الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ١
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
تعريف الكتاب 1

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الأول
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
تعريف الكتاب 3

1407 ه‍ - 1987 م‍
دار الكتاب العربي
الرملة البيضاء - ملكارت سنتر - الطابق الرابع - تلفون 800832 - 800811 - 805478
تلكس: 40139. E. L كتاب. برقيا: الكتاب ص. ب: 5769 - 11 - بيروت - لبنان
تعريف الكتاب 4

بسم الله الرحمن الرحيم
تعريف الكتاب 5

التعريف بالامام مسلم
نقلا عن تهذيب الأسماء واللغات للامام النووي
نسبه
هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري - من قشير قبيلة من العرب
معروفة - النيسابوري امام أهل الحديث.
شيوخه
سمع قتيبة بن سعيد والقعني وأحمد بن حنبل وإسماعيل بن أبي أويس ويحيى بن يحيى
وأبا بكر وعثمان ابني أبي شيبة وعبد الله بن أسماء وشيبان بن فروخ وحرملة بن يحيى صاحب
الشافعي ومحمد بن المثنى ومحمد بن يسار ومحمد بن مهران ومحمد بن يحيى بن أبي عمر ومحمد
ابن سلمة المرادي ومحمد بن عمر وريحا ومحمد بن رمح وخلائق من الأئمة وغيرهم.
من روي عنه
روي عنه أبو عيسى الترمذي ويحيى بن صاعد ومحمد بن مخلد وإبراهيم بن محمد بن سفيان
الفقيه الزاهد وهو رواية صحيح مسلم ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن عبد الوهاب الفراء
وعلي بن الحسين ومكي بن عبدان وأبو حامد أحمد بن الشرقي وأخوه عبد الله وحاتم بن أحمد
الكندي والحسين بن محمد بن زايد القباني وإبراهيم بن أبي طالب وأبو بكر محمد بن النضر
الجارودي وأحمد بن سلمة وأبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرايني وأبو عمر وأحمد بن
المبارك المستملي وأبو حامد أحمد بن حمدون الأعمش وأبو العباس محمد بن إسحاق بن السراج
وزكريا بن داود الخفاف ونصر بن أحمد الحافظ يعرف بنصرك وخلائق.
اجماع العلماء على إمامته
وأجمعوا على جلالته وامامته وعلو مرتبته وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها وتضلعه منها
التعريف بالامام مسلم 6

ومن أكبر الدلائل على جلالته وامامته وورعه وحذقه وقعوده في علوم الحديث واضطلاعه منها
وتفننه فيها كتابه الصحيح الذي لم يوجد في كتاب قبله ولا بعده من حسن الترتيب وتلخيص
طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان والاحتراز من التحويل في الأسانيد عند اتفاقها من غير
زيادة وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في متن أو اسناد ولو في حرف واعتنائه بالتنبيه
على الروايات المصرحة المدلسين وغير ذلك مما هو معروف في كتابه وقد ذكرت في
مقدمة شرحي لصحيح مسلم جملا من التنبيه على هذه الأشياء وشبهها مبسوطة ووضحته ثم نبهت
على تلك الدقائق والمحاسن في أثناء الشرح في مواطنها وعلى الجملة فلا نظير لكتابه في هذه الدقائق
وصنعته الاسناد وهذا عندنا من المحققات التي لا شك فيها للدلائل المتظاهرة عليها. ومع هذا
فصحيح البخاري أصح وأكثر فوائد. هذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح المختار. لكن
كتاب مسلم في دقائق الأسانيد ونحوها أجود كما ذكرناه وينبغي لكل راغب في علم الحديث أن
يعتني به ويتفطن في تلك الدقائق فيرى فيها العجائب من المحاسن. وان ضعف عن الاستقلال
باستخراجها استعان بالشرح المذكور وبالله التوفيق. وقد ذكرت في مقدمة شرح صحيح مسلم
جملا من المهمات المتعلقة به التي لابد للراغب فيه من معرفتها. مع بيان جملة من أحوال مسلم
وأحوال رواة الكتاب عنه.
سفره إلى الأقطار في طلب العلم
واعلم أن مسلما رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن. وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ ولاتفاق.
والرحالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان. والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق
والعرفان. والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان. سمع بخراسان يحيى بن يحيى وإسحاق
ابن راهويه وآخرين. وبالري محمد بن مهران وأبا غسان وآخرين. وبالعراق ابن حنبل وعبد الله
ابن مسلمة وآخرين وبالحجاز سعيد بن منصور وأبا مصعب وآخرين. وبمصر عمرو بن سواد
وحرملة بن يشعي؟؟ وآخرين وخلائق كثيرين: روي عنه جماعة من كبار أئمة عصره وحفاظه كما
قدمناه وفيهم جماعات في درجته. منهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن سلمة
والترمذي وغيرهم.
التعريف بالامام مسلم 7

مصنفاته:
صنف مسلم رحمه الله في علم الحديث كتبا كثيرة. منها هذا الكتاب الصحيح الذي من الله
الكريم وله الحمد والنعمة والفضل والمنة به على المسلمين أبقى لمسلم به ذكرا جميلا وثناء حسنا
إلى يوم الدين مع ما أعد له من الاجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة. ومنها
الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال. وكتاب الجامع الكبير على الأبواب. وكتاب العلل
وكتاب أوهام المحدثين. وكتاب التمييز. وكتاب من ليس له الا راو واحد. وكتاب طبقات
التابعين. وكتاب المخضرمين وغير ذلك. قال الحاكم أبو عبد الله حدثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم
قال سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة
الصحيح على مشايخ عصر هما وفي رواية في معرفة الحديث.
ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله والطلع على ما أودعه في اسناده وترتيبه وحسن سياقه
وبديع طريقه من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في
الروايات وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته
وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم أنه امام
لا يلحقه من بعد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل دهره. وذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد اقتصرت من أخباره رضي الله عنه على هذا القدر فان أحواله رضي الله عنه ومناقبه
ومناقب كتابه لا تستقصي لبعدها عن أن تحصى. وقد دللت بما ذكرت من الإشارة إلى حالته
على ما أهملت من جميل طريقته. والله الكريم أسأل أن يجزل في ثوبه ويجمع بيننا وبينه مع
أحبابنا في دار كرامته بفضله وجوده ورحمته.
وفاته:
توفى مسلم رحمه الله تعالى بنيسابور سنة أحدي وستين ومائتين. قال الحاكم أبو عبد الله في
كتاب المزكيين سمعت أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ رحمه الله يقول توفى مسلم رحمه الله عشية
الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة أحدي وستين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة رضي الله عنه.
التعريف بالامام مسلم 8

التعريف بالامام النووي
نقلا عن تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي
نسبه. مولده. ابتداء اشتغاله. حرصه على العلم.
النووي الامام الحافظ الأوحد القدوة شيخ الاسلام على الأولياء محيي الدين أبو زكريا يحيى
ابن شرف بن مري الحزامي الحواربي الشافعي صاحب التصانيف النافعة. مولده في المحرم سنة
أحدي وثلاثين وستمائة وقدم دمشق سنة تسع وأربعين فسكن في الرواجية يتناول خبز المدرسة
فحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف. وقرأ ربع المهذب حفظا في باقي السنة على شيخه الكمال بن
أحمد ثم حج مع أبيه وأقام بالمدينة شهرا ونصفا ومرض أكثر الطريق فذكر شيخنا أبو الحسن
ابن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درسا على مشايخه شرحا
وتصحيحا. درسين في الوسيط. ودرسا في المهذب. ودرسا في الجمع بين الصحيحين. ودرسا في
صحيح مسلم. ودرسا في اللمع لابن جني. ودرسا في اصلاح المنطق ودرسا في التصريف. ودرسا في
أصول الفقه ودرسا في أسماء الرجال. ودرسا في أصول الدين. قال وكنت أعلق جميع ما يتعلق
بها من شرح مشكل وتوضيح عبارة وضبط لغة. وبارك الله تعالى في وقتي. وخطر لي أن أشتغل في
الطلب فاشتغلت في كتاب القانون وأظلم قلبي وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال فأشفقت على
نفسي وبعت القانون فنار قلبي.
شيوخه:
سمع من الرضي بن البرهان. وشيخ الشيوخ عبد العزيز محمد الأنصاري. وزين الدين بن
عبد الدائم. وعماد الدين عيد الكريم الخرستاني. وزين الدين خلف بن يوسف. وتقي الدين بن
أبي اليسر. وجمال الدين بن الصيرفي. وشمس الدين بن أبي عمر. وطبقتهم. وسمع الكتب السنة
والمسند. والموطأ وشرح السنة للبغوي. وسنن الدارقطني. وأشياء كثيرة. وقرأ الكال للحافظ
عبد الغني علاء الدين. وشرح أحاديث الصحيحين على المحدث ابن إسحاق إبراهيم بن عيسى
التعريف بالامام النووي 9

المرادي. وأخذ الأصول على القاضي التفليسي. وتفقه على الكمال إسحاق المعري. وشمس الدين
عبد الرحمن بن نوح. وعز الدين عمر بن سعد الأربلي. والكمال سلار الأربلي. وقرأ اللغة على الشيخ
أحمد المصري وغيره. وقرأ على ابن مالك كتابا من تصنيفه. ولازم الاشتغال والتصنيف ونشر
العلم والعبادة والأوراد والصيام والذكر والصبر على المعيشة الخشنة في المأكل والملبس كلية
لا مزيد عليها. ملبسه ثوب خام. وعمامته سبجانية صغيرة.
تلاميذه:
تخرج به جماعة من العلماء منهم الخطيب صدر سليمان الجعفري. وشهاب الدين أحمد بن
جعوان. وشهاب الدين الأربدي. وعلاء الدين بن العطار. وحدث عنه ابن أبي الفتح
والمزي. وابن العطار.
اجتهاده. حفظه. زهده:
قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يضيع له وقتا لا في ليل ولا في نهار
حتى في الطريق. وأنه دام ست سنين ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
قلت مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من
الشوائب ومحقها من أغراضها كان حافظا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليه. رأسا
في معرفة المذهب. قال شيخنا الرشيد بن المعلم: عذلت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام
وتضييق العيش في مأكله وملبسه وأحواله وخوفته من مرض يعطله عن الاشتغال فقال إن
فلانا صام وعبد الله حتى اخضر جلده. وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار ويقول أخاف أن
يرطب جسمي ويجلب النوم. وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة ويشرب شربة واحدة عند
السحر. قال ابن العطار كلمته في الفاكهة فقال دمشق كثيرة الأوقاف وأملاك من تحت الحجر
والتصرف لهم ولا يجوز الاعلى وجه الغبطة لهم ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها خلاف
فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك. وقد جمع ابن العطار سيرته فس ست كراريس.
تصانيفه:
من تصانيفه: شرح صحيح مسلم ورياض الصالحين والأذكار والأربعين والارشاد
في طوم الحديث والتقريب والمبهمات وتحرير الألفاظ والعمدة في تصحيح التنبيه
التعريف بالامام النووي 10

والايضاح في المناسك. وله ثلاثة مناسك سواه. والتبيان في آداب حملة القرآن. والفتاوي
والروضة أربعة أسفار. وشرح المهذب إلى باب المصراة في أربع مجلدات. وشرح قطعة من
البخاري وقطعة من الوسيط. وعمل قطعة من الاحكام. وجملة كثيرة من الأسماء واللغات
ومسودة في طبقات الفقهاء. ومن التحقيق إلى باب صلاة المسافر.
ورعه:
كان لا يقبل من أحد شيئا الا في النادر ممن لا يشتغل عليه. أهدى له فقير إبريقا فقبله. وعزم
عليه الشيخ برهان الدين الإسكندراني أن يفطر عنده فقال أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة
فأكل من ذلك وكان لونين ربما جمع الشيخ بعض الأوقات بين أدامين.
موقفه مع الملوك في الامر بالمعروف:
وكان يواجه الملوك والظلمة بالانكار ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى. كتب مرة: من
عبد الله يحيى النووي. سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الامراء بدر الدين
أدام الله به الخيرات وتولاه بالحسنات وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كل ما آماله وبارك
له في جميع أحواله أميد وينهى إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب
قلة الأمطار وذكر فصلا طويلا وفي طي ذلك ورقة إلى الملك الظاهر فرد جوابها ردا عنيفا مؤلما
فتكدرت خواطر الجماعة. وله غير رسالة الملك الظاهر في الامر بالمعروف. وكان شيخنا ابن
فرح يشرح على الشيخ الحديث فقال نوبة: الشيخ محيي الدين قد صار إلى ثلاث مراتب كل مرتبة
لو كانت لشخص لشدت إليه الرحال. العلم. والزهد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفاته:
سافر الشيخ فزار بيت المقدس وعاد إلى نوي فمرض عند واده فحضرته المنية فانتقل إلى رحمة الله
في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة وقبره ظاهر يزار. قاله الشيخ قطب الدين
اليونيني. وقال كان أوحد زمانه في العلم والورع والعبادة والتقلل وخشونة العيش واقف الملك
الظاهر بدار العدل غيره مرة فحكى عن الملك الظاهر أنه قال أنا أفزع منه. ولى مشيخة دار الحديث
قلت وليها سنة خمس وستين بعد أبي أسامة إلى أن مات قدس الله سره.
التعريف بالامام النووي 11

وجاء في طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي ما نصه:
(يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة النووي)
الشيخ العلامة محيي الدين أبو زكريا شيخ الاسلام أستاذ المتأخرين. وحجة الله على اللاحقين
والداعي إلى سبيل السالفين. كان يحيى رحمه الله سيدا وحصورا ولينا على النفس حصورا.
وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا إذا صير دينه ربعا معمورا. وله الزهد والقناعة. ومتابعة السالفين
من أهل السنة والجماعة. والمصابرة على أنواع الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة. وهذا مع الفتن
في أصناف العلوم فقها. ومتون أحاديث وأسماء رجال ولغة وصرفا. وغير ذلك. وأنا إذا أردت
أن أجمل تفاصيل فضله. وأدل الخلق على مبلغ مقداره بمختصر القول وفصله. لم أزد على بتين
أنشدنيهما من لفظه لنفسه الشيخ الامام. وكان من حديثهما أنه - أعنى الوالد رحمه الله -
لما سكن في قاعة دار الحديث الأشرفية سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة كان يخرج في الليل إلى
إيوانها فيتهجد تجاه الأثر الشريف ويمرغ وجهه على البساط وهذا البساط من زمان الأشرف
الواقف وعليه اسمه وكان يجلس عليه وقت الدرس فأنشدني الوالد لنفسه.
وفي دار الحديث لطيف معنى * على بسط لها أصبو وآوى
عسى أنى أمس بحر وجهي * مكانا مسه قدم النواوي
ولد النووي في المحرم سنة أحدي وثلاثين وستمائة بنوي وكان من أهلها المستوطنين بها
وذكر أبوه أن الشيخ كان نائما إلى جنبه وقد بلغ من العمر سبع ليلة السابع والعشرين
من شهر رمضان فانتبه نحو نصف الليل وقال يا أبت ما هذا الضوء الذي ملاء الدار فاستيقظ
الأهل جميعا قال لم نر كلنا شيئا. قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر. وقال شيخه في الطريقة الشيخ
ياسين بن يوسف الزركشي: رأيت الشيخ محيي الدين وهو ابن عشر سنين بنوى والصبيان
يكرهونه على اللعب معهم وهو يهرب منهم ويبكي لاكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال فوقع
في قلبي حبه وجعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن قال فأتيت الذي
يقرئه القرآن فوصيته به وقلت هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم وينتفع
الناس به فقال لي: منجم أنت؟ قلت لا وإنما أنطقني الله بذلك. فذكر ذلك لوالده فحرص
عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام.
التعريف بالامام النووي 12

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء الأول
الناشر
دار الكتاب العربي
بيروت - لبنان
1

بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا الامام العالم الزاهد الورع محي الدين يحيى بن شرف بن
مري بن حسن بن حسين بن حزام النووي رحمه الله تعالى آمين
الحمد لله البر الجواد الذي جلت نعمه عن الاحصاء والاعداد خالق اللطف والارشاد
الهادي إلى سبيل الرشاد الموفق بكرمه لطرق السداد المان بالاعتناء بسنة حبيبه وخليله عبده
ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى من لطف به من العباد المخصص هذه الأمة
زادها الله شرفا بعلم الاسناد الذي لم يشركها فيه أحد من الأمم على تكرر العصور والآباد
الذي نصب لحفظ هذه السنة المكرمة الشريفة المطهرة خواص من الحفاظ النقاد وجعلهم
ذابين عنها في جميع الأزمان والبلاد باذلين وسعهم في تبيين الصحة من طرقها والفساد خوفا
من الانتقاص منها والازدياد وحفظا لها على الأمة زادها الله شرفا إلى يوم التناد مستفرغين
جهدهم في التفقه في معانيها واستخراج الاحكام واللطائف منها مستمرين على ذلك في جماعات
وآحاد مبالغين في بيانها وايضاح وجوهها بالجد والاجتهاد ولا يزال على القيام بذلك
بحمد الله ولطفه جماعات في الأعصار كلها إلى انقضاء الدنيا واقبال المعاد وان قلوا وخملت
بلدان منهم وقربوا من النفاد أحمده أبلغ حمد على نعمه خصوصا على نعمة الاسلام وأن
جعلنا من أمة خير الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين محمد عبده ورسوله
وحبيبه وخليله خاتم النبيين صاحب الشفاعة العظمى ولواء الحمد والمقام المحمود سيد المرسلين
المخصوص بالمعجزة الباهرة المستمرة على تكرر السنين التي تحدى بها أفصح القرون وأفحم
بها المنازعين وظهر بها خزي من لم ينقد لها من المعاندين المحفوظة من أن يتطرق
إليها
تغيير الملحدين أعنى بها القرآن العزيز كلام ربنا الذي نزل به الروح الأمين على قلبه
ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين والمصطفى بمعجزات أخر زائدات على الألف والمئين
وبجوامع الكلم وسماحة شريعته ووضع أصر المتقدمين المكرم بتفضيل أمته زادها الله شرفا
2

على الأمم السابقين وبكون أصحابه رضي الله عنهم خير القرون الكائنين وبأنهم كلهم مقطوع
بعدالتهم عند من يعتد به من علماء المسلمين ويجعل اجماع أمته حجة مقطوعا بها كالكتاب
المبين وأقوال أصحابه المنتشرة من غير مخالفة لذلك عند العلماء المحققين المخصوص بتوفر
دواعي أمته زادها الله شرفا على حفظ شريعته وتدوينها ونقلها عن الحفاظ المسندين وأخذها
عن الحذاق المتقين والاجتهاد في تبيينها للمسترشدين والدؤوب في تعليمها احتسابا لرضا رب
العالمين والمبالغة في الذب عن منهاجه بواضح الأدلة وقمع الملحدين والمبتدعين صلوات
الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين وآل كل وصحابتهم والتابعين وسائر عباد الله الصالحين
ووفقنا للاقتداء به دائمين في أقواله وأفعاله وسائر أحواله مخلصين مستمرين في ذلك دائبين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اقرارا بوحدانيته واعترافا بما يجب على الخلق
كافة من الاذعان لربوبيته واشهد ان محمد عبده ورسوله المصطفى من بريته والمخصوص
بشمول رسالته وتفضيل أمته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وعترته
اما بعد فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب واجل الطاعات واهم أنواع الخير وآكد
العبادات وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات وشمر في ادراكه والتمكن فيه أصحاب
الأنفاس الزكيات وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى الخيرات وسابق إلى التحلي به مستبقو
المكرمات وقد تظاهرت على ما ذكرته جمل من الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة
المشهورات وأقاويل السلف رضي الله عنهم النيرات ولا ضرورة لذكرها هنا لكونها
من الواضحات الجليات ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات أعني معرفة
متونها صحيحها وحسنها وضعيفها متصلها ومرسلها ومنقطعها ومعضلها ومقلوبها ومشهورها
وغريبها وعزيزها متواترها وآحادها وافرادها معروفها وشاذها ومنكرها ومعللها وموضوعها
ومدرجها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها ومجملها ومبينها ومختلفها وغير ذلك من أنواعها
المعروفات ومعرفة علم الأسانيد أعني معرفة حال رجالها وصفاتهم المعتبرة وضبط أسمائهم
وأنسابهم ومواليدهم ووفياتهم وغير ذلك من الصفات ومعرفة التدليس والمدلسين وطرق
الاعتبار والمتابعات ومعرفة حكم اختلاف
الرواة في الأسانيد والمتون والوصل والارسال
والوقف والرفع والقطع والانقطاع وزيادات الثقات ومعرفة الصحابة والتابعين واتباعهم
3

واتباع اتباعهم ومن بعدهم رضي الله عنهم وعن سائر المؤمنين والمؤمنات وغير ما ذكرته من
علومها المشهورات ودليل ما ذكرته أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات
وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات وبيانها
في السنن المحكمات وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما
بالأحاديث الحكميات فتيت بما ذكرناه ان الانشغال بالحديث من اجل العلوم الراجحات
وأفضل أنواع الخير وآكد القربات وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل مع ما ذكرناه على
بيان حال أفضل المخلوقات عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والتبريكات ولقد
كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات حتى لقد كان يجتمع في مجلس
الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات فتناقص ذلك وضعفت الهمم فلم يبق الا آثار من آثارهم
قليلات والله المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات وقد جاء في فضل احياء السنن
المماتات أحاديث كثيرة معروفات مشهورات فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض
عليه لما ذكرنا من الدلالات ولكونه أيضا من النصيحة لله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم
وللأئمة والمسلمين والمسلمات وذلك هو الدين كما صح عن سيد البريات
صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه الطاهرات ولقد أحسن القائل
من جمع أدوات الحديث استنار قلبه واستخرج كنوزه الخفيات وذلك لكثرة فوائده
البارزات والكامنات وهو جدير بذلك فإنه كلام افصح الخلق ومن أعطي جوامع الكلمات
صلى الله عليه وسلم صلوات متضاعفات وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا
الصحيحان للإمامين القدوتين أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبى الحسين مسلم بن
الحجاج القشيري رضي الله عنهما فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات فينبغي ان يعتنى بشرحهما
وتشاع فوائدهما ويتلطف في استخراج دقائق المعلوم من متونهما وأسانيدهما لما ذكرنا من
الحجج الظاهرات وأنواع الأدلة المتظاهرات فأما صحيح البخاري رحمه الله فقد جمعت
في شرحه جملا مستكثرات مشتملة على نفائس من أنواع العلوم بعبارات وجيزات وانا
مشمر في شرحه راج من الله الكريم في اتمامه المعونات واما صحيح مسلم رحمه الله فقد
استخرت الله تعالى الكريم
الرؤف الرحيم في جمع كتاب شرحه متوسط بين المختصرات
4

والمبسوطات لا من المختصرات المخلات ولا من المطولات المملات ولولا ضعف الهمم
وقلة الراغبين وخوف عدم انتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات لبسطه فبلغت به ما يزيد
على مائة من المجلدات من غير تكرار ولا زيادات عاطلات بل ذلك لكثرة فوائده وعظم
عوائده الخفيات والبارزات وهو جدير بذلك فإنه كلام أفصح المخلوقات صلى الله عليه
وسلم صلوات دائمات لكني اقتصر على التوسط واحرص على ترك الإطالات وأوثر
الاختصار في كثير من الحالات فأذكر فيه إن شاء الله جملا من علومه الزاهرات من أحكام
الأصول والفروع والآداب والإشارات الزهديات وبيان نفائس من أصول القواعد
الشرعيات وايضاح معاني الألفاظ اللغوية وأسماء الرجال وضبط المشكلات وبيان أسماء
ذوي الكنى وأسماء آباء الأبناء والمبهمات والتنبيه على لطيفة من حال بعض الرواة وغيرهم من
المذكورين في بعض الأوقات واستخراج لطائف من خفيات علم الحديث من المتون
والأسانيد المستفادات وضبط جمل من الأسماء المؤتلفات والمختلفات والجمع بين الأحاديث
التي تختلف ظاهرا ويظن البعض من لا يحقق صناعتي الحديث والفقه وأصوله كونها متعارضات
وأنبه على ما يحضرني في الحال في الحديث من المسائل العمليات وأشير إلى الأدلة في كل ذلك
إشارات الا في مواطن الحاجة إلى البسط للضرورات واحرص في جميع ذلك على الايجاز
وايضاح العبارات وحيث انقل شيئا من أسماء الرجال واللغة وضبط المشكل والاحكام والمعاني
وغيرها من المنقولات فإن كان مشهورا لا أضيفه إلى قائليه لكثرتهم الا نادرا لبعض
المقاصد الصالحات وإن كان غريبا أضفته إلى قائليه الا ان أذهل عنه بعض المواطن لطول
الكلام أو كونه مما تقدم بيانه من الأبواب الماضيات وإذا تكرر الحديث أو الاسم أو
اللفظة من اللغة ونحوها بسطت المقصود منه في أول مواضعه وإذا مررت على الموضع الآخر
ذكرت انه تقدم شرحه وبيانه في الباب الفلاني من الأبواب السابقات وقد اقتصر على بيان
تقدمه من غير إضافة أو أعيد الكلام فيه لبعد الموضع الأول أو ارتباط كلام أو نحوه أو غير
ذلك من المصالح المطلوبات واقدم في أول الكتاب جملا من المقدمات مما يعظم النفع
به إن شاء الله تعالى ويحتاج إليه طالبو التحقيقات وأرتب ذلك في فصول متتابعات
ليكون
أسهل في مطالعته وابعد من السامات وانا مستمد المعونة والصيانة واللطف والرعاية من الله
5

الكريم رب الأرضين والسماوات مبتهلا إليه سبحانه وتعالى ان يوفقني ووالدي ومشايخي
وسائر أقاربي وأحبابي ومن أحسن الينا بحسن النيات وان ييسر لنا الطاعات وان يهدينا لها
دائما في ازدياد حتى الممات وان يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته والجمع بيننا في دار
كرامته وغير ذلك من أنواع المسرات وان ينفعنا أجمعين ومن يقرأ في هذا الكتاب به وان
يجزل لنا المثوبات وان لا ينزع منا ما وهبه لنا ومن به علينا من الخيرات وان لا يجعل شيئا
من ذلك فتنة لنا وان يعيذنا من كل شئ من المخالفات انه مجيب الدعوات جزيل
العطيات اعتصمت بالله توكلت على الله ما شاء الله لا قوة الا بالله لا حول ولا قوة
الا بالله وحسبي الله ونعم الوكيل وله الحمد والفضل والمنة والنعمة وبه التوفيق واللطف
والهداية والعصمة
فصل في بيان اسناد الكتاب وحال رواته منا إلى الإمام مسلم رضي الله عنه مختصرا
أما اسنادي فيه فأخبرنا بجميع صحيح الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله الشيخ الأمين العدل
الرضى أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مضر الواسطي رحمه الله بجامع دمشق حماها الله
وصانها وسائر بلاد الاسلام وأهله قال أخبرنا الامام ذو الكنى أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح
منصور بن عبد المنعم الفراوي قال أخبرنا الامام فقيه الحرمين أبو جدي أبو عبد الله محمد بن
الفضل الفراوي قال أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر الفارسي قال أنا أحمد محمد بن عيسى
الجلودي قال أنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه انا الإمام أبو الحسين مسلم بن
الحجاج رحمه الله وهذا الاسناد الذي حصل لنا ولأهل زماننا ممن يشاركنا فيه في نهاية من العلو
بحمد الله تعالى فبيننا وبين مسلم ستة وكذلك اتفقت لنا بهذا العدد رواية الكتب الأربعة
التي هي تمام الكتب الخمسة التي هي أصول الاسلام أعنى صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي
داود والترمذي والنسائي وكذلك رقع لنا بهذا العدد مسندا الامامين أبوي عبد الله أحمد بن
حنبل ومحمد بن يزيد أعنى بن ماجة ووقع لنا أعلى من هذه الكتب وان كانت عالية موطأ
الامام أبي عبد الله مالك بن أنس فبيننا وبينه رحمه الله سبعة وهو شيخ شيوخ المذكورين كلهم
فتعلو روايتنا لأحاديثه برجل ولله الحمد والمنة
وحصل في روايتنا لمسلم لطيفة وهو أنه اسناد
6

مسلسل بالنيسابوريين وبالمعمرين فان رواته كلهم معمرون وكلهم نيسابوريون من شيخنا أبي
إسحاق إلى مسلم وشيخنا وإن كان واسطيا فقد أقام بنيسابور مدة طويلة والله أعلم
اما بيان حال رواته فيطول الكلام في تقصي أخبارهم واستقصاء أحوالهم لكن نقتصر على ضبط
أسمائهم وأحرف تتعلق بحال بعضهم أما شيخنا أبو إسحاق فكان من أهل الصلاح والمنسوبين
إلى الخير والفلاح معروفا بكثرة الصدقات وانفاق المال في وجوه المكرمات ذا عفاف وعبادة
ووقار وسكينة وصيانة بلا استكبار توفي رحمه الله بالإسكندرية اليوم السابع من رجب سنة
أربع وستين وستمائة وأما شيخ شيخنا فهو الامام ذو الكنى أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح
منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي العباس
الصاعدي الفراوي ثم النيسابوري منسوب إلى فراوة بليدة من ثغر خراسان وهو بفتح الفاء
وضمها فاما الفتح فهو المشهور المستعمل بين أهل الحديث وغيرهم وكذا حكى الشيخ الامام
الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أنه سمع شيخه منصورا هذا رضي الله عنه يقول إنه
الفراوي بفتح الفاء وذكره أبو سعيد السمعاني في كتابه الأنساب بضم الفاء وكذا ذكر الضم
أيضا غير السمعاني وكان منصور هذا جليلا شيخا مكثرا ثقة صحيح السماع روى عن أبيه
وجده وجد أبيه أبى عبد الله محمد بن الفضل وروى عن غيرهم مولده في شهر رمضان سنة اثنين
وعشرين وخمسمائة وتوفى بشازياخ نيسابور في شعبان سنة ثمان وستمائة واما أبو عبد الله
الفراوي فهو محمد بن الفضل جد أبى منصور النيسابوري وقد تقدم تمام نسبه في نسب ابن
ابن ابنه منصور كان أبو عبد الله هذا الفراوي رضي الله عنه اماما بارعا في الفقه والأصول
وغيرهما كثير الروايات بالأسانيد الصحيحة العاليات رحلت إليه الطلبة من الأقطار وانتشرت
الروايات عنه فيما قرب وبعد من الأمصار حتى قالوا فيه للفراوي ألف راوي وكان يقال له
فقيه الحرم لإشاعته ونشره العلم بمكة زادها الله فضلا وشرفا ذكره الامام الحافظ أبو القاسم
الدمشقي المعروف بابن عساكر رضي الله عنهما فأطنب في الثناء عليه بما هو أهله ثم روى
عن أبي الحسين عبد الغافر أنه ذكره فقال هو فقيه الحرم البارع في الفقه والأصول الحافظ
للقواعد نشأ بين الصوفية في حجورهم ووصل إليه بركات أنفاسهم وسمع التصانيف والأصول
من الامام زين الاسلام ودرس عليه الأصول والتفسير ثم اختلف إلى مجلس امام الحرمين
7

ولازم درسه ما عاش وتفقه عليه وعلق عنه الأصول وصار من جملة المذكورين من أصحابه وخرج
حاجا إلى مكة وعقد المجلس ببغداد وسائر البلاد وأظهر العلم بالحرمين وكان منه بهما أثر وذكر
ونشر للعلم وعاد إلى نيسابور وما تعدى قط حد العلماء ولا سيرة الصالحين من التواضع والتبذل
في الملابس والتعايش وتستر بكتابة الشروط لاتصاله بالزمرة الشحامية مصاهرة ليصون بها
عرضه وعلمه عن توقع الارفاق ويتبلغ بما يكتسبه منها في أسباب المعيشة من فنون
الأرزاق وقعد للتدريس في المدرسة الناصحة وإفادة الطلبة فيها وقد سمع المسانيد والصحاح
وأكثر عن مشايخ عصره وله مجالس الوعظ والتذكير المشحونة بالفوائد والمبالغة في النصح
وحكايات المشايخ وذكر أحوالهم قال الحافظ أبو القاسم والى الإمام محمد الفراوي كانت رحلتي
الثانية لأنه المقصود بالرحلة في تلك الناحية لما اجتمع فيه من علو الاسناد ووفور العلم
وصحة الاعتقاد وحسن الخلق ولين الجانب والاقبال بكليته على الطالب فأقمت في صحبته سنة
كاملة وغنمت من مسموعاته فوائد حسنة طائلة وكان مكرما لموردي عليه عارفا بحق قصدي إليه
ومرض مرضة في مدة مقامي عنده ونهاه الطبيب عن التمكين من القراءة عليه فيها وعرفه ان
ذلك ربما كان سببا لزيادة تألمه فقال لا أستجيز أن أمنعهم من القراءة وربما أكون قد حسبت
في الدنيا لأجلهم وكنت أقرأ عليه في حال مرضه وهو ملقى على فراشه ثم عوفي من تلك المرضة
وفارقته متوجها إلى هراة فقال لي حين ودعته بعد أن اظهر الجزع لفراقي وربما لا نلتقي بعد
هذا فكان كما قال فجاءنا نعيه إلى هراة وكانت وافته في العشر الأواخر من شوال سنة ثلاثين
وخمسمائة ودفن في تربة أبى بكر بن خزيمة رضي الله عنهما وذكر الحافظ أيضا جملا أخرى من
مناقبه حذفتها اختصارا وذكر أبو سعيد السمعاني أنه سأل أبا عبد الله الفراوي هذا عن مولده
فقال مولدي تقديرا سنة احدى وأربعين وأربعمائة قال غيره وتوفى يوم الخميس الحادي أو
الثاني والعشرين من شوال سنة ثلاثين وخمسمائة قال الحافظ الشيخ أبو عمرو رحمة الله له في علم
المذهب كتاب انتخبت منه فوائد استغربتها وسمع صحيح مسلم من عبد الغافر في السنة التي توفى
فيها عبد الغافر سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
بقراءة أبي سعيد البحيري رحمه الله ورضى عنه
واما شيخ الفراوي فهو أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر بن أحمد بن محمد بن سعيد
الفارسي الفسوي ثم النيسابوري التاجر وكان سماعه صحيح مسلم من الجلودي سنة خمس وستين
8

وثلاثمائة ذكره ولد ولده أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي الأديب الامام
المحدث ابن المحدث ابن المحدث صاحب التصانيف كذيل تاريخ نيسابور وكتاب مجمع الغرائب
والمفهم لشرح غريب صحيح مسلم وغيرها فقال كان شيخا ثقة صالحا صائنا محظوظا من الدين
والدنيا محدودا في الرواية على قلة سماعه مشهورا مقصودا من الآفاق سمع منه الأئمة والصدور
وقرأ الحافظ الحسن السمرقندي عليه صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة وقرأه عليه أبو سعيد
البحيري نيفا وعشرين مرة وممن قرأه عليه من مشاهير الأئمة زين الاسلام أبو القاسم يعنى
القشيري والواحدي وغيرهما استكمل خمسا وتسعين سنة وألحق أحفاد الأحفاد بالأجداد
وتوفى يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء السادس من شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وقال
غيره ولد ثلاث وخمسين وثلاثمائة وسمع منه أئمة الدنيا من الغرباء والطارئين والبلديين وبارك
الله سبحانه وتعالى في سماعه وروايته مع قلة سماعه وكان المشهور برواية صحيح مسلم وغريب
الخطابي في عصره وسمع الخطابي وغيره من أهل عصره رحمه الله ورضى عنه وأما شيخ الفارسي
فهو أبو أحمد محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرويه بن منصور الزاهد النيسابوري
الجلودي بضم الجيم بلا خلاف قال الأمام أبو سعيد السمعاني هو منسوب الجلود المعروفة
جمع جلد قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله عندي أنه منسوب إلى سكة الجلوديين
بنيسابور الدارسة وهذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو يمكن حمل كلام السمعاني عليه وإنما قلت إن
الجلودي هذا بضم الجيم بلا خلاف لان ابن السكيت وصاحبه ابن قتيبة قالا في كتابيهما
المشهورين أن الجلودي بفتح الجيم منسوب إلى جلود اسم قرية بإفريقية وقال غيرهما انها بالشام
وأراد أن من نسب إلى هذه القرية فهو بفتح الجيم لكونها مفتوحة وأما أبو أحمد الجلودي
فليس منسوبا إلى هذه القرية فليس فيما قالاه مخالفة لما ذكرناه والله أعلم قال الحاكم أبو عبد الله
كان أبو أحمد هذا الجلودي شيخا صالحا زاهدا من كبار عباد الصوفية صحب أكابر المشايخ من
أهل الحقائق وكان ينسخ الكتب ويأكل من كسب يده سمع أبا بكر بن خزيمة ومن كان قبله
وكان ينتحل مذهب سفيان الثوري ويعرفه توفى رحمه الله
يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من
ذي الحجة سنة ثمان وستين وثلاثمائة وهو ابن ثمانين سنة قال الحاكم وختم لوفاته سماع صحيح
مسلم وكل من حدث به بعده عن إبراهيم بن محمد بن سفيان وغيره فليس بثقة والله أعلم
9

وأما الشيخ الجلودي فهو السيد الجليل أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري الفقيه
الزاهد المجتهد العابد قال الحاكم أبو عبد الله بن البيع سمعت محمد بن يزيد العدل يقول كان إبراهيم
ابن محمد بن سفيان مجاب الدعوة قال الحاكم وسمعت أبا عمرو بن نجيد يقول إنه كان من
الصالحين قال الحاكم كان إبراهيم بن سفيان من العباد المجتهدين ومن الملازمين لمسلم بن الحجاج
وكان من أصحاب أيوب بن الحسن الزاهد صاحب الرأي يعنى الفقيه الحنفي سمع إبراهيم بن
سفيان بالحجاز ونيسابور والري والعراق قال إبراهيم فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب في شهر
رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين قال الحاكم مات إبراهيم في رجب سنة ثمان وثلاثمائة رحمه الله
ورضى عنه وأما شيخ إبراهيم بن محمد بن سفيان فهو الإمام مسلم صاحب الكتاب وهو
أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسبا النيسابوري وطنا عربي صليبة وهو أحد
أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والاتقان والرحالين في طلبه إلى
أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان
والمرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل الأزمان سمع بخراسان يحيى بن يحيى وإسحاق بن
راهويه وغيرها وبالري محمد بن مهران الجمال بالجيم وأبا غسان وغيرهما وبالعراق أحمد بن حنبل
وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهما وبالحجاز سعيد بن منصور وأبا مصعب وغيرهما وبمصر
عمرو بن سواد وحرملة بن يحيى وغيرهما وخلائق كثيرين روى عنه جماعات من كبار أئمة
عصره وحفاظه وفيهم جماعات في درجته فمنهم أبو حاتم الرازي وموسى بن هارون وأحمد بن
سلمة وأبو عيسى الترمذي وأبو بكر بن خزيمة ويحيى بن صاعد وأبو عوانة الأسفرايني وآخرون
لا يحصون وصنف مسلم رحمه الله في علم الحديث كتبا كثيرة منها هذا الكتاب الصحيح الذي
من الله الكريم وله الحمد والنعمة والفضل والمنة به على المسلمين وأبقى لمسلم به ذكرا جميلا
وثناء حسنا إلى يوم الدين ومنها كتاب المسند الكبير على أسماء الرجال وكتاب الجامع الكبير
على الأبواب وكتاب العلل وكتاب أوهام المحدثين وكتاب التميز وكتاب من ليس له الا راو
واحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب المخضرمين وغير ذلك
قال الحاكم أبو عبد الله حدثنا
أبو الفضل محمد بن إبراهيم قال سمعت أحمد بن سلمة يقول رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان
مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما وفى رواية في معرفة الحديث قلت
10

ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده في أسانيده وترتيبه وحسن سياقته
وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري
في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع
روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات علم
أنه امام لا يلحقه من بعد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره وذلك
فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأنا اقتصر من أخباره رضي الله عنه على هذا
القدر فان أحواله رحمه الله ومناقبه لا تستقصى لبعدها عن أن تحصى وقد دللت بما ذكرت من
الإشارة إلى حالته على ما أهملت من جميل طريقته والله الكريم أسأله أن يجزل في مثوبته وأن
يجمع بيننا وبينه مع أحبائنا في دار كرامته بفضله وجوده ولطفه ورحمته وقد قدمت أن أوثر
الاختصار وأحاذر التطويل الممل والاكثار توفى مسلم رحمه الله بنيسابور سنة احدى
وستين ومائتين قال الحاكم أبو عبد الله بن البيع في كتاب المزكين لرواة الاخبار سمعت
أبا عبد الله بن الأخرم الحافظ رحمه الله يقول توفى مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية الأحد ودفن
يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة احدى وستين ومائتين وهو ابن خمس وخمسين سنة
رحمه الله ورضى عنه
فصل صحيح مسلم رحمه الله في نهاية من الشهرة وهو متواتر عنه من حيث الجملة فالعلم
القطعي حاصل بأنه تصنيف أبى الحسين مسلم بن الحجاج وأما من حيث الرواية المتصلة بالاسناد
المتصل بمسلم فقد انحصرت طريقه عنده في هذه البلدان والأزمان في رواية أبي إسحاق إبراهيم
ابن محمد بن سفيان عن مسلم ويروى في بلاد المغرب مع ذلك عن أبي محمد أحمد بن علي القلانسي
عن مسلم ورواه عن ابن سفيان جماعة منهم الجلودي وعن الجلودي جماعة منهم الفارسي وعنه
جماعة منهم الفراوي وعنه خلائق منهم منصور وعنه خلائق منهم شيخنا أبو إسحاق قال
الشيخ الامام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وأما القلانسي فوقعت روايته عند أهل
الغرب ولا رواية له عند غيرهم دخلت روايته إليه من جهة أبى عبد الله محمد بن يحيى بن الحذاء
التميمي القرطبي وغيره سمعوها بمصر من أبى العلاء عبد الوهاب بن عيسى
بن عبد الرحمن بن ماهان
البغدادي قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى الأشقر الفقيه على مذهب الشافعي قال
11

حدثنا أبو محمد القلانسي قال حدثنا مسلم الا ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب أولها حديث
الإفك الطويل فان أبا العلاء بن ماهان كان يروى ذلك عن أبي أحمد الجلودي عن أبي سفيان
عن مسلم رضي الله عنه
فصل قال الشيخ الامام الحافظ أبو عمرو وعثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح
رحمه الله اختلف النسخ في رواية الجلودي عن إبراهيم بن سفيان هل هي بحدثنا إبراهيم أو
أخبرنا والتردد واقع في أنه سمع لفظ إبراهيم أو قرأه عليه فالأحوط أن يقال أخبرنا إبراهيم
حدثنا إبراهيم فليلفظ القارئ بهما على البدل قال وجائز لنا الاقتصار على أخبرنا فإنه كذلك
فيما نقلته من ثبت الفراوي من خط صاحبه عبد الرزاق الطبسي وفيما انتخبته بنيسابور من
الكتاب من أصل فيه سماع شيخنا المؤيد وهو كذلك بخط الحافظ أبى القاسم الدمشقي
العساكري عن الفراوي وفى غير ذلك وأيضا فحكم المتردد في ذلك المصير إلى أخبرنا لأن كل
تحديث من حديث الحقيقة اخبار وليس كل اخبار تحديثا
قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رضي الله عنه اعلم أن إبراهيم بن سفيان
في الكتاب فائتا لم يسمعه من مسلم يقال فيه أخبرنا إبراهيم عن مسلم ولا يقال فيه أخبرنا
مسلم ولا حدثنا مسلم وروايته لذلك عن مسلم اما بطريقة الإجازة واما بطريقة الوجادة وقد غفل
أكثر الرواة عن تبين ذلك وتحقيقه في فهاريسهم وتسميعاتهم وإجازاتهم وغيرها بل يقولون
في جميع الكتاب أخبرنا إبراهيم قال أخبرنا مسلم وهذا الفوات في ثلاثة مواضع محققة في أصول
معتمدة فأولها في كتاب الحج في باب الحلق والتقصير حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحم الله المحلقين برواية ابن نمير فشاهدت عنده في أصل
الحافظ أبى القاسم الدمشقي بخطه ما صورته أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم
قال حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمر الحديث وكذلك في أصل بخط الحافظ
أبى عامر العبدري الا أنه قال حدثنا أبو إسحاق وشاهدت عنده في أصل قديم مأخوذ عن أبي
أحمد الجلودي ما صورته من ها هنا قرأت على أبى أحمد حدثكم إبراهيم عن مسلم وكذا كان في
كتابه إلى العلامة وقال الشيخ رحمه الله وهذه العلامة هي بعد ثمان ورقات أو نحوها عند
أول حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره
12

خارجا إلى سفر كبر ثلاثا وعندها في الأصل المأخوذ عن الجلودي ما صورته إلى هنا قرأت
عليه يعنى على الجلودي عن مسلم ومن هنا قال حدثنا مسلم وفى أصل الحافظ أبى القاسم عندها
بخطه من هنا يقول حدثنا مسلم والى هنا شك الفائت الثاني لإبراهيم أوله في أول الوصايا قول
مسلم حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ومحمد بن المثنى واللفظ لمحمد بن المثنى في حديث ابن عمر
ما حق امرئ مسلم له شئ يريد أن يوصى فيه إلى قوله في آخر حديث رواه في قصة حويصة
ومحيصة في القسامة حدثني إسحاق بن منصور أخبرنا بشر بن عمرو قال سمعت مالك بن أنس
الحديث وهو مقدار عشر ورقات ففي الأصل المأخوذ عن الجلودي والأصل الذي بخط
الحافظ أبي عامر العبدري ذكر انتهاء هذا الفوات عند أول هذا الحديث وعود قول إبراهيم
حدثنا مسلم وفي أصل الحافظ أبي القاسم الدمشقي شبه التردد في أن هذا الحديث داخل في الفوات
أو غير داخل فيه والاعتماد على الأول الفائت الثالث أوله قول مسلم في أحاديث الامارة
والخلافة حدثني زهير بن حرب حدثنا شبابة حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما الامام جثة ويمتد إلى قوله في كتاب الصيد والذبائح حدثنا محمد بن مهران الرازي
حدثنا أبو عبد الله حماد بن خالد الخياط حديث أبي ثعلبة الخشني إذا رميت سهمك فمن أول هذا
الحديث عاد قول إبراهيم حدثنا مسلم وهذا الفوات أكثرها وهو نحو ثماني عشرة ورقة وفي
أوله بخط الحافظ الكبير أبي حازم العبدري النيسابوري وكان يروى الكتاب عن محمد بن
يزيد العدل عن إبراهيم ما صورته من هنا يقول إبراهيم قال مسلم وهو في الأصل المأخوذ عن
الجلودي وأصل أبي عامر العبدري وأصل أبي القاسم الدمشقي بكلمة عن وهكذا في الفائت الذي
سبق في الأصل المأخوذ عن الجلودي وأصل أبي عامر العبدري وأصل أبي القاسم وذلك
يحتمل كونه روى ذلك عن مسلم بالوجادة ويحتمل الإجازة ولكن في بعض النسخ التصريح
في بعض ذلك أو كله يكون ذلك عن مسلم بالإجازة والله أعلم هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله
قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله اعلم أن الرواية بالأسانيد
المتصلة ليس المقصود منها في عصرنا وكثير من الأعصار قبله اثبات ما يروى إذ لا يخلو اسناد
منها عن شيخ لا يدري ما يرويه ولا يضبط ما في كتابه ضبطا يصلح لان يعتمد عليه في ثبوته
وإنما المقصود بها ابقاء سلسلة الاسناد التي خصت بها هذه الأمة زادها الله كرامة وإذا كان
13

كذلك فسبيل من أراد الاحتجاج بحديث من صحيح مسلم وأشباهه أن ينقله من أصل مقابل
على يدي ثقتين بأصول صحيحة متعددة مروية بروايات متنوعة ليحصل له بذلك مع اشتهار هذه
الكتب وبعدها عن أن تقصد بالتبديل والتحريف الثقة بصحة ما اتفقت عليه تلك الأصول
فقد تكثر تلك الأصول المقابل بها كثرة تتنزل منزلة التواتر أو منزلة الاستفاضة هذا كلام
الشيخ وهذا الذي قاله محمول على الاستحباب والاستظهار والا فلا يشترط تعداد الأصول
والروايات فان الأصل الصحيح المعتمد يكفي وتكفي المقابلة به والله أعلم
اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان
البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف
ظاهرة وغامضة وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في
علم الحديث وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير
وأهل الاتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث وقال أبو علي الحسين بن علي النيسابوري
الحافظ شيخ الحاكم أبي عبد الله بن البيع كتاب مسلم أصح ووافقه بعض شيوخ المغرب
والصحيح الأول وقد قرر الامام الحافظ الفقيه النظار أبو بكر الإسماعيلي رحمه الله في كتابه
المدخل ترجيح كتاب البخاري وروينا عن الامام أبي عبد الرحمن النسائي رحمه الله أنه قال ما في
هذه الكتب كلها أجود من كتاب البخاري قلت ومن أخصر ما ترجح به اتفاق العلماء على أن
البخاري أجل من مسلم وأعلم بصناعة الحديث منه وقد انتخب علمه ولخص ما ارتضاه في
هذا الكتاب وبقي في تهذيبه وانتقائه ست عشرة سنة وجمعه من ألوف مؤلفة من الأحاديث
الصحيحة وقد ذكرت دلائل هذا كله في أول شرح صحيح البخاري ومما ترجح به كتاب
البخاري ان مسلما رحمه الله كان مذهبه بل نقل الاجماع في أول صحيحه أن الاسناد المعنعن له
حكم الموصول بسمعت بمجرد كون المعنعن والمعنعن عنه كانا في عصر واحد وان لم يثبت
اجتماعهما والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما وهذا المذهب يرجح كتاب
البخاري وان كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب لكونه يجمع طرقا كثيرة يتعذر
معها وجود هذا الحكم الذي جوزه والله أعلم وقد انفرد مسلم بفائدة حسنة وهي كونه أسهل
متناولا من حيث أنه جعل لكل حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها
14

واختار ذكرها وأورد فيه أسانيده المتعددة وألفاظه المختلفة فيسهل على الطالب النظر في وجوهه
واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه بخلاف البخاري فإنه يذكر تلك
الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكره في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم
انه أولى به وذلك لدقيقة يفهمها البخاري منه فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة
بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا
في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى
الفهم والله أعلم ومما جاء في فضل صحيح مسلم ما بلغنا عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور
أنه قال سمعت مسلم بن الحجاج رضي الله عنه يقول لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث
فمدارهم على هذا المسند يعني صحيحه قال وسمعت مسلما يقول عرضت كتابي هذا على أبي زرعة
الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال أنه صحيح وليس له علة خرجته وذكر غيره
ما رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي باسناده عن مسلم رحمه الله قال صنفت هذا المسند
الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة
فصل قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله شرط مسلم رحمه الله تعالى في
صحيحه أن يكون الحديث متصل الاسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من
الشذوذ والعلة قال وهذا حد الصحيح فكل حديث اجتمعت فيه هذه الشروط فهو صحيح بلا
خلاف بين أهل الحديث وما اختلفوا في صحته من الأحاديث فقد يكون سبب اختلافهم انتفاء
شرط من هذه الشروط وبينهم خلاف في اشتراطه كما إذا كان بعض الرواة مستورا أو كان
الحديث مرسلا وقد يكون سبب اختلافهم أنه هل اجتمعت فيه هذه الشروط أم انتفى بعضها
وهذا هو الأغلب في ذلك كما إذا كان الحديث في رواته من اختلف في كونه من شرط الصحيح
فإذا كان الحديث رواته كلهم ثقات غير أن فيهم أبا الزبير المكي مثلا أو سهيل بن أبي صالح أو
العلاء بن عبد الرحمن أو حماد بن سلمة قالوا فيه هذا حديث صحيح على شرط مسلم وليس بصحيح
على شرط البخاري لكون هؤلاء عند مسلم ممن اجتمعت فيهم الشروط المعتبرة ولم يثبت عند
البخاري ذلك فيهم وكذا حال البخاري فيما خرجه من حديث عكرمة مولى ابن عباس وإسحاق
ابن محمد الفروي وعمرو بن مرزوق وغيرهم ممن احتج بهم البخاري ولم يحتج بهم مسلم قال
15

الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري في كتابه المدخل إلى معرفة المستدرك عدد من خرج
لهم البخاري في الجامع الصحيح ولم يخرج لهم مسلم أربعمائة وأربعة وثلاثون شيخا وعدد من
احتج بهم مسلم في المسند الصحيح ولم يحتج بهم البخاري في الجامع الصحيح ستمائة وخمسة
وعشرون شيخا والله أعلم وأما قول مسلم رحمه الله في صحيحه في باب صفة صلاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليس كل شئ صحيح عندي وضعته ههنا يعنى في كتابه هذا الصحيح وإنما
وضعت ههنا ما أجمعوا عليه فمشكل فقد وضع فيه أحاديث كثيرة مختلفا في صحتها لكونها من
حديث من ذكرناه ومن لم نذكره ممن اختلفوا في صحة حديثه قال الشيخ وجوابه من وجهين
أحدهما أن مراده أنه لم يضع فيه الا ما وجد عنده فيه شروط الصحيح المجمع عليه وان لم يظهر
اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم والثاني أنه أراد أنه لم يضع فيه ما اختلفت الثقات
فيه في نفس الحديث متنا أو اسنادا ولم يرد ما كان اختلافهم إنما هو في توثيق بعض رواته
وهذا هو الظاهر من كلامه فإنه ذكر ذلك لما سئل عن حديث أبي هريرة فإذا قرأ فأنصتوا هل
هو صحيح فقال هو عندي صحيح فقيل لم لم تضعه ههنا فأجاب بالكلام المذكور ومع هذا فقد
اشتمل كتابه على أحاديث اختلفوا في اسنادها أو متنها لصحتها عنده وفي ذلك ذهول منه عن
هذا الشرط أو سبب آخر وقد استدركت وعللت هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله
فصل قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله ما وقع في صحيحي البخاري ومسلم مما
صورته صورة المنقطع ليس ملتحقا بالمنقطع في خروجه من حيز الصحيح إلى حيز الضعيف
ويسمى هذا النوع تعليقا سماه به الإمام أبو الحسن الدارقطني ويذكره الحميدي في الجمع بين
الصحيحين وكذا غيره من المغاربة وهو في كتاب البخاري كثير جدا وفي كتاب مسلم قليل
جدا قال فإذا كان التعليق منهما بلفظ فيه جزم بأن من بينهما وبينه الانقطاع قد قال ذلك أو
رواه واتصل الاسناد منه على الشرط مثل أن يقولا روى الزهري عن فلان ويسوقا اسناده
الصحيح فحال الكتابين يوجب أن ذلك من الصحيح عندهما وكذلك ما روياه عمن ذكراه
بلفظ مبهم لم يعرف به وأورداه أصلا محتجين به وذلك مثل حدثني بعض أصحابنا ونحو ذلك
قال وذكر الحافظ أبو علي الغساني الجياني أن الانقطاع وقع فيما رواه مسلم في كتابه في أربعة
عشر موضعا أولها في التيمم قوله في حديث أبي الجهم وروى الليث بن سعد ثم قوله في كتاب
16

الصلاة في باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا صاحب لنا عن إسماعيل بن زكريا
عن الأعمش وهذا في رواية أبى العلاء بن ماهان وسلمت رواة أبى أحمد الجلودي من هذا فقال
فيه مسلم حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن زكريا ثم في باب السكوت بين التكبير
والقراءة قوله وحدثت عن يحيى بن حسان ويونس المؤدب ثم قوله في كتاب الجنائز في حديث
عائشة رضي الله عنها في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ليلا وحدثني من سمع حجاجا
الأعور واللفظ له قال حدثنا ابن جريج وقوله في باب الحوائج في حديث عائشة رضي الله عنها
حدثني غير واحد من أصحابنا قالوا حدثنا إسماعيل بن أبي أويس وقوله في هذا الباب وروى
الليث بن سعد قال حدثني جعفر بن ربيعة وذكر حديث كعب بن مالك في تقاضي ابن أبي حدرد
وقوله في باب احتكار الطعام في حديث معمر بن عبد الله العدوي حدثني بعض أصحابنا عن
عمرو بن عون وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وحدثت عن أبي أسامة وممن روى
ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري قال حدثنا أبو أسامة وذكر أبو علي أنه رواه أبو أحمد
الجلودي عن محمد بن المسيب الارغيابي (1) عن إبراهيم بن سعيد قال الشيخ ورويناه من غير
طريق أحمد عن محمد بن المسيب ورواه غير ابن المسيب عن إبراهيم الجوهري وسنورد ذلك
في موضعه إن شاء الله تعالى وقوله في آخر الفضائل في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (أرأيتكم ليلتكم هذه) رواية مسلم إياه موصولا عن معمر عن الزهري
عن سالم عن أبيه ثم قال حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال أخبرنا أبو اليمان قال أخبرنا
شعيب ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر كلاهما عن الزهري باسناد معمر كمثل
حديثه وقول مسلم في آخر كتاب القدر في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (لتركبن
سنن من قبلكم) حدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم وهذا قد وصله إبراهيم بن محمد
ابن سفيان عن محمد بن يحيى عن ابن أبي أبي مريم قال الشيخ وإنما أورده مسلم على وجه المتابعة
والاستشهاد وقوله فيما سبق في الاستشهاد والمتابعة في حديث البراء بن عازب في الصلاة الوسطى
بعد أن رواه موصولا ورواه الأشجعي عن سفيان الثوري إلى آخره وقوله أيضا في الرجم
في المتابعة لما رواه موصولا من حديث أبي هريرة في الذي اعترف على نفسه بالزنى ورواه
17

الليث أيضا عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب بهذا الاسناد وقوله في كتاب
الامارة في المتابعة لما رواه متصلا من حديث عوف بن مالك (خيار أئمتكم الذين تحبونهم) ورواه
معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد قال الشيخ وذكر أبو علي فيما رواه عندنا من كتابه في الرابع
عشر حديث ابن عمر (أرأيتكم ليلتكم هذه) المذكور في الفضائل وقد ذكره مرة أخرى فيسقط
هذا من العدد ويسقط الحديث الثاني لكون الجلودي رواه عن مسلم موصولا وروايته هي
المعتمدة المشهورة فهي إذا اثنا عشر لا أربعة عشر قال الشيخ وأخذ هذا عن أبي على أبو
عبد الله المازري صاحب المعلم فأطلق أن هذا في الكتاب أحاديث مقطوعة في أربعة عشر موضعا
وهذا يوهم خللا في ذلك وليس ذلك كذلك وليس شئ من هذا والحمد لله مخرجا لما وجد فيه
من حيز الصحيح بل هي موصولة من جهات صحيحة لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة
ففي نفس الكتاب وصلها فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث كما أنه روى عن جماعة
من الضعفاء اعتمادا على كون ما رواه عنهم معروفا من رواية الثقات على ما سنرويه عنه فيما
بعد إن شاء الله تعالى قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله وهكذا الأمر في تعليقات البخاري
بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان أو روى فلان أو ذكر
فلان أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعا قادحا في
الصحة واستروح إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي وزعمه انه لم يصح في تحريمها
حديث مجيبا عن حديث أبي عامر أو أبى مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف) إلى آخر الحديث فزعم أنه وان أخرجه
البخاري فهو غير صحيح لان البخاري قال فيه قال هشام بن عمار وساقه باسناده فهو منقطع
فيما بين البخاري وهشام وهذا خطأ من ابن حزم من وجوه أحدها أنه لا انقطاع في هذا
أصلا من جهة أن البخاري لقى هشاما وسمع منه وقد قررنا في كتابنا علوم الحديث أنه إذا تحقق
اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل
قول الصحابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه وكذا غير قال
من الألفاظ الثاني أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري
الثالث أنه إن كان ذلك انقطاعا فمثل ذلك في الكتابين غير ملحق بالانقطاع القادح لما عرف
18

من عادتهما وشرطهما وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة فلن يستجيرا فيه
الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت بخلاف الانقطاع أو الارسال الصادر من غيرهما هذا كله
في المعلق بلفظ الجزم أما إذا لم يكن ذلك منهما بلفظ جازم مثبت له عمن ذاكره عنه على الصفة
التي تقدم ذكرها مثل أن يقولا روى عن فلان أو ذكر عن فلان أو في الباب عن فلان
ونحو ذلك فليس ذلك في حكم التعليق الذي ذكرناه ولكن يستأنس بإيرادهما له وأما قول مسلم
في خطبة كتابه وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان ننزل الناس منازلهم) فهذا بالنظر إلى أن لفظه ليس جازما لا يقتضي حكمه بصحته وبالنظر إلى
أنه احتج به وأورده ايراد الأصول لا ايراد الشواهد يقتضى حكمه بصحته ومع ذلك فقد حكم
الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه كتاب معرفة علوم الحديث بصحته وأخرجه أبو داود في
سننه باسناده منفردا به وذكر أن الراوي له عن عائشة ميمون بن أبي شبيب ولم يدركها قال
الشيخ وفيما قاله أبو داود نظر فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة بن شعبة ومات المغيرة قبل
عائشة وعند مسلم التعاصر مع امكان التلاقي كاف في ثبوت الادراك فلو ورد عن ميمون أنه
قال لم ألق عائشة استقام لأبي داود الجزم بعدم ادراكه وهيهات ذلك هذا آخر كلام الشيخ
قلت وحديث عائشة هذا قد رواه البزار في مسنده وقال هذا الحديث لا يعلم عن النبي
صلى الله عليه وسلم الا من هذا الوجه وقد روى عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفا والله أعلم
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله جميع ما حكم مسلم رحمه الله بصحته
في هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر وهكذا ما حكم
البخاري بصحته في كتابه وذلك لان الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه
في الاجماع قال الشيخ والذي نختاره أن تلقى الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول
يوجب العلم النظري بصدقه خلافا لبعض محققي الأصوليين حيث نفى ذلك بناء على أنه لا يفيد
في حق كل منهم الا الظن وإنما قبله لأنه يجب عليه العمل بالظن والظن قد يخطئ قال الشيخ
وهذا مندفع لان ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في اجماعها معصومة من الخطأ
وقد قال امام الحرمين لو حلف انسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما
بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لاجماع علماء المسلمين
19

على صحتها قال الشيخ ولقائل أن يقول إنه لا يحنث ولو لم يجمع المسلمون على صحتها للشك في
الحنث فإنه لو حلف بذلك في حديث ليست هذه صفته لم يحنث وإن كان راويه فاسقا فعدم
الحنث حاصل قبل الاجماع فلا يضاف إلى الاجماع قال الشيخ والجواب أن المضاف إلى الاجماع
هو القطع بعدم الحنث ظاهرا وباطنا وأما عند الشك فعدم الحنث محكوم به ظاهرا مع احتمال
وجوده باطنا فعلى هذا يحمل كلام امام الحرمين فهو اللائق بتحقيقه فإذا علم هذا فما أخذ على
البخاري ومسلم وقدح فيه معتمد من الحفاظ فهو مستثنى مما ذكرناه لعدم الاجماع على تلقيه
بالقبول وما ذلك الا في مواضع قليلة سننبه على ما وقع في هذا الكتاب منها إن شاء الله تعالى
وهذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه الله هنا وقال في جزء له ما اتفق البخاري ومسلم على
اخراجه فهو مقطوع بصدق مخبره ثابت يقينا لتلقى الأمة ذلك بالقبول وذلك يفيد العلم النظري
وهو في إفادة العلم كالمتواتر الا أن المتواتر يفيد العلم الضروري وتلقى الأمة بالقبول يفيد العلم
النظري وقد اتفقت الأمة على أن ما اتفق البخاري ومسلم على صحته فهو حق وصدق قال
الشيخ في علوم الحديث وقد كنت أميل إلى أن ما اتفقنا عليه فهو مظنون وأحسبه مذهبا قويا
وقد بان لي الآن أنه ليس كذلك وان الصواب أنه يفيد العلم وهذا الذي ذكره الشيخ في هذه
المواضع خلاف ما قاله المحققون والأكثرون فإنهم قالوا أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة
إنما تفيد الظن فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر ولا فرق بين البخاري ومسلم
وغيرهما في ذلك وتلقى الأمة بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما وهذا متفق عليه فان
أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد الا الظن فكذا
الصحيحان وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى
النظر فيه بل يجب العمل به مطلقا وما كان في غيرهم لا يعمل به حتى ينظر وتوجد فيه شروط
الصحيح ولا يلزم من اجماع الأمة على العمل بما فيهما اجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي
صلى الله عليه وسلم وقد اشتد انكار ابن برهان الامام على من قال بما قاله الشيخ وبالغ في
تغليطه وأما ما قاله الشيخ رحمه الله في تأويل كلام امام الحرمين في عدم الحنث فهو بناء على
ما اختاره الشيخ وأما على مذهب الأكثرين فيحتمل أنه أراد أنه لا يحنث ظاهرا ولا يستحب له
التزام الحنث حتى تستحب له الرجعة كما لو حلف بمثل ذلك في غير الصحيحين فانا لا نحنثه لكن
20

تستحب له الرجعة احتياطا لاحتمال الحنث وهو ظاهر وأما الصحيحان فاحتمال الحنث
فيهما في غاية من الضعف فلا تستحب له المراجعة لضعف احتمال موجبها والله أعلم
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله روينا عن أبي قريش الحافظ قال كنت عند أبي
زرعة الرازي فجاء مسلم بن الحجاج فسلم عليه وجلس ساعة وتذاكرا فلما قام قلت له هذا جمع
أربعة آلاف حديث في الصحيح قال أبو زرعة فلمن ترك الباقي قال الشيخ أراد أن كتابه هذا
أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات وكذا كتاب البخاري ذكر أنه أربعة آلاف
حديث باسقاط المكرر وبالمكرر سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا ثم إن مسلما
رحمه الله رتب كتابه على أبواب فهو مبوب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا
يزداد بها حجم الكتاب أو لغير ذلك قلت وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيد وبعضها
ليس بجيد إما لقصور في عبارة الترجمة واما لركاكة لفظها واما لغير ذلك وانا إن شاء الله أحرص
على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها والله أعلم
فصل سلك مسلم رحمه الله في صحيحه طرقا بالغة في الاحتياط والاتقان والورع والمعرفة
وذلك مصرح بكمال ورعة وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه بحفظه وتقعدده في هذا
الشأن وتمكنه من أنواع معارفه وتبريزه في صناعته وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه لا يهتدي
إليها الا أفراد في الاعصار فرحمه الله ورضى عنه وأنا أذكره أحرفا من أمثلة ذلك تنبيها بها على
ما سواها إذ لا يعرف حقيقة حاله الا من أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع
العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة كالفقه والأصولين والعربية وأسماء الرجال ودقائق
علم الأسانيد والتاريخ ومعاشرة أهل هذه الصنعة ومباحثتهم ومع حسن الفكر ونباهة الذهن
ومداومة الاشتغال به وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها فمن تحري مسلم رحمه الله اعتناؤه
بالتمييز بين حدثنا وأخبرنا وتقييده ذلك على مشايخه وفي روايته وكان من مذهبه رحمه الله الفرق
بينهما وأن حدثنا لا يجوز اطلاقه الا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة وأخبرنا لما قرئ على
الشيخ وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق قال محمد بن الحسن الجوهري المصري وهو مذهب أكثر أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد وروى هذا
المذهب أيضا عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب والنسائي وصار هو الشائع الغالب على أهل
21

عناية الإمام مسلم بضبط اختلاف الرواة
الحديث وذهب جماعات إلى أنه يجوز أن تقول فيما قرئ على الشيخ حدثنا وأخبرنا وهو مذهب
الزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وآخرين من المتقدمين وهو مذهب
البخاري وجماعة من المحدثين وهو مذهب معظم الحجازيين والكوفيين وذهبت طائفة إلى أنه
لا يجوز اطلاق حدثنا ولا أخبرنا في القراءة وهو مذهب ابن المبارك ويحيى ابن يحيى وأحمد بن
حنبل والمشهور عن النسائي والله أعلم ومن ذلك اعتناؤه بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله
حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان قال أو قالا حدثنا فلان وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف
من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه يبينه وربما كان بعضه لا يتغير به
معنى وربما كان في بعضه اختلاف في المعنى ولكن كان خفيا لا يتفطن له الا ماهر في العلوم
التي ذكرتها في أول الفصل مع اطلاع على دقائق الفقه ومذاهب الفقهاء وستري في هذا الشرح
من فوائد ذلك ما تقر به عينيك إن شاء الله تعالى وينبغي أن ندقق النظر في فهم غرض مسلم من
ذلك ومن ذلك تحريه في رواية صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة كقوله حدثنا محمد بن رافع
قال حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا توضأ أحدكم
فليستنشق) الحديث وذلك لان الصحائف والاجزاء والكتب المشتملة على أحاديث باسناد واحد
إذا اقتصر عند سماعها على ذكر الاسناد في أولها ولم يجدد عند كل حديث منها وأوراد انسان ممن
سمع كذلك أن يفرد حديثنا منها غير الأول بالاسناد المذكور في أولها فهل يجوز له ذلك قال
وكيع بن الجراح ويحيى بن معين وأبو بكر الإسماعيلي الشافعي الامام في الحديث والفقه
والأصول يجوز ذلك وهذا مذهب الأكثرين من العلماء لأن الجميع معطوف على الأول
فالاسناد المذكور أولا في حكم المعاد في كل حديث وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني الفقيه
الشافعي الامام في علم الأصولين والفقه وغير ذلك لا يجوز ذلك فعلى هذا من سمع هكذا فطريقه
أن يبين ذلك كما فعله مسلم فمسلم رحمه الله سلك هذا الطريق ورعا واحتياطا وتحريا واتقانا رضي الله عنه
ومن ذلك تحريه في مثل قوله حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان يعنى ابن بلال
عن يحيى وهو ابن سعيد فلم يستجز رضي الله عنه أن يقول سليمان بن بلال عن يحيى بن
سعيد لكون لم يقع في روايته منسوبا فلو قاله منسوبا لكان مخبرا عن شيخه أنه أخبره بنسبه
22

ولم يخبره وسأذكره هذا بعد هذا في فصل مختص به إن شاء الله تعالى ومن ذلك احتياطه في
تلخيص الطرق وتحول الأسانيد مع ايجاز العبارة وكمال حسنها ومن ذلك حسن ترتيبه وترصيفه
الأحاديث على نسق يقتضيه تحقيقه وكمال معرفته بمواقع الخطاب ودقائق العلم وأصول القواعد
وخفيات علم الأسانيد ومراتب الرواة وغير ذلك
ذكر مسلم رحمه الله في أول مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام
الأول ما رواه الحفاظ المتقنون والثاني ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والاتقان
والثالث ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرع من القسم الأول أتبعه الثاني وأما الثالث
فلا يعرج عليه فاختلف العلماء في مراده بهذا التقسيم فقال الامامان الحافظان أبو عبد الله الحاكم
وصاحبه أبو بكر البيهقي رحمهما الله أن المنية اخترمت مسلما رحمه الله قبل اخراج القسم الثاني
وانه إنما ذكر القسم الأول قال القاضي عياض رحمه الله وهذا مما قبله الشيوخ والناس من
الحاكم أبي عبد الله وتابعوه عليه قال القاضي وليس الأمر على ذلك لمن حقق نظره ولم يتقيد
بالتقليد فإنك إذا نظرت تقسيم مسلم في كتابة الحديث على ثلاث طبقات من الناس كما قال
فذكر أن القسم الأول حديث الحفاظ وأنه إذا انقضى هذا أتبعه بأحاديث من لم يوصف بالحذق
والاتقان مع كونهم من أهل الستر والصدق وتعاطى العلم ثم أشار إلى ترك حديث من أجمع
العلماء أو اتفق الأكثر منهم على تهمته ونفى من اتهمه بعضهم وصححه بعضهم فلم يذكره هنا
ووجدته ذكر في أبواب كتابه حديث الطبقتين الأوليين وأتى بأسانيد الثانية منهما على طريق
الاتباع للأولى والاستشهاد أو حيث لم يجد في الباب الأول شيئا وذكر أقواما تكلم قوم فيهم
وزكاهم آخرون وخرج حديثهم ممن ضعف أو اتهم ببدعة وكذلك فعل البخاري فعندي أنه أتى
بطبقاته الثلاث في كتابه على ما ذكر ورتب في كتابه وبينه في تقسيمه وطرح الرابعة كما نص
عليه فالحاكم تأول أنه إنما أراد أن يفرد لكل طبقة كتابا ويأتي بأحاديها خاصة مفردة وليس
ذلك مراده بل إنما أراد بما ظهر من تأليفه وبان من غرضه أن يجمع ذلك في الأبواب ويأتي
بأحاديث الطبقتين فيبدأ بالأولى ثم يأتي بالثانية على طريق الاستشهاد والاتباع حتى استوفى جميع
الأقسام الثلاثة ويحتمل أن يكون أراد بالطبقات الثلاث الحفاظ ثم الذين يلونهم والثالثة هي التي
طرحها وكذلك علل الحديث التي ذكر ووعد أنه يأتي بها قد جاء بها في مواضعها من
23

الأبواب من اختلافهم في الأسانيد كالارسال والاسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف
المصحفين وهذا يدل على استيفائه غرضه في تأليفه وادخاله في كتابه كلما وعد به قال القاضي
رحمه الله وقد فاوضت في تأويلي هذا ورأيي فيه من يفهم هذا الباب فما رأيت منصفا الا صوبه
وبان له ما ذكرت وهو ظاهر لمن تأمل الكتاب وطالع مجموع الأبواب ولا يعترض على هذا
بما قاله ابن سفيان صاحب مسلم أن مسلما أخرج ثلاثة كتب من المسندات أحدها هذا الذي
قرأه على الناس والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق صاحب المغازي وأمثالها والثالث يدخل
فيه من الضعفاء فإنك إذا تأملت ما ذكر ابن سفيان لم يطابق الغرض الذي أشار إليه الحاكم مما
ذكر مسلم في صدر كتابه فتأمله تجده كذلك إن شاء الله تعالى هذا آخر كلام القاضي عياض
رحمه الله وهذا الذي اختاره ظاهر جدا والله أعلم
ألزم الامام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني رحمه الله وغيره البخاري
ومسلما رضي الله عنهما اخراج أحاديث تركا اخراجها مع أن أسانيدها أسانيد قد أخرجا لرواتها
في صحيحهما بها وذكر الدارقطني وغيره أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم رووا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها ولم يخرجا من
أحاديثهم شيئا فيلزمهما اخراجها على مذهبيهما وذكر البيهقي أنهما اتفقا على أحاديث من صحيفة
همام بن منبه وأن كل واحد منهما انفرد عن الآخر بأحاديث منها مع أن الاسناد واحد وصنف
الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما وهذا الالزام ليس بلازم في الحقيقة
فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه وإنما قصدا جمع
جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله
لكنهما إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة اسناده في الظاهر أصلا في بابه
ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالها أنهما اطلعا فيه على علة ان كانا روياه
ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو ايثارا لترك الإطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده
أو لغير ذلك والله أعلم
عاب عائبون مسلما بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين
في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه
24

ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أحدها أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف
عند غيره ثقة عنده ولا يقال الجرح مقدم على التعديل لان ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتا مفسر
السبب والا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا وقد قال الامام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم
من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب الثاني أن يكون ذلك واقعا في
المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولا باسناد نظيف رجاله ثقات
ويجعله أصلا ثم يتبعه باسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو
لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في اخراجه عن
جماعة ليسوا من شرط الصحيح منهم مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار
وعبد الله بن عمر العمرى والنعمان بن راشد وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين
الثالث أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير
قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن
وهب فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو
في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرازق وغيرهما ممن اختلط آخرا ولم يمنع ذلك من صحة
الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك الرابع أن يعلو بالشخص الضعيف اسناده
وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيا بمعرفة
أهل الشأن في ذلك وهذا العذر قد رويناه عنه تنصيصا وهو خلاف حاله فيما رواه عن الثقات
أولا ثم أتبعه بمن دونهم متابعة وكأن ذلك وقع منه على حسب حضور باعث النشاط وغيبته
روينا عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه حضر أبا زرعة الرازي وذكر صحيح مسلم وانكار أبي
زرعة عليه روايته فيه عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى المصري وأنه قال
أيضا يطرق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا إذا احتج عليهم بحديث ليس هذا في
الصحيح قال سعيد بن عمرو فلما رجعت إلى نيسابور ذكرت لمسلم انكار أبي زرعة فقال لي مسلم
إنما قلت صحيح وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم
الا أنه ربما وقع إلى عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول فأقتصر على ذلك
25

وأصل الحديث معروف من رواة الثقات قال سعيد وقدم مسلم بعد ذلك الري فبلغني أنه خرج
إلى أبى عبد الله محمد بن مسلم بن وارة فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب وقال له نحوا مما قاله لي
أبو زرعة ان هذا يطرق لأهل البدع فاعتذر مسلم وقال إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت هو
صحاح ولم أقل ان ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب فهو ضعيف وإنما أخرجت هذا
الحديث من الصحيح ليكون مجموعا عندي وعند من يكتبه عنى ولا يرتاب في صحته فقبل عذره
وحمده قال الشيخ وقد قدمنا عن مسلم أنه عرضت كتابي هذا على أبى زرعة الرازي فكل
ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة فهو هذا الذي أخرجته قال
الشيخ فهذا مقام وعر وقد مهدته بواضح من القول لم أره مجتمعا في مؤلف ولله الحمد قال وفيما
ذكرته دليل على أن حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط
الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ بل يتوقف ذلك على النظر في أنه كيف روى عنه على
ما بيناه من انقسام ذلك والله أعلم
في بيان جملة من الكتب المخرجة على صحيح مسلم فقد صنف جماعات من
الحفاظ على صحيح مسلم كتبا وكان هؤلاء تأخروا عن مسلم وأدركوا الأسانيد العالية وفيهم
من أدرك بعض شيوخ مسلم فخرجوا أحاديث مسلم في مصنفاتهم المذكورة بأسانيدهم تلك
قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله فهذه الكتب المخرجة تلتحق بصحيح مسلم في أن لها سمة الصحيح
وان لم تلتحق به في خصائصه كلها ويستفاد من مخرجاتهم ثلاث فوائد علو الاسناد وزيادة قوة
الحديث بكثرة طرقه وزيادة ألفاظ صحيحة مفيدة ثم إنهم لم يلتزموا موافقته في اللفظ لكونهم
يروونها بأسانيد أخر فيقع في بعضها تفاوت فمن هذه الكتب المخرجة على صحيح مسلم كتاب
العبد الصالح أبى جعفر أحمد بن أحمد بن حمدان النيسابوري الزاهد العابد ومنها المسند
الصحيح لأبي بكر محمد بن محمد بن رجا النيسابوري الحافظ وهو متقدم يشارك مسلما في أكثر
شيوخه ومنها مختصر المسند الصحيح المؤلف على كتاب مسلم للحافظ أبي عوانة يعقوب بن
إسحاق الأسفرايني روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم ومنها كتاب
أبي حامد الشازكى الفقيه الشافعي الهروي يروى عن أبي يعلى الموصلي ومنها المسند الصحيح
لأبى بكر محمد بن عبد الله الجوزقي النيسابوري الشافعي ومنها المسند المستخرج على كتاب
26

مسلم للحافظ المصنف أبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني ومنها المخرج على صحيح مسلم للامام
أبى الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه الشافعي وغير ذلك والله أعلم
قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن
درجة ما التزماه وقد سبقت الإشارة إلى هذا وقد ألف الامام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر
الدارقطني في بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع وذلك في مائتي حديث مما في
الكتابين ولأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك ولأبي على الغساني الجياني في كتابه تقييد
المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما وفيه ما يلزمهما وقد أجيب عن كل
ذلك أو أكثره وستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى والله أعلم
في معرفة الحديث الصحيح وبيان الحسن والضعيف وأنواعها
قال العلماء الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف ولكل قسم أنواع فأما الصحيح فهو
ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة فهذا متفق على أنه صحيح فان اختل
بعض هذه الشروط ففيه خلاف وتفصيل نذكره إن شاء الله تعالى وقال الإمام أبو سليمان أحمد
ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الفقيه الشافعي المتفنن الحديث عند أهله ثلاثة أقسام
صحيح وحسن وسقيم فالصحيح ما اتصل سنده وعدلت نقلته والحسن ما عرف مخرجه واشتهر
رجاله وعليه مدار أكثر الحديث وهو الذي يقبله أكثر العلماء وتستعمله عامة الفقهاء والسقيم
على ثلاث طبقات شرها الموضوع ثم المقلوب ثم المجهول قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في
كتابه المدخل إلى كتاب الإكليل الصحيح من الحديث عشرة أقسام خمسة متفق عليها وخمسة
مختلف فيها فالأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح
وهو أن لا يذكر الا ما رواه صحابي مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم له راويان ثقتان
فأكثر ثم يرويه عنه تابعي مشهور بالرواية عن الصحابة له أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه
عنه من تباع الاتباع الحافظ المتقن المشهور على ذلك الشرط ثم كذلك قال الحاكم والأحاديث
المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرة آلاف حديث القسم الثاني مثل الأول الا أن
رواية من الصحابة ليس له الا راو واحد القسم الثالث مثل الأول الا أن رواية من التابعين
ليس له إلا راو واحد القسم الرابع الأحاديث الافراد الغرائب التي رواها الثقات العدول
27

القسم الخامس أحاديث جماعة من الأئمة عن آبائهم عن أجدادهم ولم تتواتر الرواية عن آبائهم
عن أجدادهم بها الا عنهم كصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وبهز بن حكيم عن أبيه
عن جده واياس بن معاوية عن أبيه عن جده وأجدادهم صحابيون وأحفادهم ثقات قال الحاكم
فهذه الأقسام الخمسة مخرجة في كتب الأئمة فيحتج بها وان لم يخرج منها في الصحيحين حديث
يعنى غير القسم الأول قال والخمسة المختلفة فيها المرسل وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا سماعهم
وما أسنده ثقة وأرسله جماعة من الثقاة وروايات الثقاة غير الحفاظ العارفين وروايات المبتدعة
إذا كانوا صادقين فهذا آخر كلام الحاكم وسنتكلم عليه بعد حكاية قول الجياني إن شاء الله تعالى
وقال أبو علي الغساني الجياني الناقلون سبع طبقات ثلاث مقبولة وثلاث متروكة والسابعة مختلف
فيها فالأولى أئمة الحديث وحفاظه وهم الحجة على من خالفهم ويقبل انفرادهم الثانية دونهم في
الحفظ والضبط لحقهم في بعض روايتهم وهم وغلط والغالب على حديثهم الصحة ويصحح ما وهموا
فيه من رواية الأولى وهم لاحقون بهم الثالثة جنحت إلى مذاهب من الأهواء غير غالية ولا
داعية وصح حديثها وثبت صدقها وقل وهمها فهذه الطبقات احتمل أهل الحديث الرواية عنهم
وعلى هذه الطبقات يدور نقل الحديث وثلاث طبقات أسقطهم أهل المعرفة الأولى من وسم
بالكذب ووضع الحديث الثانية من غلب عليه الغلط والوهم والثالثة طائفة غلت في البدعة
ودعت إليها وحرفت الروايات وزادت فيها ليحتجوا بها والسابعة قوم مجهولون انفردوا
بروايات لم يتابعوا عليها فقبلهم قوم ووقفهم آخرون هذا كلام الغساني فأما قوله إن أهل البدع
والأهواء الذين لا يدعون إليها ولا يغلون فيها يقبلون بلا خلاف فليس كما قال بل فيهم خلاف
وكذلك في الدعاة خلاف مشهور سنذكرهما قريبا إن شاء الله تعالى حيث ذكره الإمام مسلم
رحمه الله وأما قوله في المجهولين خلاف فهو كما قال وقد أخل الحاكم بهذا النوع من المختلف فيه
ثم المجهول أقسام مجهول العدالة ظاهرا وباطنا ومجهولا باطنا مع وجودها ظاهرا وهو المستور
ومجهول العين فأما الأول فالجمهور على أنه لا يحتج به وأما الآخران فاحتج بهما كثيرون من
المحققين وأما قول الحاكم ان من لم يرو عنه الا راو واحد فليس هو من شرط البخاري ومسلم
فمردود غلطه الأئمة فيه باخراجهما حديث المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب في وفاة
أبى طالب لم يرو عنه غير ابنه سعيد وباخراج البخاري حديث عمرو بن تغلب (انى لأعطى الرجل
28

والذي أدع أحب إلى) لم يرو عنه غير الحسن وحديث قيس بن أبي حازم عن مرداس الأسلمي
(يذهب الصالحون) لم يرو عنه غير قيس وباخراج مسلم حديث رافع بن عمرو الغفاري لم يرو عنه
غير عبد الله بن الصامت وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي لم يرو عنه غير أبى سلمة ونظائر في
الصحيحين لهذا كثيرة والله أعلم وأما الاقسام المختلف فيها فسأعقد في كل واحد منها فصلا
إن شاء الله تعالى ليكون أسهل في الوقوف عليه هذا ما يتعلق بالصحيح وأما الحسن فقد تقدم
قول الخطابي رحمه الله انه ما عرف مخرجه واشتهر رجاله وقال أبو عيسى الترمذي الحسن ما ليس
في اسناده من يتهم وليس بشاذ وروى من غير وجه وضبط الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح
رحمه الله الحسن فقال هو قسمان أحدهما الذي لا يخلو اسناده من مستور لم تتحقق أهليته وليس
كثير الخطأ فيما يرويه ولا ظهر منه تعمد الكذب ولا سبب آخر مفسق ويكون متن الحديث
قد عرف بأن روى مثله أو نحوه من وجه آخر القسم الثاني أن يكون راويه من المشهورين
بالصدق والأمانة ولم يبلغ درجة رجال الصحيح لقصوره عنهم في الحفظ والاتقان الا أنه
مرتفع عن حال من يعد تفرده منكرا قال وعلى القسم الأول ينزل كلام الترمذي وعلى الثاني
كلام الخطابي فاقتصر كل واحد منهما على قسم رآه خفيا ولا بد في القسمين من سلامتهما من
الشذوذ والعلة ثم الحسن وإن كان دون الصحيح فهو كالصحيح في جواز الاحتجاج به والله
أعلم وأما الضعيف فهو ما لم يوجد فيه شروط الصحة ولا شروط الحسن وأنواعه كثيرة منها
الموضوع والمقلوب والشاذ والمنكر والمعلل والمضطرب وغير ذلك ولهذه الأنواع حدود
وأحكام وتفريعات معروفة عند أهل هذه الصنعة وقد أتقنها مع ما يحتاج إليه طالب الحديث
من الأدوات والمقدمات ويستعين به في جميع الحالات الامام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح
في كتابه علوم الحديث وقد اختصرته وسهلت طريق معرفته لمن أراد تحقيق هذا الفن والدخول
في زمرة أهله ففيه من القواعد والمهمات ما يلتحق به من حققه وتكاملت معرفته له بالحفاظ
المتقنين ولا يسبقونه الا بكثرة الاطلاع على طرق الحديث فان شاركهم فيها لحقهم والله أعلم
في ألفاظ يتداولها أهل الحديث المرفوع ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
خاصة لا يقع مطلقه على غيره سواء كان متصلا أو منقطعا وأما الموقوف فما
أضيف إلى الصحابي قولا له أو فعلا أو نحوه متصلا كان أو منقطعا ويستعمل في غيره مقيدا
29

فيقال حديث كذا وفقه فلان على عطاء مثلا وأما المقطوع فهو الموقوف على التابعي قولا له
أو فعلا متصلا كان أو منقطعا وأما المنقطع فهو ما لم يتصل اسناده على أي وجه كان انقطاعه
فإن كان الساقط رجلين فأكثر سمى أيضا معضلا بفتح الضاد المعجمة وأما المرسل فهو عند
الفقهاء وأصحاب الأصول والخطيب الحافظ أبى بكر البغدادي وجماعة من المحدثين ما انقطع اسناده
على أي وجه كان انقطاعه فهو عندهم بمعنى المنقطع وقال جماعات من المحدثين أو أكثرهم لا يسمى
مرسلا الا ما أخبر فيه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مذهب الشافعي والمحدثين
أو جمهورهم وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر
الفقهاء أنه يحتج به ومذهب الشافعي أنه إذا انضم إلى المرسل ما يعضده احتج به وذلك بأن
يروى أيضا مسندا أو مرسلا من جهة أخرى أو يعمل به بعض الصحابة أو أكثر العلماء وأما
مرسل الصحابي وهو روايته ما لم يدركه أو يحضره كقول عائشة رضي الله عنها أول ما بدئ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة فمذهب الشافعي والجماهير أنه يحتج به
وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق الأسفرايني الشافعي لا يحتج به الا أن يقول إنه لا يروى
الا عن صحابي والصواب
الأول إذا قال الصحابي كنا نقول أو نفعل أو يقولون أو يفعلون كذا أو كنا لا نرى
أو لا يرون بأسا بكذا اختلفوا فيه فقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي لا يكون مرفوعا بل هو
موقوف وسنذكر حكم الموقوف في فصل بعد هذا إن شاء الله تعالى وقال الجمهور من المحدثين
وأصحاب الفقه والأصول ان لم يضفه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس بمرفوع بل
هو موقوف وان أضافه فقال كنا نفعل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمنه أو وهو فينا
أو بين أظهرنا أو نحو ذلك فهو مرفوع وهذا هو المذهب الصحيح الظاهر فإنه إذا فعل في زمنه
صلى الله عليه وسلم فالظاهر اطلاعه عليه وتقريره إياه صلى الله عليه وسلم وذلك مرفوع وقال
آخرون إن كان ذلك الفعل مما لا يخفى غالبا كان مرفوعا والا كان موقوفا وبهذا قطع الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي الشافعي والله أعلم وأما إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا
أو من السنة كذا فكله مرفوع على المذهب الصحيح الذي قاله الجماهير من أصحاب الفنون وقيل
موقوف وأما إذا قال التابعي من السنة كذا فالصحيح أنه موقوف وقال بعض أصحابنا الشافعيين
30

انه مرفوع مرسل وأما إذا قيل عند ذكر الصحابي يرافعه أو ينهيه أو يبلغ به أو رواية فكله
مرفوع متصل بلا خلاف أما إذا قال التابعي كانوا يفعلون فلا يدل على فعل جميع الأمة بل
على بعض الأمة فلا حجة فيه الا أن يصرح بنقله عن أهل الاجماع فيكون نقلا للاجماع وفى
ثبوته بخبر واحد خلاف
إذا قال الصحابي قولا أو فعل فعلا فقد قدمنا أنه يسمى موقوفا وهل يحتج به
فيه تفصيل واختلاف قال أصحابنا إن ينتشر فليس هو اجماعا وهل هو حجة فيه قولان
للشافعي رحمه الله وهما مشهوران أصحهما الجديد أنه ليس بحجة والثاني وهو القديم أنه جحة فان
قلنا هو حجة قدم على القياس ولزم التابعي وغيره العمل به ولم تجز مخالفته وهل يخص به العموم
فيه وجهان وإذا قلنا ليس بحجة فالقياس مقدم عليه ويجوز للتابعي مخالفته فأما إذا اختلف
الصحابة رضي الله عنهم على قولين فان قلنا بالجديد لم يجز تقليد واحد من الفريقين بل يطلب
الدليل وان قلنا بالقديم فهما دليلان تعارضا فيرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد فان استوى
العدد قدم بالأئمة فيقدم ما عليه امام منهم على مالا امام عليه فإن كان الذي على أحدهما أكثر
عددا ومع الأقل امام فهما سواء فان استويا في العدد والأئمة الا أن في أحد الشيخين
أبى بكر وعمر رضي الله عنهما وفى الآخر غيرهما ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما أنهما سواء
والثاني يقدم ما فيه أحد الشيخين هذا كله إذا انتشر أما إذا لم ينتشر فان خولف فحكمه ما ذكرناه
وان لم يخالف ففيه خمسة أوجه لأصحابنا العراقيين الأربعة الأولى منها وهي مشهورة في كتبهم
في الأصول وفى أوائل كتب الفروع أحدهما أنه حجة واجماع وهذا الوجه هو الصحيح عندهم
والثاني أنه حجة وليس باجماع والثالث إن كان فتوى فقيه فهو حجة وإن كان حكم امام
أو حاكم فليس بحجة وهو قول أبى علي بن أبي هريرة والرابع ضده إن كان فتيا لم يكن حجة
وإن كان حاكما أو اماما كان اجماعا والخامس أنه ليس باجماع ولا حجة وهذا الوجه هو المختار
عند الغزالي في المستصفى اما إذا قال التابعي قولا لم ينتشر فليس بحجة بلا خلاف وان انتشر
وخولف فليس بحجة بلا خلاف وان انتشر ولم يخالف فظاهر كلام جماهير أصحابنا أن حكمه
حكم قول الصحابي المنتشر من غير مخالفة وحكى بعض لأصحابنا فيه وجهين أصحهما هذا والثاني ليس
بحجة قال صاحب الشامل من أصحابنا الصحيح أنه يكون اجماعا وهذا هو الأفقه ولا فرق في هذا
31

بين الصحابي والتابعي وقد ذكرت هذا الفصل بدلائله وايضاحه ونسبة هذه الاختلافات إلى
قائلها من شرح المهذب على وجه حسن مختصر وحذفت ذلك هنا اختصارا والله أعلم
في الاسناد المعنعن وهو فلان عن فلان قال بعض العلماء هو مرسل والصحيح
الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول انه متصل بشرط أن
يكون المعنعن غير مدلس وبشرط امكان لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا وفى
اشتراط ثبوت اللقاء وطول الصحبة ومعرفته بالرواية عنه خلاف منهم من لم يشترط شيئا من
ذلك وهو مذهب مسلم ادعى الاجماع عليه وسيأتي الكلام عليه حيث أذكره في أواخر مقدمة
الكتاب إن شاء الله تعالى ومنهم من شرط ثبوت اللقاء وحده وهو مذهب علي بن المديني
والبخاري وأبى بكر الصيرفي الشافعي والمحققين وهو الصحيح ومنهم من شرط طول الصحبة
وهو قول أبى المظفر السمعاني الفقيه الشافعي ومنهم من شرط أن يكون معروفا بالرواية عنه وبه
قال أبو عمرو المقرى وأما إذا قال حدثنا الزهري أن ابن المسيب قال كذا أو حدث بكذا أو
فعل أو ذكر أو روى أو نحو ذلك فقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة لا يلتحق ذلك
بعن بل يكون منقطعا حتى يبين السماع وقال الجماهير هو كعن محمول على السماع بالشرط المقدم
وهذا هو الصحيح وفى هذا الفصل فوائد كثيرة ينتفع بها إن شاء الله تعالى في معرفة هذا
الكتاب وستري ما يترتب عليه من الفوائد إن شاء الله تعالى حيث تمر بمواضيعها من الكتاب
ويستدل بذلك على غزارة علم مسلم رضي الله عنه وشدة تحريه واتقانه وانه ممن لا يساوى في هذا
بل لا يداني رضي الله عنه
زيادات الثقة مقبولة مطلقا عند الجماهير من أهل الحديث والفقه والأصول وقيل لا تقبل
وقيل تقبل ان زادها غير من رواه ناقصا ولا تقبل ان زادها هو وأما إذا روى
العدل الضابط المتقن حديثا انفرد به فمقبول بلا خلاف نقل الخطيب البغدادي اتفاق العلماء
عليه وأما إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلا وبعضهم مرسلا أو بعضهم موقوفا وبعضهم
مرفوعا أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت فالصحيح الذي قاله المحققون
من الحديث وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي أن الحكم لمن وصله
أو رفعه سواء كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ لأنه زيادة ثقة وهي مقبولة وقيل الحكم
32

لمن أرسله أو وقفه قال الخطيب وهو أكثر قول المحدثين وقيل الحكم للأكثر وقيل للأحفظ
التدليس قسمان أحدهما أن يروى عمن عاصره ما لم يسمع منه موهما سماعه
قائلا فلان أو عن فلان أو نحوه وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره لكونه ضعيفا أو
صغيرا تحسينا لصورة الحديث وهذا القسم مكروه جدا ذمه أكثر العلماء وكان شعبة من أشدهم
ذما له وظاهر كلامه أنه حرام وتحريمه ظاهر فإنه يوهم الاحتجاج بما لا يجوز الاحتجاج به
ويتسبب أيضا إلى اسقاط العمل بروايات نفسه مع ما فيه من الغرور ثم إن مفسدته دائمة
وبعض هذا يكفي في التحريم فكيف باجتماع هذه الأمور ثم قال فريق من العلماء من عرف منه
هذا التدليس صار مجروحا لا يقبل له رواية في شئ أبدا وان بين السماع والصحيح ما قاله الجماهير
من الطوائف أن ما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع فهو مرسل وما بينه فيه كسمعت وحدثنا
وأخبرنا وشبهها فهو صحيح مقبول يحتج به وفى الصحيحين وغيرهما من كتب الأصول من هذا
الضرب كثير لا يحصى كقتادة والأعمش والسفيانين وهشيم وغيرهم ودليل هذا أن التدليس
ليس كذبا وإذا لم يكن كذبا وقد قال الجماهير أنه ليس محرما والراوي عدل ضابط وقد بين
سماعه وجب الحكم بصحته والله أعلم ثم هذا الحكم في المدلس جاز فيمن دلس مرة واحدة
ولا يشترط تكرره منه واعلم أن ما كان في الصحيحين عند المدلسين بعن ونحوها فمحمول
على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقتين جميعا فيذكر رواية
المدلس بعن ثم يذكرها بالسماع ويقصد به هذا المعنى الذي ذكرته وستري من ذلك إن شاء الله
تعالى جملا مما ننبه عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى وربما مررنا بشئ منه على قلة من غير
تنبيه عليه اكتفاء بالتنبيه على مثله قريبا منه والله أعلم وأما القسم الثاني من التدليس فإنه يسمى
شيخه أو غيره أو ينسبه أو يصفه أو يكنيه بما لا يعرف به كراهة أن يعرف ويحمله على ذلك
كونه ضعيفا أو صغيرا أو يستنكف أن يروى عنه لمعنى آخر أو يكون مكثرا من الرواية عنه
فيريد أن يغيره كراهة تكرير الرواية عنه على صورة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب
وكراهة هذا القسم أخف وسببها توحد طريقة معرفته والله أعلم
في معرفة الاعتبار والمتابعة
والشاهد والافراد والشاذ والمنكر فإذا روى حماد
مثلا حديثا عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
33

ينظر هل رواة ثقة غير حماد عن أيوب أو عن ابن سيرين غير أيوب أو عن أبي هريرة غير
ابن سيرين أو عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة فأي ذلك وجد علم أن له أصلا يرجع
إليه فهذا النظر والتفتيش يسمى اعتبارا وأما المتابعة فأن يرويه عن أيوب غير حماد أو عن
ابن سيرين غير أيوب أو عن أبي هريرة غير ابن سيرين أو عن النبي صلى الله عليه وسلم غير
أبي هريرة فكل واحد من هذه الاقسام يسمى متابعة وأعلاها الأولى وهي متابعة حماد في الرواية
عن أيوب ثم ما بعدها على الترتيب وأما الشاهد فأن يروى حديث آخر بمعناه وتسمى المتابعة
شاهدا ولا يسمى الشاهد متابعة وإذا قالوا في نحو هذا تفرد به أبو هريرة أو ابن سيرين أو أيوب
أو حماد كان مشعرا بانتفاء وجوه المتابعات كلها واعلم أنه يدخل في المتابعات والاستشهاد رواية
بعض الضعفاء ولا يصلح لذلك كل ضعيف وإنما يفعلون هذا لكون التابع لا اعتماد عليه وإنما
الاعتماد على من قبله وإذا انتفت المتابعات وتمحض فردا فله أربعة أحوال حال يكون مخالفا
لرواية من هو أحفظ منه فهذا ضعيف ويسمى شاذا ومنكرا وحال يكون مخالفا ويكون هذا
الراوي حافظا ضابطا متقنا فيكون صحيحا وحال يكون قاصرا عن هذا ولكنه قريب من
درجته فيكون حديثه حسنا وحال يكون بعيدا عن حاله فيكون شاذا ومنكرا مردودا فتحصل
أن الفرد قسمان مقبول ومردود والمقبول ضربان فرد لا يخالف وراويه كامل الأهلية وفرد
هو قريب منه والمردود أيضا ضربان فرد مخالف للأحفظ وفرد ليس في رواية من الحفظ
والاتقان ما يجبر تفرده والله
فصل في حكم المختلط إذا خلط الثقة لاختلال ضبطه بحرف أو هرم أو لذهاب بصره
أو نحو ذلك قبل حديث من أخذ عنه قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ بعد الاختلاط
أو شككنا في وقت أخذه فمن المخلطين عطاء بن السائب وأبو إسحاق السبيعي وسعيد الجريري
وسعيد بن أبي عروبة وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وربيعة أستاذ مالك وصالح مولى
التؤمة وحصين بن عبد الوهاب الكوفي وسفيان بن عيينة قال يحيى القطان أشهد أنه اختلط
سنة سبع وتسعين وتوفى سنة تسع وتسعين وعبد الرزاق بن همام عمى في آخر عمره فكان
يتلقن وعارم اختلط آخرا واعلم أن ما كان من هذا القبيل محتجا به في الصحيحين فهو مما علم
أنه أخذ قبل الاختلاط
34

في أحرف مختصرة في بيان الناسخ والمنسوخ وحكم الحديثين المختلفين ظاهرا
أما النسخ فهو رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر هذا هو المختار في حده وقد قيل
فيه غير ذلك وقد أدخل فيه كثيرون أو الأكثرون من المصنفين في الحديث ما ليس منه بل
هو من قسم التخصيص أوليس منسوخا ولا مخصصا بل مؤولا أو غير ذلك ثم النسخ يعرف
بأمور منها تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم به (ككنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)
ومنها قول الصحابي كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ومنها ما يعرف بالتاريخ
ومنها مه يعرف بالاجماع كقتل شارب الخمر في المرة الرابعة فإنه منسوخ عرف نسخه بالاجماع
والاجماع لا ينسخ ولا ينسخ لكن يدل على وجود ناسخ والله أعلم وأما إذا تعارض حديثان
في الظاهر فلا بد من الجمع بينهما أو ترجيح أحدهما وإنما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون
بين الحديث والفقه والأصولين المتمكنون في ذلك الغائصون على المعاني الدقيقة الرائضون
أنفسهم في ذلك فمن كان بهذه الصفة لم يشكل عليه شئ من ذلك الا النادر في بعض الأحيان
ثم المختلف قسمان أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويجب العمل بالحديثين جميعا ومهما أمكن حمل
كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة تعين المصير إليه ولا يصار إلى النسخ مع امكان الجمع
لان في النسخ اخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به ومثال الجمع حديث (لا عدوى) مع
حديث (لا يورد ممرض على مصح) وجه الجمع أن الأمراض لاتعدى بطبعها ولكن جعل الله
سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للأعداء فنفى في الحديث الأول ما يعتقده الجاهلية من العدوي
بطبعها وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة بقضاء الله وقدره وفعله القسم
الثاني أن يتضادا بحيث لا يمكن الجمع بوجه فان علمنا أحدهما ناسخا قدمناه والا علمنا بالراجح
منهما كالترجيح بكثرة الرواة وصفاتهم وسائر وجوه الترجيح وهي نحو خمسين وجها جمعها
الحافظ أبو بكر الحازمي في أول كتابه الناسخ والمنسوخ وقد جمعتها أنا مختصرة ولا ضرورة
إلى ذكرها هنا كراهة للتطويل والله أعلم
في معرفة الصحابي والتابعي هذا الفصل مما يتأكد الاعتناء به وتمس الحاجة
إليه فبه يعرف المتصل من المرسل فأما الصحابي فكل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولو لحظة هذا هو الصحيح في حده وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبى عبد الله البخاري في صحيحه
35

والمحدثين كافة وذهب أكثر أصحاب الفقه والأصول إلى أنه من طالت صحبته له صلى الله عليه وسلم
قال الامام القاضي أبو الطيب الباقلاني لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من
الصحبة جار على كل من صحب غيره قليلا كان أو كثيرا يقال صحبه شهرا ويوما وساعة قال وهذا
يوجب في حكم اللغة اجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة هذا هو الأصل
قال ومع هذا فقد تقرر للأمة عرف في أنهم لا يستعملونه الا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه
ولا يجرى ذلك على من لقى المرء ساعة ومشى معه خطوات وسمع منه حديثا فوجب أن لا يجرى
في الاستعمال الا على من هذا حاله هذا كلام القاضي المجمع على أمانته وجلالته وفيه تقرير
للمذهبين ويستدل به على ترجيح مذهب المحدثين فان هذا الامام قد نقل عن أهل اللغة أن
الاسم يتناول صحبة ساعة وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع والعرف على وفق
اللغة فوجب المصير والله أعلم وأما التابعي ويقال فيه التابع فهو من لقى الصحابي وقيل من
صحبه كالخلاف في الصحابي والاكتفاء هنا بمجرد اللقاء أولى نظرا إلى مقتضى اللفظين
جرت عادة أهل الحديث بحذف قال ونحوه فيما بين رجال الاسناد في الخط
وينبغي للقارئ أن يلفظ بها وإذا كان في الكتاب قرئ على فلان أخبرك فلان فليقل القارئ
قرئ على فلان قيل له أخبرك فلان وإذا كان فيه قرئ على فلان أخبرنا فلان فليقل قرئ على
فلان قيل له قلت أخبرنا فلان وإذا تكررت كلمة قال كقوله حدثنا صالح قال قال الشعبي فإنهم
يحذفون إحداهما في الخط فليلفظ بهما القارئ فلو ترك القارئ لفظ قال في هذا كله فقد أخطأ
والسماع صحيح للعلم بالمقصود ويكون هذا من الحذف لدلالة الحال عليه
فصل إذا أراد رواية الحديث بالمعنى فإن لم يكن خبيرا بالألفاظ ومقاصدها عالما بما
يحيل معانيها لم يجز له الرواية بالمعنى بلا خلاف بين أهل العلم بل يتعين اللفظ وإن كان عالما
بذلك فقالت طائفة من أصحاب الحديث والفقه والأصول لا يجوز مطلقا وجوزه بعضهم في
غير حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجوزه فيه وقال جمهور السلف والخلف من الطوائف
المذكورة يجوز في الجميع إذا جزم بأنه أدى المعنى وهذا هو الصواب الذي تقتضيه أحوال
الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم في روايتهم القضية الواحدة بألفاظ مختلفة ثم هذا في الذي
يسمعه في غير المصنفات أما المصنفات فلا يجوز تغييرها بالمعنى إذا وقع في الرواية
36

أو التصنيف غلط لا شك فيه فالصواب الذي قاله الجماهير أنه يرويه على صواب ولا يغيره في
الكتاب بل ينبه عليه حال الرواية في حاشية الكتاب فيقول كذا وقع والصواب كذا
فصل إذا روى الشيخ الحديث باسناد ثم أتبعه اسنادا آخر وقال عند انتهاء الاسناد
مثله أو نحوه فأراد السامع أن يروى المتن بالاسناد الثاني مقتصرا عليه فالأظهر منعه وهو قول
شعبة وقال سفيان الثوري يجوز بشرط أن يكون الشيخ المحدث ضابطا متحفظا مميزا بين الألفاظ
وقال يحيى بن معين يجوز ذلك في قوله مثله ولا يجوز في نحوه قال الخطيب البغدادي الذي قاله
ابن معين بناء على منع الرواية بالمعنى فأما على جوازها فلا فرق وكان جماعة من العلماء يحتاطون
في مثل هذا فإذا أرادوا رواية مثل هذا أو أورد أحدهم الاسناد الثاني ثم يقول مثل حديث قبله
متنه كذا ثم يسوقه واختار الخطيب هذا ولا شك في حسنه أما إذا ذكر الاسناد وطرفا من
المتن ثم قال وذكر الحديث أو قال واقتص الحديث أو قال الحديث أو ما أشبهه فأراد السامع
أن يروى عنه الحديث بكماله فطريقه أن يقتصر على ما ذكره الشيخ ثم يقول والحديث بطوله
كذا ويسوقه إلى آخره فان أراد أن يرويه مطلقا ولا يفعل ما ذكرناه فهو أولى بالمنع مما سبق
في مثله ونحوه وممن نص على منعه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني الشافعي وأجازه أبو بكر
الإسماعيلي بشرط أن يكون السامع والمسمع عارفين ذلك الحديث وهذا الفصل مما تشتد الحاجة
إلى معرفته للمعتنى بصحيح مسلم لكثرة تكرره فيه والله أعلم
إذا قدم بعض المتن على بعض اختلفوا في جوازه على جواز الرواية بالمعنى
فان جوزناها جاز والا فلا وينبغي أن يقطع بجوازه ان لم يكن المقدم مرتبطا بالمؤخر وأما إذا
قدم المتن على الاسناد وذكر المتن وبعض الاسناد ثم ذكر باقي الاسناد متصلا حتى وصله بما
ابتدأ به فهو حديث متصل والسماع صحيح فلو أراد من سمعه هكذا أن يقدم جميع الاسناد
فالصحيح الذي قاله بعض المتقدمين القطع بجوازه وقيل فيه خلاف كتقديم بعض المتن على بعض فصل
إذا درس بعض الاسناد أو المتن جاز أن يكتبه من كتاب غيره ويرويه إذا
عرف صحته وسكنت نفسه إلى أن ذلك الساقط هذا هو الصواب الذي قاله المحققون ولو بينه في
حال الرواية فهو أولى أما إذا وجد في كتابه كلمة غير مضبوطة أشكلت عليه فإنه يجوز أن يسأل
عنها العلماء بها من أهل العربية وغيرهم ويرويها على ما يخبرونه والله أعلم
37

إذا كان في سماعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرويه ويقول
عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عكسه فالصحيح الذي قاله حماد بن سلمة وأحمد بن حنبل وأبو بكر
الخطيب أنه جائز لأنه لا يختلف به هنا معنى وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله الظاهر
أنه لا يجوز وان جازت الرواية بالمعنى لاختلافه والمختار ما قدمته لأنه وإن كان أصل النبي والرسول
مختلفا فلا اختلاف هنا ولا لبس ولا شك والله أعلم
فصل جرت العادة بالاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا واستمر الاصطلاح عليه
من قديم الاعصار إلى زماننا واشتهر ذلك بحيث لا يخفى فيكتبون من حدثنا (ثنا) وهي الثاء والنون
والألف وربما حذفوا الثاء ويكتبون من أخبرنا (انا) ولا يحسن زيادة الباء قبل نا وإذا كان
للحديث اسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من الاسناد إلى اسناد (ح) وهي حاء مهملة مفردة
والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من الاسناد إلى اسناد وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها
(ح) ويستمر في قراءة ما بعدها وقيل إنها من حال بين الشيئين إذا حجز لكونها حالت بين
الاسنادين وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشئ وليست من الرواية وقيل إنها رمز إلى قوله الحديث
وان أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها الحديث وقد كتب جماعة من الحفاظ موضعها
صح فيشعر بأنها رمز صح وحسنت ههنا كتابة صح لئلا يتوهم أنه سقط متن الاسناد الأول
ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهي كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري
فيتأكد احتياج صاحب هذا الكتاب إلى معرفتها وقد أرشدناه إلى ذلك ولله الحمد والنعمة
والفضل والمنة
ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه
لئلا يكون كاذبا على شيخه فان أراد تعريفه وايضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره
فطريقه أن يقول قال حدثني فلان يعنى ابن فلان أو الفلان أو هو ابن فلان أو الفلاني أو نحوه
ذلك فهذا جائز حسن قد استعمله الأئمة وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية
الاكثار حتى أن كثيرا من أسانيدهم يقع في الاسناد الواحد منها موضعان أو أكثر من هذا
الضرب كقوله في أول كتاب البخاري في باب من سلم المسلمون من لسانه ويده قال أبو معاوية
حدثنا داود هو ابن أبي هند عن عامر قال سمعت عبد الله هو ابن عمرو وكقوله في كتاب مسلم
38

في باب منع النساء من الخروج إلى المساجد حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا سليمان يعنى ابن بلال
عن يحيى وهو ابن سعيد ونظائره كثيرة وإنما يقصدون بهذا الايضاح كما ذكرنا أولا فإنه لو قال
حدثنا داود أو عبد الله لم يعرف من هو لكثرة المشاركين في هذا الاسم ولا يعرف ذلك في
بعض المواطن الا الخواص والعارفون بهذه الصنعة وبمراتب الرجال فأوضحوه لغيرهم وخففوا
عنهم مؤونة النظر والتفتيش وهذا الفصل نفيس يعظم الانتفاع به فان من لا يعاني هذا الفن
قد يتوهم أن قوله يعنى وقوله هو زيادة لا حاجة إليها وأن الأولى حذفها وهذا جهل قبيح والله أعلم
يستحب لكاتب الحديث إذا مر بذكر الله عز وجل أن يكتب (عز وجل) أو (تعالى)
أو (سبحانه وتعالى) أو (تبارك وتعالى) أو (جل ذكره) أو (تبارك اسمه) أو (جلت عظمته) أو ما
أشبه ذلك وكذلك يكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكمالهما لا رامزا
اليهما ولا مقتصرا على أحدهما وكذلك يقول في الصحابي (رضي الله عنه) فإن كان صحابيا ابن
صحابي قال (رضي الله عنهما) وكذلك يترضى ويترحم على سائر العلماء والأخيار ويكتب كل هذا
وان لم يكن مكتوبا في الأصل الذي ينقل منه فان هذا ليس رواية وإنما هو دعاء وينبغي للقارئ
أن يقرأ كل ما ذكرناه وان لم يكن مذكورا في الأصل الذي يقرأ منه ولا يسأم من تكرر ذلك
ومن أغفل هذا حرم خيرا عظيما وفوت فضلا جسيما
في ضبط جملة من الأسماء المتكررة في صحيحي البخاري ومسلم المشتبهة
فمن ذلك أبى كله بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء الا آبي اللحم فإنه بهمزة ممدودة مفتوحة
ثم باء مكسورة ثم ياء مخففة لأنه كان لا يأكل اللحم وقيل لا يأكل ما ذبح على الأصنام ومنه
البراء كله مخفف الراء الا أبا معشر البراء وأبا العالية البراء فبالتشديد وكله ممدود ومنه يزيد
كله بالمثناة من تحت والزي الا ثلاثة أحدهم بزيد بن عبد الله بن أبي بردة بضم الموحدة وبالراء
والثاني محمد بن عرعرة بن البرند بالموحدة والراء المكسورتين وقيل بفتحهما ثم نون والثالث
علي بن هاشم بن البريد بفتح الموحدة وكسر الراء ثم مثناة من تحت ومنه يسار كله بالمثناة
والسين المهملة الا محمد بن بشار شيخهما فإنه بالوحدة ثم المعجمة وفيهما سيار بن سلامة وابن أبي
سيار بتقديم السين ومنه بشر كله بكسر الموحدة وبالشين المعجمة الا أربعة فبالضم
والمهملة عبد الله بن بسر الصحابي وبسر بن سعيد وبسر بن عبيد الله وبسر بن محجن وقيل هذا
39

بالمعجمة ومنه بشير كله بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة الا اثنين فبالضم وفتح الشين
وهما بشير بن كعب وبشير بن يسار والا ثالثا فبضم المثناة وفتح السين المهملة وهو يسير بن عمرو
ويقال أسير ورابعا بضم النون وفتح المهملة وهو قطن بن نسير ومنه حارثة كله بالحاء والمثلثة
الا جارية بن قدامة ويزيد بن جارية فبالجيم والمثناة ومنه جرير كله بالجيم والراء المكررة
الا حريز بن عثمان وأبا حريز عبد الله بن الحسين الراوي عن عكرمة فبالحاء والزي آخرا ويقاربه
حدير بالحاء والدال والد عمران بن حدير ووالد زيد وزياد ومنه حازم كله بالحاء المهملة الا
أبا معاوية محمد بن حازم فبالمعجمة ومنه حبيب كله بالحاء المهملة الا خبيب بن عدي وخبيب
ابن عبد الرحمن وخبيبا غير منسوب عن حفص بن عاصم وخبيبا كنية ابن الزبير فبضم المعجمة
ومنه حيان كله بفتح الحاء وبالمثناة الا خباب بن منقذ والد واسع بن خباب وجد محمد بن يحيى
ابن خباب وجد خباب بن واسع بن خباب والا خباب بن هلال منسوبا وغير منسوب عن شعبة
ووهيب وهمام وغيرهم فبالموحدة وفتح الخاء والا حبان بن العرقة وحبان بن عطية وحبان بن موسى
منسوبا وغير منسوب عن عبد الله هو ابن المبارك فبالموحدة وكسر الحاء ومنه خراش كله
بالخاء المعجمة الا والد ربعي فبالمهملة ومنه حزام في قريش بالزي وفى الأنصار بالراء
ومنه حصين كله بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين الا أبا حصين عثمان بن عاصم فبالفتح والا
أبا ساسان حضين بن المنذر فبالضم والضاد معجمة فيه ومنه حكيم كله بفتح الحاء وكسر
الكاف الا حكيم بن عبد الله وزريق بن حكيم فبالضم وفتح الكاف ومنه رباح كله بالموحدة
الا زياد بن رياح عن أبي هريرة في أشراط الساعة فبالمثناة عند الأكثرين وقاله البخاري
بالوجهين المثناة والموحدة ومنه زبيد بضم الزاي وفتح الموحدة ثم مثناة هو زبيد بن الحارث
ليس فيهما غيره وأما زبيد بضم الزاي وكسرها وبمثناة مكررة فهو ابن الصلت في الموطأ وليس
له ذكر فيهما ومنه الزبير كله بضم الزاي الا عبد الرحمن بن الزبير الذي تزوج امرأة رفاعة
فبالفتح ومنه زياد كله بالياء الا أبا الزناد فبالنون ومنه سالم كله بالألف ويقاربه سلم
ابن زرير بفتح الزاي وسلم قتيبة وسلم بن أبي الذيال وسلم بن عبد الرحمن فبحذفها ومنه
سريح بالمهملة والجيم ابن يونس وابن النعمان وأحمد بن أبي سريج ومن عداهم فبالمعجمة والحاء
ومنه سلمة كله بفتح اللام الا عمرو بن سلمة امام قومه وبنى سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها
40

وفى عبد الخالق بن سلمة الوجهان ومنه سليمان كله بالياء الا سلمان الفارسي وابن عامر والأغر
وعبد الرحمن بن سلمان فبحذفها ومنه سلام كله بالتشديد الا عبد الله بن سلام الصحابي ومحمد
ابن سلام شيخ البخاري وشدد جماعة شيخ البخاري ونقله صاحب المطالع عن الأكثرين
والمختار الذي قاله المحققون التخفيف ومنه سليم كله بضم السين الا سليم بن حيان فبفتحها
ومنه شيبان كله بالشين المعجمة وبعدها ياء ثم باء ويقاربه سنان بن أبي سنان
وسنان بن ربيعة وسنان بن سلمة وأحمد بن سنان وأبو سنان ضرار وأم سنان وكلهم بالمهملة بعدها نون ومنه
عباد كله بالفتح وبالتشديد الا قيس بن عباد فبالضم والتخفيف ومنه عبادة كله بالضم الا
محمد بن عبادة شيخ البخاري فبالفتح ومنه عبدة كله باسكان الباء الا عامر بن عبدة وبجالة
ابن عبدة ففيهما الفتح والاسكان وافتح أشهر ومنه عبيد كله بضم العين ومنه عبيدة كله
بالضم الا السلماني وابن سفيان وابن حميد وعامر بن عبيدة فبالفتح ومنه عقيل كله بفتح العين
الا عقيل بن خالد ويأتي كثيرا عن الزهري غير منسوب والا يحيى ابن عقيل وبنى عقيل
فبالضم ومنه عمارة كله بضم العين ومنه واقد كله بالقاف وأما الأنساب فمنها الأيلي كله
بفتح الهمزة واسكان المثناة ولا يرد علينا شيبان بن فروخ الابلي بضم الهمزة وبالموحدة شيخ
مسلم فإنه لم يقع في صحيح مسلم منسوبا ومنها البصري كله بالموحدة مفتوحة ومكسورة نسبة
إلى البصرة الا مالك بن أوس بن الحدثان النصري وعبد الواحد النصري وسالما مولى النصريين
فبالنون ومنها الثوري كله بالمثلثة الا أبا يعلى محمد بن الصلت التوزى فبالمثناة فوق وتشديد
الواو المفتوحة وبالزاي ومنها الجريري كله بضم الجيم وفتح الراء الا يحيى بن بشر شيخهما
فالبحاء المفتوحة ومنها الحارثي بالمهملة والمثلثة ويقاربه سعيد الجاري بالجيم وبعد الراء ياء
مشددة ومنها الحزامي كله بالزاي وقوله في صحيح مسلم في حديث أبي اليسر كان لي على فلان
الحزامي قيل بالزاي وقيل بالراء وقيل الجذامي بالجيم والذال المعجمة ومنها السلمي في الأنصار
بفتح السين وفى بنى سليم بضمها ومنها الهمداني كله باسكان الميم وبالدال المهملة فهذه ألفاظ
نافعة في المؤتلف والمختلف وأما المفردات فلا تنحصر وستأتي في أبوابها إن شاء الله تعالى مبينة
وكذلك نذكر هذا المؤتلف في مواضعه إن شاء الله تعالى مختصرا احتياطا وتسهيلا
تكرر في صحيح مسلم قوله حدثنا فلان وفلان كليهما عن فلان هكذا يقع
41

في مواضع كثيرة في أكثر الأصول كليهما بالياء وهو مما يستشكل من جهة العربية وحقه أن
يقال كلاهما بالألف ولكن استعماله بالياء صحيح وله وجهان أحدهما أن يكون مرفوعا تأكيدا
للمرفوع قبله ولكنه كتب بالياء لأجل الإمالة ويقرأ بالألف كما كتبوا الربا والربى بالألف
والياء ويقرأ بالألف لا غير والوجه الثاني أن يكون كليهما منصوبا ويقرأ بالياء ويكون تقديره!
أعني كليهما وهذا ما يسره الله تعالى من الفصول ونشرع الآن في المقصود والله الموفق
42

بسم الله الرحمن الرحيم
(قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى الحمد لله رب العالمين)
إنما بدأ بالحمد لله لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل
أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية بحمد الله وفي رواية بالحمد فهو أقطع وفي رواية
أجذم وفي رواية لا يبدأ فيه بذكر الله وفي رواية ببسم الله الرحمن الرحيم روينا كل هذه في
كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعا من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم
الأنباري عنه وروينا فيه أيضا من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه والمشهور
رواية أبي هريرة وهذا الحديث حسن رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما ورواه النسائي في
كتابه عمل اليوم والليلة روى موصولا ومرسلا ورواية الموصول اسنادها جيد ومعنى أقطع
قليل البركة وكذلك أجذم بالجيم والذال المعجمة ويقال منه جذم بكسر الذال يجذم بفتحها
والله أعلم والمختار عند الجماهير من أصحاب التفسير والأصول وغيرهم أن العالم اسم للمخلوقات
كلها والله أعلم قال رحمه الله
(وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين) هذا الذي فعله من ذكره
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحمدلة هو عادة العلماء رضي الله عنهم وروينا باسنادنا
43

الصحيح المشهور من رسالة الشافعي عن الشافعي عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
رحمه الله في قول الله تعالى لك ذكرك قال لا أذكر الا ذكرت أشهد أن لا إله الا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله وروينا هذا التفسير مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل
عن رب العالمين ثم أنه ينكر على مسلم رحمه الله كونه اقتصر على الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
دون التسليم وقد أمرنا الله تعالى بهما جميعا فقال تعالى عليه وسلموا تسليما
فكان ينبغي أن يقول وصلى الله وسلم على محمد فان قيل فقد جاءت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
غير مقرونة بالتسليم وذلك في آخر التشهد في الصلوات فالجواب أن السلام تقدم قبل
الصلاة في كلمات التشهد وهو قوله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولهذا قالت الصحابة
رضي الله عنهم يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف نصلى عليك الحديث وقد نص العلماء
رضي الله عنهم على كراهة الاقتصار على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من غير تسليم والله أعلم
وقد ينكر على مسلم رحمه الله في هذا الكلام شئ آخر وهو قوله وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
فيقال إذا ذكر الأنبياء لا يبقى لذكر المرسلين وجه لدخولهم في الأنبياء فان الرسول نبي وزيادة
ولكن هذا الانكار ضعيف ويجاب عنه بجوابين أحدهما أن هذا سائغ وهو أن يذكر العام
ثم الخاص بنويها! بشأنه وتعظيما لأمره وتفخيما لحاله وقد جاء في القرآن العزيز آيات كريمات
كثيرات من هذا مثل قوله تعالى كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال وقوله
تعالى أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغير ذلك من
الآيات الكريمات وقد جاء أيضا عكس هذا وهو ذكر العام بعد الخاص قال الله تعالى حكاية
عن نوح صلى الله عليه وسلم اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات
فان ادعى متكلف أنه عنى بالمؤمنين غير من تقدم ذكره فلا يلتفت إليه الجواب الثاني أن
قوله والمرسلين أعم من جهة أخرى وهو أنه يتناول جميع رسل الله سبحانه وتعالى من الآدميين
والملائكة قال الله تعالى الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس ولا يسم الملك نبيا فحصل
بقوله والمرسلين فائدة لم تكن حاصلة بقوله النبيين والله أعلم وسمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
محمدا لكثرة خصاله المحمودة كذا قاله ابن فارس وغيره من أهل اللغة قالوا ويقال لكل كثير
الخصال الجميلة محمد ومحمود والله أعلم
44

قال رحمه الله (ذكرت أنك هممت بالفحص عن تعرف جملة الأخبار المأثورة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه) قال الليث وغيره من أهل اللغة
الفحص شدة الطلب والبحث عن الشئ يقال فحصت عن الشئ وتفحصت وافتحصت
بمعنى واحد وقوله المأثورة أي المنقولة المذكورة يقال أثرت الحديث إذا نقلته عن غيرك
والله أعلم وقوله في سنن الدين وأحكامه هو من قبيل ما قدمناه من ذكر العام بعد الخاص
فان السنن من أحكام الدين والله أعلم قال رحمه الله (فأردت أرشدك الله أن توقف على
جملتها مؤلفة محصاة وسألتني أن ألخصها لك في التأليف فان ذلك زعمت مما يشغلك) قوله
توقف ضبطناه بفتح الواو وتشديد القاف ولو قرئ باسكان الواو وتخفيف القاف لكان صحيحا
وقوله مؤلفة أي مجموعة وقوله محصاة أي مجتمعة كلها وقوله ألخصها أي أبينها وقوله فان
ذلك زعمت أي قلت وقد كثر الزعم بمعنى القول وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم زعم
جبريل وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه زعم رسولك وقد أكثر سيبويه في كتابه المشهور
من قوله زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها سيبويه فمعنى زعم في كل هذا قال وقوله يشغلك
هو بفتح الياء هذه اللغة الفصيحة المشهورة التي جاء بها القرآن العزيز قال الله تعالى لك
المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وفيه لغة رديئة حكاها الجوهري وهي أشغله
يشغله بضم الياء
45

قال رحمه الله (وللذي سألت أكرمك الله إلى قوله عاقبة محمودة) فبقوله للذي هو
بكسر اللام وهو خبر عاقبة وإنما ضبطه وإن كان ظاهرا لأنه مما يغلط فيه ويصحف وقد
رأيت ذلك غير مرة قال رحمه الله (وظننت حين سألتني تجشم ذلك أن لو عزم لي عليه
وقضى لي تمامه كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي) قوله تجشم ذلك أي تكلفه والتزام مشقته
وقوله عزم هو بضم العين وهذا اللفظ مما أعتنى بشرحه من حيث أنه لا يجوز أن يراد بالعزم
هنا حقيقته المتبادرة إلى الافهام وهو حصول خاطر في الذهن لم يكن فان هذا محال في حق الله
تعالى واختلف في المراد به هنا فقيل معناه لو سهل لي سبيل العزم أو خلق في قدرة عليه وقيل
العزم هنا بمعنى الإرادة فان القصد والعزم والإرادة والنية متقاربات فيقام بعضها مقام بعض
فعلى هذا معناه لو أراد الله ذلك لي وقد نقل الأزهري وجماعة غيره أن العرب تقول نواك الله
بحفظه قالوا وتفسيره قصدك الله بحفظه وقيل معناه لو ألزمت ذلك فان العزيمة بمعنى اللزوم ومنه
قول أم عطية رضي الله عنه نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا أي لم نلزم الترك وفي الحديث
الآخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة أي من غير الزام ومثله قول الفقهاء ترك الصلاة في
زمن الحيض عزيمة أي واجب على المرأة لازم لها والله أعلم وقوله كان أول هو برفع أول على
أنه اسم كان قال رحمه الله (الا بأن يوقفه على التمييز غيره) قوله يوقفه بتشديد القاف
ولا يصح أن يقرأ هنا بتخفيف القاف بخلاف ما قدمناه في قوله توقف على جملتها لان اللغة
الفصيحة المشهورة وقفت فلانا على كذا فلو كان مخففا لكان حقه أن يقال بأن يقفه على التمييز
والله أعلم قال رحمه الله (جملة ذلك أن ضبط القليل من هذا الشأن واتقانه أيسر على المرء
46

من معالجة الكثير) ثم قال بعد هذا (وإنما يرجى بعض المنفعة في الاستكثار من هذا
الشأن وجمع المكررات لخاصة من الناس ممن رزق فيه بعض التيقظ والمعرفة بأسبابه وعلله
فذلك هو إن شاء الله يهجم بما أوتى على الفائدة) قوله يهجم هو بفتح الياء وكسر الجيم هكذا
ضبطناه وهكذا هو في نسخ بلادنا وأصولها وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه روى كذا
وروى يهجم بنون بعد الياء قاله ومعنى يهجم يقع عليها ويبلغ إليها وينال بغيته منها قال ابن دريد
انهجم الخباء إذا وقع والله أعلم وحاصل هذا الكلام الذي ذكره مسلم رحمه الله أن المراد من علم
الحديث تحقيق معاني المتون وتحقيق علم الاسناد والمعلل والعلة عبارة عن معنى في الحديث خفى
يقتضى ضعف الحديث مع أن ظاهرة السلامة منها وتكون العلة تارة في المتن وتارة في الاسناد
وليس المراد من هذا العلم مجرد السماع ولا الاسماع ولا الكتابة بل الاعتناء بتحقيقه والبحث
عن خفى معاني المتون والأسانيد والفكر في ذلك ودوام الاعتناء به ومراجعة أهل المعرفة به
ومطالعة كتب أهل التحقيق فيه وتقييد ما حصل من نفائسه وغيرها فيحفظها الطالب بقلبه
ويقيدها بالكتابة ثم يديم مطالعة ما كتبه ويتحرى التحقيق فيما يكتبه ويتثبت فيه فإنه فيما بعد
ذلك يصير معتمدا عليه ويذاكر بمحفوظاته من ذلك من يشتغل بهذا الفن سواء كان مثله في
المرتبة أو فوقه أو تحته فان بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب
47

كثرة المذاكرة ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أياما وليكن
في مذاكراته متحريا الانصاف قاصدا الاستفادة أو الإفادة غير مترفع على صاحبه بقلبه ولا
بكلامه ولا بغير ذلك من حاله مخاطبا له بالعبارة الجميلة اللينة فبهذا ينمو علمه وتزكو محفوظاته
والله أعلم قال رحمه الله (وقد عجزوا عن معرفة القليل) يقال عجز بفتح الجيم يعجز بكسرها
هذه هي اللغة الفصيحة المشهورة وبها جاء القرآن العظيم في قوله تعالى ويلتي أعجزت ويقال عجز
يعجز بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع حكاها الأصمعي وغيره والعجز في كلام العرب
أن لا تقدر على ما تريد وأنا عاجز وعجز قوله (على شريطة) يعنى شرطا قال أهل اللغة الشرط
والشريطة لغتان بمعنى واحد وجمع الشرط شروط وجمع الشريطة شرائط وقد شرط عليه كذا
يشرطه ويشرطه بكسر الراء وضمها لغتان وكذلك اشترط عليه والله أعلم قوله (نعمد إلى
جملة ما أسند من الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام وثلاث
طبقات) قوله جملة ما أسند يعنى جملة غالبة ظاهرة وليس المراد جميع الأخبار المسندة فقد علمنا
أنه لم يذكر الجميع ولا النصف وقد قال ليس كل حديث صحيح وضعته ههنا وقوله على ثلاث
طبقات الطبقة هم القوم المتشابهون من أهل العصر وقد قدمنا في الفصول الخلاف في مراده
بثلاثة أقسام وهل ذكرها كلها أم لا وقوله على غير تكرار الا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث
فيه زيادة معنى أو اسناد يقع إلى جنب اسناد لعلة تكون هناك لان معنى الزائد في الحديث المحتاج
إليه يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة أو أن يفصل ذلك
المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن قوله أو اسناد يقع هو مرفوع معطوف على قوله
48

موضع وقوله المحتاج إليه وهو بنصب المحتاج صفة للمعنى وأما الاختصار فهو ايجاد اللفظ مع استيفاء
المعنى وقيل رد الكلام الكثير إلى قليل فيه معنى الكثير وسمى اختصارا لاجتماعه ومنه المخصرة
وخصر الانسان واما قوله (أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث) فهذه مسألة اختلف
العلماء فيها وهي رواية بعض الحديث فمنهم من منعه مطلقا بناء على منع الرواية بالمعنى ومنعه
بعضهم وان جازت الرواية بالمعنى إذا لم يكن رواه هو أو غيره بتمامه قبل هذا وجوزه جماعة
مطلقا ونسبة القاضي عياض إلى مسلم والصحيح الذي ذهب إليه الجماهير والمحققون من أصحاب
الحديث والفقه والأصول التفصيل وجواز ذلك من العارف إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه
بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة بتركه سواء جوزنا الرواية بالمعنى أم لا وسواء رواه قبل تاما
أم لا هذا ان ارتفعت منزلته عن التهمة فأما من رواه تاما ثم خاف ان رواه ثانيا ناقصا أن يتهم
بزيادة أولا أو نسيان لغفلة وقلة ضبط ثانيا فلا يجوز له النقصان ثانيا ولا ابتداء إن كان قد
تعين عليه أداؤه وأما تقطيع المصنفين الحديث الواحد في الأبواب فهو بالجواز أولى بل يبعد
طرد الخلاف فيه وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ الجلة من المحدثين وغيرهم من أصناف العلماء
وهذا معنى قول مسلم رحمه الله أو أن يفصل ذلك المعنى إلى آخره وقوله (إذا أمكن) يعنى إذا
وجد الشرط الذي ذكرناه على مذهب الجمهور من التفصيل وقوله (ولكن تفصيله ربما عسر
من جملته فاعادته بهيئة إذا ضاق ذلك أسلم) معناه ما ذكرنا أنه لا يفصل الا ما ليس مرتبطا
بالباقي وقد يعسر هذا بعض الأحاديث فيكون كله مرتبطا بالباقي أو يشك في ارتباطه ففي
هذه الحالة يتعين ذكره بتمامه وهيئته ليكون أسلم مخافة من الخطأ والزلل والله أعلم قال رحمه الله
49

(فأما القسم الأول فانا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من
أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث واتقان لما نقلوا لم يوجد في روايتهم اختلاف
شديد ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم) أما قوله
نتوخى فمعناه نقصد يقال توخى وتأخى وتحرى وقصد بمعنى واحد وأما قوله وأنقى فهو بالنون
والقاف وهو معطوف على قوله أسلم وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بيان كونها أسلم وأنقى فقال من أن
يكون ناقلوها أهل استقامة والظاهر أن لفظة من هنا للتعليل فقد قال الإمام أبو القاسم
عبد الواحد بن علي بن عمر الأسدي في كتابه شرح اللمع في باب المفعول له اعلم أن الباء تقوم
مقام اللام قال الله تعالى من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم من قال
الله تعالى أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل وقال أبو البقاء في قوله تعالى أبو من أنفسهم
يجوز أن يكون للتعليل والله أعلم وأما قوله لم يوجد في روايتهم اختلاف شديد ولا تخليط
فاحش فتصريح منه بما قال الأئمة من أهل الحديث والفقه والأصول ان ضبط الراوي يعرف
بأن تكون روايته غالبا كما روى الثقات لا تخالفهم الا نادرا فان كانت مخالفته نادرة لم يخل ذلك
بضبطه بل يحتج به لأن ذلك لا يمكن الاحتراز منه وان كثرت مخالفته اختل ضبطه ولم يحتج
برواياته وكذلك التخليط في روايته واضطرابها ان ندر لم يضر وان كثر ردت روايته وقوله
كما قد عثر هو بضم العين وكسر المثلثة أي اطلع من قول الله تعالى عثر على أنهما استحقا أثما
والله أعلم قال رحمه الله (فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس أتبعناها أخبارا يقع
50

في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والاتقان كالصنف المقدم قبلهم على أنهم وإن
كانوا فيما وصفنا دونهم فان اسم الستر والصدق وتعاطى الاخبار يشملهم كعطاء بن السائب
ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم وأضرابهم من حمال الآثار ونقال الأخبار) قوله تقصينا
هو بالقاف ومعناه أتينا بها كلها يقال اقتص الحديث وقصه وقص الرؤيا أتى بذلك الشئ
بكماله وأما قوله فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف أتبعناها إلى آخره فقد قدمنا في الفصول
بيان الاختلاف في معناه وانه هل وفى به في هذا الكتاب أم اخترمته المنية
دون تمامه والراجح أنه وفى به والله أعلم وقوله فان اسم الستر هو بفتح السين مصدر
سترت الشئ أستره سترا ويوجد في أكثر الروايات والأصول مضبوطا بكسر السين ويمكن
تصحيح هذا على أن الستر يكون بمعنى المستور كالذبح بمعنى المذبوح ونظائره وقوله يشملهم أي
يعمهم وهو بفتح الميم على اللغة الفصيحة ويجوز ضمها في لغة يقال شملهم الأمر بكسر الميم
يشملهم بفتحها هذه اللغة المشهورة وحكى أبو عمر والزاهد عن ابن الاعرابي أيضا شملهم بالفتح
يشملهم بالضم والله أعلم أما عطاء بن السائب فيكنى أبا السائب ويقال أبو يزيد ويقال أبو
محمد ويقال أبو زيد الثقفي الكوفي التابعي وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره قال أئمة هذا
الفن اختلط في آخر عمره فمن سمع منه قديما فهو صحيح السماع ومن سمع منه متأخرا فهو
مضطرب الحديث فمن السامعين أولا سفيان الثوري وشعبة ومن السامعين آخرا جرير وخالد
ابن عبد الله وإسماعيل وعلي بن عاصم هكذا قال أحمد بن حنبل وقال يحيى بن معين جميع ما
روى عن عطاء روى عنه في الاختلاط الا شعبة وسفيان وفى رواية عن يحيى قال وسمع أبو
عوانة من عطاء في الصحة والاختلاط جميعا فلا يحتج بحديثه قلت وقد تقدم حكم التخليط
والمخلط في الفصول وأما يزيد بن أبي زياد فيقال فيه أيضا يزيد بن زياد وهو قرشي دمشقي قال
الحافظ هو ضعيف وقال ابن نمير ويحيى بن معين ليس هو بشئ وقال أبو حاتم ضعيف وقال
51

النسائي متروك الحديث وقال الترمذي ضعيف في الحديث وأما ليث بن أبي سليم فضعفه الجماهير
قالوا واختلط واضطربت أحاديثه قالوا وهو ممن يكتب حديثه قال أحمد بن حنبل هو مضطرب
الحديث ولكن حدث الناس عنه وقال الدارقطني وابن عدي يكتب حديثه وقال كثيرون
لا يكتب حديثه وامتنع كثيرون من السلف من كتابة حديثه واسم أبى سليم أيمن وقيل أنس
والله أعلم وأما قوله وأضرابهم فمعناه أشباههم وهو جمع ضرب قال أهل اللغة الضريب على
وزن الكريم والضرب بفتح الضاد واسكان الراء وهما عبارة عن الشكل والمثل وجمع الضرب
أضراب وجمع الضريب ضربا ككريم وكرما وأما انكار القاضي عياض على مسلم قوله
وأضرابهم وقوله إن صوابه ضربائهم فليس بصحيح فإنه حمل قول مسلم وأضرابهم على أنه جمع
ضريب بالياء وليس ذلك جمع ضريب بل جمع ضرب بحذفها كما ذكرته فاعرفه وقوله ونقال
الاخبار هو باللام والله أعلم قال رحمه الله (ألا ترى أنك إذا وازنت هؤلاء الثلاثة الذين
سميناهم عطاء ويزيد وليثا بمنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد إلى آخر
كلامه) فقوله وازنت هو بالنون ومعناه قابلت قال القاضي عياض ويروى وازيت بالياء أيضا
وهو بمعنى وازنت ثم هذا كله قد ينكر على مسلم فيه ويقال عادة أهل العلم إذا ذكروا جماعة
في مثل هذا السياق قدموا أجلهم مرتبة فيقدمون الصحابي على التابعي والتابعي على تابعه
والفاضل على من دونه فإذا تقرر هذا فإسماعيل بن أبي خالد تابعي مشهور رأى أنس بن مالك
وسلمة بن الأكوع وسمع عبد الله بن أبي أوفى وعمرو بن حريث وقيس بن عائد أبا كاهل وأبا
52

جحيفة وهؤلاء كلهم صحابة رضي الله عنهم واسم أبى خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير وأما الأعمش
فرأى أنس بن مالك فحسب وأما منصور بن المعتمر فليس بتابعي وإنما هو من أتباع التابعين
فكان ينبغي أن يقول إذا وازنتهم بإسماعيل والأعمش ومنصور وجوابه أنه ليس المراد هنا التنبيه
على مراتبهم فلا حجر في عدم ترتيبهم ويحتمل أن مسلما قدم منصورا لرجحانه في ديانته وعبادته
فقد كان أرجحهم في ذلك وإن كان الثلاثة راجحين على غيرهم مع كمال حفظ لمنصور واتقان
وتثبت قال علي بن المديني إذا حدثك ثقة عن منصور فقد ملأت يديك لا تزيد غيره وقال عبد
الرحمن بن المهدى منصور أثبت أهل الكوفة وقال سفيان كنت لا أحدث الأعمش عن أحد
من أهل الكوفة الا رده فإذا قلت عن منصور سكت وقال أحمد بن حنبل منصور أثبت من إسماعيل
ابن أبي خالد وقال يحيى بن معين إذا اجتمع الأعمش ومنصور فقدم منصورا وقال أبو حاتم
منصور أتقن من الأعمش لا يختلط ولا يدلس وقال الثوري ما خلفت بالكوفة آمن على الحديث
من منصور وقال أبو زرعة سمعت إبراهيم بن موسى يقول أثبت أهل الكوفة منصور ثم مسعر
وقال أحمد بن عبد الله منصور أثبت أهل الكوفة وكان مثل القدح لا يختلف فيه أحد وصام
ستين سنة وقامها وأما عبادته وزهده وورعه وامتناعه من القضاء حين أكره عليه فأكثر من
أن يحصر وأشهر من أن يذكر رحمه الله والله أعلم وهذا أول موضوع في الكتاب جرى فيه ذكر
أصحاب الألقاب فنتكلم فيه بقاعدة مختصرة قال العلماء من أصحاب الحديث والفقه وغيرهم يجوز
ذكر الراوي بلقبه وصفته ونسبه الذي يكرهه إذا كان المراد تعريفه لا تنقيصه وجوز هذا
للحاجة كما جوز جرحهم للحاجة مثال ذلك الأعمش والأعرج والأحول والأعمى والأصم
والأشل والأثرم والزمن والمفلوح وابن علية وغير ذلك وقد صنفت فيه كتب معروفة
53

قال رحمه الله (كابن عون وأيوب السختياني مع عوف بن أبي جميلة وأشعث الحمراني) أما ابن
عون فهو عبد الله بن عون بن ارطبان وأما السختياني فبفتح السين وكسر التاء المثناة قال أبو عمر
ابن عبد البر في التمهيد كان أيوب يبيع الجلود بالبصرة فلهذا قيل له السختياني وأما عوف بن أبي
جميلة فيعرف بعوف الاعرابي ولم يكن اعرابيا واسم أبى جميلة بندويه ويقال زريبة قال أحمد بن
حنبل عوف ثقة صالح الحديث وقال يحيى بن معين ومحمد بن سعد هو ثقة كنيته أبو سهل وأما
أشعث فهو ابن عبد الملك أبو هانئ البصري قال أبو بكر البرقاني قلت للدارقطني أشعث عن
الحسن قال هم ثلاثة يحدثون عن الحسن جميعا أحدهم الحمراني منسوب إلى حمران مولى عثمان ثقة
وأشعث بن عبد الله الحداني بصرى يروى عن أنس بن مالك والحسن يعتبر به وأشعث بن
سوار الكوفي يعتبر به وهو أضعفهم والله أعلم قوله (الا أن البون بينهما بعيد) البون بفتح
الباء الموحدة معناه الفرق أي هما متباعدان كما قال وجدتهم متباينين وقوله (ليكون تمثيلهم
سمة يصدر عن فهمها من غبي عليه طريق أهل العلم) أما السمة بكسر السين وتخفيف الميم
فهي العلامة وقوله يصدر أي يرجع يقال صدر عن الماء والبلاد والحج إذا انصرف عنه
بعد قضاء وطره فمعنى يصدر عن فهمها ينصرف عنها بعد فهمها وقضاء حاجته منها وقوله غبي
54

بفتح الغين وكسر الباء أي خفى قال رحمه الله (وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها
قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم) هذا الحديث قد تقدم بيانه
في فصل التعليق من الفصول المتقدمة واضحا ومن فوائده تفاضل الناس في الحقوق على حسب
منازلهم ومراتبهم وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها وقد سوى الشرع بينهم في الحدود
وأشباهها مما هو معروف والله أعلم قال رحمه الله (فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل
الحديث متهمون أو عند الأكثر منهم فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم كعبد الله بن مسور أبى
جعفر المدايني وعمرو بن خالد وعبد القدوس الشامي ومحمد بن سعيد المصلوب وغياث بن
إبراهيم وسليمان بن عمرو أبى داود النخعي وأشباههم ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار)
هؤلاء الجماعة المذكورون كلهم متهمون متروكون لا يتشاغل بأحد منهم لشدة ضعفهم وشهرتهم
بوضع الأحاديث ومسور بكسر الميم وعبد القدوس الشامي بالشين المعجمة نسبة إلى الشام
هذا هو الصواب فيه وحكى القاضي عياض أن بعض الشيوخ من رواة مسلم ضبطه بالسين
المهملة قال وهو خطأ وهو خطأ كما قال وهذا لا خلاف فيه وهو عبد القدوس بن حبيب
الكلاعي الشامي أبو سعيد روى عن عكرمة وعطاء وغيرهما قال ابن أبي حاتم قال عمرو بن
55

على الفلاس أجمع أهل العلم على ترك حديثه فهذا هو عبد القدوس الذي عناه مسلم هنا ولهم آخر
اسمه عبد القدوس ثقة وهو عبد القدوس بن الحجاج أبو المغيرة الخولاني الشامي الحمصي سمع
صفوان بن عمرو والأوزاعي وغيرهما روى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ومحمد بن يحيى
الذهلي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وآخرون من كبار الأئمة والحفاظ قال أحمد بن عبد الله
العجلي والدارقطني وغيرهما هو ثقة وقد روى له البخاري ومسلم في صحيحهما وأما محمد بن سعيد
المصلوب فهو الدمشقي كنيته أبو عبد الرحمن ويقال أبو عبد الله ويقال أبو قيس وفى نسبه
واسمه اختلاف كثير جدا لا نعلم أحدا اختلف فيه كمثله وقد حكى الحافظ عبد الغنى المقدسي
عن بعض أصحاب الحديث أنه يغلب اسمه على نحو مائة قال أبو حاتم الرازي متروك الحديث
قتل وصلب في الزندقة وقال أحمد بن حنبل قتله أبو جعفر في الزندقة حديثه موضوع وقال خالد
ابن يزيد سمعته يقول إذا كان كلام حسن لم أر بأسا أن أجعل له اسنادا وأما غياث بن إبراهيم
فبالغين المعجمة وهو كوفي كنيته أبو عبد الرحمن قال البخاري في تاريخه تركوه وأما قوله
وسليمان بن عمرو أبى داود فهو عمرو بفتح العين وبواو في الخط وأبي داود كنية سليمان هذا
والله سبحانه أعلم وأما الحديث الموضوع فهو المختلق المصنوع وربما أخذ الواضع كلاما لغيره
فوضعه وجعله حديثا وربما وضع كلاما من عند نفسه وكثير من الموضوعات أو أكثرها
يشهد بوضعها ركاكة لفظها واعلم أن تعمد وضع الحديث حرام باجماع المسلمين الذين يعتد بهم
في الاجماع وشذت الكرامية الفرقة المبتدعة فجوزت وضعه في الترغيب والترهيب والزهد
وقد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد ترغيبا في الخير في زعمهم الباطل وهذه
غباوة ظاهرة وجهالة متناهية ويكفى في الرد عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب
علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وسنزيد هذا قريبا شرحا في موضعه إن شاء الله تعالى وأما
قوله وتوليد الأخبار فمعناه انشاؤها وزيادتها قال رحمه الله (وعلامة المنكر في الحديث
56

المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته
روايتهم أو لم تكد توافقها) هذا الذي ذكر رحمه الله هو المعنى المنكر عند المحدثين يعنى به
المنكر المردود فإنهم قد يطلقون المنكر على انفراد الثقة بحديث وهذا ليس بمنكر مردود إذا
كان الثقة ضابطا متقنا وقوله أو لم تكد توافقها معناه لا توافقها الا في قليل قال أهل اللغة كاد
موضوعة للمقاربة فإن لم يتقدمها نفى كانت لمقاربة الفعل ولم يفعل كقوله تعالى البرق
يخطف أبصارهم وان تقدمها نفى كانت للفعل بعد بطء وان شئت قلت لمقاربة عدم الفعل كقوله
تعالى وما كادوا يفعلون قال رحمه الله (فمن هذا الضرب من المحدثين عبد الله بن
محرر ويحيى بن أبي أنيسة والجراح بن المنهال أبو العطوف وعباد بن كثير وحسين بن عبد الله
ابن ضميرة وعمر بن صهبان) أما عبد الله بن محرر فهو بفتح الحاء المهملة وبرائين مهملتين
الأولى مفتوحة مشددة هكذا هو وفى روايتنا وف أصول أهل بلادنا وهذا هو الصواب وكذا
ذكره البخاري في تاريخه وأبو نصر بن ماكولا وأبو علي الغساني الجياني وآخرون من الحفاظ
وذكر القاضي عياض أن جماعة شيوخهم رووه محرزا باسكان الحاء وكسر الراء وآخره زاي
قال وهو غلط والصواب الأول وعبد الله بن محرر عامري جزري رقى ولاه أبو جعفر قضاء
الرقة وهو من تابعي التابعين روى عن الحسن وقتادة والزهري ونافع مولى ابن عمر وآخرين
من التابعين وروى عنه الثوري وجماعات واتفق الحفاظ والمتقدمون على تركه قال أحمد بن
حنبل ترك الناس حديثه وقال الآخرون مثله ونحوه وأما أبو أنيسة والد يحيى فاسمه زيد وأما
أبو العطوف فبفتح العين وضم الطاء المهملتين والجراح بن منهال هذا جزري يروى عن التابعين
57

سمع الحكم بن عتيبة والزهري يروى عنه يزيد بن هارون قال البخاري وغيره هو منكر الحديث
وأما صهبان فهو بضم الصاد المهملة واسكان الهاء وعمر بن صهبان هذا أسلمى مدني ويقال فيه
عمر بن محمد بن صهبان متفق على تركه قال رحمه الله كلاما مختصرا ان زيادة الثقة الضابط
مقبولة ورواية الشاذ والمنكر مردودة وهذا الذي قاله الصحيح الذي عليه الجماهير من
أصحاب الحديث والفقه والأصول وقد تقدم ايضاح هذه المسألة وبيان الخلاف فيها وما يتعلق
بها في الفصول السابقة والله أعلم قوله (قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق)
هو هكذا في معظم الأصول الاتفاق بالفاء أولا والقاف آخرا وفى بعضها الاتقان بالقاف أولا
والنون آخرا والأول أجود وهو الصواب قوله (فيروى عنهما أو عن أحدهما العدد من
الحديث) العدد منصوب يروى قوله (وقد شرحنا من مذهب الحديث وأهله بعض
ما يتوجه به من أراد سبيل القوم ووفق لها) معنى يتوجه به يقصد طريقهم ويسلك مذهبهم
58

والسبيل الطريق وهما يؤنثان ويذكران والتوفيق خلق قدرة الطاعة قال رحمه الله (وسنزيد
إن شاء الله تعالى شرحا وايضاحا في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها
في الأماكن التي يليق بها الشرح والايضاح إن شاء الله تعالى) هذا الذي ذكره مسلم مما
اختلف فيه فقيل اخترمته المنية قبل جمعه وقيل بل ذكره في أبوابه من هذا الكتاب الموجود
وقد تقدم بيان هذا واضحا في الفصول والله أعلم قوله (مما يقذفون به إلى الأغبياء) أي
يلقونه إليهم والأغبياء بالغين المعجمة والباء الموحدة هم الغفلة والجهال والذين لا فطنة لهم قوله
(سفيان بن عيينة) هذا أول موضع جاء ذكره رضي الله عنه والمشهور فيه ضم السين والعين
وذكر ابن السكيت في سفيان ثلاث لغات للعرب ضم السين وفتحها وكسرها وذكر أبو حاتم
السختياني وغيره ضم العين وكسرها وهما وجهان لأهل العربية معروفان قال رحمه الله
59

(اعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها
وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها الا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه
وأن يتقى منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع) الستارة بكسر السين وهي
ما يستتر به وكذلك السترة وهي هنا إشارة إلى الصيانة وقوله وأن يتقى منها ضبطناه بالتاء المثناة
فوق بعد المثناة تحت وبالقاف من الاتقاء وهو الاجتناب وفي بعض الأصول وأن ينفى بالنون
والفاء وهو صحيح أيضا وهو بمعنى الأول وقوله صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها
من المتهمين ليس هو من باب التكرار للتأكيد بل له معنى غير ذلك فقد تصح الروايات لمتن
ويكون الناقلون لبعض أسانيده متهمين فلا يشتغل بذلك الاسناد وأما قوله إنه يجب أن يتقى
ما كان منها عن المعاندين من أهل البدع فهذا مذهبه قال العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب
الأصول المبتدع الذي يكفر ببدعته لا تقبل روايته بالاتفاق وأما الذي لا يكفر بها فاختلفوا
في روايته فمنهم من ردها مطلقا لفسقه ولا ينفعه التأويل ومنهم من قبلها مطلقا إذا لم يكن ممن
يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية وهذا
محكى عن امامنا الشافعي رحمه الله لقوله اقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة
لكونهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم ومنهم من قال تقبل إذا لم يكن داعية إلى بدعته ولا
تقبل إذا كان داعية وهذا مذهب كثيرين أو الأكثر من العلماء وهو الأعدل الصحيح وقال
بعض أصحاب الشافعي رحمه الله اختلف أصحاب الشافعي في غير الداعية واتفقوا على عدم قبول
الداعية وقال أبو حاتم بن حيان بكسر الحاء لا يجوز الاحتجاج بالداعية عند أئمتنا قاطبة
60

لا خلاف بينهم في ذلك وأما المذهب الأول فضعيف جدا ففي الصحيحين وغيرهما من كتب
أئمة الحديث الاحتجاج بكثيرين من المبتدعة غير الدعاة ولم يزل السلف والخلف على قبول
الرواية منهم والاحتجاج بها والسماع منهم واسماعهم من غير انكار منهم والله أعلم قال رحمه
الله (والخبر وان فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في معظم معانيهما)
هذا من الدلائل الصريحة على عظم قدر مسلم وكثرة فقهه اعلم أن الخبر والشهادة يشتركان في
أوصاف ويفترقان في أوصاف فيشتركان في اشتراط الاسلام والعقل والبلوغ والعدالة
والمرؤة وضبط الخبر والمشهود به عند التحمل والأداء ويفترقان في الحرية والذكورية والعدد
والتهمة وقبول الفرع مع وجود الأصل فيقبل خبر العبد والمرأة والواحد ورواية الفرع مع
حضور الأصل الذي هو شيخه ولا تقبل شهادتهم الا في المرأة في بعض المواضع مع غيرها
وترد الشهادة بالتهمة كشهادته على عدوه وبما يدفع به عن نفسه ضررا أو يجر به إليها نفعا
ولولده ووالده واختلفوا في شهادة الأعمى فمنعها الشافعي وطائفة وأجازها مالك وطائفة
واتفقوا على قبول خبره وإنما فرق الشرع بين الشهادة والخبر في هذه الأوصاف لأن الشهادة
تخص فيظهر فيها التهمة والخبر يعمه وغيره من الناس أجمعين فتنتفى التهمة وهذه الجملة قول العلماء
الذين يعتد بهم وقد شذ عنهم جماعة في أفراد بعض هذه الجملة فمن ذلك شرط بعض أصحاب
الأصول أن يكون تحمله الرواية في حال البلوغ والاجماع يرد عليه وإنما يعتبر البلوغ حال
الرواية لا حال السماع وجوز بعض أصحاب الشافعي رواية الصبي وقبولها منه في حال الصبا
61

والمعروف من مذاهب العلماء مطلقا ما قدمناه وشرط الجبائي المعتزلي وبعض القدرية العدد
في الرواية فقال الجبائي لا بد من اثنين عن اثنين كالشهادة وقال القائل من القدرية لا بد من
أربعة عن أربعة في كل خبر وكل هذه الأقوال ضعيفة ومنكرة مطرحة وقد تظاهرت دلائل
النصوص الشرعية والحجج العقلية على وجوب العمل بخبر الواحد وقد قرر العلماء في كتب
الفقه والأصول ذلك بدلائله وأوضحوه أبلغ ايضاح وصنف جماعات من أهل الحديث وغيرهم
مصنفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به والله أعلم ثم إن قولنا
تشترط العدالة والمروءة يدخل فيه مسائل كثيرة معروفة في كتب الفقه يطول الكلام
بتفصيلها قال رحمه الله (وهو الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدث
عنى بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع
عن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سمرة بن جندب ح وحدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة أيضا حدثنا وكيع عن شعبة وسفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة
62

ابن شعبة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك) أما قوله الأثر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو جار على المذهب المختار الذي قاله المحدثين وغيرهم واصطلح عليه السلف
وجماهير الخلف وهو أن الأثر يطلق على المروى مطلقا سواء كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو عن صحابي وقال الفقهاء الخراسانيون الأثر هو ما يضاف إلى الصحابي موقوفا عليه والله
أعلم وأما المغيرة فبضم الميم على المشهور وذكر ابن السكيت وابن قتيبة وغيرهما انه يقال
بكسرها أيضا وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أحد دهاة العرب كنيته أبو عيسى ويقال
أبو عبد الله وأبو محمد مات سنة خمسين وقيل سنة إحدى وخمسين أسلم عام الخندق ومن طرف
أخباره أنه حكى عنه أنه أحصن في الاسلام ثلاثمائة امرأة وقيل ألف امرأة وأما سمرة بن
جندب بضم الدال وفتحها وهو سمرة بن جندب بن هلال الفزاري كنيته أبو سعيد ويقال
أبو عبد الله ويقال أبو عبد الرحمن ويقال أبو محمد ويقال أبو سليمان مات بالكوفة في آخر
خلافة معاوية رحمهم الله وأما سفيان المذكور هنا فهو الثوري أبو عبد الله وقد تقدم أن السين
من سفيان مضمومة وتفتح وتكسر وأما الحكم فهو ابن عتيبة بالمثناة من فوق وآخره باء موحدة
ثم هاء وهو من أفقه التابعين وعبادهم رضي الله عنه وأما حبيب فهو ابن أبي ثابت قيس التابعي
الجليل قال أبو بكر بن عياش كان بالكوفة ثلاثة ليس لهم رابع حبيب بن أبي ثابت والحكم
وحماد وكانوا أصحاب الفتيا ولم يكن أحد الا ذل لحبيب وفي هذين الاسنادين لطيفتان من علم
الاسناد إحداهما أنهما اسنادان رواتهما كلهم كوفيون الصحابيان وشيخا مسلم ومن بينهما
الا شعبة فإنه واسطى ثم بصرى وفي صحيح مسلم من هذا النوع كثير جدا ستراه في مواضعه
حيث ننبه عليه إن شاء الله تعالى واللطيفة الثانية أن كل واحد من الاسنادين فيه تابعي روى
عن تابعي وهذا كثير وقد يروى ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وهو أيضا كثير لكنه دون
الأول وسننبه على كثير من هذا في مواضعه وقد يروى أربعة تابعيون بعضهم عن بعض وهذا
قليل جدا وكذلك وقع مثل هذا كله في الصحابة رضي الله عنهم صحابي عن صحابي كثير وثلاثة
صحابة بعضهم عن بعض وأربعة بعضهم عن بعض وهو قليل جدا وقد جمعت أنا الرباعيات
من الصحابة والتابعين في أول شرح صحيح البخاري بأسانيدها وجمل من طرقها وأما عبد الرحمن
ابن أبي ليلى فإنه من أجل التابعين قال عبد الله بن الحارث ما شعرت ان النساء ولدت مثله وقال
63

عبد الملك بن عمير رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى في حلقة فيها نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستمعون لحديثه وينصتون له فيهم البراء بن عازب مات سنة ثلاث وثمانين واسم
أبى ليلى يسار وقيل بلال وقيل بلال بضم الموحدة وبين اللامين مثناة من تحت وقيل داود وقيل
لا يحفظ اسمه وأبو ليلى صحابي قتل مع علي رضي الله عنهما بصفين وأما ابن أبي ليلى الفقيه
المتكرر في كتب الفقه والذي له مذهب معروف فاسمه محمد وهو ابن عبد الرحمن هذا وهو
ضعيف عند المحدثين والله أعلم وأما أبو بكر بن أبي شيبة فاسمه عبد الله وقد أكثر مسلم من
الرواية عنه وعن أخيه عثمان ولكن عن أبي بكر أكثر وهما أيضا شيخا البخاري وهما منسوبان
إلى جدهما واسم أبيهما محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستى بخاء معجمة مضمومة ثم واو مخففة
ثم ألف ثم سين مهملة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق ثم ياء مثناة من تحت ولأبي بكر وعثمان ابني
أبى شيبة أخ ثالث اسمه القاسم ولا رواية له في الصحيح كان ضعيفا وأبو شيبة هو إبراهيم بن
عثمان وكان قاضى واسط وهو ضعيف متفق على ضعفه وأما ابنه محمد والد بنى أبى شبية فكان
على قضاء فارس وكان ثقة قاله يحيى بن معين وغيره ويقال لأبى شيبة وابنه وبنى ابنه عبسيون
بالموحدة والسين المهملة وأما أبو بكر وعثمان فحافظان جليلان واجتمع في مجلس أبي بكر نحو
ثلاثين ألف رجل وكان أجل من عثمان وأحفظ وكان عثمان أكبر منه سنا وتأخرت وفاة عثمان
فمات سنة تسع وثلاثين ومائتين ومات أبو بكر سنة خمس وثلاثين ومن طرف ما يتعلق بأبى
بكر ما ذكره أبو بكر الخطيب البغدادي قال حدث عن أبي بكر محمد بن سعد كاتب الواقدي
ويوسف بن يعقوب أبو عمرو والنيسابوري وبين وفاتيهما مائة وثمان أو سبع سنين والله أعلم
وأما ذكر مسلم رحمه الله متن الحديث ثم قوله حدثنا أبو بكر وذكر اسناديه إلى الصحابيين ثم
قال قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فهو جائز بلا شك وقد قدمنا بيانه في الفصول
السابقة وما يتعلق به والله أعلم فهذا مختصر ما يتعلق باسناد هذا الحديث ويحتمل ما ذكرناه من
حال بعض رواته وإن كان ليس هو غرضنا لكنه أول موضع جرى ذكرهم فأشرنا إليه رمزا
وأما متنه فقوله صلى الله عليه وسلم يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ضبطناه يرى بضم الياء
والكاذبين بكسر الباء وفتح النون على الجمع وهذا هو المشهور في اللفظتين قال القاضي عياض
الرواية فيه عندنا الكاذبين على الجمع ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المستخرج على صحيح
64

مسلم في حديث سمرة الكاذبين بفتح الباء وكسر النون على التثنية واحتج به على أن الراوي له
يشارك البادئ بهذا الكذب ثم رواه أبو نعيم من رواية المغيرة الكاذبين أو الكاذبين على الشك
في التثنية والجمع وذكر بعض الأئمة جواز بفتح الياء من يرى وهو ظاهر حسن فأما من ضم الياء
فمعناه يظن وأما من فتحها فظاهر ومعناه وهو يعلم ويجوز أن يكون بمعنى يظن أيضا فقد حكى
رأى بمعنى ظن وقيد بذلك لأنه لا يأثم الا بروايته ما يعلمه أو يظنه كذبا أما ما لا يعلمه ولا يظنه
فلا اثم عليه في روايته وان ظنه غيره كذبا أو علمه وأما فقه الحديث فظاهر ففيه تغليظ
الكذب والتعرض له وأن من غلب على ظنه كذب ما يرويه فرواه كان كاذبا وكيف لا يكون
كاذبا وهو مخبر بما لم يكن وسنوضح حقيقة الكذب وما يتعلق بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا إن شاء الله تعالى فنقول
باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه قوله صلى الله عليه وسلم لا تكذبوا على فإنه من يكذب على يلج النار وفي رواية من تعمد
على كذبا فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية من كذب على متعمدا وفي رواية ان كذبا على
ليس ككذب على أحد فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أما أسانيده ففيه غندر
بضم الغين المعجمة واسكان النون وفتح الدال المهملة هذا هو المشهور فيه وذكر الجوهري في
صحاحه أنه يقال بفتح الدال وضمها اسمه محمد بن جعفر الهذلي مولاهم البصري أبو عبد الله
وقيل أبو بكر وغندر لقب لقبه به ابن جريج روينا عن عبيد الله بن عائشة عن بكر بن كلثوم
السلمي قال قدم علينا ابن جريج البصرة فاجتمع الناس عليه فحدث عن الحسن البصري بحديث
فأنكره الناس عليه فقال ابن عائشة إنما سماه غندرا بن جريج في ذلك اليوم كان يكثر الشغب
عليه فقال اسكت يا غندر وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا ومن طرف أحوال غندر رحمه
الله أنه بقي خمسين سنة يصوم يوما ويفطر يوما ومات في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة
وقيل سنة أربع وتسعين
65

وفيه ربعي بن حراش فربعي بكسر الراء واسكان الموحدة وحراش بكسر الحاء المهملة
وبالراء وآخره شين معجمة وقد قدمنا في آخر الفصول أنه ليس في الصحيحين حراش
بالحاء المهملة سواه ومن عداه بالمعجمة وهو ربعي بن حراش بن جحش العبسي بالموحدة
الكوفي أبو مريم أخو مسعود الذي تكلم بعد الموت وأخوهما ربيع وربعي تابعي كبير جليل
لم يكذب قط وحلف أنه لا يضحك حتى يعلم أين مصيره فما ضحك الا بعد موته وكذلك حلف
أخوه ربيع أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار قال غاسله فلم يزل متبسما على سريره
ونحن نغسله حتى فرغنا توفى ربعي سنة احدى ومائة وقيل سنة أربع ومائة وقيل توفى في ولاية
الحجاج ومات الحجاج سنة خمس وتسعين وأما قوله (حدثنا إسماعيل يعنى ابن عليه)
فإنما قال يعنى لأنه لم يقع في الرواية ابن عليه فأتى بيعني وقد تقدم بيان هذا في الفصول
وأوضحت هناك مقصوده وعلية هي أم إسماعيل وأبوه إبراهيم بن سهم بن مقسم الأسدي أسد
خزيمة مولاهم وإسماعيل بصرى وأصله من الكوفة كنيته أبو بشر قال شعبة إسماعيل بن علية
ريحانة الفقهاء وسيد المحدثين وقال محمد بن سعد علية أم إسماعيل هي علية بنت حسان مولاه
لبنى شيبان وكان امرأة نبيلة عاقلة وكان صالح المري وغيره من وجوه البصرة وفقهائها
يدخلون عليها فتبرز فتحادثهم وتسائلهم ومن طرف ما يتعلق بإسماعيل بن علية ما ذكره الخطيب
البغدادي قال حدث عن إسماعيل بن علية ابن جريج وموسى بن سهل الوشا وبين وفاتيهما مائة
وتسع وعشرون سنة وقيل سبع وعشرون قال وحدث عن ابن علية إبراهيم بن طهمان وبين
66

وفاته ووفاته الوشا مائة وعشر سنين وقيل مائة وخمس وعشرون سنة قال وحدث عن ابن علية
شعبة وبين وفاته ووفاة الوشا مائة وثماني عشر سنة وحدث عن ابن علية عبد الله بن وهب
وبين وفاته ووفاة الوشا احدى وثمانون سنة مات الوشا يوم الجمعة أول ذي القعدة سنة
ثمان وتسعين ومائتين وقوله في الاسناد الآخر (حدثنا محمد بن عبيد الله الغبرى حدثنا
أبو عوانة عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة) اما الغبرى فبغين معجمة مضمومة ثم
باء موحدة مفتوحة منسوب إلى غبر أبى قبيلة معروفة في بكر بن وائل ومحمد هذا بصرى وأما
أبو عوانة فبفتح العين وبالنون واسمه الوضاح بن عبد الله الواسطي وأما أبو حصين فبفتح الحاء
المهملة وكسر الصاد وقد تقدم في آخر الفصول أنه ليس في الصحيحين له نظير وأن من سواه
حصين بضم الحاء وفتح الصاد الا حضين بن المنذر فإنه بالضاد المعجمة واسم أبى حصين عثمان
ابن عاصم الأسدي الكوفي التابعي وأما أبو صالح فهو السمان ويقال الزيات واسمه ذكوان
كان يجلب الزيت والسمن إلى الكوفة وهو مدني توفى سنة احدى ومائة وفى درجته وقريب
منه جماعة يقال لكل واحد منهم أبو صالح وأما أبو هريرة فهو أول من كنى بهذه الكنية
واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من ثلاثين قولا وأصحها عبد الرحمن بن صخر قال أبو عمرو
ابن عبد البر لكثرة الاختلاف فيه لم يصح عندي فيه شئ يعتمد عليه الا أن عبد الله
وعبد الرحمن هو الذي يسكن إليه القلب في اسمه في الاسلام قال وقال محمد بن إسحاق اسمه
عبد الرحمن بن صخر قال وعلى هذا اعتمدت طائفة صنفت في الأسماء والكنى وكذا قال
الحاكم أبو أحمد أصح شئ عندنا في اسمه عبد الرحمن بن صخر وأما سبب تكنيته أبا هريرة
فإنه كانت له في صغره هريرة صغيرة يلعب بها ولأبي هريرة رضي الله عنه منقبة عظيمة وهي أنه
أكثر الصحابة رضي الله عنهم رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الامام الحافظ
بقي بن مخلد الأندلسي في مسنده لأبى هريرة خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثا
67

وليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم هذا القدر ولا ما يقاربه قال الإمام الشافعي رحمه الله
أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره وكان أبو هريرة ينزل المدينة بذى الحليفة وله بها
دار مات بالمدينة سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة ودفن بالبقيع وماتت عائشة
رضي الله عنها قبله بقليل وصلى عليها وقيل إنه مات سنة سبع وخمسين وقيل سنة ثمان والصحيح
سنة تسع وكان من ساكني الصفة وملازميها قال أبو نعيم في حيلة الأولياء كان عريف أهل
الصفة وأشهر من سكنها والله أعلم وأما متن الحديث فهو حديث عظيم في نهاية من الصحة
وقيل إنه متواتر ذكر أبو بكر البزار في مسنده أنه رواه عن النبي عليه السلام نحو من أربعين
نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وحكى الإمام أبو بكر الصيرفي في شرحه لرسالة الشافعي
رحمهما الله أنه روى عن أكثر من ستين صحابيا مرفوعا وذكر أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة
عدد من رواه فبلغ بهم سبعة وثمانين ثم قال وغيرهم وذكر بعض الحفاظ أنه روى عن اثنين
وستين صحابيا وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة قال ولا يعرف حديث اجتمع على رواية العشرة
الا هذا ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا الا هذا وقال بعضهم رواه مائتان من
الصحابة ثم لم يزل في ازدياد وقد اتفق البخاري ومسلم على اخراجه في صحيحهما من حديث
على والزبير وأنس وأبي هريرة وغيرهم وأما ايراد أبى عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين
حديث أنس في أفراد مسلم فليس بصواب فقد اتفقا عليه والله أعلم وأما لفظ متنه فقوله
صلى الله عليه وسلم فليتبوأ مقعده من النار قال العلماء معناه فلينزل وقيل فليتخذ منزله من النار
وقال الخطابي أصله من مباءة الإبل وهي أعطانها ثم قيل إنه دعاء بلفظ الامر أي بوأه الله ذلك
وكذا فليلج النار وقيل هو خبر بلفظ الامر أي معناه فقد استوجب ذلك فليوطن نفسه عليه
ويدل عليه الرواية الأخرى يلج النار وجاء في رواية بني له بيت في النار ثم معنى الحديث أن هذا
جزاؤه وقد يجازى به وقد يعفو الله الكريم عنه ولا يقطع عليه بدخول النار وهكذا سبيل كل
ما جاء من الوعيد بالنار لأصحاب الكبائر غير الكفر فكلها يقال فيها هذا جزاؤه وقد يجازى
68

وقد يعفى عنه ثم إن جوزي وأدخل النار فلا يخلد فيها بل لابد من خروجه منها بفضل الله تعالى
ورحمته ولا يخلد في النار أحد مات على التوحيد وهذه قاعدة متفق عليها عند أهل السنة
وسيأتي دلائلها في كتاب الايمان قريبا إن شاء الله والله أعلم وأما الكذب فهو عند المتكلمين
من أصحابنا الأخيار عن الشئ على خلاف ما هو عمدا كان أو سهوا هذا مذهب أهل السنة
وقالت المعتزلة شرطه العمدية ودليل خطاب هذه الأحاديث لنا فإنه قيده عليه السلام بالعمد
لكونه قد يكون عمدا وقد يكون سهوا مع أن الاجماع والنصوص المشهورة في الكتاب والسنة
متوافقة متظاهرة على أنه لا اثم على الناسي والغالط فلو أطلق عليه السلام الكذب لتوهم أنه
يأثم الناسي أيضا فقيده وأما الروايات المطلقة فمحمولة على المقيدة بالعمد والله أعلم واعلم أن
هذا الحديث يشتمل على فوائد وجمل من القواعد إحداها تقرير هذه القاعدة لأهل السنة أن
الكذب يتناول اخبار العامد والساهي عن الشئ بخلاف ما هو الثانية تعظيم تحريم الكذب
عليه صلى الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بهذا الكذب الا أن
يستحله هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف وقال الشيخ أبو محمد الجويني والد
امام الحرمين أبى المعالي من أئمة أصحابنا يكفر بتعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم حكى
امام الحرمين عن والده هذا المذهب وأنه كان يقول في درسه كثيرا من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا كفر وأريق دمه وضعف امام الحرمين هذا القول وقاله انه لم يره
لأحد من الأصحاب وانه هفوة عظيمة والصواب ما قدمناه عن الجمهور والله أعلم ثم إن من كذب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا في حديث واحد فسق وردت رواياته كلها وبطل
الاحتجاج بجميعها فلو تاب وحسنت توبته فقد قال جماعة من العلماء منهم أحمد بن حنبل وأبو
بكر الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي وأبو بكر الصيرفي من فقهاء أصحابنا الشافعيين
وأصحاب الوجوه منهم ومتقدميهم في الأصول والفروع لا تؤثر توبته في ذلك ولا تقبل روايته
أبدا بل يحتم جرحه دائما وأطلق الصيرفي وقال كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب
69

وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك قال وذلك مما
افترقت فيه الرواية والشهادة ولم أر دليلا لمذهب هؤلاء ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا
وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى
يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة فان مفسدتهما قاصرة ليست عامة قلت وهذا
الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية والمختار القطع بصحته توبته في هذا
وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي الاقلاع عن المعصية والندم على
فعلها والعزم على أن لا يعود إليها فهذا هو الجاري على قواعد الشرع وقد أجمعوا على صحة رواية
من كان كافرا فأسلم وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة وأجمعوا على قبول شهادته ولا فرق بين
الشهادة والرواية في هذا والله أعلم الثالثة أنه لافرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم
بين ما كان في الاحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك فكله حرام
من أكبر الكبائر وأقبح القبائح باجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الاجماع خلافا للكرامية
الطائفة المبتدعة في زعمهم الباطل أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب وتابعهم على
هذا كثيرون من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد أو ينسبهم جهلة مثلهم وشبهة زعمهم
الباطل انه جاء في رواية من كذب على متعمدا ليضل به فليتبوأ مقعده من النار وزعم بعضهم
ان هذا كذب له عليه الصلاة والسلام لا كذب عليه وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به
غاية الجهالة ونهاية الغفلة وأدل الدلائل على بعدهم من معرفة شئ من قواعد الشرع وقد جمعوا
فيه جملا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة وأذهانهم البعيدة الفاسدة فخالفوا قول الله عز
وجل تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا وخالفوا
صريح هذه الأحاديث المتواترة والأحاديث الصريحة المشهورة في اعظام شهادة الزور وخالفوا
اجماع أهل الحل والعقد وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على آحاد الناس
فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحى وإذا نظر في قولهم وجد كذبا على الله تعالى قال الله تعالى
وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى ومن أعجب الأشياء قولهم هذا كذب له وهذا جهل
70

منهم بلسان العرب وخطاب الشرع فان كل ذلك عندهم كذب عليه وأما الحديث الذي تعلقوا
به فأجاب العلماء عنه بأجوبة أحسنها وأخصرها أن قوله ليضل الناس زيادة باطلة اتفق الحفاظ
على ابطالها وأنها لا تعرف صحيحة بحال الثاني جواب أبى جعفر الطحاوي أنها لو صحت لكانت
للتأكيد كقول الله تعالى أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس الثالث أن اللام
ليضل ليست لام التعليل بل هي لام الصيرورة والعاقبة معناه أن عاقبة كذبه ومصيره إلى
الاضلال به كقوله تعالى آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ونظائره في القرآن وكلام
العرب أكثر من أن يحصر وعلى هذا يكون معناه فقد يصير أمر كذبه اضلالا وعلى الجملة
مذهبهم أرك من أن يعتنى بايراده وأبعد من أن يهتم بابعاده وأفسد من أن يحتاج إلى افساده والله
أعلم الرابعة يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعا أو غلب على ظنه
وضعه فمن روى حديثا علم أو ظن وضعه ولم يبين حال روايته وضعه فهو داخل في هذا الوعيد
مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل أيضا الحديث السابق
من حدث عنى بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ولهذا قال العلماء ينبغي لمن أراد رواية
حديث أو ذكره أن ينظر فإن كان صحيحا أو حسنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا
أو فعله أو نحو ذلك من صيغ الجزم وإن كان ضعيفا فلا يقل قال أو فعل أو أمر أو نهى ويشبه
ذلك من صيغ الجزم بل يقول روى عنه كذا أو جاء عنه كذا أو يروى أو يذكر أو يحكى أو
يقال أو بلغنا وما أشبه والله سبحانه أعلم قال العلماء وينبغي لقارئ الحديث أن يعرف من
النحو واللغة وأسماء الرجال ما يسلم به من قوله ما لم يقل وإذا صح في الرواية ما يعلم أنه خطأ
فالصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف أنه يرويه على الصواب ولا يغيره في الكتاب
لكن يكتب في الحاشية انه وقع في الرواية كذا وأن الصواب خلافه كذا ويقول عند
71

الرواية كذا وقع في هذا الحديث أو في روايتنا والصواب كذا فهذا أجمع للمصلحة فقد يعتقده
خطأ ويكون له وجه يعرفه غيره ولو فتح باب تغير الكتاب لتجاسر عليه غير أهله قال العلماء
وينبغي للراوي وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظه فقرأها على الشك أن يقول عقيبه أو كما
قال والله أعلم وقد قدمنا في الفصول السابقة الخلاف في جواز الرواية بالمعنى لمن هو كامل
المعرفة قال العلماء ويستحب لمن روى بالمعنى أن يقول بعده أو كما قال أو نحو هذا كما فعلته
الصحابة فمن بعدهم والله أعلم وأما توحد الزبير وأنس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم
في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والاكثار منها فلكونهم خافوا الغلط والنسيان
والغالط والناسي وإن كان لا اثم عليه فقد ينسب إلى تفريط لتساهله أو نحو ذلك وقد تعلق
بالناسي بعض الأحكام الشرعية كغرامات المتلفات وانتقاض الطهارات وغير ذلك من الاحكام
المعروفات والله سبحانه وتعالى أعلم
باب النهى عن الحديث بكل ما سمع
فيه خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفى
بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع وفى الطريق الآخر عن خبيب أيضا عن حفص عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وعن عمر بن الخطاب وعن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنهما بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع وفيه غير ذلك من نحوه أما
أسانيده فخبيب بضم الخاء المعجمة وقد تقدم في آخر الفصل بيانه وأنه ليس في الصحيحين
خبيب بالمعجمة الا ثلاثة هذا وخبيب بن عدي وأبو خبيب كنيته ابن الزبير وفيه هشيم بضم
الهاء وهو ابن بشير السلمي الواسطي أبو معاوية اتفق أهل عصره فمن بعدهم على جلالته وكثرة
حفظه واتقانه وصيانته وكان مدلسا وقد قال في روايته هنا عن سليمان التميمي وقد قدمنا
72

في الفصول أن المدلس إذا قال عن لا يحتج به الا أن يثبت سماعه من جهة أخرى وإن كان في
الصحيحين من ذلك فمحمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وهذا منه وفيه أبو عثمان النهدي
بفتح النون واسكان الهاء منسوب إلى جد من أجداده وهو نهد بن زيد بن ليث وأبو عثمان من
كبار التابعين وفضلائهم واسمه عبد الرحمن بن مل بفتح الميم وضمها وكسرها واللام مشددة على
الأحوال الثلاث ويقال ملء بكسر الميم واسكان اللام وبعدها همزة وأسلم أبو عثمان على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه وسمع جماعات من الصحابة وروى عنه جماعات من التابعين
وهو كوفي ثم بصرى كان بالكوفة مستوطنا فلما قتل الحسين رضي الله عنه تحول منها فنزل
البصرة وقال لا أسكن بلدا قتل فيها ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا عن الإمام أحمد
بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال لا أعلم في التابعين مثل أبى عثمان النهدي وقيس ابن أبي
حازم ومن طرف أخباره ما رويناه عنه أنه قال بلغت نحوا من ثلاثين ومائة سنة وما من شئ
الا وقد أنكرته الا أملى فانى أجده كما هو مات سنة خمس وتسعين وقيل سنة مائة والله أعلم وفى
الاسناد الآخر عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله أما
عبد الرحمن فابن مهدي الامام المشهور أبو سعيد البصري وأما سفيان فهو الثوري الامام
المشهور أبو عبد الله الكوفي وأما أبو إسحاق فهو السبيعي بفتح السين واسمه عمرو بن عبد الله
الهمداني الكوفي التابعي الجليل قال أحمد بن عبد الله العجلي سمع ثمانية وثلاثين من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وقال علي بن المدني روى أبو إسحاق عن سبعين أو ثمانين لم يرو
عنهم غيره وهو منسوب إلى جد من أجداده اسمه السبيع بن صعب بن معاوية وأما أبو الأحوص
فاسمه عوف بن مالك الجشمي الكوفي التابعي المعروف لأبيه صحبة وأما عبد الله فابن مسعود
الصحابي السيد الجليل أبو عبد الرحمن الكوفي وأما ابن وهب في الاسناد الآخر فهو عبد الله
ابن وهب بن مسلم أبو محمد القرشي الفهري مولاهم البصري الامام المتفق على حفظه واتقانه
73

وجلالته رضي الله عنه وفى الاسناد الآخر يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله
ابن عتبة أما يونس فهو ابن يزيد أبو يزيد القرشي الأموي مولاهم الأيلي بالمثناة من تحت وفى
يونس ست لغات ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز وتركه وكذلك في يوسف اللغات
الست والحركات الثلاث في سينه ذكر ابن السكيت معظم اللغات فيهما وذكر أبو البقاء باقيهن
وأما ابن شهاب فهو الامام المشهور التابعي الجليل وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله
ابن شهاب بن عبد الله بن الحرث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي أبو بكر القرشي
الزهري المدني سكن الشام وأدرك جماعة من الصحابة نحو عشرة وأكثر من الروايات عن
التابعين وأكثروا من الروايات عنه وأحواله في العلم والحفظ والصيانة والاتقان والاجتهاد
في تحصيل العلم والصبر على المشقة فيه وبذل النفس في تحصيله والعبادة والورع والكرم وهوان
الدنيا عنده وغير ذلك من أنواع الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يشهر وأما عبيد الله
ابن عبد الله فهو أحد الفقهاء السبعة الامام الجليل رضي الله عنهم أجمعين وأما فقه الاسناد
فهكذا وقع في الطريق الأول عن حفص عن النبي عليه السلام مرسلا فان حفصا تابعي وفى
الطريق الثاني عن حفص عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا فالطريق الأول
رواه مسلم من رواية معاذ وعبد الرحمن بن مهدي وكلاهما عن شعبة وكذلك رواه غندر عن
شعبة فأرسله والطريق الثاني عن علي بن حفص عن شعبة قال الدارقطني الصواب المرسل عن
شعبة كما رواه معاذ وابن مهدي وغندر قلت وقد رواه أبو داود في سننه أيضا مرسلا ومتصلا
فرواه مرسلا عن حفص بن عمر النميري عن شعبة ورواه متصلا من رواية علي بن حفص
وإذا ثبت أنه روى متصلا ومرسلا فالعمل على أنه متصل هذا هو الصحيح الذي قاله الفقهاء
وأصحاب الأصول وجماعة من أهل الحديث ولا يضر كون الأكثرين رووه مرسلا فان
الوصل زيادة من ثقة وهي مقبولة وقد تقدمت هذه المسألة موضحة في الفصول السابقة والله أعلم
وأما قوله في الطريق الثاني (بمثل ذلك) فهي رواية صحيحة وقد تقدم في الفصول
74

بيان هذا وكيفية الرواية به وقوله (بحسب المرء من الكذب) هو باسكان السين ومعناه
يكفيه ذلك من الكذب فإنه قد استكثر منه وأما معنى الحديث والآثار التي في الباب ففيها
الزجر عن التحديث بكل ما سمع الانسان فإنه يسمع في العادة الصدق والكذب فإذا حدث
بكل ما سمع فقد كذب لاخباره بما لم يكن وقد تقدم ان مذهب أهل الحق أن الكذب
الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو ولا يشترط فيه التعمد لكن التعمد شرط في كونه اثما والله
أعلم وأما قوله (ولا يكون اماما وهو يحدث بكل ما سمع) فمعناه أنه حدث بكل ما سمع كثر
الخطأ في روايته فترك الاعتماد عليه والاخذ عنه وأما قوله (أراك قد كلفت بعلم القرآن)
فهو بفتح الكاف وكسر اللام وبالفاء ومعناه ولعت به ولازمته قال ابن فارس وغيره من أهل
اللغة الكلف الايلاع بالشئ وقال أبو القاسم الزمخشري الكلف الايلاع بالشئ مع شغل قلب
75

ومشقة وأما قوله (إياك والشناعة في الحديث) فهي بفتح الشين وهي القبح قال أهل اللغة
الشناعة القبح وقد شنع الشئ بضم النون أي قبح فهو أشنع وشنيع وشنعت بالشئ بكسر النون
وشنعته أي أنكرته وشنعت على الرجل أي ذكرته بقبيح ومعنى كلامه أنه حذره أن يحدث
بالأحاديث المنكرة التي يشنع على صاحبها وينكر ويقبح حال صاحبها فيكذب أو يستراب
في رواياته فتسقط منزلته ويذل في نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم
باب النهى عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها
فيه من الأسماء أبو هانئ هو بهمزة آخره وفيه حرملة بن يحيى التجيبي هو بمثناة من فوق مضمومة
على المشهور وقال صاحب المطالع بفتح أوله وضمه قال وبالضم يقول أصحاب الحديث وكثير
من الأدباء قال وبعضهم لا يجيز فيه الا الفتح ويزعم أن التاء أصلية وفى باب التاء ذكره صاحب
العين يعنى فتكون أصلية الا أنه قال تجيب وتجوب قبيلة يعنى قبيلة من كندة قال وبالفتح قيدته
على جماعة شيوخي وعلى ابن سراج وغيره وكان ابن السيد البطليوسي يذهب إلى صحة الوجهين
هذا كلام صاحب المطالع وقد ذكر ابن فارس في المجمل أن تجوب قبيلة من كندة وتجيب
بالضم بطن لهم شرف قال وليست التاء فيهما أصلا وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره وأما
حكم صاحب العين بأن التاء أصل فخطأ ظاهر والله أعلم وحرملة هذا كنيته أبو حفص وقيل أبو
عبد الله وهو صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وهو الذي يروى عن الشافعي كتابه المعروف
76

في الفقه والله أعلم وأما أبو شريح الراوي عن شراحيل فاسمه عبد الرحمن بن شريح بن عبيد
الله الإسكندراني المصري وكانت له عبادة وفضل وشراحيل بفتح الشين غير مصروف وأما
قول مسلم وحدثني أبو سعيد الأشج قال حدثنا وكيع قال حدثنا الأعمش عن المسيب بن رافع
عن عامر بن عبدة قال قال عبد الله فهذا اسناد اجتمع فيه طرفتان من لطائف الاسناد إحداهما
ان اسناده كوفي كله والثانية أن فيه ثلاثة تابعين يروى بعضهم عن بعض وهم الأعمش والمسيب
وعامر وهذه فائدة نفيسة قل أن يجتمع في اسناد هاتان اللطيفتان فأما عبد الله الذي يروي عنه
عامر بن عبدة فهو ابن مسعود الصحابي أبو عبد الرحمن الكوفي وأما أبو سعيد الأشج شيخ
مسلم فاسمه عبد الله بن سعيد بن حصين الكندي الكوفي قال أبو حاتم أبو سعيد الأشج امام
أهل زمانه وأما المسيب بن رافع فبفتح الياء بلا خلاف كذا قال القاضي عياض في المشارق
وصاحب المطالع أنه لا خلاف في فتح يائه بخلاف سعيد بن المسيب فإنهم اختلفوا في فتح يائه
وكسرها كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وأما عامر بن عبدة فآخره هاء وهو بفتح الباء
واسكانها وجهان أشهرهما وأصحهما الفتح قال القاضي عياض روينا فتحها عن علي بن المديني
ويحيى بن معين وأبى مسلم المستملي قال وهو الذي ذكره عبد الغنى في كتابه وكذا رأيته في
تاريخ البخاري قال وروينا الاسكان عن أحمد ابن حنبل وغيره وبالوجهين ذكره الدارقطني
وابن ماكولا والفتح أشهر قال القاضي وأكثر الرواة يقولون عبد بغير هاء والصواب اثباتها
وهو قول الحافظ أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين والدارقطني وعبد الغنى بن
سعيد وغيرهم والله أعلم وفى الرواية الأخرى عن ابن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عمرو
ابن العاصي فأما ابن طاوس فهو عبد الله الزاهد الصالح بن زاهد الصالح وأما العاصي فأكثر
ما يأتي في كتب الحديث والفقه ونحوها بحذف الياء وهي لغة والفصيح الصحيح العاصي باثبات
الياء وكذلك شداد بن الهادي وابن أبي المولى فالفصيح الصحيح في كل ذلك وما أشبه اثبات
الياء ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها والله أعلم ومن طرف أحوال
عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه ليس بينه وبين أبيه في الولادة الا احدى عشرة سنة وقيل
اثنتا عشرة وأما سعيد بن عمرو الأشعثي فبالثاء المثلثة منسوب إلى جده وهو سعيد بن عمرو
ابن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي أبو عمرو الكوفي وأما هشام بن
77

حجير فبضم الحاء وبعدها جيم مفتوحة وهشام هذا مكي وأما بشير بن كعب فبضم الموحدة
وفتح المعجمة وأما أبو عامر العقدي فبفتح العين والقاف منسوب إلى العقد قبيلة معروفة من
بجيلة وقيل من قيس وهم من الأزد وذكر أبو الشيخ الامام الحافظ عن هارون بن سليمان قال
سموا العقد لأنهم كانوا أهل بيت لئاما فسموا عقدا واسم أبى عامر عبد الملك بن عمرو بن قيس
البصري قيل إنه مولى للعقديين أما رباح الذي يروى عنه العقدي فهو بفتح الراء وبالموحدة
وهو رباح بن أبي معروف وقد قدمنا في الفصول أن كل ما في الصحيحين على هذه الصورة
فرباح بالموحدة الا زياد بن رياح أبا قيس الراوي عن أبي هريرة في أشراط الساعة فبالمثناة
وقاله البخاري بالوجهين وأما نافع بن عمر الراوي عن ابن أبي مليكة فهو القرشي الجمحي المكي
وأما ابن أبي مليكة فاسمه عبد الله بن أبي مليكة واسم أبى مليكة زهير بن عبد الله
ابن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي المكي أبو بكر تولى القضاء
والاذان لابن الزبير رضي الله عنهم وأما قول مسلم حدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يحيى
ابن آدم حدثنا ابن إدريس عن الأعمش عن أبي إسحاق فهو اسناد كوفي كله الا الحلواني فأما
الأعمش سليمان بن مهران أبو محمد التابعي وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي التابعي فتقدم
ذكرهما وأما ابن إدريس الراوي عن الأعمش فهو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي
78

الكوفي أبو محمد المتفق على إمامته وجلالته واتقانه وفضيلته وورعه وعبادته روينا عنه أنه
قال لبنته حين بكت عند حضور موته لا تبكى فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف
ختمة قال أحمد بن حنبل كان ابن إدريس نسيج وحده وأما علي بن خشرم فبفتح الخاء واسكان
الشين المعجمتين وفتح الراء وكنيته على أبو الحسن مروزي وهو ابن أخت بشر بن الحارث الحافي
رضي الله عنهما وأما أبو بكر بن عياش فهو الامام المجمع على فضله واختلف في اسمه فقال
المحققون الصحيح أن اسمه كنيته لا اسم له غيرها وقيل اسمه محمد وقيل عبد الله وقيل سالم وقيل
شعبة وقيل رؤبة وقيل مسلم وقيل خداش وقيل مطرف وقيل حماد وقيل حبيب وروينا عن
ابنه إبراهيم قال قال لي أبى ان أباك لم يأت فاحشة قط وانه يختم القرآن منذ ثلاثين سنة كل يوم
مرة وروينا عنه أنه قال لابنه يا بنى إياك أن تعصى الله في هذه الغرفة فانى ختمت
فيها اثنى عشر ألف ختمة وروينا عنه أنه قال لبنته عند موته وقد بكت يا بنية
لا تبكى أتخافين أن يعذبني الله تعالى وقد ختمت في هذه الزاوية أربعة وعشرين ألف ختمة
هذا ما يتعلق بأسماء هذا الباب ولا ينبغي لمطالعه أن ينكر هذه الأحرف في أحوال هؤلاء الذين
تستنزل الرحمة بذكرهم مستطيلا لها فذلك من علامة عدم فلاحه ان دام عليه والله يوفقنا
لطاعته بفضله ومنته أما لغات الباب فالدجالون جمع دجال قال ثعلب كل كذاب فهو دجال وقيل
الدجال المموه يقال دجل فلان إذا موه ودجل الحق بباطله إذا غطاه وحكى ابن فارس هذا
الثاني عن ثعلب أيضا
79

قوله (يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا) معناه تقرأ شيئا ليس بقرآن وتقول
انه قرآن لتغر به عوام الناس فلا يغترون وقوله يوشك هو بضم الياء وكسر
الشين معناه يقرب ويستعمل أيضا ماضيا فيقال أوشك كذا أي قرب ولا يقبل قول من أنكره
من أهل اللغة فقال لم يستعمل ماضيا فان هذا نفى يعارضه اثبات غيره والسماع وهما مقدمان على
نفيه وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما (فلما ركب الناس الصعب والذلول) وفى الرواية
الأخرى ركبتم كل صعب وذلول فهيهات فهو مثال حسن وأصل الصعب والذلول في الإبل
فالصعب العسر المرغوب عنه والذلول السهل الطيب المحبوب المرغوب فيه فالمعنى سلك الناس
كل مسلك مما يحمد ويذم وقوله فهيهات أي بعدت استقامتكم أو بعد أن نثق بحديثكم وهيهات
موضوعة لاستبعاد الشئ واليأس منه قال الإمام أبو الحسن الواحدي هيهات اسم سمى به الفعل
وهو بعد في الخبر لا في الأمر قال ومعنى هيهات بعد وليس له اشتقاق لأنه بمنزلة الأصوات
قال وفيه زيادة معنى ليست في بعد وهو أن المتكلم يخبر عن اعتقاده استبعاد ذلك الذي يخبر
عن بعده فكأنه بمنزلة قوله بعد جدا وما أبعده لا على أن يعلم المخاطب مكان ذلك الشئ في
البعد ففي هيهات زيادة على بعد وان كنا نفسره به ويقال هيهات ما قلت وهيهات لما قلت
80

وهيهات لك وهيهات أنت قال الواحدي وفي معنى هيهات ثلاثة أقوال أحدها أنه بمنزلة بعد كما
ذكرناه أولا وهو قول أبى علي الفارسي وغيره من حذاق النحويين والثاني بمنزلة بعيد وهو قول
الفراء والثالث بمنزلة البعد وهو قول الزجاج وابن الأنباري فالأول نجعله
بمنزلة الفعل والثاني بمنزلة الصفة والثالث بمنزلة المصدر وفي هيهات ثلاث عشرة لغة ذكرهن الواحدي هيهات
بفتح التاء وكسرها وضمها مع التنوين فيهن وبحذفه فهذه ست لغات وايهات بالألف بدل الهاء
الأولى وفيها اللغات الست أيضا والثالثة عشرة أيها بحذف التاء من غير تنوين وزاد غير الواحدي
أيئات بهمزتين بدل الهاءين والفصيح المستعمل من هذه اللغات استعمالا فاشيا هيهات بفتح التاء
بلا تنوين قال الأزهري واتفق أهل اللغة على أن تاء هيهات ليست أصلية واختلفوا في الوقف عليها
فقال أبو عمرو والكسائي يوقف بالهاء وقال الفراء بالتاء وقد بسطت الكلام في هيهات وتحقيق
ما قيل فيها في تهذيب الأسماء واللغات وأشرت هنا إلى مقاصده والله أعلم وأما قوله (فجعل ابن
عباس لا يأذن لحديثه) فبفتح الذال أي لا يستمع ولا يصغى ومنه سميت الأذن وقوله (انا كنا
81

مرة) أي وقتا ويعنى به قبل ظهور الكذب وأما قول ابن أبي مليكة (كتبت إلى ابن عباس رضي الله عنهما
أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفى عنى فقال ولد ناصح أنا أختار له الأمور اختيارا وأخفى عنه
قال فدعا بقضاء علي رضي الله عنه فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشئ فيقول والله ما قضى بهذا
على الا أن يكون ضل) فهذا مما اختلف العلماء في ضبطه فقال القاضي عياض رحمه الله ضبطنا
هذين الحرفين وهما ويخفى عنى وأخفى عنه بالحاء المهملة فيهما عن جميع شيوخنا الا عن أبي محمد
الخشني فإني قرأتهما عليه بالخاء المعجمة قال وكان أبو بحر يحكى لنا عن شيخه القاضي أبى الوليد
الكناني أن صوابه بالمعجمة قال القاضي عياض رحمه الله ويظهر لي ان رواية الجماعة هي
الصواب وأن معنى أحفى أنقص من احفاء الشوارب وهو جزها أي امسك عنى من حديثك
ولا تكثر على أو يكون الاحفاء الالحاح أو الاستقصاء ويكون عنى بمعنى على اي استقصى
ما تحدثني هذا كلام القاضي عياض رحمه الله وذكر صاحب مطالع الأنوار قول القاضي ثم قال
وفي هذا نظر قال وعندي أنه بمعنى المبالغة في البر به والنصيحة له من قوله تعالى بي حفيا
أي أبالغ له وأستقصى في النصيحة له والاختيار فيما ألقى إليه من صحيح الآثار وقال الشيخ الإمام أبو
عمرو بن الصلاح رحمه الله هما بالخاء المعجمة أي يكتم عنى أشياء ولا يكتبها إذا كان عليه
فيها مقال من الشيع المختلفة وأهل الفتن فإنه إذا كتبها ظهرت وإذا ظهرت خولف
فيها وحصل فيها قال وقيل مع أنها ليست مما يلزم بيانها لابن أبي مليكه وان لزم فهو ممكن بالمشافهة دون
المكاتبة قال وقوله ولد ناصح مشعر بما ذكرته وقوله أنا أختار له وأخفى عنه اخبار منه
82

بإجابته إلى ذلك ثم حكى الشيخ الرواية التي ذكرها القاضي عياض ورجحها وقال هذا تكلف
ليست به رواية متصلة نضطر إلى قبوله هذا كلام الشيخ أبو عمرو وهذا الذي اختاره من الخاء
المعجمة هو الصحيح وهو الموجود في معظم الأصول الموجودة بهذه البلاد والله أعلم وأما قوله
والله ما قضى على بهذا الا أن يكون ضل فمعناه ما يقضى بهذا الا ضال ولا يقضي به على
الا ان يعرف أنه ضل وقد علم أنه لم يضل فيعمل أنه لم يقض به والله أعلم وقوله في
الرواية الأخرى (فمحاه الاقدر وأشار سفيان بن عيينة بذراعه) قدر منصوب غير منون معناه
محاه الاقدر ذراع والظاهر أن هذا الكتاب كان درجا مستطيلا والله أعلم وأما قوله (قاتلهم الله
أي علم أفسدوا) فأشار بذلك إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه
وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلقة وخلطوه
بالحق فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلقوه وأما قوله قاتلهم الله فقال القاضي معناه لعنهم الله
وقيل باعدهم وقيل قتلهم قال وهؤلاء استوجبوا عنده ذلك لشناعة ما أتوه كما فعله كثير منهم والا
فلعنة المسلم غير جائزة وأما قول المغيرة (لم يكن بصدق على على الا من أصحاب عبد الله بن
مسعود) فهكذا هو في الأصول الا من أصحاب فيجوز في من وجهان أحدهما أنها لبيان الجنس
والثاني أنها زائدة وقوله يصدق ضبط على وجهين أحدهما بفتح الياء واسكان الصاد وضم
83

الدال والثاني بضم الياء وفتح الصاد والدال المشددة والمغيرة هذا هو ابن مقسم الضبي أبو هشام
وقد تقدم أن المغيرة بضم الميم وكسرها والله أعلم أما أحكام الباب فحاصلها أنه لا يقبل رواية
المجهول وأنه يجب الاحتياط في أخذ الحديث فلا يقبل الا من أهله وأنه لا ينبغي أن يروى
عن الضعفاء والله سبحانه وتعالى اعلم
باب بيان أن الاسناد من الدين
وأن الرواية لا تكون الا عن الثقات وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل
واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة
قال رحمه الله (حدثنا حسن بن الربيع قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد وحدثنا
فضيل عن هشام وحدثنا مخلد بن حسين عن هشام عن ابن سيرين) اما هشام أولا فمجرور معطوف
على أيوب وهو هشام بن حسان القردوسي بضم القاف ومحمد هو ابن سيرين والقائل وحدثنا
فضيل وحدثنا مخلد هو حسن بن الربيع وأما فضيل فهو ابن عياض أبو علي الزاهد السيد الجليل
رضي الله عنه وأما قوله (وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) فهذه مسألة قد قدمناها في
أول الخطبة وبينا المذاهب فيها قوله (حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي) هو ابن راهويه
الامام المشهور حافظ أهل زمانه وأما الأوزاعي فهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد
84

بضم المثناة من تحت وكسر الميم الشامي الدمشقي امام أهل الشأم في زمنه بلا مدافعة ولا
مخالفة كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن
مات بها وقد انعقد الاجماع على إمامته وجلالته وعلو مرتبته وكمال فضيلته وأقاويل السلف
كثيرة مشهورة في ورعه وزهده وعيادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه وفقهه وفصاحته
وأتباعه السنة واجلال أعيان أئمة زمانه من جميع الأقطار له واعترافهم بمزيته وروينا
من غير وجه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة وروى عن كبار التابعين وروى عنه قتادة
والزهري ويحيى بن أبي كثير وهم من التابعين وليس هو من التابعين وهذا من رواية الأكابر
عن الأصاغر واختلفوا في الأوزاع التي نسب إليها فقيل بطن من حمير وقل قرية
كانت عند باب الفراديس من دمشق وقيل من أوزاع القبائل أي فرقهم وبقايا مجتمعة
من قبائل شتى وقال أبو زرعة الدمشقي كان اسم الأوزاعي عبد العزيز فسمى نفسه
عبد الرحمن وكان ينزل الأوزاع فغلب ذلك عليه وقال محمد بن سعد الأوزاع بطن من
همدان الأوزاعي من أنفسهم والله أعلم قوله (لقيت طاوسا فقلت حدثني فلان
كيت وكيت فقال إن كان مليا فخذ عنه) قوله كيت وكيت هما بفتح التاء وكسرها لغتان
نقلهما الجوهري في صحاحه عن أبي عبيدة وقوله إن كان مليا يعنى ثقة ضابطا متقنا
يوثق بدينه ومعرفته ويعتمد عليه كما يعتمد على معاملة الملي بالمال ثقة بذمته وأما قول مسلم
(وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي) فهذا الدارمي هو صاحب المسند المعروف كنيته
أبو محمد السمرقندي منسوب إلى دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم وكان أبو محمد
الدارمي هذا أحد حفاظ المسلمين في زمانه قل من كان يدانيه في الفضيلة والحفظ قال رجاء بن
مرجى ما أعلم أحدا هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدارمي وقال أبو حاتم
هو امام أهل زمانه وقال أبو حامد بن الشرقي إنما أخرجت خراسان من أئمة الحديث خمسة
85

رجال محمد بن يحيى ومحمد بن إسماعيل وعبد الله بن عبد الرحمن ومسلم بن الحجاج وإبراهيم بن أبي
طالب وقال محمد بن عبد الله غلبنا الدارمي بالحفظ والورع ولد الدارمي سنة احدى
وثمانين ومائة ومات سنة خمس وخمسين ومائتين رحمه الله قال مسلم رحمه الله (حدثنا نصر
ابن علي الجهضمي حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن أبيه) أما الجهضمي فبفتح الجيم
واسكان الهاء وفتح الضاد المعجمة قال الامام الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن
منصور السمعاني في كتابه الأنساب هذه النسبة إلى الجهاضمة وهي محلة بالبصرة قال وكان
نصر بن علي هذا قاضى البصرة وكان من العلماء المتقنين وكان المستعين بالله بعث إليه ليشخصه
للقضاء فدعاه أمير البصرة لذلك فقال أرجع فأستخير الله تعالى فرجع إلى بيته نصف النهار فصلى
ركعتين وقال اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك فنام فأنبهوه فإذا هو ميت وكان ذلك
في شهر ربيع الآخر سنة خمسين ومائتين وأما الأصمعي فهو الامام المشهور من كبار أئمة اللغة
والمكثرين والمعتمدين منهم واسمه عبد الملك بن قريب بقاف مضمومة ثم راء مفتوحة ثم ياء
مثناة من تحت ساكنة ثم باء موحدة ابن عبد الملك بن أصمع البصري أبو سعيد نسب إلى جده
وكان الأصمعي من ثقات الرواة ومتقنيهم وكان جامعا للغة والغريب والنحو والأخبار والملح
والنوادر قال الشافعي رحمه الله تعلى ما رأيت بذلك العسكر أصدق لهجة من الأصمعي وقال
الشافعي رحمه الله تعالى أيضا ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي وروينا عن
الأصمعي قال احفظ ست عشرة ألف أرجوزة وأما أبو الزناد بكسر الزاي فاسمه عبد الله بن
ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن وأبو الزناد لقب له كان يكرهه واشتهر به وهو قرشي مولاهم مدني
وكان الثوري يسمى أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث قال البخاري أصح أسانيد أبي هريرة
86

أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقال مصعب كان أبو الزناد فقيه أهل المدينة وأما ابن أبي
الزناد فهو عبد الرحمن ولأبي الزناد ثلاثة بنين يروون عنه عبد الرحمن وقاسم وأبو القاسم وأما
مسعر فبكسر الميم وهو ابن كدام الهلالي العامري الكوفي أبو سلمة المتفق على جلالته وحفظه
واتقانه وقوله (لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا الثقات) معناه لا يقبل الا
من الثقات وأما قوله رحمه الله (وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو قال سمعت
عبدان بن عثمان يقول سمعت ابن المبارك يقول الاسناد من الدين) ففيه لطيفة من لطائف
الاسناد الغريبة وهو أنه اسناد خراساني كله من شيخنا أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن مضر
إلى آخره فانى قد قدمت ان الاسناد من شيخنا إلى مسلم خراسانيون نيسابوريون وهؤلاء
الثلاثة المذكورون أعنى محمدا وعبدان وابن المبارك خراسانيون مروزيون وهذا قل أن
يتفق مثله في هذه الأزمان أما قهزاذ فبقاف مضمومة ثم هاء ساكنة ثم زاي ثم ألف ثم ذال
معجمة هذا هو الصحيح المشهور المعروف في ضبطه وحكى صاحب مطالع الأنوار عن
بعضهم أنه قيده بضم الهاء وتشديد الزاي وهو أعجمي فلا ينصرف قال ابن ماكولا مات محمد
ابن عبد الله بن قهزاد هذا يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة اثنتين وستين ومائتين
فنحصل من هذا أن مسلما رحمه الله مات قبل شيخه هذا بخمسة أشهر ونصف كما قدمناه أول
هذا الكتاب من تاريخ وفاة مسلم رحمه الله وأما عبدان فبفتح العين وهو لقب له واسمه
عبد الله بن عثمان بن جبلة العتكي مولاهم أبو عبد الرحمن المرزوي قال البخاري في تاريخه
87

توفى عبدان سنة احدى أو اثنتين وعشرين ومائتين وأما بن المبارك فهو السيد الجليل جامع
أنواع المحاسن أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم سمع جماعات من
التابعين وروى عنه جماعات من كبار العلماء وشيوخه وأئمة عصره كسفيان الثوري وفضيل
ابن عياض وآخرين وقد أجمع العلماء على جلالته وامامته وكبر مجله وعلو مرتبته روينا عن
الحسن بن عيسى قال اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك مثل الفضل بن موسى ومخلد بن
حسين ومحمد بن النضر فقالوا تعالوا حتى نعد خصال ابن المبارك من أيوب الخير فقالوا جمع
العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشعر والفصاحة والورع والانصاف وقيام
الليل والعبادة والشدة في رأيه وقلة الكلام فيما لا يعنيه وقلة الخلاف على أصحابه وقال العباس
ابن مصعب جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والتجارة
والسخاء والمحبة عند الفرق وقال محمد بن سعد صنف ابن المبارك كتبا كثيرة في أبواب
العلم وصنوفه وأحواله مشهورة معروفة وأما مرو فغير مصروفة وهي مدينة عظيمة بخراسان
وأمهات مدائن خراسان أربع نيسابور ومرو وبلخ وهراة والله أعلم قوله (حدثني العباس
ابن أبي رزمة قال سمعت عبد الله يقول بيننا وبين القوم القوائم يعنى الاسناد) أما رزمة
فبراء مكسورة ثم زاي ساكنة ثم مم ثم هاء وأما عبد الله فهو ابن المبارك ومعنى هذا
الكلام ان جاء باسناد صحيح قبلنا حديثه والا تركناه فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير
اسناد كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم ثم أنه وقع في بعض الأصول العباس بن رزمة وفي
بعضها العباس بن أبي رزمة وكلاهما مشكل ولم يذكر البخاري في تاريخه وجماعه من أصحاب
كتب أسماء الرجال العباس بن رزمة ولا العباس بن أبي
رزمة وإنما ذكروا عبد العزيز بن أبي رزمة أبا محمد المروزي سمع عبد الله بن المبارك ومات في المحرم سنة ست ومائتين واسم أبى
رزمة غزوان والله أعلم قوله (أبا إسحاق الطالقاني هو بفتح اللام قال قلت لابن
88

المبارك الحديث الذي جاء ان من البر بعد البر أن تصلى لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما
مع صومك قال ابن المبارك عمن هذا قلت من حديث شهاب بن خراش قال ثقة عمن قلت
عن الحجاج بن دينار قال ثقة عمن قال قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أبا سحق
ان بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن
ليس في الصدقة اختلاف) معنى هذه الحكاية أنه لا يقبل الحديث الا باسناد صحيح وقوله
مفاوز جمع مفازة وهي الأرض القفر البعيدة عن العمارة وعن الماء التي يخاف
الهلاك فيها قيل سميت مفازة للتفاؤل بسلامة سالكها كما سموا اللديغ سليما وقيل لأن من
قطعها فاز ونجا وقيل لأنها تهلك صاحبها يقال فوز الرجل إذا هلك ثم إن هذه العبارة التي
استعملها هنا استعارة حسنة وذلك لأن الحجاج بن دينار هذا من تابعي التابعين فأقل ما يمكن
أن يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان التابعي والصحابي فلهذا قال بينهما مفاوز أي
انقطاع كثير وأما قوله ليس في الصدقة اختلاف فمعناه ان هذا الحديث لا يحتج به
ولكن من أراد بر والديه فليتصدق عنهما فان الصدقة تصل إلى الميت وينتفع بها بلا خلاف
بين المسلمين وهذا هو الصواب وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه
89

الشافعي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب
فهو مذهب باطل قطعيا وخطأ بين مخالف لنصوص الكتاب والسنة واجماع الأمة فلا التفات
إليه ولا تعريج عليه وأما الصلاة والصوم فمذهب الشافعي وجماهير العلماء أنه لا يصل ثوابها
إلى الميت الا إذا كان الصوم واجبا على الميت فقضاه عنه وليه أو من أذن له الولي فان فيه
قولين للشافعي أشهرهما عنه أنه لا يصلح وأصحهما عند محققي متأخري أصحابه أنه يصح وستأتي
المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى وأما قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي أنه
لا يصل ثوابها إلى الميت وقال بعض أصحابه يصل ثوابها إلى الميت وذهب جماعات من العلماء
إلى أنه يصل إلى الميت ثواب جميع العبادات من الصلاة والصوم والقراءة وغير ذلك وفى صحيح
البخاري في باب من مات وعليه نذر أن ابن عمر أمر من ماتت أمها وعليها صلاة أن تصلى
عنها وحكى صاحب الحاوي عن عطاء بن أبي رباح وإسحاق بن راهويه أنهما قالا بجواز الصلاة
عن الميت وقال الشيخ أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون من أصحابنا
المتأخرين في كتابه الانتصار إلى اختيار هذا وقال الإمام أبو محمد البغوي من أصحابنا في كتابه
التهذيب لا يبعد أن يطعم عن كل صلاة مد من طعام وكل هذه المذاهب ضعيفة ودليلهم
القياس على الدعاء والصدقة والحج فإنها تصل بالاجماع ودليل الشافعي وموافقيه قول الله تعالى
وأن ليس للانسان الا ما سعى وقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من
ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له واختلف أصحاب الشافعي في ركعتي
الطواف في حج الأجير هل تقعان عن الأجير أم عن المستأجر والله أعلم وأما خراش المذكور
فبكسر الخاء المعجمة وقد تقدم في الفصول أنه ليس في الصحيحين حراش بالمهملة الا والد
ربعي وأما قول مسلم (حدثني أبو بكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبو النضر هاشم
ابن القاسم قال حدثنا أبو عقيل صاحب بهية) فهكذا وقع في الأصول أبو بكر بن النضر
90

ابن أبي النضر قال حدثني أبو النضر وأبو النضر هذا هو جد أبى بكر هذا وأكثر ما يستعمل أبو بكر
ابن أبي النضر واسم أبى النضر هاشم بن القاسم ولقب أبى النضر قيصر وأبو بكر هذا الاسم له
لا كنيته هذا هو المشهور وقال عبد الله بن أحمد الدورقي اسمه أحمد قال الحافظ أبو القاسم
ابن عساكر قيل اسمه محمد وأما أبو عقيل فبفتح العين وبهية بضم الباء الموحدة وفتح الهاء
وتشديد الياء وهي امرأة تروى عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قيل إنها سمتها بهية ذكره
أبو علي الغساني في تقييد المهمل وروى عن بهية مولاها أبو عقيل المذكور واسمه يحيى بن
المتوكل الضرير المدني وقيل الكوفي وقذ ضعفه يحيى بن معين وعلي بن المدني وعمرو بن علي
وعثمان بن سعيد الدارمي وابن عمار والنسائي ذكر هذا كله الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
بأسانيده عن هؤلاء فان قيل فإذا كان هذا حاله فكيف روى له مسلم فجوابه من وجهين
أحدهما أنه لم يثبت جرحه عنده مفسرا ولا يقبل الجرح الا مفسرا والثاني أنه لم يذكره أصلا
ومقصودا بل ذكره استشهادا لما قبله وأما قوله في الرواية الأولى للقاسم بن عبيد الله (لأنك
ابن امامي هدى أبى بكر وعمر رضي الله عنهما وفى الرواية الثانية وأنت ابن امامي الهدى يعنى
عمر وابن عمر رضي الله عنهما) فلا مخالفة بينهما فان القاسم هذا هو ابن عبيد الله بن عبد الله بن
عمر بن الخطاب فهو ابنهما وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه فأبو بكر جده الأعلى لأمه وعمر جده الأعلى لأبيه وابن عمر جده الحقيقي لأبيه
رضي الله عنهم أجمعين وأما قول سفيان في رواية الثانية (أخبروني عن أبي عقيل) فقد يقال
91

فيه هذه رواية عن مجهولين وجوابه ما تقدم أن هذا ذكره متابعة واستشهادا والمتابعة
والاستشهاد يذكرون فيهما من لا يحتج به على انفراده لأن الاعتماد على ما قبلهما لا عليهما
وقد تقدم بيان هذا في الفصول والله أعلم قوله (سئل ابن عون عن حديث لشهر وهو قائم
على أسكفة الباب فقال أن شهرا نزكوه قال يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه) أما ابن
عون فهو الامام الجليل المجمع على جلالته وورعه عبد الله بن عون بن ارطبان أبو عون
البصري كان يسمى سيد القراء أي العلماء وأحواله ومناقبه أكثر من أن تحصر وقوله أسكفة
الباب هي العتبة السفلى التي توطأ وهي بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء وقوله نزكوه
هو بالنون والزي المفتوحتين معناه طعنوا فيه وتكلموا بجرحه فكأنه يقول طعنوه بالنيزك
بفتح النون واسكان المثناة من تحت وفتح الزي وهو رمح قصير وهذا الذي ذكرته هو الرواية
الصحيحة المشهورة وكذا ذكرها من أهل الأدب واللغة والغريب الهروي في غريبه وحكى
القاضي عياض عن كثيرين من رواة مسلم أنهم رووه تركوه بالتاء والراء وضعفه القاضي وقال
92

الصحيح بالنون والزي قال وهو الأشبه بسياق الكلام وقال غير القاضي رواية التاء تصحيف
وتفسير مسلم يردها ويدل عليها أيضا أن شهرا ليس متروك بل وثقه كثيرون من كبار أئمة
السلف أو أكثرهم فممن وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون وقال أحمد بن حنبل
ما أحسن حديثه ووثقه وقال أحمد بن عبد الله العجلي هو تابعي ثقة وقال ابن أبي خيثمة عن
يحيى بن معين هو ثقة ولم يذكر ابن أبي خيثمة غير هذا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال الترمذي
قال محمد يعنى البخاري شهر حسن الحديث وقوى أمره وقال إنما تكلم فيه ابن عون ثم روى
عن هلال بن أبي زينب عن شهر وقال يعقوب بن شيبة شهر ثقة وقال صالح بن محمد شهر
روى عنه الناس من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ولم يوقف منه على كذب وكان
رجلا ينسك أي يتعبد الا أنه روى أحاديث لم يشركه فيها أحد فهذا كلام هؤلاء الأئمة في
الثناء عليه وأما ما ذكر من جرحه أنه أخذ خريطة من بيت المال فقد حمله العلماء المحققون
على محمل صحيح وقول أبى حاتم بن حيان أنه سرق من رفيقه في الحج عيبة غير مقبول عند
المحققين بل أنكروه والله أعلم وهو شهر بن حوشب بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة
أبو سعيد ويقال أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الأشعري الشامي الحمصي وقيل
الدمشقي وقوله أخذته ألسنة الناس جمع لسان على لغة من جعل اللسان مذكرا وأما
من جعله مؤنثا فجمعه ألسن بضم السين قاله ابن قتيبة والله أعلم وقوله رحمه الله (حدثنا
حجاج ابن الشاعر حدثنا شبابة) هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو محمد البغدادي
كان أبوه يوسف شاعرا صحب أبا نواس وحجاج هذا يوافق الحجاج بن يوسف بن الحكم
الثقفي أبا محمد الوالي الجائر المشهور بالظلم وسفك الدماء فيوافق في اسمه واسم أبيه وكنيته
ونسبته ويخالف في جده وعصره وعدالته وحسن طريقته وأما شبابة فبفتح الشين المعجمة
وبالبائين الموحدتين وهو شبابة بن سوار أبو عمرو الفزاري مولاهم المدايني قيل اسمه مروان
93

وشبابة لقب وأما قوله (عباد بن كثير من تعرف حاله) فهو بالتاء المثناة فوق خطابا يعنى أنت
عارف بضعفه وأما الحسين بن واقد فبالقاف وأما محمد بن أبي عتاب فبالعين المهملة وأما قول
يحيى بن سعيد (لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث) وفى الرواية الأخرى لم تر
ضبطناه في الأول بالنون وفى الثاني بالتاء المثناة ومعناه ما قاله مسلم انه يجرى الكذب على
ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث فيقع الخطأ في رواياتهم
ولا يعرفونه ويرون الكذب ولا يعلمون أنه كذب وقد قدمنا أن مذهب أهل الحق أن
الكذب هو الاخبار عن الشئ بخلاف ما هو عمدا كان أو سهوا أو غلطا وقوله (فلقيت
أبا محمد بن يحيى بن سعيد القطان) فالقطان مجرور صفة ليحيى وليس منصوبا على أنه صفة
94

لمحمد والله أعلم قوله (فأخذه البول فقام فنظرت في الكراسة فإذا فيها حدثني أبان عن
أنس) أما قوله أخذه البول فمعناه ضغطه وأزعجه واحتاج إلى اخراجه وأما الكراسة بالهاء
في آخرها فمعروفة قال أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب الكراسة معناها الكتبة
المضموم بعضها إلى بعض والورق الذي قد ألصق بعضه إلى بعض مشتق من قولهم رسم
مكرس إذا ألصقت الريح التراب به قال وقال الخليل الكراسة مأخوذة من أكراس الغنم
وهو أن تبول في الموضع شيئا بعد شئ فيتلبد وقال أقضى القضاة الماوردي أصل الكرسي
العلم ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كراسة والله أعلم وأما أبان ففيه وجهان
لأهل العربية الصرف وعدمه فمن لم يصرفه جعله فعلا ماضيا والهمزة زائدة فيكون أفعل ومن
صرفه جعل الهمزة أصلا فيكون فعالا وصرفه هو الصحيح وهو الذي اختاره الإمام محمد بن
جعفر في كتابه جامع اللغة والامام أبو محمد بن السيد البطليوسي قال رحمه الله (وسمعت الحسن بن علي
الحلواني يقول رأيت في كتاب عفان حديث هشام أبى المقدام حديث عمر بن عبد العزيز
قال هشام حدثني رجل يقال له يحيى بن فلان عن محمد بن كعب قلت لعفان انهم يقولون
هشام سمعه من محمد بن كعب فقال إنما ابتلى من قبل هذا الحديث فكان يقول حدثني يحيى عن
محمد ثم ادعى بعد أنه سمعه من محمد) أما قوله حديث عمر فيجوز في اعرابه النصب والرفع
فالرفع على تقدير هو حديث عمر والنصب على وجهين أحدهما البدل من قوله حديث هشام
95

والثاني على تقدير أعنى وقوله قال هشام حدثني رجل إلى آخره هو بيان للحديث الذي
رآه في كتاب عفان وأما هشام هذا فهو ابن زياد الأموي مولاهم البصري ضعفه الأئمة ثم
هنا قاعدة ننبه عليها ثم نحيل عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى وهي أن عفان رحمه الله قال إنما
ابتلى هشام يعنى إنما ضعفوه من قبل هذا الحديث كان يقول حدثني يحيى عن محمد ثم ادعى
بعد أنه سمعه من محمد وهذا القدر وحده لا يقتضى ضعفا لأنه ليس فيه تصريح بكذب
لاحتمال أنه سمعه من محمد ثم نسيه فحدث به عن يحيى عنه ثم ذكر سماعه من محمد فرواه عنه
ولكن انضم إلى هذا قرائن وأمور اقتضت عند العلماء بهذا الفن الحذاق فيه المبرزين من
أهله العارفين بدقائق أحوال رواته أنه لم يسمعه من محمد فحكموا بذلك لما قامت الدلائل
الظاهرة عندهم بذلك وسيأتي بعد هذا أشياء كثيرة من أقوال الأئمة في الجرح بنحو هذا وكلها
يقال فيها ما قلنا هنا والله أعلم قال رحمه الله (حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ قال سمعت
عبد الله بن عثمان بن جبلة يقول لعبد الله بن المبارك من هذا الرجل الذي رويت عنه
حديث عبد الله بن عمرو يوم الفطر يوم الجوائز قال سليمان بن الحجاج انظر ما وضعت
في يدك منه قال ابن قهزاذ وسمعت وهب بن زمعة يذكر سفيان بن عبد الملك قال قال
96

عبد الله يعنى ابن مبارك رأيت روح بن غطيف صاحب الدم قدر الدرهم وجلست إليه مجلسا
فجعلت أستحيي من أصحابي أن يروني جالسا معه كره حديثه) أما قهزاذ فتقدم ضبطه وأما
عبد الله بن عثمان بن جبلة فهو الملقب بعبدان وتقدم بيانه وجبلة بفتح الجيم الموحدة واما
حديث يوم الفطر يوم الجوائز فهو ما روى إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أفواه الطرق
ونادت يا معشر المسلمين اغدوا إلى رب رحيم يأمر بالخير ويثيب عليه الجزيل أمركم فصمتم
وأطعتم ربكم فاقبلوا جوائزكم فإذا صلوا العيد نادى مناد من السماء ارجعوا إلى منازلكم راشدين
فقد غفرت ذنوبكم كلها ويسمى ذلك اليوم يوم الجوائز وهذا الحديث رويناه في كتاب
المستقصى في فضائل المسجد الأقصى تصنيف الحافظ أبى محمد بن عساكر الدمشقي رحمه الله
والجوائز جمع جائزة وهي العطاء وأما قوله انظر ما وضعت في يدك فضبطناه بفتح التاء
من وضعت ولا يمتنع ضمها وهو مدح وثناء على سليمان بن الحجاج وأما زمعة فباسكان الميم
وفتحها وأما غطيف فبغين معجمة مضمومة ثم طاء مهملة مفتوحة هذا هو الصواب وحكى
القاضي عن أكثر شيوخه أنهم رووه غضيف بالضاد المعجمة قال وهو خطأ قال البخاري
في تاريخه هو منكر الحديث وقوله صاحب الدم قدر الدرهم يريد وصفه وتعريفه
بالحديث الذي رواه روح هذا عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه تعاد الصلاة من
قدر الدرهم يعنى من الدم وهذا الحديث ذكره البخاري في تاريخه وهو حديث باطل لا أصل
له عند أهل الحديث والله أعلم وقوله أستحيي هو بياءين ويجوز حذف إحداهما وسيأتي
إن شاء الله تعالى تفسير حقيقة الحياء في بابه من كتاب الايمان وقوله كره حديثه هو
بضم الكاف ونصب الهاء أي كراهية له والله أعلم قوله (ولكنه يأخذ عمن أقبل
وأدبر) يعنى عن الثقات والضعفاء
97

قوله (عن الشعبي قال حدثني الحارث الأعور الهمداني أما الهمداني فباسكان الميم
وبالدال المهملة وأما الشعبي فبفتح الشين واسمه عامر بن شراحبيل وقيل ابن شراحبيل
والأول هو المشهور منسوب إلى شعب بطن من همدان ولد لست سنين خلت من
خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان الشعبي اماما عظيما جليلا جامعا للتفسير والحديث
والفقه والمغازي والعبادة قال الحسن كان الشعبي والله كثير العلم عظيم الحلم قديم السلم من
الاسلام بمكان وأما الحارث الأعور فهو الحارث بن عبد الله وقيل ابن عبيد أبو زهير الكوفي
متفق على ضعفه قال رحمه الله (وحدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري قال حدثنا
أبو أسامة عن مفضل عن مغيرة قال سمعت الشعبي يقول حدثني الأعور وهو يشهد أنه أحد
الكذابين) هذا اسناد كله كوفيون فأما براد فبباء موحدة مفتوحة ثم راء مشددة ثم ألف ثم
دال مهملة وهو عبد الله بن براد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري الكوفي وأما
أبو أسامة فاسمه حماد بن أسامة بن يزيد القرشي مولاهم الكوفي الحافظ الضابط المتقن العابد
وأما مفضل فهو ابن مهلهل أبو عبد الرحمن السعدي الكوفي الحافظ الضابط المتقن العابد وأما
مغيرة فهو ابن مقسم أبو هشام الضبي الكوفي وتقدم أن ميم المغيرة تضم وتكسر وأما
قوله أحد الكذابين فبفتح النون على الجمع والضمير في قوله وهو يشهد يعود إلى الشعبي
والقائل وهو يشهد هو المغيرة والله أعلم وأما قول الحارث (تعلمت الوحي في سنتين أو في
ثلاث سنين وفى الرواية الأخرى القرآن هين الوحي أشد) فقد ذكره مسلم في جملة
98

ما أنكر على الحارث وجرح به وأخذ عليه من قبيح مذهبه وغلوه في التشيع وكذبه على القاضي
عياض رحمه الله وأرجو أن هذا من أخف أقواله لاحتماله الصواب فقد فسره بعضهم بأن
الوحي هنا الكتابة ومعرفة الخط قاله الخطابي يقال أوحى ووحى إذا كتب وعلى هذا ليس على
الحارث في هذا درك وعليه الدرك في غيره قال القاضي ولكن لما عرف قبح مذهبه وغلوه في
مذهب الشيعة ودعواهم الوصية إلى علي رضي الله عنه وسر النبي صلى الله عليه وسلم إليه من الوحي
وعلم الغيب ما لم يطلع غيره عليه يزعمهم سئ الظن بالحارث في هذا وذهب به ذلك
المذهب ولعل هذا القائل فهم من الحارث معنى منكرا فيما أراده والله أعلم قوله (حدثنا
زائدة عن منصور والمغيرة عن إبراهيم) فالمغيرة مجرور معطوف على منصور قوله (وأحس
الحارث بالشر) هكذا ضبطناه من أصول محققة أحس ووقع في كثير من الأصول أو أكثرها
حسن بغير ألف وهما لغتان حس وأحس ولكن أحس أفصح وأشهر وبها جاء القرآن العزيز
قال الجوهري وآخرون حس وأحس لغتان بمعنى علم وأيقن وأما قول الفقهاء وأصحاب الأصول
الحاسة والحواس الخمس فإنما يصح على اللغة القليلة حس بغير ألف والكثير في حس بغير ألف
أن يكون بمعنى قتل قوله (إياكم والمغيرة بن سعيد وأبا عبد الرحيم فإنهما كذابان)
99

أما المغيرة بن سعيد فقال النسائي في كتابه كتاب الضعفاء هو كوفي دجال أحرق بالنار زمن
النخعي ادعى النبوة وأما أبو عبد الرحمن فقيل هو شقيق الضبي الكوفي القاص وقيل هو سلمة
ابن عبد الرحمن النخعي وكلاهما يكنى أبا عبد الرحيم وهما ضعيفان وسيأتي ذكرهما قريبا أيضا
إن شاء الله تعالى قوله (وحدثني أبو كامل الجحدري) هو بجيم مفتوحة ثم حاء ساكنة
ثم دال مفتوحة مهملتين واسم أبى كامل فضيل بن حسين بالتصغير فيهما ابن طلحة البصري
قال أبو سعيد السمعاني هو منسوب إلى جحدر اسم رجل قوله (كنا نأتي أبا عبد الرحمن
السلمي ونحن غلمة أيفاع وكان يقول لا تجالسوا القصاص غير أبى الأحوص وإياكم وشقيقا
قال وكان شقيق هذا يرى رأى الخوارج وليس بأبى وائل) أما أبو عبد الرحمن السلمي فبضم
السين واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة بضم الراء وفتح الموحدة وكسر المثناة المشددة وآخره
هاء الكوفي التابعي الجليل وقوله غلمة جمع غلام واسم الغلام يقع على الصبي من حين يولد
على اختلاف حالاته إلى أن يبلغ وقوله أيفاع أي شببة قال القاضي عياض معناه بالغون يقال
غلام يافع ويفع ويفعة بفتح الفاء فيهما إذا شب وبلغ أو كاد يبلغ قال الثعالبي إذا قارب البلوغ
أو بلغه يقال له يافع وقد أيفع وهو نادر وقال أبو عبيد أيفع الغلام إذا شارف الاحتلام ولم
يحتلم هذا آخر نقل القاضي عياض وكأن اليافع مأخوذ من اليفاع بفتح الياء وهو ما ارتفع
من الأرض قال الجوهري ويقال غلمان أيفاع ويفعة أيضا وأما القصاص بضم
القاف فجمع قاص وهو الذي يقرأ القصص على الناس قال أهل اللغة القصة الامر والخبر
وقد اقتصصت الحديث إذا رويته على وجهه وقص عليه الخبر قصصا بفتح القاف
والاسم أيضا القصص بالفتح والقصص بكسر القاف اسم جمع للقصة وأما شقيق
100

الذي نهى عن مجالسته فقال القاضي عياض هو شقيق الضبي الكوفي القاص ضعفه النسائي كنيته
أبو عبد الرحيم قال بعضهم وهو أبو عبد الرحيم الذي حذر منه إبراهيم قبل هذا في الكتاب
وقيل إن أبا عبد الرحيم الذي حذر منه إبراهيم هو سلمة بن عبد الرحمن النخعي ذكر ذلك
ابن أبي حاتم الرازي في كتابه عن ابن المديني وقول مسلم وليس بأبى وائل يعنى ليس هذا الذي
نهى عن مجالسته بشقيق بن سلمة أبى وائل الأسدي المشهور معدود في كبار التابعين هذا آخر
كلام القاضي رحمه الله قوله (وحدثنا أبو غسان محمد بن عمرو الرازي) هو بفتح الغين
المعجمة وتشديد السين المهملة المسموع في كتب المحدثين ورواياتهم غسان غير مصروف
وذكره ابن فارس في المجمل وغيره من أهل اللغة في باب غسن وفى باب عسس وهذا تصريح
بأنه يجوز صرفه وترك صرفه فمن جعل النون أصلا صرفه ومن جعلها زائدة لم يصرفه وأبو غسان
هذا هو الملقب بزنيج بضم الزاي وبالجيم قوله في جابر الجعفي (كان يؤمن بالرجعة) هي بفتح
الراء قال الأزهري وغيره لا يجوز فيها الا الفتح وأما رجعة المرأة المطلقة ففيها لغتان الكسر
والفتح قال القاضي عياض رحمه الله تعالى وحكى في هذه الرجعة التي كان يؤمن بها جابر
الكسر أيضا ومعنى ايمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليا كرم
الله وجهه في السحاب فلا نخرج يعنى مع من يخرج من ولده حتى ينادى من السماء أن اخرجوا
معه وهذا نوع من أباطيلهم وعظيم من جهالاتهم اللائقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية
قوله رحمه الله تعالى (وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحميدي حدثنا سفيان) هو سفيان
101

ابن عيينة الامام المشهور واما الحميدي فهو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله بن الزبير
ابن عبيد الله بن حميد أبو بكر القرشي الأسدي المكي وقوله (حدثنا أبو يحيى الحماني) هو
بكسر الحاء المهملة واسمه عبد الحميد بن عبد الرحمن الكوفي منسوب إلى حمان بطن من همدان
وأما الجراح بن مليح فبفتح الميم وكسر اللام وهو والد وكيع وهذا الجراح ضعيف عند
المحدثين ولكنه مذكور هنا في المتابعات وقوله (عندي سبعون ألف حديث عن أبي
جعفر) أبو جعفر هذا هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
المعروف بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وفتحه فعرف أصله وتمكن فيه وقوله (سمعت أبا
الوليد يقول سمعت سلام بن أبي مطيع) اسم أبي الوليد هشام بن عبد الملك وهو الطيالسي
وسلام بتشديد اللام واسم أبى مطيع سعد قوله (ان الرافضة تقول ان عليا رضى الله
102

عنه في السحاب فلا نخرج) إلى آخره نخرج بالنون وسموا رافضة من الرفض وهو الترك قال
الأصمعي وغيره سموا رافضة لأنهم رفضوا زيد بن علي فتركوه قال رحمه الله (وحدثني سلمة
حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث) قال أبو علي
الغساني الجياني سقط ذكر سلمة بن شبيب بين مسلم والحميدي عند ابن ماهان والصواب
رواية الجلودي باثباته فان مسلما لم يلق الحميدي قال أبو عبد الله بن حذاء أحد رواة كتاب
مسلم سألت عبد الغنى بن سعد هل روى مسلم عن الحميدي فقال لم أره الا في هذا الموضع وما
أبعد ذلك أو يكون سقط قبل الحميدي رجل قال القاضي عياض وعبد الغنى إنما رأى من
مسلم نسخة ابن ماهان فلذلك قال ما قال ولم تكن نسخة الجلودي دخلت مصر قال وقد ذكر
مسلم قبل هذا حدثنا سلمة حدثنا الجلودي في حديث آخر كذا هو عند جميعهم وهو الصواب
هنا أيضا إن شاء الله تعالى قوله (الحارث بن حصيرة) هو بفتح الحاء وكسر الضاد
المهملتين وآخره هاء وهو أزدى كوفي سمع زيد بن وهب قاله البخاري قال رحمه الله
(حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي) هو بفتح الدال واسكان الواو وفتح الراء وبالقاف
واختلف في معنى هذه النسبة فقيل كان أبوه ناسكا أي عابدا وكانوا في ذلك الزمان يسمون
103

الناسك دورقيا وهذا القول مروى عن أحمد الدورقي هذا وهو من أشهر الأقوال وقيل هي
نسبة إلى القلانس الطوال التي تسمى الدورقية وقيل منسوب إلى دورق بلدة بفارس أو غيرها
قوله (ذكر أيوب رجلا فقال لم يكن بمستقيم اللسان وذكر آخر فقال هو يزيد في الرقم)
أيوب هذا هو السختياني تقدم ذكره أول الكتاب وهذان اللفظان كناية عن الكذب وقول
أيوب في عبد الكريم رحمه الله كان غير ثقة لقد سألني عن حديث لعكرمة ثم قال سمعت
عكرمة هذا القطع بكذبه وكونه غير ثقة بمثل هذه القضية قد يستشكل من حيث إنه يجوز أن
يكون سمعه من عكرمة ثم نسيه فسأل عنه ثم ذكره فرواه ولكن عرف كذبه بقرائن وقد
قدمت ايضاح هذا في أول هذا الباب وممن نص على ضعف عبد الكريم هذا سفيان بن
عيينة وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وابن عدي وكان عبد
الكريم هذا من فضلاء فقهاء البصرة والله أعلم قوله (قدم علينا أبو داود الأعمى فجعل
يقول حدثنا البراء وحدثنا زيد بن أرقم فذكرنا ذلك لقتادة فقال كذب ما سمع منهم إنما كان
104

إذا ذاك سائل يتكفف الناس من زمن طاعون الجارف وفى رواية الأخرى قبل الجارف) أما
أبو داود هذا فاسمه نفيع بن الحارث القاص الأعمى متفق على ضعفه قال عمرو بن علي هو
متروك وقال يحيى بن معين وأبو زرعة ليس هو بشئ وقال أبو حاتم منكر الحديث وضعفه
آخرون وقوله ما سمع منهم يعنى البراء وزيدا وغيرهما ممن زعم أنه روى عنه فإنه زعم
أنه رأى ثمانية عشر بدريا كما صرح به في الرواية الأخرى في الكتاب وقوله يتكفف
الناس معناه يسألهم في كفه أو بكفه ووقع في بعض النسخ يتطفف بالطاء وهو بمعنى
يتكفف أي يسأل في كفه الطفيف وهو القليل وذكر ابن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل
وغيره يتنطف ولعله مأخوذ من قولهم ما تنطفت به أي ما تلطخت وأما طاعون الجارف فسمى
بذلك لكثرة من مات فيه من الناس وسمى الموت جارفا لاجترافه الناس وسمى السيل جارفا
لاجترافه على وجه الأرض والجرف الغرف من فوق الأرض وكشح ما عليها وأما الطاعون
فوباء معروف وهو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهب ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر
حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقئ وأما زمن طاعون الجارف فقد اختلف
فيه أقوال العلماء رحمهم الله اختلافا شديدا متباينا تباينا بعيدا فمن ذلك ما قاله الامام الحافظ
أبو عمر بن عبد البر في أول التمهيد قال مات أيوب السختياني في سنة اثنتين وثلاثين ومائة في
طاعون الجارف ونقل ابن قتيبة في المعارف عن الأصمعي أن طاعون الجارف كان في زمن
ابن الزبير سنة سبع وستين وكذا قال أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب
التعازي أن الطاعون الجارف كان في زمن ابن الزبير رضي الله عنهما سنة سبع وستين في شوال
وكذا ذكر الكلاباذي في كتابه في رجال البخاري معنى هذا فإنه قال ولد أيوب السختياني
سنة ست وستين وفى قول انه ولد قبل الجارف بسنة وقال القاضي عياض في هذا الموضع كان
الجارف سنة تسع عشرة ومائة وذكر الحافظ عبد الغنى المقدسي في ترجمة عبد الله بن مطرف
عن يحيى القطان قال مات مطرف بعد طاعون الجارف وكان الجارف سنة سبع وثمانين
وذكر في ترجمة يونس بن عبيد أنه رأى أنس بن مالك وأنه ولد بعد الجارف ومات سنة سبع
105

وثلاثين ومائة فهذه أقوال متعارضة فيجوز أن يجمع بينهما بأن كل طاعون من هذه تسمى جارفا
لأن معنى الجرف موجود في جميعها وكانت الطواعين كثيرة ذكر ابن قتيبة في المعارف عن
الأصمعي أن أول طاعون كان في الاسلام طاعون عمواس بالشام في زمن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فيه توفى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ومعاذ بن جبل وامرأتاه
وابنه رضي الله عنهم ثم الجارف في زمن ابن الزبير ثم طاعون الفتيات لأنه بدأ في العذارى
والجوازي بالبصرة وبواسط وبالشام والكوفة وكان الحجاج يومئذ بواسط في
ولاية عبد الملك بن مروان وكان يقال له طاعون الأشراف يعنى لما مات فيه
من الأشراف ثم طاعون عدى بن أرطاة سنة مائة ثم طاعون غراب سنة سبع وعشرين
ومائة وغراب رجل ثم طاعون مسلم بن قتيبة سنة احدى وثلاثين ومائة في شعبان
وشهر رمضان وأقلع في شوال وفيه مات أيوب السختياني قال ولم يقع بالمدينة
ولا بمكة طاعون قط هذا ما حكاه ابن قتيبة وقال أبو الحسن المدايني كانت الطواعين المشهورة
العظام في الاسلام خمسة طاعون شيرويه بالمدائن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في سنة
ست من الهجرة ثم طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان بالشام مات فيه
خمسة وعشرون ألفا ثم طاعون الجارف في زمن ابن الزبير في شوال سنة تسع وستين هلك في
ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفا مات فيه لانس بن مالك رضي الله عنه ثلاثة وثمانون ابنا
ويقال ثلاثة وسبعون ابنا ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابنا ثم طاعون الفتيات في
شوال سنة سبع وثمانين ثم كان طاعون في سنة احدى وثلاثين ومائة في رجب واشتد في شهر
رمضان فكان يحصى في سكة المريد في كل يوم ألف جنازة أياما ثم خف في شوال وكان
بالكوفة طاعون وهو الذي مات فيه المغيرة بن شعبة سنة خمسين هذا ما ذكره المدائني وكان
طاعون عمواس سنة ثماني عشرة وقال أبو زرعة الدمشقي كان سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة
106

وعمواس قرية بين الرملة وبيت المقدس نسب الطاعون إليها لكونه بدأ فيها وقيل لأنه عم الناس
وتواسوا فيه ذكر القولين للحافظ عبد الغنى في ترجمة أبى عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
وعمواس بفتح العين والميم فهذا مختصر ما يتعلق بالطاعون فإذا علم ما قالوه في طاعون الجارف
فان قتادة ولد سنة احدى وستين ومات سنة سبع عشرة ومائة على المشهور وقيل سنة ثمان
عشرة ويلزم من هذا بطلان ما فسر به القاضي عياض رحمه الله طاعون الجارف هنا ويتعين
أحد الطاعونين فاما سنة سبع وستين فان قتادة كان ابن ست سنين في ذلك الوقت ومثله يضبطه
واما سنة سبع وثمانين وهو الا ظهر إن شاء الله تعالى والله أعلم وأما قوله (لا يعرض لشئ
من هذا) فهو بفتح الياء وكسر الراء ومعناه لا يعتنى بالحديث وقوله (ما حدثنا الحسن عن
بدري مشافهة ولا حدثنا سعيد بن المسيب عن بدري مشافهة الا عن سعد بن مالك) المراد
بهذا الكلام ابطال قول أبى داود الأعمى هذا وزعمه أنه لقى ثمانية عشر بدريا فقال قتادة
الحسن البصري وسعيد بن المسيب أكبر من أبى داود الأعمى وأجل وأقدم سنا وأكثر
اعتناء بالحديث وملازمة أهله والاجتهاد في الأخذ عن الصحابة ومع هذا كله ما حدثنا واحد
منهما عن بدري واحد فكيف يزعم أبو داود الأعمى أنه لقى ثمانية عشر بدريا هذا بهتان عظيم
وقوله سعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص واسم أبى وقاص مالك بن أهيب ويقال وهيب
وأما المسيب والد سعيد فصحابي مشهور رضي الله عنه وهو بفتح الياء هذا هو المشهور وحكى
صاحب مطالع الأنوار عن علي بن المديني أنه قال أهل العراق يفتحون الياء وأهل المدينة يكسرونها
قال وحكى أن سعيدا كان يكره الفتح وسعيد امام التابعين وسيدهم ومقدمهم في الحديث والفقه
وتعبير الرؤيا والورع والزهد وغير ذلك وأحواله أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر
وهو مدني كنيته أبو محمد والله أعلم قوله (عن رقبة أن أبا جعفر الهاشمي المدني كان يضع
107

أحاديث كلام حق) أما رقبة فعلى لفظ رقبة الانسان وهو رقبة بن مسقلة بفتح الميم واسكان
السين المهملة وفتح القاف ابن عبد الله العبدي الكوفي أبو عبد الله وكان عظيم القدر جليل
الشأن رحمه الله وأما قوله كلام حق فبنصب كلام وهو بدل من أحاديث ومعناه كلام صحيح
المعنى وحكمة من الحكم ولكنه كذب فنسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليس هو من كلامه
صلى الله عليه وسلم وأما أبو جعفر هذا فهو عبد الله بن مسور المدائني أبو جعفر الذي تقدم
في أول كتاب في الضعفاء والواضعين قال البخاري في تاريخه هو عبد الله بن مسور بن
عون بن جعفر بن أبي طالب أبو جعفر القرشي الهاشمي وذكر كلام رقبة وهو هذا الكلام
الذي هنا ثم إنه وقع في الأصول هنا المدني وفى بعضها المديني بزيادة ياء ولم أر في شئ منها هنا
المدائني ووقع في أول الكتاب المدائني فأما المديني والمدني فنسبة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم
والقياس المدني بحذف الياء ومن أثبتها فهو على الأصل وروى أبو الفضل محمد بن طاهر
المقدسي الامام الحافظ في كتاب الأنساب المتفقة في الخط المتماثلة في النقط والضبط باسناده
عن الامام أبى عبد الله البخاري قال المديني يعنى بالياء هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها والمدني
الذي تحول عنها وكان منها قال رحمه الله (حدثنا الحسن الحلواني قال حدثنا نعيم قال أبو إسحاق
إبراهيم بن سفيان وحدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا نعيم بن حماد حدثنا أبو داود الطيالسي)
هكذا وقع في كثير من الأصول المحققة قول أبي إسحاق ولم يقع قوله في بعضها وأبو إسحاق هذا
صاحب مسلم ورواية الكتاب عنه فيكون قد ساوى مسلما في هذا الحديث وعلا فيه
برجل وأما أبو داود الطيالسي فاسمه سليمان بن أبي داود تقدم بيانه
108

قوله (قلت لعوف بن أبي جميلة ان عمرو بن عبيد حدثنا عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
من حمل علينا السلاح فليس منا قال كذب والله عمرو ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث) أما عوف
فتقدم بيانه في أول الكتاب وأما عمرو بن عبيد فهو القدري المعتزلي الذي كان صاحب الحسن
البصري وقوله صلى الله عليه وسلم من حمل علينا السلاح فليس منا صحيح مروى من
طرق وقد ذكرها مسلم رحمه الله بعد هذا ومعناه عند أهل العلم أنه ليس ممن اهتدى بهدينا
واقتدى بعلمنا وعملنا وحسن طريقتنا كما يقول الرجل لولده إذا لم يرض فعله لست منى وهكذا
القول في كل الأحاديث الواردة بنحو هذا القول كقوله صلى الله عليه وسلم من غش فليس منا
وأشباهه ومراد مسلم رحمه الله بادخال هذا الحديث هنا بيان أن عوفا جرح عمرو بن عبيد
وقال كذب وإنما كذبه مع أن الحديث صحيح لكونه نسبه إلى الحسن وكان عوف من كبار
أصحاب الحسن والعارفين بأحاديثه فقال كذب في نسبته إلى الحسن فلم يرو الحسن هذا أو لم
يسمعه هذا من الحسن وقوله أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث معناه كذب بهذه الرواية
ليعضد بها مذهبه الباطل الردئ وهو الاعتزال فإنهم يزعمون أن ارتكاب المعاصي يخرج
صاحبه عن الايمان ويخلده في النار ولا يسمونه كافرا بل فاسقا مخلدا في النار وسيأتي الرد
109

عليهم بقواطع الأدلة في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى وقول أيوب السختياني (إنما نفر
أو نفرق من تلك الغرائب) معناه إنما نهرب أو نخاف من هذه الغرائب التي يأتي بها عمرو بن
عبيد مخافة من كونها كذبا فنقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ان كانت
أحاديث وان كانت من الآراء والمذاهب فحذرا من الوقوع في البدع أو في مخالفة
الجمهور وقوله نفرق بفتح الراء وقوله نفر أو نفرق شك من الراوي في إحداهما قوله
(حدثنا عمرو بن عبيد قبل أن يحدث) هو بضم الياء واسكان الحاء وكسر الدال يعنى قبل أن
يصير مبتدعا قدريا قوله (كتبت إلى شعبة أساله عن أبي شيبة قاضى واسط فكتب إلى
لا تكتب عنه شيئا ومزق كتابي) وأبو شيبة هذا هو جد أولاد أبى شيبة وهم أبو بكر وعثمان
والقاسم بنو محمد بن إبراهيم أبى شيبة وأبو شبية ضعيف وقد قدمنا بيانه وبيانهم في أول
الكتاب وواسط مصروف كذا سمع من العرب وهي من بناء الحجاج بن يوسف وقوله
110

مزق كتابي هو بكسر الزاي أمره بتمزيقه مخافة من بلوغه إلى أبى شيبة ووقوفه على
ذكره له بما يكره لئلا يناله منه أذى أو يترتب على ذلك مفسدة قوله في صالح المري (كذب)
هو من نحو ما قدمناه في قوله لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث معناه ما قاله مسلم
يجرى الكذب على ألسنتهم من غير تعمد وذلك لأنهم لا يعرفون صناعة هذا الفن فيخبرون
بكل ما سمعوه وفيه الكذب فيكونون كاذبين فان الكذب الاخبار عن الشئ على خلاف
ما هو سهوا كان الاخبار أو عمدا كما قدمناه وكان صالح هذا من كبار العباد الزهاد الصالحين
وهو صالح ابن بشير بفتح الباء وكسر الشين أبو بشير البصري القاضي وقيل له المري لأن امرأة
من بنى مرة أعتقته وأبوه عربي وأمه معتقة للمرأة المرية وكان صالح رحمه الله حسن الصوت
بالقرآن وقد مات بعض من سمع قراءته وكان شديد الخوف من الله تعالى كثير البكاء قال عفان
ابن مسلم كان صالح إذا أخذ في قصصه كأنه رجل مذعور يفزعك أمره من حزنه وكثرة بكائه
كأنه ثكلى والله أعلم قوله (عن مقسم) هو بكسر الميم وفتح السين قوله (قلت للحكم
111

ما تقول في أولاد الزنى قال يصلى عليهم قلت من حديث من يروى قال يروى عن الحسن
البصري فقال الحسن بن عمارة حدثنا الحكم عن يحيى بن الجزار عن علي) معنى هذا الكلام
أن الحسن بن عمارة كذب فروى هذا الحديث عن الحكم عن يحيى عن علي وإنما هو عن
الحسن البصري من قوله وقد قدمنا أن مثل هذا وإن كان يحتمل كونه جاء عن الحسن وعن علي
لكن الحفاظ يعرفون كذب الكذابين بقرائن وقد يعرفون ذلك بدلائل قطعية يعرفها أهل
هذا الفن فقولهم مقبول في كل هذا والحسن بن عمارة متفق على ضعفه وتركه وعمارة بضم العين
ويحيى بن الجزار بالجيم والزاي وبالراء آخره قال صاحب المطالع ليس في الصحيحين والموطأ
غيره ومن سواه خزار أو خراز بالخاء فيهما قال رحمه الله (حدثنا الحسن الحلواني قال سمعت
يزيد بن هارون وذكر زياد بن ميمون فقال حلفت أن لا أروى عنه شيئا ولا عن خالد بن
محدوج قال لقيت زياد بن ميمون فسألته عن حديث فحدثني به عن بكر المزني ثم عدت إليه
فحدثني به عن مورق ثم عدت إليه فحدثني به عن الحسن وكان ينسبهما إلى الكذب) أما
محدوج فبميم مفتوحة ثم حاء ساكنة ثم دال مضمومة مهملتين ثم واو ثم جيم وخالد هذا
واسطى ضعيف ضعفه أيضا النسائي وكنيته أبو روح رأى أنس بن مالك رضي الله عنه وأما
زياد بن ميمون فبصري كنيته أبو عمار ضعيف قال البخاري في تارخه تركوه وأما بكر المزني
فهو بفتح الباء واسكان الكاف وهو بكر بن عبد الله المزني بالزاي أبو عبد الله البصري التابعي
112

الجليل الفقيه رحمه الله وأما مورق فبضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وهو مورق بن
المشمرج بضم الميم الأولى وفتح الشين المعجمة وكسر الراء وبالجيم العجلي الكوفي أبو المعتمر
التابعي الجليل العابد وأما قوله وكان ينسبهما إلى الكذب فالقائل هو الحلواني والناسب يزيد
ابن هارون والمنسوبان خالد بن محدوج وزياد بن ميمون وأما قوله حلفت أن لا أروى
عنهما ففعله نصيحة للمسلمين ومبالغة في التنفير عنهما لئلا يغتر أحد بهما فيروى عنهما
الكذب فيقع في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما راج حديثهما فاحتج به
وأما حكمه بكذب ميمون فلكونه حدثه بالحديث عن واحد ثم عن آخر ثم عن آخر فهو جار
على ما قدمناه من انضمام القرائن والدلائل على الكذب والله أعلم قوله (حديث العطارة)
قال القاضي عياض رحمه الله هو حديث رواه زياد بن ميمون هذا عن أنس أن امرأة يقال
لها الحولاء عطارة كانت بالمدينة فدخلت على عائشة رضي الله عنها وذكرت خبرها مع زوجها
وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لها في فضل الزوج وهو حديث طويل غير صحيح ذكره
ابن وضاح بكماله ويقال ان هذه العطارة هي الحولاء بنت تويت قوله (فأنا لقيت زياد بن
ميمون وعبد الرحمن بن مهدي) فعبد الرحمن مرفوع معطوف على الضمير في قوله لقيت قوله
(إن كان لا يعلم الناس فأنتما لا تعلمان أنى لم الق أنسا) هكذا وقع في الأصول فأنتما لا تعلمان
113

ومعناه فأنتما تعلمان فيجوز أن تكون لا زائدة ويجوز أن يكون معناه أفأنتما لا تعلمان ويكون
استفهام تقرير وحذف همزة الاستفهام قوله (سمعت شبابة يقول كان عبد القدوس يحدثنا
فيقول سويد بن عقلة قال شبابة وسمعت عبد القدوس يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يتخذ الروح عرضا قال فقيل له أي شئ هذا فقال يعنى يتخذ كوة في حائطه ليدخل عليه
الروح) المراد بهذا المذكور بيان تصحيف عبد القدوس وغباوته واختلال ضبطه وحصول
الوهم في اسناده ومتنه فاما الاسناد فإنه قال سويد بن عقلة بالغين المهملة والقاف وهو تصحيف
ظاهر وخطأ بين وإنما هو غفلة بالغين المعجمة والفاء المفتوحتين وأما المتن فقال الروح بفتح
الراء وعرضا بالعين المهملة واسكان الراء وهو تصحيف قبيح وخطأ صريح وصوابه الروح بضم
الراء وغرضا بالغين المعجمة والراء المفتوحتين ومعناه نهى أن نتخذ الحيوان الذي فيه الروح غرضا
أي هدفا للرمي فيرمى إليه بالنشاب وشبهه وسيأتي ايضاح هذا الحديث وبيان فقهه في كتاب الصيد
والذبائح إن شاء الله تعالى وأما شبابة فتقدم بيان اسمه وضبطه وأما الكوة فبفتح الكاف على
اللغة المشهورة قال صاحب المطالع وحكى فيها الضم وقوله ليدخل عليه الروح أي النسيم
قوله (قال حماد بعدما جلس مهدي بن هلال ما هذه العين المالحة التي نبعت قبلكم قال نعم
يا أبا إسماعيل) أما مهدي هذا فمتفق على ضعفه قال النسائي هو بصرى متروك يروى عن
داود بن أبي هند ويونس بن عبيد وقوله العين المالحة كناية عن ضعفه وجرحه وقوله قال
نعم يا أبا إسماعيل كأنه وافقه على جرحه وأبو إسماعيل كنيته حماد بن زيد
114

قوله (سمعت أبا عوانة قال ما بلغني عن الحسن حديث الا أتيت به أبان بن أبي عياش فقرأه على) أما
أبو عوانة فاسمه الوضاح بن عبد الله وأبان يصرف ولا يصرف والصرف أجود وقد تقدم ذكر أبى
عوانة وأبان ومعنى هذا الكلام أنه كان يحدث عن الحسن بكل ما يسأل عنه وهو كاذب في ذلك
قوله (ان حمزة الزيات رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعرض عليه ما سمعه من أبان
فما عرف منه الا شيئا يسيرا) قال القاضي عياض رحمه الله هذا ومثله استئناس واستظهار
على ما تقرر من ضعف أبان لا أنه يقطع بأمر المنام ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت
به سنة لم تثبت وهذا باجماع العلماء هذا كلام القاضي وكذا قاله غيره من أصحابنا وغيرهم فنقلوا
الاتفاق على أنه لا يغير بسبب ما يراه النائم ما تقرر في الشرع وليس هذا الذي ذكرناه مخالفا
لقوله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فقد رآني فان معنى الحديث أن رؤيته صحيحة وليست
من أضغاث الأحلام وتلبيس الشيطان ولكن لا يجوز اثبات حكم شرعي به لأن حالة النوم
ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته
وشهادته أن يكون متيقظا لا مغفلا ولا سئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط والنائم
ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه هذا كله في منام يتعلق باثبات حكم على
خلاف ما يحكم به الولاة أما إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره بفعل ما هو مندوب إليه
أو ينهاه عن منهى عنه أو يرشده إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه لأن
ذلك ليس حكما بمجرد المنام بل تقرر من أصل ذلك الشئ والله أعلم قوله (حدثنا الدارمي)
115

قد تقدم بيانه وأنه منسوب إلى دارم وأما أبو إسحاق الفزاري فبفتح الفاء واسمه إبراهيم
ابن محمد بن الحسن بن أسماء بن جارحة الكوفي الامام الجليل المجمع على جلالته وتقدمه
في العلم وفضيلته والله أعلم قوله (قال أبو إسحاق الفزاري اكتب عن بقية ما روى عن
المعروفين ولا تكتب عنه ما روى عن غير المعروفين ولا تكتب عن إسماعيل ابن عياش
ما روى عن المعروفين ولا غيرهم) هذا الذي قاله أبو إسحاق الفزاري في إسماعيل خلاف
قول جمهور الأئمة قال عباس سمعت يحيى بن معين يقول إسماعيل بن عياش ثقة وكان أحب إلى أهل
الشام من بقية وقال ابن أبي خيثمة سمعت يحيى بن معين يقول هو ثقة والعراقيون يكرهون حديثه
وقال البخاري ما روى عن الشاميين أصح وقال عمرو بن علي إذا حدث عن أهل بلاده فصحيح وإذا
حدث عن أهل المدينة مثل هشام بن عروة ويحيى بن سعيد وسهيل بن أبي صالح فليس بشئ وقال
يعقوب ابن سفيان كنت أسمع أصحابنا يقولون علم الشام عند إسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم
قال يعقوب وتكلم قوم في إسماعيل وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث الشام ولا يدفعه دافع
وأكثر ما تكلموا قالوا يغرب عن ثقات المكيين والمدنيين وقال يحيى بن معين إسماعيل ثقة
فيما روى عن الشاميين وأما روايته عن أهل الحجاز فان كتابه ضاع فخلط في حفظه عنهم وقال
أبو حاتم هو لين يكتب حديثه ولا أعلم أحدا كف عنه الا أبا إسحاق الفزاري وقال الترمذي
قال أحمد هو أصلح من بقية فان لبقية أحاديث مناكير وقال أحمد بن أبي الحوارى قال لي وكيع
يروون عندكم عن إسماعيل بن عياش فقلت أما الوليد ومروان فيرويان عنه وأما الهيثم بن
خارجة ومحمد بن اياس فلا فقال وأي شئ الهيثم وابن اياس إنما أصحاب البلد الوليد ومروان
والله أعلم قال رحمه الله (وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال سمعت بعض أصحاب عبد
116

الله قال قال ابن المبارك نعم الرجل بقية لولا أنه يكنى الأسامي ويسمى الكنى كان دهرا
يحدثنا عن أبي سعيد الوحاظي فنظرنا فإذا هو عبد القدوس) قوله سمعت بعض أصحاب عبد
الله هذا مجهول ولا يصح الاحتجاج به ولكن ذكره مسلم متابعة لا أصلا وقد تقدم في
الكتاب نظير هذا وقد قدمنا وجه ادخاله هنا وأما قوله يكنى الأسامي ويسمى الكنى فمعناه
انه إذا روى عن انسان معروف باسمه كناه ولم يسمه وإذا روى عن معروف بكنيته سماه ولم
يكنه وهذا نوع من التدليس وهو قبيح مذموم فإنه يلبس أمره على الناس ويوهم أن ذلك
الراوي ليس هو ذلك الضعيف فيخرجه عن حاله المعروفة بالجرح المتفق عليه وعلى تركه إلى
حالة الجهالة التي تؤثر عند جماعة من العلماء بل يحتجون بصاحبها وتفضي توقفا عن الحكم
بصحته أو ضعفه عند الآخرين وقد يعتضد المجهول فيحتج به أو يرجح به غيره أو يستأنس
به وأقبح هذا النوع أن يكنى الضعيف أو يسميه بكنية الثقة أو باسمه لاشتراكهما في ذلك
وشهرة الثقة به فيوهم الاحتجاج به وقد قدمنا حكم التدليس وبسطه في الفصول المتقدمة والله
أعلم واما الوحاظي فبضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة وحكى صاحب المطالع
وغيره فتح الواو أيضا قال أبو علي الغساني وحاظة بطن من حمير وعبد القدوس هذا هو
الشامي الذي تقدم تضعيفه وتصحيفه وهو عبد القدوس بن حبيب الكلاعي بفتح الكاف
أبو سعيد الشامي فهو كلاعي وحاظي وقول الدارمي (سمعت أبا نعيم وذكر المعلى بن عرفان
117

فقال حدثنا أبو وائل قال خرج علينا ابن مسعود بصفين فقال أبو نعيم أتراه بعث بعد الموت)
معنى هذا الكلام أن المعلى كذب على أبى وائل في قوله هذا لأن ابن مسعود رضي الله عنه
توفى سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث وثلاثين والأول قول الأكثرين وهذا قبل انقضاء
خلافة عثمان رضي الله عنه بثلاث سنين وصفين كانت في خلافة علي رضي الله عنه بعد ذلك
بسنتين فلا يكون ابن مسعود رضي الله عنه خرج عليهم بصفين الا أن يكون بعث بعد الموت
وقد علمتم أنه لم يبعث بعد الموت وأبو وائل مع جلالته وكمال فضيلته وعلو مرتبته والاتفاق على
صيانته لا يقول خرج علينا من لم يخرج عليهم هذا مالا شك فيه فتعين أن يكون الكذب
من المعلى بن عرفان مع ما عرف من ضعفه وقوله أتراه هو بضم التاء ومعناه أتظنه وأما
صفين فبكسر الصاد والفاء المشددة وبعدها ياء في الأحوال الثلاث الرفع والنصب والجر
وهذه هي اللغة المشهورة وفيها لغة أخرى حكاها أبو عمر الزاهد عن ثعلب عن الفراء وحكاها
صاحب المطالع وغيره من المتأخرين صفون بالواو في حال الرفع وهي موضع الوقعة بين أهل
الشام والعراق مع علي ومعاوية رضي الله عنهما واما عرفان والد المعلى فبضم العين المهملة
واسكان الراء وبالفاء هذا هو المشهور وحكى فيه كسر العين وبالكسر ضبطه الحافظ أبو عامر
العبدري والمعلى هذا أسدى كوفي ضعيف قال البخاري رحمه الله في تاريخه هو منكر الحديث
وضعفه النسائي أيضا وغيره وأما أبو نعيم فهو الفضل بن دكين بضم المهملة ودكين لقب واسمه
عمرو بن حماد بن زهير وأبو نعيم كوفي من أجل أهل زمانه ومن أتقنهم رحمه الله قال رحمه الله
(وحدثني أبو جعفر الدارمي) اسم أبى جعفر هذا أحمد بن سعيد بن صخر النيسابوري كان
118

ثقة عالما ثبتا متقنا أحد حفاظ الحديث وكان أكثر أيامه الرحلة في طلب الحديث قوله
(صالح مولى التوأمة) هو بتاء مثناة من فوق ثم واو ساكنة ثم همزة مفتوحة قال القاضي
عياض رحمه الله هذا صوابها قال وقد يسهل بفتح الواو وينقل إليها حركة الهمزة قال القاضي
ومن ضم التاء وهمز الواو فقد أخطأ وهي رواية أكثر المشايخ والرواة وكما قيدناه أولا قيده
أصحاب المؤتلف والمختلف وكذلك أتقناه على أهل المعرفة من شيوخنا قال والتوأمة هذه هي
بنت أمية بن خلف الجمحي قاله البخاري وغيره قال الواقدي وكانت مع أخت لها في بطن واحد
فلذلك قيل التوأمة وهي مولاة أبى صالح وأبو صالح هذا اسمه نبهان هذا آخر كلام القاضي ثم إن
مالكا رحمه الله حكم بضعف صالح مولى التوأمة وقال ليس هو بثقة وقد خالفه غيره فقال
يحيى بن معين صالح هذا ثقة حجة فقيل إن مالكا ترك السماع منه فقال إنما أدركه مالك بعد
ما كبر وخرف وكذلك الثوري إنما أدركه بعد أن خرف فسمع منه أحاديث منكرات
ولكن من سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت وقال أحمد بن عدي لا بأس به إذا سمعوا منه
قديما مثل ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم وقال أبو زرعة صالح هذا ضعيف
وقال أبو حاتم الرازي ليس بقوى وقال أبو حاتم بن حبان تغير صالح مولى التوأمة في سنة خمس
وعشرين ومائة واختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك والله أعلم
وأما أبو الحويرث الذي قال مالك انه ليس بثقة فهو بضم الحاء واسمه عبد الرحمن بن معاوية
ابن الحويرث الأنصاري الزرقي المدني قال الحاكم أبو أحمد ليس بالقوى عندهم وأنكر أحمد
ابن حنبل قول مالك انه ليس بثقة وقال روى عنه شعبة وذكره البخاري في تاريخه ولم يتكلم
فيه قال وكان شعبة يقول أبو الجويرية وحكى الحاكم أبو أحمد هذا القول ثم قال وهو وهم
وأما شعبة الذي روى عنه ابن أبي ذئب وقال مالك ليس هو بثقة فهو شعبة القرشي الهاشمي المدني
119

أبو عبد الله وقيل أبو يحيى مولى ابن عباس سمع ابن عباس رضي الله عنهما ضعفه كثيرون مع مالك
وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ليس به بأس قال ابن عدي ولم أجد له حديثا منكرا وأما
ابن أبي ذئب فهو السيد الجليل محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب واسمه هشام
ابن شعبة بن عبد الله القرشي العامري المدني فهو منسوب إلى جد جده وأما حرام بن عثمان
الذي قال مالك ليس هو بثقة فهو بفتح الحاء وبالراء قال البخاري هو أنصاري سلمى منكر
الحديث قال الزبير كان يتشيع روى عن ابن جابر بن عبد الله وقال النسائي هو مدني ضعيف
قوله (وسألته يعنى مالكا عن رجل فقال لو كان ثقة لرأيته في كتبي) هذا تصريح من
مالك رحمه الله بأن من أدخله في كتابه فهو ثقة فمن وجدناه في كتابه حكمنا بأنه ثقة عند مالك
وقد لا يكون ثقة عند غيره وقد اختلف العلماء في رواية العدل عن المجهول هل يكون تعديلا له
فذهب بعضهم إلى أنه تعديل وذهب الجماهير إلى أنه ليس بتعديل وهذا هو الصواب فإنه قد
يروى عن غير ثقة لا للاحتجاج به بل للاعتبار والاستشهاد أو لغير ذلك أما إذا قال مثل
قول مالك أو نحوه فمن أدخله في كتابه فهو عنده عدل أما إذا قال أخبرني الثقة فإنه يكفي
في التعديل عند من يوافق القائل في المذهب وأسباب الجرح على المختار فأما من لا يوافقه
أو يجهل حاله فلا يكفي في التعديل في حقه لأنه قد يكون فيه سبب جرح لا يراه القائل جارحا
ونحن نراه جارحا فان أسباب الجرح تخفى ومختلف فيها وربما لو ذكر اسمه اطلعنا فيه على جارح
قوله (عن شرحبيل بن سعد وكان متهما) قد قدمنا أن شرحبيل اسم عجمي لا ينصرف وكان
شرحبيل هذا من أئمة المغازي قال سفيان بن عيينة لم يكن أحد أعلم منه بالمغازي فاحتاج
وكانوا يخافون إذا جاء إلى الرجل يطلب منه شيئا فلم يعطه أن يقول لم يشهد أبوك بدرا قال
غير سفيان كان شرحبيل مولى للأنصار وهو مدني كنيته أبو سعد قال محمد بن سعد كان شيخا
120

قديما روى عن زيد بن ثابت وعامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقى إلى آخر الزمان
حتى اختلط واحتاج حاجة شديدة وليس يحتج به قوله (ابن قهزاذ عن الطالقاني) تقدم
ضبطهما في الباب الذي قبل هذا قوله (لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى
عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة) ومحرر بضم الميم وفتح الحاء المهملة
وبالراء المكررة الأولى مفتوحة وقد تقدم في أول الكتاب قوله (قال زيد يعنى
ابن أبي أنيسة لا تأخذوا عن أخي) أما أنيسة فبضم الهمزة وفتح النون واسم
أبى أنيسة زيد وأما الأخ المذكور فاسمه يحيى وهو المذكور في الرواية الأخرى وهو جزري
يروى عن الزهري وعمر بن شعيب وهو ضعيف قال البخاري ليس هو بذاك وقال النسائي
ضعيف متروك الحديث واما أخوه زيد فثقة جليل احتج به البخاري ومسلم قال محمد بن سعد
كان ثقة كثير الحديث فقيها راوية للعلم قوله (حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال حدثني
عبد السلام الوابصي) أما الدورقي فتقدم بيانه في وسط هذا الباب وأما الوابصي
فبكسر الباء الموحدة وبالصاد المهملة وهو عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر بن
عبد الرحمن بن وابصة بن معبد الأسدي أبو الفضل الرقى بفتح الراء قاضى الرقة وحران
وحلب وقضى ببغداد
121

قوله (ذكر فرقد عند أيوب فقال ليس بصاحب حديث) وفرقد بفتح الفاء واسكان الراء
وفتح القاف وهو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والموحدة وبالخاء المعجمة
منسوب إلى سبخة البصرة أبو يعقوب التابعي العابد لا يحتج بحديثه عند أهل الحديث لكونه
ليس صنعته كما قدمناه في قوله لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث وقال يحيى بن
معين في رواية عنه ثقة قوله (فضعفه جدا) هو بكسر الجيم وهو مصدر جد يجد جدا
ومعناه تضعيفا بليغا قوله (سمعت يحيى بن سعيد القطان ضعف حكيم بن جبير وعبد الاعلى
وضعف يحيى بن موسى ابن دينار وقال حديثه ريح وضعف موسى بن الدهقان وعيسى بن أبي
عيسى المدني) هكذا وقع في الأصول كلها وضعف يحيى بن موسى باثبات لفظة بن بين يحيى
وموسى وهو غلط بلا شك والصواب حذفها كذا قاله الحفاظ منهم أبو علي الغساني الجياني
وجماعات آخرون والغلط فيه من رواة كتاب مسلم لا من مسلم ويحيى هو ابن سعيد القطان
المذكور أولا فضعف يحيى بن سعيد حكيم بن جبير وعبد الاعلى وموسى بن دينار وموسى ين
الدهقان وعيسى وكل هؤلاء متفق على ضعفهم وأقوال الأئمة في تضعيفهم مشهورة فأما حكيم
فاسدي كوفي متشيع قال أبو حاتم الرازي هو غال في التشييع وقيل لعبد الرحمن بن مهدي
122

ولشعبة لم تركتما حديث حكيم قالا نخاف النار وأما عبد الأعلى فهو ابن عامر الثعالبي بالمثلثة
الكوفي وأما موسى بن دينار فمكي يروى عن سالم قاله النسائي وأما موسى بن الدهقان فبصري
يروى عن ابن كعب بن مالك والدهقان بكسر الدال وأما عيسى بن أبي عيسى فهو عيسى بن
ميسرة أبو موسى ويقال أبو محمد الغفاري المدني أصله كوفي يقال له الخياط والحناط والخباط
الأول في الخياطة والثاني إلى الحنطة والثالث إلى الخبط قال يحيى بن معين كان خياطا ثم ترك
ذلك وصار حناطا ثم ترك ذلك وصار يبيع الخبط قوله (لا تكتب حديث عبيدة بن معتب
والسري بن إسماعيل ومحمد بن سالم) هؤلاء الثلاثة مشهورون بالضعف والترك فعبيدة بضم
العين هذا هو الصحيح الشهور في كتب المؤتلف والمختلف وغيرهما وحكى صاحب المطالع
عن بعض رواة البخاري أنه ضبطه بضم العين وفتحها ومعتب بضم الميم وفتح المهملة وكسر
المثناة فوق بعدها موحدة وعبيدة هذا ضبي كوفي كنيته أبو عبد الكريم وأما السرى فهمداني
123

باسكان الميم كوفي وأما محمد بن سالم فهمداني كوفي أيضا فاستوى الثلاثة في كونهم كوفيين
متروكين والله أعلم قال رحمه الله في الأحاديث الضعيفة (ولعلها أو أكثرها أكاذيب
لا أصل لها) هكذا هو في الأصول المحققة من رواية الفراوي عن الفارسي عن الجلودي
وذكر القاضي عياض أنه هكذا هو في رواية الفارسي عن الجلودي وأنها الصواب وأنه وقع
في روايات شيوخهم عن العذري عن الرازي عن الجلودي وأقلها أو أكثرها قال القاضي وهذا
مختل مصحف وهذا الذي قاله القاضي فيه نظر ولا ينبغي أن يحكم بكونه تصحيفا فان لهذه
الرواية وجها في الجملة لمن تدبرها قوله (وأهل القناعة) هي بفتح القاف أي الذين يقنع
بحديثهم لكمال حفظهم واتقانهم وعدالتهم قوله (ولا مقنع) هو بفتح الميم والنون
في جملة المسائل والقواعد التي تتعلق بهذا الباب
إحداها اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة
وليس هو من الغيبة المحرمة بل من النصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولم
يزل فضلاء الأئمة وأخيارهم وأهل الورع منهم يفعلون ذلك كما ذكر مسلم في هذا الباب عن
جماعات منهم ما ذكره وقد ذكرت أنا قطعة صالحة من كلامهم فيه في أول شرح صحيح البخاري
رحمه الله ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك والتثبيت فيه والحذر من التساهل بجرح سليم
من الجرح أو بنقص من لم يظهر نقصه فان مفسدة الجرح عظيمة فإنها غيبة مؤبدة مبطلة
لأحاديثه مسقطة لسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورادة لحكم من أحكام الدين ثم إنما
يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن
يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة كذا ذكره القاضي
124

عياض رحمه الله وهو ظاهر قال وهذا كالشاهد يجوز جرحه لأهل الجرح ولو عابه قائل بما
جرح به أدب وكان غيبة الثانية الجرح لا يقبل الا من عدل عارف بأسبابه وهل يشترط في
الجارح والمعدل العدد فيه خلاف للعلماء والصحيح أنه لا يشترط بل يصير مجروحا أو عدلا
بقول واحد لأنه من باب الخبر فيقبل فيه الواحد وهل يشترط ذكر سبب الجرح أم لا
اختلفوا فيه فذهب الشافعي وكثيرون إلى اشتراطه لكونه قد يعده مجروحا بما لا يجرح لخفاء
الأسباب ولاختلاف العلماء فيها وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني في آخرين إلى أنه لا يشترط وذهب
آخرون إلى أنه لا يشترط من العارف بأسبابه ويشترط من غيره وعلى مذهب من اشترط في الجرح
التفسير يقول فائدة الجرح فيمن جرح مطلقا أن يتوقف عن الاحتجاج به إلى أن يبحث عن ذلك
الجرح ثم من وجد في الصحيحين ممن جرحه بعض المتقدمين يحمل ذلك على أنه لم يثبت جرحه
مفسرا بما يجرح ولو تعارض جرح وتعديل قدم الجرح على المختار الذي قاله المحققون
والجماهير ولا فرق بين أن يكون عدد المعدلين أكثر أو أقل وقيل إذا كان المعدلون أكثر قدم
التعديل والصحيح الأول لأن الجارح اطلع على أمر خفى جهله المعدل الثالثة قد ذكر مسلم
رحمه الله في هذا الباب أن الشعبي روى عن الحارث الأعور وشهد أنه كاذب وعن غيره حدثني
فلان وكان متهما وعن غيره الرواية عن المغفلين والضعفاء والمتروكين فقد يقال لم حدث
هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم ويجاب عنه بأجوبة أحدها أنهم رووها
ليعرفوها وليبينوا ضعفها لئلا يلتبس في وقت عليهم أو على غيرهم أو يتشككوا في صحتها
الثاني أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر به أو يستشهد كما قدمناه في فصل المتابعات ولا يحتج به
على انفراده الثالث أن روايات الراوي الضعيف يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل
فيكتبونها ثم يميز أهل الحديث والاتقان بعض ذلك من بعض وذلك سهل عليهم معروف
عندهم وبهذا احتج سفيان الثوري رحمه الله حين نهى عن الرواية عن الكلبي فقيل له أنت
تروى عنه فقال أنا أعلم صدقه من كذبه الرابع أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب
والترهيب وفضائل الاعمال والقصص وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق ونحو ذلك مما
لا يتعلق بالحلال والحرام وسائر الأحكام وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث
وغيرهم التساهل فيه ورواية ما سوى الموضوع منه والعمل به لأن أصول ذلك صحيحة مقررة
125

في الشرع معروفة عند أهله وعلى كل حال فان الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به
على انفراده في الاحكام فإن هذا شئ لا يفعله امام من أئمة المحدثين ولا محقق من غيرهم من
العلماء وأما فعل كثيرين من الفقهاء أو أكثرهم ذلك واعتمادهم عليه فليس بصواب بل قبيح جدا
وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه لم يحل له أن يحتج به فإنهم متفقون على أنه لا يحتج
بالضعيف في الاحكام وإن كان لا يعرف ضعفه لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به ممن
غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفا أو بسؤال أهل العلم به ان لم يكن عارفا
والله أعلم المسألة الرابعة في بيان أصناف الكاذبين في الحديث وحكمهم
وقد نقحها القاضي عياض رحمه الله تعالى فقال الكاذبون ضربان أحدهما ضرب عرفوا بالكذب
في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أنواع منهم من يضع عليه ما لم يقله أصلا اما ترافعا
واستخفافا كالزنادقة وأشباههم ممن لم يرج للدين وقارا واما حسبه بزعمهم وتدينا كجهلة المتعبدين
الذين وضعوا الأحاديث في الفضائل والرغائب واما اغرابا وسمعة كفسقة المحدثين واما تعصبا
واحتجاجا كدعاة المبتدعة ومتعصبي المذاهب واما اتباعا لهوى أهل الدنيا فيما أرادوه وطلب
العذر لهم فيما أتوه وقد تعين جماعة من كل طبقة من هذه الطبقات عند أهل الصنعة وعلم الرجال
ومنهم من لا يضع متن الحديث ولكن ربما وضع للمتن الضعيف اسنادا صحيحا مشهورا ومنهم من
يقلب الأسانيد أو يزيد فيها ويتعمد ذلك اما للاغراب على غيره واما لرفع الجهالة عن نفسه
ومنهم من يكذب فيدعى سماع ما لم يسمع ولقاء من لم يلق ويحدث بأحاديثهم الصحيحة عنهم ومنهم
من يعمد إلى كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وهؤلاء كلهم كذابون متروكو الحديث وكذلك من تجاسر بالحديث بما لم يحققه ولم يضبطه
أو هو شاك فيه فلا يحدث عن هؤلاء ولا يقبل ما حدثوا به ولو لم يقع منهم ما جاؤوا به الا مرة
واحدة كشاهد الزور إذا تعمد ذلك سقطت شهادته واختلف هل تقبل روايته في المستقبل
إذا ظهرت توبته قلت المختار الأظهر قبول توبته كغيرة من أنواع الفسق وحجة من ردها أبدا
وان حسنت توبته التغليظ وتعظيم العقوبة في هذا الكذب والمبالغة في الزجر عنه كما قال صلى الله عليه وسلم
ان كذبا على ليس ككذب على أحد قال القاضي والضرب الثاني من لا يستجيز
شيئا من هذا كله في الحديث ولكنه يكذب في حديث الناس قد عرف بذلك فهذا أيضا لا تقبل
126

روايته ولا شهادته وتنفعه التوبة ويرجع إلى القبول فأما من يندر منه القليل من الكذب ولم
يعرف به فلا يقطع بجرحه بمثله لاحتمال الغلط عليه والوهم وان اعترف بتعمد ذلك المرة الواحدة
ما لم يضر به مسلما فلا يجرح بهذا وان كانت معصية لندورها ولأنها لا تلحق بالكبائر الموبقات
ولأن أكثر الناس قلما يسلمون من مواقعات بعض الهنات وكذلك لا يسقطها كذبه فيما هو
من باب التعريض أو الغلو في القول إذ ليس بكذب في الحقيقة وإن كان في صورة الكذب
لأنه لا يدخل تحت حد الكذب ولا يريد المتكلم به الاخبار عن ظاهرة لفظه وقد قال صلى الله عليه وسلم
أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه وقد قال إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
هذه أختي هذا آخر كلام القاضي رحمه الله وقد أتقن هذا الفصل رحمه الله ورضى عنه والله أعلم
باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن
إذا أمكن لقاء المعنعنين ولم يكن فيهم مدلس
حاصل هذا الباب أن مسلما رحمه الله ادعى اجماع العلماء قديما وحديثا على أن المعنعن وهو الذي
فيه فلان عن فلان محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم
بعضا يعنى مع برأتهم من التدليس ونقل مسلم عن بعض أهل عصره أنه قال لا تقوم الحجة بها
ولا يحمل على الاتصال حتى يثبت أنهما التقيا في عمرهما مرة فأكثر ولا يكفي امكان تلاقيهما قال
مسلم وهذا قول ساقط مخترع مستحدث لم يسبق قائله إليه ولا مساعد له من أهل العلم عليه وان
القول به بدعة باطلة وأطنب مسلم رحمه الله في الشناعة على قائله واحتج مسلم رحمه الله بكلام
127

مختصره ان المعنعن عند أهل العلم محمول على الاتصال إذا ثبت التلاقي مع احتمال الارسال وكذا
إذا أمكن التلاقي وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون وقالوا هذا الذي صار إليه
ضعيف والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري
وغيرهما وقد زاد جماعة من المتأخرين على هذا فاشترط القابسي أن يكون قد أدركه ادراكا بينا
وزاد أبو المظفر السمعاني الفقيه الشافعي فاشترط طول الصحبة بينهما وزاد أبو عمرو الداني
المقرى فاشترط معرفته بالرواية عنه ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني
والبخاري وموافقوهما ان المعنعن عند ثبوت التلاقي إنما حمل على الاتصال لأن الظاهر ممن
ليس بمدلس أنه لا يطلق ذلك الا على السماع ثم الاستقراء يدل عليه فان عادتهم أنهم لا يطلقون
ذلك الا فيما سمعوه الا المدلس ولهذا رددنا رواية المدلس فإذا ثبت التلاقي غلب على الظن
الاتصال والباب مبنى على غلبة الظن فاكتفينا به وليس هذا المعنى موجودا فيما إذا أمكن التلاقي
ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ويصير كالمجهول فان
روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله ولله أعلم هكذا حكم المعنعن من
غير مدلس وأما المدلس فتقدم بيان حكمه في الفصول السابقة هذا كله تفريع على المذهب
الصحيح المختار الذي ذهب إليه السلف والخلف من أصحاب الحديث والفقه والأصول أن
المعنعن محمول على الاتصال بشرطه الذي قدمناه على الاختلاف فيه وذهب بعض أهل العلم إلى
أنه لا يحتج بالمعنعن مطلقا لاحتمال الانقطاع وهذا المذهب مردود باجماع السلف ودليلهم
ما أشرنا إليه من حصول غلبة الظن مع الاستقراء والله أعلم هذا حكم المعنعن أما إذا قال
حدثني فلان أن فلانا قال كقوله حدثني الزهري أن سعيد بن المسيب قال كذا أو حدث بكذا
أو نحوه فالجمهور على أن لفظة أن كعن فيحمل على الاتصال بالشرط المتقدم وقال أحمد بن
حنبل ويعقوب بن شيبة وأبو بكر البرديجي لا تحمل أن على الاتصال وان كانت عن للاتصال
والصحيح الأول وكذا قال وحدث وذكر وشبهها فكله محمول على الاتصال والسماع قوله
(لو ضربنا عن حكايته) كذا هو في الأصول ضربنا وهو صحيح وان كانت لغة قليلة
128

قال الأزهري يقال ضربت عن الأمر وأضربت عنه بمعنى كففت وأعرضت والمشهور الذي قاله
الأكثرون أضربت بالألف وقوله (لكان رأيا متينا) أي قويا وقوله (واخمال ذكر قائله) أي
اسقاطه والخامل الساقط وهو بالخاء المعجمة وقوله (أجدى على الأنام) هو بالجيم والأنام بالنون
ومعناه أنفع للناس هذا هو الصواب والصحيح ووقع في كثير من الأصول أجدى عن الأثام
بالثاء المثلثة وهذا وإن كان له وجه فالوجه هو الأول ويقال في الأنام أيضا الانيم حكاه الزبيدي
والواحدي وغيرهما قوله (وسوء رويته) بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء أي فكره
قوله (حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول
الصحيحة المعتمدة حتى بالتاء المثناة من فوق ثم المثناة من تحت ووقع في بعض النسخ حين
129

بالياء ثم بالنون وهو تصحيف قال مسلم رحمه الله (فيقال لمخترع هذا القول قد أعطيت في جملة
قولك أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل) هذا الذي قاله مسلم رحمه الله تنبيه على القاعدة
العظيمة التي ينبنى عليها معظم أحكام الشرع وهو وجوب العمل بخبر الواحد فينبغي
الاهتمام بها والاعتناء بتحقيقها وقد أطنب العلماء رحمهم الله في الاحتجاج لها وايضاحها
130

وأفردها جماعة من السلف بالتصنيف واعتنى بها أئمة المحدثين وأصول الفقه وأول من بلغنا
تصنيفه فيها الإمام الشافعي رحمه الله وقد تقررت أدلتها النقلية والعقلية في كتب أصول الفقه
ونذكر هنا طرفا في بيان خبر الواحد والمذاهب فيه مختصرا قال العلماء الخبر ضربان متواتر
وآحاد فالمتواتر ما نقله عدد لا يمكن مواطأتهم على الكذب عن مثلهم ويستوى طرفاه والوسط
ويخبرون عن حسي لا مظنون ويحصل العلم بقولهم ثم المختار الذي عليه المحققون والأكثرون
أن ذلك لا يضبط بعدد مخصوص ولا يشترط في المخبرين الاسلام ولا العدالة وفيه مذاهب
أخرى ضعيفة وتفريعات معروفة مستقصاة في كتب الأصول وأما خبر الواحد فهو ما لم
يوجد فيه شروط المتواتر سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر واختلف في حكمه فالذي عليه
جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول أن
خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظن ولا يفيد العلم وأن
وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل وذهبت القدرية والرافضة وبعض أهل الظاهر إلى
أنه لا يجب العمل به ثم منهم من يقول منع من العمل به دليل العقل ومنهم من يقول منع دليل
الشرع وذهبت طائفة إلى أنه يجب العمل به من جهة دليل العقل وقال الجبائي من المعتزلة
لا يجب العمل الا بما رواه اثنان عن اثنين وقال غيره لا يجب العمل الا بما رواه أربعة
عن أربعة وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم وقال بعضهم يوجب العلم
الظاهر دون الباطن وذهب بعض المحدثين إلى أن الآحاد التي في صحيح البخاري أو صحيح مسلم
131

تفيد العلم دون غيرها من الآحاد وقد قدمنا هذا القول وابطاله في الفصول وهذه الأقاويل
كلها سوى قول الجمهور باطلة وابطال من قال لا حجة فيه ظاهر فلم تزل كتب النبي صلى الله عليه وسلم
وآحاد رسله يعمل بها ويلزمهم النبي صلى الله عليه وسلم العمل بذلك واستمر على
ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم ولم تزل الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة فمن بعدهم من
السلف والخلف على امتثال خبر الواحد إذا أخبرهم بسنة وقضائهم به ورجوعهم إليه في القضاء
والفتيا ونقضهم به ما حكموا به على خلافه وطلبهم خبر الواحد عند عدم الحجة ممن هو عنده
واحتجاجهم بذلك على من خالفهم وانقياد المخالف لذلك وهذا كله معروف لاشك في شئ
منه والعقل لا يحيل العمل بخبر الواحد وقد جاء الشرع بوجوب العمل به فوجب المصير إليه
وأما من قال يوجب العلم فهو مكابر للحس وكيف يحصل العلم واحتمال الغلط والوهم
والكذب وغير ذلك متطرق إليه والله أعلم قال مسلم رحمه الله حكاية عن مخالفه (والمرسل
في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) هذا الذي قاله هو المعروف من مذاهب
المحدثين وهو قول الشافعي وجماعة من الفقهاء وذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء
إلى جواز الاحتجاج بالمرسل وقد قدمنا في الفصول السابقة بيان أحكام المرسل واضحة
وبسطناها بسطا شافيا وإن كان لفظه مختصرا وجيزا والله أعلم قوله (فان عزب عنى معرفة
ذلك أوقفت الخبر) يقال عزب الشئ عنى بفتح الزاي ويعزب بكسر الزاي وضمها
لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع والضم أشهر وأكثر ومعناه ذهب وقوله أوقفت الخبر
132

كذا هو في الأصول أوقفت وهي لغة قليلة والفصيح المشهور وقفت بغير ألف قوله (في ذكر
هشام لما أحب أن يرويها مرسلا) ضبطناه لما بفتح اللام وتشديد الميم ومرسلا بفتح السين
ويجوز تخفيف لما وكسر سين مرسلا قوله (وينشط أحيانا) هو بفتح الياء والشين أي
يخف في أوقات
133

قوله (عن عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله ولحرمه)
يقال حرمه بضم الحاء وكسرها لغتان ومعناه لاحرامه قال القاضي عياض رحمه الله
قيدناه عن شيوخنا بالوجهين قال وبالضم قيده الخطابي والهروي وخطأ الخطابي أصحاب
الحديث في كسره وقيده ثابت بالكسر وحكى عن المحدثين الضم وخطأهم فيه وقال صوابه
الكسر كما قال لحله وفى هذا الحديث استحباب التطيب عند الاحرام وقد اختلف فيه
السلف والخلف ومذهب الشافعي وكثيرين استحبابه ومذهب مالك في آخرين كراهيته وسيأتي
بسط المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى قوله في الرواية الأخرى (عن عائشة رضي الله عنها
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدنى إلى رأسه فأرجله وأنا حائض) فيه
جمل من العلم منها أن أعضاء الحائض طاهرة وهذا مجمع عليه ولا يصح ما حكى عن أبي يوسف
من نجاسة يدها وفيه جواز ترجيل المعتكف شعره ونظره إلى امرأته ولمسها شيئا
منه بغير شهوة منه واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الحائض لا تدخل المسجد وأن الاعتكاف لا يكون الا في
المسجد ولا يظهر فيه دلالة لواحد منهما فإنه لا شك في كون هذا هو المحبوب وليس في الحديث
أكثر من هذا فأما الاشتراط والتحريم في حقها فليس فيه لكن لذلك دلائل أخر مقررة في
كتب الفقه واحتج القاضي عياض رحمه الله به على أن قليل الملامسة لا تنقض الوضوء ورد به
134

على الشافعي وهذا الاستدلال منه عجب وأي دلالة فيه لهذا وأين في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم
لمس بشرة عائشة رضي الله عنها وكان على طهارة ثم صلى بها فقد لا يكون كان
متوضئا ولو كان فما فيه أنه ما جدد طهارة ولأن الملموس لا ينتقض وضوءه على أحد قولي
الشافعي ولأن لمس الشعر لا ينقض عند الشافعي كذا نص في كتبه وليس في الحديث أكثر
من مسها الشعر والله أعلم قوله (وروى الزهري وصالح بن أبي حسان) هكذا هو في
الأصول ببلادنا وكذا ذكره القاضي عياض عن معظم الأصول ببلادهم وذكر أبو علي
الغساني انه وجد في نسخة الرازي أحد رواتهم صالح بن كيسان قال أبو علي وهو وهم والصواب
صالح بن أبي حسان وقد ذكر هذا الحديث النسائي وغيره من طريق ابن وهب عن ابن أبي
ذئب عن صالح بن أبي حسان عن أبي سلمة قلت قال الترمذي عن البخاري صالح بن أبي حسان
ثقة وكذا وثقه غيره وإنما ذكرت هذا لأنه ربما اشتبه بصالح بن حسان أبى الحرث البصري
المديني ويقال الأنصاري وهو في طبقة صالح بن أبي حسان هذا فإنهما يرويان جميعا عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن ويروى عنهما جميعا ابن أبي
ذئب ولكن صالح بن حسان متفق على ضعفه
وأقوالهم في ضعفه مشهورة وقال الخطيب البغدادي في الكفاية أجمع نقاد الحديث على ترك
الاحتجاج بصالح بن حسان هذا لسوء حفظه وقلة ضبطه والله أعلم قوله (فقال يحيى بن أبي
كثير في هذا الخبر في القبلة أخبرني أبو سلمة أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة أخبره
أن عائشة رضي الله عنها أخبرته) هذه الرواية اجتمع فيها أربعة من التابعين يروى بعضهم
عن بعض أولهم يحيى بن أبي كثير وهذا من أطرف الطرف وأغرب لطائف الاسناد ولهذا
135

نظائر قليلة في الكتاب وغيره سيمر بك إن شاء الله تعالى ما تيسر منها وقد جمعت جملة منها
في أول شرح صحيح البخاري رحمه الله وقد تقدم التنبيه على هذا وفى الاسناد لطيفة
أخرى وهو أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر فان أبا سلمة من كبار التابعين وعمر بن عبد العزيز
من أصاغرهم سنا وإن كان من كبارهم علما وقدرا ودينا وورعا وزهدا وغير ذلك واسم
أبى سلمة هذا عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف هذا هو المشهور وقيل اسمه إسماعيل وقال عمرو
ابن علي لا يعرف اسمه وقال أحمد بن حنبل كنيته هي اسمه حكى هذه الأقوال فيه الحافظ أبو محمد
عبد الغنى المقدسي رحمه الله وأبو سلمة هذا من أجل التابعين ومن أفقههم وهو أحد الفقهاء
السبعة على أحد الأقوال فيهم وأما يحيى بن أبي كثير فتابعي صغير كنيته أبو نصر رأى أنس
ابن مالك وسمع السائب بن يزيد وكان جليل القدر واسم أبى كثير صالح وقيل سيار
وقيل نشيط وقيل دينار قوله (لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله) هو بقاف مكسورة ثم ياء مثناة
136

من تحت أي مقتضاه قوله (إذا كان ممن عرف بالتدليس) قد قدمنا بيان التدليس في الفصول
السابقة فلا حاجة إلى اعادته قوله (فما ابتغى ذلك من غير مدلس) هكذا وقع في أكثر
الأصول فما ابتغى بضم التاء وكسر الغين على ما لم يسم فاعله وفى بعضها ابتغى بفتح التاء والغين
وفى بعض الأصول المحققة فمن ابتغى ولكل واحد وجه قوله (فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد
الأنصاري وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري
وعن كل واحد منهما حديثا يسنده) أما حديثه عن أبي مسعود فهو حديث نفقة الرجل
على أهله وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأما حديثه عن حذيفة فقوله أخبرني
النبي صلى الله عليه وسلم بما هو كائن الحديث خرجه مسلم وأما أبو مسعود فاسمه عقبة
ابن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري قال الجمهور سكن بدرا ولم يشهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم
وقال الزهري والحكم ومحمد ابن إسحاق التابعيون والبخاري شهدها وأما قوله
137

وعن كل واحد فكذا هو في الأصول وعن بالواو والوجه حذفها فإنها تغير المعنى
قوله (وهي في زعم من حكينا قوله واهية) هو بفتح الزاي وضمها وكسرها ثلاث لغات
مشهورة ولو قال ضعيفة بدل واهية لكان أحسن فان هذا القائل لا يدعى أنها واهية شديدة
الضعف متناهية فيه كما هو معنى واهية بل مقتصر على أنها ضعيفة لا تقوم بها الحجة قوله
(وهذا أبو عثمان النهدي وأبو رافع الصائغ وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من البدريين هلم جرا ونقلا عنهما الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر
138

وذويهما وقد أسند كل واحد منهما عن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
حديثا) وأما أبو عثمان النهدي فاسمه عبد الرحمن بن مل وتقدم بيانه وأما أبو رافع فاسمه
نفيع المدني قال ثابت لما أعتق أبو رافع بكى فقيل له ما يبكيك فقال كان لي أجران فذهب
أحدهما وأما قوله أدرك الجاهلية فمعناه كانا رجلين قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم
والجاهلية ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا بذلك لكثرة جهالاتهم وقوله من
البدريين هلم جرا قال القاضي عياض ليس هذا الموضوع استعمال هلم جرا لأنها إنما تستعمل فيما
اتصل إلى زمان المتكلم بها وإنما أراد مسلم فمن بعدهم من الصحابة وقوله جرا منون قال صاحب
المطالع قال ابن الأنباري معنى هلم جرا سيروا وتمهلوا في سيركم وتثبتوا وهو من الجر وهو ترك
النعم في سيرها فيستعمل فيما دووم عليه من الأعمال قال ابن الأنباري فانتصب جرا على المصدر
أي جروا جرا أو على الحال أو على التمييز وقوله وذويهما فيه إضافة ذي إلى غير الأجناس
والمعروف عند أهل العربية أنها لا تستعمل الا مضافة إلى الأجناس كذى مال وقد جاء في
الحديث وغيره من كلام العرب إضافة أحرف منها إلى المفردات كما في الحديث وتصل ذا رحمك
وكقولهم ذو يزن وذو نواس وأشباهها قالوا هذا كله مقدر فيه الانفصال فتقدير ذي رحمك الذي
له معك رحم وأما حديث أبي عثمان عن أبي فقوله كان رجل لا أعلم أحدا أبعد بيتنا من المسجد
منه الحديث وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم أعطاك الله ما احتسبت خرجه مسلم وأما
حديث أبي رافع عنه فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الآخر فسافر عاما
فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم ورواه
جماعات من أصحاب المسانيد قوله (وأسند أبو عمرو الشيباني وأبو معمر عبد الله بن سخبرة
كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرين) أما أبو عمرو
الشيباني فاسمه سعد بن اياس تقدم ذكره وأما سخبرة فبسين مهملة مفتوحة ثم خاء معجمة
139

ساكنة ثم موحدة مفتوحة وأما الحديثان اللذان رواهما الشيباني فأحدهما حديث جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه أبدع بي والآخر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة
فقال لك بها يوم القيامة سبعمائة أخرجهما مسلم وأسند أبو عمرو الشيباني أيضا عن أبي مسعود
حديث المستشار مؤتمن رواه ابن ماجة وعبد بن حميد في مسنده وأما حديثا أبى معمر فأحدهما
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة أخرجه مسلم والآخر لا تجزى صلاة
لا يقيم الرجل صلبه فيها في الركوع رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من
أصحاب السنن والمسانيد قال الترمذي هو حديث حسن صحيح والله أعلم قال مسلم رحمه الله
(وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حديثا) هو قولها لما مات أبو
سلمة قلت غريب وفى أرض غربة لا بكينة بكاء يتحدث عنه أخرجه مسلم واسم أم سلمة هند بنت أبي
أميمة واسمه حذيفة وقيل سهيل بن المغيرة المخزومية تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة
ثلاث وقيل اسمها رملة وليس بشئ قوله (وأسند قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود ثلاثة
أخبار) هي حديث ان الايمان ههنا وان القسوة وغلظ القلوب في الفدادين وحديث ان
الشمس والقمر لا يكسفان لموت أحد وحديث لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان
أخرجها كلها البخاري ومسلم في صحيحيهما واسم أبى حازم عبد عوف وقيل عوف بن
عبد الحارث البجلي صحابي قوله (وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا) هو قوله أمر أبو طلحة أم سليم اصنعي طعاما للنبي صلى الله عليه وسلم
140

أخرجه مسلم وقد تقدم اسم أبى ليلى وبيان الاختلاف فيه وبيان ابنه وابن ابنه قوله
(وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين وعن أبي
بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا) أما حديثاه عن عمران فأحدهما في اسلام
حصين والد عمران وفيه قوله كان عبد المطلب خيرا لقومك منك رواه عبد بن حميد في مسنده
والنسائي في كتابه عمل اليوم والليلة باسنادهما الصحيحين والحديث الآخر لأعطين الراية
رجلا يحب الله ورسوله رواه النسائي في سننه وأما حديثه عن أبي بكرة فهو إذا المسلمان
حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم أخرجه مسلم وأشار إليه البخاري واسم
أبى بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة بفتح الكاف واللام الثقفي كنى بأبى بكرة لأنه تدلى من
حصن الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببكرة وكان أبو بكرة ممن اعتزل يوم الجمل
فلم يقاتل مع أحد من الفريقين وأما ربعي بكسر الراء وحراش بالحاء المهملة فتقدم بيانهما
قوله (وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم
حديثا) أما حديثه فهو حديث من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره أخرجه
مسلم في كتاب الايمان هكذا من رواية نافع بن جبير وقد أخرجه البخاري ومسلم أيضا
من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري وأما أبو شريح فاسمه خويلد بن عمرو وقيل عبد الرحمن
وقيل عمرو بن خويلد وقيل هانئ بن عمرو وقيل كعب ويقال فيه أبو شريح الخزاعي
والعدوي والكعبي قوله (وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم) أما الحديث الأول فمن صام يوما في سبيل الله
141

باعد الله وجهه من النار سبعين خريفا والثاني ان في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها
أخرجهما معا البخاري ومسلم والثالث ان أدنى أهل الجنة منزلة من صرف الله وجهه الحديث
أخرجه مسلم وأما أبو سعيد الخدري فاسمه سعد بن مالك بن سنان منسوب إلى خدرة بن عوف
ابن الحرث بن الخزرج توفى أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وستين وقيل سنة
أربع وسبعين وهو ابن أربع وسبعين وأما أبو عياش والد النعمان فبالشين المعجمة واسمه
زيد بن الصامت وقيل زيد بن النعمان وقيل عبيد بن معاوية بن الصامت وقيل عبد الرحمن قوله (وأسند عطاء بن يزيد
الليثي عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا) هو حديث الدين النصيحة
وأما تميم الداري فكذا هو في مسلم واختلف فيه رواة الموطأ ففي رواية يحيى وابن بكير
وغيرهما الديري بالياء وفى رواية القعنبي وابن القاسم وأكثرهم الداري بالألف واختلف العلماء
في أنه إلى ما نسب فقال الجمهور إلى جد من أجداده وهو الدار بن هانئ فإنه تميم بن أوس
ابن خارجة بن سور بضم السين ابن جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة ابن ذراع بن عدي
ابن الدار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم وهو مالك بن عدي وأما من قال الديري فهو
نسبة إلى دير كان تميم فيه قبل الاسلام وكان نصرانيا هكذا رواه أبو الحسين الرازي في كتابه
مناقب الشافعي باسناده الصحيح عن الشافعي أنه قال في النسبتين ما ذكرناه وعلى هذا أكثر
العلماء ومنهم من قال الداري بالألف إلى دارين وهو مكان عند البحرين وهو محط السفن كان
يجلب إليه العطر من الهند ولذلك قيل للعطار داري ومنهم من جعله بالياء نسبة إلى قبيلة أيضا
وهو بعيد شاذ حكاه والذي قبله صاحب المطالع قال وصوب بعضهم الديري قلت وكلاهما
صواب فنسب إلى القبيلة بالألف والى الدير بالياء لاجتماع الوصفين فيه قال صاحب المطالع
وليس في الصحيحين والموطأ داري ولا ديرى الا تميم وكنيته تميم أبو رقية أسلم سنة تسع
وكان بالمدينة ثم انتقل إلى الشام فنزل ببيت المقدس وقد روى عنه النبي صلى الله عليه وسلم
قصة الجساسة وهذه منقبة شريفة لتميم ويدخل في رواية الأكابر عن الأصاغر والله أعلم قوله
142

(وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا) هو حديث
المحاقلة أخرجه مسلم قوله (وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أحاديث) من هذه الأحاديث أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل
الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل أخرجه مسلم منفردا به عن البخاري قال أبو عبد الله الحميدي
رحمه الله في آخر مسند أبي هريرة من الجمع بين الصحيحين ليس لحميد بن عبد الرحمن الحميري
عن أبي هريرة في الصحيح غير هذا الحديث قال وليس له عند البخاري في صحيحه عن أبي
هريرة شئ وهذا الذي قاله الحميدي صحيح وربما اشتبه حميد بن عبد الرحمن الحميري هذا بحميد
ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري الراوي عن أبي هريرة أيضا وقد رويا له في الصحيحين عن
أبي هريرة أحاديث كثيرة فقد يقف من لا خبرة له على شئ منهما فينكر قول الحميدي توهما
منه أن حميدا هذا هو ذاك وهو خطأ صريح وجهل قبيح وليس للحميري عن أبي هريرة أيضا
في الكتب الثلاثة التي هي تمام أصول الاسلام الخمسة أعنى سنن أبي داود والترمذي والنسائي
143

غير هذا الحديث قوله (كلاما خلفا) باسكان الميم وهو الساقط الفاسد قوله (وعليه
التكلان) هو بضم التاء واسكان الكاف أي الاتكال والله أعلم بالصواب ولله الحمد والنعمة
والفضل والمنة وبه التوفيق والعصمة
كتاب الايمان
(بيان الايمان والاسلام والاحسان ووجوب الايمان باثبات قدر الله سبحانه وتعالى) (وبيان الدليل على التبري ممن لا يؤمن بالقدر واغلاظ القول في حقه)
أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الايمان والاسلام وعمومهما وخصوصهما وأن الايمان
يزيد وينقص أم لا وأن الأعمال من الايمان أم لا وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من
المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه وأنا اقتصر على نقل أطراف من متفرقات
كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد
ابن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله في كتابه معالم السنن ما أكثر
ما يغلط الناس في هذه المسألة فأما الزهري فقال الاسلام الكلمة والايمان العمل واحتج
بالآية يعنى قوله سبحانه وتعالى قالت الأعراب آمنا لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل
144

الايمان في قلوبكم وذهب غيره إلى أن الاسلام والايمان شئ واحد واحتج بقوله تعالى
من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين قال الخطابي وقد تكلم في هذا
الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين ورد الآخر منهما
على المتقدم وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين قال الخطابي والصحيح من ذلك أن
يقيد الكلام في هذا ولا يطلق وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون
مؤمنا في بعضها والمؤمن مسلم في جميع الأحوال فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا وإذا
حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف شئ منها وأصل
الايمان التصديق وأصل الاسلام الاستسلام والانقياد فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر
غير منقاد في الباطن وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر وقال الخطابي أيضا في
قول النبي صلى الله عليه وسلم الايمان بضع وسبعون شعبة في هذا الحديث بيان أن الايمان
الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها
والحقيقة تقتضي جميع شعبه وتستوفى جملة أجزائه كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم
يتعلق ببعضها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم
الحياء شعبة من الايمان وفيه اثبات التفاضل في الايمان وتباين المؤمنين في درجاته هذا آخر
كلام الخطابي وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث
سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الايمان والاسلام وجوابه قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم
الاسلام اسما لما ظهر من الاعمال وجعل الايمان اسما لما بطن من الاعتقاد
وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الايمان والتصديق بالقلب ليس من الاسلام بل
ذلك تفصيل لجملة هي كلها شئ واحد وجماعها الدين ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ذاك جبريل
أتاكم يعلمكم دينكم والتصديق والعمل يتناولهما اسم الايمان والاسلام جميعا يدل عليه قوله
سبحانه وتعالى الدين عند الله الاسلام لكم الاسلام دينا يبتغ غير الاسلام
دينا فلن يقبل منه فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الاسلام
ولا يكون الدين في محل القبول والرضا الا بانضمام التصديق إلى العمل هذا كلام البغوي
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي رحمه
145

الله في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم الايمان في اللغة هو التصديق فان عنى به ذلك فلا
يزيد ولا ينقص لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى والايمان
في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة
والنقص وهو مذهب أهل السنة قال فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه
إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بمواجب الايمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا والمختار عندنا أنه
لا يسمى به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن لأنه لم
يعمل بموجب الايمان فيستحق هذا الاطلاق هذا آخر كلام صاحب التحرير وقال الإمام أبو
الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري مذهب جماعة أهل
السنة من سلف الأمة وخلفها أن الايمان قول وعمل يزيد وينقص والحجة على زيادته ونقصانه
ما أورده البخاري من الآيات يعنى قوله عز وجل ايمانا مع ايمانهم وقوله تعالى
هدى وقوله تعالى الله الذين اهتدوا هدى وقوله تعالى اهتدوا زادهم هدى وقوله
تعالى ويزداد الذين آمنوا ايمانا وقوله تعالى زادته هذه ايمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا
وقوله تعالى فزادهم ايمانا وقوله تعالى زادهم الا ايمانا وتسليما قال ابن بطال فايمان
من لم تحصل له الزيادة ناقص قال فان قيل الايمان في اللغة التصديق فالجواب أن التصديق يكمل
بالطاعات كلها فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان ايمانه أكمل وبهذه الجملة يزيد الايمان وبنقصانها
ينقص فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الايمان ومتى زادت زاد الايمان كمالا هذا توسط القول
في الايمان وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص ولذلك توقف مالك
رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان إذ لا يجوز نقصان التصديق لأنه إذا نقص
صار شكا وخرج عن اسم الايمان وقال بعضهم إنما توقف مالك عن القول بنقصان الايمان
خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب وقد
قال مالك بنقصان الايمان مثل قول جماعة أهل السنة قال عبد الرزاق سمعت من أدركت من
شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن
راشد وابن جريح وسفيان بن عيينة يقولون الايمان قول وعمل يزيد وينقص وهذا قول ابن
مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك فالمعنى
146

الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو اتيانه بهذه الأمور الثلاثة التصديق بالقلب
والاقرار باللسان والعمل بالجوارح وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم
منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم مؤمن ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من
التوحيد لا يستحق اسم مؤمن وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمنا بالاطلاق وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا
بالتصديق فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى لقوله عز وجل المؤمنون الذين إذا ذكر
الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك المؤمنون حقا فأخبرنا سبحانه وتعالى أن المؤمن من
كانت هذه صفته وقال ابن بطال في باب من قال الايمان هو العمل فان قيل قد قدمتم أن
الايمان هو التصديق قيل التصديق هو أول منازل الايمان ويوجب للمصدق الدخول فيه
ولا يوجب له استكمال منازله ولا يسمى مؤمنا مطلقا هذا مذهب جماعة أهل السنة أن الايمان
قول وعمل قال أبو عبيد وهو مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة
الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم قال ابن بطال وهذا
المعنى أراد البخاري رحمه الله اثباته في كتاب الايمان وعليه بوب أبوابه كلها فقال باب أمور
الايمان وباب الصلاة من الايمان وباب الزكاة من الايمان وباب الجهاد من الايمان وسائر
أبوابه وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم إن الايمان قول بلا عمل وتبيين غلطهم وسوء
اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة ثم قال ابن بطال في باب آخر قال المهلب
الاسلام على حقيقة هو الايمان الذي هو عقد القلب المصدق لاقرار اللسان الذي لا ينفع
عند الله تعالى غيره وقالت الكرامية وبعض المرجئة الايمان هو الاقرار باللسان دون عقد
القلب ومن أقوى ما يرد به عليهم اجماع الأمة على اكفار المنافقين وان كانوا قد أظهروا
الشهادتين قال الله تعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله
ورسوله إلى قوله تعالى أنفسهم وهم كافرون هذا آخر كلام ابن بطال وقال الشيخ الإمام أبو
عمرو بن الصلاح رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان أستطع إليه سبيلا
147

والايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بالقدر خيره وشره
قال هذا بيان لأصل الايمان وهو التصديق الباطن وبيان أصل الاسلام وهو الاستسلام
والانقياد وحكم الاسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين وإنما أضاف اليهما الصلاة والزكاة
والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الاسلام وأعظمها وبقيامه بها يتم استسلامه وتركه لها
يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله ثم إن اسم الايمان يتناول ما فسر به الاسلام في هذا
الحديث وسائر الطاعات لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الايمان ومقويات
ومتممات وحافظات له ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الايمان في حديث وفد عبد القيس
بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان واعطاء الخمس من المغنم ولهذا لا يقع اسم المؤمن
المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة لأن اسم الشئ مطلقا يقع على الكامل منه
ولا يستعمل في الناقص ظاهرا الا بقيد ولذلك جاز اطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم
لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن واسم الاسلام يتناول أيضا ما هو أصل الايمان
وهو التصديق الباطن ويتناول أصل الطاعات فان ذلك كله استسلام قال فخرج مما ذكرناه
وحققنا أن الايمان والاسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا
قال وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الايمان
والاسلام التي طالما غلط فيها الخائضون وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل
الحديث وغيرهم هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو بن الصلاح فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب
السلف وأئمة الخلف فهي متظاهرة متطابقة على كون الايمان يزيد وينقص وهذا مذهب
السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه وقالوا متى قبل
الزيادة كان شكا وكفرا قال المحققون من أصحابنا المتكلمين نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص
والايمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الاعمال ونقصانها قالوا وفى هذا توفيق بين
ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه
المتكلمون وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق
يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون ايمان الصديقين أقوى من ايمان غيرهم بحيث
لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل ايمانهم بعارض بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة وان اختلفت عليهم
148

الأحوال وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك فهذا مما لا يمكن انكاره
ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبى بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد
الناس ولهذا قال البخاري في صحيحه قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على ايمان جبريل وميكائيل والله أعلم
وأما اطلاق اسم الايمان على الاعمال فمتفق عليه عند أهل الحق ودلائله في الكتاب
والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر قال الله تعالى كان الله ليضيع ايمانكم
أجمعوا على أن المراد صلاتكم وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات
والله أعلم واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه
من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون الا من اعتقد بقلبه دين الاسلام اعتقادا جازما خاليا
من الشكوك ونطق بالشهادتين فان اقتصر على أحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلا الا إذا
عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعالجة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا
أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول وأنا برئ من كل دين خالف الاسلام الا
إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب فإنه
لا يحكم باسلامه الا بأن يتبرأ ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا
وليس بشئ أما إذا اقتصر على قوله لا إله إلا الله ولم يقل محمد رسول الله فالمشهور من مذهبنا
ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما ومن أصحابنا من قال يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى
فان أبى جعل مرتدا ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم وهذا محمول عند الجماهير على
قول الشهادتين واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطها وشهرتهما والله أعلم أما إذا
أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الاسلام وهو على خلاف ملته التي كان
عليها فهل يجعل بذلك مسلما فيه وجهان لأصحابنا فمن جعله مسلما قال كل ما يكفر المسلم بانكاره
يصير الكافر بالاقرار به مسلما أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل
بذلك مسلما فيه وجهان لأصحابنا الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الاقرار وهذا الوجه هو
الحق ولا يظهر للآخر وجه وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم واختلفا
149

العلماء من السلف وغيرهم في اطلاق الانسان قوله أنا مؤمن فقال طائفة لا يقول أنا مؤمن
مقتصرا عليه بل يقول أنا مؤمن إن شاء الله وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا
المتكلمين وذهب آخرون إلى جواز الاطلاق وأنه لا يقول إن شاء الله وهذا هو المختار وقول
أهل التحقيق وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الامرين والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن
أطلق نظر إلى الحال وأحكام الايمان جارية عليه في الحال ومن قال إن شاء الله فقالوا فيه هو
اما للتبرك واما لاعتبار العاقبة وما قدر الله تعالى فلا يدرى أيثبت على الايمان أم يصرف عنه
والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف وأما
الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا منهم من قال يقال هو كافر ولا يقول إن شاء الله ومنهم
من قال هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم فيقال على قول التقييد هو كافر إن شاء الله نظرا إلى
الخاتمة وأنها مجهولة وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم واعلم أن مذهب أهل الحق
أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب ولا يكفر أهل الأهواء والبدع وأن من جحد ما يعلم من
دين الاسلام ضرورة حكم بردته وكفره الا أن يكون قريب عهد بالاسلام أو نشأ ببادية
بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك فان استمر حكم بكفره وكذا حكم من استحل الزنا
أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة فهذه جمل من المسائل
المتعلقة بالايمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه ولكثرة تكررها
وتردادها في الأحاديث فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يحرج عليها والله أعلم بالصواب وله
الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه
(حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب ثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن
150

يعمر ح وثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى
ابن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث) اعلم
أن مسلم رحمه الله سلك في هذا الكتاب طريقة في الاتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق مع
الاختصار البليغ والايجاز التام في نهاية من الحسن مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه
وذلك يظهر في الاسناد تارة وفى المتن تارة وفيهما تارة فينبغي للناظر في كتابه أن ينتبه لما
ذكرته فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفراد عينه وينشرح لها صدره
وتنشطه للاشتغال بهذا العلم واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير
إليها من دقائق علم الاسناد وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الاحكام
والمعاني فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الاسناد وستري مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح
له صدرك ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى فإذا تقرر ما قلته ففي
هذه الأحرف التي ذكرها من الاسناد أنواع مما ذكرته فمن ذلك أنه قال أولا حدثني أبو خيثمة
ثم قال في الطريق الآخر وحدثنا عبيد الله بن معاذ ففرق بين حدثني وحدثنا وهذا تنبيه على
القاعدة المعروفة عند أهل الصنعة وهي أنه يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ حدثني وفيما
سمعه مع غيره من لفظ الشيخ حدثنا وفيما قرأه وحده على الشيخ أخبرني وفيما قرئ بحضرته في
جماعة على الشيخ أخبرنا وهذا اصطلاح معروف عندهم وهو مستحب عندهم ولو تركه وأبدل
حرفا من ذلك بآخر صح السماع ولكن ترك الأولى والله أعلم ومن ذلك أنه قال في الطريق
الأول حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ثم في الطريق الثاني أعاد
الرواية عن كهمس عن ابن بريدة عن يحيى فقد يقال هذا تطويل لا يليق باتقان مسلم واختصاره
فكان ينبغي أن يقف بالطريق الأول على وكيع ويجتمع معاذ ووكيع في الرواية عن كهمس
عن ابن بريدة وهذا الاعتراض فاسد لا يصدر الا من شديد الجهالة بهذا الفن فان مسلما رحمه
الله يسلك الاختصار لكن بحيث لا يحصل خلل ولا يفوت به مقصود وهذا الموضع يحصل
في الاختصار فيه خلل ويفوت به مقصود وذلك لأن وكيعا قال عن كهمس ومعاذ قال حدثنا
151

كهمس وقد علم بما قدمناه في باب المعنعن أن العلماء اختلفوا في الاحتجاج بالمعنعن ولم يختلفوا
في المتصل بحدثنا فأتى مسلم بالروايتين كما سمعتا ليعرف المتفق عليه من المختلف فيه وليكون
راويا باللفظ الذي سمعه ولهذا نظائر في مسلم ستراها مع التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وإن كان
مثل هذا ظاهرا لمن له أدنى اعتناء بهذا الفن الا أنى أنبه عليه لغيرهم ولبعضهم ممن قد يغفل
ولكلهم من جهة أخرى وهو أنه يسقط عنهم النظر وتحرير عبارة عن المقصود وهنا المقصود
آخر وهو أن في رواية وكيع قال عن عبد الله بن بريدة وفى رواية معاذ قال عن ابن
بريدة فلو أتى بأحد اللفظين حصل خلل فإنه ان قال ابن بريدة لم ندر ما اسمه وهل هو عبد الله
هذا أو أخوه سليمان بن بريدة وان قال عبد الله بن بريدة كان كاذبا على معاذ فإنه ليس في روايته
عبد الله والله أعلم وأما قوله في الرواية الأولى عن يحيى بن يعمر فلا يظهر لذكره أولا فائدة وعادة
مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا يحيى بن يعمر لأن الطريقين اجتمعتا في ابن بريدة ولفظهما عنه
بصيغة واحدة الا أنى رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى عن يحيى فحسب وليس فيها ابن
يعمر فان صح هذا فهو مزيل للانكار الذي ذكرناه فإنه يكون فيه فائدة كما قررناه في ابن بريدة
والله أعلم ومن ذلك قوله حدثنا عبيد الله بن معاذ وهذا حديثه فهذه عادة لمسلم رحمه الله قد
أكثر منها وقد استعملها غيره قليلا وهي مصرحة بما ذكرته من تحقيقه وورعه واحتياطه
ومقصوده أن الراويين اتفقا في المعنى واختلفا في بعض الألفاظ وهذا لفظ فلان ولآخر بمعناه
والله أعلم وأما قوله (ح) بعد يحيى ابن يعمر في الرواية الأولى فهي حاء التحويل من
اسناد إلى اسناد فيقول القارئ إذا انتهى إليها ح قال وحدثنا فلان هذا هو المختار وقد قدمت في الفصول
السابقة بيانها والخلاف فيها والله أعلم فهذا ما حضرني في الحال في التنبيه على دقائق هذا الاسناد
وهو تنبيه على ما سواه وأرجو أن يتفطن به لما عداه ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم
من شئ من ذلك يجده مبسوطا واضحا فانى إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم الايضاح
والتيسير والنصيحة لمطالعه واعانته واغنائه من مراجعة غيره في بيانه وهذا مقصود الشروح فمن
استطال شيئا من هذا وشبهه فهو بعيد من الاتقان مباعد للفلاح في هذا الشأن فليعز نفسه
لسوء حاله وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والاتقان
والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة بل
152

يفرح بما يجده من العلم مبسوطا وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحا مضبوطا
ويحمد الله الكريم على تيسيره ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وايضاحه وتقريره وفقنا
الله الكريم لمعالي الأمور وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار
الحبور والسرور والله أعلم وأما ضبط أسماء المذكورين في هذا الاسناد فخيثمة بفتح المعجمة
واسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة وأما كهمس بفتح الكاف واسكان الهاء وفتح الميم وبالسين
المهملة وهو كهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري وأما يحيى بن يعمر فبفتح الميم ويقال
بضمها وهو غير مصروف لوزن الفعل كنية يحيى بن يعمر أبو سليمان ويقال أبو سعيد ويقال
أبو عدى البصري ثم المروزي قاضيها من بنى عوف بن بكر بن أسد قال الحاكم أبو عبد الله في
تاريخ نيسابور يحيى بن يعمر فقيه أديب نحوي مبرر أخذ النحو عن أبي الأسود نفاه الحجاج
إلى خراسان فقبله قتيبة بن مسلم وولاه قضاء خرسان وأما معبد الجهني فقال أبو سعيد
عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني التميمي المروزي في كتاب الأنساب الجهني بضم الجيم
نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة
نزلت الكوفة وبها محلة تنسب إليهم وبقيتهم نزلت البصرة قال وممن نزل جهينة فنسب إليهم
معبد بن خالد الجهني كان يجلس الحسن البصري وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر فسلك
أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله قتله الحجاج بن يوسف صبرا وقيل إنه
معبد بن عبد الله بن عويمر هذا آخر كلام السمعاني وأما البصرة فبفتح الباء وضمها وكسرها
ثلاث لغات حكاها الأزهري والمشهور الفتح ويقال لها البصيرة بالتصغير قال صاحب المطالع
ويقال لها تدمر ويقال لها المؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر والنسب إليها بصرى
بفتح الباء وكسرها وجهان مشهوران قال السمعاني يقال البصرة قبة الاسلام وخزانة العرب
بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناها سنة سبع عشرة من الهجرة
وسكنها الناس سنة ثماني عشرة ولم يعبد الصنم قط على أرضها هكذا كان يقول لي أبو الفضل
عبد الوهاب بن أحمد بن معاوية الواعظ بالبصرة قال أصحابنا والبصرة داخلة في أرض سواد
العراق وليس لها حكمه والله أعلم وأما قوله أول من قال في القدر فمعناه أول من قال بنفي
القدر وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق ويقال القدر والقدر بفتح الدال واسكانها
153

لغتان مشهورتان وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره واعلم أن مذهب أهل الحق اثبات
القدر ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات
معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى
وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها
وأنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن
أقوالهم الباطلة علوا كبيرا وسميت هذه الفرقة قدرية لانكارهم القدر قال أصحاب المقالات من
المتكلمين وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل
القبلة عليه وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد اثبات القدر ولكن يقولون الخير من
الله والشر من غيره تعالى عن قولهم وقد حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث
وأبو المعالي امام الحرمين في كتابه الارشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قال لسنا بقدرية
بل أنتم القدرية لاعتقادكم اثبات القدر قال ابن قتيبة والامام هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة
وتواقح فان أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى ويضيفون القدر والافعال
إلى الله سبحانه وتعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعى الشئ لنفسه ومضيفه إليها
أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفه عن نفسه قال الامام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
القدرية مجوس هذه الأمة شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت
المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية
هذا كلام الامام وابن قتيبة وحديث القدرية مجوس هذه الأمة رواه أبو حازم عن ابن عمر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك
على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين ان صح سماع أبى حازم من ابن عمر قال الخطابي
إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور
والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية
يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعا
لا يكون شئ منهما الا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وايجادا والى الفاعلين لهما
من عبادة فعلا واكتسابا والله أعلم قال الخطابي وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء
154

والقدر اجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الامر كما يتوهمونه وإنما
معناه الاخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن
تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها قال والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر يقال
قدرت الشئ وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى
فقضاهن سبع سماوات في يومين أي خلقهن قلت وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب
والسنة واجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على اثبات قدر الله سبحانه وتعالى
وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ
الفقيه أبى بكر البيهقي رضي الله عنه وقد قرر أئمتنا من المتكلمين ذلك أحسن تقرير بدلائلهم
القطعية السمعية والعقلية والله أعلم قوله (فوفق لنا عبد الله بن عمر) هو بضم الواو
وكسر الفاء المشددة قال صاحب التحرير معناه جعل وفقا لنا وهو من الموافقة التي هي كالالتحام
يقال أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهل لا قبله ولا بعده وهي لفظة تدل على صدق
الاجتماع والالتئام وفى مسند أبى يعلى الموصلي فوافق لنا بزيادة ألف والموافقة المصادفة
قوله (فاكتنفته أنا وصاحبي) يعنى صرنا في ناحيتيه ثم فسره فقال أحدنا عن يمينه والآخر
عن شماله وكنفا الطائر جناحاه وفى هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم وهو أنهم
يكتنفونه ويحفون به قوله (فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى) معناه يسكت ويفوضه
إلى لاقدامي وجرأتي وبسطة لساني فقد جاء عنه في رواية لأني كنت أبسط لسانا قوله (ظهر
قبلنا ناس يقرؤن القرآن ويتقفرون العلم) هو بتقديم القاف على الفاء ومعناه يطلبونه ويتتبعونه
هذا هو المشهور وقيل معناه يجمعونه ورواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان
يتفقرون بتقديم الفاء وهو صحيح أيضا معناه يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه وروى
155

في غير مسلم يتفقون بتقديم القاف وحذف الراء وهو صحيح أيضا ومعناه أيضا يتتبعون قال
القاضي عياض ورأيت بعضهم قال فيه يتقعرون بالعين وفسره بأنهم يطلبون قعره أي غامضه
وخفيه ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه وفى رواية أبى يعلى الموصلي يتفقهون بزيادة
الهاء وهو الظاهر قوله (وذكر من شأنهم) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون
يحيى بن يعمر والظاهر أنه من ابن بريدة الراوي عن يحيى بن يعمر يعنى وذكر ابن يعمر من
حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به قوله (يزعمون أن
لا قدر وأن الأمر أنف) هو بضم الهمزة والنون أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله
تعالى وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل وهذا القول قول غلاتهم
وليس قول القدرية وكذب قائله وضل وافترى عافانا الله وسائر المسلمين قوله (قال
يعنى ابن عمر رضي الله عنهما فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنى برئ منهم وأنهم برآء منى
والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن
بالقدر) هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية قال القاضي عياض
رحمه الله هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات قال والقائل بهذا
كافر بلا خلاف وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة قال غيره ويجوز أنه لم
يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة فيكون من قبيل كفران النعم الا أن قوله ما قبله الله
منه ظاهر في التكفير فان احباط الاعمال إنما يكون بالكفر الا أنه يجوز أن يقال في مسلم
لا يقبل عمله لمعصيته وإن كان صحيحا كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة غير محوجة إلى
القضاء عند جماهير العلماء بل باجماع السلف وهي غير مقبولة فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا
والله أعلم وقوله فأنفقه يعنى في سبيل الله تعالى أي طاعته كما جاء في رواية أخرى قال نفطويه
156

سمى الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى قوله (لا يرى عليه أثر السفر) ضبطناه بالياء المثناة من
تحت المضمومة وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي
هنا نرى بالنون المفتوحة وكذا هو في مسند أبى يعلى الموصلي وكلاهما صحيح قوله (ووضع
كفيه على فخذيه) معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه وجلس على هيئة المتعلم
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
الله والايمان أن تؤمن بالله إلى آخره) هذا قد تقدم بيانه وايضاحه بما يغنى عن اعادته قوله
(فعجبنا له يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل إنما هذا كلام
خبير بالمسؤول عنه ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم
(الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا من جوامع
الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه
وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره
157

وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها الا أتى به فقال صلى الله عليه وسلم اعبد الله
في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان فان التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد
باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه وهذا المعنى
موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه فمقصود الكلام الحث على الاخلاص في
العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في اتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك وقد ندب أهل
الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشئ من النقائص احتراما لهم واستحياء
منهم فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته قال القاضي عياض رحمه الله
وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الايمان
وأعمال الجوارح وخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة
إليه ومتشعبة منه قال وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان
فيما يلزم الانسان إذ لا يشذ شئ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات
عن أقسامه الثلاثة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)
فيه أنه ينبغي للعالم والمفتى وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم وأن ذلك لا ينقصه بل
يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه وقد بسطت هذا بدلائله وشواهده وما يتعلق به في
مقدمة شرح المهذب المشتملة على أنواع من الخير لا بد لطالب العلم من معرفة مثلها وإدامة النظر
فيه والله أعلم قوله (فأخبرني عن أماراتها) هو بفتح الهمزة والأمارة والأمار باثبات الهاء
وحذفها هي العلامة قوله صلى الله عليه وسلم (أن تلد الأمة ربتها) وفى الرواية الأخرى ربها
على التذكير وفى الأخرى بعلها وقال يعنى السراري ومعنى ربها وربتها سيدها ومالكها وسيدتها
ومالكتها قال الأكثرون من العلماء هو اخبار عن كثرة السراري وأولادهن فان ولدها من
سيدها بمنزلة سيدها لأن مال الانسان صائر إلى ولده وقد يتصرف فيه في الحال تصرف
158

المالكين إما بتصريح أبيه له بالاذن واما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال
وقيل معناه أن الإماء يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها
من رعيته وهذا قول إبراهيم الحربي وقيل معناه أن تفسد أحوال الناس فيكثر بيع
أمهات الأولاد في آخر الزمان فيكثر تردادها في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها ولا يدرى
ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد فإنه متصور في غيرهن فان الأمة تلد
ولدا حرا من غير سيدها بشبهة أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا
صحيحا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها وهذا أكثر وأعم من تقديره في أمهات الأولاد
وقيل في معناه غير ما ذكرناه ولكنها أقوال ضعيفة جدا أو فاسدة فتركتها وأما بعلها فالصحيح
معناه أن البعل هو المالك أو السيد فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه قال أهل اللغة بعل
الشئ ربه ومالكه وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى
بعلا أي ربا وقيل المراد بالبعل في حديث الزوج ومعناه نحو ما تقدم أنه يكثر بيع السراري
حتى يتزوج الانسان أمه وهو لا يدرى وهذا أيضا معنى صحيح الا أن الأول أظهر لأنه إذا
أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى والله أعلم واعلم أن هذا
الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد ولا منع بيعهن وقد استدل امامان من
كبار العلماء به على ذلك فاستدل أحدهما على الإباحة والآخر على المنع وذلك عجب منهما وقد
أنكر عليهما فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرما
أو مذموما فان تطاول الرعاء في البنيان وفشو المال وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس
بحرام بلا شك وإنما هذه علامات والعلامة لا يشترط فيها شئ من ذلك بل تكون بالخير والشر
والمباح والمحرم والواجب غيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وأن ترى الحفاة العراة العالة
رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) أما العالة فهم الفقراء والعائل الفقير والعيلة الفقر وعال الرجل
يعيل عيلة أي افتقر والرعاء بكسر الراء وبالمد ويقال فيهم رعاة بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد
ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في
البنيان والله أعلم قوله (فلبث مليا) هكذا ضبطناه لبث آخرة ثاء مثلثة من غير تاء وفى
159

كثير من الأصول المحققة لبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح وأما مليا بتشديد الياء فمعناه
وقتا طويلا وفى رواية أبى داود والترمذي أنه قال ذلك بعد ثلاث وفى شرح السنة للبغوي بعد
ثالثة وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال وفى ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا
ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا على الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا
شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا جبريل فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم
يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
الحاضرين في الحال وأخبر عمر رضى عنه بعد ثلاث إذ لم يكن حاضرا وقت اخبار
الباقين والله أعلم قوله (صلى الله عليه وسلم هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فيه أن الايمان
والاسلام والاحسان تسمى كلها دينا واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف
والآداب واللطائف بل هو أصل الاسلام كما حكيناه عن القاضي عياض وقد تقدم في ضمن
الكلام فيه جمل من فوائده ومما لم نذكره من فوائد أن فيه أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم
إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع
وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفق بالسائل ويدينه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض
وانه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله والله أعلم قوله (حدثني محمد بن عبيد الغبرى وأبو كامل
الجحدري وأحمد بن عبدة) أما الغبرى فبضم الغين المعجمة وفتح الموحدة وقد تقدم بيانه
واضحا في أول مقدمة الكتاب والجحدري اسمه الفضيل بن حسين وهو بفتح الجيم وبعدها حاء
ساكنة وتقدم أيضا بيانه في المقدمة وعبدة باسكان الباء وقد تقدم في الفصول بيان عبدة وعبيدة
وفى هذا الاسناد مطر الوراق هو مطر بن طهمان أبو رجاء الخرساني سكن البصرة كان يكتب
المصاحف فقيل له الوراق قوله (فحججنا حجة) هي بكسر الحاء وفتحها لغتان فالكسر هو
160

المسموع من العرب والفتح هو القياس كالضربة وشبهها كذا قاله أهل اللغة قوله (عثمان بن
غياث) هو بالغين المعجمة وحجاج بن الشاعر هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو
محمد البغدادي وقد تقدم في أوائل الكتاب بيانه واتفاقه مع الحجاج بن يوسف الوالي الظالم
المعروف وافتراقه وفى الاسناد يونس وقد تقدم فيه ست لغات ضم النون وكسرها وفتحها
مع الهمز فيهن وتركه وفى الاسناد الآخر أبو بكر بن أبي شيبة وإسماعيل بن عيلة وهو إسماعيل
ابن إبراهيم في الطريق الأخرى وقد تقدم بيانه وبيان حال أبى بكر بن أبي شيبة وحال أخيه
عثمان وأبيهما محمد وجدهما أبى شيبة إبراهيم وأخيهما القاسم وأن اسم أبى بكر عبد الله والله أعلم
وفى هذا الاسناد أبو حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي فأبو حيان بالمثناة
تحت واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التميمي تيم الرباب الكوفي وأما أبو زرعة فاسمه هرم وقيل
161

عمرو بن عمرو وقيل عبيد الله وقيل عبد الرحمن قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوما بارزا) أي ظاهرا ومنه قول الله تعالى الأرض بارزة لله جميعا
الجحيم برزوا لجالوت قوله صلى الله عليه وسلم (أن تؤمن بالله ولقائه وتؤمن بالبعث
الآخر) هو بكسر الخاء واختلف في المراد بالجمع بين الايمان بلقاء الله تعالى والبعث فقيل
اللقاء يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء والبعث بعده عند قيام الساعة وقيل اللقاء ما يكون بعد
البعث عند الحساب ثم ليس المراد باللقاء رؤية الله تعالى فان أحد لا يقطع لنفسه برؤية الله
تعالى لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين ولا يدرى الانسان بماذا يختم له وأما وصف البعث بالآخر
فقيل هو مبالغة في البيان والايضاح وذلك لشدة الاهتمام به وقيل سببه أن خروج الانسان إلى
الدنيا بعث من الأرحام وخروجه من القبر للحشر بعث من الأرض فقيد البعث بالآخر
ليتميز والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (الاسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم
الصلاة إلى آخره) أما العبادة فهي الطاعة مع خضوع فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا
معرفة الله تعالى والاقرار بوحدانيته فعلى هذا يكون عطف الصلاة والصوم والزكاة
عليها لادخالها في الاسلام فإنها لم تكن دخلت في العبادة وعلى هذا إنما اقتصر
على هذه الثلاث لكونها من أركان الاسلام وأظهر شعائره والباقي ملحق بها ويحتمل
أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا فيدخل جميع وظائف الاسلام فيها فعلى هذا يكون
عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على شرفه ومزيته كقوله
تعالى أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ونظائره وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا
تشرك به فإنما ذكره بعد العبادة لأن الكفار كانوا يعبدونه سبحانه وتعالى في الصورة ويعبدون
معه أوثانا يزعمون أنها شركاء فنفى هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وتقيم الصلاة
162

المكتوبة وتؤدى الزكاة المفروضة وتصوم رمضان) أما تقييد الصلاة بالمكتوبة فلقوله تعالى
ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد جاء في أحاديث وصفها بالمكتوبة كقوله صلى الله عليه وسلم
إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة
الليل وخمس صلوات كتبهن الله وأما تقيد الزكاة بالمفروضة وهي المقدرة فقيل احتراز من
الزكاة المعجلة قبل الحول فإنها زكاة وليست مفروضة وقيل إنما فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد
لكراهة تكرير اللفظ الواحد ويحتمل أن يكون تقييد الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة
التطوع فإنها زكاة لغوية وأما معنى إقامة الصلاة فقيل فيه قولان أحدهما أنه ادامتها والمحافظة
عليها والثاني اتمامها على وجهها قال أبو علي الفارسي والأول أشبه قلت وقد ثبت في الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اعتدلوا في الصفوف فان تسوية الصف من إقامة الصلاة
معناه والله أعلم من اقامتها المأمور بها في قوله تعالى وأقيموا الصلاة وهذا يرجح القول الثاني والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم وتصوم رمضان ففيه حجة لمذهب الجماهير وهو المختار
الصواب أنه لا كراهة في قول رمضان من غير تقييد بالشهر خلافا لمن كرهه وستأتي المسألة في
كتاب الصيام إن شاء الله تعالى موضحة بدلائلها وشواهدها والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(سأحدثك عن أشراطها) هي بفتح الهمزة واحدها شرط بفتح الشين والراء والاشراط
العلامات وقيل مقدماتها وقيل صغار أمورها قبل تمامها وكله متقارب قوله صلى الله عليه وسلم
(وإذا تطاول رعاء البهم) هو بفتح الباء واسكان الهاء وهي الصغار من أولاد الغنم الضأن
والمعز جميعا وقيل أولاد الضأن خاصة واقتصر عليه الجوهري في صحاحه والواحدة بهمة قال
163

الجوهري وهي تقع على المذكر والمؤنث والسخال أولاد المعزى قال فإذا جمعت بينهما قلت
بهام وبهم أيضا وقيل إن البهم يختص بأولاد المعز واليه أشار القاضي عياض بقوله وقد يختص
بالمعز وأصله كل ما استبهم عن الكلام ومنه البهيمة ووقع في رواية البخاري رعاء الإبل البهم
بضم الباء وقال القاضي عياض رحمه الله ورواه بعضهم بفتحها ولا وجه له مع ذكر الإبل قال
ورويناه برفع الميم وجرها فمن رفع جعله صفة للرعاء أي انهم سود وقيل لا شئ لهم وقال الخطابي
هو جمع بهيم وهو المجهول الذي لا يعرف ومنه أبهم الامر ومن جر الميم جعله صفة للإبل أي
السود لرداءتها والله أعلم قوله (يعنى السراري) هو بتشديد الياء ويجوز تخفيفها لغتان
معروفتان الواحدة سرية بالتشديد لا غير قال ابن السكيت في اصلاح المنطق كل ما كان واحده
مشددا من هذا النوع جاز في جمعه التشديد والتخفيف والسرية الجارية المتخذة للوطء مأخوذة
من السر وهو النكاح قال الأزهري السرية فعلية من السر وهو النكاح قال وكان أبو الهيثم
يقول السر والسرور فقيل لها سرية لأنها سرور مالكها قال الأزهري وهذا القول أحسن
والأول أكثر قوله (عن عمارة وهو ابن القعقاع) فعمارة بالضم والقعقاع بفتح القاف الأولى
وقوله وهو ابن قد قدمنا بيان فائدته في الفصول وفى المقدمة وأنه لم يقع في الرواية نسبه فأراد
164

بيانه بحيث لا يزيد في الرواية على ما سمع والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (سلوني) هذا
ليس بمخالف للنهي عن سؤاله فان هذا المأمور به هو فيما يحتاج إليه وهو موافق لقول الله تعالى
فاسألوا أهل الذكر قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك
الأرض فذاك من أشراطها) المراد بهم الجهلة السفلة الرعاع كما قال سبحانه وتعالى بكم
عمي لما لم ينتفعوا بجوارحهم هذه فكأنهم عدموها هذا هو الصحيح في معنى الحديث والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا) ضبطناه على وجهين
165

أحدهما تعلموا بفتح التاء والعين وتشديد اللام أي تتعلموا والثاني تعلموا باسكان العين وهما
صحيحان والله أعلم
باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الاسلام
فيه قتيبة بن سعيد الثقفي اختلف فيه فقيل قتيبة اسمه وقيل بل هو لقب واسمه علي قاله أبو عبد الله
ابن منده وقيل اسمه يحيى قاله ابن عدي وأما قوله الثقفي فهو مولاهم قيل إن جده جميلا كان مولى
للحجاج بن يوسف الثقفي وفيه أبو سهيل عن أبيه اسم أبى سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر
الأصبحي ونافع مالك بن أنس الامام وهو تابعي سمع أنس بن مالك قوله (رجل من أهل نجد
ثائر الرأس) هو برفع ثائر صفة لرجل وقيل يجوز نصبه على الحال ومعنى ثائر الرأس قائم شعره
منتفشه وقوله (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) روى نسمع ونفقه بالنون المفتوحة فيهما
وروى بالياء المثناة من تحت المضمومة فيهما والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف وأما دوي صوته
فهو بعده في الهواء ومعناه شدة صوت لا يفهم وهو بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء هذا هو المشهور
وحكى صاحب المطالع فيه ضم الدال أيضا قوله (هل على غيرها قال لا الا أن تطوع)
المشهور فيه تطوع بتشديد الطاء على ادغام احدى التاءين في الطاء وقال الشيخ أبو عمرو بن
الصلاح رحمه الله تعالى هو المحتمل للتشديد والتخفيف على الحذف قال أصحابنا وغيرهم من العلماء
166

قوله صلى الله عليه وسلم الا أن تطوع استثناء منقطع ومعناه لكن يستحب لك أن تطوع
وجعله بعض العلماء استثناء متصلا واستدلوا به على أن من شرع في صلاة نفل أو صوم نفل وجب
عليه اتمامه ومذهبنا أنه يستحب الاتمام ولا يجب والله أعلم قوله (فأدبر الرجل وهو يقول
والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح ان صدق) قيل هذا
الفلاح راجع إلى قوله لا أنقص خاصة والا ظهر أنه عائد إلى المجموع بمعنى أنه إذا لم يزد ولم
ينقص كان مفلحا لأنه أتى بما عليه ومن أتى بما عليه فهو مفلح وليس في هذا أنه إذا أتى بزائد
لا يكون مفلحا لأن هذا مما يعرف بالضرورة فإنه إذا أفلح بالواجب فلأن يفلح بالواجب
والمندوب أولى فان قيل كيف قال لا أزيد على هذا وليس في هذا الحديث جميع الواجبات ولا
المنهيات الشرعية ولا السنن المندوبات فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث
زيادة توضح المقصود قال فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الاسلام فأدبر الرجل
وهو يقول والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله تعالى على شيئا فعلى عموم قوله بشرائع الاسلام
وقوله مما فرض الله على يزول الاشكال في الفرائض وأما النوافل فقيل يحتمل أن هذا كان قبل
شرعها وقيل يحتمل أنه أراد لا أزيد في الفرض بتغير صفته كأنه يقول لا أصلى الظهر خمسا
وهذا تأويل ضعيف ويحتمل أنه أراد أنه لا يصلى النافلة مع أنه لا يخل بشئ من الفرائض
وهذا مفلح بلا شك وان كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة وترد بها الشهادة الا أنه ليس
بعاص بل هو مفلح ناج والله أعلم واعلم أنه لم يأت في هذا الحديث ذكر الحج ولا جاء ذكره
في حديث جبريل من رواية أبي هريرة وكذا غير هذا من هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها
167

الصوم ولم يذكر في بعضها الزكاة وذكر في بعضها صلة الرحم وفى بعضها أداء الخمس ولم يقع في
بعضها ذكر الايمان فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الايمان زيادة ونقصا واثباتا
وحذفا وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمه الله عنها بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن
الصلاح رحمه الله تعالى وهذبه فقال ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم
بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض
لما زاده غيره بنفي ولا اثبات وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه الكل فقد بان بما أتى به
غيره من الثقات أن ذلك ليس بالكل وأن اقتصاره عليه كان لقصور حفظه عن تمامه ألا ترى
حديث النعمان بن قوقل الآتي قريبا اختلفت الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان مع أن راوي
الجميع راو واحد وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قضية واحدة ثم إن ذلك لا يمنع من
ايراد الجميع في الصحيح لما عرف في مسألة زيادة الثقة من أنا نقبلها هذا آخر كلام الشيخ وهو
تقرير حسن والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أفلح وأبيه ان صدق) هذا مما جرت
عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله
وقوله صلى الله عليه وسلم ان الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم وجوابه أن قوله صلى الله عليه وسلم
أفلح وأبيه ليس هو حلفا إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها
حقيقة الحلف والنهى إنما ورد فيمن قصد الحلف لما فيه من اعظام المحلوف به ومضاهاته
به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجواب المرضى وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل النهى عن الحلف
بغير الله تعالى والله أعلم وفى هذا الحديث أن الصلاة التي هي ركن من أركان الاسلام التي
أطلقت في باقي الأحاديث هي الصلوات الخمس وأنها في كل يوم وليلة على كل مكلف بها وقولنا
بها احتراز من الحائض والنفساء فإنها مكلفة بأحكام الشرع الا الصلاة وما ألحق بها مما هو مقرر
في كتب الفقه وفيه أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق الأمة وهذا مجمع عليه واختلف قول
168

الشافعي رحمه الله في نسخه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصح نسخه وفيه أن الصلاة
الوتر ليست بواجبة وأن صلاة العيد أضا ليست بواجبة وهذا مذهب الجماهير وذهب أبو
حنيفة رحمه الله وطائفة إلى وجوب الوتر وذهب أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي
إلى أن صلاة العيد فرض كفاية وفيه أنه لا يجب صوم عاشوراء ولا غيره سوى رمضان وهذا
مجمع عليه واختلف العلماء هل كان صوم عاشوراء واجبا قبل ايجاب رمضان أم كان الأمر به
ندبا وهما وجهان لأصحاب الشافعي أظهرهما لم يكن واجبا والثاني كان واجبا وبه قال أبو حنيفة
رحمه الله وفيه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة على من ملك نصابا وفيه غير ذلك والله أعلم
باب السؤال عن أركان الاسلام
فيه حديث أنس رضي الله عنه قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل
من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال صدق
إلى آخر الحديث قوله (نهينا أن نسأل) يعنى سؤال ما لا ضرورة إليه كما قدمنا بيانه
قريبا في الحديث الآخر سلوني أي عما تحتاجون إليه وقوله (الرجل من أهل البادية) يعنى من
لم يكن بلغه النهى عن السؤال وقوله (العاقل) لكونه أعرف بكيفية السؤال وآدابه والمهم منه
وحسن المراجعة فان هذه أسباب عظم الانتفاع بالجواب ولأن أهل البادية هم الاعراب ويغلب
فيهم الجهل والجفاء ولهذا جاء في الحديث من بدا جفا والبادية والبدو بمعنى وهو ما عدا
الحاضرة والعمران والنسبة إليها بدوي والبداوة الإقامة بالبادية وهي بكسر الباء عند جمهور
أهل اللغة وقال أبو زيد هي بفتح الباء قال ثعلب لا أعرف البداوة بالفتح الا عن أبي زيد
169

قوله (فقال يا محمد) قال العلماء لعل هذا كان قبل النهى عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم باسمه
قبل نزول قول الله عز وجل تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا على
أحد التفسيرين أي لا تقولوا يا محمد بل يا رسول الله يا نبي الله ويحتمل أن يكون بعد
نزول الآية ولم تبلغ الآية هذا القائل وقوله (زعم رسولك أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك
قال صدق) فقوله زعم وتزعم مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه دليل على أن زعم
ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي
لاشك فيه وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال زعم جبريل
كذا وقد أكثر سيبويه وهو امام العربية في كتابه الذي هو امام كتب العربية من قوله زعم
الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم
ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبى العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين
والبصريين والله أعلم ثم اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية اسمه ضمام بن ثعلبة
بكسر الضاد المعجمة كذا جاء مسمى في رواية البخاري وغيره قوله (قال فمن خلق السماء
قال الله قال فمن خلق الأرض قال الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله
قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك قال نعم وزعم رسولك
أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال نعم)
هذه جملة تدل على أنواع من العلم قال صاحب التحرير هذا من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة
170

سياقته وترتيبه فإنه سأل أولا عن صانع المخلوقات من هو ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه
رسولا للصانع ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله وهذا ترتيب يفتقر إلى
عقل رصين ثم إن هذه الأيمان جرت للتأكيد وتقرير الأمر لا لافتقاره إليها كما أقسم الله تعالى
على أشياء كثيرة هذا كلام صاحب التحرير القاضي عياض والظاهر أن هذا الرجل لم يأت
الا بعد اسلامه وإنما جاء مستثبتا ومشافها للنبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم وفى هذا الحديث
جمل من العلم غير ما تقدم منها أن الصلوات الخمس متكررة في كل يوم وليلة وهو معنى قوله في
يومنا وليلتنا وأن صوم شهر رمضان يجب في كل سنة قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وفيه
دلالة لصحة ما ذهب إليه أئمة العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنين وأنه يكتفى منهم بمجرد
اعتقاد الحق جزما من غير شك وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم
قرر ضماما على ما اعتمد عليه في تعريف رسالته وصدقه ومجرد اخباره إياه بذلك ولم
ينكر عليه ذلك ولا قال يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية
هذا كلام الشيخ وفى هذا الحديث العمل بخبر الواحد وفيه غير ذلك والله أعلم
171

باب بيان الايمان الذي يدخل به الجنة
(وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة)
فيه حديث أبي أيوب وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم أما حديثا أبى أيوب وأبي هريرة فرواهما
أيضا البخاري وأما حديث جابر فانفرد به مسلم أما ألفاظ الباب فأبو أيوب اسمه خالد
ابن زيد الأنصاري وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولا وقد
تقدم بيانه بزيادات في مقدمة الكتاب قول مسلم رحمه الله تعالى (حدثنا محمد بن عبد الله
ابن نمير ثنا أبي ثنا عمرو بن عثمان ثنا موسى بن طلحة حدثني أبو أيوب وفى الطريق الآخر حدثني
محمد بن حاتم وعبد الرحمن بن بشر قالا ثنا بهز قال ثنا شعبة قال ثنا محمد بن عثمان بن عبد الله
ابن موهب وأبوه عثمان أنهما سمعا موسى بن طلحة) هكذا هو في جميع الأصول في الطريق
الأول عمرو بن عثمان وفى الثاني محمد بن عثمان واتفقوا على أن الثاني وهم وغلط من شعبة وأن
صوابه عمرو بن عثمان كما في الطريق الأول قال الكلاباذي وجماعات لا يحصون من أهل هذا
الشأن هذا وهم من شعبة فإنه كان يسميه محمدا وإنما هو عمرو وكذا وقع على الوهم من رواية
شعبة في كتاب الزكاة من البخاري والله أعلم وموهب بفتح الميم والهاء واسكان الواو بينهما
قوله (أن أعرابيا) هو بفتح الهمزة وهو البدوي أي الذي يسكن البادية وقد تقدم قريبا
بيانها قوله (فأخذ بخطام ناقة أو بزمامها) هما بكسر الخاء والزاي قال الهروي في الغريبين
قال الأزهري الخطام هو الذي يخطم به البعير وهو أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان
فيجعل في أحد طرفيه حلقة يسلك فيها الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة ثم يقلد البعير ثم يثنى
على مخطمه فإذا ضفر من الأدم فهو جرير فاما الذي يجعل في الأنف دقيقا فهو الزمام هذا
172

كلام الهروي عن الأزهري وقال صاحب المطالع الزمام للإبل ما تشد به رؤسها من حبل
وسير ونحوه لتقاد به والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لقد وفق هذا) قال أصحابنا
المتكلمون التوفيق خلق قدرة الطاعة والخذلان خلق قدرة المعصية قوله صلى الله عليه وسلم
(تعبد الله لا تشرك به شيئا) قد تقدم بيان حكمة الجمع بين هذين اللفظين وتقدم بيان
المراد بإقامة الصلاة وسبب تسميتها مكتوبة وتسمية الزكاة مفروضة وبيان قوله لا أزيد ولا
أنقص وبيان اسم أبى زرعة الراوي عن أبي هريرة وأنه هرم وقيل عمرو وقيل عبد الرحمن
وقيل عبيد الله قوله صلى الله عليه وسلم (وتصل الرحم) أي تحسن إلى أقاربك ذوي
رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من انفاق أو سلام أو زيادة أو طاعتهم أو غير ذلك
وفى الرواية الأخرى وتصل ذا رحمك وقد تقدم بيان جواز إضافة ذي إلى المفردات في آخر
المقدمة قوله صلى الله عليه وسلم (دع الناقة) إنما قاله لأنه كان ممسكا بخطامها أو زمامها ليتمكن
من سؤاله بلا مشقة فلما حصل جوابه قال دعها قوله (حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق)
173

قد تقدم بيان أسميهما في مقدمة الكتاب فأبو الأحوص سلام بالتشديد ابن سليم وأبو إسحاق
عمرو بن عبد الله السبيعي قوله صلى الله عليه وسلم (ان تمسك بما أمر به دخل الجنة) كذا
هو في معظم الأصول المحققة وكذا ضبطناه أمر بضم الهمزة وكسر الميم وبه بباء موحدة
مكسورة مبنى لما لم يسم فاعله وضبطه الحافظ أبو عامر العبدري أمرته بفتح الهمزة وبالتاء المثناة
من فوق التي هي ضمير المتكلم وكلاهما صحيح والله أعلم وأما ذكره صلى الله عليه وسلم صلة
الرحم في هذا الحديث وذكر الأوعية في حديث وفد عبد القيس وغير ذلك في غيرهما فقال القاضي
عياض وغيره رحمهم الله ذلك بحسب ما يخص السائل ويعنيه والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم
(من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) فالظاهر منه أن النبي صلى الله عليه وسلم
علم أنه يوفى بما التزم وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة وأما قول مسلم في حديث
جابر (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن
جابر) فهذا اسناد كلهم كوفيون الا جابرا وأبا سفيان فان جابرا مدني وأبا سفيان واسطى ويقال
174

مكي وقد تقدم أن اسم أبى بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم وإبراهيم هو أبو شيبة وأما
أبو كريب فاسمه محمد بن العلاء الهمداني باسكان الميم وبالدال المهملة وأبو معاوية محمد بن خازم
بالخاء المعجمة والأعمش سليمان بن مهران أبو محمد وأبو سفيان طلحة بن نافع القرشي مولاهم
وقد تقدم أن في سين سفيان ثلاث لغات الضم والكسر والفتح وقول الأعمش عن أبي سفيان
مع أن الأعمش مدلس والمدلس إذا قال عن لا يحتج به الا أن يثبت سماعه من جهة أخرى وقد
قدمنا في الفصول وفى شرح المقدمة أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على
ثبوت سماعهم من جهة أخرى الله أعلم قوله (أتى النعمان بن قوقل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أأدخل
الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم) أما قوقل فبقافين مفتوحتين بينهما واو ساكنة
وآخره لام وأما قوله وحرمت الحرام فقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى الظاهر
أنه أراد به أمرين أن يعتقده حراما وأن لا يفعله بخلاف تحليل الحلال فإنه يكفي فيه مجرد
اعتقاده حلالا قوله (عن الأعمش عن أبي صالح) تقدم في أوائل مقدمة الكتاب أن اسم
أبى صالح ذكوان (قول الحسن بن أعين ثنا معقل وهو ابن عبيد الله عن أبي الزبير) أما أعين فهو
175

بفتح الهمزة وبالعين المهملة وآخره نون وهو الحسن بن محمد بن أعين القرشي مولاهم أبو علي
الحراني والأعين من في عينه سعة وأما معقل فبفتح الميم واسكان العين المهملة وكسر القاف
وأما أبو الزبير فهو محمد بن مسلم بن تدرس بمثناة فوق مفتوحة ثم دال مهملة ساكنة ثم راء
مضمومة ثم سين مهملة وقوله وهو ابن عبيد الله قد تقدم مرات بيان فائدته وهو أنه لم يقع
في الرواية لفظة ابن عبيد الله فأراد ايضاحه بحيث لا يزيد في الرواية
باب بيان أركان الاسلام ودعائمه العظام
قال مسلم رحمه الله (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني ثنا أبو خالد يعنى سليمان بن حيان
الأحمر عن أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال بنى الاسلام على خمسة على أن يوحد الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصيام
رمضان والحج فقال رجل الحج وصيام رمضان فقال لا صيام رمضان والحج هكذا سمعته من
176

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الرواية الثانية بنى الاسلام على خمس على أن يعبد الله ويكفر
بما دونه وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وفى الرواية الثالثة بنى الاسلام
على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت
وصوم رمضان وفى الرواية الرابعة أن رجلا قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ألا تغزو
فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الاسلام بنى على خمس شهادة ان لا إله إلا الله
وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت) أما الاسناد الأول المذكور
هنا فكله كوفيون الا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه مكي مدني وأما الهمداني فباسكان
الميم وبالدال المهملة وضبط هذا للاحتياط واكمال الايضاح والا فهو مشهور معروف وأيضا
فقد قدمت في آخر الفصول أن جميع ما في الصحيحين فهو همداني بالاسكان والمهملة وأما حيان
فبالمثناة وتقدم أيضا في الفصول بيان ضبط هذه الصورة وأما أبو مالك الأشجعي فهو سعد
177

ابن طارق المسمى في الرواية الثانية وأبوه صحابي وأما ضبط ألفاظ المتن فوقع في الأصول بنى الاسلام
على خمسة في الطريق الأول والرابع بالهاء فيها وفى الثاني والثالث خمس بلا هاء وفى بعض
الأصول المعتمدة في الرابع بلا هاء وكلاهما صحيح والمراد برواية الهاء خمسة أركان أو أشياء أو
نحو ذلك وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحو ذلك والله أعلم وأما
تقديم الحج وتأخيره ففي الرواية الأولى والرابعة تقدم الصيام وفى الثانية والثالثة تقديم الحج
ثم اختلف العلماء في انكار ابن عمر على الرجل الذي قدم الحج مع أن ابن عمر رواه كذلك
كما وقع في الطريقين المذكورين والأظهر والله أعلم أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
مرتين مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصوم فرواه أيضا على الوجهين في وقتين
فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر لا ترد على ما لا علم لك به ولا تعترض بما لا تعرفه
ولا تقدح فيما لا تتحققه بل هو بتقديم الصوم هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وليس في هذا نفى لسماعه على الوجه الآخر ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين
كما ذكرنا ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره فهذان الاحتمالان هما المختاران
في هذا وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى محافظة ابن عمر رضي الله عنهما على ما
سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه عن عكسه تصلح حجة لكون الواو تقتضي الترتيب
وهو مذهب كثير من الفقهاء الشافعين وشذوذ من النحويين ومن قال لا تقتضي الترتيب وهو
المختار وقول الجمهور فله أن يقول لم يكن ذلك لكونها تقتضي الترتيب بل لأن فرض صوم
رمضان نزل في السنة الثانية من الهجرة ونزلت فريضة الحج سنة ست وقيل سنة تسع بالتاء
المثناة فوق ومن حق الأول أن يقدم في الذكر على الثاني فمحافظة ابن عمر رضي الله عنهما لهذا
وأما رواية تقديم الحج فكأنه وقع ممن كان يروى الرواية بالمعنى ويروى أن تأخير الأول أو الأهم
في الذكر شائع في اللسان فتصرف فيه بالتقديم والتأخير لذلك مع كونه لم يسمع نهى ابن عمر
رضي الله عنهما عن ذلك فافهم ذلك فإنه من المشكل الذي لم أرهم بينوه هذا آخر كلام الشيخ أبى
عمرو بن الصلاح وهذا الذي قاله ضعيف من وجهين أحدهما ان الروايتين قد ثبتتا في الصحيح
وهما صحيحتان في المعنى لا تنافى بينهما كما قدمنا ايضاحه فلا يجوز ابطال إحداهما الثاني أن فتح
باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قدح في الرواة والروايات فإنه لو فتح ذلك لم يبق لنا
178

وثيق بشئ من الروايات الا القليل ولا يخفى بطلان هذا وما يترتب عليه من المفاسد وتعلق
من يتعلق به ممن في قلبه مرض والله أعلم ثم اعلم أنه وقع في رواية أبى عوانة الأسفرايني في كتابه
المخرج على صحيح مسلم وشرطه عكس ما وقع في مسلم من قول الرجل لابن عمر قدم الحج فوقع
فيه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال للرجل اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله لا يقاوم هذه الرواية ما رواه
مسلم قلت وهذا محتمل أيضا صحته ويكون قد جرت القضية مرتين لرجلين والله أعلم وأما
اقتصاره في الرواية الرابعة على احدى الشهادتين فهو اما تقصير من الراوي في حذف الشهادة
الأخرى التي أثبتها غيره من الحفاظ واما أن يكون وقعت الرواية من أصلها هكذا ويكون من
الحذف للاكتفاء بأحد القرينتين ودلالته على الآخر المحذوف والله أعلم وقوله صلى الله عليه وسلم
على أن يوحد الله بضم الياء المثناة من تحت وفتح الحاء مبنى لما لم يسم فاعله وأما اسم
الرجل الذي رد عليه ابن عمر رضي الله عنهما تقديم الحج فهو يزيد بن بشر السكسكي ذكره
الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه الأسماء المبهمة وأما قوله ألا تغزو فهو بالتاء المثناة
من فوق للخطاب ويجوز أن يكتب تغزوا بالألف وبحذفها فالأول قول الكتاب المتقدمين
والثاني قول بعض المتأخرين وهو الأصح حكاهما ابن قتيبة في أدب الكاتب وأما جواب ابن
عمر له بحديث بنى الاسلام على خمس فالظاهر أن معناه ليس الغزو بلازم على الأعيان فان
الاسلام بنى على خمس ليس الغزو منها والله أعلم ثم إن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين
وعليه اعتماده وقد جمع أركانه والله أعلم
باب الأمر بالايمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وحفظه وتبليغه من لم يبلغه
هذا الباب فيه حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم فأما حديث ابن
عباس ففي البخاري أيضا وأما حديث أبي سعيد ففي مسلم خاصة قوله في الرواية الأولى (حدثنا حماد
179

ابن زيد عن أبي جمرة قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وقوله في الرواية الثانية (أخبرنا
عباد بن عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما) قد يتوهم من لا يعاني هذا الفن أن
هذا تطويل لا حاجة إليه وأنه خلاف عادته وعادة الحفاظ فان عادتهم في مثل هذا أن يقولوا
عن حماد وعباد عن أبي جمرة عن ابن عباس وهذا التوهم يدل على شدة غباوة صاحبه وعدم
مؤانسته بشئ من هذا الفن فان ذلك إنما يفعلونه فيما استوى فيه لفظ الرواة وهنا اختلف
لفظهم ففي رواية حماد عن أبي جمرة سمعت ابن عباس وفى رواية عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس
وهذا التنبيه الذي ذكرته ينبغي أن يتفطن لمثله وقد نبهت على مثله بأبسط من هذه العبارة في
الحديث الأول من كتاب الايمان ونبهت عليه أيضا في الفصول وسأنبه على مواضع منه أيضا
مفرقة في مواضع من الكتاب إن شاء الله تعالى والمقصود أن تعرف هذه الدقيقة ويتيقظ
الطالب لما جاء منها فيعرفه وان لم أنص عليه اتكالا على فهمه بما تكرر التنبيه به وليستدل
أيضا بذلك على عظم اتقان مسلم رحمه الله وجلالته وورعه ودقة نظره وحذقه والله أعلم وأما
أبو جمرة وهو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران بن عصام وقيل ابن عاصم الضبعي بضم الضاد
المعجمة البصري قال صاحب المطالع ليس في الصحيحين والموطأ أبو جمرة ولا جمرة بالجيم
الا هو قلت وقد ذكر الحاكم أبو أحمد الحافظ الكبير شيخ الحاكم أبى عبد الله في كتاب الأسماء
والكنى أبا جمرة نصر بن عمران هذا في الافراد فليس عنده في المحدثين من يكنى أبا جمرة
بالجيم سواه ويروى عن ابن عباس حديثا واحدا ذكر فيه معاوية بن أبي سفيان وارسال النبي صلى الله عليه وسلم
إليه ابن عباس وتأخره واعتذاره رواه مسلم في الصحيح وحكى الشيخ
أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث والقطعة التي شرحها في أول مسلم عن بعض
الحفاظ أنه قال إن شعبة بن الحجاج روى عن سبعة رجال يروون كلهم عن ابن عباس كلهم
يقال له أبو حمزة بالحاء والزاي الا أبا جمرة نصر بن عمران فبالجيم والراء قال والفرق بينهم يدرك
بان شعبة إذا أطلق وقال عن أبي جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم وهو نصر بن عمران وإذا روى
180

عن غيره ممن هو بالحاء والزاي فهو يذكر اسمه أو نسبه والله أعلم قوله (قدم وفد عبد القيس
على رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال صاحب التحرير الوفد الجماعة المختارة من القوم
ليتقدموهم في لقى العظماء والمصير إليهم في المهمات واحدهم وافد قال وفد عبد القيس هؤلاء
تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعة عشر راكبا
الأشج العصري رئيسهم ومزيدة بن مالك المحاربي وعبيدة بن همام المحاربي وصحار بن العباس
المري وعمرو بن مرحوم العصري والحارث بن شعيب العصري والحارث بن جندب من بنى
عايش ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء قال وكان سبب وفودهم أن منقذ
ابن حيان أحد بنى غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية فشخص إلى يثرب بملاحف
وتمر من هجر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فبينا منقذ بن حيان قاعد إذ مر به النبي صلى الله عليه وسلم
فنهض منقذ إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمنقذ بن حيان كيف جميع هيئتك وقومك
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم بأسمائهم فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة واقرأ باسم
ربك ثم رحل قبل هجر فكتب النبي صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا
فذهب به وكتمه أياما ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ بالذال المعجمة ابن الحارث
والمنذر هو الأشج سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم به لأثر كان في وجهه وكان منقذ رضي الله عنه
يصلى ويقرأ فنكرت امرأته ذلك فذكرته لأبيها المنذر فقالت أنكرت بعلى منذ قدم من يثرب
أنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعنى القبلة فيحنى ظهره مرة ويضع جبنه مرة ذلك ديدنه منذ
قدم فتلاقيا فتجاريا ذلك فوقع الاسلام في قلبه ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه عليهم فوقع الاسلام في قلوبهم وأجمعوا على السير إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار الوافد فلما دنوا من المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم لجلسائه
أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا
مرتابين إذ لم يسلم قوم حتى وتروا قال وقولهم (انا هذا الحي من ربيعة) لأنه عبد القيس
ابن أفصى يعنى بفتح الهمزة وبالفاء والصاد المهملة المفتوحة ابن دعمي بن جديلة بن أسد
181

ابن ربيعة بن نزار وكانوا ينزلون البحرين الخط وأعنابها وسرة القطيف والسفار والظهران إلى
لرمل إلى الاجرع ما بين هجر إلى قصر وبينونة ثم الجوف والعيون والأحساء إلى حد أطراف
الدهنا وسائر بلادها ما ذكره صاحب التحرير قولهم انا هذا الحي فالحي منصوب
على التخصيص قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح الذي نختاره نصب الحي على التخصيص ويكون
الخبر في قولهم من ربيعة ومعناه انا هذا الحي حي من ربيعة وقد جاء بعد هذا في الرواية الأخرى
انا حي بن ربيعة وأما معنى الحي فقال صاحب المطالع الحي اسم لمنزل القبيلة ثم سميت
القبيلة به لأن بعضهم يحيا ببعض قولهم (وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر) سببه
أن كفار مضر كانوا بينهم وبين المدينة فلا يمكنهم الوصول إلى المدينة الا عليهم قولهم
(ولا نخلص إليك الا في شهر الحرام) معنى نخلص نصل ومعنى كلامهم انا لا نقدر على الوصول
إليك خوفا من أعدائنا الكفار الا في الشهر الحرام فإنهم لا يتعرضون لنا كما كانت عادة العرب
من تعظيم الأشهر الحرم وامتناعهم من القتال فيها وقولهم شهر الحرام كذا هو في الأصول
كلها بإضافة شهر إلى الحرام وفى الرواية الأخرى أشهر الحرم والقول فيه كالقول في نظائره من
قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى ومنه قول الله تعالى الغربي قوله الآخرة فعلى
مذهب النحويين الكوفيين هو من إضافة الموصوف إلى صفته وهو جائز عندهم وعلى مذهب
البصريين لا تجوز هذه الإضافة ولكن هذا كله عندهم على حذف في الكلام للعلم به فتقديره
شهر الوقت الحرام وأشهر الأوقات الحرم ومسجد المكان الجامع ودار الحياة الآخرة وجانب
المكان الغربي ونحو ذلك والله أعلم ثم إن قولهم شهر الحرام المراد به جنس الأشهر الحرم
وهي أربعة أشهر حرم كما نص عليه القرآن العزيز وتدل عليه الرواية الأخرى بعد هذه الا في
اشهر الحرم والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب هذه الأربعة هي الأشهر
الحرم باجماع العلماء من أصحاب الفنون ولكن اختلفوا في الأدب المستحسن في كيفية عدها
على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب قال ذهب الكوفيون
إلى أنه يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا
182

بهن من سنة واحدة قال وأهل المدينة يقولون ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وقوم
ينكرون هذا ويقولون جاءوا بهن من سنتين قال أبو جعفر وهذا غلط بين وجهل باللغة لأنه
قد علم المراد وأن المقصود ذكرها وأنها في كل سنة فكيف يتوهم أنها من سنتين قال والأولى
والاختيار ما قاله أهل المدينة لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
قالوا من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبى بكرة رضي الله عنهم قال وهذا أيضا قول أكثر أهل
التأويل قال النحاس وأدخلت الألف والام في المحرم دون غيره من الشهور قال وجاء من
الشهور ثلاثة مضافات شهر رمضان وشهرا ربيع يعنى والباقي غير مضافات وسمى الشهر شهرا
لشهرته وظهوره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (آمركم بأربع وأنها كم عن أربع الايمان
بالله ثم فسرها لهم فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة
وأن تؤدوا خمس ما غنمتم وفى رواية شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة) وفى الطريق
الأخرى قال وأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع قال أمرهم بالايمان بالله وحده قال وهل تدرون
ما الايمان بالله قالوا الله ورسوله أعلم قال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام
الصلاة وايتاء الزكاة صوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم وفى الرواية الأخرى قال آمركم
بأربع وأنهاكم عن أربع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا
رمضان وأعطوا الخمس من الغنائم هذه ألفاظه هنا وقد ذكر البخاري هذا الحديث في مواضع
كثيرة من صحيحه وقال فيه في بعضها شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذكره في باب
إجازة خبر الواحد وذكره في باب بعد باب نسبة اليمن إلى إسماعيل صلى الله عليه وسلم في آخر
183

ذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقال فيه آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الايمان
بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان بزيادة واو وكذلك قال
فيه في أول كتاب الزكاة الايمان بالله وشهادة أن لا إله إلا الله بزيادة واو أيضا ولم يذكر فيها
الصيام وذكر في باب حديث وفد عبد القيس الايمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله فهذه ألفاظ
هذه القطعة في الصحيحين وهذه الألفاظ مما يعد من المشكل وليست مشكلة عند أصحاب التحقيق
والاشكال في كونه صلى الله عليه وسلم قال آمركم بأربع والمذكور في أكثر الروايات خمس
واختلف العلماء في الجواب عن هذا على أقوال أظهرها ما قاله الإمام ابن بطال رحمه الله تعالى
في شرح صحيح البخاري قال أمرهم بالأربع التي وعدهم بها ثم زادهم خامسة يعنى أداء الخمس
لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر فكانوا أهل جهاد وعلم وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح
نحو هذا فقال قوله أمرهم بالايمان بالله أعاده لذكر الأربع ووصفه لها بأنها ايمان ثم فسرها
بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم فهذا موافق لحديث بنى الاسلام على خمس ولتفسير
الاسلام بخمس في حديث جبريل صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن ما يسمى اسلاما يسمى
ايمانا وأن الاسلام والايمان يجتمعان ويفترقان وقد قيل إنما يذكر الحج في هذا الحديث
لكونه لم يكن نزل فرضه وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأن تؤدوا خمسا من المغنم فليس عطفا
على قوله شهادة ان لا إله إلا الله فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسا وإنما هو عطف على قوله
بأربع فيكون مضافا إلى الأربع لا واحدا منها وإن كان واحدا من مطلق شعب الايمان قال
وأما عدم ذكر الصوم في الرواية الأولى فهو اغفال من الراوي وليس من الاختلاف الصادر
من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل من اختلاف الرواة الصادر من تفاوتهم في الضبط والحفظ على
ما تقدم بيانه فافهم ذلك وتدبره تجده إن شاء الله تعالى مما هدانا الله سبحانه وتعالى لحله من
العقد هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو وقيل في معناه غير ما قالاه مما ليس بظاهر فتركناه
والله أعلم وأما قول الشيخ ان ترك الصوم في بعض الروايات اغفال من الراوي وكذا قاله
القاضي عياض وغيره وهو ظاهر لا شك فيه قال القاضي عياض رحمه الله وكانت وفادة عبد القيس
عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر
والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأن تؤدوا خمس ما غنمتم ففيه ايجاب الخمس من الغنائم وان
184

لم يكن الامام في السرية الغازية وفى هذا تفصيل وفروع سننبه عليها في بابها أن وصلناه إن شاء الله
تعالى ويقال خمس بضم الميم واسكانها وكذلك الثلث والربع والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر
بضم ثانيها ويسكن والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم وأنها كم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير
وفى رواية المزفت بدل المقير فنضبطه ثم نتكلم على معناه إن شاء الله تعالى فالدباء بضم الدال
وبالمد وهو القرع اليابس أي الوعاء منه وأما الحنتم فبحاء مهملة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم تاء
مثناة من فوق مفتوحة ثم ميم الواحدة حنتمة وأما النقير فبالنون المفتوحة والقاف وأما
المقير فبفتح القاف والياء فاما الدباء فقد ذكرناه وأما الحنتم فاختلف فيها فأصح الأقوال
وأقواها أنها جرار خضر وهذا التفسير ثابت في كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن أبي هريرة
وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابي رضي الله عنه وبه قال الأكثرون أو كثيرون من أهل
اللغة وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء والثاني أنها الجرار كلها قاله عبد الله بن عمر وسعيد بن
جبير وأبو سلمة والثالث أنها جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف وروى ذلك عن
أنس بن مالك رضي الله عنه ونحوه عن ابن أبي ليلى وزاد أنها حمر والرابع عن عائشة رضي الله عنها
جرار حمر أعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مصر والخامس عن ابن أبي ليلى أيضا أفواهها
في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر والسادس
عن عطاء جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم وأما النقير فقد جاء في تفسيره في الرواية
الأخيرة أنه جذع ينقر وسطه وأما المقير فهو المزفت وهو المطلى بالقار وهو الزفت وقيل
الزفت نوع من القار والصحيح الأول فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال المزفت
هو المقير وأما معنى النهى عن هذه الأربع فهو أنه نهى عن الانتباذ فيها وهو أن يجعل في
الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع
إليه الاسكار فيها فيصير حرما نجسا وتبطل ماليته فنهى عنه لما فيه من اتلاف المال ولأنه ربما
شربه بعد اسكاره من لم يطلع عليه ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الادم بل أذن فيها لأنها لرقتها
لا يخفى فيها المسكر بل إذا صار مسكرا شقها غالبا ثم إن هذا النهى كان في أول الأمر ثم نسخ
بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كنت نهيتكم عن الانتباذ الا في
الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا رواه مسلم في الصحيح هذا الذي ذكرناه من
185

كونه منسوخا هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء قال الخطابي القول بالنسخ هو أصح الأقاويل
قال وقال قوم التحريم باق وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية ذهب إليه مالك وأحمد وإسحاق
وهو مروى عن ابن عمر وعباس رضي الله عنهم والله أعلم قوله (قال أبو بكر حدثنا غندر
عن شعبة وقال الآخران ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة) هذا من احتياط مسلم رضي الله عنه
فان غندرا هو محمد بن جعفر ولكن أبو بكر ذكره بلقبه والآخران باسمه ونسبه وقال أبو بكر
عنه عن شعبة وقال الآخران عنه حدثنا شعبة فحصلت مخالفة بينهما وبينه من وجهين فلهذا نبه
عليه مسلم رحمه الله تعالى وقد تقدم في المقدمة أن دال غندر مفتوحة على المشهور وأن الجوهري
حكى ضمها أيضا وتقدم بيان سبب تلقيبه بغندر قوله (كنت أترجم بين يدي ابن عباس
وبين الناس) كذا هو في الأصول وتقديره بين يدي ابن عباس بينه وبين الناس فحذف لفظة
بينه للدلالة الكلام عليها ويجوز أن يكون المراد بين ابن عباس وبين الناس كما جاء في البخاري
وغيره بحذف يدي فتكون يدي عبارة عن الجملة كما قال الله تعالى ينظر المرء ما قدمت يداه
أي قدم والله أعلم وأما معنى الترجمة فهو التعبير عن لغة بلغة ثم قيل إنه كان يتكلم بالفارسية
فكان يترجم لابن عباس عمن يتكلم بها قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى
وعندي أنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفى عليه من الناس اما لزحام منع من سماعه
فأسمعهم وأما لاختصار منع من فهمه فأفهمهم أو نحو ذلك قال واطلاقه لفظ الناس يشعر بهذا
قال وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى فقد أطلقوا على قولهم باب كذا اسم
الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعده هذا كلام الشيخ والظاهر أن معناه أنه يفهمهم عنه ويفهمه
عنهم والله أعلم قوله (فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر) أما الجر فبفتح الجيم وهو اسم جمع
الواحدة جرة ويجمع أيضا على جرار وهو هذا الفخار المعروف وفى هذا دليل على جواز
استفتاء المرأة الرجال الأجانب وسماعها صوتهم وسماعهم صوتها للحاجة وفي قوله إن وفد
186

عبد القيس الخ دليل على أن مذهب ابن عباس رضي الله عنه أن النهى عن الانتباذ في هذه
الأوعية ليس بمنسوخ بل حكمه باق وقد قدمنا بيان الخلاف فيه قوله صلى الله عليه وسلم
(مرحبا بالقوم) منصوب على المصدر استعمله العرب وأكثرت منه تريد به البر وحسن اللقاء
ومعناه صادفت رحبا وسعة قوله صلى الله عليه وسلم (غير خزايا ولا ندامى) هكذا هو في
الأصول الندامى بالألف والام وخزايا بحذفهما وروى في غير هذا الموضع بالألف واللام
فيهما وروى باسقاطهما فيهما والرواية فيه غير بنصب الراء على الحال وأشار صاحب التحرير
إلى أنه يروى أيضا بكسر الراء على الصفة للقوم والمعروف الأول ويدل عليه ما جاء في رواية
البخاري مرحبا بالقوم الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى والله أعلم أما خزايا فجمع خزيان
كحيران وحيارى وسكران وسكارى والخزيان المستحى وقيل الذليل المهان وأما الندامى فقيل
أنه جمع ندمان بمعنى نادم وهي لغة في نادم حكاها القزاز صاحب جامع اللغة والجوهري في
صحاحه وعلى هذا هو على بابه وقيل هو جمع نادم اتباعا للخزايا وكان أصل نادمين فأتبع لخزايا
تحسينا للكلام وهذا الاتباع كثير في كلام العرب وهو من فصيحه ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم
ارجعن مأزورات غير مأجورات أتبع مأزورات لمأجورات ولو أفراد ولم يضم إليه مأجورات
لقال موزورات كذا قاله الفراء وجماعات قالوا ومنه قول العرب انى لآتيه بالغدايا والعشايا جمعوا
الغداة على غدايا اتباعا لعشايا ولو أفردت لم يجز الا غدوات وأما معناه فالمقصود أنه لم يكن منكم تأخر عن
الاسلام ولا عناد ولا أصابكم اسار ولا سباء ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه
أو تذلون أو تهانون أو تندمون والله أعلم قوله (فقالوا يا رسول الله انا نأتيك من شقة بعيدة) الشقة بضم الشين
وكسرها لغتان مشورتان أشهرهما وأفصحهما الضم وهي التي جاء بها القرآن العزيز قال الإمام أبو
إسحاق الثعلبي وقرأ عبيد بن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس والشقة السفر البعيد كذا قاله
187

ابن السكيت وابن قتيبة وقطرب وغيرهم قيل سميت شقة لأنها تشق على الانسان وقيل هي المسافة
وقيل الغاية التي يخرج الانسان إليها فعلى القول الأول يكون قولهم بعيدة مبالغة في بعدها والله أعلم
قولهم (فمرنا بأمر فصل) هو بتنوين أمر قال الخطابي وغيره هو البين الواضح الذي ينفصل به
المراد ولا يشكل قوله صلى الله عليه وسلم (وأخبروا به من ورائكم وقال أبو بكر في روايته من
وراءكم) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الأول بكسر الميم والثاني بفتحها وهما يرجعان إلى معنى واحد
قوله (وحدثنا نصر بن علي الجهضمي) هو بفتح الجيم والضاد المعجمة واسكان الهاء بينهما
وقد تقدم بيانه في شرح المقدمة قوله (قالا جميعا) فلفظة جميعا منصوبة على الحال ومعناه
اتفقا واجتمعا على الحديث بما يذكره اما مجتمعين في وقت واحد واما في وقتين ومن اعتقد
188

أنه لابد أن يكون ذلك في وقت واحد فقد غلط غلطا بينا قوله (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للأشج أشج عبد القيس ان فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة) وأما الأشج
فاسمه المنذر بن عائذ بالذال المعجمة العصري بفتح العين والصاد المهملتين هذا هو الصحيح
المشهور الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون أو الكثيرون وقال ابن الكلبي اسمه المنذر بن
الحارث بن زياد بن عصر بن عوف وقيل اسمه المنذر بن عامر وقيل المنذر بن عبيد وقيل اسمه
عائذ بن المنذر وقيل عبد الله بن عوف وأما الحلم فهو العقل وأما الأناة فهي التثبت وترك
العجلة وهي مقصورة وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له ما جاء في حديث الوفد أنهم
لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل
ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقر به النبي صلى الله عليه وسلم
وأجلسه إلى جانبه ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم تبايعون على أنفسكم وقومكم فقال القوم
نعم فقال الأشج يا رسول الله انك لم تزاول الرجل عن شئ أشد عليه من دينه نبايعك على
أنفسنا ونرسل من يدعوهم فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه قال صدقت ان فيك خصلتين
الحديث قال القاضي عياض فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل والحلم هذا القول
الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب قلت ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبى
يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج ان فيك خصلتين الحديث قال
يا رسول الله كانا في أم حدثا قال بل قديم قال قلت الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما
قوله (حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال حدثنا من لقى الوفد الذين قدموا على رسول
189

الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس قال سعيد وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد
الخدري) معنى هذا الكلام أن قتادة حدث بهذا الحديث عن أبي نضرة عن أبي سعيد
الخدري كما جاء مبينا في الرواية التي بعد هذا من رواية ابن أبي عدى وأما أبو عروبة بفتح العين
فاسمه مهران وهكذا يقوله أهل الحديث وغيرهم عروبة بغير ألف ولام وقال ابن قتيبة في
كتابه أدب الكاتب في باب ما تغير من أسماء الناس هو ابن أبي العروبة بالألف واللام يعنى أن
قولهم عروبة لحن وذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف كما ذكره غيره فقال سعيد بن أبي عروبة
يكنى أبا النضر لا عقب له يقال إنه لم يمس امرأة قط واختلط في آخر عمره وهذا الذي قاله
من اختلاطه كذا قاله غيره واختلاطه مشهور وقال يحيى بن معين وخلط سعيد بن أبي عروبة بعد
هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن سنة ثنتين وأربعين يعنى ومائة ومن سمع منه بعد
ذلك فليس بشئ ويزيد بن هارون صحيح السماع منه بواسط وأثبت الناس سماعا منه عبدة بن
سليمان قلت وقد مات سعيد بن أبي عروبة سنة ست وخمسين ومائة وقيل سنة سبع وخمسين
وقد تقرر من القاعدة التي قدمناها أن من علمنا أنه روى عن المختلط في حال سلامته قبلنا
روايته واحتججنا بها ومن روى في حال الاختلاط أو شككنا فيه لم نحتج بروايته وقد قدمنا
أيضا أن من كان من المختلطين محتجا به في الصحيحين فهو محمول على أنه ثبت أخذ ذلك عنه
قبل الاختلاط والله أعلم وأما أبو نضرة بفتح النون واسكان الضاد المعجمة فاسمه المنذر بن
مالك بن قطعة بكسر القاف واسكان الطاء العوقى بفتح العين والواو وبالقاف هذا هو المشهور
190

الذي قاله الجمهور وحكى صاحب المطالع أن بعضهم سكن الواو من العوقى والعوقة بطن من
عبد القيس وهو بصرى والله أعلم وأما أبو سعيد الخدري فاسمه سعد بن مالك بن سنان
منسوب إلى بنى خدرة وكان أبوه مالك رضي الله عنه صحابيا أيضا قتل يوم أحد شهيدا قوله صلى الله عليه وسلم
(فتقذفون فيه من القطيعاء) أما تقذفون فهو بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم
قاف ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم فاء ثم واو ثم نون كذا وقع في الأصول كلها في هذا
الموضع الأول ومعناه تلقون فيه وترمون وأما قوله في الرواية الأخرى وهي رواية محمد بن
المثنى وابن بشار عن ابن أبي عدى وتذيفون به من القطيعاء فليست فيها قاف وروى بالذال
المعجمة وبالمهملة وهما لغتان فصيحتان وكلاهما بفتح التاء وهو من ذاف يذيف بالمعجمة كباع
يبيع وداف يدوف بالمهملة كقال يقول واهمال الدال أشهر في اللغة وضبطه بعض رواة مسلم
بضم التاء على رواية المهملة وعلى رواية المعجمة أيضا جعله من أذاف والمعروف فتحها من
ذاف وأذاف ومعناه على الأوجه كلها خلط والله أعلم وأما القطيعاء فبضم القاف وفتح الطاء
وبالمد وهو نوع من التمر صغار يقال له الشهريز بالشين المعجمة والمهملة وبضمها وبكسرهما
قوله صلى الله عليه وسلم (حتى أن أحدكم أوان أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف) معناه إذا
شرب هذا الشراب سكر فلم يبق له عقل وهاج به الشر فيضرب ابن عمه الذي هو عنده من
أحب أحبابه وهذه مفسدة عظيمة ونبه بها على ما سواها من المفاسد وقوله أحدكم أو أحدهم
شك من الراوي والله أعلم قوله (وفى القول رجل أصابته جراحة) واسم هذا الرجل جهم
191

وكانت الجراحة في ساقه قوله صلى الله عليه وسلم (في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها)
أما الأدم فبفتح الهمزة والدال جمع أديم وهو الجلد الذي تم دباغه وأما يلاث على أفواهها فبضم
المثناة من تحت وتخفيف اللام وآخره ثاء مثلثة كذا ضبطناه وكذا هو في أكثر الأصول وفى
أصل الحافظ أبى عامر العبدري ثلاث بالمثناة فوق وكلاهما صحيح فمعنى الأول يلف الخيط على
أفواهها ويربط به ومعنى الثاني تلف الأسقية على أفواهها كما يقال ضربته على رأسه قوله
(ان أرضنا كثيرة الجرذان) كذا ضبطناه كثيرة بالهاء في آخره ووقع في كثير من الأصول
كثير بغير هاء قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح صح في أصولنا كثير من غير تاء التأنيث
والتقدير فيه على هذا أرضنا مكان كثير الجرذان ومن نظائره قول الله عز وجل رحمة الله
قريب من المحسنين وأما الجرذان فبكسر الجيم واسكان الراء وبالذال المعجمة جمع جرذ بضم
الجيم وفتح الراء كنغر ونغران وصرد وصردان والجرذ نوع من الفار كذا قاله الجوهري وغيره
وقال الزبيدي في مختصر العين هو الذكر من الفار وأطاق جماعة من شراح الحديث أنه الفار
قوله صلى الله عليه وسلم (وان أكلتها الجرذان وان أكلتها الجرذان وان أكلتها الجرذان)
هكذا هو في الأصول مكرر ثلاث مرات قوله (قالا ثنا بن أبي عدي) هو محمد بن إبراهيم وإبراهيم هو
192

أبو عدي قوله (حدثنا أبو عاصم عن ابن جرير) وأما أبو عاصم فالضحاك بن مخلد النبيل
وأما ابن جريج فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج قوله (حدثني محمد بن رافع ثنا
عبد الرزاق انا ابن جريج قال أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد
الخدري أخبره) هذا الاسناد معدود في المشكلات وقد اضطربت فيه أقوال الأئمة وأخطأ
فيه جماعات من كبار الحفاظ والصواب فيه ما حققه وحرره وبسطه وأوضحه الامام الحافظ أبو
موسى الأصبهاني في الجزء الذي جمعه فيه وما أحسنه وأجوده وقد لخصه الشيخ أبو عمرو بن
الصلاح رحمه الله فقال هذا الاسناد أحد المعضلات ولاعضاله وقع فيه تعبيرات من جماعة
واهمة فمن ذلك رواية أبي نعيم الأصبهاني في مستخرجه على كتاب مسلم باسناده أخبرني أبو
قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري أخبره وهذا يلزم منه أن يكون أبو
قزعة هو الذي أخبر أبا نضرة وحسنا عن أبي سعيد ويكون أبو قزعة هو الذي سمع من أبي
سعيد وذلك منتف بلا شك ومن ذلك أن أبا على الغساني صاحب تقييد المهمل رد رواية
مسلم هذه وقلده في ذلك صاحب المعلم ومن شأنه تقليده فيما يذكره من علم الأسانيد
وصوبهما في ذلك القاضي عياض فقال أبو علي الصواب في الاسناد عن ابن جريج قال
أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبراه أن أبا سعيد أخبره وذكر أنه إنما قال أخبره
ولم يقل أخبرهما لأنه رد الضمير إلى أبي نضرة وحده وأسقط الحسن لموضع الارسال فإنه لم
يسمع من أبي سعيد ولم يلقه وذكر أنه بهذا اللفظ الذي ذكره مسلم خرجه أبو علي بن
السكن في مصنفه باسناده قال وأظن أن هذا من اصلاح ابن السكن وذكر الغساني أيضا أنه
رواه كذلك أبو بكر البزار في مسنده الكبير باسناده وحكى عنه وعن عبد الغني بن سعيد
الحافظ أنهما ذكرا أن حسنا هذا هو الحسن البصري وليس الأمر في ذلك على ما ذكروه بل
193

ما أورده مسلم في هذا الاسناد هو الصواب وكما أورده رواه أحمد بن حنبل عن روح بن
عبادة عن ابن جريج وقد انتصر له الحافظ أبو موسى الأصبهاني رحمه الله وألف في ذلك
كتابا لطيفا تبجح فيه باجادته واصابته مع وهم غير واحد فيه فذكر أن حسنا هذا هو
الحسن بن مسلم بن يناق الذي روى عنه ابن جريج غير هذا الحديث وأن معنى هذا الكلام
أن أبا نضرة أخبر بهذا الحديث أبا قزعة وحسن بن مسلم كليهما ثم أكد ذلك بأن أعاد
فقال أخبرهما أن أبا سعيد أخبره يعني أخبر أبو سعيد أبا نضرة وهذا كما تقول ان زيدا
جاءني وعمرا جاءني فقالا كذا وكذا وهذا من فصيح الكلام واحتج على أن حسنا فيه هو الحسن
ابن مسلم بن يناق بن سلمة بن شبيب وهو ثقة رواه عن عبد الرزاق عن ابن جرير قال أخبرني
أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسن بن مسلم بن يناق أخبرهما أن أبا سعيد أخبره الحديث
ورواه أبو الشيخ الحافظ في كتابه المخرج على صحيح مسلم وقد أسقط أبو مسعود الدمشقي
وغيره ذكر حسن من الاسناد لأنه مع اشكاله لا مدخل له في الرواية وذكر الحافظ أبو موسى
ما حكاه أبو علي الغساني وبين بطلانه وبطلان رواية من غير الضمير في قوله أخبرهما وغير
ذلك من التغيرات ولقد أجاد وأحسن رضي الله عنه هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو رحمه الله
وفى هذا القدر الذي ذكره أبلغ كفاية وإن كان الحافظ أبو موسى قد أطنب في بسطه وايضاحه
بأسناده واستشهاداته ولا ضرورة إلى زيادة على هذا القدر والله أعلم وأما أبو قزعة المذكور
فاسمه سويد بن حجير بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة وآخره راء وهو باهلي بصري انفرد
مسلم بالرواية له دون البخاري وقزعة بفتح القاف وبفتح الزاي واسكانها ولم يذكر أبو علي
الغساني في تقييد المهمل سوى الفتح وحكى القاضي عياض فيه الفتح والاسكان ووجد بخط
ابن الأنباري بالاسكان وذكر ابن مكي في كتابه فيما يلحن فيه أن الاسكان هو الصواب والله
أعلم قولهم (جعلنا الله فداك) هو بكسر الفاء وبالمد ومعناه يقيك المكاره قوله صلى الله عليه وسلم
194

(وعليكم بالموكى) هو بضم الميم واسكان الواو مقصور غير مهموز ومعناه انبذوا في
السقاء الدقيق الذي يوكى أي يربط فوه بالوكاء وهو الخيط الذي يربط به والله أعلم هذا ما يتعلق
بألفاظ هذا الحديث وأما أحكامه ومعانيه فقد اندرج جمل منها فيما ذكرته وأنا أشير
إليها ملخصة مختصرة مرتبة ففي هذا الحديث وفادة الرؤساء والأشراف إلى الأئمة عند الأمور
المهمة وفيه تقديم الاعتذار بين يدي المسألة وفيه بيان مهمات الاسلام وأركانه ما سوى الحج
وقد قدمنا أنه لم يكن فرض وفيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم ببعض أصحابه
كما فعله ابن عباس رضي الله عنهما وقد يستدل به على أنه يكفي في الترجمة في الفتوى والخبر
قول واحد وفيه استحباب قول الرجل لزواره والقادمين عليه مرحبا ونحوه والثناء عليهم ايناسا
وبسطا وفيه جواز الثناء على الانسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة باعجاب ونحوه وأما استحبابه
فيختلف بحسب الأحوال والأشخاص وأما النهي عن المدح في الوجه فهو في حق من يخاف
عليه الفتة بما ذكرناه وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة في الوجه فقال صلى الله عليه وسلم
لأبى بكر رضي الله عنه لست منهم وقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لا تبك
ان أمن الناس على صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت
أبا بكر خليلا وقال له وأرجو أن تكون منهم أي من الذين يدعون من أبواب الجنة وقال صلى الله عليه وسلم
ائذن له وبشره بالجنة وقال صلى الله عليه وسلم أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق
وشهيدان وقال صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة ورأيت قصرا فقلت لمن هذا قالوا لعمر
ابن الخطاب فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك فقال عمر رضي الله عنه بأبى أنت وأمي يا رسول
الله أعليك أغار وقال له ما لقيك الشيطان سالكا فجا غير فجك وقال صلى الله عليه وسلم
افتح لعثمان وبشره بالجنة وقال لعلى رضي الله عنه أنت منى وأنا منك وفى الحديث الآخر
أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى وقال صلى الله عليه وسلم لبلال سمعت دق
نعليك في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم لعبد بن سلام أنت على الاسلام حتى تموت وقال
للأنصاري ضحك الله عز وجل أو عجب من فعالكما وقال للأنصار أنتم من أحب الناس إلى
195

ونظائر هذا كثيرة من مدحه صلى الله عليه وسلم في الوجه وأما مدح الصحابة والتابعين
فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يقتدى بهم رضي الله عنهم أجمعين فأكثر من أن
يحصر والله أعلم وفي حديث الباب من الفوائد أنه لا عتب على طالب العلم والمستفتي إذا
قال للعالم أوضح لي الجواب ونحو هذه العبارة وفيه أنه لا بأس بقول رمضان من غير ذكر الشهر
وفيه جواز مراجعة العالم على سبيل الاسترشاد والاعتذار ليتلطف له في جواب لا يشق عليه
وفيه تأكيد الكلام وتفخيمه ليعظم وقعه في النفس وفيه جواز قول الانسان لمسلم جعلني الله
فداك فهذه أطراف مما يتعلق بهذا الحديث وهي وأن كانت طويلة فهي مختصرة بالنسبة إلى طالبي
التحقيق والله أعلم وله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة
باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الاسلام
فيه بعث معاذ إلى اليمن وهو متفق عليه في الصحيحين قوله (عن أبي معبد عن أبن عباس
عن معاذ قال أبو بكر وربما قال وكيع عن ابن عباس ان معاذا قال) هذا الذي فعله مسلم
رحمه الله نهاية التحقيق والاحتياط والتدقيق فإن الرواية الأولى قال فيها عن
معاذ والثانية أن معاذا وبين أن وعن فرق فإن الجماهير قالوا أن كعن فيحمل على الاتصال وقال جماعة لا تلتحق
ان بعن بل تحمل ان على الانقطاع ويكون مرسلا ولكنه هنا يكون مرسل صحابي له حكم
المتصل على المشهور من مذاهب العلماء وفيه قول الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني الذي قدمناه
في الفصول أنه لا يحتج به فاحتاط مسلم رحمه الله وبين اللفظين والله أعلم وأما أبو معبد فاسمه
نافذ بالنون والفاء والذال المعجمة وهو مولى ابن عباس قال عمرو بن دينار كان من أصدق
موالي ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم (انك تأتى قوما من أهل الكتاب
196

فادعهم إلى شهادة أن لا إله الا الله وانى رسول الله فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى
افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم
صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة
المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أما الكرائم فجمع كريمة قال صاحب المطالع هي
جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم أو صوف وهكذا
الرواية فإياك وكرائم بالواو في قوله وكرائم قال ابن قتيبة ولا يجوز إياك كرائم أموالهم بحذفها
ومعنى ليس بينها وبين الله حجاب أي انها مسموعة لا ترد وفي هذا الحديث قبول خبر الواحد
ووجوب العمل به وفيه أن الوتر ليس بواجب لان بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
بقليل بعد الامر بالوتر والعمل به وفيه أن السنة أن الكفار يدعون إلى التوحيد
قبل القتال وفيه أنه لا يحكم باسلامه الا بالنطق بالشهادتين وهذا مذهب أهل السنة كما قدمنا
بيانه في أول كتاب الايمان وفيه ان الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة وفيه بيان عظم
تحريم الظلم وأن الامام ينبغي أن يعظ ولاته ويأمرهم بتقوى الله تعالى ويبالغ في نهيهم عن
الظلم ويعرفهم قبح عاقبته وفيه أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم المال في أداء الزكاة بل يأخذ
الوسط ويحرم على رب المال اخراج شر المال وفيه ان الزكاة لا تدفع إلى كافر ولا تدفع
أيضا إلى غنى من نصيب الفقراء واستدل به الخطابي وسائر أصحابنا على أن الزكاة لا يجوز
نقلها عن بلد المال لقوله صلى الله عليه وسلم فترد في فقرائهم وهذا الاستدلال ليس بظاهر
لان الضمير في فقرائهم محتمل لفقراء المسلمين ولفقراء أهل تلك البلدة والناحية وهذا الاحتمال
197

أظهر واستدل به بعضهم على أن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة من الصلاة والصوم
والزكاة وتحريم الزنا ونحوها لكونه صلى الله عليه وسلم قال فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم ان
عليهم فدل على أنهم إذا لم يطيعوا لا يجب عليهم وهذا الاستدلال ضعيف فإن المراد أعلمهم أنهم
مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا والمطالبة في الدنيا لا تكون الا بعد الاسلام وليس
يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها يزاد في عذابهم بسببها في الآخرة ولأنه صلى الله عليه وسلم
رتب ذلك في الدعاء إلى الاسلام وبدأ بالأهم ألا تراه بدأ صلى الله عليه وسلم
بالصلاة قبل الزكاة ولم يقل أحد أنه يصير مكلفا بالصلاة دون الزكاة والله أعلم ثم اعلم أن
المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه هذا قول المحققين
والأكثرين وقيل ليسوا مخاطبين بها وقيل مخاطبون بالمنهى دون المأمور والله أعلم قال
الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذا الذي وقع في حديث معاذ من ذكر بعض دعائم
الاسلام دون بعض هو من تقصير الراوي كما بيناه فيما سبق من نظائره والله أعلم قوله (في
الرواية الثانية حدثنا ابن أبي عمر) هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني أبو عبد الله سكن
مكة وفيها عبد ابن حميد هو الامام المعروف صاحب المسند يكنى أبا محمد قيل اسمه عبد الحميد
وفيها أبو عاصم هو النبيل الضحاك بن مخلد قوله (عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم
بعث معاذا) هذا اللفظ يقتضى أن الحديث من مسند ابن عباس وكذلك الرواية التي
بعده وأما الأولى فمن مسند معاذ ووجه الجمع بينهما أن يكون ابن عباس سمع الحديث من معاذ
فرواه تارة عنه متصلا وتارة أرسله فلم يذكر معاذا وكلاهما صحيح كما قدمناه أن مرسل
الصحابي إذا لم يعرف المحذوف يكون حجة فكيف وقد عرفناه في هذا الحديث أنه معاذ
ويحتمل ان ابن عباس سمعه من معاذ وحضر القضية فتارة رواها بلا واسطة لحضوره إياها
وتارة رواها عن معاذ اما لنسيانه الحضور واما لمعنى آخر والله أعلم
198

قوله (حدثنا أمية ابن بسطام العيشي) أما بسطام فبكسر الباء الموحدة هذا هو المشهور وحكى
صاحب المطالع أيضا فتحها واختلف واختلف في صرفه فمنهم من صرفه ومنهم من لم يصرفه قال الشيخ
أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله بسطام عجمي لا ينصرف قال ابن دريد ليس من كلام العرب
قال ووجدته في كتاب ابن الجواليقي في المعرب مصروفا وهو بعيد هذا كلام الشيخ أبى عمرو
وقال الجوهري في الصحاح بسطام ليس من أسماء العرب وإنما سمى قيس بن مسعود ابنه
بسطاما باسم ملك من ملوك فارس كما سموا قابوس فعربوه بكسر الباء والله أعلم واما العايشي
فبالشين المعجمة وهو منسوب إلى بنى عايش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة وكان أصله العايشي
ولكنهم خففوه قال الحاكم أبو عبد الله والخطيب أبو بكر البغدادي العيشيون
بالشين المعجمة بصريون والعبسيون بالباء الموحدة والسين المهملة كوفيون والعنسيون بالنون
والسين المهملة شاميون وهذا الذي قالاه هو الغالب والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم إلى آخره) قال القاضي
عياض رحمه الله هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى وهو مذهب حذاق المتكلمين
في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله تعالى وان كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته
لدلالة السمع عندهم على هذا وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا قال
القاضي عياض رحمه الله ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود أو أجاز عليه البداء أو
أضاف إليه الولد منهم أو أضاف إليه الصاحبة والولد وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج
من النصارى أو وصفه مما لا يليق به أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس
199

والثنوية فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وان سموه به إذ ليس موصوفا بصفات الاله الواجبة
له فاذن ما عرفوا الله سبحانه فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا
وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة هذا
آخر كلام القاضي رحمه الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخيرة (فأخبرهم أن
الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم) قد يستدل بلفظه من أموالهم على أنه إذا امتنع من
الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره وهذا الحكم لا خلاف فيه ولكن هل تبرأ ذمته ويجزيه
ذلك في الباطن فيه وجهان لأصحابنا والله أعلم
باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله
(ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم)
(وان من فعل ذلك عصم نفسه وماله الا بحقها ووكلت سريرته إلى الله تعالى)
(وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الاسلام واهتمام الامام بشعائر الاسلام)
أما أسماء الرواة ففيه عقيل عن الزهري هو بضم العين وتقدم في الفصول بيانه وفيه يونس
وقد تقدم بيانه وأن فيه ستة أوجه ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز وتركه وفيه سعيد
ابن المسيب وقد قدمنا أن المسيب بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها وفيه أحمد بن عبدة
باسكان الباء وفيه أمية بن بسطام تقدم بيانه في الباب قبله وفيه حفص بن غياث عن الأعمش
عن أبي سفيان عن جابر وعن أبي صالح عن أبي هريرة فقوله وعن أبي صالح يعنى رواه الأعمش
200

أيضا عن أبي صالح وقد تقدم أن اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو
ثلاثين قولا وان اسم أبى صالح ذكوان السمان وأن اسم أبي سفيان طلحة بن نافع وأن اسم الأعمش
سليمان بن مهران وأما غياث فبالغين المعجمة وآخره مثلثة وفيه أبو الزبير وقد تقدم في كتاب
الايمان أن اسمه محمد بن مسلم بن تدرس بفتح المثناة فوق وفيه أبو غسان المسمعي مالك بن
عبد الواحد هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية واسكان المهملة بينهما منسوب إلى مسمع بن ربيعة
وتقدم بيان صرف غسان وعدمه وأنه يجوز الوجهان فيه وفيه واقد بن محمد وهو بالقاف وقد قدمنا
في الفصول أنه ليس في الصحيحين وافد بالفاء بل كله بالقاف وفيه أبو خالد الأحمر وأبو مالك عن
أبيه فأبو مالك اسمه سعد بن طارق وطارق الصحابي وقد تقدم ذكرهما في باب أركان الاسلام وتقدم
فيه أيضا أن أبا خالد اسمه سليمان بن حيان بالمثناة وفيه عبد العزيز الدراوردي وهو بفتح الدال
المهملة وبعدها راء ثم ألف ثم واو مفتوحة ثم راء أخرى ساكنة ثم دال أخرى ثم ياء النسب
واختلف في وجه نسبته فالأصح الذي قاله المحققون انه نسبة إلى داربجرد بفتح الدال الأولى
وبعدها راء ثم الف ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم مكسورة ثم راء ساكنة ثم دال فهذا قول
جماعات من أهل العربية واللغة منهم الأصمعي وأبو حاتم السجستاني وقاله من المحدثين أبو عبد الله
البخاري الامام وأبو حاتم بن حبان البستي وأبو نصر الكلاباذي وغيرهم قالوا وهو من شواذ
النسب قال أبو حاتم وأصله درابى أو جردي ودرابى أجود قالوا ودرابجرد مدينة بفارس قال
البخاري والكلاباذي كان جد عبد العزيز هذا منها وقال البستي كان أبوه منها وقال ابن قتيبة
وجماعة من أهل الحديث هو منسوب إلى دارورد ثم قيل دراورد هي درابحرد وقيل بل هي
قرية بخراسان وقال السمعاني في كتاب الأنساب قيل إنه من أندرابه يعنى بفتح الهمزة وبعدها
نون ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ثم راء ثم ألف ثم باء موحدة ثم هاء وهي مدينة من عمل بلخ
وهذا الذي قاله السمعاني لائق بقول من يقول فيه الاندراوردي وأما فقهه ومعاينه فقوله
(لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده وكفر من كفر
201

من العرب) قال الخطابي رحمه الله في شرح هذا الكلام كلاما حسنا لا بد من ذكره لما فيه من
الفوائد قال رحمه الله مما يجب تقديمه في هذا ان يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين صنف ارتدوا
عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله وكفر من كفر
من العرب وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة من بنى حنيفة وغيرهم الذين صدقوه
على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم وهذه
الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر
رضي الله عنه حتى قتل الله مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم
والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور
الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله تعالى في بسيط الأرض الا في
ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس في البحرين في قرية يقال لها
جواثا ففي ذلك يقول الأعور الشنى يفتخر بذلك
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا * والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه * الا بطيبة والمحجوب ذي الحجب
وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى أن فتح الله سبحانه على المسلمين
اليمامة فقال بعضهم وهو رجل من بنى أبى بكر بن كلاب يستنجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه
الا أبلغ أبا بكر رسولا * وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام * يقعود في جواثا محصرينا
كأن دمائهم في كل فج * دماء البدن تغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا النصر للمتوكلينا
والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة
ووجوب أدائها إلى الامام وهؤلاء على الحقيقة أهل بغى وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك
202

الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم
الامرين وأهمهما وأرخ قتال أهل البغي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كانوا
منفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح
بالزكاة ولا يمنعها الا ان رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني
يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبى بكر رضي الله عنه
فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم وفي امر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر
رضي الله عنه فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله وكان هذا
من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل ان ينظر في آخره ويتأمل شرائطه فقال له أبو
بكر رضي الله عنه ان الزكاة حق المال يريد ان القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء
شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة
إليها وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان اجماعا من الصحابة وكذلك
رد المختلف فيه إلى المتفق عليه فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر رضي الله عنه بالعموم
ومن أبى بكر رضي الله عنه بالقياس ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس وان جميع ما تضمنه
الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته به فما استقر عند
عمر صحة رأى أبى بكر رضي الله عنهما وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله فلما
رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال عرفت انه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي
أدلى بها والبرهان الذي اقامه نصا ودلالة وقد زعم زاعمون من الرافضة ان أبا بكر رضي الله عنه
أول من سبى المسلمون وان القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب
في قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم
خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وانه مقيد بشرائط لا توجد فيمن
سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم
ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن
قتالهم كان عسفا قال الخطابي رحمه الله وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين
203

وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم
من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وانكر الشرائع
كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبى ذراريهم
وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالة رضي الله عنه جارية من سبى بنى
حنيفة فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى اجمعوا على أن المرتد
لا يسبى فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغى ولم يسموا على الانفراد
منهم كفارا وان كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق
الدين وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتد عنه وقد
وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين
وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا وأما قوله تعالى من أموالهم
صدقة وما ادعوه من كون الخطاب خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطاب كتاب الله
تعالى على ثلاثة أوجه خطاب عام كقوله تعالى أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية وكقوله
تعالى أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه
غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى الليل فتهجد به
نافلة لك لا تعالى لك من دون المؤمنين وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم
وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى الصلاة لدلوك الشمس وكقوله تعالى
قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم لا تعالى كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة
ونحو ذلك من خطاب المواجهة فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه
فيه الأمة فكذا قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر
الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب
أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر
في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم وعلى هذا المعنى قوله تعالى أيها النبي إذا طلقتم النساء
فطلقوهن لعدتهن فافتتح الخطاب بالنبوة باسمه خصوصا ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما
وربما كان الخطاب له مواجهته والمراد غيره كقوله تعالى كنت في شك مما أنزلنا إليك
204

فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك إلى قوله تكونن من الممترين ولا يجوز أن يكون
صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شئ مما أنزل إليه فأما التطهير والتزكية والدعاء من الامام
لصاحب الصدقة فان الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
فيها وكل الثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع ويستحب
للامام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا
يخيب مسألته فإن قيل كيف تأولت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه
وجعلتهم أهل بغى وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من
أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي قلنا لا فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرا
باجماع المسلمين والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في
هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ ومنها أن
القوم كانوا جهالا بأمور الدين وكان عهدهم بالاسلام قريبا فدخلتهم الشبهة فعذروا فأما اليوم وقد
شاع دين الاسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه
العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في انكارها وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا
مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان
والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ونحوها من الأحكام الا أن
يكون رجلا حديث عهد بالاسلام ولا يعرف حدوده فإنه إذا أنكر شيئا منها جهلا به لم يكفر
وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه فأما ما كان الاجماع فيه معلوما من طريق
علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأن القاتل عمدا لا يرث وأن للجدة السدس
وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة
قال الخطابي رحمه الله وإنما عرضت الشبهة لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنه لكثرة ما دخله من
الحذف في رواية أبي هريرة وذلك لأن القصد به لم يكن سياق الحديث على وجه وذكر القصة
في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبى بكر وعمر رضي الله عنهما وما تنازعاه
في استباحة قتالهم ويشبه أن يكون أبو هريرة إنما لم يعن بذكر جميع القصة اعتمادا على معرفة
المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا كيفية القصة ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله
205

ابن عمر وأنسا رضي الله عنهم روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم
الا بحق الاسلام وحسابهم على الله وفى رواية أنس رضي الله عنه أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا
صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم الا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين والله أعلم هذا آخر كلام الخطابي رحمه الله قلت وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور
في الكتاب من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقاتل الناس حتى يشهدوا
أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم الا بحقها وفى
استدلال أبى بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة وكأن هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادات التي في رواياتهم في مجلس
آخر فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث فإنه بهذه الزيادة حجة عليه
ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم والله أعلم
قوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله
ونفسه الا بحقه وحسابه على الله) قال الخطابي رحمه الله معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان
دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنه السيف قال ومعنى
وحسابه على الله أي فيما يستسرون به ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة
قال ففيه أن من أظهر الاسلام وأسر الكفر قبل اسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء
وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لاتقبل ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما
هذا كلام الخطابي وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه فقال اختصاص عصمة
206

المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الايمان وأن المراد بهذا مشركو
العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعى إلى الاسلام وقوتل عليه فأما غيرهم
ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من
اعتقاده فلذلك جاء في الحديث الآخر وأنى رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة هذا كلام
القاضي قلت ولا بد مع هذا من الايمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء
في الرواية الأخرى لأبى هريرة هي مذكورة في الكتاب حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا
بي وبما جئت به والله أعلم قلت اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر
الشرع جملة فذكروا فيه خمسة أوجه لأصحابنا أصحها والأصوب منها قبولها مطلقا للأحاديث
الصحيحة المطلقة والثاني لا تقبل ويتحتم قتله لكنه ان صدق في توبته نفعه ذلك في الدار
الآخرة وكان من أهل الجنة والثالث ان تاب مرة واحدة قبلت توبته فان تكرر ذلك منه لم
تقبل والرابع ان أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا والخامس إن كان
داعيا إلى الضلال لم يقبل منه والا قبل منه والله أعلم قوله رضي الله عنه (والله لأقاتلن من
فرق بين الصلاة والزكاة) ضبطنا بوجهين فرق وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه من
أطاع في الصلاة وجحد الزكاة أو منعها وفيه جواز الحلف وإن كان في غير مجلس الحاكم وأنه
ليس مكروها إذا كان لحاجة من تفخيم أمر ونحوه قوله (والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعه) هكذا في مسلم عقالا وكذا في بعض
روايات البخاري وفى بعضها عناقا بفتح العين وبالنون وهي الأنثى من ولد المعز وكلاهما صحيح
وهو محمول على أنه كرر الكلام مرتين فقال في مرة عقالا وفى الأخرى عناقا فروى عنه
اللفظان فأما رواية العناق فهي محمولة على ما إذا كانت الغنم صغارا كلها بأن ماتت أماتها في بعض
الحول فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمات سواء بقي من الأمات شئ
207

أم لا هذا هو الصحيح المشهور وقال أبو القاسم الأنماطي من أصحابنا لا يزكى الأولاد بحول
الأمات الا أن يبقى من الأمات نصاب وقال بعض أصحابنا الا أن يبقى من الأمهات شئ
ويتصور ذلك فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى
الصغار والله أعلم وأما رواية عقالا فقد اختلف العلماء قديما وحديثا فيها فذهب جماعة
منهم إلى أن المراد بالعقال زكاة عام وهو معروف في اللغة بذلك وهذا قول النسائي والنضر بن
شميل وأبى عبيدة والمبرد وغيرهم من أهل اللغة وهو قول جماعة من الفقهاء واحتج هؤلاء على أن
العقال يطلق على زكاة العام بقول عمرو بن العداء
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد مدة عقال فنصبه على الظرف وعمرو هذا الساعي هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ولاه عمه
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما صدقات كلب فقال فيه قائلهم ذلك قالوا ولأن العقال
الذي هو الحبل الذي يعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه فلا يصح حمل
الحديث عليه وذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير
وهذا القول يحكى عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من
حذاق المتأخرين قال صاحب التحرير قول من قال المراد صدقة عام تعسف وذهاب عن طريقة
العرب لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة فتقتضى قلة ما علق به القتال
وحقارته وإذا حمل على صدق العام لم يحصل هذا المعنى قال ولست أشبه هذا الا بتعسف من قال
في قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده
ان المراد بالبيضة بيضة الحديد التي يغطى بها الرأس في الحرب وبالحبل الواحد من حبال السفينة
وكل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة قال بعض المحققين ان هذا القول لا يجوز عند من
يعرف اللغة ومخارج كلام العرب لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرقه فيصرف إليه بيضة
تساوى دنانير وحبل لا يقدر السارق على حمله وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا
قبح الله فلانا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك
وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث أو في كبة شعر وكل
ما كان من هذا أحقر كان أبلغ فالصحيح هنا أنه أراد به العقال الذي يعقل به البعير ولم يرد
208

عينه وإنما أراد قدر قيمته والدليل على هذا أن المراد به المبالغة ولهذا قال في الرواية الأخرى
عناقا وفى بعضها لو منعوني جديا أذوط والأذوط صغير الفك والذقن هذا آخر كلام صاحب
التحرير وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره وعلى هذا اختلفوا في المراد بمنعوني
عقالا فقيل قدر قيمته وهو ظاهر متصور في زكاة الذهب والفضة والمعشرات والمعدن والزكاة
وزكاة الفطر وفى المواشي أيضا في بعض أحوالها كما إذا وجب عليه سن فلم يكن عنده ونزل
إلى سن دونها واختار أن يرد عشرين درهما فمنع من العشرين قيمة عقال وكما إذا كانت غنمه
سخالا وفيها سخلة فمنعها وهي تساوى عقالا ونظائر ما ذكرته كثيرة معروفة في كتب الفقه
وإنما ذكرت هذه الصورة تنبيها بها على غيرها وعلى أن متصور ليس بصعب فانى رأيت كثيرين
ممن لم يعان الفقه يستصعب تصوره حتى حمله بعضهم وربما وافقه بعض المتقدمين على أن ذلك
للمبالغة وليس متصورا وهذا غلط قبيح وجهل صريح وحكى الخطابي عن بعض العلماء أن
معناه منعوني زكاة لعقال إذا كان من عروض التجارة وهذا تأويل صحيح أيضا ويجوز أن يراد
منعوني عقالا أي منعوني الحبل نفسه على مذهب من يجوز القيمة ويتصور على مذهب الشافعي
رحمه الله على أحد أقواله فإن للشافعي في الواجب في عروض التجارة ثلاثة أقوال أحدها يتعين
أن يأخذ منها عرضا حبلا أو غيره كما يأخذ من الماشية من جنسها والثاني أنه لا يأخذ الا دراهم
أو دنانير ربع عشر قيمته كالذهب والفضة والثالث يتخير بين العرض والنقد والله أعلم وحكى
الخطابي عن بعض أهل العلم أن العقال يؤخذ مع الفريضة لأن على صاحبها تسليمها وإنما يقع
قبضها التام برباطها قال الخطابي قال ابن عائشة كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة أن يعمد
إلى قرن وهو بفتح القاف والراء وهو حبل فيقرن به بين بعيرين أي يشده في أعناقهما لئلا
تشرد الإبل وقال أبو عبيد وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على الصدقة فكان
يأخذ مع كل فريضتين عقالهما وقرانهما وكان عمر رضي الله عنه أيضا يأخذ مع كل فريضة
عقالا والله أعلم قوله (فما هو الا أن رأيت الله تعالى قد شرح صدر أبى بكر للقتال
209

فعرفت أنه الحق) معنى رأيت علمت وأيقنت ومعنى شرح فتح ووسع ولين ومعناه علمت
بأنه جازم بالقتال لما ألقى الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة لذلك واستصوابه ذلك
ومعنى قوله عرفت أنه الحق أي بما أظهر من الدليل وأقامه من الحجة فعرفت بذلك
أن ما ذهب إليه هو الحق لا أن عمر قلد أبا بكر رضي الله عنهما فإن المجتهد لا يقلد المجتهد
وقد زعمت الرافضة أن عمر رضي الله عنه إنما وافق أبا بكر تقليدا وبنوه على مذهبهم
الفاسد في وجوب عصمة الأئمة وهذه جهالة ظاهرة منهم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
في الرواية الأخرى (أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا
بي وبما جئت به) فيه بيان ما اختصر في الروايات الأخر من الاقتصار على قول لا إله إلا الله
وقد تقدم بيان هذا وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الانسان
إذا اعتقد دين الاسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك وهو مؤمن من الموحدين ولا يجب
عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في كونه من
210

أهل القبلة وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين الا به وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة
وبعض أصحابنا المتكلمين وهو خطأ ظاهر فان المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم ولم يشترط المعرفة بالدليل
فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي وقد
تقدم ذكر هذه القاعدة في أول الايمان والله أعلم قوله (ثم قرأ إنما أنت مذكر لست
عليهم بمسيطر) قال المفسرون معناه إنما أنت واعظ ولم يكن صلى الله عليه وسلم أمر إذ ذاك
الا بالتذكير ثم أمر بعد بالقتال والمسيطر المسلط وقيل الجبار وقيل الرب والله أعلم واعلم أن
هذا الحديث نطرقه مشتمل على أنواع من العلوم وجمل من القواعد وأنا أشير إلى أطراف منها
مختصرة ففيه أدل دليل على شجاعة أبى بكر رضي الله عنه وتقدمه في الشجاعة والعلم على
غيره فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها المسلمين
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره
211

ما لم يشاركه في الابتداء به غيره فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه
أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه
أشياء كثيرة مشهورة في الأصول وغيرها ومن أحسنها كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم للامام
أبى المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي وفيه جواز مراجعة الأئمة والأكابر ومناظرتهم لاظهار
الحق وفيه أن الايمان شرطه الاقرار بالشهادتين مع اعتقادهما اعتقاد جميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جمع ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
ويؤمنوا بي وبما جئت به وفيه وجوب الجهاد وفيه صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه
ولو كان عند السيف وفيه أن الأحكام تجرى على الظاهر والله تعالى يتولى السراء وفيه جواز
القياس والعمل به وفيه وجوب قتال ما نعى الزكاة أو الصلاة أو غيرهما من واجبات الاسلام
قليلا كان أو كثيرا لقوله رضي الله عنه لو منعوني عقالا أو عناقا وفيه جواز التمسك بالعموم لقوله
212

فان الزكاة حق المال وفيه وجوب قتال أهل البغي وفيه وجوب الزكاة في السخال تبعا لأمهاتها
وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول ومناظرة أهل العلم فيها ورجوع من ظهر له
الحق إلى قول صاحبه وفيه ترك تخطئة المجتهدين المختلفين في الفروع بعضهم بعضا وفيه أن الاجماع
لا ينعقد إذا خالف من أهل الحل والعقد واحد وهذا هو الصحيح المشهور وخالف فيه أصحاب
الأصول وفيه قبول توبة الزنديق وقد قدمت الخلاف فيه واضحا والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وله الحمد والنعمة والفضل والمنة وبه التوفيق والعصمة
باب الدليل على صحة اسلام من حضره الموت
(ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين والدليل على أن)
(من مات على الشرك فهو من أصحاب الجحيم ولا ينقذه من ذلك شئ من الوسائل)
فيه حديث وفاة أبى طالب وهو حديث اتفق البخاري ومسلم على اخراجه في صحيحيهما من
رواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يروه عن المسيب الا
ابنه سعيد كذا قاله الحافظ وفى هذا رد على الحاكم أبى عبد الله بن البيع الحافظ رحمه الله
في قوله لم يخرج البخاري ولا مسلم رحمهما الله عن أحد ممن لم يرو عنه الا راو واحد ولعله
أراد من غير الصحابة والله أعلم أما أسماء رواة الباب ففيه حرملة التجيبي وقد تقدم بيانه
في المقدمة وأن الأشهر فيه ضم التاء ويقال بفتحها واختاره بعضهم وتقدمت اللغات
الست في يونس فيها وتقدم الخلاف في فتح الياء من المسيب والد سعيد هذا خاصة
وكسرها وأن الأشهر الفتح واسم أبى طالب عبد مناف واسم أبى جهل عمرو بن هشام وفيه
صالح عن الزهري عن ابن المسيب هو صالح بن كيسان وكان أكبر سننا من الزهري وابتدأ بالتعلم
من الزهري ولصالح تسعون سنة مات بعد الأربعين ومائة واجتمع في الاسناد طرفتان
إحداهما رواية الأكابر عن الأصاغر والأخرى ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وفيه أبو حازم
عن سهل عن أبي هريرة وقد تقدم أن أبا حازم الراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة
213

وأما أبو حازم عن سهل بن سعد فاسمه سلمة بن دينار وأما قوله (لما حضرت أبا طالب
الوفاة) فالمراد قربت وفاته وحضرت دلائلها وذلك قبل المعاينة والنزع ولو كان في حال المعاينة
والنزع لما نفعه الايمان ولقول الله تعالى التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا
حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلى الله عليه وسلم
ومع كفار قريش قال القاضي عياض رحمه الله وقد رأيت بعض المتكلمين على هذا الحديث
جعل الحضور هنا على حقيقة الاحتضار وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجا بقوله ذلك حينئذ
أن تنال الرحمة ببركته صلى الله عليه وسلم قال القاضي رحمه الله وليس هذا بصحيح لما قدمناه
وأما قوله (فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة) فهكذا
وقع في جميع الأصول ويعيد له يعنى أبا طالب وكذا نقله القاضي رحمه الله عن جميع الأصول
والشيوخ قال وفى نسخة ويعيدان له على التثنية لأبى جهل وابن أبي أمية قال القاضي وهذا
أشبه وقوله يعرضها بفتح الياء وكسر الراء وأما قوله (قال أبو طالب آخر ما كلمهم به هو على
ملة عبد المطلب) فهذا من أحسن الآداب والتصرفات وهو أن من حكى قول غيره القبيح أتى
به بضمير الغيبة لقبح صورة لفظه الواقع وأما قوله صلى الله عليه وسلم (أم والله لأستغفرن
214

لك) فهكذا ضبطناه أم غير ألف بعد الميم وفى كثير من الأصول أو أكثرها أما والله
بألف بعد الميم وكلاهما صحيح قال الإمام أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد العلوي
الحسنى المعروف بابن الشجري في كتابة الأمالي ما المزيدة للتوكيد ركبوها مع همزة الاستفهام
واستعملوا مجموعها على وجهين أحدهما أن يراد به معنى حقا في قولهم أما والله لأفعلن
والآخر أن يكون افتتاحا للكلام بمنزلة ألا كقولك أما ان زيدا منطلق وأكثر ما تحذف
ألفها إذا وقع بعدها القسم ليدلوا على شدة اتصال الثاني بالأول لان الكلمة إذا بقيت على
حرف واحد لم تقم بنفسها فعلم بحذف ألف ما افتقارها إلى الاتصال بالهمزة والله أعلم
وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وكان الحلف هنا لتوكيد العزم على الاستغفار
وتطييبا لنفس أبى طالب وكانت وفاة أبى طالب بمكة قبل الهجرة بقليل قال ابن فارس مات
أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر
يوما وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبى طالب بثلاثة أيام وأما قول
الله تعالى كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين فقال المفسرون وأهل المعاني
معناه ما ينبغي لهم قالوا وهو نهى والواو في قوله تعالى ولو كانوا أولى قربى واو الحال والله
أعلم وأما قوله عز وجل لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو
أعلم بالمهتدين فقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبى طالب وكذا نقل اجماعهم على
هذا الزجاج وغيره وهي عامة فإنه لا يهدى ولا يضل الا الله تعالى قال الفراء وغيره قوله تعالى
من أحببت يكون على وجهين أحدهما معناه من أحببته لقرابته والثاني من أحببت أن يهتدى
215

قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم وهو أعلم بالمهتدين أي بمن قدر له الهدى والله أعلم أما
قوله (يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك) فهكذا هو في جميع الأصول
وجميع روايات المحدثين في مسلم وغيره الجزع بالجيم والزاي وكذا نقله القاضي عياض وغيره
عن جميع روايات المحدثين وأصحاب الاخبار أي التواريخ والسير وذهب جماعات من أهل
اللغة إلى أنه الخرع بالخاء المعجمة والراء المفتوحتين أيضا وممن نص عليه كذلك الهروي في
الغريبين ونقله الخطابي عن ثعلب مختارا له وقاله أيضا شمر ومن المتأخرين أبو قاسم الزمخشري
قال القاضي عياض رحمه الله ونبهنا غير واحد من شيوخنا على أنه الصواب قالوا والخرع هو
الضعف والخور قال الأزهري وقيل الخرع الدهش قال شمر كل رخو ضعيف خريع وخرع
216

قال والخرع الدهش قال ومنه قول أبى طالب والله أعلم وأما قوله لأقررت بها عينك فأحسن
ما يقال فيه ما قاله أبو العباس ثعلب قال معنى أقر الله عينه أي بلغه الله أمنيته حتى ترضى نفسه
وتقر عينه فلا تستشرق لشئ وقال الأصمعي معناه أبرد الله دمعته لأن دمعة الفرح باردة
وقيل معناه أراد الله ما يسره والله أعلم
باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا
هذا الباب فيه أحاديث كثيرة وتنتهي إلى حديث العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه ذاق
طعم الايمان من رضى بالله ربا واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف
والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال فإن كان سالما من المعاصي كالصغير
والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا
لم يحدث معصية بعد توبته والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلا فكل هذا الصنف يدخلون الجنة
ولا يدخلون النار أصلا لكنهم يردون على الخلاف المعروف في الورود والصحيح أن المراد
به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه وأما
من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى فان شاء عفا عنه وأدخله
الجنة أولا وجعله كالقسم الأول وان شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة
فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات
على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة وقد
تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة وتواترت بذلك نصوص
تحصل العلم القطعي فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره فإذا ورد
حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع وسنذكر من تأويل بعضها
ما يعرف به تأويل الباقي إن شاء الله تعالى والله أعلم وأما شرح أحاديث الباب فنتكلم عليها مرتبة
لفظا ومعنى اسنادا ومتنا فقوله في الاسناد الأول (عن إسماعيل بن إبراهيم وفى رواية أبى بكر
217

ابن أبي شيبة حدثنا ابن علية عن خالد قال حدثني الوليد بن مسلم عن حمران عن عثمان رضي الله عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)
أما إسماعيل بن إبراهيم فهو ابن عيلة وهذا من احتياط مسلم رحمه الله فان أحد الراويين قال
ابن علية والآخر قال إسماعيل بن إبراهيم فبينهما ولم يقتصر على أحدهما وعلية أم إسماعيل
وكان يكره أن يقال له ابن علية وقد تقدم بيانه وأما خالد فهو ابن مهران الحذاء كما بينه في
الرواية الثانية وهو ممدود وكنيته أبو المنازل بالميم المضمومة والنون والزاي واللام قال أهل
العلم لم يكن خالد حذاء قط ولكنه كان يجلس إليهم فقيل له الحذاء لذلك هذا هو المشهور وقال
فهد بن حيان بالفاء إنما كان يقول احذوا على هذا النحو فلقب بالحذاء وخالد يعد في التابعين
وأما الوليد بن مسلم بن شهاب العنبري البصري أبو بشر فروى عن جماعة من التابعين وربما
اشتبه على بعض من لم يعرف الأسماء بالوليد بن مسلم الأموي مولاهم الدمشقي أبى العباس
صاحب الأوزاعي ولا يشتبه ذلك على العلماء به فإنهما مفترقان في النسب إلى القبيلة والبلدة
والكنية كما ذكرنا وفى الطبقة فان الأول أقدم طبقة وهو في طبقة كبار شيوخ الثاني ويفترقان
أيضا في الشهرة والعلم والجلالة فان الثاني متميز بذلك كله قال العلماء انتهى علم الشام إليه والى
إسماعيل بن عياش وكان أجل من ابن عياش رحمهم الله أجمعين والله أعلم وأما حمران فبضم
الحاء المهملة واسكان الميم وهو حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه كنية حمران
أبو يزيد كان من سبى عين التمر وأما معنى الحديث وما أشبه فقد جمع القاضي عياض
رحمه الله كلاما حسنا جمع فيه نفائس فأنا أنقل كلامه مختصرا ثم أضم بعده إليه ما حضرني من
زيادة قال القاضي عياض رحمه الله اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين
فقالت المرجئة لا تضره المعصية مع الايمان وقالت الخوارج تضره ويكفر بها وقالت المعتزلة
يخلد في النار إذا كانت معصية كبيرة ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر ولكن يوصف بأنه
218

فاسق وقالت الأشعرية بل هو مؤمن وان لم يغفر له وعذب فلا بد من اخراجه من النار
وادخاله الجنة قال وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة وأما المرجئة فان احتجت بظاهره
قلنا محملة على أنه غفر له أو أخرج من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة فيكون معنى قوله
صلى الله عليه وسلم دخل الجنة أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر
كثيرة من عذاب بعض العصاة فلا بد من تأويل هذا لئلا تتناقض نصوص الشريعة وفى قوله
صلى الله عليه وسلم وهو يعلم إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة ان مظهر الشهادتين
يدخل الجنة وان لم يعتقد ذلك بقلبه وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم
غير شاك فيهما وهذا يؤكد ما قلناه قال القاضي وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد معرفة
القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة
بالشهادتين لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى الا لمن لم يقدر على الشهادتين لآفة
بلسانه أو لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ إذ قد ورد
مفسرا في الحديث الآخر من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله وقد
جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة في ألفاظها اختلاف ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف فجاء
هذا اللفظ في هذا الحديث وفى رواية معاذ عنه صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة وفى رواية عنه صلى الله عليه وسلم من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة
وعنه صلى الله عليه وسلم ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله الا حرمه الله
على النار ونحوه في حديث عبادة بن الصامت وعتبان بن مالك وزاد في حديث عبادة على ما كان
من عمل وفى حديث أبي هريرة لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما الا دخل الجنة وان
زنى وان سرق وفى حديث أنس حرم الله على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله
تعالى وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم رحمه الله في كتابه فحكى عن جماعة من السلف رحمهم
الله منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهى وقال بعضهم هي مجملة
تحتاج إلى شرح ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها وهذا قول الحسن البصري وقيل إن
ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك وهذا قول البخاري وهذه التأويلات إنما
هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه
219

المحققون فنقر أولا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء
والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى وأن كل من مات
على الايمان وتشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة فإن كان تائبا أو سليما من
المعاصي دخل الجنة برحمة ربه وحرم على النار بالجملة فان حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن
هذه صفته كان بينا وهذا معنى تأويلي الحسن والبخاري وإن كان هذا من المخلطين بتضييع
ما أوجب الله تعالى عليه أو بفعل ما حرم عليه فهو في المشيئة لا يقطع في أمره بتحريمه على
النار ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة بل يقطع بأنه لابد من دخوله الجنة آخرا وحاله قبل ذلك
في خطر المشيئة إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه وان شاء عفا عنه بفضله ويمكن أن تستقل
الأحاديث بنفسها ويجمع بينها فيكون المراد باستقاق الجنة ما قدمناه من اجماع أهل السنة أنه
لا بد من دخولها لكل موحد أما معجلا معافى وأما مؤخرا بعد عقابه والمراد بتحريم النار
تحريم الخلود خلافا للخوارج والمعتزلة في المسئلتين ويجوز في حديث من كان آخر كلامه
لا إله إلا الله دخل الجنة أن يكون خصوصا لمن كان هذا آخر نطقه وخاتمة لفظه وإن كان قبل
مخلطا فيكون سببا لرحمة الله تعالى إياه ونجاته رأسا من النار وتحريمه عليها بخلاف من لم يكن
ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلطين وكذلك ما ورد في حديث عبادة من مثل هذا ودخوله
من أي أبواب الجنة شاء يكون خصوصا لمن قال ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقرن
بالشهادتين حقيقة الايمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الاجر ما يرجح على
سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة إن شاء الله تعالى والله أعلم هذا
آخر كلام القاضي عياض رحمه الله وهو في نهاية الحسن وأما ما حكاه عن ابن المسيب وغيره
فضعيف باطل وذلك لان راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة رضي الله عنه وهو متأخر
الاسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق وكانت أحكام الشريعة مستقرة وأكثر هذه الواجبات
كانت فروضها مستقرة وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الاحكام قد تقرر فرضها
وكذا الحج على قول من قال فرض سنة خمس أو ست وهما أرجح من قول من قال سنة تسع
والله أعلم وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى تأويلا آخر في الظواهر الواردة
بدخول الجنة بمجرد الشهادة فقال يجوز أن يكون ذلك اقتصارا من بعض الرواة نشأ من
220

تقصيره في الحفظ والضبط لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلالة مجيئه تاما في رواية غيره
وقد تقدم نحو هذا التأويل قال ويجوز أن يكون اختصارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه
الاسلام ومستلزما له والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوى فقال لا إله إلا الله
وحاله الحال التي حكيناها حكم باسلامه ولا نقول والحالة هذه ما قاله بعض أصحابنا من أن من
قال لا إله إلا الله يحكم باسلامه ثم يجبر على قبول سائر الأحكام فان حاصله راجع إلى أنه يجبر
حينئذ على اتمام الاسلام ويجعل حكمه حكم المرتد ان لم يفعل من غير أن يحكم باسلامه بذلك
في نفس الأمر وفى أحكام الآخرة ومن وصفناه مسلم في نفس الأمر وفى أحكام الآخرة والله أعلم
قوله (حدثنا عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفى الرواية الأخرى
عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش قال لما كان يوم
غزوة تبوك الحديث) هذان الاسنادان مما استدركه الدارقطني وعلله فأما الأول فعلله من
جهة أن أبا أسامة وغيره خالفوا عبيد الله الأشجعي فرووه عن مالك بن مغول عن طلحة عن أبي
صالح مرسلا وأما الثاني فعلله لكونه اختلف فيه عن الأعمش فقيل فيه أيضا عنه عن أبي
صالح عن جابر وكان الأعمش يشك فيه قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذان
الاستدراكان من الدارقطني مع أكثر استدراكاته على البخاري ومسلم قدح في أسانيدهما غير
مخرج لمتون الأحاديث من حيز الصحة وقد ذكر في هذا الحديث أبو مسعود إبراهيم بن محمد
221

الدمشقي الحافظ فيما أجاب الدارقطني عن استدراكاته على مسلم رحمه الله أن الأشجعي ثقة
مجود فإذا جود ما قصر فيه غيره حكم له به ومع ذلك فالحديث له أصل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الأعمش له مسندا وبرواية يزيد بن أبي عبيد
واياس بن سلمة بن
الأكوع عن سلمة قال الشيخ رواه البخاري عن سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما
شك الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث فإنه شك في عين الصحابي الراوي له وذلك غير
قادح لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول هذا آخر كلام الشيخ أبى عمرو رحمه الله قلت
وهذان الاستدراكان لا يستقيم واحد منهما أم الأول فلأنا قدمنا في الفصول السابقة أن
الحديث الذي رواه بعض الثقات موصولا وبعضهم مرسلا فالصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب
الأصول والمحققون من المحدثين أن الحكم لرواية الوصل سواء كان راويها أقل عددا من
رواية الارسال أو مساويا لأنها زيادة ثقة فهذا موجود هنا وهو كما قال الحافظ أبو مسعود
الدمشقي جود وحفظ ما قصر فيه غيره وأما الثاني فلأنهم قالوا إذا قال الراوي حدثني فلان
أو فلان وهما ثقتان احتج به بلا خلاف لأن المقصود الرواية عن ثقة مسمى وقد حصل وهذه
قاعدة ذكرها الخطيب البغدادي في الكفاية وذكرها غيره وهذا في غير الصحابة ففي الصحابة
أولى فإنهم كلهم عدول فلا غرض في تعيين الراوي منهم والله أعلم وأما ضبط لفظ الاسناد
فمغول بكسر الميم واسكان الغين المعجمة وفتح الواو وأما مصرف فبضم الميم وفتح الصاد
المهملة وكسر الراء هذا هو المشهور المعروف في كتب المحدثين وأصحاب المؤتلف وأصحاب
أسماء الرجال وغيرهم وحكى الإمام أبو عبد الله القلعي الفقيه الشافعي في كتابه ألفاظ المهذب
أنه يروى بكسر الراء وفتحها وهذا الذي حكاه من رواية الفتح غريب منكر ولا أظنه يصح
وأخاف أن يكون قلد فيه بعض الفقهاء أو بعض النسخ أو نحو ذلك وهذا كثير يوجد مثله
في كتب الفقه وفى الكتب المصنفة في شرح ألفاظها فيقع فيها تصحيفات ونقول غريبة
لا تعرف وأكثر هذه الغريبة أغاليط لكون الناقلين لها لم يتحروا فيها والله أعلم قوله (حتى
222

هم بنحر بعض حمائلهم) روى بالحاء وبالجيم وقد نقل جماعة من الشراح الوجهين لكن
اختلفوا في الراجح منهما فممن نقل الوجهين صاحب التحرير والشيخ أبو عمرو بن الصلاح
وغيرهما واختار صاحب التحرير الجيم وجزم القاضي عياض بالحاء ولم يذكر غيرها قال الشيخ
أبو عمرو رحمه الله وكلاهما صحيح فهو بالحاء جمع حمولة بفتح الحاء وهي الإبل التي تحمل
وبالجيم جمع جمالة بكسرها جمع جمل ونظيره حجر وحجارة والجمل هو الذكر دون الناقة وفى
هذا الذي هم به النبي صلى الله عليه وسلم بيان لمراعاة المصالح وتقديم الأهم فالأهم وارتكاب أخف
الضررين لدفع أضرهما والله أعلم قوله (فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله لو جمعت ما بقي
من أزواد القوم) هذا فيه بيان جواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة لينظر
الفاضل فيه فان ظهرت له مصلحة فعله ويقال بقي بكسر القاف وفتحها والكسر لغة أكثر
العرب وبها جاء القرآن الكريم والفتح لغة طي وكذا يقولون فيما أشبهه والله أعلم قوله
(فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره قال وقال مجاهد وذو النواة بنواه) هكذا هو في أصولنا
وغيرها الأول النواة بالتاء في آخره والثاني بحذفها وكذا نقله القاضي عياض عن الأصول كلها
ثم قال ووجهه ذو النوى بنواه كما قال ذو التمر بتمره قال الشيخ أبو عمرو وجدته في كتاب أبى
نعيم المخرج على صحيح مسلم ذو النوى بنواه قال وللواقع في كتاب مسلم وجه صحيح وهو أن
يجعل النواة عبارة عن جملة من النوى أفردت عن غيرها كما أطلق اسم الكلمة على القصيدة
أو تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع ثم إن القائل قال مجاهد هو طلحة بن
مصرف قاله الحافظ عبد الغنى بن سعيد المصري والله أعلم وفى هذا الحديث جواز خلط
المسافرين أزوادهم وأكلهم منها مجتمعين وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض وقد نص
أصحابنا على أن ذلك سنة والله أعلم قوله (كانوا يمصونها) هو بفتح الميم هذه اللغة الفصيحة
223

المشهور ويقال مصصت الرمانة والتمر وشبههما بكسر الصاد أمصها بفتح الميم وحكى الأزهري
عن بعض العرب ضم الميم وحكى أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ثعلب عن ابن الاعرابي
هاتين اللغتين مصصت بكسر الصاد أمص بفتح الميم ومصصت بفتح الصاد أمص بضم الميم
مصافيهما فأنا ماص وهي ممصوصة وإذا أمرت منهما قلت مص الرمانة ومصها ومصها ومصها
ومصها فهذه خمس لغات في الامر فتح الميم مع الصاد ومع كسرها وضم الميم مع فتح الصاد ومع
كسرها وضمها هذا كلام ثعلب والفصيح المعروف في مصها ونحوه مما يتصل به هاء التأنيث
لمؤنث أنه يتعين فتح ما يلي الهاء ولا يكسر ولا يضم قوله (حتى ملأ القوم أزودتهم)
هكذا الرواية فيه في جميع الأصول وكذا نقله عن الأصول جميعها القاضي عياض وغيره قال
الشيخ أبو عمرو بن الصلاح الازودة جمع زاد وهي لا تملأ إنما تملأ بها أوعيتها قال ووجهه
عندي أن يكون المراد حتى ملأ القوم أوعية أزودتهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
قال القاضي عياض ويحتمل أنه سمى الأوعية أزوادا باسم ما فيها كما في نظائره والله أعلم وفى
هذا الحديث علم من أعلام النبوة الظاهرة وما أكثر نظائره التي يزيد مجموعها على شرط التواتر
ويحصل العلم القطعي وقد جمعها العلماء وصنفوا فيها كتبا مشهورة والله أعلم قوله (لما كان
يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة) هكذا ضبطناه يوم غزوة تبوك والمراد باليوم هنا الوقت
والزمان لا اليوم الذي هو ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وليس في كثير من الأصول أو أكثرها
ذكر اليوم هنا وأما الغزوة فيقال فيها أيضا الغزاة وأما تبوك فهي من أدنى أرض الشام والمجاعة
بفتح الميم وهو الجوع الشديد
224

قوله (فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا) النواضح من
الإبل التي يستقى عليها قال أبو عبيد الذكر منها ناضح والأنثى ناضحة قال صاحب التحرير
قوله وادهنا ليس مقصوده ما هو المعروف من الادهان وإنما معناه اتخذنا دهنا من شحومها
وقولهم لو أذنت لنا هذا من أحسن آداب خطاب الكبار والسؤال منهم فيقال لو فعلت كذا أو
أمرت بكذا لو أذنت في كذا وأشرت بكذا ومعناه لكان خيرا أو لكان صوابا ورأيا متينا
أو مصلحة ظاهرة وما أشبه هذا فهذا أجمل من قولهم للكبير أفعل كذا بصيغة الأمر وفيه انه
لا ينبغي لأهل العسكر من الغزاة أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير اذن
الامام ولا يأذن لهم الا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة والله أعلم قوله (فجاء عمر
فقال يا رسول الله ان فعلت قل الظهر) فيه جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء وأن للمفضول
أن يشير عليهم بخلاف ما رأوه إذا ظهرت مصلحته عنده وأن يشير عليهم بابطال ما أمروا بفعله
والمراد بالظهر هنا الدواب سميت ظهرا لكونها يركب على ظهرها أو لكونها يستظهر بها ويستعان
على السفر قوله (ثم ادع الله تعالى لهم عليها بالبركة لعل الله تعالى أن يجعل في ذلك) هكذا
وقع في الأصول التي رأينا وفيه محذوف تقديره يجعل في ذلك بركة أو خيرا أو نحو ذلك فحذف
المفعول به لأنه فضلة وأصل البركة كثرة الخير وثبوته وتبارك الله ثبت الخير عنده وقيل غير
ذلك قوله (فدعا بنطع) فيه أربع لغات مشهورة أشهرها كسر النون مع فتح الطاء والثانية
بفتحهما والثالثة بفتح النون مع اسكان الطاء والرابعة بكسر النون مع اسكان الطاء قوله
225

(وفضلت فضلة) يقال فضل وفضل بكسر الضاد وفتحها لغتان مشهورتان قوله (حدثنا
داود بن رشيد حدثنا الوليد يعنى ابن مسلم عن ابن جابر قال حدثني عمير بن هانئ قال حدثني
جنادة بن أبي أمية قال حدثنا عبادة بن الصامت) اما رشيد فبضم الراء وفتح الشين وأما
الوليد بن مسلم فهو الدمشقي صاحب الأوزاعي وقد قدمنا في أول هذا الباب بيانه وقوله يعنى
ابن مسلم قد قدمنا مرات فائدته وانه لم يقع نسبه في الرواية فأراد ايضاحه من غير زيادة في
الرواية وأما ابن جابر فهو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي الجليل وأما هانئ فهو بهمز
اخره وأما جنادة بضم الجيم فهو جنادة بن أبي أمية واسم أبى أمية كبير بالباء الموحدة
وهو دوسي أزدى نزل فيهم شامي وجنادة وأبوه صحابيان هذا هو الصحيح الذي قاله الأكثرون
وقد روى له النسائي حديثا في صوم يوم الجمعة أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية
أنفس وهم صيام وله غير ذلك من الحديث الذي فيه التصريح بصحبته قال أبو سعيد بن يونس
في تاريخ مصر كان من الصحابة وشهد فتح مصر وكذا قال غيره ولكن أكثر رواياته
عن الصحابة وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي قال ابن عبد الله العجلي هو تابعي من كبار التابعين
وكنية جنادة أبو عبد الله كان صاحب غزو رضي الله عنه والله أعلم وهذا الاسناد كله شاميون
الا داود بن رشيد فإنه خوارزمي سكن بغداد قوله صلى الله عليه وسلم (من قال أشهد أن
226

لا إله إلا الله وحده وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)
هذا حديث عظيم الموقع وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد فإنه صلى الله عليه وسلم
جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم فاختصر
صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم وسمى عيسى عليه السلام كلمة لأنه
كان بكلمة كن فحسب من غير أب بخلاف غيره من بني آدم قال الهروي سمى كلمة لأنه كان عن
الكلمة فسمى بها كما يقال للمطر رحمة قال الهروي وقوله تعالى وروح منه رحمة قال وقال
ابن عرفة أي ليس من أب إنما نفخ في أمه الروح وقال غيره منه أي مخلوقة من عنده
وعلى هذا يكون اضافتها إليه إضافة تشريف كناقة الله وبيت الله والا فالعالم له سبحانه وتعالى
ومن عنده والله أعلم قوله (حدثنا إبراهيم الدورقي) هو بفتح الدال وقد تقدم بيانه في
المقدمة وتقدم أن اسم الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو مع بيان الاختلاف في الأوزاع التي
نسب إليها قوله صلى الله عليه وسلم (أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) هذا محمول على
ادخاله الجنة في الجملة فان كانت له معاص من الكبائر فهو في المشيئة فان عذب ختم له بالجنة
وقد تقدم هذا في كلام القاضي وغيره مبسوطا مع بيان الاختلاف فيه والله أعلم قوله (عن ابن
227

عجلان عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن محيريز عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
أنه قال دخلت عليه وهو في الموت فبكيت فقال مهلا) أما ابن عجلان بفتح العين فهو
الإمام أبو عبد الله محمد بن عجلان المدني مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة كان عابدا
فقيها وكان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يفتى وهو تابعي أدرك أنسا
وأبا الطفيل قاله أبو نعيم روى عن أنس والتابعين ومن طرف أخباره أنه حملت به أمه أكثر
من ثلاث سنين وقد قال الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى محمد بن عجلان يعد في التابعين ليس
هو بالحافظ عنده ووثقه غيره وقد ذكره مسلم هنا متابعة قيل إنه لم يذكر له في الأصول شيئا
والله أعلم وأما حبان فبفتح الحاء وبالموحدة ومحمد بن يحيى هذا تابعي سمع أنس بن مالك
رضي الله عنه وأما ابن محيريز فهو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب القرشي الجمحي من
أنفسهم المكي أبو عبد الله التابعي الجليل سمع جماعة من الصحابة منهم عبادة بن الصامت وأبو محذورة
وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم سكن بيت المقدس قال الأوزاعي من كان مقتديا فليقتد بمثل
ابن محيريز فان الله تعالى لم يكن ليضل أمة فيها مثل ابن محيريز وقال رجاء بن حياة بعد موت ابن محيريز
والله ان كنت لأعد بقاء ابن محيريز أمانا لأهل الأرض وأما الصنابحي بضم الصاد المهملة فهو أبو
عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة بضم العين وفتح السين المهملتين المرادي والصنابح بطن من مراد وهو
تابعي جليل رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق وهو بالجحفة
قبل أن يصل بخمس ليال أو ست فسمع أبا بكر الصديق وخلائق من الصحابة رضي الله عنهم
أجمعين وقد يشتبه على غير المشتغل بالحديث الصنابحي هذا بالصنابح بن الأعسر الصحابي رضي الله عنه
والله أعلم واعلم أن هذا الاسناد فيه لطيفة مستطرفة من لطائف الاسناد وهي أنه اجتمع
فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض ابن عجلان وابن حبان وابن محيريز والصنابحي والله
أعلم وأما قوله (عن الصنابحي عن عبادة أنه قال دخلت عليه) فهذا كثير يقع مثله وفيه
صنعة حسنة وتقديره عن الصنابحي أنه حدث عن عبادة بحديث قال فيه دخلت عليه ومثله
228

ما سيأتي قريبا في كتاب الايمان في حديث ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين قال مسلم رحمه الله حدثنا
يحيى بن يحيى قال أنا هشيم عن صالح بن صالح عن الشعبي قال رأيت رجلا سأل الشعبي فقال
يا أبا عمرو ان من قبلنا من أهل خراسان ناس يقولون كذا فقال الشعبي حدثني أبو بردة عن
أبيه فهذا الحديث من النوع الذي نحن فيه فتقديره قال هشيم حدثني صالح عن الشعبي بحديث قال
فيه صالح رأيت رجلا سأل الشعبي ونظائر هذا كثيرة سننبه على كثير منها في مواضعها إن شاء الله
تعالى والله أعلم وقوله (مهلا) هو باسكان الهاء ومعناه أنظرني قال الجوهري يقال مهلا
يا رجل بالسكون وكذلك للاثنين والجمع والمؤنث وهي موحدة بمعنى أمهل فإذا قيل لك مهلا قلت
لا مهل والله ولا تقل لا مهلا وتقول ما مهل والله بمغنية عنك شيئا والله أعلم قوله (ما من
حديث لكم فيه خير الا وقد حدثتكموه) قال القاضي عياض رحمه فيه دليل على أنه كتم
ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد
من حدود الشريعة قال ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس
تحته عمل ولا تدعو إليه الضرورة أو لا تحمله عقول العامة أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه
لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والامارة وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم
آخرين ولعنهم والله أعلم قوله (وقد أحيط بنفسي) معناه قربت من الموت وأيست من النجاة
والحياة قال صاحب التحرير أصل الكلمة في الرجل يجتمع عليه أعداؤه فيقصدونه فيأخذون
عليه جميع الجوانب بحيث لا يبقى له في الخلاص مطمع فيقال أحاطوا به أي أطافوا به من
229

جوانبه ومقصوده رب موتى والله أعلم قوله (هداب بن خالد) هو بفتح الهاء وتشديد
الدال المهملة وآخره باء موحدة ويقال هدبة بضم واسكان الدال وقد ذكره مسلم رحمه الله
في مواضع من الكتاب يقول في بعضها هدبة وفى بعضها هداب واتفقوا على أن أحدهما اسم
والآخر لقب ثم اختلفوا في الاسم منهما فقال أبو علي الغساني وأبو محمد عبد الله بن الحسن
الطبسي وصاحب المطالع والحافظ عبد الغنى المقدسي المتأخر هدبة هو الاسم وهداب لقب وقال
غيرهم هداب اسم وهدبة لقب واختار الشيخ أبو عمرو هذا وأنكر الأول وقال أبو الفضل
الفلكي الحافظ أنه كان يغضب إذا قيل له هدبة وذكره البخاري في تاريخه فقال هدبة بن خالد ولم
يذكره هدابا فظاهره أنه أختار أن هدبة هو الاسم والبخاري أعرف من غيره فإنه شيخ البخاري
ومسلم رحمهم الله أجمعين والله أعلم قوله (كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس
بيني وبينه الا مؤخرة الرحل فقال يا معاذ بن جبل قلت لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار
ساعة ثم قال يا معاذ بن جبل قلت لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال يا معاذ بن
جبل قلت لبيك يا رسول الله وسعديك إلى آخره الحديث) أما قوله ردف فهو بكسر الراء
واسكان الدال هذه الرواية المشهورة التي ضبطها معظم الرواة وحكى القاضي عياض رحمه الله
أن أبا على الطبري الفقيه الشافعي أحد رواة الكتاب ضبطه بفتح الراء وكسر الدال والردف
والرديف هو الراكب يقال منه ردفته بكسر الدال في الماضي وفتحها في
المضارع إذا ركبت خلفه وأردفته أنا وأصله من ركوبه على الردف وهو العجز قال القاضي ولا
وجه لرواية الطبري الا أن يكون فعل هنا اسم فاعل مثل عجل وزمن ان صحت رواية الطبري
والله تعالى أعلم قوله ليس بيني وبينه الا مؤخرة الرحل أراد المبالغة في شدة قربه ليكون
230

أوقع في نفس سامعه لكونه أضبط وأما مؤخرة الرحل فبضم الميم بعده همزة ساكنة ثم خاء
مكسورة وهذا هو الصحيح وفيه لغة أخرى مؤخرة بفتح الهمزة والخاء المشددة قال القاضي
عياض رحمه الله أنكر ابن قتيبة فتح الخاء وقال ثابت مؤخرة الرحل ومقدمته بفتحهما ويقال
آخرة الرحل بهمزة ممدودة وهذه أفصح وأشهر وقد جمع الجوهري في صحاحه فيها ست لغات
فقال في قادمتي الرحل ست لغات مقدم ومقدمة بكسر الدال مخففة ومقدم ومقدمة بفتح الدال
مشددة وقادم وقادمة قال وكذلك هذه اللغات كلها في آخرة الرحل وهي العود الذي يكون
خلف الراكب ويجوز في يا معاذ بن جبل وجهان لأهل العربية أشهرهما وأرجحهما فتح معاذ
والثاني ضمه ولا خلاف في نصب ابن وقوله لبيك وسعديك في معنى لبيك أقوال
نشير هنا إلى بعضها وسيأتي ايضاحها في كتاب الحج إن شاء الله تعالى والأظهر أن معناها
إجابة لك بعد إجابة للتأكيد وقيل معناه قربا منك وطاعة لك وقيل أنا مقيم على طاعتك وقيل
محبتي لك وقيل غير ذلك ومعنى سعديك أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة وأما تكريره
صلى الله عليه وسلم نداء معاذ رضي الله عنه فلتأكيد الاهتمام بما يخبره وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه
وقد تبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لهذا المعنى والله
أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (هل تدرى ما حق الله على العباد وهل تدرى ما حق العباد
على الله تعالى) قال صاحب التحرير اعلم أن الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة
والله سبحانه وتعالى هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي والموت والساعة والجنة والنار حق
لأنها واقعة لا محالة وإذا قيل للكلام الصدق حق فمعناه أن الشئ المخبر عنه بذلك الخبر واقع
متحقق لاتردد فيه وكذلك الحق المستحق على العبد من غير أن يكون فيه تردد وتحير فحق الله
تعالى على العباد معناه ما يستحقه عليهم متحتما عليهم وحق العباد على الله تعالى معناه أنه متحقق
لا محالة هذا كلام صاحب التحرير وقال غيره إنما قال حقهم على الله تعالى على جهة المقابلة
لحقه عليهم ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه حقك واجب على أي متأكد قيامي
231

به ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام والله أعلم
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) فقد تقدم في أواخر الباب الأول
من كتاب الايمان بيانه ووجه الجمع بين هذين اللفظين والله أعلم قوله (كنت ردف رسول الله
صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير) بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة هذا هو الصواب في
الرواية وفى الأصول المعتمدة وفى كتب أهل المعرفة بذلك قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله
وقول القاضي عياض رحمه الله انه بغين معجمة متروك قال الشيخ وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم
قيل إنه مات في حجة الوداع قال وهذا الحديث يقتضى أن يكون هذا في مرة أخرى غير
المرة المتقدمة في الحديث السابق فان مؤخرة الرحل تختص بالإبل ولا تكون على حمار قلت ويحتمل
ان يكونا قضية واحدة وأراد بالحديث الأول قدر مؤخرة الرحل والله أعلم قوله (عن أبي
حصين) هو بفتح الحاء وكسر الصاد واسمه عاصم وقد تقدم بيانه في أول مقدمة الكتاب
232

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث محمد بن المثنى وابن بشار (أن يعبد الله ولا يشرك به شئ)
هكذا ضبطناه يعبد بضم المثناة تحت وشئ بالرفع وهذا ظاهر وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله
ووقع في الأصول شيئا بالنصب وهو صحيح على التردد في قوله يعبد الله ولا يشرك به شيئا بين
وجوه ثلاثة أحدها يعبد الله بفتح الياء التي هي للمذكر الغائب أي يعبد العبد الله ولا يشرك به
شيئا قال وهذا الوجه أوجه الوجوه والثاني تعبد بفتح المثناة فوق للمخاطب على التخصيص لمعاذ
لكونه المخاطب والتنبيه على غيره والثالث يعبد بضم أوله ويكون شيئا كناية عن المصدر لا عن
المفعول به أي لا يشرك به اشراكا ويكون الجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل قال وإذا لم
تعين الرواية شيئا من هذه الوجوه فحق على من يروى هذا الحديث منا أن ينطق بها كلها واحدا
بعد واحد ليكون آتيا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزما والله أعلم هذا آخر كلام
الشيخ وما ذكرناه أولا صحيح في الرواية والمعنى والله أعلم قوله في آخر روايات حديث أبي
ذر رضي الله عنه (نحو حديثهم) يعنى أن القاسم بن زكريا شيخ مسلم في الرواية الرابعة رواه
نحو رواية شيوخ مسلم الأربعة المذكورين في الروايات الثلاث المتقدمة وهم هداب وأبو بكر
ابن أبي شيبة ومحمد بن مثنى وابن بشار والله أعلم وقوله في رواية القاسم هذه (حدثنا القاسم
حدثنا حسين عن زائدة) هكذا هو في الأصول كلها حسين بالسين وهو الصواب وقال القاضي
233

عياض وقع في بعض الأصول حصين بالصاد وهو غلط وهو حسين بن علي الجعفي وقد تكررت
روايته عن زائدة في الكتاب ولا يعرف حصين بالصاد عن زائدة والله أعلم قوله (حدثني
أبو كثير) هو بالمثلثة واسمه يزيد بالزاي ابن عبد الرحمن بن أذينة ويقال ابن غفيلة بضم الغين
المعجمة وبالفاء ويقال ابن عبد الله بن أذينة قال أبو عوانة الأسفرايني في مسنده غفيلة أصح
من أذينة قوله (كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي
الله عنهما في نفر) قال أهل اللغة يقال قعدنا حوله وحوليه وحواليه وحواله بفتح الحاء واللام
في جميعهما أي على جوانبه قالوا ولا يقال حواليه بكسر اللام وأما قوله ومعنا أبو بكر وعمر
فهو من فصيح الكلام وحسن الاخبار فإنهم إذا أرادوا الاخبار عن جماعة فاستكثروا أن
يذكروا جميعهم بأسمائهم ذكروا أشرافهم أو بعض أشرافهم ثم قالوا وغيرهم وأما قوله معنا
بفتح العين هذه اللغة المشهورة ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب المحكم والجوهري وغيرهما
وهي المصاحبة قال صاحب المحكم مع اسم معناه الصحبة وكذلك مع باسكان العين غير أن المحركة
تكون اسما وحرفا والساكنة لا تكون الا حرفا قال اللحياني قال الكسائي ربيعة وغنم يسكنون
فيقولون معكم ومعنا فإذا جاءت الألف واللام أو ألف الوصل اختلفوا فبعضهم يفتح العين
وبعضهم يكسرها فيقولون مع القوم ومع ابنك وبعضهم يقول مع القوم ومع ابنك أما من فتح
فبناه على قولك كنا معا ونحن معا فلما جعلها حرفا وأخرجها عن الاسم حذف الألف وترك
العين على فتحتها وهذه لغة عامة العرب وأما من سكن ثم كسر عند ألف الوصل فأخرجه مخرج
الأدوات مثل هل وبل فقال مع القوم كقولك هل القوم وبل القوم وهذه الأحرف التي
ذكرتها في مع وان لم يكن هذا موضعها فلا ضرر في التنبيه عليها لكثرة تردادها والله أعلم
قوله (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا) وقال بعده كنت بين أظهرنا هكذا
هو في الموضعين أظهرنا وقال القاضي عياض رحمه الله ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا
234

وكلاهما صحيح قال أهل اللغة يقال نحن بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون أي بينكم
قوله (وخشينا أن يقتطع دوننا) أي يصاب بمكروه من عدو اما بأسر واما بغيره قوله
(وفزعنا وقمنا فكنت أول من فزع) قال القاضي عياض رحمه الله الفزع يكون بمعنى الروع
وبمعنى الهبوب للشئ والاهتمام به وبمعنى الإغاثة قال فتصح هذه المعاني الثلاثة أي ذعرنا
لاحتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنا ألا تراه كيف قال وخشينا أن يقتطع دوننا ويدل على
الوجهين الآخرين قوله فكنت أول من فزع قوله (حتى أتيت حائطا للأنصار) أي بستانا
وسمى بذلك لأنه حائط لا سقف له قوله (فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة
والربيع الجدول) أما الربيع فبفتح الراء على لفظ الربيع الفصل المعروف والجدول بفتح
الجيم وهو النهر الصغير وجمع الربيع أربعاء كنبي وأنبياء وقوله بئر خارجة هكذا ضبطناه
بالتنوين في بئر وفى خارجة على أن خارجة صفة لبئر وكذا نقله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح
عن الأصل الذي هو بخط الحافظ أبى عامر العبدري والأصل المأخوذ عن الجلودي وذكر
الحافظ أبو موسى الأصبهاني وغيره أنه روى على ثلاثة أوجه أحدها هذا والثاني من بئر خارجه
بتنوين وبهاء في آخر خارجة مضمومة وهي ضمير الحائط أي البئر في موضع خارج عن
الحائط والثالث من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث وهو اسم رجل والوجه
الأول هو المشهور الظاهر وخالف هذا صاحب التحرير فقال الصحيح هو الوجه الثالث قال
والأول تصحيف قال والبئر يعنون بها البستان قال وكثيرا ما يفعلون هذا فيسمون البساتين
بالآبار التي فيها يقولون بئر أريس وبئر بضاعة وبئر حاء وكلها بساتين هذا كلام صاحب التحرير
وأكثره أو كله لا يوافق عليه والله أعلم والبئر مؤنثة مهموزة يجوز تخفيف همزتها وهي مشتقة
من بأرت أي حفرت وجمعها في القلة أبؤر وأبآر بهمزة بعد الباء فيهما ومن العرب من يقلب
235

الهمزة في آبار وينقل فيقول آبار وجمعها في الكثرة بئار بكسر الباء بعدها همزة والله أعلم قوله
(فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) هذا قد روى على وجهين روى بالزاي وروى بالراء قال القاضي
عياض رواه عامة شيوخنا بالراء عن العبدري وغيره قال وسمعنا عن الأسدي عن أبي الليث الشاشي
عن عبد الغافر الفارسي عن الجلودي بالزاي وهو الصواب ومعناه نضاممت ليسعني المدخل وكذا
قال الشيخ أبو عمرو انه بالزاي في الأصل الذي بخط أبى عامر العبدري وفى الأصل المأخوذ عن
الجلودي وانها رواية الأكثرين وان رواية الزاي أقرب من حيث المعنى ويدل عليه تشبيه بفعل الثعلب
وهو تضامه في المضايق وأما صاحب التحرير فأنكر الزاي وخطأ رواتها واختار الراء وليس
اختياره بمختار والله تعالى أعلم قوله (فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو
هريرة فقلت نعم) معناه أنت أبو هريرة قوله (فقال يا أبا هريرة وأعطاني نعليه وقال اذهب
بنعلي هاتين) في هذا الكلام فائدة لطيفة فإنه أعاد لفظه قال إنما أعادها لطول الكلام
وحصول الفصل بقوله يا أبا هريرة وأعطاني نعليه وهذا حسن وهو موجود في كلام العرب بل
جاء أيضا في كلام الله تعالى قال الله تبارك وتعالى جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما
معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به قال الإمام أبو
الحسن الواحدي قال محمد بن يزيد قوله تعالى جاءهم تكرير للأول لطول الكلام قال
ومثله قوله تعالى أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون أعاد أنكم لطول الكلام
والله أعلم وأما اعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقى النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم ولا ينكر
كون مثل هذا يفيد تأكيدا وإن كان خبره مقبولا من غير هذا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
236

(فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره
بالجنة) معناه أخبرهم أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة والا فأبو هريرة لا يعلم استيقان
قلوبهم وفى هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق
ولا النطق دون الاعتقاد بل لا بد من الجمع بينهما وقد تقدم ايضاحه في أول الباب وذكر القلب
هنا للتأكيد ونفى توهم المجاز وإلا فالاستيقان لا يكون الا بالقلب قوله (فقال ما هاتان النعلان
يا أبا هريرة فقلت هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما) هكذا هو في جميع
الأصول فقلت هاتين نعلا بنصب هاتين ورفع نعلا وهو صحيح معناه فقلت يعنى هاتين هما نعلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب هاتين باضمار يعنى وحذف هما التي هي المبتدأ للعلم به
وأما قوله بعثني بهما فهكذا ضبطناه بهما على التثنية وهو ظاهر ووقع في كثير من الأصول
أو أكثرها بها من غير ميم وهو صحيح أيضا ويكون الضمير عائدا إلى العلامة فان النعلين كانتا
علامة والله أعلم قوله (فضرب عمر رضي الله عنه بين ثديي فخررت لاستي فقال ارجع
يا أبا هريرة) أما قوله ثديي فتثنية ثدي بفتح الثاء وهو مذكر وقد يؤنث في لغة قليلة واختلفوا في
اختصاصه بالمرأة فمنهم من قال يكون للرجل والمرأة ومنهم من قال هو للمرأة خاصة فيكون
اطلاقه في الرجل مجازا واستعارة وقد كثر اطلاقه في الأحاديث للرجل وسأزيده ايضاحا إن شاء الله
تعالى في باب غلظ تحريم قتل الانسان نفسه وأما قوله لاستي فهو اسم من أسماء الدبر
والمستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء واستعمال المجاز والألفاظ التي تحصل الغرض
ولا يكون في صورتها ما يستحيا من التصريح بحقيقة لفظه وبهذا الأدب جاء القرآن
237

العزيز والسنن كقوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم تأخذونه
وقد أفضى بعضكم إلى بعض وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن جاء أحد منكم
من الغائط النساء في المحيض وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة وهي
إزالة اللبس أو الاشتراك أو نفى المجاز أو نحو ذلك كقوله تعالى والزاني وكقوله
صلى الله عليه وسلم أنكتها وكقوله صلى الله عليه وسلم أدبر الشيطان وله ضراط وكقول أبي هريرة رضي الله عنه
الحدث فساء أو ضراط ونظائره ذلك كثيرة واستعمال أبي هريرة هنا لفظ الاست من
هذا القبيل والله أعلم وأما دفع عمر رضي الله عنه له فلم يقصد به سقوطه وايذاءه بل قصد رده
عما هو عليه وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره قال القاضي عياض وغيره من العلماء
رحمهم الله وليس فعل عمر رضي الله عنه ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه وردا
لامره إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطيب قلوب الأمة وبشراهم فرأى عمر رضي الله عنه
أن كتم هذا أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى
فلما عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم صوبه فيه والله تعالى أعلم وفى هذا الحديث أن الامام
والكبير مطلقا إذا رأى شيئا ورأي بعض أتباعه خلافه أنه ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع
لينظر فيه فان ظهر له أن ما قاله التابع هو الصواب رجع إليه والا بين للتابع جواب الشبهة التي
عرضت له والله أعلم قوله (فأجهشت بكاء وركبني عمر رضي الله عنه وإذا هو على أثرى)
أما قوله أجهشت فهو بالجيم والشين المعجمة والهمزة والهاء مفتوحتان هكذا وقع في الأصول
التي رأيناها ورأيت في كتاب القاضي عياض رحمه الله فجهشت الألف وهما صحيحان قال
أهل اللغة يقال جهشت جهشا وجهرشا وأجهشت اجهاشا قال القاضي عياض رحمه الله وهو
أن يفزع الانسان إلى غيره وهو متغير الوجه متهئ للبكاء ولما يبك بعد قال الطبري هو الفزع
238

والاستغاثة وقال أبو زيد جهشت للبكاء والحزن والشوق والله أعلم وأما قوله بكاء فهو
منصوب على المفعول له وقد جاء في رواية للبكاء والبكا يمد ويقصر لغتان وأما قوله وركبني
عمر فمعناه تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة وأما قوله على اثرى ففيه لغتان فصيحتان
مشهورتان بكسر الهمزة واسكان الثاء وبفتحهما والله أعلم قوله (بأبى أنت وأمي) معناه
أنت مفدى أو أفديك بأبى وأمي واعلم أن حديث أبي هريرة هذا مشتمل على فوائد كثيرة تقدم
في أثناء الكلام منه جمل ففيه جلوس العالم لأصحابه ولغيرهم من المسفتين وغيرهم يعلمهم ويفيدهم
ويفتيهم وفيه ما قدمناه أنه إذا أراد ذكر جماعة كثيرة فاقتصر على ذكر بعضهم ذكر أشرافهم أو
بعض أشرافهم ثم قال وغيرهم وفيه بيان ما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه من القيام بحقوق
رسول الله صلى الله عليه وسلم واكرامه والشفقة عليه والانزعاج البالغ لما يطرقه صلى الله عليه وسلم
وفيه اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم والاعتناء بتحصيل مصالحه ودفع المفاسد عنه وفيه
جواز دخول الانسان ملك غيره بغير اذنه إذا علم أنه يرضى ذلك لمودة بينهما أو غير ذلك فان
أبا هريرة رضي الله عنه دخل الحائط وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينقل أنه أنكر
عليه وهذا غير مختص بدخول الأرض بل يجوز له الانتفاع بأدواته وأكل طعامه والحمل من
طعامه إلى بيته وركوب دابته ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه
هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء رحمة الله عليهم
وصرح به أصحابنا قال أبو عمر بن عبد البر وأجمعوا على أنه لا يتجاوز الطعام وأشباهه
إلى الدراهم والدنانير وأشباههما وفى ثبوت الاجماع في حق من يقطع بطيب قلب صاحبه بذلك
نظر ولعل هذا يكون في الدراهم الكثيرة التي يشك أو قد يشك في رضاه بها فإنهم اتفقوا
على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقا فيما تشكك في رضاه به ثم دليل الجواز في الباب
239

الكتاب والسنة وفعل وقول أعيان الأمة فالكتاب قوله تعالى ليس على الأعمى حرج ولا
على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت
آبائكم إلى قوله تعالى أو صديقكم والسنة هذا الحديث وأحاديث كثيرة معروفة بنحوه وأفعال
السلف وأقوالهم في هذا أكثر من أن تحصى والله تعالى أعلم وفيه ارسال الامام والمتبوع
إلى أتباعه بعلامة يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة وفيه ما قدمناه من الدلالة لمذهب أهل الحق أن
الايمان المنجى من الخلود في النار لا بد فيه من الاعتقاد والنطق وفيه جواز امساك بعض
العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة أو خوف المفسدة وفيه إشارة بعض الاتباع على المتبوع بما
يراه مصلحة وموافقة المتبوع له إذا رآه مصلحة ورجوعه عما أمر به بسببه وفيه جواز قول
الرجل للآخر بأبى أنت وأمي قال القاضي عياض رحمه الله وقد كرهه بعض السلف وقال
لا يفدى بمسلم والأحاديث الصحيحة تدل على جوازه سواء كان المفدى به مسلما أو كافرا حيا
كان أو ميتا وفيه غير ذلك والله أعلم قول مسلم رحمه الله (حدثني إسحاق بن منصور أخبرني معاذ
ابن هشام حدثني أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه) هذا الاسناد كله بصريون
الا إسحاق فإنه نيسابوري فيكون الاسناد بيني وبين معاذ بن هشام نيسابوريين وباقيه بصريون
قوله (فأخبر بها معاذ عند موته تأثما) هو بفتح الهمزة وضم المثلثة المشددة قال أهل اللغة تأثم
الرجل إذا فعل فعلا يخرج به من الإثم وتحرج أزال عنه الحرج وتحنث أزال عنه الحنث ومعنى
تأثم معاذ أنه كان يحفظ علما يخاف فواته وذهابه بموته فخشي أن يكون ممن كتم علما وممن لم
240

يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ سنته فيكون إثما فاحتاط وأخبر بهذه السنة مخافة
من الاثم وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولم لم ينهه عن الاخبار بها نهى تحريم قال القاضي عياض
رحمه الله لعل معاذا لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم النهى لكن كسر عزمه عما عرض له
من بشراهم بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه من لقيت يشهد ان لا إله إلا الله مستيقنا
قلبه فبشره بالجنة قال أو يكون معناه بلغه بعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبى هريرة
وخاف أن يكتم علما علمه فيأثم أو يكون حمل النهى على اذاعته وهذا الوجه ظاهر وقد اختاره
الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال منعه من التبشير العام خوفا من أن يسمع
ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكبل وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص من
أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة فإنه أخبر به معاذا فسلك معاذ هذا المسلك
فأخبر به من الخاصة من رآه أهلا لذلك قال وأما أمره صلى الله عليه وسلم في حديث أبي
هريرة بالتبشير فهو من تغير الاجتهاد وقد كان الاجتهاد جائزا له وواقعا منه صلى الله عليه وسلم
عند المحققين وله مزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر على الخطأ في اجتهاده ومن نفى
ذلك وقال لا يجوز له صلى الله عليه وسلم القول في الأمور الدينية الا عن وحى فليس يمتنع
أن يكون قد نزل عليه صلى الله عليه وسلم عند مخاطبته عمر رضي الله عنه وحى بما أجابه
به ناسخ لوحى سبق بما قاله أولا صلى الله عليه وسلم هذا كلام الشيخ وهذه المسألة وهي
اجتهاده صلى الله عليه وسلم تفصيل معروف فأما أمور الدنيا فاتفق العلماء رضي الله عنهم
على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها ووقوعه منه وأما أحكام الدين فقال أكثر العلماء
بجواز الإجتهاد له صلى الله عليه وسلم لأنه إذا جاز لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى وقال جماعة
لا يجوز له لقدرته على اليقين وقال بعضهم كان يجوز في الحروب دون غيرها وتوقف في كل
ذلك آخرون ثم الجمهور الذين جوزوه اختلفوا في وقوعه فنال الأكثرون منهم وجد ذلك
وقال آخرون لم يوجد وتوقف آخرون ثم الأكثرون الذين قالوا بالجواز والوقوع اختلفوا هل
كان الخطأ جائزا عليه صلى الله عليه وسلم فذهب المحققون إلى أنه لم يكن جائزا عليه صلى الله عليه وسلم
وذهب كثيرون إلى جوازه ولكن لا يقر عليه بخلاف غيره وليس هذا موضع استقصاء
هذا والله أعلم
241

قوله (حدثنا شيبان بن فروخ) هو بفتح الفاء وضم الراء وبالخاء المعجمة وهو غير
مصروف للعجمة والعلمية قال صاحب كتاب العين فروخ اسم ابن لإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
هو ابن العجم وكذا نقل صاحب المطالع وغيره أن فروخ ابن لإبراهيم
صلى الله عليه وسلم وأنه أبو العجم وقد نص جماعة من الأئمة على أنه لا ينصرف لما ذكرناه
والله أعلم قوله (حدثني ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال حدثني محمود بن الربيع عن
عتبان بن مالك قال قدمت المدينة فلقيت عتبان فقلت حديث بلغني عنك) هذا اللفظ شبيه
بما تقدم في هذا الباب من قوله عن ابن محيريز عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
وقد قدمنا بيانه واضحا وتقرير هذا الذي نحن فيه حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بحديث
قال فيه محمود قدمت المدينة فلقيت عتبان وفى هذا الاسناد لطيفتان من لطائفه إحداهما أنه
اجتمع فه ثلاثة صحابيون بعضهم عن بعض وهم انس ومحمود وعتبان والثانية أنه من رواية
الأكابر عن الأصاغر فان أنسا أكبر من محمود سنا وعلما ومرتبة رضي الله عنهم أجمعين وقد
قال في الرواية الثانية عن ثابت عن أنس قال حدثني عتبان بن مالك وهذا لا يخالف الأول فان
انسا سمعه أولا من محمود عن عتبان ثم اجتمع أنس بعتبان فسمعه منه والله أعلم وعتبان
بكسر العين المهملة وبعدها تاء مثناة من فوق ساكنة ثم باء موحدة وهذا الذي ذكرناه من كسر
العين هو الصحيح المشهور الذي لم يذكر الجمهور سواه وقال صاحب المطالع وقد ضبطناه من
طريق ابن سهل بالضم أيضا والله أعلم قوله (أصابني في بصرى بعض الشئ) وقال في
242

الرواية الأخرى عمى يحتمل أنه أراد ببعض الشئ العمى وهو ذهاب البصر جميعه ويحتمل أنه
أراد ضعف البصر وذهاب معظمه وسماه عمى في الرواية الأخرى لقربه منه ومشاركته إياه
في فوات بعض ما كان حاصلا في حال السلامة والله أعلم قوله (ثم أسندوا عظم ذلك
وكبره إلى مالك بن دخشم) أما عظم فهو بضم العين واسكان الظاء أي معظمه وأما كبره
فبضم الكاف وكسرها لغتان فصيحتان مشهورتان وذكرهما في هذا الحديث القاضي عياض
وغيره لكنهم رجحوا الضم وقرئ قول الله سبحانه وتعالى والذي تولى كبره بكسر الكاف
وضمها الكسر قراءة القراء السبعة والضم في الشواذ قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي المفسر
رحمه الله قراءة العامة بالكسر وقراءة حميد الأعرج ويعقوب الحضرمي بالضم قال أبو عمرو
ابن العلاء هو خطأ وقال الكسائي هما لغتان والله أعلم ومعنى قوله أسندوا عظم ذلك
وكبره أنهم تحدثوا وذكروا شأن المنافقين وأفعالهم القبيحة وما يلقون منهم ونسبوا معظم
ذلك إلى مالك وأما قوله ابن دخشم فهو بضم الدال المهملة واسكان الخاء المعجمة وضم
الشين المعجمة وبعدها ميم هكذا ضبطناه في الرواية الأولى وضبطناه في الثانية بزيادة ياء بعد
الخاء على التصغير وهكذا هو في معظم الأصول وفى بعضها في الثانية مكبر أيضا ثم أنه في
الأولى بغير ألف ولام وفى الثانية بالألف واللام قال القاضي عياض رحمه الله رويناه دخشم
مكبرا ودخشيم مصغرا قال ورويناه في غير مسلم بالنون بدل الميم مكبرا ومصغرا قال الشيخ أبو
عمرو بن الصلاح ويقال أيضا ابن الدخشن بكسر الدال والشين والله أعلم واعلم أن مالك بن
دخشم هذا من الأنصار ذكر أبو عمر بن عبد البر اختلافا بين العلماء في شهوده العقبة قال ولم
يختلفوا أنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد قال ولا يصح عنه النفاق فقد ظهر من حسن
اسلامه ما يمنع من اتهامه هذا كلام أبى عمر رحمه الله قلت وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على
ايمانه باطنا وبراءته من النفاق بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري رحمه الله ألا تراه
قال لا إله إلا الله يبتغى بها وجه الله تعالى فهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه
243

قالها مصدقا بها معتقدا صدقها متقربا بها إلى الله تعالى وشهد له في شهادته لأهل بدر بما هو
معروف فلا ينبغي أن يشك في صدق ايمانه رضي الله عنه وفى هذه الزيادة رد على غلاة
المرجئة القائلين بأنه يكفي في الايمان النطق من غير اعتقاد فإنهم تعلقوا بمثل هذا الحديث
وهذه الزيادة تدمغهم والله أعلم قوله (ودوا أنه دعا عليه فهلك وودوا أنه أصابه شر)
هكذا هو في بعض الأصول شر وفى بعضها بشر بزيادة الباء الجارة وفى بعضها شئ وكله صحيح
وفى هذا دليل على جواز تمنى هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم قوله (فخط لي
مسجدا) أي أعلم لي على موضع لأتخذه مسجدا أي موضعا أجعل صلاتي فيه متبركا بآثارك
والله أعلم وفى هذا الحديث أنواع من العلم تقدم كثير منها ففيه التبرك بآثار الصالحين وفيه
زيارة العلماء والفضلاء والكبراء أتباعهم وتبريكهم إياهم وفيه جواز استدعاء المفضول للفاضل
لمصلحة تعرض وفيه جواز الجماعة في صلاة النافلة وفيه أن السنة في نوافل النهار ركعتان كالليل
وفيه جواز الكلام والتحدث بحضرة المصلين ما لم يشغلهم ويدخل عليهم لبسا في صلاتهم أو
نحوه وفيه جواز أمامة الزائر المزور برضاه وفيه ذكر من يتهم بريبة أو نحوها للأئمة وغيرهم
ليتحرز منه وفيه جواز كتابة الحديث وغيره من العلوم الشرعية لقول أنس لابنه اكتبه بل هي
مستحبة وجاء في الحديث النهى عن كتب الحديث وجاء الاذن فيه فقيل كان النهى لمن خيف
244

اتكاله على الكتاب وتفريطه في الحفظ مع تمكنه منه والاذن لمن لا يتمكن من الحفظ وقيل
كان النهى أولا لما خيف اختلاطه بالقرآن والاذن بعده لما أمن من ذلك وكان بين السلف
من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها
والله أعلم وفيه البداءة بالأهم فالأهم فإنه صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان هذا بدأ أول
قدومه بالصلاة ثم أكل وفى حديث زيارته لأم سليم بدأ بالأكل ثم صلى لأن المهم في حديث
عتبان هو الصلاة فإنه دعاه لها وفى حديث أم سليم دعته للطعام ففي كل واحد من الحديثين بدأ
بما دعى إليه والله أعلم وفيه جواز استتباع الامام والعالم أصحابه لزيارة أو ضيافة أو نحوها
وفيه غير ذلك مما قدمناه وما حذفناه والله أعلم بالصواب وله الحمد والنعمة والفضل
والمنة وبه التوفيق والعصمة
245