الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ١٧
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء السابع عشر
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
1407 ه‍ - 1987 م
1

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار
باب الحث على ذكر الله تعالى
قوله عز وجل (أنا عند ظن عبدي بي) قال القاضي قيل معناه بالغفران له إذا استغفر
والقبول إذا تاب والإجابة إذا دعا والكفاية إذا طلب الكفاية وقيل المراد به الرجاء وتأميل
العفو وهذا أصح قوله تعالى وانا معه حين يذكرني أي معه بالرحمة والتوفيق والهداية والرعاية
وأما قوله تعالى وهو معكم أينما كنتم فمعناه بالعلم والإحاطة قوله تعالى إن ذكرني
في نفسي ذكرته في نفسي قال المازري النفس تطلق في اللغة على معان منها الدم ومنها نفس الحيوان وهما
مستحيلان في حق الله تعالى ومنها الذات والله تعالى له ذات حقيقة وهو المراد بقوله تعالى في
نفسي ومنها الغيب وهو أحد الأقوال في قوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك أي
ما في غيبي فيجوز أن يكون أيضا مراد الحديث أي إذا ذكرني خاليا أثابه الله وجازاه عما عمل
2

بما لا يطلع عليه أحد قوله تعالى وان ذكرني في ملأ وإذا ذكرتهم في ملأ هم خير منهم هذا
مما استدلت به المعتزلة ومن وافقهم على تفضيل الملائكة على الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين واحتجوا أيضا بقوله تعالى " كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " فالتقيد بالكثير احتراز من الملائكة
ومذهب أصحابنا وغيرهم ان الأنبياء أفضل من الملائكة لقوله تعالى في بني إسرائيل وفضلناهم على
العالمين والملائكة من العالمين ويتأول هذا الحديث على أن الذاكرين غالبا يكونون طائفة لا نبي
فيهم فإذا ذكره الله تعالى في خلائق من الملائكة كانوا خيرا من تلك الطائفة قوله تعالى
وان تقرب منى شبرا تقربت إليه ذراعا وان تقرب إلى ذراعا تقربت منه باعا وان أتاني يمشى
أتيته هرولة هذا الحديث من أحاديث الصفات ويستحيل إرادة ظاهرة وقد سبق الكلام في
أحاديث الصفات مرات ومعناه من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة
وان زاد زدت فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي اتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة وسبقته
بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلي المقصود والمراد ان جزاءه يكون تضعيفه
3

على حسب تقربه قوله تعالى في رواية محمد بن جعفر وإذا تلقاني بباع جئته أتيته هكذا
هو في أكثر النسخ جئته اتيته وفي بعضها جئته بأسرع فقط وفي بعضها اتيته وهاتان ظاهرتا
والأول صحيح أيضا والجمع بينهما للتوكيد وهو حسن لا سيما عند اختلاف اللفظ والله أعلم
قوله جبل يقال له جمدان هو بضم الجيم واسكان الميم قوله صلى الله عليه وسلم
سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات
هكذا الرواية فيه المفردون بفتح الفاء وكسر الراء المشددة وهكذا نقله القاضي عن متقنى
شيوخهم وذكر غيره أنه روى بتخفيفها واسكان الفاء يقال فرد الرجل وفرد بالتخفيف والتشديد
وأفرد وقد فسرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذاكرين الله كثيرا والذاكرات تقديره
والذاكراته فحذفت الهاء هنا كما حذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي ولأنه مفعول يجوز
حذفه وهذا التفسير هو مراد الحديث قال ابن قتيبة وغيره وأصل المفردين الذين هلك أقرانهم
وانفردوا عنهم فبقوا يذكرون الله تعالى وجاء في رواية هم الذين اهتزوا في ذكر الله أي لهجوا به
وقال ابن الأعرابي يقال فرد الرجل إذا تفقه واعتزل وخلا بمراعاة الأمر والنهى
4

باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها
قوله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنة
أنه وتر يجب الوتر وفى رواية من حفظها دخل الجنة قال الإمام أبو القاسم القشيري فيه
دليل على أن الاسم هو المسمى إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره لقوله تعالى ولله الأسماء
الحسنى قال الخطابي وغيره وفيه دليل على أن أشهر أسمائه سبحانه وتعالى الله لإضافة هذه
الأسماء إليه وقد روى أن الله هو اسمه الأعظم قال أبو القاسم الطبري واليه ينسب كل اسم
له فيقال الرؤف والكريم من أسماء الله تعالى ولا يقال من أسماء الرؤف أو الكريم الله واتفق
العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى فليس معناه أنه ليس له
أسماء غير هذه التسعة والتسعين وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها
دخل الجنة فالمراد الاخبار عن دخول الجنة باحصائها لا الاخبار بحصر الأسماء ولهذا جاء في
الحديث الآخر أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك وقد ذكر
الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن
بعضهم أنه قال لله تعالى ألف اسم قال ابن العربي وهذا
قليل فيها والله أعلم وأما تعيين هذه الأسماء فقد جاء في الترمذي وغيره في بعض أسمائه خلاف
وقيل إنها مخفية التعيين كالاسم الأعظم وليلة القدر ونظائرها واما قوله صلى الله عليه وسلم
من أحصاها دخل الجنة فاختلفوا في المراد باحصائها فقال البخاري وغيره من المحققين معناه
حفظها وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها وقيل أحصاها عدها
5

في الدعاء بها وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها وقيل
معناه العمل به والطاعة بكل اسمها والايمان بها لا يقتضى عملا وقال بعضهم المراد حفظ
القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها وهو ضعيف والصحيح الأول قوله صلى الله عليه وسلم
إن الله وتر يحب الوتر الوتر الفرد ومعناه في حق الله تعالى الواحد الذي لا شريك له ولا نظير
ومعنى يحب الوتر تفضيل الوتر في الاعمال وكثير من الطاعات فجعل الصلاة خمسا والطهارة
ثلاثا والطواف سبعا والسعي سبعا ورمى الجمار سبعا وأيام التشريق ثلاثا والاستنجاء ثلاثا
وكذا الأكفان وفى الزكاة خمسة أوسق وخمس أواق من الورق ونصاب الإبل وغير ذلك
وجعل كثيرا من عظيم مخلوقاته وترا منها السماوات والأرضون والبحار وأيام الأسبوع وغير
ذلك وقيل إن معناه منصرف إلى صفة من يعبد الله بالوحدانية والتفرد مخلصا له والله أعلم
باب العزم في الدعاء ولا يقل إن شئت
قوله صلى الله عليه وسلم إذا دعا أحدكم فليعزم في الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني
فإن الله لا مستكره له وفى رواية فإن الله
صانع ما شاء لا مكره له وفى رواية ليعزم الرغب
6

فان الله لا يتعاظمه شئ أعطاه قال العلماء عزم المسألة الشدة في طلبها والحزم من عير ضعف
في الطلب ولا تعليق على مشيئة ونحوها وقيل هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة ومعنى
الحديث استحباب الجزم في الطلب وكراهة التعليق على المشيئة قال العلماء سبب كراهته أنه
لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الاكراه والله تعالى منزه عن ذلك
وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فإنه لا مستكره له وقيل سبب الكراهة أن في
هذا اللفظ صور الاستغفار على المطلوب والمطلوب منه قوله عن عطاء بن مثنى هو بالمد والقصر
باب كراهة تمنى الموت لضر نزل به
قوله صلى الله عليه وسلم لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني
ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي فيه التصريح بكراهة تمني الموت لضر نزل
به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا فأما إذا خاف ضررا في دينه
7

أو فتنة فيه فلا كراهة فيه لمفهوم هذا الحديث وغيره وقد فعل هذا الثاني خلائق من السلف
عند خوف الفتنة في أديانهم وفيه أنه إن خالف ولم يصبر على حاله في بلواه بالمرض ونحوه فليقل اللهم
أحيني إن كانت الحياة خيرا لي الخ والأفضل الصبر والسكون للقضاء قوله حدثنا عاصم عن
النضر بن أنس وانس يومئذ جمعناه أن النضر حدث به في حياة أبيه قوله صلى الله عليه وسلم
إذا مات أحدكم انقطع عمله هكذا هو في بعض النسخ عمله وفى كثير منها أمله وكلاهما
صحيح لكن الأول أجود وهو المتكرر
في الأحاديث والله أعلم
8

باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
قوله حدثنا هداب هذا الاسناد والذي بعده كلهم بصريون الا عبادة بن الصامت فشامي
قوله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
قالت عائشة فقلت يا نبي الله أكراهية الموت فكلنا يكره الموت قال ليس كذلك ولكن المؤمن
إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وأن الكافر إذا بشر بعذاب
الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقائه هذا
الحديث يفسر آخره أوله ويبين المراد بباقي
الأحاديث المطلقة من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله ومعنى الحديث أن الكراهة المعتبرة
9

هي التي تكون عند النزع في حالة لا تتقبل توبته ولا غيرها فحينئذ يبشر كل انسان بما هو صائر
إليه وما أعدله ويكشف له عن ذلك فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله لينتقلوا إلى ما أعدلهم
ويحب الله لقاءهم أي فيجزل لهم العطاء والكرامة وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه لما علموا من سوء
ما ينتقلون إليه ويكره الله لقاءهم أي يبعدهم عن رحمته وكرامته ولا يريد ذلك بهم وهذا معنى
كراهته سبحانه لقائهم وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله تعالى لقاءهم كراهتهم ذلك ولا
10

أن حبه لقاء الآخرين حبهم ذلك بل هو صفة لهم قولها إذا شخص البصر وحشرج الصدر
واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع أما شخص فبفتح الشين والخاء ومعناه ارتفاع الأجفان
إلى فوق وتحديد النظر وأما الحشرجة فهي تردد النفس في الصدور وأما اقشعرار الجلد فهو
قيام شعره وتشنج الأصابع تقبضها
باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى وحسن الظن به
قوله تعالى وإذا تقرب منى ذراعا تقربت إليه باعا أو بوعا الباع والبوع بضم الباء والبوع بفتحها
11

كله بمعنى وهو طول ذراعي الانسان وعضديه وعرض صدره قال الباجي وهو قدر أربع أذرع
وهذا حقيقة اللفظ والمراد بها في هذا الحديث المجاز كما سبق في أول كتاب الذكر في شرح هذا
الحديث مع الحديثين بعده قوله تعالى فله عشر أمثالها أو أزيد معناه أن التضعيف بعشرة
أمثالها لابد بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة
ضعف والى أضعاف كثيرة يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئة سبحانه وتعالى
قوله تعالى ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة هو بضم
القاف على المشهور وهو ما يقارب ملاها
وحكى كسر القاف نقله القاضي وغيره والله أعلم
12

باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا
قوله عاد رجلا من المسلمين قد خفت مثل الفرخ أي ضعف وفى هذا الحديث النهى عن الدعاء
بتعجيل العقوبة وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
وفيه جوار التعجب بقول سبحان الله وقد سبقت نظائره وفيه استحباب عيادة المريض والدعاء
له وفيه كراهة تمني البلاء لئلا ينضجر منه ويسخطه وربما شكا وأظهر الأقوال في تفسير
13

الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية وفى الآخرة الجنة والمغفرة وقيل الحسنة تعم الدنيا والآخرة
باب فضل مجالس الذكر
قوله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجلس الذكر أما السيارة
فمعناه سياحون في الأرض وأما فضلا فضبطوه على أوجه أحدها وهو أرجحها وأشهرها في بلادنا
فضلا بضم الفاء والضاد والثانية بضم الفاء واسكان الضاد ورجحها بعضهم وادعى أنها أكثر
وأصوب والثالثة بفتح الفاء واسكان الضاد قال القاض هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في
البخاري ومسلم والرابعة فصل بضم الفاء والضاد ورفع اللام على أنه خبر مبتدأ محذوف
والخامسة فضلاء بالمد جمع فاضل قال العلماء معناه على جميع الروايات أنهم ملائكة زائدون
على الحفظة وغيرهم من المرتبين مع الخلائق فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم وإنما مقصودهم حلق
الذكر وأما قوله صلى الله عليه وسلم يبتغون فضبطوه على وجهين أحدهما بالعين المهملة من التتبع
وهو البحث عن الشئ والتفتيش والثاني يبتغون بالعين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب
وكلاهما صحيح قوله صلى الله. قوله صلى الله عليه وسلم فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم وحف بعضهم
بعضا هكذا هو في كثير من نسخ بلادنا حف بالفاء وفى بعضها حض بالضاد المعجمة أي حث
على الحضور والاستماع وحكى القاضي عن بعض رواتهم وحط بالطاء المهملة واختاره القاضي
قال ومعناه أشار بعضهم إلى بعض بالنزول ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاري هلموا إلى
14

حاجتكم ويؤيد الرواية الأولى وهي حف قوله في البخاري يحفونهم بأجنحتهم ويحدقون بهم
ويستديرون حولهم ويحوف بعضهم بعضا قوله ويستجيرونك من نارك أي يطلبون الأمان
منها قوله عبد خطأ أي كثير الخطايا وفى هذا الحديث فضيلة الذكر وفضيلة مجالسه والجلوس
مع أهله وان لم يشاركهم وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم والله أعلم قال القاضي عياض رحمه الله
وذكر الله تعالى ضربان ذكر بالقلب وذكر باللسان وذكر بالقلب نوعان أحدهما وهو أرفع الأذكار
وأجلها الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه ومنه
الحديث خير الذكر الخفي والمراد به هذا والثاني ذكره بالقلب عند الأمر والنهى فيمتثل ما أمر به
ويترك ما نهى عنه ويقف عما أشكل عليه وأما ذكر اللسان مجردا فهو أضعف الأذكار ولكن
فيه فضل عظيم كما جاءت به الأحاديث قال وذكر ابن جرير الطبري وغيره اختلاف السلف في
ذكر القلب واللسان أيهما أفضل قال القاضي والخلاف عندي إنما يتصور في مجرد ذكر والقلب
تسبيحا وتهليلا وشبههما وعليه يدل كلامهم لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه والا فذلك
15

لا يقاربه ذكر اللسان فكيف يفاضله وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد ونحوه
والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب فإن كان لاهيا فلا واحتج من رجح ذكر القلب بأن
عمل السر أفضل ومن رجح ذكر اللسان قال لأن العمل فيه أكثر فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى
زيادة أجر قال القاضي واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب فقيل تكتبه ويجعل الله
تعالى لهم علامة يعرفونه بها وقيل لا يكتبونه لأنه لا يطلع عليه غير الله قلت الصحيح أنهم
يكتبونه وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل
من القلب وحده والله أعلم
باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة
وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
ذكر في الحديث أنها كانت أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لما جمعته من خيرات الآخرة
والدنيا وقد سبق شرحه قريبا والله أعلم
16

باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء
قوله صلى الله عليه وسلم فيمن قال في يوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك
وله الحمد وهو على كل شئ فقد مر مائة مرة لم يأت أحد بأفضل مما جاء الا أحد عمل أكثر من
ذلك هذا فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم كان له هذا الأجر المذكور
في الحديث على المائة ويكون له ثواب آخر على الزيادة وليس هذا من الحدود التي نهى عن اعتدائها
ومجاوزة اعدادها وان زيادتها لا فضل فيها أو تبطلها كالزيادة في عدد الطهارة وعدد ركعات الصلاة
ويحتمل أن يكون المراد الزيادة من أعمال الخير لا من نفس التهليل ويحتمل أن يكون المراد
مطلق الزيادة سواء كانت من التهليل أو من ومن غيره وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم
وظاهر اطلاق الحديث أنه يحصل هذا الأجر المذكور في هذا الحديث من قال هذا التهليل
مائة مرة في يومه سواء قاله متوالية أو متفرقة في جالس أو بعضها أول النهار وبعضها آخره
لكن الأفضل أن يأتي بها متوالية في أول النهار ليكون حرزا له في جميع نهاره قوله صلى
الله عليه وسلم في حديث التهليل ومحيت عنه مائة سيئة وفى حديث التسبيح حطت خطاياه وان
17

كانت مثل زبد البحر ظاهره أن التسبيح أفضل وقد قال في حديث التهليل ولم يأت أحد أفضل
مما جاء به قال القاضي في الجواب عن هذا أن التهليل المذكور أفضل ويكون ما فيه من زيادة
الحسنات ومحو السيئات وما فيه من فضل عتق الرقاب وكونه حرزا من الشيطان زائدا على فضل
التسبيح وتكفير الخطايا لأنه قد ثبت أن من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من
النار فقد حصل بعتق رقبة واحدة تكفير جميع الخطايا مع ما يبقى له من زيادة عتق الرقاب
الزائدة على الواحدة ومع ما فيه من
زيادة مائة درجة وكونه حرزا من الشيطان ويؤيده ما جاء
في الحديث بعد هذا أن أفضل الذكر التهليل مع الحديث الآخر أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي
لا اله إلا الله وحده لا شريك له الحديث وقيل إنه اسم الله الأعظم وهي كلمة الاخلاص والله أعلم
وقد سبق أن معنى التسبيح التنزيه عما لا يليق به سبحانه وتعالى من الشريك والولد والصاحبة
والنقائص مطلقا وسمات الحدوث مطلقا قوله في حديث التهليل عشر مرات حدثنا عبد الله بن
18

أبى السفر عن الشعبي عن ربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون عن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب
الأنصاري رضي الله عنهم هذا الحديث فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض وهم الشعبي
وربيع وعمرو وابن أبي ليلى واسم ابن أبي ليلى هذا عبد الرحمن وأما ابن أبي السفر فبفتح الفاء
وسكنها بعض المغاربة والصواب الفتح قوله الله أكبر كبيرا منصوب بفعل محذوف أي
19

كبرت كبيرا أو ذكرت كبيرا قوله صلى الله عليه وسلم يسبح مائة تسبيحة فيكتب له الف
حسنة أو يحط عنه الف خطيئة هكذا هو في عامة نسخ صحيح مسلم أو يحط بأو في بعضها
ويحط بالواو وقال الحميدي في الجمع بين الصحيحين كذا هو في كتاب مسلم أو يحط بأو وقال
البرقاني ورواه شعبه وأبو عوانة ويحيى القطان عن يحيى الذي رواه مسلم من جهته فقالوا
ويحط بالواو والله أعلم
20

باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر
فيه حديث أبي هريرة من نفس عن مؤمن كربة إلى آخره وهو حديث عظيم جامع لأنواع
من العلوم والقواعد والآداب وسبق شرح افراد فصوله ومعنى نفس الكربة أزالها وفيه فضل
قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة
وغير ذلك وفضل الستر على المسلمين وقد سبق تفصيله وفضل انظار المعسر وفضل المشي
في طلب العلم ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى وإن كان
هذا شرطا في كل عبادة لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه
بعض الناس ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم قوله صلى الله عليه وسلم وما اجتمع فقوم في بيت
من بيوت الله يتلون كتاب الله تعالى ويتدارسونه بينهم الا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة
قيل المراد بالسكينة هنا الرحمة وهو الذي اختاره القاضي عياض وهو ضعيف لعطف الرحمة
عليه وقيل الطمأنية والوقار هو أحسن وفى هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد
21

وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك يكره وتأوله بعض أصحابه ويلحق بالمسجد في تحصيل
هذه الفضيلة الاجتماع في مدرسة ورباط ونحوهما إن شاء الله تعالى ويدل عليه الحديث الذي
بعده فإنه مطلق يتناول جميع المواضع ويكون التقييد في الحديث الأول خرج على الغالب
لا سيما في ذلك الزمان فلا يكون له مفهوم يعمل به قوله صلى الله عليه وسلم ومن بطأ به
عمله لم يسرع به نسبه معناه من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الأعمال فينبغي أن
22

لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء ويقصر في العمل قوله لم أستحلفكم تهمة لكم
هي بفتح الهاء واسكانها وهي فعلة وفعلة من الوهم والتاء بدل من الواو واتهمته به إذا ظننت به
ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة معناه يظهر فضلكم
لهم ويريهم حسن عملكم ويثنى عليكم عندهم وأصل البهاء الحسن والجمال وفلان يباهي بماله
أي يفخر ويتجمل بهم على غيرهم ويظهر حسنهم
باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه
قوله صلى الله عليه وسلم أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر
الله في اليوم مائة مرة قال أهل اللغة
الغين بالغين المعجمة والغين والغيم بمعنى والمراد هنا ما يتغشى القلب قال القاضي قيل المراد الفترات
والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنبا واستغفر
منه قال وقيل هو همه بسبب أمته وما اطلع عليه من أحوالها بعده فيستغفر لهم وقيل سببه
23

اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم ومحاربة العدو ومداراته وتأليف المؤلفة ونحو ذلك
فيشتغل بذلك من عظيم مقامه فيراه ذنبا بالنسبة إلى عظيم منزلته وان كانت هذه الأمور من
أعظم الطاعات وأفضل الاعمال فهي نزول عن عالي درجته ورفيع مقامه من حضوره مع الله
تعالى ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك وقيل يحتمل أن هذا الغين هو
السكينة التي تغشى قلبه لقوله تعالى " السكينة عليهم " ويكون استغفاره اظهار العبودية
والافتقار وملازمة الخشوع وشكرا لما أولاه وقد قال المحاشى خوف الأنبياء والملائكة خوف
اعظام وإن كانوا آمنين عذاب الله تعالى وقيل يحتمل أن هذا الغين حال خشية واعظام يغشى
القلب ويكون استغفاره شكرا كما سبق وقيل هو شئ يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به
النفس فهوشها والله أعلم
باب التوبة
قوله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس توبوا إلى الله فانى أتوب في اليوم مائة مرة هذا الأمر بالتوبة
موافق لقوله تعالى " إلى الله جميعا أيها المؤمنون " وقوله تعالى " أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله
24

توبة نصوحا " وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم ونحن إلى
الاستغفار والتوبة أحوج قال أصحابنا وغيرهم من العلماء للتوبة ثلاثة شروط أن يقلع عن
المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما أن لا يعود إلى مثلها أبدا فان كانت المعصية
تتعلق بآدمي فلها شرط رابع وهو رد الظلامة إلى صاحبها أو يحصل البراءة منه والتوبة أهم
قواعد الاسلام وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة قوله صلى الله عليه وسلم من تاب
قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه قال العلماء هذا حد لقبول التوبة وقد جاء
في الحديث الصحيح أن للتوبة بابا مفتوحا فلا تزال مقبولة حتى يغلق فإذا طلعت الشمس من
مغربها أغلق وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك وهو معنى قوله تعالى " يوم يأتي بعض
آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل آو كسبت في إيمانها خير " ومعنى تاب
الله عليه قبل توبته ورضى بها وللتوبة شرط آخر وهو أن يتوب قبل الغرغرة كما جاء في الحديث
الصحيح وأما في حالة الغرغرة وهي حالة النزع فلا تقيل توبته ولا
غيرها ولا تنفذ وصيته ولا غيرها
باب استحباب خفض الصوت بالذكر إلا في المواضع
التي ورد الشرع برفعه فيها كالتلبية وغيرها واستحباب
الاكثار من قول لا حول ولا قوة إلا بالله
قوله صلى الله عليه وسلم للناس حين جهروا بالتكبير أيها الناس اربعوا على أنفسكم انكم ليس
25

تدعون أصم ولا غائبا أنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم اربعوا بهمزة وصل وبفتح الباء
الموحدة معناه ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم فان رفع الصوت إنما يفعله الانسان
لبعد من يخاطبه ليسمعه وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب بل هو سميع قريب
وهو معكم بالعلم والإحاطة ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه
فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فان دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت به أحاديث
وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم هو بمعنى ما سبق وحاصله أنه مجاز كقوله تعالى ونحن أقرب إليه من حيل الوريد والمراد
تحقيق سماع الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة
قال العلماء سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى واعتراف بالاذعان له وأنه
لا صانع غير ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر ومعنى الكنز هنا أنه ثواب
مدخر في الجنة وهو ثواب نفيس كما أن الكنز أنفس أموالكم قال أهل اللغة الحول الحركة
والحيلة أي لا حركة ولا استطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى وقيل معناه لا حول في دفع شر
ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله وقيل لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعته
26

إلا بمعونة وحكى هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وكله متقارب قال أهل اللغة ويعبر عن هذه
الكلمة بالحوقلة وبالأول جزم الأزهري والجمهور وبالثاني جزم الجوهري ويقال
أيضا لا حيل ولا قوة في لغة غريبة حكاها الجوهري وغيره
27

باب الدعوات والتعوذ
قد سبق في كتاب الصلاة وغيره بيان تعوذه صلى الله عليه وسلم من فتنة القبر وعذاب القبر
وفتنة المسيح الدجال وغسل الخطايا بالماء والثلج وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من فتنة
الغنى وفتنة الفقر فلأنهما حالتان تخشى الفتنة فيهما بالتسخط وقلة الصبر والوقوع في حرام
أو شبهة للحاجة ويخاف في الغنى من الأشر والبطر والبخل بحقوق المال أو إنفاقه في إسراف
وفى باطل أو في مفاخر وأما الكسل فهو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه
وأما العجز فعدم القدرة عليه وقيل هو ترك ما يجب فعله والتسويف به وكلاهما تستحب الإعاذة
منه قال الخطابي إنما استعاذ صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال
قال القاضي وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتماله وقلة الرضا
به ولهذا قال فتنة القبر ولم يقل الفقر وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر
وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر
28

كما جاء في الرواية التي بعدها وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم
وتشويه بعض المنظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها وأما استعاذته صلى الله
عليه وسلم من المغرم وهو الدين فقد فسره صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب
الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فاخلف ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين
ولأنه قد يشتغل به قلبه وربما مات قبل وفاته فبقيت ذمته مرتهنة به وأما استعاذته صلى الله
29

عليه وسلم من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله
تعالى وإزالة المنكر والاغلاظ على العصاة ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات
ويقوم بنصر المظلوم والجهاد والسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للانفاق
والجود ولمكارم الأخلاق ويمتنع من الطمع فيما ليس له قال العلماء واستعاذته صلى الله عليه
وسلم من هذه الأشياء لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضا تعليما وفى هذه الأحاديث
دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها وهذا هو الصحيح
الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف
إلى أن ترك الدعاء أفضل استسلاما للقضاء وقال آخرون منهم ان دعا للمسلمين فحسن وان دعا
لنفسه فالأولى تركه وقال آخرون منهم أن وجد في نفسه باعث للدعاء استحب وإلا فلا ودليل
الفقهاء ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين بفعله وفى هذه الأحاديث ذكر المأثم وهو الاثم وفيها فتنة المحيا والممات أي
فتنة الحياة والموت قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء ومن درك
الشقاء ومن شماتة الأعداء ومن جهد البلاء أما درك الشقاء فالمشهور فيه فتح الراء وحكى القاضي
30

وغيره أن بعض رواة مسلم رواه ساكنها وهي لغة وجهد البلاء بفتح الجيم وضمها للفتح أشهر
وأفصح فاما الاستعاذة من سوء القضاء فيدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال
والأهل وقد يكون ذلك في الخاتمة وأما درك الشقاء فيكون أيضا في أمور الآخرة والدنيا ومعناه
أعوذ بك أن يدركني شقاء وشماتة الأعداء هي فرح العدو ببلية تنزل تنزل بعدوه يقال منه شمت
بكسر الميم وشمت بفتحها فهو شامت واشمته غيره وأما جهد البلاء فروى عن ابن عمرانه فسره
بقلة المال وكثرة العيال
وقال غيره هي الحال الشاقة قوله صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله
التامات قيل معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب وقيل النافعة الشافية وقيل المراد
بالكلمات هنا القرآن والله أعلم
31

باب الدعا عند النوم
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة
ثم اضطجع عل شقك الأيمن ثم قل اللهم إني أسلت وجهي إليك إلى آخره فقوله
صلى الله عليه وسلم إذا أخذت مضجعك معناه إذا أردت النوم في مضجعك فتوضأ
والمضجع بفتح الميم وفى هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة إحداها
الوضوء عند إرادة النوم فإن كان متوضئا كفاه ذلك الوضوء لان المقصود النوم على
طهارة مخافة أن يموت في ليلته وليكون أصدق لرؤياه وابعد من تلعب الشيطان
32

به في منامه وترويعه الثانية النوم على الشق الأيمن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب
التيامن ولأنه أسرع إلى الانتباه الثالثة ذكر الله تعالى ليكون خاتمة عمله قوله صلى الله عليه
وسلم اللهم إني أسلمت وجهي إليك وفى الرواية الأخرى أسلمت نفسي إليك أي استسلمت
وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك قال العلماء الوجه والنفس هنا بمعنى الذات كلها
يقال سلم وأسلم واستسلم بمعنى ومعنى ألجأت ظهري إليك أي توكلت عليك واعتمدتك في أمري
كله كما يعتمد الانسان بظهره إلى ما يسنده قوله رغبة ورهبة أي طمعا في ثوابك وخوفا
من عذابك قوله صلى الله عليه وسلم مت على الفطرة أي الاسلام وأن أصبحت أصبت
خيرا أي حصل لك ثواب هذه السنن واهتمامك بالخير ومتابعتك أمر الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم قوله فرددتهن لأستذكرهن فقلت آمنت برسولك الذي أرسلت قال قل آمنت
بنبيك الذي أرسلت اختلف العلماء في سبب إنكاره صلى الله عليه وسلم ورده اللفظ فقيل
إنما رده لأن قوله آمنت برسولك يحتمل غير النبي صلى الله عليه وسلم من حيث اللفظ واختار
المازري وغيره أن سبب الانكار أن هذا ذكر ودعاء فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد
بحروفه وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف ولعله أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات فيتعين
أداؤها بحروفها وهذا القول حسن وقيل لأن قوله ونبيك الذي أرسلت فيه جزالة من حيث
صنعة الكلام وفيه جمع النبوة والرسالة فإذا قال رسولك الذي أرسلت فان هذان الأمران مع
ما فيه من تكرير لفظ رسول وأرسلت وأهل البلاغة يعيبون وقد قدمنا في أول شرح خطبة هذا
الكتاب أنه لا يلزم من الرسالة النبوة ولا عكسه واحتج بعض العلماء بهذا الحديث لمنع الرواية
33

بالمعنى وجمهورهم على جوازها من العارف ويجيبون عن هذا الحديث بأن المعنى هنا مختلف
ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا أويت إلى فراشك
أي انضممت إليه ودخلت فيه كما قال في الرواية الأخرى بعد إذا أخذ مضجعه وقال في الحديث
الآخر بعد هذا كان إذا أوى إلى فراشه قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وأوان فأما
أويت وأوى إلى فراشك فمقصور وأما قوله وآوانا فممدود وهذا هو الصحيح الفصيح المشهور
وحكى بالقصر فيهما وسبق بيانه مرات وقيل معنى آوانا هنا رحمنا قوله فكم ممن لا مؤوى له
أي لا راحم ولا عاطف عليه وقيل معناه لا وطن له ولا سكن يأوى إليه قوله صلى الله عليه
34

وسلم اللهم باسمك أموت وباسمك أحيا قيل معناه بذكر اسمك أحيا ما حييت وعليه أموت
وقيل معناه بك أحيا أي أنت تحبيني وأنت تميتني والاسم هنا والمسمى قوله صلى الله عليه
وسلم الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا واليه النشور المراد بأماتنا النوم وأما النشور
الاحياء للبعث يوم القيامة فنبه صلى الله عليه وسلم بإعادة اليقظة بعد النوم الذي هو كالموت على
إثبات البعث بعد الموت قال العلماء وحكمة الدعاء عند إرادة النوم أن تكون خاتمة أعماله
كما سبق وحكمته إذا أصبح أن يكون أول عمله بذكر التوحيد والكلم الطيب قوله صلى الله عليه وسلم
اللهم خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها أي حياتها وموتها وجميع أمورها لك
35

وبقدرتك وفى سلطانك قوله أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته أي من شر
كل شئ من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بنواصيها قوله صلى الله عليه وسلم
اللهم أنت الأول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك
شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين يحتمل أن المراد بالدين هنا حقوق الله
تعالى وحقوق العباد كلها من جميع الأنواع وإما معنى الظاهر من أسماء الله فقيل هو من الظهور
بمعنى القهر والغلبة وكمال القدرة ومنه ظهر فلان على فلان وقيل الظاهر بالدلائل القطعية والباطن
نجب عن خلقه وقيل العالم بالخفيات وأما تسميته سبحانه وتعالى بالآخر فقال الإمام أبو بكر
ابن الباقلاني معناه الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل ويكون كذلك
بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم فقال وتعلقت المعتزلة
بهذا الاسم فاحتجوا به لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا ومعناه الباقي بعد فناء خلقه
36

ومذهب أهل الحق خلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم ولهذا يقال آخر
من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاهم وعدمها هذا كلام ابن الباقلاني
قوله صلى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه
وليسم الله تعالى فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه داخلة الإزار طرفه ومعناه أنه يستحب
37

أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه لئلا يكون فيه حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات
ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره لئلا يحصل في يده مكروه إن كان هناك
باب في الأدعية
قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل قالوا
معناه من شر ما اكتسبته مما قد يقتضى عقوبة في الدنيا أو يقتضى في الآخرة وإن لم أكن
38

قصدته ويحتمل أن المراد تعليم الأمة الدعاء قوله صلى الله عليه وسلم اللهم لك أسلمت وبك
آمنت معناه لك انقدت وبك صدقت وفيه إشارة إلى الفرق بين الايمان والاسلام وقد
سبق إيضاحه في أول كتاب الايمان وقوله صلى الله عليه وسلم وعليك توكلت أي
فوضت أمري إليك واليك أنبت أي أقبلت بهمتي وطاعتي وأعرضت عما سواك
وبك خاصمت أي بك أحتج وأدفع وأقاتل قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
كان في سفر وأسحر يقول سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه ربنا صاحبنا وأفضل علينا
عائذا بالله من النار أما أسحر فمعناه قام في السحر أو انتهى في سيره إلى السحر وهو آخر
الليل واما سمع سامع فروى بوجهين أحدهما فتح الميم من سمع وتشديدها والثاني كسرها
مع تخفيفها واختار القاضي هنا وفى المشارق وصاحب المطالع التشديد وأشار إلى أنه رواية
أكثر رواة مسلم قالا ومعناه بلغ سامع قولي هذا لغيره وقال مثله تنبيها على الذكر في السحر
والدعاء في ذلك وضبطه الخطابي وآخرون بالكسر والتخفيف قال الخطابي معناه شهد شاهد
على حمدنا الله تعالى على نعمه وحسن بلائه وقوله ربنا صاحبنا وأفضل علينا أي احفظنا
وحطنا واكلانا وأفضل علينا بجزيل نعمك واصرف عنا كل مكروه وقوله عائذا بالله من النار
39

منصوب على الحال أي أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله من النار قوله صلى الله عليه
وسلم اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي إلى قوله وكل ذلك عندي أي أنا متصف
بهذه الأشياء اغفرها إلى قيل قاله تواضعا وعد على نفسه فوات الكمال ذنوبا وقيل أراد ما كان عن سهو
وقيل ما كان قبل النبوة وعلى كل حال فهو صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
فدعا بهذا وغيره تواضعا لأن الدعاء عبادة قال أهل اللغة الاسراف مجاوزة الحد قوله
صلى الله عليه وسلم (أنت المقدم وأنت المؤخر) يقدم من يشاء من خلقه إلى رحمته بتوفقه
40

ويؤخر من يشاء ذلك لخذلانه قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك الهدى والتقى
والعفاف والغنى) أما العفاف والعفة فهو التنزه عما لا يباح والكف عنه والغنى هنا غنى النفس
والاستغناء عن الناس وعما في أيديهم قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم آت نفسي تقواها وزكها
أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ من علم ينفع ومن قلب لا يخشع ومن
نفس لا تشبع) هذا الحديث وغيره من الأدعية المسجوعة دليل لما قاله العلماء أن السجع المذموم
في الدعاء هو المتكلف فإنه يذهب الخشوع والخضوع والاخلاص ويلهى عن الضراعة والافتقار
وفراغ القلب فأما ما حصل بلا تكلف ولا إعمال فكر لكمال الفصاحة ونحو ذلك أو كان محفوظا
فلا بأس به بل هو حسن ومعنى نفس لا تشبع استعاذة من الحرص والطمع والشره
وتعلق النفس بالآمال البعيدة ومعنى زكها طهرها ولفظة خير ليست للتفضيل بل معناه لا مزكى لها الا
41

أنت كما قال وليها قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر)
قال القاضي رويناه الكبر باسكان الباء وفتحها فالاسكان بمعنى التعاظم على الناس والفتح بمعنى
الهرم والخرف والرد إلى أرذل العمر كما في الحديث الآخر قال القاضي وهذا أظهر وأشهر بما
قبله قال وبالفتح ذكره الهروي وبالوجهين ذكره الخطابي وصوب الفتح وتعضده رواية النسائي
42

وسوء العمر قوله صلى الله عليه وسلم (وغلب الأحزاب وحده) أي قبائل الكفار المتحزبين
عليهم وحده أي من غير قتال الآدميين بل أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها قوله صلى الله
عليه وسلم (فلا شئ بعده) أي سواه قوله صلى الله عليه وسلم (قل اللهم اهدني وسددني واذكر
بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم) أما السداد هنا بفتح السين وسداد السهم تقويمه
ومعنى سددني وفقني واجعلني منتصبا في جميع أموري مستقيما وأصل السداد الاستقامة والقصد
في الأمور وأما الهدى هنا فهو الرشاد
ويذكر ويؤنث ومعنى اذكر بالهدى هدايتك الطريق
43

والسداد سداد السهم أي تذكر ذلك في حال دعائك بهذين اللفظين لأن هادي الطريق لا يزيغ
عنه ومسدد السهم يحرص على تقويمه ولا يستقيم رميه حتى يقومه وكذا الداعي ينبغي أن
يحرص على تسديد علمه وتقويمه ولزومه السنة وقيل ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه باب التسبيح أول النهار وعند النوم
قوله (وهي في مسجدها) أي موضع صلاتها قوله (سبحان الله وبحمده مداد كلماته) هو بكسر
الميم قيل معناه مثلها في العدد وقيل مثلها في أنها لا تنفد وقيل في الثواب والمداد هنا مصدر بمعنى
المدد وهو ما كثرت به الشئ قال العلماء واستعماله هنا مجاز لأن كلمات الله تعالى لا تحصر بعد
ولا غيره والمراد المبالغة به في الكثرة لأنه ذكر أولا ما يحصره العدد الكثير من عدد الخلق
ثم زنة العرش ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك وعبر عنه بهذا أي ما لا يحصيه عد كما لا تحصى
44

كلمات الله تعالى قوله (عن أبي رشدين) هو بكسر الراء وهو كريب المذكور في الرواية الأولى
قوله في حديث على وفاطمة رضي الله عنهما (حتى وجدت برد قدمه على صدري) كذا هو
في نسخ مسلم قدمه مفردة وفى البخاري قدميه بالتثنية وهي زيادة ثقة لا تخالف الأولى قوله
45

(وقيل لعلى رضي الله عنه ما تركتهن ليلة صفين قال ولا ليلة صفين) معناه لم يمنعني منهن ذلك الأمر
والشغل الذي كنت فيه وليلة صفين هي ليلة الحرب المعروفة بصفين وهي موضع بقرب
الفرات كانت فيه حرب عظيمة بينه وبين أهل الشام
باب استحباب الدعاء عند صياح الديك
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا)
46

قال القاضي سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والاخلاص
وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم
باب دعاء الكرب
فيه حيث ابن عباس وهو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والاكثار منه عند الكرب
والأمور العظيمة قال الطبري كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب فان قيل هذا
ذكر وليس فيه دعاء فجوابه من وجهين مشهورين أحدهما أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء
47

ثم يدعو بما شاء والثاني جواب سفيان بن عيينة فقال أما علمت قوله تعالى من شغله ذكرى
عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين وقال الشاعر
إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء
قوله (كان إذا حزبه أمر) هو بحاء مهملة ثم زاي مفتوحتين ثم موحدة أي نابه وألم به أمر شديد
قال القاضي قال بعض العلماء وهذه الفضائل المذكورة في هذه الأذكار إنما هي لأهل الشرف
في الدين والطهارة من الكبائر دون المصرين وغيرهم قال القاضي وهذا فيه نظر والأحاديث عامة
قلت الصحيح أنها لا تختص والله أعلم
باب فضل سبحان الله وبحمده
قوله (عن أبي عبد الله الجسري) بفتح الجيم وكسرنا وبالسين المهملة اسمه حمير بكسر الحاء
وبالراء هذا هو الأصح الأشهر وقيل حميد بن بشير يقال الغنزي الجسري منسوب إلى
بنى جسر وهم بطن من بنى عنزة وهو جسر بن تيم بن القدم بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن ضرار
48

ابن معد بن عدنان كذا ذكره السمعاني وآخرون قوله صلى الله عليه وسلم (أحب الكلام
إلى الله سبحانه الله وبحمده) وفى رواية أفضل هذا محمول على كلام الآدمي والا فالقرآن
أفضل وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق فأما المأثور في وقت أو حال
ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل والله أعلم
باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب
قوله (عن طلحة بن عبيد بن كريز) هو بفتح الكاف قوله صلى الله عليه وسلم (مامن عبد مسلم
يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل) وفى رواية قال الملك الموكل به امين ولك
بمثل وفى رواية دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا
لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل أما قوله صلى الله عليه وسلم بظهر الغيب فمعناه
في غيبة المدعو له وفى سره لأنه أبلغ في الاخلاص قوله (بمثل) هو بكسر الميم واسكان الثاء
هذه الرواية المشهورة قال القاضي ورويناه بفتحها أيضا يقال هو مثله ومثيله بزيادة الياء أي
عديله سواء وفى هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت
هذه الفضيلة في ولو دعا لجملة المسلمين فالظاهر حصولها أيضا وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو
لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة لأنها تستجاب ويحصل له مثلها قوله (حدثنا موسى
ابن سروان المعلم) هكذا رواه عامة الرواة وجميع نسخ بلادنا سروان بسين مهملة مفتوحة
49

وكذا نقله القاضي عن عامة شيوخهم وقال وعن ابن ماهان أنه بالثاء المثلثة قال البخاري والحاكم
يقالان جميعا فيه وهما صحيحان وقال بعضهم فردان بالفاء وهو أنصاري عجلى قوله (حدثتني
أم الدرداء قالت حدثني سيدي) تعنى زوجها أبا الدرداء ففيه جواز تسمية المرأة زوجها سيدها
وتوقيره وأم الدرداء هذه هي الصغرى التابعية واسمها جهيمة
50

باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب
قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة
فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها) الأكلة هنا بفتح الهمزة وهي المرة الواحدة من الأكل كالغداء والعشاء وفيه استحباب
حمد الله تعالى عقب الأكل والشرب وقد جاء في البخاري صفة التحميد الحمد لله حمدا كثيرا طبيا مباركا
فيه غير مكفى ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا وجاء غير ذلك ولو اقتصر على الحمد لله حصل أصل السنة
باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل
(فيقول دعوت فلم يستجب لي)
قوله صلى الله عليه وسلم (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول دعوت فلا أو فلم يستجب لي)
وفى رواية لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع باثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل يا رسول الله
51

ما الاستعجال قال يقول دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء قال أهل
اللغة يقال حسر واستحسر إذا أعيا وانقطع عن الشئ والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء ومنه
قوله تعالى لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون أي لا ينقطعون عنها ففيه أنه ينبغي إدامة
الدعاء ولا يستبطئ الإجابة
كتاب الرقاق
باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء
(وبيان الفتنة بالنساء)
قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا أصحاب الجد محبوسون) هو بفتح الجيم قيل المراد به أصحاب البخت
والحظ في الدنيا والغنى والوجاهة بها وقيل المراد أصحاب الولايات ومعناه محبوسون للحساب
52

ويسبقهم الفقراء بخمسمائة عام كما جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (إلا أصحاب
النار فقد أمر بهم إلى النار) معناه من استحق من أهل الغنى النار بكفره أو معاصيه وفى هذا
53

الحديث تفضيل الفقر على الغنى وفيه فضيلة الفقراء والضعفاء قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني
أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك) الفجأة بفتح الفاء واسكان الجيم
مقصورة على وزن ضربة والفجاءة بضم الفاء وفتح الجيم والمد لغتان وهي البغتة وهذا الحديث
أدخله مسلم بين أحاديث النساء وكان ينبغي أن يقدمه عليها كلها وهذا الحديث رواه مسلم
عن أبي زرعة الرازي أحد حفاظ الاسلام وأكثرهم حفظا ولم يرو مسلم في صحيحه عنه غير
هذا الحديث وهو من أقران مسلم توفى بعد
مسلم بثلاث سنين سنة أربع وستين ومائتين قوله
54

صلى الله عليه وسلم (ان الدنيا خضرة حلوة وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون
فاتقوا واتقوا الدنيا واتقوا النساء) هكذا هو في جميع النسخ فاتقوا الدنيا ومعناه تجنبوا الافتتان بها
وبالنساء وتدخل في النساء الزوجات وغيرهن وأكثرهن فتنة الزوجات ودوام فتنتهن وابتلاء
أكثر الناس بهن ومعنى الدنيا خضرة حلوة يحتمل أن المراد به شيئان أحدهما حسنها
للنفوس ونضارتها ولذتها كالفاكهة الخضراء الحلوة فان النفوس تطلبها طلبا حثيثا فهكذا الدنيا
والثاني سرعة فنائها كالشئ الأخضر في هذين الوصفين ومعنى مستخلفكم فيها جاعلكم خلفاء
من القرون الذين قبلكم فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم
باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال
قوله صلى الله عليه وسلم (فأووا إلى غار فجبل) الغار النقب في الجبل وأووا بقصر الهمزة
55

ويجوز فتحها في لغة قليلة سبق بيانها قريبا قوله (انظروا أعمالا عملتموها صالحة فادعوا الله بها
لعله يفرجها) استدل أصحابنا بهذا على أنه يستحب للانسان أن يدعو في حال كربه وفى دعاء الاستسقاء
وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم وذكره النبي صلى
الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم وفى هذا الحديث فضل بر الوالدين وفضل
خدمتها وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم وفيه فضل العفاف والانكفاف
عن المحرمات لا سيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها ويترك لله تعالى خالصا وفيه جواز الإجازة
وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة وفيه اثبات كرامات الأولياء وهو مذهب
أهل الحق قوله (فإذا أرحت عليهم حلبت) معناه إذا رددت الماشية من المرعى إليهم والى موضع
مبيتها وهو مراحها بضم الميم يقال أرحت الماشية وروحتها بمعنى قوله (نأى بي ذات يوم الشجر)
وفى بعض ناء بي فالأول يجعل الهمزة قبل الألف وبه قرأ أكثر القراء السبعة والثاني عكسه وهما
لغتان وقراءتان ومعناه بعد
والثاني البعد قوله (فجئت بالحلاب) هو بكسر الحاء وهو الاناء الذي
يحلب فيه يسع حلبة ناقة ويقال له المحلب بكسر الميم قال القاضي وقد يريد بالحلاب هنا اللبن المحلوب
قوله (والصبية يتضاغون) أي يصيحون ويستغشون من الجوع قوله (فلم يزل ذلك دأبي) أي
56

حالي اللازمة والفرجة بضم الفاء وفتحها ويقال لها أيضا فرج سبق بيانها مرات قوله (وقعت بين
رجليها) أي جلست مجلس الرجل للوقاع قولها (لا تفتح الخاتم الا بحقه) الخاتم كناية عن بكارتها
وقوله بحقه أي بنكاح لا بزنا قوله (بفرق أرز) الفرق بفتح الراء واسكانها لغتان الفتح أجود
وأشهر وهو اناء يسع ثلاثة آصع وسبق شرحه في كتاب الطهارة قوله (فرغب عنه) أي كره
57

وسخطه وتركه وقوله (لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا) فقوله لا أغبق بفتح الهمزة وضم الباء أي
ما كنت أقدم عليهما أحدا في شرب نصيبهما غشاء من اللبن والغبوق شرب العشاء والصبوح
شرب أول النهار يقال منه غبقت الرجل بفتح الباء أغبقه بضمها مع فتح الهمزة غبقا فاغتبق أي
سقيته عشاء فشرب وهذا الذي ذكرته من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة كتب غريب
الحديث والشروح وقد يصحفه بعض من لا أنس له فيقول أغبق بضم الهمزة وكسر الباء
وهذا غلط قوله (ألمت بها سنة) أي وقعت في سنة قحط قوله (فثمرت أجره) أي ثمنه قوله
(حتى كثرت منه الأموال فارتجعت) هو بالعين المهملة ثم الجيم أي كثرت حتى ظهرت حركتها
واضطرابها وموج بعضها في بعض لكثرتها والارتعاج والاضطراب والحركة واحتج بهذا
الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الانسان مال غيره والتصرف فيه بغير اذن
58

مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك وموضع الدلالة قوله فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا
ورعاءها وفي رواية البخاري فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فقلت كل ما ترى من أجرك
من الإبل والبقر والغنم والرقيق وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن لا يجيز التصرف المذكور بأن هذا
إخبار عن شرع من قبلنا وفي كونه شرعا لنا خلاف مشهور للأصوليين فان قلنا ليس بشرع
لنا فلا حجة وإلا فهو محمول على أنه استأجره بارز في الذمة ولم يسلم إليه بل عرضه عليه فلم
يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقي على ملك المستأجر لان ما في الذمة لا يتعين
إلا بقبض صحيح ثم أن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه
أم للأجير ثم تبرع بما اجتمع منه من الإبل والبقر والغنم والرقيق على الأجير بتراضيهما والله أعلم
كتاب التوبة
أصل التوبة في اللغة الرجوع يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع والمراد بالتوبة هنا الرجوع
عن الذنب وقد سبق في كتاب الايمان أن لها ثلاثة أركان الاقلاع والندم على فعل تلك
المعصية والعزم على أن لا يعود إليها أبدا فان كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع وهو التحلل
من صاحب ذلك الحق وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم واتفقوا على أن التوبة من جميع
المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة
والتوبة من مهمات الاسلام وقواعده المتأكدة ووجوبها عند أهل السنة بالشرع وعند المعتزلة
بالعقل ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلا عند أهل السنة لكنه سبحانه وتعالى
يقبلها كرما وفضلا وعرفنا قبولها بالشرع والاجماع خلافا لهم وإذا تاب من ذنب ثم ذكره
هل يجب تجديد الندم فيه خلاف لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة قال ابن الأنباري يجب وقال
امام الحرمين لا يجب وتصح التوبة من ذنب وإن كان مصرا على ذنب آخر وإذا تاب توبة
59

صحيحة بشروطها ثم عاود ذلك الذنب كتب عليه ذلك الذنب الثاني ولم تبطل توبته هذا مذهب
أهل السنة في المسئلتين وخالفت المعتزلة فيهما قال أصحابنا ولو تكررت التوبة ومعاودة الذنب
صحت ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها وما سواها من أنواع التوبة هل قبولها مقطوع
به أم مظنون فيه خلاف لأهل السنة واختار امام الحرمين أنه مظنون وهو الأصح والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (قال الله تعالى أنا تعالى عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ومن
تقرب إلى شبرا) الخ هذا القدر من الحديث سبق شرحه واضحا في أول كتاب الذكر ووقع في
النسخ هنا حيث يذكرني بالثاء المثلثة ووقع في الأحاديث السابقة هناك حين بالنون وكلاهما
من رواية أبي هريرة وبالنون هو المشهور وكلاهما صحيح ظاهر المعنى قوله صلى الله عليه وسلم (
لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة) قال العلماء فرح الله تعالى هو رضاه
وقال المازري الفرح ينقسم على وجوه منها السرور والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به قال
60

فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة فعبر عن الرضا
بالفرح تأكيد المعنى في نفس السامع ومبالغة في تقريره قوله صلى الله عليه وسلم (في أرض
دوية مهلكة) أما دوية فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال وتشديد الواو والياء جميعا وذكر مسلم
في الرواية التي بعد هذه رواية أبى بكر بن أبي شيبة أرض داوية بزيادة الف وهي بتشديد الياء أيضا
وكلاهما صحيح قال أهل اللغة الدوية الأرض القفر والفلاة والخالية قال الخليل هي المفازة قالوا ويقال
دوية وداوية فأما الدوية فمنسوب إلى الدو بتشديد الواو وهي البرية التي لانبات بها وأما الداوية
فهي على ابدال احدى الواوين ألفا كما قيل في النسب إلى طي طائي وأما المهلكة فهي بفتح الميم وبفتح اللام
وكسرها وهي موضع خوف الهلاك ويقال لها مفازة قيل أنه من قولهم فوز الرجل إذا هلك وقيل
على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ سليم قوله (دخلت على عبد الله أعوده وهو
مريض فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه وحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر حديث عبد الله عن نفسه وقد ذكر البخاري في صحيحه والترمذي
وغيرهما وهو قوله المؤمن يرى ذنوبه كالقاعد تحت جبل يخاف أن يقع والفاجر يرمي
61

ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا قوله في رواية أبى بكر بن أبي شيبة (من رجل بداوية)
هكذا هو في النسخ من رجل بالنون وهو الصواب قال القاضي ووقع في بعضها مر رجل
بالراء وهو تصحيف لأن مقصود مسلم أن يبين الخلاف في دوية وداوية وأما لفظة من فمتفق
عليها في الروايتين ولا معنى للراء هنا قوله (حمل زاده ومزاده) هو بفتح الميم قال القاضي
كأنه اسم جنس للمزادة وهي القربة العظيمة سميت ذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر قوله
(وانسل بعيره) أي ذهب في خفية قوله (فسعى شرفا
فلم ير شيئا) قال القاضي يحتمل أنه
أراد بالشرف هنا الطلق والغلوة كما في الحديث الآخر فاستنت شرفا أو شرفين قال ويحتمل أن
المراد هنا الشرف من الأرض لينظر منه هل يراها قال وهذا أظهر قوله صلى الله عليه وسلم
62

(مر بجذل شجرة) هو بكسر الجيم وفتحها وبالذال المعجمة وهو أصل الشجرة القائم قوله
(قلنا شديدا) أي نراه فرحا شديدا أو يفرح فرحا شديدا قوله (حدثنا يحيى بن يحيى وجعفر
ابن حميد) هكذا صوابه ابن حميد وقد صحف في بعض النسخ قال الحافظ وليس لمسلم في صحيحه
عن جعفر هذا غير هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس من رواية هداب
ابن خالد (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة
هكذا هو في جميع النسخ إذا استيقظ على بعيره وكذا
قال القاضي عياض أنه اتفقت عليه رواة
صحيح مسلم قال قال بعضهم وهو وهم وصوابه إذا سقط على بعيره أي وقع عليه وصادفه من غير
63

قصد قال القاضي وقد جاء الحديث الاخر عن ابن مسعود قال فأرجع إلى المكان الذي كنت
فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وفى كتاب البخاري
فنام نومة فرفع رأسه فإذا راحلته عنده قال القاضي وهذا يصحح رواية استيقظ قال ولكن
وجه الكلام وسياقه يدل على سقط كما رواه البخاري قوله (أضله بأرض فلاة) أي فقده
باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة
قوله (عن محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قاص بالصاد
المهملة المشددة من القصص قال القاضي عياض ورواه بعضهم قاضى بالضاد المعجمة والياء
والوجهان مذكوران فيه ممن ذكرهما البخاري في التاريخ وروى عنه قال كنت قاصا لعمر بن
عبد العزيز وهو أمير بالمدينة قوله (عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت
عنكم شيئا) إنما كتمه أولا مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى وانهما كهم في المعاصي وإنما
64

حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتما للعلم وربما لم يكن أحد يحفظه غيره فتعين عليه أداؤه
وهو نحو قوله في الحديث الآخر فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي خشية الإثم بكتمان العلم
وقد سبق شرحه في كتاب الايمان والله
باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة
وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا
قوله (قطن بن نسير) بضم النون وفتح السين قوله (عن حنظلة الأسيدي) ضبطوه
بوجهين أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الباء المشددة والثاني كذلك الا أنه
باسكان الياء ولم يذكر القاضي الا هذا الثاني وهو منسوب إلى بنى أسيد بطن من بنى تميم قوله
(وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وذكره القاضي
65

عن بعض شيوخهم كذلك وعن أكثرهم وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما
صحيح لكن الأول شهر في الرواية وأظهر في المعنى وقد قال في الرواية التي بعد هذه عن حنظلة
الكاتب قوله (يذكرنا بالنار والجنة كانا رأى عين) قال القاضي ضبطناه رأى عين بالرفع أي
كأنا بحال من يراها بعينه قال ويصح النصب على المصدر أي نراها رأى عين قوله (عافسنا
الأزواج والأولاد والضيعات) هو بالفاء والسين المهملة قال الهروي وغيره معناه حاولنا ذلك
ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا والضيعات جمع ضيعة بالضد المعجمة وهي
معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة وروى الخطابي هذا الحرف عانسنا بالنون قال
ومعناه لاعبنا ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة قال ومعناه عانقنا والأول هو المعروف وهو أعم
قوله (نافق حنظلة) معناه أنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله
عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والاقبال على الآخرة فإذا خرج اشتغل
66

بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون
ذلك نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس منفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك وساعة
وساعة أي ساعة كذا وساعة كذا قوله (فقلت يا وسول الله نافق حنظلة فقال مه) قال
القاضي معناه الاستفهام أي ما تقول والهاء هنا هي هاء السكت قال ويحتمل أنها للكف والزجر
والتعظيم لذلك
67

باب سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه
قوله تعالى (ان رحمتي تغلب غضبى) وفى رواية سبقت رحمتي غضبى قال العلماء غضب الله تعالى
ورضاه يرجعان تالي معنى الإرادة فإرادته الإثابة للمطيع ومنفعة العبد تسمى رضا ورحمة وارادته
عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا وارادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها جميع المرادات
قالوا والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا
كثرا منه قوله صلى الله عليه وسلم (جعل الله الرحمة مائة جزء إلى
آخره) هذه الأحاديث من أحاديث
الرجاء والبشارة للمسلمين قال العلماء لأنه إذا حصل للانسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على
الأكدار الاسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به فكيف الظن بمائة
68

رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء والله أعلم هكذا وقع في نسخ بلادنا جميعا جعل الله
الرحمة مائة جزء وذكر القاضي جعل الله الرحم بحذف الهاء وبضم الراء قال ورويناه بضم الراء
69

ويجوز فتحها ومعناه الرحمة قوله (فإذا امرأة من السبي تبتغى) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم
تبتغى من الابتغاء وهو الطلب قال القاضي عياض وهذا وهم والصواب ما في رواية البخاري تسعى
بالسين من السعي قلت كلاهما صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (في الرجل الذي لم يعمل حسنة أوصى بنيه أن يحرقوه ويذروه في البحر
والبر وقال فوالله لئن قدر على ربى ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا ثم قال في آخره لم فعلت هذا قال
70

من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له) اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة
لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفى قدرة الله فان الشاك في قدرة الله تعالى كافر وقد قال في آخر
الحديث أنه أنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يغفر له قال
هؤلاء فيكون له تأويلان أحدهما أن معناه لئن قدر على العذاب أي قضاه يقال منه قدر
بالتخفيف وقدر بالتشديد بمعنى واحد والثاني أن قدر هنا بمعنى ضيق على قال الله تعالى فقدر
عليه رزقه وهو أحد الأقوال في قوله تعالى فظن أن لن نقدر عليه وقالت طائفة اللفظ على ظاهره
ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في
حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقظه وتدبر ما يقوله فصار في
معنى الغفل والناسي وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح
حين وجد راحلته أنت عبدي وأنا ربك فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو وقد جاء
في هذا الحديث في غير مسلم فلعلي أضل الله أي أغيب عنه وهذا يدل على أن قوله لئن قدر الله
على ظاهره وقالت طائفة هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها يسمونه مزج الشك باليقين
كقوله تعالى وانا أو إياكم لعلى هدى فصورته صورة شك والمراد به اليقين وقالت طائفة هذا
الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة قال القاضي
وممن كفره بذلك ابن جرير الطبري وقاله أبو الحسن الأشعري أولا وقال آخرون لا يكفر
بجهل الصفنة ولا يخرج به عن اسم الايمان بخلاف جحدها واليه رجع أبو الحسن الأشعري وعليه
استقر قوله لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا وشرعا وإنما يكفر من اعتقد أن
71

مقالته حق قال هؤلاء ولو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلا وقالت طائفة كان هذا
الرجل في زمن فترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف فيل ورود الشرع على المذهب الصحيح
لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقالت طائفة يجوز أنه كان في زمن شرعهم فيه
جواز العفو عن الكافر بخلاف شرعنا وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة وإنما منعناه
في شرعنا بالشرع وهو قوله تعالى (ان الله لا يغفر أن يشرك به) وغير ذلك من الأدلة والله أعلم
وقيل إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها لعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم (أسرف رجل على نفسه) أي بالغ وعلا في المعاصي والسرف مجاوزة
الحد قوله إن ابن شهاب ذكر هذا الحديث ثم ذكر حديث المرأة التي دخلت النار وعذبت
بسبب هرة حبستها حتى ماتت جوعا ثم قال ابن شهاب لئلا يتكل ورجل ولا ييأس رجل معناه أن
72

ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم
الرجاء فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء وهذا
معنى قوله لئلا يتكل ولا ييأس وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء
وكذا قال العلماء يستحب للواعظ أن يجمع في موعظته بين الخوف والرجاء لئلا يقنط
أحد ولا يتكل قالوا وليكن التخويف أكثر لأن النفوس إليه أحوج لميلها إلى الرجاء والراحة
والاتكال وإهمال بعض الأعمال وأما حديث الهرة فسبق شرحه في موضعه قوله صلى الله عليه وسلم
(أن رجلا فيمن كان قبلكم راشه الله مالا وولدا) هذه اللفظة رويت بوجهين في صحيح مسلم
أحدهما راشه بألف ساكنة غير مهموزة وبشين معجمة والثاني رأسه بهمزة وسين مهملة قال
القاضي والأول هو الصواب وهو رواية الجمهور ومعناه أعطاه الله مالا وولدا قال ولا وجه
للمهملة هنا وكذا قال غيره ولا وجه له هنا قوله (فانى لم أبتهر عند الله خيرا) هكذا هو
في بعض النسخ ولبعض الرواة أبتئر بهمزة بعد التاء وفى أكثرها لم أبتهر بالهاء وكلاهما صحيح والهاء
مبدلة من الهمزة ومعناهما لم أقدر خيرا ولم أدخره وقد فسرها قتادة في الكتاب وفى رواية لم يبتئر
هكذا هو في جميع النسخ وفى رواية ما امتأر بالميم مهموز أيضا والميم مبدلة من الباء الموحدة
قوله (وان الله يقدر على أن يعذبني) هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا ونقل اتفاق الرواة
73

والنسخ عليه هكذا بتكرير ان وسقطت لفظة ان الثانية في بعض النسخ المعتمدة فعلى هذا
تكون ان الأولى شرطية وتقديره ان قدر الله على عذبني وهو موافق للرواية السابقة وأما
على رواية الجمهور وهي اثبات ان الثانية مع الأولى فاختلف في تقديره فقال القاضي هذا
الكلام فيه تلفيق قال فان أخذ على ظاهره ونصب اسم الله وجعل تقدير في موضع خبر
ان استقام اللفظ وصح المعنى لكنه يصير مخالف لما سبق من كلامه الذي ظاهره الشك في القدرة
قال وقال بعضهم صوابه حذف ان الثانية وتخفيف الأولى ورفع اسم الله تعالى قال وكذا ضبطناه
عن بعضهم هذا كلام القاضي وقيل هو على ظاهره باثبات ان في الموضعين والأولى مشددة
ومعناه ان الله قادر على أن يعذبني ويكون هذا على قول من تأول الرواية الأولى على أنه
أراد بقدر ضيق أو غيره مما ليس فيه نفى حقيقة القدرة ويجوز أن يكون على ظاهره كما ذكر
هذا القائل لكن يكون قوله هنا معناه أن الله قادر على أن يعذبني أن دفنتموني بهيئتي فأما أن
سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر على ويكون جوابه كما سبق وبهذا تجتمع الروايات
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك وربى) هكذا هو في جميع نسخ
صحيح مسلم وربى على القسم ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه أيضا في كتاب مسلم قال وهو
على القسم من المخبر بذلك عنهم لتصحيح خبره وفى صحيح البخاري فأخذ منهم ميثاقا وربى
ففعلوا ذلك به قال بعضهم وهو الصواب قال القاضي بل هما متقاربان في المعنى والقسم قال
وجدته في بعض نسخ صحيح مسلم من غير رواية لأحد من شيوخنا الا للتميمي من طريق ابن
الحذاء ففعلوا ذلك وذرى قال فإن صحت
هذه الرواية فهي وجه الكلام لأنه أمرهم أن يذروه ولعل
الذال سقطت لبعض النساخ وتابعه الباقون هذا كلام القاضي والروايات الثلاث المذكورات
صحيحات المعنى ظاهرات فلا وجه لتغليط شئ منها والله أعلم قوله (فما تلافاه غيرها) أي ما تداركه
74

والتاء فيه زائدة قوله (ان رجلا من الناس رغسه الله مالا وولدا) هو بالغين المعجمة المخففة والسين
المهملة أي أعطاه ما لا وبارك له فيه
باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة
هذه المسألة تقدمت في أول كتاب التوبة وهذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها وأنه لو تكرر الذنب
مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه ولو تاب عن الجميع
توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه اعمل ما شئت فقد غفرت
لك معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها قوله صلى الله
75

عليه وسلم إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ
الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ولا يختص قبولها بوقت وقد سبقت المسألة فبسط اليد استعارة
في قبول التوبة قال المازري المراد به قبول التوبة وإنما ورد لفظ بسط اليد لان العرب إذا رضى
أحدهم الشئ بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بأمر جسى يفهمونه وهو مجاز فان يد
الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى
باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش
قد سبق تفسير غيرة الله تعالى في حديث سعد بن عبادة وفى غيره وسبق بيان لا شئ أغير من الله
76

والغيرة بفتح الغين وهي في حقنا الانفة وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا في حديث عمر والناقد
بقوله صلى الله عليه وسلم وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه أي غيرته منعه وتحريمه قوله صلى
الله عليه وسلم (ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى) حقيقة هذا مصلحة للعباد لأنهم يثنون عليه
سبحانه وتعالى فيثيبهم فينتفعون وهو سبحانه غنى عن العالمين لا ينفعه مدحهم ولا يضره تركهم
ذلك وفيه تنبيه على فضل الثناء سبحانه وتعالى وتسبيحه وتهليله وتحميده وتكبيره وسائر
77

الأذكار قوله صلى الله عليه وسلم (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل من أجل ذلك أنزل
الكتاب وأرسل الرسل) قال القاضي يحتمل أن المراد الاعتذار أي اعتذار العباد إليه من تقصيرهم
وتوبتهم من معاصيهم فيغفر لهم كما قال تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده قوله صلى الله عليه وسلم
78

(والله أشد غيرا) هكذا هو في النسخ غيرا بفتح الغين واسكان الياء منصوب بالألف هو الغيرة
قال أهل اللغة الغيرة والغير والغار بمعنى والله أعلم
باب قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات
قوله في الذي أصاب من امرأة قبلة فأنزل الله فيه (إن الحسنات يذهبن السيئات) إلى آخر الحديث
هذا تصريح بأن الحسنات تكفر السيئات واختلفوا في المراد بالحسنات هنا فنقل الثعلبي أن
أكثر المفسرين على أنها الصلوات الخمس واختاره ابن جرير وغيره من الأئمة وقال مجاهد هي
قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقا
وقد سبق في كتاب الطهارة والصلاة ما يكفر من المعاصي بالصلاة وسبق في مواضع قوله تعالى
وزلفا من الليل هي ساعته ويدخل في صلاة طرفي النهار الصبح والظهر والعصر وفى زلفا من
79

الليل المغرب والعشاء قوله (أصاب منها دون الفاحشة) أي دون الزنا في الفرج قوله
(عالجت امرأة وانى أصبت منها ما دون أن أمسها) معنى عالجها أي تناولها واستمتع بها
والمراد بالمس الجماع ومعناه استمتعت بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع
إلا الجماع قوله صلى الله عليه وسلم (بل للناس كافة) هكذا تستعمل كافة حالا أي كلهم
80

ولا يضاف فيقال كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام وهو معدود في تصحيف العوام ومن
أشبههم قوله (أصبت حدا فأقمه على وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له هل حضرت الصلاة معنا قال نعم قال قد غفر لك) هذا
الحد معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة
ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة فقد أجمع العلماء على أن
المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة
هذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث
وحكى القاضي عن بعضهم أن المراد بالحد المعروف قال وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب
الحد ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه إيثارا للستر بل استحب تلقين الرجوع عن
الاقرار بموجب الحد صريحا
81

باب قبول توبة القاتل وان كثر قتله
قوله صلى الله عليه وسلم (إن رجلا قتل تسعا وتسعين نفسا ثم قتل تمام المائة ثم أفتاه العالم بأن له
توبة) هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدا ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس
وأما ما نفل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة لا أنه يعتقد
بطلان توبته وهذا الحديث ظاهر فيه وهو وإن كان شرعا لمن قبلنا وفى الاحتجاج به خلاف
فليس موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره فان ورد كان شرعا لنا
82

بلا شك وهذا قد ورد شرعنا به وهو قوله تعالى " يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون
إلى قوله إلا من تاب " الآية وأما قوله تعالى " يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها " فالصواب
في معناها أن جزاءه جهنم وقد يجازى به وقد يجازى بغيره وقد لا يجازى بل يعفى عنه فان قتل
عمدا مستحلا له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد به في جهنم بالاجماع وأن كان غير مستحل
بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها لكن بفضل الله تعالى
ثم أخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلا
وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يدخل في النار
فهذا هو الصواب في معنى الآية ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم
ذلك الجزاء وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى
بذلك وقيل إن المراد من قتل مستحلا وقيل وردت الآية في رجل بعينه وقيل المراد بالخلود طول
المدة لا الدوام وقيل معناه هذا جزاؤه أن جازاه وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها
حقيقة لفظ الآية وأما هذا القول فهو شائع على ألسنة كثير من الناس وهو فاسد لأنه يقتضى
أنه إذا عفى عنه خرج عن كونها كانت جزاء وهي جزاء له لكن ترك الله مجازاته عفوا عنه وكرما
فالصواب ما قدمناه والله أعلم قوله (انطلق إلى أرض كذا وكذا فان فيها أناسا يعبدون الله فاعبد
الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) قال العلماء في هذا استحباب مفارقة التائب
المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على
حالهم وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدى
بهم وينتفع بصحبتهم وتتأكد بذلك توبته قوله (وانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت) هو
83

بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها قوله (نأى بصدره) أي نهض ويجوز تقديم الألف على الهمزة وعكسه
وسبق في حديث أصحاب الغار وأما قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذي جعلوه بينهم
بذلك فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلا
ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك
84

باب سعة رحمة الله تعالى على المؤمنين
وفداء كل مسلم بكافر من النار
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة دفع الله تعالى إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول
هذا فكاكك من النار) وفى رواية لا يموت رجل مسلم الا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو
نصرانيا وفي رواية يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم
ويضعها على اليهود والنصارى الفكاك بفتح الفاء وكسرها الفتح أفصح وأشهر وهو الخلاص
والفداء ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار
فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره ومعنى فكاكك من النار أنك
كنت معرضا لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها فإذا دخلها الكفار
بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين وأما رواية يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين
بذنوب فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود
والنصارى مثلها يكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين ولا بد من هذا التأويل
لقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى وقوله ويضعها مجاز والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم
كما ذكرناه لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم
صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الاثم الباقي وهو إثمهم ويحتمل أن يكون
المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى ويوضع
على الكفار مثلها لكونهم سنوها ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها
85

والله أعلم قوله (فاستحلفه عمر بن عبد العزيز أن أباه حدثه) إنما أستحلفه لزيادة الاستيثاق
والطمأنينة ولما حصل له من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين ولأنه إن كان عنده
فيه شك وخوف غلط أو نسيان أو اشتباه أو نحو ذلك أمسك عن اليمين فإذا حلف تحقق انتفاء
هذه الأمور وعرف صحة الحديث وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز والشافعي رحمهما الله أنهما قالا هذا
الحديث أرجى حديث للمسلمين وهو كما قالا لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم وتعميم الفداء
ولله الحمد قوله
صلى الله عليه وسلم (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كتفه
86

فيقرره بذنوبه) إلى آخره أما كنفه فبنون مفتوحة وهو ستره وعفوه والمراد بالدنو هنا دنو كرامة
واحسان لأدنو مسافة والله تعالى منزه عن المسافة وقربها
باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
قوله (ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام)
أي تبايعنا عليه وتعاهدنا وليلة العقبة هي الليلة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار
87

فيها على الاسلام وأن يودوه وينصروه وهي العقبة التي في طرف منى التي يضاف إليها جمرة العقبة
وكانت بيعة العقبة مرتين في سنتين في السنة الأولى وكانوا اثنى عشر وفى الثانية سبعين كلهم من
الأنصار رضي الله عنهم قوله (وان كانت بدر أذكر) أي أشهر عند الناس بالفضيلة قوله (واستقبل
سفرا بعيدا ومفازا) أي برية طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك وشبق قريبا بيان الخلاف في تسميتها
مفازة ومفازا قوله (فجلا للمسلمين أمرهم) هو بتخفيف اللام أي كشفه وبينه وأوضحه وعرفهم ذلك
على وجهه من غير تورية يقال جلوت الشئ كشفته قوله (ليتأهبوا أهبة غزوهم) الأهبة بضم الهمزة
وإسكان الهاء أي ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك قوله فأخبرهم بوجههم أي بمقصدهم
قوله يريد بذلك الديوان) هو بكسر الدال على المشهور وحكى فتحها وهو فارسي معرب وقيل عربي
قوله (فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وخى من الله تعالى) قال القاضي
هكذا هو في جميع نسخ مسلم وصوابه ألا يظن أن ذلك سيخفى له بزيادة الا وكذا رواه البخاري
88

(فأنا إليها أصعر) أي أميل قوله (حتى استمر بالناس الجد) بكسر الجيم قوله (ولم أقض من جهازي
شيئا) بفتح الجيم وكسرها أي أهبة سفري قوله (تفارة الغزو) أي تقدم الغزاته سبقوا وفاتوا
قوله (رجلا مغموصا عليه في النفاق) أي متهما به وهو بالغين المعجمة والصاد المهملة قوله (ولم
يذكرني حتى بلغ تبوكا) هكذا هو في أكثر النسخ تبوكا بالنصب وكذا هو في نسخ البخاري وكأنه
صرفها لإرادة الموضع دون البقعة قوله والنظر في عطفيه أي جانبيه وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه
ولباسه قوله (فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت) هذا دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك في
الباطل وهو من مهمات الآداب وحقوق الاسلام قوله (رأى وجلا مبيضا يزول به السراب) المبيض
89

بكسر الباء هو لابس البياض ويقال هم المبيضة والمسودة بالكسر فيهما أي لابسوا البياض والسواد
ويزول به السراب أي يتحرك وينهض والسراب هو ما يظهر للانسان في الهواجر في البراري
كأنه ماء قوله صلى الله عليه وسلم (كن أبا خيثمة) قيل معناه أنت أبو خيثمة قال ثعلب العرب تقول
كن زيدا أي أنت زيد قال القاضي عياض والأشبه عندي أن كن هنا للتحقق والوجود أي لتوجد
يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب وهو معنى قول صاحب التحرير
تقديره اللهم اجعله أبا
خيثمة وأبو خيثمة هذا اسمه عبد الله بن خيثمة وقيل مالك بن قيس قال بعض
الحفاظ وليس في الصحابة من يكنى أبا خيثمة ألا اثنان أحدهما هذا والثاني عبد الرحمن بن أبي سبرة
الجعفي قوله (لمزه المنافقون) أي عابوه واحتقروه قوله (توجه قافلا) أي راجعا قوله (حضرني
بثي) أي أشد الحزن قوله (قد أظل قادما زاح عنى الباطل) فقوله أظل بالظاء المعجمة أي أقبل
ودنا قدومه كأنه ألقى على ظله وزاح أي زال قوله (فأجمعت صدقه) أي عزمت عليه يقال
90

أجمع أمره وعلى أمره وعزم عليه بمعنى قوله (لقد أعطيت جدلا) أي فصاحة وقوة في الكلام
وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلى إذا أردت قوله (تبسم تبسم المغضب) هو بفتح
الضاد أي الغضبان قوله (ليوشكن) هو بكسر الشين أي ليسر عن قوله (تجد على فيه)
هو بكسر الجيم وتخفيف الدال أي تغضب قوله (انى لأرجو فيه عقبى الله) أي أن بعقبني
خيرا وأن يثبتني عليه قوله (فوالله ما زالوا يؤنبونني) هو بهمز بعد الياء ثم نون ثم موحدة
91

أي يلومونني أشد اللوم قوله (في الرجلين صاحبي كعب هما مرارة بن ربيعة العامري)
هكذا هو في جميع نسخ مسلم العامري وأنكره العلماء وقالوا هو غلط إنما صوابه العمرى
بفتح العين وسكان الميم من بنى عمرو بن عوف وكذا ذكره البخاري وكذا نسبه محمد بن إسحاق
وابن عبد البر وغيرهما من الأئمة قال القاضي هو الصواب وإن كان القابسي قد قال لا أعرفه
إلا العامري فالذي غيره الجمهور أصح وأما قوله مرارة بن ربيعة فكذا وقع في نسخ مسلم وكذا
نقله القاضي عن نسخ مسلم ووقع في البخاري ابن الربيع قال ابن عبد البر يقال بالوجهين ومرارة
بضم الميم وتخفيف الراء المكررة قوله (وهلال بن أمية الواقفي) هو بقاف ثم فاء منسوب
إلى واقف بطن من الأنصار وهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى بن عامر بن كعب
ابن واقف واسم واقف مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس والأنصاري قوله (ونهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة) قال القاضي هو بالرفع وموضعه نصب
على الاختصاص قال سيبويه نقلا عن العرب اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وهذا مثله وفى هذا
هجران أهل البدع والمعاصي قوله (حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي
أعرف) معناه تغير على كل شئ حتى الأرض فإنها توحشت على وصارت كأنها أرض لم أعرفها
لتوحشها على قوله (فأما صاحباي فاستكانا) أي خضعا قوله (أشب القوم وأجلدهم)
92

أي أصغرهم سنا وأقواهم قوله (تسورت جدار حائطا أبى قتادة) معنى تسورته علوته وصعدت
سوره وهو أعلاه وفيه دليل لجواز دخول الانسان بستان صديقه وقريبه الذي يدل عليه ويعرف
أنه لا يكره له ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس له هناك زوجة مكشوفة ونحو ذلك قوله
(فسلمت عليه فوالله ما رد على السلام) لعموم النهى عن كلامهم وفيه أنه لا يسلم على المبتدعة
ونحوهم وفيه أن السلام كلام وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أورد عليه السلام حنث
قوله (أنشدك بالله هو بفتح الهمزة
وضم الشين أي أسألك الله وأصله من النشيد وهو
الصوت قوله (الله ورسوله أعلم) قال القاضي لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه لأنه منهى
عن كلامه وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده الله فقال أبو قتادة مظهرا لاعتقاده لا ليسمعه ولو
حلف رجل لا يكلم رجلا فسأله عن شئ فقال الله أعلم يريد إسماعه وجوابه حنث قوله (نبطي
من نبط أهل الشام) يقال النبط والأنباط والنبيط وهم فلاحو العجم قوله (ولم يجعلك الله
93

بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك) المضيعة فيها لغتان إحداهما كسر الضاد وإسكان الياء
والثانية باسكان الضاد وفتح الياء أي في موضع رحال يضاع فيه حقك وقوله نواسك وفى بعض النسخ
نواسيك بزيادة وهو صحيح أي ونحن نواسيك وقطعه عن جواب الأمر ومعناه نشاركك فيما عندنا
قوله (فتياممت بها التنور فسجرتها) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا وهي لغة في تيممت ومعناهما
قصدت ومعنى سجرتها أي أحرقتها وأنت الضمير لأنه أراد معنى الكتاب وهو الصحيفة قوله
(واستلبث الوحي) أي أبطأ قوله
(فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضى الله
في هذا الأمر) هذا دليل على أن هذا اللفظ ليس صريحا في الطلاق وإنما هو كناية ولم ينو به
94

الطلاق فلم يقع قوله (وأنا رجل شاب) يعنى أنى قادر على خدمة نفسي وأخاف أيضا على
نفسي من حدة الشباب ان أصبت امرأتي وقد نهيت عنها قوله (فكمل لنا خمسون) هو بفتح
الميم وضمها كسرها قوله (وضاقت على الأرض بما رحبت) أي بما اتسعت ومعناه
ضاقت على الأرض مع أنها متسعة والرحب السعة قوله (سمعت صارخا أوفى على سلع) أي
صعده وارتفع عليه وسلع بفتح السين المهملة واسكان اللام وهو جبل بالمدينة معروف قوله
(يا كعب بن مالك أبشر) وقوله (فذهب الناس يبشروننا) فيه دليل لاستحباب التبشير والتهنئة
لمن تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة شديدة ونحو ذلك هذا الاستحباب عام في كل
نعمة حصلت وكربة انكشفت سواء كانت من أمور الدين أو الدنيا قوله (فخررت ساجدا) دليل
للشافعي وموافقيه في استحباب سجود الشكر بكل نعمة ظاهرة حصلت أو نعمة ظاهرة اندفعت
قوله (فآذن الناس) أي أعملهم قوله فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته) فيه استحباب
95

إجازة البشير بخلعة وإلا فبغيرها والخلعة أحسن وهي المعتادة قوله (واستعرت ثوبين فلبستهما)
فيه جواز العارية وجواز إعارة الثوب للبس قوله (فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتلقاني الناس فوجا فوجا) أتأمم أفصد والفوج الجماعة قوله (فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى
صافحني وهنأني) فيه استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراما والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحا
قوله صلى الله عليه وسلم (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) معناه سوى يوم إسلامك
إنما لم يستثنه لأنه معلوم لابد منه قوله (أن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله والى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك بعض مالك فهو
خير لك) معنى أنخلع منه أخرج منه وأتصدق به وفيه استحباب الصدقة شكرا للنعم المتجددة
96

لا سيما ما عظم منها وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الصدقة ببعضه خوفا من تضرره
بالفقر وخوفا أن لا يصبر على الإضاقة ولا يخالف هذا صدقة أبى بكر رضي الله عنه بجميع ماله
فإنه كان صابرا راضيا فان قيل كيف قال أنخلع من مالي فأثبت له مالا مع قوله أولا نزعت ثوبي
والله ما أملك غيرهما فالجواب أن المراد بقوله أن أنخلع من مالي الأرض والعقار ولهذا قال فاني
أمسك سهمي الذي بخيبر وأما قوله ما أملك غيرهما فالمراد به من الثياب ونحوهما مما يخلع ويليق
بالبشير وفيه دليل على تخصيص اليمين بالنية وهو مذهبنا فإذا حلف لا مال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع
آخر من المال أولا يأكل ونوى تمرا لم يحنث بالخبر قوله فوالله ما علمت أحدا من المسلمين
أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني) أي أنعم عليه والبلاء والابلاء يكون في الخير
والشر لكن إذا أطلق كان للشر غالب فإذا أريد الخير قيد كما قيده هنا فقال أحسن مما أبلاني
قوله (والله ما تعمدت كذبة) هي باسكان الذال وكسرها قوله (ما أنعم الله على من نعمة قط بعد
97

إذ هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته
فأهلك) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وكثير من روايات البخاري قال العلماء لفضة لافى قوله
أن لا أكون زائدة ومعناه
أن أكون كذبته كقوله تعالى ما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك وقوله
فأهلك بكسر اللام على الفصيح المشهور وحكى فتحها وهو شاذ ضعيف قوله (وارجاؤه أمرنا)
أي تأخيره قوله (في رواية ابن أخي الزهري عن عمه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن
98

كعب عن عبيد الله بن كعب) كذا قاله في الرواية عبيد الله بضم العين مصغر
وكذا قاله في الرواية التي بعدها رواية معقل بن عبيد الله عن الزهري عن عبد
الرحمن عن عبيد الله بن كعب مصغر وقال قبلهما في رواية يونس المذكور أول الحديث عن
الزهري عن عبد الله بن كعب بفتح العين مكبر وكذا قال في رواية عقيل عن الزهري عن عبد الله
ابن كعب مكبر قال الدارقطني الصواب رواية من قال عبد الله بفتح العين مكبر ولم يذكر البخاري
في الصحيح إلا رواية عبد الله مكبر مع تكراره الحديث قوله
(قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها)
أي أوهم غيرها وأصله من وراء كأنه جعل البيان وراء ظهره قوله (وكان أوعاهم لأحاديث
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أحفظهم قوله (لم يتخلف عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين) المراد بهما غزوة بدر وغزوة تبوك كما صرح به
99

في الرواية الأولى قوله (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير يزيدون على عشرة
آلاف) هكذا وقع هنا زيادة على عشرة آلاف ولم يبين قدرها وقد قال أبو زرعة الرازي
كانوا سبعين ألفا وقال ابن إسحاق كانوا ثلاثين ألفا وهذا أشهر وجمع بينهما بعض الأئمة بأن
أبا زرعة عد التابع والمتبوع وابن إسحق عد المتبوع فقط والله أعلم واعلم أن في حديث كعب
هذا رضي الله عنه فوائد كثيرة إحداها إباحة الغنيمة لهذا الأمة لقوله خرجوا يريدون
عير قريش الثانية فضيلة أهل بدر وأهل العقبة الثالثة جواز الحلف من غير استحلاف في غير
الدعوى عند القاضي الرابعة أنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يورى بغيرها لئلا يسبقه
الجواسيس ونحوهم بالتحذير الا إذا كانت سفرة بعيدة فيستحب أن يعرفهم البعد ليتأهبوا
الخامسة التأسف على ما فات من الخير وتمنى المتأسف أنه كان فعله لقوله فيا ليتني فعلت السادسة
رد غيبة المسلم لقول معاذ بئس ما قلت السابعة فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فان
عاقبته خير وان الصدق يهدى إلى البر والبر يهدى إلى الجنة كما ثبت في الصحيح الثامنة استحباب
صلاة القادم من سفر ركعتين في مسجد محلته أول قدومه قبل كل شئ التاسعة أنه يستحب
للقادم من سفر إذا كان مشهورا يقصده الناس لسلام عليه أن يقعد لهم في مجلس بارز هين
الوصول الله العاشرة الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر وقبول معاذير المنافقين ونحوهم ما لم يترتب
على ذلك مفسدة الحادية عشر استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم
ومقاطعتهم تحقيرا لهم وزجرا الثانية عشر استحباب بكائه على نفسه إذا وقعت منه معصية
الثالثة عشر أن مسارقة النظر في الصلاة والالتفات لا يبطلها الرابعة عشر أن السلام يسمى
كلاما وكذلك رد السلام وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أو رد عليه السلام يحنث
الخامسة عشر وجوب إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مودة الصديق والقريب
وغيرهما كما فعل أبو قتادة حين سلم عليه كعب فلم يرد عليه حين نهى عن كلامه السادسة عشر
100

أنه إذا حلف لا يكلم إنسانا فتكلم ولم يقصد كلامه بل قصد غيره فسمع المحلوف عليه لم يحنث
الحالف لقوله الله أعلم فإنه محمول على أنه لم يقصد كلامه كما سبق السابعة عشر جواز إحراق ورقة
فيها ذكر الله تعالى لمصلحة كما فعل عثمان والصحابة رضي الله عنهم بالمصاحف التي هي غير مصحفة
الذي أجمعت الصحابة عليه وكان ذلك صيانة فهي حاجة وموضع الدلالة من حديث كعب
أنه أحرق الورقة وفيها لم يجعلك الله بدار هون الثامنة عشر إخفاء ما يخاف من إظهاره مفسدة
وإتلاف التاسعة عشر أن قوله لامرأته الحقي بأهلك ليس بصريح طلاق ولا يقع به شئ إذا
لم ينو العشرون جواز خدمة المرأة زوجها برضاها وذلك حائر له بالاجماع فأما الزامها بذلك
فلا الحادية والعشرون استحباب الكنايات في ألفاظ الاستمتاع بالنساء ونحوها الثانية والعشرون
الورع والاحتياط بمجانية ما يخاف منه الوقوع في منهى عنه لأنه لم يستأذن في خدمة امرأته له
وعلل بأنه شاب أي لا يأمن مواقعتها وقد نهى عنها الثالثة والعشرون استحباب سجود الشكر
عند تجدد نعمة ظاهرة أو اندفاع بلية ظاهرة وهو مذهب الشافعي وطائفة وقال أبو حنيفة وطائفة
لا يشرع الرابعة والعشرون استحباب التبشير بالخير الخامسة والعشرون استحباب تهنئة من
رزقه الله خيرا ظاهرا أو صرف عنه شرا ظاهرا السادسة والعشرون استحباب اكرام المبشر
بخلعه أو نحوها السابعة والعشرون أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية فإذا حلف لامال له ونوى
نوعا لم يحنث بنوع من المال غيره وإذا حلف لا يأكل ونوى خبزا لم يحنث باللحم والتمر وسائر
المأكول ولا يحنث الا بذلك النوع وكذلك لو حلف لا يكلم زيدا ونوى كلاما مخصوصا
لم يحنث بتكليمه إياه غير ذلك الكلام المخصوص وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا ودليله من
هذا الحديث قوله في الثوبين والله ما أملك غيرهما ثم قال بعده في ساعة ان من توبتي أن أنخلع
من مالي صدقة ثم قال فأبى أمسك سهمي الذي بخيبر الثامنة والعشرون جواز العارية التاسعة
والعشرون جواز استعارة الثياب للبس الثلاثون استحباب اجتماع الناس عند امامهم وكبيرهم
في الأمور المهمة من بشارة ومشورة وغيرهما الحادية والثلاثون واستحباب القيام للوارد إكراما
له إذا كان من أهل الفضل بأي نوع
كان وقد جاءت به أحاديث جمعتها في جزء مستقل بالترخيص
فيه والجواب عما يظن به مخالفا لذلك الثانية والثلاثون استحباب المصافحة عند التلاقي وهي سنة
بلا خلاف الثالثة والثلاثون استحباب سرور الامام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه
101

الرابعة والثلاثون أنه يستحب لمن حصلت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة ظاهرة أن
يتصدق بشئ صالح من ماله شكرا لله تعالى على إحسانه وقد ذكر أصحابنا أنه يستحب له سجود
الشكر والصدقة جميعا وقد اجتمعا في هذا الحديث الخامسة والثلاثون أنه يستحب لمن خاف
أن لا يصبر على الإضاقة أن لا يتصدق بجميع ماله بل ذلك مكروه له السادسة والثلاثون أنه
يستحب لمن رأى من يريد أن يتصدق بكل ماله ويخاف عليه أن لا يصير على الإضافة أن ينهاه
عن ذلك ويشير عليه ببعضه السابعة والثلاثون أنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ
على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله كما فعل كعب في الصدق والله أعلم
باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف
قوله (حدثنا حبان بن موسى) هو بكسر الحاء وليس له في صحيح مسلم ذكر الا في هذا الموضع
وقد أكثر عنه البخاري في صحيحه قوله (عن الزهري قال حدثني سعيد بن المسيب وعروة
ابن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة إلى قوله وكلهم حدثني
طائفة من الحديث وبعضهم أوعى لحديثها من بعض إلى قوله وبعض حديثهم يصدق بعضا) هذا
الذي ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لأمنع منه ولا كراهة فيه لأنه قد بين أن بعض
الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم وهؤلاء الأربعة أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين فإذا
102

ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو ذاك لم بضر وجاز الاحتجاج بها لأنهما ثقتان
وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيدا أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب
جاز الاحتجاج به قوله (وبعضهم أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا) أي أحفظ
وأحسن إيرادا وسردا للحديث قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا
أقرع بين نسائه) هذا دليل لمالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة
في القسم بين الزوجات وفى العتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة
في الصحيح مشهورة قال أبو عبيد عمل بها ثلاثة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر استعمالها كالاجماع قال ومعنى لقول
من ردها والمشهور عن أبي حنيفة إبطالها وحكى عنه إجازتها قال ابن المنذر وغيره القياس تركها
لكن عملنا بها للآثار وفيه القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن
بغير قرعة هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وآخرون وهو رواية عن مالك وعنه رواية أن له
السفر بمن شاء منهن بلا قرعة لأنها قد تكون أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله
103

قولها (آذن ليلة بالرحيل) روى بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم قولها
(وعقدي من جزع ظفار قد انقطع) أما العقد فمعروف نحو القلادة والجزع بفتح الجيم
واسكان الزاي وهو خرز يماني وأما ظفار فبفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وهي مبنية على
الكسر تقول هذه ظفار ودخلت ظفار والى ظفار بكسر الراء بلا تنوين في الأحوال كلها وهي
قرية في اليمن قولها (وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فحملوا هو دجى فرحلوه على بعيري)
هكذا وقع في أكثر النسخ لي باللام وفى بعض النسخ بي بالباء واللام أجود ويرحلون بفتح
الياء واسكان الراء وفتح الحاء المخففة أي يجعلون الرحل على البعير وهو معنى قولها فرحلوه
بتخفيف الحاء والرهط هم جماعة دون عشرة والهودج بفتح الهاء مركب من مراكب النساء
قولها (وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام)
فقولها يهبلن ضبطوه على أوجه أشهرها ضم الياء وفتح الهاء والباء المشددة أي يثقلن باللحم
والشحم والثاني يهبلن بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينهما والثالث بفتح الياء وضم
الباء الموحدة ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة قال أهل اللغة يقال هبله
اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه وفي رواية البخاري لم يثقلن وهو بمعناه وهو أيضا
المراد بقولها ولم يغشهن اللحم ويأكلن العلقة بضم العين أي القليل ويقال لها أيضا البلغة
104

قولها (فتيممت منزلي) أي قصدته قولها (وكان صفوان بن المعطل) هو بفتح الطاء
بلا خلاف كذا ضبطه أبو هلال العسكري والقاضي في المشارق وآخرون قولها عرس من
وراء الجيش فأدلج) التعريس النزول آخر الليل في السفر لنوم أو استراحة وقال أبو زيد هو
النزول أي وقت كان والمشهور الأول قولها (أدلج) بتشديد الدال وهو سير آخر الليل
قولها (فرأى سواد إنسان) أي شخصه قولها (فاستيقظت باسترجاعه) أي انتبهت من
نومي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون قولها (خمرت وجهي) أي غطيته قولها (نزلوا
موغرين في نحر الظهيرة) الموغر بالغين المعجمة النازل في وقت الوغر بفتح الواو واسكان الغين
وهي شدة الحر كما فسرها في الكتاب في آخر الحديث وذكر هناك أن منهم من رواه موعرين بالعين
المهملة وهو ضعيف ونحر الظهيرة وقت القائلة وشدة الحر قولها (وكان الذي تولى كبره) أي
معظمه وهو بكسر الكاف على القراءة المشهورة وقرئ في الشواذ بضمها وهي لغة قولها (وكان
الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) هكذا صوابه ابن سلول برفع ابن وكتابته بالألف
105

صفة لعبد الله وقد سبق بيانه مرات وتقدم إيضاحه في كتاب الايمان في حديث المقداد مع نظائره قولها
(والناس يفيضون قول أهل الإفك) أي يخوضون فيه والإفك بكسر الهمزة واسكان الفاء هذا هو
المشهور وحكى القاضي فتحهما جميعا قال هما لغتان كنجس ونجس وهو الكذب قولها (وهو يريبني
أنى لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه) يريبني بفتح أوله وضمه
يقال رابه وأرابه إذا أوهمه وشككه واللطف بضم اللام واسكان الطاء ويقال بفتحهما معا لغتان
وهو البر والرفق قولها (ثم يقول كيف تبكم) هي إشارة إلى المؤنثة كذلكم في المذكر قولها
(خرجت بعد ما تفهمت) هو بفتح القاف وكسرها لغتان حكاهما الجوهري في الصحاح وغيره
والفتح أشهر واقتصر عليه جماعة يقال نقه ينقه نقوها فهو ناقة ككلح يكلح كلوحا فهو كالح
ونقه ينقه نقها فهو ناقة كفرح يفرح فرحا والجمع نقه بضم النون وتشديد القاف والناقة هو
الذي أفاق من المرض ويبرأ منه وهو قريب عهد به لم يتراجع إليه كمال صحته قولها (وخرجت
مع أم مسطح قبل المناصع) أما مسطح فبكسر الميم وأما المناصع فبفتحها وهي مواضع
خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها قولها (قبل أن نتخذ الكنف) هي جمع كنيف قال أهل
اللغة الكنيف الساتر مطلقا قولها (وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه) ضبطوا الأول
بوجهين أحدهما ضم الهمزة وتخفيف الواو والثاني الأول بفتح الهمزة وتشديد الواو وكلاهما
106

صحيح والتنزه طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء قولها (وهي بنت أبي رهم وابنها مسطح بن أثاثه)
أما رهم فبضم الراء واسكان الهاء وأثاثه بهمزة مضمومة وثاء مثلثة مكررة ومسطح لقب واسمه
عامر وقيل عوف كنيته أبو عباد وقيل أبو عبد الله توفى سنة سبع وثلاثون وقيل أربع وثلاثون
واسم أم مسطح سلمى قولها (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح) أما عثرت
فبفتح الثاء وأما تعس فبفتح العين وكسرها لغتان مشهوران واقتصر الجوهري على الفتح
والقاضي على الكسر ورجح بعضهم الكسر وبعضهم الفتح ومعناه عثر وقيل هلك وقيل لزمه الشر
وقيل بعد وقيل سقط بوجهه خاضة وأما المرط فبكسر الميم وهو كساء من
صوف وقد يكون من غيره قولها (أي هنتاه) هي باسكان النون وفتحها الاسكان أشهر
قال صاحب نهاية الغريب وتضم الهاء الأخيرة وتسكن ويقال في التثنية هنتان وفى الجمع منات
وهنوات وفى المذكر هن وهنان وهنون ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول ياهنه وأن
تشبع حوكة النون فتصير ألفا فتقول يا هناه ولك ضم الهاء فتقول يا هناه أقبل قالوا وهذه
اللفظة تختص بالنداء ومعناه يا هذه وقيل يا امرأة وقيل يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة
بمكايد الناس وشرورهم ومن المذكور حديث الصبي بن معبد قلت يا هناه أنى حريص على الجهاد
107

والله أعلم قولها (قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها)
الوضيئة مهموزة ممدودة هي الجميلة الحسنة والوضاءة الحسن ووقع في رواية ابن ماهان حظية من
الحظوة وهي الوجاهة وارتفاع المنزلة والضراير جمع ضرة وزوجات الرجل ضراير لأن كل
واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم وغيره والاسم منه الضر بكسر الضاد وحكى ضمها
وقولها ألا كثرن عليها هو بالثاء المثلثة المشددة أي أكثون القول في عيبها ونقصها قولها
(لا يرقأ لي دمع) هو بالهمزة أي لا ينقطع قولها (ولا أكتحل بنوم) أي لا أنام قولها استلبث
الوحي أي أبطأ ولبث ولم ينزل قولها (وأما علي بن أبي طالب فقال لم يضيق الله عليك
والنساء سواها كثير) هذا الذي قاله علي رضي الله عنه هو الصواب في حقه لأنه رآه مصلحة
ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ولم يكن ذلك في نفس الأمر لأنه رأى انزعاج النبي
صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه فأراد راحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره قولها
108

(والذي بعثك بالحق إن رأت عليها أمر اقط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام
عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله) فقولها أغمصه بفتح الهمزة وكسر الميم وبالصاد المهملة أي أعيبها
والداجن الشاة التي تألف البيت ولا تخرج للمرعى ومعنى هذا الكلام أنه ليس فيها شئ مما
تسألون عنه أصلا ولا فيها شئ من غيره الا نومها عن العجين قولها (فقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول) أما أبى منون وابن سلول بالألف وسبق
بيانه وأما استعذر معناه أنه قال من يعذرني فيمن آذاني في أهلي كما بينه في هذا الحديث ومعنى من
يعذرني من يقوم بعذري ان كافأته على قبيح فعاله ولا يلومني وقيل معناه من ينصرني والعذير
الناصر قولها (فقام سعد بن معاذ فقال أنا أعذرك منه) قال القاضي عياض هذا مشكل لم يتكلم
فيه أحد وهو قولها فقام سعد بن معاذ فقال أنا أعذرك منه وكانت هذه القصة في غزوة المريسيع
وهي غزوة بنى المصطلق سنة ست فيما ذكره ابن إسحاق ومعلوم أن سعد بن معاذ مات في اثر
غزاة الخندق من الرمية التي أصابته وذلك سنة أربع باجماع أصحب السير الا شيئا قاله الواقدي
109

وحده قال القاضي قال بعض شيوخنا ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم والأشبه أنه غيره ولهذا
لم يذكر ابن إسحاق في السير وإنما قال إن المتكلم أولا وآخرا أسيد بن حضير قال القاضي
وقد ذكر موسى بن عقبة أن غزوة المريسيع كانت سنة أربع وهي سنة الخندق وقد ذكر البخاري
اختلاف ابن إسحاق وابن عقبة قال القاضي فيحتمل أن غزاة المريسيع وحديث الإفك كانا في
سنة أربع قبل قصة الخندق قال القاضي وقد ذكر الطبري عن الواقدي أن المريسيع كانت
سنة خمس قال وكانت الخندق وقريظة بعدها وذكر القاضي إسماعيل الخلاف في ذلك وقال
الأولى أن يكون المريسيع قبل الخندق قال القاضي وهذا لذكر سعد في هذا لذكر سعد في قصة الإفك وكانت
في المريسيع فعلى هذا يستقيم فيه ذكر سعد بن معاذ وهو الذي في الصحيحين وقول غير ابن إسحاق
في غير وقت المريسيع أصح هذا كلام القاضي وهو صحيح قولها (ولكن اجتهلته الحمية)
هكذا هو هنا لمعظم رواة صحيح مسلم اجتهلته بالجيم والهاء أي استخفته وأغضبته وحملته
على الجهل وفى رواية ابن ماهان هنا احتملته بالحاء والميم وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية
يونس وصالح وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان قولها (فثار الحيان
الأوس والخزرج) أي تناهضوا للنزاع والعصبية كما قالت حتى هموا أن يقتلوا قوله صلى الله عليه
110

وسلم (وان كنت ألممت بذنب فاستغفري الله) معناه ان كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة
وهذا أصل اللمم قولها (قلص دمعي) هو بفتح القاف واللام ارتفع لاستعظام ما يعييني من
الكلام قولها لأبويها (أجيبا عنى) فيه تفويض الكلام إلى الكبار لأنهم أعرف بمقاصده واللائق
بالمواطن منه وأبواها يعرفان حالها وأما قول أبويها لا ندري ما نقول فمعناه أن الأمر الذي
111

سألها عنه لا يقفان منه على زائد ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي من
حسن الظن بها والسرائر إلى الله تعالى قولها (ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه) أي
ما فارقه قولها (فأخذه ما كان يأخذه من البر حاء) هي بضم الموحدة وفتح الراء بالحاء المهملة والمد
وهي الشدة قولها (حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق) معنى ليتحدر لينصب والجمان بضم
الجيم وتخفيف الميم وهو الدر شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء
والحسن قولها (
فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كشف وأزيل قولها (فقالت
لي أمي قومي فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد الا الله هو الذي أنزل براءتي) معناه قالت لها أمها
قومي فاحمديه وقبلي رأسه واشكريه لنعمة الله تعالى التي بشرك فقالت عائشة ما قالت ادلالا
عليه وعتبا لكونهم شكوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وحميل أحوالها وارتفاعها عن
112

هذا الباطل الذي افتراه قوم ظالمون ولا حجة له ولا شبهة فيه قالت وإنما أحمد ربى سبحانه
وتعالى الذي أنزل براءتي وأنعم على بما لم أكن أتوقعه كما قالت ولشأني كان أحقر في نفسي
من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى قوله عز وجل (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) أي
لا يحلفوا والالية اليمين وسبق بيانها قولها (أحمى سمعي وبصرى) أي أصون سمعي
وبصرى من أن أقول سمعت ولم أسمع وأبصرت ولم أبصر قولها وهي التي كانت تساميني
أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها عند النبي صلى الله
عليه وسلم وهي مفاعلة من السمو
وهو الارتفاع قولها (وطفقت أختها حمنة تحارب لها) أي جعلت تتعصب لها
فتحكى ما يقوله أهل الإفك وطفق الرجل بكسر الفاء على المشهور وحكى فتحها وسبق بيانه
113

قوله (ما كشفت من كنف أنثى قط) الكنف هنا بفتح الكاف والنون أي ثوبها الذي يسترها
وهو كناية عن عدم جماع النساء جميعهن ومخالطتهن قوله (وفى حديث يعقوب موعرين)
يعنى بالعين المهملة وسبق بيانه وقوله في تفسير عبد الرزاق الوغرة شدة الحر هي باسكان
الغين وسبق بيانه قوله صلى الله عليه وسلم (أشيروا على في أناس أبنوا أهلي) هو بباء موحدة
114

مفتوحة مخففة ومشددة رووه هنا بالوجهين التخفيف أشهر ومعناه اتهموها والأبن بفتح
الهمزة يقال ابنه يأبنه ويأبنه بضم الباء وكسرها إذا اتهمه ورماه بخلة سوء فهو مأبون قالوا وهو
مشتق من الأبن بضم الهمزة وفتح الباء هي العقد في القسي تفسدها وتعاب بها قوله (حتى
أسقطوا لهابه فقالت سبحان الله) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا أسقطوا لهابه بالباء التي هي
حرف الجر وبهاء ضمير المذكر وكذا نقله القاضي عن رواية الجلودي قال وفى رواية ابن ماهان
لهاتها بالتاء المثناة فوق قال الجمهور
هذا غلط وتصحيف والصواب الأول ومعناه صرحوا لها
بالأمر ولهذا قالت سبحان الله استعظاما لذلك وقيل أتوا بسقط من القول في سؤالها وانتهارها
يقال أسقط وسقط في كلامه إذا أتى فيه بساقط وقيل إذا أخطأ فيه وعلى رواية ابن ماهان إن
صحت معناها أسكتوها وهذا ضعيف لأنها لم تسكت بل قالت سبحان الله والله ما علمت عليها
إلا ما يعلم الصائغ على ثبر الذهب وهي القطعة الخالصة قولها (وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو
115

الذي كان يستوشيه) أي يستخرجه بالبحث والمسألة ثم بفشيه ويشيعه ويحركه ولا ندعه بحمد
والله أعلم واعلم أن في حديث الإفك فوائد كثيرة إحداها جواز رواية الحديث الواحد عن
جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه وهذا وأن كان فعل الزهري وحده فقد أجمع المسلمون علي
قبوله منه والاحتجاج به الثانية صحة القرعة بين النساء وفى العتق وغيره ما ذكرناه في أول الحديث
مع خلاف العلماء الثالثة وجوب الاقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن الرابعة أنه لا يجب
قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلا وحكم القصير حكم
الطويل على المذهب الصحيح وخالف فيه بعض أصحابنا الخامسة جواز سفر الرجل بزوجته
السادسة جواز غزوهن السابعة جواز ركوب النساء في الهوادج الثامنة جواز خدمة الرجال لهن
في تلك الأسفار التاسعة أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير العاشرة جواز خروج المرأة
لحاجة الانسان بغير إذن الزوج وهذا من الأمور المستثناة الحادية عشر جواز لبس النساء
القلائد في السفر كالحضر الثانية عشر أن من يركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن
محرما إلا لحاجة لأنهم حملوا الهودج ولم يكملوا من يظنونها فيه الثالثة عشر فضيلة الاقتصار
في الأكل للنساء وغيرهن وأن لا يكثر منه بحيث يهبله اللحم لأن هذا كان حالهن في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم وما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم فهو الكامل الفاضل المختار الرابعة
عشر جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له عن الجيش إذا لم يكن ضرورة
إلى الاجتماع الخامسة عشر إعانة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار
كما فعل صفوان رضي الله عنه في هذا كله السادسة عشر حسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في
الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام
ولا سؤال وانه ينبغي أن يمشى قدامها لا يجنبها ولا وراءها السابعة عشرا استحباب الإيثار بالركوب
ونحوه كما فعل صفوان الثامنة عشرة استحباب الاسترجاع عند المصائب سواء كانت في الدين
أو الدنيا وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه التاسعة عشر تغطية المرأة وجهها عن نظر
116

الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره العشرون جواز الحلف من غير استحلاف الحادية والعشرون
أنه يستحب أن يستر عن الانسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة
رضي الله عنها هذا الأمر شهرا ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارض عرض وهو قول أم مسطح
تعس مسطح الثانية والعشرون استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة الثالثة
والعشرون أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه لتفطن
هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله الرابعة والعشرون استحباب السؤال عن المريض
الخامسة والعشرون أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة تستأنس
بها ولا يتعرض لها أحد السادسة والعشرون كراهة الانسان صاحبه وقريبه إذا أذى أهل الفضل
أو فعل غير ذلك من القبائح كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه السابعة والعشرون فضيلة أهل
بدر والذب عنهم كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح الثامنة والعشرون أن الزوجة لا تذهب إلى
بيت أبويها ألا باذن زوجها التاسعة والعشرون جواز التعجب بلفظ التسبيح وقد تكرر في هذا
الحديث وغيره الثلاثون استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينويه من الأمور
الحادية والثلاثون جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق أما غيره فهو
منهى عنه وهو تجسس وفضول الثانية والثلاثون خطبة الامام الناس عند نزول أمر مهم الثالثة
والثلاثون اشتكاء ولى الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره واعتذاره
فيما يريد أن يؤذيه به الرابعة والثلاثون فضائل ظاهرة لصفوان بن المعطل رضي الله عنه بشهادة
النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها وحسن أدبه في
جملة القضية الخامسة والثلاثون فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما والسادسة والثلاثون
المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب السابعة والثلاثون قبول التوبة
والحث عليها الثامنة والثلاثون تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف التاسعة
والثلاثون جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ولا خلاف أنه جائز الأربعون استحباب المبادرة
بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو
اندفعت عنه بلية ظاهرة الحادية والأربعون براءة عائشة
رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار
كافرا مرتدا باجماع المسلمين قال ابن عباس وغيره لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه
117

عليهم أجمعين وهذا إكرام من الله تعالى لهم الثانية والأربعون تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النعم
الثالثة والأربعون فضائل لأبى بكر رضي الله عنه في قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم الآية
الرابعة والأربعون استحباب صلة الأرحام وان كانوا مسيئين الخامسة والأربعون العفو والصفح
عن المسئ السادسة والأربعون استحباب الصدقة والانفاق في سبيل الخيرات السابعة
والأربعون أنه يستحب لمن حلف على يمين ورأي خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن
يمينه الثامنة والأربعون فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها التاسعة والأربعون التثبيت
في الشهادة الخمسون إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمة أو أطاعة كما فعلت عائشة رضي الله عنها
بمراعاة حسان واكرامه إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم الحادية والخمسون أن الخطبة
تبتدأ بحمد الله تعالى والثناء بما هو أهله الثانية والخمسون أنه يستحب في الخطب أن يقول
بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والشهادتين أما بعد وقد كثرت فيه
الأحاديث الصحيحة الثالثة والخمسون غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم
بدفع ذلك الرابعة والخمسون جواز سب المتعصب لمبطل كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة
لتعصبه للمنافق وقال إنك منافق تجادل عن المنافقين وأراد أنك تفعل فعل المنافقين ولم يرد
النفاق الحقيقي
باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة
ذكر في الباب حديث أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم فأمر عليا رضي الله عنه
أن يذهب يضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركى وهو البئر فرآه مجبوبا فتركه قيل لعله
118

كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا وكف عنه
علي رضي الله عنه اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا والله أعلم
119

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم
قوله (حتى ينفضوا) أي ينفردوا قال زهير وهي قراءة من خفض حوله يعنى قراءة من يقرأ
من حوله بكسر ميم من وبجر حوله واحترز به عن القراءة الشاذة من حوله بالفتح قوله
(لووا رؤسهم) قرئ في السبع بتشديد الواو وتخفيفها كأنهم خشب بضم الشين وباسكانها
الضم للأكثرين وفى حديث زيد بن أرقم هذا أنه ينبغي لمن سمع أمرا يتعلق بالامام أو نحوه
من كبار ولاة الأمور ويخاف ضرره على المسلمين أن يبلغه إياه ليحترز منه وفيه منقبة لزيد
وأما حديث صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي المنافق وإلباسه قميصه
120

واستغفاره له ونفثه عليه من ريقة فسبق شرحه والمختصر منه أنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا
كله اكراما لابنه وكان صالحا وقد صرح مسلم في رواياته بأن ابنه سأل ذلك ولأنه أيضا من
مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لمن انتسب إلى صحبته وكانت
هذه الصلاة قبل نزول قوله سبحانه وتعالى " على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره "
121

صرح به في هذا الحديث وقيل ألبسه القميص مكافأة بقميص كان ألبسه العباس قوله (قليل
فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم) قال القاضي عياض رحمه الله هذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما
تكون مع السمن قوله تعالى " في المنافقين فئتين " قال أهل العربية معناه أي شئ لكم
في الاختلاف في أمرهم وفئتين معناه فرقتين وهو منصوب عند البصريين على الحال قال سيبويه
إذا قلت مالك قائما معناه لم قمت ونصبته على تقدير أي شئ يحصل لك في هذا الحال وقال الفراء
122

هو منصوب على أنه خبر كان محذوفة فقولك مالك قائما تقديره لم كنت قائما قوله صلى الله عليه
وسلم (في أصحابي اثنا عشر منافقا فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية
منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم) أما قوله صلى
الله عليه وسلم في أصحابي فمعناه الذين ينسبون إلى صحبتي كما قال في الرواية الثانية في أمتي وسم
الخياط بفتح السين وضمها وكسرها الفتح أشهر وبه قرأ القراء السبعة وهو ثقب الإبرة ومعناه
لا يدخلون الجنة أبدا كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا وأما الدبيلة فبدال مهملة ثم باء موحدة
وقد فسرها في الحديث بسراج من نار ومعنى ينجم يظهر ويعلو وهو بضم الجيم وروى تكفيهم
الدبيلة بحذف الكاف الثانية وروى تكفتهم بتاء مشاة فوق بعد الفاء من الكفت وهو الجمع
والستر أي تجمعهم في قبورهم وتسترهم قوله (كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض
ما يكون بين الناس فقال أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة فقال له القوم أخبره إذا سألك قال
كنا نخبر أنهم أربعة عشر فان كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر وأشهد بالله أن اثنى عشر
منهم حرب لله ولرسوله في
الحياة الدنيا يوم يقوم الأشهاد) وهذه العقبة ليست العقبة المشهورة
125

بمنى التي كانت بها بيعة الأنصار رضي الله عنهم وإنما هذه عقبة على طريق تبوك اجتمع المنافقون فيها
للغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فعصمه الله منهم قوله صلى الله عليه
وسلم (من يصعد الثنية ثنية المرار) هكذا هو في الرواية الأولى المرار بضم الميم وتخفيف الراء
وفى الثانية المرار أو المرار بضم الميم أو فتحها على الشك وفى بعض النسخ بضمها أو كسرها
والله أعلم والمرار شجر مر وأصل الثنية الطريق بين جبلين وهذه الثنية عند الحديبية
قال الحازمي قال
ابن إسحاق هي مهبط الحديبية قوله (لأن أجد ضالتي أحب إلى من أن يستغفر لي
صاحبكم قال وكان الرجل ينشد ضالة له) ينشد بفتح الياء وضم الشين أي يسأل عنها قال القاضي
126

قيل هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق قوله (فنبذته الأرض) أي طرحته على وجهها عبرة
للناظرين وقوله (قصم الله عنقه) أي أهلكه قوله (هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب) هكذا هو
في جميع النسخ تدفن بالفاء والنون أي تغيبه عن الناس وتذهب به لشدتها قوله صلى الله عليه وسلم
(بعثت هذه الريح لموت منافق) أي عقوبة له وعلامة لموته وراحة البلاد والعباد. قوله صلى الله
127

عليه وسلم (الراكبين المقفيين) أي الموليين أقفيتهما منصرفين قوله (لرجلين حينئذ من
أصحابه) سماهما من أصحابه لا ظهارهما الاسلام والصحبة لا أنهما ممن نالته فضيلة الصحبة قوله
صلى الله عليه وسلم (مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة والى هذه مرة)
العائرة المترددة الحائرة لا تدرى لأنهما تتبع ومعنى تعير أي تردد وتذهب وقوله في الرواية الثانية
تكر في هذه مرة أي تعطف على هذه وعلى هذه وهو نحوا تعير وهو بكسر الكاف
128

كتاب صفة القيامة والجنة والنار
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزن عند الله جناح بعوضة) أي لا يعدله في القدر والمنزلة أي
لا قدر له وفيه ذم السمن والحبر بفتح الحاء وكسرها والفتح أفصح وهو العالم قوله (إن الله
يمسك السماوات على أصبع والأرضين على أصبع إلى قوله ثم يهزهن) هذا من أحاديث الصفات
وقد سبق فيها المذهبان التأويل والامساك عنه مع الايمان بها مع اعتقاد أن الظاهر غير
مراد فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار أي خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل
والناس يذكرون الإصبع في مثل هذا للمبالغة والاحتقار فيقول أحدهم بإصبعي أقتل زيدا أي
129

لا كلفة على في قتله وقيل يحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته وهذا غير ممتنع والمقصود أن
يد الجارحة مستحيلة قوله (فضحك رسول صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال الحبر تصديقا له
ثم قرأ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)
ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله إن الله تعالى يقبض السماوات
والأرضين والمخلوقات بالأصابع ثم قرأ الآية التي فيها الإشارة إلى نحو ما يقول قال القاضي وقال
بعض المتكلمين ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية تصديقا للحبر بل هو رد
لقوله وانكار وتعجب من سوء اعتقاده فان مذهب اليهود التجسيم ففهم منه ذلك وقوله تصديقا له
130

إنما هو من كلام الراوي على ما فهم والأول أظهر قوله صلى الله عليه وسلم (يطوى الله السماوات
يوم القيامة ثم يأخذ بيده اليمنى ثم يطوى الأرضين بشماله) وفى رواية أن ابن مقسم نظر
إلى ابن عمر كيف يحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله سماواته وأرضيه بيديه ويقول أنا
الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شئ منه قال
131

العلماء المراد بقول يقبض أصابعه ويبسطها النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال إن ابن مقسم
نظر إلى ابن عمر كيف يحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إطلاق اليدين تعالى فمتأول على
القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح
وأوكد في النفوس وذكر اليمين والشمال حتى يتم المثال لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه
ولأن اليمين في حقنا يقوى لما لا يقوى له الشمال ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى
اليمين والأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن
شيئا أخف عليه من شئ ولا أثقل من شئ هذا مختصر كلام المازري في هذا قال القاضي وفى هذا
الحديث ثلاثة ألفاظ يقبض ويطوى ويأخذ كله بمعنى الجمع لأن السماوات مبسوطه والأرضين
مدحوة وممدودة ثم يرجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة وتبديل الأرض غير الأرض والسماوات
فعاد كله إلى ضم بعضها إلى بعض ورفعها وتبديلها تغيرها قال وقبض النبي صلى الله عليه وسلم
أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط والمقبوض
وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه
وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة وقوله في المنبر
(يتحرك من أسفل شئ منه) أي من أسفله إلى أعلاه لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى ويحتمل
132

أن تحركه بحركة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة قال القاضي ويحتمل أن يكون بنفسه
هيبة لسمعه كما حن الجذع ثم قال والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه
الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئا به ولا نشبهه بشئ ليس
كمثله شئ وهو السميع البصير وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه فهو حق وصدق
فما أدركنا علمه فبفضل الله تعالى وما خفى علينا آمنا به ووكلنا علمه إليه سبحانه وتعالى وحملنا
لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه
سبحانه عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى وبالله التوفيق قوله (والشجر والثرى على
إصبع) الثرى هو التراب الندى قوله (بدت نواجذه) بالذال المعجمة أي أنيابه
باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام
قوله صلى الله عليه وسلم (خلق المكروه يوم الثلاثاء) كذا رواه ثابت بن قاسم قال وهو ما يقوم
به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض وكل شئ يقوم به صلاح
شئ فهو تقنه ومنه اتقان الشئ وهو أحكامه قلت ولا منافاة بين الروايتين فكلاهما خلق يوم
133

الثلاثاء قوله صلى الله عليه وسلم (وما خلق النور يوم الأربعاء) كذا هو في صحيح مسلم النور بالراء
وروايات ثابت بن قاسم النون بالنون في آخره قال القاضي وكذا رواه بعض رواة صحيح مسلم
وهو الحوت ولا منافاة أيضا فكلاهما خلق يوم الأربعاء بفتح الهمزة وكسر الباء وفتحها وضمها
ثلاث لغات حكاهن صاحب المحكم وجمعه أربعاوات وحكى أيضا أرابيع
باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة
قوله صلى الله عليه وسلم (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها
علم لأحد) العفراء بالعين المهملة والمد بيضاء إلى حمرة والنقى بفتح النون وكسر القاف وتشديد
الياء هو الدقيق الحورى وهو الدرمك وهو الأرض الجيدة قال القاضي كأن النار غيرت بياض
وجه الأرض إلى الحمرة قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيها علم لأحد) هو بفتح العين واللام
أي ليس بها علامة سكنى أو بناء ولا أثر
134

باب نزل أهل الجنة
قوله صلى الله عليه وسلم (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما
يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة) أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز
اسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء قال أهل اللغة هي الظلمة
التي توضع في الملة ويكفأها بالهمزة وروى في غير مسلم يتكفأها بالهمز أيضا وخبزة المسافر هي
التي يجعلها في الملة ويتكفأها بيديه أي يميلها من يد إلى حتى تجتمع وتستوي لأنها ليست منبسطة
كالرقاقة ونحوها وقد سبق الكلام في اليد في حق الله تعالى وتأويلها قريبا مع القطع باستحالة
الجارحة ليس كمثله شئ ومعنى الحديث أن الله تعالى يجعل الأرض كالظلمة والرغيف العظيم ويكون
ذلك طعاما نزلا لأهل الجنة والله على كل شئ قدير قوله (إدامهم بالام ونون قالوا وما هذا قال ثور ونون
يأكل من زائد كبدهما سبعون ألفا) أما النون فهو الحوت باتفاق العلماء وأما بالام فبباء
135

موحدة مفتوحة وبتخفيف اللام وميم مرفوعة غير منونة وفى معناها أقوال مضطربة الصحيح
منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور وفسره
بهذا ولهذا سألوا اليهودي عن تفسيرها ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها
فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة وقال الخطابي لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء
وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لا ألف وياء يريد لأي على وزن لعا وهو الثور الوحشي
فصحف الراوي الياء المثناة فجعلها موحدة قال الخطابي هذا أقرب ما يقع فيه والله أعلم وأما
زائدة الكبد وهي القطعة المنفردة المتعلقة في الكبد وهي أطيبها وأما قوله يأكل منها سبعون ألفا
فقال القاضي يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب فخصوا بأطيب النزل
ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر وهذا معروف
في كلام العرب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لو بايعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها
يهودي إلا أسلم) قال صاحب التحرير المراد عشرة من أحبارهم
باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح
وقوله تعالى " يسألونك عن الروح "
قوله (كنت أمشى مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب) فقوله في
136

حرث بثاء مثلثة وهو موضع الزرع وهو مراده بقوله في الرواية الأخرى في نخل واتفقت نسخ
صحيح مسلم على أنه حرث بالثاء المثلثة وكذا رواه البخاري في مواضع ورواه في أول الكتاب
في باب وما أوتيتم من العلم إلا قليلا خرب بالباء الموحدة والخاء المعجبة جمع خراب قال العلماء
الأول أصوب وللآخر وجه ويجوز أن يكون الموضع فيه الوصفان وأما العسيب فهو جريدة
النخل وقوله (متكئ عليه) أي معتمد قوله (سلوه عن الروح فقالوا ما رابكم إليه
لا يستقبلكم بشئ تكرهونه) هكذا في جميع النسخ ما رابكم إليه أي ما دعاكم إلى سؤاله أو
ما شككم فيه حتى احتجتم إلى سؤاله أو ما دعاكم إلى سؤال تخشون سوء عقباه قوله (فأسكت النبي
صلى الله عليه وسلم) أي سكت وقيل أطرق وقيل أعرض عنه قوله (فلما نزل الوحي قال
يسئلونك عن الروح) وكذا ذكره البخاري في أكثر أبوابه قال القاضي وهو وهم وصوابه
ما سبق في رواية ابن ماهان فلما انجلى عنه وكذا رواه البخاري في موضع وفى موضع
فلما صعد الوحي وقال وهذا وجه الكلام لأنه قد ذكر قبل ذلك نزول الوحي عليه قلت
وكل الروايات صحيحة ومعنى رواية مسلم أنه لما نزل الوحي وتم نزل قوله تعالى " الروح
من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " هكذا هو في بعض النسخ أوتيتم على وفق
القراءة المشهورة وفى أكثر نسخ البخاري ومسلم وما أوتوا من العلم إلا قليلا قال المازري
الكلام في الروح والنفس مما يغمض ويدق ومع هذا فأكثر الناس فيه الكلام وألفوا
137

فيه التآليف قال أبو الحسن الأشعري هو النفس الداخل والخارج وقال ابن الباقلاني هو متردد
بين هذا الذي قاله الأشعري وبين الحياة وقيل هو جسم لطيف مشارك للأجسام الظاهرة
والأعضاء الظاهرة وقال بعضهم لا يعلم الروح إلا الله تعالى لقوله تعالى قل الروح من أمر ربى وقال
الجمهور هي معلومة واختلفوا فيها على هذه الأقوال وقيل هي الدم وقيل غير ذلك وليس في الآية
دليل على أنها لاتعلم ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها وإنما أجاب بما في الآية الكريمة
138

لأنه كان عندهم أنه أجاب بتفسير الروح فليس بنبي وفى الروح لغتان التذكير والتأنيث والله
أعلم قوله (كنت قينا في الجاهلية) أي حدادا
باب قوله تعالى إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى
قوله (هل يعفر محمد وجهه) أي يسجد ويلصق وجهه بالعفر وهو التراب قوله (فما
139

فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه) أما فجئهم فبكسر الجين ويقال أيضا فجأهم لغتان
وينكص بكسر الكاف رجع على عقيبه يمشى على ورائه قوله (ان بيني وبينه لخندقا
من نار وهو لا وأجنحة كأجنحة الملائكة) ولهذا الحديث أمثله كثيرة في عصمته صلى
الله عليه وسلم من أبى جهل وغيره ممن أراد به ضررا قال الله تعالى والله يعصمك من الناس وهذه
الآية نزلت تعد الهجرة والله أعلم
باب الدخان
قوله (ان قاصا عند أبواب كنودة) هو باب بالكوفة قوله (فأخذتهم سنة حصت كل شئ)
140

السنة القحط والجدب ومنه قوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين وحصت بحاء وصاد مشددة
مهملتين أي استأصلته قوله (أفيكشف عذاب الآخرة) هذا استفهام انكار على من يقول إن الدخان
يكون يوم القيامة كما صرح به في الرواية الثانية فقال ابن مسعود هذا قول باطل لأن الله تعالى قال
" كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " ومعلوم أن كشف العذاب ثم عودهم لا يكون في الآخرة إنما هو
141

في الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم (كسني يوسف) بتخفيف الياء قوله (فأصابهم قحط وجهد)
بفتح الجيم أي مشقة شديدة وحكى ضمها قوله (فقال يا رسول الله استغفر الله لمضر) هكذا وقع
في جميع نسخ مسلم استغفر الله لمضر وفى البخاري استسق الله لمضر قال القاضي قال بعضهم استسق
هو الصواب اللائق بالحال لأنهم كفار لا يدعى لهم بالمغفرة قلت كلاهما صحيح فمعنى استسق
اطلب لهم المطر والسقيا ومعنى استغفر ادع لهم بالهداية التي يترتب عليها الاستغفار قوله
142

(مضت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم) وفسرها كلها في الكتاب إلا اللزام والمراد به
قوله سبحانه وتعالى يكون لزاما أي يكون عذابهم لازما قالوا وهو ما جرى عليهم يوم
بدر من القتل والأسر وهي البطشة الكبرى
باب انشقاق القمر
قال القاضي انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وقد رواها عدة من
الصحابة رضي الله عنهم مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها قال الزجاج وقد أنكرها بعض المبتدعة
المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى الله قلبه ولا إنكار للعقل وفيها لأن القمر مخلوق لله تعالى
يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره وأما قول بعصر الملاحدة لو وقع هذا لنقل
متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل أهل مكة فأجاب العلماء بأن هذا
143

الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم متغطون بثيابهم فقل
من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر
وغيره من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء في
الليل يقع ولا يتحدث بها إلا الآحاد ولا علم عند غيرهم لما ذكرناه وكان هذا الانشقاق
آية حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتنبه غيرهم لها قالوا وقد يكون
القمر كان حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض كما يكون
ظاهرا لقوم غائبا عن قوم كما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم. قوله
144

(وحدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدى كلاهما عن شعبة باسناد ابن معاذ) هكذا هو
في عامة النسخ باسناد ابن معاذ وفى بعضها باسنادي معاذ قال القاضي وغير هذا أشبه بالصحة
لأنه ذكر لمعاذ إسنادين فبل هذا والأول أيضا صحيح لأن الاسنادين من رواية ابن معاذ عن أبيه
145

باب في الكفار
قال صلى الله عليه وسلم (لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وحل انه يشرك به ويجعل له
الولد ثم يعافيهم ويرزقهم) قال العلماء معناه أن الله تعالى واسع الحلم حتى على الكافر الذي يكسب
إليه الولد والند قال المازري حقيقة الصبر منع النفس من الانتقام أو غيره فالصبر نتيجة الامتناع
فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى لذلك قال القاضي والصبور من أسماء الله تعالى
وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو بمعنى الحليم في أسمائه سبحانه وتعالى والحليم هو الصفوح
مع القدرة على الانتقام
146

باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهبا
قوله صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو كانت لك الدنيا
وما فيها أكنت مفتديا بها فيقول نعم فيقول قد أردت منكم أهون من هذا وأنت في صلب آدم
أن لا تشرك إلى قوله فأبيت الا الشرك) وفى رواية فيقال قد سئلت أيسر من ذلك وفى
رواية فيقال كذبت قد سئلت أيسر من ذلك المراد بأردت في الرواية الأولى طلبت منك
وأمرتك وقد أوضحه في الروايتين الأخيرتين بقوله قد سئلت أيسر فيتعين تأويل أردت على ذلك
جمعا بين الروايات لأنه يستحيل عند أهل الحق أن الله تعالى شيئا فلا يقع ومذهب أهل
الحق أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات خيرها وسرها ومنها الايمان والكفر فهو سبحانه وتعالى
مريد لايمان المؤمن ومريد لكفر الكافر خلافا للمعتزلة في قولهم إنه أراد إيمان الكافر ولم يرد
كفره تعالى الله عن قولهم الباطل فإنه يلزم من قولهم اثبات العجز في حقه سبحانه وأنه وقع
147

في ملكه ما لم يرده وأما هذا الحديث فقد بينا تأويله وأما قوله فيقال له كذبت فالظاهر أن
معناه أن يقال لو رددناك إلى الدنيا وكانت لك كلها أكنت تفتدي بها فيقول نعم فيقال له
كذبت قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت ويكون هذا من معنى قوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما
نهوا عنه و بد من هذا التأويل ليجمع بينه وبين قوله تعالى " أن للذين ظلموا ما في الأرض
جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة " أي لو كان لهم يوم القيامة ما في الأرض
جميعا ومثله معه وأمكنهم الافتداء لافتدوا وفى هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يقول
الانسان الله يقول وقد أنكره بعض السلف وقال يكره أن يقول الله وإنما يقال قال الله
وقد قدمنا فساد هذا المذهب وبينا أن الصواب جوازه وبه قال عامة العلماء من السلف والخلف
وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى والله يقول الحق وفى الصحيحين أحاديث كثيرة مثل هذا
والله أعلم
148

قوله صلى الله عليه وسلم (فيصبغ في النار صبغة) الصبغة بفتح الصاد أي يغمس غمسة
والبؤس بالهمزة هو الشدة والله أعلم
باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة
وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا
قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة)
149

وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة
يجزى بها وفى رواية ان الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا وأما المؤمن فان
الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته أجمع العلماء على أن
الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة ولا يجازى فيها بشئ من عمله في الدنيا
متقربا إلى الله تعالى وصرح في هذا الحديث بأن يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات أي
بما فعله متقربا إلى الله تعالى مما لا يفتقر صحته إلى النية كصلة الرحم والصدقة والعتق
والضيافة وتسهيل الخيرات ونحوها وأما المؤمن فيدخر له حسناته وثواب أعماله إلى الآخرة
ويجزى بها مع ذلك أيضا في الدنيا ولامانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة وقد ورد
الشرع به فيجب اعتقاده قوله إن الله تعالى لا يظلم مؤمنا حسنة معناه لا يترك مجازاته
بشئ من حسناته والظلم يطلق بمعنى النقص وحقيقة الظلم مستحيلة من الله تعالى كما بيق
بيانه ومعنى أفضى إلى الآخرة صار إليها وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم فإنه يثاب
عليها في الآخرة على المذهب الصحيح وقد سبقت المسألة في كتاب الايمان
150

باب مثل المؤمن كالزرع والمنافق والكافر كالأرزة
قوله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمن مثل الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء
ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد) وفى رواية مثل المؤمن كمثل الخامة من
الزرع تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى تهيج ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على
أصلها لا يفيئها شئ حتى يكون انجعافها مرة واحدة أما الخامة فبالخاء المعجبة وتخفيف الميم وهي
الطاقة والقصبة اللينة من الزرع وألفها منقلبة عن واو وأما
تميلها وتفيئها فمعنى واحد ومعناه
تقلبها الريح يمينا وشمالا ومعنى تصرعها تخفضها وتعدلها بفتح التاء وكسر الدال أي ترفعها ومعنى
تهيج تيبس وقوله صلى الله عليه وسلم تستحصد بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطناه وكذا
نقله القاضي عن رواية الأكثرين وعن بعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله والأول
151

أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يبسه وأما الأرزة فبفتح الهمزة
وراء ساكنة ثم زاي هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب
وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب أنها تقال أيضا بفتح الراء قال في النهاية وقال بعضهم هي
الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة وأنكرها أبو عبيد وقد قال أهل اللغة الآرزة
152

بالمد هي الثابتة وهذا المعنى صحيح هنا فانكار أبى عبيد محمول على انكار روايتها كذلك
لا انكار لصحة معناها قال أهل اللغة والغريب شجر معروف يقال له الأرزن يشبه
شجر الصنوبر بفتح الصاد يكون بالشام وبلاد الأرمن وقيل هو الصنوبر وأما المجذبة
فبميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة وهي الثابتة المنتصبة يقال منه
جذب يجذب وأجذب يجذب والانجعاف الانقلاع قال العلماء معنى الحديث أن المؤمن كثير
الآلام في بدنه أو أهله أو ماله وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته وأما الكافر فقليلها وان
وقع به شئ لم يكفر شيئا من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة
باب مثل المؤمن مثل النخلة
قوله صلى الله عليه وسلم (ان من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وانها مثل المسلم فحدثوني
ما هي فوقع الناس في شجرة البوادي قال عبد الله بن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت
ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله فقال هي النخلة قال فذكرت ذلك لعمر قال لان تكون
قلت هي النخلة أحب إلى من كذا وكذا) أما قوله لأن تكون فهو بفتح اللام ووقع في بعض
153

النسخ البوادي وفي بعضها البواد بحذف الياء وهي لغة وفى هذا الحديث فوائد منها استحباب
القاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم ويرغبهم في الفكر والاعتناء وفيه ضرب الأمثال
والأشباه وفيه توقير الكبار كما فعل ابن عمر لكن إذا لم يعرف الكبار المسألة فينبغي للصغير
الذي يعرفها أن يقولها وفيه سرور الانسان بنجابة ولده وحسن فهمه وقول عمر رضي الله عنه
لأن تكون قلت هي النخلة أحب إلى أزاد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه
ويعلم حسن فهمه ونجابته وفيه فضل النخل قال العلماء وشبه النخلة بالمسلم في كثرة خيرها ودوام
ظلها وطيب ثمرها ووجوده على الدوام فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس وبعد
أن ييبس يتخذ منه منافع كثيرة ومن خشبها وورقها وأغصانها فيستعمل جذوعا وحطبا وعصيا
ومخاصر وحصرا وحبالا وأواني وغير ذلك ثم آخر شئ منها نواها وينتفع به علفا للإبل ثم جمال
نباتها وحسن هيئة ثمرها فهي منافع كلها وخير وجمال كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته
ومكارم أخلاقه ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات
وغير ذلك فهذا هو الصحيح في وجه الشبيه قيل وجه الشبه أنه إذا قطع رأسها ماتت بخلاف
باقي الشجر وقيل لأنها لا تحمل حتى تلقح والله أعلم قوله (فوقع الناس في شجر البوادي) أي
ذهبت أفكارهم إلى أشجار البوادي وكان كل انسان يفسرها بنوع من أنواع شجر البوادي
وذهلوا عن النخلة قوله (قال ابن عمر وألقى في نفسي أو روعى أنها النخلة فجعلت أريد أن
154

أقوالها فإذا
أسنان القوم فأهاب أن أتكلم) الروع هنا بضم الراء وهو النفس والقلب والخلد وأسنان القوم يعنى كبارهم وشيوخهم قوله (فأتى بحمار) هو بضم الجيم وتشديد الميم وهو الذي
يؤكل من قلب النخل يكون لينا قوله (حدثنا سيف قال سمعت مجاهد (هكذا صوابه سيف
قال القاضي ووقع في نسخة سفيان وهو غلط بل هو سيف قال البخاري وكيع يقول هو سيف
أبو سليمان وابن المبارك يقول سيف بن أبي سليمان ويحيى بن القطان يقول سيف بن سليمان قوله
صلى الله عليه وسلم (لا يتحات ورقها) أي لا يتناثر ويتساقط قوله لا يتحات ورقها قال إبراهيم
لعل مسلما قال وتؤتى وكذا وجدت عند غيري أيضا ولا تؤتى أكلها كل حين معنى هذا أنه وقع في
رواية إبراهيم بن سفيان صاحب مسلم ورواية غيره أيضا من مسلم لايتحات ورقها ولا تؤتى أكلها كل
حين واستشكل إبراهيم بن سفيان هذا لقوله ولا تؤتى أكلها خلاف باقي الروايات فقال لعل مسلما
رواه وتؤتى باسقاط لا وأكون أنا وغيري غلطنا في اثبات لا قال القاضي وغيره من الأئمة وليس
155

هو بغلط كما توهمه إبراهيم بل الذي في مسلم صحيح باثبات لا وكذا رواه البخاري باثبات لا ووجهه
أن لفظة لا ليست متعلقة بؤتى بل متعلقة بمحذوف تقديره لايتحات ورقها ولا مكرر أي لا يصيبها
كذا ولا كذا لكن لم يذكر الرواة تلك الأشياء المعطوفة ثم ابتدأ فقال تؤتى أكلها كل حين
باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس
وأن مع كل انسان قرينا
قوله صلى الله عليه وسلم (ان الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن
في التحريش بينهم) هذا الحديث من معجزات النبوة وقد سبق بيان جزيرة العرب ومعناه
أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء
والحروب والفتن ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم (ان عرش إبليس على البحر يبعث سراياه
156

يفتنون الناس) العرش هو سرير الملك ومعناه أن مركزه البحر ومنه يبعث سراياه في نواحي
الأرض قوله (فيدنيه منه ويقول نعم ويقول نعم أنت) هو بكسر النون واسكان العين وهي نعم الموضوعة
للمدح فيمدحه لاعجابه بصنعه وبلوغه الغاية التي أرادها قوله (فيلتزمه) أي يضمه إلى نفسه
ويعانقه قوله صلى الله عليه وسلم (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا
وإياك قال وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) فأسلم برفع الميم وفتحها وهما
روايتان مشهورتان فمن رفع قال معناه أسلم أنا من شره وفتنته ومن فتح قال إن القرين أسلم من الاسلام
وصار مؤمنا لا يأمرني إلا بخير واختلفوا في الأرجح منهما فقال الخطابي الصحيح المختار الرفع ورجح
157

القاضي عياض الفتح وهو المختار لقوله صلى الله عليه وسلم فلا يأمرني الا بخير واختلفوا على رواية
الفتح قبل أسلم بمعنى استسلم وانقاد وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم فاستسلم وقيل معناه صار
مسلما مؤمنا وهذا هو الظاهر قال القاضي واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه
وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه وفى هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين
ووسوسته وإغوائه فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الامكان قوله (حدثنا ابن وهب قال
أخبرني أبو صخر عن ابن قسيط) هو بضم القاف وفتح السين المهملة واسكان الياء واسمه
يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي المدني أبو عبد التابعي واسم أبى صخر هذا حميد
ابن زياد الخراط المدني سكن مصر والله أعلم
158

باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى
قوله صلى الله عليه وسلم (لن ينجى أحدا منكم عمله قال رجل ولا إياك يا رسول الله قال ولا إياي
الا أن يتغمدني الله منه برحمة ولكن سددوا) وفى رواية برحمة منه وفضل وفى رواية بمغفرة
ورحمة وفى رواية الا أن يتداركني الله منه برحمة اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل
ثواب ولا عقاب ولا إيجاب ولا تحريم ولاغيرها من أنواع التكليف ولا تثبت هذه كلها ولا
159

غيرها الا بالشرع ومذهب أهل السنة أيضا أن الله تعالى لا يحب عليه شئ تعالى الله بل العالم
ملكه والدنيا والآخرة في سلطانه يفعل فيهما ما يشاء فلوا عذب المطيعين والصالحين أجمعين
وأدخلهم النار كان عدلا منه وإذا أكرمهم ونعمهم وأدخلهم الجنة فهو فضل منه ولو نعم
الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك ولكنه أخبر وخبره صدق أنه لا يفعل هذا بل يغفر
للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب المنافقين ويخلدهم في النار عدلا منه وأما المعتزلة فيثبتون
الأحكام بالعقل ويوجبون ثواب الأعمال ويوجبون الأصلح ويمنعون خلاف هذا في خبط
طويل لهم تعالى الله عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع وفى ظاهر هذه الأحاديث
دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته وأما قوله تعالى ادخلوا الجنة بما
160

كنتم تعملون وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ونحوها من الآيات الدالة على أن
الأعمال يدخل بها فلا يعرض هذه الأحاديث بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب
الأعمال ثم التوفيق للأعمال والهداية للاخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضيلة فيصح أنه لم
يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث ويصح أنه دخل بالأعمال أي بسببها وهي من الرحمة
والله أعلم ومعنى يتغمدني برحمته يلبسنيها ويغمدني بها ومنه أغمدت السيف وغمدته إذا جعلته
161

في غمده وسترته به ومعنى سددوا وقاربوا اطلبوا السداد واعملوا به وان عجزتم عنه فقاربوه
اقربوا منه والسداد الصواب وهو بين الافراط والتفريط فلا تغلوا ولا تفصروا
باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة
قوله (ان صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له أتكلف هذا وقد غفر الله
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا) وفى رواية حتى تفطرت رجلاه
معنى تفطرت تشققت قالوا ومنه فطر الصائم وأفطره لأنه خرق صومه وشقه قال القاضي الشكر
معرفة احسان المحسن والتحدث به وسميت المجازاة على فعل الجميل شكرا لأنها تتضمن الثناء عليه
وشكر العبد الله تعالى اعترافه بنعمه وثناؤه عليه وتمام مواظبته على طاعته وأما شكر الله تعالى
162

أفعال عباده فمجازاته إياهم عليها وتضعيف ثوابها وثناؤه بما أنعم به عليهم فهو المعطى والمثنى
سبحانه والشكور من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى والله أعلم
باب الاقتصاد في الموعظة
قوله (ما يمنعني أن أخرج عليكم الاكراهية أن أملكم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا
بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا) السآمة بالمد الملل وقوله أملكم بضم الهمزة أي أوقعكم في الملل
163

وهو الضجر وأما الكراهية فبتخفيف الياء ومعنى يتخولنا يتعاهدنا هذا هو المشهور في تفسيرها قال
القاضي وقيل يصلحنا وقال ابن الأعرابي معناه يتخذنا خولا وقيل يفاجئنا بها وقال أبو عبيد يدللنا
وقيل يحبسنا كما يحبس الانسان خوله وهو يتخولنا بالخاء المعجمة عند جميعهم إلا أبا عمر وفقال هي
بالمهملة أي يطلب حالتهم وأوقات نشاطهم وفى هذا الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها
164

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها
قوله صلى الله عليه وسلم (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) هكذا رواه مسلم حفت
ووقع في البخاري حفت ووقع فيه أيضا حجبت وكلاهما صحيح قال العلماء هذا من بديع
الكلام وفصيحه وجوامعه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن ومعناه لا يوصل الجنة
إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل
إلى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات فأما المكاره
فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو
والحلم والصدقة والاحسان إلى المسئ والصبر عن الشهوات ونحو ذلك وأما الشهوات التي النار
محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية والغيبة واستعمال
الملاهي ونحو ذلك وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه لكن يكره الاكثار منها مخافة
أن يجر إلى المحرمة أو يقسى القلب أو يشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا
165

للصرف فيها ونحو ذلك قوله عز وجل (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه) وفى بعض النسخ أطلعتكم عليه هكذا
هو في رواية أبى بكر بن أبي شيبة ذخرا في جميع النسخ وأما رواية هارون ين سعيد الأيلي
المذكورة قبلها ففيها ذكر في بعض النسخ وذخرا كالأول في بعضها قال القاضي هذه رواية
الأكثرين وهو أبين كالرواية الأخرى قال والأولى رواية الفارسي فأما بله فبفتح الباء الموحدة
واسكان اللام ومعناه دع عنك ما أطلعكم عليه فالذي لم يطلعكم عليه أعظم وكأنه اضرب عنه
استقلالا له في جنب ما لم يطلع عليه وقيل معناها غير وقيل معناها كيف. قوله صلى الله عليه وسلم
166

(ان في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها) وفى رواية يسير الراكب
الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها قال العلماء والمراد بظلها كنفها وذراها وهو ما يستر
أغصانها والمضمر بفتح الضاد والميم المشددة الذي ضمر ليشتد جريه وسبق في كتاب الجهاد
صفة التضمير قال القاضي ورواه بعضهم المضمر بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه
167

والمعروف هو الأول قوله تعالى (أحل عليكم رضواني) قال القاضي في المشارق أنزله بكم والرضوان
بكسر الراء وضمها قرئ بهما في السبع والكوكب الدري فيه ثلاث لغات قرئ بهن في السبع
الأكثرون بضم الدال وتشديد الياء بلا همز والثانية بضم الدال مهموز ممدود والثالثة بكسر
الدال مهموز ممدود العظيم قبل سمى دريا لبياضه كالدر وقيل لاضلعته وقيل لشبهه
بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر قوله صلى الله عليه وسلم (أن أهل الجنة
168

ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب
لتفاضل ما بينهم) هكذا هو في عامة النسخ من الأفق قال القاضي لفظة من لابتداء الغاية ووقع
في رواية البخاري في الأفق قال بعضهم وهو الصواب قال وذكر بعضهم أن من في رواية مسلم
لانتهاء الغاية وقد جاءت كذلك كقولهم رأيت الهلال من خلل السحاب قال القاضي وهذا صحيح
ولكن حملهم لفظة من هنا على انتهاء الغاية غير مسلم بل هي على بابها أي كان ابتداء
رؤيته إياه رؤيته من خلل السحاب ومن
الأفق قال وقد جاء في رواية عن ابن ماهان على الأفق الغربي ومعنى
الغابر الذاهب الماشي أي الذي تدلى للغروب وبعد عن العيون وروى في غير صحيح مسلم الغارب
بتقديم الراء وهو بمعنى ما ذكرناه وروى العازب بالعين المهملة والزاي ومعناه البعيد في الأفق
169

وكلها راجعة إلى معنى واحد قوله صلى الله عليه وسلم (ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فنهب
ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا) المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون
كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق ومعنى يأتونها كل جمعة أي أسبوع وليس
هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار والسوق يذكر ويؤنث وهو أفصح وريح
الشمال بفتح الشين والميم بغير همزة هكذا الرواية قال صاحب العين هي الشمال والشمال باسكان
الميم مهموز والشأملة بهمزة قبل الميم والشمل
بفتح الميم ألف والشمول بفتح الشين وضم
الميم وهي التي تأتى من دبر القبلة قال القاضي وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب كانت
170

تهب من جهة الشام وبها يأتي سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية وجاءت في الحديث
تسمية هذه الريح المثيرة أي المحركة لأنها تثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من
نعيمها قوله صلى الله عليه وسلم (ان أول زمرة تدخل الجنة هي على صورة القمر ليلة البدر والتي
تليها على أضوء كوكب درى في السماء لكل امرى منهم زوجتان ما في الجنة أعزب) الزمرة الجماعة
والدرى تقدم ضبطه وبيانه قريبا قوله صلى الله عليه وسلم (زوجتان) هكذا في الروايات
بالتاء وهي لغة متكررة في الأحاديث وكلام العرب والأشهر حذفها وبه جاء القرآن وأكثر الأحاديث
قوله (وما في الجنة أعزب) هكذا في جميع نسخ بلادنا أعزب بالألف وهي لغة والمشهور في اللغة
عزب بغير ألف ونقل القاضي أن جميع رواتهم رووه وما في الجنة عزب بغير ألف الا العذري
171

فرواه بالألف قال القاضي وليس بشئ والعزب من لا زوجة له والعزوب البعد وسمى عزبا لبعده
عن النساء قال القاضي ظاهر هذا الحديث أن النساء أكثر أهل الجنة وفى الحديث الآخر أنهن أكثر
أهل النار قال فيخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم قال وهذا كله في الآدميات والا فقد
جاء للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير قوله صلى الله عليه وسلم (ورشحهم المسك)
أي عرقهم (ومجامرهم الألوة) بفتح الهمزة وضم اللام أي العود الهندي وسبق بيانه مبسوطا قوله
صلى الله عليه وسلم (أخلاقهم على خلق رجل واحد) قد ذكر مسلم في الكتاب اختلاف ابن أبي شيبة وأبى كريب في ضبطه فان ابن أبي
شيبة يرويه بضم الحاء واللام وأبو كريب بفتح الحاء
واسكان اللام وكلاهما صحيح وقد اختلف فيه رواة صحيح البخاري ويرجح الضم بقوله في الحديث
الآخر لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد وقد يرجح الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم
في تمام الحديث على صورة أبيهم آدم أو على طوله. قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يمتخطون
172

ولا يتفلون) هو بكسر الفاء وضمها حكاهما الجوهري وغيره وفى رواية لا يبصقون وفي رواية
لا يبزقون وكله بمعنى قوله صلى الله عليه وسلم (يسبحون الله بكرة وعشيا) أي قدرهما. قوله
صلى الله عليه وسلم (ان أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون) مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن
أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما
لا آخر له ولا انقطاع أبدا وان تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا الا ما بينهما من التفاضل
في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا الا في التسمية وأصل الهيئة والا في أنهم لا يبولون
ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث
173

التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم انقطاع له أبدا قوله صلى الله عليه وسلم (من
يدخل الجنة ينعم لا ييأس) وفى رواية ان لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا أي لا يصبكم بأس وهو
شدة الحال والبأس والبؤس والبأساء والبؤساء بمعنى وينعم وتنعم بفتح أوله والعين أي يدوم
174

لكم النعيم. قوله صلى الله عليه وسلم (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل
زاوية منها أهل) وفي رواية طولها في السماء ستون ميلا أما الخيمة فبيت مربع من بيوت الأعراب
وقوله صلى الله عليه وسلم من لؤلؤة مجوفة هكذا هو في عامة النسخ مجوفة بالفاء قال القاضي وفى رواية
السمرقندي مجوبة بالباء الموحدة وهي المثقوبة وهي بمعنى المجوفة والزاوية الجانب والناحية وفى الرواية
الأولى عرضها ستون ميلا وفى الثانية طولها في السماء ستون ميلا ولا معارضة بينهما فعرضها في مساحة
175

أرضها وطولها في السماء أي في العلو متساويان قوله صلى الله عليه وسلم (سبحان وجيحان
والفرات والنيل كل من أنهار الجنة) اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون جيحون فأما
سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة في بلاد الأرمن فجيحان
نهر المصيصة وسيحان نهر إذنه وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب في
موضعهما وأما قول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط أو أنه أراد المجاز من حيث
أنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام قال الحازمي سيحان نهر نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون
وقال صاحب نهاية الغريب سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس واتفقوا
كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ واتفقوا على أنه غير جيحان وكذلك
سيحون غير سيحان وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الاسلام
176

فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان
ففي كلامه انكار من أوجه أحدهما قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام
والجزيرة والثاني قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك
بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق الثالث أنه ببلاد خراسان وأما
سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه
تأويلان ذكرهما القاضي عياض أحدهما أن الايمان عم بلادها أو الأجسام المتعذبة بمائها
صائرة إلى الجنة والثاني وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة والجنة مخلوقة
موجودة اليوم عند أهل السنة وقد ذكر مسلم في كتاب الايمان في حديث الاسراء أن الفرات والنيل
يخرجان من الجنة وفى البخاري من أصل سدرة المنتهى قوله صلى الله عليه وسلم (يدخل الجنة أقوام
أفئدتهم مثل أفئدة الطير) قيل مثلها في رقتها وضعفها كالحديث الآخر أهل اليمن أرق قلوب وأضعف
أفئدة وقيل في الخوف والهيبة والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا كما قال الله تعالى إنما يخشى الله
من عباده العلماء وكان المراد قوم غلب عليهم الخوف كما جاء عن جماعات من السلف في شدة
خوفهم وقيل المراد متوكلون والله أعلم قوله (حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا أبو النضر حدثنا
إبراهيم بن سعد حدثنا أبي عن أبي سلمة عن أبي هريرة) هكذا وقع هذا الاسناد في عامة النسخ
ووقع في بعضها حدثنا أبي عن الزهري عن أبي سلمة فزاد الزهري قال أبو علي الغساني والصواب
هو الأول قال وكذلك خرجه أبو مسعود في الأطراف قال ولا أعلم لسعد بن إبراهيم رواية
عن الزهري وقال الزهري وقال الدارقطني في كتاب العلل لم يتابع أبو النضر على وصله عن أبي هريرة قال
والمحفوظ عن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة مرسلا كذا رواه يعقوب وسعد بن إبراهيم بن
سعد قال والمرسل الصواب هذا كلام الدارقطني والصحيح أن هذا الذي ذكره لا يقدح في صحة
الحديث فقد سبق في أول هذا الكتاب أن الحديث إذا روى متصلا مرسلا كان محكوما
177

بوصله على المذهب الصحيح لأن مع الواصل زيادة علم حفظها ولم يحفظها من أرسله والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا) هذا الحديث سبق
شرحه وبيان تأويله وهذه الرواية ظاهرة في أن الضمير في صورته عائد إلى آدم وأن المراد أنه خلق
في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض وتوفى عليها وهي طوله ستون ذراعا ولم ينتقل
أطوارا كذريته وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير قوله (قال اذهب فسلم على
أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فذهب
فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله) فيه ان الوارد على جلوس يسلم عليهم وأن
الأفضل أن يقول السلام عليكم بالألف واللام ولو قال سلام عليك كفاه وأن رد السلام يستحب
أن يكون زيادة على الابتداء وأنه يجوز في الرد أن يقول السلام عليكم ولا يشترط أن يقول
وعليكم السلام والله أعلم
باب جهنم أعاذنا الله منها
قوله (حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي عن شقيق عن عبد الله الحديث)
هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم وقال رفعه وهم رواه الثوري ومروان وغيرهما عن
178

العلاء ابن خالد موقوفا قلت وحفص ثقة حافظ إمام فزيادته الرفع مقبولة كما سبق نقله عن
الأكثرين والمحققين قوله (سمع وجبة) هي بفتح الواو واسكان الجيم وهي السقطة قوله (في
حديث محمد بن عباد باسناده عن أبي هريرة بهذا الاسناد وقال هذا وقع في أسفلها فسمعتم وجبتها)
هكذا هو في النسخ وهو صحيح فيه محذوف دل عليه الكلام أي هذا حجر وقع أو هذا حين
179

ونحو ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (ومنهم ثنا من تأخذه يعنى النار إلى حجزته) هي بضم الحاء
واسكان الجيم وهي معقد الإزار والسراويل ومنهم من تأخذه إلى ترقوته هي بفتح التاء وضم
القاف وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وفى رواية حقويه بفتح الحاء وكسرها وهما
180

معقد الإزار والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبيه قوله صلى الله عليه وسلم (تحاجت
النار والجنة) إلى آخره هذا الحديث على ظاهره وأن الله تعالى جعل في النار والجنة تمييزا تدركان
به فتحاجتا ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائما قوله صلى الله عليه وسلم (وقالت
الجنة فمالي لا يدخلني الا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم) أما سقطهم فبفتح السين والقاف
أي ضعفاؤهم والمتحقرون منهم وأما عجزهم فبفتح العين والجيم جمع عاجز أي العاجزون عن طلب
الدنيا والتمكن فيها والثروة والشوكة وأما الرواية رواية محمد بن رافع ففيها لا يدخلني الأضعاف
الناس وغرتهم فروى على ثلاثة أوجه حكاها القاضي وهي موجودة في النسخ إحداها غرثهم بغين
معجمة مفتوحة وثاء مثلثة قال القاضي هذه رواية الأكثرين من شيوخنا ومعناها أهل الحاجة
والفاقة والجوع والغرث الجوع والثاني عجزتهم بعين مهملة مفتوحة وجيم وزاي وتاء جمع عاجز
كما سبق والثالث غرتهم بغين معجمة مكسورة وراء مشددة وتاء مثناة فوق وهكذا هو الأشهر في نسخ
بلادنا أي البلة الغافلون الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر
أكثر أهل الجنة البله قال القاضي معناه سواد الناس وعامتهم من أهل الايمان الذين لا يفطنون
للسنة فيدخل عليهم الفتنة أو يدخلهم في البدعة أو غيرها فهم ثابتوا الايمان وصحيحوا العقائد
وهم أكثر المؤمنين وهم أكثر أهل الجنة وأما العارفون والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون
فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات قال وقيل معنى الضعفاء هنا وفى الحديث الآخر أهل الجنة كل
ضعيف متضعف انه الخاضع لله تعالى المذل نفسه له سبحانه وتعالى
ضد المتجبر المستكبر
181

قوله صلى الله عليه وسلم (فتقول قط قط فهنالك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض) معنى يزوي
يضم بعضها إلى بعض فتجتمع وتلتقي على من فيها ومعنى قط حسبي أي يكفيني هذا وفيه ثلاث
لغات قط قط باسكان الطاء فيهما وبكسرها منونة وغير منونة قوله صلى الله عليه وسلم فاما
النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله) وفى الرواية التي بعدها لا تزال جهنم تقول
هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول قط قط وفى الرواية الأولى
فيضع قدمه عليها هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وقد سبق مرات بيان اختلاف
العلماء فيها على مذهبين أحدهما وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في
تأويلها بل نؤمن أنها حق على ما أراد الله ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والثاني
182

وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا
الحديث فقيل المراد بالقدم هنا المتقدم وهو شائع في اللغة ومعناه حتى يضع الله تعالى فيها من
قدمه لها من أهل العذاب قال المازري والقاضي هذا تأويل النضر بن شميل ونحوه عن ابن
الأعرابي والثاني أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم
الثالث أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية وأما الرواية التي فيها يضع الله فيها رجله
فقد زعم الإمام أبو بكر بن فورك أنها غير ثابتة عند أهل النقل ولكن قد رواها مسلم وغيره
فهي صحيحة وتأويلها كما سبق في القدم ويجوز أيضا أن يراد بالرجل الجماعة من الناس كما يقال
رجل من جراد أي قطعة منه قال القاضي أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها
قالوا ولابد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله
تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يظلم الله من خلقه أحدا) قد سبق مرات بيان أن الظلم
مستحيل في حق الله تعالى فمن عذبه بذنب أو بلا ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى قوله صلى
الله عليه وسلم (وأما الجنة فان الله ينشئ لها خلقا) هذا دليل لأهل السنة أن الثواب ليس متوقفا
على الأعمال فان هؤلاء يخلقون حينئذ ويعطون في الجنة ما يعطون في الجنة ما يعطون بغير عمل ومثله أمر الأطفال
والمجانين الذين لم يعملوا طاعة قط فكلهم في الجنة برحمة الله تعالى وفضله وفى هذا الحديث
183

دليل على عظم سعة الجنة فقد جاء في الصحيح أن للواحد فيها مثل الدنيا وعشرة أمثالها ثم يبقى
فيها شئ لخلق ينشئهم الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش فيوقف
بين الجنة والنار فيذبح ثم يقال خلود فلا موت) قال المازري الموت عند أهل السنة عرض يضاد
الحياة وقال بعض المعتزلة ليس بعرض بل معناه عدم الحياة وهذا خطأ لقوله تعالى خلق الموت
184

والحياة فأثبت الموت مخلوقا وعلى المذهبين ليس الموت بجسم في صورة كبش أو غيره فيتأول الحديث
على أن الله يخلق هذا الجسم ثم يذبح مثالا لأن الموت لا يطرأ على أهل الآخرة والكبش الأملح قيل
هو الأبيض الخالص قاله ابن الأعرابي وقال الكسائي هو الذي فيه بياض وسواد بياضه أكثر وسبق
بيانه في الضحايا. قوله صلى الله عليه وسلم (فيشرئبون) بالهمزة أي يرفعون رؤسهم إلى المنادى
185

قوله صلى الله عليه وسلم (ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث وما بين منكبيه)
مسيرة ثلاث هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الايمان به لاخبار
الصادق به قوله صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة (كل ضعيف متضعف) ضبطوا قوله متضعف
186

بفتح العين وكسرها المشهور الفتح ولم يذكر الأكثرون غيره ومعناه يستضعفه الناس ويحتقروه
ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا يقال تضعفه واستضعفه وأما رواية الكسر فمعناها
متواضع متذلل خامل واضع من نفسه قال القاضي وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها
وإخباتها للايمان والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء كما أن معظم أهل النار القسم الآخر وليس
المراد الاستيعاب في الطرفين ومعنى الأشعث متلبد الشعر مغبره الذي لا يدهنه ولا يكثر غسله
ومعنى مدفوع بالأبواب أنه لا يؤذن له بل يحجب ويطرد لحقارته عند الناس قوله صلى الله
عليه وسلم (لو أقسم على الله لأبره) معناه لو حلف يمينا طمعا في كرم الله تعالى بابراره لأبره وقيل
لو دعاه لأجابه يقال أبرت قسمه وبررته والأول هو المشهور قوله صلى الله عليه وسلم في
أهل النار (كل عتل جواظ مستكبر) وفى رواية كل جواظ زنيم متكبرا أما العتل بضم العين والتاء
187

فهو الحافي الشديد الخصومة بالباطل وقيل الجافي الفظ الغليظ وأما الجواظ بفتح الجيم وتشديد
الواو وبالطاء المعجمة فهو الجموع المنوع وقيل كثير اللحم المختال في مشيته وقيل القصير البطين
وقيل الفاخر بالخاء وأما الزنيم فهو الدعي في النسب الملصق بالقوم وليس منهم شبه بزنمة الشاة
وأما المتكبر والمستكبر فهو صاحب الكبر وهو بطر الحق وغمط الناس قوله صلى الله عليه
وسلم في الذي عقر الناقة (عزيز عارم) العارم بالعين المهملة والراء قال أهل اللغة هو الشرير المفسد
الخبيث وقيل القوى والشرس وقد عزم بضم الراء وفتحها وكسرها عرامة بفتح العين وعراما
بضمها فهو عارم وعرم وفى هذا الحديث النهى عن ضرب النساء لغير ضرورة التأديب وفيه النهى
عن الضحك من الضرطة يسمعها من غيره بل ينبغي أن يتغافل عنها ويستمر على حديثه واشتغاله
بما كان فيه من غير التفات ولا غيره ويظهر أنه يسمع وفيه حسن الأدب والمعاشرة قوله
صلى الله عليه وسلم (رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف أبا بنى كعب هؤلاء بحرقصبه في النار)
وفى الرواية الأخرى رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب
188

أما قمعة ضبطوه على أربعة أوجه أشهرها قمعة بكسر القاف وفتح الميم المشددة والثاني كسر القاف
والميم المشددة حكاه القاضي عن رواية الباجي عن ابن ماهان والثالث فتح القاف مع إسكان
الميم والرابع فتح القاف والميم جميعا وتخفيف الميم قال القاضي وهذه رواية الأكثرين وأما
خندف فبكسر الخاء المعجمة والدال هذا هو الأشهر وحكى القاضي في المشارق فيه وجهين أحدهما
هذا والثاني كسر الخاء وفتح الدال وآخرها فاء وهي اسم القبيلة فلا تنصرف واسمها ليلى بنت
عمران بن الجاف بن قضاعة وقوله صلى الله عليه وسلم (أبا بنى كعب) كذا ضبطناه أبا بالباء
وكذا هو في كثير من نسخ بلادنا وفى بعضها أخا بالخاء ونقل القاضي هذا عن أكثر رواة
الجلودي قال والأول رواية ابن ماهان بعض رواة الجلودي قال وهو الصواب قال وكذا ذكر
الحديث أين أبى خيثمة ومصعب الزبيري وغيرهما لأن كعبا هو أحد بطون خزاعة وابنه وأما لحى
فبضم اللام وفتح الحاء وتشديد الياء وأما قصبة فبضم القاف واسكان الصاد قال الأكثرون يعنى
أمعاءه وقال أبو عبيد الأمعاء واحدها قصب أما قوله في الرواية
الثانية عمرو بن عامر فقال القاضي
المعروف في نسب ابن خزاعة عمرو بن لحى بن قمعة كما قال في الرواية الأولى وهو قمعة بن الياس بن مضر
وإنما عامر عم أبيه أبي قمعة وهو مدركة بن الياس هذا قول نساب الحجازيين ومن الناس من يقول إنهم
من اليمن من ولد عمرو بن عامر وانه عمرو بن لحى واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وقد
189

يحتج قائل بهذه الرواية الثانية هذا آخر كلام القاضي والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (صنفان
من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات
مميلات مائلات رؤسهن كأسمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وان ريحها
لتوجد من مسيرة كذا وكذا) هذا الحديث من معجزات النبوة فقد وقع ما أخبره به صلى الله
عليه وسلم فأما أصحاب السياط فهم غلمان والى الشرطة أما الكاسيات ففيه أوجه أحدهما
معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها والثاني كاسيات من الثياب عاريات من فعل الخير
190

والاهتمام لآخرتهن والاعتناء بالطاعات والثالث تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها فهن
كاسيات عاريات والرابع يلبس ثيابا رقاقا تصف ما تحتها كاسيات عاريات في المعنى واما
مائلات مميلات فقيل زائغات عن طاعة الله تعالى وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها
ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن وقيل مائلات متبخترات في مشيتهن مميلات أكتافهن وفيل
مائلات يتمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا معروفة لهن مميلات يمشطن غيرهن تلك
المشطة وقيل مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها وأما رؤسهن كأسنمة
البخت فمعناه يعظمن رؤسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل
البخت هذا هو المشهور في تفسيره قال المازري ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال
ولا يغضضن عنهم ولا ينكسن رؤسهن واختار القاضي أن المائلات تمشطن المشطة الميلاء
قال وهي ضفر الغدائر وشدها إلى فوق وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت قال وهذا
يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رؤسهن وجمع عقائصها
هناك وتكثرها يما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جونب الرأس كما يميل السنام قال ابن دريد
يقال ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(لا يدخلن الجنة) يتأول التأويلين السابقين في نظائره أحدهما أنه محمول على من استحلت
حراما من ذلك مع علمها بتحريمه فتكون كافرة مخلدة في النار لا تدخل الجنة أبدا والثاني يحمل
على أنها لا تدخلها أول الأمر مع الفائزون والله تعالى أعلم
191

باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة
قوله صلى الله عليه وسلم (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه
وأشار يحيى بالسبابة فلينظر بم ترجع) وفى رواية وأشار إسماعيل بالابهام هكذا هو في نسخ
بلادنا بالابهام وهي الأصبع العظمى المعروفة كذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا السمرقندي
فرواه البهام قال وهو تصحيف قال القاضي ورواية السبابة أظهر من رواية الابهام وأشبه
بالتمثيل لأن العادة الإشارة بها لا بالابهام ويحتمل أنه إشارة بهذه مرة وهده مرة واليم البحر وقوله
بم ترجع ضبطوا ترجع بالمثناة فوق والمثناة تحت والأول اشهر ومن رواه بالمثناة تحت أعاد
الضمير إلى أحدكم والمثناة فوق أعاده على الأصبع وهو الأظهر ومعناه لا يعلق بها كثير شئ من
الماء ومعنى الحديث ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذاتها ودوام الآخرة ودوام
192

لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقي البحر قوله صلى الله عليه وسلم
(يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا) الغرل بضم الغين المعجمة واسكان الراء معناه
غير مختونين جمع أغرل وهو الذي لم يختن وبقية معه غرلته وهي قلفته وهي الجلدة التي
تقطع في الختان قال الأزهري وغيره هو الأغرل والأرغل والأغلف بالغين المعجمة في الثلاثة
والأقلف والأعرم بالعين المهملة وجمعه غرل ورغل وغلف وقلف وعرم والحفاة جمع حاف
والمقصود أنهم يحشرون كما خلقوا لا شئ معهم ولا يفقد منهم شئ حتى الغرلة تكون معهم. قوله صلى
193

الله عليه وسلم (سيجاء برجال من أمتي إلى آخره) هذا الحديث قد سبق شرحه في كتاب الطهارة وهذه
الرواية تؤيد قول من قال هناك المراد به الذين ارتدوا عن الاسلام قوله صلى الله عليه وسلم
(يحشر الناس على ثلاث طرائق راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على
بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا وتقبل معهم حيث قالوا وتصبح
معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا) قال العلماء وهذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة
194

وقبيل النفخ في الصور بديل قوله صلى الله عليه وسلم بقيتهم النار تبيت معهم وتقيل وتصبح
وتمسي وهذا آخر أشراط الساعة كما ذكر مسلم بعد هذا في آيات الساعة قال وآخر ذلك نار تخرج
من قعر عدن ترحل الناس وفى رواية تطرد الناس إلى محشر هم والمراد بثلاث طرائق فرق
ومنه قوله تعالى اخبارا عن الجن كنا طرائق قددا أي فرقا مختلفة الأهواء
باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهواله
قوله صلى الله عليه وسلم (يقوم أحدهم في رشحه إلى انصاف أذنيه) وفى رواية فيكون الناس على
قدر أعمالهم في العرق قال القاضي ويحتمل أن المراد عرق نفسه وغيره ويحتمل عرق نفسه خاصة
وسبب كثرة العرق تراكم الأهوال ودنو الشمس من رؤسهم ورحمة بعضهم بعضا
195

باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار
قوله صلى الله عليه وسلم (ان ربى أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومى هذا كل مال نحلته عبدا
حلال) معنى نحلته أعطيته وفى الكلام حذف أي قال الله تعالى كل مال أعطيته عبدا من عبادي
فهو له حلال والمراد انكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي وغير ذلك
وأنها لم تصرحوا حراما بتحريمهم وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق قوله تعالى (وانى
خلقت عبادي حنفاء كلهم) أي مسلمين وقيل طاهرين من المعاصي وقيل مستقيمين منيبين لقبول
الهداية وقيل المراد حين أخذ عليهم العهد في الذر وقال ألست بربكم قالوا بلى قوله تعالى (وانهم
أتتهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم) هكذا هو في نسخ بلادنا فاجتالتهم بالجيم وكذا نقله القاضي
عن رواية الأكثرين وعن رواية الحافظ أبى على الغساني فاجتالتهم بالخاء المعجمة قال والأول
أصح وأوضح أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل هذا فسره
الهروي وآخرون وقال شمر اجتال الرجل الشئ ذهب به واجتال أموالهم ساقها وذهب بها قال
القاضي ومعنى فاختالوهم بالخاء على رواية من رواه أي يحبسونهم عن دينهم ويصدونهم عنه. قوله
صلى الله عليه وسلم (وان الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من
أهل الكتاب) المقت أشد البغض والمراد بهذا المقت والنظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله
197

عليه وسلم والمراد ببقايا أهل الكتاب الباقون على التمسك بدينهم الحق من غير تبديل قوله سبحانه
وتعالى (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به
من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده والصبر في الله تعالى وغير ذلك وأبتلي
بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة
والكفر ومن ينافق والمراد أن يمتحنه ليصير ذلك واقعا بارزا فان الله تعالى إنما يعاقب العباد
على ما وقع منهم لاعلى ما يعلمه قبل وقوعه والا فهو سبحانه عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها وهذا
نحو قوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين أي نعلمهم فاعلين ذلك متصفين به قوله
تعالى (وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان) أما قوله تعالى لا يغسله الماء فمعناه
محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على ممر الأزمان وأما قوله تعالى تقرأه نائما ويقظان
فقال العلماء معناه يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة وقيل تقرأه في يسر وسهولة قوله صلى
الله عليه وسلم
(فقلت رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) هي بالثاء المثلثة أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز
أي يكسر قوله تعالى (واغزهم نغزك) بضم النون أي نعينك قوله صلى الله عليه وسلم (وأهل الجنة
ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف
متعفف) فقوله ومسلم مجرور معطوف على ذي قربى وقوله مقسط أي عادل قوله صلى الله عليه وسلم
198

(الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا) فقوله زبر بفتح الزاي
واسكان الموحدة أي لاعقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي وقيل هو الذي لامال له وقيل الذي ليس
عنده ما يعتمده وقوله لا يتبعون بالعين المهملة مخفف مشدد من الاتباع وفى بعض النسخ يبتغون
بالموحدة والغين المعجمة أي لا يطلبون قوله صلى الله عليه وسلم (والخائن الذي لا يخفى له طمع
وإن دق الاخانة) معنى لا يخفى لا يظهر قال أهل اللغة يقال خفيت الشئ إذا أظهرته وأخفيته
إذا سترته وكتمته هذا هو المشهور وقيل هما لغتان فيهما جميعا قوله (وذكر البخل والكذب)
هي في أكثر النسخ أو الكذب بأو وفى بعضها والكذب بالواو والأول هو المشهور في نسخ بلادنا
وقال القاضي روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو والا ابن أبي جعفر عن الطبري فبأو وقال بعض
الشيوخ ولعله الصواب وبه تكون المذكورات خمسة وأما الشنظير فبكسر الشين والظاء المعجمتين
199

واسكان النون بينهما وفسره في الحديث بأنه الفحاش وهو السئ الخلق قوله (فيكون ذلك
يا أبا عبد الله قال نعم والله لقد أدركتهم في الجاهلية إلى آخره) أبو عبد الله هو مطرف بن عبد الله
والقائل له قتادة وقوله لقد أدركتهم في الجاهلية لعله يريد أواخر أمرهم وآثار الجاهلية والا فمطرف
صغير عن ادراك زمن الجاهلية حقيقة وهو يعقل
باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه
واثبات عذاب القبر والتعوذ منه
اعلم أن مذهب أهل السنة اثبات عذاب القبر وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله
تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله
200

عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة ولا يمتنع في العقل أن يعبد الله تعالى الحياة
في جزء من الجسد ويعذبه وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده وقد ذكر مسلم
هنا أحاديث كثيرة في اثبات عذاب القبر وسماع النبي صلى الله عليه وسلم صوت من يعذب فيه
وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم وكلامه صلى الله عليه وسلم لأهل القليب وقوله ما أنتم بأسمع
منهم وسؤال الملكين الميت واقعادهما إياه وجوابه لهما والفسح له في قبره وعرض مقعده عليه
بالغداة والعشي وسبق معظم شرح هذا في كتاب الصلاة وكتاب الجنائز والمقصود أن مذهب
أهل السنة اثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئة نفوا
ذلك ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه وخالف
فيه محمد بن جرير و عبد الله بن كرام وطائفة فقالوا لا يشترط إعادة الروح قال أصحابنا هذا فاسد
لأن الألم والاحساس إنما يكون في الحي قال أصحابنا ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت اجزاؤه
كما نشاهد في العادة أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك فكما أن الله تعالى يعيده للحشر
وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء وان أكلته السباع
والحيتان فان قيل فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق
من حديد ولا يظهر له أثر فالجواب أن ذلك غير ممتنع بل له نظر في العادة وهو النائم فإنه يجد لذة
وآلاما لا نحس نحن شيئا منها وكذا يجد اليقظان لذة وألما لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد
ذلك جليسه منه وكذا كان جبرئيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم
ولا يدركه الحاضرون وكل هذا ظاهر جلى قال أصحابنا وأما اقعاده المذكور في الحديث فيحتمل
أن يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السباع والحيتان وأما ربه بالمطارق فلا يمتنع
أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب والله أعلم قوله (مقعدك حتى يبعثك الله) هذا تنعيم
201

للمؤمن وتعذيب للكافر قوله (حادث به بغلته) أي مالت عن الطريق ونفرت وقرع النعال
202

وخفقها هو ضربها وصوتها فيها قوله (ما كنت تقول في هذا الرجل) يعنى بالرجل
النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يقوله في هذه العبارة التي ليس فيها تعظيم امتحانا للمسؤول لئلا
يتلقن تعظيمه من عبارة السائل ثم يثبت الله الذين آمنوا قوله (يفسح له في قبره ويملأ عليه
خضرا إلى يوم يبعثون) الخضر ضبطوه بوجهين أصحهما بفتح الخاء وكسر الضاد والثاني بضم
203

الخاء وفتح الضاد والأول أشهر ومعناه يملأ نعما غضة ناعمة واصلة من خضرة الشجر هكذا
فسروه قال القاضي يحتمل أن يكون هذا الفسح له على ظاهره وأنه يرفع عن بصره ما يجاوره
من الحجب الكثيفة بحيث لا تناله ظلمة القبر ولا ضيقه إذا ردت إليه روحه قال ويحتمل أن يكون
على ضرب المثل والاستعارة للرحمة والنعيم كما يقال سقى الله قبره والاحتمال الأول أصح والله أعلم
204

قوله في روح المؤمن (ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل ثم قال في روح الكافر فيقال انطلقوا به
إلى آخر الأجل) قال القاضي المراد بالأول انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى والمراد بالثاني
انطلقوا بروح الكافر إلى سجين فهي منتهى الأجل ويحتمل أن المراد إلى انقضاء أجل الدنيا
قوله (فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه) الريطة بفتح الراء واسكان الياء
وهو ثوب رقيق وقيل هي الملاءة وكان سبب ردها على الأنف بسبب ما ذكر من نتن ريح روح
الكافر قوله (حديد البصر) بالحاء أي نافذه ومنه قوله تعالى فبصرك اليوم حديد. قوله
205

صلى الله عليه وسلم (هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله إلى آخره) هذا من معجزاته صلى الله
عليه وسلم الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم في قتلى بدر (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) قال
المازري قال بعض الناس الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث ثم أنكره المازري وادعى
أن هذا خاص في هؤلاء ورد عليه القاضي عياض وقال يحمل سماعهم على ما يحمل عليه سماع الموتى
في أحاديث عذاب القبر وفتنة التي لا مدفع لها وذلك باحيائهم أو إحياء جزء منهم يعلقون به
ويسمعون في الوقت الذي يريد الله هذا كلام القاضي وهو الظاهر الذي يقتضيه أحاديث
206

السلام على القبور والله أعلم قوله (يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا)
هكذا هو في عامة النسخ المعتمدة كيف يسمعوا وأني يجيبوا من غير نون وهي لغة صحيحة وان
كانت قليلة الاستعمال وسبق بيانها مرات ومنها الحديث السابق في كتاب الايمان لا تدخلوا
الجنة حتى تؤمنوا وقوله جيفوا أي أنتنوا وصاروا جيفا يقال جيف الميت وجاف وأجاف وأروح
وأنتن بمعنى قوله (فسحبوا فألقوا في قليب بدر) وفى الرواية الأخرى في طوى من أطواء بدر
القليب والطوى بمعنى وهي البئر المطوية بالحجارة قال أصحابنا وهذا السحب إلى القليب ليس
دفنا لهم ولا صيانة وحرمة بل لدفع رائحتهم المؤذية والله أعلم
207

باب اثبات الحساب
قوله صلى الله عليه وسلم (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب) معنى نوقش استقصى عليه
قال القاضي قوله عذب له معنيان أحدهما أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف
عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ والثاني أنه مفض إلى العذاب بالنار ويؤيده قوله
208

في الرواية الأخرى هلك مكان عذب هذا كلام القاضي وهذا الثاني هو الصحيح ومعناه أن
التقصير غالب في العباد فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك ودخل النار ولكن الله تعالى يعفو
ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء قوله في اسناد هذا الحديث (عن عبد الله بن أبي مليكة عن
عائشة) هذا مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم وقال اختلف العلماء عن ابن أبي مليكة
فروى عنه عن عائشة وروى عنه عن القاسم عنها وهذا استدراك ضعيف لأنه محمول على أنه
سمعة من القاسم عن عائشة وسمعه أيضا منها بلا واسطة فرواه بالوجهين وقد سبقت نظائر هذا
باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يموتن أحدكم الا وهو يحسن بالله الظن) وفى رواية الا وهو يحسن الظن
بالله تعالى قال العلماء هذا تحذير من القنوط وحث على الرجاء عند الخاتمة وقد سبق في الحديث الآخر
209

قوله سبحانه وتعالى أنا عند ظن عبدي بي قال العلماء معنى حسن الظن بالله تعالى أن يظن
أنه يرحمه ويعفو عنه قالوا وفى حالة الصحة يكون خائفا راجيا ويكونان سواء وقيل يكون الخوف
أرجح فإذا دنت أمارات الموت غلب الرجاء أو محضه لأن مقصود الخرف الانكفاف عن المعاصي
والقبائح والحرص على الاكثار من الطاعات والأعمال وقد تعذر ذلك أو معظمه في هذا الحال
فاستحب إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى الله تعالى والاذعان له ويؤيده الحديث المذكور
بعده بعث كل عبد على ما مات عليه
ولهذا عقبة مسلم للحديث الأول قال العلماء معناه يبعث على
الحالة التي مات عليها ومثله الحديث الآخر بعده ثم بعثوا على نياتهم.
210