومن على شاكلته -
من اختصاص أمير المؤمنين (ع) بعلوم ليس عندهم، ولذا كان (ع) ملجأهم
في المشكلات، ومفزعهم في الملمات، وكان عمر بن الخطاب إذا ضاق به
الخناق يراجع أمير المؤمنين (ع) فإذا حل الامام مشكلته، ورفع بعلمه (ع)
معضلته، قال: لولا علي لهلك عمر، أو قال: لا أبقاني الله لمعضلة ليس
لها أبو الحسن، إلى غير ذلك مما تواتر من الصحابة.
وكان معاوية مع تصلبه في عداء أمير المؤمنين، وتمركز الغل والعناد
في قلبه، وكونه محورا للحقد والبغضاء، ومعدنا للشنئان والشحناء - يقول
بعد ما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام: مات العلم والفقه بموت ابن
أبي طالب.
وإما ان يقول المنكر: كان ما قدمتموه فهو حق، أي إن الاطلاع على
ما غاب عن الحس ممكن لا سيما للنفوس الكاملة. وكذلك قدرة الله تعالى
قاهرة ومسيطرة على كل ممكن، فلا ممكن إلا وهو خاضع لقدرته الغالبة
وارادته القاهرة، فله تعالى أن يطلع ويظهر على غيبه من شاء وأراد. وكذلك
سيد العترة أمير المؤمنين (ع) حقيق على أن يكون مأوى للفيوضات الربوبية والعنايات الإلهية. إلا أن الأدلة في مقام الاثبات غير ناهضة على أن الله تبارك
وتعالى مكن أمير المؤمنين (ع) من الاتصاف بهذه الصفة وهي العلم بالغيب،
فالممنوع هو المقدمة الرابعة، أي انه لم يقم لنا دليل على أنه (ع) كان متصفا
بعلم الغيب، ولم ندع قيام الدليل على عدم اتصافه به.
والجواب انه لا ينبغي لمن له أدنى المام بتاريخ أمير المؤمنين (ع) من
كتب الفريقين أن يشك في اتصاف أمير المؤمنين عليه السلام بعلم الغيب
واخباره ببعض الحوادث قبل وقوعها، وإنما ارتاب من ارتاب في علمه (ع)
بخصوصيات شهادته لصدور هذا الكلام المجمل منه (ع) بعد ما ضربه
141

اللعين. وقد بينا ان هذا الكلام لو كان ظاهرا أو صريحا يجب تأويله
وصرفه إلى معنى يطابق الأدلة القاطعة الحاكمة بأن أمير المؤمنين (ع) كان
عالما بخصوصيات ما جرى عليه، فضلا عما لو كان الكلام مجملا ومحتملا لمعان
كثيرة، وقد تبين انه مجمل. وتحقق أيضا مما ذكرنا في سيرته (ع) مع ابن
ملجم قبل أن يضربه، انه عليه السلام كان عالما تفصيلا بما سيجري عليه،
وكذا من اخباره (ع) لابنته أم كلثوم: بأني لو قد أصبحت قتلت، وكذا
قوله (ع) لما بلغه قدوم ابن ملجم: أما انه ما بقي علي غيره وهذا أوانه،
وكذا قوله (ع) في الليلة التي ضرب فيها: والله انها لليلة التي وعدت فيها،
ما كذبت ولا كذبت، إلى غير ذلك ومما لم يذكر هنا. وذكره
أصحابنا في محالها، لا سيما ما ذكره السيد البحراني (ره) والشيخ الحر (ره)
في مدينة المعاجز، واثبات الهداة، فإنهما أتيا بما فوق المراد.
ولنختم المقام ببعض ما ثبت عنه (ع) ونقله الاجلاء، والشواهد الداخلية
والخارجية قائمة على صدقه، ليكون نموذجا لما لم يذكر هنا، وليكون لما
أسسنا سندا، ولما مهدنا دعائم وعمدا، فنقول:
روى ثقة الاسلام الكليني قدس الله نفسه، بثلاثة أسانيد، إن أمير
المؤمنين صلوات الله عليه كان كثيرا ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار،
وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، ولقد أقرت لي جميع
الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم،
ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب (28)، وأن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يدعى فيكسى، وأدعى فأكسى، ويستنطق، وأستنطق،

(28) حملت على بناء المتكلم المجهول، والحمولة بالضم: الأحمال، يعني
كلفني الله ربي بمثل ما كلف محمدا (ص) من أعباء التبليغ والهداية، وحمولة
الرب أي الأحمال التي وردت من الله سبحانه لتربية الناس وتكميلهم.
142

فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي،
علمت المنايا والبلايا، والأنساب وفصل الخطاب، فلم يفتني ما سبقني،
ولم يعزب عني ما غاب عني (29) أبشر بإذن الله، وأؤدي عنه، كل ذلك من
الله، مكنني فيه بعلمه، الحديث 1، من الباب 14، من كتاب الحجة، من
أصول الكافي 196، وقريب منه في الحديث 2 و 3.
الكلام الثاني: ما رواه عنه عليه السلام جماعة كثيرة من الخاصة
والعامة، وقد بلغ حد التواتر - كما سننقله بألفاظه الخاصة في شرح المختار
207، من خطب نهج البلاغة - ونذكره هنا - بلفظ ثقة الاسلام في كتاب
الكافي - محذوف الاسناد، لئلا يطول الكلام، فنقول:
قال سليم بن قيس: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: اني سمعت من
سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله صلى
الله عليه وآله غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم،
ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث
عن نبي الله صلى الله عليه وآله أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أن ذلك كله
باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله عليه وآله متعمدين،
ويفسرون القرآن بآرائهم؟ قال (سليم) فأقبل (أمير المؤمنين ع) علي
فقال: قد سألت فافهم الجواب:
ان في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا،
وعاما وخاصا، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول

(29) المنايا والبلايا: آجال الناس ومصائبهم. وفصل الخطاب، أي
الخطاب المفصول الذي لا يشتبه على المخاطب والسامع. ولم يعزب أي لم
يغب ولم يخف علي علم ما سيأتي.
يا معشر العقلاء، أيجوز أن يعرف (ع) آجال الناس ومصائبهم ولم يخف
عليه شئ، ومع ذلك لا يعرف خصوصيات ما يجري عليه؟!
143

الله صلى عليه وآله على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت
علي الكذابة، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب
عليه من بعده، وإنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس، (ثم شرح
عليه السلام ان كل ما جاءت به الطوائف الأربع لامساس له بالواقع، بل
هو عن الحق والصدق لناكب، وإنما الصحيحة منها منحصرة فيما خرج من
بيتي وبيت من تبعني) ثم قال عليه السلام: وليس كل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله كان يسأله عن الشئ فيفهم، وكان منهم من لا يسأله
ولا يستفهمه، حتى أن كانوا ليحبون أن يجئ الاعرابي والطارئ (30) فيسأل
رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا وقد كنت أدخل على رسول الله
صلى الله عليه وآله كل يوم دخلة وكل ليلة دخلة، فيخليني فيها، أدور معه
حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله انه لم يصنع ذلك
بأحد من الناس غيري، فربما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله
أكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عني
نساءه فلا يبقي عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عني
فاطمة ولا أحد من بني، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكت عنه وفنيت
مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله آية من القرآن
إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها
ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، ودعا الله أن يعطيني فهمها
وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا علما أملاه علي وكتبته منذ دعا
الله لي بما دعا، وما ترك شيئا علمه الله من حلال ولاحرام ولا أمر ولا نهي
كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه
وحفظته فلم أنس حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله لي أن

(30) الطارئ: الغريب خلاف الأصلي، جمع طراء وطراء.
144

يملا قلبي فهما وحكما ونورا، فقلت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي منذ دعوت
الله لي بما دعوت لم أنس شيئا، ولم يفتني شئ لم أكتبه، أفتتخوف علي
النسيان فيما بعد؟ فقال: لا، لست أتخوف عليك النسيان والجهل، انتهى.
الثالث - ما ذكره السيد (ره) في المختار 187 من خطب نهج البلاغة
عنه عليه السلام حيث قال (ع) في تلك الخطبة بعد كلام طويل:
وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرابة
القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره،
ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ
ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله
به صلى الله عليه وآله من لدن إن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك
به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع
الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء
به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع
بيت واحد في الاسلام يومئذ غير رسول الله صلى الله عليه وآله، وخديجة
وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد سمعت
رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت:
يا رسول الله! ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك
تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا انك لست بنبي ولكنك وزير، وانك
لعلى خير (إلى آخر كلامه الشريف).
الرابع - ما رواه أيضا السيد (ره) في المختار 170، من الباب
الأول، من نهج البلاغة، قال (ع) في تلك الخطبة:
والله لو شئت ان اخبر كل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه
لفعلت، ولكن أخاف ان تكفروا في برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
145

الا واني مفضيه إلى الخاصة ممن يؤمن ذلك منه، والذي بعثه بالحق
واصطفاه على الخلق، ما انطق الا صادقا، وقد عهد إلي بذلك كله،
وبمهلك من يهلك، ومنجى من ينجو، ومآل هذا الامر، وما أبقى شيئا
يمر على رأسي إلا أفرغه في أذني، وأفضى به إلي (إلى آخر كلامه
الشريف).
فنسألكم يا ذوي البصائر، يا أهل الانصاف والوجدان، يا صاحبي
العقول الراقية، والانظار الثاقبة، يا حماة الانصاف، يامن لا ينطوي قلبه على
إنكار الحقائق، يا من لا تجيش مراجل أضعان أمير المؤمنين في قلبه، يا من
لا يضمر في قلبه حقد كاسر الأصنام، وحب الأرجاس والأوثان أيجوز
عندك ان يجهل حاله وما يجري عليه، من كان في صغره يرى نور النبوة،
ويشم ريح الرسالة؟ أم يسوغ عقلك أن يكون جاهلا بتفصيلات حياته،
من شهد له الرسول الأكرم (ص): بأنه يسمع كل ما يسمعه الرسول،
ويرى كل ما يراه، غير أنه ليس ينبي بل وزير ووصي؟ بالله عليك، هل
يمكن ان لا يكون عالما بخصوصيات ما يجري عليه، من كان علمه بحيث
لو أراد ان يخبر جميع مخاطبيه - وهم ملايين - بجميع شؤونهم لفعل،
ولكنه لم يفعل لأنه خاف منهم ان يكفروا فيه برسول الله (ص)؟
سبحان الله! ان مثل أمير المؤمنين (ع) يحلف بالله بأن رسول الله (ص)
قد عهد الله إليه بمهلاك من يهلك، ومنجى من ينجو، وأنه (ص) ما أبقى شيئا
يمر عليه ويبتلي به الا وقد اخبره وأفضى إليه، وهو (ع) وعاها بأذنه
الواعية، ومع ذلك كله يقول أناس: ان أمير المؤمنين (ع) لم يكن عالما
بخصوصيات الحوادث الجارية عليه، ان هذا لشئ عجاب!!
الكلام الخامس - ما ذكره أيضا السيد الرضى (ره) في المختار
89، من خطب النهج، من قوله (ع):
146

فاسألوني قبل ان تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ
فيما بينكم وبين الساعة، ولاعن فئة تهدي مأة، أو تضل مأة ألا أنبأتكم
بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهله
قتلا، ومن يموت منهم موتا، (إلى آخر بيانه الكريم العزيز).
وقد تواتر عنه (ع) أنه في غير واحد من مقاماته كان يصيح على
الأعواد: سلوني قبل ان تفقدوني فان بين الجوانح مني لعلما جما.
وكان (ع) أحيانا يكشف عن صدره منبع العلوم ويقول: هذا لعاب
رسول الله صلى الله عليه وآله، وهذا ما زقني رسول الله زقا. وأحيانا كان
عليه السلام يشير إلى قلبه ينبوع الحكمة ويقول: ان ههنا لعلما جما لو أصبت
له حملة. ولقد كان (ع) يقول: لو ثنيت لي الوسادة وجلست عليها
لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين
أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، الخ.
وكان عليه السلام يحرق أعداءه بنار الرعب والحسد برجزه:
ولي السبقة في الاسلام * طفلا ووجيها
ولي الفضل على * الناس بفاطم وبنيها
ثم فخري برسول الله * إذ زوجنيها
وإذا أنزل ربي * آية علمينها
ولقد زقني العلم * لكي صرت فقيها
وكان عليه السلام في أحايين يقول: سلوني قبل ان تفقدوني، فوالله
اني بطرق السماء اعلم مني بطرق الأرض.
ونعم ما قال بعض محبيه (ع):
ومن ذا يساميه بمجد ولم يزل * يقول سلوني ما يجل ويعظم
سلوني ففي جنبي علما ورثته * عن المصطفى ما فات مني به الفم
147

سلوني عن طرق السماوات انني * بها من سلوك الطرق في الأرض اعلم
أيقال: ان أمير المؤمنين (ع) غير عالم بتفصيلات ما يجري عليه،
وقد قال وارثه ومتحمل العلوم عنه: الامام الخامس من ولده، - أعني
الإمام الصادق (ع) -: قد ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا
أعلم كتاب الله، وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر
السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة، وخبر النار، وخبر ما كان وما هو
كائن، اعلم ذلك كما انظر إلى كفي، ان الله يقول: فيه تبيان كل شئ.
148

- 6 -
ومن وصية له عليه السلام
إلى سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (ع)
أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، (1)
ولا تبكيا على شئ (منها) زوي عنكما، (2) وقولا الحق،
وارحما اليتيم، وأغيثا الملهوف، (3) واصنعا للآخرة (4)،
وكونا للظالم خصما، وللمظلوم ناصرا (5)، واعملا بما في
الكتاب ولا تأخذ كما في الله لومة لاثم. ثم نظر عليه السلام إلى محمد بن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت

(1) بغى - من باب رمى يرمى - بغاء وبغيا وبغية كابتغى وتبغى، الشئ
أي طلبه، اي لا تكونا طالبي الدنيا وان كانت الدنيا طالبة لكم.
(2) وفى مروج الذهب والنهج: ولا تأسفا على شئ منها زوي عنكما،
وزوي - على بناء المجهول من باب رمى يرمي - زويا وزيا الشئ: نحاه ومنعه
وقبضه، أي ما قبضه أهل الباطل من دنياكم ومنعوكم منه ونحوه عنكم لا تبكيا
عليه ولا تجزعا له، وهذا كقوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، الخ.
(3) وفى المروج: واعينا الضعيف، وفى الكامل: واعينا الضائع.
(4) وفى النهج: واعملا للاجر، وفى بعض النسخ منه، واعملا للآخرة.
(5) وفى المروج والنهج: وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا، وفى الكامل:
وكونا للظالم خصيما.
149

به أخويك؟ قال: نعم، قال: فاني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك
العظيم حقهما عليك، فاتبع أمرهما، ولا تقطع أمرا دونهما، ثم قال (ع):
أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما، وقد علمتما ان أباكما كان يحبه.
ثم أوصى (الامام) الحسن عليه السلام بالوصية التالية كما في تاريخ
الطبري: 4، 123 و 113. ومروج الذهب: 425، ج 2. وكامل ابن
الأثير: ج 3، والمختار 47 من النهج. وذكره مع التالي في كشف الغمة
وكذلك في نظم درر السمطين: 140 ط 1 بل المستفاد منه تعدد طرق هذه
الوصية وأشار اليهما أيضا أبو الفداء في تاريخه، وكذا ابن كثير، بل أشار
هو إلى أنه (ع) كتب الوصيتين لهما (ع)، ورواها الخوارزمي في
المناقب 278، ط 1 مع التالي والمختار (54) قال: وذكروا ان جندب بن
عبد الله دخل على علي (ع) يسليه، فقال: يا أمير المؤمنين ان فقدناك فلا
نفقدك، فنبايع الحسن؟ قال: نعم ثم دعا حسنا وحسينا فقال: أوصيكما
بتقوى الله الخ، ورواها عنه في البحار: 9، 660، س 16.
150

- 7 -
ومن وصية له عليه السلام
إلى السبط الأكبر أبي محمد الحسن الزكي عليه السلام
أوصيك أي بني بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء
الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور،
ولا تقبل صلاة من مانع زكاة، وأوصيك بغفر الذنب (1)
وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجبل، (2) والتفقه
في الدين، والتثبت في الامر، والتعاهد للقرآن، (3) وحسن
الجوار، والامر بالمعروف، والنهى عن المنكر، واجتناب
الفواحش (4).

(1) غفر الذنب: ستره والعفو عنه. وهو مصدر قولهم: غفر يغفر
(من باب ضرب) غفرا وغفيرا وغفيرة وغفرانا ومغفرة وغفورا له الذنب اي
غطى عليه وعفا عنه. وفى تحف العقول: وأوصيك بمغفرة الذنب.
(2) وفى تحف العقول: والحلم عند الجاهل. وفى كامل ابن الأثير:
والحلم عن الجاهل.
(3) وفى تحف العقول: والتعهد للقران.
(4) وفى تحف العقول: واجتناب الفواحش كلها في كل ما عصي
الله فيه.
151

قال الطبري: فلما حضرته الوفاة أوصى، فكانت وصيته:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى (إلى آخر ما يجئ في المختار 54).
أقول: وهذه الوصية الشريفة ذكرها أيضا الحسن بن علي بن شعبه (ره)
في المختار 118 من تحف العقول، الا انه رحمه الله لم يذكر قوله (ع):
وحسن الوضوء فإنه لا صلاة الا بطهور، ولا تقبل صلاة من مانع زكاة.
152

- 8 - ومن كلام له عليه السلام
قاله قبل وفاته على سبيل الوصية لما ضربه اللعين ابن
ملجم المرادي
وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا، ومحمد صلى الله
عليه وآله (وسلم) فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين
العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم، أنا
بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم،
إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وان أعف
فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر
الله لكم، والله ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع
أنكرته وما كنت إلا كقارب ورد، (1) وطالب وجد، وما عند
الله خير للأبرار.
إنتهى المختار 24، من الباب 3، من النهج.

(1) المحكى عن الخليل (ره): ان القارب يقال لطالب الماء ليلا، ولا يقال
لطالبه نهارا. وقيل: القارب الذي يسير إلى الماء وقد بقي بينه وبين الماء ليلة
واحدة، والاسم القرب - كقفل وجمل - والقوم قاربون، ولا يقال مقربون.
وقيل: القرب طلب الماء ليلا، أو ان لا يكون بينه وبين الماء الا ليلة، أو إذا كان
بينكما يومان فأول يوم تطلب فيه الماء القرب، والثاني الطلق - محركا -، وقد
قرب الإبل - كنصر - قرابة - بالكسر - واقربتها.
153

- 9 -
ومن وصية له عليه السلام
إلى أولاده وخواص شيعته
قال المسعودي رحمه الله: روي أن أم كلثوم بكت (لما رأته على تلك
الحالة) فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام يا بنية ما يبكيك؟ لو ترين ما
أرى ما بكيت (1)، ان ملائكة السبع سماوات لراكب (مواكب خ) بعضهم
خلف بعض، والنبيون خلفهم، كل نبي كان قبل محمد، وها هو ذا رسول
الله (ص) عندي، آخذ بيدي، يقول لي انطلق يا علي فان امامك خير لك
مما أنت فيه، ثم قال عليه السلام: اخلوني وأهل بيتي أعهد إليهم، فقام
الناس الا اليسير من شيعته، فجمع عليه السلام أهل بيته وهم اثنا عشر
ذكرا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (عليه السلام):

(1) وروى العياشي رحمه الله عن عمرو بن الحمق قال: دخلت على
أمير المؤمنين عليه السلام حين ضرب على قرنه، فقال لي: يا عمرو اني مفارقكم،
ثم قال: سنة السبعين فيها بلاء، قالها ثلاثا، فقلت: فهل بعد البلاء رخاء؟
فلم يجبني، وأغمي عليه، فبكت أم كلثوم فأفاق، فقال: يا أم كلثوم تؤذيني،
فإنك لو قد ترين ما أرى لم تبكي، ان الملائكة في السماوات السبع بعضهم
خلف بعض، والنبيون خلفهم، وهذا محمد (ص) آخذ بيدي يقول: انطلق
يا علي فما امامك خير لك مما أنت فيه، فقلت: بأبي أنت وأمي قلت: إلى
السبعين بلاء، فهل بعد السبعين رخاء؟ قال: نعم يا عمرو ان بعد البلاء
رخاء، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب، الخ، كما في الحديث
62، من باب النسخ من البحار: 2، 139، و 4، 120، الطبعة الحديثة.
154

إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل في سنة نبيه يعقوب،
إذ جمع بنيه وهم إثنا عشر ذكرا فقال: إني أوصي إلى
يوسف فاستمعوا له، وأطيعوا أمره.
واني أوصي إلى الحسن والحسين، فاستمعوا لهما،
وأطيعوا أمرهما. (2) الخبر.

(2) قال المسعودي (ره): فقام إليه عبد الله، فقال: يا أمير المؤمنين
أدون محمد بن الحنفية؟ فقال (ع) له: أجرأة في حياتي، كأني بك قد وجدت
مذبوحا في خيمتك *، ثم أوصى (ع) إلى الحسن، وسلم إليه الاسم الأعظم
والنور والحكمة ومواريث الأنبياء وقال: إذا أنامت فغسلني وكفني وحنطني
وادخلني قبري، فإذا أشرجت علي اللبن فارفع أول لبنة فاطلبني فإنك لن تراني.
ثم قال المسعودي (ره): وقبض في ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من
شهر رمضان، فكان عمره عليه السلام خمسا وستين سنة، منها مع النبي (ص)
خمس وثلاثون سنة، وبعده ثلاثون سنة، ودفن (ع) بظاهر الكوفة بالغري،
انتهى.
وروى الشيخ الجليل ابن شاذان قدس الله نفسه، عن الأصبغ بن
نباته قال: لما ضرب أمير المؤمنين عليه السلام الضربة التي كانت وفاته فيها
اجتمع إليه الناس بباب القصر، وكان يراد قتل ابن ملجم لعنه الله، فخرج
الحسن عليه السلام فقال: معاشر الناس ان أبي أوصاني ان أترك أمره إلى
وفاته، فإن كان له الوفاة والا نظر هو في حقه، فانصرفوا يرحمكم الله، قال:
فانصرف الناس ولم انصرف، فخرج ثانية وقال لي: يا اصبغ اما سمعت قولي
عن قول أمير المؤمنين عليه السلام؟ قال: قلت: بلى، ولكنني رأيت حاله،
فأحببت ان انظر إليه فاسمع منه حديثا، فاستأذن لي رحمك الله، قال:
فدخل ولم يلبث ان خرج فقال لي: ادخل، فدخلت فإذا أمير المؤمنين عليه
السلام معصب بعصابة، وقد علت صفرة وجهه على تلك العصابة، وإذا هو
يرفع فخذا ويضع أخرى من شدة الضربة وكثرة السم، فقال لي: يا اصبغ اما
سمعت قول الحسن عن قولي؟ قلت: يا أمير المؤمنين ولكني رأيتك في حالة
فأحببت النظر إليك، وان اسمع منك حديثا، فقال لي: اقعد، فما أراك
تسمع حديثا مني بعد يومك هذا، اعلم يا اصبغ اني اتيت رسول الله صلى
الله عليه وآله عائدا كما جئت الساعة، فقال: يا أبا الحسن أخرج فناد في
الناس الصلاة جامعة، واصعد المنبر، وقم دون مقامي بمرقاة، وقل للناس:
الا من عق والديه فلعنة الله عليه، الا من ابق من مواليه فلعنة الله عليه الامن
ظلم أجيرا اجرته فلعنة الله عليه. يا اصبغ ففعلت ما امرني به حبيبي رسول
الله صلى الله عليه وآله، فقام من أقصى المسجد رجل فقال: يا أبا الحسن
تكلمت بثلاث كلمات أوجزتهن فاشرحهن لنا، فلم أرد جوابا حتى اتيت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت ما كان من الرجل، قال الأصبغ ثم اخذ
بيدي، وقال ابسط يدك، فبسطت يدي فتناول إصبعا من أصابع يدي وقال:
يا اصبغ كذا تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إصبعا من أصابع
يدي، كما تناولت إصبعا من أصابع يدك، ثم قال: مه يا أبا الحسن، الأواني
وأنت أبوا هذه الأمة، فمن عقنا فلعنة الله عليه. الأواني وأنت موليا هذه
الأمة، فعلى من ابق عنا لعنة الله. الأواني وأنت أجيرا هذه الأمة، فمن ظلمنا
أجرتنا فلعنة الله عليه. ثم قال آمين، فقلت آمين.
قال الأصبغ ثم أغمي عليه (ع)، ثم افاق فقال لي: أقاعد أنت
يا اصبغ؟ قلت: نعم، يا مولاي. قال: أزيدك حديثا آخر؟ قلت: نعم،
زادك الله من مزيدات الخير. قال: يا اصبغ لقيني رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم في بعض طرقات المدينة، وانا مغموم قد تبين الغم في وجهي،
فقال لي: يا أبا الحسن أراك مغموما، الا أحدثك بحديث لا تغتم بعده أبدا؟
قلت: نعم، (يا رسول الله (ص). قال: إذا كان يوم القيامة نصب الله
منبرا يعلو منابر النبيين والشهداء، ثم يأمرني الله اصعد فوقه، ثم يأمرك
ان تصعد دوني بمرقاة ثم يأمر الله ملكين فيجلسان دونك بمرقاة، فإذا
استقللنا على المنبر لا يبقى أحد من الأولين والآخرين الا حضر، فينادي الملك
الذي دونك بمرقاة: معاشر الناس الا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني
فانا اعرفه بنفسي، انا رضوان خازن الجنان، الا ان اله بمنه وكرمه وفضله
وجلاله أمرني ان ادفع مفاتيح الجنة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أمرني أن ادفعها إلى علي بن أبي طالب
عليه السلام، فاشهدوا لي عليه. ثم يقول ذلك الذي تحت ذلك الملك بمرقاة
مناديا يسمع أهل الموقف: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني
فانا اعرفه بنفسي انا مالك خازن النيران، الا ان الله بمنه وفضله وكرمه
وجلاله قد امرني ان ادفع مفاتيح النار إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم،
وان محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد امرني ان ادفعها إلى علي بن أبي طالب
عليه السلام، فاشهدوا لي عليه. فآخذ مفاتيح الجنان والنيران. ثم قال:
يا علي فتأخذ بحجزتي. وأهل بيتك يأخذون بحجزتك، وشيعتك يأخذون
بحجزة أهل بيتك قال عليه السلام: فصفقت بكلتا يدي، والى الجنة يا رسول
الله؟ قال: اي ورب الكعبة. قال الأصبغ: فلم اسمع من مولاي غير هذين
الحديثين، ثم توفى صلوات الله عليه، انتهى. فضائل شاذان بن جبرئيل
رحمه الله كما في الأنوار البهية 67، للمحدث القمي (ره).
وروى الصدوق رحمه الله في الباب 52، من معاني الأخبار 118، معنعنا
عن انس بن مالك قال: كنت عند علي بن أبي طالب عليه السلام، في الشهر
الذي أصيب فيه، وهو شهر رمضان، فدعا ابنه الحسن عليه السلام، ثم
قال: يا أبا محمد اعل المنبر، فاحمد الله كثيرا واثن عليه، واذكر جدك رسول
الله صلى الله عليه وآله بأحسن الذكر، وقل: لعن الله ولذا عق أبويه، لعن
الله ولدا عق أبويه، لعن الله ولدا عق أبويه، لعن الله عبدا أبق من مواليه،
لعن الله غنما ضلت عن الراعي. وانزل.
فلما فرغ من خطبته ونزل اجتمع عليه الناس، فقالوا: يا ابن أمير المؤمنين
وابن بنت رسول الله نبينا الجواب. فقال: الجواب على أمير المؤمنين عليه السلام.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: اني كنت مع النبي صلى الله عليه وآله
في صلاة صلاها، فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فأجتذبها، فضمها إلى
صدره ضما شديدا، ثم قال لي: يا علي! قلت: لبيك يا رسول الله صلى الله
عليه وآله. وقال: انا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل آمين،
قلت: آمين. ثم قال: انا وأنت موليا هذه الأمة، فلعن الله من أبق عنا، قل آمين، قلت
آمين، ثم قال: انا وأنت راعيا هذه الأمة، فلعن الله من ضل عنا، قل آمين،
قلت آمين. قال أمير المؤمنين عليه السلام: وسمعت قائلين يقولان معي: آمين،
فقلت: يا رسول الله! ومن القائلان معي آمين؟ قال: جبرئيل وميكائيل عليهما
السلام، انتهى.
* قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين 91 ط النجف، و 88 ط بيروت
وعبد الله بن علي بن أبي طالب، وأمه ليلى بنت مسعود بن خالد بن مالك بن
ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن حنظلة. قتله أصحاب المختار
بن أبي عبيدة يوم المدار. وكان صار إلى المختار وسأله ان يدعو إليه، ويجعل
الامر له، فلم يفعل، فخرج فلحق بمصعب بن الزبير فقتل في الواقعة وهو لا
يعرف.
155

اثبات الوصية 125، والحديث 6، من الباب 64، من الكتب 5،
156

من الكافي.
157

- 10 -
ومن وصية له عليه السلام
لما حضرته الوفاة
شيخ الطائفة رفع الله مقامه (1)، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن
عيسى، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام.
وإبراهيم بن عمر، عن أبان رفعه إلى سليم بن قيس رضي الله عنه،
قال سليم: شهدت وصية أمير المؤمنين عليه السلام، حين أوصى إلى ابنه
الحسن، وأشهد على وصيته الحسين عليهما السلام ومحمدا وجميع ولده،
ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح، ثم قال
لابنه الحسن:
يا بني أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله أن أوصي إليك،
وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله
صلى الله عليه وآله ودفع إلي كتبه وسلاحه.
وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع ذلك
إلى أخيك الحسين:

(1) سيجئ بعد الفراغ من كلامه (ع) أسناد علية أخرى للوصية
الشريفة.
159

(قال) ثم اقبل على ابنه الحسين، فقال
وأمرك رسول الله صلى الله عليه وآله أن تدفعه إلى
ابنك هذا.
ثم اخذ بيد ابن ابنه علي بن الحسين وهو صبي فضمه إليه، ثم قال لعلي
بن الحسين.
يا بني وأمرك رسول الله صلى الله عليه وآله أن تدفعه
إلى ابنك محمد بن علي فاقرأه من رسول الله صلى الله عليه
وآله ومني السلام.
ثم اقبل على ابنه الحسن فقال.
يا بني أنت ولي الأمر، وولي الدم فان عفوت فلك
وإن قتلت فضربة مكان ضربة، ولا تأثم.
ثم قال: اكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي
طالب، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره
على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله على محمد
160

وآله وسلم، ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله
رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من
المسلمين.
ثم إني أوصيك يا حسن، وجميع ولدي، ومن بلغه
كتابي من المؤمنين: بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: صلاح ذات البين
أفضل من عامة الصلاة والصوم (2)، وإن البغضة حالقة
الدين (3) وفساد ذات البين، ولا قوة إلا بالله.
أنظروا ذوي أرحامكم فصلوهم، يهون الله
عليكم الحساب.
والله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم (4) ولا يضيعوا

(2) وفى نسخة الفقيه وغير واحد من المصادر: صلاح ذات البين أفضل
من عامة الصلاة والصيام.
(3) وفى المحكي عن نسخة الدر النظيم: خالعة الدين.
(4) وفى الفقيه، ومحكي الدر النظيم: فلا تعر أفواههم، وكأنه مأخوذ
من قولهم: عره يعره عرا، من باب مد -: أي ساءه أو لطخه بمكروه،
أو ادخل على الأذى، أي لا تجعلوا اليتامى بحيث بلطخ بهم المكروه، ويدخل
عليهم الأذى من عفونة أفواههم، وعدم ألفتها الطعام، والغذاء. وتعر وتغب
بمعنى واحد، يقال: أغب الماشية، أي أوردها الماء يوما وتركها يوما ظمأى.
واغب القوم، أي جاءهم يوما وتركهم يوما، واغببه الحمى واغبت عليه،
أي اخذته يوما وتركته آخر، واغب الطعام، اي أنتن. والمقصود على جميع
الوجوه تعاهد الأيتام، وعدم التغافل عنهم.
161

بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول
من عال يتيما حتى يستغني أوجب الله له الجنة، كما أوجب
لاكل مال اليتيم النار.
والله الله في القران فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم (5)
والله الله في بيت الله، فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه
إن يترك لم تناظروا، وان أدنى ما يرجع به من أمه أن
يغفر له ما قد سلف (6).
والله الله في الصلاة، فإنها خير العمل، وإنها عمود
دينكم.

(5) وفى الفقيه ومحكي الدر النظيم زيادة قوله (ع): الله الله في الجيران،
فان الله ورسوله أوصيا بهم، الخ.
(6) وفى الفقيه هكذا: الله الله في بيت ربكم، فلا يخلون منكم ما بقيتم،
فإنه ان ترك لم تناظروا، فان أدنى ما يرجع به من أمه ان يغفر له ما سلف
من ذنبه، الخ.
قوله (ع): لم تناظروا، أي لم تمهلوا. وأمه اي قصده.
162

والله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم.
والله الله في شهر رمضان، فان صيامه جنة من النار
والله الله في الفقراء والمساكين، فشاركوهم في معيشتكم
والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم،
فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان، إمام هدى، ومطيع له،
مقتد بهداه.
والله الله في ذرية نبيكم، فلا تظلمن بين أظهركم
وأنتم تقدرون على الدفع عنهم.
والله الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثا،
ولم يئووا محدثا، فان رسول الله صلى الله عليه وآله أوصى بهم،
ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث.
والله الله في النساء وما ملكت أيمانكم، لا تخافن في
الله لومة لاثم، فيكفكم الله من أرادكم وبغى عليكم،
فقولوا حسنا كما أمركم الله (7)، ولا تتركن الامر

(7) وفى نسخة الفقيه: قولوا حسنا كما امركم الله عز وجل، الخ.
163

بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي الله الامر شراركم، وتدعون
فلا يستجاب لكم (8).
عليكم يا بني بالتواصل والتباذل والتبار، وإياكم
والنفاق والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر
والتقوى، واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم،
أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام.
ثم لم يزل يقول (ع): لا إله الا الله، حتى قبض عليه السلام، في
أول ليلة من العشر الأواخر من شهر رمضان، ليلة احدى وعشرين (9)،
ليلة جمعة، سنة أربعين من الهجرة.
قال شيخ الطائفة رحمه الله: وزاد فيه إبراهيم بن عمر قال: قال
أبان: قرأتها على علي بن الحسين عليه السلام، فقال: صدق سليم.
الحديث الأخير من الفصل 6، من باب الوصايا، من كتاب التهذيب.
ورواها أيضا في كتاب الغيبة 127، ط 1، عن أحمد بن عبدون،
عن ابن أبي الزبير القرشي، عن علي بن الحسن بن فضال، عن محمد بن
عبد الله بن زرارة، عمن رواه عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر
عليه السلام، قال: هذه وصية أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه
السلام، وهي نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي، دفعها إلى أبان، وقرأها

(8) وفى نسخة الفقيه، ومحكى الدر النظيم: فيولي الله الامر منكم
شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، الخ.
(9) ويجئ في تعليقات المختار 54، ما يتعلق بالمقام.
164

عليه، قال أبان: وقرأتها على علي بن الحسين عليهما السلام، فقال: صدق
سليم رحمه الله.
قال سليم: فشهدت وصية أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى إلى
ابنه الحسن عليه السلام، وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمدا
وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، وقال: يا بني أمرني رسول الله
صلى الله عليه وآله ان أوصي إليك، وان ادفع إليك كتبي وسلاحي، ثم
اقبل عليه فقال: يا بني أنت ولي الأمر، وولي الدم، فان عفوت فلك،
وان قتلت فضربة مكان ضربة، ولا تأثم، ثم ذكر الوصية إلى آخرها، فلما
فرغ من وصيته قال: حفظكم الله، وحفظ فيكم نبيكم، واستودعكم الله
واقرأ عليكم السلام ورحمة الله. ثم لم يزل يقول: لا إله إلا الله، حتى
قبض ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، ليلة الجمعة، سنة أربعين من
الهجرة، وان ضرب ليلة احدى وعشرين من شهر رمضان.
وفي رواية أخرى انه (ع) قبض ليلة احدى وعشرين، وضرب ليلة
تسع عشرة، وهي اظهر. (10).
ورواها أيضا ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه، في الحديث 1،
من باب النص على امامة السبط الأكبر: الحسن عليه السلام، من أصول
الكافي 296: - عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن
إبراهيم بن عمر اليماني، وعمر بن أذينة، عن أبان، عن سليم بن قيس.
ورواها أيضا في الحديث 5، من الباب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد
بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن عمرو بن
شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام.
وروى الوصية الشريفة أيضا، صدوق الشريعة وحافظ الشيعة الشيخ

(10) وذكرنا شواهده في تعليقات المختار 54، فراجع.
165

الصدوق رحمه الله، في كتاب الوصايا، من كتاب من لا يحضره الفقيه،
عن سليم بن قيس رحمه الله.
وأشار إليها أيضا، القاضي نعمان (ره) في الحديث 3، من كتاب
الزكاة، من دعائم الاسلام 240. وذكرها مع زيادات كثيرة في ج 2، ص
346، وسنذكرها.
ورواها أيضا، في كتاب الدر النظيم، عن عبد الرحمان بن الحجاج،
عن أبي عبد الله (ع). وعمن رواه عن عمرو بن شمر، عن جابر بن عبد الله،
عن أبي جعفر عليه السلام، كما في مقدمة كتاب سليم بن قيس 14.
166

وههنا فوائد
الفائدة الأولى:
روى ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث 4، من باب مولد
أمير المؤمنين عليه السلام، من كتاب الحجة، من الكافي 454، عن أسيد
بن صفوان صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، قال:
لما كان يوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين عليه السلام ارتج الموضع
بالبكاء، ودهش الناس، كيوم قبض النبي صلى الله عليه وآله، وجاء رجل
باكيا، وهو مسرع مسترجع، وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة النبوة،
حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال:
رحمك الله يا أبا الحسن، كنت أول القوم اسلاما، وأخلصهم ايمانا،
وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم عناء، وأحوطهم على رسول الله
صلى الله عليه وآله، وآمنهم على أصحابه، وأفضلهم مناقب، واأكرمهم
سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله،
وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه،
فجزاك الله عن الاسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرا، قويت حين ضعف
أصحابه، وبرزت حين استكانوا (1)، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج
رسول الله صلى الله عليه وآله إذ هم أصحابه، وكنت خليفته حقا، لم تنازع
ولم تضرع، برغم المنافقين، وغيظ الكافرين، وكره الحاسدين، وصغر
الفاسقين، فقمت بالامر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور

(1) الاستكانة: الخضوع والذل.
167

الله إذ وقفوا، فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم قنوتا (2)،
وأقلهم كلاما، وأصوبهم نطقا، وأكبرهم رأيا، وأشجعهم قلبا، وأشدهم
يقينا، وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله يعسوب الدين أولا
وآخرا، الأول حين تفرق الناس، والاخر حين فشلوا، كنت للمؤمنين أبا
رحيما، إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ماعنه ضعفوا، وحفظت ما
أضاعوا، ورعيت ما أهملوا، وشمرت إذا اجتمعوا، وعلوت إذ هلعوا (3)،
وصبرت إذ أسرعوا، وأدركت أوتار ما طلبوا، ونالوا بك ما لم يحتسبوا،
كنت على الكافرين عذابا صبا ونهبا، وللمؤمنين عمدا وحصنا، فطرت والله
بنعمائها، وفزت بحبائها، وأحرزت سوابقها، وذهبت بفضائلها، لم تفلل
حجتك، ولم يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك ولم تخر،
كنت كالجبل لا تحركه العواصف، وكنت كما قال عليه السلام: آمن الناس
في صحبتك وذات يدك، وكنت كما قال عليه السلام (4): ضعيفا في بدنك،
قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، كبيرا في الأرض،
جليلا عند المؤمن، لم يكن لاحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز، ولا
لاحد فيك مطمع، ولا لاحد عندك هوادة، الضعيف الذليل عندك قوي

(2) كذا في النسخة. وفى المختار 36، من خطب نهج البلاغة: وكنت
أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوتا (الخ). وهو أظهر. والفوت السبق. ويقال:
قنت يقنت (من باب نصر) قنوتا، أي أطاع وامسك عن الكلام. تواضع الله.
وفى بعض نسخ الكافي: وأعلاهم قدما، وأطيبهم كلاما، وأصوبهم منطقا.
(3) أي استقللت بالامر حين جزع أصحاب النبي (ص) وفزعوا من
القيام بالامر، كما في غزوة الأحزاب وغير واحد من مقامات أخر.
(4) كأنه من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أي كما قلت عليك
السلام. وكثير من هذه الجمل مما قد وصف (ع) نفسه بها، كما في المختار
ال‍ (36) من خطب النهج.
168

عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حت تأخذ
منه الحق، والقريب والبعيد عندك في ذلك سواء، شأنك الحق والصدق
والرفق، وقولك حكم وحتم، وأمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم فيما
فعلت، وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك
الدين، وقوي بك الاسلام، فظهر امر الله ولو كره الكافرون، وثبت بك
الاسلام والمؤمنون، وسبقت سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك تعبا شديدا،
فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام،
فانا لله وانا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاه، وسلمنا لله أمره، فوالله لن
يصاب المسلمون بمثلك أبدا، كنت للمؤمنين كهفا وحصنا، وقنة راسيا،
وعلى الكافرين غلظة وغيظا، فألحقك الله بنبيه، ولا أحرمنا اجرك، ولا
أضلنا بعدك.
وسكت القوم حتى انقضى كلامه وبكى، وبكى أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله، ثم طلبوه فلم يصادفوه.
ورواه الشيخ الصدوق (ره) معنعنا أيضا، في كتاب اكمال الدين.
وقال اليعقوبي رحمه الله (لما دفن أمير المؤمنين عليه السلام): فقام
القعقاع بن زرارة على قبره فقال: رضوان الله عليك يا أمير المؤمنين،
فوالله لقد كانت حياتك مفتاح خير، ولو أن الناس قبلوك لأكلوا من فوقهم،
ومن تحت أرجلهم، ولكنهم غمطوا النعمة (5) وآثروا الدنيا على الآخرة.
وروى العلامة المجلسي (ره) في البحار: 9، 675: انه لما دفن
أمير المؤمنين (ع) وقف صعصعة بن صوحان رضي الله عنه على القبر،
ووضع احدى يديه على فؤاده، والأخرى قد أخذ بها التراب وضرب به
رأسه، ثم قال:

(5) اي احتقروها وازدروا بها ولم يشكروها.
169

بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، ثم قال: هنيئا لك يا أبا الحسن،
فلقد طاب مولدك وقوي صبرك، وعظم جهادك، وظفرت برأيك، وربحت
تجارتك، وقدمت على خالقك، فتلقاك الله ببشارته، وحفتك ملائكته،
واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله بجواره، ولحقت بدرجة أخيك
المصطفى، وشربت بكأسه الأوفى، فاسأل الله ان يمن علينا باقتفائنا اثرك،
والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك، والمعاداة لأعدائك، وان يحشرنا في
زمرة أوليائك، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه أحد، وجاهدت
في سبيل ربك بين يدي أخيك المصطفى حق جهاده، وقمت بدين الله حق
القيام، حتى أقمت السنن وأبرت الفتن، واستقام الاسلام، وانتظم الايمان،
فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك اشتد ظهر المؤمنين، واتضحت
أعلام السبل، وأقيمت السنن، وما جمع لاحد مناقبك وخصالك، سبقت
إلى إجابة النبي (ص) مقدما مؤثرا، وسارعت إلى نصرته، ووقيته بنفسك،
ورميت سيفك ذا الفقار في مواطن الخوف والحذر، قصم الله بك كل ذي
بأس شديد، وذل بك كل جبار عنيد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر
والعدوان والرداء، وقتل بك أهل الضلال من العدى، فهنيئا لك يا أمير
المؤمنين، كنت أقرب الناس من رسول الله (ص) قربى، وأولهم سلما،
وأكثرهم علما وفهما، فهنيئا لك يا أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، وكنت
أقرب الناس إلى رسول الله (ص) نسبا، وأولهم اسلاما، وأوفاهم يقينا،
وأشدهم قلبا وأبذلهم لنفسه مجاهدا، وأعظمهم في الخير نصيبا، فلا حرمنا
الله أجرا، ولا أذلنا بعدك، فوالله لقد كانت حياتك مفاتح للخير، ومغالق
للشر، وان يومك هذا مفتاح كل شر، ومغلاق كل خير، ولوان الناس
قبلوا منك لأكلوا من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا الدنيا
على الآخرة.
170

ثم بكى بكاء شديدا، وأبكى كل من كان معه، وعدلوا إلى الحسن
والحسين ومحمد وجعفر والعباس ويحيى وعون وعبد الله، فعزوهم في أبيهم
صلوات الله عليهم، وانصرف الناس، ورجع أولاد أمير المؤمنين (ع)
وشيعتهم إلى الكوفة، ولم يشعر بهم أحد من الناس.
171

الفائدة الثانية:
في نبذ مما قيل في رثائه (ع) من الشعر
قال السبط الأكبر الامام المجتبى (ع):
أين من كان لعلم ال‍ * لمصطفى في الناس بابا
أين من كان إذا ما * أقحط الناس سحابا
أين من كان إذا نودي * في الحرب اجابا
أين من كان دعاه * مستجابا ومجابا
وقال في المناقب: 3، 97: قال صعصعة بن صوحان في مرثيته (ع):
ألا من لي بأنسك يا أخيا * ومن لي ان ابثك مالديا
طوتك خطوب دهر قد توالي * لذاك خطوبه نشرا وطيا
فلو نشرت قواك لي المنايا * شكوت إليك ما صنعت اليا
بكيتك يا علي بدر عيني * فلم يغن البكاء عليك شيا
كفى حزنا بدفنك ثم اني * نفضت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات * وأنت اليوم أوعظ منك حيا
فيا أسفا عليك وطول شوقي * إليك لو أن ذلك رد شيئا
وقال أبو بكر ابن حماد التاهرتي، على ما في الاستيعاب وغيره:
قل لابن ملجم والاقدار غالبة * هدمت ويلك للاسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم * وأول الناس اسلاما وايمانا
وأعلم الناس بالقران ثم بما * سن الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر الرسول ومولاه وناصره * أضحت مناقبه نورا وبرهانا
172

وكان منه على رغم الحسود له * مكان هارون من موسى بن عمرانا
وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا * ليثا إذا لقي الاقران أقرانا
ذكرت قاتله والدمع منهدر * فقلت سبحان رب الناس سبحانا
اني لأحسبه ما كان من بشر * كلا ولكنه قد كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها * واخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت * على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم ان سوف يخضبها * قبل المنية أزمانا فأزمانا (6)
فلا عفا الله عنه ما تحمله * ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجترما * ونال ما ناله ظلما وعدوانا
يا ضربة من تقي ما أراد بها * الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته * الا ليصلى عذاب الخلد نيرانا.
وقال الحاج محمد رضا الآزري (ره):
مصاب رمى ركن الهدى فتصدعا * ونادى به ناعي السماء فأسمعا
وضجت له الاملاك في ملكوتها * وأوشك عرش الله ان يتضعضعا
ومن يك أعلى الناس شأنا ومفخرا * يكن رزؤه في الناس أدهى وافظعا
مصاب على الاسلام القى جرانه * وبرقع بالغي الهدى فتبرقعا
فيا ناشد الاسلام قوض سفره * وصاح به داعي النفير فجعجعا
وأصبح كالذود الظماء بقفرة * من الدولم تعهد بها الدهر مربعا
ولم تر عقد الدين الا مبددا * ولم تر شمل الدين الا موزعا
وان قتيلا شيد الدين سيفه * جدير عليه الدين ان يتصدعا
فيا هل ذري الاسلام أن زعيمه * لقى حوله جبريل ينعى فلا نعى
وان عماد الدين بان عميدها * وودعها داعي الهدى يوم ودعا

(6) وفى بعض النسخ: قبل المنية أشقاها وقد كانا.
173

وياهل دري المختار ان حبيبه * بسيف عدو الله امسى مقنعا
وأقسم لو أن النعي لقبره * بكاه أسى في قبره وتفجعا
ومن عجب ان ينزل الموت داره * وقد كان لايلفاه الا مروعا
لتبك الطول الغلب من آل هاشم * طويل ذرى حك السهى فتصدعا
ليبك التقى منه منار هداية * وتنعى الوغى منه كميا سميدعا
وان يبكه الاسلام وجدا وحسرة * فقد كان للاسلام حصنا ومفزعا
وان يبكه البيت الحرام فطالما * به كان محمي الجوار ممنعا
وان يبك جبريل له فلشدما * بخدمته جبريل كان ممتعا
وان يبكه بدر السماء فإنما * بكى البدر بدرا منه أسنى وأرفعا
ولو عقلت شمس الضحى يوم دفنه * لخطت له في عينها الشمس مضجعا
امام دعا لله حتى انتهى له * ألا هكذا فليدع لله من دعا
ولم يمض حتى أن شأى كل سابق * ولم يبق في قوس الفضائل منزعا
وان عد في نسك فلم يبق أورعا * وان عد في فتك فلم يبق أروعا
لقد طبق الآفاق بأسا ونائلا * فذلت له الأعناق خوفا ومطمعا
كأن مقاليد السماء بكفه * فلم يك الا ما أراد وأرفعا
أما والهجان القود تدمى نحورها * ومن بمنى يرمي الجمار تطوعا
وبالبيت ذي الاستار والنفر الأولى * بأرجائه تهوى ركوعا وسجدا
وبالأبطح الأعلى ومروة والصفا * وبالحجر الملموس والركن أجمعا
لقد صرع الاسلام ساعة قتله * فيا مصرع الاسلام عظمت مصرعا
فكيف ودار الوحي أمست ربوعها * خلاء وامسي منزل الدين بلقعا
أجدك من للدين أبقيت كالئا * ومن لعلوم الغيب أصبحت مودعا
ويا رب دمع كان صعبا قياده * فأصبح منقادا ليومك طيعا
وان يغد في الأرضين رزؤك مفظعا * فقد راح في أهل السماوات أفظعا
174

ويومك في الاسلام ثلم ثلمة * وأوسع خرقا في الهدى لن يرقعا
فلا بطشت الا بساعد أجذم * ولا عطست الا بمارن اجدعا.
وقال الشيخ كاظم البستي النجفي (ره):
خطب ألم بركن الدين فانهارا * أورى الغداة بقلب المصطفى نارا
فأي حادثة في الدين قد وقعت * فألبسته من الأشجان أطمارا
كرت وقد شمرت عن ساقها فرمت * فجدلت بطلا في الحرب كرارا
هذي المحاريب أين القائمون بها * والليل مرخ من الظلماء أستارا
جار الزمان عليهم كم بهم ملا الدنيا * مصابا وكم أخلى لهم دارا
هذي منازلهم بعد الأنيس فلا * ترى بها غير وحش القفر زوارا
أضحى المؤمل للجدوي يجيل بها * طرفا وليس يرى في الدار ديارا
بالله يا راكبا حرفا معودة * طي السباسب انجادا، وأغوارا
يمم بها بمنى من غالب فئة * وجوهها سطعت في الليل أقمارا
مطعامة الجدب ان كف به بخلت * وأسرة الحرب ان نقع لها ثارا
فأي طود هدى من مجدكم مارا * وأي بحر ندى من جودكم غارا
هذا علي أمير المؤمنين لقى * مضرجا بدم من رأسه فارا
قد حجب الخسف بدرا منه مكتملا * وغيض الحتف بحرا منه تيارا
أودى ومن حوله للمسلمين ترى * من دهشة الخطب اقبالا وادبارا
وافت إليه بنوه الغر مسفرة * عن أوجه تملأ الظلماء أنوارا
تدعوه والعين عبرى تستهل دما * والحزن أجج في أحشائها نارا
يا نيرا غاب عن أفق الهدى فأرى * أفق الهدى لا يرى للصبح إسفارا
أبكيك في الجدب مطعاما سواغبها * وفي لظى الحرب مقداما ومغوارا
فلا أرى بعد حامي الجار من أحد * يجيرنا من صروف الدهر لو جارا
فلا بدا بعده بدر ولا طلعت * شمس ولا فلك في أفقها دارا.
175

وقال السيد صالح النجفي القزويني (ره) في قصيدته:
تالله لا أنساه في محرابه * لله يسجد في الظلام ويركع
وجلا ابن ملجم والظلام مجلل * سيف المنية والبرية هجع
وقضى عليه به وقنع رأسه * لله رأس بالحسام مقنع
فهناك أعول جبرئيل مناديا * فوق السما من في البسيطة يسمع
اليوم أشقى الأشقياء قد غال أتقى الأتقيا وله الجميل مضيع
اليوم منعمر الهدى متهدم * اليوم منهمر الندى متقشع
اليوم روض العلم ألوى والتقى * أودى وعرنين المكارم أجدع
قتل ابن عم المصطفى قتل الوصي * المرتضى قتل الامام الأورع
يقضي امام المسلمين مخضبا * والمسلمون لهم قلوب هجع
فمن المعزي أحمدا بوصيه أرداه صمصام بسم منقع
ومن المعزي فاطما بحميها * قد قد مفرقه الحسام الأقطع
ومن المعزي المجتبى بملمة * كادت له السبع العلى تتصدع
ومن المعزي المستضام بفارس * الاسلام جرعه الحمام الاوضع
ومن المعزي جبرئيل بمن به * جبريل سبح والملائك أجمع
أفهل درت آل الهدى ان الهدى * اودى ودك شمامه المترفع
أم هل دري الدين المبين بنكبة * نزلت فخذ الدين منها أضرع
عجبا لقلب لا يذوب ومقلة * جزعا له بدمائها لا تدمع
عجبا لأرض لا تمور ولج بحر * لا يغور وعارض لا يقلع
عجبا لبدر التم يسفر مشرقا * لم بالسواد عليك لا يتبرقع
عجبا لعرش الله جل جلاله * كيف استقام وركنه متضعضع
عجبا لقبر قد حواك ولم يضق * بنداك وهو من البسيطة أوسع
لكن حواك فقر فيك وانه * لولاك لهو الخاشع المتصدع
176

لا كان يومك يا علي فإنه * يوم به الدين الحنيف مضعضع
أصمى مصابك قلب كل موحد * واصم نعيك كل أذن تسمع
أدري ضريحك كم حوى بك من على * سام له انحط الضراح الا رفع
ما زلت مضطهدا تغض على القذى * جفنا وقلبك بالنوائب موجع
وهجرت لله المضاجع قائما * فكأنما لك في قيامك مضجع
ورزئت بالطهر البتول وما انقضى * رزء الرسول ولم تجف الأدمع
هجموا على بنت الرسول وروعوا * قلب البتول وأي قلب روعوا
تدعو فيغضي المسلمون كأنها * لم تدعهم وكأنهم لم يسمعوا
أتباح حرمتها ويسقط حملها * ما بينهم وترض منها الأضلع
لهفي لها غضبي تموت ومالها * متوجع منهم ولا متفجع
ودفنتها سرا كما أوصت وقد * هجعوا لكيلا يحضروا ويشيعوا
ومنعتهم عن نبش مرقدها وهم * لولاك عما حاولوا لم يرجعوا.
177

الفائدة الثالثة:
في ترجمة الرواة، ونقدم الأول فالأول.
اما الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن مهران الأهوازي من موالي
علي بن الحسين عليهما السلام، فقد وثقه الشيخ (ره) في الرجال والفهرست،
وأثنى عليه ابن النديم.
قال الشيخ في الفهرست 83: الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد بن
مهران الأهوازي من موالي علي بن الحسين عليه السلام ثقة، روى عن
(الامام) الرضا، وأبي جعفر الثاني وأبي الحسن الثالث عليهم السلام،
واصله كوفي وانتقل مع أخيه الحسن (رضي الله عنه) إلى الأهواز، ثم
تحول إلى قم، فنزل على الحسن بن أبان، وتوفي بقم، وله ثلاثون
كتابا، وهي:
كتاب الوضوء، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصوم،
وكتاب الحج، وكتاب النكاح، وكتاب الطلاق، كتاب الوصايا، كتاب
الفرائض، كتاب التجارات، كتاب الإجارات، كتاب الشهادات، كتاب
الايمان والنذور والكفارات، كتاب الحدود والديات، كتاب البشارات،
كتاب الزهد، كتاب الأشربة، كتاب المكاسب، كتاب التقية، كتاب الخمس،
كتاب المروءة والتجمل، كتاب الصيد والذبائح، كتاب المناقب، كتاب
المثالب، كتاب التفسير، كتاب المؤمن، كتاب الملاحم، كتاب المزار، كتاب
الدعاء، كتاب الرد على الغالية، كتاب العتق والتدبير.
أخبرنا بكتبه ورواياته ابن أبي جيد القمي، عن محمد بن الحسن،
عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد بن حماد بن سعيد
178

بن مهران.
قال ابن الوليد: واخرجها الينا الحسين بن الحسن بن أبان بخط
الحسين بن سعيد، وذكر انه كان ضيف أبيه.
وأخبرنا بها عدة من أصحابنا، عن محمد بن علي بن الحسين، عن
أبيه. ومحمد بن الحسن، ومحمد بن موسى بن المتوكل، عن سعد بن
عبد الله. والحموي عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد.
وذكره النجاشي رحمه الله، وأطال الكلام في طرقه إلى كتب الحسين
بن سعيد رحمه الله.
وقال ابن النديم في محكي فهرسته: الحسن والحسين، ابنا سعيد
الأهوازيان، من أهل الكوفة، من موالي علي بن الحسين (ع) من أصحاب
(الامام) الرضا (ع)، كانا أوسع أهل زمانهما علما بالفقه والآثار والمناقب
وغير ذلك من علوم الشيعة، وصحبا أيضا أبا جعفر ابن الرضا (ع). ثم
ذكر رحمه الله أسامي كتبه كما مر عن الشيخ (ره).
واما حماد بن عيسى الجهني البصري المتوفي سنة تسع ومأتين، وقيل:
ثمان ومأتين، فهو من أصحاب الإمام الصادق والكاظم عليهما السلام،
وأدرك الإمام الرضا وابنه أبا جعفر عليهما السلام.
قال معلم الأمة الشيخ المفيد (ره): وكان أصله كوفيا، ومسكنه
البصرة، وعاش نيفا وتسعين، ولحق بأبي عبد الله عليه السلام، ومات
بوادي قناة بالمدينة، وهو واد يسيل من الشجرة إلى المدينة، ومات سنة
تسع ومأتين.
حدثنا جعفر بن الحسين المؤمن - رحمه الله - عن محمد بن الحسن،
عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن حماد بن
عيسى، قال: دخلنا على أبي الحسن الأول عليه السلام، فقلت له: جعلت
179

فداك، أدع الله لي أن يرزقني دارا وزوجة وولدا وخادما والحج في كل
سنة. فقال: اللهم صل على محمد وال محمد، وارزقه دارا وزوجة وولدا
وخادما، والحج خمسين سنة. قال حماد: فلما اشترط خمسين سنة،
علمت اني لا أحج أكثر من خمسين سنة. قال حماد: وحججت ثمان وأربعين
حجة، وهذه داري قد رزقتها، وهذه زوجتي وراء الستر تسمع كلامي،
وهذا ابني، وهذه خادمتي، قد رزقت كل ذلك.
فحج بعد هذا الكلام حجتين تمام الخمسين، ثم خرج بعد الخمسين
حاجا فزامل أبا العباس النوفلي القصير، فلما صار في موضع الاحرام،
دخل يغتسل في الوادي فحمله فغرقه الماء رحمة الله عليه، واتاه قبل ان يحج
زيادة على خمسين، (7) عاش إلى وقت (الامام) الرضا عليه السلام،
وتوفي سنة تسع ومأتين، وكان من جهينة.
وحكي عن الكشي رحمه الله أنه قال: أجمعت العصابة على تصحيح
ما يصح عنه، وأقرت له بالفقه.
وذكره الشيخ (ره) في رجاله في أصحاب الإمام الصادق (ع)،
وقال في الفهرست 86: حماد بن عيسى الجهني غريق الجحفة، ثقة، له كتاب
النوادر، وكتاب الزكاة، وكتاب الصلاة، أخبرنا بها عدة من أصحابنا، عن
أبي المفضل، عن ابن بطة، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن حمادة ورواه
ابن بطة، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمان ابن أبي نجران،

(7) هذا الحديث رواه الكشي أيضا، ورواه أيضا في قرب الإسناد - كما
في البحار: 11، 244، ولكن اختلفوا في ضبط هذه الفقرة، ففي نسخة
الاختصاص المطبوعة، والمحكي عن نسخ أخرى، ضبط (اتاه) بالمثناة الفوقية.
وفى محكي قرب الإسناد هكذا: فجاء الوادي فحمله، فغرق فمات رحمنا الله
وإياه، الخ. وفى نسخة مطبوعة من الكشي والمحكي من نسخ أخرى: فجاء
الوادي فحمله فغرقه الماء، رحمه الله وأباه، الخ.
180

وعلي بن حديد، عن حماد بن عيسى. وأخبرنا بها ابن أبي جيد، عن ابن
الوليد، عن الصفار، عن محمد ابن أبي الصهبان، عن أبي القاسم الكوفي،
عن إسماعيل بن سهل، عن حماد.
وفي محكي الخرائج وكشف الغمة عن أحمد بن هلال، عن أمية بن
علي العبسي (القيسي خ) قال: دخلت انا وحماد بن عيسى على أبي جعفر
عليه السلام بالمدينة لنودعه، فقال لنا: لا تخرجا، أقيما إلى غد، فلما
خرجنا من عنده، قال حماد: انا اخرج فقد خرج ثقلي. قلت اما انا فأقيم،
فخرج حماد، فجرى الوادي تلك الليلة، فغرق فيه، وقبره بسياله. (8)
وحكي عن المحقق الفيض (ره) أنه قال: حماد الذي يروي عنه
الحسين بن سعيد، فإنه ابن عيسى الثقة الجهني الذي يروي غالبا عن حريز.
وقال المحقق النجاشي قدس الله نفسه: حماد بن عيسى أبو محمد
الجهني مولى، وقيل عربي، أصله الكوفي، سكن البصرة. وقيل: إنه
روى عن أبي عبد الله عليه السلام عشرين حديثا، وروى عن أبي الحسن
والرضا (ع)، ومات في حياة أبي جعفر الثاني عليه السلام، ولم يحفظ
عنه رواية عن الرضا ولاعن أبي جعفر.
وكان ثقة في حديثه، صدوقا، قال: سمعت من أبي عبد الله عليه السلام
سبعين حديثا، فلم أزل ادخل الشك على نفسي، حتى اقتصرت على هذه
العشرين. (9) وله حديث مع أبي الحسن موسى عليه السلام في دعائه بالحج،

(8) وهذه الفقرة مذكورة في ذيل رواية قرب الإسناد أيضا (على ما في
البحار) وقيل في بيانه: السيالة - بالمثناة التحتانية - على زنة سحابة: موضع
بقرب المدينة، على مرحلة منها لمن يريد مكة.
(9) الظاهر من سوق هذا التعبير ان حمادا ذكر لبعض الرواة ما رواه عن
الإمام الصادق (ع)، أو أراه ما كتبه عن الإمام (ع) من العشرين حديثا،
فقال لحماد: أهذا جميع ما ترويه من الإمام (ع) أم لك بقية؟ فأجابه حماد:
بان جميع ما رويته وسمعته من الامام كان سبعين حديثا، فلم أزل ادخل
الشك على نفسي حتى اقتصرت على هذه العشرين، الخ.
181

وبلغ من صدقه انه روى عن جعفر بن محمد، وروى عن عبد الله بن المغيرة،
وعبد الله بن سنان، وعبد الله بن المغيرة، عن أبي عبد الله.
له كتاب الزكاة أكثره عن حريز وبشير عن الرجال (10)، أخبرنا به
الحسين بن عبيد الله، قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن سفيان، قال: حدثنا
حميد بن زياد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن غالب، قال: حدثنا محمد
ابن إسماعيل الزعفراني، عن حماد به.
وكتاب الصلاة، أخبرنا به، محمد بن جعفر، عن أحمد بن محمد بن
سعيد، قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال، قال: حدثنا عبد الله بن محمد
بن ناجية، قال الحسن بن فضال: ورجل يقرأ عليه كتاب حماد في الصلاة،
قال أحمد بن الحسين رحمه الله: رأيت كتابا فيه عبر ومواعظ، وتنبيهات
على منافع الأعضاء من الانسان والحيوان، وفصول من الكلام في التوحيد،
وترجمته مسائل التلميذ، وتصنيفه عن جعفر بن محمد بن علي (ع)،
وتحت الترجمة - بخط الحسين بن أحمد بن شيبان القزويني - التلميذ:
حماد بن عيسى، وهذا الكتاب له، وهذه المسائل سأل عنها جعفرا وأجابه.
وذكر ابن شيبان: ان علي بن حاتم اخبره بذلك، عن أحمد بن إدريس

(10) كذا في المطبوعة من رجال النجاشي، فقيل: ان مراد النجاشي (ره)
من هذه العبارة: ان حماد يروي أكثر كتاب زكاته عن حريز وبشير عمن يروي
عن الإمام (ع).
وقيل: إن لفظ بشير - بالموحدة التحتانية ثم الشين المعجمة - غلط،
والصواب يسير - بالمثناة التحتانية ثم السين المهملة - ومعناه ان أكثر روايات
كتاب الزكاة لحماد يرويه عن حريز، وأقله ويسيره عن آخرين.
182

قال: حدثنا محمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الحسن الطائي،
رفعه إلى حماد.
وهذا القول ليس بثبت، والأول من سماعه من جعفر بن محمد أثبت.
ومات حماد بن عيسى غريقا بوادي قناة، وهو واد يسيل من الشجرة
إلى المدينة، وهو غريق جحفة، في سنة تسع ومأتين. وقيل: سنة ثمان
ومأتين، وله نيف وتسعونه سنة، رحمه الله.
واما عمرو بن شمر، فهو من أصحاب الإمامين الهمامين، الإمام الباقر
والإمام الصادق عليهما السلام، كما ذكره الشيخ (ره) في الرجال
والفهرست.
وضعفه بعضهم، ولعله لروايته بعض أسرار آل محمد (ص)، لأنه
قد نال حظا وافرا، وحاز قسمة عظيمة من السر المستصعب والمنهل العذب،
من علوم آل محمد (ص)، وما خصهم الله به من الفضائل والمكارم.
وقد فحصنا عن رواياته، وسبرناها فلم نجد فيها شيئا يوجب ضعف
راويه، أو حط مقامه وسقوطه عن الاعتبار، اللهم الا ان يدعي مدع، أو
يقول قائل: ان شرط قبول الرواية وصدق الراوي أن تكون رواياته خالية
عن مناقب آل البيت، أو مشتملة على حط مقامهم ومدح أعدائهم.
واما جابر بن يزيد بن الحرث بن عبد يغوث، أبو عبد الله وقيل: أبو
محمد الجعفي المتوفي سنة 128، فهو أيضا من أصحاب السيدين الإمام الباقر
والصادق (ع)، وقد وثقه جماعة كثيرة من علماء الخاصة والعامة،
وزينوا كتبهم بذكر أحاديثه ومروياته، وتشرفوا بمحضره للاخذ عنه
والاستضاءة من قبساته، فقد روي عن سفيان الثوري أنه قال: جابر الجعفي
صدوق في الحديث الا انه كان يتشيع. (11) وحكى عنه أيضا أنه قال:

(11) جميع ما نقلناه هنا عن علماء العامة في ترجمة جابر مأخوذ من أعيان الشيعة.
183

ما رأيت أورع بالحديث من جابر.
وفي تاريخ بغداد في ترجمة محمد بن إسحاق صاحب السيرة بسنده،
قال شعبة: اما محمد بن إسحاق وجابر الجعفي فصدوقان. وزاد ابن حنبل:
في الحديث.
وفي ميزان الاعتدال ذكر له علامة (د ت ق) إشارة إلى أنه اخرج
حديثه أبو داود والترمذي وابن ماجة القزويني، ثم قال: جابر بن يزيد بن
الحارث الجعفي الكوفي، أحد علماء الشيعة، قال ابن مهدي عن
سفيان: كان جابر الجعفي ورعا في الحديث، ما رأيت أورع منه في الحديث.
ابن مهدي سمعت سفيان يقول: ما رأيت في الحديث أورع من جابر الجعفي
ومنصور.
وقال شعبة: صدوق. وزاد في تهذيب التهذيب: في الحديث.
وعن شعبه: كان جابر إذا قال أنبأنا وحدثنا وسمعت فهو من أوثق
الناس. وقال وكيع: ما شككتم في شئ فلا تشكوا ان جابر الجعفي ثقة.
وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة:
لئن تكلمت في جابر الجعفي لا تكلمن فيك. أنبأ كثير بن معاوية، سمعت
جابر بن يزيد يقول: عندي خمسون الف حديث ما حدثت منها بحديث،
ثم حدث يوما فقال: هذا من الخمسين الف. وقال سلام ابن أبي مطيع:
قال لي جابر الجعفي: عندي خمسون الف باب من العلم ما حدثت بها
أحدا، فأتيت أيوب فذكرت هذا له فقال: اما الان فهو كذاب (12). وقال
عبد الرحمان بن شريك: كان عند أبي، عن جابر الجعفي عشرة آلاف

(12) ان أرباب القياس لما نظروا ورأوا ان بضاعة أئمتهم من العلم مزجاة،
وصفقتهم من الكمال خاسرة، قاسوا مدائن علم الرسول (ص) والاخذين
عنهم (ع) بأئمتهم، ولم يعلموا انه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
ولم يتفطنوا للمثل السائر: وليس سواء عالم وجهول. ولو تفطنوا وانصفوا
لم يبادروا إلى تكذيب وعاة العلم ودعاة الحق.
184

مسألة. وقال عبد الرحمان بن مهدي: الا تعجبون من سفيان بن عيينة لقد
تركت لجابر الجعفي (لما حكي عنه) أكثر من الف حديث، ثم هو يحدث
عنه. وعن الأعمش أنه قال: أليس أشعث بن سوار يسألني عن حديث؟
فقلت: لا، ولا نصف حديث، ألست أنت الذي تحدث عن جابر الجعفي؟!
وقيل لشعبة: تركت رجالا ورويت عن جابر الجعفي. قال: روى أشياء لم
أصبر عنها. وفي تهذيب التهذيب: لم طرحت فلانا وفلانا ورويت عن جابر؟
قال: لأنه جاء بأحاديث لم نصبر عنها. ورأيت زكريا ابن أبي زائدة يزاحمنا
عند جابر، فقال لي سفيان: نحن شباب وهذا الشيخ ماله يزاحمنا، ثم
قال لنا شعبة: لا تنظروا إلى هؤلاء المجانين الذين يقعون في جابر، هل
جاءكم بأحد لم يلقه. وقال ابن عدي: عامة ما قذفوه به انه كان يؤمن بالرجعة.
وليس لجابر الجعفي في سنن أبي داود والنسائي سوى حديث واحد
في سجود السهو. وروى ابن حبان بسنده، عن الجراح بن مليح قال سمعت
جابرا يقول عندي سبعون الف حديث، عن أبي جعفر عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم كلها.
سأل رجل سفيان: أرأيت يا أبا محمد الذين عابوا على جابر الجعفي
قوله: حدثني وصي الأوصياء؟! فقال سفيان: هذا أهونه.
وفي تهذيب التهذيب: جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي أبو
عبد الله، ويقال: أبو يزيد. ثم ذكر ما مر من الميزان وزاد: عن زهير بن
معاوية: كان جابر إذا قال سمعت أو سألت فهو من أصدق الناس. وسئل
شريك عن جابر فقال: ماله العدل الرضي، ومد بها صوته. وقال ابن
حبان: واخبرني ابن فارس، ثنا محمد بن رافع، رأيت أحمد بن حنبل في
185

مجلس يزيد بن هارون ومعه كتاب زهير عن جابر الجعفي، فقلت: يا أبا عبد
الله! تنهوننا عن حديث جابر وتكتبونه؟! قال: لنعرفه. إلى غير ذلك
من كلماتهم، وما تحمله أكابرهم منه.
ووثقه من أعاظم الخاصة: ابن الغضائري (ره) الذي قلما يسلم من
قدحه أحد. ومعلم الأمة، الشيخ المفيد في رسالته التي صنفها في الرد على
أصحاب العدد، ووصفه في جملة من وصفه: بأنهم فقهاء أصحاب أبي جعفر
وأبي عبد الله عليهما السلام، والاعلام والرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام،
والفتيا والاحكام، الذين لا مطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم،
وهم أصحاب الأصول المدونة، والمصنفات المشهورة. وكذلك المحقق
النجاشي (ره) والشيخ الطوسي (ره) وجل من تأخر عنهم. ونقل عن
الفقيه الجليل الفضل بن شاذان قدس الله نفسه: ان علم الأئمة عليهم السلام
انتهى إلى أربعة نفر: سلمان الفارسي، وجابر، والسيد، ويونس بن
عبد الرحمن. وقال الحافظ ابن شهرآشوب عطر الله مرقده في ترجمة
الإمام الباقر (ع): جابر بن يزيد بن الحرث بن عبد يغوث من أصحاب
السيدين باقر العلوم والصادق عليهما السلام، وقد نال مرتبة عظيمة من العلم
وحمل الاسرار، وتشرف بمقام منيع حتى صار بابا للإمام الباقر (ع). (13)
وان شئت العثور على شموخ مقامه، وعلو درجته، فارجع إلى الروايات
الواردة عنه، في ترجمته أو في معاجز الأئمة (ع).
نعم، لما رأى بعض الجاهلين بمقامات أهل البيت، الناصبين لهم
العداء والمقت ما تضمنته كتبه، أو رواه عنه الثقات، أو سمع هو منه
مشافهة من مناقبهم، وعلو مقامهم عند الله، وما اختار الله لهم من الكرامات
الباهرة، والمزايا الموهوبة، والعلوم الموروثة عن رسول الله (ص)،

(13) هذا ليس نص كلام ابن شهرآشوب، بل نقل بالمعنى.
186

اشمأزت قلوبهم، واضطربت عروقهم الأموية، وجاشت شنآنهم الموروثة عن
اسلافهم، فرموه بالضعف، ولكن البصير يعلم أن هذا ليست أول قارورة
كسرت في الاسلام، ويترنم بأنه: شنشنة أعرفها من أخزم، فكم من موحد
أوحدي رموه بالكفر والزندقة! وكم من ورع تقي نسبوه إلى الالحاد
والتفرقة! وسعوا في استيصاله بشتى الوسائل! ولذا اضطر بعض للتوقي
عن بوائقهم، والفرار من غوائلهم، إلى تصديقهم، والسكوت عما يفترونه
وينسبونه إلى البررة الكرام! إلى الله أشكو معشرا يعيشون جهالا، ويموتون
ضالا.
ولنعم ما قال بعض العلماء من أن: خفاء فضل الفاضل، وتضييع حق
المحق من لوازم الفضل والتمسك بالحق.
ولنعم ما أفاد الحكيم الشيخ أبو علي ابن سينا متضجرا من الهمج
والرعاع، ومشيرا إلى طريق التخلص من اولي الجور والعداء، بقوله
بالفارسية.
با أين دو سه نادان كه چنين ميدانند * از جهل كه داناي جهان آنانند
خر باش كه أين جماعت از فرط خري * هركس نه خر است كافرش ميخوانند
واما إبراهيم بن عمر الصنعاني اليماني أبو إسحاق، فهو من أصحاب
الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام، وهو عند المحققين من الثقات
المعول عليهم، المأخوذ منهم.
قال النجاشي (ره): إبراهيم بن عمر اليماني الصنعاني شيخ من
أصحابنا ثقة، روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام، ذكر ذلك أبو
العباس وغيره، له كتاب يرويه عنه حماد بن عيسى وغيره، أخبرنا محمد بن
عثمان، قال حدثنا أبو القاسم جعفر بن محمد قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد
بن نهيك قال: حدثنا ابن أبي عمير، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن
187

عمر - به.
وذكره شيخ الطائفة (ره) في غير موضع من رجاله، وقال: في
فهرسته 32: إبراهيم بن عمر اليماني، وهو الصنعاني، له أصل، أخبرنا به
عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه،
عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين
بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عنه. وأخبرنا أحمد بن عبدون، عن أبي
طالب الأنباري، عن حميد بن زياد عن ابن نهيك، والقاسم بن إسماعيل
القرشي جميعا - به.
وحكي عن المحقق الورع المجلسي الكبير (ره) أنه قال: ان أصوله
معتمد عند الأصحاب.
وحكي عن ابن حجر أنه قال في التقريب: ان إبراهيم بن عمر اليماني
الصنعاني أبا إسحاق، صدوق من السابعة.
واما ابان ابن أبي عياش، (14) أبو إسماعيل البصري الزاهد، مولى
عبد القيس، المتوفى سنة 138 ه‍، فهو الذي التجأ به سليم بن قيس (ره)
واستجاره لما فر من الطاغية حجاج بن يوسف الثقفي، فأجاره أبان ابن أبي
عياش وخلصه من سيف حجاج، فبقي سليم عنده مختفيا حتى دنا اجله، فطلب
ابان، وشكره على صنيعه، وأودعه كتابه، وشرط عليه ان لا يظهره ولا
يحدث به ما دام سليم حيا، وان يودعه عند قرب اجله ودنو وفاته من كان
معتمدا من شيعة علي أمير المؤمنين (ع)، فقبل أبان، ووفي بما اشترطه
سليم (ره) فاودع كتابه عند حضور اجله عند عمر بن أذينة (ره).
وحكي عن ميزان الاعتدال: ان سلمان العلوي قال لحماد بن زيد:
يا بني عليك بابان، فذكر ذلك لأيوب السختياني، فقال: ما زال نعرفه

(14) واسم أبي عياش: فيروز، وقيل: دينار.
188

بالخير منذ كان.
وحكي عنه أيضا: ان أبانا رئي في النوم، فقال: أو قفني الله بين
يديه، فقال: ما حملك على أن تكثر للناس من أبواب الرجاء؟ فقلت: يا رب
أردت ان أحببك إلى خلقك. فقال: قد غفرت لك.
وأما سليم بن قيس الهلالي أبو صادق رحمه الله، فهو من أصحاب
أمير المؤمنين عليه السلام، وحاملي اسراره، وصاحب الأصل القديم المعتبر
عند أعيان الطائفة، المعتمد لدى المحققين جميعا.
وبقي حتى أدرك الحجاج، فطلبه ليقتله كما قتل نظراءه مثل سعيد بن
جبير، وكميل بن زياد، وغيرهما رضوان الله عليهم، ففر منه، وأخفى
شخصه، وتوارى عن الناس، حتى ادركه الموت وهو في جوار أبان ابن أبي
عياش رضوان الله عليهما.
وبموته ضاع ما انفرد بحفظه وحمله من أسرار أمير المؤمنين عليه
السلام، الا ما أودعه في كتابه، ولعل أكثر ما في كتابه أيضا قد انمحى
وأتى عليه الدهر، لاستيلاء أعداء أهل البيت على الأقطار الاسلامية،
وسعيهم في استيصال الشيعة وقتلهم تحت كل حجر ومدر.
والأصل الموجود من كتاب سليم الذي وصل الينا من السلف الصالح
يدا بيد، موافق للحق والحقيقة، وما ظن فيه من القدح يمكن تصحيحه
وحمله على مالا ينافي الحقائق، أو عدالة صاحبه ووثاقته.
نعم بعض من غفل من تاريخ سليم وما ابتلي به، جعله هدفا لسهم
الانتقاد، لوجدانه في أصل سليم مالا يقبل الصحة - بحسب نظره ومبلغ
علمه - ولم يلتفت المسكين إلى أنه لا يتصور عادة تصديق جميع الناس لما
كتبه أو حققه غير المعصوم، ولم يدر انه لا يوجد في ملة من المل، ومذهب
من المذاهب، كتاب أو أمر حققه البشر - غير المؤيد من الله وغير المعصوم -
189

ثم يكون جميع ما اشتمل عليه مورد القبول الجميع، وتصديق الكل، ولو
كان صاحبه في نهاية العظمة، وغاية الدقة، وكان حظه من الحياة والتعيش
مع أبناء عصره حظا أو في، ونصيبا أعلى، وكتابه في كل عصر بمرءى ومسمع
من الناس، فكيف بالكتاب الذي صاحبه مرعوب وجل، وعاش في زاوية
الاختفاء مطرودا عن أهله ومصره، وكان مطلوبا للقتل والصلب من قبل ألد
الخصوم، واسفك الأنام للدماء، وهو حجاج بن يوسف المنصوب من قبل
الأمويين، الذين يرون حب علي وأولاده ومتابعتهم أكبر من كل زندقة
والحاد، ولعنهم والتبري منهم، وستر مناقبهم، واظهار شخصيات معانديهم،
أعظم من كل قربة ورشاد.
هذا كله بالنسبة إلى صاحب الكتاب، واما الكتاب ومطالبه فعند أعداء
أهل البيت عين الكفر والالحاد، ولأجله كان في أغلب الاعصار، مخزونا
عند أهله لا يطمثه إنس ولا جان، كل ذلك خوفا من القتل والاستيصال وهتك
الحرمات، واسترقاق البنين والنبات.
وهذه الأمور من الأسباب العادية للتلف، ومحق بعض الحقائق،
لا سيما في الاعصار القديمة التي كانت الكتب فيها غير مطبوعة، ولذا شنت
غارات الحوادث على جل كتب المتقدمين من علماء الإمامية، فكم من
صحائف مكرمة قد أكلتها دواب الأرض، وكم من زبر معظمة قد تقاطر عليها
الأمطار فمحتها من صفحة الوجود، وكم من حقائق مرقومة قد جنت عليها
أيادي الظالمين وأعداء الدين بالحرق والغرق، والمزق والسحق، ومحوها
بالبزاق والبصاق!!
فلولا عناية الباري بحفظ دينه، وآثار أوليائه، لأصبحت تلك الآثار
اسما بلا مسمى، كالعنقاء والكيمياء.
أضف إلى جميع ما ذكرنا السهو والنسيان، وهو مالا يخلو منه أحد،
190

حتى قيل: إنه طبيعة ثانوية، وقيل: الانسان مجبول على السهو والنسيان:
فأي محقق في صنعته لم يصدر منه في أموره خطأ أو سهو أو نسيان، وأي
ذي عناية في عمل من الاعمال، لم يبتل بالغفلة والذهول، وأي كاتب
لم يبدل العقول بالبقول، والفصول بالفضول؟!
والحاصل ان سليم بن قيس الهلالي رحمه الله، من أعيان الطائفة:
وكتابه من الأصول المعتبرة، وحسبك شاهدا على تبرزه وكونه من أولياء
أمير المؤمنين عليه السلام، موته في ديار الغربة وهو خائف يترقب، ومرعوب
وجل، مع أنه لو كان مريدا للدنيا، ويروقه التقرب إلى سلاطين زمانه،
وطواغيت أيامه - أمثال أبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومن على شاكلتهما -
كان متمكنا بشتى الوسائل من التقرب إليهم، وهضم حلوائهم، ولبس
زيهم، وأكل فريستهم، لان الملوك وآكلي أموال الناس بالباطل، في حاجة
شديدة إلى التشبث باهل العلم والصلاح، ليتخذوا بهم مال الله دولا،
وعباد الله خولا، فيأكلوا الدنيا باسم الدين، ويسيطروا على أموال الفقراء
والمساكين، ويتأمروا على العالمين، ولأجله ينوهون باسم من يوافقهم
ويعظمونه فوق حد التعظيم، ولو لم يميز السين من الشين، ولم يعرف
الصاد من الضاد، ويحطون من مقام من خالفهم ولو كان اعلم أهل الأرض،
بل ولو كان نفس القداسة والروحانية، وعين العلم والعدالة والانسانية!!
ومن صعب عليه تصديق ما ذكرنا، وتشخيص أهل زمانه، فليراجع
إلى تاريخ بني أمية، وما صنعوا مع أمير المؤمنين (ع) وأوليائه، وما
اختلقوا لأعدائه ومبغضيه، فإنه يرى الامر جليا، فيصدق ما قلناه، لان
الزمان أشباه، والبشر اشكال.
واما كتابه فكفى في اعتباره ان علماءنا خلفا عن سلف تمسكوا بمطالبه،
وجعلوها دليلا ومصدرا لدعاويهم.
191

واما ابن عبدون، فهو أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزاز أبو
عبد الله المتوفى سنة 423 ه‍.
قال النجاشي رحمه الله: هو شيخنا المعروف بابن عبدون، له كتب،
منها اخبار السيد ابن محمد كتاب تاريخ، كتاب تفسير خطبة فاطمة (ع)
معربة، كتاب عمل الجمعة، كتاب الحديثين المختلفين، أخبرنا بسائرها.
وكان رحمه الله قويا في الأدب، قد قرأ كتب الأدب على شيوخ أهل
الأدب، وكان قد لقي أبا الحسن، علي بن محمد القرشي المعروف بابن
الزبير، وكان علوا في الوقت. (15)
وقال الشيخ رحمه الله: أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر، يكنى
أبا عبد الله، كثير السماع والرواية، سمعنا منه، وأجاز لنا بجميع ما رواه،
مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمأة.
واما ابن أبي الزبير، فهو علي بن محمد بن الزبير القرشي الكوفي
المتوفى سنة 348، وكان رحمه الله شيخ الشيوخ، وأستاذ أهل الكمال
والنبوغ، وراوي الأصول، ومجيز الأكابر والفحول.
قال الشيخ (ره) في باب من لم يرو عن الأئمة عليهم السلام من رجاله

(15) قيل: المراد به مدح ابن الزبير، وإنما كان علوا في الوقت، لأنه
كان يروي عن علي بن فضال بلا واسطة، كما يظهر ذلك من الغضائري في
المفضل بن صالح، ومثل الكشي - الذي في مرتبة الكليني - يروي عنه بتوسط
العياشي، وكان ناهز مأة سنة، كما صرح به الشيخ في رجاله. قال المحمودي:
بل مقصود النجاشي (ره) من هذه العبارة مدح ابن عبدون، وإنما كان
مدحا له، للملازمة العادية بين الاتصال بعلية الناس، وبين العلى، كما يمدح
مثلا سلمان بأنه اخذ عن أهل البيت واتصل بهم (ع) دون غيرهم، وذلك في
العرفيات فوق حد الاحصاء، ونظمه الشعراء فقالوا: عن المرء لا تسال وسل
عن خدينه، الخ. وقال آخر:
فاعتبر الأرض بأسمائها * واعتبر الصاحب بالصاحب
192

480: علي بن محمد بن الزبير القرشي الكوفي، روى عن علي بن الحسن
ابن فضال جميع كتبه، وروى أكثر الأصول، روى عنه التل عكبري،
وأخبرنا عنه أحمد بن عبدون، ومات ببغداد سنة ثمان وأربعين وثلاث مأة،
وقد ناهز مأة سنة، ودفن في مشهد أمير المؤمنين عليه السلام. ويكنى بابي
الحسن أيضا، كما يعلم ذلك مما ذكره النجاشي (ره) في ترجمة ابن عبدون
من قوله - في وصفه -: وكان ابن عبدون قد لقي أبا الحسن علي بن محمد
القرشي المعروف بابن الزبير، وكان علوا في الوقت. (16)
وأرخ النجاشي أيضا وفاته كالشيخ (ره)، فقال في ترجمة أبان بن
تغلب: أخبرنا أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا علي بن محمد القرشي سنة
ثمان وأربعين وثلاث مأة - وفيها مات - قال: حدثنا علي بن الحسن بن
فضال، عن محمد بن عبد الله بن زرارة، عن محمد بن أبي عمير، عن
عبد الرحمان بن الحجاج قال: كنا في مجلس أبان بن تغلب، فجاء شاب،
فقال: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام من
أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال له ابان: كأنك تريد ان تعرف
فضل علي بمن تبعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فقال الرجل: هو ذلك. فقال: والله ما عرفنا فضلهم الا باتباعهم
إياه. قال: فقال أبو البلاد: عض ببظر أمه رجل من الشيعة في أقصى الأرض
وأدناها يموت أبان ولا يدخل مصيبته عليه. فقال له أبان: يا أبا البلاد!

(16) قال في التعليقة على ما حكي عنه: الأقرب رجوع الضمير - في
قوله: وكان علوا - إلى علي بن محمد - والعلو - بالمهملة على ما في النسخ -
الظاهر أن المراد به علو الشأن، واكثار رواية ابن عبدون عنه قرينة ظاهرة.
والمحكي عن المحقق الداماد أنه قال: علي بن محمد بن الزبير المعروف عند
الأصحاب، شيخ الشيوخ، وراوية الأصول. قال النجاشي: كان علوا في
الوقت، اي كان في غاية الفضل والعلم والثقة والجلالة في وقته وأوانه.
193

تدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم اخذوا بقول علي، وإذا اختلف الناس عن علي اخذوا بقول
جعفر بن محمد عليه السلام.
وأما علي بن الحسن بن فضال، فقد اجمع أصحابنا الا النادر منهم،
على قبول روايته والوثوق بقوله، وانه من الأعاظم، ومن فقهاء أصحابنا،
وعده الشيخ (ره) في رجاله في أصحاب الإمام الهادي والإمام العسكري
عليهما السلام، وقال في فهرسته: علي بن الحسن بن فضال فطحي المذهب،
ثقة كوفي، كثير العلم، واسع الرواية والاخبار، جيد التصانيف، غير
معاند، وكان قريب الامر إلى أصحابنا الإمامية، القائلين بالاثني عشر،
وكتبه في الفقه مستوفاة، وفي الاخبار حسنة، قيل: إنها ثلاثون كتابا، منها
كتاب الطب، وكتاب فضل الكوفة، وكتاب الدلائل، وكتاب المعرفة،
وكتاب المواعظ، وكتاب التفسير وكتاب البشارات، وكتاب الجنة والنار،
وكتاب الوضوء، وكتاب الصلاة، وكتاب الحيض، وكتاب الزكاة، وكتاب
الصوم، وكتاب الرجال، وكتاب الوصايا، وكتاب الزهد، وكتاب الحج،
وكتاب العقيقة، وكتاب الخمس، وكتاب النكاح، وكتاب الطلاق، وكتاب
الجنائز، وكتاب صفات النبي (ص)، وكتاب المثالب، وكتاب اخبار بني إسرائيل
، وكتاب الأصفياء.
أخبرنا بجميع كتبه قراءة عليه أكثرها، والباقي إجازة أحمد بن عبدون،
عن علي بن محمد بن الزبير سماعا وإجازة عنه. وقال النجاشي (ره):
علي بن الحسن بن علي بن فضال بن عمر بن أيمن مولى عكرمة بن ربعي
الفياض أبو الحسن، كان فقيه أصحابنا بالكوفة، ووجههم وثقتهم وعارفهم
بالحديث، والمسموع قوله فيه، سمع منه شيئا كثيرا، ولم يعثر له على زلة
فيه، ولا ما يشينه، وقل ما روى عن ضعيف، وكان فطحيا، ولم يرو عن
194

أبيه شيئا، وقال: كنت أقابله - وسني ثمان عشرة سنة - بكتبه، ولا أفهم
ادراك الروايات، ولا أستحل ان أرويها عنه. وروى عن أخويه عن أبيهما.
وذكر أحمد بن الحسين رحمه الله، انه رأى نسخة أخرجها أبو جعفر
ابن بابويه، وقال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال، عن
أبيه، عن الرضا. ولا يعرف الكوفيون هذه النسخة، ولا رويت من غير
هذا الطريق. وقد صنف كتبا كثيرة منها ما وقع الينا.
ثم عدد كتبه كما ذكره (ره)، وزاد عدة كتب، منها: كتاب الأنبياء،
كتاب الفرائض، كتاب الدعاء، كتاب الملاحم، كتاب اثبات امامة عبد الله،
كتاب ما روي في الحمام، كتاب المتعة، كتاب الغيبة، كتاب أسماء آلات
رسول الله (ص) وأسماء سلاحه، كتاب العلل ونحوها، ثم قال: ورأيت
جماعة من شيوخنا يذكرون: ان الكتاب المنسوب إلى علي بن الحسن بن
فضال المعروف بأصفياء أمير المؤمنين عليه السلام (ويقولون: انه) موضوع
عليه لا أصل له، والله أعلم.
قالوا: وهذا الكتاب الصق روايته إلى أبي العباس - ابن عقدة، وابن
زبير، ولم نر أحدا ممن روى عن هذين الرجلين يقول: قرأته على الشيخ،
غير أنه يضاف إلى كل رجل منهما بالإجازة حسب.
قرأ أحمد بن الحسين كتاب الصلاة والزكاة ومناسك الحج والصيام
والطلاق والنكاح والزهد والجنائز والمواعظ والوصايا والفرائض والمتعة
والرجال على أحمد بن عبد الواحد في مدة سمعتها معه، وقرأت انا كتاب
الصيام عليه في مشهد العتيقة، عن ابن الزبير عن علي بن الحسن، وأخبرنا
بسائر كتب ابن فضال بهذا الطريق.
وأخبرنا محمد بن جعفر في آخرين، عن أحمد بن محمد بن سعيد
195

عن علي بن الحسن - بكتبه.
ومجمل القول إن الرجل عند المحققين من أكمل الثقات.
واما محمد بن عبد الله بن زرارة. فهو أيضا ممن ورث المجد والعظمة
من أبيه وعشيرته الأكرمين الموالين للأئمة الطاهرين عليهم السلام. قال
أبو غالب الزراري رحمه الله، في رسالته المشتملة على ترجمة آل أعين
اجمالا: ومن ولد زرارة محمد بن عبد الله بن زرارة، وكان كثير الحديث،
وروى عنه علي بن الحسن بن علي بن فضال حديثا كثيرا.
واما عمر بن أذينة رحمه الله، فقد أصفق الأصحاب رضوان الله عليهم
على جلالته ووثاقته، وعده الشيخ (ره) في رجاله من أصحاب الإمام الصادق
والإمام الكاظم عليهما السلام، وذكره في فهرسته مع طريقه إلى كتبه.
وقال الكشي (ره): قال حمدويه: سمعت أشياخي منهم العبيدي
وغيره، ان ابن أذينة كوفي، وكان هرب من المهدي، ومات باليمن، فلذلك
لم يرو عنه كثير، ويقال: اسمه محمد بن عمر بن أذينة، غلب عليه اسم
أبيه، وهو كوفي مولى لعبد القيس.
وقال المحقق النجاشي رضوان الله عليه: عمر بن محمد بن عبد الرحمان
ابن أذينة بن سلمة بن الحارث بن خالد بن عائذ بن سعد بن ثعلبة بن غنم بن مالك
ابن نهشة (بهته خ) بن جديمة بن الديل بن شن بن أقصى بن عبد القيس
بن افصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان،
شيخ أصحابنا البصريين ووجههم، روى عن أبي عبد الله عليه السلام بمكاتبة،
له كتاب الفرائض، أخبرنا أحمد بن محمد، عن أحمد بن محمد بن سعيد
قال: حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم، عن محمد بن زياد، عن عبيد الله
بن أحمد بن نهيك، وأحمد بن سقلاب جميعا، عن محمد بن أبي عمير،
عن عمر بن أذينة.
196

وينبغي لنا ان نذكر ما جرى بينه وبين ابن أبي ليلى لفوائده الجنة،
وخلوا أكثر الكتب عنه.
قال القاضي نعمان (ره): روينا عن عمر بن أذينة، وكان من أصحاب
أبي عبد الله جعفر بن محمد (ع) أنه قال: دخلت يوما على عبد الرحمان
ابن أبي ليلى بالكوفة وهو قاض، فقلت: أردت ان أسألك عن مسائل -
وكنت حديث السن. - فقال: سل يا بن أخي عما شئت. قلت: اخبرني
عنكم معاشر القضاة، ترد عليكم القضية في المال والفرج والدم، فتقضي
أنت فيها برأيك، ثم ترد تلك القضية بعينها على قاضي مكة، فيقضي فيها
بخلاف قضيتك، ثم ترد على قاضي البصرة وقاضي اليمن، وقاضي المدينة،
فيقضون فيها بخلاف ذلك، ثم تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم،
فتخبرونه باختلاف قضاياكم، فيصوب رأي كل واحد منكم، وإلهكم واحد،
ونبيكم ودينكم واحد! أفأمركم الله بالاختلاف فأطعتموه، أم نهاكم عنه
فعصيتموه، أم كنتم شركاء الله في حكمه، فلكم ان تقولوا وعليه ان يرضى،
أم انزل الله دينا ناقصا فاستعان بكم في إتمامه، أم انزل الله تاما فقصر
رسول الله (ص) عن أدائه، أم ماذا تقولون؟!
فقال: من أين أنت يا فتى؟ قلت: من أهل البصرة. قال: من أيها؟
قلت: من عبد القيس. قال: من أيهم؟ قلت: من بنى أذينة. قال:
ما قرابتك من عبد الرحمان بن أذينة؟ قلت: هو جدي. فرحب بي وقربني
وقال: اي فتى! لقد سألت فغلظت، وانهمكت فتعوصت، وسأخبرك إن شاء الله.
أما قولك في اختلاف القضايا، فإنه ما ورد علينا من أمر القضايا مما له
في كتاب الله أصل، أو في سنة نبيه (ص) فليس لنا ان نعدو الكتاب
والسنة، وأما ما ورد علينا مما ليس في كتاب الله ولا في سنة نبيه (ص)
197

فانا نأخذ فيه برأينا. قلت: ما صنعت شيئا، لان الله عز وجل يقول:
ما فرطنا في الكتاب من شئ، وقال: فيه تبيان كل شئ. أرأيت لو أن
رجلا عمل بما أمر الله به، وانتهى عما نهى الله عنه، أبقي عليه شئ يعذبه
الله عليه إن لم يفعله، أو يثيبه عليه ان فعله؟ قال: وكيف يثيبه على ما لم
يأمره به، أو يعاقبه على ما لم ينهه عنه؟! قلت: وكيف يرد عليك من
الاحكام ما ليس له في كتاب الله أثر، ولا في سنة نبيه خبر؟! قال: أخبرك
يا ابن أخي حديثا حدثناه بعض أصحابنا، يرفع الحديث إلى عمر بن الخطاب،
انه قضى قضية بين رجلين، فقال له - أدنى القوم إليه مجلسا -: أصبت
يا أمير المؤمنين، فعلاه عمر بالدرة، وقال: ثكلتك أمك، والله ما يدري
عمر أصاب أم أخطأ، إنما هو رأي اجتهدته، فلا تزكونا في وجوهنا.
قلت: أفلا أحدثك حديثا؟ قال: وما هو؟ قلت: اخبرني أبي، عن أبي
القاسم العبدي، عن ابان، عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: القضاة
ثلاثة، هالكان وناج، فاما الهالكان فجائر جار متعمدا، ومجتهد أخطأ،
والناجي من عمل بما أمر الله به. فهذا نقض حديثك (حديثكم خ) يا عم.
قال: أجل والله يا بن أخي، فتقول أنت ان كل شئ في كتاب الله عز وجل؟
قلت: الله قال ذلك، وما من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي الا وهو
في كتاب الله عز وجل، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله، ولقد أخبرنا لله فيه
بما لا نحتاج إليه، فكيف بما نحتاج إليه. قال: كيف قلت (وما هو خ)؟
قلت: قوله: فأصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها. قال: فعند من يوجد
علم ذلك؟ قلت: عند من عرفت. قال: وددت لو اني عرفته، فأغسل
قدميه، وآخذ عنه، (واخدمه خ) وأتعلم منه. قلت: أناشدك الله هل
تعلم رجلا كان إذا سأل رسول الله (صلع) شيئا أعطاه، وإذا سكت عنه
ابتداه؟ قال: نعم، علي بن أبي طالب (ع). قلت: فهل علمت أن عليا
198

سأل أحدا بعد رسول الله (صلع) عن حلال أو حرام؟ قال: لا. قلت:
هل علمت أنهم كانوا يحتاجون إليه ويأخذون عنه؟ قال: نعم. قلت: فذلك
عنده. قال: فقد مضى فأين لنا به؟ قلت: تسأل في ولده، فان ذلك
العلم عندهم (فيهم خ). قال: وكيف لي بهم؟ قلت: أرأيت قوما كانوا
بمفازة (في مفازة خ) من الأرض، ومعهم أدلاء، فوثبوا عليهم، فقتلوا
بعضهم وجافوا (وأخافوا خ) بعضهم، فهرب واستتر من بقي لخوفهم،
فلم يجدوا من يدلهم، فتاهوا في تلك المفازة حتى هلكوا، ما تقول فيهم؟
قال: إلى النار، واصفر وجهه، وكانت في يده سفر جلة فضرب بها الأرض
فتهشمت، وضرب بين يديه وقال: انا لله وانا إليه راجعون.
المقدمة الأخيرة من كتاب دعائم الاسلام، ونقله عند المجلسي العظيم (ره)
في البحار: 24، 5.
واما العدة وقعت في الطريق الثاني من الكافي من أحمد بن محمد
الخ. فإنهم الان غير معلومين لي تفصيلا وتعيينا، إذ يحتمل أحمد بن
محمد أن يكون الأشعري، ويحتمل أن يكون البرقي، فإن كان الأشعري
فقد تقدمت ترجمته وترجمة عدته في تعليقات المختار 1.
وإن كان البرقي فسيجئ ترجمته وترجمة عدته.
واما الحسين بن سعيد وحماد بن عيسى وعمرو بن شمر وجابر، فقد
مضت خلاصة القول في تراجمهم.
199

تعليق تفسيري نقلي:
على قوله (ع): واعتصموا بحبل الله، الخ.
روى النعماني (ره) مسندا عن الإمام السجاد عليه السلام قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم جالسا ومعه أصحابه في المسجد،
فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنة يسأل عما يعنيه،
فطلع رجل طوال شبيه برجال مصر، فتقدم فسلم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فجلس فقال: يا رسول الله اني سمعت الله عز وجل يقول فيما
انزل: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (1) " فما هذا الحبل الذي
أمرنا الله بالاعتصام به، و (أن) لا نتفرق عنه؟ فأطرق رسول الله صلى
الله عليه وآله مليا، ثم رفع رأسه، فأشار بيده إلى علي وقال: هذا حبل
الله الذي من تمسك به عصم به في دنياه ولم يضل في آخرته. فوثب
الرجل إلى علي، فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل الله
وحبل رسوله، ثم قام فخرج، فقام رجل من الناس، فقال: يا رسول الله
ألحقه فاسأله ان يستغفر الله لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا
تجده موفقا. قال: فلحقه الرجل فسأله ان يستغفر له، فقال له: أفهمت
ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله، وما قلت له؟ قال: نعم. قال: فان
كنت متمسكا بذلك فغفر الله لك، والا فلا غفر الله لك. كما في الحديث
الثاني، من تفسير الآية المباركة، من البرهان.
وروي أيضا في الحديث الرابع، من تفسير الآية الشريفة، عن السيد
الرضي (ره) في الخصائص معنعنا، عن أبي الحسن عليه السلام، في خطبة

(17) الآية 103 من سورة آل عمران.
200

خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه، وفي الخبر: فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادعوا عمي - يعني العباس -، فدعي له،
فحمله وعلي عليه السلام حتى أخرجاه، فصلى بالناس وانه لقاعد، ثم حمل
فوضع على المنبر بعد ذلك، فاجتمع لذلك جميع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار
حتى برزت العواتق من خدرها، فبين باك وصائح، والنبي صلى الله عليه
وآله وسلم يخطب ساعة، ويسكت ساعة، وكان فيما ذكر من خطبته أن
قال: يا معشر المهاجرين والأنصار ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من
الإنس والجن؟ ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا واني خلفت فيكم كتاب الله فيه
النور والهدى والبيان لما فرض الله تبارك وتعالى من شئ، حجة الله عليكم،
وحجتي وحجة وليي، وخلفت فيكم العلم الأكبر، علم الدين، ونور الهدى،
وضياءه، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو حبل الله، واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف
بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار
فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون.
أيها الناس هذا علي، من أحبه وتولاه اليوم وبعد اليوم فقد أوفي
بما عاهد عليه الله، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة
أصم وأعمى لا حجة له عند الله.
وفي الحديث الخامس منه معنعنا، عن عبد الله بن عباس قال: كنا عند
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاء اعرابي فقال: يا رسول الله
سمعتك تقول: واعتصموا بحبل الله جميعا، فما حبل الله الذي نعتصم
به؟ فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في يد علي (عليه السلام)
وقال: تمسكوا بهذا، فهذا هو الحبل المتين.
وفي الحديث السادس، من تفسير الآية، عن العياشي، عن ابن يزيد
201

قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله: واعتصموا بحبل الله جميعا،
قال: علي بن أبي طالب حبل الله المتين.
وفي الحديث السابع، عنه أيضا، عن جابر قال: آل محمد عليهم
السلام هم حبل الله الذي أمر بالاعتصام به فقال: واعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا.
وعن رشيد الدين ابن شهرآشوب (ره)، عن محمد بن علي العنبري،
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انه سأله أعرابي عن هذه الآية:
" واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "، فأخذ رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم بيد علي عليه السلام وقال: يا اعرابي هذا حبل الله فاعتصم به.
فدار الاعرابي من خلف علي عليه السلام، واحتضنه وقال: اللهم إني
أشهدك اني اعتصمت بحبلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من سره ان ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
ثم قال ابن شهرآشوب: وروى نحوا من ذلك عن الإمام الباقر عليه
السلام. كما في الحديث الثامن، من تفسير الآية.
وروي في الحديث التاسع، من تفسير الآية، عن الثعلبي باسناده إلى
جعفر بن محمد عليه السلام، في قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا " قال: نحن حبل الله الذي قال الله: واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا. ورواه أيضا أبو الفتوح الرازي، عن أبان بن تغلب، عن
الإمام الصادق (ع).
وروي عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله يقول: يا أيها الناس اني تركت فيكم خليفتين ان
أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله حبل
ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ان الله اللطيف الخبير
202

أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
وعن الإمام السجاد عليه السلام قال: الامام منا لا يكون الا معصوما،
وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، ولذلك لا يكون الا منصوصا.
فقيل له: يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله: فما معنى المعصوم؟ فقال:
هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، والقرآن يهدي إلى الامام،
وذلك قول الله عز وجل: ان هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (1) نقله
في الصافي، في تفسير الآية الكريمة، عن معاني الأخبار.
وعن تفسير القمي: إن حبل الله هو التوحيد والولاية. والآثار في
ذلك كثيرة جدا، وللكلام بقية نبحث عنها فيما سيأتي.

(1) الآية 9، من سورة بني إسرائيل.
203

ومن وصية له عليه السلام
لابنه محمد بن الحنفية (ره)
حافظ الشيعة وصدوق الشريعة: الشيخ الصدوق قدس الله نفسه، عن
أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عمن ذكره (1)
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته
لابنه محمد بن الحنفية:
يا بني لا تقل مالا تعلم، بل لا تقل كل ما تعلم (2)
فإن الله تبارك وتعالى قد فرض على جوارحك كلها فرائض
يحتج بها عليك يوم القيامة، ويسألك عنها، وذكرها ووعظها
وحذرها وأدبها ولم يتركها سدى، فقال الله عز وجل:
ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد

(1) سيجئ بعد ختام كلامه (ع) أمور كلها تصلح أن تكون سندا
للوصية الشريفة.
(2) نقل من هذه الوصية إلى هنا معلم الأمة الشيخ المفيد (ره)، في
الحديث 333، من كتاب الاختصاص 231، ط 2، ورواه عنه في الحديث
64، من باب السكوت والكلام، من البحار: ج 2، من 15، 187. ورواه
أيضا السيد الرضي في المختار 382 من قصار نهج البلاغة.
204

كل أولئك كان عنه مسؤولا (3). وقال عز وجل: إذ تلقونه
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه
هينا وهو عند الله عظيم (4) ثم استعبدها بطاعته فقال عز وجل
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا
الخير لعلكم تفلحون (5)، فهذه فريضة جامعة واجبة على
الجوارح. وقال الله عز وجل وأن المساجد لله فلا تدعوا مع
الله أحدا (6)، يعني بالمساجد الوجه واليدين والركبتين
والابهامين. وقال عز وجل وما كنتم تستترون أن يشهد
عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم (7). يعني بالجلود
الفروج. ثم خص كل جارحة من جوارحك بفرض ونص
عليها، ففرض على السمع أن لا تصغي به على المعاصي، فقال
عز وجل: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات

(3) الآية 36، من سورة الإسراء.
(4) الآية 15، من سورة النور.
(5) الآية 77، من سورة الحج.
(6) الآية 18، من سورة الجن.
(7) الآية 22، من سورة فصلت.
205

الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلكم (8). وقال الله عز وجل. وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا
في حديث غيره (9) ثم استثنى عز وجل موضع النسيان فقال:
وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم
الظالمين (10). وقال عز وجل: فبشر عباد الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله، وأولئك هم
أولوا الألباب (11). وقال عز وجل وإذا مروا باللغو مروا
كراما (12). وقال عز وجل والذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا
عنه (13)، فهذا ما فرض الله عز وجل على السمع وهو عمله.
وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله عز وجل
عليه، فقال عز من قائل قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم

(8) الآية 140، من سورة النساء.
(9) الآية 68، من سورة الأنعام.
(10) الآية 68، من سورة الأنعام.
(11) الآية 17، من سورة الزمر.
(12) الآية 72، من سورة الفرقان.
(13) الآية 55، من سورة القصص.
206

ويحفظوا فروجهم (14). فحرم أن ينظر أحد إلى فرج غيره.
وفرض على اللسان الاقرار والتعبير عن القلب بما عقد
عليه، فقال عز وجل: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا (15)
وقال عز وجل: وقولوا للناس حسنا (16).
وفرض على القلب وهو أمير الجوارح، الذي به تعقل
وتفهم، وتصدر عن أمره ورأيه، فقال عز وجل: إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان (17). وقال تعالى حين أخبر عن
قوم أعطوا الايمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم: الذين
قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (18). وقال عز وجل
ألا بذكر الله تطمئن القلوب (19) وقال عز وجل وإن تبدوا
ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء،

(14) الآية 30، من سورة النور.
(15) الآية 136، من سورة البقرة.
(16) الآية 83، من سورة البقرة.
(17) الآية 106، من سورة النحل.
(18) الآية 41، من سورة المائدة،، وأول الآية الكريمة:
يا أيها الرسول لا يحزنك الدين يسارعون في الكفر من الذين قالوا
آمنا، الخ.
(19) الآية 28، من سورة الرعد.
207

ويعذب من يشاء (20).
وفرض على اليدين أن لا تمدهما إلى ما حرم الله عز وجل
عليك، وأن تستعملهما بطاعته، فقال عز وجل يا أيها الذين
آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى
المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين (21). وقال
عز وجل: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب (22).
وفرض على الرجلين أن تنقلهما في طاعته، وأن لا تمشي
بهما مشية عاص، فقال عز وجل: ولا تمش في الأرض مرحا
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، كل ذلك
كان سيئه عند ربك مكروها (23) وقال عز وجل: اليوم نختم
على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (24)
فأخبر عنها أنها تشهد على صاحبها يوم القيامة.
فهذا ما فرض الله تبارك وتعالى على جوارحك، فاتق الله

(20) الآية 284، من سورة البقرة.
(21) الآية 6، من سورة المائدة.
(22) الآية 4، من سورة محمد.
(23) الاسراء، 37.
(24) يس، 65.
208

يا بني واستعملها بطاعته ورضوانه وإياك أن يراك الله
تعالى عند معصيته (25) أو يفقدك عند طاعته فتكون من
الخاسرين (26)، وعليك بقراءة القرآن، والعمل بما فيه، ولزوم
فرائضه وشرائعه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه، والتهجد به
وتلاوته في ليلك ونهارك، فإنه عهد من الله تبارك وتعالى
إلى خلقه، فهو واجب (27) على كل مسلم أن ينظر كل يوم في
عهده ولو خمسين آية.
واعلم أن درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان
يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، فلا يكون في الجنة بعد النبيين والصديقين أرفع درجة منه (28).

(25) وقال العلامة الكراجكي (ره): ولقي حكيم حكيما فقال: عظني
وأوجز. قال: عليك بخصلتين: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث
امرك. قال: زدني. قال: لا أجد للحالين ثالثة.
(26) من قوله (ع): وإياك ان يراك الله، إلى قوله: فتكون من
الخاسرين - ذكره السيد (ره) في المختار 383، من قصار نهج البلاغة.
(27) كذا في النسخة، والظاهر أن لفظة هو من زيادة النساخ.
(28) قال الصدوق رحمه الله: والوصية طويلة أخذنا منها موضع الحاجة.
أقول: لم نظفر بتمام الوصية من طرفها الأول، إذ الصدوق (ره) لم
يذكرها مجموعة متوالية في محل واحد، بل فرقها في كتبه على الأبواب
المناسبة لها، وما ذكر منها في موضع معين أيضا لم يذكرها بأجمعها، بل ذكر
ما هو الدخيل في غرضه، نعم من قوله (ع): يا بني إياك والاتكال على الأماني
فإنها بضائع النوكي، (إلى آخرها) - نقلها متنسقة مترتبة، الا انه اسقط
منها ما لم يتعلق به غرضه، ومن قوله (ع): يا بني البغي سائق إلى الحين
(إلى آخرها)، رواها بلا حذف، كل ذلك مما صرح به الصدوق (ره) في
مواضع، فتلخص ان من أول الوصية (إلى قوله: يا بني إياك والاتكال على
الأماني) يحتمل فيه الحذف والتقديم والتأخير، ومن قوله: يا بني إياك
والاتكال على الأماني، إلى قوله: يا بني البغي سائق إلى الحين - مما يتيقن
فيه الترتيب والحذف والاسقاط، بتصريح الصدوق (ره) ومن قوله:
يا بني البغي سائق إلى الحين (إلى آخرها)، مما يعلم فيه التمام وعدم
النقص، وبه أيضا صرح الصدوق.
209

وهنا تعاليق تعزيزية نقلية
التعليق الأول:
فيما يناسب المقام من ذكر قطعة من رسالة الحقوق للسيد السجاد،
الإمام زين العابدين عليه السلام، رواها الشيخ الصدوق في الفقيه والخصال
مسندا، ورواها السيد ابن طاوس (ره) عن رسائل الكليني (ره) كذلك،
ورواها الحسن بن علي بن شعبه (ره) في تحف العقول 183 مرسلا،
ونحن نذكرها من تحف العقول. قال عليه السلام:
اعلم رحمك الله ان الله عليك حقوقا محيطة لك في كل حركة تحركتها،
أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت بها،
بعضها أكبر من بعض، وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى،
من حقه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تفرع.
ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك،
فجعل لبصرك عليك حقا، ولسمعك عليك حقا، وللسانك عليك حقا، وليدك
عليك حقا، ولرجلك عليك حقا، ولبطنك عليك حقا، ولفرجك عليك حقا،
فهذه الجوارح السبع التي تكون بها الافعال.
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقا، فجعل لصلاتك عليك حقا،
ولصومك عليك حقا، ولصدقتك عليك حقا، ولهديك عليك حقا، ولأفعالك
عليك حقا.
ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك،
وأوجبها عليك حق أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه
211

حقوق يتشعب منها حقوق:
فحقوق أئمتك ثلاثة، أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم
سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس امام (1).
وحقوق رعيتك ثلاثة، أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق
رعيتك بالعلم، فان الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج
وما ملكت من الايمان (2).
وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها
عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك، ثم الأقرب
فالأقرب، والأول فالأول، ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك
الجاري نعمته عليك، ثم حق ذي المعروف لديك، ثم حق مؤذنك بالصلاة،
ثم حق امامك في صلاتك، ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق
صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه،
ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي
عليك، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير
عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبر
منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته،
ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل، أو مسرة بذلك بقول
أو فعل، عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق أهل ملتك عامة، ثم حق
أهل الذمة، (3) ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرف الأسباب،

(1) السائس: القائم بالامر، والمدبر له.
(2) وفى الخصال: وما ملكت الايمان.
(3) وفى الفقيه والخصال: ثم حق أهل ملتك عليك، ثم حق أهل
ذمتك، الخ.
212

فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه، ووفقه، وسدده.
فاما حق الله الأكبر: فإنك تعبده ولا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك
باخلاص جعل لك على نفسه ان يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك
ما تحب منها.
واما حق نفسك عليك: فان تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك
حقه، والى سمعك حقه، والى بصرك حقه، والى يدك حقها، والى رجلك
حقها، والى بطنك حقه، والى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك.
واما حق اللسان: فاكرامه عن الخنى، (4) وتعويده على الخير (5)
وحمله على الأدب، وإجمامه (6) الا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا،
واعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة
عائدتها، وبعد شاهد العقل والدليل عليه، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته
في لسانه، ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
وأما حق السمع: فتنزيهه (7) عن أن تجعله طريقا إلى قلبك الا لفوهة
كريمة تحدث في قلبك خيرا، أو تكسب خلقا كريما، فإنه باب الكلام إلى
القلب، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولا قوة
إلا بالله.

(4) الخنى: الفحش في الكلام.
(5) وفى الفقيه والخصال هكذا: وتعوديه الخير، وترك الفضول التي
لا فائدة فيها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم، الخ.
(6) قيل: وفى بعض النسخ: واجماعه. وفى بعضها: وحله بالآداب
واجمامه. واجمام اللسان: امساكه.
(7) وفى محكي الفقيه والخصال: فتنزيهه عن سماع الغيبة، وسماع
مالا يحل سماعه.
213

وأما حق بصرك: فغضه عما لا يحل لك (8)، وترك ابتذاله الا لموضع
عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما، (9) فان البصر باب الاعتبار.
وأما حق رجليك: فان لا تمشي بهما إلى مالا يحل لك، (10) ولا تجعلهما
مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك
الدين، والسبق لك، ولا قوة الا بالله.
واما حق يدك: فان لا تبسطها إلى مالا يحل لك، فتنال بما تبسطها
من الله العقوبة في الأجل، ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل، ولا تقبضها
مما افترض الله عليها، ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها،
وبسطها إلى كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل،
ووجب لها حسن الثواب في الأجل.
واما حق بطنك فان لا تجعله (11) وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وان تقتصد
له في الحلال، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين وذهاب المروءة، وضبطه
إذا هم بالجوع والظمأ، فان الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ومثبطة
ومقطعة عن كل بر وكرم، وان الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة
ومجهلة ومذهبة للمروءة.
واما حق فرجك: فحفظه مما لا يحل لك، (12) والاستعانة عليه بغض

(8) والمحكي عن الفقيه والخصال: ان تغضه مما لا يحل لك، وتعتبر
بالنظر به.
(9) وفى المحكي عن بعض النسخ: أو تعتقد بها علما.
(10) وفى محكي الفقيه والخصال: واما حق رجليك: ان لا تمشي بهما
إلى مالا يحل لك، فيهما تقف على الصراط، فانظر ان لا تزال بك فتردى في النار.
(11) وفى محكى الفقيه والخصال: ان لا تجعله وعاء للحرام، ولا تزيد
على الشبع.
(12) وفى المحكي عن الكتابين: وحق فرجك: ان تحصنه من الزنا،
وتحفظه من أن ينظر إليه.
214

البصر، فإنه من أعون الأعوان، وكثرة ذكر الموت، والتهدد لنفسك بالله،
والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد ولا حول ولا قوة الا به، الخ.
وروي في الحديث 1، من الباب 18، من كتاب الايمان والكفر،
من الكافي معنعنا، عن أبي عمرو الزبيري، عن الإمام الصادق عليه السلام،
قال: قلت له: أيها العالم اخبرني اي الاعمال أفضل عند الله؟ قال: مالا يقبل
الله شيئا الا به. قلت: وما هو؟ قال: الايمان بالله الذي لا إله إلا هو
أعلى الاعمال درجة، وأشرفها منزلة، وأسناها حظا. قال قلت: ألا تخبرني
عن الايمان، أقول وعمل، أم قول بلا عمل؟ فقال: الايمان عمل كله،
والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بين في كتابه، واضح نوره ثابتة
حجته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه (13). قال قلت: صفه لي جعلت
فداك حتى أفهمه. قال: الايمان (14) حالات ودرجات وطبقات ومنازل،
فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح الزائد
رجحانه. قلت: إن الايمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف
ذلك؟ قال: لان الله تبارك فرض الايمان على جوارح ابن آدم، وقسمه
عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة الا وقد وكلت من الايمان
بغير ما وكلت به أختها.
فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه الذي لا ترد
الجوارح ولا تصدر الا عن أمره ونهيه.
ومنها عيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما، ويداه اللتان
يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه

(13) يشهد له: اي لكونه عملا، أو للعامل به، اي بذلك الفرض. ويدعوه
إليه: اي يدعو العامل إلى ذلك الفرض. كذا قيل.
(14) وفى بعض النسخ: للايمان حالات ودرجات، الخ.
215

الذي ينطق به، ورأسه الذي فيه وجهه. فليس من هذه جارحة إلا وقد
وكلت من الايمان بغير ما وكلت به أختها، بفرض من الله تبارك اسمه،
ينطق به الكتاب لها، ويشهد به عليها.
ففرض على القلب غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير
ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على اللسان، وفرض
على اللسان غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على
الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج
غير ما فرض على الوجه.
فاما ما فرض على القلب من الايمان: فالاقرار والمعرفة والعقد والرضا
والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الها واحدا لم يتخذ صاحبة
ولا ولدا، وان محمدا عبده ورسوله، صلوات الله عليه وآله، والاقرار
بما جاء من عند الله من نبي أو كتاب، فذلك ما فرض الله على القلب من
الاقرار والمعرفة، وهو عمله، وهو قول الله عز وجل: إلا من اكره وقلبه
مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا. (15) وقال: ألا بذكر
الله تطمئن القلوب (16). وقال: الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (17)
وقال: إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء
ويعذب من يشاء (18). فذلك ما فرض الله عز وجل على القلب، من الاقرار
والمعرفة، وهو عمله، وهو رأس الايمان.

(15) الآية 106، من سورة النحل.
(16) الآية 28، من سورة الرعد.
(17) الآية 40، من سورة المائدة، وتقدم ذكر الآية الشريفة في تعليق
كلام أمير المؤمنين (ع)، والمذكور هنا اما سهو من الرواة، أو نقل بالمعنى
من المعصوم (ع) أو من الرواة.
(18) الآية 284، من سورة البقرة.
216

وفرض الله على اللسان، القول والتعبير بما عقد عليه وأقر به،
قال الله تبارك وتعالى: وقولوا للناس حسنا (19). وقال: قولوا آمنا بالله
وما انزل الينا وما أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (20).
فهذا ما فرض الله على اللسان وهو عمله.
وفرض على السمع ان يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله، وان
يعرض عما لا يحل له، مما نهى الله عز وجل عنه، والاصغاء إلى ما أسخط
الله عز وجل فقال في ذلك: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات
الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره (21).
ثم استثنى الله عز وجل موضع النسيان، فقال: وإما ينسينك الشيطان فلا
تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (22). وقال: فبشر عباد الذين يستمعون
القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هديهم الله وأولئك هم أولوا
الألباب (23). وقال عز وجل: قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم
خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكوة فاعلون (24).
وقال: إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا لنا اعمالنا ولكم أعمالكم (25).
وقال: وإذا مروا باللغو مروا كراما (26). فهذا ما فرض الله على السمع
من الايمان أن لا يصغى إلى مالا يحل له، وهو عمله، وهو من الايمان.

(19) الآية 83، من سورة البقرة.
(20) الآية 136، من سورة البقرة.
(21) الآية 140، من سورة النساء.
(22) الآية 68، من سورة الأنعام.
(23) الآية 17، من سورة الزمر.
(24) الآية الأولى إلى الرابعة، من سورة المؤمنون.
(25) الآية 55، من سورة القصص.
(26) الآية 72، من سورة الفرقان.
217

وفرض على البصران لا ينظر إلى ما حرم الله عليه، وان يعرض عما
نهى الله عنه مما لا يحل له، وهو عمله، وهو من الايمان، فقال تبارك
وتعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم (27) فنهاهم
ان ينظروا إلى عوراتهم، وان ينظر المرء إلى فرج أخيه، ويحفظ فرجه أن
ينظر إليه، وقال: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
فروجهن، (28). من أن تنظر إحداهن إلى فرج أختها، وتحفظ فرجها من أن
ينظر إليها، وقال: كل شئ في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا
الا هذه الآية فإنها من النظر.
ثم نظم ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية أخرى
فقال: وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا
جلودكم (29). يعني بالجلود: الفروج والأفخاذ. وقال: ولا تقف ما ليس
لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا (30).
فهذا ما فرض الله على العينين من غض البصر عما حرم الله عز وجل وهو
عملهما، وهو من الايمان.
وفرض الله على اليدين ان لا يبطش بهما إلى ما حرم الله، وان يبطش
بهما إلى ما أمر الله عز وجل وفرض عليهما من الصدقة وصلد الرحم والجهاد
في سبيل الله والطهور للصلاة فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين (31). وقال: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا

(27) الآية 30، من سورة النور.
(28) الآية 31، من سورة النور.
(29) الآية 22، من سورة فصلت.
(30) الآية 36، من سورة الإسراء.
(31) الآية 7، من سورة المائدة.
218

أثخنتموه فشدوا الوثاق، فإمامنا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب
أوزارها (32). فهذا ما فرض الله على اليدين لان الضرب من علاجهما (33).
وفرض على الرجلين ان لا يمشي بهما إلى شئ من معاصي الله، وفرض
عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل فقال: ولا تمش في الأرض مرحا،
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (34). وقال: واقصد في
مشيك واغضض من صوتك إن انكر الأصوات لصوت الحمير (35).
وقال فيما شهدت الأيدي والأرجل على أنفسهما وعلى أربابهما من تضييعهما
لما أمر الله عز وجل به وفرضه عليهما: اليوم نختم على أفواهم وتكلمنا
أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (36). فهذا أيضا مما فرض الله
على اليدين وعلى الرجلين، وهو عملهما، وهو من الايمان.
وفرض على الوجه السجود له بالليل والنهار في مواقيت الصلاة فقال:
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم
تفلحون (37). فهذه فريضة جامعة على الوجه واليدين والرجلين. وقال
في موضع آخر: وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (38). وقال فيما
فرض على الجوارح من الطهور والصلاة بها وذلك أن الله عز وجل لما
صرف نبيه صلى الله عليه وآله الكعبة عن البيت المقدس فأنزل الله

(32) الآية 4، من سورة محمد.
(33) العلاج: المزاولة.
(34) الآية 18، من سورة لقمان.
(35) الآية 19، من سورة لقمان.
(36) الآية 65، من سورة يس.
(37) الآية 77، من سورة الحج.
(38) الآية 18، من سورة الجن.
219

عز وجل: وما كان الله ليضيع ايمانكم ان الله بالناس لرؤف رحيم (39).
فسمى الصلاة ايمانا، فمن لقي الله عز وجل حافظا لجوارحه موفيا كل
جارحة من جوارحه ما فرض الله عز وجل عليها لقي الله عز وجل مستكملا
لايمانه، وهو من أهل الجنة، ومن خان في شئ منها أو تعدى ما أمر الله
عز وجل فيها لقي الله عز وجل، ناقص الايمان.
قلت: قد فهمت نقصان الايمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته؟
فقال: قول الله عز وجل: وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته
هذه ايمانا، فاما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون: واما الذين
في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم (40). وقال: نحن نقص عليك
نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (41). ولو كان كله
واحدا لا زيادة فيه ولا نقصان، لم يكن لاحد منهم فضل على الاخر،
ولاستوت النعم فيه، ولاستوى الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام
الايمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الايمان تفاضل المؤمنون بالدرجات
عند الله، وبالنقصان دخل المفرطون النار. وقريب منه في المقدمة الأولى من
دعائم الاسلام.
وروى في الحديث السابع، من الباب، بسند آخر، عن حماد بن
عمرو النصيبي قال: سأل رجل العالم عليه السلام، فقال: أيها العالم أخبرني
اي الاعمال أفضل عند الله؟ قال: مالا يقبل عمل الا به. فقال وما ذلك؟
قال: الايمان - بالله - الذي هو أعلى الاعمال درجة، وأسناها حظا،
وأشرفها منزلة. قلت: أخبرني عن الايمان، أقول وعمل، أم قول بلا

(39) الآية 143، من سورة البقرة.
(40) الآية 126، من سورة التوبة.
(41) الآية 12، من سورة الكهف.
220

عمل؟ قال: الايمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله
بينه في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد به الكتاب ويدعو إليه.
قلت: صف لي ذلك حتى افهمه. فقال: إن الايمان (42) حالات ودرجات
وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص المنتهي نقصانه،
ومنه الزائد الراجح زيادته. قلت: وإن الايمان ليتم ويزيد وينقص؟ قال:
نعم. قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الايمان على
جوارح بني آدم، وقسمه عليها، وفرقه عليها، فليس من جوارحهم جارحة
الا وهي موكلة من الايمان بغير ما وكلت به أختها.
فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم، وهو أمير بدنه، الذي لا تورد
الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره.
ومنها يداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه
الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به الكتاب، ويشهد به عليها،
وعيناه اللتان يبصر بهما، وأذناه اللتان يسمع بهما.
وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان
غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع،
وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض
على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على
الفرج غير ما فرض على الوجه.
فاما ما فرض على القلب من الايمان: فالاقرار والمعرفة والتصديق
والتسليم والعقد والرضا بان لا اله إلا الله وحده لا شريك له، أحدا صمدا
لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وان محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله.

(42) في بعض النخس للايمان.
221

التعليق الثاني:
في ذكر ما ورد عن بقية المعصومين (ع)، مما يشبه لفظه (ع) في
قوله السالف: فواجب على كل مسلم ان ينظر كل يوم في عهده ولو
خمسين آية.
فعن ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه، في الحديث الأول، من
الباب الخامس، من كتاب فضل القرآن، من الكافي معنعنا، عن حريز،
عن الإمام الصادق (ع) قال: القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء
المسلم ان ينظر في عهده، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية.
وعن شيخ الطائفة طاب ثراه معنعنا، عن معمر بن خلاد، عن الإمام الرضا
عليه السلام قال: سمعته يقول: ينبغي للرجل إذا أصبح ان يقرأ
بعد التعقيب خمسين آية. كما في البحار: 18، 474، س 13 عكسا،
نقلا عن التهذيب.
التعليق الثالث:
في بيان الآثار الواردة عن سائر المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين،
مما يقرب من قوله (ع): واعلم أن درجات الجنة على عدد آيات
القرآن، الخ.
روى الكليني رحمه الله معنعنا، عن رسول الله (ص)، أنه قال:
إن أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميين ما خلا النبيين والمرسلين، فلا
تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فان لهم من الله العزيز الجبار لمكانا عليا.
222

الحديث 1، من الباب الثاني، من كتاب القرآن، من الكافي.
وروى أيضا في الحديث الثالث، من الباب معنعنا، عنه (ص)، أنه قال
: تعلموا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جميل
شاحب اللون، فيقول له القرآن أنا الذي كنت أسهرت ليلك، وأظمأت
هو اجرك، وأجففت ريقك، وأسلت دمعتك، أؤول معكم حيثما ألت،
وكل تاجر من وراء تجارته، وانا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر،
وستأتيك كرامة (من) الله عز وجل فأبشر. فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه،
ويعطى الأمان بيمينه، والخلد في الجنان بيساره، ويكسى حلتين، ثم يقال
له: إقرأ وارقه، فكلما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين ان كانا
مؤمنين، ثم يقال: لهما: هذا لما علمتماه القرآن. وروى المجلسي العظيم،
في الحديث 19، من الباب 1 من كتاب القرآن، من البحار: 19، 7،
عن كتاب الإمامة والتبصرة معنعنا، أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
عدد درج الجنة عدد أي القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنة، قيل
له: إرق واقرأ لكل آية درجة، فلا يكون فوق حافظ القرآن درجة.
وروى ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه، في الحديث 3، من
الباب 2، من كتاب القرآن، من الكافي: 2، 603 عنه صلى الله عليه وآله
معنعنا، أنه قال: تعلموا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة
شاب جميل شاحب اللون، فيقول له القرآن: أنا الذي كنت أسهرت ليلك،
وأظمأت هو اجرك، وأجففت ريقك، وأسلت دمعتك، أؤول معك حيثما
ألت، وكل تاجر وراء تجارته، وانا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر،
وستأتيك كرامة (من) الله عز وجل فأبشر. فيؤتى بتاج فيوضع على
رأسه، ويعطى الأمان بيمينه، والخلد في الجنان بيساره، ويكسى حلتين،
ثم يقال له: إقرأ وأرق، فكلما قرأ آية صعد درجة، ويكسى أبواه حلتين
223

إن كانا مؤمنين،، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن.
وروى العلامة المجلسي (ره)، في الحديث 8، من الباب الرابع،
من كتاب القرآن، من البحار: 19، 51، عن تفسير القمي، عن الإمام السجاد
عليه السلام، أنه قال: عليك بالقرآن فإن الله خلق الجنة بيده،
لبنة من ذهب ولبنة من فضة، جعل ملاطها المسك، وترابها الزعفران،
وحصباها اللؤلؤ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن، فمن قرأ القرآن،
قال له: إقرأ وارق، ومن دخل منهم الجنة لم يكن في الجنة أعلى مقاما
منه، ما خلا النبيين والصديقين.
وروى المجلسي الوجيه (ره) في الحديث العاشر، من الباب 21، من
كتاب القرآن، من البحار: 19، 49، عن ثواب الأعمال معنعنا، عن
حفص بن غياث، قال: سمع أبا عبد الله (ع) يقول لرجل: أتحب البقاء
في الدنيا؟ قال: نعم. قال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو الله أحد. فسكت
عنه، ثم قال لي بعد ساعة: يا حفص من مات من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن
القرآن، علم في قبره ليرفع الله فيه درجته، فان درجات الجنة على قدر
عدد آيات القرآن، فيقال لقارئ القرآن: إقرأ وارق.
وروى أيضا في الحديث الرابع، من الباب 24، منه عن الصدوق رحمه
الله في الأمالي معنعنا، عن المفضل بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام
أنه قال: عليكم بمكارم الأخلاق، فان الله عز وجل يحبها، وإياكم ومذام
الافعال، فان الله عز وجل يبغضها، وعليكم بتلاوة القرآن، فان درجات
الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن:
إقرأ وارق، فكلما قرأ اية رقى درجة، وعليكم بحسن الخلق، فإنه يبلغ
بصاحبه درجة الصائم القائم، وعليكم بحسن الجوار فان الله عز وجل أمر
بذلك، وعليكم بالسواك فإنها مطهرة وسنة حسنة، وعليكم بفرائض الله
224

فأدوها، وعليكم بمحارم الله فاجتنبوها.
وروى ثقة الاسلام الكليني طيب الله رمسه معنعنا، في الحديث
الحادي عشر، من الباب الأول، من كتاب فضل القرآن، من الكافي: 2، 601،
عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: يجئ القرآن يوم القيامة في أحسن
منظور إليه صورة، فيمر بالمسلمين، فيقولون: هذا الرجل منا، فيجاوزهم
إلى النبيين، فيقولون: هو منا، فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين، فيقولون:
هو منا، حتى ينتهي إلى رب العزة عز وجل فيقول: يا رب فلان ابن فلان
أظمأت هو اجره، وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمئ
هو اجره، ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم
فيقوم فيتبعونه فيقول: للمؤمن: إقرأ وارقه. قال: فيقرأ ويرقى حتى
يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي انه فينزلها.
وروى أيضا معنعنا، في الحديث 12، من الباب، عن يونس بن عمار
قال قال أبو عبد الله عليه السلام، إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان
فيه النعم، وديوان فيه الحسنات، وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان
النعم وديوان الحسنات: فتستغرق النعم عامة الحسنات، ويبقى ديوان
السيئات، فيدعى يا بن آدم المؤمن للحساب، فيتقدم القرآن امامه في أحسن
صورة فيقول: يا رب أنا القرآن، وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه
بتلاوتي، ويطيل ليله بترتيلي، وتفيض عيناه إذا تهجد، فارضه كما
أرضاني، قال: فيقول العزيز الجبار، عبدي ابسط يمينك، فيملأها من
رضوان الله العزيز الجبار، ويملا شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنة
مباحة لك، فأقرأ واصعد، فإذا قرأ آية صعد درجة.
وروى أيضا في الحديث الرابع، من الباب الثاني، منه معنعنا، عن
الإمام الصادق (ع) أنه قال: من قرأ القرآن وهو شاب اختلط القرآن
225

يلحمه ودمه، وجعله الله عز وجل مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن
حجيزا عنه يوم القيامة، يقول: يا رب إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير
عاملي، فبلغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من
حلل الجنة، ويوضع على رأسه تاج الكرامة، ثم يقال له: هل أرضيناك
فيه؟ فيقول القرآن: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا،
فيعطي الامن بيمينه، والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: إقرأ
واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك؟ فيقول: نعم. قال:
ومن قرأه كثيرا وتعاهده بمشقة من شدة حفظه أعطاه الله عز وجل أجر هذا
مرتين.
وروى أيضا في الحديث الثالث، من الباب الرابع، منه معنعنا، عن
يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن علي دينا كثيرا،
وقد دخلني ما كان القرآن يتفلت مني. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
القرآن القرآن، ان الآية من القرآن والسورة لتجئ يوم القيامة حتى
تصعد ألف درجة - يعني في الجنة - فتقول: لو حفظتني لبلغت بك
ههنا. وقريب منه، عنه (ع) في الحديث الذي يليه.
وروى أيضا في الحديث العاشر، من الباب الثاني، من الكتاب
معنعنا، عن حفص قال: سمعت موسى بن جعفر عليه السلام يقول: لرجل:
أتحب البقاء في الدنيا؟ فقال: نعم. فقال: ولم؟ قال: لقراءة قل هو
الله أحد. فسكت عنه فقال له بعد ساعة: يا حفص من مات من أوليائنا
وشيعتنا ولم يحسن القرآن علم في قبره ليرفع الله به من درجته، فان
درجات الجنة على قدر آيات القرآن، يقال له: اقرأ وارق، فيقرأ ثم
يرقى. قال حفص: فما رأيت أحدا أشد خوفا على نفسه من موسى بن
جعفر عليه السلام، ولا أرجا الناس منه، وكانت قراءته حزنا، فإذا قرأ
فكأنه يخاطب انسانا.
226

وقال عليه السلام في هذه الوصية:
واعلم أن مروءة المرء المسلم مروءتان، مروءة في
حضر، ومروءة في سفر وأما مروءة الحضر فقراءة القرآن،
ومجالسة العلماء والنظر في الفقه، والمحافظة على الصلوات
في الجماعات، وأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف
على من صحبتك، وكثرة ذكر الله عز وجل في كل مصعد
ومهبط ونزول وقيام وقعود.
227

تعليق تأييدي:
في معنى المروءة
روى الصدوق (ره) معنعنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال
: ستة من المروءة، ثلاث منها في الحضر، وثلاث منها في السفر، فاما
التي في الحضر: فتلاوة كتاب الله تعالى، وعمارة مساجد الله، واتخاذ الاخوان
في الله عز وجل. واما التي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، والمزاح
في غير المعاصي.
ورواه المجلسي (ره) عن الخصال والعيون وصحيفة الرضا، في الباب
59، من البحار: 2، من 16، 88.
وروى الصدوق أيضا في الحديث السادس، من الباب 105، من
الجزء الثاني، من معاني الأخبار: 258، معنعنا عن رسول الله صلى الله عليه
وآله أنه قال: المروءة استصلاح المال.
وروى أيضا، في حديث طويل ذكره في مفتح الباب الأول، من
الجزء الثاني، من المعاني 196، أنه قال (ص): أقل الناس مروءة من
كان كاذبا، الخ.
وعنه (ص): لادين الا بمروءة.
وقال صلى الله عليه وآله: تجاوزوا لذوي المروءات عن عثراتهم،
فوا الذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وان يده لبيد الله. ذكرهما في العقد
الفريد: 1، 292، ط 2، والأخير أيضا مروي من طرقنا.
وروي الصدوق (ره) معنعنا، في الحديث الأول، من الباب 105،
228

من الجزء الثاني، من المعاني، 257: انه خرج أمير المؤمنين (ع) على
أصحابه وهم يتذاكرون المروءة، فقال: أين أنتم من كتاب الله؟ قالوا:
يا أمير المؤمنين في أي موضع؟ فقال: في قوله عز وجل: ان الله يأمركم
بالعدل والاحسان (43)، فالعدل: الانصاف، والاحسان: التفضل.
وروى الصدوق (ره) أيضا، في الحديث الثاني، من الباب مرفوعا:
ان معاوية سأل الامام المجتبى (ع) عن المروءة. فقال (ع): شح الرجل
على دينه، واصلاحه ماله، وقيامه بالحقوق. فقال معاوية: أحسنت يا أبا
محمد، أحسنت يا أبا محمد. قال: فكان معاوية يقول بعد ذلك: وددت
أن يزيد قالها وإن كان أعور.
وروي أيضا في الحديث الثالث، من الباب معنعنا، عن الإمام الصادق (ع)
قال: كان الحسن بن علي عليهما السلام في نفر من أصحابه عند معاوية،
فقال له: يا أبا محمد أخبرني عن المروءة. فقال: حفظ الرجل دينه، وقيامه
في اصلاح ضيعته، وحسن منازعته، وافشاء السلام، وليكن الكلام، والكف
والتحبب إلى الناس.
وروى أيضا معنعنا، في الحديث الرابع، من الباب: ان أمير المؤمنين
صلوات الله عليه قال لابنه الامام المجتبى عليه السلام: يا بني ما المروءة؟
فقال: العفاف واصلاح المال.
وروى أيضا، في الحديث الخامس، من الباب معنعنا، انه سئل الامام
المجتبى عليه السلام عن المروءة، فقال: العفاف في الدين، وحسن التقدير
في المعيشة، والصبر على النائبة.
وقال عليه السلام: السداد دفع المنكر، بالمعروف، والشرف اصطناع
العشيرة وحمل الجريرة، والمروءة العفاف واصلاح المرء ماله، الخ. كما

(43) الآية 90، من سورة النحل.
229

في البحار: 17، 147، س 1، عكسا.
وروى الغزالي في فضيلة السخاء، من كتاب الاحياء: ان معاوية سأل
الحسن بن علي عليهما السلام عن المروءة والنجدة والكرم. فقال: اما
المروءة فحفظ الرجل دينه، وحرزه نفسه، وحسن قيامه بضيفه، وحسن
المنازعة، والاقدام في الكراهية. واما النجدة فالذب عن الجار، والصبر
في المواطن. وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال، والاطعام في المحل،
والرأفة بالسائل مع بذل النائل. كما في المحجة البيضاء: ج 6، 64.
ونقله في الهامش، عن تحف العقول، 225، وحلية الأولياء لأبي نعيم:
ج 2، 36، والفصول المهمة لابن الصباغ: ص 164، وتاريخ ابن كثير:
8، 39. قال: وفي جميع هذه المصادر: ان أمير المؤمنين (ع) سأل عن
الإمام الحسن (ع).
وروى أيضا معنعنا، في الحديث السابع، من الباب، عن الإمام الصادق
عليه السلام، أنه قال: تعاهد الرجل ضيعته من المروءة.
وروى أيضا معنعنا، عنه (ع) في الحديث الثامن، أنه قال: المروءة
مروءتان، مروءة الحضر ومروءة السفر، فاما مروءة الحضر فتلاوة القرآن،
وحضور المساجد، وصحبة أهل الخير، والنظر في الفقه. وأما مروءة
السفر فبذل الزاد، والمزاح في غير ما يسخط الله، وقلة الخلاف على من
صحبك، وترك الرواية عليهم إذا أنت فارقتهم.
وروى أيضا عنه عليه السلام، في الحديث التاسع، أنه قال لأصحابه:
ما المروءة؟ قالوا: لا نعلم. قال (ع): المروءة ان يضع الرجل خوانه بفناء
داره، والمروءة مروءتان. فذكر نحو الحديث الذي تقدم.
أقول: ورواها عنه (ره) بأجمعها في البحار: 16، 88، ج 2.
وعن الصدوق وشيخ الطائفة رضوان الله عليهما، في أماليهما معنعنا،
230

عن الإمام الصادق (ع) عندما تذاكر الناس عنده الفتوة فقال: تظنون أن
الفتوة بالفسق والفجور؟ كلا، الفتوة والمروءة طعام موضوع، ونائل
مبذول، واصطناع المعروف، وأذى مكفوف، فاما تلك فشطارة وفسق.
ثم قال (ع): ما المروءة؟ فقلنا لا نعلم. قال: المروءة - والله - أن يضع
الرجل خوانه بفناء داره، والمروءة مروءتان، مروءة في الحضر، ومروءة
في السفر، فاما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، والمشي
مع الاخوان في الحوائج، والانعام على الخادم، فإنه مما يسر الصديق،
ويكبت العدو. واما التي في السفر فكثرة الزاد وطيبه وبذله لمن كان
معك، وكتمانك على القوم سرهم بعد مفارقتك إياهم، وكثرة المزاح في
غير ما يسخط الله عز وجل، ثم قال (ع): والذي بعث جدي بالحق
نبيا إن الله عز وجل ليرزق العبد على قدر المروءة، وان المعونة لتنزل من
السماء على قدر المئونة، وان الصبر لينزل على قدر شدة البلاء. ورواه
المجلسي (ره) عنهما، في البحار: 16، 88، ج 2.
231

وقال عليه السلام في هذه الوصية:
إياك والعجب وسوء الخلق، وقلة الصبر، فإنه لا يستقيم
لك على هذه الخصال الثلاث صاحب، ولا يزال لك عليها
من الناس مجانب.
وألزم نفسك التودد، وصبر على مثونات الناس نفسك،
وابذل لصديقك نفسك ومالك، ولعرفتك رفدك
ومحضرك (29)، وللعامة بشرك ومحبتك (30)، ولعدوك عدلك
وإنصافك، وأضنن (31) بدينك وعرضك عن كل أحد فإنه
أسلم لدينك ودنياك.

(29) العرفة - كالقبلة -: الاستخبار والسؤال. والرفد كالحبر:
المعونة والعطاء، أي اعط من يستخبر عنك ويسألك الصلة والعطاء ما أنعم
الله عليك من الرزق وحسن المحضر.
(30) البشر - على زنة شبر: طلاقة الوجه وانبساطه وبشاشته.
ومن قوله (ع): وابذل لصديقك مالك - إلى قوله: واضنن بدنيك
وعرضك عن كل أحد. ذكره ابن أبي الحديد في المختار 601، مما استدركه
على السيد الرضي (ره)، في قصار النهج.
(31) اضنن - أمر من قولهم: ضن يضن - من باب ضرب ومنع -
ضنا وضنا وضنانة ومضنة بالشئ واضطن به اي بخل به، وتمسك عليه
ولم يخرجه من يده نفاسة عليه وحبا له.
وتخصيص الدين والعرض بالذكر للاعلام بأنه لا شئ يوازيهما، فمن تحفظ
عليهما فقد جمع الدنيا والآخرة، ومن بذلهما ولم يتمسك بهما فقد فإنه الداران
جميعا، وتقديم الدين على العرض للايذان بأهميته وانه لا يوازنه شئ.
232

تعليق وتحقيق:
حول قوله: إياك والعجب.
إعلم ان الانسان إذا استعجب من شئ وباهى به واستعظمه، فاما
أن يكون المستعجب منه والمباهي به والمستعظم حريا وموردا للاستعجاب
والمباهات والاستعظام أو لا يكون. واياما كان فاما أن يكون استعجابه
واستعظامه مقرونا بالتكبر والتعدي وغيرهما من انحاء الايذاء وتضييع حقوق
الناس، أو الامتنان على الله - ولله المنة عليه - أو نسيان عظيم نعم الله،
أو ذهوله عن فلتأته وما صدر منه من الاجرام والخطايا، أو غفلته عن تفقد
نفسه وأعماله، أو اهماله شرائط قبول عباداته، أو اغتراره بأعماله السابقة
واتكاله عليها، وترك مواظبته لتكليفه الفعلي، أو غير ذلك من أنحاء
التقصير والتمرد، أو لا يكون استعظامه مقرونا بما ذكر من اقسام التجري
والتمرد. فإذا استعجب الانسان من نفسه أو نفسياته أو ما يتعلق به
واستعظمه وباهى به، فإن كان استطرافه واستعظامه نفسه وما يرتبط به
ملازما للتعدي على الخلق وتضييع حقوق الخالق كما هو الغالب على نوع
سواد الناس فهذا هو العجب الذي هو أحد المهلكات، واما لو اعتقد
الشخص عظمة نفسه أو ما ينتسب إليه، فاستطرفها وعدها عظيما - سواء
كانت عظمتها تخيلية أو عظمة في الواقع ونفس الامر - ولم يقارن هذا
الاستعظام التعدي وتضييع الحقوق واهمال التكاليف، فليس هذا من
العجب في شئ.
233

اما في صورة استعظام جهاته الشخصية باعتقاد عظمتها مع كون اعتقاده
جهلا مركبا ومخالفا للواقع ونفس الامر، فلو فرض انفكاك هذا الاستعظام -
المسبب عن العظمة الخيالية - عن تضييع حقوق الخالق والخلائق، فلا دليل
على قبحه فضلا عن كونه من المهلكات والأدواء الدوية. واما لو استعظم
نفسه وحيثياته الشخصية بلا تضييع للحقوق وتفريط وتقصير في وظائفه مع
كون استعظامه في محله، بأن يكون جهاته عظيمة واقعا وحقيقة، فلا يمكن
عقلا ولا شرعا أن يكون هذا من العجب ويعد منه. اما عقلا فلان هذا
الاستعظام - المسبب عن العظمة الواقعية - يتولد من ضم صغرى وجدانية
إلى كبرى قطعية عقلية أو نقلية كعدم مساواة العالم والجاهل والمطيع والمتمرد،
والراضي والكاره، وباذل النفس وباذل المال، ومؤثري غيرهم على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة وحاجة، إلى غير ذلك من الكبريات الصادقة التي
لو وجد شئ منها في غيره لكان اللازم عليه عقلا وشرعا الاذعان بجلالة
قدره، وان له عند الله زلفى حسن مآب، فلو أحس الانسان بشئ منها
من نفسه، لا يمكن تكليفه بوجوب اذعانه بخلاف ما تنتج القضية العقلية،
أو بعدم اعتقاده لما استنتج منها، فإذا لم يمكن الزامه على خلاف ما استفاد
من القضية، فالاعتقاد على وفاقه بما انه دليل بديهي عقلي قهري.
واما شرعا فالقرآن الكريم مشحون بعدم المساواة بين الجاهل والعالم،
بل القرآن المقدس لوح إلى أن عدم المساواة بين الفاضل والمفضول أمر
فطري، فقال على سبيل الاستنكار في الآية التاسعة من سورة الزمر: " أمن
هو قانت اناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قل
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ".
وقال تعالى في الآية 15 و 18 من سورة الرعد: " قل هل يستوي الأعمى
والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور. الخ " " أفمن يعلم إنما انزل
234

إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب " وقال تعالى
في الآية 17، من سورة السجدة: " أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
لا يستون " إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الكريمة. والسنن الصحيحة أيضا
متواترة في ذلك المعنى، ووضوحها وظهورها يغني عن ايرادها.
إن قيل: إن أدلة العجب غير قاصرة عن شمولها للقسمين الأخيرين،
فكيف حكمت بخروجهما عن العجب؟
قلت: ان الأدلة ناظرة إلى نوع سواد الناس الذين يصلون ركعتين
وينتظرون الوحي، ويعملون ببعض الواجبات ويرون وصولهم إلى الكمال
بأقصى الغايات، وهؤلاء لا ينفك عجبهم عن التكبر والتنمر، فالأخذ باطلاق
الأدلة لادخال من لم يكن على هذه الصفة غير سائغ عند المحصلين، وقد
قيدنا خروج القسمين عن العجب بما إذا خلا عن تضييع الحقوق، والخروج
عن زي العبودية والانقياد لله تعالى، وعن العتو والعلو على عباد الله.
فان قيل: هذا صرف فرض، ومجرد ملاحظة لمفهوم العجب من حيث
هو، ولو نظرنا إلى مفهوم العجب لحاظ تحققه ووجوده في الخارج - كما أنه
بلحاظ خارجيته منهي عنه ومورد للتحذير - فهو غير منفك عن التقصير
وتضييع الحقوق.
قلنا: الامر كذلك في جل المكلفين، واما العارفون بالله المستولون
على أنفسهم وشهواتهم، العالمون بالحقائق، المميزون الداء من الدواء،
والصواب من الخطاء، الآخذون بحكم العقل والشريعة، المواظبون دائما
على استقامة الطريقة، فهم مبرأون عن التقصير في حق الخالق والخليقة،
فمهما أدركوا عظمة نفوسهم، ورأوا أنهم أشرف من غيرهم بحسب إبداع
الله، أو بحسب حسن اختيارهم وإرادتهم فإن لم يكن هذا الادراك سببا
لزيادة شكرهم وحسن صنيعهم فإنه لن يكون موجبا لتضييعهم حقوق الله
235

وعبيده.
فان قيل: لا شئ للانسان حتى يعده من مفاخره ويعظم في عينه،
ويحسبه في نفسه عظيما، فالعجب بماذا؟ فإن كان بلحاظ كونه ذا بسطة
في العلم والجسم والقوة والادراك وما يرتبط بجهات خلقه من النعم التي
أنعم الله عليه بها ابتداء، من غير سبق عمل للمكلف، ليتوهم انه أنعمها
عليه جزاء لعمله، فلا ينبغي للعاقل ان يعجب بها، فإنها لم تكن لعظمته
واستحقاقه ليتبجح بها ويعدها من مفاخره. وإن كان عجب الشخص لأجل
أعماله وما كسبت يداه فالامر كذلك، لان الشخص بجميع خصوصياته
ومنها علمه الكسبي وقدرته وارادته ملك لله، فبأي شئ يتبختر الانسان
ويزهو؟
قلنا: كل حيوان - بطبعه الأولي وجبلته غير المنحرفة عن مجراها -
يعلم أنه مختار في أكله وشربه وقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وفراغه وشغله،
ويجد من نفسه انه إن أتى بشئ مما ذكر ونحوه فإنه يأتيه بإرادة واختيار،
وان تركه يتركه اختيارا، ويفرق بفطرته بين اخذه اللقمة ووضعه بيده
في فمه، وبين ما لو وجئ الغذاء في حلقه، ويميز بين نزوله شخصا من
السطح، وبين ما يوثق ويرمي به من السطح، وكل أحد يعرف ان الحيوان
إذا جئ به إلى شفا نهر فان أمكنه الوثوب والعبور يثب ويعبر، وإلا فلا،
وأن الأسد والهرة إذا شاهدا الصيد واللحم فإن لم يريا مزاحما ومدافعا
يتوثبان عليه، والا يفران أو ينتظران ارتفاع المزاحم، وهكذا جميع الحيوانات،
هذا هو مقتضى الفطرة، وإنما يعدل عنها لأجل ان بطانة الانسان أو أبواه
يشعرانه ويجبرانه أو يفوضانه، فمهما شك في شئ فلا ينبغي الشك في أن
إعمال القدرة وصرف الاختيار والإرادة بيد الانسان فعلا وتركا، وبأعمال
القدرة والاختيار في الطاعات يستحق الثواب، وبصرفهما في المعاصي يستحق
236

الذم وعظيم النكال، فقدرة الانسان ومبادئ علمه وإرادته وإن كان من
الله، الا أن اختيار الفعل أو الترك واعمال القدرة بيد الانسان، - ولا تنافي
بينهما - والا فإن كان اعمال قوة المكلف في الفعل والترك وصارفها في
الخير والشر من الله لامن المكلف، وكان نسبة الفعل إلى المكلف كنسبة
الحرارة إلى النار، والرطوبة إلى الماء، لزم ما ذكره أمير المؤمنين عليه
السلام في كلامه المتواتر (44): لو كان قضاء لازما، وقدرا حاتما لبطل
الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم يكن على مسئ
لائمة، ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى للأئمة من المذنب، والمذنب
أولى بالاحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، وخصماء الرحمان
وقدرية الأمة ومجوسها، الخ. ولا شئ منهما يضطر العبد لفعل من أفعاله،
فالعبد وما يجد من نفسه من باعث على الخير والشر، ولا يجد شخص الا
أن اختياره دافعه إلى ما يعمل، والله يعلمه فاعلا باختياره، اما شقيا به
واما سعيدا. والدليل ما ذكره الامام.
إذا تقرر ذلك، فلنذكر جملة من الآثار الواردة عن المعصومين (ع)
فأقول:
روى الشيخ المفيد (ره) في الحديث 290، من كتاب الاختصاص: 221،
ط 2 معنعنا، عن أبي الربيع الشامي قال قال أبو عبد الله (ع): من أعجب
بنفسه هلك، ومن أعجب برأيه هلك، وان عيسى بن مريم قال: داويت

(44) كما سنفصل القول في ذلك في مناهج البلاغة انشاء الله. ولله در
محمد عبده وانصافه حيث عدل عن طريقة اسلافه، واتبع الصراط السوي
وباب مدينة علم النبي (ص) فقال في تعليقة المختار 78، من قصار نهج البلاغة:
القضاء علم الله السابق بحصول الأشياء على أحوالها في أوضاعها، والقدر
ايجاده لها عند وجود أسبابها.
237

المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت
الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على اصلاحه. فقيل:
يا روح الله! وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه الذي يرى الفضل
كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ولا يوجب عليها حفا فذلك الأحمق
الذي لا حيلة في مداواته.
ورواه عنه في الحديث 36، من الباب 19، من البحار: 3، من
15، 58. وفي الحديث 38، من الباب، نقلا عن عدة الداعي قال قال
المرء، بنفسه، وهو محبط للعمل، وهو داعية المقت من الله سبحانه. ورواه
في الحديث 12، من الباب معنعنا، عن الخصال عنه (ص). وكذا في
وصايا النبي إلى أمير المؤمنين (ع)، كما في الحديث الأول، من باب النوادر
من كتاب من لا يحضره الفقيه: 4، 260، وفيها أيضا: لا فقر أشد من
الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل
كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله تعالى، ولا حسب كحسن
الخلق، ولا عبادة مثل التفكر، الخ.
وأيضا روى في الحديث الحادي عشر، من الباب التاسع عشر، نقلا عن
أمالي الصدوق (ره)، عن الإمام الصادق (ع) قال قال أمير المؤمنين عليه
السلام: من دخله العجب هلك.
وفي المختار 46، من قصار النهج قال عليه السلام: سيئة تسوءك
خير عند الله من حسنة تعجبك. وقال (ع): لامال أعود من العقل، ولا
وحدة أوحش من العجب، الخ. المختار 113، من قصار نهج البلاغة.
وقال (ع): ان اغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة
العجب، الخ. المختار 38، من قصار النهج. ورواه أيضا عنه (ع) ابن
238

عساكر في ترجمته من تاريخ الشام. وكذلك صاحب دستور معالم الحكم.
والأربلي في كشف الغمة. وفي المختار 167، من قصار النهج: الاعجاب
يمنع الازدياد. وفي المختار 212، منها: عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله.
وفي الحديث 16، من الباب 19، من البحار: 3، من 15، 57،
عن الخصال، عن اصبغ بن نباته (ره)، قال قال أمير المؤمنين (ع): العجب
هلاك، والصبر ملاك.
وقال (ع) في وصيته إلى الامام المجتبى (ع): واعلم أن الاعجاب
ضد الصواب، وآفة الألباب، الخ.
وفي مواعظ الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام للزهري: هيهات
هيهات إياك أن تعجب من نفسك، الخ (45).
وروى الصدوق (ره) معنعنا، عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال:
ثلاث موبقات: شح مطاع، وهوى متبع، واعجاب المرء بنفسه. الحديث
12، من الباب 19، من البحار: 3 من 15، 57 نقلا عن الخصال.
وفي الحديث 13، من الباب معنعنا، نقلا عن معاني الأخبار والخصال،
عن أبي جعفر عليه السلام قال: ثلاث هن قاصمات الظهر: رجل استكثر
عمله، ونسي ذنوبه، وأعجب برأيه.
وفي الحديث الأول، من الباب 125، من كتاب الايمان والكفر،
من الكافي: 2، 313، معنعنا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: ان
الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ولولا ذلك ما ابتلى مؤمن
بذنب أبدا.
وفي الحديث الثاني، من الباب، معنعنا عنه (ع) قال: من دخله العجب
هلك.

(45) وهو حديث عديم النظر من حيث اشتماله على معان بديعة وحكم
فريدة، نزين الكتاب بذكر بعض فقراته فيما سيأتي انشاء الله.
239

وفي الحديث السادس، من الباب، عن أحدهما عليهما السلام قال:
دخل رجلان المسجد، أحدهما عابد والاخر فاسق، فخرجا من المسجد
والفاسق صديق، والعابد فاسق، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا
بعبادته (46) يدل بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في
التندم على فسقه، ويستغفر الله عز وجل مما صنع من الذنوب.
وفي الحديث السابع منه، معنعنا عن عبد الرحمان بن الحجاج قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق، ثم يعمل
شيئا من البر فيدخله شبه العجب به، فقال: هو في حاله الأولى وهو خائف
أحسن حالا منه في حال عجبه.
وفي الحديث الثالث، معنعنا عن علي بن سويد قال سألت الإمام الكاظم
(ع) عن العجب الذي يفسد العمل. فقال: العجب درجات، منها
ان يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا فيعجبه ويحسب انه يحسن صنعا،
ومنها أن يؤمن العبد بربه فيمن على الله عز وجل ولله عليه فيه المن.
وقال الإمام الجواد عليه السلام: العجب صارف عن طلب العلم،
وداع إلى الغمط.

(46) قيل: المدل: المنبسط المسرور الذي لا خوف له من التقصير في العمل.
240

التعليق الثاني:
في ما ورد في الشريعة في ذم سوء الخلق.
الكليني (ره) في الحديث الأخير، من باب سوء الخلق، من الكافي:
2، ص 322، معنعنا عن الإمام الصادق عليه السلام قال: أوحى الله عز وجل
إلى بعض أنبيائه: الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
ورواه في عيون الأخبار 203، بأسانيد. وروى في المستدرك: 2، 338.
والبحار: 17، 267، معنعنا عن الإمام الصادق عليه السلام قال قال لقمان
عليه السلام لابنه:
يا بني إياك والضجر وسوء الخلق، وقلة الصبر، فلا يستقيم لك على
هذه الخصال صاحب، وألزم نفسك التودد في أمورك، وصبر على مثونات
الاخوان نفسك، وحسن مع جميع الناس خلقك، يا بني ان عدمك ما تصل
به قرابتك، وتتفضل به على اخوانك، فلا يعد منك حسن الخلق، وبسط
البشر فإنه من أحسن خلقه أحبه الأخيار، وجانبه الفجار، واقنع بقسم الله
ليصفو عيشك، فان أردت أن تجمع عز الدنيا والآخرة فاقطع طمعك مما
في أيدي الناس، فإنما بلغ الأنبياء والصديقون ما بلغوا بقع طمعهم.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: خصلتان لا تجتمعان في مسلم، البخل
وسوء الخلق. (47)

(47) الحديث الخامس، من باب سوء الخلق، من البحار: 3، من
15، 142. والحديث الثاني، من الباب 69، من جهاد النفس، من
المستدرك: 2، 338.
241

وعنه (ص): الخلق السيئ يفسد العمل كما يفسد الخل العسل.
رواه في باب سوء الخلق، الحديث 7، من البحار: 15، 142، عن صحيفة
الرضا، وعيون أخبار الرضا 203، بثلاثة أسانيد. وكذلك في المستدرك: 2، 338
وفي الحديث الثامن، من الباب معنعنا عنه (ص)، نقلا عن أمالي الطوسي
: من ساء خلقه عذب نفسه.
وفي الحديث الأخير من الباب معنعنا، نقلا عن نوادر الراوندي (ره)،
عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول الله (ص):
أبي الله لصاحب الخلق السيئ بالتوبة. فقيل: يا رسول الله! وكيف
ذلك؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم من الذنب الذي تاب
منه. وهو الحديث السادس من الباب 69، من جهاد النفس، من المستدرك.
ورواه في أصول الكافي معنعنا، عن الإمام الصادق عن النبي (ص).
وفي الحديث الأول من باب النوادر، من كتاب من لا يحضره الفقيه:
2، 334، معنعنا عن النبي (ص) في وصاياه لعلي (ع): يا علي لكل
ذنب توبة الا سوء الخلق، فان صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب،
- إلى أن قال (ص) - سوء الخلق شوم، وطاعة المرأة ندامة، الخ.
وفي صحيفة الرضا، وعيون اخبار الرضا 199، معنعنا عنه (ع)،
عن آبائه عليهم السلام، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: عليكم
بحسن الخلق، فان حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق
فان سوء الخلق في النار لا محالة
وقال (ع): الأخلاق منايح من الله عز وجل، فإذا أحب عبدا منحه
خلقا حسنا، وإذا أبغض عبدا منحه خلقا سيئا. ورواه أيضا في الحديث
13، من باب جهاد النفس، من المستدرك: 2، 338 عن الاختصاص.
وفي الحديث العاشر، من الباب، نقلا عن أبي القاسم الكوفي في كتاب
242

الأخلاق، عن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: سوء الخلق يفسد
العمل كما يفسد الخل العسل.
وفي الحديث الحادي عشر، من الباب، عن جامع الأخبار، عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال في حديث: وسوء الخلق زمام من عذاب الله
في انف صاحبه، والزمام بيد الشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار.
وفي الحديث الثامن، من الباب، عن أعلام الدين، عنه (ص):
خلقان لا يجتمعان في مؤمن: الشح وسوء الخلق.
وفي الحديث الرابع، من باب سوء الخلق، من البحار: 3، من 15،
142، عن قرب الإسناد، عن هارون، عن ابن صدقة، عن الصادق (ع)،
عن أبيه (ع)، قال قال علي عليه السلام لأبي أيوب الأنصاري: يا أبا
أيوب! ما بلغ من كرم أخلاقك؟ قال: لا أوذي جارا فمن دونه، ولا أمنعه
معروفا أقدر عليه. ثم قال: مامن ذنب الا وله توبة وما من تائب الا وقد
تسلم له توبته ما خلا سيئ الخلق لا يكاد (48) يتوب من ذنب الا وقع في
غيره أشد (أشر خ) منه.
وفي الحديث الثاني عشر، من الباب 69، من جهاد النفس، من
مستدرك الوسائل: 2، 338، ط 1، نقلا عن جامع الأخبار، قال: سئل
أمير المؤمنين عليه السلام عن أدوم الناس غما. قال: أسوأهم خلقا. وفي
الحديث الرابع عشر وتواليه، من الباب، نقلا عن الآمدي في الغرر، عن
أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: سوء الخلق فكد العيش وعذاب
النفس.
وقال (ع): سوء الخلق يوحش النفس، ويرفع الانس.

(48) وفى الوسائل ج 6، ط 1، و ج 11، من الطبعة الحديثة، ص
325، هكذا: لأنه لا يتوب من ذنب الا وقع في غيره أشر منه.
243

وقال (ع): سوء الخلق شؤم، والإساءة إلى المحسن لؤم.
وقال (ع): سوء الخلق يوحش القريب، وينفر البعيد.
وقال (ع): كل داء يداوى الا سوء الخلق.
وقال (ع) من ساء خلقه عذب نفسه.
وعن ثقة الاسلام: الكليني رفع مقامه، في الحديث الأول، من باب
سوء الخلق، من الكافي: 2، 321، وفي ط 1: 459، معنعنا عن الإمام الصادق
عليه السلام قال: ان سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل
العسل.
وأيضا في الحديث الثالث، من الباب معنعنا عنه (ع): ان سوء
الخلق ليفسد الايمان كما يفسد الخل العمل.
وفي الحديث الرابع من الباب مسندا عنه (ع) قال: من ساء خلقه
عذب نفسه. ورواه الصدوق (ره) في المجلس 27، من الأمالي
124، بسند آخر، الا ان فيه: من أساء خلقه، الخ.
وفي الحديث الخامس، من الباب 69، من جهاد النفس، من كتاب
مستدرك الوسائل: 2، 338، ط 1، نقلا عن الخصال معنعنا، عن الإمام الصادق
(ع) قال: لا سؤدد لسيئ الخلق، الخير.
وفي الحديث التاسع، من الباب، نقلا عن نزهة الناظر، عنه (ع)
قال: لو علم سيئ الخلق انه يعذب نفسه لتسمح في خلقه.
244

التعليق الثالث:
في الآثار الدالة على ذم قلة الصبر والضجر.
روى الصدوق (ره)، في الحديث الأول، من باب نوادر الفقيه:
4، 320، وفي ط، ج 2، ص 334، معنعنا أنه قال رسول الله صلى الله
عليه وآله في وصاياه لعلي (ع): يا علي لا تمزح فيذهب بهاؤك، ولا
تكذب فيذهب نورك، وإياك وخصلتين: الضجر والكسل، فإنك ان
ضجرت لم تصبر على حق، وان كسلت لم تؤد حقا - إلى أن قال (ص)
بعد جمل - من استولى عليه الضجر، رحلت عنه الراحة، الخ.
وروى الصدوق (ره) أيضا، في كتاب علل الشرائع: ف 196،
معنعنا عن علي (ع)، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: علامة
الصابر في ثلاث: أولها ان لا يكسل، والثانية ان لا يضجر،
والثالثة ان لا يشكو من ربه عز وجل، لأنه إذا كسل فقد ضيع الحقوق،
وإذا ضجر لم يؤد الشكر، وإذا شكا من ربه عز وجل فقد عصاه. ورواهما
عنه في الوسائل 11، ط الحديث 320،
وفي الحديث 62، من باب النوادر، من كتاب الفقيه: 4، 392،
معنعنا عن الإمام الكاظم عليه السلام أنه قال لبعض ولده: يا بني إياك ان
يراك الله عز وجل في معصية نهاك عنها، وإياك ان يفقدك الله عند طاعة أمرك
بها (49) وعليك بالجد، ولا تخرجن نفسك من التقصير عن عبادة الله، فان

(49) وهذا الصدر له مصادر عن غير واحد من المعصومين (ع).
245

الله عز وجل لا يعبد حق عبادته، وإياك والمزاح فإنه يذهب بنور ايمانك،
ويستخف بمروءتك، وإياك والكسل والضجر، فإنهما يمنعانك حظك من
الدنيا والآخرة، ورواه في السرائر 473، عن كتاب المشيخة للحسن بن
محبوب (ره). ورواه عنهما وعن الكافي في الوسائل وهامشه ج 11، ط
الحديثة، ص 320.
246

وقال عليه السلام في هذه الوصية:
يا بني إياك والاتكال على الأماني فإنها بضائع
النوكى (32) وتثبيت عن الآخرة (33) ومن خير حظ المرء القرين
الصالح، جالس أهل الخير تكن منهم، بائن أهل الشر ومن
يصدك عن ذكر الله عز وجل، ذكر الموت بالأباطيل
المزخرفة، والأراجيف الملفقة تبن منهم (34)، ولا يغلبن
عليك سوء الظن بالله عز وجل، فإنه لن يدع بينك وبين

(32) وهذه الفقرة قد تكررت في غير واحد من كلمه (ع) وذكرها أيضا
في وصيته إلى الامام المجتبى (ع) وأيضا من هنا إلى آخر الوصية المباركة
نقلها الصدوق (ره) متوالية الا أنه اسقط منها مالا مساس له بغرضه في
مواضع منها. والاتكال: الاعتماد والركون. والأماني جمع الأمنية، وهي
الآمال التي يتمناها الانسان من ادراك ما يشتهيه. والنوكى: جمع أنوك وهي
كالحمقى والأحمق لفظا ومعنى جمعا وأفرادا. قال الشاعر:
وكل الداء ملتمس دواء * وداء النوك ليس له دواء
(33) التثبيت: التعويق. قال في لسان العرب: وثبته عن الامر كثبطه.
وقوله (ع) عن الآخرة أي عن عملها. وقال الفيض (ره): وفى بعض النسخ:
وتقنط عن الآخرة. والأول أظهر.
(34) الأباطيل: الترهات، وهو جمع الباطل، بمعنى خلاف الحق،
والأراجيف: الاخبار المختلقة السيئة، يقال: إذا وقعت المخاويف كثرت
الأراجيف. والملفقة: المجتمعة. وقوله (ع): تبن منهم مجزوم بالطلب
المتقدم، أعني بائن.
247

خليلك صلحا (35) أذك بالأدب قلبك كما تذكي النار
بالحطب (36)، فنعم العون الأدب للخبرة، والتجارب لذي
اللب (37).
أضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض، ثم اختر أقربها
إلى الصواب، وأبعدها من الارتياب.

(35) من اللوازم التي لا تنفك عن سوء الظن: الاضطراب وعدم الاستقرار
على ما صدر منه من الرأي والعمل، فمن ساء ظنه مثله مثل الأطفال بيني
فيعقبه بالهدم، ويعامل ثم يبطله بالفسخ، ويصادق فيبدلها المعاداة، ويعادي
فتبدو له المحبة، وهكذا في جميع أعماله.
قال الفيض (ره) قوله (ع): " وبين خليلك صلحا " اي وبين الله،
أو المراد ان سوء الظن بخليلك لما لن يدع بينك وبين خليلك صلحا، فإذا
ظننت بالله ظن السوء الن يدع بينك وبين الله صلحا.
أو المراد بسوء الظن بالله بالنظر إلى الاخوان، يعني إذا رأيت من خليل لك من
اخوانك مخالفة لله عز وجل فنظن ان الله يعذبه فلا يمنك الصلح معه.
(36) ذكى النار وأذكاها: أي أوقدها وأشعلها.
(37) كذا في النسخة، والمستفاد من كلام الفيض (ره) ان في نسخته:
نحيزة بدل الخبرة، فإنه قال: أي نور بالأدب بمداومة الذكر ومراعاة الحياء
قلبك، والنحيزة - بالنون المفتوحة ثم الحاء المهملة المكسورة ثم الزاء بعد
المثناة التحتانية -: الطريقة والطبيعة. أقول: الخبر والخبرة - كالقفل
والإربة - هو العلم بالشئ عن تجربة، وهما مصدران، وفعلهما كنصر،
وقوله (ع) والتجارب، عطف على الأدب، وقوله: لذي اللب قيد للخبرة
والتجارب معا لا انه قيد ومتعلق لخصوص الأخير.
248

يا بني لا شرف أعلى من الاسلام (38)، ولا كرم أعز من
التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من
التوبة، ولا لباس أجمل من العافية، ولا وقاية أمنع من
السلامة، ولا كنز أغنى من القنوع، ولا مال أذهب للفاقة
من الرضا بالقوت، ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم
الراحة، وتبوأ خفض الدعة (39)
الحرص داع إلى التفحم في الذنوب، (40) ألق عنك
واردات الهموم بعزائم الصبر (41) عود نفسك الصبر، فنعم
الخلق الصبر، وأحملها على ما أصابك من أهوال الدنيا

(38) من قوله (ع): يا بني لا شرف، إلى قوله: إلى التقحم في الذنوب،
قد تواتر عنه (ع) ونقله السيد (ره) في المختار 371، من قصار النهج،
وهو مذكور أيضا في أوائل الخطبة الوسيلة، وفى غيرها.
(39) البلغة: الكفاية، واضافتها إليها بيانية. وخفض الدعة: سعة
العيش والراحة.
(40) التقحم: الدخول في الشئ بلا روية، والحريص كذلك، لان حرصه
لا يدعه لان يقنع بالحلال، أو يتفكر في غاية ما يقدم عليه، ونتيجة ما يقبل إليه،
فمهما خطر بباله نفع، أو تصور في ذهنه فائدة يهجم على اقتنائها.
(41) أي بالمعزومات التي يجب الصبر عليها. أو المراد من عزائم الصبر:
الجد والاستقامة، وإنما عبر (ع) بلفظ الجمع للاعلام بأنه يجب ان يجمع تمام
جده، ويستقيم من جميع الجهات على الصبر.
249

وهمومها، فاز الفائزون، ونجا الذين سبقت لهم من الله
الحسنى (42)، فإنه جنة من الفاقة.
وألجئ نفسك في الأمور كلها إلى الله الواحد القهار،
فإنك تلجئها إلى كهف حصين، وحرز حريز ومائع عزيز،
وأخلص المسألة لربك فان بيده الخير والشر والاعطاء والمنع
والصلة والحرمان.

(42) اقتباس من الآية 101، من سورة 21. وقوله (ع) فاز الفائزون،
اي بالصبر.
250

وهنا فوائد
الفائدة الأولى:
في الآثار الواردة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم. في القرين
الصالح ومن ينبغي مجالسته، فأقول:
روى الشيخ الصدوق (ره) عن لقمان الحكيم أنه قال لولده: يا بني
كن عبدا للأخيار، ولا تكن ولدا للأشرار. وقال أيضا: يا بني جالس
العلماء فزاحمهم بركبتيك، فان القلوب تحيا بالحكمة كما تحيا الأرض
الميتة بوابل المطر.
وقال رسول الله (ص): أسعد الناس من خالط كرام الناس. وأيضا
قال (ص): سائلوا العلماء، وخالطوا الحكماء، وجالسوا الفقراء. وأيضا
قال صلى الله عليه وآله: الأنبياء قادة، والفقهاء سادة، ومجالستهم زيادة،
وأنتم في ممر الليل والنهار، في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت
يأتيكم بغتة، فمن يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة.
الحديث 11، من الباب 4، من كتاب العلم، من البحار: 1، 63. وقال
صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل وصاياه لعلي (ع): يا علي من لم تنتفع
بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته، ومن لا يوجب لك فلا توجب
له ولا كرامة، الخ.
وفي الحديث الثالث، من الباب الثالث، من كتاب العشرة، من أصول
الكافي معنعنا، عن أمير المؤمنين (ع) قال قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: انظروا من تحادثون، فإنه ليس من أحد ينزل به الموت الا مثل
251

(مثلث خ) له أصحابه إلى الله (50) ان كانوا خيارا وان كانوا
شرار فشرارا، وليس أحد يموت الا تمثلت له عند موته.
وفي الحديث الأول، من الباب معنعنا، عن أمير المؤمنين (ع)
قال: لا عليك ان تصحب ذا العقل وان لم يحمد (وان لم تجد خ) كرمه،
ولكن انتفع بعقله، واحترس من سيئ أخلاقه، ولا تدعن صحبة الكريم
وان لم تنتفع بعقله، ولكن انتفع بكرمه بعقلك، وافرر كل افرار من اللئيم
الأحمق. ورواه في المختار 30، من قصار كلمه (ع) في تحف العقول،
الا أنه قال: وافرر الفرار كله من اللئيم الأحمق. وعنه (ع) معنعنا أن
مجالسة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار. وقال (ع): أحيوا الطباع
بمجالسة من يستحيا منه. كما في المحجة البيضاء ج 3، 314، نقلا عن
احياء العلوم.
وقال الإمام السجاد عليه السلام: مجالسة الصالحين داعية إلى الصلاح،
وآداب العلماء زيادة في العقل، الخ. كما في وصايا الإمام الكاظم (ع)
لهشام بن الحكم من الكافي: 1، 20، وتحف العقول، 290.
وفي الحديث الثاني، من الباب الثالث، من كتاب العشرة، من أصول
الكافي معنعنا، عن الإمام الباقر (ع) قال: اتبع من يبكيك وهو لك ناصح،
ولا تتبع من يضحكك وهو لك غاش، وستردون على الله جميعا فتعلمون.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: من غضب عليك من اخوانك ثلاث
مرات فلم يقل فيك شرا فأتخذه لنفسك صديقا، البحار: 16، 48،
الحديث 2، من الباب 12، عن أمالي الصدوق.
وفي الحديث 4، من الباب الثالث، من كتاب العشرة، من الكافي:

(50) وفي المحكي عن الوافي: الا مثل له أصحابه في الله، الخ. وهو أظهر.
252

2، 683، معنعنا عنه (ع) قال: عليك بالتلاد (51)، وإياك وكل محدث
لا عهد له ولا أمان ولا ذمة ولا ميثاق، وكن على حذر من أوثق الناس
عندك. وحكي عن فصل الخطاب أنه قال (ع): إياكم وصحبة العاصين،
ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام، في وصاياه لهشام بن الحكم:
مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة، إياك ومخالطة الناس والانس
بهم الا أن تجد منهم عاقلا ومأمونا فأنس به، واهرب من سائرهم كهربك
من السباع الضارية، الخ.
وقال الإمام العسكري عليه السلام: خير إخوانك من نسب ذنبك
إليه. وقال أيضا: خير إخوانك من نفسي ذنبك إليه، وذكر احسانك إليه (25).
وعنهم عليهم السلام: ان كنت تحب أن تستتب لك النعمة (53) وتكمل
لك المروءة، وتصلح لك المعيشة فلا تشرك العبيد والسفلة في أمرك، فإنك
ان ائتمنتهم خانوك، وان حدثوك كذبوك، وان نكبت خذلوك، ولا عليك
ان تصحب ذا العقل فإن لم تحمد كرمه انتفع بعقله، واحترز من سيئ
الأخلاق، ولا تدع صحبة الكريم، وان لم تحمد عقله. ولكن تنتفع بكرمه
بعقلك، وفر الفرار كله من الأحمق اللئيم.

(51) التلاد والتالد - نقيض الطارف -: المال القديم الأصلي.
(52) كما في الحديث 35 و 53، مما اختار من كلمه (ع) في
البحار: 17، 218.
(53) يقال: استتب الامر اي استقام واطرد واستمر.
253

الفائدة الثانية:
في ما يناسب المقام من الاشعار.
ونسب إلى أمير المؤمنين (ع) اشعار من جملتها هذه:
فلا تصحبن الا تقيا مهذبا * عفيفا زكيا منجزا للمواعد
وقارن إذا قارنت حرا مؤدبا * فتى من بني الأحرار زين المشاهد
وكف الأذى واحفظ لسانك واتق * فديتك في ود الخليل المساعد
وكل صديق ليس في الله وده * فناد عليه هل به من مزائد
ونسب إليه (ع):
تذلل لمن ان تذللت له * يرى ذاك للتفضل لا للبله
وجانب صداقة من لا يزال * على الأصدقاء يرى الفضل له
وأيضا نسب إليه (ع):
هموم الرجال في أمور كثيرة * وهمي من الدنيا صديق مساعد
يكون كروح بين جسمين قسمت * فجسمهما جسمان والروح واحد
وأيضا نسب إليه (ع):
واحذر مصاحبة اللئام فإنهم * منعوك صفو ودادهم وتصنعوا
أهل المودة ما أنلتهم الرضا * وإذا منعت فسمهم لك منقع
وما أحسن ما قاله الشيخ امين الدين العروضي المحلي:
عليك بأرباب الصدور فمن غدا * مضافا لأرباب الصدور تصدرا
وإياك ان ترضى صحابة ناقص * فتحبط قدرا من علاك وتحقرا
254

فرفع أبو من ثم جر مزمل (54) يبين قولي مغربا ومحذرا
وقال آخر: تجنب صديقا مثل ما واحذر الذي * يكون كعمرو بين عرب وأعجم
فان صديق السوء يزري وشاهدي * كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر: إذا جمع الفتى حسبا ودنيا فلا تعدل به أبدا قرينا
ولا تسمح بحظك منه بل كن بحظك من مودته ضنينا
وقال آخر:
عليك باخوان الثقات فإنهم * قليل فصلهم دون من كنت تصحب
وما الخدن الا من صفا لك وده * ومن هو ذو نصح وأنت مغيب
وقال آخر:
فلا خير في الدنيا بغير تواصل * ولا عيش في العقبى بغير حبيب
وقال آخر:
امحض مودتك الكريم فإنما * يرعى ذوي الاحسان كل كريم

(54) قوله: " فرفع أبو من " استشهاد لقوله: عليك بأرباب الصدور،
الخ. وإشارة إلى أن العرب إذا قالوا: علمنا أبو من زيد ونحوه، يجرون على
المضاف حكم المضاف إليه، ويعطون بعض خواص المجاور لما جاوره، ففي
المثال لما أضافوا لفظة (أبو) إلى كلمة (من) الواجبة التصدير المرفوعة، أجروا
عليها حكمها فرفعوها، وإن كان حقها النصب لكونها مفعولا لعلم، ولأجل
اضافتها إلى واجب التصدير اكتسبت الصدارة، فعلق علم عن العمل،
واكتسبت أيضا الرفع فعدل عن النصب، فأبو من - مبتدأ، وزيد خبر -
أو العكس - والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي علم. وقوله: " ثم
جر مزمل " إشارة إلى قول امرء القيس:
كان أبانا في عرانين وبله * كبير أناس في بجاد مزمل
حيث خفض مزمل لمجاورته للمخفوض وهو " بجاد " مع أن حقه الرفع
لكونه صفة لكبير المرفوع.
255

وتواخ أشراف الرجال مروءة * والموت خير من إخاء لئيم
وقال آخر:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم * ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال آخر:
اصحب ذوي الفضل وأهل الدين * فالمرء منسوب إلى القرين
256

الفائدة الثالثة:
في الآثار الدالة على وجوب الفرار من الأنذال والفساق ومن تشين
مصاحبته، الواردة عن المعصومين (ع) المناسبة لقوله: بائن أهل
الشر، الخ.
فعن المسعودي (ره) عن عيسى بن مريم (ع) انه أوصى إلى
الحواريين وقال:
ارضوا بزي الدنيا مع سلامة دينكم، كما رضي أهل الدنيا بزي
الدين مع سلامة دنياهم، وتحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي والبعد منهم.
فقالوا: ومن نجالس يا روح الله؟ فقال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في
علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله. والذيل رواه أيضا في الكافي.
وأيضا روى ثقة الاسلام (ره) في الكافي معنعنا، أنه قال: ان صاحب
الشر يعدي، وقرين السوء يردي، فانظر من تقارن.
وأيضا روى ثقة الاسلام الكليني (ره) مسندا عن لقمان الحكيم،
أنه قال لابنه:
يا بني لا تقترب فتكون أبعد لك، ولا تبعد فتهان، كل دابة تحب
مثلها، وان ابن آدم يحب مثله، ولا تنشر بزك الا عند باغيه، كما ليس
بين الكبش والذئب خلة كذلك ليس بين البار والفاجر خلة، من يقترب من
الزفت (55) يعلق به بعضه، كذلك من يشارك الفاجر يتعلم من طرقه، من
يحب المراء يشتم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، ومن يقارن قرين السوء
لا يسلم، ومن لا يملك لسانه يندم. وروي معلم الأمة الشيخ المفيد (ره)،

(55) الزفت: القير.
257

في الاختصاص 337، ط 2، أنه قال لابنه في مواعظ له: يا بني لا تجاورن
الملوك فيقتلوك، ولا تطعهم فتكفر، - إلى أن قال -: يا بني اني نقلت
الحجارة والحديد، فلم أجد شيئا أثقل من قرين السوء، يا بني انه من
يصحب قرين السوء لا يسلم، ومن يدخل مداخل السوء يتهم، - ثم ساق
مواعظه إلى أن قال -: يا بني إياك ومصاحبة الفساق، هم كالكلاب،
ان وجدوا عندك شيئا أكلوه، والا ذموك وفضحوك، وإنما حبهم بينهم
ساعة، يا بني معاداة المؤمنين خير من مصادقة الفاسق، الخ.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: جالس الأبرار فإنك
إذا فعلت خيرا حمدوك، وان أخطأت لم يعنفوك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصاحب رقعة في الثوب
فلينظر الانسان بم يرقع ثوبه.
وقال (ص): امتحنوا الناس باخوانهم. كما في العقد الفريد:
1، 309، و 337، ط 2.
وقال معلم الأمة الشيخ المفيد (ره)، في الحديث الأخير من كتاب
الاختصاص: وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: اختبروا الناس
فان الرجل يجاذب من يعجبه.
وفي العقد الفريد: 1، 313، ط 2، عن النبي (ص): شر الناس
من اتقاه الناس لشره.
وقال (ص): إذا لقيت اللئيم فخالفه، وإذا لقيت الكريم فخالطه.
وروى الصدوق (ره) عنه (ص) أنه قال: أحكم الناس من فر
من جهال الناس، وأسعد الناس من خالط كرام الناس.
وفي الحديث 40، من المجلس الثامن عشر، من أمالي الشيخ،
معنعنا عنه (ص) أنه قال: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل.
258

ورواه الغزالي في الاحياء، وأبو داود في سننه، كما في المحجة: 3،
309، ط 2.
وروي عن فصل الخطاب أنه قال الامام المجتبى عليه السلام: انظر
إلى كل من لا يفيدك منفعة في دينك فلا تعتدن به، ولا ترغبن في صحبته،
فان كل ما سوى الله مضمحل وخيم عاقبة.
وروى الصدوق (ره) في الباب، من كتاب معاني الأخبار 247،
معنعنا عن الأصبغ بن نباته، عن حارث الأعور، قال قال علي للحسن ابنه
عليهما السلام، في مسائله التي سأله عنها: يا بني ما السفه؟ قال: اتباع
الدناة، ومصاحبة الغواة.
وقال (ع): إذا سمعت أحدا يتناول اعراض الناس فاجتهد ان
لا يعرفك فان أشقى الاعراض به معارفه.
وقال (ع) لبعض ولده: يا بني لا تواخ أحدا حتى تعرف موارده
ومصادره.
وقال السبط الشهيد عليه السلام: من علامات القبول الجلوس
إلى أهل العقول.
وقال (ع): مجالسة أهل الدناءة شر، ومجالسة أهل الفسق ريبة.
كما في البحار: 17، 149.
وروى الصدوق (ره) مسندا عن الإمام السجاد عليه السلام أنه قال
: ليس لك أن تقعد مع من شئت، لان الله تبارك وتعالى يقول: " وإذا
رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث
غيره، واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين " (56)
وليس لك ان تتكلم بما شئت لان الله عز وجل قال: " ولا تقف ما ليس

(56) الآية 67، من سورة الأنعام.
259

لك به علم " (57) ولان رسول الله (ص) قال: " رحم الله عبدا قال
خيرا فغنم، أو صمت فسلم " وليس لك ان تسمع ما شئت لان الله عز وجل
يقول: " ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " (58).
وعن أبي عمرو الكشي عنه (ع) انه كان يقول لبنيه: جالسوا أهل
الدين والمعرفة، فإن لم تقدروا عليهم فالوحدة آنس وأسلم، فان أبيتم
الا مجالسة الناس، فجالسوا أهل المروءات، فإنهم لا يرفثون في مجالسهم (59).
وعن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام قال: أردت سفرا فأوصى
أبي علي بن الحسين (ع)، فقال في وصيته، إياك يا بني ان تصاحب
الأحمق أو تخالطه، واهجره ولا تجادله، فان الأحمق هجنة عياب غائبا
كان أو حاضرا، ان تكلم فضحه حمقه، وان سكت قصر به عينه، وان
عمل أفسد، وان استرعي أضاع، لا علمه من نفسه يغنيه، ولا علم غيره
ينفعه، ولا يطيع ناصحه، ولا يستريح مقارنه، تود أمه ثكلته، وامرأته
انها فقدته، وجاره بعد داره، وجليسه الوحدة من مجالسته، إن كان
أصغر من في المجلس أعيى من فوقه، وإن كان أكبرهم أفسد من دونه.
الأمالي.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان أبي يقول: قم بالحق
ولا تعرض لما نابك، واعتزل عما لا يعنيك، وتجنب عدوك، واحذر
صديقك من الأقوام الا الأمين الأمين الذي خشي الله، ولا تصحب الفاجر
ولا تطلعه على سرك. الاختصاص.

(57) الآية 35، من سورة الإسراء.
(58) الآية 35، من سورة الإسراء.
(59) رفث رفثا ورفثا (من باب ضرب ونصر وعلم) وأرفث في كلامه:
أفحش.
260

وفي الكافي معنعنا، عن الإمام الصادق عليه السلام: لا تصحبوا أهل
البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: المرء على دين خليله وقرينه.
وفي الحديث 16، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 282، قال (ع):
أحكم الناس من فر من جهال الناس، وأسعد الناس من خالط كرام
الناس، الخ.
وقال المسعودي (ره) في اثبات الوصية: روي أن موسى مات
بموت السبعين الذين اختارهم، فلذلك قال العالم (ع): لا تجالسوا
المفتونين فينزل عليهم العذاب فيصيبكم معهم.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام: من لم يجد للإساءة مضضا، لم
يكن للاحسان عنده موقع.
وقال الإمام الجواد عليه السلام: إياك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف
المسلول يحسن منظره ويقبح أثره.
وقال الإمام العسكري عليه السلام: اللحاق بمن ترجو خير من المقام
مع من لا تأمن شره.
وان أردت المزيد فارجع إلى الباب الرابع، والخامس، والخامس عشر،
من البحار ج 1، فان فيها شواهد لا تحصى.
261

الفائدة الرابعة:
في بعض ما قيل في المقام من الشعر.
نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
إذا المرء لم يحسن مع الناس عشرة * وكان بجهل منه بالمال معجبا
ولم تره يقضي الحقوق فإنه * حقيق بأن يقلى وأن يتجنبا
وقال عليه السلام علي ما في المحجة: 3، 310، نقلا عن احياء العلوم:
فلا تصحب أخا الجهل * وإياك وإياه
فكم من جاهل اردى * حكيما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء * إذا ما هو ماشاه
وللشئ على الشئ * مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب * دليل حين يلقاه
وروى عن أيوب بن سليمان قال حدثنا أبان بن عيسى، عن عن أبيه، عن
ابن القاسم قال: بينما سليمان بن داود عليهما السلام تحمله الريح إذ مر
بنسر واقع على قصر، فقال له: كم لك مذ وقعت ههنا؟ قال: سبعمأة
سنة. قال: فمن بنى هذا القصر؟ قال: لا أدري، هكذا وجدته. ثم
نظر فإذا فيه كتاب منقور بأبيات من شعر، وهي:
خرجنا من قرى إصطخر * إلى القصر فقلناه
فمن يسأل عن القصر * فمبنيا وجدناه
فلا تصحب أخا السوء * وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى * حكيما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء * إذا ما المرء ماشاه
262

وفي الناس من الناس * مقاييس وأشباه
وفي العين غنى للعين * أن تنطق أفواه
وقال آخر:
لا خير في صحبة خوان * يأتي من العذر بألوان
فلعنة الله على صاحب * له لسانان ووجهان
وقالوا: كل الف إلى الفه ينزع. قال الشاعر:
فاعتبر الأرض بأسمائها * واعتبر الصاحب بالصاحب
وقال آخر:
والألف ينزع نحو الألفين كما * طير السماء على آلافها تقع
وقال أبو عمرو بن العلاء رحمه الله:
لكل امرء شكل من الناس مثله * فأكثرهم شكلا أقلهم عقلا
لان صحيح العقل لست بواجد * له في، طريق حين تفقده شكلا
وقال امرؤ القيس:
أجارتنا انا غريبان ههنا * وكل غريب للغريب نسيب
وقال آخر:
اني لامن من عدو عاقل * وأخاف خلا يعتريه جنون
فالعقل فن واحد وطريقه * أدرى وأرصد والجنون فنون
وعن غير واحد من علماء الإمامية وأهل السنة معنعنا ومرسلا، عن
يونس بن حبيب النحوي - وكان عثمانيا - قال: قلت للخليل بن أحمد:
أريد أن أسألك عن مسألة فتكتمها علي؟ قال: ان قولك يدل على أن الجواب
أغلظ من السؤال فتكتمه أنت أيضا؟ قال: قلت: نعم أيام حياتك. قال:
سل. قلت: ما بال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ورحمهم كأنهم
263

كلهم بنو أم واحد، وعلي بن أبي طالب من بينهم كأنه ابن علة؟ (60) قال:
من أين لك هذا السؤال؟ قال قلت: وعدتني الجواب. قال: قد ضمنت
الكتمان. قال قلت: أيام حياتك. فقال: ان عليا عليه السلام تقدمهم
اسلاما، وفاقهم علما، وبذهم شرفا، ورجحهم زهدا، وطالهم جهادا،
فحسدوه، والناس إلى اشكالهم وأشباههم أميل منهم إلى من بان منهم،
فأفهم.
وروى الصدوق (ره)، عن أبي زيد الأنصاري قال: سألت الخليل
ابن احمد العروضي: لم هجر الناس عليا، وقربه من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قربه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الاسلام
عناؤه؟ فقال: بهر والله نوره أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس
إلى أشكالهم أميل، أما سمعت الأول حيث يقول:
وكل شكل لشكله الف * أما ترى الفيل يألف الفيلا
قال الصدوق: وأنشدنا الرياشي في معناه عن العباس بن الأحنف:
وقائل كيف تهاجرتما * فقلت قولا فيه انصاف
لم يك من شكلي فهاجرته * والناس اشكال وآلاف

(60) ابن علة يقال لأولاد من أمهات شتى.
264

الفائدة الخامسة:
فيما يتعلق بقوله عليه السلام: " أذك بالأدب قلبك، الخ " وبيان
حقيقة الأدب.
قيل: الأدب يطلق على العلوم والمعارف مطلقا. وقيل: الأدب اسم
لخصوص المستظرف من العلوم ولا يطلق على غيره. وقالوا: الفرق بين
الأديب والعالم أن الأديب من يأخذ من كل شئ أحسنه، والعالم من يقصد
بفن من العلم فيتعلمه. ولذلك قال علي عليه السلام: العلم أكثر من أن
يحصى فخذوا من كل شئ أحسنه. وقيل: الأدب هو الصبر على الغصة
حتى تدرك الفرصة.
أقول: الأدب عند أهل الدنيا والذين ضل سعيهم في حياتها وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعا عبارة عن تزيين الأقوال الكاذبة بألفاظ طريفة،
وتحسين الكلمات الفارغة بعبارات ظريفة، وجذب القلوب بأكاذيب الاشعار،
وسحر النفوس بتنميق المقال، وتحبير البيان.
وأما أهل المعنى والروحانيون فالأدب عندهم عبارة عن رياضة النفس
على التخلق بمكارم الأخلاق، والتجنب عن مساويها، والتحلي بمحامد
الأوصاف، والتخلي عن رذائل السجايا. أو الأدب عندهم هو الملكة
الحاصلة من الرياضة المذكورة. وأياما كان فلا خفاء في أن الأدب بالمعنى
المذكور أحسن عون ومساعد للطبيعة الانسانية، أو لذوي العقول على تحصيل
العلم بالأشياء عن تجربة واختبار.
فحاصل مراده (ع) من قوله: أذك بالأدب قلبك، الخ. أن اشتعال
القلب وضياءه بالأدب والاشتمال بمعالي الصفات، والاجتناب عن السفاسف.
265

إذا تمهد هذا فلنذكر بعض الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام
وغيرهم في الأدب فنقول: روى في معجم الأدباء: ج 1، 38، وكذلك روى
ابن مسكويه في جاويدان خرد (الحكمة الخالدة) ص 105، وفي هامشه نقل
عن الجامع الصغير: 3، 256، وعن الترمذي والحاكم في المستدرك: أنه قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نحل والد ولده أفضل من أدب
حسن. ولما نزلت قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم
نارا " قالوا: يا رسول الله كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: اعملوا الخير
وذكروا به أهليكم، فأدبوهم على طاعة الله. دعائم الاسلام: 1، 82.
وروى اليعقوبي (ره) عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: يا معشر
الفتيان حصنوا أعراضكم بالأدب، ودينكم بالعلم.
وقال عليه السلام - على ما في سفينة البحار وكنز الفوائد -: كفى
بك أدبا لنفسك تركك ما كرهته لغيرك.
وفي المختار 54، من قصار النهج: لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل،
ولا ميراث كالأدب، الخ.
وفي المختار 113، لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من
العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا كرم كالتقوى، ولا قرين كحسن الخلق،
ولا ميراث كالأدب، الخ.
وفي المختار 365،: وكفى أدبا لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك.
وفي المختار 412، كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك.
وقال (ع) في وصيته للحسن (ع): العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم
لا تنعظ الا بالضرب، الخ.
وقال (ع) في المختار الرابع من القصار: نعم القرين الرضا، والعلم
وراثة كريمة، والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية.
266

وعنهم عليهم السلام: خير ما ورث الاباء لأبنائهم الأدب.
وقال داود لابنه سليمان: اجعل العلم مالك والأدب حليتك. كما في
مجمع البحرين والعقد الفريد: 1، 264، ط 2.
وقال لقمان الحكيم لابنه: يا بني ان تأدبت صغيرا انتفعت به كبيرا،
ومن عني بالأدب اهتم به، ومن اهتم به تكلف علمه، ومن تكلف علمه
اشتد له طلبه، أدرك به منفعة، فأتخذه عادة، وإياك والكسل منه والطلب
لغيره، وان غلبت على الدنيا فلا تغلبن على الآخرة، الخ. البحار: 17، 267.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: أربع خصال يسود بها المرء: العفة
والأدب والجود والعقل.
وقال أيضا: لامال أعود من العقل، ولا مصيبة أعظم من الجهل،
ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر،
ولا قائد خير من التوفيق، ولا قرين خير من حسن الخلق، ولا ميراث خير
من الأدب. الحديث 397 و 415، من الاختصاص 244 و 246.
وروى ثقة الاسلام (ره) معنعنا عنه (ع) في الحديث 132، من
روضة الكافي أنه قال: ان خير ما ورث الاباء لأبنائهم الأدب لا المال، فان
المال يذهب، والأدب يبقى. قال مسعدة: يعني بالأدب العلم. قال: وقال
أبو عبد الله عليه السلام: ان أجلت في عمرك يومين فأجعل أحدهما لأدبك،
لتستعين به على يوم موتك، فقيل له: وما تلك الاستعانة؟ قال: تحسن
تدبير ما تخلف وتحكمه. وقال (ع): لا يزال العبد المؤمن يورث أهل بيته
العلم والأدب الصالح حتى يدخلهم الجنة جميعا، حتى لا يفقد منهم صغيرا
ولا كبيرا ولا خادما ولا جارا، ولا يزال العبد العاصي يورث أهل بيته
الأدب السيئ حتى يدخلهم الناس جميعا حتى لا يفقد فيها من أهل بيته صغيرا
ولا كبيرا ولا خادما ولا جارا. الحديث 14، من باب الرغائب في العلم،
267

من دعائم الاسلام: 1، 82.
واما ما ورد عن الحكماء والعظماء فكثير أيضا.
قال أرسطا طاليس: ليت شعري أي شئ فات من أدرك الأدب، وأي
شئ أدرك من فإنه الأدب؟!
وقال أفلاطون: بعد الجاهل أن يلتحم به الأدب، كبعد النار أن
تشتعل بالماء، فإذا رأيت المستمع غير قابل أثر الحكمة فلا تطمع في صلاحه.
وقال أرسطا طاليس في آدابه التي كتبها وكان يعلمها الإسكندر: إذا
ثم العقل التحم به الأدب، كالتحام الطعام بالجسد الصحيح، فهو يغذوه
ويربيه، وإذا نقص العقل نبا عنه ما يسمع من الأدب، كما نبا عن المصفور (61)
ما أكل من الطعام، وان آثر الجاهل ان يحفظ شيئا من الأدب، تحول
ذلك الأدب فيه جهلا، كما يتحول ما خالط جوف المريض من طيب الطعام
داء، فإذا كان الامر على هذا، فأحمد العقلاء من كان عقله من صحة طبيعة
وكان رأيه عن سبب معرفة، وعلمه من قبل حجة، وزين منطقه من صدق
مقال، وحسن عمله من حسن نية، وحسن أدبه من فضل رغبة، وحسن
عطائه عن سماح نحيزة (62)، وأداء أمانته عن صدق عفاف، واجتهاد سعيه
في قصد سبيل، ثم وصل الطبيعة بحسن العادة، وذكاء العقل بشدة الفحص،
ونفاذ الرأي بدرك المنافع، وصدق المنطق بحسن الأدب، وحسن الأدب
بكثرة التعهد، وكثرة العطاء بصواب الموضع، واجتهاد السعي بشدة
الورع، الخ.
وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعا، وبعد صوته

(61) صفر الرجل - بالبناء للمجهول -: اجتمع في بطنه الصفار، فهو
مصفور، والصفار حية في البطن تلتصق بالضلوع فتعضها عند الجوع. وقيل: حيوان
آخر بعض الضلوع والشراسيف. وقيل: دود في البطن.
(62) النحيزة كالطبيعة لفظا ومعنى.
268

وإن كان خاملا (63) وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجة إليه وإن كان
فقيرا.
وقيل: عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر ومؤنس في الحضر،
وجليس في الوحدة، وجمال في المحافل، وسبب إلى طلب الحاجة.
وقيل: الأدب الصالح خير من الشرف المضاعف.
وقال أبو نواس: ما استكثر أحد من شئ الا مله وثقل عليه الا الأدب،
فإنه كلما استكثر منه كان أشهى له وأخف عليه.
وقال: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة.
وقيل: الأديب نسيب الأديب.
وقال ابن السكيت (ره): خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه
الاذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من
الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من اخبار الناس وأقاويلهم
وأحاديثهم ولا تولعن بالغث منها. (64)
وقال أبو عمرو ابن العلاء (ره): قيل لمنذر بن واصل: كيف شهوتك
للأدب؟ فقال: اسمع بالحرف منه لم أسمعه فتود أعضائي ان لها اسماعا
تتنعم مثل ما تنعمت الاذان، قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة
المضلة ولدها وليس لها غيره. قيل: وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص
الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.
وقال الأصمعي: قال لي أعرابي: ما حرفتك؟ قلت: الأدب. قال:
نعم الشئ فعليك به، فإنه ينزل المملوك في حد الملوك.
وقال أو شهنج في وصاياه لولده: ثلاث ليس معهن غربة: حسن

(63) الصوت بمعنى الصيت، وهو الذكر الحسن والسمعة.
(64) الغث: الردي.
269

الأدب، وكف الأذى، واجتناب الريب، الخ.
وأوصى رجل بنيه فقال: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فان الرجل
تنوبه النائبة، يحتاج أن يتجمل فيها (65) فيستعير من أخيه دابة، ومن
صديقه ثوبا، ولا يجد من يعيره لسانا.
وقال آخر: الأدب مال، واستعماله كمال.
وقيل: أدب المرء خير من ذهبه.
وقيل لشريف ناقص الأدب: ان شرفك بأبيك لغيرك، وشرفك بنفسك
لك، فأفرق بنى مالك وما لغيرك، ولا تفرح بشرف النسب فإنه دون
شرف الأدب.
وأما ما قيل في الأدب من الشعر فغير معدود، ومما نسب إلى أمير المؤمنين
عليه السلام من المنظوم في الموضوع قوله:
حرض بنيك على الآداب في الصغر * كيما تقر بهم عيناك في الكبر
وإنما مثل الآداب تجمعها * في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
هي الكنوز التي تنمو ذخائرها * ولا يخاف عليها حادث الغير
ان الأديب إذا زلت به قدم * يهوى إلى فرش الديباج والسرر
الناس اثنان ذو علم ومستمع * واع وسائرهم كاللغو والعكر
وأيضا نسب إليه (ع):
كن ابن من شئت واكتسب أدبا * يغنيك محموده عن النسب
فليس يغني الحسيب نسبته * بلا لسان له ولا أدب
ان الفتى من يقول ها أنا ذا * ليس الفتى من يقول كان أبي

(65) أي يظهر بمظهر الجمال ابتغاء سرور المحبين واتقاء شماتة الشامتين،
قال الشاعر: وإذا تصبك خصاصة فتجمل.
270

وأيضا نسب إليه (ع):
ليس الجمال بأثواب تزينها * ان الجمال جمال العلم والأدب
ليس اليتيم الذي قد مات والده * ان اليتيم يتيم العقل والحسب
وأيضا نسب إليه (ع):
أيها الفاخر جهلا بالنسب * إنما الناس لام ولأب
هل تراهم خلقوا من فضة * أم حديد أم نحاس أم ذهب
هل تراهم خلقوا من فضلهم * هل سوى لحم وعظم وعصب
إنما الفخر لعقل ثابت * وحياء وعفاف وأدب
وأيضا نسب إليه (ع):
أدبت نفسي فما وجدت لها * بغير تقوى الاله من أدب، الخ
وما أحسن ما قال الشاعر:
وإذا الهموم تضيقتك ولم تجد * أحدا ومل فؤادك الأحبابا
فاعمد إلى الكتب التي قد ضمنت * أوراقها الاشعار والآدابا
فهي التي تنفي الهموم ولم تجد * أحدا له أدب يمل كتابا
وقال آخر:
أرى العلم نورا والتأدب حلية * فخذ منهما في رغبة بنصيب
وليس يتم العلم في الناس للفتى * إذا لم يكن في علمه بأديب
وقال آخر:
ذخائر المال لا تبقى على أحد * والعلم تذخرة يبقى على الأبد
والمرء يبلغ بالآداب منزلة * يذل فيها له ذو المال والعقد
وقال آخر:
ان الجواهر درها ونضارها (66) هن الفداء لجوهر الآداب

(66) النضار: الذهب والفضة. قيل: وقد غلب على الذهب.
271

فإذا اكتنزت أو ادخرت ذخيرة * تسمو بزينتها على الأصحاب
فعليك بالأدب المزين أهله * كيما تفوز ببهجة وثواب
فلرب ذي مال تراه مبعدا * كالكلب ينبح من وراء حجاب
وترى الأديب وان دهته خصاصة * لا يستخف به لدى الا تراب (67)
وقال آخر:
ما وهب الله لامرئ هبة * أحسن من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى فان فقدا * ففقده للحياة أجمل به.
وقال البستي:
من شاء عيشا رخيا يستفيد به * في دينه ثم في دنياه اقبالا
فلينظرن إلى ما فوقه أدبا * ولينظرن إلى ما دونه مالا
وقال آخر:
ولم أر عقلا صح الا بشيمة (68) * ولم أر علما صح الا على أدب
وقال آخر:
لكل شئ حسن زينة * وزينة العالم حسن الأدب
قد يشرف المرء بآدابه * فينا وإن كان وضيع النسب
وقال آخر:
من كان مفتخرا بالمال والنسب * فأنما فخرنا بالعلم والأدب
لا خير في رجل حر بلا أدب * لالا، كان منسوبا إلى العرب
وقال آخر:
لا فقر أكبر من فقر بلا أدب * ليس اليسار بجمع المال والنشب (69)

(67) دهته، أي اصابته، والخصاصة: الاحتياج، والا تراب - جمع
ترب -: من كان في سنك.
(68) الشيمة: الخلق والسجية.
(69) النشب: العقار والمال.
272

ما المال الا جزازات (70) ملفقة * فيها عيون من الاشعار والخطب
وقال آخر:
كم من خسيس وضيع القدر ليس له * في العز أصل ولا ينمى إلى حسب
قد صار بالأدب المحمود ذا شرف * عال وذا حسب محض وذا نسب
وقال البحتري:
رأيت القنوع على الاقتصاد * قنوعا به (71) ذلة في العباد
وعز بذي أدب أن يضيق * بعيشته وسع هذي البلاد
إذا ما الأديب ارتضى بالخمول * فما الحظ في الأدب المستفاد
وفي الحديث 20، من المجلس 14، من امالي الشيخ معنعنا: أنشدني
بعض أصحابنا شعرا:
اجعل تلادك في المهم * من الأمور إذا اقترب
حسن التصبر ما استطعت * فإنه نعم السبب
لا تسه عن أدب الصغير * وان شكا ألم التعب
ودع الكبير لشأنه * كبر الكبير عن الأدب
لا تصحب النطف المريب * فقربه احدى الريب
واعلم بان ذنوبه * تعدي كما يعدي الجرب
وقال آخر:
إذا لم يكن للمرء عقل يزينه * ولم يك ذا رأي سديد ولا أدب
فما هو الا ذو قوائم أربع * وإن كان ذا مال كثير وذا حسب

(70) جزازات، جمع جزازة، وهي من كل شئ ما يسقط منه عند
جزه.
(71) قنوعا حال، ويحتمل أن يكون مفعولا لأجله.
273

الفائدة السادسة:
البحث حول قوله (ع): " أضم آراء الرجال بعضها إلى بعض، لخ "
أقول: هذا القول وأشباهه ترغيب منه عليه السلام في المشاورة، وحث
على الاجتماع مع أرباب العقول الثاقبة، والحلوم الزاكية لإجالة الرأي،
والمفاهمة، واصطفاء أصوب الفكرين، وأصح الرايين، وأتقن النظرين،
ليتوصل به إلى جلب المنافع، ودفع المضار، لا سيما عند انقلاب وضع
الناس، وتبدل سيرتهم، وطرو الحوادث المدهشة، وهذا أمر ارتكازي قد
أطبقت العقلاء عليه كافة، ولكن لأجل عروض دواعي الانحراف على العقلاء
من العجب والتكبر وغيرهما واهمالهم هذا الامر الخطير، أو استنتاج المصالح
الشخصية أو الدنيوية المضادة للمصالح الأخروية منه، حض الشارع المقدس
عليه مع شرائط استعماله وبيان ما ينبغي أن يستعمل فيه. فخاطب نبيه (ص)
ارشادا إلى ما هو المعروف بينهم من قولهم: " إياك أعني واسمعي يا جارة "
وتعليما للموحدين، وتأليفا لقلوبهم، فقال في الآية 153، من سورة آل
عمران: " وشاورهم في الامر، فإذا عزمت فتوكل على الله، الخ " ووصف
الله المؤمنين ملحا لهم بقوله في الآية 36، من سورة الشورى: " وأمرهم
شورى بينهم، الخ ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما شقي عبد قط بمشورة،
ولا سعد باستغناء رأي.
وقال (ص): إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم،
وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم
شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم، فبطن
274

الأرض خير لكم من ظهرها.
وقال (ص): المستشار مؤتمن، والمستشير معان.
وقال (ص): ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار. رواها
بأجمعها جمال المفسرين أبو الفتوح الرازي (ره) في تفسيره، والحديث
الأخير رواه أيضا في العقد الفريد: 1، 33، ط 2.
وفي الحديث 66، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 293 معنعنا،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي لا تشاورن جبانا فإنه يضيق عليك
المخرج، ولا تشاورن بخيلا فإنه يقصر بك عن غايتك، ولا تشاورن حريصا،
فإنه يزين لك شرها، واعلم أن الجبن والبخل والحرص غريزة يجمعها
سوء الظن.
وقال لقمان الحكيم في مواعظه لابنه: يا بني شاور الكبير، ولا تستحي
من مشاورة الصغير، الخ (72).
وروى البرقي عن النبي (ص) معنعنا انه أوصى عليا (ع)، وقال له
فيما قال: لا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير. المحاسن 600،
ط 1، ورواه عنه في الوسائل: 5، 424، في الحديث 1، من الباب 21،
من أحكام العشرة.
وعن النبي (ص): الحزم ان تستشير ذا الرأي وتطيع أمره. الحديث
الرابع، من الباب 20، من أبواب أحكام العشرة، من المستدرك: 2، 65.
وعن مجالس ابن الشيخ (ره) معنعنا، قال قال النبي صلى الله عليه
وآله: استرشدوا العاقل ولا تعصوه فتندموا.
وعن اعلام الدين عنه (ص): قال: إذا شاور عليك العاقل الناصح
فاقبل، وإياك والخلاف عليهم فان فيه الهلاك (73).

(72) الاختصاص للشيخ المفيد (ره) ص 338، ط 2.
(73) الحديث الثالث والرابع، من المستدرك: 2، 65.
275

وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله، فقيل له: ما الحزم؟ قال:
مشاورة ذوي الرأي واتباعهم. رواه في الحديث 1، من الباب 21، من
أبواب أحكام العشرة، من الوسائل: 5، 424، عن المحاسن 601.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: استشر أعداءك تعرف من رأيهم مقدار
عداوتهم ومواضع مقاصدهم.
وفي المختار 161، من قصار نهج البلاغة: من استبد برأيه هلك،
ومن شاور الرجال شاركها في عقولها.
وفي المختار 54، منها: ولا ظهير كالمشاورة.
وفي المختار 113، منها قال (ع): ولا مظاهرة أوثق من المشاورة.
وفي المختار 211، من القصار: والاستشارة عين الهداية، وقد خاطر
من استغنى برأيه، الخ.
وقال (ع) في وصيته إلى الامام المجتبى (ع): وإياك ومشاورة
النساء، فان رأيهن إلى أفن، وعزمهن إلى وهن، الخ.
وفي الحديث الأربعمأة قال (ع): ما عطب امرء استشار.
وروى العياشي عنه (ع) أنه قال: من لم يستشر يندم. الحديث
1 و 2، من الباب 20، من أحكام العشرة، من المستدرك: 2، 65.
وفي كنز الفوائد، للعلامة الكراجكي (ره) ص 171، ط 1،
عنه (ع): لا رأي لمن انفرد برأيه.
وقال أيضا: ما عطب من استشار.
وقال (ع): من شاور ذوي الألباب دل على الرشاد.
وروى البرقي (ره) في المحاسن 601، ط 1، عن الإمام الباقر عليه
السلام معنعنا، أنه قال: في التوراة أربعة أسطر: من لا يستشر يندم،
والفقر الموت الأكبر، كما تدين تدان، ومن ملك استأثر. ورواه عنه في
276

الحديث 3، من الباب 21، من أحكام العشرة من الوسائل: 5، 424.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: استشر العاقل من الرجال الورع،
فإنه لا يأمر الا بخير، وإياك والخلاف، فان خلاف الورع العاقل مفسدة
في الدين والدنيا.
وقال (ع): ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه مالا قبل له به أن يستشير
رجلا عاقلا له دين وورع. ثم قال (ع): أما انه إذا فعل ذلك لم يخذله
الله، بل يرفعه الله، ورماه بخير الأمور، وأقربها إلى الله.
وقال أيضا: ان المشورة لا تكون الا بحدودها، فمن عرفها بحدودها،
والا كانت مضرتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأولها أن يكون الذي
يشاوره عاقلا، والثانية أن يكون حرا متدينا، والثالثة أن يكون صديقا
مواخيا، والرابعة ان تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك بنفسك ثم
يستر ذلك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلا انتفعت بمشورته، وإذا كان حرا
متدينا جهد نفسه في النصيحة لك، وإذا كان صديقا مواخيا كتم سرك إذا
أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرك فكان علمه به كعلمك تمت المشورة
وكملت النصيحة، الخ (74).

(74) المحاسن للبرقي (ره) ص 601، ط 1، ورواها بأجمعها عنه في
الحديث 5، إلى 8، من الباب 22، من أحكام العشرة من الوسائل: 5،
426، الطبعة الحديثة، وبهذا وأمثاله مما بين فيه شرائط المشورة وحدودها
يتضح بطلان ما يحكي عن عبد الملك بن صالح الهاشمي من قوله: ما استشرت
واحدا قط الا تكبر علي، وتصاغرت له، ودخلته العزة، ودخلتني الذلة،
فإياك والمشورة، وان ضاقت عليك المذاهب، واستشبهت عليك المسائل،
وأداك الاستبداد إلى الخطاء الفادح.
وما قال عبد الله بن طاهر: ماحك جلدك مثل ظفرك، ولئن أخطئ مع
الاستبداد الف خطأ أحب إلي من أن استشير أرى بعين النقص والحاجة.
وكان يقال: الاستشارة إذاعة السر، ومخاطرة بالامر الذي ترومه بالمشورة،
فرب مستشار أذاع عنك ما كان فيه فساد تدبيرك.
277

وقال (ع): المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل.
وقال (ع): لا تشر على المستبد برأيه.
وعنه (ع): من استشار أخاه فلم يمحضه محض الرأي سلبه الله
عز وجل رأيه. رواه البرقي (ره) في المحاسن 602. وروى أيضا معنعنا
عنه (ع) في المحاسن 601، أنه قال: لن يهلك امرؤ عن مشورة. ورواهما
عنه، في الحديث 4، من الباب 21 و 22، من أحكام العشرة، من الوسائل:
5، 424 و 427.
وعن الشهيد (ره) في الدرة الباهرة، قال قال الإمام الكاظم عليه
السلام: من استشار لم يعدم عند الصواب مادحا، وعند الخطاء عاذرا.
الحديث 6، من الباب 20، من أحكام العشرة، من مستدرك الوسائل:
2، 65.
278

الفائدة السابعة:
في ما قاله الحكماء والعظماء في المشاورة
سئل بعض الحكماء: اي الأمور أشد تأييدا للعقل، وأيها أشد اضرارا
به؟ فقال: أشدها تأييدا له ثلاثة أشياء: مشاورة العلماء، وتجربة الأمور،
وحسن التثبت، وأشدها اضرارا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون،
والعجلة.
وأشار حكيم على حكيم برأي فقال: لقد قلت بما يقول الناصح
الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمره، وسهله بوعره، ويحرك الاشفاق
منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيت النصح وقبلته إذ كان مصدره عند
من لا يشك في مودته، وصفاء غيبه، ونصح حبيبه، وما زلت بحمد الله
إلى الخير طريقا واضحا، ومنارا بينا.
وقال أو شنهج في وصاياه للملوك وولده: أربع خصال ضعة في الملوك
والاشراف: التعظم، ومجالسة الاحداث والنساء، ومشاورتهن، وترك
ما يحتاج إليه من الأمور فيما يعمله بيده ويحضره بنفسه، لا يكون الملك
ملكا حتى يأكل من غرسه، ويلبس من طرازه، وينكح من تلاده، ويركب
من نتاجه، واحكام هذه الأمور بالتدبير، والتدبير بالمشورة، والمشورة
279

الوزراء الناصحين المستحقين لرتبهم، الخ.
وأوصى ابن هبيرة ولده، فقال: لا تكن أول مشير، وإياك والرأي
الفطير، ولا تشر على مستبد، فان التماس موافقته لؤم، والاستماع منه
خيانة.
وكان ابن ظرب حكيم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر،
وإياكم والرأي الفطير.
وكان المهلب يقول: ان من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون
من يبصره.
وقيل لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم. قال: نحن ألف رجل،
وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره فكأنا الف حازم.
وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار 161، من قصار النهج: واما
المادحون للمشورة فكثير جدا، وقالوا: خاطر من استبد برأيه. وقالوا:
المشورة راحة لك وتعب على غيرك. وقالوا من أكثر من المشورة لم يعدم
عند الصواب مادحا، وعند الخطاء عاذرا. وقالوا: المستشير على طرف
النجاح، والاستشارة من عزم الأمور. وقالوا: المشورة لقاح العقول
ورائد لصواب. ومن ألفاظهم البديعة: ثمرة رأي المشير أحلى من الارى
المشور. (75) وقيل: إذا استشرت انسانا صار عقله لك. وقال اعرابي:
ما غبنت قط حتى يغبن قومي. قيل: وكيف ذاك؟ قال لا افعل شيئا حتى
أشاورهم. وقيل: من أعطى الاستشارة لم يمنع الصواب، ومن أعطى
الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطى
الشكر لم يمنع المزيد.
وفي آداب ابن المقفع: لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال

(75) الارى - كفلس -: العسل. والمشور: المستخرج.
280

ظهر منك للناس حاجتك إلى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة، فإنك
لا تريد الرأي للفخر، ولكن للانتفاع به، ولو انك أردته للذكر، لكان
أحسن الذكر عند العقلاء أن يقال: إنه لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي
من اخوانه.
281

الفائدة الثامنة:
في نبذ مما قاله الشعراء في المشورة.
قال الشاعر: شاور صديقك في الخفي المشكل * واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه * في قوله شاورهم وتوكل
وقال آخر:
الرأي كالليل مسود جوانبه * والليل لا ينجلي الا باصباح
فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى * مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
وقال الأرجاني:
شاور سواك إذا نابتك نائبة * يوما وان كنت من أهل المشورات
فالعين تنظر منها ما دنا ونأى * ولا ترى نفسها الا بمرآة
وقال آخر:
إذا كنت في حاجة مرسلا * فأرسل حكيما ولا توصه
وان ناب أمر عليك التوى * فشاور لبيبا ولا تعصه
ونص الحديث إلى أهله * فان الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الاله * تبين ذلك في شخصه
وقال بشار:
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن * بعزم نصيح أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فان الخوافي عدة للقوادم.
282

الفائدة التاسعة:
في معنى الصبر وفي الشواهد التي تناسب قوله (ع): " ألق عنك
واردات الهموم بعزائم الصبر ".
قال المحقق الطوسي رحمه الله: الصبر حبس النفس عن الجزع عند
المكروه، وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشكاية، والأعضاء
عن الحركات غير المعتادة.
وقال الراغب: الصبر: الامساك في ضيق، يقال: صبرت الدابة اي
حبستها بلا علف، وصبرت فلانا أي حلفته حلفة لا خروج له منها، والصبر حبس
النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر
لفظ عام وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس
النفس لمصيبة سمي صبرا لاغير، ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي
شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر،
ويضاده الضجر، وإن كان في امساك الكلام سمي كتمانا، ويضاده الإذاعة،
وقد سمى الله تعالى كل ذلك صبرا، ونبه عليه بقوله: والصابرين في البأساء
والضراء وحين البأس. والصابرين على ما أصابهم. والصابرين والصابرات.
وسمى الصوم صبرا لكونه كالنوع له، وقوله: اصبروا وصابروا، أي
احبسوا أنفسكم على العبادة، وجاهدوا أهواءكم، وقوله: عز وجل:
اصطبر لعبادته، أي تحمل الصبر بجهدك، وقوله: أولئك يجزون الغرفة
بما صبروا، أي بما تحملوه من الصبر في الوصول إلى مرضاة الله.
إذا تقرر هذا فلنأت ببعض ما ورد عن المعصومين (ع) في الحث
على الصبر فنقول: روي في الحديث الثاني عشر، من الباب 47، من كتاب
283

الكفر والايمان، من الكافي 91، معنعنا قال قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: سيأتي على الناس زمان لا ينال الملك فيه الا بالقتل والتجبر، ولا
الغنى الا بالغصب والبخل، ولا المحبة الا باستخراج الدين (76) واتباع
الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى،
وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على
العز آتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي. ورواه في البحار: 15،
145 عن علي (ع). وسأله جابر بن عبد الله الأنصاري (ره) عن الايمان.
فقال (ص): الصبر والسماحة (77).
وفي الحديث الخامس عشر، من الباب، معنعنا عنه (ع) قال: الصبر
ثلاثة، صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، ومن
صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمأة درجة ما بين
الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، ومن صبر على الطاعة
كتب الله له ستمأة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض
إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمأة درجة ما بين
الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش. وقريب منه
في باب الصبر، من البحار: 2، من 15، 145، نقلا عن المجالس.
وروى ابن أبي الحديد، في شرح المختار 22، من خطب النهج،
عنه (ص) أنه قال: ان الصبر نصف الايمان، واليقين الايمان كله.
وقال علي عليه السلام: الصبر مفتاح الظفر، والتوكل على الله
رسول الفرج.

(76) اي طلب خروج الدين من القلب، أو بطلب خروجهم من الدين.
(77) كما في شرح الخطبة 22، من النهج من شرح ابن أبي الحديد:
1، 124، ط بيروت.
284

وقال (ع) انتظار الفرج بالصبر عبادة. (78)
وقال عليه السلام: لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان. المختار
153، من قصار نهج البلاغة. وفي المختار 55 منها قال (ع): الصبر
صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب.
وقال (ع) لأشعث بن قيس: ان صبرت جرى عليك القدر وأنت
مأجور، وان جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور، الخ، المختار 291،
من قصار النهج وغيره.
وتواتر عنه (ع) قوله: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد،
فلا خير في ايمان لا صبر معه، كما أنه لا خير في جسد لا رأس معه.
ونقل ابن أبي الحديد، في شرح المختار 22، من خطب النهج أنه قال
(ع): الصبر اما صبر على المصيبة، أو على الطاعة أو عن المعصية (79).
وعنه (ع): الحياء زينة، والتقوى كرم، وخير المراكب مركب الصبر
وعنه عليه السلام: القناعة سيف لا ينبو، والصبر مطية لا تكبو،
وأفضل العدة الصبر على الشدة.
وسئل عليه السلام: أي شئ أقرب إلى الكفر؟ قال: ذو فاقة
لا صبر له.
وقال عليه السلام: الصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان
الزمان.
وفي باب الصبر. من البحار: 15، 146، مرسلا عن التمحيص قال
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ان للنكبات غايات لابد ان تنتهي إليها، فإذا

(78) رواها ابن أبي الحديد، في شرح الخطبة المشار إليها مع كلم أخرى
مذكورة في النهج وفى كنز الفوائد.
(79) وهذا مروي عنه وعن الأئمة من ولده عليهم السلام من طريقنا أيضا.
285

حكم على أحدكم بها فليطأطئ لها ويصبر حتى يجوز، فان اعمال الحيلة
فيها عند اقبالها زائد في مركوهها. وهذا الكلام نقلناه في الباب الخامس،
من نهج السعادة، من طرق أخرى أيضا. وكلامه (ع) في هذا المعنى
وأشباهه أكثر من أن يحصى.
وقال الامام المجتبى عليه السلام: الحمد لله الذي لو كلف (كلفنا خ)
الجزع على المصيبة لصرنا إلى معصيته، وآجرنا على الصبر الذي لابد من
الرجوع إليه. (80)
وقال (ع): جربنا وجرب المجربون فلم نر شيئا أنفع وجدانا ولا
أضر فقدانا من الصبر، نداوي به الأمور، ولا يداوي هو بغيره. رواه
في شرح المختار 22، من خطب النهج، من شرح ابن أبي الحديد: 1، 123،
ط بيروت.
وقال الإمام السجاد عليه السلام: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من
الجسد، ولا ايمان لمن لا صبر له. الحديث الرابع، من باب الصبر، من
أصول الكافي معنعنا.
وفي الحديث الثالث عشر، من الباب معنعنا، عن أبي جعفر عليه السلام
قال: لما حضرت أبي علي بن الحسين عليهما السلام الوفاة ضمني إلى صدره
وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن
أباه أوصاه به: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله، يا بني
اصبر على الحق وإن كان مرا. (81)

(80) جاويدان خرد: (الحكمة الخالدة) لابن مسكويه (ره)، ص 117.
وقريب منه في شرح المختار 144، من قصار النهج، من شرح ابن أبي الحديد
الا أنه قال: وكان الحسن يقول في قصصه: الحمد لله الذي، الخ.
(81) وهذا الحديث لم يذكره ثقة الاسلام (ره) بأجمعه في الباب المشار
إليه، بل القطعة المتوسطة ذكرها في الحديث 5، من باب الظلم. وروى في
الوافي: 2، 66، ط 2، عن الصدوق (ره) في الفقيه، عن الثمالي قال
قال أبو جعفر عليه السلام: لما حضرت أبي الوفاة ضمني إلى صدره وقال:
يا بني اصبر على الحق وإن كان مرا توف أجرك بغير حساب.
286

وروي البحار: 2، من 15، 145، عن المجالس، عن الإمام الرضا
(ع) باسناده، عن علي بن الحسين (ع) قال: خمسة لو دخلتم
فيهن لأصبرتموهن: لا يخاف عبد الا ذنبه، ولا يرجو الا ربه، ولا يستحي
الجاهل إذا سئل عما لا يعلم، والصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد،
ولا ايمان لمن لا صبر له.
وروى ثقة الاسلام الكليني قدس سره، في الحديث السابع، من باب
الصبر، من الكافي معنعنا، عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: الجنة
محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة،
وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها
دخل النار.
وفي الحديث الرابع عشر، من الباب معنعنا، عنه (ع) أنه قال:
الصبر صبران: صبر على البلاء حسن جميل، وأفضل الصبرين الورع
عن المحارم.
وفي الحديث 22، من الباب معنعنا قال (ع): مروءة الصبر في حال
الحاجة والفاقة، والتعفف والغنى (والعناء خ) أكثر من مروءة الاعطاء.
وفي الحديث 23، من الباب معنعنا، عن جابر قال: قلت لأبي جعفر عليه
السلام: يرحمك الله ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه
شكوى الناس.
وفي الحديث 24، من الباب معنعنا، عن أبي النعمان، عن أبي عبد الله
287

- أو أبي جعفر عليهما السلام - قال: من لا يعد الصبر لنوائب الدهر يعجز.
وفي باب الصبر، من البحار: 15، 144، ج 2، معنعنا عن الخصال،
عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: العبد بين ثلاثة: بلاء وقضاء
ونعمة، فعليه في البلاء من الله الصبر فريضة، وعليه في القضاء من الله
التسليم فريضة، وعليه في النعمة من الله الشكر فريضة.
وفي الباب أيضا، ص 146، س 3 عكسا، نقلا عن مشكاة الأنوار،
قال قال الإمام الباقر (ع): من صبر واسترجع، وحمد الله عند المصيبة،
فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه
القضاء وهو ذميم، وأحبط الله أجره.
وفيه ص 145، س 3 عكسا، نقلا عن المجالس: وسئل محمد بن
علي (ع) عن الصبر الجميل، فقال: شئ لا شكوى فيه، ثم قال: وما في
الشكوى من الفرج فإنما هو يحزن صديقك، ويفرح عدوك.
وقال الإمام الصادق عليه السلام لأصحابه: عليكم بالصبر، فان به
يأخذ الحازم، واليه يعود الجازع. (82) جاويدان ان خرد (الحكمة الخالدة)
لابن مسكويه (ره) ص 117.
وفي الحديث الأول، من الباب 47، من كتاب الايمان والكفر، من
الكافي: 2، 87، معنعنا عنه (ع): الصبر رأس الايمان.
وفي الحديث الثاني، من الباب معنعنا، قال (ع): الصبر من الايمان
بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب
الصبر ذهب الايمان.

(82) وفى شرح المختار 144، من قصار النهج، ص 418، قال ابن أبي
الحديد: وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول عند التعزية: عليكم بالصبر،
فان به يأخذ الحازم، ويعود إليه الجازع.
288

وفي الحديث الثالث، من الباب معنعنا، عن حفص بن غياث، قال
قال أبو عبد الله عليه السلام: يا حفص ان من صبر صبر قليلا، ومن جزع
جزع قليلا، ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك، فان الله عز وجل بعث
محمدا صلى الله عليه وآله نأمره بالصبر والرفق فقال: " واصبر على ما
يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين اولي النعمة (83) " وقال
تبارك وتعالى: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم وما يلقيها الا الذين صبروا وما يلقيها الا ذو حظ عظيم (84) "
فصبر رسول الله صلى الله عليه وآله حتى نالوه بالعظائم ورموه بها (85)،
فضاق صدره فأنزل الله عز وجل: " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون
فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (86) " ثم كذبوه ورموه فحزن لذلك
فأنزل الله عز وجل: " قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسول من قبلك فصبروا
على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا (87) " فألزم النبي صلى الله عليه وآله
نفسه الصبر، فتعدوا فذكروا الله تبارك وتعالى وكذبوه، فقال: قد صبرت
في نفسي وأهلي وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي، فأنزل الله عز وجل:
" ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب
فاصبر على ما يقولون (88) " فصبر النبي صلى الله عليه وآله في جميع

(83) المزمل: 10. والهجر الجميل هو ان يجانبهم ويداريهم ولا يكافيهم
ويكل أمرهم إلى الله تعالى.
(84) فصلت: 35.
(85) قيل: المراد من العظائم: الكذب والجنون والسحر.
(86) الحجر: 97 و 98.
(87) الانعام: 33، 34.
(88) ق: 38. واللغوب: التعب والاعياء.
289

أحواله، ثم بشر في عترته بالأئمة ووصفوا بالصبر فقال جل ثناؤه: " وجعلناهم
أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (89) " فعند ذلك قال
صلى الله عليه وآله: الصبر من الايمان كالرأس من الجسد، فشكر الله عز
وجل له ذلك، فأنزل الله عز وجل: " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل
بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (90) "
فقال صلى الله عليه وآله انه بشرى وانتقام، فأباح الله عز وجل له قتال
المشركين فأنزل الله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم
واقعدوا لهم كل مرصد (91) " وقال تعالى: " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " (92)
فقتلهم الله على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأحبائه، وجعل له ثواب
صبره مع ما ادخر له في الآخرة، فمن صبر واحتسب لم يخرج من الدنيا
حتى يقر الله له عينه في أعدائه مع ما يدخر له في الآخرة. ورواه القمي أيضا.
وروي في الوافي: 2، 65، ط 2، عن الصدوق (ره) في الفقيه،
قال قال الصادق عليه السلام: الصبر صبران، فالصبر عند المصيبة حسن
جميل، وأفضل من ذلك الصبر عما حرم الله عز وجل ليكون لك حاجزا.
وقريب منه في باب الصبر من البحار: 2، من 15، 146، نقلا عن التمحيص.
وفي الحديث الخامس، من باب الصبر، من الكافي معنعنا عنه (ع)
الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد،
كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان.
وفي الحديث الثامن، من الباب معنعنا قال (ع): إذا دخل المؤمن
في قبره كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبر مظل (مطل خ)

(89) السجدة: 24.
(90) الأعراف: 136.
(91) التوبة: 6.
(92) البقرة: 191. ثقفه: صادفه أو أخذه أو ظفر به أو ادركه.
290

عليه، (93) ويتنحى الصبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان
مساءلته، قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فان عجزتم
عنه فأنا دونه. ورواه في باب الصبر من البحار: 2، من 15، ص 145،
عن ثواب الأعمال معنعنا.
وفي الحديث السابع عشر، من الباب معنعنا، عنه (ع) قال: من
ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه، كان له مثل أجر ألف شهيد.
وفي باب الصبر، من البحار: 15، 146، نقلا عن التمحيص، عن ابن
أبي عمير قال قال أبو عبد الله (ع): اتقوا الله واصبروا، فإنه من لم يصبر
أهلكه الجزع، وإنما هلاكه في الجزع انه إذا جزع لم يوجر.
وفيه مرسلا، نقلا عن مشكاة الأنوار، قال قال أبو عبد الله (ع):
المؤمن يطبع على الصبر على النوائب.
وفيه ص 145، نقلا عن المجالس معنعنا قال (ع): كم من صبر
ساعة قد أورثت فرحا طويلا، وكم من لذة ساعة قد أورثت حزنا طويلا.
وفيه الحديث 44، نقلا عن مصباح الشريعة، قال قال الصادق (ع):
الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء، والجزع يظهر ما في
بواطنهم من الظلمة والوحشة، والصبر يدعيه كل أحد، ولا يثبت عنده الا
المخبتون، والجزع ينكره كل أحد، وهو أبين على المنافقين، لان نزول
المحنة والمصيبة يخبر عن الصادق والكاذب.
وتفسير الصبر: ماء يستمر مذاقه، وما كان عن اضطراب لا يسمى
صبرا. وتفسير الجزع: اضطراب القلب، وتحزن الشخص، تغير السكون،
وتغير الحال، وكل نازلة خلت أوائلها من الاخبات والإنابة والتضرع إلى
الله تعالى فصاحبها جزوع غير صابر، والصبر ماء أوله مر، وآخره حلو، من

(93) يقال: أطل عليه أي اشرف عليه.
291

دخله من أواخره فقد دخل، ومن دخله من أوائله فقد خرج، ومن عرف
قدر الصبر، لا يصبر عما منه الصبر، الخ.
وفي الحديث الأخير، من باب الصبر، من البحار: 15، 147، معنعنا
عن كتاب المؤمن، عن أحدهما (ع): مامن عبد مؤمن ابتلاه الله بمكروه
وصبر الا كتب الله له أجر الف شهيد.
وعن أبي الحسن عليه السلام قال: مامن أحد يبليه الله عز وجل ببلية
فصبر عليها الا كان له أجر ألف شهيد.
وفي الحديث العاشر، من باب الصبر، من الكافي: 2، 90 معنعنا،
عن سماعة بن مهران، عن أبي الحسن عليه السلام، قال قال لي: ما حبسك
عن الحج؟ قال قلت له جعلت فداك، وقع علي دين كثير وذهب مالي،
وديني الذي قد لزمني هو أعظم من ذهاب مالي، فلولا ان رجلا من أصحابنا
أخرجني ما قدرت أن أخرج. فقال لي: ان تصبر تغتبط، والا تصبر ينفذ
الله مقاديره راضيا كنت أم كارها.
وقال الحسن بن شاذان الواسطي (ره): كتبت إلى الإمام الرضا عليه
السلام أشكو جفاء أهل واسط وحملهم علي، وكانت عصابة من العثمانية
تؤذيني، فوقع (ع) بخطه: ان الله جل ذكره أخذ ميثاق أوليائنا على الصبر
في دولة الباطل، فاصبر لحكم ربك، فلو قد قام سيد الخلق لقالوا يا ويلنا
من بعثنا من مرقدنا. وقال (ع): المصيبة للجازع اثنتان، وللصابر واحدة.
الأنوار البهية.
وقال رجل للإمام الجواد عليه السلام: عظني يا بن رسول الله. فقال
له أتقبل؟ قال نعم. فقال (ع): توسد الصبر، واعتنق الفقر، وارفض
الشهوات، وخالف الهوى، واعلم انك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون.
292

الفائدة العاشرة:
في بعض ما روي عن الحكماء والملوك والأكابر من التوصية بالصبر.
قال بعض الحكماء: انك لن تنال القليل مما تحب الا بالصبر على
الكثير مما تكره.
وقال آخر: بالصبر على مرارة العاجل ترجى حلاوة الأجل.
وقال آخر: أفضل العدة، الصبر على الشدة.
وقال آخر: الصبر كاسمه، وثمرته ثمرته.
وكتب رجل إلى أخيه: الصبر مجنة المؤمن، وسرور الموقن، وعزيمة
المتوكل، وسبب درك الحاجة، وإنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب.
وقال أرسطا طاليس في الحكم التي علمها وكتبها للإسكندر: لا ينبغي
للعاقل أن يحزن لامرين: أن يكون ما أتاه من المكروه له مدفع فيحتال
له بقلب غير مشغول بحزن، وان لم ير لما أتاه وجها ولا مدفعا ألزم قلبه
الحيلة للصبر، الخ.
وقال أو شهنج في وصيته لولده وللملوك: واعلم أن التمتع في أيام
طويلة يوجد بالصبر على أيام قليلة، الغنى الأكبر في ثلاثة أشياء: نفس عالمة
تستعين بها على دينك، وبدن صابر تستعين به في طاعة ربك، وتتزود به
لمعادك وليوم فقرك، وقناعة بما رزق الله باليأس عما عند الناس - إلى أن
قال -: والصبر احتمال الأمور المؤلمة، والمكاره الحادثة، - إلى أن
قال -: الكمال في ثلاث: الفقه في الدين، والصبر على النوائب، وحسن
التقدير في المعيشة، ويستدل على تقوى المرء بثلاث: التوكل فيما لم ينل،
وحسن الرضا بما قد نال، وحسن الصبر عما فات، ذروة الايمان أربع خلال:
293

الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والاخلاص بالتوكل، والاستسلام للرب.
ومن كلامهم: الصبر مر لا يتجرعه الا حر.
وقال أعرابي: كن حلو الصبر عند مرارة النازلة.
وقال كسرى لبزرجمهر: ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة؟
قال: ملازمة الطلب، والمحافظة، وكتمان السر.
وقال الأحنف: لست حليما إنما أنا صبور، فأفادني الصبر صفتي بالحلم.
وقيل له: انك شيخ ضعيف، وان الصيام يهدك. فقال: اني أعده
لشر يوم طويل، وان الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله.
ومن كلامه: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.
وقال أيضا: رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه.
وقال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا.
وقال ابن السماك: المصيبة واحدة، فان جزع صاحبها منها صارت
اثنتين. يعني: فقد المصاب، وفقد الثواب.
وقال الحارث المحاسبي: لكل شئ جوهر، وجوهر الانسان العقل،
وجوهر العقل الصبر.
وقال أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحمام أعذب من جني الندم.
ومن كلام بعض الزهاد: واصبر على عمل لاغناء بك عن ثوابه،
واصبر على عمل لا صبر على عقابك به.
وكتب ابن العميد: أقرأ في الصبر سورا، ولا أقرأ في الجزع آية،
وأحفظ في التماسك والتجلد قصائد، ولا أحفظ في التهافت قافية.
ووصف الحسن البصري عليا عليه السلام فقال: كان لا يجهل، وان
جهل عليه حلم، ولا يظلم، وان ظلم غفر، ولا يبخل، وان بخلت الدنيا
عليه صبر.
294

وقال بعضهم: من تبصر تصبر، الصبر يفسح الفرج، ويفتح المرتنج،
المحنة إذا تلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة والنعمة إذا خلت من الشكر
كانت محنة لازمة.
قيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بم أصبت ما أصبت؟ قال: ارتديت
بالصبر، واتزرت بالكتمان، وحالفت الحزم، وخالفت الهوى، ولم أجعل
العدو صديقا، ولا الصديق عدوا.
وحكي ان كسرى سخط على بزرجمهر، فحبسه في بيت مظلم، وأمر
ان يصفد بالحديد، فبقي أياما على تلك الحال، فأرسل إليه من يسأله عن
حاله، فإذا هو منشرح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه
الحالة من الضيق، ونراك ناعم الحال! فقال: صنعت سند أخلاط وعجنتها
واستعملتها فهي التي أبقتني على ما ترون. قالوا صف لنا هذه الاخلاط،
لعلنا ننتفع بها عند البلوى. فقال: نعم، اما الخلط الأول فالثقة بالله عز
وجل، واما الثاني فكل مقدر كائن، وأما الثالث فالصبر خير ما استعمله
الممتحن، وأما الرابع فإذا لم اصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي
بالجزع، واما الخامس فقد يكون أمر أشد مما أنا فيه، وأما السادس فمن
ساعة إلى ساعة فرج. فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزه.
295

الفائدة الحادية عشرة:
في بعض ما يناسب المقام من الاشعار.
نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
ترد رداء الصبر عند النوائب * تنل من جميل الصبر حسن العواقب
وكن حافظا عهد الصديق وداعيا * تذق من كمال الحفظ صفو المشارب
وكن صاحبا للحلم في كل مشهد * فما الحلم الأخير خدن وصاحب
وفي المختار 27، من باب الراء، من الديوان المنسوب إليه (ع):
اصبر قليلا فبعد العسر تيسير * وكل أمر له وقت وتدبير
وللمهيمن في حالاتنا نظر * وفوق تدبيرنا لله تدبير
وفي باب الهمزة من الديوان:
هي حالان شدة ورخاء * وسجالان نعمة وبلاء
والفتى الحاذق الأديب إذا ما * خانه الدهر لم يخنه العزاء
ان ألمت ملمة بي اني * في الملمات صخرة صماء
صابر في البلاء علما بأن ليس * يدوم النعيم والبلواء.
وروى ابن الشيخ الطوسي (ره) في الحديث الأخير، من المجلس 40،
من الأمالي 79، انه (ع) قال:
صبرت على مر الأمور كراهة * وأيقنت في ذاك الصواب من الامر
إذا كنت لا تدري ولم تك سائلا * عن العلم من يدري جهلت ولا تدري
ونسب إليه (ع) في المختار الثالث، من باب الراء من الديوان:
إذا شئت ان تستقرض المال منفقا * على شهوات النفس في زمن العسر
296

فسل نفسك الانفاق من كنز صبرها * عليك وانظارا إلى زمن اليسر
فان سمحت كنت الغني وان أبت * فكل منوع بعدها واسع العذر
وفي المختار الثامن، من حرف الباء، نقلا عن كتاب الفرج بعد الشدة:
اني أقول لنفسي وهي ضيقة * وقد أناخ عليها الدهر بالعجب
صبرا على شدة الأيام ان لها * عقبى وما الصبر الا عند ذي حسب
سيفتح الله عن قرب بنافعة * فيها لمثلك راحات من التعب
وفي المختار الثامن عشر، من حرف الميم، نقلا عن الكتاب:
فما نوب الحوادث باقيات ولا البوسى تدوم ولا النعيم
كما يمضي سرورك وهو جم * كذلك ما يسوؤك لا يدوم
فلا تهلك على ما فات وجدا * ولا تفروك بالأسف الهموم.
وفي المختار التاسع عشر، من حرف اللام من الديوان:
يمثل ذو العقل في نفسه * مصائبه قبل ان تنزلا
فان نزلت بغتة لم يرع * لما كان في نفسه مثلا
رأى الامر يفضي إلى آخر * فصير آخره أولا
وذو الجهل يأمن (يهمل خ) أيامه * وينسى مصارع (مصائب خ) من قد خلا
فان بدهته صروف الزمان * ببعض مصائبه اعولا
ولو قدم الحزم في نفسه * لعلمه الصبر عند البلاء.
وروى في البحار: 17، 172، السطر الأخير: ان رجلا من التجار كان
يختلف إلى جعفر بن محمد، وكان يخالطه ويعرفه بحسن حاله، فتغيرت
حاله فجعل يشكو إلى الصادق عليه السلام، فقال له:
فلا تجزع وان أعسرت يوما * فقد أيسرت في زمن طويل
ولا تيأس فان اليأس كفر * لعل الله يغني عن قليل
297

ولا تظنن بربك ظن سوء * فان الله أولى بالجميل
وقال شاعر:
اصبر لدهر نال منك * فهكذا مضت الدهور
فرج وحزن مرة * لا الحزن دام ولا السرور
وقال ديك الجن:
من كان يبغي الذل في دهره * فليطلع الناس على فقره
ما للفتى ان عضه دهره * مؤمل أكرم من صبره
وقال آخر:
هي النفس ما حملتها تتحمل * وللدهر أيام تجور وتعدل
وعاقبة الصبر الجميل جميلة * وأفضل أخلاق الرجال التحمل
وقال آخر:
لا تعتبن على النوائب * فالدهر يرغم كل عاتب
واصبر على حدثانه * ان الأمور لها عواقب
كم نعمة مطوية * لك بين أثناء النوائب
ومسرة قد أقبلت * من حيث تنتظر المصائب
وقال الأعشى:
ان نلت لم أفرح بشئ نلته * وإذا سبقت به فلا أتلهف
ومتى تصبك من الحوادث نكبة * فاصبر فكل غيابة تنكشف.
وقال العتابي:
اصبر إذا بدهتك نائبة * ما عال منقطع إلى الصبر
الصبر أولى ما اعتصمت به * ولنعم حشو جوانح الصدر
وقال آخر:
ويوم كيوم البعث ما فيه حاكم * ولا عاصم الا قنا ودروع
298

حبست به نفسي على موقف الردى * حفاظا وأطراف الرماح شروع
وما يستوي عند الملمات ان عرت * صبور على مكروهها وجزوع.
وقال أبو حية النميري:
اني رأيت وفي الأيام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يحاوله * واستصحب الصبر الا فاز بالظفر
وقال عبد العزيز الكلابي:
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق * شتى فقاسيت منه الحلو والبشعا
كلا بلوت فلا النعماء تبطرني * ولا تخشعت من لأوائها جزعا
لا يملأ الامر صدري قبل موقعه * ولا يضيق به صدري إذا وقعا
وقال النمري في الرشيد:
وليس لأعباء الأمور إذا عرت * بمكترث لكن لهن صبور
يرى ساكن الأطراف باسط وجهه * يريك الهوينا والأمور تطير
وقال نهشل بن حرى:
ويوم كأن المصطلين بحرة * وان لم يكن جمرا قيام على جمر
صبرنا له حتى تجلى وإنما * تفرج أيام الكريهة بالصبر.
299

الفائدة الثانية عشرة
في الآثار الدالة على وجوب اللجأ والاعتصام بالله المناسبة لقوله (ع):
" والجئ نفسك في الأمور كلها إلى الله الواحد القهار، الخ ".
فعن ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث الأول، من باب التفويض
إلى الله، معنعنا عن الإمام الصادق (ع) قال: أوحى الله عز وجل إلى داود
عليه السلام: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك
من نيته ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن الا جعلت له المخرج من
بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته الا
قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه، وأسخت (94) الأرض من تحته،
ولم أبال بأي واد هلك. ورواه في الباب العاشر، من أبواب جهاد النفس،
من المستدرك، من مشكاة الأنوار.
وفي الحديث التاسع، من الباب الحادي عشر، من الكتاب: 2، 288،
عن لب اللباب، عن النبي (ص) قال: من توكل وقنع ورضي كفي المطلب.
وفي الحديث العاشر وما يليه منه قال (ص): من أصابته فاقة فأنزلها
بالناس لم يسدوا فاقتها، ومن أنزلها بالله أوشك الله له الغنى، اما موتا
عاجلا أو غنى آجلا.
وقال (ص): لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير
تغدو خماصا وتروح بطانا
ورأي (ص) قوما لا يزرعون، قال ما أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون،
قال: لا. بل أنتم المتأكلون (ط).

(94) من الإساخة، بمعنى الخسف.
300

وقال (ص): لا تتكل إلى غير الله فيكلك الله إليه، ولا تعمل لغير
الله فيجعل ثوابك عليه.
وروى الشيخ الطوسي (ره)، في الأمالي معنعنا، عن محمد بن
عجلان، قال: أصابتني فاقة شديدة وإضاقة، ولا صديق لمضيق، ولزمني
دين ثقيل وغريم يلج باقتضائه، فتوجهت نحو دار الحسن بن زيد، وهو
يومئذ أمير المدينة لمعرفة كانت بيني وبينه، وشعر بذلك من حالي محمد بن
عبد الله بن علي بن الحسين، وكان بيني وبينه قديم معرفة، فلقيني في الطريق
فأخذ بيدي، وقال لي قد بلغني ما أنت بسبيله، فمن تؤمل لكشف ما نزل بك؟
قلت الحسن بن زيد، فقال إذ لا تقضى حاجتك، ولا تسعف بطلبتك،
فعليك بمن يقدر على ذلك، وهو أجود الأجودين، فالتمس ما تؤمله من
قبله، فاني سمعت ابن عمي جعفر بن محمد يحدث عن أبيه، عن جده، عن
أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، عن النبي
صلى الله عليه وآله قال: أوحى الله إلى بعض أنبيائه، في بعض وحيه إليه:
وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري بالإياس ولأكسونه ثوب المذلة
في النار، ولأبعدنه من فرجي وفضلي، أيؤمل عبدي في الشدائد غيري
والشدائد بيدي، أو يرجو سواي وانا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب،
وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني، ألم يعلم أن ما دهته نائبة لم يملك
كشفها عنه غيري، فما لي أراه بأمله معرضا عني، قد أعطيته بجودي وكرمي
ما لم يسألني، فأعرض عني ولم يسألني وسأل في نائبته غيري وأنا الله أبتدأ
بالعطية قبل المسألة، أفأسأل فلا أجيب، كلا! أوليس الجود والكرم لي،
أوليس الدنيا والآخرة بيدي، فلو ان أهل سبع سماوات وأرضين سألوني
جميعا، فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك عن ملكي مثل جناح
بعوضة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه فيا بؤس لمن عصاني ولم يراقبني.
301

فقلت له: يا بن رسول الله أعد علي هذا الحديث، فأعاده ثلاثا، فقلت
لا والله، لا سألت أحدا بعد هذا حاجة، فما لبثت ان جائني الله برزق وفضل
من عنده.
وفي الحديث 14، من الباب 11، من أبواب جهاد النفس، من
المستدرك: 2، 289، ط 1، عن النبي (ص) قال: قضى الله على نفسه
انه من آمن به هداه، ومن اتقاه وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن اقرضه
أنماه، ومن وثق به أنجاه، ومن التجأ إليه آواه، ومن دعاه أجابه ولباه،
وتصديقها من كتاب الله: ومن يؤمن بالله يهد قلبه. ومن يتق الله يجعل
له مخرجا. ومن يتوكل على الله فهو حسبه. من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا فيضاعفه. ومن يعتصم بالله فقد هدي. وأنيبوا إلى ربكم. وإذا
سألك عبادي، الآية.
وفي الحديث السابع، من باب التوكل، من الكافي معنعنا، عن الحسين
بن علوان قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض
الاسفار، فقال لي بعض أصحابنا: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت فلانا.
فقال إذا والله لا تسعف حاجتك (95)، ولا يبلغك أملك، ولا ينجح طلبتك.
قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال: ان أبا عبد الله عليه السلام حدثني أنه
قرأ في بعض الكتب: ان الله تبارك وتعالى يقول: وعزتي وجلالي ومجدي
وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل (من الناس) غيري باليأس،
ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه (96) من قربي ولأبعدنه من

(95) أسعف حاجته اي قضاها له. وفى بعض النسخ: لا يسقف، وفى
أكثرها لا تسعف. وكذا قوله: لا تنجح، فيهما بالتاء على بناء المفعول، وبالياء
على الفاعل، والنجاح: الفوز والوصول بالبغية.
(96) أي لأبعدنه ولأزيلنه.
302

فضلي، أيؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي، ويرجو غيري، ويقرع
بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن
دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها ومن ذا الذي رجاني
لعظيمة فقطعت رجاءه مني، جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم يرضوا
بحفظي وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم ان لا يغلقوا
الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم أن من طرقته نائبة من
نوائبي انه لا يملك كشفها أحد غيري الا من بعد اذني، فمالي أراه لاهيا
عني، أعطيته بجودي ما لم يسألني ثم انتزعته فلم يسألني رده وسأل غيري،
أفيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب سائلي، أبخيل أنا
فيبخلني عبدي، أوليس الجود والكرم لي، أوليس العفو والرحمة بيدي،
أوليس أنا محل الآمال، فمن يقطعها دوني، أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا
غيري، فلو ان أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا، ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص
ملك أنا قيمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني.
وفي الحديث الثامن، من الباب معنعنا، عن سعد بن عبد الرحمان
قال: كنت مع موسى بن عبد الله بينبع وقد نفدت نفقتي في بعض الاسفار،
فقال لي بعض ولد الحسين: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: موسى بن
عبد الله. فقال: إذا لا تقضى حاجتك، ثم لا تنجح طلبتك قلت: ولم ذاك؟
قال: لأني قد وجدت في بعض كتب آبائي: ان الله عز وجل يقول: وعزتي
وجلالي - ثم ذكر مثل ما في الحديث السابق - فقلت: يا بن رسول الله
أمل علي، فأملاه علي، فقلت: لا والله ما أسأله حاجة بعدها.
وفي كنز الفوائد قال قال لقمان لابنه: يا بني ثق بالله عز وجل، ثم
سل في الناس هل من أحد وثق بالله فلم ينجه، يا بني توكل على الله، ثم
303

سل في الناس من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه، يا بني أحسن الظن
بالله، ثم سل في الناس من ذا الذي أحسن الظن بالله فلم يكن عند حسن
ظنه به.
وفي الاختصاص 337، ط 2، والمستدرك: 2، 289، عنه، عن
الأوزاعي عن لقمان قال لابنه: يا بني من ذا الذي عبد الله فخذله، ومن ذا
الذي ابتغاه فلم يجده، ومن ذا الذي ذكره فلم يجده، ومن ذا الذي توكل
على الله فوكله إلى غيره، ومن ذا الذي تضرع إليه جل ذكره فلم يرحمه.
وعن مشكاة الأنوار وفقه الرضا: أوحى الله تعالى إلى داود عليه
السلام: انه ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من
نيته ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن الا جعلت له المخرج من
بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته،
الا قطعت أسباب السماوات من بين يديه، وأسخت الأرض من تحته ولا
أبالي في أي واد هلك. الحديث الثالث، من باب وجوب الاعتصام بالله،
من مستدرك الوسائل: 2، 288.
وفي الحديث الخامس، من الباب مسندا، عن صحيفة الرضا، ومرسلا
عن روضة الواعظين، عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يقول الله عز
وجل: مامن مخلوق يعتصم بمخلوق دوني الا قطعت أسباب السماوات
والأرض دونه، فان سألني لم اعطه، وان دعاني لم أجبه، وما من مخلوق
يعتصم بي دون خلقي الا ضمنت السماوات والأرض رزقه، فان سألني
أعطيته، وان دعاني أجبته، وان استغفرني غفرت له. وذكره الشيخ
الطوسي (ره) أيضا معنعنا في أماليه.
وفي الحديث السادس، من الباب مرسلا، عن الراوندي في لب اللباب،
عن النبي صلى الله عليه وآله قال: يقول الله: مامن عبد نزلت به بلية
304

فاعتصم بي دون خلقي الا أعطيته قبل أن يسألني.
وفي الحديث الثالث، من الباب الحادي عشر، من الكتاب معنعنا،
عن أمالي الطوسي، عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
يا أبا ذر ان سرك أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وان سرك أن تكون
أكرم الناس فاتق الله عز وجل، وان سرك أن تكون اغنى الناس فكن بما في
يدي الله عز وجل أوثق بما في يديك، يا أبا ذر لو أن الناس كلهم اخذوا
بهذه الآية لكفتهم: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث
لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ أمره قد جعل الله لكل
شئ قدرا ".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من اعتصم بالله نجاه.
وقال أيضا: من اعتصم بالله لم يضره شيطان.
وقال (ع): من اعتصم في أحوالك كلها بالله فإنك تعتصم منه سبحانه
بمانع عزيز، ألجئ نفسك في الأمور كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف
حريز. رواها بأجمعها في الحديث السابع، من الباب العاشر، من أبواب
جهاد النفس، من المستدرك: 2، 288، عن الآمدي في الغرر.
وفي الحديث الأول، من الباب الحادي عشر، من الكتاب معنعنا،
بأسناده عن الجعفريات والمحاسن وقرب الإسناد، قال قال أمير المؤمنين عليه
السلام: الايمان له أركان أربعة: التوكل على الله، والتفويض إليه، والتسليم
لامر الله، والرضا بقضاء الله تعالى.
وفي الحديث التاسع عشر، من الباب، عن الكراجكي (ره) في معدن
الجواهر، قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: خصلة من عمل بها كان من
أقوى الناس. قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: التوكل على الله
عز وجل.
305

وفي الحديث الأخير، من الباب، نقلا عن تفسير الشيخ أبي الفتوح
رحمه الله قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام يوما على قوم فرآهم أصحاء
جالسين في زاوية المسجد، فقال (ع) من أنتم؟ قالوا نحن المتوكلون.
قال (ع): لا، بل أنتم المتأكلة، فان كنتم متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟
قالوا: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. قال (ع): هكذا تفعل
الكلاب عندنا. قالوا: فما نفعل؟ قال: كما نفعل. قالوا: كيف تفعل؟
قال (ع): إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا.
وفي الحديث الخامس عشر، من الباب، عن السبط الشهيد عليه
السلام قال: ان الغنى والعز خرجا يجولان، فلقيا التوكل فاستوطنا.
وفي الحديث الثاني، من باب التوكل، من الكافي معنعنا، عن الإمام السجاد
عليه السلام قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه،
فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين
مالي أراك كئيبا حزينا، أعلى الدنيا فرزق الله حاضر للبر والفاجر؟ قلت:
ما على هذا أحزن وانه لكما تقول. قال: فعلى الآخرة، فوعد صادق يحكم
فيه ملك قاهر (قادر). قلت ما على هذا احزن وانه لكما تقول. فقال:
مم حزنك؟ قلت: مما نتخوف من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس. قال
فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحدا دعا الله فلم يجبه، الخ.
وفي الحديث السابع، من الباب 10، من المستدرك، عن روضة
الواعظين، قال قال الإمام الباقر عليه السلام: من توكل على الله لا يغلب.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: قال إبليس: خمسة أشياء ليس لي
فيهن حيلة، وسائر الناس في قبضتي، من اعتصم بالله عن نية صادقة،
واتكل عليه في جميع أموره، الخبر. رواه في الحديث الأول، من الباب
العاشر، من أبواب جهاد النفس، من مستدرك الوسائل معنعنا، عن
306

كتاب الخصال.
وفي الحديث الرابع، من الباب الحادي عشر، من الكتاب، نقلا عن
مشكاة الأنوار، عن المحاسن، قال قال أبو عبد الله عليه السلام: ان الغنى
والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل اوطناه. ورواه في الحديث الثالث،
من باب التوكل، من الكافي، بسندين، عن جماعة من أصحابنا عنه (ع).
وفي الحديث الرابع، من الباب، من الكافي، معنعنا عنه (ع) قال:
أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله عز وجل، اقبل الله قبل ما يحب، ومن اعتصم
بالله عصمه الله، ومن اقبل الله قبله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على
الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بلية كان في حزب
الله بالتقوى من كل بلية، أليس الله عز وجل يقول إن المتقين في مقام
امين. ورواه في الحديث 2، من الباب 10، من أبواب جهاد النفس، من
المستدرك، عن مشكاة الأنوار، عن المحاسن.
وفي الحديث السادس، من الباب، من الكافي معنعنا، عنه (ع)
قال: من أعطى ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطى الدعاء أعطي الإجابة، ومن
أعطى الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطى التوكل أعطي الكفاية، ثم قال:
أتلوت كتاب الله عز وجل: ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وقال: لئن
شكرتم لأزيدنكم. وقال: ادعوني استجب لكم.
وفي الحديث الخامس، من الباب معنعنا، عن علي بن سويد، عن
أبي الحسن الأول عليه السلام، قال سألته عن قول الله عز وجل: ومن
يتوكل على الله فهو حسبه. فقال: التوكل على الله درجات، منها ان تتوكل
على الله في أمورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم أنه لا يألوك
خيرا وفضلا (97) وتعلم أن الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض

(97) الالو: التقصير، وإذا عدي إلى مفعولين ضمن معنى المنع.
307

ذلك إليه، وتثق به فيها وفي غيرها. ورواه في باب التوكل، من البحار:
15، 17، س 4 عكسا، عن التمحيص مرسلا.
وقال الإمام الجواد عليه السلام: كيف يضيع من الله كافله، وكيف
ينجو من الله طالبه، ومن انقطع إلى غير الله وكله الله إليه. ومن أراد
الزيادة فعليه بباب التوكل، من البحار: 2، من 15، 147.
308

وقال عليه السلام في هذه الوصية:
يا بني الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك،
فإن لم تأته أتاك (43) فلا تحمل هم سنتك على هم يومك،
وكفاك كل يوم ما هو فيه، فإن تكن السنة من عمرك
فإن الله عز وجل سيؤتيك في كل غد بجديد ما قسم لك،
وإن لم تكن السنة من عمرك فما تصنع بغم وهم
ما ليس لك.
واعلم أنه لن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك
عليه غالب، ولن يحتجب عنك ما قدر لك فكم رأيت
من طالب متعب نفسه، مقتر عليه رزقه، ومقتصد في الطلب
قد ساعدته المقادير، وكل مقرون به الفناء، اليوم لك
وأنت من بلوغ غد على غير يقين، ولرب مستقبل يوم ليس
بمستدبره، ومغبوط في أول ليله قام في آخرها بواكيه، فلا

(43) وقريب منه في المختار 279 و 267، من قصار النهج، وكذلك في
وصيته (ع) إلى الامام المجتبى (ع)، بل هذا أيضا مما تواتر عنه (ع).
309

يغرنك من الله طول حلول النعم، وإبطاء موارد النقم، فإنه
لو خشي الفوت، عاجل بالعقوبة قبل الموت.
يا بني إقبل من الحكماء مواعظهم، وتدبر أحكامهم،
وكن آخذ الناس بما تأمر به وأكف الناس عما تنهى عنه،
وأمر بالمعروف تكن من أهله. فإن استتمام الأمور
عند الله تبارك وتعالى الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر (44). وتفقه في الدين فان الفقهاء ورثة الأنبياء (45)

(44) أي ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من متممات المصالح التشريعية
والتكاليف الجعلية، فان كل فرد من أفراد المكلفين يتوقف تحصيل مصالحه
أولا وبالذات على الاتيان بما هو وظيفته الشخصية وتكليفه الفردي، فإذا
امتثله وخرج عن عهدته، فقد حاز من نتائج أعماله ما هو الباعث للشارع الحكيم
للجعل والتشريع من الثمرات الصالحة النافعة واللوازم الحسنة، ولكن تمامية
هذه الثمرات وكمالها يتوقف على عمل سائر المكلفين أيضا، ولأجل توقف عمل
المكلفين جميعا بحسب الغالب على الامر بالمعروف والحث على الخيرات، والنهي
عن المنكر والزجر عن القبائح، يتوقف أيضا تتميم المصالح، وتكميل البركات
المترتبة على الأعمال المشروعة، على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا
حصلا تستتم الأمور، أي التكاليف المجعولة من قبل الشارع الحكيم، وإذا
تركا بقيت المصالح ناقصة غير ناهضة لكمال السعادة في الدنيا والآخرة، فكأن
الأمور المشروعة غير تامة لعدم حصول الغرض الباعث على التشريع، هكذا أفاده بعض الأعاظم مد ظله.
(45) وفى الحديث 31، من الباب السابع، من البحار: 1، 67، عن
غوالي اللئالي، قال قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه لولده محمد: تفقه في
الدين فان الفقهاء ورثة الأنبياء. وأيضا رواها عنه (ع) العلامة (ره) في
وصيته في خاتمة القواعد إلى ولده. وفى فضيلة الفقه والفقهاء اخبار جمة
يأتي ذكر بعضها.
310

إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما (46) ولكنهم

(46) إذ شأن كل شخص ان يذر ويخلف بعد حياته ما كان جمعه في
حال الحياة مما كان يروفه ويعظم في نظره ويحن قلبه إليه، ويهوي فؤاده
إليه، والأنبياء عليهم السلام لم يجمعوا زخارف الدنيا من الدراهم والدنانير
وغيرهما ولم يهتموا بادخارهما، وما كانوا معجبين بهما، حتى يصرفوا عزائمهم
ورغائبهم في تحصيلهما وجمعهما واستنمائهما، بل كانوا فيهما من الزاهدين،
وعن اقتنائهما من الراغبين، وعن ذويهما من المعرضين، الا بقدر البلغة وما تدفع
به الضرورة الوقتية، فطبيعة حالهم اقتضت ان لا يكون لهم درهم ولا دينار،
ولا ساكن ولا متحرك، ولا نضار ولا عقار، ولم يرد (ع) نفي الإرث بين
الأنبياء ومخلفيهم من الاباء والأبناء وبقية طبقات الوراث، فان هذا مما اجمع
على بطلانه أعدال الكتاب، وفى طليعتهم سيد العترة وخليفة رسول الله ووصيه
بلا فصل أمير المؤمنين عليه السلام، وقد ملئ الطوامير، وطرش الجهال
والسماسير من تكذيبه (ع) من ادعى ان الأنبياء لا ارث لهم، وقد تواتر عنه
عليه السلام واجمع أولاده المعصومون على أنه عليه السلام ادعى ميراث رسول
الله (ص) لزوجته وحبيبة رسول الله فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وقد
دوخ اذن الدهر حجاج الزهراء المرضية على أبي بكر لما طلبت ارثها من تركة
رسول لله فصدقها علي والحسنان (ع)، وشهدوا لها بالميراث وصحة
الدعوى، وهم حكام عدل، وقولهم هو الفصل، ويستحيل أن يحمل على
الهزل، بشهادة آية التطهير، وحديث الثقلين، وحديث السفينة، وحديث
النجوم، وحديث الطائر، وحديث علي مع الحق، والحق معه، يدور معه حيثما
دار، وحديث علي مع القرآن، والقرآن معه، وحديث: ابناي هذان امامان قاما
أو قعدا، وحديث: ان الله يرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها، إلى غير ذلك
مما تواتر عن النبي (ص)، من طرق الفريقين، وقد تكفل لاثبات تواترها
كتاب العبقات، وغاية المرام، والغدير، وغيرها.
وبالجملة فمن ضروريات فقه أهل بيت العصمة (ع)، ان الأنبياء (ع)
كسائر الناس يرثون ويورثون، فلو بقي منهم مال بعد وفاتهم فهو لورثتهم،
ويمكن أيضا حمل هذا الكلام وأشباهه على المعتاد المتعارف، حيث إن أهل
الدنيا لا يعدون المال القليل، وما كان بقدر البلغة مالا، ولا يطلقون اسم التركة
والميراث عليه، لتنزيله عندهم منزلة العدم، فيقولون فلان معدم لامال له،
وفلان مات فقيرا ولم يخلف شيئا، فمن لم يكن عنده وفر، ولم يدخر ثروة
جمة يقولون فيه: ذهب ولم يترك لورثته ميراثا، والأنبياء (ع) كانوا على هذه
الحالة، إذ لم يدخروا مالا للربح والازدياد، ولم يعمروا عقارا للاستنماء، ولم
يتخذوا الكنوز، ولم يقنطروا القناطير، ففي نظر أهل الدنيا لامال لهم حتى
يورثوا ويحظوا الورثة.
311

ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر.
واعلم أن طالب العلم يستغفر له من في السماوات
والأرض حتى الطير في جو السماء (الهواء خ) والحوت في
البحر، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى
به، وفيه شرف الدنيا والفوز بالجنة يوم القيامة، لان
الفقهاء هم الدعاة إلى الجنان، والا دلاء على الله تبارك وتعالى
وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك،
وارض لهم ما ترضاه لنفسك (47) واستقبح من نفسك ما تستقبح

(47) من قوله (ع): وأحسن إلى جميع الناس - إلى قوله: ما تستقبح
من غيرك - مذكور أيضا في وصيته (ع) إلى الامام المجتبى مع زيادات لطيفة
وعبارات أنيقة.
312

من غيرك، وحسن مع جميع الناس خلقك حتى إذا غبت عنهم
حنوا إليك (48) وإذا مت بكوا عليك وقالوا: إنا لله وإنا إليه
راجعون، ولا تكن من الذين يقال عند موته الحمد لله رب
العالمين. واعلم أن رأس العقل بعد الايمان بالله عز وجل
مداراة الناس (49)، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لابد

(48) هذا مأخوذ من الحنان بمعنى العطف والشفقة والرقة. أو من
الحنين بمعنى الاشتياق وفرط الرغبة، يقال: حن - حنينا إليه، أي اشتاق.
صوت عن حزن أو طرب. وحن (من باب فرايضا) حنة وحنانا عليه:
عطف وشفق. وتحنن عليه: ترحم. وتحان واستحن إليه: اشتاق. وهذا
الكلام الشريف قريب مما ذكره السيد (ره) في المختار التاسع من قصار
النهج، ومما ذكرناه في المختار من باب الوصايا.
(49) قال المحقق الكاشاني (ره): مراده (ع) من المداراة التقية،
ومن المعاشرة بالمعروف: المعاملة بما يعد في العرف حسنا، يعني كل ما يمكن
من أفعال الناس ان يحمل على الوجه الحسن فليحمل عليه، وما لم يمكن فيه ذلك
يتغافل عنه ولا يلتفت إليه، وذلك إذا خاف منهم على نفسه، والا فهو مداهنة
محرمة الا مالا يتعلق بالدين.
أقول: بيانه (ع)، وإن كان مطلقا الا أن المنساق منه إلى الذهن هو
المداراة والمسامحة في أمورهم الدنيوية، وعد اعمالهم حسنا مع كونها قبيحة،
واشخاصهم شريفا مع كونهم وضيعا، وعن المعنويات عريا، وملخص مرامه (ع)
من هذا الكلام عدم المداقة مع الناس، وقطع الطمع عن طلب المعالي منهم،
والاغماض والتجاهل عن فلتاتهم، والتجاوز عن قبيح عادياتهم، ونحن اختبرنا
الناس ثلاثين سنة فمن لم يفعل معهم ما ذكره (ع)، كان غير معدود عند الناس
من الجامعة البشرية، ويؤيد ما ذكرناه من أن مراده (ع) هو المداراة في
الأمور الدنيوية ما رواه في الحديث 6، من الباب 6، من أبواب جهاد
النفس، من المستدرك: 2: 282، ط 2، عن مشكاة الأنوار،
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ذللوا أخلاقكم بالمحاسن، وقودها إلى
المكارم، وعودوها الحلم، واصبروا على الايثار على أنفسكم فيما تحمدون عنه
قليلا من كثير، ولا تداقوا الناس وزنا بوزن، وعظموا اقداركم بالتغافل من
الدني من الأمور، وامسكوا رمق الضعيف بالمعونة له بجاهكم، وان عجزتم
عما رجا عندكم فلا تكونوا بخاشن عما غاب عنكم فيكثر عائبكم وتحفظوا من
الكذب فإنه من ارق الأخلاق قدرا، وهو نوع من الفحش، وضرب من الدناءة.
وتكرموا بالغنى عن الاستقصاء، وروى بعضهم: بالتغامس عن الاستقصاء.
ورواه ابن شعبة (ره) في تحف العقول ضمن قصار كلامه (ع) قبل المختار
الأخير بواحد.
313

من معاشرته حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلا فإني
وجدت جميع ما يتعايش به الناس وبه يتعاشرون ملء
مكيال ثلثاه استحسان، وثلثه تغافل.
وما خلق الله عز وجل شيئا أحسن من الكلام (50) ولا
أقبح منه، بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام اسودت
الوجوه، واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإن
تكلمت به صرت في وثاقه (51). فاخزن لسانك كما تخزن

(50) ونظير هذا رواه عنه (ع) في المختار 125، مما اختار من كلامه (ع)
في تحف العقول 150، ط النجف، قال: وسئل (ع): اي شئ مما خلق الله
أحسن؟ فقال (ع): الكلام. فقيل: اي شئ مما خلق الله أقبح؟ قال:
الكلام، ثم قال (ع): بالكلام اسودت الوجوه، وبالكلام ابيضت الوجوه.
(51) من قوله (ع): واعلم - إلى قوله (ع): سلبت نعمة - مذكور
في المختار 381، من قصار النهج باختلاف ما، وكذلك في الاختصاص وروضة
الواعظين، كما في البحار: 15، 187. والوثاق - كسحاب ورقاب -:
ما يشد به، من قيد وحبل ونحوهما، جمع: وثق.
314

ذهبك وورقك فإن اللسان كلب عقور (52) فإن أنت
خليته عقر ورب كلمة سلبت نعمة (53) من سيب عذاره قاده
إلى كل كريهة وفضيحة (54) ثم لم يخلص من دهره إلا
على مقت من الله وذم من الناس.
قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه (55) من استقبل وجوه
الآراء عرف مواقع الخطاء، ومن تورط في الأمور غير ناظر
في العواقب فقد تعرض لمفظعات النوائب (56) والتدبير قبل

(52) قال الشيخ المفيد (ره) في الحديث 321، من كتاب الاختصاص:
229، ط 2، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام
في وصيته لمحمد بن الحنفية: واعلم أن اللسان كلب عقور، ان خليته عقر،
ورب كلمة سلبت نعمة، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، من سبب
عذاره قاده إلى كل كريهة. وقريب منه أيضا عن جامع الأخبار.
(53) وهذا مروي عنه (ع) من طريق آخر، مع زيادة قوله، وجلبت نقمة.
(54) العذار من الفرس، كالعارض من الانسان، سمي الستر الذي
يكون عليه اللجام عذرا بأسم موضعه، فقوله (ع): من سيب عذاره، كناية
عن اهمال اللسان وارخائه وتركه بحاله.
(55) من قوله (ع): قد خاطر بنفسه - إلى قوله: يؤمنك من الندم -
ذكره (ع)، في خطبة الوسيلة أيضا باختلاف ما. وكذلك في المختار 173،
و 211، من قصار النهج.
(56) قال الفيض (ره): المفظعات: المصائب الشديدة الشناعة.
وبالقاف والطاء المهملة، أي اللازمة كالجبة اللاصقة بالبدن.
315

العمل يؤمنك من الندم (57) والعاقل من وعظته التجارب
وفي التجارب علم مستأنف (58) وفي تقلب الأحوال علم
جواهر الرجال، الأيام تهتك لك عن السرائر الكامنة (59)،

(57) من قوله (ع): قد خاطر بنفسه - إلى قوله: والتدبير قبل العمل
يؤمنك من الندم - حث وترغيب منه (ع)، على المشاورة في كل أمر لم يتبين
غيه من رشده، ونفعه من ضرره، وتبيين منه (ع) على أن في التشاور في
كل ما ينبغي التشاور فيه، فائدة لا تزال النفوس تشتاق إليها وترغب فيها،
وان في الاستبداد، بالرأي وترك المشاورة والتدبير مفسدة قد جبلت نفوس
ذوي الأرواح من الهرب عنها، والفرار منها، فكشف (ع) بقوله: " قد
خاطر بنفسه من استغنى برأيه " وبقوله: ومن تورط في الأمور، الخ - اي
من دخل فيها بلا رؤية ومشورة - ان المستبد بالرأي وتارك التدبير والاحتياط
لا يكون واثقا من النجاح، ولم يأمن من الفظيعة والفضيحة. وصرح بقوله (ع):
من استقبل وجوه الآراء، الخ. وبقوله: التدبير قبل العمل، الخ - إلى أن
صاحب المشورة قد يبين له الصواب من الخطاء، والنفع من الخسارة، فهو
مقدم على الامر عن بصيرة، فقلبه مطمئن بالريح، وباله مأمون من الندم،
وماله محفوظ من التلف.
(58) وقال السبط الشهيد الإمام الحسين عليه السلام: دراسة العلم
لقاح المعرفة، وطول التجارب زيادة في العقل، والشرف التقوى، والقنوع
راحة الأبدان، ومن أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك. البحار: 17، 151.
وقال سحبان بن وائل: العقل بالتجارب، لان عقل الغريزة سلم إلى
عقل التجربة.
وقال أفلاطون: إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب بل أنت ساذج كما كنت.
وقال المتكلمون: العقل نوعان: غريزي ومكتسب، فالغريزي العلوم
البديهية، والمكتسب ما إفادته التجربة.
(59) الجملة الثانية كالتأكيد للأولى، اي ان في اختلاف الحالات كالقدرة
بعد الضعف، والغنى بعد الفقر، والغضب بعد الرضا، والتعب بعد الراحة،
والسفر بعد الحضر، يعرف ما في كمون الرجال ونفسياتهم، ولما كان هذا
متوقفا على طرو الحالات المختلفة، المتوقفة على مضي الأيام، فالأيام هي
الكاشفة للضمائر، الهاتكة لستور السرائر الكامنة في النفوس، المخبوءة
في الصدور.
316

تفهم وصيتي هذه، ولا تذهبن عنك صفحا، فإن خير
القول ما نفع.
إعلم يا بني أنه لابد لك من حسن الارتياد (60) وبلاغك
من الزاد مع خفة الظهر (61). فلا تحمل على ظهرك فوق طاقتك
فيكون عليك ثقلا في حشرك ونشرك في القيامة، فبئس الزاد
إلى المعاد العدوان على العباد (62).

(60) الارتياد: الطلب، ولعل مراده (ع)، من حسن الطلب أن يكون
عمل العامل، بين طلب الزاهد والراغب.
وقال الفيض (ره): حسن الارتياد، اي طلب الآخرة على الوجه
الأحسن في المجاهدة.
ثم لا يخفى ان هذا الكلام مع أكثر ما يذكر بعده، مما ذكره (ع) أيضا
في وصيته إلى الامام المجتبى (ع).
(61) البلاغ من الزاد: ما يبلغك حاجتك، ويكفيك لسفرك، اي لابد لك
من زاد الآخرة ما يبلغك إلى حاجتك، ويكفيك لسفر الآخرة (حال كونك
خفيف الظهر عن تبعات العباد وغيرها)، ولا يكون ناقصا عن البلاغ فتنقطع في
سفر الآخرة بلا زاد، ولا يزيد عن البلاغ فيكون ثقلا عليك في عقبات الآخرة.
(62) وهذا قد تواتر عنه وعن أبنائه المعصومين عليهم السلام، وذكره
السيد (ره) المختار 221، من قصار النهج.
317

واعلم أن أمامك مهالك ومهاوي وجسورا وعقبة
كئودا (63) لا محالة أنت هابطها. وإن مهبطها إما على جنة
أو على نار فارتد (64) لنفسك قبل نزولك إياها، وإذا وجدت
من أهل الفاقة من يحمل زادك إلى القيامة (65) فيوافيك به
غدا حيث تحتاج إليه، فاغتنمه وحمله وأكثر من تزويده
وأنت قادر عليه فلعلك تطلبه فلا تجده وإياك أن تثق
لتحميل زادك بمن لا ورع له ولا أمانة، فيكون مثلك مثل
ظمآن رأى سرابا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا (66) فتبقى في

(63) المهاوي جمع المهوى والمهواة - على زنة المرضى والمرضاة - وهي
مسقط الشئ من محل عال، ولذا يستعمل فيما بين الجبلين ونحوه من الفرجة
والوهدة العميقة. والعقبة: اسم لقطعة من الجبال يصعب ارتقاؤها، ويقال
لها بالفارسية (گردنة) وكئود وكأداء - كثمود وصحراء - اي شاقة المصعد.
(64) أي فاطلب المنجى لنفسك قبل نزول دركات الآخرة، وحلول
عقبات القيامة، إذ بعد النزول فيها لا حيلة لاختيار ما ينجي وتحصيل ما ينتفع به.
(65) وما في هذا البيان الرباني من الحث والتأكيد على إعانة الضعفاء،
واغتنام الانفاق في سبيل الله عند القدرة مما لا يحيط به البيان، ولا يجري
لشرحه كما هو حقه قلم ولا لسان.
وقال الفيض (ره): حمل زاد القيامة أهل الفاقة كناية عن الانفاق في
سبيل الله، وكل خير معروف لله.
(66) هذا الكلام يحتمل معنيين: الأولى - أن يكون تحذيرا عن صرف
المعروف في غير أهله، وبذل الاحسان لغير مستحقه، فمن وضع نائله في غير
الصلحاء، وجاد بمعروفه على غير مستحقه من المساكين والفقراء، يحسب أنه
يحسن صنعه، وحصل زاده، فإذا قامت القيامة، وكشف عنه غطاؤه،
علم أن ما تخيله ماء لم يكن الا سرابا فيبقى في عقبات القيامة بلا زاد.
وهذا المعنى اخترناه سابقا، وسنذكر شواهده من الاخبار.
واحتملنا أخيرا أن يكون مراده (ع) من الكلام التحذير من ايكال الامر -
وما ينبغي للمكلف أن يأتي به بنفسه من الواجبات والمستحبات - إلى غيره،
إذا لم يكن الموكول إليه ورعا ولا أمينا، فمن لم يعمل هو بوظيفته، ولم يؤد
بنفسه خيراته إلى أهله، بل فوض أداء خيراته أو تكاليفه القابلة للنيابة إلى
غيره مع كونه غير امين ولا ورع - بل مع عدم احراز أمانته وورعه - فقصته
بالنسبة إلى زاد القيامة، والادخار ليوم الفاقة كقصة ظمآن رأى سرابا بقيعة
فحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فبقي عطشانا في وادي الهلاكة.
318

القيامة منقطعا بك.
319

وهنا موائد
المائدة الأولى في حقيقة الرزق
وهو في اللغة استعمل في معان: (1) كل ما ينتفع به.
(2) ما يخرج للجندي رأس كل شهر. (3) العطاء، وقيل العطاء الجاري.
(4) ما يفرض للمقاتلة. (5) ما يعين للفقراء. (6) المطر، وفي القرآن الكريم:
" وما انزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض، الخ ". (7) الشكر.
قيل: وهي لغة أزدية، وفي القرآن المقدس: " وتجعلون رزقكم انكم
تكذبون ". (8) النصيب. (9) ما يصل إلى الجوف ويتغذى به (98).
وقال الراغب في المفردات: الرزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويا
كان أم أخرويا، وللنصب تارة (99) ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة،
يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علما، قال (تعالى): " وانفقوا
مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " اي من المال والجاه والعلم.
وكذلك قوله: " ومما رزقناهم ينفقون " وقوله: " كلوا من طيبات
ما رزقناكم " وقوله: " وتجعلون رزقكم انكم تكذبون " اي وتجعلون

(98) وغير خفي على البصير ان هذه المعاني لا تقابل بينهما، اي ليس كل
واحد منها قسيما للاخر، بل أغلبها يرجع إلى معنى عام مشترك، وبما ان
اللغويين ليس لهم سبيل إلى الوضع، بل غاية بضاعتهم الاطلاع على موارد
الاستعمال، ورأوا ان أهل اللسان استعملوا اللفظ في هذه المعاني ظنوا ان كل
واحد منها موضوع له في قبال الاخر.
(99) وقال بعض المحققين: الرزق في اللغة: العطاء، ويطلق على النصيب
المعطي نحو ذبح ورعي - بالكسر - للمذبوح والمرعي. وقيل: هو بالفتح مصدر،
وبالكسر اسم، الخ.
320

نصيبكم من النعمة تحري الكذب. وقوله: " وفي السماء رزقكم " قيل:
عنى به المطر الذي به حياة الحيوان. وقيل: هو كقوله: " وأنزلنا من السماء
ماء " وقيل: تنبيه (على) ان الحظوظ بالمقادير. وقوله تعالى: " فليأتكم
برزق منه " اي بطعام يتغذى به. وقوله تعالى: " والنخل باسقات لها
طلع نضيد، رزقا للعباد " قيل: عنى به الأغذية. ويمكن ان يحمل على
العموم فيما يؤكل ويلبس ويستعمل، وكل ذلك مما يخرج من الأرضين وقد
قيضه الله بما ينزله من السماء من الماء. وقال في العطاء الأخروي: " ولا تحسبن
الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل احياء عند ربهم يرزقون " اي يفيض الله
عليهم النعم الأخروية. وكذلك قوله: " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا "
وقوله: " إن الله هو الرزاق ذو القوة " فهذا محمول على العموم. والرازق
يقال لخالق الرزق ومعطيه والمسبب له وهو الله تعالى، ويقال ذلك للانسان
الذي يصير سببا في وصول الرزق، (100) والرزاق لا يقال الا لله تعالى.
وقوله: " وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين " اي بسبب في

(100) قال الله تعالى في الآية 5، من سورة النساء: " ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم التي جعل الله لكم قياما، وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا
معروفا " وقال في الآية التاسعة منها: " وإذا حضر القسمة أولوا القربى
واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " وقال تعالى في الآية
117، من سورة المائدة: " وأنت خير الرازقين " وفى الآية 58، من سورة
الحج: " وان الله لهو خير الرازقين " وفى الآية 71، من سورة المؤمنون:
" وهو خير الرازقين " وفى آخر سورة الجمعة: " والله خير الرازقين ".
وقال عويف:
سميت بالفاروق فافرق فرقه * وارزق عيال المسلمين رزقه
ويقال: رزق الطائر فرخه، اي يطعمه طعاما، قال الأعشى:
وكأنما تبع الصوار بشخصها * عجزاء ترزق بالسلي عيالها
321

رزقه، ولا مدخل لكم فيه، " ويعبدون من دون الله مالا يملك
لهم رزقا من السماوات والأرض ولا يستطيعون شيئا " أي ليسوا بسبب في
رزق بوجه من الوجوه، وسبب من الأسباب. ويقال: ارتزق الجند،
أي اخذوا أرزاقهم، والرزقة: ما يعطونه دفعة واحد.
وأما الرزق بمعناه العرفي والشرعي فقد اختلف فيه. قال بعض المحققين
ما حاصله: الرزق عند الا شاعرة ما انتفع بي حي سواء كان بالتغذي أو
غيره، مباحا كان أو حراما.
وربما قال بعضهم: هو ما تتربى به الحيوانات من الأغذية والأشربة
لاغير. قال الآمدي: والتعويل على الأول.
وأما المعتزلة، فلما أحالوا تمكين الله تعالى من الحرام، لأنه منع من
الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه قالوا: الرزق ما صح الانتفاع به وليس لاحد
منعه منه، فلا يكرم الحرام رزقا. واستدلوا بقوله تعالى: " ومما رزقناهم
ينفقون " حيث أسند الرزق إلى نفسه، إيذانا بأنهم ينفقون من الحلال
الطيب الطلق، فان انفاق الحرام بمعزل عن ايجاب المدح. وبقوله تعالى:
" قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا ". حيث
ذم المشركين على تحريم ما رزقهم الله.
وتمسكت الا شاعرة لشمول الرزق للحلال والحرام معا بما رووه عن
صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله (ص) إذ جاء عمر بن قرة فقال:
يا رسول الله ان الله كتب علي الشقوة، فلا أراني ارزق الا من دفي بكفي
فأذن لي في الغناء. فقال (ص): لا آذن لك، ولا كرامة، ولا نعمة،
كذبت اي عدو الله، والله رزقك حلالا طيبا، فاخترت ما حرم الله من رزقه،
مكان ما أحل الله لك من حلاله. وبأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن
المتغذي به طول عمره مرزوقا، وقد قال الله تعالى: " وما من دابة في الأرض
322

الا على الله رزقها ".
وأجابت المعتزلة عن الحديث بالطعن في سنده تارة، وبالتأويل على
تقدير صحته أخرى، وتأويله ان اطلاق الرزق على الحرام لمشاكلة قوله: فلا
أراني ارزق، كقوله: تعالى: ومكروا ومكرا الله، وباب المشاكلة وإن كان
نوعا من المجاز، لكنه وسع كثير الورود في القرآن والحديث، فاش في
نظم البلغاء ونثرهم.
وعن قولهم: لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره
مرزوقا، بأن مادة النقض لابد وأن تكون متحققة، وليس الامر كذلك
إذ لا يتصور حيوان كذلك، اما غير الانسان فلانه لا يتصور بالنسبة إليه حل
ولا حرمة، وأما الانسان فلو لم يكن يأكل من الحلال الا مدة عدم التكليف
لكفى في دفع النقض (101).
وأيضا فالرزق أعم من الغذاء باجماع المعتزلة وجمهور الأشاعرة، ولا
يشترط الانتفاع به بالفعل، فالنقض بالمتغذي طول عمره بالحرام إنما يرد
لو لم ينتفع مدة عمره بشئ انتفاعا محللا، ولا يشرب الماء ولا يتنفس في
الهواء، بل ولا تمكن من الانتفاع بذلك أصلا، وظاهر ان هذا مما لا يوجد.
وللمعتزلة أن يقولوا أيضا: لو مات حيوان قبل ان يتناول شيئا -

(101) وبعبارة واضحة: اعمال الانسان - ومنها تغذيه - قبل البلوغ
بحسب الحكم الشرعي كأعمال الحيوان لا تتصف بالإباحة ولا الحرمة ولا غيرهما
من الأحكام الخمسة، فلا يتصور بالنسبة إلى الصبيان وغير البالغين التغذي
بالحرام، واما بعد البلوغ فلانه بعد ما كان الرزق أعم من الغذاء باتفاق المعتزلة
والأشاعرة يشمل التنفس في الهواء، ومعلوم انه مباح في حقه قطعا فلم يوجد
حيوان لا رزق له الا الحرام طول عمره، ويوضحه انه لو مات انسان قبل ان
يأكل شيئا، لزم أن يكون غير مرزوق، فما هو جواب الأشاعرة فهو جواب
المعتزلة.
323

لامن الحلال ولا الحرام - يلزم أن يكون غير مرزوق، فما هو جوابكم
فهو جوابنا، انتهى.
وقال بعض الأكابر: لاشك ان ما نشاهده من الموجودات أعم من
الجماد والنبات والحيوان والانسان لا يكفيها أصل الوجود للبقاء، بل تستمد
في بقائها بأمور اخر خارجة عن وجودها، اما بضمها إلى أنفسها بالاقتيات
والاغتذاء، أو بوجه آخر بالايواء واللبس والتناسل ونحوها، وهذا المعنى
في الانسان وسائر اقسام الحيوان أوضح، وهو الرزق الذي عليه يتوقف
بقاء أقسام الحيوان، من غير فرق في ذلك بينها أصلا، وقد قال تعالى:
" وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها " فالرزق مما لا يستغني عنه
موجود في بقائه، وإذ خلق الله هذه الأشياء لبقائها، فقد خلق لها رزقا،
فاستناد البقاء إليه تعالى يوجب استناد الرزق إليه من غير شك، قال تعالى:
" فو رب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم تنطقون " وكون الرزق
بهذا المعنى أمرا تكوينيا غير مربوط بعالم التكليف كالشمس في رائعة النهار،
فان الحدوث والبقاء ولوازم كل منهما أمور تكوينية بلا ريب، ثم إن
الانسان لما تعلق التكليف ببعض أفعاله المتعلقة بالأرزاق كالأكل والشرب
والنكاح واللباس ونحوها، والرزق مما يضطر إليه تكوينا، كان لازم ذلك
ان لا تتعلق الحرمة والمنع الا بماله مندوحة عنه، والا كان تكليفا بما لا يطاق
قال تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وقال: " ان الله لا يأمر
بالفحشاء " وكان لازم ذلك ان في موارد المحرمات أرزاقا إلهية محللة هي
المندوحة للعبد، وهي الأرزاق المنسوبة إليه تعالى بحسب النظر التشريعي
دون المحرمات.
فتحصل ان الرزق رزقان: رزق تكويني وهو كل ما يستمد به موجود
في بقائه كيف كان. ورزق تشريعي وهو الحلال الذي يستمد به الانسان
324

في الحياة، دون الحرام فإنه ليس برزق منه تعالى، هذا هو الذي يتحصل
من الكتاب والسنة بعد التدبر فيهما.
وقال الحكيم القدوسي، المحقق الطوسي أعلى الله مقامه: الرزق ما صح
الانتفاع به ولم يكن لاحد منعه، والسعي في تحصيله قد يجب وقد يستحب
وقد يباح وقد يحرم.
أقول: الرزق قد يطلق ويراد منه ذوات الأشياء التي خلقها الله تبارك
وتعالى لانتفاع الحيوان بها وتغذيه منها، وهذا القسم ما دام لم يحرزه أحد،
ولم يتسلط عليه بأحد العناوين المملكة أو المخصصة، أو المبيحة بحكم الشرع
أو العقل، لا يصح ان ينسب إلى شخص معين وحيوان مخصوص، فيقال
مثلا: الفاكهة الموجودة في جزيرة البحر غير المملوكة أو المحجوزة رزق
لزيد. إذ نسبتها إلى زيد وغيره على حد سواء، فما دام لم تحصل جهة
تخصصها بفرد معين لا تصح اضافته إليه، وذلك مثل جميع الأغذية الموجودة
في البراري وقلل الجبال المحفوظة عن استيلاء البشر عليها، وكذلك اللؤلؤ
والمرجان، والكنوز الثابتة في قعر البحار وشواهق الجبال فإنها كما يصح
اطلاق المال أو الغذاء أو الحلي أو الطعام عليها، كذلك يصح اطلاق
الرزق عليها بمعنى انها مما يصح ان تجعل غذاء، وانها مما أوجدها الله
تعالى لتقوت الحيوان وتغذيه منها، وكما لا يصح ان ينسب إلى شخص معين
بأنها ماله أو غذاؤه أو حليه أو طعامه، لا يصح أيضا ان يقال إنها رزقه،
فترى ما هذا سبيله في حين انها رزق على الحقيقة، ليس برزق لمعين أيضا
على الحقيقة، وقد يطلق الرزق ويراد منه ماله إلى شخص معين علاقة
وإضافة خاصة سواء كان حدوث هذه العلاقة ناشئا من عمل الحيوان واختياره
كما إذا حاز الأغذية المباحة أو تملكها ببيع أو موهبة أو صلح أو غيرها،
أو كانت العلاقة الحادثة غير اختيارية له، كما إذا مات مورثه، أو حملت
325

الريح الفلك المملوء من الجواهر التي أبيد أهلها إليه، أو انشقت الأرض
أو الجبال بالزلزال فألقيت الكنوز في حجره، أو غيرها من انحاء الاستيلاء
المبيح للانتفاع شرعا وعقلا، فإذا حدثت هذه العلاقة بين شخص وما أعده
الله للانتفاع به، فلا يكون رزقا لغير صاحب العلاقة، ولا يجوز في حال
الاختيار الانتفاع به من دون رضا صاحبه، فمن حال بينه وبين ذي العلاقة
فهو ظالم، وجميع انتفاعاته حرام، وفاعله مستحق للعقوبة، وحينئذ نسأل
الأشاعرة القائلين: بان الرزق ما أكل ولو كان حراما. أو ما ساقه الله إلى
الحيوان فانتفع به (102)، ونقول لهم: هل مجرد الاكل والانتفاع من طعام
أحد أو ماله يوجب سلب علاقته منه، وايجاد علاقة مماثلة لتلك العلاقة للاكل
والمنتفع؟! فحينئذ جميع الغاصبين والظالمين يأكلون أرزاقهم، فما معنى قوله
تعالى: " ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
وسيصلون سعيرا "؟؟! وما معنى قوله تعالى: " والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله "؟؟!
فلو كان الغاصب والسارق قد أخذا ما رزقهما الله تعالى وساقه اليهما
لكان المطالب له برد ما أخذا ظالما لهما، ولم يجز في شريعة العدل ان يعاقبا
عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل كانا ممدوحين على انفاقهما منه، كما
مدح الله تعالى من انفقه من حل، فقال: " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت
قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين
يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات
عندهم ربهم ومغفرة ورزق كريم " فجعل انفاق الرزق من صفات المؤمنين،
فلما لم يكن للغاصبين انفاق ما اغتصبوه وكانوا مذمومين عليه معاقبين على

(102) وهذا أيضا يشمل الأول، الا انه أعم منه، فيشمل الملبوس
والمنكوح، فمن اشتبه الامر عليه فعقد على أمه أو أخته أو بنته وعمل ما يعمله
الرجال مع النساء فهذا رزقه، وكذا لو تخيل انها زوجته فبان الخلاف.
326

تصرفهم فيه، دل ذلك على أن الله تعالى لم يرزقهم إياه في الحقيقة، وإذا لم
يكن رزقا للغاصب فهو رزق للمغصوب منه، وان حال الغاصب بينه وبينه.
ونقول أيضا: الشئ الذي يصح الانتفاع به إذا استولى عليه غير
صاحبه هل يجوز عليه ان يصلي فيه لو كان ملبوسا أو مسكونا، وهل يجب
الحج على المسيطر عليه، لأجل انه انتفع به وصار ذا مكنة، وهل تجب
الزكاة عليه إذا قلبه فنما وربح حتى بلغ حد النصاب، إلى غير ذلك من
الفروع؟!
وليعلم ان النزاع مع الأشاعرة في أمثال المقام لا طائل تحته، بعد
اعتقادهم بالجبر، وان جميع ما يصدر من المكلفين فهو على سبيل الاضطرار
كاشراق الشمس وحرارة النار، ورطوبة الماء، وان لا صنع ولا اثر الا لله
تعالى، وان الظالم مقهور على الظلم ولا يمكنه الكف، فقابيل لم يكن قادرا
على ترك قتل هابيل، بل القتل ما صدر من قابيل بل الله هو القاتل، إذ لو كان
القتل من قابيل لزم أن يكون في دار الوجود مؤثر غير الله!! وكذا الذي
قطع رأس يحيى ووضع المنشار على رأس زكريا هو الله المتفرد بالمؤثرية،
والا لزم وجود مؤثر غير الله!! بل جميع الأنبياء والأولياء والصلحاء الذين
ابتلوا وأوذوا أشد الايذاء وقتلوا تقتيلا، كان ايذاؤهم وقتلهم من الله!!
بل إن معصية الشيطان واباءه أيضا من الله، والا يلزم وجود مؤثر غير الله!!
وفساد هذا المذهب اظهر من فساد عقيدة النصارى في الأقانيم الثلاثة والقول
بالتثليث، واستحالته أوضح من استحالة الدور والخلف والتناقض، فان
كنت في شك مما قلنا فارجع إلى كتاب إحقاق الحق للشهيد القاضي نور
الله نور الله مرقده، فإنه لأجل اشتماله على كتاب فاضل أهل السنة ابن
روزبهان، وغرة بياض علماء الإمامية العلامة الحلي (ره) يجسم ويمثل
لك خارجيا دعاوى الطرفين وبراهين الخصمين. وان تراجع كتاب دلائل
الصدق أيضا فنعم البديل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
327

المائدة الثانية:
في أن الرزق هل يقبل الزيادة والتوفير بالسعي والاكتساب أم لا؟
ظاهر كثير من الأدلة عدم قبوله للازدياد والتكثير، ولو يطلب بتمام
الجد، ويسعى له في جميع الآفاق.
وصريح بعض الأدلة، وظاهر كثير منها أن بعض أقسامه يقبل التكثير
بالاكتساب، وبالحذاقة في التدبير، واقتناء المال.
اما القسم الأول فنشير إليه على طريق الاجمال ومن باب بيان نموذج
منه فنقول: مما يدل على عدم قبول الأرزاق للتكثير ما رواه غير واحد
(بل كثير) من الخاصة والعامة ورواه في مستدرك البحار: 17، 414، عن
أصل عاصم بن حميد، (103) ورواه الكليني (ره) في الحديث الثاني، عن
الباب 36، من كتاب الايمان والكفر من الكافي: 2، 74، معنعنا انه خطب
رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع فقال: يا أيها الناس والله
مامن شئ يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا وقد أمرتكم به، وما من
شئ يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا وقد نهيتكم عنه، ألا وان
الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا
الله وأجملوا في الطلب، ولا يحمل أحدكم استبطاء شئ من الرزق أن يطلبه
بغير حله، فإنه لا يدرك ما عند الله الا بطاعته. وقريب منه في البحار: 23،
10، عن أمالي الصدوق، وص 11، عن تفسير القمي، وص 12، عن
التمحيص.

(103) ورواه في الحديث 1، من الباب 10، من مستدرك الوسائل: 2،
418 عن أصل عاصم. وفى الحديث 10، عن ابن عمر. وفى الحديث 4، عن
التمحيص. وفى الحديث 13، عن كتاب الأخلاق. وفى الحديث 15، عن كتاب
علاء بن رزين. وفى الباب اخبار كثيرة شاهدة للمدعى.
328

وروى في فلاح السائل عنه (ص) أنه قال: ان من ضعف اليقين ان
ترضي الناس بسخط الله تعالى، وأن تحمدهم على رزق الله تعالى، وان
تذمهم على ما لم يؤتك الله، ان رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده
كراهة كاره.
وقال (ص): أيها الناس ان الرزق مقسوم، لن يعدو امرء ما قسم له،
فأجملوا في الطلب، وان العمر محدود لن يتجاوز أحد ما قدر له، الخ.
البحار: 23، 10.
وروى ابن أبي الحديد في شرح المختار 31، من كتب النهج عنه (ص)
أنه قال: وان يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل أو حضيض بقاع يأته.
وقال (ص) عند منصرفه من أحد: أيها الناس اقبلوا على ما كلفتموه من
اصلاح آخرتكم وأعرضوا عما ضمن لكم من دنياكم، ولا تستعملوا جوارح
غذيت بنعمته في التعرض لسخطه بمعصيته، واجعلوا شغلكم في التماس
مغفرته، واصرفوا همكم بالتقرب إلى طاعته، من بدأ بنصيبه من الدنيا فاته
نصيبه من الآخرة، ولم يدرك منها ما يريد، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة
وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد، ان الله يعطي الدنيا
بعمل الآخرة، ولا يعطي الآخرة بعمل الدنيا. البحار: 23، 10.
واما كلام أمير المؤمنين (ع) في هذا المعنى فكثير أيضا، منه قوله (ع)
في المختار الأول، من الوصايا: ان المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل
بينكم، وسيفي لكم، الخ. ومنه قوله (ع) في المختار 90، من خطب
نهج البلاغة: عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، وقدر أقواتهم، الخ.
وقال (ع): قد تكفل لكم بالرزق، وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم
طلبه أولى (104) بكم من المفروض عليكم عمله، الخ. المختار 110، من

(104) قيل: طلبه مبتدأ وخبره أولى، والجملة خبر يكون.
329

خطب النهج.
وقال (ع): وقدر الأرزاق فكثرها وقللها وقسمها على الضيق والسعة،
فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها، وليختبر بذلك الشكر
والصبر من غنيها وفقيرها. المختار 87، أو 89 من خطب النهج 177.
وفي مستدرك الوسائل 2، ص 419، عن الآمدي (ره) في الغرر
عنه (ع) قال: الرزق يسعى إلى من لا يطلبه.
وقال (ع): لن يفوتك ما قسم لك، فأجمل في الطلب، ولن تدرك
ما زوي عنك فأجمل في المكتسب.
وقال (ع): الأرزاق لا تنال بالحرص والمغالبة.
وقال (ع): أجملوا في الطلب، فكم من حريص خائب، ومجمل
لم يخب.
وقال (ع): ذلل نفسك بالطاعة، وحلها بالقناعة، وخفض في الطلب،
وأجمل في المكتسب.
وقال (ع): رزقك يطلبك فأرح نفسك من طلبه.
وقال (ع): سوف يأتيك أجلك، فأجمل في الطلب، سوف يأتيك
ما قدر لك، فخفض في المكتسب.
وقال (ع): عجبت لمن علم أن الله قد ضمن الأرزاق وقدرها وان
سعيه لا يزيده فيما قدر له منها وهو حريص دائب في طلب الرزق.
وروى السيد المرتضى (ره) في الحديث الرابع، من الفصل الأخير، من
الفصول المختارة: ان الامام المجتبى عليه السلام قال لرجل: يا هذا! لا تجاهد
الطلب جهاد المغالب، ولا تنكل على التقدير اتكال المستسلم، فان ابتغاء الفضل
من السنة، والاجمال في الطلب من العفة، (105) وليست العفة بدافعة رزقا،

(105) هذا هو الصواب، وفى النسخة: فان ابتغاء الفضل من السنة في
الاجمال والطلب، الخ. ورواه في البحار: 23، 10، عن الحسين (ع)،
وفى آخره: فان اتباع الرزق من السنة، والاجمال في الطلب من العفة، الخ.
330

ولا الحرص بجالب فضلا، فان الرزق مقسوم، والأجل موقوت، واستعمال
الحرص يورث المأثم. ورواه أيضا في البحار: 17، 145، عن تحف العقول.
ورواه أيضا في المجلد 23، منه ص 12، عن قصص الأنبياء على نحو ما استصوبناه.
ورواه في الحديث 8، من الباب 11، من كتاب التجارة، من مستدرك
الوسائل: 2، 420، عن كتاب التمحيص.
ويدل عليه أيضا ما يجئ من قول السبط الشهيد عليه السلام:
فان تكن الأرزاق قسما مقدرا فقلة حرص المرء في السعي أجمل، الخ
بل جميع ما نذكر من الكلام المنظوم المنسوب إلى أمير المؤمنين (ع)
ظاهر في ذلك.
وما قاله الإمام السجاد زين العابدين (ع)، في المختار الأول، من
الصحيفة السجادية من قوله (ع): جعل لكل روح منهم قوتا معلوما مقسوما
من رزقه، لا ينقص من زاده ناقص، ولا يزيد من نقص منهم زائد، الخ. (106)

(106) قال بعض المحققين من الشراح: وفى نسخة قديمة: " وجعل لكل
ذي روح منهم قوتا، الخ ".
والقوت - بالضم - ما يؤكل ليمسك الرمق، ومنه الحديث: " اللهم
اجعل رزق آل محمد قوتا " اي بقدر ما يمسك الرمق من المطعم، وفى الدعاء
من طريق العامة: " وجعل لكل منهم قيتة مقسومة من رزقه " وهي فعلة من
القوت، اي كمية من القوت، ومن في قوله (ع): منهم - ابتدائية أو بيانية.
وقوله (ع): معلوما، اي معلوم الوصف والقدر والوقت، على حسب ما تقتضيه
الحكمة، وتستدعيه الإرادة التابعة لها، لا بما تقتضيه القدرة، فان ذلك غير
متناه، إذ تخصيص كل شئ بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون
ما عدا ذلك مع استواء الكل في الامكان واستحقاق تعلق القدرة به، لابد له من
حكمة تقتضي اختصاص كل ذلك بما اختص به، وهذا البيان سر عدم تكوين
الأشياء لا على وجه الكثرة حسب ما هو في خزائن القدرة، كما قال تعالى:
" وان شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم ".
وقوله (ع): مقسوما، أي معينا مفروزا عن غيره قسمة تقتضيها مشينه
المبنية على الحكمة والمصلحة، ولم يفوض أمره إليهم علما منه بعجزهم عن تدبير
أنفسهم، كما قال تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا،
الخ ".
قوله (ع): من رزقه، اما متعلق بجعل، أو بقوله: مقسوما. ومن
يحتمل أن تكون ابتدائية وبيانية وتبعيضية. والضمير اما راجع إلى الله
فيكون من باب إضافة الشئ إلى فاعله، تأكيدا لجعله أو قسمته، ليثق
الانسان بوصول ما قدره الله إليه، فيكف عن الحرص والهلع في طلبه، أو إلى
الروح فيكون من باب إضافة الشئ إلى صاحبه بيانا لعنايته سبحانه، وتمليكه
ما يحتاج إليه.
وقوله (ع): من زاده، مفعول مقدم، وناقص فاعله، وهو اسم فاعل
منه. وكذا قوله: من نقص منهم مفعول، ومفعول نقص محذوف، أي نقصه
منهم، والمعنى ان من زاد الله قوته أو رزقه منهم لا ينقصه ناقص، ومن نقصه
سبحانه لا يزيده زائد، وقدم المفعول في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله تعالى،
من الزيادة والنقصان.
331

وما رواه العياشي، عن الحسين بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام،
قال قلت له: جعلت فداك، انهم يقولون: ان النوم بعد الفجر مكروه، لان
الأرزاق تقسم في ذلك الوقت. فقال: الأرزاق موظوفة مقسومة، ولله فضل
يقسمه من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وذلك قوله: " واسألوا الله
من فضله " (107) ثم قال: وذكر الله بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرزق من
الضرب في الأرض. الحديث 7، من كتاب العدل، من البحار 2، ط الكمباني،
و 5، 147، ط الحديث.
وما رواه الصدوق (ره) معنعنا في الحديث 12، من باب النوادر، من كتاب

(107) النساء: 31.
332

الفقيه: 4، 281، ط النجف: انه جاء رجل إلى (الإمام الصادق) جعفر
ابن محمد عليهما السلام، فقال له: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله علمني
موعظة. فقال له عليه السلام: إن كان الله تبارك وتعالى قد تكفل بالرزق
فاهتمامك لماذا، وإن كان الرزق مقسوما فالحرص لماذا، وإن كان الحساب
حقا فالجمع لماذا، وإن كان الخلف من الله عز وجل حقا فالبخل لماذا، وان
كانت العقوبة من الله عز وجل النار فالمعصية لماذا، وإن كان الموت حقا فالفرح
لماذا، وإن كان العرض على الله عز وجل حقا فالمكر لماذا، وإن كان الشيطان
عدوا فالغفلة لماذا، وإن كان الممر على الصراط حقا فالعجب لماذا، وإن كان
كل شئ بقضاء من الله وقدره فالحزن لماذا، وان كانت الدنيا فانية فالطمأنينة
إليها لماذا؟! وقريب منه في الباب الثاني، من البحار: 23، 10، عن أمالي الصدوق.
وروى ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث الثاني، من الباب
الثالث، من الكتاب الخامس، من الكافي 57. والشيخ الطوسي (ره)،
في الحديث الأخير، من المجلس الثاني، من الأمالي 38 معنعنا، عن الإمام الصادق
عليه السلام أنه قال: من صحة يقين المرء المسلم ان لا يرضي الناس
بسخط الله، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فان الرزق لا يسوقه حرص
حريص، ولا يرده كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من
الموت لأدركه رزقه، كما يدركه الموت، الخ. ورواه في البحار: 23، 12،
عن قصص الأنبياء.
وفي الحديث الثامن، من الباب 23، من كتاب الايمان والكفر، من
الكافي: 2، 455 معنعنا، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: كم من طالب
للدنيا لم يدركها، ومدرك لها قد فارقها، فلا يشغلنك طلبها عن عملك،
والتمسها من معطيها ومالكها، فكم من حريص على الدنيا قد صرعته،
333

واشتغل بما أدرك منها عن طلب آخرته حتى فنى عمره وادركه أجله.
وفي الحديث التاسع، من الباب، ص 458، معنعنا عنه (ع) قال:
انكم في آجال مقبوضة، وأيام معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيرا
يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة، ولكن زارع ما زرع، ولا
يسبق البطئ منكم حظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، من أعطي خيرا
فالله أعطاه، ومن وقي شرا فالله وقاه.
وقال الإمام العسكري عليه السلام: انكم في آجال منقوصة وأيام
معدودة، والموت يأتي بغتة، من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا
يحصد ندامة، لكل زارع ما زرع، لا يسبق بطئ بحظه، ولا يدرك حريص
ما لم يقدر له، من أعطي خيرا الله أعطا، ومن وقي شرا فالله وقاه
وقال (ع): لا يشغلك رزق مضمون، عن عمل مفروض. تحف
العقول: 368، ط النجف.
وقال (ع): المقادير الغالبة، لا تدفع بالمغالبة، والأرزاق المكتوبة
لا تنال بالشره، ولا تدفع بالامساك عنها. البحار: 17، 218، ط الكمباني.
هذا قليل من كثير مما هو ظاهر أو صريح في أن الرزق لا يقبل الازدياد،
بل إن ما قدر لك يصل إليك، وان لم تقم من مقامك، وان ما لم يقدر فلا
يصل إليك، وان ابتغيت في السماوات سلما، أو في الأرضين نفقا، وهو
معتقد كثير من الناس. وحكي ان كسرى لما قتل بزرجمهر وجد في منطقته
مكتوبا: إذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بالناس عجز، وإذا كان القدر
حقا فالحرص باطل، وإذا كان الموت راصدا فالطمأنينة حمق.
وفي قبال هذه الأخبار آثار كثيرة آخر تدل على أن الرزق مما يقبل
الوفور بالسعي وحسن التدبير، وحذاقة التحفظ والتربية، مثل قوله تعالى
في سورة الجمعة: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من
334

فضل الله الخ ".
ومثل ما روي في بعض الكتب: ان الله يقول: يا بن آدم حرك يدك أبسط
لك في الرزق، وأطعني فيما آمرك، فما أعلمني بما يصلحك.
ومثل ما روى الشيخ (ره) معنعنا عن علي بن عبد العزيز قال قال أبو
عبد الله عليه السلام: ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت: جعلت فداك، اقبل على
العبادة وترك التجارة. فقال: ويحه، أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب
له دعوة، ان قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله لما نزلت: " ومن
يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " اغلقوا الأبواب،
واقبلوا على العبادة، وقالوا قد كفينا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، فأرسل إليهم، فقال: ما حملكم على ما صنعتم؟ فقالوا: يا رسول
الله تكفل الله لنا بأرزاقنا، فأقبلنا على العبادة. فقال (ص): انه من فعل
ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب.
ومثل ما روي في كنز الفوائد وغيره، عن أمير المؤمنين عليه السلام:
الدنيا دول، فاطلب حظك منها بأجمل الطلب.
ومثل مان عن الكليني (ره)، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: أرأيت لو أن رجلا دخل بيته وأغلق بابه، أكان يسقط عليه
شئ من السماء؟!
وعن ابن فهد (ره)، في عدة الداعي، عن عمر بن يزيد، عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: اني لأركب في الحاجة التي كفانيها الله، ما اركب
فيها الا لالتماس ان يراني الله أضحى في طلب الحلال، اما تسمع قول الله
عز وجل: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ".
أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه، وقال رزقي ينزل علي، كائن
يكون هذا؟ اما انه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة. قلت: من
335

هؤلاء؟ قال رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له، لان عصمتها في
يده ولو شاء ان يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد
عليه، فيجحد حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له، لأنه ترك ما أمر به، والرجل
يكون عنده الشئ فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس الرزق
حتى يأكله فيدعو فلا يستجاب له. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة
في مختلف المقامات.
والذي يحل الاشكال، ويشرح المقصود من الأخبار السابقة هو الاخبار
المفصلة بان الرزق نوعان، مثل هذا الكلام الذي نحن في مقام شرحه، فإنه
صريح في أن بعض اقسام الرزق يطلب الانسان، وبعض آخر يطلبه الانسان.
ومثل ما رواه في الوسائل، عن الشيخ المفيد (ره)، في المقنعة، عن الإمام الصادق
عليه السلام قال: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما واصل
إلى صاحبه وان لم يطلبه، والاخر معلق بطلبه، فالذي قسم للعبد على كل
حال آتيه وان لم يسع له، والذي قسم له بالسعي فينبغي لله أن يلتمسه من
وجوهه، وهو ما أحله الله دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده
حسب عليه يرزقه وحوسب به.
336

المائدة الثالثة:
في ذكر شئ مما قيل في المقام من الاشعار.
ونسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، كما في المختار 21، من حرف
الراء، من الديوان المنسوب إليه (ع)، ص 78:
للناس حرص على الدنيا بتدبير * وصفوها لك ممزوج بتكدير
كم من ملح عليها لا تساعده * وعاجز نال دنياه بتقصير
لم يرزقوها بعقل حينما رزقوا * لكنما رزقوها بالمقادير
لو كان عن قوة أو عن مغالبة * طار البزاة بأرزاق العصافير.
وفي المختار العاشر، من حرف اللام، من الديوان المنسوب إليه (ع):
فلو ان العقول تجر رزقا * لكان الرزق عند ذوي العقول، الخ
وفي المختار 23، من الباب:
صن النفس واحملها على ما يزينها * تعش سالما والقول فيك جميل
وان ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد * عسى نكبات الدهر عنك تزول
يعز غني النفس وان قل ماله * ويغنى غني المال وهو ذليل (108)
وروى في الباب الثاني، من البحار: 23، 12 عن جامع الأخبار عنه (ع):
دع الحرص على الدنيا * وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع من المال * فلا تدري لمن تجمع
ولا تدري أفي أرضك * أم في غيرها تصرع
فان الرزق مقسوم * وكد المرء لا ينفع
فقير كل من يطمع * عني كل من يقنع
ورواها عنه أيضا في المستدرك: 2، 420.

(108) يغنى، اي يمكث ويلبث، كقوله تعالى: " كأن لم تغن بالأمس ".
337

وقال السبط الشهيد الإمام الحسين عليه السلام:
قال تكن الدنيا تعد نفيسة * فان ثواب الله أعلى وأنبل
وان تكن الأبدان للموت أنشأت * فقتل امرء بالسيف في الله أفضل
وان تكن الأرزاق قسما مقدرا * فقلة حرص المرء في السعي أجمل
وان تكن الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به المرء يبخل
وقال (ع):
إذا ما عضك الدهر * فلا تجنح إلى خلق
ولا تسأل سوى الله * تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت * من الغرب إلى الشرق
لما صادقت من يقدر * ان يسعد أو يشقي
وقال الشاعر:
لا تحرصن الحطام فإنما * يأتيك رزقك حين يؤذن فيه
سبق القضاء بقدره وزمانه * وبأنه يأتيك أو تأتيه
وقال آخر:
أراك تزيدك الأيام حرصا * على الدنيا كأنك لا تموت
فهل لك غاية ان صرت يوما * إليها قلت حسبي قد رضيت
وذكروا ان إبراهيم بن هرمة انقطع إلى جعفر بن سليمان الهاشمي
فكان يجري له رزقا، فقطعه، فكتب إليه ابن هرمة:
ان الذي شق فمي ضامن * للرزق حتى يتوفاني
حرمتني خيرا قليلا فما * ان زادني مالك حرماني
فرد إليه رزقه وأحسن إليه.
وأنشد لبعضهم:
التمس الأرزاق عند الذي * ما دونه ان سيل من حاجب
من يبغض التارك تسأله * جودا ومن يرضى عن الطالب
338

ومن إذا قال جرى قوله * بغير توقيع إلى كاتب
لابن وكيع النفيسي:
لا تحيلن على سعد * ك في الرزق ونحسك
وإذا أغفلك الدهر * فذكره بنفسك
لا تعجل بلزوم * البيت فيما قبل رمسك
إنما يحمد حسن الرزق * من حمدة حسك
وأنشد لابن أصبغ:
لو كان في صخرة في الأرض راسية * صماء ملموسة ملس نواحيها
رزق لنفس براها الله لانفلقت * عنه فأدت إلى كل ما فيها
أو كان بين طباق السبع مطلبها * لسهل الله في المرقى مراقيها
حتى يلاقي الذي في اللوح خط له * ان هي أتته والا سوف يأتيها
وقال حيص بيص أبو الفوارس:
يا طالب الرزق في الآفاق مجتهدا * أقصر عناك فان الرزق مقسوم
الرزق يسعى إلى من ليس يطلبه * وطالب الرزق يسعى وهو محروم
وقال أيضا:
أنفق ولا تخش اقلالا فقد قسمت * على العباد من الرحمان أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية * ولا يضر مع الاقبال انفاق
وقال الأصم:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي * ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم * وللضب في البيدا وللحوت في البحر
وقال آخر:
مالك العالمين ضامن رزقي * فلماذا أملك الخلق رقي
قد قضى لي بما علي ومالي * خالقي جل ذكره قبل خلقي
فكما لا يرد عجزي رزقي * فكذا لا يجر رزقي حذقي
339

المائدة الرابعة:
في معنى الحكمة والآثار الواردة في شأنها وشأن الحكماء، المناسبة
لقوله (ع): " يا بني اقبل من الحكماء مواعظهم، الخ ".
قال العلامة المجلسي (ره): قيل: الحكمة تحقيق العلم، وانفاق
العمل. وقيل: هي ما يمنع من الجهل. وقيل: هي الإصابة في القول
وقيل: هي طاعة الله. وقيل هي الفقه في الدين. وقال ابن دريد: كل ما
يؤدي إلى مكرمة أو يمنع من قبيح. وقيل: ما يتضمن صلاح النشأتين.
والتفاسير متقاربة. (109).
والظاهر من الاخبار انها العلوم الحقة النافعة مع العمل بمقتضاها.
وقد يطلق على العلوم الفائضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما يعلم.
وقيل: الحكمة هي العدل والعلم والحكم والنبوة والقرآن والإنجيل
ووضع الشئ في موضعه وصواب الامر وسداده، وفي عرف العلماء هي
استعمال النفس الانسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة.

(109) وقيل: الحكمة هي العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح.
مستعار من الحكمة التي هي اللجام وهي ما أحاط بحنك الدابة، يمنعها الخروج
عن طاعة راكبها، والحكمة فهم المعاني، وسميت حكمة لأنها مانعة من الجهل.
وقال الراغب في المفردات: حكم أصله منع منعا لاصلاح، ومنه سميت
اللجام حكمة الدابة، فقيل: حكمته وحكمت الدابة: منعتها بالحكمة، وأحكمتها:
جعلت لها حكمة، وكذلك حكمت السفينة وأحكمتها، قال الشاعر: " أبني
حنيفة أحكموا سفهاءكم ".
وقيل: الحكمة - بكسر الحاء - على فعلة، بناء نوع يدل على نوع المعنى،
فمعناه النوع من الاحكام والاتقان أو نوع من الامر المحكم المتقن الذي لا يوجد
فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات الحقة الصادقة التي لاتقبل
البطلان والكذب البتة. أقول: ولا يخفى عليك انها كلمة حق قد يراد بها الباطل.
340

على الافعال الفاضلة قدر طاقتها.
وقال بعضهم: الحكمة هي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر
الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة مالها وما عليها المشار إليه
بقوله تعالى: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " وافراطها الجربزة
وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي كمخالفة
الشرائع، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية، والوقوف عن
اكتساب العلم، وهذه الحكمة غير الحكمة التي هي العلم بالأمور التي
وجودها من أفعالنا، بل هي ملكة تصدر عنها أفعال متوسطة بين افعال
الجربزة والبلاهة.
وقال الراغب: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل، فالحكمة من
الله تعالى معرفة الأشياء وايجادها على غاية الاحكام، ومن الانسان معرفة
الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز
وجل: " ولقد آتينا لقمان الحكمة " ونبه على جملتها بما وصفه بها. فإذا
قيل في الله تعالى: هو حكيم فمعناه بخلاف معناه إذا وصف به غيره، ومن
هذا الوجه قال الله تعالى: " أليس الله بأحكم الحاكمين "، وإذا وصف به
القرآن فلتضمنه الحكمة نحو " الر، تلك آيات الكتاب الحكيم " وعلى
ذلك قال: " ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر، حكمة بالغة ".
وقيل: معنى الحكيم: المحكم نحو " أحكمت آياته " وكلاهما
صحيح، فإنه محكم ومفيد للحكم، ففيه المعنيان جميعا،
والحكم أعم من الحكمة، فكل حكمة حكم، وليس كل حكم حكمة،
فان الحكم أن يقضى بشئ على شئ فيقول: هو كذا، أوليس بكذا،
قال صلى الله عليه وسلم: ان من الشعر لحكمة، أي قضية صادقة، وذلك
نحو قول لبيد: " ان تقوى ربنا خير نفل. " قال الله تعالى: " وآتيناه الحكم
341

صبيا " وقال صلى الله عليه وسلم: " الصمت حكم وقليل فاعله " اي حكمة.
" ويعلمهم الكتاب والحكمة " وقال تعالى: " واذكرن ما يتلى في بيوتكن
من آيات الله والحكمة " قيل: تفسير القرآن، ويعني ما نبه عليه القرآن،
ومن ذلك: " ان الله يحكم ما يريد " اي ما يريده يجعله حكمة (110) وذلك
حث للعباد على الرضا بما يقضيه.
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله: " من آيات الله والحكمة " هي
علم القرآن، ناسخه ومنسوخه. محكمه ومتشابهه. وقال ابن زيد: هي
علم آياته وحكمه. وقال السدي: هي النبوة. وقيل: فهم حقائق القرآن،
وذلك إشارة إلى ابعاضها التي تختص بأولي العزم من الرسل، ويكون
سائر الأنبياء تبعا لهم في ذلك، وقوله عز وجل: " يحكم بها النبيون
الذين اسلموا للذين هادوا " فمن الحكمة المختصة بالأنبياء، أو من الحكم، قوله
عز وجل: " آيات محكمات هن أم الكتاب، واخر متشابهات " فالمحكم
مالا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولامن حيث المعنى، الخ.
وروى العلامة الكراجكي (ره)، في كنز الفوائد: 214، ط 1،
عن لقمان الحكيم وصية لولده، منها:
يا بني تعلم الحكمة تشرف، فان الحكمة تدل على الدين، وتشرف
العبد على الحر، وترفع المسكين على الغني، وتقدم الصغير على الكبير،
وتجلس المسكين مجالس الملوك، وتزيد الشريف شرفا، والسيد سؤددا،
والغني مجدا، وكيف يظن ابن آدم أن يتهيأ له أمر دينه ومعيشته بغير
حكمة، ولن يهئ الله عز وجل أمر الدنيا والآخرة الا بالحكمة، ومثل

(110) هذا خلاف ظاهر الآية، والظاهر من السياق انه تعالى في مقام
بيان قهاريته، وانه إذا أراد شيئا يوجده بإرادته النافذة، وحكمه الماضي،
بخلاف غيره، فان ارادته غير ماضية فيما أحب وأراد.
342

الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بلا نفس، أو مثل الصعيد بلا ماء، ولاصلاح
للجسد بلا نفس، ولا للصعيد بغير ماء، ولا للحكمة بغير طاعة.
وقال أيضا: لان يضربك الحكيم فيؤذيك خير من أن يدهنك الجاهل
بدهن طيب. البحار: 17، 268.
وفي الحديث 34، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 285 معنعنا،
عن رسول الله (ص) قال: ان عيسى بن مريم عليه السلام قام في بني إسرائيل
فقال: يا بني إسرائيل لا تحدثوا بالحكمة الجهال فتظلموها، ولا
تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تعينوا الظالم على ظلمه فيبطل فضلكم،
الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه،
وأمر اختلف فيه فرده إلى الله عز وجل. وروي عن منية المريد، الشهيد
الثاني أيضا.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير
له من الدنيا وما فيها. المحجة البيضاء: 94، ط 2، عن احياء العلوم.
ونسب إليه (ص) أنه قال: قلب ليس فيه شئ من الحكمة كبيت
خراب، فتعلموا وعلموا وتفقهوا، ولا تموتوا جهالا، فان الله لا يعذر على
الجهال (على الجهل ظ).
وقال (ص): ما أخلص عبد العمل لله أربعين يوما الا ظهرت ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه. وقال (ص): الحكمة ضالة المؤمن يأخذها
ممن سمعها، ولا يبالي في أي وعاء خرجت.
وقال (ص): لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها
أهلها فتظلموهم. (111)

(111) ورواه في البحار: 17، 51، في الحديث 14، عن اعلام الدين
بلفظ: تعطوا، الخ.
343

وروي عن كتاب نزهة الناظر، لأبي يعلى الجعفري (ره) قال قال
رسول الله (ص): كلمة حكمة يسمعها المؤمن فيعمل بها خير من عبادة
سنة. ورواه في البحار: 17، 49، س 5، عن اعلام الدين للديلمي (ره).
وفي البحار: 17، 50 س 7، عن كتاب الإمامة والتبصرة، معنعنا
عنه (ص): غريبتان غريبة كلمة حكم من سفيه فاقبلوها، وكلمة سفه من
حكيم فاغفروها.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحكمة شجرة تنبت في القلوب،
وتثمر على اللسان. نقله بعض الفضلاء عن كتاب الناسخ.
وقال (ع) في أوائل عهده للأشتر (ره): وأكثر مدارسة العلماء،
ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام
به الناس قبلك، الخ.
وقال (ع): ان كلام الحكماء إذا كان صوابا كان دواء، وإذا كان
خطأ كان داء. المختار 265، من قصار النهج.
وقال (ع) في مدح قوم ينصرون الحق في آخر الزمان: ويغبقون
كأس الحكمة بعد الصبوح، الخ (112).
وقال (ع) في ذم فتن ستحدث بعده: تغيض فيها الحكمة، وتنطق
فيها الظلمة، الخ. المختار 149، من خطب النهج.
وقال (ع) في وصيته للامام المجتبى: أحي قلبك بالموعظة، وأمته
بالزهادة، وقوة باليقين، ونوره بالحكمة، الخ.
وقال (ع): واعلموا أن ليس من شئ الا ويكاد صاحبه أن يشبع
منه ويمله الا الحياة، فإنه لا يجد له في الموت راحة، وإنما ذلك بمنزلة

(112) المختار 148، من خطب النهج، ويغبقون - على بناء المجهول -
اي يسقون.
344

الحكمة التي هي حياة للقلب الميت، وبصر للعين العمياء، وسمع للاذن
الصماء. وري للظمآن، وفيها الغنى كله والسلامة، الخ (113).
وقال (ع): خذ الحكمة أني كانت، فان الحكمة تكون في صدر
المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن.
وقال (ع): الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق.
المختار 79 و 80، من قصار نهج البلاغة.
وقال (ع): ان الحكماء ضيعوا الحكمة لما وضعوها عند غير أهلها.
البحار: 17، 208.
وعن الإمام السجاد عليه السلام قال: هلك من ليس له حكيم يرشده،
وذل من ليس له سفيه يعضده. البحار: 17، 160، س 11.
وفي الحديث 26، من الباب 7، من البحار: 1، 67، ط الكمباني،
عن مصباح الشريعة، قال الصادق عليه السلام: الحكمة ضياء (114)

(113) قال الشيخ محمد الحقاني وفقه الله: المشار إليه في قوله (ع):
" وإنما ذلك بمنزلة الحكمة، الخ " هو عدم الشبع والملالة من الحياة، أي
عدم شبع أهل الدنيا من الحياة، وعدم ملالتهم منها، كعدم شبع العلماء
والصلحاء من الحكمة التي هي حياة للقلب، وضياء للعين، وسمع للاذن، وري
للظماء، وفيها الغنى والسلامة، وهي كتاب الله الذي به يبصر البصير، وينطق
المحق، الخ. وهذا المعنى المستفاد من السياق، مؤيد أيضا بقرائن خارجية
مثل قولهم (ع): منهومان لا يشبعان: طالب الدنيا وطالب العلم. ومثل ما ورد
في شأن القرآن كقولهم (ع): ان لله حرمات ثلاث كتابه هو حكمة ونور، الخ.
ومثل ما ورد في تفسير قوله تعالى: " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا "
الآية، إلى غير ذلك مما ورد في شأن القرآن.
(114) قال العلامة المجلسي (ره): إضافة الضياء إلى المعرفة اما بيانية،
أو لامية، وعلى الأخير فالمراد: النور الحاصل في القلب بسبب المعرفة، أو
العلوم الفائضة بعدها، والثبات عند أوائل الأمور عدم التزلزل من الفتن
الحادثة عند الشروع في عمل من أعمال الخير، وكذا الوقوف عند عواقبها
وأواخرها وما يترتب عليها من المفاسد الدنيوية.
345

المعرفة، وميراث التقوى، وثمرة الصدق، وما أنعم الله على عبد من عباده
نعمة أنعم وأعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة، قال الله عز وجل:
" يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر
الا أولو الألباب ". أي لا يعلم ما أودعت وهيئت في الحكمة الا من
استخلصته لنفسه (لنفسي ظ) وخصصته بها، والحكمة هي الثبات،
وصفة الحكيم الثبات عند أوائل الأمور، والوقوف عند عواقبها، وهو
هادي خلق الله إلى الله تعالى، قال رسول الله (ص) لعلي لان يهدي
الله على يديك عبدا من عباد الله خير لك مما طلعت عليه الشمس من مشارقها
إلى مغاربها.
وقال (ع): كثرة النظر في الحكمة تلقح العقل. البحار: 17،
185، س 21.
وقال الامام السابع موسى بن جعفر عليهما السلام في وصاياه للعبد
الصالح: هشام بن الحكم (ره): يا هشام ان الزرع ينبت في السهل، ولا
ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب
المتكبر الجبار، لان الله تعالى جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر من
آلة الجهل، ألم تعلم أن من شمخ إلى السقف برأسه شجه، ومن خفض
رأسه استظل تحته وأكنه، فكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله، ومن تواضع
لله رفعه الله، الخ.
وقال (ع) فيها أيضا: واعلموا أن الكلمة من الحكمة ضالة المؤمن،
فعليكم بالعلم قبل ان يرفع، ورفعه غيبة عالمكم بين أظهركم.
وقال (ع): يا هشام لا تمنحوا الجهال الحكم فتظلموها، ولا تمنعوها
أهلها فتظلموهم، يا هشام كما تركوا لكم الحكمة، فاتركوا لهم الدنيا، الخ.
البحار: 17، 199، س 3، ط الكمباني.
346

وقال الإمام الهادي عليه السلام: الحكمة لا تنجع في الطباع الفاسدة.
وعنهم (ع): خذوا الحكمة ولو من ألسنة المشركين.
وقالت الحكماء: لا يطلب الرجل حكمة الا بحكمة عنده. وقالوا:
إذا وجدتم الحكمة مطروحة على السكك فخذوها.
وذكر ابن مسكويه (ره)، في حكم الاسلاميين، من الحكمة الخالدة،
ص 285، وصية وفيها: يا طالب الحكمة طهر لها قلبك، وفرغ لها لبك،
واجمع إلى النظر فيها همتك، فان الحكمة أعظم المواهب التي وهبها الله
لعباده، وأفضل الكرامة التي أكرم الله بها أولياءه، وهي المال الذي من أحرزه
استغنى به، ومن عدمه لم يغنه شئ سواه، والصاحب الذي من صحبه في
عمره لم يستوحش معه، ومن فارقه لم يسكن إلى أحد بعده، هي للقلوب
كالقطر للنبات، ومن العقول بمنزلة الضياء من الابصار، بطنت الحكمة لكل
شئ، وظهرت عليه، وعلت فوقه، وأحاطت به، فلها بكل شئ خبر، وعندها
على كل خبر شهادة، ومن أعظم شأنها أنها ليس أحد الا وهو منتحل اسمها،
ومتزين بها ولا حاجة بها إلى انتحال شئ غيرها، ولا التزين بغير زينتها،
فان كنت من حملتها ففرغ لها قلبك، وارفع إلى النظر فيها همتك، فإنها
أطهر من أن تجامع دنسا، وأنزه من أن تخالط قذرا، فقد رأينا من أراد
الغرس في ارضه يبدأ فيقلع ما فيها من غرائب النبت، ثم يأتي بكرائم الغرس
فينصبه فيها، وكذلك من طلب الحكمة، ورغب في اقتنائها، فهو حقيق بان
يبدأ بما في قلبه من أضوائها فيمحقها ويطهره منها، مثل الهوى والشهوات
المردية، ومثل الحقد والحسد، ومحبة الكرامة والتسرع إلى الغضب،
وأشباه هذه الأشياء، فإذا تطهر منها استقبل الحكمة فأخذ منها ما استطاع،
فإذا أظفرك الله بالحكمة، وزرع فيك بذرها، فلا يكونن زارع أولى بالقيام
على زرعه منك، ولا يمنعك بعد غورها، وكثرة أشباهها منها، فإنها من
347

المعونة على نفسها مثل الذي بالشمس للابصار، على استثباتها والاستبانة
لها، فمن صح بصر نفسه، ثم وصل بما صح منه إلى ما يرد عليه من الحكمة،
أو رابه شئ من الأمور ثم يمنعه ما فاته منها ان يسمى حكيما، ويلحقه
ما ظفر به بالحكماء، كما لا يمنع البصر ما فاته من المبصرات من أن يدعى
بصيرا ويلحقه بالبصراء، فإذا صح لك من عقلك ما تعرف به وجوه الحكمة،
وترغب به في الخير، وتميز بينه وبين الشر، فليس بشهادة الناس ولا بما
يسمونه حكمة تكون حكيما، ولا بعقولهم تعد من العقلاء، ولا بسائر ما
يثنون عليهم من ودهم ونصائحهم تكون فاضلا، وإنما الناس رجلان: رجل
لا خير فيه، جاهل بحقيقة الحكمة، فليس ملتفتا إليه، ورجل من أهل الحكمة
لا يمنعك مما سهل الله لك به سبيل الخير، بل يبذله لك، لأنه ليس يباع
بثمن، ولا يمنع من طالب، ولا يكتتم كاكتتام الذنوب، واعلم أن العقل
متوجه أينما وجه، وله غناء أينما صرف، وبعض مصارفه أنفع من بعض،
فإذا صرف إلى الدين أحكمه وتفقه فيه، وإذا صرف إلى الدنيا أغني بها
واحتال فيها فليس مستودعا شيئا الا حفظه، ولا مصبوغا بصبغ الا قبله، ولا
محملا رشدا ولاغيا الا تحمله، فإياك ان تعدله عن رشد، أو تصرفه إلى
غي عامدا أو مخطئا، فإنك لست محكما به شيئا من أمر دنياك الا أضعت
به أكثر منه من امر دينك، ولا حافظا به شيئا من الأدب غير النافع الا أضعت
به أكثر منه من نافع الأدب، غير انك تجمع إلى ضياع العناية بما لا ينفع
استيجاب التبعة فيما اضعت، وليس شئ من امر الدنيا صرفت إليه عقلك
فاحكمته الا سيعود محكمه عن وشيك ضائعا، وصالحه فاسدا لا يصحبك
شئ منه في آخرتك، ولا يوثق ببقائه لك في دنياك، وإنما وهن امر صاحب
الدنيا وبطل سعيه، لأنه بنى في غيره داره، وغرس في غير أرضه، فلم يكن
له - حين جاء من يشخصه - الا ان ينقضه ويدعه لغيره، ومن أخطاه العقل ظهر
348

به الحمق والبله، ومن صرف عقله إلى غير الحق ظهر به الدهى، وبعض
الدهى أبلغ في الشر من كثير من الحمق، وإنما القصد في ذلك ان يصاب
الحق، ثم لا يصرف به عن جهته.
اعلم أنه من غابت الحكمة عن عقله عجز عن انفاذ الأمور كما تعجز العين
الصحيحة عن رؤية الأشياء عند فقد الضياء، ولا يسلم له حق وان حسنت
ولايته، وذلك أنه إن كان جواها افسد جوده التبذير، وسوء موضع الصنيعة
وذلك أنه يصرف العطية إلى من لاحق له مع منع ذوي الحق، وإن كان بليغا أفرط في القول، وأخطأ البغية، وإن كان عالما افسد علمه العجب، وإن كان
حليما أفسد حلمه الذل والمهانة، وإن كان صموتا أضر بصمته العي، وإن كان
لينا بلغ لينه الضعف، فمن فقد الحكمة من أهل الخصال الحسنة ضاعت
خصاله، ومن فقدها من غيرهم هلك كل الهلاك، الخ. وهي طويلة أخذنا
منها بقدر الحاجة.
349

الفائدة الخامسة:
في بعض الآثار الواردة في حق الفقه والفقيه المناسبة لقوله (ع):
" وتفقه في الدين فان الفقهاء ورثة الأنبياء، الخ ".
فعن غوالي اللئالي، قال النبي (ص): فقيه واحد أشد على إبليس
من الف عابد.
وقال (ص): من أراد الله به خيرا يفقه في الدين. وهذا يأتي بأسانيده
عن غير واحد من الأئمة صلوات الله عليهم.
وعنه (ص): من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. دعائم الاسلام: 1،
81. وكما في الحديث 28، من الباب 6، من البحار: 1، 67، عن الغوالي
معنعنا، وفي الحديث 30، من الباب معنعنا، عن كتاب السرائر، قال رسول
الله: نعم الرجل الفقيه، ان احتيج إليه نفع، وان لم يحتج إليه نفع نفسه.
وفي الحديث 33، عن المجالس معنعنا (ص): إذا أراد الله بعيد
خيرا فقهه في الدين.
وفي الحديث 34، عن روضة الواعظين، عنه (ص): أفضل العبادة
الفقه، وأفضل الدين الورع.
وعنهم عليهم السلام: خلتان لا تجتمعان في منافق: فقه في الاسلام،
وحسن سمت في وجه. دعائم الاسلام: 1، 81 و 80. وهذا متواتر
عنهم عليهم السلام.
وعنهم (ع)، عن رسول الله (ص)، انه خطب الناس في مسجد
الخيف فقال: رحم الله عبدا سمع مقالتي فوعاها، وبلغها إلى من لم يسمعها،
فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، الخ.
وهذا الخبر له مصادر وثيقة من الطريقين: الشيعة والسنة.
350

وفي البحار: 17، 208، عن فقه الرضا: تفقهوا في دين الله فإنه أروى،
من لم يتفقه في دينه ما يخطئ أكثر مما يصيب، فان الفقه مفتاح البصيرة،
وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، الخ.
وعن بصائر الدرجات معنعنا، عن الإمام السجاد، والإمام الباقر
عليهما السلام: متفقه في الدين أشد على الشيطان من عبادة الف عابد.
وعن المحاسن معنعنا، عن الإمام الباقر عليه السلام قال: تفقهوا في
الحلال والحرام، والا فأنتم اعراب. الحديث 14 و 10، من الباب 6، من
البحار: 1، 66.
وعن ثقة الاسلام (ره) معنعنا عنه (ع) قال: الكمال كل الكمال
التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة. الحديث الرابع،
من الباب الثاني، من كتاب فضل العلم، من الكافي: 1، 32.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه كان يقول: تفقهوا في الدين،
فإنه من لم يتفقه منكم في الدين فهو اعرابي، ان الله يقول في كتابه:
" ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ".
وقال عليه السلام: عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا اعرابا،
فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له
عملا.
وعنه عليه السلام: لوددت ان أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط
حتى يتفقهوا.
وسأله رجل عن رجل عرف هذا الامر، لزم بيته، ولم يتعرف إلى
أحد من اخوانه، قال فقال: كيف يتفقه هذا في دينه؟!
وعنه (ع): لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا - يا بشير - ان الرجل
منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب
351

ضلالتهم وهو لا يعلم. كل ذلك ذكره ثقة الاسلام (ره) بأسانيدها في
الحديث 6، من الباب 2، من كتاب فضل العلم، والحديث 6 إلى 10،
من الباب 1، من الكافي.
وعن المحاسن معنعنا، قال قال أبو عبد الله عليه السلام: لا يستكمل
عبد حقيقة الايمان حتى تكون فيه خصال ثلاث: التفقه في الدين، وحسن
التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا. ورواه في الخصال مسندا عن
أمير المؤمنين (ع)، كما في الحديث 4، و 11، من الباب 6، من كتاب
العلم، من البحار: 1، 65 و 66.
وعنه (ع): إذا أراد الله بعد خيرا فقهه في الدين. كما في الحديث
3، من الباب 2، من كتاب فضل العلم، من الكافي 32، ورواه أيضا باختلاف
في اللفظ، عن رسول الله (ص)، في الحديث 9، من المجلس 19، من امالي
الشيخ المفيد، وفي كنز الفوائد 239، ورواه في المحجة البيضاء: 1، 13،
عن جماعة من العامة، عن رسول الله (ص).
وقال الإمام الكاظم عليه السلام: تفقهوا في دين الله، فان الفقه مفتاح
البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة
في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب،
ومن لم يتفقه في دينه لم يرض الله له عملا. تحف العقول: 307.
وعن الإمام الجواد عليه السلام: التفقه ثمن لكل غال، وسلم إلى
كل عال. الحديث 39، من الباب 6، من البحار: 1، 67، عن
الدرة الباهرة.
352

المائدة السادسة:
في الآثار الدالة على مراعاة الناس، وان يرضى لهم ما يرضاه لنفسه،
المناسبة لقوله (ع): " وأحسن إلى جميع الناس كما تحب ان يحسن
إليك، الخ ".
روى الصدوق (ره) في الباب 97، من الجزء الثاني، من معاني الأخبار
: 253 معنعنا، قال قال لقمان لابنه: يا بني صاحب مأة، ولا تعاد
واحدا، يا بني إنما خلاقك وخلقك، فخلاقك دينك، وخلقك بينك وبين
الناس، فلا تتبغض إليهم، وتعلم محاسن الأخلاق، يا بني كن عبدا
للأخيار، ولا تكن ولدا للأشرار، يا بني أد الأمانة تسلم لك دنياك
وآخرتك، وكن أمينا تكن غنيا.
وروى الكليني (ره)، في الحديث 9، من باب حق المؤمن، من
الكافي: 2، 172 معنعنا، عنه (ص) أنه قال: ست خصال من كن فيه
كان بين يدي الله عز وجل وعن يمين الله: يحب المرء المسلم لأخيه ما يحب
لأعز أهله، ويكره لأخيه ما يكره لأعز أهله، الخ.
وعن الصدوق (ره) معنعنا، ان أمير المؤمنين عليه السلام وجد
في قائمة سيف من سيوف رسول الله صحيفة، فيها ثلاثة أحرف: صل
من قطعك، وقل الحق ولو على نفسك، وأحسن إلى من أساء إليك،
الخ. الحديث 2، من الباب 11، من البحار: 16، 44، عن أمالي الصدوق.
وروى ثقة الاسلام الكليني (ره) معنعنا، في الحديث العاشر، من
الباب 66، من كتاب الايمان والكفر، من الكافي: 2، 146: انه
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهو يريد بعض غزواته، فأخذ
353

بغرز راحلته فقال: يا رسول الله علمني عملا ادخل به الجنة. فقال:
ما أحببت أن يأتيه الناس إليك فأته الهيم، وما كرهت ان يأتيه الناس
إليك فلا تأته إليهم، خل سبيل الراحلة.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام، في وصيته إلى الامام المجتبى عليه
السلام: يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين الناس، فأحبب لغيرك
ما تحب لنفس، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم،
وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من
غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل مالا تعلم
وان قل ما تعلم، ولا تقل مالا تحب ان يقال لك، الخ.
وروى في الحديث 5، من الباب 26، من كتاب العشرة، من الكافي
2، 67 معنعنا: ان أمير المؤمنين عليه السلام صاحب رجلا ذميا، فقال
له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة، فلما عدل الطريق
بالذمي عدل معه علي، فقال له الذمي ليس زعمت تريد الكوفة؟ قال:
بلى:. فقال له الذمي: فقد تركت الطريق. فقال له: قد علمت. فقال
له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له علي (ع): هذا من تمام
حسن الصحبة ان يشيع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه، وكذلك أمرنا
نبينا. فقال له: هكذا؟ قال: نعم. فقال له الذمي: لاجرم إنما تبعه
من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهدك اني على دينك، فرجع الذمي مع
علي فلما عرفه أسلم. وهذا اللفظ رواه المجلسي (ره)، في الحديث 4،
من باب 11، من البحار: 1، من 16، ص 44، ط الكمباني معنعنا،
عن قرب الإسناد.
وعن السبط الأكبر، الإمام الحسن عليه السلام قال: يا بن آدم عف
عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله سبحانه تكن غنيا، وأحسن
354

جوار من جاورك تكن مسلما، وصاحب الناس بمثل ما تحب ان يصاحبوك
به تكن عدلا، الخ. المختار 36، من كلامه (ع)، في البحار: 17،
147، ط الكمباني.
وروى الصدوق (ره)، في الباب 66، من كتاب التوحيد 137،
مسندا عن الإمام الباقر عليه السلام قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى آدم
عليه السلام: يا آدم اني أجمع لك الخير كله في أربع كلمات، واحدة لي
وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس،
فأما التي لي: فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك: فأجازيك بعملك
أحوج ما تكون إليه، واما التي بيني وبينك: فعليك الدعاء وعلي الإجابة،
وأما التي فيما بينك وبين الناس: فترضى للناس ما ترضى لنفسك. ورواه
أيضا معنعنا عنه (ع)، في الحديث 13، من باب العدل والانصاف، من
الكافي: 2، 146. ورواه أيضا معنعنا، عن الإمام الصادق (ع)، في
الحديث 53، من باب النوادر، من كتاب من لا يحضره الفقيه: 4، 290.
وروى الكليني (ره)، في الحديث الثاني، من الباب 75 (باب حق
المؤمن) من الكافي: 2، 169 معنعنا، عن معلى بن خنيس عن الإمام الصادق
(ع) قال، قلت له: ماحق المسلم على المسلم؟ قال: له سبع
حقوق واجبات، ما منهن حق الا وهو عليه واجب، ان ضيع منها شيئا خرج
من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه نصيب، - وساق الكلام إلى أن
قال (ع) -: وأيسر حق منها، أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له
ما تكره لنفسك، الخ. ورواه أيضا شيخ الطائفة (ره)، مسندا في
الحديث 3، من الجزء الرابع من الأمالي 59.
وأيضا روى ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث الثالث، من
الباب، معنعنا عنه (ع) أنه قال: ان من أشد ما افترض الله على خلقه
355

ثلاثا: انصاف المرء من نفسه حتى لا يرضى لأخيه من نفسه الا بما يرضى
لنفسه منه، ومؤاساة الأخ في المال، الخ.
وأيضا روى الكليني (ره)، في الحديث 4، من الباب معنعنا عنه (ع)
ما عبد الله بشئ أفضل من أداء حق المؤمن.
وفي الحديث الثاني، من الجزء الرابع، من المالي الشيخ (ره)، ص
59 معنعنا، عن محمد بن مسلم قال: اتاني رجل من أهل الجبل، فدخلت
معه على أبي عبد الله عليه السلام، فقال له عند الوداع: أوصني. فقال:
أوصيك بتقوى الله، وبر أخيك المسلم، وأحب له ما تحب لنفسك، واكره
له ما تكره لنفسك، وان سألك فأعطه، وان كف عنك فاعرض عليه، ولا
تمله خيرا فإنه لا يملك، وكن له عضدا فإنه لك عضد، وان وجد عليك فلا
تفارقه حتى تحل سخيمته، وان غاب فاحفظه في غيبته، وان شهد فاكنفه
واعضده ووازره وأكرمه ولاطفه، فإنه منك وأنت منه.
356

المائدة السابعة:
في تفسير الخلق الحسن، والأخبار الواردة في مدحه، المناسبة لقوله:
عليه السلام: " وحسن مع جميع الناس خلقك، الخ ".
قال العلامة المجلسي (ره): الخلق - بالضم - يطلق على الملكات
والصفات الراسخة في النفس، حسنة كانت أم قبيحة، وفي مقابله الاعمال،
ويطلق حسن الخلق غالبا على ما يوجب حسن المعاشرة ومخالطة الناس
بالجميل.
قال الراغب: الخلق والخلق في الأصل واحد، لكن خص الخلق -
بالفتح - بالهيئات والاشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق -
بالضم - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.
وقال في النهاية: الخلق - بضم اللام وسكونها: الدين والطبع
والسجية، وحقيقته انه لصورة الانسان الباطنة وهي نفسها وأوصافها ومعانيها
المختصة بها بمنزلة الخلق - بالفتح - لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها،
ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة
الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث
في مدح حسن الخلق في غير موضع كقوله: أكثر ما يدخل الناس الجنة
تقوى الله وحسن الخلق. وقوله: أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا.
وقوله: ان العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم. وقوله: بعثت
لأتمم مكارم الأخلاق. والأحاديث من هذا النوع كثيرة، وكذلك جاء في
ذم سوء الخلق أحاديث كثيرة.
وقيل: حسن الخلق إنما يحصل من الاعتدال بين الافراط والتفريط
في القوة الشهوية والقوة الغضبية، ويعرف ذلك بمخالطة الناس بالجميل،
357

والتودد والصلة والصدق واللطف والبرر وحسن الصحبة والعشرة والمراعاة
والمساواة والرفق والحلم والصبر والاحتمال لهم والاشفاق عليهم، وبالجملة
هي حالة نفسانية يتوقف حصولها على اشتباك الأخلاق النفسانية بعضها
ببعض، ومن ثم قيل: هو حسن الصورة الباطنة التي هي الصورة الناطقة،
كما أن حسن الخلق هو حسن الصورة الظاهرة، وتناسب الاجزاء، الا
ان حسن الصورة الباطنة قد يكون مكتسبا، ولذا قد تكررت الأحاديث
في الحث به وبتحصيله.
وقال الراوندي (ره)، في ضوء الشهاب: الخلق السجية والطبيعية،
ثم يستعمل في العادات التي يتعودها الانسان من خير أو شر، والخلق ما يوصف
العبد بالقدرة عليه، ولذلك يمدح ويذم به، ويدل على ذلك قوله (ص):
خالق الناس بخلق حسن.
واما الأخبار الدالة على مدح حسن الخلق فكثيرة، قال رسول الله
صلى الله عليه وآله، في وصاياه (115) لعلي (ع): يا علي ألا أخبركم
بأشبهكم بي خلقا؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا، وأعظمكم
حلما، وأبركم بقرابته، وأشدكم من نفسه انصافا - إلى أن قال (ص) -
لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من
العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله تعالى، ولا
حسب كحسن الخلق، ولا عبادة مثل التفكر، الخ (116). والذيل رواه
في البحار: 2 من 15، ص 209، س 1 عكسا، في الحديث 53، من باب
حسن الخلق، عن معاني الأخبار.

(115) رواها في الحديث 1، من باب نوادر الفقيه: 4، 254 معنعنا.
(116) وقريب منه رواه الغزالي انه قالا لأبي ذر. وحكي عن سنن ابن
ماجة تحت الرقم 4218، كما في المحجة البيضاء: 5، 92.
358

وفي الحديث 14، من الجزء السابع، من امالي شيخ الطائفة (ره)
معنعنا، عن أبي ذر (ره)، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اتق
الله حيث ما كنت، وخالق الناس بحسن خلق، وإذا عملت سيئة فاعمل
حسنة تمحوها. وقريب منه ما رواه العامة، كما في المحجة البيضاء: 5،
90، عن احياء العلوم، والدارمي ج 2 ص 323، والمسند: 5، 228.
وروى ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث الثاني، من الباب 49،
من الكافي: 2، 99، معنعنا عنه (ص) أنه قال: ما يوضع في ميزان امرء
يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.
وفي الحديث الأول، من الباب 87، من أحكام العشرة، من كتاب
الحج، من مستدرك الوسائل: 2، 82، ط 1، عن الجعفريات معنعنا، عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: أكثر ما تلج به أمتي في النار الأجوفان:
البطن والفرج، وأكثر ما تلج به أمتي في الجنة: التقوى وحسن الخلق.
وبالاسناد قال (ص): ليس شئ أثقل في الميزان من الخلق الحسن.
وأيضا معنعنا، عن الكتاب: قيل يا رسول الله ما أفضل حال أعطي
للرجل؟ قال (ص): الخلق الحسن، ان أدناكم مني وأوجبكم علي شفاعة
أصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، وأحسنكم خلقا، وأقربكم من الناس.
وبالاسناد عن الجعفريات: قال أتي النبي صلى الله عليه وآله بسبعة
أسارى، فقال: قم يا علي فاضرب أعناقهم، قال، فهبط جبرئيل عليه السلام
في طرف العين، فقال: يا محمد اضرب أعناق هؤلاء الستة، وخل عن
هذا. (117) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل ما بال هذا
من بينهم؟ فقال: لأنه كان حسن الخلق، سخيا على الطعام، سخي الكف.

(117) وقريب منه في الحديث 31 و 59، من باب حسن الخلق من البحار:
15، 209 و 210، نقلا عن الصدوق في الأمالي والخصال.
359

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا جبرئيل عنك أو عن ربك؟ فقال: لا،
بل عن ربك عز وجل يا محمد.
وفي الحديث الخامس، من الباب، عن كتاب محمد بن المثنى معنعنا،
عنه (ص) قال إن صاحب الخلق الحسن له أجر الصائم القائم.
وفي الحديث العاشر، من الباب، نقلا عن مشكاة الأنوار، قال قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله اختار الاسلام دينا، فأحسنوا صحبته
بالسخاء وحسن الخلق، فإنه لا يصلح الا بهما.
وقال (ص): لأحسب كحسن الخلق.
وقال (ص): ان الخلق الحسن يذيب الذنوب، كما تذيب الشمس
الجمد، وان الخلق السيئ يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل. وقريب
من الصدر رواه اللعمة عن أنس، عنه (ص)، وكذلك الذيل مروي عنه (ص):
من طريق العامة أيضا، كما في المحجة البيضاء: 5، 91 و 92، ط 2.
وفي الحديث 31 و 32، من الباب، نقلا عن مصباح الشريعة، عنه (ص)
قال: حاتم زماننا حسن الخلق، والخلق الحسن الطف شئ في الدين،
وأثقل شئ في الميزان، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل،
وان ارتقى في الدرجات، فمصيره إلى الهوان.
وقال (ص): حسن الخلق شجرة في الجنة، وصاحبه متعلق بغصنها
يجذبه إليها، وسوء الخلق شجرة في النار، وصاحبه متعلق بغصنها
يجذبه إليها.
وفي الحديث الثاني، من باب حسن الخلق، من المحجة البيضاء:
5، 89، عن الغزالي قال: سأل رجل رسول الله (ص) عن حسن الخلق،
فتلا قوله عز وجل: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " (118) ثم

(118) الآية 199، من سورة الأعراف. والخبر رواه في الهامش، عن
ابن مردويه، في التفسير، عن جابر وقيس بن سعد وانس، بأسانيد حسان
كما في المعني.
360

قال رسول الله (ص) وهو أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو
عمن ظلمك.
وفي الحديث الخامس، من الباب: وجاء رجل إلى رسول الله (ص)
من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه
من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه
من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم اتاه من ورائه
فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه فقال: أما تفقه: هو ان لا تغضب. ورواه
في الهامش عن الترغيب والترهيب: 3، 405
وفي الحديث 20، من الباب 6، من أبواب جهاد النفس، من المستدرك:
2، 283، ط 1، عن السيد علي خان المدني وغيره، في كتاب الطبقات،
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى نارا ولا
ثوابا ولا عقابا لكان ينبغي لنا ان نطلب مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل
على سبيل النجاح. فقال رجل: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: نعم، وما هو خير منه، لما أتانا
سبايا طي فإذا فيها جارية حماء حواء لعساء لمياء عيطاء، صلت الجبينين،
لطيفة العرنين، مسنونة الخدين، ملساء الكعبين، حذلجة الساقين، لفاء
الخدين، (119) خميصة الخنصرين، ممكورة الكشحين، مصقولة المثنين،
فأعجبتني، وقلت لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يجعلها في فيئي،
فلما تكلمت نسيت ما راعني من جمالها لما رأيت من فصاحتها وعذوبة
كلامها، فقالت: يا محمد ان رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب،

(119) كذا في النسخة، وكأنه مصحف، والصواب لغاء الفخذين.
361

فاني ابنة سرة قومي، كان أبي يفك العاني، ويعطي العاني (120) ويحمي
الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويكسي المعدوم (121)، ويفرج
عن المكروب، أنا ابنة حاتم طي. فقال (ص): خلوا عنها، فان أباها
كان يحب مكارم الأخلاق. فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله! الله يحب
مكارم الأخلاق؟ فقال: يا أبا بردة لا يدخل الجنة أحد الا بحسن الخلق.
والاخبار في هذا المعنى عنه (ص) كثيرة جدا، في البحار والمستدرك وغيرهما،
وفيما ذكرناه غنى وكفاية.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: حسن الخلق خير قرين، وعنوان
صحيفة المؤمن حسن خلقه. المختار الثاني، من قصار ما رواه عنه (ع)
في تحف العقول. ورواه في الحديث 68، من باب حسن الخلق، من
البحار: 15، 210، عن صحيفة الرضا.
وقال (ع): أكرم الحسب حسن الخلق. المختار 38، من قصار
نهج البلاغة وغيره.
وقال (ع): ولا قرين كحسن الخلق، الخ.
وقال (ع): كفى بالقناعة ملكا، وبحسن الخلق نعيما. المختار 113
و 229 من قصار النهج.
وفي الحديث الرابع، من الباب 90، من أبواب أحكام العشرة، من
المستدرك: 2، 84، نقلا عن الآمدي (ره) في الغرر قال قال أمير المؤمنين
عليه السلام: بالبشر وبسط الوجه يحسن موقع البذل.

(120) الأول بمعنى الأسير، والثاني بمعنى المتعب وذي النصب والمشقة،
اي ان أبي كان من دأبه وعادته فك الأسير وخلاصه من الذل، واعطاء المساكين
الذين كانت أنفسهم في النصب والتعب لتحصيل ما يعيشون به.
(121) كذا في النسخة، والظاهر أن الواو من زيادة النساخ.
362

وقال (ع): بشرك يدل على كرم نفسك، بشرك أول برك، بشرك
يطفي نار المعاندة.
وقال (ع): حسن البشر أول العطاء وأفضل السخاء، حسن البشر احدى البشارتين.
وقال (ع): البشر شيمة كل حر.
وقال (ع): حسن البشر من علائم النجاح. وقال (ع): طلاقة
الوجه بالبشر والعطية، وفعل البر وبذل التحية، داع إلى محبة البرية.
وفي الحديث السادس، من الباب 87، من أبواب أحكام العشرة،
من كتاب الحج، من المستدرك: 2، 81 (122)، عن جعفر بن أحمد القمي،
في كتاب المسلسلات، قال حدثنا علي بن أحمد الأسواري المذكر، قال
حدثني أبو يوسف أحمد بن محمد بن قيس المذكر السجري، قال حدثني
أبو محمد عبد العزيز بن علي السرخسي، قال: حدثني أبو بكر أحمد ابن
عمران البغدادي، قال: حدثني أبو الحسن، قال: حدثني أبو الحسن،
قال: حدثني أبو الحسن، قال: حدثني الحسن، قال: حدثني الحسن،
قال حدثني الحسن (123) عليه السلام: ان أحسن الحسن الخلق الحسن.
وفي الحديث العاشر، من الباب 87، من أبواب أحكام العشرة، من
كتاب الحج، من المستدرك: 2، 82، ط 1، عن مشكاة الأنوار، قال قال

(122) ورواه أيضا في الحديث 26، من باب حسن الخلق، من البحار:
2، من 15، 209، عن الخصال والمسلسلات.
(122) اما أبو الحسن الأول فهو محمد بن عبد الرحيم التستري،
واما أبو الحسن الثاني فعلي بن أحمد البصري التمار، واما أبو الحسن
الثالث: فعلي بن محمد الواقدي، واما الحسن الأول فالحسن بن عرفة العبدي، واما
الحسن الثاني فالحسن بن أبي الحسن البصري، واما الحسن الثالث: فسبط
النبي: الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
363

علي بن الحسين عليهما السلام: ان المعرفة بكمال دين المسلم تركه الكلام
فيما لا يعنيه، وقلة مرائه، وصبره، وحسن خلقه.
وقال (ع): ان حسن الخلق من الدين.
وفي الحديث الثالث، من الباب 90، من الأبواب، من الكتاب،
ص 84، عن أبي جعفر عليه السلام قال: البشر الحسن، وطلاقه الوجه،
مكتسبة للمحبة، وقربة من الله عز وجل، وعبوس الوجه وسوء البشر
مكتسبة للمقت، وبعد من الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: انكم
لن تسعوا الناس بأموالكم، فالقوهم بطلاقة الوجه، وحسن البشر. نقله
عن المشكاة. والذيل المروي عن رسول الله (ص) له طرق كثيرة بين
الخاصة والعامة.
وفي الحديث 29، من الباب 87، من الكتاب، ص 83، ط 1، عن
مصباح الشريعة، قال الصادق عليه السلام: الخلق الحسن جمال في الدنيا،
ونزهة في الآخرة، وبه كمال الدين، والقربة إلى الله تعالى، الخ.
وفي الحديث 16، من باب النوادر، من كتاب من لا يحضره الفقيه:
4، 282، قال (ع): أفضل الناس ايمانا أحسنهم خلقا، الخ.
وعنه (ع): ثلاثة تدل على كرم المرء: حسن الخلق، وكظم الغيظ،
وغض الطرف.
وفي الحديث 74، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 295، وفي الباب
96، من الجزء الثاني، من معاني الأخبار 253 معنعنا: وسئل (الامام)
الصادق عليه السلام ما حد حسن الخلق؟ قال: تلين جانبك، وتطيب
كلامك، وتلقى أخاك ببشر حسن. ورواه في الحديث 52، من باب حسن
الخلق، من البحار: 2، من 15، 209 عن معاني الأخبار.
وفي الحديث الثامن، من الباب 87، من أبواب أحكام العشرة، من
364

كتبا الحج، من المستدرك: 2، 81، ط 1، عن فقه الرضا قال: أروي
عن العالم عليه السلام أنه قال: عجبت لمن يشتري العبيد بماله فيعتقهم،
فكيف لا يشتري الأحرار بحسن خلقه!
أقول: وقريب منه رويناه عن أمير المؤمنين (ع) كما يجئ في الباب
الخامس انشاء الله تعالى.
وقال (ع): ولا عيش أغنى من حسن الخلق.
365

المائدة الثامنة:
في الآثار الواردة في المداراة، المناسبة لقوله (ع): " واعلم أن
رأس العقل بعد الايمان بالله عز وجل مداراة الناس، الخ ".
روى الشيخ الطائفة (ره) في الحديث 54، من الجزء الثامن عشر،
من الأمالي معنعنا، عن النبي (ص) أنه قال: انا معاشر الأنبياء أمرنا بمداراة
الناس، كما أمرنا بإقامة الفرائض. ورواه أيضا في الحديث التاسع عشر،
من الجزء السابع عشر.
وعن ثقة الاسلام (ره)، في الحديث الرابع، من باب المداراة: 57،
من الكافي: 2، 117 معنعنا، عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: أمرني ربي
بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض. ورواه الصدوق (ره)، مع
زيادات جمة في الحديث 20، من باب 246، وهو باب نوادر المعاني، من
معاني الأخبار: 2، ص 386.
وروى ابن مسكويه (ره)، عنه (ص) أنه قال: رأس العقل بعد
الايمان مداراة الناس. الحكمة الخالدة، ص 103.
وفي وصاياه (ص) لعلي (ع): يا علي ثلاث من لم يكن فيه لم يتم
عمله: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد
به جهل الجاهل، الخ. الحديث 1، من باب النوادر، من كتاب من لا يحضره
الفقيه: 4، 260.
وقال السبط الأكبر الإمام الحسن عليه السلام: رأس العقل معاشرة
الناس بالجميل، وبالعقل تدرك الداران جميعا، ومن حرم العقل حرم الداران
جميعا. البحار: 17، 146.
وروى ابن أبي الحديد، في شرح المختار 10، من قصار نهج البلاغة،
366

عنه (ع) أنه قال: حسن السؤال نصف العلم، ومداراة الناس نصف العقل،
والقصد في المعيشة نصف المئونة.
وقال الإمام الباقر عليه السلام: صلاح شأن الناس التعايش، والتعاشر
ملء مكيال ثلثاه فطن، وثلثه تغافل. الحديث 64، من الباب 11، من البحار:
16، 47.
وروى الكليني (ره) في الحديث الثاني، من باب حسن المعاشرة،
من الكافي: 2، 637 معنعنا، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:
يا شيعة آل محمد اعلموا انه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم
يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة، من خالقة، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من
جاوره، وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم ولا حول
ولا قوة الا بالله.
وفي الحديث السادس عشر، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 282،
2، 643، عنه (ع): مجاملة الناس ثلث العقل.
وفي الحديث السادس عشر، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 282،
عنه (ع): أعقل الناس أشدهم مراعاة للناس، الخ.
وفي الحديث 65، من الباب 11، من البحار: 16، 47، س 2 7
عنه (ع) قال: من أكرمك فأكرمه، ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه.
وفي الحديث 81، من باب التقية، من البحار: 16، س 12، 231، عن
الخصال معنعنا، عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: ان قوما من قريش قلت مداراتهم للناس فنفوا من قريش، وأيم الله
ما كان باحسابهم بأس، وان قوما من غيرهم حسنت مداراتهم فألحقوا بالبيت
الرفيع. قال ثم قال: من كف يده عن الناس فإنما يكف عنهم يدا واحدة،
ويكفون عنه أيادي كثيرة. ورواه أيضا في الحديث 6، من الباب 57 باب
المداراة من الكافي: 2، 117، معنعنا عنه (ع).
367

وفي الحديث 66، من الباب 11، من البحار: 16، 47، س 2
معنعنا، عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: اصحب السلطان بالحذر،
والصديق بالتواضع، والعدو بالتحرز، والعامة بالبشر.
وقال عليه السلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال،
سنة من ربه، وسنة من نبيه، وسنة من وليه، فاما السنة من ربه فكتمان
السر، واما السنة من نبيه فمداراة الناس، وأما السنة من وليه فالصبر في
البأساء والضراء. البحار: 17، 206، نقلا عن تحف العقول.
وقال (ع): التودد نصف العقل.
وقال الإمام الجواد عليه السلام: من هجر المداراة قاربه المكروه، ومن
لا يعرف الموارد أعيته المصادر.
368

المائدة التاسعة:
في مدح السكوت، والتحذير عن ارخاء اللسان، وللتكلم بما لا يعني
المناسب لقوله (ع): " واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، الخ ".
وليعلم ان آفات الكلام، والهذر في المنطق لعامة الناس - الا من
عصمه الله - كثيرة، وقد أنهاها بعضهم إلى أربع عشرة آفة، ولعلنا نوفق
لتفصيل الكلام فيها في مقام آخر، وأما هنا فنورد لمعا من الأدلة الشرعية،
وطرفا من نتائج أفكار الحكماء والشعراء وأهل التجارب والامراء ونوكل
الاستفادة إلى فهم القراء، ونوصي من لا رسوخ له في الشرعيات بملازمة
أهل الذكر والسؤال من علماء الدين المتقين منهم، فنقول:
روى ثقة الاسلام الكليني (ره)، في الحديث السادس، من الباب 56،
من كتاب الايمان والكفر، من الكافي: 2، 114 معنعنا، عن الإمام الصادق
عليه السلام، قال قال لقمان لابنه: يا بني ان كنت زعمت أن الكلام من
فضة، فان السكوت من ذهب.
وفي الحديث السادس، من الباب 100، من أبواب أحكام العشرة،
من كتاب الحج، من المستدرك: 2، 88، نقلا عن الاختصاص 232،
للشيخ المفيد (ره)، قال عيسى بن مريم (ع): طوبى لمن كان صمته فكرا،
ونظره عبرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم الناس من يده ولسانه.
ورواه معنعناه في الحديث 6، من باب العزلة، من البحار: 15، 51، عن
اكمال الدين.
وفي الحديث 14، من باب السكوت والكلام، من البحار: 15، 185،
س 3، عن قرب الإسناد معنعنا، قال داود لسليمان عليهما السلام: يا بني
إياك وكثرة الضحك، فان كثرة الضحك تترك العبد حقيرا يوم القيامة،
369

يا بني عليك بطول الصمت الا من خير فان الندامة على طول الصمت مرة
واحدة، خير من الندامة على كثرة الكلام مرات، يا بني لو أن الكلام كان
من فضة، ينبغي للصمت أن يكون من ذهب. وذيل الكلام مما تواتر عن
أئمة الدين والصلحاء وغيرهم.
وفي الحديث 40، من الباب، نقلا عن قصص الأنبياء: ان آدم لما
كثر ولده وولد ولده كانوا يحدثون عنده وهو ساكت، فقالوا: يا أبه مالك
لا تتكلم. فقال: يا بني ان الله جل جلاله لما أخرجني من جواره عهد إلي
وقال: أقل كلامك ترجع إلى جواري. وفي المجلد الثاني من العقد الفريد
15، تحت الرقم 92 (باب الصمت): كان لقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى
الله عليه وسلم، وكان عبدا أسودا، فوجده وهو يعمل درعا من حديد فعجب
منه ولم ير درعا قبل ذلك، فلم يسأله لقمان عما يعمل، ولم يخبره داود حتى
تمت الدرع بعد سنة، فقاسها داود على نفسه وقال: " زرد طايا ليوم
فرايا " تفسيره: درع حصينة ليوم قتال. فقال لقمان: الصمت حكم، وقليل فاعله
وروى الشيخ الصدوق (ره)، في الحديث 20، من باب نوادر المعاني،
وهو الباب 246، من معاني الأخبار: 2، 386، ط الحديثة، عن رسول
الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ان عز المؤمن في حفظ لسانه، ومن لم يملك
لسانه ندم، الخ.
وفي الحديث الثاني، من الباب 100، من أبواب أحكام العشرة، من
كتاب الحج، من المستدرك: 2، 88، ط 2، عن مشكاة الأنوار، عن
رسول الله صلى الله عليه وآله قال: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت
عن شر فسلم.
وفي الحديث الأخير، من الباب، نقلا عن اعلام الدين، عن ابن ودعان
في أربعينه، باسناده عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
370

ألا أنبئكم بأمرين خفيفين مؤونتهما، عظيم أجرهما، لم يلق الله بمثلهما:
طول الصمت وحسن الخلق.
وفي الحديث السابع، من الباب 56، من الكافي: 2، 114 معنعنا،
عنه (ص) أنه قال: امسك لسانك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك، -
ثم قال: - ولا يعرف عبد حقيقة الايمان حتى يخزن لسانه.
وفي الحديث 14، من الباب، ص 115 معنعنا، انه جاء رجل
إلى رسول الله، فقال: يا رسول الله أوصني. فقال: احفظ لسانك.
قال يا رسول الله أوصني. فقال: احفظ لسانك. فقال: يا رسول
الله أوصني. فقال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم
في النار الا حصائد ألسنتهم؟!.
وفي الحديث 15، من الباب معنعنا، عنه (ص) قال: من لم يحسب
كلامه من عمله كثرت خطاياه، وحضر عذابه.
وفي الحديث التاسع، من الباب، عنه (ص): نجاة المؤمن في حفظ
لسانه.
وفي الفقرة الخامسة من وصايا البني (ص) لعلي (ع): يا علي من
خاف الناس لسانه فهو من أهل النار، يا علي شر الناس من أكرمه الناس اتقاء
فحشه (شره خ) - إلى أن قال - سبع من كن فيه فقد استكمل حقيقة
الايمان، وأبواب الجنة مفتحة له،: من أسبغ وضوءه، وأحسن صلاته،
وأدى زكاة ماله، وكف غضبه، وسجن لسانه، واستغفر لذنبه، وأدى
النصيحة لأهل بيت نبيه، الخ. (124)
وقال (ص): البلاء موكل بالمنطق. الفقيه: 4، 272، الحديث
الثامن، من باب النوادر.

(124) الحديث 1، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 254، ط النجف.
371

وفي الحديث 19، من باب 56، من كتاب الايمان والكفر، من الكافي:
2، 116، معنعنا عنه (ص) قال: من رأى موضع كلامه من عمله، قل
كلامه الا فيما يعنيه.
وفي الحديث الأول، من الباب 101، من أبواب أحكام العشرة،
من كتاب الحج، من المستدرك: 2، 89، ط 2، عن مصباح الشريعة،
قال (الامام) الصادق عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: المرء
مخبوء تحت لسانه، فزن كلامك، واعرضه على العقل، فإن كان لله وفي
الله فتكلم به، وإن كان غير ذلك فالسكوت أولى، الخبر. وصدره رواه
في المختار 144، من قصار النهج، وله أيضا مصادر كثيرة اخر تقف
عليها في الباب الخامس، من نهج السعادة.
وفي المختار 58، من قصار النهج: " اللسان سبع ان خلي عنه عقر.
وفي المختار 69، منها: إذا تم العقل نقص الكلام.
وسئل عليه السلام عن اللسان، فقال: معيار أطاشه الجهل، وأرجحه
العقل. رواه عنه (ع) ابن أبي الحديد في شرح المختار 99، من خطب
النهج: 7، 88.
وفي الحديث 12، من باب السكوت والكلام، من البحار: 15،
185، معنعنا عن الخصال عنه (ع): مامن شئ أحق بطول السجن
من اللسان.
وقال (ع): ضرب اللسان أشد من ضرب السنان. الحديث 54،
من باب السكوت والكلام، من البحار: 15، ص 186، س 2 عكسا،
نقلا عن جامع الأخبار.
وقال (ع) إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها، واجعلوا اللسان
واحدا، وليختزن الرجل لسانه، فان هذا اللسان جموح بصاحبه، والله
372

ما أرى عبدا يتقي تقوى تنفعه حتى يختزن لسانه، وان لسان المؤمن من
وراء قلبه، وان قلب المنافق من وراء لسانه، لان المؤمن إذا أراد ان
يتكلم بكلام تدبره في نفسه، فإن كان خيرا أبداه، وإن كان شرا واراه،
وان المنافق يتكلم بما أتى على لسانه، لا يدري ماذا له وماذا عليه، ولقد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يستقيم ايمان عبد حتى يستقم
قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، فمن استطاع منكم أن يلقى
الله وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم، سليم اللسان من اعراضهم
فليفعل، الخ. المختار 171، من خطب النهج.
وقال (ع): إياك والكلام في مالا تعرف طريقته، ولا تعلم حقيقته،
فان قولك يدل على عقلك، وعبارتك تنبئ عن معرفتك، فتوق عن طول
لسانك ما امنته، واختصر من كلامك على ما استحسنته، فإنه بك أجمل،
وعلى فضلك أدل.
وقال (ع): إياك وكثرة الكلام، فإنها تكثر الزلل وتورث الملل.
نقلها بعض المعاصرين من قصار كلامه (ع) من كتاب ناسخ التواريخ.
وله (ع) في هذا المعنى كلم كثيرة جدا، يقف عليها الباحث في البحار
ونهج البلاغة ونهج السعادة وغيرها.
وفي الحديث 28، من باب السكوت والكلام، من البحار: 2، من
15، ص 185، عن معاني الأخبار، عن الامام المجتبى عليه السلام أنه قال
: نعم العون الصمت في مواطن كثيرة، وان كنت فصيحا.
وقال السبط الشهيد الحسين عليه السلام لابن عباس (ره):
لا تتكلمن فيما لا يعنيك، فاني أخاف عليك الوزر، ولا تتكلمن فيما يعنيك
حتى ترى للكلام موضعا، فرب متكلم قد تكلم بالحق فعيب، الخ.
البحار: 17، 151، س 9، نقلا عن كنز الفوائد.
373

وفي الحديث 6، من باب ترك العجب، من البحار: 2، من 15،
ص 176، عن تفسير الإمام العسكري عليه السلام قال: قال محمد بن
علي الباقر (ع): دخل محمد بن علي بن مسلم بن شهاب الزهري على
علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام وهو كئيب حزين، فقال له
زين العابدين: ما بالك مهموما مغموما؟ قال: يا بن رسول الله هموم
وغموم تتوالى عللي لما امتحنت به من جهة حساد نعمتي، والطامعين في،
وممن أرجوه وممن أحسنت إليه فيخلف ظني. فقال علي بن الحسين
زين العابدين عليهما السلام: احفظ لسانك تملك به اخوانك. قال
الزهري: يا بن رسول الله اني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي. قال علي
بن الحسين (ع): هيهات هيهات: إياك وان تعجب من نفسك بذلك،
وإياك ان تتكلم بما يسبق إلى القلوب انكاره، وإن كان عندك اعتذاره،
فليس كل من تسمعه نكرا، يمكنك لان توسعه عذرا، - ثم قال - يا زهري
من لم يكن عقله أكمل ما فيه، كان هلاكه من أيسر ما فيه، الخ (125).
وفي الحديث 327، من الاختصاص 230، والحديث 13، من الباب
56، من كتاب الايمان والكفر، من الكافي: 2، 115، معنعنا عنه (ع)
قال: ان لسان ابن آدم يشرف على جميع جوارحه كل صباح فيقول:
كيف أصبحتم؟ فيقولون: بخير ان تركتنا، ويقولون: الله الله فينا،
ويناشدونه ويقولون: إنما نثاب ونعاقب بك. ورواه في البحار: 2،
من 15، ص 185، عن ثواب الأعمال، واكمال الدين.
وفي الحديث 2، من الباب 56، من الكافي: 2، 113، معنعنا عن
الإمام الباقر عليه السلام قال: إنما شعيتنا الخرس.
وروى ابن أبي الحديد، في شرح المختار 99، من خطب النهج: 7،

(125) وللحديث تتمة ما أجلها من حكم.
374

ص 92، عنه (ع) أنه قال: اني لأكره أن يكون مقدار لسان الرجل فاضلا
على مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله.
وروى الصدوق (ره) معنعنا، عن سفيان الثوري، عن الإمام الصادق
عليه السلام أنه قال: يا سفيان أمرني والدي عليه السلام بثلاث، ونهاني عن
ثلاث، فكان فيما قال لي: يا بني من يصحب صاحب السوء لا يسلم، ومن
يدخل مداخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم، ثم أنشدني:
عود لسانك فعل الخير تحظ به * ان اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له * في الخير والشر فانظر كيف تعتاد
الحديث 19، من باب الكلام والسكوت، من البحار: 15، 185،
نقلا عن الخصال.
وفي الحديث 24، من باب السكوت والكلام، من البحار: 15، 185،
عن الخصال معنعنا، قال قال الإمام الصادق عليه السلام: ان أردت أن تقر
عينك، وتنال خير الدنيا والآخرة، فاقطع الطمع، مما في أيدي الناس، وعد
نفسك في الموتى، ولا تحدثن نفسك انك فوق أحد من الناس، واخزن
لسانك كما تخزن مالك.
وفي الحديث 34، من الباب، عن أمالي الطوسي معنعنا، قال قال (ع)
لأصحابه: إسمعوا مني كلاما هو خير لكم من الدهم الموفقة، لا يتكلم أحدكم
بما لا يعنيه، وليدع كثيرا من الكلام فيما يعنيه، حتى يجد له موضعا، فرب
متكلم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه، ولا يمارين أحدكم سفيها ولا
حليما، فإنه من ماري حليما أقصاه، ومن ماري سفيها أرداه، واذكروا
أخاكم إذا غاب عنم بأحسن ما تحبون ان تذكروا به إذا غبتم عنه، واعملوا
عمل من يعلم أنه مجازى بالاحسان، مأخوذ بالاجرام. وقريب منه في الحديث
63، من الباب، نقلا عن الاختصاص 231، الا ان فيه: من الدراهم
375

المدقوقة. وفي آخره: مجزي بالاحسان.
وفي الحديث 20، من الباب 56، من الكافي: 2، 116، معنعنا عنه
عليه السلام قال: في حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفا بزمانه،
مقبلا على شأنه، حافظا للسانه. ورواه مرسلا ابن أبي الحديد في شرح
المختار 186، من خطب النهج، ج 10، ص 137.
وفي الحديث الأخير، من الباب، عنه (ع) معنعنا قال: لا يزال العبد
المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا، فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا.
وفي الحديث 341، من الاختصاص 232، عن داود الرقي قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: الصمت كنز وافر، وزين الحليم، وستر الجاهل.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام: ما أحسن الصمت لامن عي، والمهذار
له سقطات. الحديث 66، من باب السكوت والكلام، من البحار: 15،
ص 187، عن مشكاة الأنوار. ورواه أيضا في الحديث 340، من الاختصاص
232، عن الإمام الرضا (ع).
وفي الحديث 47، من الباب، من البحار، عن روضة الواعظين، قال
قال علي بن الحسين (ع): حق اللسان اكرامه عن الخنا، وتعويده الخير،
وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر بالناس، وحسن القول فيهم.
وقال الإمام الرضا (ع): من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت، ان
الصمت باب من أبواب الحكمة، ان الصمت يكسب المحبة (الجنة خ)،
انه دليل على كل خير. الحديث 1، من باب الصمت، من الكافي: 2، 113،
وصدره مذكور في الحديث 343، من الاختصاص 232 مرسلا، ورواه
معنعنا مثل الكافي، في الحديث 8، من الباب، من البحار: 15، 184،
عن قرب الإسناد، وعيون أخبار الرضا، والخصال.
وفي الحديث 4، من الباب، من الكافي معنعنا، عن عثمان بن عيسى
376

قال: حضرت أبا الحسن صلوات الله عليه، وقال له رجل: أوصني. فقال
له: إحفظ لسانك تعز، ولا تمكن الناس من قيادك فتذل رقبتك.
والاخبار في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد بلغت حد التواتر بين الشيعة
وأهل السنة، والامر جلي معاضد بالعقل والتجربة، منصور باتفاق اولي
الألباب من الحكماء على صدقها، ولكن هنا أخبار وأقوال أخر، ربما استفاد
أو ظن بعض التنافي بينهما، ولابد لنا من ذكر نموذج منها، ثم التكلم في مفادها
وبيان النسبة بينهما فنقول: من جملة ما يمكن القول بدلالته على أفضلية
الكلام على السكوت ما رواه السيد الرضي (ره) في المختار 187 من قصار
النهج عن أمير المؤمنين (ع) من قوله: لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه
لا خير في القول بالجهل.
وما رواه في الحديث 1، من باب السكوت والكلام، من البحار: 2،
من 15، ص 184، نقلا عن كتاب الاحتجاج، عن الإمام السجاد عليه السلام،
انه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل. فقال: لكل واحد منهما آفات
فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: كيف ذلك يا بن
رسول الله (ص)؟ قال: لان الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء
بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استوجبت الجنة بالسكوت، ولا
استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله
بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، انك تصف فضل السكوت بالكلام
ولست تصف فضل الكلام بالسكوت.
وما رواه في الحديث 128، من روضة الكافي 148، معنعنا عن الإمام الصادق
عليه السلام عن أبيه (عليه السلام) أنه قال لرجل وقد كلمه بكلام
كثير، فقال: أيها الرجل تحتقر الكلام وتستصغره، اعلم أن الله عز وجل لم
يبعث رسله حيث بعثها ومعها ذهب ولا فضة، ولكن بعثها بالكلام، وإنما
377

عرف الله جل وعز نفسه إلى خلقه بالكلام، والدلالات عليه والاعلام.
وما رواه في الحديث 41، من باب النوادر، من الفقيه: 4، 287،
ط النجف، قال الإمام الصادق عليه السلام: النوم راحة للجسد، والنطق
راحة للروح، والسكوت راحة للعقل. إلى غير ذلك مما يدل بصريحه أو
بظاهره، على التفصيل، أو على رجحان الكلام على السكوت.
أقول: لا تنافي بين الطائفتين من الاخبار، وكذا ما يأتي من إفادات
الحكماء والعلماء، إذ الاخبار الأول جلها ناظر إلى نوع المكلفين الذين يصرفون
أوقاتهم بالقول الهزل، والنميمة والغيبة والايذاء وإشعال النار بين المتعاديين،
وغير ذلك مما لا يخفى على من عاشر أهل الدنيا وقتا من الأوقات، وهذه
الطائفة من الأدلة أغلبها مقيد بقيد أو معلل بعلة - كما لا يخفى على من
تدبرها - فلا اطلاق لها، فلا مجال لان يقال إنها معارضة لأدلة الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق وابطال الباطل، والتعليم والتعلم وغيرها،
وذلك لان التعارض فرع الاطلاق، ولا اطلاق فيها بشهادة التعليلات التي
ذكرت فيها، ولو فرض ان لبعضها اطلاق يجب تقييدها بأدلة الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر وغيرهما، لان الخاص قرينة على الذي أريد من العام،
والمقيد مبين للمقصود من المطلق، ولو فرض العموم في الجانبين أيضا، فلا
تنافي بين الطائفتين، وذلك لحكومة أدلة الامر بالمعروف وما شاكلها، على
المطلقات المذكورة، (126) فلا وقع لما قيل: من أفضلية الكلام من السكوت،

(126) هذا من باب المماشاة، والا الامر عندنا جلى بأن الطائفة الأولى
مفادها: ان الكلام الذي لا يكون لله ويترتب عليه المضار والمفاسد فهو مرجوح
يلزم على العاقل الكف منه والاجتناب عنه، ومفاد الطائفة الثانية: ان الكلام
الذي يكون لله وفى الله فهو راجح على الصمت ينبغي للعاقل ان يتكلم به
ويلقيه، والى هذا يرجع ما قاله بعضهم: من أن أعدل شئ قيل في الصمت
والمنطق قولهم: الكلام في الخير كله أفضل من الصمت فيه، والصمت في
الشر كله أفضل من الكلام فيه.
378

لان بالكلام يؤمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويحق الحق ويدحض الباطل،
ويعلم العلم، لان مرجع هذا الكلام إلى أن التكلم الذي هو لأجل الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحقاق الحق، وابطال الباطل، وتعليم العلوم
الحقة، والدعاء والتضرع، أفضل من السكوت - وهذا حق - ولا يدل على أن
كل كلام أفضل من السكوت، كما هو ادعاء القائل، مع أن هذا قد
يعكس، إذ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يحصل بالسكوت أيضا.
هذا بالنسبة إلى أكثر أدلة الصمت، وقليل منها في مقام بيان الحكم
الوضعي والأثر الخارجي، وان الكلام قد يستولد الملام، وقد يستتبع
الخسارات والآلام، ولا تعرض لها لملاحظة النسبة بينه وبين الصمت، وأفضليته
من الصمت.
واما الطائفة الثانية فواضحة الدلالة على أن الكلام الذي يتكلم به لله
وفي الله فهو أفضل من الصمت - بل هو الفاضل دون الصمت - ولا تدل
على أن كل كلام أفضل من السكوت.
379

المائدة العاشرة:
في نقل من أقوال الحكماء والامراء وذوي التجارب والعلماء في
الصمت والكلام.
اجتمع أربعة من الحكماء: من الروم، والفرس، والهند، والصين،
فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل. وقال الآخر
: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم ملكتها ولم
تملكني. وقال الآخر: عجبت للمتكلم ان رجعت عليه كلمته ضرته، وان
لم ترجع لم تنفعه. وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
وقال بعض الحكماء: حظي من الصمت لي، ونفعه مقصور علي،
وحظي من الكلام لغيري، ووباله راجع إلي.
وقالوا: إذا أعجبك الكلام فاصمت.
وقال ابن مسكويه (ره)، في الحكمة الخالدة، 171: أمر بعض الملوك
أن يستخرج له كلمات من الحكمة ليعمل بها، فاستخرجت له أربعون الف
كلمة، فاستكثرها، فاختير منها أربعة آلاف كلمة، ثم لم يزل ينقص منها حتى
رجعت إلى أربع كلمات، وهي: لا تثقن بامرأة، لا تحملن معدتك فوق طاقتها،
احفظ لسانك، خذ من كل شئ ما كفاك.
وقالوا: سعد من لسانه صموت، وكلامه قوت.
وقالوا: إذا سكت عن الجاهل فقد أوسعته جوابا، وأوجعته عقابا.
وقالوا: إعراضك صون أعراضك.
وكان يحيى بن خالد يقول: ما جلس إلي أحد قط الا هبته حتى
يتكلم، فإذا تكلم اما أن تزداد تلك الهيبة، أو تنقص.
وكان يقال: لا خير في الحياة الا لصوت واع، أو ناطق محسن.
380

وقالت جارية ابن السماك له: ما أحسن كلامك لولا انك تكثر ترداده.
فقال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: فإلى أن يفهمه من لم يفهمه
مله من فهمه.
وبعث عبد العزيز بن مروان بن الحكم، ابن أخيه الوليد بن عبد الملك
قطيفة حمراء وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك بقطيفة حمراء، حمراء،
حمراء، فكتب إليه الوليد: أما بعد فقد وصلت القطيفة، وأنت يا عم أحمق،
أحمق، أحمق.
وقال المعتضد لأحمد بن الطيب السرخسي: طول لسانك دليل على
قصر عقلك.
وكان يقال: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت، ويهرب من الناس،
فاقربوا منه فإنه يلقي الحكمة. ورواه في شرح المختار 99، من خطب النهج،
من شرح ابن أبي الحديد: 7، ص 93، بلفظ: إذا رأيتم المؤمن صموتا،
الخ. عن رسول الله (ص) مرفوعا.
وقيل للعتابي: ما البلاغة؟ قال: كل من أفهمك حاجته، من غير إعادة
ولا خلسة ولا استعانة فهو بليغ، قيل له: ما الاستعانة؟ قال: الا ترى الرجل
إذا حدث قال: ياهناه واستمع إلي وافهم، وألست تفهم، هذا كله
عي وفساد.
ودخل على المأمون جماعة من بني العباس، فاستنطقهم فوجدهم لكنا
مع يسار وهيئة، ومن تكلم منهم أكثر وهذر، فكانت حاله أفحش من حال
الساكتين، فقال: ما أبين الخلة في هؤلاء، لا خلة الأيدي بل خلة الألسنة
والأحلام
وسمع خالد بن صفوان مكثارا يتكلم، فقال له: يا هذا ليست البلاغة
بخفة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى، والقصد إلى الحجة.
381

وقال أبو سفيان لابن الزبعري: مالك لا تسهب في شعرك؟ قال: حسبك
من الشعر غرة لائحة، أو وصمة فاضحة. وكانوا يكرهون ان يزيد منطق
الرجل على عقله.
قيل للخليل بن أحمد (ره) - وقد اجتمع بابن المقفع -: كيف رأيته؟
فقال: لسانه أرجح من عقله. وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال:
عقله أرجح من لسانه. فكان عاقبتهما ان عاش الخليل مصونا مكرما،
وقتل ابن المقفع تلك القتلة الفظيعة.
وسئل عمرو بن عبيد عن البلاغة فقال: ما بلغك الجنة، وباعدك من
النار، وبصرك مواقع رشدك، وعواقب غيك. قال حفص: ليس عن هذا
أسأل. فقال: كانوا يخافون من فتنة القول، ومن سقطات الكلام، ولا
يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت.
وقال الجاحظ: وكان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم، فان تكلم لم يكد
يطيل، وكان يقول: لا خير في المتكلم إذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه،
وإذا أطال المتكلم الكلام عرضت له أسباب التكلف، ولا خير في شئ
يأتيك بالتكلف.
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت ان
تصمت، قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت ان تتكلم.
وسمع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيخطئ فقال: بكلامك رزق
الصمت المحبة.
وفي وصية المهلب لولده: يا بني تباذلوا تحابوا، فان بني الأعيان
يختلفون فكيف ببني العلات، ان البر ينسئ في الأجل، ويزيد في العدد،
وان القطيعة تورث القلة، وتعقب النار بعد الذلة، اتقوا زلة اللسان، فان
الرجل تزل رجله فينتعش، ويزل لسانه فيهلك، الخ. وأطال خطيب بين
382

يدي الإسكندر، فزبره وقال: حسن الخطبة ليس على طاقة الخاطب، ولكن
على حسب طاقة السامع.
وأطال ربيعة الرأي الكلام، وعنده أعرابي، فلما فرغ من كلامه قال
للاعرابي: ما تعدون العي والفهاهه فيكم؟ قال: ما كنت فيه أصلحك الله
منذ اليوم.
وقال واصل بن عطاء: لان يقول الله لي يوم القيامة: هلا قلت، أحب
إلي من أن يقول لي: لم قلت، لأني إذا قلت طالبني بالبرهان، وإذا سكت
لم يطالبني بشئ.
ونزل النعمان بن المنذر برابية، فقال له رجل من أصحابه: أبيت اللعن
لو ذبح رجل على رأس هذه الرابية إلى أين كان يبلغ دمه. فقال النعمان:
المذبوح والله أنت، ولأنظرن إلى أين يبلغ دمك، فذبحه. فقال رجل: رب
كلمة تقول دعني.
وقال أعرابي: رب منطق صدع جمعا، ورب سكوت شعب صدعا.
ومكث الربيع بن خثيم عشرين سنة لا يتكلم، إلى أن قتل الحسين
عليه السلام، فسمعت منه كلمة واحدة، قال: لما بلغه ذلك: أوقد فعلوها؟!
ثم قال: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم
بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. ثم عاد إلى السكوت حتى مات.
وقال أبو عبيد الله كاتب المهدي: كن على التماس الحظ بالسكوت،
أحرص منك على التماسه بالكلام، ان البلاء موكل بالمنطق.
وقال أبو الدرداء: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعل لك أذنان
اثنتان، وفم واحد، لتسمع أكثر مما تقول.
وقال ابن عوف عن الحسن: جلسوا عند معاوية فتكلموا وسكت
الأحنف بن قيس، فقال معاوية: مالك لا تتكلم أبا بحر، قال: أخافك ان
383

صدقت، وأخاف الله ان كذبت.
وقال المهلب: لان أرى لعقل الرجل فضلا على لسانه أحب إلي من
أن أرى للسانه فضلا على عقله.
وقال سالم بن عبد الملك: فضل العقل على اللسان مروءة، وفضل
اللسان على العقل هجنة.
وقالوا من ضاق صدره اتسع لسانه، ومن كثر كلامه كثر سقطه،
ومن ساء خلقه قل صديقه.
وقال حرم بن حيان: صاحب الكلام بين منزلتين، ان قصر فيه
خصم، وان أعرق فيه أثم.
وقال أكتم بن صيفي: مقتل الرجل بين فكيه.
وقالت الحكماء: النطق اشرف ما خص به الانسان لأنه صورته المعقولة
التي باين بها سائر الحيوانات، ولذلك قال سبحانه: " خلق الانسان علمه
البيان " ولم يقل: (وعلمه البيان) بالواو، لأنه سبحانه جعل قوله: (علمه
البيان) تفسيرا لقوله: (خلق الانسان) لا عطفا عليه، تنبيها على أن خلقه
له، هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعا لارتفعت إنسانيته، ولذلك
قيل: ما الانسان لولا اللسان لا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة.
وقال الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق الا صورة اللحم والدم.
قالوا: والصمت من حيث هو صمت مذموم، وهو من صفات
الجمادات فضلا عن الحيوانات.
وقالوا: العلم كله لا يؤديه إلى أوعية القلوب الا اللسان، فنفع المنطق
عام لقائله وسامعه، ونفع الصمت خاص للصامت.
وقال بعضهم: إحفظ لسانك عن خبيث الكلام، وفي غيره لا تسكت
384

ان استطعت.
وعن ابن مسكويه (ره)، قال: قال رجل لمطيع بن أياس: ما ندمت
على صمت قط، ولا مللته. فقال مطيع: أما أنت لو خرست ما آجرك
الله على الخرس، فإنه من شهوتك.
385

المائدة الحادية عشرة:
في نزر من الاشعار التي تناسب المقام.
ونسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، كما في المختار 6، من حرف
التاء من الديوان 48:
ان القليل من الكلام بأهله * حسن وان كثيره ممقوت
ما زل ذو صمت وما من مكثر * الا يزل وما يعاب صموت
إن كان ينطق ناطق من فضة * فالصمت در زانه ياقوت
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: 2، ص 15، ط 2: وقال
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع):
يموت الفتى من عثرة بلسانه * وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه * وعثرته بالرجل تبرأ على مهل
وفي المختار 29، من حرف الباء، من الديوان المنسوب إليه (ع):
أدبت نفسي فما وجدت لها * بغير تقوى الاله من أدب
في كل حالاتها وان قصرت * أفضل من صمتها عن الكذب
وغيبة الناس ان غيبتهم * حرمها ذو الجلال في الكتب
إن كان من فضة كلامك يا * نفس فان السكوت من ذهب
وقال آخر:
يخوض أناس في الكلام ليوجزوا * وللصمت في بعض الأحايين أوجز
إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا * فأنمت عن الابلاغ في القول أعجز
وقال آخر:
النطق زين والسكوت سلامة * فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما إن ندمت على سكوت مرة * لكن ندمت على الكلام مرارا
386

وقال الشهيد ابن السكيت رفع الله مقامه:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه * وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه * وعثرته في الرجل تبرأ عن مهل.
ومن عجيب المصادفات ان المتوكل العباسي قد الزم هذا العالم
التحرير، والأديب الخبير، تأديب ولديه: المؤيد والمعتز، فكانا يغترفان
من عين علمه الغزيرة، فقال له المتوكل يوما: أيما أحب إليك، ابناي
هذان، أم الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت (ره): والله ان قنبرا
خادم أمير المؤمنين (ع) خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك:
سلوا لسانه من قفاه. ففعلوا فمات، وكان ذلك في خامس رجب سنة 244 ه‍.
ونظيره ما وقع لسنمار الصانع المشهور، والمعمار المعروف الذي يضرب
به المثل في بداعة الصنعة، وغرابة ما جرى عليه، فإنه بني للنعمان، قصره
المعروف بالخورنق، وكان من حذاقة صنعة السنمار ان القصر يتلون في كل
يوم بأربعة ألوان، فلما تم بناؤه، أنعم النعمان على السنمار بمال كثير،
فصعد القصر للتفرج، وكان النعمان متعجبا من حسن الصنعة، ويطري
السنمار بالمدح والثناء، فقال له السنمار: أيها الملك لو علمت أنك تقابل
عملي هذا بالتقدير، وتعطف علي باعطاء هذا المال الخطير، لكنت بانيا لك
قصرا أحسن من هذا. فقال النعمان: أتقدر ان تصنع أحسن من هذا؟
فقال: نعم. فغضب النعمان واحمر وجهه وقال: بعد أن أتلفت أموالي،
وتركت بيت مالي خالية تقول: لو علمت حسن الصنيعة لبنيت أحسن منه!!
أيها الغلمان ألقوه من القصر، لئلا يبني لغيري قصرا أحسن من قصري.
فألقوه من القصر، فخر ميتا، فضرب به المثل في مكافاة الاحسان بالإساءة.
وقال آخر:
وكائن ترى من صامت لك معجب * زيادته أو نقصه في التكلم
387

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده * فلم يبق الا صورة اللحم والدم.
وقال أحيحة بن الجلاح:
والصمت أجمل بالفتى * ما لم يكن عي يشينه
والقول ذو خطل إذا * ما لم يكن لب يعينه
وقال آخر:
لقد وارى المقابر من شريك * كثير تحلم وقليل عاب
صموتا في المجالس غير عي * جديرا حين ينطق بالصواب
وقال آخر:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن * خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بان من السكوت إبانة * ومن التكلف ما يكون خبالا.
وقال علي بن هشام:
لعمرك ان الحلم زين لأهله * وما الحلم الا عادة وتحلم
إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة * وعي فان الصمت اهدى وأسلم
وقال آخر:
عجبت لازراء العيي بنفسه وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعيي وإنما * صحيفة لب المرء أن يتكلما
وقال الخبز ارزي:
لسان الفتى خنق الفتى حين يجهل * وكل امرئ ما بين فكيه مقتل
إذا ما لسان المرء أكثر هذره * فذاك لسان بالبلاء موكل
وكم فاتح أبواب شر لنفسه * إذا لم يكن فقل على فيه مقفل
فلا تحسبن الفضل في العلم وحده (127) * بل الجهل في بعض الأحايين أفضل
إذا شئت أن تحيا سعيدا مسلما * قدير وميز ما تقول وتفعل.

(127) وفى النسخة: ولم تحسبن الفضل في الحلم وحده، الخ.
388

وقال آخر:
الحلم زين والسكوت سلامة * فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما ان ندمت على سكوتي مرة * الا ندمت على الكلام مرارا.
وقال الحسن بن هاني:
خل جنبيك لرام * وامض عني بسلام
مت بداء الصمت خير * لك من داء الكلام
رب لفظ ساق آجال * فئام وفئام
إنما السالم من * ألجم فاه بلجام
389

المائدة الثانية عشرة:
في ذكر ما يناسب قوله (ع): " وإياك ان تثق لتحميل زادك بمن
لا ورع له ولا أمانة، الخ ".
وقد قلنا سابقا انه يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التحذير عن
صرف المعروف والعطيات في غير أهله، وهذا المعنى قد ورد في غير واحد من
الاخبار الزجر عنه، والردع منه، ففي الحديث الأخير من المجلس 16، من
أمالي الشيخ المفيد (ره)، عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة:
من صنع معروفا إلى أحمق فهي خطيئة تكتب عليه.
وروى ابن أبي الحديد، في المختار 400، أو 455، مما استدركه على
السيد الرضي (ره) أنه قال أمير المؤمنين (ع): ينبغي للعاقل ان يمنع
معروفه الجاهل واللئيم والسفيه، اما الجاهل فلا يعرف المعروف، ولا يشكر
عليه، وأما اللئيم فأرض سبخة لا تنبت، وأما السفيه فيقول: إنما أعطاني
فرقا من لساني.
وأيضا روى ابن أبي الحديد في المختار 853، مما استدركه على قصار
النهج، أنه قال (ع): المصطنع إلى اللئيم كمن طوق الخنزير تبرا، وقرط
الكلب دررا، وألبس الحمار وشيا، وألقم الأفعى شهدا.
وفي الحديث 1، من الباب 25، من كتاب الزكاة، من الكافي: 4، 30
معنعنا، عن الإمام الصادق (ع) قال: إذا أردت أن تعلم أشقي الرجل أم
سعيد، فانظر سببه ومعروفه إلى من يصنعه، فإن كان يصنعه إلى من هو أهله
فاعلم أنه خير، وإن كان يصنعه إلى غير أهله، فاعلم أنه ليس له عند الله
خير. ورواه الصدوق (ره)، في الفقيه مرسلا، كما في الوافي: 2، ص
84، في الحديث 3، من الباب 58، من كتاب الزكاة. ورواه أيضا في
390

الحديث، 2، من الباب، من الكافي، بسند آخر.
وفي الحديث الرابع، من الجزء الرابع، من أمالي الشيخ (ره) معنعنا،
عن الإمام الصادق (ع) قال: انه من عظم دينه، عظم إخوانه، ومن
استخف بدينه استخف بإخوانه، يا محمد اخصص بمالك وطعامك من تحبه
في الله عز وجل.
وفي تحف العقول عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: والصنيعة لا تكون
صنيعة الا عند ذي دين أو حسب، الخ. وقريب منه رواه في مستطرفات
السرائر عن النبي (ص). ورواه في الحديث 80، من باب النوادر، من
الفقيه: 4، 298 معنعنا، مع زيادات كثيرة عن الإمام الصادق (ع).
وأما ما قيل في هذا المعنى من الشعر فقير قليل أيضا. ففي المختار 9
من حرف العين، من الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (ع) ص 93:
لا تضع المعروف في ساقط * فذاك صنع ساقط ضائع
وضعه في حر كريم يكن * عرفك مسكا عرفه ضائع
وقال شاعر:
ان الصنيعة لا تكون صنيعة * حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها * لله أو لذوي القرابة أودع.
هذا ما حضرني الان من شواهد الاحتمال الأول.
وأما شواهد الاحتمال الثاني - اي كون الكلام تحذيرا من ايكال
الامر إلى غيره، بأن يكون مساق قوله (ع): " وإياك أن تثق لتحميل زادك
بمن لا ورع له ولا أمانة، الخ " مساق قوله (ع): " يا بن آدم كن وصي
نفسك، واعمل في مالك ما تؤثر ان يعمل فيه من بعدك " (128) - فكثيرة
أيضا نثرا ونظما، ويدل عليه جميع ما ورد في الشريعة من الحث على المبادرة

(128) المختار 251، من قصار نهج البلاغة.
391

إلى الخيرات، ويدل عليه أيضا ما قاله السبط الشهيد عليه السلام: مالك
ان لم يكن لك، كنت له منفقا، فلا تنفقه بعدك فيكون ذخيرة لغيرك،
وتكون أنت المطالب به، المأخوذ بحسابه، واعلم انك لا تبقى له، ولا يبقى
عليك (129) فكله قبل ان يأكلك.
وفي حديث آخر عنه (ع): مالك ان لم يكن لك، كنت له، فلا تبق
عليه، فإنه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك. الحديث 28 و 34، من
مختار كلمه (ع) في البحار: 17، 151، نقلا عن اعلام الدين، والدرة
الباهرة.
واما الشواهد المنظومة للمعنى الثاني فكثيرة أيضا، ومما نسب إلى
أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
قدم لنفسك في الحياة تزودا * ولقد تفارقها وأنت مودع
واهتم للسفر القريب فإنه * أنأى من السفر البعيد واشع
واجعل تزودك المخافة والتقى * فلعل حتفك في مسائك أسرع، الخ
وقال آخر:
قدم جميلا إذا ما شئت تفعله * ولا تؤخر ففي التأخير آفات
ألست تعلم أن الدهر ذو غير * وللمكارم والاحسان أوقات
وقال آخر:
إذا ما كنت متخذا وصيا * فكن فيما ملكت وصي نفسك
ستحصد ما زرعت غدا وتجزى * إذا وضع الحساب ثمار غرسك.
وقال آخر:
تمتع إنما الدنيا متاع * وان دوامها لا يستطاع

(129) كذا في النسخة، والسياق يقتضي ان يقال: ولا يبقى لك،
ولعله من سهو النساخ، أو أن على بمعنى اللام.
392

وقدم ما ملكت وأنت حي * أمير فيه متبع مطاع
ولا يغررك من توصي إليه * فقصر وصية المرء الخداع
ومالي أن أملك ذاك غيري * وأوصيه به لولا الخداع
وقال آخر:
قدم لنفسك شيئا * وأنت مالك مالك
من قبل أن تتلاشى * ولون حالك حالك
وقال آخر:
افعل الخير ما بدا وتهيا * علم الخير لائح في الثريا
إنما أنت أنت ما دمت حيا * فإذا مت صرت تأويل رؤيا
وقال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * وأبصرت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله * وانك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال الأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد * ذخرا يكون كصالح الاعمال.
393

وقال عليه السلام في هذه الوصية (67)
يا بني البغي سائق إلى الحين (68) لن يهلك امرؤ عرف
قدره (69)، من حصن (حظر خ) شهوته صان قدره، قيمة كل
امرئ ما يحسن (70) الاعتبار يفيدك الرشاد، أشرف الغنى ترك

(67) من هنا إلى آخر الوصية رواها الصدوق (ره) بلا حذف، واسقاط
شئ منها، على ما هو الظاهر من كلامه.
(68) الحين - كزين وشين ومين -: المحنة. الهلاك.
(69) قريب منه ذكره السيد (ره)، في المختار 99، من باب الخطب،
والمختار 148، من باب القصار من النهج.
وهذا مما تواتر عنه (ع)، وقد أشرنا غير مرة إلى أن جل ما في هذه
الوصية مذكور في خطبة الوسيلة وفى وصيته (ع) إلى الامام المجتبى (ع).
(70) يحسن - من الاحسان - بمعنى العلم، ومراده (ع) ان قيمة
المرء تدور مدار علمه، فمن لاعلم له فلا قيمة له، وقيمة العالم أيضا بمقدار
قيمة علمه كما وكيفا. وقال الفيض (ره) في شرح الكلام: يعني تزيد قيمة
المرء بزيادة علمه كما وكيفا، ولا شك ان شرف العلم بشرف المعلوم، فالعالم
بعظمة الله وجلاله أعظم قدرا من العالم بأحكامه، وكذلك في سائر العلوم،
وما كان المقصود منه الدنيا فقيمته ما يحصل له في الدنيا، وماله في الآخرة
من نصيب سوى الحسرة والندامة.
أقول: هذا الكلام الشريف مما أطبقت الأمة جمعاء على صدوره من أمير
المؤمنين (ع) وانه (ع) أبو عذرته، وانه اجل تعبير ينبئ عن وزن العالم،
ويكشف عن سمو مقامه، وللعلماء والشعراء كلم نافعة، وإفادات جيدة في
نفاسة هذا الكلام وشرافته، نشير إليها في مناهج البلاغة، في شواهد المختار
81، من قصار نهج البلاغة انشاء الله تعالى.
394

المنى، الحرص فقر حاضر المودة قرابة مستفادة، صديقك
أخوك لأبيك وأمك، وليس كل أخ لك من أبيك وأمك
صديقك، لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك،
كم من بعيد أقرب منك من قريب، وصول معدم خير من
مثر جاف (71) الموعظة كهف لمن وعاها، من من بمعروفه
أفسده (72) من أساء خلقه عذب نفسه وكانت البغضة أولى به،
ليس من العدل القضاء بالظن على الثقة (73)، ما أقبح الا شر عند
الظفر، والكآبة عند النائبة (74) والغلظة والقسوة على الجار،

(71) الوصول - كصبور -: الكثير الوصل، أو الكثير الاعطاء، وكأن المراد
منه هنا معناه الوصفي بلا مبالغة وتكثير، والمعدم: الفقير. والمثري: ذو المال
والغني. والجافي: الغليظ.
(72) هذا المعنى مقتبس من قوله تعالى في الآية: 264، من سورة
البقرة " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله
رئاء الناس، الخ ".
(73) أي إذا كان أحد موثوقا عندك في الدين أو الأمانة أو المحبة أو غيرهما،
فما لم يحصل لك اليقين على زواله لا تحكم بالزوال، فان الظن لا يغني من الحق
شيئا، وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ان بعض
الظن اثم ".
(74) الأشر: كالبطر والفرح لفظا ومعنى. والكآبة والكأبة والكآبة -
كالراحة والكعبة والصحابة -: الغم وسوء الحال والانكسار من الحزن، وهي
مصادر لقولهم: كئب (من باب علم).
395

والخلاف على الصاحب، والحب (والخبث خ) من ذوي
المروءة (75)، والغدر من السلطان، وزل معه حيث زال،
لا تصرم أخاك على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب (76)
لعل له عذرا وأنت تلوم، إقبل من متنصل (77) عذره
فتنا لك الشفاعة، وأكرم الذين بهم نصرك، وازدد لهم
طول الصحبة برا وإكراما وتبجيلا وتعظيما، فليس
جزاء من سرك أن تسوءه (78)، أكثر البر ما استطعت لجليسك

(75) قال في الوافي: الخب - بالخاء المعجمة -: الخداع والمكر، وفى بعض
النسخ: الخبث - بالمثلثة - وفى بعضها بالحاء المهملة والنون والمثلثة،
وكأنهما تصحيف.
(76) صرم يصرم (من باب ضرب) صرما وصرما (كفلس وقفل) - فلانا.
أي هجره. الشئ: قطعه. والاستعتاب: طلب الرجوع والعود إلى ما كان
عليه. وفى كتاب العلم من العقد الفريد قال: قال علي (ع): لا تقطع أخاك
على ارتياب، ولا تهجره دون استعتاب.
(77) يقال: تنصل فلان من ذنبه أي تبرأ منه. ومنه الحديث: يا علي
من لم يقبل العذر من متنصل لم ينل شفاعتي. (78) أوصى عليه السلام بهذا البيان القدسي بالاهتمام بشؤون الأنصار
والأعوان من الاخوان والأقرباء والأصدقاء، حيث إن الانسان بمعاضدتهم ينال
المقصود، وبمعاونتهم يظفر بطلبته، فيفرح ويبتهج، فعليه أن يجزيهم بالبر
والاكرام، ويثيبهم بالانعام والاحترام في جميع أوقات الصحبة، ولا يتبرم بطول
صحبتهم فيترك ما يجب عليه من مراعاة حقهم، لأنه لا يجزى الاحسان الا
بالاحسان، فليس جزاء من سرك بانجاح المقاصد، ونيل الآمال، ان تسوءه
يترك رعايته، واظهار الملالة والسامة من طول صحبته.
396

فإنك إذا شئت رأيت رشده من كساء الحياء ثوبه اختفى
عن العيون عيبه من تحرى القصد خفت عليه المؤن (79) من لم
يعط نفسه شهوتها أصاب رشده مع كل شدة رخاء ومع كل
أكلة غصص، لا تنال نعمة إلا بعد أذى، كفر النعم
موق (80) ومجالسة الأحمق شوم. اعرف الحق لمن عرفه
لك شريفا كان أو وضيعا، من ترك القصد جاز، ومن تعدى
الحق ضاق مذهبه، كم من دنف نجا، وصحيح قد هوى (81)
قد يكون اليأس إدراكا، والطمع هلاكا، استعتب من
رجوت عتابه (82)، لا تبيتن من امرء على غدر، الغدر شر

(79) التحري: الطلب واختيار ما هو الأولى من الأمور. والقصد: هو التوسط بين الافراط والتفريط. والمؤن - على زنة زفر وعمر - جمع المئونة -
بفتح أوله وضمه - وهي القوت وما يصرفه الانسان في حوائجه، ولملازمته نوعا
من الثقل يستعمل في كل شدة وثقيل.
(80) الموق: الحمق، وفى خطبة الوسيلة: كفر النعم لوم، وصحبة
الجاهل شوم.
(81) الدنف - على زنة كتف -: من ثقل مرضه وصار ملازما له، وجمعه
أدناف، ومؤنثه دنفة، وجمع المؤنث دنفات. وهوى: هلك.
(82) العتبى: الرضا، أي اطلب رضا من ترجو رضاه ولا تتركه ساخطا
عليك، أو المعنى اطلب الرجوع إلى المحبة والعود إليها لمن تحتمل وترجو رجوعه
إلى المسرة، وحاصله ترك الانقطاع والهجران إذا كان الاتصال ممكنا، والتحبب
محتملا، والمعنى الثاني لازم للأول، إذ كل من رضي بعد السخط فقد رجع
إلى ما كان عليه أولا، ومنه الحديث: ولابعد الموت من مستعتب.
397

لباس المرء المسلم. من غدر ما أخلق أن لا يوفى له، الفساد
يبير الكثير والاقتصاد ينمي اليسير (83) من الكرم الوفاء
بالذمم من كرم ساد، ومن تفهم ازداد، إمحض أخاك النصيحة
وساعده على كل حال ما لم يحملك على معصية الله عز
وجل (84) لن لمن غاظك (85) تظفر بطلبتك، ساعات الهموم
ساعات الكفارات، والساعات تنفد عمرك (86)، لا خير في لذة
بعدها النار، وما خير بخير بعده النار، وما شر بشر بعده

(83) يبير، من الابارة، أي يهلكه ويبطله، ونمى ينمي نميا ونميا - من
باب رمى يرمي - كنما ينمو نموا - من باب دعا يدعو - المال وغيره: زاد وكثر.
وأنمى انماء الشئ، أي زاده، فأنمى هو، أي زاد.
(84) وبهذا يقيد جميع ما ورد في رعاية الاخوان. وأداء حقوقهم،
ومعاونتهم، وعدم مهاجرتهم، ولأجل ان الحكم عقلي - إذ حق الله أقدم واجل
من جميع الحقوق - فلا يختص بمورد الاخوة، بل يقيد به حقوق جميع المخلوقين.
(85) غاظه يغيظه (من باب باع) غيظا، وغيظه وإغاظة وغايظه، أي
حمله على الغيظ وهو الغضب، أو الأشد منه. وقال (ع) في وصية إلى الامام
المجتبى (ع): لن لمن غالظك فإنه يوشك ان يلين لك، الخ. وهذا مأخوذ من
قوله تعالى: " ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم ". وللكلام ذنابة تأتي.
(86) وفى الحديث: يا بن آدم أنت عدد أيامك. وروى في جامع الأخبار -
على ما حكي عنه - عن السبط الشهيد (ع) أنه قال: يا بن آدم إنما أنت
أيام، كلما مضى يوم ذهب بعضك.
398

الجنة (87) كل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار
عافية، لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه
فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكونن أخوك على
قطيعتك أقوى منك على صلته، ولا على الإساءة أقوى منك
على الاحسان إليه (88)، يا بني إذا قويت فاقو على طاعة الله
عز وجل، وإذا ضعفت فاضعف عن معصية الله عز وجل (89)

(87) اي ما يعده الناس شرا (من المصائب في سبيل الله وتحمل مشقة
التكاليف) ليس بشر، بل هو خير محض، لأنه يجر إلى المكلف خيرا لا ينقطع ولا
يبيد، وهكذا معنى قوله (ع) في الفقرة السابقة: " وما خير بخير بعده النار، الخ "
أي ما تحسبونه خيرا " من المتاع الحقير الذي تنالونه بمعصية الله) ليس بخير،
بل هو شر محض، لأنه يجر المكلف إلى الجحيم والعذاب الأليم، والفقرة
السابقة والجملتان الأخيرتان كالتأكيد لهما، ولا يذهب عنك أن هذه الجمل قد
ألقاها (ع) في ضمن كثير من كلماته، كخطبته الوسيلة، ووصيته إلى الامام
المجتبى (ع)، والمختار 387، من قصار النهج، وغيرها.
(88) من قوله (ع): لا تضيعن حق أخيك، إلى قوله: على الاحسان
إليه، مذكور في وصيته إلى السبط الأكبر: الامام المجتبى (ع)، ورواه
أيضا عنه (ع) في كنز الفوائد 34.
(89) ومن قوله (ع): يا بني إذا قويت، إلى قوله: عن معصية الله
عز وجل - رواه باختلاف ما، في المختار 383، من قصار النهج عنه (ع).
وقريب منه جدا رواه عنه (ع) ابن مسكويه (ره)، في جاويدان خرد (الحكمة
الخالدة) ثم قال ابن مسكويه: فكان ابن المقفع يقول: ليجتهد البلغاء ان يزيدوا
في هذا حرفا.
399

وإن استطعت أن لا تملك المرأة (90) من أمرها ما جاوز
نفسها فافعل، فإنه أدوم لجمالها وأرخى لبالها وأحسن
لحالها فان المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، فدارها
على كل حال، وأحسن الصحبة لها، فيصفو عيشك احتمل
القضاء بالرضا، وإن أحببت أن تجمع خير الدنيا والآخرة
فاقطع طمعك مما في أيدي الناس والسلام عليك يا بني
ورحمة الله وبركاته.
قال الصدوق (طاب ثراه) في آخر الحديث 10، من نوادر الفقيه):
هذا آخر وصيته عليه السلام لمحمد بن الحنفية (ره).
أقول: قال شيخ الطائفة عطر الله مرقده في ترجمة الأصبغ بن نباته (ره):
كان الأصبغ من خواص أمير المؤمنين عليه السلام، وعمر بعده، وروى عهد
مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين عليه السلام لما ولاه مصر، وروى
وصية أمير المؤمنين عليه السلام إلى ابنه محمد بن الحنفية.
أخبرنا بالعهد ابن جيد، عن محمد بن الحسن الحميري، عن
هارون بن مسلم، والحسن بن طريف جميعا، عن الحسين بن علوان الكلبي،
عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
وأما الوصية، فأخبرنا بها الحسين بن عبيد الله، عن الدوري، عن
محمد بن أبي الثلج، عن جعفر بن محمد الحسيني، عن علي بن عبدك

(90) من قوله (ع): وان استطعت، إلى قوله: فيصفو عيشك -
ذكرناه في باب الخطب من هذا الكتاب، عن مصادر كثيرة. وأيضا هذا كله
مذكور في وصيته إلى الإمام الحسن (ع) مع زيادة، وكذلك في الحكمة
الخالدة 177. ولا يخفى ان الظاهر من هذا الكلام الشريف - بقرينة ذيله -
عدم تحميل الأحور الشاقة على النساء مما ينغص عيشها، ويذهب بطراوتها
وبهاء وجهها ونضارة غصنها، من إدارة شؤون الحياة، ودحراجها إلى الجهات
لتحصيل المآكل والأقوات.
400

الصوفي، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن
طريف، عن الأصبغ بن نباته المجاشعي، قال: كتب أمير المؤمنين عليه السلام
إلى ولده محمد بن الحنفية وصيته.
وقال النجاشي رحمه الله: كان الأصبغ بن نباته المجاشعي من خاصة أمير
المؤمنين عليه السلام، وعمر بعده، روى عنه عهد الأشتر، ووصيته إلى
محمد ابنه.
أخبرنا ابن الجندي، عن علي بن همام، عن الحميري عن هارون بن
مسلم، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بالعهد.
وأخبرنا عبد السلام بن الحسين الأديب، عن أبي بكر الدوري، عن
محمد بن أحمد ابن أبي الثلج، عن جعفر بن محمد الحسني، عن علي بن
عبدك، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن
طريف، عن الأصبغ بالوصية.
وروى ثقة الاسلام الكليني (ره)، بسندين في الحديث 7، من الباب
19، من كتاب النكاح، من الكافي: 5، 337، معنعنا عن الإمام الباقر
والصادق (ع) قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته إلى الحسن
عليه السلام: إياك ومشاورة النساء، فان رأيهن إلى الافن، وعزمهن إلى
الوهن، واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن، فان شدة الحجاب خير
لك ولهن من الارتياب، وليس خروجهن بأشد من دخول لا تثق به عليهن،
فان استطعت ان لا يعرفن غيرك من الرجال فأفعل.
ثم قال ثقة الاسلام قدس الله نفسه: أحمد بن محمد بن سعيد، عن
جعفر بن محمد الحسيني، (130) عن علي بن عبدك، عن الحسن بن ظريف

(130) كذا في النسخة، والصواب " الحسني " كما تقدم ويأتي.
401

ابن ناصح، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن
نباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام مثله، إلا أنه قال: كتب بهذه الرسالة
أمير المؤمنين عليه السلام إلى ابنه محمد بن الحنفية.
أقول لا تنافي بين الروايتين، لان أمير المؤمنين عليه السلام كتب اليهما
جميعا، فالأولون من الرواة لما لم يطلعوا على الرواية الثانية، - أو لم
يكونوا بصدد بيانها، أو بينوها أيضا، ولكن النقلة عنهم لم يعلموا بها -
اكتفوا بذكر الأولى فقط، وكذلك الكلام في رواة الرواية الثانية الآتية.
وأيضا روى ثقة الاسلام رفع الله درجاته في الحديث 3، من الباب 152،
من كتاب النكاح، من الكافي: 5، 510، بالسندين المتقدمين - إلا أن
فيما تقدم روى عن أبي عبد الله الأشعري، عن رجاله إلى أن انتهى إلى الإمام الباقر
والصادق (ع)، وهنا يروي عن أبي علي الأشعري، عن المذكورين
في ما تقدم، عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام قال: في
رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه السلام: لا تملك المرأة
من الامر ما يجاوز نفسها، فان ذلك أنعم لحالها، وأرخى لبالها، وأدوم
لجمالها، فان المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، ولا تعد بكرامتها نفسها،
واغضض بصرها بسترك، واكففها بحجابك، ولا تطمعها أن تشفع لغيرها،
فيمل عليك من شفعت له عليك معها، واستبق من نفسك بقية، فان إمساكك
نفسك عنهن وهن يرين أنك ذو اقتدار، خير من أن يرين منك حالا
على انكسار.
ثم قال ثقة الاسلام عطر الله مضجعه: أحمد بن محمد بن سعيد، عن
جعفر بن محمد الحسني، عن علي بن عبدك، عن الحسن بن ظريف بن
ناصح، عن الحسين بن علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته،
عن أمير المؤمنين عليه السلام مثله، إلا أنه قال: كتب أمير المؤمنين صلوات
402

الله عليه بهذه الرسالة إلى ابنه محمد رضوان الله عليه (131) وممن ذكر السند للوصية الشريفة السيد ابن طاووس رحمه الله، نقلا
عن الجزء الأول عن كتاب الزواجر والمواعظ، من نسخة تاريخها: ذو
القعدة، من سنة ثلاث وسبعين وأربع مأة، تأليف أبي أحمد الحسن بن
عبد الله بن سعيد العسكري، قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الرحمان بن فضال
القاضي، قال حدثنا الحسن بن محمد بن أحمد، وأحمد بن جعفر بن محمد
بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) قالا: حدثنا جعفر
بن محمد الحسني، قال: حدثنا الحسن بن عبدك، قال حدثنا الحسن بن
ظريف بن ناصح، عن الحسن (الحسين خ) بن علوان، عن سعد بن طريف
عن اصبغ بن نباتة المجاشعي قال: كتب أمير المؤمنين (ع) إلى ابنه محمد.
وقال السيد (ره) أيضا: واعلم أنه قد روى الشيخ المتفق على ثقته
وأمانته محمد بن يعقوب الكليني تغمده الله برحمته، رسالة مولانا أمير
المؤمنين (ع)، إلى ابنه الحسن (ع)، وروى رسالة أخرى مختصرة عن
خط علي عليه السلام إلى ولده محمد بن الحنفية (ع)، وذكر الرسالتين
في كتاب الرسائل، ووجدنا منها نسخة قديمة يوشك أن تكون كتابتها في
زمان حياة محمد بن يعقوب رحمه الله. انتهى ملخصا (132).

(131) قال المحمودي: لا غرابة في اشتباه الامر على الرواة في الوصيتين
أو الرسالتين، لأنهما صدفا بحر واحد، ولؤلؤا صدف فارد، وكلتاهما تستقيان
من بحر الولاية، وتتفرعان عن دوحة الإمامة، وتنبتان عن شجرة العلوم الإلهية،
وتنشئان عن مغرس المعارف الربوبية، فمن شاهد الأولى، ولم يكن عارفا
بالثانية، ثم تليت الثانية عليه، يقول بلا تأمل: كأنها هي، بل غير المتعمق
يقول: هي هي، وذلك لفرط الوحدة، والتشابه من جهات شتى، وقلة
المميزات، ولذا التبس الامر على بعض الرواة.
(132) قال أبو جعفر المحمودي: المستفاد من القرائن ان هذه الوصية
غير رسالته (ع) إلى ابنه محمد بن الحنفية، التي وجدها السد ابن طاووس
(ره) في رسائل ثقة الاسلام الكليني قدس الله نفسه، إذ نحن وان كنا محرومين
عن رسائل الكليني (ره) وأمثالها من ذخائر العلماء القدماء، ولكن من وصف
العدل العلامة السيد ابن طاووس إياها بالاختصار، يعلم أن هذه الوصية غير
تلك الرسالة، إذ الوصية كما رأيتها - مع ما أسقطه الصدوق (ره) منها -
لا تقل عن وصيته (ع) إلى الامام المجتبى (ع). ويدل عليه أيضا ما ذكرناه
في باب الكتب، من كتابه (ع) إلى ابنه محمد، عن مصدر آخر، غير رسائل
الكليني، وهو كما قال السيد مختصر.
403

أقول: قد تقدم في التعليقات السابقة ان الشيخ المفيد والكراچكي
والسيد الرضي وابن شعبة وابن أبي جمهور والعلامة أيضا رووا بعض
فقرات هذه الوصية الشريفة، وكذلك كثير من فقراتها قد تكلم به أمير المؤمنين
عليه السلام في غير واحد من كلماته الكريمة، كما لا يخفى على من أحاط خبرا
بنهج البلاغة ونهج السعادة، وخطبة الوسيلة، ووصيته (ع) إلى السبط
الأكبر (ع)، والمختار الأول والثاني والثالث والرابع والخامس من الباب
الأول من دستور معالم الحكم وغيره، فقد تحقق بتراكم الشواهد الداخلية
والخارجية ان كون الوصية الشريفة من كلام سيد البلغاء والموحدين وأمير
المؤمنين (ع) أمر جلي، والأريب لا يمكنه أن يناقش فيها، وأرباب اللب
والانصاف بعض ما تقدم يكفيها، فتبصر واستقم، ولا تكونن من الممترين.
404

وهنا عوائد وزوائد
العائدة الأولى:
في بيان بعض ما ورد في شأن الصديق، ولوازم الصداقة، المناسب
لقوله (ع): " صديقك أخوك لأبيك وأمك، الخ " وقوله (ع):
" لا تتخذن عدو صديقك صديقا، فتعادي صديقك، الخ ".
واعلم أن لكل شئ آثارا وخواصا في دار الوجود، تكوينا أو اعتبارا
وتشريعا، وهذه الآثار والخواص إذا قسناها إلى شئ آخر أو آثاره
ولوازمه، قد يكونان متلائمين - على اختلاف أقسامه - وقد يكونان
متعاندين، غير متوافقين.
ومن جملة الموجودات الصداقة والمحابة والموادة بين الشخصين، ولها
لوازم وثمرات وآثار بحسب التكوين والعقل والمعتاد بين ذوي العقول،
وهكذا بحسب الشرائع.
فمن جملة آثار الصداقة: اختيار هوى الصديق على هوى نفسه
وغيره، (133) والفرح إذا فرح، والحزن إذا حزن، والمواساة مع في البأساء
والضراء، وتفقده عند غيبته، ومراودته والمعاشرة معه بالجميل عند حضوره،
وموالاة وليه، ومعاداة عدوه، وستر ما يشينه، ونشر ما يزينه، إلى غير
ذلك مما هو مركوز في فطرة جميع ذوي الحس والعقل، من اي صنف وقطر
وسلالة، فإنك إذا تأملت تجد جميع الأمم القائلين بالشريعة وغيرهم، يحنون
إلى صديقهم، ويفرون وينزجرون من بغيضهم، بحسب طبعهم وفطرتهم، ولم
ير ولا سمع - ولن يرى ولا يسمع - أن أحدا رتب آثار الصداقة - من

(133) لبعضهم: أريد وصاله ويريد هجري * فأترك ما أريد لما يريد
405

بذل النفس والمال، واختيار هوى الحبيب والصديق على هوى شخصه -
على عدوه. وكذلك العكس: لم يعهد من فرد من ذوي العقول أن يعامل
مع صديقه معاملة العدو، بان يسبه ويضربه عند الحضور، ويغتابه ويسئ
القول فيه لدى الغيبة، ويفرح عند حزنه، ويحزن عند مسرته، ويساعد
أعداءه على استيصاله، أو يسعى في سبيل مرضاة عدوه، أو تنغيص عيش
صديقه وحبيبه، وهذا أمر ارتكازي - حتى للحيوانات - غير محتاج إلى
إقامة الشواهد، الا أنا نذكر بعض الشواهد، لتنبيه الغافل، ولالزام بعض
الكاذبين وتكذيبهم، والفات العقلاء والمنصفين، على أنهم هم الكاذبون في
دعواهم، فنقول:
قال الله تعالى في الآية 29 و 30، من سورة آل عمران: قل ان كنتم
تحبون لله فاتبعوني يحببكم الله، الخ.
وقال تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فان تولوا فان الله لا يحب الكافرين.
وقال تعالى في الآية 22، من سورة المجادلة: لا تجد قوما يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، الخ.
فتأمل في الآية الأولى كيف رتب اتباع حبيبه على محبته، وعلقه عليه،
فمن لم يتبع الرسول فليس بمحب لله، ولا لرسوله، وتدبر في الآية الثانية
كيف أطلق الكافر على من لم يطع الله ورسوله، وأعلن انه لا يحبهم، وتفكر
في الآية الثالثة كيف حكم بالملازمة بين الايمان بالله ورسوله، وبين قطع
المراودة والموادة مع من حاد الله، وكنى بعدم الوجود عن عدم الامكان
واستحالة التحقق.
وروى الصدوق (ره)، في المجلس 95، من الأمالي 397، وفي
مصادقة الإخوان، قال قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ الف صديق، والألف
قليل، ولا تتخذ عدوا واحدا، والواحد كثير.
406

وروى في الحديث 1، من الباب 10، من أبواب أحكام العشرة، من
مستدرك الوسائل: 2، 62، عن الجعفريات معنعنا، قال قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: المرء على دين من يخالل، فليتق الله المرء، ولينظر من يخالل.
وفي الحديث الثاني، من الباب، نقلا عن كتاب الأخلاق لأبي القاسم
الكوفي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: المؤمنون كأسنان المشط،
يتساوون بينهم في الحقوق بينهم، ويتفاضلون بأعمالهم، والمرء على دين
خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
وقال (ص): اختبروا الناس بأخدانهم، فإنما يخادن الرجل من يعجبه. (134)
وفي الحديث الأخير من الباب السابع، من أبواب أحكام العشرة، من
المستدرك: 2، 62، ط 2، عن القطب الراوندي (ره)، في لب اللباب،
قال قال أمير المؤمنين عليه السلام: عليكم بالاخوان، فإنهم عدة في الدنيا
والآخرة، ألا تسمعون إلى قوله تعالى: فما لنا من شافعين ولا صديق
حميم. (135)
وروى الصدوق (ره) معنعنا، في صفات الشيعة 165، في الحديث
التاسع، عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: مجالسة الأشرار تورث سوء الظن
بالأخيار، ومجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، ومجالسة الفجار
للأبرار تلحق الفجار بالأبرار، فمن اشتبه عليكم أمره، ولم تعرفوا دينه،
فانظروا إلى خلطائه، فان كانوا أهل دين الله فهو على دين الله، وان كانوا

(134) هذا هو الصحيح، وفى النسخة: فإنما يخادن الرجل من يعجبه
نحوه.
أقول: وبعض شواهد الباب قد تقدم في تعليقات قوه (ع): " صاحب
أهل الخير تكن منهم " فراجع.
(135) الآية 100 من سورة الشعراء.
407

على غير دين الله فلاحظ له في دين الله. ان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يواخين كافرا، ولا
يخالطن فاجرا، ومن آخى كافرا أو خالط فاجرا، كان كافرا فاجرا. ورواه
عنه في الحديث 7، من أبواب أحكام العشرة، من المستدرك: 2، ص
62. وصدر الكلام رويناه بسند عال في الباب 5، من نهج السعادة.
وفي المختار 130، من قصار نهج البلاغة: لا يكون الصديق صديقا حتى
يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته (136).
وفي الحديث 13، من تفسير الآية 100، من سورة الشعراء، من تفسير
البرهان: 3، 187، ط 2، عن الزمخشري في ربيع الأبرار، عن علي
عليه السلام: من كان له صديق حميم، فإنه لا يعذب، ألا ترى انه كيف أخبر
الله عن أهل النار: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ".
وقال (ع): حسد الصديق من سقم المودة. المختار 214، من قصار
نهج البلاغة.
وفي المختار 295، منها: أصدقاؤك ثلاثة، وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك:
صديقك وصديق صديقك وعدو عدوك، وأعداؤك: عدوك وعدو صديقك
وصديق عدوك.
وقال (ع) في وصف القرامطة وتكذيبهم: ينتحلون لنا الحب والهوى،
ويضمرون لنا البغض والقلى، وآية ذلك، قتلهم وراثنا، وهجرهم
أجداثنا. (137)

(136) ونعم ما قيل:
الصبر من كرم البيعة * والمن مفسدة الصنيعة
ترك التعهد للصديق * يكون داعية القطيعة
(137) كما في شرح المختار 176، من خطب النهج، من شرح ابن أبي
الحديد: 10، 14، ومن هذا وأمثاله مما تواتر عنه (ع) يعلم حال من ادعى
مودة أمير المؤمنين وأهل بيته عليهم السلام، وهو متصل بعدوه، ومظاهر له،
أو يعادي أحباء أمير المؤمنين (ع) أو يصادق عدوه ويصافي مودته، ولذا قال
عليه السلام - في جواب من قال: اني أحبك وفلانا -: اما الان فأنت أعور،
فاما ان تبصر أو تعمى. مع انا أشرنا إلى أن الامر فطري لكافة ذوي الشعور،
مستغن عن إقامة البرهان، وما أحسن للمقام قول الشاعر:
تود عدوي ثم تزعم انني * صديقك ان الرأي عنك لعازب
408

وقال (ع): ان أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به، ثم تلا
عليه السلام: " ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا " (138). ثم قال عليه السلام: ان ولى محمد من أطاع الله وان بعدت
لحمته، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته. المختار 92، أو
95 من قصار نهج البلاغة، ورواه أيضا الزمخشري في ربيع الأبرار، وروى
صدره فقط في تنبيه الخواطر، قال العلامة المجلسي (ره): في الحديث 75
من الباب 58 من البحار: 1، ص 58، - بعد ما ذكره على وفق النسخ
المطبوعة من النهج: " أعلمهم " بتقديم اللام على الميم - وفي بعض النسخ:

(138) الآية 68، من سورة آل عمران. ونعم ما قيل:
يا مدعي الحب المولاه * من ادعى صحح معناه
من ادعى شيئا بلا شاهد * لابد ان تبطل دعواه
وحبذا ما قاله الاخر:
تعصي الاله وأنت تظهر حبه * هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * ان المحب لمن يحب مطيع
وما أوضح ما قاله الاخر:
إذا صافي صديقك من تعادي * فقد عادك وانقطع الكلام
وما أبين ما افاده الاخر:
صديق صديقي داخل في صداقتي * وخصم صديقي ليس لي بصديق
وما أبدع ما نظمه الاخر:
وإذا ما اختبرت ود صديق * فاختبر وده من الغلمان
409

" اعملهم " بتقديم الميم على اللام، وهو أظهر. أقول: بل تقديم الميم على
اللام متعين، والتفصيل في شرح ابن أبي الحديد: 18، 252.
وقال (ع) لابنه الحسن (ع): يا بني إياك ومصادقة الأحمق، فإنه
يريد ان ينفعك فيضرك، وإياك ومصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون
إليه، وإياك ومصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه، وإياك ومصادقة الكذاب،
فإنه كالسراب، يقرب عليك البعيد، ويبعد عليك القريب. (139)
وقال السبط الأكبر الإمام الحسن عليه السلام: القريب من قربته
المودة، وان بعد نسبه، والبعيد من بعدته المودة، وان قرب نسبه، لا شئ
أقرب إلى شئ من يد إلى جسد، وان اليد تغل فتقطع، وتقطع فتحسم.
الحديث السابع، من الباب الخامس، من كتاب العشرة، من الكافي: 2، 643.
وقال عليه السلام: لا تواخ أحدا حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا
استنبطت الخبرة، ورضيت العشرة، فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في
العشرة. البحار: 17، 145، نقلا عن تحف العقول.
وقال الإمام السجاد عليه السلام: لا تعادين أحدا وان ظننت انه لا يضرك،
ولا تزهدن في صداقة أحد، وان ظننت انه لا ينفعك، فإنك لا تدري متى ترجو
صديقك، ولا تدري متى تخاف عدوك، ولا يعتذر إليك أحد الا قبلت
عذره، وان علمت أنه كاذب. الحديث 35، من باب فضل الصديق (12)
من البحار: 16، 50، س 4، نقلا عن الدرة الباهرة.
وفي الحديث الثامن، من الباب 15، من البحار: 16، 52، نقلا عن
الخصال معنعنا، قال قال أبو جعفر عليه السلام: لا تقارن ولا تواخ أربعة:

(139) المختار 37، من قصار النهج، ورواه أيضا ابن عساكر، وكذلك
صاحب دستور معالم الحكم، وغيرهم، كما فصلنا القول فيه في مناهج البلاغة،
وسيمثل إن شاء الله تعالى.
410

الأحمق والبخيل والجبان والكذاب، أما الأحمق فإنه يريد ان ينفعك
فيضرك، واما البخيل فإنه يأخذ منك ولا يعطيك (140)، واما الجبان فإنه
يهرب عنك وعن والديه، واما الكذاب فإنه يصدق ولا يصدق. (141)
وقال الإمام الصادق عليه السلام: من رأى أخاه على امر يكرهه فلم
يرده عنه وهو يقدر عليه فقد خانه، ومن لم يجتنب مصادقة الأحمق أو شك
أن يتخلق بأخلاقه. الحديث الثاني، من باب من ينبغي مصادقته (15) من
البحار: 16، 52، نقلا عن أمالي الصدوق (ره) معنعنا.
وفي الحديث العاشر، من الباب، عن امالي الشيخ، الحديث 11، من
الجزء الأول، 24 معنعنا، قال (ع): إياك وصحبة الأحمق، فإنه أقرب
ما تكون منه، أقرب ما يكون إلى مساءتك. وقريب منه في الحديث الحادي
عشر، من الباب 4، من كتاب العشرة، من الكافي: 2، 642.
وفي الحديث الأول، من باب فضل الصديق (12) من البحار: 16،
ص 48، عن أمالي الصدوق (ره) معنعنا، عنه (ع) كان يقول: الصداقة
محدودة، ومن لم تكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال الصداقة،
ومن لم يكن فيه شئ من تلك الحدود، فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة،
أولها، أن تكون سريرته وعلانيته لك واحده. والثانية - ان يرى زينك
زينه، وشينك شينه. والثالثة - ان لا يغيره منك مال ولا ولاية. الرابعة -
ان لا يمنعك شيئا مما تصل إليه مقدرته. والخامسة - أن لا يسلمك عند
النكبات (النائبات خ). ورواه الكليني (ره) معنعنا، في الحديث الأخير،
من الباب 3، من كتاب العشرة، من الكافي.
وفي الحديث 12، من الباب، عن أمالي الشيخ (ره) معنعنا، عنه

(140) هذا كناية عن انه يضر ولا ينفع.
(141) إشارة إلى أن الكذاب ولو كان مهمونا عليه من الضرر الا أن مصادقته
ومصاحبته غير مفيدة لسلب الوثوق عن قوله، ولو كان صادقا واقعا.
411

عليه السلام قال: إذا كان لك صديق، فولي ولاية فأصبته على العشر مما
كان لك عليه قبل ولايته، فليس بصديق سوء.
وفي الحديث 13، من الباب، عن أمالي الشيخ (ره) معنعنا، عن
الحسين بن صالح، قال: سمعت جعفر بن محمد (ع) يقول: لقد عظمت
منزلة الصديق، حتى أن أهل النار يستغيثون به، ويدعونه قبل القريب
الحميم، قال الله سبحانه مخبرا عنهم: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. (142)
وروى الصدوق (ره)، في مصادقة الإخوان (18) معنعنا عنه (ع)
قال: أكثروا من الأصدقاء في الدنيا، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة،
اما في الدنيا فحوائج يقومون بها، واما في الآخرة فان أهل جهنم قالوا:
فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. ورواه عنه في الحديث 5، من الباب 7،
من أبواب أحكام العشرة، من الوسائل: 5، 407.
وأيضا روى الصدوق (ره)، في الأمالي أنه قال (ع) لبعض
أصحابه: لا تطلع صديقك من سرك الا على ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك،
فان الصديق قد يكون عدوك (عدوا خ) يوما ما. كما في الحديث 17،
من الباب 12، من البحار: 16، 49، ط الكمباني.
وفي الحديث 29، من الباب، نقلا عن الاختصاص قال (ع): ان
الذين تراهم لك أصدقاء إذا بلوتهم وجدتهم على طبقات شتى، فمنهم كالأسد
في عظم الاكل، وشدة الصولة، ومنهم كالذئب في المضرة، ومنهم كالكلب في
البصبصة، ومنهم كالثعلب في الروغان والسرقة، صورهم مختلفة، والحرفة
واحدة، ما تصنع غدا إذا تركت فردا وحيدا لا أهل لك ولا ولد، الا الله
رب العالمين.

(142) الآية 100، من سورة الشعراء، وأيضا نقله في الحديث 34، من
الباب، بسند آخر عن امالي الشيخ، عن الحسن بن صالح بن حي، عنه (ع).
412

وفي الحديث 33، من الباب، نقلا عن أمالي الطوسي معنعنا، عن
سفيان بين عيينة، قال: سمعت جعفر بن محمد (ع) في مسجد الخيف
يقول: إنما سموا إخوانا لنزاهتهم عن الخيانة، وسموا أصدقاء لأنهم
تصادقوا حقوق المودة.
وفي الحديث 35 من الباب، نقلا عن أمالي الشيخ المفيد (ره) معنعنا،
عنه (ع) قال: لا تسم الرجل صديقا سمة معروفة، حتى تختبره بثلاث:
تغضبه فتنظر غضبه يخرجه من الحق إلى الباطل، وعند الدينار والدرهم،
وحتى تسافر معه.
وقال (ع): صديق عدو علي، عدو علي. الحديث 29، من باب
من ينبغي مصادقته (15) من البحار: 16، ص 53، ط الكمباني، نقلا
عن الاختصاص.
413

العائدة الثانية:
في ما يناسب المقام من منظوم الكلام.
روى الصدوق (ره)، في المجلس 95، من الأمالي 397، وفي مصادقة الإخوان
عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
تكثر من الاخوان ما اسطعت انهم * عماد إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثيرا الف خل وصاحب * وان عدوا واحدا لكثير. (143)
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد: 1، 337، ط 2، وفي ط،
ج 2، ص 201،: وقد دحية (دحيم خ ل) الكلبي على علي عليه السلام
فما زال يذكر معاوية ويطريه في مجلسه، فقال علي عليه السلام:
صديق عدوي داخل في عداوتي * واني لمن ود الصديق ودود
فلا تقربن مني وأنت صديقه * فان الذي بين القلوب بعيد (144)

(143) ورواه عنه في مستدرك البحار: 17، 265، في الحديث 3، من
حكم لقمان، وضبط الشطر الثاني هكذا: عماد إذا ما استنجدوا وظهور الخ.
ونقل في الحاشية عن الديوان الشطر الأول هكذا: عليك باخوان الصفاء فإنهم،
الخ. وكذلك رواه في الحديث 2، من الباب 7، من أبواب أحكام العشرة، من
الوسائل: 5، 407. والشطرين الأخيرين رواهما عنه (ع) في كنز الفوائد 36،
الفصل 19.
(144) وقال الخليل بن أحمد (ره):
يقولون لي دار الأحبة قد دنت * وأنت كئيب ان ذا لعجيب
فقلت وما تغني الديار وقربها * إذا لم يكن بين القلوب قريب
وروى الخطيب البغدادي ان نصر بن علي بن نصر البصري الجهضمي،
المتوفى سنة. 250 ه‍، روى عن علي بن جعفر العلوي، قال حدثني أخي موسى
بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه، عن
جده عليهم السلام، ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد الحسن
والحسين عليهما السلام فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي
في درجتي يوم القيامة. قال أبو عبد الرحمان عبد الله: لما حدث بهذا الحديث
نصر بن علي، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد،
وجعل يقول له هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه، وكان له
أرزاق فوفرها عليه موسى.
قال الخطيب: إنما أمر المتوكل بضربه، لأنه ظنه رافضيا، فلما علم أنه
من أهل السنة تركه. الكني والألقاب 20، 146.
414

وروى الشيخ الصدوق (ره)، في عيون أخبار الرضا معنعنا، قال
قال المأمون (للامام) الرضا (ع): أنشدني أحسن ما رويته في السكوت
عن الجاهل، وترك عتاب الصديق. فقال (ع):
اني ليهجرني الصديق تجنبا * فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه ان عاتبته أغريته * فأرى له ترك العتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متحكم (145) * يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما * كان السكوت من الجواب جوابا
فقال له المأمون: ما أحسن هذا! هذا من قاله؟ فقال (ع): بعض
فتياننا، الخ.
وقال كثير عزة:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه * وعن بعض ما فيه يعش وهو عاتب
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة * يجدها فلا يسلم له الدهر صاحب
وقال بشار بن بردة:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا * صديقك لم تلق الذي من تعاتبه

(145) ونظير هذا الذيل قول الشاعر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من اجابته السكوت
سكت عن السفيه فظن اني * عييت من الجواب وما عييت
415

فعش واحدا أوصل أخاك فإنه * مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه
وقال مسلم بن وابصة:
أحب فتى ينفي الفواحش سمعه * كأن به من كل فاحشة وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطا أذى * ولا مانعا خيرا ولا قائلا هجرا
إذا ما أنت من صاحب لك زلة * فكن أنت محتالا لزلته عذرا
غنى النفس ما يكفيك من سد خلة * فان زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا
وقال آخر:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي * وأشرقني على حنقي بريقي
غفرت ذنوبه وصفحت عنه * مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال سليمان بن فلاح:
لي صديق ما مسني عدم * مذ وقعت عينه على عدم
قام بعذري لما قعدت به * ونمت عن حاجتي ولم ينم
أغنى وأقنى ولم يسم كرما * بقبل كف له ولاقدم
وقال آخر:
لا توردن على الصديق * من الدعاية ما يغمه
واحذر بواطش طيشه * يوما إذا ما طال حلمه
فالعجل تنطحه على ادمان * مس الضرع، أمه
وقال بعضهم:
احذر مودة ماذق * شاب المرارة بالحلاوة
يحصي العيوب عليك أيام * الصداقة للعداوة
وقال الشريف الرضي (ره):
وقد كنت مذ لاح المشيب بعارضي * أنفر عن هذا الورى واكشف
416

فما إذا عرفت الناس الا ذممتهم * جزى الله خيرا كل من لست أعرف
وقال إبراهيم بن هلال الصابي:
أيا رب كل الناس أبناء علة * أما تغلط الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد * ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا عند اللقاء فإنهم * قذى لعيون أو شجى لحلوق
وان عرضوا برد الوداد وظله * أسروا من الشحناء حر صديق
ألا ليتني حيث اتنوت أفرخ القطا * بأقصى محل في البلاد سحيق
أخو وجدة قد آنستني كأنني * بها نازل في معشري وفريقي
فذلك خير للفتى من ثوابه * بمسغبة من صاحب ورفيق
وقال غيره: اسم الصديق على كثير واقع * وقد اختبرت فما وجدت فتى يفي
كعجائب البحر التي أسماؤها * مشهورة وشخوصها لم تعرف
وقال أحمد بن إسماعيل:
مذ سمعنا باسم الصديق فطالبنا * بمعناه ماستفدنا صديقا
أتراه في الأرض يوجد لكن * نحن لا نهتدي إليه طريقا؟
أم ترى قولهم: صديقا مجاز * لا نرى تحت لفظه تحقيقا؟
وقال غيره:
صديقك حين تستغني كثير * ومالك عند فقرك من صديق
فلا تأسف على أحد إذا ما * لهى عنك الزيارة وقت ضيق
وقال بعضهم:
هو خل لي ولكن * لعن الله ولكن
لفظة في ضمنها السوء * تحامى في أماكن
وقال آخر:
ولن تنفك تحسد أو تعادي * فأكثر ما استطعت من الصديق
417

وبغضك للتقي (146) أقل ضرا * وأسلم من مودة ذي الفسوق.
وقال آخر:
احذر عدوك مرة * واحذر صديقك الف مرة
فلربما انقلب الصديق * فكان أعرف بالمضرة

(146) وفى بعض النسخ: وبغضاء التقي أقل ضرا، الخ. وما أجود قول
أبي حيان:
عداي للهم فضل على ومنة * فلا أذهب الرحمان غني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها * وهم نافسوني فالتبست المعاليا
418

العائدة الثالثة:
في نبذ من أقوال الحكماء والعلماء والكبراء في الصديق والصداقة،
وفضلها على القرابة.
قالوا: ومما يجب للصديق على الصديق النصيحة جهده، لان صديق
الرجل مرآته، يريه حسناته وسيئاته.
وقالوا: الصديق من صدقك وده، وبذل لك رفده.
وقالت الحكماء أيضا: ومما يجب للصديق على الصديق، الاغضاء عن
زلاته، والتجاوز عن سيئاته، فان رجع واعتب، والا عاتبته بلا إكثار، فان
كثرة العتاب مدرجة للقطيعة (147).
وقال الأحنف: من حق الصديق أن يتحمل ثلاثا: ظلم الغضب، وظلم
الدالة، وظلم الهفوة.
وقيل لبزرجمهر: من أحب إليك، أخوك أو صديقك؟ فقال: ما أحب
أخي الا إذا كان صديقا.
وقال أكثم بن صيفي: القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج
إلى قرابة.
قال حبيب الطائي:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم * ووصفت ما وصفوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا * وإذا المودة أقرب الأنساب
وقالت الحكماء: القريب من قرب نفعه، وانتفى ضره.
وقال المبرد:

(147) ونعم ما قيل:
إذا ذهب العتاب فليس ود * ويبقى الود ما بقي العتاب
419

ما القرب الا لمن صحت مودته * ولم يخنك وليس القرب للنسب
كم من قريب دوي الصدر مضطغن * ومن بعيد سليم غير مقترب
وقيل:
رب بعيد ناصح الحبيب * وابن أب متهم المغيب.
ورأي بعض الحكماء مصطحبين لا يفترقان، فسأل عنهما، فقيل:
صديقان. قال: فما بال أحدهما غنيا والاخر فقيرا؟!
وكتب ظريف إلى صديق له: اني غير محمود على الانقياد إليك، لأني
صادقتك من جوهر نفسي، والنفس يتبع بعضها بعضا.
ومن كلام أمير المؤمنين (ع): الصديق من صدق في غيبته.
ومن كلام أهل التجارب: الحبوس مقابر الاحياء، وشماتة الأعداء،
وتجربة الأصدقاء.
وقيل للثوري: دلني على جليس أجلس إليه. قال: تلك ضالة لا توجد.
قال ابن أبي الحديد - في شرح قول أمير المؤمنين (ع): " حسد
الصديق من سقم المودة " -: إذا حسدك صديق على نعمة أعطيتهما لم
تكن صداقته صحيحة، فان الصديق حقا من يجري مجرى نفسك، والانسان
لا يحسد نفسه.
وقيل لحكيم: ما الصديق؟ قال: انسان هو أنت الا انه غيرك.
وأخذ هذا المعنى أبو الطيب فقال:
ما الخل الا من أود بقلبه * وأرى بطرف لا يرى بسوائه
ومن أدعية الحكماء: اللهم اكفني بوائق الثقات، واحفظني من كيد
الأصدقاء.
وقال العلامة الكراجكي (ره) في كنز الفوائد 37، ط 1: وروى
في الكامل: ان عبد الله بن علي بن جعفر بن أبي طالب افتقد صديقا له من
420

مجلسه، ثم جاءه، فقال: أين كانت غيبتك؟ قال: خرجت إلى عرض من أعراض
المدينة مع صديق لي. فقال له: ان لم تجد من صحبة الرجال بدا فعليك
بصحبة من أن صحبته زانك، وان خفقت له صانك، وان احتجت إليه مانك،
وان رأى منك خلة سدها، أو حسنة عدها، وان وعدك لم يحرضك، وان
كثرت عليه لم يرفضك، وان سألته أعطاك، وان أمسكت عنه ابتداك.
وقال أبو عمرو بن العلاء (ره): الصديق انسان هو أنت، فانظر
صديقا يكون منك كنفسك، وأنشد:
لكل امرء شكل من الناس مثله * فأكثرهم شكلا أقلهم عقلا
لأن الصحيح العقل لست بواجد * له في طريق حين تفقده شكلا
وسئل رجل عن صديقين له، فقال: اما أحدهما فعلق مصيبة لاتباع،
وأما الاخر فعلق مصيبة لاتبتاع.
وقال آخر: اللهم احفظني من الصديق، فقيل له: ولم؟ قال: لأني
من العدو متحرز، ومن الصديق آمن.
وقيل لبعضهم: كم لك من صديق؟ فقال: لا أدري، لان الدنيا علي
مقبلة، فكل من يلقاني يظهر لي الصداقة، وإنما أحصيهم إذا ولت عني.
قيل ليحيى بن خالد - وهو في الحبس، وقد احتاج -: لو كتبت إلى
فلان، فإنه صديقك. فقال: دعوه يكون صديقا.
لبعضهم:
قد أخلق الدهر ثوب المكرمات فلا * تخلق لوجهك في الحاجات ديباجة
ولا يغرنك اخوان تعدهم * أنت العدو لمن كلفته حاجة
قال المسعودي (ره) في مروج الذهب: 4، 33، وذكر ابن أبي
الأزهر قال: حدثني أبو سهل الرازي، عمن حدثه، عن الواقدي (محمد
بن عمرو بن واقد مولى بني هاشم) قال: كان لي صديقان، أحدهما هاشمي،
421

وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة، وحضر العيد، فقالت امرأتي:
أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد
قطعوا قلبي رحمة لهم، لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم،
وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشئ
تصرفه في كسوتهم. قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي
لما حضر. فوجه إلي كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري
حتى كتب إلي الصديق الاخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت
إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد، فأقمت فيه ليلي مستحييا من
امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه، فبينا انا
كذلك، إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني
عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على جهته، فقال: انك وجهت
لي وما أملك على الأرض الا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله
المواساة، فوجه بكيسي بخاتمي. قال: فتواسينا الألف ثلاثا، بعد أن
أخرجنا إلى المرأة قبل ذلك مأة درهم، ونمى الخبر إلى المأمون فدعاني،
فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد ألفا دينار،
وللمرأة ألف دينار.
422

العائدة الرابعة:
في طرف من الأخبار الدالة على رعاية حق الاخوان والحث على اتخاذهم.
روى الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير: ان داود قال لابنه سليمان
(عليهما السلام): يا بني لا تستقل عدوا واحدا، ولا تستكثر ألف صديق (148)،
ولا تستبدل بأخ قديم أخا مستفادا ما استقام لك.
وفي الحديث المرفوع: المرء كثير بأخيه.
وروى ابن مسكويه (ره) في الحكمة الخالدة: 103، ط 2، أنه قال
رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم: المرء بأخيه.
وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار 12، من قصار النهج: وفي
الحديث المرفوع ان النبي صلى الله عليه وآله بكى لما قتل جعفر بمؤنة
وقال: المرء كثير بأخيه.
وأيضا في الحديث المرفوع: إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه.
وقال (ص): من أكرم أخاه المسلم بكلمة يلطفه بها وفرج عنه كربته،
لم يزل في ظل الله الممدود، عليه الرحمة ما كان في ذلك. الحديث 42، من
الباب 21، من البحار: 16، 84، نقلا عن الكافي.
وفي الحديث الرابع، من الباب 12 (باب فضل الصديق من البحار):
16، 48، نقلا عن الصدوق (ره) في الأمالي معنعنا، قال قال أمير المؤمنين
عليه السلام: من لك يوما بأخيك كله، وأي الرجال المهذب (149).

(148) رواه أيضا في كنز الفوائد 36، ثم نقل عن أمير المؤمنين (ع) قوله:
وليس كثيرا الف خل وصاحب * وان عدوا واحدا لكثير
(149) قال الشاعر:
ولست بمستبق أخا لا تلمه * على شعث أي الرجال المهذب
423

وفي الحديث 4، من الباب 17، من البحار: 16، 74، عن كنز
الفوائد قال قال أمير المؤمنين (ع): من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من
زمانه، وحنينه إلى أوطانه، وحفظه قديم اخوانه.
وقال (ع) في وصيته الطويلة إلى كميل: أخوك الذي لا يخذلك عند
الشدة، ولا يقعد عنك الجريرة، ولا يدعك حين تسأله، ولا يذرك وأمرك
حتى تعمله، الخ.
وقال (ع) في أواسط وصيته إلى الامام المجتبى (ع): احمل نفسك
من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند
جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند
جرمه على العذر حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك، وإياك أن تضع
ذلك في غير موضعه، أو تفعله بغير أهله - إلى أن قال (ع) -: وان
أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها ان بدا له ذلك يوما
ما، الخ.
وقال (ع): لا يكلف المؤمن أخاه الطلب إليه، إذا علم حاجته، توازروا
وتعاطفوا وتباذلوا ولا تكونوا بمنزلة المنافق الذي يصف مالا يفعل. (150)
وقال عليه السلام: شر الاخوان من تكلف له.
وقال (ع): إذا أحتشم المؤمن أخاه فقد فارقه (151).
وروى ابن أبي الحديد، في شرح المختار 12، من قصار النهج، عن
الإمام الصادق (ع) أنه قال: لكل شئ حلية، وحلية الرجل أوداؤه.
وقال (ع): مامن مؤمن بذل جاهه لأخيه المؤمن الا حرم الله وجهه

(150) الحديث 16، من الباب 16، من البحار: 16، 62، نقلا عن
الخصال. ورواه في الحديث 36، من الباب، عن كتاب قضاء الحقوق، عن
رسول الله (ص).
(151) المختار الأخير وما قبله من قصار نهج البلاغة.
424

على النار، ولم يمسه قتر ولا ذلة يوم القيامة، وأيما مؤمن بخل بجاهه على
أخيه المؤمن، وهو أوجه منه جاهلا الا مسه قتر وذلة في الدنيا والآخرة،
وأصابت وجهه يوم القيامة لفحات النيران، معذبا كان أو مغفورا له.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام: المؤمن أخ المؤمن لأخيه وأمه، وان
لم يلده أبوه، ملعون من اتهم أخاه، ملعون من غش أخاه، ملعون من لم
ينصح أخاه، ملعون من اغتاب أخاه.
وقال (ع): من أتى إلى أخيه مكروها فبنفسه بدأ. (152)

(152) البحار: 17، 206، عن اعلام الدين للديلمي (ره).
425

العائدة الخامسة:
في الاشعار الدالة على مراعاة حق الاخوة والقيام بلوازمها، المناسبة
لقوله (ع): " امحض أخاك النصيحة وساعده على كل حال، الخ " وقوله
عليه السلام: " لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه، الخ ".
روى في البحار: 8، 517، س 8، وأيضا رواه الطبري في تاريخه:
4، 45، ط سنة 1357، وأيضا رواه مع التالي ابن أبي الحديد في شرح
المختار 12، من قصار النهج، الا أنه قال: من الشعر المنسوب إليه (ع):
أخوك الذي ان أجرضتك ملمة * من الدهر لم يبرح لبثك واجما (153)
وليس أخوك بالذي ان تمنعت (154) * عليك أمور ظل يلحاك لائما
ونسب إليه (ع) أيضا:
ان أخاك من يسعى معك (155) * ون يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك * شتت فيك شمله ليجمعك
وكان الإمام الصادق عليه السلام كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين:
أخوك الذي لو جئت بالسيف عامدا * لتضربه لم يستغشك بالود
ولو جئته تدعوه للموت لم يكن * يردك إبقاء عليك من الود
وروى في البحار: 12، 32، عن عيون أخبار الرضا معنعنا: انه شكا

(153) أجرضه بريقه اي اغصه به. وفى نسخة: أحرضتك - بالحاء
المهملة والضاد المعجمة - من أحرض، اي طال همه وسقمه. وفى نسخة الديوان:
أجهضتك، من أجهضه على الامر اي غلبه عليه ونحاه عنه، كذا عن سيدنا
الأمين (ره). والواجم: الساكت حزنا وغيظا.
(154) وفى بعض النسخ: ان تشعبت.
(155) وفى نسخة: ان أخاك الصدق من كان معك، الخ.
426

رجل إلى الإمام الرضا عليه السلام أخاه فأنشأ (ع):
إعذر أخاك على ذنوبه * واستر وغط على عيوبه
واصبر على بهت السفيه * وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا * وكل الظلوم إلى حسيبه
ورواها في العقد الفريد: 1، ص 356، ط 2، عن أمير المؤمنين (ع).
وفي ط، ج 2، ص 231، س 15، تحت الرقم 71 (كتاب العلم).
وقال الشاعر:
إذا أنا لم أصبر على الذنب من أخ * وكنت أجازيه فأين التفاضل
ولكن أداويه فان صح سرني * وان هو أعيا كان فيه تحامل
وقال آخر:
أخو ثقة يسر ببعض شأني * وان لم تدنه مني قرابة
أحب إلي من ألفي قريب * تبيت صدورهم لي مسترابة
وقالوا: خير الاخوان من أقبل عليك إذا أدبر الزمان.
قال الشاعر:
فان أولى الموالي ان تواليه * عند السرور لمن واساك في الحزن
ان الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا * من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأنشد ابن الاعرابي:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * ولكن اخوان الصفاء الذخائر
وقال آخر:
أخاك أخاك ان من لا أخا له * كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وان ابن عم المرء فاعلم جناحه * وهل ينهض البازي بغير جناح
وقال آخر:
إذا كان دواما أخوك مصارما * موجهة في كل أوب ركائبه
427

فخل له ظهر الطريق ولا تكن * مطية رحال كثير مذاهبه
وقال آخر:
هي توبتي من أن أظن جميلا * بأخ ودود أو أعد خليلا
كشفت لي الأيام كل جنية (خبيئة ظ) * فوجدت اخوان الصفاء قليلا
الناس سلمك ما رأوك مسلما * ورأوا نوالك ظاهرا مبذولا
فإذا امتحنت بمحنة ألفيتهم * سيفا عليك مع الردى مسلولا
428

العائدة السادسة:
فيما قاله الحكماء والامراء في حقوق الاخوان، وفيمن ينبغي أخوته.
قالوا: الاخوان ثلاثة، فأخ يخلص لك وده، ويبذل لك رفده،
ويستفرغ في مهمك جهده، وأخ ذو نية يقتصر بك على حسن نيته دون رفده
ومعونته، وأخ يتملق لك بلسانه، ويتشاغل عنك بشأنه، ويوسعك عن
كذبه وايمانه.
وقيل: إخوان الصفا خير من مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء،
وعدة في البلاء، ومعونة على الأعداء.
قال الشاعر:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * ولكن إخوان الصفاء الدخائر
وكان يقال: الاخوان ثلاث طبقات، طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه،
وطبقة كالدواء يحتاج إليه عند المرض، وطبقة كالداء، لا يحتاج إليه أبدا.
وقال الأحنف: خير الاخوان من أن استغنيت عنه لم يزدك في المودة،
وان احتجت إليه لم ينقصك منها وان كوثرت عضدك، وان استرفدت رفدك،
وأنشد:
أخوك الذي ان تدعه لملمة * يجبك وان تغضب إلى السيف يغضب
وقال بعضهم: إذا بلغني موت أخ كان لي، فكأنما سقط عضو مني.
وكان يقال: صاحبك كرقعة في قميصك، فانظر بم ترقع قميصك.
وقال بعضهم: اثنان ما في الأرض أقل منهما، ولا يزدادان الا قلة،
درهم يوضع في حق، وأخ يسكن إليه في الله.
وأوصى بعضهم ابنه فقال: يا بني إذا نازعتك نفسك إلى مصاحبة
429

الرجال، فاصحب من إذا صحبته زانك، وان خدمته صانك، وان عرضت
لك مئونة أعانك وان قلت صدق قولك، وان صلت شد صولك، وان
مددت يدك لامر مدها، وان بدت لك عورة سدها، وان رأى منك حسنة
عدها، وان سألته أعطاك، وان سكت ابتداك، وان نزلت بك ملمة واساك،
من لا تأتيك منه البوائق، ولا تحتار عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند
الحقائق.
وقال بعض الحكماء: ينبغي للانسان أن يوكل بنفسه كالئين، أحدهما
يكلؤه من أمامه، والاخر يكلؤه من ورائه، وهما عقله الصحيح، وأخوه
النصيح، فان عقله وان صح فلن يبصره من عيبه الا بمقدار ما يرى الرجل
من وجهه في المرآة، ويخفى عليه ما خلفه، وأما أخوه النصيح فيبصره ما
خلفه، وما أمامه أيضا.
وأيضا حكي عن الأحنف: خير الاخوان من إذا استغنيت عنه لم يزدك
ودا، وان احتجت إليه لم ينقصك.
وقيل لحكيم: من أبعد الناس سفرا؟ قال: من سافر في ابتغاء
الأخ الصالح.
430

العائدة السابعة:
في الروايات الدالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يظهر الغنى ويكون
مأيوسا عما في أيدي الناس، المناسبة لقوله (ع) " وان أحببت أن تجمع
خير الدنيا والآخرة فاقطع طمعك مما في أيدي الناس، الخ ".
فأقول: روى الشيخ الطوسي (ره) في الحديث 17، من الجزء 18،
من الأمالي معنعنا: أن أبا أيوب الأنصاري أتى النبي (ص) فقال: يا رسول
الله أوصني وأقلل لعلي احفظ. فقال (ص): أوصيك باليأس عما في أيدي
الناس فإنه الغنى، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصل صلاة مودع،
وإياك وما يعتذر منه، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك.
وفي آخر وصاياه (ص) لعلي (ع): ثم قال لأبي ذر رحمه الله:
يا أبا ذر إياك والسؤال فإنه ذل حاضر، وفقر تتعجله، وفيه حساب طويل
يوم القيامة، الخ. الحديث الأول، من باب النوادر، من الفقيه: 4،
271، ط النجف.
وروى الصدوق (ره) عنه (ص) أنه قال: أفقر الناس ذو الطمع.
وروى أيضا في الحديث 70، من باب النوادر، من الفقيه: 4،
294، عن الحسن بن راشد، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه
السلام، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: علمني
يا رسول الله شيئا. فقال صلى الله عليه وآله: عليك باليأس مما في أيدي
الناس، فإنه الغنى الحاضر. قال: زدني يا رسول الله. قال: إذا هممت بأمر
فتدبر عاقبته، فان بك خيرا أو رشدا اتبعته، وان يك شرا أو غيا تركته.
وقال ابن أبي الحديد في شرح المختار 2، من قصار نهج البلاغة:
431

وفي الحديث المرفوع: ان الصفا الزلزال لا تثبت عليه أقدام العلماء
الطمع.
وفي الحديث أنه قال للأنصار: أنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون
عند الطمع.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الغنى، فقال: اليأس عما في
أيدي الناس، ومن مشى منكم إلى طمع الدنيا فليمش رويدا.
وفي الحديث المرفوع: الطمع الفقر الحاضر.
وقال (ص): شرف الرجل قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس.
الحديث 2، من الباب 49، من البحار: 16، 146 معنعنا.
وفي الحديث 5، من الباب، نقلا عن أمالي الصدوق معنعنا عنه (ص):
خير الغنى غنى النفس، الخ.
وفي الحديث 10، من الباب معنعنا، عن الخصال وثواب الاعمال -
وقريب منه أيضا في شرح المختار 340، من قصار النهج، لابن أبي الحديد -
أنه قال رجل للنبي (ص) علمني شيئا إذا أنا فعلته أحبني الله من السماء،
واحبني الناس من الأرض. قال (ص): ارغب فيما عند الله يحبك الله،
وازهد فيما عند الناس، يحبك الناس. ورواه في الوسائل وهامشه ج 4،
ص 315، عن مجالس الشيخ (ره) ص 126، و 87، والتهذيب:
2، 113، والخصال: 1، 32، وثواب الاعمال.
وفي الحديث 3، من الباب 31، من أبواب الصدقة من وسائل
الشيعة: 4، 305، نقلا عن الفقيه 23، وفروع الكافي: 1، 167 معنعنا قال
قال أمير المؤمنين عليه السلام: اتبعوا قول رسول الله صلى الله عليه وآله
فإنه قال: من فتح على نفسه باب مسألة، فتح الله عليه باب فقر.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أزري بنفسه من استشعر الطمع،
ورضي بالذل من كشف عن ضره، وهانت عليه نفسه من أمر عليها لسانه.
432

وقال عليه السلام: الطمع رق مؤبد.
وقال عليه السلام: الطامع في وثاق الذل.
وقال عليه السلام: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
وقال عليه السلام: الطمع مورد غير مصدر، وضامن غير وفي، وربما
شرق شارب الماء قبل ريه، وكلما عظم قدر الشئ المتنافس فيه عظمت
الرزية لفقده، والأماني تعمي أعين البصائر، والحظ يأتي من لا يأتيه.
وقال عليه السلام: الغني الأكبر اليأس عما في أيدي الناس (156).
وقال عليه السلام في وصيته إلى الامام المجتبى (ع): وأكرم نفسك
عن كل دنية وان ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك
عوضا، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا - إلى أن قال (ع) -:
وإياك أن توجف بك مطايا الطمع فتوردك مناهل الهلكة، وان استطعت
أن لا يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ
سهمك، وان اليسير من الله سبحانه أعظم وأكرم من الكثير من خلقه، وإن كان
كل منه - إلى أن قال (ع) -: ومرارة اليأس خير من الطلب إلى
الناس - إلى أن قال (ع) -: قد يكون اليأس ادراكا إذا كان الطمع
هلاكا، الخ.
وقال الإمام السجاد عليه السلام للزهري: واعلم أن أكرم الناس من
كان خيره عليهم فائضا، وكان عنهم مستغنيا متعففا، وإن كان إليهم محتاجا،
وإنما أهل الدنيا يعشقون أموال الدنيا، فمن لم يزاحمهم فيما يعشقونه كرم
عليهم، ومن لم يزاحمهم فيها ومكنهم منها أو من بعضها كان أعز وأكرم.
وفي الحديث 46، من باب الحث على العمل، من ج 2، من 15، من
البحار 166، س 9 معنعنا، عن المجالس، عن الإمام السجاد (ع) انه

(156) كما في المختار 2، و 182 و 215 و 222 و 275 و 340، من
قصار نهج البلاغة.
433

كان يقول: أظهر اليأس من الناس، فان ذلك من الغنى، وأقل طلب الحوائج
إليهم فان ذلك فقر حاضر، وإياك وما يعتذر منه، وصل صلاة مودع، وان
استطعت أن يكون اليوم خيرا منك أمس، وغدا خيرا منك اليوم فأفعل.
وروى ثقة الاسلام الكليني (ره) في الحديث 3، من الباب 67، من
الكافي: 2، 148، معنعنا عن الزهري، قال قال علي بن الحسين عليهما
السلام: رأيت الخير كله قد اجتمع في قطع الطمع عما في أيدي الناس، ومن
لم يرج الناس في شئ ورد أمره إلى الله عز وجل في جميع أموره استجاب
الله عز وجل له في كل شئ.
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: إياك أن تطمع بصرك إلى من
هو فوقك، فكفى بما قال الله عز وجل لنبيه: " ولا تعجبك أموالهم ولا
أولادهم " وقال: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة
الدنيا " فان دخلك من ذلك شئ فاذكر عيش رسول الله (ص)، فإنما كان
قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف.
وفي الحديث الأخير من الباب 36، من أبواب الصدقات من الوسائل:
4، 315، نقلا عن التهذيب معنعنا عنه (ع) قال: سخاء المرء عما في أيدي
الناس أكثر من سخاء النفس والبذل، ومروءة الصبر في حال الفاقة والحاجة
والتعفف والغنى أكثر من مروءة الاعطاء، وخير المال الثقة بالله، واليأس مما
في أيدي الناس.
وروى ثقة الاسلام في الحديث 6، من الباب 67، من كتاب الايمان
والكفر، من الكافي: 2، 149، معنعنا عن الغنوي - وفي البحار: 16، 148،
في الحديث 29، من الباب 49، نقلا عن الكافي عن الغنوي - عنه (ع):
قال: اليأس مما في أيدي الناس عز المؤمن في دينه، أو ما سمعت قول
حاتم (157).

(157) قال المجلسي الوجيه (ره): ذكر شعر حاتم ليس للاستشهاد،
بل للإشارة والدلالة على أن هذا مما يحكم به عقل جميع الناس حتى الكفار.
وقوله: " إذا ما عزمت اليأس " كلمة ما زائدة، أي إذا عزمت على اليأس عن
الناس ألفيته (أي وجدته) غنى، وقوله: " إذا عرفته " بصيغة الخطاب من
باب التفعيل، ونصب النفس، أو بصيغة الغيبة ورفع النفس، والطمع مرفوع
بالابتدائية، والفقر بالخبرية.
أقول: الوجه الثاني اظهر.
434

إذا ما عزمت (عرفت خ ل) اليأس ألفيته غنى
إذا عرفته النفس والطمع الفقر
وفي الحديث 6، من الباب 16، من كتاب الزكاة من الكافي 21،
معنعنا عن الحسين ابن أبي العلاء قال: قال أبو عبد الله (الإمام الصادق)
عليه السلام: رحم الله عبدا عف وتعفف، وكف عن المسألة، فإنه يتعجل
الدنية في الدنيا، ولا يغني (ولا يعني خ) الناس عنه شيئا. قال: ثم تمثل
عليه السلام ببيت حاتم:
إذا ما عرفت اليأس ألفيته غنى * إذا عرفته النفس والطمع الفقر
وقريب منه بلا تمثل بقول حاتم، رواه عنه (ع) في الوسائل: 4،
308، نقلا عن ثواب الأعمال ص 100.
وفي الحديث 23، من الباب 49، من البحار: 16، 247، عن الكافي
معنعنا، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: شرف المؤمن قيام الليل، وعزه
استغناؤه عن الناس. (158) الحديث 1، من الباب 67، من الكافي: 2، 148.
وفي الحديث 26، من الباب عنه أيضا معنعنا، عن عبد الاعلى بن
أعين قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: طلب الحوائج إلى الناس استلاب

(158) وقريب منه في الحديث 6، من الباب، نقلا عن أمالي الصدوق
(ره) معنعنا، وزاد عليه قوله (ع): وولاية الامام من آل محمد. ورواه في
الوسائل وهامشه: 4، 314، عن المجلس 81، من مجالس الصدوق (ره)
ص 325، وعن روضة الكافي ص 234.
435

للعز، ومذهبة للحياء، واليأس مما في أيدي الناس عز للمؤمن في دينه،
والطمع هو الفقر الحاضر. الحديث 4، من الباب 67، من الكافي.
وعن الخصال معنعنا عنه (ع): قال: إذا أردت أن تقر عينك، وتنال
خير الدنيا والآخرة، فأقطع الطمع مما في أيدي الناس، وعد نفسك في
الموتى، ولا تحدثن نفسك أنك فوق أحد من الناس، واخزن لسانك كما
تخزن مالك.
وفي الحديث 1، من الباب 33، من أبواب الصدقات، من كتاب الزكاة،
من مستدرك الوسائل: 1، ص 542، عن مجموعة الشهيد (ره)، عن
كتاب معاوية بن حكيم، عن صفوان بن يحيى، عن الحرث بن المغيرة البصري،
قال قال لي أبو عبد الله عليه السلام: اليأس مما في أيدي الناس عز للمسلم
في دينه، أو ما سمعت قول حاتم:
إذا ما عرفت اليأس ألفيته الغنى * إذا عرفته النفس والطمع الفقر
وفي الحديث 2، من الباب 32، من أبواب الصدقة، من وسائل
الشيعة، نقلا عن فروع الكافي: 1، 167 معنعنا، وعن الفقيه: 1، 23
مرسلا، عنه (ع) قال: إياكم وسؤال الناس، فإنه ذل في الدنيا، وفقر
تستعجلونه، وحساب طويل يوم القيامة.
وقال الإمام الكاظم عليه السلام في وصاياه لنصير أهل البيت هشام
بن الحكم رفع الله مقامه: إياك والطمع، وعليك باليأس مما في أيدي الناس،
وأمت الطمع من المخلوقين، فان الطمع مفتاح الذل، واختلاس العقل،
واختلاف المروءات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم، الخ.
وفي الحديث 6، وما يليه من الباب 33، من أبواب الصدقة، من
كتاب الزكاة، من مستدرك الوسائل: 1، 543، ط 2، عن فقه الرضا (ع)
قال: أروي عن العالم عليه السلام أنه قال: اليأس مما في أيدي الناس عز
436

المؤمن في دينه، وعظمته في أعين الناس، وجلالته في عشيرته، ومهابته عند
عياله، وهو أغنى الناس عند نفسه وعند جميع الناس.
وأروي شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس.
وأروي: اليأس غنى، والطمع فقر حاضر.
وروي: من أبدى ضره إلى الناس، فضح نفسه عندهم. (159)
وأروي عن العالم عليه السلام أنه قال: وقوا دينكم بالاستغناء بالله
عن طلب الحوائج.
وروي: سخاء النفس عما في أيدي الناس، أكثر من سخاء البذل.
ورواها بأجمعها عنه في الحديث 12، وما يليه، من الباب 49 من
البحار: 16، 147، ط الكمباني.
وفي الحديث 20، من الباب 49، من البحار: 16، 147، نقلا عن
الدرة الباهرة للشهيد (ره) قال: قال الإمام الجواد عليه السلام: عز المؤمن
عناؤه عن الناس. (160)
وقال الإمام الهادي عليه السلام: الطمع سجية سيئة، الخ.
وقال (ع): الغناء قلة تمنيك، والرضاء بما يكفيك، والفقر شره
النفس وشدة القنوط (161).
وقال الإمام العسكري عليه السلام: ما أقبح بالمؤمن أن تكون له
رغبة تذله.

(159) وقريب منه جدا رواه في كنز الفوائد، عن رسول الله (ص)، كما
في الحديث 4، من الباب 31، من الكتاب، من المستدرك: 1، 543.
(160) وأيضا رواه عنه في المستدرك: 1، 543، س 1.
(161) هذا أيضا رواه في الحديث 20، من الباب 49، من البحار: 16،
ص 147، عن الدرة الباهرة.
437

العائدة الثامنة:
في ما ورد عن العظماء والحكماء في ذم الطمع والردع عنه.
قال ابن أبي الحديد: وقد ضرب الحكماء مثالا لفرط الطمع فقالوا:
ان رجلا صاد قبرة فقالت: ما تريد ان تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك،
قالت: والله ما أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، ولكني أعلمك ثلاث
خصال هن خير لك من أكلي، اما واحدة فأعلمك إياها وأنا في يدك، وأما
الثانية فإذا صرت على الشجرة، واما الثالثة فإذا صرت على الجبل. فقال
الصياد: هاتي الأولى. قالت: لا تلهفن على ما فات. فخلاها، فلما صارت
على الشجرة قال: هاتي الثانية. قالت: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون.
ثم طارت فصارت على الجبل، فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من
حوصلتي درتين وزن كل واحدة ثلاثون مثقالا، فعض على يديه وتلهف
تلهفا شديدا وقال: هاتي الثالثة. فقالت: أنت قد أنسيت الاثنتين فما
تصنع بالثالثة؟! ألم أقل لك: لا تلهفن على ما فات وقد تلهفت!! وألم
أقل لك لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، وأنا ولحمي ودمي وريشي لا يكون
عشرين مثقالا، فكيف صدقت أن في حوصلتي درتين كل واحدة منهما
ثلاثون مثقالا؟!! ثم طارت وذهبت.
ومن كلام بعضهم: ما أكلت طعام واحد الا هنت عليه.
وكان يقال: نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع (162).
وقال الشاعر:
أرحت روحي من عذاب الملاح * لليأس روح مثل روح النجاح
وقال بعض الأدباء: هذا المعنى الذي قد أطنب فيه الناس ليس كما

(162) الطبع كالدنس لفظا ومعنى.
438

يزعمونه، لعمري ان لليأس راحة، ولكن لا كراحة النجاح، وما هو الا
كقول من قال: لا أدري نصف العلم، فقيل له: ولكنه النصف الذي
لا ينفع.
وقال ابن الفضل:
لا أمدح اليأس ولكنه * أروح للقلب من المطمع
أفلح من أبصر روض المنى * يرعى فلم يرع ولم يرتع
وكان يقال: أكثر مصارع الألباب تحت ظلال الطمع.
وقال بعضهم: العبيد ثلاثة: عبد رق، وعبد شهوة، وعبد طمع.
وقال أبو حفص: ما الخمر صرفا بأذهب لعقول الرجال من الطمع (163).
وفي الحديث الأول، من الباب 49، من البحار: 16، 146، نقلا
عن الأمالي والخصال والمعاني، عن الإمام الصادق (ع)، ناقلا عن حكيم
أنه قال: غني النفس أغنى من البحر (164).

(163) قيل: صدق أبو حفص، والدليل عليه عمله، فإنه لأجل طمعه في
الخلافة، وعدم حضور صاحبه في أول يوم السقيفة، طار عقله، مخافة ان
يتردى بها شخص آخر قبل مجيئه، فجرد سيفه وقال: لا يتكلم أحد بأن محمدا
قد مات الا ضربت عنقه، ألا ان محمدا قد ذهب إلى ربه، وسيعود، وليقطعن
أيدي رجال، الخ.
والحق ان عقل أبي حفص كان بحاله وما كان ذاهب العقل، وإنما قال ما
قال انتظارا لصاحبه، وقطعا للآمال.
(164) قد تقدم عن العلامة المجلسي (ره) وجه تمثل الأئمة (ع) ببعض
الاشعار الحكمية، وهنا يمكن أن يكون مراده (ع) الحث على اتباع من اتصف
بالحكمة علما وعملا، ويحتمل أيضا أن يكون مراده بعض الأئمة، وإنما عبر عنه
بالحكيم، لئلا يستفز بعض السامعين.
439

الفائدة التاسعة:
في المأثور من أقوال الشعراء في الطمع والطامع، وذم السؤال،
والتماس الحطام عن المخلوقين.
ونسب إلى أمير المؤمنين (ع) كما في المختار 17، من حرف الباء،
من الديوان: وما المرء الا حيث يجعل نفسه * فكن طالبا في الناس أعلى المراتب
وكن طالبا للرزق من باب حله * يضاعف عليك الرزق من كل جانب
وصن منك ماء الوجه لا تبذلنه * ولا تسأل الا رذال فضل الرغائب
وكن موجبا حق الصديق إذا أتى * إليك ببر صادق منك واجب: الخ
وفي المختار 20 منه أيضا:
لا تطلبن معيشة بمذلة * واربأ بنفسك عن دني المطلب
وإذا افتقرت فداو فقرك بالغنى * عن كل ذي دنس كجلد الأجرب
فليرجعن إليك رزقك كله * لو كان أبعد من محل الكوكب
وروى ابن شهرآشوب (ره)، عن الإمام الرضا (ع):
لبست بالعفة ثوب الغنى * وصرت أمشي شامخ الرأس
لست إلى النسناس مستأنسا * لكنني آنس بالناس
إذا رأيت التيه من ذي الغنى * تهت على التائه باليأس
وما تفاخرت على معدم * ولا تضعضعت لافلاس.
وقال أبو الأسود (ره):
البس عدوك في رفق وفي دعة * طوبى لذي اربة للدهر لباس
ولا تغرنك أحقاد مزملة * قد يركب الدير الدامي بأحلاس
440

واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم * ان الغني الذي استغنى عن الناس
وقال آخر:
رأيت مخيلة فطمعت فيها * وفي الطمع المذلة للرقاب.
وقال مجنون العامري:
طمعت بليلى أن تريع وإنما (165) * تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن * شهود على ليلى عدول مقانع
وقال آخر
إذا حدثتك النفس أنك قادر * على ما حوت أيدي الرجال فكذب
وإياك والأطماع ان وعودها رقارق آل أو بوارق خلب (166)
وقال آخر
قد أرحنا واسترحنا * من غدو ورواح
واتصال بأمير * ووزير ذي سماح
بعفاف وكفاف * وقنوع وصلاح
وجعلنا اليأس مفتاحا * لأبواب النجاح
قال أبو العتاهية:
تسل فان الفقر يرجى له الغنى * وان الغنى يخشى عليه من الفقر
ألم تر ان البحر ينضب ماؤه * وتأتي عل حيتانه نوب الدهر
وقال آخر
ولست بنظار إلى جانب الغنى * إذا كانت العلياء في جانب الفقر

(165) تريع اي تعود وترجع إلى ولا تبتليني بالمهاجرة والفراق.
(166) الرقارق: السراب. والال: ما يشاهد في الضحى، كالماء بين الأرض
والسماء، والظاهر أن المراد هنا هو نفس الضحى بقرينة الإضافة، والبوارق:
جمع البرق، والخلب: السحاب الذي لأمطر فيه، ويقال لمن يعد ولا ينجز:
إنما أنت كبرق خلب.
441

واني لصبار على ما ينوبني * وحسبك أن الله أثنى على الصبر
ترى الدهر مغتالي ولم أر ثروة * من المال تنبي الناس عني وعن أمري
واني على فقري لأحمل همة * لها مسلك بين المجرة والنسر
وقال آخر:
قنعت بالقوت من زماني * وصنت نفسي عن الهوان
مخافة ان يقول قوم * فضل فلان على فلان
فلن تراني أمد كفي * إلى لئيم ولا هجان
ولا أجوب الفلا لرزق * حسبي من الرزق ما كفاني
من كنت عن ماله غنيا * رأيته كالذي يراني
أبره ان أراد بري * واقطع البر ان جفاني
كم كربة قد عييت فيها * فانكشفت بي على المكان
وكم أمور حذرت منها * فكنت من ذاك في أمان
فلو رأيت المنون حلت * بأكثر الخلق ما عناني
يا جاهلا بالزمان غرا * أنظر إلى الدور والمغاني
فإنها وهي صامتات * أبلغ من كل ذي لسان
ألم تكن معدن الغواني * البيض والخرد الحسان
وكل نهد أقب طرف * وصارم مرهف يماني
ولواو باد الجميع منهم * وأخر متهم يد الزمان (167)
وقال آخر:
للناس مال ولي مالان مالهما * إذا تحارس أهل المال حراس
مالي الرضا بالذي أصبحت أملكه * ومالي اليأس مما يملك الناس

(167) إلى هنا ذكرها جمال المفسرين: أبو الفتوح الرازي (ره).
442

وقال أبو عبد الله الأزدي:
أبا هانئ لا تسأل الناس والتمس * بكفيك فضل الله فالله أوسع
فلو تسأل الناس التراب لأوشكوا * إذا قيل هاتوا أن يملوا فيمنعوا (168)
وقال آخر: تعف وعش حرا ولاتك طامعا * فما قطع الأعناق الا المطامع.
وقال آخر:
لا تطلبن إلى صديق حاجة * من عف خف على جميع العالم
أنت المسود ما رزقت كفاية * فإذا طلبت ذللت ذل الخادم

(168) هكذا ذكره المفسر، والمعروف: فلو سئل الناس التراب
لأوشكوا، الخ.
443

وههنا زوائد
نبحث فيها عن تراجم رواة الوصية. وليعلم أنا لا نتعرض لترجمة
الصدوقين والشيخين والسيدين وثقة الاسلام الكليني (169) وأمثالهم، من
سدنة الشريعة وحماة الدين، قدس الله أسرارهم، لان تراجمهم مشهورة
وصفحة حياتهم بيضاء لامعة، وغالب الكتب الدينية مشتملة على شرح
أحوالهم، وتشيعهم وتفانيهم في ترويج الدين وتشييد الشرع لا يقل عن
تشيع سلمان وأبي ذر ومقداد وتفانيهم. وضرب أقلامهم وآثارها في سبيل
الله لا ينحط عن ضرب سيوف قيس بن سعد وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي
بكر وحجر بن عدي وابن التيهان وذي الشهادتين والأشتر وأمثالهم، رحمهم
الله جميعا.
وإنما نترجم من رواة كتابنا من لم تكن له تلك الشهرة والصيت،
اوسها قلم بعضهم عن بعض خصوصياته، أو لم يذكر في موضع معين ترجمة
حياته. وكان علينا ان تنبه إلى هذا الامر في ابتداء الكتاب، لكنا غفلنا عنه.
وإذا تقرر هذا، فالتكلم عن السند الأول الذي قد تقدم في مفتتح
الوصية مستغنى عنه، إذ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (الصدوق
الأول، المعاصر للإمام العسكري (ع) الوكيل عنه (ع) المفتخر بالتوقيع

(169) الصدوقان: هما علي بن الحسين بن بابويه، وابنه محمد بن علي
قدس الله سرهما.
والشيخان: هما معلم الأمة: الشيخ المفيد، وشيخ الطائفة: محمد بن
الحسن الطوسي، رفع الله مقامها.
والسيدان: هما علي بن الحسين، ومحمد بن الحسين: المرتضى والرضي،
شرف الله محلهما.
444

الصادر منه (ع) في شأنه) معروف، وبالعدالة والعظمة ومشهور، (170)
وكذا ابنه: محمد بن علي: الصدوق الثاني، المولود بدعاء امام العصر عجل
الله تعالى فرجه، الموفق للسير في الآفاق، وأخذ علوم الدين من أفواه الرجال
الكملين، وتأليف كتب كثيرة في التفسير والفقه والرجال والمعارف الاسلامية
وتأريخ المعصومين (ع) (171).
وترجمة حماد بن عيسى أيضا تقدم في الفائدة الثالثة من تعليقات المختار
10، من هذا الباب، ص 179.
وكذلك قد أسلفنا ترجمة علي بن إبراهيم وأبيه رحمهما الله جميعا، في
التعليق الأول من تعليقات المختار الأول من هذا الباب ص 22 و 23.
فالذي ينبغي التعرض له هو ترجمة من وقع في طريق شيخ الطائفة
والنجاشي وثقة الاسلام الكليني والسيد ابن طاووس قدس الله أرواحهم
جميعا، فنقول:

(170) المحكي عن ابن النديم انه قرأ بخط الصدوق الثاني (ره) على ظهر
جزء: قد أجزت لفلان بن فلان كتب أبي: علي بن الحسين، وهي مأتا كتاب.
وتوفى (ره) 329 ه‍.
(171) رأيت في بعض تأليفاته قدس سره ان عدد كتبه التي ألفها 280
كتابا، ولعله ذكره في علل الشرائع.
445

الأولى من الزوائد:
في ترجمة أول من وقع في طريق الشيخ (ره) وهو أستاذه وأستاذ أهل
التحقيق، ومن فاز بالعلوم بمختوم الرحيق، شيخ الفقهاء والمحدثين، ورئيس
أهل الدراية والمدققين: الحسين بن عبيد الله (172) بن إبراهيم الغضائري،
المتوفى في نصف صفر سنة 411 ه‍.
وقال شيخ الطائفة (ره) في الرقم 52، من كتاب الرجال، ص 470،
في باب من لم يرو عن الأئمة عليهم السلام: الحسين بن عبيد الله الغضائري،
يكنى أبا عبد الله، كثير السماع، عارف بالرجال، وله تصانيف ذكرناها في
الفهرست، سمعنا منه، وأجاز لنا بجميع رواياته، مات سنة إحدى عشرة
وأربعمأة.
وقال المحقق النجاشي (ره) في الرجال 54: الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم

(172) ولأجل علوه، وكونه مسموع الكلام، ومقبول القول، ومتبوع الرأي
عند الطائفة المحقة - وضع بعض المعاندين كتابا باسمه، أو باسم ولده، في جرح
الثقات، وتضعيف الرواة. وغير خفي على البصير عدم صحة النسبة، أما
بالنسبة إلى الأب فلعدم ذكر أحد من تلاميذه كالشيخ والنجاشي وأضرابهما في
تأليفاته كتاب الرجال، ولا ما ينطبق عليه. واما عدم صحة انتساب الكتاب إلى
ابنه، فلتصريح شيخ الطائفة (ره) في أول الفهرست بأن كتابيه في المصنفات
والأصول، لم ينسخهما أحد من أصحابنا، واخترم هو رحمه الله، وعمد بعض
ورثته، إلى اهلاك هذين الكتابين، وغيرهما من الكتب، على ما حكى بعضهم عنه.
ويشهد لصحة قول الشيخ (ره) انه لم يعثر قبل السيد ابن طاوس أحد
على هذا الكتاب، وهو (ره) جمعه وحفظه رجاء ان يظفر بشواهد صدق عليه،
لامن جهة الثقة والاطمئنان، وكل من جاء بعد السيد (ره) فمستنده السيد
لاغير، ومن أراد الزيادة فعليه بالذريعة: 4، ص 290، في الكلام حول تفسير
الإمام العسكري (ع).
446

الغضائري: أبو عبد الله، شيخنا رحمه الله، له كتب منها كتاب كشف التمويه والغمة،
كتاب التسليم علي أمير المؤمنين بإمرة المؤمنين، كتاب تذكير العاقل وتنبيه الغافل
في فضل العلم، كتاب عدد الأئمة وما شذ على المصنفين من ذلك، كتاب
البيان في حياة الرحمان، كتاب النوادر في الفقه، كتاب مناسك الحج، كتاب
مختصر مناسك الحج، كتاب يوم الغدير، كتاب الرد على الغلاة والمفوضة،
كتاب سجدة الشكر، كتاب مواطن أمير المؤمنين عليه السلام، كتاب في فضل
بغداد، كتاب في قول أمير المؤمنين عليه السلام: الا أخبركم بخير هذه الأمة.
أجازنا جميعها، وجميع رواياته عن شيوخه، ومات رحمه الله في نصف
صفر، سنة احدى عشرة وأربع مأة.
وعن السمعاني في الأنساب، ان الغضائري نسبة إلى الغضار، وهو
الاناء الذي يؤكل فيه، نسب جماعة إلى عملها أو واحد من آبائهم، الخ.
447

الثانية من الزوائد:
في ترجمة الطبقة الثانية من طريق الشيخ (ره)، وهو أحمد بن عبد الله
الدوري، المولود في سنة 299، والمتوفى سنة 379 ه‍.
قال الشيخ (ره) في باب احمد من فهرسته 57، ط النجف، في الرقم
97: أحمد بن عبد الله بن أحمد بن جلين الدوري، (173) أبو بكر الوراق،
كان من أصحابنا، ثقة في حديثه، مسكونا إلى روايته، وله كتاب في طرق
من روى رد الشمس، أخبرنا الحسين بن عبيد الله، قال: قرأه (قرأته ظ)
على أحمد بن عبد الله الدوري أبو بكر.
وقال في باب من لم يرو عن الأئمة عليهم السلام (في العدد 105) من
كتاب الرجال: أحمد بن عبد الله بن أحمد بن جلين الدوري، أبو بكر الوراق،
ثقة، روى عنه ابن الغضائري.
وقال المحقق النجاشي (ره)، في رجاله 66: أحمد بن عبد الله بن أحمد
بن جلين الدوري، أبو بكر الوراق، كان من أصحابنا ثقة في حديثه،
مسكونا إلى روايته، لا نعرف له الا كتابا واحدا في طرق من روى رد الشمس،

(173) قال السمعاني: (على ما حكى عنه في الأعيان: 9، 10) الجليني -
بضم الجيم وكسر النون - هذه النسبة إلى جلين، وهو اسم لجد أبي بكر احمد
ابن عبد الله بن أحمد بن جلين الدوري، الجليني الوراق، من أهل بغداد، كان
رافضيا مشهورا بذلك.
وأيضا حكى عن العلامة وصاحب توضيح الاشتباه (ره) انهما أيضا ضبطا
الجلين بضم الجيم وشد اللام المكسورة واسكان الياء بعدها النون.
وقال أيضا في الأعيان: هو منسوب إلى الدور - بالضم - وهما قريتان،
بين سر من رأى وتكريت، عليا وسفلى، وناحية من دجيل، ومحلة ببغداد
ونيسابور، وبلدة بالأهواز، وموضع بالبادية.
448

وما يتحقق بأمرنا، (174) مع اختلاطه بالعامة، وروايته عنهم، وروايتهم
عنه. دفع إلي شيخ الأدب أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري رحمه
الله كتابا بخطه، قد أجاز له فيه جميع رواياته.
وروى في أعيان الشيعة: 9، 10، عن ميزان الاعتدال: أحمد بن
عبد الله بن جلين، عن أبي القاسم البغوي رافضي بغيض، كان ببغداد،
يروي عنه أبو القاسم التنوخي بلايا.
وفي لسان الميزان: هو أبو بكر الدوري الوراق.
وفي تاريخ بغداد: 4، 234، ط 1: أحمد بن عبد الله بن خلف (175)
أبو بكر الدوري الوراق، كان رافضيا مشهورا بذلك، حدثني التنوخي عنه
أنه قال: أول كتابتي الحديث سنة 313.
وعن الرياض: يروي عنه عبد السلام بن الحسين الأديب البصري شيخ
النجاشي، ويظهر من أسانيد الشيخ الطوسي إلى الصحيفة الكاملة، في
ترجمة المتوكل بن عمر المتوكل، ان أحمد بن عبدون يروي أيضا عن أبي
بكر الدوري، ويروي الشيخ الطوسي عنه بتوسطه، وهو يروي عن ابن أخي طاهر،
فهو في درجة الصدوق، ولم أعلم اسمه.
وقال العلامة الرازي أدام الله بقاه، في مخطوطة كتابه نوابغ الاعلام

(174) قيل: إن ما نافية، أي انه لمكان اختلاطه بالعامة، وروايته عنهم،
وروايتهم عنه، كان يخفي مذهبه، ولا يتحقق بأمرنا ولا يظهره، كما هو شأن
جميع المعاشرين لهم، الخ.
وقيل: إن ما موصولة، وغرض النجاشي ان الدوري ذكر في كتابه حديث
رد الشمس، وما من الاخبار به يتحقق أمرنا معاشر الشيعة.
أقول يدل على الاحتمال الثاني ويثبته، وينفي الأول ما يجئ عن الخطيب
والسمعاني، والذهبي من أنه رافضي مشهور يروى عنه البلايا.
(175) هذا تحريف أو خطأ من الخطيب، وأهل البيت أدرى بما فيه،
وتقدم ما أفادوه.
449

والرواة في رابعة المئات: ويروي الدوري صاحب الترجمة عن محمد بن
جعفر بن عبد الله النحوي المؤدب. وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد
ابن عقدة، المتوفى سنة 333، كما في ترجمة أبان بن تغلب من النجاشي.
وعن أبي بكر أحمد بن كامل بن شجرة، تلميذ أبي جعفر محمد بن جرير
العامي المتوفى سنة 310، كما في فهرست الشيخ، ترجمة محمد بن جرير
العامي. وعن أبي الفرج علي بن الحسين الاصفهاني صاحب الأغاني المتوفى
سنة 356، كما في ترجمة عباد بن يعقوب الرواجني من النجاشي. وعن أبي
بكر محمد بن أحمد بن إسحاق الحريري، كما في الفهرست في ترجمة عبد الله
بن محمد بن أبي الدنيا.
وذكر في أنساب السمعاني انه رافضي مشهور، ولد في سنة 299،
وكتب الحديث من سنة 313، ومات في شهر رمضان سنة 379، تسع
وسبعين وثلاثمأة.
450

الثالثة من الزوائد:
في ترجمة الراوي الثالث الواقع في طريق الشيخ (ره)، وهو محمد بن أحمد
بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الكاتب، أبو بكر المعروف بابن أبي
الثلج، المتوفى سنة 325 ه‍.
قال الشيخ (ره) في رجاله ص 502: محمد بن أحمد بن محمد بن
عبد الله بن أبي الثلج الكاتب، بغدادي خاصي، يكنى أبا بكر، سمع منه التل
عكبري سنة اثنتين وعشرين وثلاث مأة وما بعدها إلى سنة خمس وعشرين،
وفيها مات (ره)، وله منه إجازة، انتهى.
وقال في فهرسته 179: محمد بن أحمد ابن أبي الثلج الكاتب، له كتاب
التنزيل في أمير المؤمنين (ع)، أخبرنا به أحمد بن عبدون، عن الدوري،
عن ابن أبي الثلج، وله كتاب البشرى والزلفى وصفة الشيعة وفضلهم، وله
كتاب أسماء أمير المؤمنين (ع) في كتاب الله، أخبرني بجميع ذلك ابن
عبدون، عن الدوري عنه. انتهى.
وقال النجاشي (ره) محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل الكاتب،
أبو بكر، يعرف بابن أبي الثلج، وأبو الثلج هو عبد الله بن إسماعيل، ثقة
عين كثير الحديث، له كتب، منها: ما نزل في القرآن في أمير المؤمنين (ع)،
2 - كتاب البشري والزلفي في فضائل الشيعة، 3 - كتاب تاريخ الأئمة (ع)،
4 - كتاب أخبار النساء الممدوحات، 5 - كتاب أخبار فاطمة والحسن والحسين
عليهم السلام، 6 - كتاب من قال بالتفضيل من الصحابة وغيرهم.
قال أبو المفضل الشيباني، حدثنا أبو بكر ابن أبي الثلج، وأخبرنا ابن
نوح، قال حدثنا أبو الحسن بن داود، قال حدثنا سلامة بن محمد الارزني،
451

قال حدثنا أبو بكر بن أبي الثلج بجميع كتبه.
وقال العلامة الحلي في ايضاح الاشتباه، 25 ما لفظه: وجدت بخط
السيد صفي الدين محمد بن معد الموسوي رحمه الله: هذا محمد بن عبد الله
ابن إسماعيل ابن أبي الثلج البغدادي مشهور عند أصحاب الحديث، يروي عن
أبي حرار (الحق خ ل) وروح (قدوح، خ ل) بن عبادة، وخلف بن الوليد،
وغيرهم، وحدث عنه محمد بن إسماعيل البخاري (الصحابي خ ل)، وكان يروي عنه
ابن ابنه محمد المذكور في هذه الورقة. ويروي عن محمد هذا أبو الحسن
الدارقطني عن جده محمد بن إسماعيل. كتبه محمد بن معد الموسوي.
وللمترجم (ره) بنت مسماة بخديجة، كانت (ره) راوية للحديث،
ذكرها الخطيب في الرقم 7819، من تاريخ بغداد: 14، 442، ط 1.
وقال ابن النديم في الفهرست 326، ط مصر، في آخر الفن السادس،
من المقالة السادسة: أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد ابن أبي الثلج الكاتب
خاصي عامي، والتشيع أغلب عليه، وله رواية كثيرة من روايات العامة،
وتصنيفات في هذا المعنى، وكان دينا ورعا فاضلا، وله من الكتب كتاب
السنن والآداب على مذاهب العامة، كتاب فضائل الصحابة، كتاب الاختيار
من الأسانيد.
452

الرابعة من الزوائد:
في ترجمة جعفر بن محمد الحسني، وهو الطبقة الرابعة من طريق
الشيخ (ره) إلى الوصية الشريفة، وهذا الرجل قد وقع في اسناد كثير من
أحاديث الشيعة وأهل السنة.
وقد ذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 3، ص 328، ط 1، و ج
11، ص 251 - ما ينطبق على من نحن في مقام ترجمته.
وكذا ذكر الشيخ (ره) في الرقم: 493، من فهرسته 137، ط 3 -
ترجمة عمرو بن ميمون، وقال: له كتاب حديث الشورى - إلى أن قال -
وله كتاب المسائل التي اخبر بها أمير المؤمنين عليه السلام اليهودي. أخبرنا
بها أحمد بن عبدون، عن أبي بكر الدوري، عن محمد بن جعفر العلوي
الحسني، قال: حدثنا علي بن عبدك، قال حدثنا طريف مولى محمد بن
إسماعيل، عن موسى، وعبيد الله بني يسار، عن عمرو ابن أبي إسحاق
السبيعي، عن الحارث الهمداني، عن أمير المؤمنين عليه السلام، وذكر الكتاب.
ولا شك ان هذا اما ابن المترجم، واما نفسه، وإنما قدم الراوي أو
الناسخ محمدا على جعفر. وهنا اشتركت الطرق الأربعة (أي طريق الشيخ
والنجاشي وثقة الاسلام الكليني، والعسكري) في كونه من رواة الوصية
الشريفة، وانه يرويها عن علي بن عبدك إلى أن يتصل بأمير المؤمنين (ع) -
كما في الطرق الثلاثة الأول - وعن الحسن بن عبدك عن الرجال المذكورين
في الطرق الثلاثة أنفسهم إلى أن تتصل بأمير المؤمنين (ع) - كما في
رواية العسكري -.
والحاصل ان المترجم عندي مأنوس الاسم، ومجهول الشخص، وقد
453

بحثت بمقدار ميسوري، وتتبعت بحسب مقدوري، وتصحفت ما عندي من
كتب الخاصة والعامة فلم أجد في ترجمته عدا ما ذكره الشيخ (ره) في الرقم
18 و 19 و 20 في باب من لم يرو عن الأئمة (ع) من رجاله 460، ط
2، أما ما ذكره تحت الرقم 20 فبعيد الانطباق على المترجم، ولا نذكره
هنا، ومن أراده فليطالع رجال الشيخ (ره). وأما ذكره تحت الرقم الثامن
عشر من الكتاب فهذا لفظه: جعفر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبيد الله
ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه
السلام، العلوي الحسيني الموسوي المصري، روى عنه التلعكبري، وكان
سماعه منه سنة أربعين وثلاث مأة بمصر، وله منه إجازة.
وأما ما أفاده الشيخ قدس سره تحت الرقم 19، فهذا نصه: جعفر بن
محمد العلوي الحسيني، من ولد علي بن عبد الله بن الحسين بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، يكنى أبا هاشم، روى عنه
التلعكبري، وقال: كان قليل الرواية، وسمع منه شيئا يسيرا.
454

الخامسة من الزوائد:
في ترجمة علي بن عبدك الصوفي الواقع في الطرق الثلاثة المتقدمة.
وهذا الرجل أيضا كجعفر بن محمد الحسيني غير معنون بشخصه في ما عندي
من كتب التراجم، الا أنه وأخيه (الحسن بن عبدك، الواقع في سند العسكري)
يخرجان عن المجهولية، بما ذكره الأصحاب رضوان الله عليهم في شأن محمد
ابن علي بن عبدك الجرجاني، المتوفى بعد سنة 360 ه‍، وبما ذكره السمعاني
في لفظة الشيعي من كتاب الأنساب قال: وثم جماعة من شيعة أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب، ويتولون إليه، وفيهم كثرة يقال لهم الشيعة، منهم محمد
ابن علي بن عبدك الشيعي، واسم عبدك عبد الكريم، صاحب محمد بن
الحسن الفقيه، العبدكي أبو أحمد الجرجاني، كان مقدم الشيعة، واليه
ينسب جماعة، سمع عمران بن موسى الجرجاني وأقرانه، روى عنه الحاكم
ابن عبد الله الحافظ النيسابوري.
وقال أيضا: العبدكي - بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة،
وفتح الدال المهملة، وفي آخرها الكاف - هذه النسبة إلى عبدك، وهو
والد علي بن عبدك، واسمه عبد الكريم، وعبدك صاحب محمد بن الحسن
الفقيه، وتفقه عليه، والمشهور بهذه النسبة أبو أحمد محمد بن علي بن
عبدك، الشيخ العبدكي من أهل جرجان، كان مقدم الشيعة، وامام أهل
التشيع بها، سمع عمران بن موسى بن مجاشع الجرجاني وأقرانه، روى عنه
الحاكم أبو عبد الله البيع وعرفه ونسبه هكذا قال: كان من الأدباء الموصوفين
بالعقل والكمال، وحسن النظر بنيسابور، وبنى بها الدار والحمام المعروف
455

بباب عزة، وتوفي بعد 360 بجرجان. (176)
هذا كله بالنسبة إلى رهط العبدكي ونسبه، واما ابن المترجم وهو
محمد بن علي (ره) فقد اتفقت كلمة أصحاب الفهارس من أصحابنا على
تجليله وتعظيمه وان له كتبا كثيرة، منها كتاب التفسير، قال الشيخ (ره)
وهو كتاب كبير حسن، وقال ابن شهرآشوب: وهو عشرة اجزاء. ومنها
كتاب مطلع الهداية في الرد على الإسماعيلية، الخ.

(176) ما ذكرناه عن السمعاني مأخوذ من كتاب أعيان الشيعة: 46،
ص 62، ط 2، لسيد الأعيان السيد محسن العاملي (ره).
456

السادسة من الزوائد:
في ترجمة الحسن بن ظريف. عده الشيخ (ره) في رجاله من أصحاب الإمام
الهادي (ع). وعده وأباه في الرقم 167، و 375، من فهرسته
73 و 112، ط 2، من مصنفي الشيعة، فقال في ترجمته: الحسن بن
ظريف بن ناصح، له كتاب، أخبرنا به عدة من أصحابنا، عن أبي المفضل،
عن ابن بطة، عن أحمد ابن أبي عبد الله، عن الحسن بن ظريف.
وقال النجاشي (ره) في الرقم 135، من رجاله 48: الحسن بن ظريف
ابن ناصح، كوفي، يكنى أبو محمد، ثقة، سكن ببغداد، وأبوه قبل، له
نوادر، والرواة عنه كثير، أخبرنا إجازة محمد بن محمد عن الحسن بن
حمزة، قال حدثنا ابن بطة، عن محمد بن علي.
وعن جامع الرواة ان المترجم يروي عن جماعة منهم علي بن عبدك الكوفي.
وفي الحديث المأة من الباب الحادي والثلاثين من اثبات الهداة: 6، 334،
عن الأربلي (ره)، عن الحسن بن ظريف، قال: كتبت إلى أبي محمد عليه
السلام،: قد تركت التمتع ثلاثين سنة، وقد نشطت لذلك، وكان في الحي
امرأة وصفت لي بالجمال، فمال قلبي إليها، وكانت عاهرا، لا تمنع يد لامس،
فكرهتها، ثم قلت: قد قال الأئمة (عليهم السلام) تمتع بالفاجرة، فإنك
تخرجها من حرام إلى حلال، فكتبت إلى أبي محمد عليه السلام أشاوره
في المتعة، وقلت: أيجوز بعد هذه السنين أن أتمتع؟
فكتب (ع): إنما تحيي سنة، وتميت بدعة فلا بأس، وإياك وجارتك
المعروفة بالعهر، وان حدثتك نفسك ان آبائي قالوا: " تمتع بالفاجرة، فإنك
تخرجها من حرام إلى حلال. " فهذه امرأة معروفة بالهتك، وهي جارة،
457

وأخاف عليك استفاضة الخبر.
قال: فتركها ولم أتمتع بها، وتمتع بها شاذان بن سعد، رجل من
إخواننا وجيراننا، فاشتهر بها حتى علا أمره، وصار إلى السلطان، وغرم
بسببها ما لا نفيسا، وأعاذني الله من ذلك ببركة سيدي.
458

السابعة من الزوائد:
في ترجمة الحسين بن علوان بن قدامة الكلبي. قال الشيخ (ره) في
الفهرست 80، تحت الرقم 208: الحسين بن علوان، له كتاب أخبرنا به
ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن، عن سعد بن عبد الله، ومحمد بن الحسن
الصفار، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد الله، عن الحسين بن علوان.
وعده في رجاله 171، تحت الرقم 101، من أصحاب الإمام الصادق
عليه السلام، وقال: الحسين بن علوان الكلبي مولاهم، كوفي.
وقال المحقق النجاشي (ره) في الفهرست 41، الحسين بن علوان
الكلبي، مولاهم كوفي عامي، وأخوه الحسن يكنى أبا محمد ثقة، رويا عن
أبي عبد الله عليه السلام، وليس للحسن كتاب، والحسن أخص بنا
وأولى. (177) روى الحسين عن الأعمش وهشام بن عروة، وللحسين
كتاب تختلف رواياته.
أخبرنا إجازة محمد بن علي القزويني، قدم علينا سنة أربعمأة، قال
أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى، قال حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن
هارون بن مسلم عنه به.
وفي اختيار الكشي (ره) ص 333، تحت الرقم 248، وتواليه،
ما هذا لفظه: محمد بن إسحاق، ومحمد بن المنكدر، وعمرو بن خالد
الواسطي، وعبد الملك بن جريح، والحسين بن علوان الكلبي، هؤلاء من
رجال العامة، الا ان لهم ميلا ومحبة شديدة، وقد قيل: إن الكلبي كان

(177) كذا في النسخة المطبوعة حديثا بطهران، وهو مقتضى السياق،
وفى ترتيب الرجال للقهبائي (ره) هكذا: والحسين أخص بنا وأولى.
459

مستورا ولم يكن مخالفا.
أقول: ويدل على قول هذا القائل رواياته، وتضعيف العامة إياه
كما ذكره الخطيب في تاريخ بغداد: 8، 62، ط 1، تحت الرقم 4138.
هذا مع استفاضة الاخبار بأن المرء مع من أحب. ويدل عليه أيضا
ان محبة أهل البيت (ع) ومخالفيهم لا تجتمعان، وفي تلك الاعصار كانت
المخالفة والمعاندة بين أئمة أهل البيت (ع) ومعاصريهم كالنار على المنار،
وكالمنافرة بين الخليل ونمرود، ولم يكن مثل زماننا حيلولة الشبه متراكمة
للقاصرين، فمن أدرك ذلك الزمان وكان قريبا من المراكز الاسلامية، ومشاعره
صحيحة، فبطبيعة ألحان كان على خبرة وايقان على اختلاف مرام أهل
البيت (ع) ومعاصريهم، فإذا أحبهم ولم تكن دواعي المحبة الدنيوية موجودة
ولا متوقعة، فلابد أن تكون المحبة لكونهم على الحق، ومخالفيهم على
الباطل، فمن كان هكذا معتقده، ولم يحصل له في امتثال أوامر الله، ولا
اجتناب نواهيه افراط وتفريط، فهو من أهل الحق، وقوله مقبول إذا لم
يعارضه شئ، فالرجل من أهل الثقة والاطمئنان، لحصول ما ذكر فيه،
واتصافه به. ووثقه أيضا في خاتمة مستدرك الوسائل: 3: 599، ط 2:
فإنه (ره) بعد ما نقل كلام النجاشي والكشي، وقول ابن عقدة عن الخلاصة،
من أن الحسن بن علوان كان أوثق وأحمد من أخيه عند أصحابنا - قال
ما ملخصه: ويشهد بوثاقته في الحديث مضافا إلى ما ذكر رواية الاجلاء عنه،
وفيهم الحسن بن علي بن فضال، والهيثم بن أبي مسروق، والحسن بن
ظريف بن ناصح، وأبو الجوزاء.
460

الثامنة من الزوائد:
في ترجمة سعد بن طريف الحنظلي الإسكاف.
قال الشيخ (ره) في الرقم 323، من الفهرست 102، ط النجف:
سعد بن طريف الإسكاف، له كتاب، أخبرنا به جماعة عن أبي المفضل، عن
حميد، عن محمد بن موسى خوراء عنه. وأخبرنا به ا حمد بن محمد بن
موسى، عن أحمد بن أحمد بن محمد بن سعيد، عن الحسين بن أحمد بن
الحسن، عن عمه علي بن الحسن، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جيد
(حميد خ) الحنظلي عنه.
وقال في باب السين، من أصحاب الإمام السجاد (ع) من رجاله،
ص 92: سعد بن طريف ابن الحنظلي الإسكاف، مولى بني تميم، الكوفي،
ويقال له سعد الخفاف، روى عن الأصبغ بن نباته، وهو صحيح الحديث.
وذكره أيضا فيه، من باب السين، في أصحاب الإمام الباقر والصادق
عليهما السلام.
وقال النجاشي (ره) تحت الرقم 458، من الفهرست، 135: سعد
بن طريف الحنظلي، مولاهم الإسكاف، كوفي، يعرف وينكر، روى عن
الأصبغ بن نباتة، وروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (ع)، وكان قاصا،
له كتاب رسالة أبي جعفر إليه، أخبرنا عدة عن أحمد بن محمد بن سعيد،
قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جميلة
عن سعد.
461

التاسعة من الزوائد:
في ترجمة الأصبغ بن نباتة بن الحارث بن عمرو بن فاتك بن عامر بن
مجاشع بن دارم من بني تميم، (178) أبو القاسم التميمي الحنظلي
الكوفي (179).
أقول: بعد توثيق أمير المؤمنين عليه السلام إياه بالصراحة، (كما تقدم
في آخر باب الكتب من كتابنا هذا) وبعد أدنى أنس برواياته، لا يخفى
على الفطن علو مقامه، وكونه فريدا في التفاني في مرضاة الله، وولاء أهل البيت
(ع) ولكن لابتلاء بعض النفوس بالوسوسة، وقصر همم نفوس آخرين
عن التنقيب، ومراجعة الروايات، نذكر بعض ما قيل في شخصية، وما روى
الثقات عنه، فنقول:
قال في اختيار رجال الكشي (ره) تحت الرقم 42: طاهر بن عيسى
الوراق، قال حدثنا جعفر بن أحمد التاجر معنعنا، عن ابن أبي الجارود، عن
الأصبغ بن نباته، قال قلت للأصبغ: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم؟ فقال:
ما أدري ما تقول: الا أن سيوفنا كان على عواتقنا فمن أومى إليه ضربناه بها.
ورواه في الاختصاص 65، ط 2، عن جعفر بن الحسين، عن محمد
بن جعفر المؤدب، عن أحمد ابن أبي عبد الله البرقي، عن أبي الحسين صالح

(178) هكذا نقله في أعيان الشيعة: 12، 274، ط 2، عن كتاب الطبقات
الكبير لابن سعد. واما وفاته، فالمحكي عن ابن حجر انه مات بعد الثالثة.
(179) هكذا وصفه في تهذيب التهذيب، كما في أعيان الشيعة، ووصفه
الشيخ (ره) بالتيمي الحنظلي في أصحاب أمير المؤمنين (ع) من رجاله، وتقدم
عن النجاشي (ره) وصفه بالمجاشعي، وكذا عن الشيخ (ره) في الفهرست،
والعسكري في كتاب الزواجر والمواعظ.
462

ابن أبي حماد (180) عن محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب، عن محمد بن
سنان، عن أبي الجارود، عن الأصبغ. ثم قال الكشي (ره): محمد بن
مسعود قال: حدثني علي بن الحسن، عن مروك بن عبيد، قال حدثني
إبراهيم أبو البلاد، عن رجل، عن الأصبغ، قال قلت له: كيف سميتم
شرطة الخميس يا أصبغ؟ قال: انا ضمنا له الذبح، وضمن لنا الفتح، يعني
أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
ورواه في الاختصاص، عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن جعفر
ابن محمد بن مسعود، عن أبيه قال: حدثني علي بن الحسين، عن مروك بن
عبيد قال: حدثني إبراهيم ابن أبي البلاد، عن رجل، عن الأصبغ،
إلى آخر ما مر.
وأيضا قال الكشي (ره) في الحديث الثاني، من ترجمة أويس، من
رجاله 91: وروى الحسن بن الحسين القمي، عن علي بن الحسن العرني،
عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة قال: كنا مع علي عليه السلام بصفين
فبايعه تسعة وتسعون رجلا، ثم قال: أين تمام المأة، لقد عهد إلي رسول
الله صلى الله عليه وآله، ان يبايعني في هذا اليوم مأة رجل. قال: إذ جاء
رجل عليه قباء صوف، متقلدا بسيفين، قال: ابسط يدك أبايعك. قال علي
عليه السلام: على ما تبايعني؟ قال: على بذل مهجة نفسي دونك. قال:
من أنت؟ قال: أنا أويس القرني. قال: فبايعه فلم يزل يقاتل بين يديه،
حتى قتل فوجد في الرجالة.
وفي رواية أخرى: قال له أمير المؤمنين عليه السلام: كن أويسا.

(180) من قوله: أبي الحسين صالح ابن أبي حماد، إلى آخر السند، هو
الذي طويناه في قولنا: " معنعنا " في خبر الكشي، الا ان الكشي قال: أبو الخير
صالح ابن أبي حماد. وأيضا قال عن ابن أبي الجارود، وفى غيرهما لا اختلاف
بينهما.
463

قال: أنا أويس. قال: كن قرنيا. قال: أنا أويس القرني.
وروى الشيخ المفيد (ره) في الاختصاص 209، ط 2، معنعنا
بسندين، عن الأصبغ بن نباتة (181) قال: أتيت أمير المؤمنين عليه السلام
فوجدته متفكرا ينكت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين مالي أراك متفكرا
تنكت في الأرض، أرغبة منك فيها؟ قال: لا والله، ولا في الدنيا يوما
قط، ولكني فكرت في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي،
هو المهدي الذي يملؤها عدلا وقسطا، كما ملئت ظلما وجورا، يكون له
حيرة وغيبة، يضل فيها أقوام، ويهتدي فيها آخرون. فقلت: ان هذا
لكائن؟ قال: نعم كما أنه مخلوق، فأنى لك بهذا الامر يا أصبغ، أولئك
خيار هذه الأمة مع خيار أبرار هذه العترة. قلت: وما يكون بعد ذلك؟
قال: الله يفعل ما يشاء فان الله أرادت وبداءات وغايات ونهايات:
وروى الصدوق (ره) معنعنا، عن الأصبغ، عن أمير المؤمنين انه كان
يقول: صاحب هذا الامر الشريد الطريد الفريد الوحيد. كما في الحديث
20، من الباب 7، من البحار: 13، 30، عن اكمال الدين.
وفي الحديث 291، من الاختصاص 221، معنعنا عن سعد الخفاف،
عن الأصبغ بن نباتة، قال: سألت أمير المؤمنين عليه السلام عن سلمان
الفارسي - رحمة الله عليه - وقلت: ما تقول فيه؟ قال: ما أقول في رجل
خلق من طينتنا، وروحه مقرونة بروحنا، وخصه الله من العلوم بأولها
وآخرها وظاهرها وباطنها، وسرها وعلانيتها، الخ.
وفي الحديث 296، منه ص 223، معنعنا عن سعد بن طريف، عن

(181) وهذا الحديث رواه عن الأصبغ جماعة كثيرة بأسناد عديدة، كما
في الكافي: 1، 338، والحديث 17، من الباب 7، من البحار: 13، 29،
ط الكمباني.
464

الأصبغ، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
ذكر الله عز وجل عبادة، وذكري عبادة، وذكر علي عبادة، وذكر الأئمة من
ولده عبادة، والذي بعثني بالنبوة، وجعلني خير البرية، ان وصيي لافضل
الأوصياء، وانه لحجة الله على عباده، وخليفته على خلقه، ومن ولده الأئمة
الهداة بعدي، بهم يحبس الله العذاب عن أهل الأرض، وبهم يمسك السماء
أن تقع على الأرض الا باذنه، وبهم يمسك الجبال ان تميد بهم، وبهم يسقي
خلقه الغيث، وبهم يخرج النبات، أولئك أولياء الله حقا، وخلفائي صدقا،
عدتهم عدة الشهور وهي اثنا عشر شهرا، وعدتهم عدة نقباء موسى بن
عمران، ثم تلا عليه السلام هذه الآية: " والسماء ذات البروج " ثم قال:
أتقدر يا بن عباس ان الله يقسم بالسماء ذات البروج، ويعني به السماء
وبروجها؟ قلت: يا رسول الله فما ذاك؟ قال: اما السماء فأنا، وأما البروج
فالأئمة بعدي، أولهم علي، وآخرهم المهدي صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي الحديث 529، منه ص 279، معنعنا عن سعد بن طريف، عن
الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت عليا عليه السلام على المنبر يقول: سلوني
قبل ان تفقدوني، فوالله مامن أرض مخصبة ولا مجدبة، ولا فئة تضل مأة
أو تهدي مأة، الا وعرفت قائدها وسائقها، وقد أخبرت بهذا رجلا من أهل
بيتي يخبر بها كبيرهم صغيرهم إلى أن تقوم الساعة.
وفي الحديث 542، منه ص 283، معنعنا عن الحارث بن الحصيرة،
عن الأصبغ بن نباته، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعته يقول:
ان رسول الله صلى الله عليه وآله علمني الف باب من الحلال والحرام، مما كان
ومما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح الف باب، فذلك ألف
ألف باب، حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب.
وفي الحديث 544، منه معنعنا، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ قال:
465

أمرنا أمير المؤمنين عليه السلام بالمسير إلى المدائن من الكوفة، فسرنا
يوم الأحد، وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر، فخرجوا إلى مكان بالحيرة
يسمى الخورنق، فقالوا تتنزه، فإذا كان يوم الأربعاء خرجنا فلحقنا عليا،
قبل ان يجمع، فبينا هم يتغدون إذ خرج عليهم ضب فصادوه، فأخذه عمرو
ابن حريث فنصب كفه، فقال: بايعوا، هذا أمير المؤمنين، فبايعه السبعة
وعمرو ثامنهم، وارتحلوا ليلة الأربعاء، فقدموا المدائن، يوم الجمعة، و
أمير المؤمنين يخطب، ولم يفارق بعضهم بعضا، كانوا جميعا حتى نزلوا
على باب المسجد، فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين عليه السلام، فقال:
يا أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه وآله أسر إلي ألف حديث، في
كل حديث الق باب، لكل باب الف مفتاح، واني سمعت الله يقول: " يوم
ندعو كل أناس بإمامهم " واني اقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر
بإمامهم، وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم فعلت. قال: فلو رأيت عمرو
ابن حريث سقط كما تسقط السعفة وجيبا. وهذا الحديث له طرق أخر أيضا.
وفي الحديث 606، منه ص 304، معنعنا عن الأصبغ قال: كنا وقوفا
على أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة وهو يعطي العطاء في المسجد، إذ
جاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين أعطيت العطاء جميع الاحياء ما خلا
هذا الحي من مراد لم تعطهم شيئا. فقال: أسكتي يا جريئة يا بذية، يا سلفع
يا سلقلق، يامن لا تحيض كما تحيض النساء. قال: فولت فخرجت من
المسجد، فتبعها عمرو بن حريث، فقال لها: أيتها المرأة قد قال علي فيك
ما قال، أيصدق عليك؟ فقالت: والله ما كذب، وان كل ما رماني به لفي،
وما اطلع علي أحد الا الله الذي خلقني، وأمي التي ولدتني. فرجع عمرو بن
حريث فقال: يا أمير المؤمنين تبعت المرأة فسألتها عما رميتها به في بدنها
فأقرت بذلك كله، فمن أين عملت ذلك؟ فقال: ان رسول الله صلى الله عليه
466

وآله، علمني الف باب من الحلال والحرام يفتح كل باب ألف باب، حتى
علمت المنايا والوصايا وفصل الخطاب، وحتى علمت المذكرات من النساء،
والمؤمنين من الرجال. وهذا الحديث أيضا له طرق أخر.
وفي الحديث 622، من الكتاب 310، معنعنا عن سعد بن طريف
الإسكاف، عن الأصبغ بن نباته، قال: ان أمير المؤمنين عليه السلام صعد
المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس ان شعيتنا من طينة مخزونة،
قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام، لا يشذ منها شاذ، ولا يدخل فيها داخل،
واني لأعرف صديقي من عدوي حين أنظر إليهم، لان رسول الله صلى الله
عليه وآله، لما تفل في عيني وكنت أرمد، قال: اللهم أذهب عنه الحر والبرد،
وبصره صديقه من عدوه، فلم يصبني رمد ولا حر ولا برد، واني لأعرف
صديقي من عدوي، فقام رجل من الملا فسلم، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين
اني لادين الله بولايتك، واني لأحبك في السر كما اظهر لك في العلانية.
فقال له علي عليه السلام: كذبت فوالله ما أعرف اسمك في الأسماء، ولا
وجهك في الوجوه، وان طينتك لمن غير تلك الطينة، فجلس الرجل قد
فضحه الله وأظهر عليه. ثم قام آخر فقال: يا أمير المؤمنين اني لادين الله
بولايتك، واني لأحبك في السر كما أحبك في العلانية، فقال له: صدقت،
طينتك من تلك الطينة، وعلى ولايتنا أخذ ميثاقك، وان روحك من أرواح
المؤمنين، الخ.
وفي الحديث 623، منه ص 311، معنعنا عن الحسين بن علوان
الكلبي، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت مع
أمير المؤمنين عليه السلام، فأتاه رجل فسلم عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين
اني والله لأحبك في الله، وأحبك في السر كما أحبك في العلانية، وأدين الله
بولايتك في السر كما أدين بها في العلانية، وبيد أمير المؤمنين عود، طأطأ
467

رأسه، ثم نكت بالعود ساعة في الأرض، ثم رفع رأسه إليه، فقال: ان
رسول الله صلى الله عليه وآله حدثني بألف حديث لكل حديث ألف باب، وان
أرواح المؤمنين تلتقي في الهواء فتشم وتتعارف، فما تعارف منها ائتلف،
وما تناكر منها اختلف، وبحق الله لقد كذبت، فما أعرف وجهك في الوجوه،
ولا اسمك في الأسماء. ثم دخل عليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين اني
لأحبك في السر كما أحبك في العلانية. قال: فنكت الثانية بعوده في الأرض،
ثم رفع رأسه فقال له: صدقت، ان طينتنا طينة مخزونة، أخذ الله ميثاقها
من صلب آدم، فلم يشذ منها شاذ، ولا يدخل فيها داخل من غيرها، الخ.
هذا قليل من كثير مما رواه الأصبغ عن أمير المؤمنين (ع) وبه يتبين
وجه تضعيف حديثه عند الجمهور الا الشاذ منهم ممن لم يطلع على مروياته،
فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
وقال نصر بن مزاحم في كتاب صفين: كان أصبغ من ذخائر علي عليه
السلام، ممن قد بايعه على الموت، وكان من فرسان أهل العراق، وكان
علي عليه السلام يضمن به على الحرب والقتال، وكان شيخا ناسكا عابدا،
وحضض علي عليه السلام أصحابه، فقام إليه الأصبغ فقال: انك جعلتني
على شرطة الخميس، وقدمتني في الثقة دون الناس، وانك اليوم لا تفقد
مني صبرا ولا نصرا، أما أهل الشام فقد هدهم ما أصبنا منهم، ونحن ففينا
بعض البقية، فأطلب بنا أمرك، وائذن لي في التقدم. فقال عليه السلام:
تقدم، الخ.
أقول: تقدم قول الشيخ والنجاشي (ره) في حقه عند ختام الوصية
الشريفة، فلا تطيل الكلام بأكثر مما ذكر، وتقدم أيضا قصة دخوله على
أمير المؤمنين (ع) وما قال له، وما أجابه (ع) في تعليقات المختار 5 و
9، فراجع.
468

العاشرة من الزوائد:
في ترجمة شيخ النجاشي وأستاذه (رحمهما الله جميعا) وهو عبد السلام
بن الحسين الأديب الواقع في أول سنده، المولود سنة 329، والمتوفى سنة
405، وقد تقدم في ترجمة الدوري ما اطرأه به النجاشي (ره).
وقال الخطيب في الرقم 5739، من تاريخ بغداد: 11، ص 57 س
الأخير، ط 1: عبد السلام بن الحسين بن محمد، أبو أحمد البصري
اللغوي، سكن بغداد، وحدث بها عن محمد بن إسحاق بن عباد التمار،
وجماعة من البصريين، حدثني عنه عبد العزيز الأزجي وغيره، وكان صدوقا
عالما أديبا، قارئا للقرآن، عارفا بالقراءات، وكان يتولى ببغداد النظر في
دار الكتب، واليه حفظها والاشراف عليها، سمعت أبا القاسم عبيد الله بن
علي الرقي الأديب يقول: كان عبد السلام البصري من أحسن الناس تلاوة
للقرآن، وانشادا للشعر، وكان سمحا سخيا وربما جاءه السائل وليس معه
شئ يعطيه، فيدفع إليه بعض كتبه التي لها قيمة كثيرة وخطر كبير.
حدثني علي بن الحسن التنوخي: أن عبد السلام البصري توفي في
يوم الثلاثاء التاسع عشر من المحرم سنة خمس وأربع مأة.
قال غيره: ودفن في مقبرة الشونيزي عند قبر أبي علي الفارسي، وكان
مولده في سنة تسع وعشرين وثلاثمأة.
وقال العلامة الرازي أدام الله ظله في (إزاحة الحلك الدامس) المخطوط
ص 49: الشيخ أبو أحمد عبد السلام بن الحسين بن محمد بن عبد الله
البصري، ويعبر عنه بعبد السلام الأديب، أو أبي أحمد عبد السلام بن
الحسين البصري، من مشايخ الشيخ أبي العباس أحمد بن علي النجاشي
469

المتوفي سنة 450 كما يظهر من ترجمة جعفر بن محمد المؤدب وغيرها، وهو
يروي عن الدوري، وعن أبي القاسم الحسن بن بشير بن يحيى الذي يروي
عن محمد بن أحمد المفجع، كما في ترجمة أحمد بن عبد الله بن جلين الدوري
والمفجع من النجاشي، ويروي عنه أيضا بعض مشايخ النجاشي، وهو
أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر، المتوفى سنة 423.
والشيخ الطوسي ما أدركه بعد وروده العراق سنة 408، وإنما يروي عنه
بواسطة ابن عبدون المذكور في الفهرست، في ترجمة محمد بن جرير العامي،
انتهى بتلخيص ما.
الحادية عشرة من الزوائد:
في ترجمة أحمد بن محمد بن سعيد، المعروف بأبي العباس ابن عقدة،
المولود سنة 249، المتوفى سنة 333 ه‍.
وهو من مشايخ ثقة الاسلام الكليني (ره) وجماعة كثيرة من علماء
الاسلام، وصيته أشهر من أن يذكر، وخبرته وتضلعه في العلوم الاسلامية
فوق ان يوصف، ولذا تلقى الفريقان رواياته بالقبول، مع كونه تابعا ومؤمنا
بمناقب بعض أئمة أهل البيت (ع)، وهو ذنب غير مغفور عند بعض من
يدعي الاسلام، لا سيما إذا أضيف إلى ما ذكر، إفراده رسالة في تواتر حديث
الغدير، واثباته من طريق مأة وخمس نفرا من الصحابة، وبالجملة فهو من
أعاظم الثقات، متفق عليه بين الفريقين، ونكتفي بشاهدين من الطرفين:
الشاهد الأول - قال الشيخ أبو جعفر الطوسي أعلى الله مقامه في
كتاب فهرست مصنفي الشيعة 52، ط 2، تحت الرقم 86: أحمد بن محمد
بن سعيد بن عبد الرحمان بن زياد بن عبيد الله بن زياد بن عجلان، مولى
عبد الرحمان بن سعيد بن قيس السبيعي الهمداني، المعروف بابن عقدة
الحافظ، أخبرنا بنسبه أحمد بن عبدون، عن محمد بن أحمد بن الجنيد،
وأمره في الثقة والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر، وكان زيديا
470

جاروديا، وعلى ذلك مات، وإنما ذكرناه في جملة أصحابنا لكثرة روايته
عنهم وخلطته بهم، وتصنيفه لهم، وله كتب كثيرة، منها كتاب التاريخ وهو
في ذكر من روى الحديث من الناس كلهم العامة والشيعة وأخبارهم، خرج
منه شئ كثير ولم يتمه، وكتاب السنن، وهو عظيم، قيل إنه حمل بهيمة،
لم يجتمع لاحد وقد جمعه هو، وكتاب من روى عن أمير المؤمنين عليه
السلام، ومسنده (وأسنده خ)، كتاب من روى عن الحسن والحسين عليهما
السلام، كتاب من روى عن علي بن الحسين (ع) وأخباره، كتاب من روى
عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام واخباره، كتاب من روى عن زيد
ابن علي ومسنده، كتاب الرجال وهو كتاب من روى عن جعفر بن محمد
عليه السلام، كتاب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، كتاب اخبار أبي حنيفة
ومسنده، كتاب الولاية ومن روى يوم غدير يرخم، كتاب فضل الكوفة،
كتاب من روى عن علي عليه السلام انه قسيم الجنة والنار، كتاب الطائر،
مسند عبد الله بن بكير بن أعين، حديث الراية، كتاب الشورى، كتاب ذكر
النبي صلى الله عليه وآله والصخرة والراهب وطرق ذلك، كتاب الآداب
وهو كتاب كبير يشتمل على كتب كثيرة (مثل كتاب المحاسن) كتاب طرق
تفسير قول الله عز وجل: " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " كتاب طرق
حديث النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام " أنت مني بمنزلة هارون
من موسى " كتاب تسمية من شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام حروبه من
الصحابة والتابعين، كتاب الشيعة من أصحاب الحديث، وله كتاب من روى
عن فاطمة عليها السلام من أولادها، وله كتاب يحيى بن الحسين بن زيد
وأخباره.
أخبرنا بجميع رواياته وكتبه أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى
الأهوازي، وكان معه خط أبي العباس بإجازته، وشرح رواياته وكتبه،
عن أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد، ومات أبو العباس أحمد بن محمد
471

ابن سعيد هذا بالكوفة، سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاث مأة.
وذكره المحقق النجاشي (ره) تحت الرقم 227، من رجاله 73، ثم
قال: هذا رجل جليل في أصحاب الحديث، مشهور بالحفظ، والحكايات
تختلف عنه في الحفظ وعظمه - ثم ساق الكلام كما ذكرناه عن شيخ
الطائفة (ره)، وزاد على ما ذكره الشيخ كتاب صلح الإمام الحسن (ع)
ومعاوية، ثم قال -: هذه الكتب هي التي ذكرها أصحابنا وغيرهم ممن
حدثناه عنه، ورأيت له كتاب تفسير القرآن، وهو كتاب حسن، وما رأيت أحدا ممن حدثناه عنه ذكره، وقد لقيت جماعة ممن لقيه وسمع منه وأجازه
منهم من أصحابنا. ومن العامة ومن الزيدية، ومات أبو العباس بالكوفة
سنة 333 ثلاث وثلاثين وثلاثمأة.
والشاهد الثاني - ما حكي عن طبقات الحفاظ ص 93، 151 للسيوطي
في الطبقة الحادية عشرة. وهذا لفظه: ابن عقدة حافظ العصر، والمحدث البحر
أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي مولى بني هاشم، أبوه نحوي
صالح يلقب عقدة، سمع أمما لا يحصون وكتب عن العالي والنازل حتى عن
أصحابه، وكان إليه المنتهى في قوة الحفظ، وكثرة الحديث، ورحلته قليلة
ألف وجمع، حدث عنه الدارقطني، وقال: أجمع أهل الكوفة انه لم يريها
من زمن ابن مسعود إلى زمنه احفظ منه. وعنه أحفظ مأة ألف حديث
بأسنادها، وأجيب عن ثلاث مأة الف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
وقال أبو علي: ما رأيت احفظ منه لحديث الكوفيين، وعنده تشيع.
ولد سنة 249، ومات في ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مأة.
ومثله بعينه مع زيادات لطيفة في تذكرة الحفاظ: 3، 57، ط الهند،
تحت الرقم 49، من حفاظ الطبقة الحادية عشرة، وفصل الكلام في ترجمته
وموارد استشهاد العامة بكلامه في عبقات الأنوار: مجلد الغدير عن
472

14، إلى 42. وأما أحمد بن عبد الرحمان بن فضال القاضي، والحسن بن محمد بن أحمد
، اللذان يروي عنهما العسكري فلم أطلع على ترجمتهما إلى الان،
والظاهر أنهما من علماء أهل السنة.
واما أحمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب (ع)، فلم أجده فيما عندي من كتب الرجال معنونا، نعم ذكر
الشيخ (ره) في باب من لم يرو عنهم (ع) من رجاله - باب الحسن -
تحت الرقم 22، ص 464 ط 1 ما هذا لفظه: الحسن بن محمد بن أحمد بن
جعفر بن محمد بن زيدين علي بن الحسين بن علي أبي طالب عليه السلام،
يكنى أبا محمد، روى عنه التلعكبري وسمع منه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمأة
وما بعدها، وكان ينزل بالرميلة ببغداد، وله منه إجازة. ولا شك ان الحسن
هذا من أحفاد المترجم لاغير.
واما الحسن بن علوان الواقع في بعض نسخ سند العسكري فقد
أسلفنا في ترجمة أخيه الحسين انه ثقة، وحكى في الخلاصة عن المحدث
الخبير، والعالم البصير ابن عقده أنه قال: ان الحسن بن علوان كان أوثق
وأحمد من أخيه عند أصحابنا.
واما الحسن بن عبدك، فقد مضى في الخامسة من الزوائد ما يستعلم
به حاله ومذهبه.
473

- 12 -
ومن وصية له عليه السلام
إلى السبط الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام
يا بني أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر (1). وكلمة
الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل
على الصديق والعدو، وبالعمل في النشاط والكسل، والرضا
عن الله في الشدة والرخاء.
أي بني! ما شر بعده الجنة بشر، ولا خير بعده النار
بخير، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون
النار عافية (2).
واعلم أي بني أنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب
غيره (3)، ومن تعرى من لباس التقوى لم يستتر بشئ من

(1) وقريب من هذا الصدر تقدم في المختار الثالث، وهي وصيته
عليه السلام إلى أصحابه.
(2) من قوله (ع): ما شر بعده الجنة بشر، إلى قوله (ع): وكل
بلاء دون النار عافية، مذكور في غير واحد من كلمه الشريفة، كما في آخر الخطبة
الأولى، من نهج السعادة.
(3) هذه الجملة أيضا قد نطق (ع) بها في غير واحد من كلماته الشريفة
كما في وصيته (ع) إلى السبط الأكبر، المختار 31، من كتب النهج.
474

اللباس، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل
سيف البغي قتل به، ومن حفر بئرا لأخيه وقع فيها (4)،
ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته (5)، ومن نسي
خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن كابد الأمور عطب (6)،
ومن اقتحم الغمرات غرق، ومن أعجب برأيه ضل ومن
استغنى بعقله ذل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط
العلماء وقر، ومن خالط الأنذال حقر (7). ومن سفه على
الناس شتم، ومن دخل مداخل السوء أتهم، ومن مزح
أستخف به، ومن أكثر من شئ عرف به، ومن كثر
كلامه كثر خطأوه، ومن كثر خطأوه قل حياؤه، ومن قل حياؤه

(4) من قوله (ع): من سل سيف البغي قتل به، إلى قوله (ع):
عورات بيته، ذكره في الفصل 36، وما بعده من كنز الفوائد 57، الا ان فيه:
ومن هتك حجاب أخيه، هتك عورات بينه.
(5) وفى بعض النسخ: انكشفت عوراته.
(6) من هنا إلى قوله (ع): ومن مات قلبه دخل النار، ذكره في المختار
12، وهو وصيته (ع) إلى السبط الأكبر الا بعض جمله. يقال: فلان
يكابد الأمور، اي يقاسيها ويتحمل المشاق في فعلها بلا اعداد أسبابها. وعطب
فلان، اي هلك. والغمرات: الشدائد. وفى النهج: ومن اقتحم اللجج غرق.
(7) الأنذال - جمع النذل - وهو الخسيس من الناس الدنئ في الاعمال
والرويات.
475

قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه ومن مات قلبه دخل النار.
أي بنى من نظر في عيوب الناس ورضى لنفسه بها فذلك
الأحمق بعينه، ومن تفكر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن
اعتزل سلم، ومن ترك الشهوات كان حرا ومن ترك الحسد
كانت له المحبة عند الناس، أي بنى عز المؤمن غناه عن
الناس، والقناعة مال لا ينفد، ومن أكثر ذكر الموت رضى
من الدنيا باليسير، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه
إلا فيما ينفعه (8) أي بنى العجب ممن يخاف العقاب فلم
يكف، ورجا الثواب فلم يتب ويعمل، أي بنى الفكرة
تورث نورا، والغفلة ظلمة، والجدالة ضلالة والسعيد من
وعظ بغيره، والأدب خير ميراث، وحسن الخلق خير
قرين، ليس مع قطيعة الرحم نماء، ولامع الفجور غنى،
أي بنى العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر

(8) وفى المختار 349، من قصار النهج، طبع مصر: قل كلامه الا فيما
يعنيه. وما هنا من قوله (ع): انه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب
غيره. قريب جدا مما في المختار المشار إليه، الا ان هنا زيادة ليست ثمة.
476

الله، وواحدة في ترك مجالسة السفهاء أي بنى من تزيا (9)
بمعاصي الله في المجالس أورثه الله ذلا، ومن طلب العلم علم
يا بني رأس العلم الرفق، وآفته الخرق (10)، ومن كنوز
الايمان الصبر على المصائب، والعفاف زينة الفقر، والشكر
زينة الغنى، كثرة الزيارة تورث الملالة، والطمأنينة
قبل الخبرة ضد الحزم (11)، وإعجاب المرء بنفسه يدل على
ضعف عقله، أي بني كم نظرة جلبت حسرة، وكم من كلمة
سلبت نعمة، أي بني لا شرف أعلى من الاسلام، ولا كرم
أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع ولا شفيع أنجح
من التوبة (12)، ولا لباس أجمل من العافية، ولا مال أذهب
بالفاقة من الرضا بالقوت ومن اقتصر على بلغة الكفاف

(9) اي من جعل ريه وعنوانه في المجتمع ومراي الناس المعاصي
وارتكابها، يجعله الله ذليلا ويبدل عزه بالذل، وذلك لمجاهرته بهتك حرمات الله
واعلانه بالطغيان ومبارزته بالتمرد والعصيان.
(10) الخرق - ضد الرفق - وهو الشدة وفظاظة القلب وغلظته.
(11) الطمأنينة: توطين النفس وتسكينها. والخبرة - بالضم -: العلم
بالشئ. والحزم: ضبط الشئ واحكامه والاخذ فيه بالثقة.
(12) المعقل: الحصن والملجأ، والورع أمنع الحصون وأحرزها عن عذاب
الله. والنجاح: الظفر والفوز، اي لا يظفر المكلف بشفاعة شفيع بالنجاة من
سخط الله وعذابه مثل ما يظفر بالتوبة.
477

تعجل الراحة وتبوأ خفض الدعة (13) أي بني الحرص مفتاح التعب
ومطية النصب (14) وداع إلى التفخم في الذنوب والشره
جامع لمساوي العيوب (15) وكفاك أدبا لنفسك ما كرهته
من غيرك، لأخيك عليك مثل الذي لك عليه، ومن تورط
في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب.
التدبير قبل العمل يؤمنك الندم، من استقبل وجوه الآراء
عرف مواقع الخطاء، الصبر جنة من الفاقة، البخل جلباب (16)
المسكنة، الحرص علامة الفقر، وصول معدم خير من جاف
مكثر (17) لكل شئ قوت وابن آدم قوت الموت، أي بني

(13) البلغة - بالضم -: ما يتبلغ به من القوت، ولا فضل فيه.
والكفاف - بفتح الكاف - من الرزق: ما لا زيادة فيه ولا نقصان، بل يكون بقدر
الحاجة. والخفض، لين العيش وسعته. والدعة - بالتحريك -: الراحة.
والإضافة للمبالغة، أي تمكن واستقر في متسع الراحة.
(14) النصب - بالتحريك -: أشد التعب.
(15) الشره - على زنة الفرح -: الحرص الغالب، وفى بعض النسخ:
الشرة - على زنة الهرة - وهي الحدة، النشاط، الغضب، الطيش، الحرص.
(16) الجلباب والجلباب - بسكون اللام وشدها -: الثوب الواسع
الذي يغطي جميع البدن.
(17) الوصول - كصبور -: الذي يصل القرابة والمودة اللاحقة بالسابقة
ولا يقطعها، ويداوم على المعروف ولا يهجرها. والمعدم: الفقير. وجاف:
اسم فاعل من قولهم: جفاه يجفوه جفاه، أي اعرض عنه، وقسا قلبه
عليه وغلظ طبعه، لازم ومتعد. والمكثر: الكثير المال. ومراده (ع) ان من
يدوم على الوصل والانس مع فقره، خير من قسي القلب الكثير المال الذي
بعرض عن الأرحام والأصدقاء.
478

لا تؤيس مذنبا فكم من عاكف على ذنبه ختم له بخير،
وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره صائر إلى النار،
نعوذ بالله منها أي بني كم من عاص نجا، وكم من عاقل
هوى من تحرى القصد خفت عليه المؤن (18)، في خلاف
النفس رشدها، الساعات تنقص الاعمار، ويل للباغين من
أحكم الحاكمين، وعالم ضمير المضمرين، يا بني بئس
الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، في كل جرعة شرق وفى
كل أكلة غصص (19) لن تنال نعمة إلا بفراق أخرى، ما

(18) التحري: اختيار أصوب الوجوه. والمؤن - بضم الميم وفتح
الهمزة - جمع المئونة، وهي القوت وما يصرفه الانسان في سبيل إعاشته وطريق
حياته وحياة من كان تحت كفالته، ويعد من عياله.
(19) قال في أقرب الموارد: الشرق - محركة -: الشمس، وقد يطلق
على ما يشرق به. يقال: شرق الرجل، أي غص بريقه. وهو من باب علم،
ومصدره على زنة البرق. ولا يبعد أن يكون بضم الشين جمعا للشرقة بفتحها،
كالغصص فإنه جمع للغصة، وهي الشجا. وقال الليث: الغصة الشجا يغص به
في الحرقدة. والغصص - بفتح أوله - مصدر قولك: غص يغص - من باب
منع ومد - بالطعام والماء اي شرق به، أو وقف في حلقه فلا يكاد يسيغه،
ومنعه من التنفس فهو غاص وغصان، وخص بعضهم به الماء.
479

أقرب الراحة من النصب، والبؤس من النعيم والموت
من الحياة، والسقم من الصحة، فطوبى لمن أخلص لله
عمله وعلمه وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته
وفعله وقوله (20) وبخ بخ لعالم عمل فجد، وخاف البيات (21)
فأعد واستعد، إن سئل نصح وإن ترك صمت كلامه
صواب وسكوته من غير عي جواب (22) والويل لمن بلي
بحرمان وخذلان وعصيان فاستحسن لنفسه ما يكرهه من غيره
وأزرى (23) على الناس بمثل ما يأتي، واعلم أي بني أنه
من لانت كلمته وجبت محبته، وفقك الله لرشده وجعلك
من أهل طاعته بقدرته إنه جواد كريم.
تحف العقول 88، وفي نسخة 58، ونقلها باختصار في آخر الباب

(20) وقال الإمام الصادق (ع) في كلام له مع حفص بن غياث: ومن
تعلم وعمل لله دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلم لله وعمل
لله، وعلم لله، الخ.
(21) بخ - بالتخفيف والتثقيل - اسم فعل للمدح واظهار الرضي بالشئ.
ويكرر للمبالغة فيقال بخ بخ، بالكسر والتنوين. والبيات: هجوم المكاره ليلا،
وحلول المساءة (من إغارة عدو أو فقدان حبيب أو ضياع بضاعة) فيها.
(22) العي - بكسر العين -: العجز من الكلام، يقال: عيي - كحي من باب
علم) عيا - على زنة ند وضد - في المنطق: حصر، فهو عي وعيي - كحي
ودوي -، ومنه المثل: هو اعيا من بأقل.
(23) ازرى وتزري عليه عمله، اي عاتبه أو عابه عليه ووضع من حقه.
480

100 من آخر ينابيع المودة. وغير خفي على الخبير ان ما في هذه الوصية
الشريفة فوق حد الاستفاضة، كما يعلم بأدنى المام بوصيته (ع) إلى الحسن
الزكي (ع) - وهو المختار 31، من الباب الثاني، من النهج - وبوصيته
عليه السلام إلى محمد بن الحنفية (ره) - وقد سبق ذكرها في هذا الكتاب
- وبالرجوع إلى خطبة الوسيلة، فضلا عمن أحاط خبرا بكلامه (ع) في
نهج البلاغة ونهج السعادة.
481