الكتاب: شرح مسلم
المؤلف: النووي
الجزء: ٩
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠٧ - ١٩٨٧ م
المطبعة:
الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

صحيح مسلم
بشرح النووي
الجزء التاسع
الناشر دار الكتاب العربي
بيروت لبنان
الطبعة الأولى 1407 ه‍. 1987 م
بسم الله الرحمن الرحيم
1

فضل العمرة في رمضان
قولها (لم يكن لنا الا ناضحان) أي بعيران نستقي بهما قوله (ننضح عليه) بكسر الضاد قوله
صلى (فإن عمرة فيه) أي في رمضان (تعدل حجة) وفي الرواية الأخرى تقضى حجة أي
تقوم مقامها في الثواب لا أنها تعدلها في كل شئ فإنه لو كان عليه حجة فاعتمر في رمضان
لا تجزئه عن الحجة قوله (ناضحان كانا لأبي فلان زوجها حج هو وابنه على أحدهما وكان الآخر
يسقى غلامنا) هكذا هو في نسخ بلادنا وكذا نقله القاضي عياض عن رواية عبد الغافر الفارسي
2

وغيره قال وفي رواية ابن ماهان يسقى عليه غلامنا قال القاضي عياض وأرى هذا كله تغييرا
وصوابه نسقي عليه نخلا لنا فتصحف منه غلامنا وكذا جاء في البخاري على الصواب ويدل على
صحته قوله في الرواية الأولى ننضح عليه وهو بمعنى نسقي عليه هذا كلام القاضي والمختار
أن الرواية صحيحة وتكون الزيادة التي ذكرها القاضي محذوفة مقدرة وهذا كثير في الكلام
والله أعلم
استحباب دخول مكة من الثنية العليا
(والخروج منها من الثنية السفلى ودخول بلدة من طريق غير التي خرج منها)
قوله (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق
الشجرة ويدخل من طريق المعرس وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية
السفلى) قيل إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلا وخارجا تفاؤلا
بتغير الحال إلى أكمل منه كما فعل في العيد وليشهد له الطريقان وليتبرك به أهلهما ومذهبنا أنه
يستحب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من السفلى لهذا الحديث ولا فرق بين أن
تكون هذه الثنية على طريقة كالمدني والشامي أو تكون كاليمني فيستحب لليمني وغيره أن يستدير
ويدخل مكة من الثنية العليا وقال بعض أصحابنا إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت
على طريقه ولا يستحب لمن ليست على طريقه كاليمني وهذا ضعيف والصواب الأول وهكذا
3

يستحب له أن يخرج من بلده من طريق ويرجع من أخرى لهذا الحديث وقوله المعرس هو
بضم الميم وفتح العين المهملة والراء المشددة وهو موضع معروف بقرب المدينة على ستة أميال
منها قوله (العليا التي بالبطحاء) هي بالمد ويقال لها البطحاء والأبطح وهي بجنب المحصب
وهذه الثنية ينحدر منها إلى مقابر مكة قوله (في حديث عائشة أن رسول صلى الله عليه وسلم
دخل عام الفتح من كداء من أعلى مكة) هكذا ضبطناه بفتح الكاف وبالمد وهكذا في نسخ
بلادنا وهذا نقله القاضي عياض عن رواية الجمهور قال وضبطه السمرقندي بفتح الكاف والقصر
قوله (قال هشام يعنى ابن عروة فكان أبي يدخل منهما كليهما وكان أبي أكثر ما يدخل من كداء)
اختلفوا في ضبط كداء هذه قال جمهور العلماء بهذا الفن كداء بفتح الكاف وبالمد هي الثنية
التي بأعلى مكة وكدا بضم الكاف وبالقصر هي التي بأسفل مكة وكان عروة يدخل من كليهما
وأكثر دخوله من كداء بفتح الكاف فهذا أشهر وقيل بالضم ولم يذكر القاضي عياض غيره
وأما كدى بضم الكاف وتشديد الياء فهو في طريق الخارج إلى اليمن وليس من هذين الطريقين
في شئ هذا قول الجمهور والله أعلم
4

استحباب المبيت بذى طوى عند إرادة دخول مكة
(والاغتسال لدخولها ودخولها نهارا)
قوله (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بذى طوى حتى أصبح ثم
دخل مكة وكان ابن عمر يفعل ذلك) وفي رواية حتى صلى الصبح وفي رواية عن نافع عن
ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذى طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ويذكر
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله في هذه الروايات فعوائد منها الاغتسال لدخول مكة وأنه يكون بذى طوى لمن كانت في طريقه ويكون بقدر بعدها لمن لم تكن في طريقه قال أصحابنا وهذا
الغسل سنة فإن عجز عنه تيمم ومنها المبيت بذى طوى وهو مستحب لمن هو على طريقه وهو
5

موضع معروف بقرب مكة يقال بفتح الطاء وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر ويصرف
ولا يصرف ومنها استحبا ب دخول مكة نهارا وهذا هو الصحيح الذي عليه الأكثرون من
أصحابنا وغيرهم أن دخولها نهارا أفضل من الليل وقال بعض أصحابنا وجماعة من السلف الليل والنهار في
ذلك سواء ولا فضيلة لأحدهما على الآخر وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها محرما
بعمرة الجعرانة ليلا ومن قال بالأول حمله على بيان الجواز والله أعلم قوله (استقبل فرضتي
الجبل) هو بفاء مضمومة ثم راء ساكنة ثم ضاد معجمة مفتوحة
وهما تثنية فرضة وهي الثنية
المرتفعة من الجبل قوله (عشرة أذرع) كذا في بعض النسخ وفي بعضها عشر بحذف الهاء وهما
لغتان في الذراع التذكير والتأنيث وهو الأفصح الأشهر والله أعلم
استحباب الرمل في الطواف والعمرة
(وفي الطواف الأول في الحج)
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاث ومشى
6

أربعا) قوله (خب) هو الرمل بفتح الراء والميم فالرمل والخبب معنى واحد وهو اسراع
المشي مع تقارب الخطا ولا يثب وثبا والرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأول من السبع
ولا يسن ذلك الا في طواف العمرة وفي طواف واحد في الحج واختلفوا في ذلك الطواف
وهما قولان للشافعي أصحهما أنه إنما يشرع في طواف يعقبه سعى ويتصور ذلك في طواف القدوم
ويتصور في طواف الإفاضة ولا يتصور في طواف الوداع لأن شرط طواف الوداع أن يكون قد طاف
للإفاضة فعلى هذا القول إذا طاف للقدوم وفي نيته أنه يسعى بعده استحب الرمل فيه وإن لم يكن هذا
في نيته لم يرمل فيه بل يرمل في طواف الإفاضة والقول الثاني أنه يرمل في طواف القدوم سواء أراد
السعي بعده أم لا والله أعلم قال أصحابنا فلو أخل بالرمل في الثلاث الأول من السبع لم يأت به في الأربع
الأواخر لأن السنة في الأربع الأخيرة المشي على العادة فلا يغيره ولو لم يمكنه الرمل للرحمة
أشار في هيئة مشيه إلى صفة الرمل ولو لم يمكنه الرمل بقرب الكعبة للرحمة وأمكنه إذا تباعد
عنها فالأولى أن يتباعد ويرمل لأن فضيلة الرمل هيئة للعبادة في نفسها والقرب من الكعبة
هيئة في موضع العبادة لا في نفسها فكان تقديم ما تعلق بنفسها أولى والله أعلم واتفق العلماء
على أن الرمل لا يشرع للنساء كما لا يشرع لهن شدة السعي بين الصفا والمروة ولو ترك الرجل
الرمل حيث شرع له فهو تارك سنة ولا شئ عليه هذا مذهبنا واختلف أصحاب مالك فقال بعضهم
عليه دم وقال بعضهم لادم كمذهبنا قوله (وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة)
هذا مجمع على استحبابه وهو أنه إذا سعى بين الصفا والمروة استحب أن يكون سعيه شديدا
في بطن المسيل وهو قدر معروف وهو من قبل وصوله إلى الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد
إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين بفناء المسجد ودار العباس والله أعلم قوله
7

(ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة
أطواف بالبيت ثم يمشى أربعا ثم يصلى سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة) أما قوله
أول ما يقدم فتصريح بأن الرمل أول ما يشرع في طواف العمرة أو في طواف القدوم في الحج
وأما قوله يسعى ثلاثة أطواف فمراده يرمل وسماه سعيا مجازا لكونه يشارك السعي في أصل
الاسراع وإن اختلفت صفتهما وأما قوله ثلاثة وأربعة فمجمع عليه وهو أن الرمل لا يكون
الا في الثلاثة الأول من السبع وأما قوله ثم يصلى سجدتين فالمراد ركعتين وهما سنة على المشهور
من مذهبنا وفي قول واجبتان وسماهما سجدتين مجازا كما سبق تقريره في كتاب الصلاة وأما قوله
ثم يطوف بين الصفا والمروة ففيه دليل على وجوب الترتيب بين الطواف والسعي وأنه يشترك
تقدم الطواف على السعي فلو قدم السعي لم يصح السعي وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه
خلاف ضعيف لبعض السلف والله أعلم قوله (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف) إلى آخره فيه استحباب استلام الحج
الأسود في ابتداء الطواف وهو سنة من سنن الطواف بلا خلاف وقد استدل به القاضي أبو الطيب
من أصحابنا في قوله أنه يستحب أن يستلم الحجر الأسود وأن يستلم معه الركن الذي هو فيه
فيجمع في استلامه بين الحجر والركن جميعا واقتصر جمهور أصحابنا على أنه يستلم الحجر وأما
الاسلام فهو المسح باليد عليه وهو مأخوذ من السلام بكسر السين وهي الحجارة وقيل من
8

السلام بفتح السين الذي هو التحية قوله (رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى
الحجر ثلاثا ومشى أربعا) فيه بيان أن الرمل يشرع في جميع المطاف من الحجر إلى الحجر وأما
حديث ابن عباس المذكور بعد هذا بقليل قال وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة
أشواط ويمشوا ما بين الركنين فمنسوخ بالحديث الأول لأن حديث ابن عباس كان في عمرة
القضاء سنة سبع قبل فتح مكة وكان في المسلمين ضعف في أبدانهم وإنما رملوا اظهارا للقوة
واحتاجوا إلى ذلك في غير ما بين الركنين اليمانيين لأن المشركين
كانوا جلوسا في الحجر وكانوا
لا يرونهم بين هذين الركنين ويرونهم فيما سوى ذلك فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة
الوداع سنة عشر رمل من الحجر إلى الحجر فوجب الأخذ بهذا المتأخر قوله (حدثنا سليم
ابن الأخضر) هو بضم السين وأخضر بالخاء والضاد المعجمتين قوله في رواية أبي الطاهر
باسناده عن جابر (رمل الثلاثة أطواف) هكذا هو في معظم النسخ المعتمدة وفي نادر منها الثلاثة
9

الأطواف وفي أندر منه ثلاثة أطواف فأما ثلاثة أطواف فلا شك في جوازه وفصاحته وأما
الثلاثة الأطواف بالألف واللام فيهما ففيه خلاف مشهور بين النحويين منعه البصريون
وجوزه الكوفيون وأما الثلاثة أطواف بتعريف الأول وتنكير الثاني كما وقع في معظم النسخ
فمنعه جمهور النحويين وهذا الحديث يدل لمن جوزه وقد سبق مثله في رواية سهل بن سعد في
صفة منبر النبي صلى الله عليه وسلم قال فعمل هذه الثلاث درجات وقد رواه مسلم هكذا في كتاب
الصلاة وقد سبق التنبيه عليه قوله (قلت لابن عباس أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف
ومشى أربعة أطواف أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة فقال صدقوا وكذبوا) إلى آخره
يعني صدقوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وكذبوا في قولهم إنه سنة مقصودة متأكدة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعله سنة مطلوبة دائما على تكرر السنين وإنما أمر به تلك السنة
لاظهار القوة عند الكفار وقد زال ذلك المعنى هذا معنى كلام ابن عباس وهذا الذي قاله من
كون الرمل ليس سنة مقصودة هو مذهبه وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم فقالوا هو سنة في الطوفات الثلاث من السبع فإن تركه فقد ترك سنة وفاتته فضيلة
ويصح طوافه ولآدم عليه وقال عبد الله بن الزبير يسن في الطوفات السبع وقال الحسن البصري
والثوري وعبد الملك بن الماجشون المالكي إذا ترك الرمل لزمه دم وكان مالك يقول به ثم
رجع عنه دليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع في الطوفات الثلاث الأول
ومشى في الأربع ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لتأخذوا مناسككم عني والله أعلم
10

قوله (قلت له أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا أسنة هو فإن قومك يزعمون أنه سنة قال صدقوا
وكذبوا) إلى آخره يعني صدقوا في أنه طاف راكبا وكذبوا في أن الركوب أفضل بل المشي أفضل
وإنما ركب النبي صلى الله عليه وسلم للعذر الذي ذكره وهذا الذي قال ابن عباس مجمع عليه أجمعوا
على أن الركوب في السعي بين الصفا والمروة جائز وأن المشي أفضل منه الا لعذر والله أعلم
قوله (لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزل) هكذا هو في معظم النسخ الهزل بضم الهاء
واسكان الزاي وهكذا حكاه القاضي في المشارق وصاحب المطالع عن رواية بعضهم قالا وهو
وهم والصواب الهزال بضم الهاء وزيادة الألف قلت وللأول وجه وهو أن يكون بفتح الهاء
لأن الهزل بالفتح مصدر هزلته هزلا كضربته ضربا وتقديره لا يستطيعون يطوفون لأن الله
تعالى هزلهم والله أعلم قوله (حتى خرج العواتق من البيوت) هو جمع عاتق وهي البكر البالغة
أو المقاربة للبلوغ وقيل التي تتزوج سميت بذلك لأنها عتقت من استخدام أبويها وابتذالها في
11

الخروج والتصرف التي تفعله الطفلة الصغيرة وقد سبق بيان هذا في صلاة العيد قوله (أنهم كانوا
لا يدعون عنه ولا يكرهون) أما يدعون فبضم الياء وفتح الدال وضم العين المشددة أي يدفعون
ومنه قوله تعالى يوم يدعون إلى نار جهنم دعا وقوله تعالى فذلك الذي يدع اليتيم وأما قوله
يكرهون ففي بعض الأصول من صحيح مسلم يكرهون كما ذكرناه من الاكراه وفي بعضها يكرهون
بتقديم الهاء من الكهر وهو الانتهار قال القاضي هذا أصوب وقال وهو
رواية الفارسي والأول رواية ابن ماهان والعذري قوله (وهنتهم حمى يثرب) هو بتخفيف الهاء أي أضعفتهم قال الفراء
وغيره يقال وهنته الحمى وغيرها وأوهنته لغتان وأما يثرب فهو الاسم الذي كان للمدينة في
الجاهلية وسميت في الاسلام المدينة فطيبة فطابة قال الله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن أهل المدينة يقولون لئن رجعنا إلى المدينة وسيأتي بسط ذلك في آخر كتاب الحج حيث ذكر مسلم
أحاديث المدينة وتسميتها إن شاء الله تعالى قوله (وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط) هذا تصريح بجواز تسمية الرمل شوطا وقد نقل أصحابنا أن مجاهدا
والشافعي كرها
12

تسميته شوطا أو دورا بل يسمى طوفة وهذا الحديث ظاهر في أنه لا كراهة في تسميته شوطا
فالصحيح أنه لا كراهة فيه قوله (ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها الا
الابقاء عليهم) الابقاء بكسر الهمزة وبالباء والموحدة والمدى أي الرفق بهم
استحباب استلام الركنين اليمانيين
(في الطواف دون الركنين الآخرين)
قوله (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح من البيت الا الركنين اليمانيين) وفي الرواية الأخرى
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من أركان البيت الا الركن الأسود والذي يليه من
13

نحو دور الجمحيين وفي الرواية الأخرى لا يستلم الا الحجر والركن اليماني هذه الروايات متفقة
فالركنان اليمانيان هما الركن الأسود والركن اليماني وإنما قيل لهما اليمانيان للتغليب كما
قيل في الأب والأم الأبوان وفي الشمس والقمر القمران وفي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
العمران وفي الماء والتمر الأسودان ونظائره مشهورة واليمانيان بتخفيف الياء هذه اللغة
الفصيحة المشهورة وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما فيها لغة أخرى بالتشديد فمن خفف
قال هذه نسبة إلى اليمن فالألف عوض من احدى يائي النسب فتبقى الياء الأخرى مخففة
ولو شددناها لكان جمعا بين العوض والمعوض وذلك ممتنع ومن شدد قال الألف في اليماني
زائدة وأصله اليمنى فتبقى الياء مشددة وتكون الألف زائدة كما زيدت النون في صنعاني ورقباني
ونظائر ذلك والله أعلم وأما قوله (يمسح) فمراده يستلم وسبق بيان الاستلام وأعلم أن
للبيت أربعة أركان الركن الأسود والركن اليماني ويقال لهما اليمانيان كمسبق وأما الركنان
الآخران فيقال لهما الشاميان فالركن الأسود فيه فضيلتان إحداهما كونه على قواعد إبراهيم
صلى الله عليه وسلم والثانية كونه فيه الحجر الأسود وأما اليماني ففيه فضيلة واحدة وهي كونه
على قواعد إبراهيم وأما الركنان الآخران فليس فيهما شئ من هاتين الفضيلتين فلهذا خص
الحجر الأسود بشيئين الاستلام والتقبيل للفضيلتين وأما اليماني فيستلمه ولا يقبله لأن فيه
فضيلة واحدة وأما الركنان الآخران فلا يقبلان ولا يستلمان والله أعلم وقد أجمعت الأمة
على استحباب استلام الركنين اليمانيين واتفق الجماهير على أنه لا يمسح الركنين الآخرين
واستحبه بعض السلف وممن كان يقول باستلامهما الحسن والحسين ابنا علي وابن الزبير وجابر
ابن عبد الله وأنس بن مالك وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد رضي الله عنهم قال
القاضي أبو الطيب أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان قال وإنما كان فيه خلاف
لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما لا يستلمان والله أعلم قوله (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم الا الحجر الأسود والركن اليماني) يحتج به الجمهور
14

في أنه يقتصر بالاستلام في الحجر الأسود عليه دون الركن الذي هو فيه وقد سبق قريبا في
خلاف القاضي أبي الطيب قوله (رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته
منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) فيه استحباب تقبيل اليد بعد استلام الحجر
الأسود إذا عجز عن تقبيل الحجر وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر وإلا فالقادر
يقبل الحجر ولا يقتصر في اليد على الاستلام بها وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد
بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور لا يستحب
التقبيل وبه قال مالك في أحد قوليه والله أعلم
15

استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف
قوله (قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال أم والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وفي الرواية الأخرى وإني لأعلم أنك حجر وأنك
لا تضر ولا تنفع هذا الحديث فيه فوائد منها استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف بعد
استلامه وكذا يستحب السجود على الحجر أيضا بأن يضع جبهته عليه فيستحب أن يستلمه
ثم يقبله ثم يضع جبهته عليه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وحكاه أبن المنذر عن عمر بن الخطاب
وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد قال وبه أقول قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وانفرد مالك عن العلماء فقال السجود
عليه بدعه واعترف القاضي عياض المالكي
بشذوذ مالك في هذه المسألة عن العلماء وأما الركن اليماني فيستلمه ويقبله بل يقبل اليد
بعد استلامه هذا مذهبنا وبه قال جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وقال
أبو حنيفة لا يستلمه وقال مالك وأحمد يستلمه ولا يقبل اليد بعده وعن مالك رواية أنه يقبله
وعن أحمد رواية أنه يقبله والله أعلم وأما قول عمر رضي الله عنه لقد علمت أنك حجر وأنى لأعلم أنك حجر
وأنت لا تضر ولا تنفع فأراد به بيان الحث على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في تقبيله ونبه
على أنه أولا الاقتداء به لما فعله وإنما قال وأنك لا تضر ولا تنفع لئلا يغتر بعض قربى
16

العهد بالاسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيما ورجاء نفعها وخوف الضر بالتقصير
في تعظيمها وكان العهد قريبا بذلك فخاف عمر رضي الله عنه أن يراه بعضهم يقبله ويعتنى
به فيشتبه عليه فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب
فمعناه أنه لا قدرة له على نفع ولا ضر وأنه حجر مخلوق كباقي المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع
وأشاع عمر هذا في الموسم ليشهد في البلدان ويحفظه عنه أهل الموسم المختلفوا الأوطان والله
أعلم قوله (رأيت
الأصلع) وفي رواية الأصيلع يعني عمر رضي الله عنه فيه أنه لا بأس بذكر
الانسان بلقبه ووصفه الذي يكرهه وإن كان قد يكره غيره مثله قوله (رأيت عمر رضي الله
عنه قبل الحجر والتزمه وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا) يعني معتنيا
17

وجمعه أحفياء قوله والتزمه فيه إشارة إلى ما قدمنا من استحباب السجود عليه والله أعلم
جواز الطواف على بعير وغيره واستلام)
(الحجر بمحجن ونحوه للراكب)
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن)
المحجن بكسر الميمي وإسكان الحاء وفتح الجيم وهو عصا معقفة يتناول بها الراكب ما سقط له
ويحرك بطرفها بعيره للمشي وفي هذا الحديث جواز الطواف راكبا واستحباب استلام الحجر
وأنه إذا عجز عن استلامه بيده استلمه بعود وفيه جواز قول حجة الوداع وقد قدمنا أن بعض
العلماء كره أن يقال لها حجة الوداع وهو غلو الصواب جواز قول حجة الوداع والله أعلم
واستدل به أصحاب مالك وأحمد على طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه لأنه لا يؤمن ذلك من
البعير فلو كان نجسا لما عر ض المسجد له ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة وآخرين
نجاسة ذلك وهذا الحديث لا دلالة فيه لأنه ليس من ضرورته أن يبول أو يروث في حال
الطواف وإنما هو محتمل وعلى تقدير حصوله ينظف المسجد منه كما أنه صلى الله عليه وسلم أقر
ادخال الصبيان الأطفال المسجد مع أنه لا يؤمن بولهم
بل قد وجد ذلك ولأنه لو كان ذلك محققا
لنزه المسجد منه سواء كان نجسا أو طاهرا لأنه مستقذر قوله في طوافه صلى الله عليه وسلم
18

راكبا (لأن يراه الناس ويشرف وليسألوه) هذا بيان لعلة ركوبة صلى الله عليه وسلم وقيل
أيضا لبيان الجواز وجاء في سنن أبي داود أنه كان صلى الله عليه وسلم وقيل أيضا لبيان الجواز وجاء في سنن أبي داود أنه كان صلى الله عليه وسلم في طوافه هذا مريضا وإلى
هذا المعنى أشار البخاري وترجم عليه باب المريض يطوف راكبا فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم طاف
راكبا لهذا كله قوله (فإن الناس غشوه) هو بتخفيف الشين أي ازدحموا عليه قولها (كراهية
أن يضرب عنه الناس) هكذا هو في معظم النسخ يضرب بالباء وفي بعضها يصرف بالصاد المهملة
والفاء وكلاهما
صحيح قوله (حدثني الحكم بن موسى القنطري) هو بفتح القاف قال السمعاني هو
من قنطرة بردان وهي محلة من بغداد قوله (وحدثنا معروف بن خربوذ) هو بخاء معجمة مفتوحة
ومضمومة الفتح أشهر وممن حكاهما القاضي عياض في المشارق والقائل بالضم هو أبو الوليد الباجي
وقال الجمهور بالفتح وبعد الخاء مفتوحة مشددة ثم باء موحدة مضمومة ثم واو ثم ذال معجمة
19

قوله (رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن)
فيه دليل على استحباب استلام الحجر الأسود وأنه إذا عجز عن استلامه بيده بأن كان راكبا أو غيره
استلمه بعصا ونحوها ثم قبل ما استلم به وهذا مذهبنا قوله صلى الله عليه وسلم (طوفي من وراء الناس
وأنت راكبة قالت فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يصلى إلى جنب البيت وهو يقرأ
الطور وكتاب مسطور إنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالطواف من وراء الناس لشيئين أحدهما أن
سنة النساء التباعد عن الرجال في الطواف والثاني أن قربها يخاف منه تأذى الناس بدابتها
وكذا إذا طاف الرجل راكبا وإنما طافت في حال صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أستر لها
وكانت هذه الصلاة صلاة الصبح والله أعلم
بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج الا به
مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن السعي بين الصفا والمروة ركن من
أركان الحج لا يصح الا به ولا يجبر بدم ولا غيره وممن قال بهذا مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وقال بعض السلف هو تطوع وقال أبو حنيفة هو واجب فإن تركه عصى وجبره
20

بالدم وصح حجه دليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم
سعى وقال خذوا عني مناسككم والمشروع سعى واحد والأفضل أن يكون بعد طواف القدوم ويجوز تأخيره إلى ما بعد طواف الإفاضة
قوله (عن عروة أنه قال ما معناه ان السعي ليس بواجب لأن الله تعالى قال فلا جناح عليه أن
يطوف بهما وأن عائشة أنكرت عليه وقالت لا يتم الحج الا به ولو كان كما تقول يا عروة
لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) قال العلماء هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير
معرفتها بدقائق الألفاظ لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما
وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي ولا على وجوبه فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن
الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه وبينت السبب في نزولها والحكمة في نظمها
وأنها نزلت في الأنصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الاسلام وأنها لو كانت
كما يقول عروة لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وقد يكون الفعل واجبا ويعتقد انسان
انه يمنع ايقاعه على صفة مخصوصة وذلك كما عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجرز فعلها عند
غروب الشمس فسأل عن ذلك فيقال في جوابه لا جناح عليك أن صليتها في هذا الوقت فيكون
جوابا صحيحا ولا يقتضى نفي وجوب صلاة الظهر قولها (وهل تدري فيما كان ذلك إنما
كان ذلك لأن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما اساف
ونائلة) قال القاضي عياض هكذا وقع في هذه الرواية قال وهو غلط والصواب ما جاء في
الروايات الأخر في الباب يهلون لمناة وفي الرواية الأخرى لمناة الطاغية التي بالمشلل وقال وهذا
21

هو المعروف ومناة صنم كان نصبهم عمرو بن لحى في جهة البحر بالمشلل مما يلي قديدا وكذا
جاء مفسرا في هذا الحديث في الموطأ وكانت الأزد وغسان تهل له بالحج وقال ابن الكلبي
مناة صخرة لهذيل بقديد وأما اساف ونائلة فلم يكونا قط في ناحية البحر وإنما كانا فيما يقال
رجلا وامرأة فالرجل اسمه اساف بن بقاء ويقال ابن عمرو والمرأة اسمها نائلة بنت ذئب
ويقال بنت سهل قيل كانا من جرهم فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنصبا عند
الكعبة وقيل على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما ويتعظوا ثم حولهما قصي بن كلاب
فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر بزمزم وقيل جعلهما بزمزم ونحر عندهما وأمر
22

بعبادتهما فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة كسرهما هذا آخر كلام القاضي عياض قوله
في حديث عمر والناقد وابن أبي عمر (بئس س ما قلت يا ابن أختي) هكذا هو في أكثر النسخ
بالتاء وفي بعضها أخي بحذف التاء وكلاهما صحيح والأول أصح وأشهر وهو المعروف في غير
هذه الرواية قوله (فأعجبوا قال إن هذا العلم) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قال القاضي
وروى أن هذا لعلم بالتنوين وكلاهما صحيح ومعنى الأول ان هذا هو العلم المتقن ومعناه
استحسان قول عائشة رضي الله عنها وبلاغتها في تفسير الآية الكريمة قوله (فأراها قد نزلت
في هؤلاء) ضبطوه بضم الهمزة من أراها وفتحها والضم أحسن وأشهر
23

قولها (قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما) يعنى شرعه وجعله ركنا والله أعلم بيان أن السعي لا يكرر
قوله (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة الا طوافا واحدا) طوافه
24

الأول فيه دليل على أن السعي في الحج أو العمرة لا يكرر بل يقتصر منه على مرة واحدة ويكره
تكراره لأنه بدعة وفيه دليل لما قدمناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا وأن القارن
يكفيه طواف واحد وسعى واحد وقد سبق خلاف أبي حنيفة وغيره في المسألة والله أعلم
باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمى جمرة العقبة يوم النحر
قوله في حديث أسامة (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات) هذا دليل على
استحباب الركوب في الدفع من عرفات وعلى جواز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة وعلى
جواز الارتداف مع أهل الفضل ولا يكون ذلك خلاف الأدب قوله (فصببت عليه الوضوء
فتوضأ وضوءا خفيفا) فقوله فصببت عليه الوضوء الوضوء هنا بفتح الواو وهو الماء الذي
يتوضأ به وسبق فيه لغة أنه يقال بالضم وليست بشئ وقوله (فتوضأ وضوءا خفيفا) يعني
توضأ وضوء الصلاة وخففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب
عادته صلى الله عليه وسلم وهذا معنى قوله في الرواية الأخرى فلم يسبغ الوضوء أي لم يفعله على
25

العادة وفيه دليل على جواز الاستعانة في الوضوء قال أصحابنا الاستعانة فيه ثلاثة أقسام أحدها
أن يستعين في احضار الماء من البئر والبيت ونحوهما وتقديمه إليه وهذا جائز ولا يقال أنه
خلاف الأولى والثاني أن يستعين بمن يغسل الأعضاء فهذا مكروه كراهة تنزيه الا أن يكون
معذورا بمرض أو غيره والثالث أن يستعين بمن يصب عليه فإن كان لعذر فبأس وإلا فهو
خلاف الأولى وهل يسمى مكروها فيه وجهان لأصحابنا أصحهما ليس بمكروه لأنه لم يثبت
فيه نهى وأما استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بأسامة والمغيرة بن شعبة في غزوة تبوك وبالربيع
بنت معوذ فلبيان الجواز ويكون أفضل في حقه حينئذ لأنه مأمور بالبيان والله أعلم
قوله (قلت الصلاة يا رسول الله فقال الصلاة أمامك) معناه أن أسامة ذكره بصلاة المغرب وظن
أن النبي صلى الله عليه وسلم نسيها حيث أخرها عن العادة المعروفة في غير هذه الليلة فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة أمامك أي ان الصلاة في هذه الليلة مشروعه فيما بين
يديك أي في المزدلفة ففيه استحباب تذكير التابع المتبوع بما تركه خلاف العادة
ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه وإن مخالفته للعادة سببها كذا وكذا وأما قوله
صلى الله عليه وسلم الصلاة أمامك ففيه أن السنة في هذا الموضع في هذه الليلة تأخير
المغرب إلى العشاء والجمع بينهما في المزدلفة وهو كذلك بإجماع المسلمين وليس هو بواجب
بل سنة فلو صلاهما في طريقه أو صلى كل واحدة في وقتها جاز وقال بعض أصحاب مالك ان
صلى المغرب في وقتها لزمه اعادتها وهذا شاذ ضعيف قوله (لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة) دليل
على أنه يستديم التلبية حتى يشرع في رمى جمرة العقبة غداة يوم النحر وهذا مذهب الشافعي
26

وسفيان والثوري وأبي حنفية وأبي ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار
ومن بعدهم وقال الحسن البصري يلبي حتى يصلي الصبح يوم عرفة ثم يقطع وحكى عن علي وابن
عمر وعائشة ومالك وجمهور فقهاء المدينة أنه يلبي حتى نزول الشمس يوم عرفة ولا يلبي بعد
الشروع في الوقوف وقال أحمد وإسحاق وبعض السلف يلبي حتى يفرغ من رمي جمرة العقبة
ودليل الشافعي والجمهور هذا الحديث الصحيح مع الأحاديث بعده ولا حجة للآخرين في مخالفتها
فيتعين اتباع السنة وأما قوله في الرواية الأخرى (لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) فقد يحتج به
أحمد وإسحاق لمذهبهما ويجيب الجمهور عنه بأن المراد حتى شرع في الرمي ليجمع بين الروايتين قوله (غداة جمع) هي بفتح الجيم وإسكان الميم وهم المزدلفة وسبق بيانها
قوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بالسكينة) هذا إرشاد إلى الأدب والسنة في السير لك الليلة ويلحق بها سائر مواضع
الزحام قوله (وهو كاف ناقته) أي يمنعها الاسراع قوله (دخل محسرا وهو من منى) الخ أما
محسر فسبق ضبطه وبيانه في حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (بحصى الخذف) قال العلماء هو نحو حبة الباقلا قال أصحابنا ولو رمى بأكبر منها أو
27

أصغر جاز وكان مكروها وأما قوله (يشير بيده كما يخذف الانسان) فالمراد به الايضاح وزيادة
البيان لحصى الخذف وليس المراد أن الرمي يكون على هيئة الخذف وإن كان بعض أصحابنا قد
قال باستحباب ذلك لكنه غلط والصواب أنه لا يستحب كون الرمي على هيئة الخذف فقد
ثبت حديث عبد الله بن المغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخذف وإنما معنى
هذه الإشارة ما قدمناه والله أعلم قوله (قال عبد الله ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة
البقرة يقول في هذا المقام لبيك اللهم لبيك) فيه دليل
على استحباب إدامة التلبية بعد الوقوف
بعرفات وهو مذهب الجمهور كما سبق وفيه دليل على جواز قول سورة البقرة وسورة النساء وشبه
ذلك وكره ذلك بعض الأوائل وقال إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة والسورة التي تذكر
فيها النساء وشبه ذلك والصواب جواز قول سورة البقرة وسورة النساء وسورة المائدة وغيرها
وبهذا قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة
28

من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كحديث من قرأ الآيتين من آخر سورة
البقرة في ليلة كفتاه والله أعلم وأما قول عبد الله بن مسعود سمعت الذي أنزلت عليه سورة
البقرة فإنما خص البقرة لأن معظم أحكام المناسك فيها فكأنه قال هذا مقام من أنزلت عليه
المناسك وأخذ عنه الشرع وبين الأحكام فاعتمدوه وأراد بذلك الرد على من يقول بقطع التلبية من
الوقوف بعرفات وهذا معنى قوله في الرواية الثانية أن عبد الله لبى حين أفاض من جمع فقيل
أعرابي هذا فقال ابن مسعود ما قال إنكارا على المعترض وردا عليه والله أعلم
التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة
قوله (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر) وفي
29

الرواية (الأخرى يهلل المهلل فلا ينكر عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه) فيه دليل على استحبابهما
في الذهاب من منى إلى عرفات يوم عرفة والتلبية أفضل وفيه رد على من قال بقطع التلبية بعد
صبح يوم عرفة والله أعلم
الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة
(واستحباب صلاتي المغرب والعشاء جمعا بالمزدلفة في هذه الليلة)
فيه حديث أسامة وسبق بيان شرحه في الباب الذي قبل هذا وفيه الجمع بين المغرب والعشاء
في وقت العشاء في هذه الليلة في المزدلفة وهذا مجمع عليه لكن اختلفوا في حكمه فمذهبنا أنه
على الاستحباب فلو صلاهما في وقت المغرب أو في الطريق أو كل واحدة في وقتها جاز وفاتته
30

الفضيلة وقد سبق بيان المسألة في الباب المذكور قوله (أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ
كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا) وفي الرواية الأخرى
في آخر الباب أنه صلاهما بإقامة واحدة وقد سبق في حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي
صلى الله عليه وسلم أنه أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين وهذه الرواية
مقدمة على الروايتين الأوليين لأن مع جابر زيادة علم وزيادة الثقة مقبولة ولأن جابر اعتنى
الحديث ونقل حجة النبي صلى الله عليه وسلم مستقصاة فهو أولى بالاعتماد وهذا هو الصحيح
من مذهبنا انه يستحب الأذان للأولى منهما ويقيم لكل واحدة إقامة فيصليهما بأذان وإقامتين
ويتأول حديث إقامة واحدة أن كل صلاة له إقامة ولا بد من هذا ليجمع بينه وبين الرواية
الأولى وبينه أيضا وبين رواية جابر وقد سبق إيضاح المسألة في حديث جابر والله أعلم
قوله (فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ
كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا) وفيه دليل على استحباب
المبادرة بصلاتي المغرب والعشاء أول قدومه المزدلفة ويجوز تأخيرهما إلى قبيل طلوع الفجر
وفيه أنه لا يضر الفصل بين الصلاتين المجموعتين إذا كان الجمع في وقت الثانية لقوله ثم أناخ
كل انسان بعيره في منزله وأما إذا جمع بينهما في وقت الأولى فلا يجوز الفصل بينهما فإن
فصل بطل الجمع ولم تصح الصلاة الثانية الا في وقتها الأصلي وأما قوله (ولم يصل بينهما شيئا)
ففيه أنه لا يصلى بين المجموعتين شيئا ومذهبنا استحباب السنن الراتبة لكن يفعلها بعدهما لا
بينهما ويفعل سنة الظهر التي قبلها قبل الصلاتين والله أعلم قوله (نزل قبال) ولم يقل أسامة
أراق الماء فيه أداء الرواية بحروفها وفيه استعمال صرائح الألفاظ التي قد تستبشع ولا يكنى عنها
إذا دعت الحاجة إلى التصريح بأن خيف لبس المعنى أو اشتباه الألفاظ أو غير ذلك قوله
31

(وما قال اهراق الماء) هو بفتح الهاء قوله (حتى أقام العشاء الآخرة) فيه دليل لصحة
32

اطلاق العشاء الآخرة وأما انكار الأصمعي وغيره ذلك وقولهم إنه من لحن العوام ومحال
كلامهم وأن صوابه العشاء فقط ولا يجوز وصفها بالآخرة فغلط منهم بل الصواب جوازه
وهذا الحديث صريح فيه وقد تظاهرت به أحاديث كثيرة وقد سبق بيانه واضحا في مواضع كثيرة
من كتاب الصلاة قوله (لما أتى النقب) هو بفتح النون واسكان القاف وهو الطريق في
الجبل وقيل الفرجة بين جبلين قوله (عن الزهري عن عطاء مولى سباع عن أسامة بن زيد)
هكذا وقع في معظم النسخ عطاء مولى سباع وفي بعض النسخ مولى أم سباع وكلاهما خلاف
المعروف فيه وإنما المشهور عطاء مولى بنى سباع هكذا ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي
حاتم في كتابه الجرح والتعديل وخلف الواسطي في الأطراف والحميدي في الجمع بين الصحيحين
والسمعاني في الأنساب وغيرهم وهو عطاء بن يعقوب وقيل عطاء بن نافع وممن ذكر الوجهين
في اسم أبيه البخاري وخلف والحميدي واقتصر ابن أبي حاتم والسمعاني وغيرهما على أن عطاء
ابن يعقوب قالوا كلهم وهو عطاء الكيخاراني بفتح الكاف واسكان المثناة من تحت وبالخاء
المعجمة ويقال فيه أيضا الكوخاراني واتفقوا على أنها نسبة إلى موضع باليمن هكذا قاله الجمهور قال أبو
33

سعد السمعاني هي قرية باليمن يقال لها كيخران قال يحيى بن معين عطاء هذا ثقة والله أعلم قوله (فما زال
يسير على هيئته) هو بهاء مفتوحة وبعد الياء همزة هكذا هو في معظم النسخ وفي بعضها هينته بكسر
الهاء وبالنون وكلاهما صحيح المعنى قوله (كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص) وفي الرواية
الأخرى قال هشام والنص فوق العنق أما العنق فبفتح العين والنون والنص بفتح النون وتشديد
الصاد المهملة وهما نوعا من اسراع السير وفي العنق نوع من الرفق والفجوة بفتح الفاء المكان المتسع
34

ورواه بعض الرواة في الموطأ فرجة بضم الفاء وفتحها وهي بمعنى الفجوة وفيه من الفقه استحباب الرفق
في السير في حال الزحام فإذا وجد فرجة استحب الاسراع ليبادر إلى المناسك وليتسع الوقت
ليمكنه الرفق في حال الزحمة والله أعلم قوله (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء
بجمع ليس بينهما سجدة) يعني بالسجدة صلاة النافلة أي لم يصل بينهما نافلة وقد جاءت السجدة بمعنى
النافلة وبمعنى الصلاة قوله (وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين) فيه دليل
على أن المغرب لا يقصر بل يصلي ثلاثا أبدا وكذلك أجمع عليه المسلمون وفيه أن القصر في العشاء
35

وغيرها من الرباعيات أفضل والله أعلم قوله (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عبد الله
ابن نمير قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحاق قال قال سعيد بن جبير أفضلنا مع ابن
عمر إلى آخره) هذا من الأحاديث التي استدركها الدارقطني فقال هذا عندي وهم من إسماعيل
وقد خالفه جماعة منهم شعبة والثوري وإسرائيل وغيرهم فرووه عن أبي إسحاق عن عبد الله
ابن مالك عن ابن عمر قال وإسماعيل وإن كان ثقة فهؤلاء أقوم بحديث أبي إسحاق منه هذا كلامه
وجوابه ما سبق بيانه مرات في نظائره أنه يجوز أن أبا إسحاق سمعه بالطريقين فرواه بالوجهين
وكيف كان فالمتن صحيح لا مقدح فيه والله أعلم
استحباب زيادة التغليس بصلاة الصبح يوم النحر
(
بالمزدلفة والمبالغة فيه بعد تحقيق طلوع الفجر)
قوله عن عبد الله بن مسعود (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الا لميقاتها
36

الا صلاتين المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) معناه أنه صلى المغرب
في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها) معناه أنه صلى المغرب في وقت العشاء بجمع التي هي المزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها المعتاد ولكن بعد تحقق
طلوع الفجر فقوله قبل وقتها المراد قبل وقتها المعتاد لا قبل طلوع الفجر لأن ذلك ليس بجائز
بإجماع المسلمين فيتعين تأويله على ما ذكرته وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث في بعض
رواياته ان ابن مسعود صلى الفجر حين طلع الفجر بالمزدلفة ثم قال أن رسول الله
صلى الفجر هذه الساعة وفي رواية فلما طلع الفجر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان لا يصلي هذه الساعة الا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم والله أعلم وفي هذه
الروايات كلها حجة لأبي حنيفة في استحباب الصلاة في آخر الوقت في غير هذا اليوم ومذهبنا
ومذهب الجمهور استحباب الصلاة في أول الوقت في كل الأيام ولكن في هذا اليوم أشد
استحبابا وقد سبق في كتاب الصلاة ايضاح المسألة بدلائلها وتسن زيادة التبكير في هذا اليوم
وأجاب أصحابنا عن هذا الروايات بأن معناها أنه صلى الله عليه وسلم كان في غير هذا اليوم
يتأخر عن أول طلوع الفجر لحظة إلى أن يأتيه بلال وفي هذا اليوم لم يتأخر لكثرة المناسك
فيه فيحتاج إلى المبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل المناسك والله أعلم وقد يحتج أصحاب
أبي حنيفة بهذا الحديث على منع الجمع بين الصلاتين في السفر لأن ابن مسعود من ملازمي النبي
صلى الله عليه وسلم وقد أخبر أنهما ما رآه يجمع الا في هذه المسألة ومذهبنا ومذهب الجمهور
جواز الجمع في جميع الاسفار المباحة التي يجوز فيها القصر وقد سبقت المسألة في كتاب الصلاة
بأدلتها والجواب عن هذا الحديث أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول بالمفهوم ولكن
إذا عارضه منطوق قدمناه على المفهوم وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بجواز الجمع ثم هو
متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات والله أعلم
37

استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن من مزدلفة
(إلى منى في أواخر الليل قبل زحمة الناس واستحباب المكث) (
لغيرهم حتى يصلوا الصبح بمزدلفة)
قوله (وكانت امرأة ثبطة) هي بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وإسكانها وفسره في الكتاب
بأنها الثقيلة أي ثقيلة الحركة بطيئة من التثبيط وهو التعويق قوله (قبل حطمة الناس) بفتح الحاء أي
زحمتهم قوله (ان سودة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من جمع بليل فأذن لها)
فيه دليل لجواز الدفع من مزدلفة قبل الفجر قال الشافعي وأصحابه
يجوز قبل نصف الليل ويجوز رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل واستدلوا بهذا الحديث واختلف العلماء في مبيت الحاج
بالمزدلفة ليلة النحر والصحيح من مذهب الشافعي أنه واجب من تركه لزمه دم وصح حجه وبه قال
38

فقهاء الكوفة وأصحاب الحديث وقالت طائفة هو سنة ان تركه فاتته الفضيلة ولا اثم عليه ولا دم
ولا غيره وهو قول للشافعي وبه قال جماعة وقالت طائفة لا يصح حجه وهو محكى عن النخعي
وغيره وبه قال امامان كبيران من أصحابنا وهما أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي وأبو بكر من خزيمة
وحكى عن عطاء والأوزاعي أن المبيت بالمزدلفة في هذه الليلة ليس بركن ولا واجب ولا سنة
ولا فضيلة فيه بل هو منزل كسائر المنازل ان شاء تركه وإن شاء لم يتركه ولا فضيلة فيه وهذا قول
باطل واختلفوا في قدر المبيت الواجب فالصحيح عند الشافعي أنه ساعة في النصف الثاني
من الليل وفي قوله له ساعة من النصف الثاني أو ما بعده إلى طلوع الشمس وفي قول ثالث له أنه
معظم الليل وعن مالك ثلاث روايات إحداها كل الليل والثاني معظمه والثالث أقل زمان قوله (
يا هنتاه) أي يا هذه هو بفتح الهاء وبعدها نون ساكنه ومفتوحة وإسكانها أشهر ثم تاء مثناة
39

من فوق قال ابن الأثير وتسكن الهاء التي في آخرها وتضم وفي التثنية يا هنتان وفي الجمع باهنات
وهنوات وفي المذكر هن وهنان وهنون قوله (لقد غلسنا قالت كلا) أي لقد تقدمنا على
الوقت المشروع قالت لا قولها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للظعن) هو بضم الظاء والعين
وبإسكان العين أيضا وهن النساء الواحدة ظعينة كسفينة وسفن وأصل الظعينة الهودج الذي
تكون فيه المرأة على البعير فسميت المرأة به مجازا واشتهر هذا المجاز حتى غلب وخفيت الحقيقة
وظعينة الرجل امرأته قوله (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثقل) هو بفتح الثاء والقاف
40

وهو المتاع ونحوه قوله (ان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقدم ضعفة أهله فيقفون
بالمزدلفة عند المشعر الحرام بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون) قد سبق بيان المشعر
الحرام وذكر الخلاف فيه وأن مذهب الفقهاء أنه اسم لقزح خاصة وهو جبل بالمزدلفة ومذهب
المفسرين ومذهب أهل السير أنه جميع المزدلفة وقد جاء في الأحاديث ما يدل لكلا المذهبين
وهذا الحديث دليل لمذهب الفقهاء وقد سبق أن المشهور فتح الميم من المشعر الحرام وقيل بكسرها
وفيه استحباب الوقوف عند المشعر
الحرام بالدعاء والذكر وقوله ما بدا لهم هو بلا همز أي ما أرادوا
41

رمي جمرة العقبة من بطن الوادي
(وتكون مكة عن يساره ويكبره مع كل حصاة
قوله (رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة قال
فقيل له ان ناسا يرمونها من فوقها فقال عبد الله بن مسعود هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت
عليه سورة البقرة) فيه فوائد منها اثبات رمي جمرة العقبة يوم النحر وهو مجمع عليه
وهو واجب وهو أحد أسباب التحلل وهي ثلاثة رمى جمرة العقبة يوم النحر فطواف الإفاضة مع سعيه ان لم
يكن سعى والثالث الحلق عند من يقول إنه نسك وهو الصحيح فلو ترك رمى جمرة العقبة حتى فاتت
أيام التشريق فحجة صحيح وعليه دم هذا قول الشافعي والجمهور وقال بعض أصحاب مالك الرمي ركن
لا يصح الحج الا به وحكى ابن جرير عن بعض الناس أن رمى الجمار إنما شرع حفظا للتكبير ولو تركه وكبر
أجزأه ونحوه عن عائشة رضي الله عنها والصحيح المشهور ما قدمناه ومنها كون الرمي سبع حصيات
وهو مجمع عليه ومنها استحباب التكبير مع كل حصاة وهو مذهبنا ومذهب مالك والعلماء كافة
قال القاضي وأجمعوا على أنه لو ترك التكبير لا شئ عليه ومنها استحباب كون الرمي من بطن الوادي فيستحب أن يقف تحتها في بطن
الوادي فيجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويستقبل
العقبة والجمرة ويرميها بالحصيات السبع وهذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال جمهور العلماء
وقال بعض أصحابنا يستحب أن يقف مستقبل الجمرة مستدبرا مكة وقال بعض أصحابنا يستحب
أن يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والصحيح الأول وأجمعوا على أنه من حيث
رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو عن يساره أو رماها من فوقها أو أسفلها أو وقف في
42

وسطها ورماها وأما رمى باقي الجمرات في أيام التشريق فيستحب من فوقها وأما قوله هذا مقام الذي
أنزلت عليه سورة البقرة فسبق شرحه قريبا والله أعلم (عن الأعمش سمعت الحجاج بن يوسف
يقول وهو يخطب على المنبر ألفوا القرآن كما ألفه جبريل السورة التي يذكر فيها البقرة والسورة
التي يذكر فيها النساء والسورة التي يذكر فيها آل عمران فلقيت إبراهيم فأخبرته بقوله فسبه) قال
القاضي عياض إن كان الحجاج أراد بقوله كما ألفه جبريل تأليف الآي في كل سورة ونظمها على ما هي
عليه الآن في المصحف فهو اجماع المسلمين وأجمعوا أن ذلك تأليف النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يريد
تأليف السورة بعضها في أثر بعض فهو قول بعض الفقهاء والقراء وخالفهم المحققون وقالوا بل
هو اجتهاد من الأئمة وليس بتوقيف قال القاضي وتقديمه هنا النساء على آل عمران دليل على
أنه لم يرد الا نظم الآي لأن الحجاج إنما كان يتبع مصحف عثمان رضي الله عنه ولا يخالفه
43

والظاهر أنه أراد ترتيب الآي لا ترتيب السور قوله (وجعل البيت عن يساره ومنى عن
يمينه) هذا دليل للمذهب الصحيح الذي قدمناه في الموقف المستحب للرمي قوله (حدثنا أبو
المحياة) هو بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة تحت والله أعلم
استحباب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا
(وبيان قوله صلى الله عليه وسلم لتأخذوا مناسككم)
قوله (أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يرمى على راحلته يوم النحر ويقول لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي
44

هذه) فيه دلالة لما قاله الشافعي وموافقوه أنه يستحب لمن وصل منى راكبا أن يرمي جمرة
العقبة يوم النحر راكبا ولو رماها ماشيا جاز وأما من وصلها ماشيا فيرميها ماشيا وهذا
في يوم النحر وأما اليومان الأولان من أيام التشريق فالسنة أن يرمي فيه جميع الجمرات ماشيا
وفي اليوم الثالث يرمي راكبا وينفر هذه كله مذهب مالك والشافعي وغيرهما وقال أحمد
وإسحاق يستحب يوم النحر أن يرمي ماشيا قال ابن المنذر وكان ابن عمر وابن الزبير وسالم
يرمون مشاة قال وأجمعوا على أن الرمي يجزيه على أي حال رماه إذا وقع في المرمى وأما قوله
صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا مناسككم (فهذه اللام لام الأمر ومعناه خذوا مناسككم وهكذا
وقع في رواية غير مسلم وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال
والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها وحفظوها واعملوا بها
وعلموها الناس وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم في
الصلاة صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله صلى الله عليه وسلم (لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) فيه
إشارة إلى توديعهم واعلامهم بقرب وفاته صلى الله عليه وسلم وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه
وانتهاز الفرصة من ملازمته وتعلم أمور الدين وبهذا سميت حجة الوداع والله أعلم قولها (حججت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو
على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر يرفع ثوبه على رأس رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الشمس) فيه جواز تسميتها حجة الوداع وقد سبق أن من الناس من أنكر
45

ذلك وكرهه وهو غلط وسبق بيان ابطاله وفيه الرمي راكبا كما سبق وفيه جواز تظليل المحرم على
رأسه بثوب وغيره وهو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء سواء كان راكبا أو نازلا وقال مالك
وأحمد لا يجوز وإن فعل لزمته الفدية وعن أحمد رواية أنه لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت
خيمة أو سقف جاز ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرا في المحمل لا فدية وكذا لو استظل
بيده وقد يحتجون بحديث عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال صحبت عمر ابن الخطاب رضي
الله عنه فما رأيته مضربا فسطاطا حتى رجع رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن وعن ابن عمر رضي
الله عنه أنه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال اضح لمن
أحرمت له رواه البيهقي بإسناد صحيح وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من محرم
يضحى للشمس حتى تغرب الا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه رواه البيهقي وضعفه
واحتج الجمهور بحديث أم الحصين وهذا المذكور في مسلم ولأنه لا يسمى لبسا وأما حديث
جابر فضعيف كما ذكرنا مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر ليس فيه نهى ولو
كان فحديث أم الحصين مقدم عليه والله أعلم قولها (سمعته يقول أن أمر عليكم عبد مجدع
حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا) المجدع بفتح الجيم والدال المهملة
المشددة والجدع القطع من أصل العضو ومقصودة التنبيه على نهاية خسته فإن العبد خسيس
في العادة ثم سواده نقص آخر وجدعه نقص آخر وفي الحديث الآخر كأن رأسه زبيبة ومن
هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة والعادة أن يكون ممتهنا في أرذل الأعمال فأمر
46

صلى الله عليه وسلم بطاعة ولي الأمر ولو كان بهذه الخساسة ما دام يقودنا بكتاب الله تعالى قال
العلماء معناه ما داموا متمسكين بالاسلام والدعاء إلى كتاب الله تعالى على أي حال كانوا في
أنفسهم وأديانهم وأخلاقهم ولا يشق عليهم العصا بل إذا ظهرت منهم المنكرات وعظوا
وذكروا فإن قيل كيف يؤمر بالسمع والطاعة للعبد مع أن شرط الخليفة كونه قرشيا فالجواب
من وجهين أحدهما أن المراد بعض الولاة الذين يوليهم الخليفة ونوابه لا أن الخليفة يكون
عبدا والثاني ان المراد لو قهر عبد مسلم واستولى بالقهر نفذت أحكامه ووجبت طاعته ولم
يجز شق العصا عليه والله أعلم
استحباب كون حصى الجمار بقدر حصى الخذف
قوله (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بمثل حصى الخذف) فيه دليل على استحباب
كون الحصى في هذا القدر وهو كقدر حبة الباقلا ولو رمى بأكبر أو أصغر جاز مع الكراهية
وقد سبقت المسألة مستوفاة قريبا في
باب استحباب إدامة التلبية إلى رمى الجمرة بيان وقت استحباب الرمي)
قوله (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس)
47

المراد بيوم النحر جمرة العقبة فإنه لا يشرع فيه غيرها بالاجماع وأما أيام التشريق الثلاثة فيرمى
كل يوم منها بعد الزوال وهذا المذكور في جمرة يوم النحر سنة باتفاقهم وعندنا يجوز تقديمه
من نصف ليلة النحر وأما أيام التشريق فمذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء أنه لا يجوز
الرمي في الأيام الثلاثة الا بعد الزوال لهذا الحديث الصحيح وقال طاوس وعطاء يجزئه في الأيام
الثلاثة قبل الزوال وقال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال دليلنا
أنه صلى الله عليه وسلم رمى كما ذكرنا وقال صلى الله عليه وسلم لتأخذوا مناسككم واعلم أن رمى
جمار أيام التشريق يشترط فيه الترتيب وهو أن يبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ثم
الوسطى ثم جمرة العقبة ويستحب أن يقف عقب رمى الأولى عندها مستقبل القبلة زمانا طويلا
يدعو ويذكر الله ويقف كذلك عن الثانية ولا يقف عند الثالثة ثبت معنى ذلك في صحيح البخاري
من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ويستحب هذا في كل يوم من الأيام الثلاثة
والله أعلم ويستحب رفع اليدين في هذا الدعاء عندنا وبه قال جمهور علماء وثبت في صحيح
البخاري من رواية ابن عمر في حديثه الذي قدمناه واختلف قول مالك في ذلك وأجمعوا على
أنه لو ترك هذا الوقوف للدعاء فلا شئ عليه الا ما حكى عن الثوري أنه قال يطعم شيئا أو يهريق دما
بيان أن حصى الجمار سبع
قوله صلى الله عليه وسلم (الاستجمار تو ورمى الجمار تو والسعي بين الصفا والمروة تو والطواف
48

تو وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو) التو بفتح التاء المثناة فوق وتشديد الواو وهو الوتر والمراد
بالاستجمار الاستنجاء قال القاضي وقوله في آخر الحديث وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ليس
للتكرار بل المراد بالأول الفعل وبالثاني عدد الأحجار والمراد بالتو في الجمار سبع سبع وفي
الطواف سبع وفي السعي سبع وفي الاستنجاء ثلاث فإن لم يحصل الانقاء بثلاث وجبت الزيادة
حتى ينقى فإن حصل الانقاء بوتر فلا زيادة وان حصل بشفع استحب زيادة مسحه للايتار وفيه
وجه أنه واجب قال بعض أصحابنا وقال به جماعة من العلماء والمشهور الاستحباب والله أعلم
تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير
قوله (حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحاب وقصر بعضهم) وذكر الأحاديث
في دعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة بعد ذلك هذا كله تصريح
بجواز الاقتصار على أحد الأمرين ان شاء اقتصر على الحلق وإن شاء على التقصير وتصريح بتفضيل
الحلق وقد أجمع العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير وعلى ان التقصير يجزى الا ما حكاه ابن المنذر
عن الحسن البصري أنه كان يقول يلزمه الحلق في أول حجة ولا يجزئه التقصير وهذا ان صح عنه
49

مردود بالنصوص وإجماع من قبله ومذهبنا المشهور ان الحلق أو التقصير نسك من مناسك الحج
والعمرة وركن من أركانهما لا يحصل واحد منهما الا به وبهذا قال العلماء كافة وللشافعي قول شاذ ضعيف
أنه استباحة محظور كالطيب واللباس وليس بنسك والصواب الأول وأقل ما يجزى من الحلق والتقصير
عند الشافعي ثلاث شعرات وعند أبي حنيفة ربع الرأس وعند أبي يوسف نصف الرأس وعند مالك
وأحمد أكثر الرأس وعن مالك رواية أنه كل الرأس وأجمعوا أن الأفضل حلق جميعه أو تقصير جميعه
ويستحب أن لا ينقص في التقصير عن قدر الأنملة من أطراف الشعر فإن قصر دونها جاز
لحصول اسم التقصير والمشروع في حق النساء التقصير ويكره لهن الحلق فلو حلقن حصل
النسك ويقوم مقام الحلق والتقصير النتف والاحراق والقص وغير ذلك من أنواع إزالة
الشعر واعلم أن قوله حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم
ودعاؤه صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا ثم للمقصرين مرة كل هذا كان في حجة الوداع هذا
هو الصحيح المشهور وحكى القاضي عياض عن بعضهم أن هذا كان يوم الحديبية حين أمرهم
بالحلق فما فعله أحد لطمعهم بدخول مكة في ذلك الوقت وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارحم
المحلقين ثلاثا قيل يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم قال لأنهم لم يشكوا قال ابن عبد البر
50

وكونه في الحديبية هو المحفوظ قال القاضي قد ذكر مسلم في الباب خلاف ما قالوه وإن كانت
أحاديثه جاءت مجملة غير مفسرة موطن ذلك لأنه ذكر من رواية ابن أبي شيبة ووكيع في حديث
يحيى بن الحصين عن جدته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم دعا في حجة الوداع
في رمى جمرة العقبة يوم النحر حديث يحيى بن الحصين عن جدته هذه أم الحصين قالت حججت
مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله في الموضعين ووجه فضيلة الحلق على التقصير أنه
أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في التذلل لله تعالى ولأن المقصر مبق على نفسه الشعر
الذي هو زينة والحاج مأمور بترك الزينة بل هو أشعث أغبر والله أعلم واتفق العلماء على
أن الأفضل في الحلق والتقصير أن يكون بعد رمى جمرة العقبة وبعد ذبح الهدى إن كان معه
وقبل طواف الإفاضة وسواء كان قارنا أو مفردا وقال ابن الجهم المالكي لا يحلق القارن حتى
يطوف ويسعى وهذا باطل مردود بالنصوص واجماع من قبله وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي
صلى الله عليه وسلم حلق قبل طواف الإفاضة وقد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا في آخر
51

أمره ولو لبد المحرم رأسه فالصحيح المشهور من مذهبنا أنه يستحب له حلقه في وقت الحلق
ولا يلزمه ذلك وقال جمهور العلماء يلزمه حلقه
(فصل) قدمنا في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح ان إبراهيم بن سفيان صاحب
مسلم فاته من سماع هذا الكتاب من مسلم ثلاثة مواضع أولها في كتاب الحج وهذا موضعه
وقد سبق التنبيه على أوله وآخره هناك وأن إبراهيم يقول من هنا عن مسلم ولا يقول أخبرنا كما
يقول في باقي الكتاب وأول هذا قول الجلودي حدثنا إبراهيم عن مسلم حدثنا ابن نمير
حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحم الله المحلقين
قالوا والمقصرين يا رسول الله إلى آخره
باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق
(والابتداء في الحلق بالجانب الأيمن من رأس المحلوق)
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال
للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس) هذا الحديث فيه فوائد
52

ثيرة منها بيان السنة في أعمال الحج يوم النحر بعد الدفع من مزدلفة وهي أربعة أعمال
رمى جمرة العقبة ثم نحر الهدى أو ذبحه ثم الحلق أو التقصير ثم دخوله إلى مكة فيطوف طواف
الإفاضة ويسعى بعده ان لم يكن سعى بعد طواف القدوم فإن كان سعى بعده كرهت اعادته
والسنة في هذه الأعمال الأربعة أن تكون مرتبة كما ذكرنا لهذا الحديث الصحيح فإن خالف
ترتيبها فقد مؤخرا أو أخر مقدما جاز للأحاديث الصحيحة التي ذكرها مسلم بعد هذا افعل
ولا خرج ومنها أنه يستحب إذا قدم منى أن لا يعرج على شئ قبل الرمي بل يأتي الجمرة راكبا
كما هو فيرميها ثم يذهب فينزل حيث شاء من منى ومنها استحباب نحر الهدى وأنه يكون بمنى
ويجوز حيث شاء من بقاع الحرم ومنها أن الحلق نسك وأنه أفضل من التقصير وأنه يستحب
فيه البداءة بالجانب الأيمن من رأس المحلوق وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبو حنيفة يبدأ
بجانبه الأيسر ومنها طهارة شعر الآدمي وهو الصحيح من مذهبنا وبه قال جماهير العلماء
53

ومنها التبرك بشعر صلى الله عليه وسلم وجواز اقتنائه للتبرك ومنها مواساة الامام والكبير بين
أصحابه وأتباعه فيما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوها والله أعلم واختلفوا في اسم هذا الرجل
الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فالصحيح المشهور أنه معمر بن
عبد الله العدوي وفي صحيح البخاري قال زعموا أنه معمر بن عبد الله وقيل اسمه خراش بن
أمية بن ربيعة الكلبي بضم الكاف منسوب إلى كليب بن حبشية والله أعلم
جواز تقديم الذبح على الرمي والحلق على الذبح وعلى الرمي
(وتقديم الطواف عليها كلها)
قوله (يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل ان أنحر فقال اذبح ولا حرج ثم جاءه رجل آخر فقال
يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى فقال ارم ولا حرج فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
54

عن شئ قدم ولا أخر الا قال افعل ولا حرج) وفي رواية فما سمعته سئل يؤمئذ عن أمر
مما ينسى المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها الا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم افعلوا ذلك ولا حرج وفي رواية حلقت قبل أن أرمى قال ارم ولا حرج وفي رواية
قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لا حرج قد سبق في الباب قبله أن
أفعال يوم النحر أربعة رمى جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة وأن السنة ترتيبها هكذا
فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث وبهذا قال جماعة من السلف وهو مذهبنا وللشافعي
قول ضعيف أنه إذا قدم الحلق على الرمي والطواف لزمه الدم بناء على قوله الضعيف أن الحلق ليس بنسك وبهذا القول هنا قال أبو حنيفة ومالك وعن سعيد بن جبير
والحسن البصري والنخعي وقتادة ورواية شاذة عن ابن عباس أنه من قدم بعضها على بعض
لزمه دم وهم محجوجون بهذه الأحاديث فإن تأولوها على أن المراد نفى الاثم وادعوا أن تأخير
بيان الدم يجوز قلنا ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لا حرج أنه لا شئ عليك مطلقا وقد صرح
في بعضها بتقديم الحلق على الرمي كم أقدمناه وأجمعوا
على أنه لو نحر قبل الرمي لا شئ عليه واتفقوا على أنه لا فرق بين العامد والساهي في ذلك في وجوب الفدية وعدمها وإنما يختلفان في الاثم
عند من يمنع التقديم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم اذبح ولا حرج ارم ولا حرج معناه
افعل ما بقي عليك وقد أجزأك ما فعلته ولا حرج عليك في التقديم والتأخير قوله (وقف رسول
الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فطفق ناس يسألونه) هذا دليل لجواز القعود على الراحلة
للحاجة قوله (فما سئل الله صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم أو أخر) يعنى من هذه
55

الأمور الأربعة قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب يوم النحر فقام إليه رجل)
وفي رواية وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه فجاء رجل وفي رواية
56

وقف على راحلته فطفق ناس يسألونه وفي رواية وهو واقف عند الجمرة قال القاضي عياض قال
بعضهم الجمع بين هذه الروايات أنه موقف واحد ومعنى خطب علمهم قال القاضي ويحتمل أن
ذلك في موضعين أحدهما وقف على راحلته عند الجمرة ولم يقل في هذا خطب وإنما فيه أنه
وقف وسئل والثاني بعد صلاة الظهر يوم النحر وقف للخطبة فخطب وهي احدى خطب الحج
المشروعة يعلمهم فيما ما بين أيديهم من المناسك هذا كلام القاضي وهذا الاحتمال الثاني هو
الصواب وخطب الحج المشروعة عندنا أربع أولها بمكة
عند الكعبة في اليوم السابع من ذي
الحجة والثانية بنمرة يوم عرفة والثالثة بمنى يوم النحر والرابعة بمنى في الثاني من أيام التشريق
وكلها خطبة فردة وبعد صلاة الظهر الا التي بنمرة فإنها خطبتان وقبل صلاة الظهر وبعد
57

الزوال وقد ذكرت أدلتها كلها من الأحاديث الصحيحة في شرح المهذب والله أعلم
استحباب طواف الإفاضة يوم النحر
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى) هكذا صح
هذا من رواية ابن عمر رضي الله عنه وقد سبق في باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم في
حديث جابر الطويل أنه صلى الله عليه وسلم أفاض إلى البيت يوم النحر فصلى بمكة الظهر وذكرنا
هناك الجمع بين الروايات والله أعلم وفي هذا الحديث إثبات طواف الإفاضة وأنه يستحب فعله
يوم النحر وأول النهار وقد أجمع العلماء على أن هذا الطواف وهو طواف الإفاضة ركن من
أركان الحج لا يصح الحج الا به واتفقوا على أنه يستحب فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر
والحلق فإن اخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالاجماع فان أخره إلى ما بعد
أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شئ عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال مالك وأبو
حنيفة إذا تطاول لزمه معه دم والله أعلم
58

استحباب نزول المحصب يوم النفر
(وصلاة الظهر وما بعدها به)
ذكر مسلم في هذا الباب الأحاديث في نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح يوم النفر وهو
المحصب وأن أبا بكر وعمر وابن عمر والخلفاء رضي الله عنهم كانوا يفعلونه وأن عائشة وابن
عباس كانا لا ينزلان به ويقولان هو منزل اتفاقي لا مقصود فحصل خلاف بين الصحابة رضي
الله عنه ومذهب الشافعي ومالك والجمهور واستحبابه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء
الراشدين وغيرهم وأجمعوا على أن من تركه لا شئ عليه ويستحب أن يصلى به الظهر والعصر
والمغرب والعشاء ويبيت به بعض الليل أو كله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والمحصب
بفتح الحاء والصاد المهملتين والحصبة بفتح الحاء وإسكان الصاد والأبطح والبطحاء وخيف بنى
كنانة اسم لشئ واحد وأصل الخيف كلما انحدر عن الجبل وارتفع عن الميل قوله (يوم
التروية) هو الثامن من ذي الحجة وسبق بيانه مرات قوله (أسمح لخروجه) أي أسهل
59

لخروجه راجعا إلى المدينة قوله (حدثنا قتيبة وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا عن ابن
عيينة قال زهير حدثنا سفيان بن عيينة عن صالح بن كيسان عن سليمان بن يسار ثم قال قال أبو
بكر في رواية صالح قال سمعت سليمان بن يسار) كذا هو في معظم النسخ ومعناه أن الرواية الأولى
وهي رواية قتيبة وزهير قالا فيها عن ابن عيينة عن صالح عن سليمان وأما رواية أبي بكر ففيها
عن ابن عيينة عن صالح قال سمعت سليمان وهذه الرواية أكمل من رواية عن لان السماع يحتج
به بالاجماع وفي العنعنة خلاف ضعيف وإن كان قائلها غير مدلس وقد سبقت المسألة ووقع في
بعض النسخ قال أبو بكر في رواية صالح وفي بعضها قال أبو بكر في رواية عن صالح قال سمعت
60

سليمان والصواب الرواية الأولى وكذا نقلها القاضي عن رواية الجمهور وقال هي الصواب قوله
(وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم) هو بفتح الثاء والقاف وهو متاع المسافر وما يحمله
على دوابه ومنه قوله تعالى وتحمل أثقالكم قوله صلى الله عليه وسلم (ننزل إن شاء الله غدا
بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر) اما الخيف فسبق بيانه وضبطه وإنما قال النبي
صلى الله عليه وسلم إن شاء الله امتثالا لقوله تعالى ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء
الله ومعنى تقاسموا على الكفر تحالفوا وتعاهدوا عليه وهو تحالفهم على إخراج النبي
صلى الله عليه وسلم وبنى هاشم وبني المطلب من مكة إلى هذا الشعب وهو خيف بني كنانة وكتبوا بينهم
الصحيفة المشهورة وكتبوا فيها أنواعا من الباطل وقطيعة الرحم والكفر فأرسل الله تعالى عليها
الأرضة فأكلت كل ما فيها من كفر وقطيعة رحم وباطل وتركت ما فيها من ذكر الله تعالى فأخبر
61

جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب فجاء إليهم
أبو طالب فأخبرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فوجدوه كما أخبر والقصة مشهورة قال
بعض العلماء وكان نزوله صلى الله عليه وسلم هنا شكرا لله تعالى على الظهور بعد الاختفاء وعلى
اظهار دين الله تعالى والله أعلم
وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق
(والترخيص في تركه لأهل السقاية)
قوله (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة قالا حدثنا عبد الله عن نافع)
هكذا هو في معظم النسخ ببلادنا أو كلها ووقع في بعض نسخ المغاربة وحدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة حدثنا زهير وأبو أسامة فجعل زهير أبدل ابن نمير قال أبو علي الغساني والقاضي وقع
في رواية ابن ماهان عن ابن سفيان عن مسلم قال ووقع في رواية أبي أحمد الجلودي عن ابن
سفيان عن زهير قالا وهذا وهم والصواب ابن نمير قالا وكذا أخرجه أبو بكر بن أبي شيبه
في مسنده هذا كلامهما وإنما ذكر خلف الواسطي في كتابه الأطراف حدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ولم يذكر زهيرا قوله (استأذن العباس رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) هذا يدل المسئلتين
62

إحداهما أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به وهذا متفق عليه لكن اختلفوا هل هو
واجب أم سنة وللشافعي فيه قولان أصحهما واجب وبه قال مالك وأحمد والثاني سنة وبه قال
ابن عباس والحسن وأبو حنيفة فمن أوجبه أوجب الدم في تركه وإن قلنا سنة لم يجب الدم بتركه
لكن يستحب وفي قدر الواجب من هذا المبيت قولان للشافعي أصحهما الواجب معظم الليل
والثاني ساعة المسألة الثانية يجوز لأهل السقاية أن يتركوا هذا المبيت ويذهبوا إلى مكة ليستقوا
بالليل الماء من زمزم ويجعلوه في الحياض مسبلا للشاربين وغيرهم ولا يختص ذلك عند الشافعي
بآل العباس رضي الله عنه بل كل من تولى السقاية كان له هذا وكذا لو أحدثت سقاية أخرى
كان للقائم بشأنها ترك المبيت هذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا تختص الرخصة بسقاية العباس
وقال بعضهم تختص بآل عباس وقال بعضهم تختص ببني هاشم من آل العباس وغيرهم فهذه أربعة
أوجه لأصحابنا أصحهما الأول والله أعلم وأعلم أن سقاية العباس حق لآل العباس كانت للعباس
في الجاهلية وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم له فهي لآل العباس أبدا
63

فضل القيام بالسقاية والثناء على أهلها
(واستحباب الشرب منها)
قوله (قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب
وسقى فضله أسامة وقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا) هذا الحديث فيه دليل للمسائل التي ترجمت
عليها وقد اتفق أصحابنا على أنه يستحب أن يشرب الحاج وغيره من نبيذ سقاية العباس لهذا
الحديث وهذا النبيذ ماء محلى بزبيب أو غيره بحيث يطيب طعمه ولا يكون مسكرا فأما إذا طال
زمنه وصار مسكرا فهو حرام وقوله صلى الله عليه وسلم (أحسنتم وأجملتم) معناه فعلتم
الحسن الجميل فيؤخذ منه استحباب الثناء على أصحاب السقايا وكل صانع جميل والله أعلم
الصدقة بلحوم الهدايا وجلودها وجلالها
(ولا يعطى الجزار منها شيئا وجواز الاستنابة في القيام عليها)
قوله (عن علي رضي الله عنه قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن
أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطى الجزار منها شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا)
64

قال أهل اللغة سميت البدنة لعظمها ويطلق على الذكر والأنثى ويطلق على الإبل والبقر والغنم
هذا قول أكثر أهل اللغة ولكن معظم استعمالها في الأحاديث وكتب الفقه في الإبل خاصة
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة منها استحباب سوق الهدى وجواز النيابة في نحره والقيام عليه وتفرقته
وأنه يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها وأنها تجلل واستحبوا أن يكون جلا حسنا وأن لا يعطى
الجزار منها لأن عطيته عوض عن عمله فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز فيه جواز الاستئجار
على النحر ونحوه ومذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدى ولا الأضحية ولا شئ من أجزائهما لأنها لا ينتفع
بها في البيت ولا بغيره سواء كان تطوعا أو واجبتين لكن ان كانا تطوعا فلا الانتفاع بالجلد وغيره باللبس
وغيره ولا يجوز اعطاء الجزار منها شيئا بسبب جزارته هذا مذهبنا وبه قال عطاء والنخعي ومالك وأحمد
واسحق وحكى ابن المنذر عن ابن عمر وأحمد واسحق أنه لا بأس ببيع جلد هديه ويتصدق بثمنه قال ورخص
في بيعه أبو ثور وقال النخعي والأوزاعي لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها
وقال الحسن البصري يجوز أن يعطى الجزار جلدها وهذا منابذ للسنة والله أعلم قال القاضي التجليل
سنة وهو عند العلماء مختص بالإبل وهو مما اشتهر من عمل السلف قال وممن رآه مالك والشافعي
وأبو ثور وإسحاق قالوا ويكون بعد الاشعار لئلا يتلطخ بالدم قالوا ويستحب أن تكون قيمتها
ونفاستها بحسب حال المهدى وكان بعض السلف يحلل بالوشي وبعضهم بالحيرة وبعضهم بالقباطي
65

والملاحف والأزر قال مالك وتشق على الأسنمة أن كانت قليلة الثمن لئلا تسقط قال مالك
وما علمت من ترك ذلك الا ابن عمر استبقاء للثياب لأنه كان يجلل الجلال المرتفعة من الأنماط
والبرود والحبر قال وكان لا يجلل حتى يغدو من منى إلى عرفات قال وروى عنه أنه كان يجلل
من ذي الحليفة وكان يعقد أطراف الجلال على أذنابها فإذا مشى ليلة نزعها فإذا كان يوم عرفة
جللها فإذا كان عند النحر نزعها لئلا يصيبها الدم قال مالك أما الجل فينزع في الليل لئلا يخرقها
الشوك قال واستحب أن كانت الجلال مرتفعة أن يترك شقها وأن لا يجللها حتى يغدو إلى عرفات
فإن كانت بثمن يسير فمن حين يحرم يشق ويجلل قال القاضي وفي شق الجلال على الأسمنة فائدة
أخرى وهي اظهار الاشعار لئلا يستتر تحتها وفي هذا الحديث الصدقة بالجلال وهكذا قاله العلماء
وكان ابن عمر أولا يكسوها الكعبة فلما كسيت الكعبة تصدق بها والله أعلم
جواز الاشتراك في الهدى وأجزاء البدنة والبقرة
(كل واحدة منهما عن سبعة)
قوله (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
66

الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) وفي الرواية الأخرى خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل
سبعة منا في بدنه وفي الرواية الأخرى اشتركنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة
كل سبعة في بدنة في هذه الأحاديث دلالة لجواز الاشتراك في الهدى وفي المسألة خلاف بين
العلماء فمذهب الشافعي جواز الاشتراك في الهدى سواء كان تطوعا أو واجبا وسواء كانوا كلهم
متقربين أو بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم ودليله هذه الأحاديث وبهذا قال أحمد
وجمهور العلماء وقال داود وبعض المالكية يجوز الاشتراك في هدى التطوع دون الواجب وقال
مالك لا يجوز مطلقا وقال أبو حنيفة يجوز ان كانوا كلهم متقربين والا فلا وأجمعوا على أن الشاة
لا يجوز الاشتراك فيها وفي هذه الأحاديث أن البدنة تجزى عن سبعة والبقرة عن سبعة وتقوم
كل واحدة مقام سبع شياه حتى لو كان على المحرم سبعة دماء بغير جزاء الصيد وذبح عنها بدنة
أو بقرة أجزأه عن الجميع قوله (فقال رجل لجابر أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور قال ما هي
67

الا من البدن) قال العلماء الجزور بفتح الجيم وهي البعير قال القاضي وفرق هنا بين البدنة والجزور
لأن البدنة والهدى ما ابتدي اهداؤه عند الاحرام والجزور ما اشترى بعد ذلك لينحر مكانها
فتوهم السائل أن هذا أحق في الاشتراك فقال في جوابه الجزور لما اشتريت للنسك صار
حكمها كالبدن وقوله (ما يشترك في الجزور) هكذا في النسخ ما يشترك وهو صحيح ويكون ما بمعنى
من وقد جاز ذلك في القرآن وغيره ويجوز أن تكون مصدرية أي اشتراكا كالاشتراك في
الجزور قوله (فأمرنا إذا حللنا أن نهدى ويجتمع النفر منا في الهدية وذلك حين أمرهم أن يحلوا
من حجهم) في هذا فوائد منها وجوب الهدى على المتمتع وجواز الاشتراك في البدنة الواجبة
لان دم التمتع واجب وهذا الحديث صريح في الاشتراك في الواجب خلاف ما قاله مالك كما
قدمناه عنه قريبا وفيه دليل لجواز ذبح هدى التمتع بعد التحلل من العمرة وقبل الاحرام
بالحج وفي المسألة خلاف وتفصيل فمذهبنا أن دم التمتع إنما يجب إذا فرغ من العمرة ثم
أحرم بالحج فباحرام الحج يجب الدم وفي وقت جوازه ثلاثة أوجه الصحيح الذي عليه الجمهور
أنه يجوز بعد فراغ العمرة وقبل الاحرام بالحج والثاني لا يجوز حتى يحرم بالحج والثالث يجوز
بعد الاحرام بالعمرة والله أعلم قوله (عن جابر بن عبد الله قال كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
68

بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة) هذا فيه دليل للمذهب الصحيح عند الأصوليين أن
لفظ كان لا يقتضي التكرار لأن احرامهم بالتمتع بالعمرة إلى الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم
إنما وجد مرة واحدة وهي حجة الوداع والله سبحانه وتعالى أعلم
استحباب نحر الإبل قياما معقولة
قوله (ابعثها قياما مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) أي المقيدة المعقولة فيستحب نحر الإبل وهي
قائمة معقولة اليد اليسرى صح في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها اسناده على شرط مسلم
أما البقر والغنم فيستحب أن تذبح مضجعة على جنبها الأيسر وتترك رجلها اليمنى وتشد قوائمها الثلاث
وهذا الذي ذكرنا من استحباب نحرها قياما معقولة هو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور وقال
أبو حنيفة والثوري يستوى نحرها قائمة وباركة في الفضيلة وحكى القاضي عن طاوس أن نحرها باركة
أفضل وهذا مخالف للسنة والله أعلم
69

استحباب بعث الهدى إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه
(واستحباب تقليده وفتل القلائد وأن باعثه لا يصير محرما)
(ولا يحرم عليه شئ بسبب ذلك)
قولها (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدى من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا
مما يجتنب المحرم) فيه دليل على استحباب الهدى إلى المحرم وأن من لم يذهب إليه يستحب له بعثه
مع غيره واستحباب تقليده وإشعاره كما جاء في الرواية الأخرى بعد هذه وقد سبق ذكر
الخلاف بين العلماء في الاشعار ومذهبنا ومذهب الجمهور استحباب الاشعار والتقليد في الإبل
والبقر وأما الغنم فيستحب فيها التقليد وحده وفيه استحباب قتل القلائد وفيه أن من بعث هديه
لا يصير محرما ولا يحرم عليه شئ مما يحرم على المحرم وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا
حكاية رويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وحكاها الخطابي عن
70

أهل الرأي أيضا أنه إذا فعله لزمه اجتناب ما يجتنبه ولا يصير محرما من غير نية الاحرام
والصحيح ما قاله الجمهور لهذه الأحاديث الصحيحة قولها (فتلت قلائد بدن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شئ كان له حلالا)
فيه دليل على استحباب الجمع بين الاشعار والتقليد في البدن وكذلك البقر وفيه أنه إذا أرسل هدية
أشعره وقلده من بلده ولو أخذه معه أخر التقليد والاشعار إلى حين يحرم من الميقات أو من
غيره قولها (أنا فتلت تلك القلائد من عهن) هو الصوف وقيل الصوف المصبوغ ألوانا قولها
71

(أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها) فيه دلالة لمذهبنا ومذهب
الكثيرين أنه يستحب تقليد الغنم وقال مالك وأبو حنيفة لا يستحب بل خصا التقليد بالإبل
والبقر وهذا الحديث صريح في الدلالة عليهما قوله (حدثنا محمد بن جحاده) هو بجيم مضمومة ثم
حاء مهملة مخففة قوله (عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته ان ابن زياد كتب إلى عائشة أن عبد الله
ابن عباس قال من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج) هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم
أن ابن زياد قال أبو علي الغساني والمازري والقاضي وجميع المتكلمين على صحيح مسلم هذا غلط
72

وصوابه أن زياد بن أبي سفيان وهو المعروف زباد بن أبيه وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري
والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم
جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها قال يا رسول الله
انها بدنة قال اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة) وفي الرواية الأخرى ويلك اركبها ويلك اركبها
73

وفي رواية جابر اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا هذا دليل على ركوب البدنة
المهداة وفيه مذاهب مذهب الشافعي أنه يركبها إذا احتاج ولا
يركبها من غير حاجة وإنما يركبها بالمعروف من غير اضرار وبهذا قال ابن المنذر وجماعة وهو رواية عن مالك وقال عروة
ابن الزبير ومالك في الرواية الأخرى وأحمد وإسحاق له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضرها
وبه قال أهل الظاهر وقال أبو حنيفة لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا وحكى القاضي عن بعض العلماء
أنه أوجب ركوبها المطلق لأمر ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه من اكرام البحيرة والسائبة والوصيلة
والحامي واهمالها بلا ركوب دليل الجمهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى ولم يركب هديه ولم
يأمر الناس بركوب الهدايا ودليلنا على عروة وموافقيه رواية جابر المذكورة والله أعلم وأما
قوله صلى الله عليه وسلم (ويلك اركبها) فهذه الكلمة أصلها لمن وقع في هلكة فقيل لأنه كان محتاجا
قد وقع في تعب وجهد وقيل هي كلمة تجرى على اللسان وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت
له أولا بل تدعم بها العرب كلامها كقولهم لا أم له لا أب له تربت يداه قاتله الله ما أشجعه وعقرى
حلقي وما أشبه ذلك وقد سبقت هذه اللفظة مستوفاة في كتاب الطهارة في تربت يداك قوله
(حدثنا هشيم قال أخبرنا حميد عن ثابت عن أنس قال وأظنني قد سمعته من أنس) القائل وأظنني قد
سمعته من أنس هو حميد ووقع في أكثر النسخ وأظنني بنونين وفيه بعضها وأظني بنون واحدة
74

وهي لغة قوله (قال إنها بدنه أو هدية فقال وان) هكذا هو في جميع النسخ وإن فقط أي
وإن كانت بدنة والله أعلم
ما يفعل بالهدى إذا عطب في الطريق
قوله (عن أبي التياح الضبعي) التياح بمثناة فوق ثم مثناة تحت وبحاء مهملة والضبعي بضاد
75

معجمة مضمومة وباء موحدة مفتوحة اسمه يزيد بن حميد البصري منسوب إلى بني ضبيعة بن
قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن رعمى
ابن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان قال السمعاني نزل أكثر هذه القبيلة البصرة
وكانت بها محلة تنسب إليهم قوله (وانطلق ببدنة يسوقها فأزحفت عليه) هو بفتح الهمزة
وإسكان الزاي وفتح الحاء المهملة هذا رواية المحدثين لا خلاف بينهم فيه قال الخطابي كذا بقوله
المحدثون قال وصوابه والأجود فأزحفت بضم الهمزة يقال زحف البعير إذا قام وأزحفه وقال
الهروي وغيره يقال أزحف البعير وأزحفه السير بالألف فيهما وكذا قال الجوهري وغيره يقال
زحف البعير وأزحف لغتان وأزحفه السير وأزحف الرجل وقف بعيره فحصل أن انكار الخطابي
ليس بمقبول بل الجميع جائز ومعنى أزحف وقف من الكلال والاعياء قوله (فعي بشأنها أن
هي أبدعت كيف يأتي بها) أما قوله فعي فذكر صاحب المشارق والمطالع أنه روى على ثلاثة
أوجه أحدها وهي رواية الجمهور فعي بياءين من الاعياء وهو العجز ومعناه عجز عن معرفة حكمها
لو عطبت عليه في الطريق كيف يعمل بها والوجه الثاني فعي بياء واحدة مشددة وهي لغة بمعنى الأولى
والوجه الثالث فعنى بضم العين وكسر النون من العناية بالشئ والاهتمام به وأما قوله أبدعت
فبضم الهمزة وكسر الدال وفتح العين واسكان التاء ومعناه كلت وأعيت ووقفت قال أبى عبيد
قال بعض الاعراب لا يكون الابداع الا بظلع وأما قوله (كيف يأتي لها) ففي بعض الأصول لها
وفي بعضها بها وكلاهما صحيح قوله (لئن قدمت البلد لأستحفين عذلك) وقع في معظم النسخ
قدمت البلد وفي بعضها قدمت الليلة وكلاهما صحيح وفي بعض النسخ عن ذلك وفي بعضها عن
ذاك بغير لام وقوله لأستحفين بالحاء المهملة وبالفاء ومعناه لأسألن سؤالا بليغا عن ذلك يقال
أحفى في المسألة إذا ألح فيها وأكثر منها قوله (فأضحيت) هو بالضاد المعجمة وبعد الحاء ياء
مثناة تحت قال صاحب المطالع معناه صرت في وقت الضحى قوله أن ابن عباس حين
76

سألوه (قال على الخبير سقطت) فيه دليل لجواز
ذكر الانسان بعض ممادحته للحاجة وإنما ذكر ابن عباس ذلك ترغيبا للسامع في الاعتناء بخبره وحثا له على الاستماع له وأنه علم محقق قوله
(يا رسول الله كيف أصنع بما أبدع على منها قال انحرها ثم أصبع نعليها في دمها ثم اجعله على
صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) فيه فوائد منها أنه إذا عطب الهدى وجب
ذبحه وتخليته للمساكين ويحرم الأكل منها عليه وعلى رفقته الذين معه في الركب سواء كان الرفيق
مخالطا له أو في جملة الناس من غير مخالطة والسبب في نهيهم قطع الذريعة لئلا يتوصل بعض الناس
إلى نحره أو تعيينه قبل أوانه واختلف العلماء في الأكل من الهدى إذا عطب فنحره فقال الشافعي
إن كان هدى تطوع كان له أن يفعل فيه ما شاء من بيع وذبح وأكل واطعام وغير ذلك وله تركه
ولا شئ عليه في كل ذلك لأنه ملكه وإن كان هديا منذورا لزمه ذبحه فإن تركه حتى هلك لزمه ضمانه كما
لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت فإذا ذبحه غمس نعله التي قلده إياها في دمه وضرب بها صفحة
سنامه وتركه موضعه ليعلم من مر به أنه هدى فيأكله ولا يجوز للمهدى ولا لسائق هذا الهدى وقائده
الأكل مه ولا يجوز للأغنياء الأكل منه مطلقا لأن الهدى مستحق للمساكين فلا يحوز لغيرهم
ويجوز للفقراء من غير أهل هذه الرفقة ولا يجوز لفقراء الرفقة وفي المراد بالرفقة وجهان
لأصحابنا أحدهما أنهم الذين يخالطون المهدى في الأكل وغيره دون باقي القافلة والثاني وهو
الأصح وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث وظاهر نص الشافعي وكلام جمهور أصحابنا أن المراد
بالرفقة جميع القافلة لأن السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه وهذا موجود
في جميع القافلة فإن قيل إذا لم تجوزوا لأهل القافلة أكله وترك في البرية كان طعمة للسباع وهذا
77

إضاعة مال قلنا ليس فيه إضاعة بل العادة الغالبة أن سكان البوادي وغيرهم يتبعون منازل الحج
لالتقاط ساقطة ونحوه وقد تأتى قافلة في اثر قافلة والله أعلم والرفقة بضم الراء وكسرها لغتان
مشهورتان قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنه (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بست عشرة بدنه) وفي الرواية الأخرى بثمان عشرة بدنة يجوز أنهما قضيتان ويجوز أن تكون
قضية واحدة والمراد ثمان عشرة وليس في قوله ست عشرة نفى الزيادة لأنه مفهوم عدد ولا
عمل عليه والله أعلم
وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض
قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) فيه دلالة لمن قال
78

بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا وبه قال أكثر العلماء
منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور وقال مالك
وداود وابن المنذر هو سنة لا شئ في تركه وعن مجاهد روايتان كالمذهبين قوله (أمر الناس
أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) هذا دليل لوجوب طواف
الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ولا يلزمها دم بتركه هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي
حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله
عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده
قوله (فقال ابن عباس اما لا فسل فلانة الأنصارية) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة
هذا هو الصواب المشهور وقال القاضي ضبطه الطبري والأصيلي أمالي بكسر اللام قال والمعروف
في كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل قال المازري قال ابن الأنباري قولهم افعل
هذا أما لا فمعناه أفعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن كما قال الله تعالى فما ترين
79

من البشر أحدا فاكتفوا بلا عن الفعل كما تقول العرب إن زارك فزره وإلا فلا هذا ما ذكره
القاضي وقال ابن الأثير في نهاية الغريب أصل هذه الكلمة ان وما فأدغمت النون في الميم وما
زائدة في اللفظ لا حكم لها وقد أمالت العرب لا إمالة خفيفة قال والعوام يشبعون امالتها فتصير
ألفها ياء وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا والله أعلم قولها (صفية بنت حي)
بضم الحاء وكسرها الضم أشهر وفي حديثها دليل لسقوط طوا ف الوداع عن الحائض وإن طواف
الإفاضة ركن لا بد منه وأنه لا يسقط عن الحائض ولاغيرها وأن الحائض تقيم له حتى تطهر فان
80

ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة بقيت محرمة وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه
ومعناه وفقهه من أوائل كتاب الحج في باب بيان وجوه الاحرام بالحج قوله (حدثني الحكم بن موسى
حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد ابن إبراهيم التيمي عن
أبي سلمة عن عائشة) هكذا وقع في معظم النسخ وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ قال وسقط
عند الطبري قوله لعله قال عن يحيى بن أبي كثير قال وسقط لعله قال فقط لابن الحذاء قال
القاضي وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أوشك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب
ونبه على الحاقه بقوله لعله قوله (قالوا يا رسول الله انها قد زارت يوم النحر) فيه دليل لمذهب
الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة
وقال مالك يكره وليس للكراهة حجة تعتمد قولها (تنفر) بكسر الفاء وضمها الكسر أفصح
81

وبه جاء القرآن والله أعلم
استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره
(والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها)
ذكر مسلم رحمة الله في الباب بأسانيد عن بلال رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل الكعبة وصلى فيها بين العمودين) وبإسناده عن أسامة رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم
دعا في نواحيها ولم يضل) وأجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم
فواجب ترجيحه والمراد الصلاة المعهودة ذات الركوع والسجود ولهذا قال ابن عمر ونسيت
أن أسأله كم صلى وأما نفى أسامة فسببه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء
فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت
والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى وبلال قريب منه ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه
بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله وكانت صلاة خفيفة فلم يرها أسامة لاغلاق الباب مع
82

بعده واشتغاله بالدعاء وجاز له نفيها عملا بظنه وأما بلال فحققها فأخبر بها والله أعلم واختلف
العلماء في الصلاة في الكعبة إذا صلى متوجها إلى جدار منها أو إلى الباب وهو مردود فقال
الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد والجمهور تصح فيها صلاة النفل وصلاة الفرض وقال
مالك تصح فيها صلاة النفل المطلق ولا يصح الفرض ولا الوتر ولا ركعتا الفجر ولا ركعتا
الطواف وقال محمد بن جرير وأصبغ المالكي وبعض أهل الظاهر لا تصح فيها صلاة أبدا
لا فريضة ولا نافلة وحكاه القاضي عن ابن عباس أيضا ودليل الجمهور حديث بلا وإذا صحت
النافلة صحت الفريضة لأنهما في الموضع سواء في الاستقبال في حال النزول وإنما يختلفان في
الاستقبال في حال السير في السفر والله أعلم قوله (وعثمان بن طلحة الحجبي) هو بفتح الحاء
والجيم منسوب إلى حجابة الكعبة وهي ولايتها وفتحها واغلاقها وخدمتها ويقال له ولأقاربه
الحجيبون وهو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان
ابن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري أسلم مع خالد بن الوليد وعمر بن العاص في هدنة
الحديبية وشهد فتح مكة ودفع النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إليه وأبي شيبة بن عثمان
ابن أبي طلحة وقال خذوها يا بنى طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم الا ظالم ثم نزل المدينة فأقام
به إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تحول إلى مكة فأقام بها حتى توفي سنة اثنتين وأربعين
وقيل أنه استشهد يوم أجنادين بفتح الدال وكسرها وهي موضع بقرب بيت المقدس كانت
غزوته في أوائل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم
كل مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي الا سقاية الحاج وسدانة البيت قال القاضي عياض
83

قال العلماء لا يجوز لأحد أن ينزعها منهم قال وهي ولاية لهم عليها من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فتبقى دائمة لهم ولذرياتهم أبدا ولا ينازعون فيها ولا يشاركون ما داموا موجودين
صالحين لذلك والله أعلم قوله (دخل الكعبة فأغلقها عليه إنما أغلقها عليه
صلى الله عليه وسلم ليكون أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه ولئلا يجتمع الناس ويدخلوا ويزدحموا فينالهم ضرر
ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم والله أعلم قوله (جعل عمودين عن يساره وعمودا عن
يمينه) هكذا هو هنا وفي رواية للبخاري عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره وهكذا هو في
الموطأ وفي سنن أبي داود وكله من رواية مالك وفي رواية للبخاري عمودا عن يمينه وعمودا
عن يساره قوله (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فنزل بفناء الكعبة) هذا
دليل على أن هذا المذكور في أحاديث الباب من دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلاته
فيها كان يوم الفتح وهذا لا خلاف فيه ولم يكن يوم حجة الوداع وفناء الكعبة بكسر الفاء وبالمد
جانبها وحريمها والله أعلم قوله (فجاء بالمفتح) هو بكسر الميم وفي الرواية الأخرى المفتاح وهما
لغتان قوله (فلبثوا فيه مليا) أي طويلا قوله (ونسيت أن أساله كم صلى) هكذا ثبت في
الصحيحين من رواية ابن عمر وجاء في سنن أبي داود بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن
صفوان قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
84

دخل الكعبة قال صلى ركعتين قوله (فأجافوا عليهم الباب) أي أغلقوه قوله (وحدثني حميد بن
مسعده حدثنا خالد يعنى ابن الحرث حدثنا عبد الله بن عون عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنه أنه انتهى إلى الكعبة وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة وأجاف عليهم
عثمان بن طلحة الباب قال ومكثوا فيه مليا ثم فتح الباب فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فرقيت
85

الدرجة فدخلت البيت فقلت أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا ههنا ونسيت أن أسألهم كم صلى)
هكذا وقعت هذه الرواية هنا وظاهرة أن ابن عمر سأل بلالا وأسامة وعثمان جميعهم قال القاضي
عياض ولكن أهل الحديث وهنوا هذا لرواية فقال الدارقطني وهم ابن عون هنا
وخالفه غيره فأسندوه عن بلال وحده قال القاضي وهذا هو الذي ذكره مسلم في باقي الطرق فسألت
بلال فقال الا أنه وقع في رواية حرملة عن ابن وهب فأخبرني بلال وعثمان بن طلحة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة هكذا هو عند عامة شيوخنا وفي بعض النسخ
وعثمان بن أبي طلحة قال وهذا يعضد رواية بن عون والمشهور انفراد بلال برواية ذلك والله أعلم
86

قوله (فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال هذه القبلة) قوله قبل البيت هو بضم القاف
والباء ويجوز اسكان الباء كما في نظائره قيل معناه ما استقبلك منها وقيل مقابلها وفي رواية في
الصحيح فصلى ركعتين في وجه الكعبة وهذا هو المراد بقبلها ومعناه عند بابها وأما قوله ركع في
قبل البيت فمعناه صلى وقوله ركعتين دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن تطوع النهار يستحب أن
يكون مثنى وقال أبو حنيفة أربعا وسبقت المسألة في كتاب الصلاة وأما قوله صلى الله عليه وسلم
هذه القبلة فقال الخطابي معناه أمر القبلة قد استقر على استقبال هذا البيت فلا ينسخ بعد اليوم
فصلوا إليه أبدا قال ويحتمل أنه علمهم سنة موقف الامام وأنه يقف في وجهها دون أركانها
وجوانبها وإن كانت الصلاة في جميع جهاتها مجزئة هذا كلام الخطابي ويحتمل معنى ثالثا وهو أن
معناه هذه الكعبة هي المسجد الحرام الذي أمرتم باستقباله لاكل الحرم ولا مكة ولا كل المسجد
الذي حول الكعبة بل هي الكعبة نفسها والله أعلم قوله (أدخل النبي صلى الله عليه وسلم
87

البيت في عمرته قال لا) هذا مما اتفقوا عليه قال العلماء والمراد به عمرة القضاء التي كانت سنة
سبع من الهجرة قبل فتح مكة قال العلماء وسبب عدم دخوله صلى الله عليه وسلم ما كان في
البيت من الأصنام والصور ولم يكن المشركون يتركونه لتغييرها فلما فتح الله تعالى عليه مكة
دخل البيت وصلى فيه وأزال الصور قبل دخوله والله أعلم
نقض الكعبة وبنائها
قوله صلى الله عليه وسلم (لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس
إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا) وفي الرواية الأخرى اقتصروا
88

عن قواعد إبراهيم وفي الأخرى فإن قريشا اقتصرتها وفي الأخرى استقصروا من بنيان البيت
وفي الأخرى قصروا في البناء وفي الأخرى قصرت بهم النفقة قال العلماء هذه الروايات كلها
بمعنى واحد ومعنى استقصرت قصرت عن تمام بنائها واقتصرت على هذا لاقدر لقصور
النفقة بهم عن تمامها وفي هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح
أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم لان
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم
صلى الله عليه وسلم مصلحة ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم
قريبا وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيما فتركها صلى الله عليه وسلم
ومنها فكر ولي الأمر في مصالح رعيته واجتنابه ما يخاف منه تولد ضرر عليهم في دين أو دنيا
الا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحدود ونحو ذلك ومنها تألف قلوب الرعية وحسن
حياطتهم وأن لا ينفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعي كما
سبق قال العلماء بنى البيت خمس مرات بنته الملائكة ثم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم قريش في
الجاهلية وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء وله خمس وثلاثون سنة وقيل خمس وعشرون
وفيه سقط على الأرض حين وقع ازاره ثم بناه ابن الزبير ثم الحجاج بن يوسف واستمر إلى الآن
على بناء الحجاج وقيل بنى مرتين آخريين أو ثلاثا وقد أوضحته في كتاب ايضاح المناسك
الكبير قال العلماء ولا يغير عن هذا البناء وقد ذكروا أن هارون الرشيد سأل مالك
ابن أنس عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة في الباب فقال
مالك ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت لعبة للملوك لا يشاء أحد
الا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس وبالله التوفيق قوله صلى الله عليه وسلم (ولجعلت
لها خلفا) هو بفتح الخاء المعجمة وإسكان اللام وبالفاء هذا هو الصحيح المشهور والمراد به باب
من خلفها وقد جاء مفسرا في الرواية الأخرى ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وفي صحيح
البخاري قال هشام خلفا يعني بابا وفي الرواية الأخرى لمسلم بابين أحدهما يدخل منه والآخر
يخرج منه وفي رواية البخاري ولجعلت له خلفين قال القاضي وقد ذكر الحربي هذا الحديث
هكذا وضبطه خلفين بكسر الخاء وقال الخالفة عمود في مؤخر البيت وقال الهروي خلفين بفتح
89

الخاء قال القاضي وكذا ضبطناه على شيخنا أبي الحسين قال وذكر الهروي عن ابن الأعرابي
أن الخلف الظهر وهذا يفسر أن المراد الباب كما فسرته الأحاديث الباقية والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (لولا حدثان قومك) هو بكسر الحاء واسكان الدال أي قرب عهدهم بالكفر
والله أعلم قوله (فقال عبد الله بن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا) قال القاضي ليس هذا
اللفظ من ابن عمر على سبيل التضعيف لروايتها والتشكيك في صدقها وحفظها فقد كانت من الحفظ
والضبط بحيث لا يستراب في حديثها ولا فيا تنقله ولكن كثيرا ما يقع في كلام العرب صورة
التشكيك والتقرير والمراد به اليقين كقوله تعالى وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين وقوله
تعالى قل ان ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت الآية قوله صلى الله عليه وسلم (لولا
أن قومك حديثوا عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله) فيه دليل لتقديم
أهم المصالح عند تعذر جميعها كما سبق إيضاحه في أول الحديث وفيه دليل لجواز انفاق كنز الكعبة
ونذورها الفاضلة عن مصالحها في سبيل الله لكن جاء في رماية لأنفقت كنز الكعبة في بنائها
وبناؤها من سبيل الله فلعله المراد بقوله في الرواية الأولى في سبيل الله والله أعلم ومذهبنا أن
الفاضل من وقف مسجد أو غيره لا يصر ف في مصالح مسجد آخر ولا غيره بل يحفظ دائما
للمكان الموقوف عليه الذي فضل منه فربما احتاج إليه والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
90

(ولأدخلت فيها من الحجر) وفي رواية وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين
بنت الكعبة وفي رواية خمس أذرع وفي رواية قريبا من سبع أذرع وفي رواية قالت عائشة
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو قال نعم وفي رواية لولا أن
قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكره قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدار في البيت
قال أصحابنا ست أذرع من الحجر مما يلي البيت محسوبة من البيت بلا خلاف وفي الزائد خلاف
فإن طاف في الحجر وبينه وبين البيت أكثر من ستة أذرع ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يجوز
لظواهر هذه الأحاديث وهذا هو الذي رجحه جماعات من أصحابنا الخراسانيين والثاني لا يصح
طوافه في شئ من الحجر ولا على جداره ولا يصح حتى يطوف خارجا من جميع الحجر وهذا
هو الصحيح وهو الذي نص عليه الشافعي وقطع به جماهير أصحابنا العراقيين ورجحه جمهور
الأصحاب وبه قال جميع علماء المسلمين سوى أبي حنيفة فإنه قال إن طاف في الحجر وبقي في مكة
أعاده وإن رجع من مكة بلا إعادة أراق دما وأجزأه طوافه واحتج الجمهور بأن النبي
صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر وقال لتأخذوا مناسككم ثم أطبق المسلمون عليه من زمنه
صلى الله عليه وسلم إلى الآن وسواء كان كله من البيت أم بعضه فالطواف يكون من ورائه كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم والله أعلم ووقع في رواية ستة أذرع بالهاء وفي رواية خمس وفي رواية قريبا من سبع
بحذف الهاء وكلاهما صحيح ففي الذارع لغتان مشهورتان التأنيث والتذكير والتأنيث أفصح قوله
91

(لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام تركه ابن الزبير حتى قدم الناس
الموسم يريد أن يجرئهم أو يحربهم على أهل الشام) أما الحرف الأول فهو يجرئهم بالجيم والراء
بعدها همزة من الجراءة أي يشجعهم على قتالهم بإظهار قبح فعالهم هذا هو المشهور في ضبطه قال
القاضي ورواه العذري يجربهم بالجيم والباء الموحدة ومعناه يختبرهم وينظر ما عندهم في ذلك من
حمية وغضب لله تعالى ولبيته وأما الثاني وهو قوله أو يحربهم فهو بالحاء المهملة والراء والباء الموحدة
وأوله مفتوح ومعناه يغيظهم بما يرونه قد فعل بالبيت من قولهم حربت الأسد إذا أغضبته
قال القاضي وقد يكون معناه يحملهم على الحرب ويحرضهم عليها ويؤكد عزائمهم لذلك قال ورواه
آخرون يحزبهم بالحاء والزاي يشد قوتهم ويميلهم إليه ويجعلهم حزبا له وناصرين له على مخالفيه
وحزب الرجل من مال إليه وتحازب القوم تمالوا قوله (يا أيها الناس أشيروا على في الكعبة)
فيه دليل لاستحباب مشاورة الامام أهل الفضل والمعرفة في الأمور المهمة قوله (قال ابن عباس
فإني قد فرق لي فيه رأي) هو بضم الفاء وكسر الراء أي كشف وبين قال الله تعالى وقرآنا فرقناه أي
فصلناه وبيناه هذا هو الصواب في ضبطه هذه اللفظة ومعناها وهكذا ضبطه القاضي والمحققون وقد جعله
الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين في كتابه غريب الصحيحين فرق بفتح الفاء بمعنى خاف وأنكروه
عليه وغلطوا الحميدي في ضبطه وتفسيره قوله (فقال ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته
92

ما رضى حتى يجده) هكذا هو في أكثر النسخ يجده بضم الياء وبدال واحدة وفي كثير منها يجدد
بدالين وهما بمعنى قوله (تتابعوا فنقضوه) هكذا ضبطناه تتابعوا بياء موحدة قبل العين وهكذا
هو في جميع نسخ بلادنا وكذا ذكره القاضي عن رواية الأكثرين وعن أبي بحر تتابعوا وهو
بمعناه الا أن أكثر ما يستعمل بالمثناة في الشر خاصة وليس هذا موضعه قوله (فجعل ابن الزبير
أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه) المقصود بهذه الأعمدة والستور أن يستقبلها المصلون
في تلك الأيام ويعرفوا موضع الكعبة ولم تزل تلك الستور حتى ارتفع البناء وصار مشاهدا
للناس فأزالها لحصول المقصود بالبناء المرتفع من الكعبة واستدل القاضي عياض بهذا لمذهب
مالك في أن المقصود بالاستقبال البناء لا البقعة قال وقد كان ابن عباس أشار على أبا الزبير
بنحو هذا وقال له إن كنت هادمها فلا تدل الناس بلا قبلة فقال له جابر صلوا إلى موضعها فهي
القبلة ومذهب الشافعي وغيره جواز الصلاة إلى أرض الكعبة ويجزيه ذلك بلا خلاف عند سواء
93

كان بقي منها شاخص أم لا والله أعلم قوله (إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شئ) يريد بذلك
سبه وعيب فعله يقال لطخته أي رميته بأمر قبيح قوله (وفد الحرث بن عبد الله على عبد
الملك بن مروان في خلافته) هكذا هو في جميع النسخ الحرث بن عبد الله وليس في شئ منها
خلاف ونسخ بلادنا هي رواية عبد الغفار بن الفارسي وادعى القاضي عياض أنه وقع هكذا
لجميع الرواة سوى الفارسي فإن في روايته الحرث بن عبد الأعلى قال وهو خطأ بل الصواب
الحرث بن عبد الله وهذا الذي نقله عن رواية الفارسي غير مقبول بل الصواب أنها كرواية غيره
الحرث بن عبد الله ولعله وقع للقاضي نسخة عن الفارسي فيها هذه اللفظة مصحفة على الفارسي
لا من الفارسي والله أعلم قوله (ما أظن أبا خبيب) هو بضم الخاء المعجمة وسبق بيانه مرات
94

قوله صلى الله عليه وسلم (لولا حداثة عهدهم) هو بفتح الحاء أي قربه قوله صلى الله عليه وسلم
(فإن بدا لقومك) هو بغير همزة يقال بداله في الأمر بداء بالمد أي حدث له فيه رأي لم يكن
وهو ذو بدوات أي يتغير رأيه والبداء محال على الله تعالى بخلاف النسخ قوله (فهلمي لأريك) هذا
جار على إحدى اللغتين في هلم قال الجوهري تقول هلم يا رجل بفتح الميم بمعنى تعال قال الخليلي
أصله لم من قولهم لم الله شعثه أي جمعه كأنه أراد لم نفسك الينا أي أقرب وها للتنبيه وحذفت
ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوى فيه الواحد والاثنان والجمع المؤنث فيقال
في الجماعة هلم هذه لغة أهل الحجاز قال الله تعالى والقائلين لإخوانهم هلم الينا وأهل نجد يصرفونها
فيقولون للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللنساء هلمن والأول أفصح هذا كلام
الجوهري قوله صلى الله عليه وسلم (حتى إذا كان أن يدخل) هكذا هو في النسخ كلها كاد أن
يدخل وفيه حجة لجواز دخول أن بعد كاد وقد كثر ذلك وهي لغة فصيحة ولكن الأشهر عدمه
قوله (فنكت ساعة بعصاه) أي بحث بطرفها في الأرض وهذه عادة من تفكر في أمر مهم قوله
95

(فقال الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين
تحدث) هذا فيه الانتصار للمظلوم ورد الغيبة وتصديق الصادق إذا كذبه إنسان والحرث هذا
تابعي وهو الحرث ابن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قولها (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الجدار) وفي آخر الحديث (لنظرت أن أدخل الجدر في البيت) هو بفتح الجيم وإسكان
الدال المهملة وهو الحجر وسبق بيان حكمه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعيد بن منصور
96

(ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية) هكذا هو في جميع النسخ في الجاهلية وهو بمعنى
بالجاهلية كما في سائر الروايات والله أعلم
الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت
قوله (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم
تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه
الفضل إلى الشق الآخر فقالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا
97

كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع) وفي الرواية
الأخرى فحجي عنه هذا الحديث فيه فوائد منها جواز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة
وجواز سماع صوت الأجنبية عند الحاجة في الاستفتاء والمعاملة وغير ذلك ومنها تحريم النظر
إلى الأجنبية ومنها إزالة المنكر باليد لمن أمكنه ومنها جواز النيابة في الحج عن العاجز المأيوس
منه بهرم أو زمانة أو موت ومنها جواز حج المرأة عن الرجل ومنها بر الوالدين بالقيام
بمصالحهما من قضاء دين وخدمة ونفقة وحج عنهما وغير ذلك ومنها وجوب الحج على من
هو عاجز بنفسه مستطيع بغيره كولده وهذا مذهبنا لأنها قالت أدركته فريضة الحج شيخا كبيرا
لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ومنها جواز قول حجة الوداع وأنه لا يكره ذلك وسبق بيان
هذا مرات ومنها جواز حج المرأة بلا محرم إذا أمنت على نفسها وهو مذهبنا ومذهب الجمهور
جواز الحج عن العاجز بموت أو عضب وهو الزمانة والهرم ونحوهما وقال مالك والليث والحسن بن صالح لا يحج أحد عن أحد الا عن ميت لم يحج حجة الاسلام قال القاضي وحكى
عن النخعي وبعض السلف لا يصح الحج عن ميت ولا غيره وهي رواية عن مالك وإن أوصى
به وقال الشافعي والجمهور يجوز الحج عن الميت عن فرضه ونذره سواء أوصى به أم لا ويجزى
عنه ومذهب الشافعي وغيره أن ذلك واجب في تركته وعندنا يجوز للعاجز الاستبانة في حج
التطوع على أصح القولين واتفق العلماء على جواز حج المرأة عن الرجل الا الحسن بن صالح
فمنعه وكذا يمنعه من منع أصل الاستبانة مطلقا والله أعلم
98

صحة حج الصبي وأجر من حج به
قوله (لقى ركبا بالروحاء فقال من القوم فقالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله)
صلى الله عليه وسلم الركب أصحاب الإبل خاصة وأصله أن يستعمل في عشرة فما دونها وسبق في
مسلم في الأذان أن الروحاء مكان على ستة وثلاثين ميلا من المدينة قال القاضي عياض يحتمل أن
هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه صلى الله عليه وسلم ويحتمل كونه نهارا لكنهم لم يروه
صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لعدم هجرتهم فأسلموا في بلدانهم ولم يهاجروا قبل ذلك قوله (فرفعت
امرأة صبيا لها فقال أهذا حج قال نعم ولك أجر) فيه حجة للشافعي ومالك وأحمد وجماهير
العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الاسلام بل يقع
تطوعا وهذا الحديث صريح فيه وقال أبو حنيفة لا يصح حجة قال أصحابه وإنما فعلوه تمرينا
له ليعتاده فيفعله إذا بلغ وهذا الحديث يرد عليهم قال القاضي لا خلاف بين العلماء في جواز
الحج بالصبيان وإنما منعه طائفة من أهل البدع ولا يلتفت إلى قولهم بل هو مردود بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
99

وأصحابه وإجماع الأمة وإنما خلاف أبي حنيفة في أنه هل ينعقد حجه
وتجرى عليه أحكام الحج وتجب فيه الفدية ودم الجبران وسائر أحكام البالغ فأبو حنيفة يمنع
ذلك كله ويقول إنما يجب ذلك تمرينا على التعليم والجمهور يقولون تجرى عليه أحكام الحج
في ذلك ويقولون حجة منعقد يقع نفلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له حجا قال القاضي
وأجمعوا على أنه لا يجزئه إذا بلغ عن فريضة الاسلام الا فرقة شذت فقالت يجزئه ولم تلتفت
العلماء إلى قولها قوله صلى الله عليه وسلم (ولك أجر) معناه بسبب حملها وتجنيبها إياه
ما يجتنبه المحرم وفعل ما يفعله المحرم والله أعلم وأما الولي الذي يحرم عن الصبي فالصحيح
عند أصحابنا أنه الذي يلي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي أو القيم من جهة القاضي
أو القاضي أو الامام وأما الأم فلا يصح احرامها عنه إلا أن تكون وصية أو قيمة من جهة القاضي وقيل إنه
يصح إحرامها وإحرام العصبة وان لم يكن لهم ولاية المال هذا كله إذا كان صغيرا لا يميز
فإن كان مميزا أذن له الولي فأحرم فلو أحرم بغير إذن الولي أو أحرم الولي عنه لم ينعقد على
الأصح وصفة إحرام الولي عن غير المميز أن يقول بقلبه جعلته محرما والله أعلم
فرض الحج مرة في العمر
قوله صلى الله عليه وسلم (أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله
100

فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال
ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ
فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) هذا الرجل السائل هو الأقرع بن حابس
كذا جاء مبينا في غير هذه الرواية واختلف الأصوليون في أن الأمر هل يقتضي التكرار
والصحيح عند أصحابنا لا يقتضيه والثاني يقتضيه والثالث يتوقف فيما زاد على مرة على البيان
فلا يحكم باقتضائه ولا يمنعه وهذا الحديث قد يستدل به من يقول بالتوقف لأنه سأل فقال أكل
عام ولو كان مطلقه يقتضى التكرار أو عدمه لم يسأل ولقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة
إلى السؤال بل مطلقة محمول على كذا وقد يجيب الآخرون عنه بأنه سأل استظهارا واحتياطا
وقوله ذروني ما تركتكم ظاهر في أنه لا يقتضى التكرار قال الماوردي ويحتمل أنه إنما احتمل
التكرار عنده من وجه آخر لأن الحج في اللغة قصد فيه تكرر فاحتمل عنده التكرار من جهة
الاشتقاق لا من مطلق الأمر قال وقد تعلق بما ذكرناه عن أهل اللغة ههنا من قال بإيجاب
العمرة وقال لما كان قوله تعالى ولله على الناس حج البيت يقتضى تكرار قصد البيت بحكم
اللغة والاشتقاق وقد أجمعوا على أن الحج لا يجب الا مرة كانت العودة الأخرى إلى البيت
تقتضي كونها عمرة لأنه لا يجب قصده لغير حج وعمرة بأصل الشرع وأما قوله صلى الله عليه وسلم
لو قلت نعم لوجبت ففيه دليل للمذهب الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد
في الأحكام ولا يشترط في حكمه أن يكون بوحي وقيل يشترط وهذا القائل يجيب عن هذا
الحديث بأنه لعله أوحى إليه ذلك والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ذروني ما تركتكم)
دليل على أن الأصل عدم الوجوب وأنه لا حكم قبل ورود الشرع وهذا هو الصحيح عند
محققي الأصوليين لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا قوله صلى الله عليه وسلم
101

(فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم) هذا من قواعد الاسلام المهمة ومن جوامع الكلم
التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها ما لا يحصى من الاحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز
عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل
غسل الممكن وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن وإذا
وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعض فعل
الممكن وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن وأشباه هذا غير
منحصرة وهي مشهورة في كتب الفقه والمقصود التنبيه على أصل ذلك وهذا الحديث موافق
لقول الله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وأما قوله تعالى اتقوا الله حق تقاته ففيها مذهبان
أحدهما أنها منسوخة بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم والثاني هوه الصحيح أو الصواب وبه جزم
المحققون أنها ليست منسوخة بل قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم مفسرة لها ومبينة للمراد بها
قالوا وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نهيه ولم يأمر سبحانه وتعالى الا بالمستطاع قال الله تعالى
لا يكلف الله نفسا الا وسعها وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج والله أعلم وأما
قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه) فهو على إطلاقه فإن وجد عذر
يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة أو شرب الخمر عند الاكراه أو التلفظ بكلمة الكفر إذا
أكره ونحو ذلك فهذا ليس منهيا عنه في هذا الحال والله أعلم وأجمعت الأمة على أن الحج
لا يجب في العمر الا مرة واحدة بأصل الشرع وقد تجب زيادة بالنذر وكذا إذا أراد دخول
الحرم لحاجة لا تكرر كزيارة وتجارة على مذهب من
أوجب الاحرام لذلك بحج أو عمرة
وقد سبقت المسألة في أول كتاب الحج والله أعلم
سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تسافر المرأة ثلاثا الا ومعها ذو محرم) وفي رواية فوق ثلاث
102

وفي رواية ثلاثة وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال
الا ومعها ذو محرم وفي رواية لا تسافر المرأة يومين من الدهر الا ومعها ذو محرم منها أو
زوجها وفي رواية نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين وفي رواية لا يحل لامرأة مسلمة تسافر
مسيرة ليلة الا ومعها ذو حرمة منها وفي رواية لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر
مسيرة يوم الا مع ذي محرم وفي رواية مسيرة يوم وليلة وفي رواية لا تسافر امرأة الا مع ذي
محرم هذه روايات مسلم وفي رواية لأبي داود ولا تسافر بريدا والبريد مسيرة نصف يوم قال
العلماء اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاثة
تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد قال البيهقي كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة تسافر
ثلاثا بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها يوما
فقال وكذلك البريد فأدى كل منهم ما سمعه وما جاء منها مختلفا عن رواية واحد فسمعه في
مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه
اسم السفر ولم يرد صلى الله عليه وسلم تحديد أقل ما يسمى سفرا فالحاصل أن كل ما يسمى
سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو
غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم السابقة لا تسافر امرأة الا مع ذي
103

محرم وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا والله أعلم وأجمعت الأمة على أن المرأة يلزمها حجة
الاسلام إذا استطاعت لعموم قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله صلى الله عليه وسلم
بنى الاسلام على خمس الحديث واستطاعتها كاستطاعة الرجل لكن اختلفوا في اشتراط
المحرم لها فأبو حنيفة يشترطه لوجوب الحج عليها الا أن يكون بينها وبين مكة دون ثلاث مراحل ووافقه جماعة من أصحاب الحديثة وأصحاب الرأي وحكى ذلك أيضا عن الحسن
البصري والنخعي وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي في
المشهور عنه لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها قال أصحابنا يحصل الأمن بزوج
أو محرم أو نسوة ثقات ولا يلزمها الحج عندنا الا بأحد هذه الأشياء فلو وجد ت امرأة واحدة
ثقة لم يلزمها لكن يجوز لها الحج معها هذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا يلزمها بوجود
نسوة أو امرأة واحدة وقد يكثر الأمن ولا تحتاج إلى أحد بل تسير وحدها في جملة القافلة
وتكون آمنة والمشهور من نصوص الشافعي وجماهير أصحابه هو الأول واختلف أصحابنا في
خروجها لحج التطوع وسفر الزيارة والتجارة ونحو ذلك من الأسفار التي ليست واجبة فقال
بعضهم يجوز لها الخروج فيها مع نسوة ثقات كحجة الاسلام وقال الجمهور لا يجوز الا مع زوج
أو محرم وهذا هو الصحيح للأحاديث الصحيحة وقد قال القاضي واتفق العلماء على أنه ليس
لها أن تخرج في غير الحج والعمرة الا مع ذي محرم الا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على
أن عليها أن تهاجر منه إلى دار الاسلام وإن لم يكن معها محرم والفرق بينهما أن اقامتها في دار
الكفر حرام إذا لم تستطع إظهار الدين وتخشى على دينها ونفسها وليس كذلك التأخر عن الحج
فإنهم اختلفوا في الحج هل هو على الفور أم على التراخي قال القاضي عياض قال الباجي هذا
عندي في الشابة وأما الكبيرة غير المشتهاة فتسافر كيف شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا
محرم وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه لأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت
104

كبيرة وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطهم من
لا يرتفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وخيانته ونحو
ذلك والله أعلم واستدل أصحاب أبي حنيفة برواية ثلاثة أيام لمذهبهم أن قصر
الصلاة في السفر لا يجوز الا في سفر يبلغ ثلاثة أيام وهذا استدلال فاسد وقد جاءت الأحاديث
بروايات مختلفة كما سبق وبينا مقصودها وأن السفر يطلق على يوم وعلى بريد وعلى دون ذلك
وقد أوضحت الجواب عن شبهتهم إيضاحا بليغا في باب صلاة المسافر من شرح المهذب والله أعلم
قوله صلى الله عليه وسلم (الا ومعها ذو محرم) فيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن جميع المحارم
سواء في ذلك فيجوز لها المسافرة مع محرمها بالنسب كابنها وأخيها وابن أخيها وابن أختها وخالها
وعمها ومع محرمها بالرضاع كأخيها من الرضاع وابن أخيها وابن أختها منه ونحوهم ومع محرمها
من المصاهرة كأبي زوجها وابن زوجها ولا كراهة في شئ من ذلك وكذا يجوز لكل هؤلاء
الخلوة بها والنظر إليها من غير حاجة ولكن لا يحل النظر بشهوة لأحد منهم هذا مذهب الشافعي
والجمهور ووافق مالك على ذلك كله الا ابن زوجها فكره سفرها معه لفساد الناس بعد العصر
الأول ولأن كثيرا من الناس لا ينفرون من زوجة الأب نفرتهم من محارم النسب قال والمرأة
فتنة الا فيما جبل الله تعالى النفوس عليه من النفرة عن محارم النسب وعموم هذا الحديث يرد
على مالك والله أعلم وأعلم أن حقيقة المحرم من النساء التي يجوز النظر إليها والخلوة
بها والمسافرة بها كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها فقولنا على التأبيد احتراز من أخت المرأة
وعمتها وخالتها ونحوهن وقولنا بسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنهما تحرمان
على التأبيد وليستا محرمين لأن وطء الشبهة لا يوصف بالإباحة لأنه ليس بفعل مكلف وقولنا
لحرمتها احتراز من الملاعنة فإنها محرمة على التأبيد بسبب مباح وليست محرما لأن تحريمها ليس لحرمتها بل عقوبة وتغليظا والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا تشدوا الرحال الا إلى ثلاثة
105

مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) فيه بيان عظيم فضيلة هذه المساجد الثلاثة
ومزيتها على غيرها لكونها مساجد الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولفضل الصلاة فيها ولو نذر
الذهاب إلى المسجد الحرام لزمه قصده لحج أو عمرة ولو نذره إلى المسجدين الآخرين فقولان
للشافعي أصحهما عند أصحابه يستحب قصدهما ولا يجب والثاني يجب وبه قال كثيرون من العلماء
وأما باقي المساجد سوى الثلاثة فلا يجب قصدها بالنذر ولا ينعقد نذر قصدها هذا مذهبنا ومذهب
العلماء كافة الا محمد بن مسلمة المالكي فقال إذا نذر قصد مسجد قباء لزمه قصده لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا وقال الليث بسعد يلزمه قصد ذلك المسجد
أي مسجد كان وعلى مذهب الجماهير لا ينعقد نذره ولا يلزمه شئ وقال أحمد يلزمه كفارة
يمين واختلف العلماء في شد الرحال وأعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبور
الصالحين وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو حرام
وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره امام
الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره قالوا والمراد أن الفضيلة التامة إنما هي في شد
الرحال إلى هذه الثلاثة خاصة والله أعلم قوله (فأعجبني وآنقنني) قال القاضي معنى آنقنني
أعجبنني وإنما كرر المعنى لاختلاف اللفظ والعرب تفعل ذلك كثيرا للبيان والتوكيد قال
الله تعالى أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة والصلاة من الله الرحمة وقال تعالى فكلوا
106

مما غنمتم حلالا طيبا والطيب هو الحلال ومنه قول الحطيئة
الا حبذا هند أرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
والنأي هو البعد قوله (حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك بن سعيد بن أبي سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم منها هكذا) وقع
107

هذا الحديث في نسخ بلادنا عن سعيد عن أبيه قال القاضي عياض وكذا وقع في النسخ
عن الجلودي وأبي العلاء والكسائي وكذا رواه مسلم في الاسناد السابق قبل هذا عن قتيبة
عن الليث عن سعيد عن أبيه وكذا رواه البخاري ومسلم من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد
عن أبيه قال واستدرك الدارقطني عليهما اخراجهما هذا عن ابن أبي ذئب وعلى مسلم اخراجه
إياه عن الليث عن سعيد عن أبيه وقال الصواب عن سعيد عن أبي هريرة من غير ذكر أبيه
واحتج بأن مالكا ويحيى بن أبي كثير وسهيلا قالوا عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ولم يذكروا
عن أبيه قال قال والصحيح عن مسلم في حديثه هذا عن يحيى بن يحيى عن مالك عن سعيد عن أبي هريرة
من غير ذكر أبيه وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي وكذا رواه معظم رواة الموطأ عن مالك قال
الدارقطني ورواه الزهراني والقروي عن مالك فقالا عن سعيد عن أبيه هذا كلام القاضي قلت
وذكر خلف الواسطي في الأطراف أن مسلما رواه عن يحيى بن يحيي عن مالك عن سعيد عن
أبيه عن أبي هريرة وكذا رواه أبو داود في كتاب الحج من سننه والترمذي في النكاح عن
الحسن عن علي عن بشر بن عمر عن مالك عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال الترمذي
حديث حسن صحيح ورواه أبو داود في الحج أيضا عن القعنبي والعلاء عن مالك عن يوسف
108

ابن موسى عن جرير كلاهما عن سهيل عن سعيد عن أبي هريرة فحصل اختلاف ظاهر بين
الحافظ في ذكر أبيه فلعله سمعه من أبيه عن أبي هريرة ثم سمعه من أبي هريرة نفسه فرواه
تارة كذا وتارة كذا وسماعه من أبي هريرة صحيح معروف والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(لا يخلون رجل بامرأة أو معها ذو محرم) هذا استثناء منقطع لأنه متى كان معها محرم
لم تبق خلوة فتقدير الحديث لا يقعدن رجل مع امرأة إلا ومعها محرم وقوله صلى الله عليه وسلم
(ومعها ذو محرم) يحتمل أن يريد محرما لها ويحتمل أن يريد محرما لها أوله وهذا الاحتمال
الثاني هو الجاري على قواعد الفقهاء فإنه لا فرق بين أن يكون معها محرم لها كابنها وأخيها وأمها
وأختها أو يكون محرما له كأخته وبنته وعمته وخالته فيجوز القعود معها في هذه الأحوال ثم
إن الحديث مخصوص أيضا بالزوج فإنه لو كان معها زوجها كان كالمحرم وأولى بالجواز وأما
إذا خلال الأجنبي بالأجنبية من غير ثالث معهما فهو حرام باتفاق العلماء وكذا لو كان معهما من لا
يستحى منه لصغره كابن سنتين وثلاث ونحو ذلك فإن وجوده كالعدم وكذا لو اجتمع رجال
بامرأة أجنبية فهو حرام بخلاف ما لو اجتمع رجل بنسوة أجانب فإن الصحيح جوازه وقد
أوضحت المسألة في شرح المهذب في باب صفة الأئمة في أوائل كتاب الحج والمختار أن الخلوة
بالأمرد الأجنبي الحسن كالمرأة فتحرم الخلوة حيث حرمت بالمرأة إلا إذا كان في جمع من
الرجال المصونين قال أصحابنا ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها
ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك
فيباح له استصحابها بل يلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها وهذا لا اختلاف فيه ويدل عليه حديث عائشة في قصة الإفك والله أعلم قوله (فقال رجل يا رسول الله ان امرأتي خرجت
109

حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال انطلق فحج مع امرأتك) فيه تقديم الأهم من
الأمور المتعارضة لأنه لما تعارض سفره في الغزو وفي الحج معها رجح الحج معها لأن الغزو
يقوم غيره في مقامه عنه بخلاف الحج معها قوله (وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا هشام يعنى أن
سليمان المخزومي عن ابن جريج بهذا الاسناد نحوه لم يذكر ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو
محرم) هذا آخر الفوات الذي لم يسمعه أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان من مسلم وقد سبق بيان أوله
عند أحاديث رحم الله المحلقين والمقصرين ومن هنا قال أبو إسحاق حدثنا مسلم بن الحجاج قال
وحدثني هارون بن عبد الله قال حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني أبو الزبير الحديث
وهو أول الباب الذي ذكره متصلا بهذا والله أعلم
استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج
(أو غيره وبيان الأفضل من ذلك الذكر)
قوله (كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا
110

وما كنا له مقرنين إلى آخره) معنى مقرنين مطيقين أي ما كنا نطيق قهره واستعماله لولا تسخير
الله تعالى إياه لنا وفي هذا الحديث استحباب هذا الذكر عند ابتداء الأسفار كلها وقد جاءت فيه
أذكار كثيرة جمعتها في كتاب الأذكار قوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء
السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل) الوعثاء بفتح الواو وإسكان العين المهملة
وبالثاء المثلثة وبالمد وهي المشقة والشدة والكآبة بفتح الكاف وبالمد وهي تغير النفس من حزن
ونحوه والمنقلب بفتح اللام المرجع قوله (والحور بعد الكون) هكذا هو في معظم النسخ
من صحيح مسلم بعد الكون بالنون بل لا يكاد يوجد في نسخ بلادنا إلا بالنون وكذا ضبطه
الحفاظ المتقنون في صحيح مسلم قال القاضي وهكذا رواه الفارسي وغيره من رواة صحيح مسلم
قال ورواه العذري بعد الكور بالراء قال والمعروف في رواية عاصم الذي رواه مسلم عنه بالنون
قال القاضي قال إبراهيم الحربي يقال إن عاصما وهم فيه وأن صوابه الكور بالراء قلت وليس
كما قال الحربي بل كلاهما روايتان وممن ذكر الروايتين جميعا الترمذي في جامعه وخلائق من
المحدثين وذكرهما أبو عبيد وخلائق من أهل اللغة وغريب الحديث قال الترمذي بعد أن رواه
بالنون ويروى بالراء أيضا ثم قال وكلاهما له وجه قال ويقال هو الرجوع من الايمان إلى
الكفر أو من الطاعة إلى المعصية ومعناه الرجوع من شئ إلى شئ من الشر هذا كلام
111

الترمذي وكذا قال غيره من العلماء معناه بالراء والنون جميعا الرجوع من الاستقامة أو
الزيادة إلى النقص قالوا ورواية الراء مأخوذة من تكوين العمامة وهو لفها وجمعها ورواية
النون مأخوذة من الكون مصدر كان يكون كونا إذا وجد واستقر قال المازري في رواية
الراء قيل أيضا أن معناه أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها يقال
كار عمامته إذا لفها وحارها إذا نقضها وقيل نعوذ بك من أن تفسد أمورنا بعد صلاحها
كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس وعلى رواية النون قال أبو عبيد سئل عاصم
عن معناه فقال ألم تسمع قولهم حار بعد ما كان أي أنه كان على حالة جميلة فرجع عنها والله
قوله صلى الله عليه وسلم (ودعوة المظلوم) أي أعوذ بك من الظلم فإنه يترتب عليه دعاء المظلوم ودعوة
المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ففيه التحذير من الظلم ومن التعرض لأسبابه
ما يقال إذا رجع من سفر الحج وغيره
قوله (قفل من الجيوش) أي رجع من الغزو وقوله (إذا أوفى على ثنية أو فدفد
112

كبر) معنى أو في ارتفع علا والفدفد بفائين مفتوحتين بينهما دال مهملة ساكنة وهو
الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع وقيل هو الفلاة التي لا شئ فيها وقيل غليظ الأرض ذات
الحصى وقيل الجلد من الأرض في ارتفاع وجمعه فدافد قوله صلى الله عليه وسلم (آيبون)
أي راجعون قوله صلى الله عليه وسلم (صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب
وحده) أي صدق وعده في إظهار الدين وكون العاقبة للمتقين وغير ذلك من وعده سبحانه
إن الله يخلف الميعاد وهزم الأحزاب وحده أي من غير قتال من الآدميين والمراد الأحزاب
الذين اجتمعوا يوم الخندق وتحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله عليهم ريحا
وجنودا لم تروها وبهذا يرتبط قوله صلى الله عليه وسلم صدق الله تكذيبا لقول المنافقين
والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا هذا هو المشهور أن المراد
أحزاب يوم الخندق قال القاضي وقيل يحتمل أن المراد أحزاب الكفر في جميع الأيام
والمواطن والله أعلم
113

استحباب النزول بطحاء ذي الحليفة والصلاة بها
(إذا صدر من الحج والعمرة وغيرهما فمر بها)
قوله صلى الله عليه وسلم (أناخ بالبطحاء التي بذي الحليفة فصلى وكان ابن عمر يفعل ذلك) وفي
114

الرواية الأخرى ان النبي صلى الله عليه وسلم أتى في معرسة بذي الحليفة فقيل له إنك ببطحاء
مباركة قال القاضي المعرس موضع النزول قال أبو زيد عرس القوم في المنزل إذا نزلوا به
أي وقت كان من ليل أو نهار وقال الخليل والأصمعي التعريس النزول في آخر الليل قال
القاضي والنزول بالبطحاء بذي الحليفة في رجوع الحاج ليس من مناسك الحج وإنما فعله
من فعله من أهل المدينة تبركا بآثار النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها بطحاء مباركة قال
واستحب مالك النزول والصلاة فيه وأن لا يجاوز حتى يصلى فيه وإن كان في غير
وقت صلاة
مكث حتى يدخل وقت الصلاة فيصلى قال وقيل إنما نزل به صلى الله عليه وسلم في رجوعه
حتى يصبح لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلا كما نهى عنه صريحا في الأحاديث المشهورة والله أعلم
لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان
(وبيان يوم الحج الأكبر)
قوله (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي
115

أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر
لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) قال ابن شهاب وكان حميد بن عبد الرحمن
يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة رضي الله عنه معنى قول
حميد بن عبد الرحمن إن الله تعالى قال وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ففعل
أبو بكر وعلي وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة هذا الأذان يوم النحر بإذن النبي
صلى الله عليه وسلم في أصل الأذان والظاهر أنه عين لهم يوم النحر فتعين أنه يوم الحج الأكبر ولأن
معظم المناسك فيه وقد اختلف العلماء في المراد بيوم الحج الأكبر فقيل يوم عرفه وقال مالك
والشافعي والجمهور هو يوم النحر ونقل القاضي عياض عن الشافعي أنه يوم عرفة وهذا خلاف المعروف
من مذهب الشافعي قال العلماء وقيل الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر وهو العمرة واحتج من قال
هو يوم عرفة بالحديث المشهور الحج عرفة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحج بعد العام مشرك) موافق لقول الله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا والمراد بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله فلا يمكن مشرك من دخول الحرم
بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يمكن من الدخول بل يخرج إليه من يقضى الأمر المتعلق
به ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم قوله صلى الله عليه وسلم (ولا
يطوف بالبيت عريان) هذا إبطال لما كانت الجاهلية عليه من الطواف بالبيت عراة واستدل به
أصحابنا وغيرهم على أن الطواف يشترط له ستر العورة والله أعلم
116

فضل يوم عرفة
قوله صلى الله عليه وسلم (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة
وأنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل
يوم عرفة وهو كذلك ولو قال رجل امرأتي طالق في أفضل الأيام فلأصحابنا وجهان أحدهما
تطلق يوم الجمعة لقوله صلى الله عليه وسلم خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة كما
سبق في صحيح مسلم وأصحهما يوم عرفة للحديث المذكور في هذا الباب ويتأول حديث يوم
الجمعة على أنه أفضل أيام الأسبوع قال القاضي عياض قال المازري معنى يدنو في هذا
الحديث أي تدنو رحمته وكرامته لأدنو مسافة ومماسة قال القاضي يتأول فيه ما سبق في
حديث النزول إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث الآخر من غيظ الشيطان يوم عرفة لما يرى
من تنزل الرحمة قال القاضي وقد يريد دنو الملائكة إلى الأرض أو إلى السماء بما ينزل معهم
من الرحمة ومباهاة الملائكة بهم عن أمره سبحانه وتعالى قال وقد وقع الحديث في صحيح مسلم
مختصرا وذكره عبد الرزاق في مسنده من رواية ابن عمر قال إن الله ينزل إلى السماء الدنيا
فيباهي بهم الملائكة يقول هؤلاء عبادي جاؤني شعثا غبرا يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم
يروني فكيف لو رأوني وذكر باقي الحديث
فضل الحج والعمرة
قوله صلى الله عليه وسلم (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) هذا ظاهر في فضيلة العمرة
117

وأنها مكفرة للخطايا الواقعة بين العمرتين وسبق في كتاب الطهارة بيان هذه الخطايا وبيان
الجمع بين هذا الحديث وأحاديث تكفير الوضوء للخطايا وتكفير الصلوات وصوم عرفة
وعاشوراء واحتج بعضهم في نصرة مذهب الشافعي والجمهور في استحباب تكرار العمرة في
السنة الواحدة مرارا وقال مالك وأكثر أصحابه يكره أن يعتمر في السنة أكثر من عمرة قال
القاضي وقال آخرون لا يعتمر في شهر أكثر من عمرة واعلم أن جميع السنة وقت للعمرة فتصح
في كل وقت منها إلا في حق من هو متلبس بالحج فلا يصح اعتماره حتى يفرغ من الحج ولا
تكره عندنا لغير الحاج في يوم عرفة والأضحى والتشريق وسائر السنة وبهذا قال مالك وأحمد
وجماهير العلماء وقال أبو حنيفة تكره في خمسة أيام يوم عرفة والنحر وأيام التشريق وقال
أبو يوسف تكره في أربعة أيام وهي عرفة والتشريق واختلف العلماء في وجوب العمرة
فمذهب الشافعي والجمهور أنها واجبة وممن قال به عمر وابن عمر وابن عبا س وطاوس وعطاء
وابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري ومسروق وابن سيرين والشعبي وأبو بردة
ابن أبي موسى وعبد الله بن شداد والثوري وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وداود وقال مالك
وأبو حنيفة وأبو ثور هي سنة وليست واجبة وحكى أيضا عن النخعي قوله صلى الله عليه وسلم
(والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) الأصح الأشهر أن المبرور هو الذي
118

لا يخالطه إثم مأخوذ من البر وهو الطاعة وقيل هو المقبول ومن علامة القبول أن يرجع خيرا
مما كان ولا يعاود المعاصي وقيل هو الذي لا رياء فيه وقيل الذي لا يعقبه معصية وهما
داخلان فيما قبلهما ومعنى ليس له جزاء الا الجنة أنه لا يقتصر لصاحبه من الجزاء على تكفير
بعض ذنوبه بل لا بد أن يدخل الجنة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من أتى هذا البيت
فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) قال القاضي هذا من قوله تعالى فلا رفث ولا
فسوق والرفث اسم للفحش من القول وقيل هو الجماع وهذا قول الجمهور في الآية قال الله
تعالى أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم يقال رفث ورفث بفتح الفاء وكسرها يرفث
ويرفث وبرفث بضم الفاء وكسرها وفتحها ويقال أيضا أرفث بالألف وقيل الرفث التصريح
بذكر الجماع قال الأزهري هي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة وكان ابن عباس
يخصصه بما خوطب به النساء قال ومعنى كيوم ولدته أمه أي بغير ذنب وأما الفسوق
فالمعصية والله أعلم
119

نزول الحاج بمكة وتوريث دورها
قوله (يا رسول الله أتنزل في دارك بمكة قال وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور) وكان عقيل ورث
أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين قال
القاضي عياض لعله أضاف الدار إليه صلى الله عليه وسلم لسكناه إياها مع أن أصلها كان لأبي
طالب لأنه الذي كفله ولأنه أكبر ولد عبد المطلب فاحتوى على أملاك عبد المطلب وحازها
وحده لسنة على عادة الجاهلية قال ويحتمل أن يكون عقيل باع جميعها وأخرجها عن أملاكهم
كما فعل أبو سفيان وغيره بدور من هاجر من المؤمنين قال الداودي فباع عقيل جميع ما كان
للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن هاجر من بني عبد المطلب وقوله صلى الله عليه وسلم وهل ترك
لنا عقيل من دار فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن مكة فتحت صلحا وأن دورها مملوكة
لأهلها لها حكم سائر البلدان في ذلك فتورث عنهم ويجوز لهم بيعها ورهنا وإجارتها وهبتها
120

والوصية بها وسائر التصرفات وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي وآخرون فتحت عنوة
ولا يجوز شئ من هذه التصرفات وفيه أن المسلم لا يرث الكافر وهذا مذهب العلماء كافة
الا ما روى عن إسحاق بن راهويه وبعض السلف أن المسلم يرث الكافر وأجمعوا أن الكافر
لا يرث المسلم وستأتي المسألة في موضعها مبسوطة إن شاء الله تعالى والله أعلم
جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج
(والعمرة ثلاثة أيام بلا زيادة)
قوله صلى الله عليه وسلم (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) وفي الرواية الأخرى
مكث
121

المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وفي رواية للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة كأنه يقول
لا يزيد عليها معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما
أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة واستد أصحابنا وغيرهم بهذا
الحديث على أن إقامة ثلاثة ليس لها حكم الإقامة بل صاحبها في حكم المسافر قالوا فإذا
نوى المسافر الإقامة في بلد ثلاثة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج جاز له الترخص
برخص السفر من القصر والفطر وغيرهما من رخصة ولا يصير له حكم المقيم والمراد بقوله
صلى الله عليه وسلم (يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثة) أي بعد رجوعه من منى كما قال
في الرواية الأخرى (بعد الصدر) أي الصدر من منى وهذا كله قبل طواف الوداع وفي
هذا دلالة لأصح الوجهين عند أصحابنا أن طواف الوداع ليس من مناسك الحج بل هو عبادة
مستقلة أمر بها من أراد الخروج من مكة لا أنه نسك من مناسك الحج ولهذا لا يؤمر به
المكي ومن يقيم بها وموضع الدلالة قوله صلى الله عليه وسلم بعد قضاء نسكه والمراد
قبل طواف الوداع كما ذكرنا فإن طواف الوداع لا إقامة بعده ومتى أقام بعده خرج عن كونه
طواف وداع فسماه قبله قاضيا لمناسكه والله أعلم قال القاضي عياض رحمه الله في هذا الحديث
حجة لمن منع المهاجر قبل الفتح من المقام بمكة بعد الفتح قال وهو قول الجمهور وأجاز له جماعة
بعد الفتح مع الاتفاق على وجوب الهجرة عليهم قبل الفتح ووجوب سكنى المدينة لنصرة
122

النبي صلى الله عليه وسلم ومواساتهم له بأنفسهم وأما غير المهاجر ومن آمن بعد ذلك فيجوز
له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق هذا كلام القاضي قوله صلى الله عليه وسلم
(مكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) هكذا هو في أكثر النسخ ثلاثا وفي بعضها ثلاث ووجه المنصوب أن يقدر فيه محذوف أي مكثه المباح أن يمكث ثلاثا والله أعلم
تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها
(ولقطتها الا لمنشد على الدوام)
قوله صلى الله عليه وسلم (يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية) قال العلماء
الهجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان
أحدهم لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار
الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار الاسلام لا يتصور
منها الهجرة والثاني معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى لا يستوى
منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل الآية وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولكن جهاد ونية) فمعناه ولكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة وذلك بالجهاد
ونية
الخير في كل شئ قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا استنفرتم فانفروا) معناه إذا دعاكم
السلطان إلى غزو فاذهبوا وسيأتي بسط أحكام الجهاد وبيان الواجب منه في بابه إن شاء الله
123

تعالى قوله صلى الله عليه وسلم (ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض)
وفي الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا ان إبراهيم حرم مكة فظاهرها الاختلاف وفي
المسألة خلاف مشهور ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية وغيره من العلماء في وقت
تحريم مكة فقيل أنها ما زالت محرمة من يوم خلق السماوات والأرض وقيل ما زالت
حلالا كغيرها إلى زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم ثم ثبت لها التحريم من زمن
إبراهيم وهذا القول يوافق الحديث الثاني والقول الأول يوافق الحديث الأول وبه قال
الأكثرون وأجابوا عن الحديث الثاني بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السماوات
والأرض ثم خفى تحريمها واستمر خفاؤه إلى زمن إبراهيم فأظهره وأشاعه لا أنه ابتدأه ومن
قال بالقول الثاني أجاب عن الحديث الأول بأن معناه ان الله كتب في اللوح المحفوظ أو
في غيره يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض ان إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال
فيه لأحد قبلي ولم يحل لي الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) وفي
رواية القتل بدل القتال وفي الرواية الأخرى لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن
يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيها فقولوا له أن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم
القتال بمكة قال الإمام أبو الحسن الماوردي البصري صاحب الحاوي من أصحابنا في كتابه
الأحكام السلطانية من خصائص الحرم أن لا يحارب أهله فإن بغوا على أهل العدل فقد قال
بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل
قال وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي الا بالقتال لأن قتال البغاة من
124

حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها فحفظها أولى في الحرم من إضاعتها هذا كلام الماوردي وهذا
الذي نقله عن جمهور الفقهاء هو الصواب وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من
كتب الامام ونص عليه الشافعي أيضا في آخر كتابه المسمى بسير الواقدي من كتب الأم وقال
القفال المروزي من أصحابنا في كتابه شرح التلخيص في أول كتاب النكاح في ذكر
الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال حتى لو تحصن جماعة من الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم
فيها وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه حتى لا يغتر به وأما الجواب عن الأحاديث
المذكورة هنا فهو ما أجاب به الشافعي في كتابه سير الواقدي أن معناها تحريم نصب القتال
عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا
تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شئ والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاها) وفي رواية لا تعضد بها شجرة وفي رواية لا يختلي شوكها وفي
رواية لا يخبط شوكها قال أهل اللغة العضد القطع والخلا
بفتح الخاء المعجمة مقصور هو الرطب من الكلأ قالوا الخلا والعشب اسم للرطب منه
والحشيش والهشيم اسم لليابس منه والكلأ مهموز يقع على الرطب واليابس وعد ابن مكي
وغيره من لحن العوام اطلاقهم اسم الحشيش على الرطب بل هو مختص باليابس ومعنى
يختلي يؤخذ ويقطع ومعنى يخبط يضرب بالعصا ونحوها ليسقط ورقه واتفق العلماء على
تحريم قطع أشجارها التي لا يستنبتها الآدميون في العادة وعلى تحريم قطع خلاها واختلفوا
فيهما ينبته الآدميون واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطعه فقال مالك يأثم ولا فدية عليه وقال
الشافعي وأبو حنيفة عليه الفدية واختلفا فيها فقال الشافعي في الشجرة الكبيرة بقرة وفي
الصغيرة شاه وكذا جاء عن ابن عباس وابن الزبير وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة الواجب
في الجميع القيمة قال الشافعي ويضمن الخلا بالقيمة ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى
البهائم في كلأ الحرم وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد لا يجوز وأما صيد الحرم فحرام بالاجماع
على الحلال والمحرم فإن قتله فعليه الجزاء عند العلماء كافة إلا داود فقال يأثم ولا جزاء عليه
125

ولو دخل صيد من الحل إلى الحرم فله ذبحه وأكله وسائر أنواع التصرف فيه هذا مذهبنا
ومذهب مالك وداود وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه ولا التصرف فيه بل يلزمه إرساله
قالا فإن أدخله مذبوحا جاز أكله وقاسوه على المحرم واحتج أصحابنا والجمهور بحديث يا أبا عمير
ما فعل النغير وبالقياس على ما إذا دخل من الحل شجرة أو كلأ ولأنه ليس بصيد حرم قوله
صلى الله عليه وسلم (لا يعضد شوكه) فيه دلالة لمن يقول بتحريم جميع نبات الحرم من الشجر
والكلأ سواء الشوك المؤذى وغيره وهو الذي اختاره المتولي من أصحابنا وقال جمهور أصحابنا
لا يحرم الشوك لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس ويخصون الحديث بالقياس والصحيح ما اختاره
المتولي والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وإنه لم يحل القتال فيه لأحد من قبلي ولم يحل لي
إلا ساعة من نهار) هذا مما يحتج بمن يقول أن مكة فتحت عنوة وهو مذهب أبي حنيفة
وكثيرين أو الأكثرين وقال الشافعي وغيره فتحت صلحا وتأولوا هذا الحديث على أن القتال كان جائزا
له صلى الله عليه وسلم في مكة ولو احتاج إليه لفعله ولكن ما احتاج إليه والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (ولا ينفر صيده) تصريح بتحريم التنفير وهو الازعاج وتنحيته من موضعه فإن
نفره عصى سواء تلف أم لا لكن إن تلف في نفاره قبل سكون نفاره ضمنه المنفر وإلا فلا
ضمان قال العلماء ونبه صلى الله عليه وسلم بالتنفير على الاتلاف ونحوه لأنه إذا حرم التنفير
فالاتلاف أولى قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها) وفي رواية
لا تحل لقطتها إلا لمنشد المنشد هو المعرف وأما طالبها فيقال له ناشد وأصل النشد والانشاد
رفع الصوت ومعنى الحديث لا تحل لقطتها لمن يريد أن يعرفها سنة ثم يتملكها كما في باقي البلاد
بل لا تحل إلا لمن يعرفها أبدا ولا يتملكها وبهذا قال الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي وأبو عبيد
وغيرهم وقال مالك يجوز تملكها بعد تعرفها سنة كما في سائر البلاد وبه قال بعض أصحاب الشافعي
126

ويتأولون الحديث تأويلات ضعيفة واللقطة بفتح القاف على اللغة المشهورة وقيل بإسكانها وهي
الملقوط قوله (الا الإذخر) هو نبت معروف طيب الرائحة هو بكسر الهمزة والخاء قوله (
فإنه لقينهم وبيوتهم) وفي رواية نجعله في قبورنا وبيوتنا قينهم بفتح القاف هو الحداد والصائغ
ومعناه يحتاج إليه ألقين في وقود النار ويحتاج إليه في القبور لتسد به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات
ويحتاج إليه في سقوف البيوت يجعل فوق الخشب قوله (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الا الأذخر) هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم أوحى إليه في الحال باستثناء الأذخر
وتخصيصه من العموم أو أوحى إليه قبل ذلك أنه إذا طلب أحد استثناء شئ فاستثنه أو أنه اجتهد
في الجميع والله أعلم قوله (عن أبي شريح العدوي) هكذا ثبت في الصحيحين العدوي في هذا
الحديث ويقال له أيضا الكعبي والخزاعي قيل اسمه خويلد بن عمرو وقيل عمرو بن خويلد وقيل
عبد الرحمن بن عمرو وقيل هانئ بن عمرو أسلم قبل فتح مكة وتوفى بالمدينة سنة ثمان وستين قوله
(وهو يبعث البعوث إلى مكة) يعنى لقتال ابن الزبير قوله (سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي)
أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه وتيقنه زمانه ومكانه ولفظه قول صلى الله عليه وسلم
(ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس) معناه أن تحريمها بوحي الله تعالى لا أنها اصطلح الناس
على تحريمها بغير أمر الله قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة) هذا قد يحتج به من يقول الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الاسلام
والصحيح عندنا وعند آخرين أنهم مخاطبون بها كما هم مخاطبون بأصوله وإنما قال صلى الله عليه وسلم
127

فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم والآخر لأن المؤمن هو الذي ينقاد لاحكامنا وينزجر
عن محرمات شرعنا ويستثمر أحكامه فجعل الكلام فيه وليس فيه أن غير المؤمن ليس مخاطبا
بالفروع قوله (يسفك) بكسر الفاء على المشهور وحكى ضمها أي يسيله قوله صلى الله عليه وسلم
(فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره) فيه دلالة لمن يقول
فتحت مكة عنوة وقد سبق في هذا الباب بيان الخلاف فيه وتأويل الحديث عند من يقول ف
تحت صلحا أن معناه دخلها متأهبا للقتال لو احتاج إليه فهو دليل الجواز له تلك الساعة قوله
صلى الله عليه وسلم (وليبلغ الشاهد الغائب) هذا اللفظ قد جاءت به أحاديث كثيرة وفيه التصريح بوجوب نقل العلم وإشاعة السنن والأحكام قوله (لا يعيذ عاصيا) أي لا يعصمه قوله (ولا فارا
بخربة) هي بفتح الخاء المعجمة وإسكان الراء هذا هو المشهور ويقال بضم الخاء أيضا حكاها
القاضي وصاحب المطالع وآخرون وأصلها سرقة الإبل وتطلق على كل خيانة وفي صحيح البخاري
128

إنها البلية وقال الخليل هي الفساد في الدين من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض وقيل هي
العيب قوله صلى الله عليه وسلم (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما ان يفدى وإما ان
يقتل) معناه ولي المقتول بالخياران شاء قتل القاتل وان شاء أخذ فداءه وهي الدية وهذا تصريح
بالحجة للشافعي وموافقيه ان الولي بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل وإن له إجبار الجاني
على أي الأمرين شاء ولي القتيل وبه قال سعيد بن المسيب وابن سيرين وأحمد وإسحاق وأبو
ثور وقال مالك ليس للولي الا القتل أو العفو وليس له الدية الا برضى الجاني وهذا خلاف نص
هذا الحديث وفيه أيضا دلالة لمن يقول القاتل عمدا يجب عليه أحد الأمرين القصاص أو الدية
وهو أحد القولين للشافعي والثاني أن الواجب القصاص لا غير وإنما تجب الدية بالاختيار
وتظهر فائدة الخلاف في صور منها لو عفا الولي عن القصاص ان قلنا الواجب أحد الأمرين
وسقط القصاص ووجبت الدية وإن قلنا الواجب القصاص بعينه لم يجب قصاص
ولا دية وهذا الحديث محمول على القتل عمدا فإنه لا يجب القصاص في غير العمد قوله
(فقام أبو شاه) هو بهاء تكون هاء في الوقف والدرج ولا يقال بالتاء قالوا ولا يعرف اسم
أبي شاه هذا وإنما يعرف بكنيته قوله صلى الله عليه وسلم (اكتبوا لأبي شاه) هذا تصريح
بجوار كتابه العلم غير القرآن ومثله حديث علي رضي الله عنه ما عنده الا ما في هذه الصحيفة
ومثله حديث أبي هريرة كان عبد الله بن عمر يكتب ولا أكتب وجاءت أحاديث بالنهي عن
كتابة غير القرآن فمن السلف من منع كتابة العلم وقال جمهور السلف بجوازه ثم أجمعت الأمة
129

بعدهم على استحبابه وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين أحدهما أنها منسوخة وكان النهي
في أول الأمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد فنهى عن كتابة غيره خوفا من اختلاطه واشتباهه
فلما اشتهر وأمنت تلك المفسدة أذن فيه والثاني أن النهي نهى تنزيه لمن وثق بحفظه وخيف
اتكاله على الكتابة والاذن لمن لم يوثق بحفظه والله أعلم
النهى عن حمل السلاح بمكة من غير حاجة
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل لأحدكم أن يحمل السلاح بمكة) هذا النهي إذا لم تكن حاجة
130

إن كانت جاز هذا مذهبنا ومذهب الجماهير قال القاضي عياض هذا محمول عند أهل العلم على
حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة فإن كانت جاز قال القاضي وهذا مذهب مالك والشافعي
وعطاء قال وكرهه الحسن البصري تمسكا بظاهر هذه الحديث وحجة الجمهور دخول النبي
صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب ودخوله صلى الله عليه وسلم عام
الفتح متأهبا للقتال قال وشذ عكرمة عن الجماعة فقال إذا احتاج إليه حمله وعليه الفدية ولعله أراد
إذا كان محرما ولبس المغفر والدرع ونحوهما فلا يكون مخالفا للجماعة والله أعلم
جواز دخول مكة بغير احرام
قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر) وفي رواية وعليه عمامة
سوداء بغير احرام وفي رواية خطب الناس وعليه عمامة سوداء قال القاضي وجه الجمع بينهما أن أول دخوله
كان رأسه المغفر ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر بدليل قوله خطب الناس
وعليه عمامة سوداء لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة وقوله دخل
مكة بغير احرام هذا دليل لمن يقول بجواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد نسكا سواء
كان دخوله لحاجة تكرر كالخطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم أم لم تتكرر كالتاجر والزائر
وغيرهما سواء كان آمنا أو خائفا وهذا أصح القولين للشافعي وبه يفتى أصحابه والقول الثاني
لا يجوز دخولها بغير إحرام ان كانت حاجته لا تكرر الا أن يكون مقاتلا أو خائفا من قتال
أو خائفا من ظالم لو ظهر ونقل القاضي نحو هذا عن أكثر العلماء قوله (جاءه رجل فقال ابن
خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه) قال العلماء إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الاسلام
131

وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه وكانت له قينتان تغنيان بهجاء
النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فإن قيل ففي الحديث الآخر من دخل المسجد فهو آمن
فكيف قتله وهو متعلق بالأستار فالجواب أنه لم يدخل في الأمان بل استثناه هو وابن أبي سرح والقينتين
وأمر بقتله وإن وجد متعلقا بأستار الكعبة كما جاء مصرحا به في أحاديث اخر وقيل لأنه ممن لم
يف بالشرط بل قاتل بعد ذلك وفي هذا الحديث حجة لمالك والشافعي وموافقيهما في جواز
إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة وقال أبو حنيفة لا يجوز وتأولوا هذا الحديث على أنه قتله في
الساعة التي أبيحت له وأجاب أصحابنا بأنها إنما أبيحت ساعة الدخول حتى استولى عليها وأذعن له أهلها
وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك والله أعلم واسم ابن خطل عبد العزى وقال محمد بن إسحاق
اسمه عبد الله وقال الكلبي اسمه غالب بن عبد الله بن عبد مناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تيم
ابن غالب وخطل بخاء معجمه وطاء مهملة مفتوحتين قال أهل السير وقيل سعد بن حريث والله أعلم
قوله (قرأت على مالك بن أنس) وفي رواية قلت لمالك حدثك ابن شهاب عن أنس ثم قال في
آخر الحديث فقال نعم يعنى فقال مالك نعم ومعناه أحدثك ابن شهاب عن أنس بكذا فقال مالك
نعم حدثني به وقد جاء في الصحيحين في مواضع كثيرة مثل هذه العبارة ولا يقول في آخره قال
نعم واختلف العلماء في اشتراط قوله نعم في آخر مثل هذه الصورة وهي إذا قرأ على الشيخ قائلا
أخبرك فلان أو نحوه والشيخ مصغ له فاهم لما يقرأ غير منكر فقال بعض الشافعيين وبعض
أهل الظاهر لا يصح السماع إلا بها فإن لم ينطق بها لم يصح السماع وقال جماهير العلماء من المحدثين
والفقهاء وأصحاب الأصول يستحب قوله نعم ولا يشترط نطقه بشئ بل يصح السماع مع سكوته
والحالة هذه اكتفاء بظاهر الحال فإنه لا يجوز لمكلف أن يقر على الخطأ في مثل هذه الحالة قال القاضي
هذا مذهب العلماء كافة ومن قال من السلف نعم إنما قاله توكيدا واحتياطا لا اشتراطا قوله
(معاوية بن عمار الدهني) هو بضم الدال المهملة وإسكان الهاء وبالنون منسوب إلى دهن وهم
132

بطن من بجيلة وهذا الذي ذكرناه من كونه بإسكان الهاء هو المشهور ويقال بفتحها وممن حكى
الفتح أبو سعيد السمعاني في الأنساب والحافظ عبد الغني المقدسي قوله (وعليه عمامة سوداء) فيه
جواز لباس الثياب السود وفي الرواية الأخرى خطب الناس وعليه عمامة سوداء فيه جواز لباس
الأسود في الخطبة وإن كان الأبيض أفضل منه كما ثبت في الحديث الصحيح خير ثيابكم البياض
وأما لباس الخطباء السواد في حال الخطبة فجائز ولكن الأفضل البياض كما ذكرنا وإنما لبس
العمامة السوداء في هذا الحديث
بيانا للجواز والله أعلم قوله (كأني أنظر إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا
وغيرها بالتثنية وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي وذكر القاضي عيا ض أن
133

الصواب المعروف طرفها بالافراد وأن بعضهم رواه طرفيها بالتثنية والله أعلم وسيأتي بسط
حكم إرخاء العمامة في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى
فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة
(وبيان تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها)
قوله صلى الله عليه وسلم (ان إبراهيم حرم مكة) هذا دليل لمن يقول إن تحريم مكة إنما هو
كان في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم والصحيح أنه كان يوم خلق الله السماوات والأرض وقد
سبقت المسألة مستوفاة قريبا وذكروا في تحريم إبراهيم احتمالين أحدهما أنه حرمها بأمر الله تعالى
له بذلك لا باجتهاده فلهذا أضاف التحريم إليه تارة والى الله تعالى والثاني أنه دعا لها فحرمها الله
تعالى بدعوته فأضيف التحريم إليه لذلك قوله صلى الله عليه وسلم (وإني حرمت المدينة كما حرم
إبراهيم مكة وذكر مسلم الأحاديث التي بعده بمعناه هذه الأحاديث حجة ظاهرة للشافعي ومالك
وموافقيهما في تحريم صيد المدينة وشجرها وأباح أبو حنيفة ذلك واحتج له بحديث يا أبا عمير
ما فعل النغير وأجاب أصحابنا بجوابين أحدهما انه يحتمل أن حديث النغير كان قبل تحريم المدينة والثاني
يحتمل أنه صاده من الحل لا من حرم المدينة وهذا الجواب لا يلزمهم على أصولهم لأن مذهب الحنفية
أن صيد الحل إذا أدخله الحلال إلى الحرم ثبت له حكم الحرم ولكن أصلهم هذا ضعيف فيرد عليه
بدليله والمشهور من مذهب مالك والشافعي والجمهور أنه لا ضمان في صيد المدينة وشجرها بل هو حرام
بلا ضمان وقال ابن أبي ذئب وابن أبي ليلى يجب فيه الجزاء كحرم مكة وبه قال بعض المالكية وللشافعي
قول قديم أنه يسلب القاتل لحديث سعد بن أبي وقاص الذي ذكره مسلم بعد هذا قال القاضي
عياض لم يقل بهذا القول أحد بعد الصحابة الا الشافعي في قوله القديم والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
134

(ان إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها) يريد المدينة قال أهل اللغة وغريب
الحديث اللابتان الحرتان واحدتهما لابة وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء وللمدينة لابتان
شرقية وغربية وهي بينهما ويقال لابة ولوبة ونوبة بالنون ثلاث لغات مشهورات وجمع اللابة
في القلة لابات وفي الكثرة لأب ولوب وقوله صلى الله عليه وسلم (وإني أحرم ما بين لابتيها
135

معناه اللابتان وما بينهما والمراد تحريم المدينة ولا بتيها قوله صلى الله عليه وسلم (لا يقطع عضاهها
ولا يصاد صيدها) صريح في الدلالة لمذهب الجمهور في تحريم صيد المدينة وشجرها وسبق خلاف
أبي حنيفة والعضاه بالقصر وكسر العين وتخفيف الضاد المعجمة كل شجر فيه شوك واحدتها
عضاهة وعضيهة والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها الا كنت
له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) قال أهل اللغة اللاواء بالمد الشدة والجوع وأما الجهد فهو المشقة
وهو بفتح الجيم وفي لغة قليلة بضمها وأما الجهد بمعنى الطاقة فبضمها على المشهور وحكى فتحها
وأما قوله صلى الله عليه وسلم الا كنت له شفيعا أو شهيدا فقال القاضي عياض رحمه الله سألت
قديما عن معنى هذا الحديث ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته وادخاره
إياها لأمته قال وأجيب عنه بجواب شاف مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه
قال واذكر منه هنا لمعا تليق بهذا الموضع قال بعض شيوخنا أو هنا للشك والأظهر عندنا أنها
ليست للشك لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو سعيد
136

وأبو هريرة وأسماء بنت عميس وصفية بنت أبي عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ
ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة بل الأظهر أنه قاله
صلى الله عليه وسلم هكذا فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا وإما أن يكون أو للتقسيم ويكون
شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لبقيتهم اما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين وإما شهيدا لمن
مات في حياته وشفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك قال القاضي وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة
للمذنبين أو للعالمين في القيمة وعلى شهادته على جميع الأمة وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء
أحد أنا شهيد على هؤلاء فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزيد أو زيادة منزلة وحظة قال وقد
يكون أو بمعنى الواو فيكون لأهل المدينة شفيعا وشهيدا قال وقد روى الا كنت له شهيدا أوله
شفيعا قال وإذا جعلنا أو للشك كما قاله المشايخ فإن كانت اللفظة الصحيحة شفيعا فاختصاص
أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة
التي هي لاخراج أمته من النار ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة وتكون
هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات أو تخفيف الحساب أو بما شاء الله من ذلك أو
بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش أو كونهم في روح وعلى
منابر أو الاسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون
بعض والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو
خير منه) قال القاضي اختلفوا في هذا فقيل هو مختص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وقال آخرون
هو عام ابدا وهذا أصح قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء الا أذابه
الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء) قال القاضي هذه الزيادة وهي قوله في
137

النار تدفع أشكال الأحاديث التي لم تذكر فيها هذه الزيادة وتبين أن هذا حكمه في الآخرة قال
وقد يكون المراد به من أرادها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كفى المسلمون أمره واضمحل
كيده كما يضمحل الرصاص في النار قال وقد يكون في اللفظ تأخير وتقديم أي إذابة الله ذوب
الرصاص في النار ويكون ذلك لمن أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطان بل يذهبه
عن قرب كما انقضى شأن من حاربها أيام بنى أمية مثل مسلم بن عقبة فإنه هلك في منصرفه عنها
ثم هلك يزيد بن معاوية مرسله على أثر ذلك وغيرهما ممن صنع صنيعهما قال وقيل قد يكون
المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها في غفلة فلا يتم له أمره بخلاف من أتى ذلك جهارا كأمراء
استباحوها قوله (ان سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه
فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه على أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذه من
غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرد عليهم) هذا
الحديث صريح في الدلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير في تحريم صيد المدينة وشجرها
كما سبق وخالف فيه أبو حنيفة كما قدمناه عنه وقد ذكر هنا مسلم في صحيحه تحريمها مرفوعا عن
النبي صلى الله عليه وسلم من رواية علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وجابر
ابن عبد الله وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن زيد ورافع بن خديج وسهل بن حنيف وذكر
138

غيره من رواية غيرهم أيضا فلا يلتفت إلى من خالف هذه الأحاديث الصحيحة المستفيضة وفي هذا
الحديث دلالة لقول الشافعي القديم أن من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه وبهذا
قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة قال القاضي عياض ولم يقل به أحد بعد الصحابة الا
الشافعي في قوله القديم وخالفه أئمة الأمصار قلت ولا تضر مخالفتهم إذا كانت السنة
معه وهذا القول القديم هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه ولم يثبت له دافع
قال أصحابنا فإذا قلنا بالقديم ففي كيفية الضمان وجهان أحدهما يضمن الصيد والشجر
كضمان حرم مكة وأصحهما وبه قطع جمهور المفرعين على هذا القديم أنه يسلب الصائد وقاطع
الشجر والكلأ وعلى هذا فالمراد بالسلب وجهان أحدهما أنه ثيابه فقط وأصحهما وبه قطع الجمهور
أنه كسلب القتيل من الكفار فيدخل فيه فرسه وسلاحه ونفقته وغير ذلك مما يدخل في سلب
القتيل وفي مصرف السلب ثلاثة أوجه لأصحابنا أصحهما أنه للسالب وهو الموافق لحديث سعد والثاني
أنه لمساكين المدينة والثالث لبيت المال وإذا سلب أخذ جميع ما عليه الا ساتر العورة وقيل
يؤخذ ساتر العورة أيضا قال أصحابنا ويسلب بمجرد الاصطياد سواء اتلف الصيد أم لا والله
أعلم قوله (حتى إذا بداله أحد قال هذا جبل يحبنا ونحبه) الصحيح المختار أن معناه أن أحدا
يحبنا حقيقة جعل الله تعالى فيه تمييزا يحب به كما قال سبحانه وتعالى وإن منها لما يهبط
139

من خشية الله وكما حن الجذع اليابس وكما سبح الحصى وكما فر الحجر بثوب موسى صلى الله عليه وسلم
وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم انى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم على وكما دعا الشجرتين
المفترقتين فاجتمعا وكما رجف حراء فقال أسكن حراء فليس عليك الا نبي أو صديق الحديث وكما
كلمه ذراع الشاة وكما قال سبحانه وتعالى وإن من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
والصحيح في معنى هذه الآية أن كل شئ يسبح حقيقة بحسب حاله ولكن لا نفقهه وهذا وما
أشبهه شواهد لما اخترناه واختاره المحققون في معنى الحديث وأن أحدا يحبنا حقيقة وقيل
المراد يحبنا أهله فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والله أعلم قوله (من أحدث فيها
حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) قال القاضي معناه من أتى فيها
آثما أو آوى من أتاه وضمه إليه وحماه قال ويقال أوى وآوى بالقصر والمد في الفعل اللازم
والمتعدي جميعا لكن القصر في اللازم أشهر وأفصح والمد في المتعدى أشهر وأفصح قلت
وبالأفصح جاء القرآن العزيز في الموضعين قال الله تعالى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة وقال في
المتعدى وآويناهما إلى ربوة قال القاضي ولم يرو هذا الحرف الا محدثا بكسر الدال ثم قال وقال
الامام المازري روى بوجهين كسر الدال وفتحها قال فمن فتح أراد الاحداث نفسه ومن كسر
أراد فاعل الحدث وقوله عليه لعنة الله إلى آخره هذه وعيد شديد لمن ارتكب هذا قال القاضي واستدلوا
بهذا على أن ذلك من الكبائر لأن اللعنة لا تكون الا في الكبيرة ومعناه أن الله تعالى
يلعنه وكذا يلعنه الملائكة والناس أجمعون وهذا مبالغة في ابعاده عن رحمة الله تعالى فإن اللعن في اللغة هو الطرد
140

والابعاد قالوا والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه والطرد عن الجنة أول الأمر
وليست هي كلعنة الكفار الذين يبعدون من رحمة الله تعالى كل الابعاد والله أعلم قوله (لا يقبل
الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا قال القاضي قال المازري اختلفوا في تفسيرهما فقيل الصرف
الفريضة والعدل النافلة وقال الحسن البصري الصرف النافلة والعدل الفريضة عكس قول
الجمهور وقال الأصمعي الصرف التوبة والعدل الفدية وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وقال يونس الصرف الاكتساب والعدل الفدية وقال أبو عبيدة العدل الحيلة وقيل العدل المثل
وقيل الصرف الدية والعدل الزيادة قال القاضي وقيل المعنى لا تقبل فريضته ولا نافلته قبول
رضا وإن قبلت قبول جزاء وقيل يكون القبول هنا بمعنى تكفير الذنب بهما قال وقد يكون
معنى الفدية هنا أنه لا يجد في القيمة فداء يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز
وجل على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما ثبت في الصحيح قوله
في آخر هذا الحديث (فقال ابن أنس أو آوى محدثا) كذا وقع في أكثر النسخ فقال ابن انس
ووقع في بعضها فقال أنس بحذف لفظة ابن قال القاضي ووقع عند عامة شيوخنا فقال ابن أنس
باثبات ابن قال وهو الصحيح وكان ابن أنس ذكر أباه هذه الزيادة لأن سياق هذا الحديث من أوله إلى
آخره من كلام أنس فلا وجه لاستدراك أنس بنفسه مع أن هذه اللفظة قد وقعت في أول
141

الحديث في سياق كلام أنس في أكثر الروايات قال وسقطت عند السمرقندي قال وسقوطها هناك
يشبه أن يكون هو الصحيح ولهذا استدركت في آخر الحديث هذا آخر كلام القاضي قوله
صلى الله عليه وسلم (اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم) قال القاضي
البركة هنا بمعنى النمو والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم قال فقيل يحتمل أن تكون هذه
البركة دينية وهي ما تتعلق بهذه المقادير من حقوق الله تعالى في الزكاة والكفارات فتكون بمعنى
الثبات والبقاء لها كبقاء الحكم بها ببقاء الشريعة وثباتها ويحتمل أن تكون دنيوية من تكثير
الكيل والقدر بهذه الأكيال حتى يكفي منه ما لا يكفي من غيره في غير المدينة أو ترجع البركة إلى
التصرف بها في التجارة وأرباحها والى كثرة ما يكال بها من غلاتها وثمارها أو تكون الزيادة فيما يكال
بها لاتساع عيشهم وكثرته بعد ضيقه لما فتح الله عليهم ووسع من فضله لهم وملكهم من بلاد
الخصب والريف بالشام والعراق ومصر وغيرها حتى كثر الحمل إلى المدينة واتسع عيشهم حتى
صارت هذه البركة في الكيل نفسه فزاد مدهم وصار هاشميا مثل مد النبي صلى الله عليه وسلم مرتين
أو مرة ونصفا وفي هذا كله ظهور إجابة دعوته صلى الله عليه وسلم وقبولها هذا آخر كلام القاضي والظاهر
من هذا كله أن البركة في نفس المكيل في المدينة بحيث يكفي المد فيها لمن لا يكفيه في غيرها والله
أعلم قوله (إبراهيم بن محمد السلمي) هو بالسين المهملة قوله (خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله
142

تعالى عنه فقال من زعم أن عندنا شيئا نقرأه كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب) هذا تصريح
من علي رضي الله تعالى عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن عليا رضي
الله تعالى عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين
وكنوز الشريعة وأنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم وهذه دعاوى
باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفى في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا وفيه دليل على جواز
كتابة العلم وقد سبق بيانه قريبا قوله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور) أما
عير فبفتح العين المهملة وإسكان المثناة تحت وهو جبل معروف قال القاضي عياض قال مصعب
ابن الزبير وغيره ليس بالمدينة عير ولا ثور قالوا وإنما ثور بمكة قال وقال الزبير غير جبل بناحية
المدينة قال القاضي أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا وأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم
من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ قال المازري قال بعض العلماء ثور هنا وهم
من الراوي وإنما ثور بمكة قال والصحيح إلى أحد قال القاضي وكذا قال أبو عبيد أصل الحديث
من عير إلى أحد هذا ما حكاه القاضي وكذا قال أبو بكر الحازمي الحافظ وغيره من الأئمة أن أصله
من عير إلى أحد قلت ويحتمل أن ثورا كان اسما لجبل هناك اما أحد وإما غيره فخفي اسمه والله
أعلم وأعلم أنه جاء في هذه الرواية ما بين عير إلى ثور أو إلى أحد على ما سبق وفي رواية أنس
السابقة اللهم إني أحرم ما بين جبليها وفي الروايات السابقة ما بين لابتيها والمراد باللابتين الحرتان
كما سبق وهذا الأحاديث كلها متفقة فما بين لابتيها بيان لحد
حرمها من جهتي المشرق والمغرب
وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (وذمة المسلمين
143

واحدة يسعى بها أدناهم) المراد بالذمة هنا الأمان معناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنه
به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم وللأمان شروط معروفة وقوله
صلى الله عليه وسلم يسعى بها أدناهم فيه دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أن أمان المرأة والعبد صحيح
لأنهما أدنى من الذكور الأحرار قوله صلى الله عليه وسلم (ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير
مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين) هذا صريح في غلط تحريم انتماء الانسان إلى غير
أبيه أو انتماء العتيق إلى ولاء غير مواليه لما فيه من كفر النعمة وتضييع حقوق الإرث والولاء
والعقل وغير ذلك مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق قوله صلى الله عليه وسلم (فمن أخفر مسلما
فعليه لعنه الله) معناه من نقض أمان مسلم فتعرض لكافر أمنه مسلم قال أهل اللغة يقال أخفرت
144

الرجل إذا نقضت عهده وخفرته إذا أمنته قوله (لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها) معنى
ترتع ترعى وقيل معناه تسعى وتبسط ومعنى ذعرتها أفزعتها وقيل نفرتها
145

قوله (كان الناس إذا رأوا الثمر جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا) إلى آخره قال العلماء كانوا يفعلوا ذلك
رغبة في دعائه صلى الله عليه وسلم في الثمر وللمدينة والصاع والمد واعلاما له صلى الله عليه وسلم بابتداء
صلاحها لما يتعلق بها من الزكاة وغيرها وتوجيه الخارصين قوله (ثم يعطيه أصغر من يحضره من
الولدان) فيه بيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق وكمال الشفقة والرحمة
وملاطفة الكبار والصغار وخص بهذا الصغير لكونه أرغب فيه وأكثر
تطلعا إليه وحرصا
عليه قوله (فأردت أن أنقل عيالي إلى بعض الريف) قال أهل اللغة الريف بكسر الراء هو
146

الأرض التي تزرع فيها زرع وخصب وجمعه أرياف ويقال أريفنا صرنا إلى الريف وأرافت
الأرض أخصبت فهي ريفة قوله (وإن عيالنا لخلوف) هو بضم الخاء أي ليس عندهم رجال ولا من يحميهم
قوله صلى الله عليه وسلم (لآمرن بناقتي ترحل) هو بإسكان الراء وتخفيف الحاء أي يشد عليها
رحلها قوله صلى الله عليه وسلم (ثم لا أحل لها عقدة حتى أقدم المدينة) معناه أواصل السير
ولا أحل عن راحلتي عقدة من عقد حملها ورحلها حتى أصل المدينة لمبالغتي في الاسراع إلى
المدينة قوله صلى الله عليه وسلم (وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها) المأزم بهمزة
بعد الميم وبكسر الزاي وهو الجبل وقيل المضيق بين الجبلين ونحوه والأول هو الصواب هنا
ومعناه ما بين جبليها كما سبق في حديث أنس وغيره والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (ولا
يخبط فيها شجرة الا لعلف) هو بإسكان اللام وهو مصدر علفت علفا وأما العلف بفتح اللام
فاسم الحشيش والتبن والشعير ونحوهما وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف وهو المراد هنا
147

بخلاف خبط الأغصان وقطعها فإنه حرام قوله صلى الله عليه وسلم ما من المدينة شعب
ولا نقب الا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها فيه بيان فضيلة المدينة وحراستها في زمنه
صلى الله عليه وسلم وكثرة الحراس واستيعابهم الشعاب زيادة في الكرامة لرسول صلى الله عليه وسلم قال أهل اللغة الشعب بكسر الشين هو الفرجة النافذة بين الجبلين وقال ابن
السكيت هو الطريق في الجبل والنقب بفتح النون على المشهور وحكى القاضي ضمها أيضا
وهو مثل الشعب وقيل هو الطريق في الجبل قال الأخفش أنقاب المدينة وطرقها وفجاجها
قوله فما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان وما يهيجهم
قبل ذلك شئ معناه أن المدينة في حال غيبتهم كانت محمية محروسة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم
حتى أن بني عبد الله بن غطفان أغاروا عليها حين قدمنا ولم يكن قبل ذلك يمنعهم من الإغارة
عليها مانع ظاهر ولا كان لهم عدو يهيجهم ويشتغلون به بل سبب منعهم قبل قدومنا حراسة
الملائكة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال أهل اللغة يقال هاج الشر وهاجت الحرب وهاجها
الناس أي تحركت وحركوها وهجت زيدا حركته للأمر كله ثلاثي وأما قوله بنو عبد الله فهكذا
وقع في بعض النسخ عبد الله بفتح العين مكبر ووقع في أكثرها عبيد الله بضم العين مصغر
والأول هو الصواب بلا خلاف بين أهل هذا الفن قال القاضي عياض حدثنا به مكبرا أبو
148

محمد الخشني عن الطبري عن الفارسي بنو عبد الله على الصواب قال ووقع عند شيوخنا في
نسخ مسلم من طريق ابن ماهان ومن طريق الجلودي بنو عبيد الله مصغر وهو خطأ قال
وكان يقال لهم في الجاهلية بنو عبد العزى فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد الله
فسمتهم العرب بني محولة لتحويل اسمهم والله أعلم قوله جاء أبو سعيد الخدري ليالي الحرة
يعني الفتنة المشهورة التي نهبت فيها المدينة ثلاث وستين قوله فاستشاره في الجلاء
هو بفتح الجيم والمد وهو الفرار من بلد إلي غيره قوله صلى الله عليه وسلم في المدينة
149

(انها حرم أمن) فهي دلالة لمذهب الجمهور في تحريم صيدها وشجرها وقد سبقت المسألة قولها
(قدمنا المدينة وهي بيئة) هي بهمزة ممدودة يعنى ذات وباء بالمد والقصر وهو الموت
الذريع هذا أصله ويطلق أيضا على الأرض الوخمة التي تكثر بها الأمراض لا سيما للغرباء
الذين ليسوا مستوطنيها فإن قيل كيف قدموا على الوباء وفي الحديث الآخر في الصحيح النهي
عن القدوم عليه فالجواب من وجهين ذكرهما القاضي أحدهما أن هذه القدوم كان قبل
النهي لأن النهي كان في المدينة بعد استيطانها والثاني أن المنهى عنه هو القدوم على الوباء الذريع والطاعون
وأما هذا الذي كان في المدينة فإنما كان وخما يمرض بسببه كثير من الغرباء والله أعلم قوله
صلى الله عليه وسلم (وحول حماها إلى الجحفة) قال الخطابي وغيره كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت
يهودا ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحة
وطيب بلادهم والبركة فيها وكشف الضر والشدائد عنهم
وهذا مذهب العلماء كافة قال القاضي وهذا خلاف قول بعض المتصوفة ان الدعاء قدح في التوكل والرضا وأنه ينبغي تركه وخلاف
قول المعتزلة أنه لا فائدة في الدعاء مع سبق القدر ومذهب العلماء كافة أن الدعاء عبادة مستقلة
ولا يستجاب منه الا ما سبق به القدر والله أعلم وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوة نبينا
صلى الله عليه وسلم فإن الجحفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها الاحم
150

الترغيب في سكنى المدينة
(وفضل الصبر على لأوائها وشدتها) قوله (عن يحنس مولى الزبير) هو بضم المثناة تحت وفتح الحاء المهملة وكسر النون وفتحها وجهان
مشهوران والسين مهملة وفي الرواية الأخرى يحنس مولى مصعب بن الزبير هو لأحدهما حقيقة
وللآخرين مجازا قوله (ان ابن عمر قال لمولاته اقعدي لكاع) هي بفتح اللام وأما العين فمبنية على
الكسر قال أهل اللغة يقال امرأة لكاع ورجل لكع بضم اللام وفتح الكاف ويطلق ذلك
على اللئيم وعلى العبد وعلى الغبي الذي لا يهتدى لكلام غيره وعلى الصغير وخاطبها ابن عمر بهذا
انكارا عليها لا دلالة عليها لكونها ممن ينتمي إليه ويتعلق به وحثها على سكنى المدينة لما فيه
من الفضل قال العلماء وفي هذه الأحاديث المذكورة في الباب مع ما سبق وما بعدها دلالات
ظاهرة على فضل سكنى المدينة والصبر على شدائدها وضيق العيش فيها وأن هذا الفضل باق
مستمر إلى يوم القيامة وقد اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة فقال أبو حنيفة وطائفة
تكره المجاورة بمكة وقال أحمد بن حنبل وطائفة لا تكره المجاورة بمكة بل تستحب وإنما
151

كرهها من كرهها لأمور منها خوف الملل وقلة الحرمة للانس وخوف ملابسة الذنوب فإن
الذنب فيها أقبح منه في غيرها كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها واحتج من استحبها بما
يحصل فيها من الطاعات التي لا تحصل بغيرها وتضعيف الصلوات والحسنات وغير ذلك والمختار
أن المجاورة بهما جميعا مستحبة الا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة وغيرها
وقد جاورتهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة وخلفها ممن يقتدى به وينبغي للمجاورة
الاحتراز من المحذورات وأسبابها والله أعلم
152

صيانة المدينة من دخول الطاعون والدجال إليها
قوله صلى الله عليه وسلم (على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) أما الانقاب
فسبق شرحها قريبا وفي هذا الحديث فضيلة المدينة وفضيلة سكناها وحمايتها من الطاعون والدجال
المدينة تنفى خبثها وتسمى طابة وطيبة
قوله صلى الله عليه وسلم (في المدينة انها تنفى خبثها وشرارها كما ينفى الكير خبث الحديد وفي
الرواية الأخرى كما تنفى النار خبث الفضة قال العلماء خبث الحديد والفضة هو وسخها وقذرها
153

الذي تخرجه النار منهما قال القاضي الأظهر أن هذا مختص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه
لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه الا من ثبت ايمانه وأما المنافقون وجهلة الاعراب فلا
يصبرون على شدة المدينة ولا يحتسبون الاجر في ذلك كما قال ذلك الاعرابي الذي أصابه
الوعك أقلني بيعتي هذا كلام القاضي وهذا الذي ادعى أنه الأظهر ليس بالأظهر لأن هذا
الحديث الأول في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها
كما ينفي الكير خبث الحديد وهذا والله أعلم في زمن الدجال كما جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره
مسلم في أواخر الكتاب في أحاديث الدجال أنه يقصد المدينة فترجف المدينة ثلاث رجفات
يخرج الله بها منها كل كافر ومنافق فيحتمل أنه مختص بزمن الدجال ويحتمل أنه في أزمان متفرقة
والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت بقرية تأكل القرى) معناه أمرت بالهجرة إليها واستيطانها
وذكروا في معنى أكلها القرى وجهين أحدهما أنها مركز جيوش الاسلام في أول الأمر فمنها
فتحت القرى وغنمت أموالها وسباياها والثاني معناه أن أكلها وميرتها تكون من القرى المفتتحة
وإليها تساق غنائمها قوله صلى الله عليه وسلم (يقولون يثرب وهي المدينة) يعنى أن
بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب وإنما اسمها المدينة وطابة وطيبة ففي هذا كراهة
تسميتها يثرب وقد جاء في مسند أحمد بن حنبل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراهة
تسميتها يثرب وحكى عن عيسى بن دينار أنه قال من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة قالوا وسبب
كراهة تسميتها يثرب لفظ التثريب الذي هو التوبيخ والملامة وسميت طيبة وطابة لحسن لفظهما
154

وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن ويكره الاسم القبيح وأما تسميتها في القرآن يثرب
فإنما هو حكاية عن قول المنافقين والذين في قلوبهم مرض قال العلماء ولمدينة النبي
صلى الله عليه وسلم أسماء المدينة قال الله تعالى ما كان لأهل المدينة وقال تعالى ومن أهل المدينة وطابة
وطيبة والدار فأما الدار فلأمنها والاستقرار بها وأما طابة وطيبة فمن الطيب وهو الرائحة الحسنة
والطاب والطيب لغتان وقيل من الطيب بفتح الطاء وتشديد الياء وهو الطاهر لخلوصها من الشرك
وطهارتها وقيل من طيب العيش بها وأما المدينة ففيها قولان لأهل العربية أحدهما وبه جزم
قطرب وابن فارس وغيرهما أنها مشتقة من دان إذا أطاع والدين والطاعة والثاني أنها مشتقة من
مدن بالمكان إذا أقام به وجمع المدينة مدن ومدن بإسكان الدال وضمها ومدائن بالهمز وتركه
والهمز أفصح وبه جاء القرآن العزيز والله أعلم قوله (أن اعرابيا بايع النبي صلى الله عليه وسلم
فأصاب الاعرابي وعك بالمدينة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أقلني بيعتي فأبى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبي ثم جاءه فقال أقلني بيعتي فأبي فخرج الاعرابي
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفى خبثها قال العلماء إنما لم يقله النبي
صلى الله عليه وسلم بيعته لأنه لا يجوز لمن أسلم أن يترك الاسلام ولا لمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم
155

للمقام عنده أن يترك الهجرة ويذهب إلى وطنه أو غيره قالوا وهذا الاعرابي كان ممن
هاجر وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على المقام معه قال القاضي ويحتمل أن بيعة هذا الاعرابي
كانت بعد فتح مكة وسقوط الهجرة إليه صلى الله عليه وسلم وإنما بايع على الاسلام وطلب
الإقالة منه فلم يقله والصحيح الأول والله أعلم قوله (فأصاب الاعرابي وعك) هو بفتح العين
وهو مغث الحمى وألمها ووعك كل شئ معظمه وشدته قوله صلى الله عليه وسلم (إنما المدينة
كالكير تنفى خبثها وينصع طيبها) هو بفتح الياء والصاد المهملة أي يصفو ويخلص ويتميز
والناصع الصافي الخالص ومنه قولهم ناصع اللون أي صافية وخالصة ومعنى الحديث أنه يخرج
من المدينة من لم يخلص ايمانه ويبقى فيها من خلص ايمانه قال أهل اللغة يقال نصع الشئ ينصع
بفتح الصاد فيهما نصوعا إذا خلص ووضح والناصع الخالص من كل شئ قوله (وحدثنا
قتيبة بن سعيد وهناد بن السرى وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة)
هكذا وقع في بعض النسخ
ووقع في أكثرها بحذف ذكر أبي كريب قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله سمى المدينة طابة هذا)
فيه استحباب تسميتها طابة وليس فيها أنها لا تسمى بغيره فقد سماها الله تعالى المدينة في مواضع
من القرآن وسماها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة في الحديث الذي قبل هذا من هذا الباب وقد
سبق ايضاح الجميع في هذا الباب والله أعلم
تحريم إرادة أهل المدينة بسوء وأن من أرادهم به أذابه الله
قوله (أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس عن أبي عبد الله القراظ) هكذا صوابه أخبرني
156

عبد الله بفتح العين مكبر وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا ومعظم نسخ المغاربة ووقع في بعضها
عبيد الله بضم العين مصغر وهو غلط ويحنس بكسر النون وفتحها سبق بيانه قريبا في بباب
الترغيب في سكنى المدينة والقراظ بالظاء المعجمة منسوب إلى القرظ الذي يدبغ به قال ابن أبي حاتم
لأنه كان يبيعه واسم أبى عبد الله القراظ هذا دينار وقد سماه في الرواية التي بعد هذه في حديثه
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم (من أراد أهل هذه البلدة بسوء)
يعنى المدينة إذابة الله كما يذوب الملح في الماء قيل يحتمل أن المراد من أرادها غازيا مغيرا عليها
157

ويحتمل غير ذلك وقد سبق بيان هذا الحديث قريبا في الأبواب السابقة قوله (غير أنه قال بدهم
أو بسوء) هو بفتح الدال المهملة وإسكان الهاء أي بغائلة وأمر عظيم والله أعلم
ترغيب الناس في سكنى المدينة عند فتح الأمصار
قوله صلى الله عليه وسلم (تفتح الشام فيخرج من المدينة قوم بأهليهم يبسون والمدينة خير لهم
لو كانوا يعلمون) قال أهل اللغة يبسون بفتح الياء المثناة من تحت وبعدها باء موحدة تضم وتكسر
ويقال أيضا بضم المثناة مع كسر الموحدة فتكون اللفظة ثلاثية ورباعية فحصل في ضبطه ثلاثة
أوجه ومعناه يتحملون بأهليهم وقيل معناه يدعون الناس إلى بلاد الخصب وهو قول إبراهيم
158

الحربي وقال أبو عبيد معناه يسوقون والبس سوق الإبل وقال ابن وهب معناه يزينون لهم البلاد
ويحببونها إليهم ويدعون إلى الرحيل إليها ونحوه في الحديث السابق يدعو الرجل ابن عمه وقريبه
هلم إلى الرخاء وقال الداودي معناه يزجرون الدواب إلى المدينة فيبسون ما يطوون من الأرض
ويفتونه فيصير غبارا ويفتنون من بها لما يصفون لهم من رغد العيش وهذا ضعيف أو باطل
بل الصواب الذي عليه المحققون أن معناه الاخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله باسا في
سيره مسرعا إلى الرخاء في الأمصار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها قال العلماء في
هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بفتح هذه الأقاليم وأن الناس
يتحملون بأهليهم إليها ويتركون المدينة وأن هذه الأقاليم تفتح على هذا الترتيب ووجد جميع
ذلك كذلك بحمد الله وفضله وفيه فضيلة سكنى المدينة والصبر على شدتها وضيق العيش بها والله أعلم
اخباره صلى الله عليه وسلم بترك الناس المدينة على خير ما كانت
قوله صلى الله عليه وسلم للمدينة (ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي) يعنى السباع
159

والطير وفي الرواية الثانية يتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي
السباع والطير ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمها فيجدانها وحشا حتى
إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما أما العوافي فقد فسرها في الحديث بالسباع والطير وهو
صحيح في اللغة مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه وأما معنى الحديث فالظاهر المختار أن هذا
الترك للمدينة يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة وتوضحه قصة الراعبين من مزينة فإنهما
يخران على وجوههما حين تدركهما الساعة وهما آخر من يحشر كما ثبت في صحيح البخاري فهذا
هو الظاهر المختار وقال القاضي عياض هذا فما جرى في العصر الأول وانقضى قال وهذا من
معجزاته صلى الله عليه وسلم فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة عنها
إلى الشام والعراق وذلك الوقت أحسن ما كانت الدين والدنيا أما الدين فلكثرة العلماء وكمالهم
وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها قال وذكر الأخباريون في بعض الفتن التي جرت
بالمدينة وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافى وخلت مدة
ثم تراجع الناس إليها قال وحالها اليوم قريب من هذا وقد خرجت أطرافها هذا كلام القاضي والله
أعلم ومعنى ينعقان بغنمهما يصيحان قوله صلى الله عليه وسلم (فيجدانها وحشا) وفي رواية البخاري
160

وحوشا قيل معناها يجدانها خلاء أي خالية ليس بها أحد قال إبراهيم الحربي الوحش من الأرض
هو الخلاء والصحيح أن معناها يجدانها ذات وحوش كما في رواية البخاري وكما قال صلى الله عليه وسلم
لا يغشاها إلى العوافي ويكون وحشا بمعنى وحوشا وأصل الوحش كل شئ توحش من الحيوان
وجمعه وحوش وقد يعبر بواحدة عن جمعه كم في غيره وحكى القاضي عن ابن المرابط أن معناها أن
غنمها تصير وحوشا إما أن تنقلب ذاتها فتصير وحوشا وإما أن تتوحش وتنفر من أصواتها وأنكر
القاضي هذا واختار أن الضمير في يجدانها عائد إلى المدينة لا إلى الغنم وهذا هو الصواب
وقول ابن المرابط غلط والله أعلم
فضل ما بين قبره صلى الله عليه وسلم)
(وفضل موضع منبره)
قوله صلى الله عليه وسلم (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ذكروا في معناه قولين
أحدهما أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة والثاني أن العبادة فيه تؤدى إلى الجنة قال الطبري
في المراد بيتي هنا قولان أحدهما القبر قاله زيد بن أسلم كما روي مفسرا بين قبري ومنبر
والثاني المراد بيت سكناه على ظاهرة وروى ما بين حجرتي ومنبري قال الطبري والقولان متفقان
161

لأن قبره في حجرته وهي بيته قوله صلى الله عليه وسلم (ومنبري على حوضي) قال القاضي
قال أكثر العلماء المراد منبره الذي كان في الدنيا قال وهذا هو الأظهر قال وأنكر كثير
منهم غيره قال وقيل إن له هناك منبرا على حوضه وقيل معناه أن قصد منبره والحضور عنده
لملازمة الأعمال الصالحة يورد صاحبه الحوض ويقتضي شربه منه والله أعلم
فضل أحد
قوله صلى الله عليه وسلم (ان أحدا جبل يحبنا ونحبه) قيل معناه يحبنا أهله وهم أهل المدينة
162

ونحبهم والصحيح أنه على ظاهره وأن معناه يحبنا هو نفسه وقد جعل الله فيه تمييزا وقد
سبق بيان هذا الحديث قريبا والله أعلم فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة
قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه الا المسجد
الحرام) اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة
أيتهما أفضل ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة وأن مسجد مكة
أفضل من مسجد المدينة وعكسه مالك وطائفة فعند الشافعي والجمهور ومعناه الا المسجد الحرام
فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي وعند مالك وموافقيه الا المسجد الحرام
فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف قال القاضي عياض أجمعوا على أن موضع قبره
صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض وأن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض واختلفوا
163

في أفضلهما ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم فقال عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر
المدنيين المدينة أفضل وقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان
مكة أفضل قلب ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء
رضي الله عنه أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول والله انك
لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت رواه الترمذي والنسائي
وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وعند عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد
الا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي حديث حسن
رواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن والله أعلم وأعلم أن مذهبنا أنه
لا يختص هذا التفضيل بالصلاة في هذين المسجدين بالفريضة بل يعم الفرض والنفل جميعا
وبه قال مطرف من أصحاب مالك وقال الطحاوي يختص بالفرض وهذا مخالف اطلاق هذه
الأحاديث الصحيحة والله أعلم واعلم أن الصلاة في مسجد المدينة تزيد على فضيلة الألف فيما
سواه الا المسجد الحرام لأنها تعادل الألف بل هي زائدة على الألف كما صرحت به هذه الأحاديث
164

أفضل من ألف صلاة وخير من ألف صلاة ونحوه قال العلماء وهذا فيما يرجع إلى الثواب
165

فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف فيما سواه ولا يتعدى ذلك الا الاجزاء عن الفوائت حتى
لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما وهذا لا خلاف فيه والله
أعلم وأعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما يزيد
فيه بعده فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته وقد نبهت على هذا في كتاب المناسك
والله أعلم قوله (وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا عن الليث بن سعد قال قتيبة حدثنا
ليث عن نافع عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ابن عباس أنه قال إن مرأة اشتكت شكوى فقالت إن
شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس وذكر الحديث إلى أن قال قالت ميمونة سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا
مسجد الكعبة) هذا الحديث مما أنكر على مسلم بسبب اسناده قال الحفاظ ذكر ابن عباس فيه
وهم وصوابه عن إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة هكذا هو المحفوظ من رواية الليث وابن جريج
عن نافع عن إبراهيم عن عبد الله عن ميمونة من غير ذكر ابن عباس وكذلك رواه البخاري
في صحيحه عن الليث عن نافع عن إبراهيم عن ميمونة ولم يذكر ابن عباس قال الدارقطني في كتاب
العلل وقد رواه بعضهم عن ابن عباس عن ميمونة وليس يثبت وقال البخاري في تاريخه الكبير
إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب عن أبيه وميمونة وذكر حديثه هذا من
طريق الليث وابن جريج ولم يذكر فيه ابن عباس ثم قال وقال لنا المكي عن ابن جريج أنه سمع
نافعا قال إن إبراهيم بن معبد حدث ان ابن عباس حدثه عن ميمونة قال البخاري ولا يصح فيه
ابن عباس قال القاضي عياض قال بعضهم صوابه إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن عباس أنه قال
166

ان امرأة اشتكت قال القاضي وقد ذكره مسلم قبل هذا في هذا الباب حديث عبد الله
عن نافع عن ابن عمر وحديث موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر وحديث أيوب عن نافع عن ابن عمر
وهذا مما استدركه الدارقطني عن مسلم وقال ليس بمحفوظ عن أيوب وعلل الحديث عن نافع
بذلك وقال قد خالفهم الليث وابن جريج فروياه عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد عن ميمونة وقد
ذكر مسلم الروايتين ولم يذكر البخار في صحيحه رواية نافع بوجه وقد ذكر البخاري في تاريخه
رواية عبد الله وموسى عن نافع قال والأول أصح يعنى رواية إبراهيم بن عبد الله عن ميمونة
كما قال الدارقطني والله أعلم قلت ويحتمل صحة الروايتين جميعا كما فعله مسلم وليس هذا الاختلاف
المذكور نافعا من ذلك ومع هذا فالمتن صحيح بلا خلاف والله أعلم قوله (عن ميمونة رضي الله عنها
أنها أفتت امرأة نذرت الصلاة في بيت المقدس أن تصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم
واستدلت بالحديث) هذه الدلالة ظاهرة وهذا حجة لأصح الأقوال في مذهبنا في هذه
المسألة فإنه إذا نذر صلاة في مسجد المدينة أو الأقصى هل تتعين فيه قولان الأصح تتعين فلا
تجزئه تلك الصلاة في غيره والثاني لا تتعين بل تجزئه تلك الصلاة حيث صلى فإذا قلنا تتعين فنذرها
في أحد هذين المسجدين ثم أراد أن يصليها في الآخر ففيه ثلاثة أقوال أحدها يجوز والثاني لا يجوز
والثالث وهو الأصح أن نذرها في الأقصى جاز العدول إلى مسجد المدينة دون عكسه والله أعلم
فضل المساجد الثلاثة
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا ومسجد الحرام
167

ومسجد الأقصى وفي رواية ومسجد إيلياء) هكذا وقع في صحيح مسلم هنا ومسجد الحرام
ومسجد الأقصى وهو من إضافة الموصوف إلى صفته وقد أجازه النحويون الكوفيون وتأوله
البصريون على أن فيه محذوفا تقديره مسجد المكان الحرام والمكان الأقصى ومنه قوله تعالى
وما كنت بجانب الغربي أي المكان الغربي ونظائره وأما ايلياء فهو بيت المقدس وفيه ثلاث لغات
أفصحهن وأشهرهن هذه الواقعة هنا ايلياء بكسر الهمزة واللام وبالمد والثانية كذلك الا أنه
مقصور والثالثة الياء بحذف الياء وبالمد
وسمي الأقصى لبعده من المسجد الحرام وفي هذا الحديث
فضيلة هذه المساجد الثلاثة وفضيلة شد الرحال إليها لأن معناه عند جمهور العلماء لا فضيلة في شد
الرحال إلى مسجد غيرها وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا يحرم شد الرحال إلى غيرها وهو
غلط وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه قبل هذا بقليل في باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره
168

بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى (هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة)
قوله صلى الله عليه وسلم (وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب
به الأرض ثم قال هو مسجدكم هذا لمسجد المدينة) هذا نص بأنه المسجد الذي أسس على التقوى
المذكور في القرآن ورد لما يقول بعض المفسرين أنه مسجد قباء وأما أخذه صلى الله عليه وسلم
الحصباء وضربه في الأرض فالمراد به المبالغة في الايضاح لبيان أنه مسجد المدينة والحصباء بالمد
الحصى الصغار
فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته
قوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء ماشيا وراكبا) وفي رواية أنه كان يأتي مسجد
169

قباء راكبا وماشيا فيصلي ركعتين وفي رواية أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء كل سبت وكان يقول
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت أما قباء فالصحيح المشهور فيه المد والتذكير والصرف
وفي لغة مقصور وفي لغة مؤنث وفي لغة مذكر غير مصروف وهو قريب من المدينة من عواليها وفي هذه
الأحاديث بيان فضله وفضل مسجده والصلاة فيه وفضيلة زيارته وأنه تجوز زيارته راكبا وماشيا
وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكبا وماشيا وفيه أنه يستحب أن تكون صلاة
170

النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وفيه خلاف أبي حنيفة وسبقت
المسألة في كتاب الصلاة وقوله كل سبت فيه جواز تخصيص بعض الأيام بالزيارة وهذا هو
الصواب وقول الجمهور وكره ابن مسلمة المالكي ذلك قالوا لعله لم تبلغه هذه الأحاديث والله
أعلم ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النكاح
هو في اللغة الضم ويطلق على العقد وعلى الوطء قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي
النيسابوري قال الأزهري أصل النكاح في كلام العرب الوطء وقيل للتزويج نكاح لأنه سبب
الوطء يقال نكح المنظر الأرض ونكح النعاس عينه أصابها قال الواحدي وقال أبو القسم الزجاجي
النكاح في كلام العرب الوطء والعقد جميعا قال وموضع ن ك ح على هذا الترتيب في كلام
العرب للزوم الشئ الشئ راكبا عليه هذا كلام العرب الصحيح فإذا قالوا نكح فلان فلانة ينكحها
نكحا ونكاحا أرادوا تزوجها وقال أبو علي الفارسي فرقت العرب بينهما فرقا لطيفا فإذا قالوا نكح فلانه
بنت فلان أو أخته أرادوا عقد عليها وإذا قالوا نكح امرأته أو
زوجته لم يريدوا الا الوطء لأن بذكر
171

امرأته وزوجته يستغني عن ذكر العقد قال الفراء العرب تقول نكح المرأة بضم النون بضعها
وهو كناية عن الفرج فإذا قالوا نكحها أرادوا نكحها وهو فرجها وقل ما يقال ناكحها كما يقال
باضعها هذا آخر ما نقله الواحدي وقال ابن فارس والجوهري وغيرهما من أهل اللغة النكاح
الوطء وقد يكون العقد ويقال نكحتها ونكحت هي أي تزوجت وأنكحته زوجته وهي ناكح
أي ذات زوج واستنكحها تزوجها هذا كلام أهل اللغة وأما حقيقة النكاح عند الفقهاء ففيها
ثلاثة أوجه لأصحابنا حكاها القاضي حسين من أصحابنا في تعليقه أصحها أنها حقيقة في العقد مجاز
في الوطء وهذا هو الذي صححه القاضي أبو الطيب وأطنب في الاستدلال له وبه قطع المتولي وغيره
وبه جاء القرآن العزيز والأحاديث والثاني أنها حقيقة في الوطء مجاز في العقد وبه قال أبو حنيفة
والثالث حقيقة فيهما بالاشتراك والله أعلم
استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة
(واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم)
قوله صلى الله عليه وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر
وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قال أهل اللغة المعشر هم الطائفة
172

الذين يشملهم وصف فالشباب معشر والشيوخ معشر والأنبياء معشر والنساء معشر فكذا ما أشبهه
والشباب جمع شاب ويجمع على شبان وشيبة والشاب عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين
سنة وأما الباءة ففيها أربع لغات حكاها القاضي عياض الفصيحة المشهورة الباءة بالمد والهاء والثانية
الباء بلا مد والثالثة الباء بالمد بلا هاء والرابعة الباهة بهاءين بلا مد وأصلها في اللغة الجماع مشتقة من
المباءة وهي المنزل ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها ثم قيل لعقد النكاح باءة لأن من تزوج امرأة
بوأها منزلا واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن
المراد معناها اللغوي وهو الجماع فتقديره من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن
النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر
منيه كما يقطعه الوجاء وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشبان الذين هم مظنة شهوة النساء
ولا ينفكون عنها غالبا والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سميت باسم ما يلازمها وتقديره
من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطعها فليصم ليدفع شهوته والذي حمل القائلين
بهذا على هذا أنهم قالوا قوله صلى الله عليه وسلم ومن لم يستطع فعليه بالصوم قالوا والعاجز عن
الجماع لا يحتاج إلى الصوم دفع الشهوة فوجب تأويل الباءة على المؤن وأجاب الأولون بما
قدمناه في القول الأول وهو أن تقديره من لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه وهو محتاج إلى الجماع
فعليه بالصوم والله أعلم وأما الوجاء فبكسر الواو وبالمد وهو رض الخصيتين والمراد هنا أن
الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المنى كما يفعله الوجاء وفي هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن
استطاعه وتاقت إليه نفسه وهذا مجمع عليه لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب
فلا يلزم التزوج ولا التسري سواء خاف العنت أم لا هذا مذهب العلماء كافة ولا يعلم أحد
أوجبه الا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ورواية عن أحمد فإنهم قالوا يلزمه إذا خاف العنت أن
يتزوج أو يتسرى قالوا وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم حوف العنت قال
أهل الظاهر إنما يلزمه التزويج فقط ولا يلزمه الوطء وتعلقوا بظاهر الأمر في هذا الحديث مع
غيره من الأحاديث مع القرآن قال الله فانحكوا ما طاب لكم من النساء وغيرها من الآيات واحتج
الجمهور بقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إلى قوله تعالى وما ملكت أيمانكم فخيره سبحانه
وتعالى بين النكاح والتسري قال الامام المازري هذا حجة للجمهور لأنه سبحانه وتعالى خيره بين
173

النكاح والتسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خيره بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين
التخيير بين واجب وغيره لأنه إلى ابطال حقية الواجب وأن تاركه لا يكون آثما
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فمن رغب عن سنتي فليس مني فمعناه من رغب عنها اعراضا عنها
غير معتقد على ما هي والله أعلم أما الأفضل من النكاح وتركه فقال أصحابنا الناس فيه أربعة
أقسام قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن
فيكره له وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان وقسم يجد
المؤن ولا تتوق فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلي للعبادة أفضل
ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وبعض
أصحاب مالك أن النكاح له أفضل والله أعلم قوله (ان عثمان بن عفان قال لعبد الله بن مسعود
ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك) فيه استحباب عرض الصاحب
هذا على صاحبه الذي ليست له زوجه بهذه الصفة وهو صالح لزواجها على ما سبق تفصيله قريبا
وفيه استحباب نكاح الشابة لأنها المحصلة لمقاصد النكاح فإنها ألذ استمتاعا وأطيب نكهة
وأرغب في الاستمتاع الذي هو مقصود النكاح وأحسن عشرة وأفكه محادثة وأجمل منظرا وألين ملمسا
وأقرب إلى أن يعودها زوجها الأخلاق التي يرتضيها وقوله تذكرك بعض ما مضى من زمانك معناه
تتذكر بها بعض ما مضى من نشاطك وقوة شبابك فإن ذلك ينعش البدن قوله (ان عثمان دعا ابن مسعود
واستخلاه فقال له) هذا الكلام دليل على استحباب الاسرار بمثل هذا فإنه مما يستحي من ذكره بين
الناس وقوله ألا نزوجك جارية بكرا دليل على استحباب البكر وتفضيلها على الثيب وكذا
174

قال أصحابنا لما قدمناه قريبا في قوله جارية شابة قوله (عن عبد الرحمن بن يزيد دخلت أنا وعمي
علقمة والأسود على عبد الله بن مسعود) هكذا هو في جميع النسخ وهو الصواب قال القاضي
ووقع في بعض الروايات أنا وعماي علقمة والأسود وهو غلط ظاهر لأن الأسود أو عبد الرحمن
ابن يزيد لا عمه وعلقمة عمهما جميعا وهو علقمة بن قيس قوله (فذكر حديثا رئيت
أنه حدث به من أجلى) هكذا هو في كثير من النسخ وفي بعضها رأيت وهما صحيحان
175

الأول من الظن والثاني من العلم قوله صلى الله عليه وسلم (فمن رغب عن سنتي فليس مني) سبق
تأويله وأن معناه من تركها اعراضا عنها غير معتقد لها على ما هي عليه أما من ترك النكاح
على الصفة التي يستحب له تركه كما سبق أو ترك النوم على الفرا ش لعجزه عنه أو لاشتغاله
بعبادة مأذون فيها أو نحو ذلك فلا يتناوله هذا الذم والنهي قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم
حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال ما بال أقوام قالوا كذ وكذا) هو موافق للمعروف من خطبه
صلى الله عليه وسلم في مثل هذا أنه إذا كره شيئا فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله وهذا
من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم
ممن يبلغه ذلك ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ قوله (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا) قال العلماء التبتل هو الانقطاع عن النساء وترك
النكاح انقطاعا إلى عبادة الله وأصل التبتل القطع ومنه مريم البتول وفاطمة البتول لانقطاعهما
عن نساء زمانهما دينا وفضلا ورغبة في الآخرة ومنه صدقة بتلة أي منقطعة عن تصرف
مالكها قال الطبري التبتل هو ترك الذات الدنيا وشهواتها والانقطاع إلى الله تعالى بالتفرغ
لعبادته وقوله رد عليه التبتل معناه نهاه عنه وهذا عند أصحاب محمول على من تاقت نفسه إلى
النكاح ووجد مؤنة كما سبق ايضاحه وعلى من أضربه التبتل بالعبادات الكثيرة الشاقة أما الاعراض
176

عن الشهوات واللذات من غير أضرار بنفسه ولا تفويت حق لزوجة ولا غيرها ففضيلة للمنع
منها بل مأمور به وأما قوله لو أذن له لاختصينا فمعناه لو أذن له في الانقطاع عن النساء وغيرهن من
ملاذ الدنيا لاختصينا لدفع شهوة النساء ليمكنا التبتل وهذا محمول على أنهم كانوا يظنون جواز
الاختصاء باجتهادهم ولم يكن ظنهم هذا موافقا فإن الاختصاء في الآدمي حرام صغيرا كان أو كبيرا
قال البغوي وكذا يحرم خصاء كل حيوان لا يؤكل وأما المأكول فيجوز خصاؤه في صغره ويحرم في كبره والله أعلم
باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته
(أو جاريته فيواقعها) قوله صلى الله عليه وسلم (أن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم
177

امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) وفي الرواية الأخرى إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت
في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه هذه الرواية الثانية مبينة للأولى
ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته ان كانت
له فليواقعها ليدفع شهوته وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده قوله صلى الله عليه وسلم
(ان المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان) قال العلماء معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء
إلى الفتنة بها لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والالتذاذ بنظرهن وما
يتعلق بهن في شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له ويستنبط من هذا أنه ينبغي
لها أن لا تخرج بين الرجال الا لضرورة وأنه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها والاعراض
عنها مطلقا قوله (تمعس منيئة) قال أهل اللغة المعس بالعين المهملة الدلك والمنيئة بميم مفتوحة
ثم نون مكسورة ثم همزة ممدودة ثم تاء تكتب هاء وهي على وزن صغيرة وكبيرة وذبيحة قال أهل اللغة هي الجلد أول ما يوضع في الدباغ وقال الكسائي يسمي منيئة ما دام في الدباغ وقال أبو
عبيده هو في أول الدباغ منيئة ثم أفيق بفتح الهمزة وكسر الفاء وجمعه أفق كقفيز وقفز ثم أديم
والله أعلم قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة
لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال إن المرأة تقبل في صورة شيطان) إلى آخره قال
178

العلماء إنما فعل هذا بيانا لهم وارشادا لما ينبغي لهم أن يفعلوه فعلمهم بفعله وقوله وفيه أنه
لا بأس بطلب الرجل امرأته إلى الوقاع في النهار وغيره وإن كانت مشتغلة بما يمكن تركه لأنه ربما
غلبت على الرجل شهوة يتضرر بالتأخير في بدنه أو في قلبه وبصره والله أعلم
نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ
(واستقر تحريمه إلى يوم القيامة)
اعلم أن القاضي عياض بسط شرح هذا الباب بسطا بليغا وأتى فيه بأشياء نفيسة وأشياء يخالف
فيها فالوجه أن ننقل ما ذكره مختصرا ثم نذكر ما ينكر عليه ويخالف فيه وننبه على المختار قال
المازري ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الاسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة ه
نا أنه نسخ وانعقد الاجماع على تحريمه ولم يخالف فيه الا طائفة المستبدعة وتعلقوا
بالأحاديث الواردة في ذلك وقد ذكرنا أنها منسوخة فلا دلالة لهم فيها وتعلقوا بقوله تعالى ف
ما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن الأصح تتعين فلا فما استمتعتم به منهن إلى أجل وقراءة
ابن مسعود هذه شاذة لا يحتج بها قرآنا ولا خبرا ولا يلزم العمل بها قال وقال زفر من نكح
نكاح متعة تأبد نكاحه وكأنه جعل ذلك التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح
فإنها تلغى ويصح النكاح قال المازري واختلفت الرواية في صحيح مسلم في النهى عن المتعة ففيه
أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وفيه أنه نهى عنها يوم فتح مكة فإن تعلق بهذا من
أجاز نكاح المتعة وزعم أن الأحاديث تعارضت وأن هذا الاختلاف قادح فيها قلنا هذا الزعم
خطأ وليس هذا تناقضا لأنه يصح أن ينهى عنه في زمن ثم ينهى عنه في زمن آخر توكيدا أو ليشتهر
النهى ويسمعه من لم يكن سمعه أولا فسمع بعض الرواة النهى في زمن وسمعه آخرون في زمن
آخر فنقل كل منهم ما سمعه وأضافه إلى زمان سماعه هذا كلام المازري قال القاضي عياض
روى حديث إباحة المتعة جماعة من الصحابة فذكره مسلم من رواية ابن مسعود وابن عباس
وجابر وسلمة بن الأكوع وسيرة بن معبد الجهني وليس في هذه الأحاديث كلها أنها كانت في
179

الحضر وإنما كانت في أسفارهم في الغزو عند ضرورتهم وعدم النساء مع أن بلادهم حارة وصبرهم
عنهن قليل وقد ذكر في حديث ابن أبي عمر أنها كانت رخصة في أول الاسلام لمن اضطر إليها
كالميتة ونحوها وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه وذكر مسلم عن سلمة بن الأكوع اباحتها
يوم أوطاس ومن رواية سبرة اباحتها يوم الفتح وهما واحد ثم حرمت يومئذ وفي حديث على
تحريمها يوم خيبر وهو قبل الفتح وذكر غير مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها
في غزوة تبوك من رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عن عبد الله بن محمد بن علي عن أبيه عنه
علي ولم يتابعه أحد على هذا وهو غلط منه وهذا الحديث رواه مالك في الموطأ وسفيان بن عيينة
والعمري ويونس وغيرهم عن الزهري وفيه يوم خيبر وكذا ذكره مسلم عن جماعة عن الزهري
وهذا هو الصحيح وقد روى أبو داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه النهي عنها في حجة
الوداع قال أبو داود وهذا أصح ما روى في ذلك وقد روى عن سبرة أيضا اباحتها في حجة
الوداع ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها حينئذ إلى يوم القيامة وروى عن الحسن البصري
أنها ما حلت قط الا في عمرة القضاء وروى هذا عن سبرة الجهني أيضا ولم يذكر مسلم في
روايات حديث سبرة تعيين وقت الا في رواية محمد بن سعيد الدارمي ورواية إسحاق ابن إبراهيم
ورواية يحيى بن يحيى فإنه ذكر فيها يوم فتح مكة قالوا وذكر الرواية بإباحتها يوم حجة الوداع
خطأ لأنه لم يكن يؤمئذ ضرورة ولا عزوبة وأكثرهم حجوا بنسائهم والصحيح أن الذي جرى
في حجة الوداع مجرد النهي كما جاء في غير رواية ويكون تجديده صلى الله عليه وسلم النهى عنها
يومئذ لاجتماع الناس وليبلغ الشاهد الغائب ولتمام الدين وتقرر الشريعة كما قرر غير شئ وبين
الحلال والحرام يومئذ وبت تحريم المتعة حينئذ لقوله إلى يوم القيامة قال القاضي ويحتمل ما جاء
من تحريم المتعة يوم خيبر وفي عمرة القضاء ويوم الفتح ويوم أوطاس أنه جدد النهي عنها في
هذه المواطن لأن حديث تحريمها يوم خيبر صحيح لا مطعن فيه بل هو ثابت من رواية الثقات
الاثبات لكن في رواية سفيان أنه نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر فقال بعضهم
هذا الكلام فيه انفصال ومعناه أنه حرم المتعة ولم يبين زمن تحريمها ثم قال ولحوم الحمر الأهلية
يوم خيبر يكون يوم خيبر لتحريم الحمر خاصة ولم يبين وقت تحريم المتعة ليجمع بين الروايات
قال هذا القائل وهذا هو الأشبه أن تحريم المتعة كان بمكة وأما لحوم الحمر فبخيبر بلا شك قال
180

القاضي وهذا أحسن لو ساعده سائر الروايات عن غير سفيان قال والأولى ما قلناه أنه قرر
التحريم لكن يبقى بعد هذا ما جاء من ذكر إباحته في عمرة القضاء يوم الفتح ويوم أوطاس
فتحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها لهم للضرورة بعد التحريم ثم حرمها تحريما مؤبدا
فيكون حرمها يوم خيبر وفي عمرة القضاء ثم أباحها يوم الفتح للضرورة ثم حرمها يوم الفتح
أيضا تحريما مؤبدا وتسقط رواية اباحتها يوم حجة الوداع لأنها مروية عن سبرة الجهني وإنما روى
الثقات الاثبات عنه الإباحة يوم فتح مكة والذي في حجة الوداع إنما هو التحريم فيؤخذ من حديثه
ما اتفق عليه جمهور الرواة ووافقه عليه غيره من الصحابة رضي الله عنهم من النهى عنها يوم الفتح
ويكون تحريمها يوم حجة الوداع تأكيدا وإشاعة له كما سبق وأما قول الحسن إنما كانت في عمرة
القضاء لا قبلها ولا بعدها فترده الأحاديث الثابتة في تحريمها يوم خيبر وهي قبل عمرة القضاء
وما جاء من اباحتها يوم فتح مكة ويوم أوطاس مع أن الرواية بهذا إنما جاءت عن سبرة الجهني
وهو راوي الروايات الأخر وهي أصح فيترك ما خالف الصحيح وقد قال بعضهم هذا مما
تداوله التحريم والإباحة والنسخ مرتين والله أعلم هذا آخر كلام القاضي والصواب المختار أن
التحريم والإباحة كانا مرتين وكانت حلالا قبل خيبر ثم حرمت يوم خبير ثم أبيحت يوم مفتح
مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمها مؤبدا إلى يوم القيامة
واستمر التحريم ولا يجوز أن يقال إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر والتحريم يوم خيبر للتأبيد
وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح كما اختاره المازري
والقاضي لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة يوم الفتح صريحة في ذلك فلا يجوز إسقاطها
ولا مانع يمنع تكرير الإباحة والله أعلم قال القاضي واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا
إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الاجماع بعد ذلك
على تحريمها من جميع العلماء الا الروافض وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول بإباحتها وروى
عنه أنه رجع عنه قال وأجمعوا على أنه متى وقع نكاح المتعة الآن حكم ببطلانه سواء كان قبل
الدخول أو بعده الا ما سبق عن زفر واختلف أصحاب مالك هل يحد الواطئ فيه ومذهبنا أنه
لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف ومأخذ الخلاف اختلاف الأصوليين في أن الاجماع بعد
الخلاف هل يرفع الخلاف ويصير المسألة عليها والأصح عند أصحابنا أنه لا يرفعه بل يدوم
181

الخلاف ولا يصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني قال القاضي
وأجمعوا على أن من نكح نكاحا مطلقا ونيته أن لا يمكث معها الا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال
وليس نكاح متعة وإنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور ولكن قال مالك ليس هذا من أخلاق
الناس وشذ الأوزاعي فقال هو نكاح متعة ولا خير فيه والله أعلم قوله (فقلنا ألا نستخصي فنهانا
عن ذلك) فيه موافقة لما قدمناه في الباب السابق من تحريم الخصي لما فيه من تغيير خلق الله
ولما فيه من قطع النسل وتعذيب الحيوان والله أعلم قوله (رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب)
أي بالثوب وغيره مما نتراضى به قوله (ثم قرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات
ما أحل الله لكم) فيه إشارة إلى أنه كان يعتقد اباحتها كقول ابن عباس وأنه لم يبلغه نسخها
قوله (وحدثني أمية بن بسطام العيشي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح وهو ابن القاسم عن
182

عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد عن سلمة بن الأكوع وجابر هكذا هو في بعض النسخ وسقط
في بعضها ذكر الحسن بن محمد بل قال عن عمرو بن دينار عن سلمة وجابر وذكر المازري أيضا
أن النسخ اختلف فيه وأنه ثبت ذكر الحسن فرواية ابن ماهان وسقط في رواية الجلودي وسبق
بيان أمية بن بسطام وأنه يجوز صر ف بسطام وترك صرفه وأن الباء تكسر وقد تفتح والعيشى
بالشين المعجمة قوله (عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قالا خرج علينا منادي رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال قد أذن لكم أن تستمتعوا) وفى الرواية الثانية عن سلمة وجابر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا فأذن لنا في المتعة فقوله في الثانية أتانا يحتمل أتانا رسوله
ومناديه كما صرح به في الرواية الأولى ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم مر عليهم فقال لهم ذلك
بلسانه قوله (استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر) هذا محمول على
أن الذي استمتع في عهد أبى بكر وعمر لم يبلغه النسخ وقوله (حتى نهانا عنه عمر) يعنى حين بلغه النسخ
وقد سبق إيضاح هذا قوله (كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق) القبضة بضم القاف وفتحها
والضم أفصح قال الجوهري القبضة بالضم ما قبضت عليه من الشئ يقال أعطاه قبضة من سويق
183

أو تمر قال وربما فتح قوله (حدثنا حامد بن عمر البكراوي) ذكرنا مرات انه منسوب إلى جده
الأعلى أبى بكر الصحابي قوله (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة
ثلاثا ثم نهى عنها) هذا تصريح بأنها أبيحت يوم فتح مكة وهو ويوم أوطاس شئ واحد وأوطاس
واد بالطائف ويصرف ولا يصرف فمن صرفه أراد الوادي والمكان ومن لم يصرفه أراد البقعة
كما في نظائره وأكثر استعمالهم له غير مصروف قوله (الربيع بن سبرة) هو بفتح السين المهملة
وإسكان الباء الموحدة قوله (فانطلقت أنا ورجل
إلى امرأة من بنى عامر كأنها بكرة عيطاء)
أما البكرة فهي الفتية من الإبل أي الشابة القوية وأما العيطاء فبفتح العين المهملة وإسكان الباء
184

المثناة تحت وبطاء مهملة وبالمد وهي الطويلة العنق في اعتدال وحسن قوام والعيط
بفتح العين والياء طول العنق قوله صلى الله عليه وسلم (من كان عنده شئ من هذه النساء التي
يتمتع فليخل سبيلها) هكذا هو في جميع النسخ التي يتمتع فليخل أي يتمتع بها فحذف بها الدلالة
الكلام عليه أو أوقع يتمتع موقع يباشر أي يباشرها وحذف المفعول قوله (وهو قريب من الدمامة)
هي بفتح الدال المهملة وهي القبح في الصورة قوله (فبردي خلق) هو بفتح اللام أي قريب
من البالي قوله (فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة) هي بعين مهملة مفتوحة وبنونين الأولى مفتوحة
وبطاءين مهملتين وهي كالعيطاء وسبق بيانها وقيل هي الطويلة فقط والمشهور الأول قوله (ينظر
إلى عطفها) هو بكسر العين أي جانبها وقيل من رأسها إلى وركها وفى هذا الحديث دليل على
185

أنه لم يكن في نكاح المتعة ولي ولا شهود قوله (ان برد هذا خلق مح) هو بميم مفتوحة وحاء مهملة مشددة وهو البالي ومنه مح الكتاب إذا بلى ودرس قوله صلى الله عليه وسلم (قد كنت
أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن
شئ فليخل سبيلها ولا تأخذا مما آتيتموهن شيئا) وهي هذا الحديث التصريح بالنسوخ
والناسخ في حديث واحد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث كنت نهيتكم عن زيارة
القبور فزوروها وفيه التصريح بتحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة وأنه يتعين تأويل قوله في
الحديث السابق أنهم كانوا يتمتعون إلى عهد أبي بكر وعمر وعلي أنه لم يبلغهم الناسخ كما سبق وفيه
أن المهر الذي كان أعطاها يستقر لها ولا يحل أخذ شئ منه وأن فارقها قبل الأجل المسمى كما أنه
186

يستقر في النكاح المعروف المهر المسمى بالوطء ولا يسقط منه شئ بالفرقة بعد قوله (فأمر
نفسها ساعة) هو بهمزة ممدودة أي شاورت نفسها وأفكرت في ذلك ومنه قوله تعالى أن الملأ
187

يأتمرون بك قوله (ان ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل)
يعنى يعرض بابن عباس قوله (انك لجلف جاف) الجلف بكسر الجيم قال ابن السكيت وغيره
الجلف هو الجافي وعلى هذا قيل إنما جمع بينهما توكيدا لاختلاف اللفظ والجافي هو الغليظ
الطبع القليل الفهم والعلم والأدب لبعده عن أهل ذلك (فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك)
هذا محمول على أنه أبلغه الناسخ لها وأنه لم يبق شك في تحريمها فقال إن فعلتها بعد ذلك ووطئت فيها
كنت زانيا ورجمتك بالأحجار التي يرجم بها الزاني قوله (فأخبرني خالد بن المهاجر بن
سيف الله) سيف الله هو خالد بن الوليد المخزومي سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ينكا في أعداء الله
188

قوله (نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية) قوله الأنسية ضبطوه بوجهين
أحدهما كسر الهمزة وإسكان النون والثاني فتحهما جميعا وصرح القاضي بترجيح الفتح وأنه رواية
الأكثرين وفي هذا تحريم لحوم الأنسية وهو مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا طائفة يسيرة
من السلف فقد روى عن ابن عباس وعائشة وبعض السلف اباحته وروى عنهم تحريمه وروى
عن مالك كراهته وتحريمه قوله (انك رجل تائه) هو الحائر الذاهب عن الطريق المستقيم والله أعلم
189

تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح
قوله صلى الله عليه وسلم (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وفي رواية لا تنكح
العمة على بنت الأخ ولا ابنة الأخت على الخالة هذا دليل لمذاهب العلماء كافة أنه يحرم الجمع بين
المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها سواء كانت عمة وخالة حقيقة وهي أخت الأب وأخت الأم
190

أو مجازية وهي أخت أبى الأب وأبى الجد وإن علا أو أخت أم الأم وأم الجدة من جهتي الأم
والأب وإن علت فكلهن بإجماع العلماء يحرم الجمع بينهما وقالت طائفة من الخوارج والشيعة
يجوز واحتجوا بقوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم واحتج الجمهور بهذه الأحاديث خصوا بها
الآية والصحيح الذي عليه جمهور الأصوليين جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لأنه
صلى الله عليه وسلم مبين للناس ما أنزل إليهم من كتاب الله وأما الجمع بينهما في الوطء بملك اليمين كالنكاح
فهو حرام عند العلماء كافة وعند الشيعة مباح قالوا ويباح أيضا الجمع بين الأختين بملك اليمين
قالوا وقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين إنما هو في النكاح قال وقال العلماء كافة هو حرام
191

كالنكاح لعموم قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين وقولهم إنه مختص بالنكاح لا يقبل بل جميع
المذكورات في الآية محرمات بالنكاح وبملك اليمين جميعا ومما يدل عليه قوله تعالى والمحصنات
من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فإن معناه أن ملك اليمين يحل وطؤها بملك اليمين لإنكاحها فإن عقد
النكاح عليها لا يجوز لسيدها والله أعلم وأما باقي الأقارب كالجمع بين بنتي العم أو بنتي الخالة
أو نحوهما فجائز عندنا وعند العلماء كافة الا ما حكاه القاضي عن بعض السلف أنه حرمه دليل
الجمهور قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم والله أعلم وأما الجمع بين زوجة الرجل وبنته من
غيرها فجائز عندنا وعند مالك وأبي حنيفة والجمهور وقال الحسن وعكرمة وابن أبي ليلى لا يجوز
دليل الجمهور قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله صلى الله عليه وسلم لا يجمع بين المرأة
وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ظاهر في أنه لا فرق بين أن ينكح البنتين معا أو تقدم هذه أو هذه
فالجمع بينهما حرام كيف كان وقد جاء في رواية أي داود وغيره لا تنكح الصغرى على الكبرى
ولا الكبرى على الصغرى لكن إن عقد عليهما معا بعقد واحد فنكاحهما باطل وان عقد على
أحداهما ثم الأخرى فنكاح الأولى صحيح ونكاح الثانية باطل والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم
(لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه) هكذا هو في جميع النسخ
ولا يسوم بالواو وهكذا يخطب مرفوع وكلاهما لفظه لفظ الخبر والمراد به النهى وهو أبلغ
في النهى لأن خبر الشارع لا يتصور وقوع خلافة والنهى قد تقع مخالفته فكان المعنى عاملوا هذا
النهى معاملة الخبر المتحتم وأما حكم الخطبة فسيأتي في بابها قريبا إن شاء الله تعالى وكذلك السوم
في كتاب البيع قوله صلى الله عليه وسلم (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها ولتنكح فإنما
لها ما كتب الله لها) يجوز في تسأل الرفع والكسر الأول على الخبر الذي يراد به النهى وهو المناسب
لقوله صلى الله عليه وسلم قبله لا يخطب ولا يسوم والثاني على النهى الحقيقي ومعنى هذا
192

الحديث نهى المرأة الأجنبية أن تسأل الزوج طلاق زوجته وأن ينكحها ويصير لها من نفقته
ومعروفة ومعاشرته ونحوها ما كان للمطلقة فعبر عن ذلك باكتفاء ما في الصحفة مجازا قال
الكسائي وأكفأت الاناء كببته وكفأته وأكفأته أملته والمراد بأختها غيرها سواء كانت أختها
من النسب أو أختها في الاسلام أو كافرة
تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته
قوله صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) ثم ذكر مسلم الاختلاف أن
193

النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم أو وهو حلال فاختلف العلماء بسبب ذلك
في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم لا يصح
نكاح المحرم واعتمدوا أحاديث الباب وقال أبو حنيفة والكوفيون يصح نكاحه لحديث قصة
ميمونة وأجاب الجمهور عن حديث ميمونة بأجوبة أصحها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
تزوجها حلالا هكذا رواه أكثر الصحابة قال القاضي وغيره ولم يرو أنه تزوجها محرما الا
ابن عباس وحده وروت ميمونة وأبو رافع وغيرهما أنه تزوجها حلالا وهم أعرف بالقضية
لتعلقهم به خلاف ابن عباس ولأنهم أضبط من ابن عباس وأكثر الجواب الثاني تأويل حديث
ابن عباس على أنه تزوجها في الحرم وهو حلال ويقال لمن هو في الحرم محرم وإن كان حلالا
وهي لغة شائعة معروفة ومنه البيت المشهور قتلوا ابن عفان الخليفة محرما أي في حرم المدينة
والثالث أنه تعارض القول والفعل والصحيح حينئذ عند الأصوليين ترجيح القول لأنه يتعدى
إلى الغير والفعل قد يكون مقصورا عليه والرابع جواب جماعة من أصحابنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الاحرام وهو مما خص به دون الأمة وهذا أصح الوجهين
عند أصحابنا والوجه الثاني أنه حرام في حقه كغيره وليس من الخصائص وأما قوله صلى الله
194

عليه وسلم وينكح فمعناه لا يزوج امرأة بولاية ولا وكالة قال العلماء سببه أنه لما منع في
مدة الاحرام من العقد لنفسه صار كالمرأة فلا يعقد لنفسه ولا لغيره وظاهر هذا العموم
أنه لا فرق بين أن يزوج بولاية خاصة كالأب والأخ والعم ونحوهم أو بولاية عامة وهو السلطان
والقاضي ونائبه وهذا هو الصحيح عندنا وبه قال جمهور أصحابنا وقال بعض أصحابنا يجوز أن
يزوج المحرم بالولاية العامة لأنها يستفاد بها ما لا يستفاد بالخاصة ولهذا يجوز للمسلم تزويج الذمية
بالولاية العامة دون الخاصة وأعلم أن النهى عن النكاح والانكاح في حال الاحرام نهى تحريم
فلو عقد لم ينعقد سواء كان المحرم هو الزوج والزوجة أو العاقد لهما بولاية أو وكالة فالنكاح
باطل في كل ذلك حتى لو كان الزوجان والولي محلين ووكل الولي أو الزوج محرما في العقد لم ينعقد
وأما قوله صلى الله عليه وسلم ولا يخطب فهو نهى تنزيه ليس بحرام وكذلك يكره للمحرم أن يكون
شاهدا في نكاح عقده المحلون وقال بعض أصحابنا لا ينعقد بشهادته لأن الشاهد ركن في عقد
النكاح كالولي والصحيح الذي عليه الجمهور انعقاده قوله (حدثنا
يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع
عن بينه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يتزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير) ثم ذكره
بعد ذلك من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن نبيه قال بعثني عمر بن عبيد الله بن
معمر وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان عن ابنه هكذا قال أحمد عن أيوب في رواية بنت شيبة بن
195

عثمان وكذا قال محمد بن راشد بن عثمان بن عمرو القرشي وزعم أبو داود في سننه أن الصواب وأن
مالكا وهم فيه وقال الجمهور بل قول مالك هو الصواب فإنها بنت شيبة بن جبير بن عثمان الحجبي
كذا حكاه الدارقطني عن رواية الأكثرين قال القاضي ولعل من قال شيبة بن عثمان نسبه إلى
جده فلا يكون خطأ بل الروايتان صحيحتان أحداهما حقيقة والأخر مجاز وذكر الزبير بن
بكار أن هذه البنت تسمى أمة الحميد وأعلم أنه وقع في اسناد رواية حماد عن أيوب رواية أربعة
تابعيين بعضهم على بعض وهم أيوب السختياني ونافع ونبيه وأبان بن عثمان وقد نبهت على نظائر
كثيرة لهذا سبقت في هذا الكتاب وقد أفردتها في جزء من رباعيات الصحابة رضي الله عنهم
قوله (فقال له أبا أن لا أراك عراقيا جافيا) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا عراقيا وذكر القاضي أنه
وقع في بعض الروايات عراقيا وفي بعضها أعرابيا قال وهو الصواب أي جاهلا بالسنة والأعرابي
196

هو ساكن البادية قال وعراقيا هنا خطأ الا أن يكون قد عرف من مذهب أهل الكوفة حينئذ
جواز نكاح المحرم فيصح عراقيا أي آخذا بمذهبهم في هذا جاهلا بالسنة والله أعلم
تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك قوله صلى الله عليه وسلم (لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض)
وفي رواية لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه الا أن يأذن له وفي رواية
المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر
هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم الخطبة على خطبة أخيه وأجمعوا على تحريمها إذا كان
قد صرح للخاطب بالإجابة ولم يأذن ولم يترك فلو خطب على خطبته وتزوج والحالة هذه
عصى وصح النكاح ولم يفسخ هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال داود يفسخ النكاح
وعن مالك روايتان كالمذهبين وقال جماعة من أصحاب مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده
اما إذا عرض له بالإجابة ولم يصرح ففي تحريم الخطبة على خطبته قولان للشافعي أصحهما
لا يحرم وقال بعض المالكية لا يحرم حتى يرضوا بالزوج المهر واستدلوا لما ذكرناه
من أن التحريم إنما هو إذا حصلت الإجابة بحديث فاطمة بنت قيس فإنها قالت خطبني
197

أبو جهم ومعاوية فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعضهم على بعض بل خطبها لأسامة
وقد يعترض على هذا الدليل فيقال لعل الثاني لم يعلم بخطبة الأول وأما النبي صلى الله عليه وسلم
فأشار بأسامة لا أنه خطب له واتفقوا على أنه إذا ترك الخطبة رغبة عنها وأذن فيها جازت الخطبة
على خطبته وقد صرح بذلك في هذه الأحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم (على خطبة أخيه)
قال الخطابي وغيره ظاهرة اختصاص التحريم بما إذا كان الخاطب مسلما فإن كان كافرا
فلا تحريم وبه قال الأوزاعي وقال جمهور العلماء تحرم الخطبة على ى خطبة الكافر أيضا ولهم
أن يجيبوا عن الحديث بأن التقييد بأخيه خرج على الغالب فلا يكون له مفهوم يعمل به
كما في قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم من إملاق وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من
نسائكم ونظائره وأعلم ان الصحيح الذي تقتضيه الأحاديث وعمومها أنه لا فرق بين الخاطب
الفاسق وغيره وقال ابن القاسم المالكي تجوز الخطبة على خطبة الفاسق والخطبة في هذا كله
198

بكسر الخاء وأما الخطبة في الجمعة والعيد والحج وغير ذلك وبين يدي عقد النكاح فبضمها
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يسم على سوم أخيه ولا
تناجشوا ولا يبع حاضر لباد) فسيأتي شرحها في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى قوله (حدثنا شعبة
عن العلاء وسهيل عن أبيهما) هكذا صورته في جميع النسخ وأبو العلاء غير أبي سهيل فلا يجوز أن يقال
عن أبيهما قالوا وصوابه أبويهما قال القاضي وغيره ويصح أن يقال عن أبيهما بفتح الباء على لغة من قال
في تثنية الأب أبان كما قال في تثنية اليد يدان فتكون الرواية صحيحة لكن الباء مفتوحة والله أعلم
199

تحريم نكاح الشغار وبطلانه
قوله (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار) والشغار أن يزوج الرجل ابنته
على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق وفي الرواية الأخرى بيان أن تفسير الشغار من كلام نافع
وفي الأخرى ابنته أو أخته قال العلماء الشغار بكسر الشين المعجمة وبالغين المعجمة أصله في اللغة
الرفع يقال شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول كأنه قال لا ترفع رجل بنتي حتى ارفع رجل بنتك وقيل
هو مشغر البلد إذا خلا لخلوه عن الصداق ويقال شغرت المرأة إذا رفعت رجلها عند الجماع
200

قال ابن قتيبة كل واحد منهما يشغر عن الجماع وكان الشغار من نكاح الجاهلية وأجمع العلماء
على أنه منهي عنه لكن اختلفوا هل هو نهي يقتضى ابطال النكاح أم لا فعند الشافعية يقتضى
إبطاله وحكاه الخطابي عن أحمد واسحق وأبي عبيد وقال مالك يفسخ قبل الدخول وبعده وفي
رواية عنه قبله لا بعده وقال جماعة يصح بمهر المثل وهو مذهب أبي حنيفة وحكى عن عطاء والزهري
والليث وهو رواية عن أحمد واسحق وبه قال أبو ثور وابن جرير وأجمعوا على أن غير البنات من
الأخوات وبنات الأخ والعمات وبنات الأعمام والإماء كالبنات في هذا وصورته الواضحة زوجتك
بنتي على أن تزوجني بنتك ويضع كل واحدة صداقا للأخرى فيقول قبلت والله أعلم
الوفاء بالشرط في النكاح قوله صلى الله عليه وسلم (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) قال
201

الشافعي وأكثر العلماء أن هذا محمول على شروط لا تنافي مقتضي النكاح بل تكون من
مقتضياته ومقاصده كاشتراك العشرة بالمعروف والانفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف
وأنه لا يقصر في شئ من حقوقها ويقسم لها كغيرها وأنها لا تخرج من بيته إلا بإذنه ولا تنشز
عليه ولا تصوم تطوعا بغير إذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ولا تتصرف في متاعه الا برضاه
ونحو ذلك وأما شرط يخالف مقتضاه كشرط أن لا يقسم لها ولا يتسرى عليه ولا ينفق عليها
ولا يسافر بها ونحو ذلك فلا يجب الوفاء به بل يلغو الشرط ويصح النكاح بمهر المثل لقوله
صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وقال أحمد وجماعة يجب الوفاء
بالشرط مطلقا لحديث أن أحق الشروط والله أعلم
استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا
202

يا رسول الله وكيف اذنها قال أن تسكت) وفي رواية الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في
نفسها وأذنها صماتها وفي رواية الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وأذنها سكوتها وفي
رواية والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وأذنها صماتها قال العلماء الأيم هنا الثيب كم فسرته
الرواية الأخرى التي ذكرنا وللأيم معان أخر والصمات بضم الصاد هو السكوت قال القاضي
اختلف العلماء في المراد بالأيم هنا مع اتفاق أهل اللغة على أنها تطلق على امرأة لا زوج لها
صغيرة كانت أو كبيرة بكرا كانت أو ثيبا قال إبراهيم الحربي وإسماعيل القاضي وغيرهما والأيمة
في اللغة العزوبة ورجل أيم وامرأة أيم وحكى أبو عبيد أنه أيمة أيضا قال القاضي ثم اختلف العلماء
في المراد بها هنا فقال علماء الحجاز والفقهاء كافة المراد بالثيب واستدلوا بأنه جاء مفسرا في الرواية
الأخرى بالثيب كما ذكرناه وبأنها جعلت مقابلة للبكر وبأن أكثر استعمالها في اللغة للثيب وقال
الكوفيون وزفر الأيم هنا كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا كما هو مقتضاه في اللغة
قالوا فكل امرأة بلغت فهي أحق بنفسها من وليها وعقدها على نفسها النكاح صحيح وبه قال الشعبي
والزهري قالوا وليس الولي من أركان صحة النكاح بل من تمامه وقال الأوزاعي وأبو يوسف ومحمد
تتوقف صحة النكاح على إجازة الولي قال القاضي واختلفوا أيضا في قوله صلى الله عليه وسلم أحق
من وليها هل هي أحق بالإذن فقط أو بالإذن والعقد على نفسها فعند الجمهور بالاذن فقط وعند
هؤلاء بهما جميعا وقوله صلى الله عليه وسلم
أحق بنفسها يحتمل من حيث اللفظ أن المراد أحق من وليها في كل شئ من عقد وغيره كما قاله أبو حنيفة وداود ويحتمل أنها أحق بالرضا
203

أي لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر ولكن لما صح قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح
الا بولي مع غيره من الأحاديث الدالة على اشتراط الولي تعين الاحتمال الثاني وأعلم أن لفظة
أحق هنا للمشاركة معناه أن لها في نفسها في النكاح حقا ولوليها حقا وحقها أوكد من حقه
فإنه لو أراد تزويجها كفؤا وامتنعت لم تجبر ولو أرادت أن تتزوج كفؤا فامتنع الولي أجبر فإن
أصر زوجها القاضي فدل على تأكيد حقها ورجحانه وأما قوله صلى الله عليه وسلم في البكر
ولا تنكح البكر حتى تستأمر فاختلفوا في معناه فقال الشافعي وابن أبي ليلى وأحمد واسحق وغيرهم
الاستئذان في البكر مأمور به فإن كالولي أبا أو جدا كان الاستئذان مندوبا إليه ولو زوجها
بغير استئذانها صح لكمال شفقته وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان ولم يصح إنكاحها
قبله وقال الأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين يجب الاستئذان في كل بكر بالغة وأما
قوله صلى الله عليه وسلم في البكر اذنها صماتها فظاهره العموم في كل بكر ولك ولي وأن سكوتها
يكفي مطلقا وهذا هو الصحيح وقال بعض أصحابنا إن كان الولي أبا أو جدا فاستئذانه مستحب
ويكفى فيه سكوتها وإن كان غيرهما فلا بد من نطقها لأنها تستحي من الأب والجد أكثر
من غيرهما والصحيح الذي عليه الجمهور أن السكوت كاف في جميع الأولياء لعموم الحديث لوجود
الحياء وأما الثيب فلا بد فيها من النطق بلا خلاف سواء كان الولي أبا أو غيره لأنه زال كمال حيائها
بممارسة الرجال وسواء زالت بكارتها بنكاح صحيح أو فاسد أو بوطء شبهة أو بزنا ولو زالت
بكارتها بوثبة أو بإصبع أو بطول المكث أو وطئت في دبرها
204

حكم البكر والله أعلم ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يشترط اعلام البكر بأن سكوتها اذن
وشرطه بعض المالكية واتفق عليه أصحاب مالك على استحبابه واختلف العلماء في اشتراط
الولي في صحة النكاح فقال مالك والشافعي يشترط ولا يصح نكاح الا بولي وقال أبو حنيفة
لا يشترط في الثيب ولا في البكر البالغة بل لها
أن تزوج نفسها بغير اذن وليها وقال أبو ثور يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها ولا يجوز بغير اذنه وقال داود يشترط الولي في تزويج البكر دون
الثيب واحتج مالك والشافعي بالحديث المشهور لا نكاح إلا بولي وهذا يقتضى نفي الصحة
واحتج داود بأن الحديث المذكور في مسلم صريح في الفرق بين البكر والثيب وأن الثيب أحق
بنفسها والبكر تستأذن وأجاب أصحابنا عنه بأنها أحق أي شريكة في الحق بمعنى أنها لا تجبر
وهي أيضا أحق في تعيين الزوج واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره فإنها تستقل فيه
بلا ولي وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولي على الأمة والصغيرة وخص عمومها بهذا
القياس وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثيرين من أهل الأصول واحتج أبو ثور
بالحديث المشهور أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ولأن الولي إنما يراد ليختار
كفؤا لدفع العار وذلك يحصل بإذنه قال العلماء ناقض داود مذهبه في شرط الولي في البكر دون
الثيب لأنه احداث قول في مسألة مختلف فيها ولم يسبق إليه ومذهبه أنه لا يجوز احداث مثل
هذا والله أعلم
205

جواز تزويج الأب البكر الصغيرة
فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست
سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين) وفي رواية تزوجها وهي بنت سبع سنين هذا صريح في جواز
تزويج الأب الصغيرة بغير اذنها لأنه لا اذن لها والجد كالأب عندنا وقد سبق في الباب الماضي
بسط الاختلاف في اشتراط الولي وأجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته البكر الصغيرة
لهذا الحديث وإذا بلغت فلا خيار لها في فسخه عند مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز وقال
أهل العراق لها الخيار إذا بلغت أما غير الأب والجد من الأولياء فلا يجوز أن يزوجها عند الشافعي
والثوري ومالك وابن أبي ليلى وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد والجمهور قالوا فإن زوجها لم يصح وقال
الأوزاعي وأبو حنيفة وآخرون من السلف يجوز لجميع الأولياء ويصح ولها الخيار إذا بلغت
الا أبا يوسف فقال لا خيار لها واتفق الجماهير على أن الوصي الأجنبي لا يزوجها وجوز شريح
وعروة وحماد له تزويجها قبل البلوغ وحكاه الخطابي عن مالك أيضا والله أعلم وأعلم أن الشافعي
وأصحابه قالوا يستحب أن لا يزوج الأب والجد البكر حتى تبلغ ويستأذنها لئلا يوقعها في أسر
الزوج وهي كارهة وهذا الذي قالوه لا يخالف حديث عائشة لان مرادهم أنه لا يزوجها قبل
البلوغ إذا لم تكن مصلحة ظاهرة يخاف فوتها بالتأخير كحديث عائشة فيستحب تحصيل ذلك
الزوج لأن الأب مأمور بمصلحة ولده فلا يفوتها والله أعلم وأما وقت زفاف الصغيرة المزوجة
والدخول بها فإن اتفق الزوج والولي على شئ لا ضرر فيه على الصغيرة عمل به وإن اختلفا
فقال أحمد وأبو عبيد تجبر على ذلك بنت تسع سنين دون غيرها وقال مالك والشافعي
وأبو حنيفة حد ذلك أن تطيق الجماع ويختلف ذلك باختلافهن ولا يضبط بسن وهذا هو
الصحيح وليس في حديث عائشة تحديد ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع ولا الإذن فيه لمن لم تطقه وقد بلغت تسعا قال الداودي وكانت عائشة قد شبت شبابا حسا رضى الله
206

عنها وأما قولها في رواية تزوجني وأنا بنت سبع وفي أكثر الروايات بنت ست فالجمع بينهما أنه
كان لها ست وكسر ففي رواية اقتصرت على السنين وفي رواية عدت السنة التي دخلت فيها
والله أعلم قوله (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال وجدت في كتابي عن أبي أسامة هذا) معناه
أنه وجد في كتابه ولم يذكر أنه سمعه ومثل هذا تجوز روايته على الصحيح وقول الجمهور ومع
هذا فلم يقتصر مسلم عليه بل ذكره متابعة لغيره قولها (فوعكت شهرا فوفى شعري جميمة) الوعك
ألم الحمى ووفى أي كمل وجميمة تصغير جمة وهي الشعر النازل إلى الأذنين ونحوهما أي صار
إلى هذا الحد بعد أن كان قد ذهب بالمرض قولها (فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحة) أم رومان
هي أم عائشة وهي بضم الراء وإسكان الواو وهذا هو المشهور ولم يذكر الجمهور غيره وحكى
ابن عبد البر في الاستيعاب ضم الراء وفتحها ورجح الفتح وليس هو براجح والأرجوحة بضم
الهمزة هي خشبة يلعب عليها الصبيان والجواري الصغار يكون وسطها على مكان مرتفع
ويجلسون على طرفيها ويحركونها فيرتفع جانب منها وينزل جانب قولها (فقلت هه هه حتى ذهب
نفسي) هو بفتح الفاء هذه كلمة يقولها المبهور حتى يتراجع إلى حال سكونه وهي بإسكان الهاء
الثانية فهي هاء السكت قولها (فإذا نسوة من الأنصار فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر)
النسوة بكسر النون وضمها لغتان الكسر أفصح وأشهر والطائر الحظ يطلق على الحظ من
الخير والشر والمراد هنا على أفضل حظ وبركة وفيه استحباب الدعاء بالخير والبركة لكل واحد
من الزوجين ومثله في حديث عبد الرحمن بن عوف بارك الله لك قولها (فغسلن رأسي وأصلحنني)
207

فيه استحباب تنظيف العروس وتزيينها لزوجها واستحباب اجتماع النساء لذلك ولأنه يتضمن
إعلان النكاح ولأنهن يؤانسنها ويؤدبنها ويعلمنها آدابها حال الزفاف وحال لقائها الزوج
قولها (فلم يرعني الا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمني إليه) أي لم يفجأني ويأتني بغتة
إلا هذا وفيه جواز الزفاف والدخول بالعروس نهارا وهو جائز ليلا ونهارا واحتج به البخاري
في الدخول نهارا وترجم عليه بابا قوله (وزفت إليه وهي ابنة تسع سنين ولعبها معها (المراد هذه
اللعب المسماة بالبنات التي تلعب بها الجواري الصغار ومعناه التنبيه على صغر سنها قال القاضي
وفيه جواز اتخاذ اللعب وإباحة لعب الجواري بهن وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فلم ينكره قالوا وسببه تدريبهن لتربية الأولاد واصلاح شأنهن وبيوتهن
هذا كلام القاضي ويحتمل أن يكون مخصوصا من أحاديث النهى عن اتخاذ الصور لما ذكره
208

من المصلحة ويحتمل أن يكون هذا منهيا عنه وكانت قصة عائشة هذه ولعبها في أول
الهجرة قبل تحريم الصور والله أعلم
استحباب التزوج والتزويج في شوال
(واستحباب الدخول فيه)
قوله (عن عائشة رضي الله عنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي
في شوال فأي نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحظى عنده منى قال وكانت عائشة تستحب
أن تدخل نسائها في شوال) فيه استحباب التزويج والتزوج والدخول في شوال وقد نص أصحابنا
على استحبابه واستدلوا بهذا الحديث وقصدت عائشة بهذا الكلام رد ما كانت الجاهلية عليه
وما يتخيله بعض العوام اليوم من كراهة التزوج والتزويج والدخول في شوال وهذا باطل لا أصل له
وهو من آثار الجاهلية كانوا يتطيرون بذلك لما في اسم شوال من الإشالة والرفع
209

ندب من أراد نكاح امرأة إلى أن ينظر إلى وجهها
(وكفيها قبل خطبتها)
قوله صلى الله عليه وسلم للمتزوج امرأة من الأنصار (أنظرت إليها قال لا قال فاذهب فانظر إليها
فإن في أعين الأنصار شيئا) هكذا الرواية شيئا بالهمز وهو واحد الأشياء قيل المراد صغر وقيل ز
رقة وفي هذا دلالة لجواز ذكر مثل هذه للنصيحة وفيه استحباب النظر إلى وجه من يريد تزوجها
وهو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وجماهير العلماء وحكى القاضي
عن قوم كراهته وهذا خطأ مخالف لصريح هذا الحديث ومخالف لاجماع الأمة على جواز النظر
للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها ثم إنه إنما يباح له النظر إلى وجهها وكفيها فقط
لأنهما ليسا بعورة ولأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده وبالكفين على خصوبة البدن
أو عدمها هذا مذهبنا ومذهب الأكثرين وقال الأوزاعي ينظر إلى مواضع اللحم وقال داود
ينظر إلى جميع بدنها وهذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والاجماع ثم مذهبنا ومذهب مالك
وأحمد والجمهور أنه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها بل له ذلك في غفلتها ومن غير تقدم
إعلام لكن قال مالك أكره نظرة في غفلتها مخافة من وقوع نظرة على عورة وعن مالك رواية
ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها وهذا ضعيف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اذن في ذلك
مطلقا ولم يشترط استئذانها ولأنها تستحي غالبا من الإذن ولأن في ذلك تغريرا فربما رآها
210

فلم تعجبه فيتركها فتنكسر وتتأذى ولهذا قال أصحابنا يستحب أن يكون نظره إليها قبل الخطبة
حتى أن كرهها تركها من غير ايذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة والله أعلم قال أصحابنا وإذا لم يمكنه
النظر استحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره ويكون ذلك قبل الخطبة لما ذكرناه
قوله صلى الله عليه وسلم (كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) العرض بضم العين
وإسكان الراء هو الجانب والناحية وتنحتون بكسر الحاء أي تقشرون وتقطعون ومعنى هذا
الكلام كراهة اكثار المهر بالنسبة إلى حال الزوج
باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد
(وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به)
قوله (حدثنا يعقوب) يعنى ابن عبد الرحمن القارئ هو القارئ بتشديد الياء منسوب إلى
القارة قبيلة معروفة وسبق بيانه قولها (جئت أهب لك نفسي) مع سكوته صلى الله عليه وسلم
فيه دليل لجواز هبة المرأة نكاحها له كما قال الله وامرأة مؤمنة ان وهبت نفسها النبي
ان أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قال أصحابنا هذه الآية وهذا الحديث
211

دليلان لذلك فإذا وهبت امرأة نفسها له صلى الله عليه وسلم فتزوجها بلا مهر حل له ذلك
ولا يجب عليه بعد ذلك مهرها بالدخول ولا بالوفاة ولا بغير ذلك بخلاف غيره فإنه لا يخلو
نكاحه وجوب مهر اما مسمى وأما مهر المثل وفي انعقاد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم
بلفظ الهبة وجهان لأصحابنا أحدهما ينعقد لظاهر الآية وهذا الحديث والثاني لا ينعقد بلفظ
الهبة بل لا ينعقد الا بلفظ التزويج أو الانكاح كغيره من الأمة فإنه لا ينعقد الا بأحد هذين
اللفظين عندنا بلا خلاف ويحمل هذا القائل الآية والحديث على أن المراد بالهبة أنه لا مهر
لأجل العقد بلفظ الهبة وقال أبو حنيفة ينعقد نكاح كل أحد بكل لفظ يقتضي التمليك على
التأبيد وبمثل مذهبنا قال الثوري وأبو ثور وكثيرون من أصحاب مالك وغيرهم وهو احدى
الروايتين عن مالك والرواية الأخرى عنه أنه ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع إذا قصد به النكاح
سواء ذكر الصداق أم لا ولا يصح بلفظ الرهن والإجارة والوصية ومن أصحاب مالك من صححه بلفظ
الاحلال والإباحة حكاه القاضي عياض قوله (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر
فيها وصوبه ثم طأطأ) أما صعد بتشديد العين أي رفع وأما صوب فبتشديد الواو أي خفض وفي دليل
لجواز النظر لمن أراد أن يتزوج امرأة وتأمله إياها وفيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل
الصالح ليتزوجها وفيه أنه يستحب لمن طلبت منه حاجه لا يمكنه قضاؤها أن يسكت سكوتا يفهم
السائل منه ذلك لا يخجله بالمنع الا إذا لم يحصل الفهم الا بصريح المنع فيصرح قال الخطابي وفيه
جواز نكاح المرأة من غير أن تسأل هل هي في عدة أم لا حملا على ظاهر الحال قال وعادة الحكام ى
يبحثون عن ذلك احتياطا قلت قال الشافعي لا يزوج القاضي من جاءته لطلب الزواج حتى
212

يشهد عدلان أنه ليس لها ولي خاص وليست في زوجيه ولا عدة فمن أصحابنا من قال هذا شرط
واجب والأصح عندهم أنه استحباب واحتياط وليس بشرط قوله صلى الله عليه وسلم (انظر
ولو خاتم من حديد) هكذا هو في النسخ خاتم من حديد وفي بعض النسخ خاتما وهذا واضح
والأول صحيح أيضا أي ولو حضر خاتم من حديد وفيه دليل على أنه يستحب أن لا ينعقد
النكاح الا بصداق لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة من حيث أنه لو حصل طلاق قبل الدخول
وجب نصفه المسمى فلو لم تكن تسمية لم يجب صداق بل تجب المتعة فلو عقد النكاح بلا صداق
صح قال الله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فهذا تصريح
بصحة النكاح والطلاق من غير مهر ثم يجب لها المهر وهل يجب بالعقد أم بالدخول فيه خلاف
مشهور وهما قولان للشافعي أصحهما بالدخول وهو ظاهر هذه الآية وفي هذا الحديث أنه يجوز
أن يكون الصداق قليلا وكثيرا مما يتمول إذا تراضى به الزوجان لأن خاتم الحديد في نهاية من
القلة وهذا مذهب الشافعي وهو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وبه قال ربيعة وأبو الزناد
وابن أبي ذئب ويحيى بن سعيد والليث بن سعد والثوري والأوزاعي ومسلم بن خالد الزنجي وابن
أبي ليلى وداود وفقهاء أهل الحديث وابن وهب من أصحاب مالك قال القاضي هو مذهب العلماء
كافة من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين وغيرهم أنه يجوز ما تراضى به الزوجان من
قليل وكثير كالسوط والنعل وخاتم الحديد ونحوه وقال مالك أقله ربع دينار كنصاب السرقة
قال القاضي هذا مما انفرد به مالك وقال أبو حنيفة وأصحابه أقله عشر دراهم وقال ابن شبرمة أقله
خمسة دراهم اعتبارا بنصاب القطع في السرقة عندهما وكره النخعي أن يتزوج بأقل من أربعين
درهما وقال مرة عشرة وهذه المذاهب سوى مذهب الجمهور مخالفة للسنة وهم محجوبون بهذا
الحديث الصحيح الصريح وفي هذا الحديث جواز اتخاذ خاتم الحديد وفيه خلاف للسلف حكاه
القاضي ولأصحابنا في كراهته وجهان أصحهما لا يكره لأن الحديث في النهي عنه ضعيف وقد أوضحت
المسألة في شرح المهذب وفيه استحباب تعجيل تسليم المهر إليها قوله (لا والله يا رسول الله
ولا خاتم من حديد) فيه جواز الحلف من غير استحلاف ولا ضرورة لكن قال أصحابنا يكره من
213

غير حاجة وهذا كان محتاجا ليؤكد قوله وفيه جواز تزويج المعسر وتزوجه قوله (ولكن
هذا إزاري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تصنع بإزارك ان لبسته لم يكن عليها منه شئ
وإن لبسته لم يكن عليك منه شئ) فيه دليل على نظر كبير القوم في مصالحهم وهدايته إياهم إلى ما فيه
الرفق بهم وفيه جواز لبس الرجل ثوب امرأته إذا رضيت أو غلب على ظنه رضاها وهو المراد
في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (اذهب فقد ملكتها بما معك) هكذا هو في معظم
النسخ وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين ملكتها بضم الميم وكسر اللام المشددة على ما لم ى
سم فاعله وفي بعض النسخ ملكتكها بكافين وكذا رواه البخاري وفي الرواية الأخرى
زوجتكها قال القاضي قال الدارقطني رواية من روى ملكتها وهم قال والصواب رواة
من روى زوجتكها قال وهم أكثر وأحفظ قلت ويحتمل صحة اللفظين ويكون جرى
لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق والله أعلم وفي
هذا الحديث دليل لجواز كون الصداق تعليم القرآن وجواز الاستئجار لتعليم القرآن وكلاهما
جائز عند الشافعي وبه قال عطاء والحسن بن صالح
ومالك وإسحاق وغيرهم ومنعه جماعة منهم
الزهري وأبو حنيفة وهذا الحديث مع الحديث الصحيح إن أحق ما أخذتم عليه أجرا
كتاب الله يردان قول ممنع ذلك ونقل القاضي عياض جواز الاستئجار لتعليم القرآن عن
214

العلماء كافة سوي أبي حنيفة قولها (كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي
عشرة أوقية ونشا قالت أتدري ما النش قلت لا قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) أما الأوقية
فبضم الهمزة وتشديد الياء والمراد أوقية الحجاز وهي أربعون درهما وأما النش فبنون مفتوحة
ثم شين معجمة مشددة واستدل أصحابنا بهذا الحديث على أنه يستحب كون الصداق خمسمائة
درهم والمراد في حق من يحتمل ذلك فإن قيل فصداق أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان
أربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار فالجواب أن هذا القدر تبرع
به النجاشي من ماله اكراما
215

للنبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أداه أو عقد به والله أعلم قوله (ان النبي
صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة قال ما هذا) فيه أنه يستحب للامام والفاضل
تفقد أصحابه والسؤال عما يختلف من أحوالهم وقوله (أثر صفرة) وفي رواية في غير كتاب مسلم رأى
عليه صفرة وفي رواية ردع من زعفران والردع براء ودال وعين مهملات هو أثر الطيب والصحيح
في معنى هذا الحديث أنه تعلق به أثر من الزعفران وغيره من طيب العروس ولم يقصده ولا تعمد
التزعفر فقد ثبت في الصحيح النهى عن التزعفر للرجال وكذا نهى الرجال عن الخلوق لأنه
شعار النساء وقد نهى الرجال عن التشبه بالنساء فهذا هو الصحيح في معنى الحديث وهو الذي
اختاره القاضي والمحققون قال القاضي وقيل أنه يرخص في ذلك للرجل العروس وقد جاء ذلك
في أثر ذكره أبو عبيد أنهم كانوا يرخصون في ذلك للشاب أيام عرسه قال وقيل لعله كان يسيرا
فلم ينكر قال وقيل كان في أول الاسلام من تزوج لبس ثوبا مصبوغا علامة لسروره وزواجه
قال وهذا غير معروف وقيل يحتمل أنه كان في ثيابه دون بدنه ومذهب مالك وأصحابه جواز
لبس الثياب المزعفرة وحكاه مالك عن العلماء المدينة وهذا مذهب ابن عمر وغيره وقال الشافعي
وأبو حنيفة لا يجوز ذلك للرجل قوله (تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب) قال القاضي
قال الخطابي النواة اسم لقدر معروف عندهم فسروها بخمسة دراهم من ذهب قال القاضي كذا
فسرها أكثر العلماء وقال أحمد بن حنبل هي ثلاثة دراهم وثلث وقيل المراد نواة التمر أي وزنها
من ذهب والصحيح الأول وقال بعض المالكية النواة ربع دينار عند أهل المدينة وظاهر
كلام أبي عبيد أنه دفع خمسة دراهم قال ولم يكن هناك ذهب إنما هي خمسة دراهم تسمى نواة
كما تسمى الأربعون أوقية قوله صلى الله عليه وسلم (فبارك الله لك) فيه استحباب الدعاء
للمتزوج وأن يقال بارك الله لك أو نحوه وسبق في الباب قبله ايضاحه قوله صلى الله عليه وسلم
(أو لم ولو بشاة) قال العلماء من أهل اللغة والفقهاء وغيرهم الوليمة الطعام المتخذ للعرس مشتقة
216

من الولم وهو الجمع لأن الزوجين يجتمعان قاله الأزهري وغيره وقال الأنباري أصلها تمام
الشئ واجتماعه والفعل منا أو لم قال أصحابنا وغيرهم الضيافات ثمانية أنواع الوليمة للعرس
والخرس بضم الخاء المعجمة ويقال الخرص أيضا بالصاد المهملة للولادة والاعذار بكسر الهمزة
وبالعين المهملة والذال المعجمة للختان والوكيزة للبناء والنقيعة لقدوم المسافر مأخوذة من
النقع وهو الغبار ثم قيل إن المسافر يصنع الطعام وقيل يصنعه غيره له والعقيقة يوم سابع
الولادة والوضيمة بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة الطعام عند المصيبة والمأدبة بضم الدال
وفتحها الطعام المتخذ ضيافة بلا سبب والله أعلم واختلف العلماء في وليمة العرس هل هي واجبة
أم مستحبة والأصح عند أصحابنا أنها سنة مستحبة ويحملون هذا الأمر في هذا الحديث على الندب
وبه قال مالك وغيره وأوجبها داود وغيره واختلف العلماء في وقت فعلها فحكى القاضي
أن الأصح عند مالك وغيره أنه يستحب فعلها بعد الدخول وعن جماعة من المالكية استحبابها
عند العقد وعن ابن حبيب المالكي استحبابها عند العقد وعند الدخول وقوله صلى الله عليه وسلم
217

صلى الله عليه وسلم أولم ولو بشاة دليل على أنه يستحب للموسر أن لا ينقص عن شاة ونقل القاضي الاجماع
على أنه لا حد لقدرها المجزئ بل بأي شئ أولم من الطعام حصلت الوليمة وقد ذكر مسلم بعد
هذا وفي وليمة عرس صفية أنها كانت بغير لحم وفي وليمة زينب أشبعنا خبزا ولحما وكل هذا جائز
تحصل به الوليمة لكن يستحب أن تكون على قدر حال الزوج قال القاضي واختلف السلف
في تكرارها أكثر من يومين فكرهته طائفة ولم تكرهه طائفة قال واستحب أصحاب مالك
للموسر كونها أسبوعا
فضيلة اعتاقه أمته ثم يتزوجها
قوله (فصلينا عندها صلاة الغداة) دليل على أنه لا كراهة في تسميتها الغداة وقال بعض أصحابنا
218

يكره والصواب الأول قوله (وأنا رديف أبي طلحة) دليل لجواز الارداف إذا كانت الدابة
مطيقة وقد كثرت الأحاديث الصحيحة بمثله قوله (فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم
في زقاق خيبر) دليل لجواز ذلك وأنه لا يسقط المروءة ولا يخل بمراتب أهل الفضل لا سيما عند
الحاجة للقتال أو رياضة الدابة أو تدريب النفس ومعاناة أسباب الشجاعة قوله (وإن
ركبتي لتمس فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم فإني
لأري بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم) هذا مما يستدل به أصحاب مالك وغيرهم ممن يقول الفخذ
ليس بعورة ومذهبنا أنه عورة ويحمل أصحابنا هذا الحديث على أن انحسار الإزار وغيره كان
بغير اختياره صلى الله عليه وسلم فانحسر للزحمة وإجراء المركوب ووقع نظر أنس إليه فجأة
لا تعمدا وكذلك مست ركبته الفخذ من غير اختيارهما بل للزحمة ولم يقل أنه تعمد ذلك ولا
أنه حسر الإزار بل قال انحسر بنفسه قوله (فلما دخل القرية قال الله أكبر خربت خيبر) فيه
دليل الاستحباب الذكر والتكبير عند الحرب وهو موافق لقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم
فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ولهذا قالها ثلاث مرات ويؤخذ منه أن الثلاث كثير وأما قوله
صلى الله عليه وسلم خربت خيبر فذكروا فيه وجهين أحدهما أنه دعاء تقديره أسأل الله خرابها والثاني أنه اخبار
بخرابها على الكفار وفتحها للمسلمين قوله (محمد والخميس) هو بالخاء المعجمة وبرفع السين
219

المهملة وهو الجيش قال الأزهري وغيره سمى خميسا لأنه خمسة أقسام مقدمة وساقة وميمنة وميسرة
وقلب وقيل لتخميس الغنائم وأبطلوا هذا القول لأن هذا الاسم كان معروفا في الجاهلية ولم يكن
لهم تخميس قوله (وأصبناها عنوة) هو بفتح العين أي قهرا لا صلحا وبعض حصون خيبر
أصيب صلحا وسنوضحه في باب إن شاء الله تعالى قوله (فجاءه دحية إلى قوله فأخذ صفية بنت
حي) أما دحية فبفتح الدال وكسرها وأما صفية فالصحيح أن هذا كان اسمها قبل السبي وقيل
كان اسمها زينت فسميت بعد السبي والاضفاء صفية قوله (أعطيت دحية صفية بنت حيي سيد
قريظة والنضير ما تصلح إلا لك قال ادعوه بها قال فجا بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم
قال خذ جارية من السبي غيرها) قال المازري وغيره يحتمل ما جرى مع دحية وجهين أحدهما
أن يكون رد الجارية برضاه وأذن له في غيرها والثاني أنه إنما أذن له في جارية له من حشو السبي
لا أفضلهن فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ أنفسهن وأجودهن نسبا وشرفا في قومها
وجمالها استرجعها لأنه لم يأذن فيها ورأي في ابقائها لدحية مفسدة لتميزه بمثلها على باقي الجيش
ولما فيه من انتهاكها مع
مرتبتها وكونها بنت سيدهم ولما يخاف من استعلائها على دحية بسبب مرتبتها وربما ترتب على ذلك شقاق أو غيره فكان أخذه صلى الله عليه وسلم إياها لنفسه قاطعا
لكل هذه المفاسد المتخوفة ومع هذا فعوض دحية عنها وقوله في الرواية الأخرى انها وقعت في
سهم دحية فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس يحتمل أن المراد بقوله وقعت
في سهمه أي حصلت بالإذن في أخذ جارية ليوافق باقي الروايات وقوله اشتراها أي أعطاه بدلها
سبعة أنفس تطيبا لقلبه لا أنه جرى عقد بيع وعلى هذا تتفق الروايات وهذا العطاء لدحية
220

محمول على التنفيل فعلى قول من يقول التنفيل يكون من أصل الغنيمة لا إشكال فيه وعلى قول
من يقول أن التنفيل من خمس الخمس يكون هذا التنفيل من خمس الخمس بعد أن ميز أو قبله
ويحسب منه فهذا الذي ذكرناه هو الصحيح المختار وحكى القاضي معنى بعضه ثم قال والأولى
عندي أن تكون صفية فيئا لأنها كانت زوجة كنانة بن الربيع وهو وأهله من بني أبي الحقيق كانوا
صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرط عليهم أن لا يكتموه كنزا فإن كتموه فلا ذمة لهم
وسألهم عن كنز حي بن أخطب فكتموه وقالوا أذهبته النفقات ثم عثر عليه عندهم فانتقض
عهدهم فسباهم ذكر ذلك أبو عبيد وغيره فصفية من سبيهم فهي فئ لا يخمس بل يفعل فيه الامام
ما رأى هذا كلام القاضي وهذا تفريغ منه على مذهبه أن الفئ لا يخمس ومذهبنا أنه يخمس
كالغنيمة والله أعلم قوله (فقال له ثابت يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها) فيه
أنه يستحب أن يعتق الأمة ويتزوجها كما قال في الحديث الذي بعده له أجران وقوله أصدقها
نفسها اختلف في معناه فالصحيح الذي اختاره المحققون أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط
ثم تزوجها برضاها بلا صداق وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز نكاحه بلا مهر
لا في الحال ولا فيما بعد بخلاف غير وقال بعض أصحابنا معناه أنه شرط عليها أن يعتقها ويتزوجها
فقبلت فلزمها الوفاء به وقال بعض أصحابنا أعتقها وتزوجها على قيمتها وكانت مجهولة ولا يجوز هذا
ولا الذي قبله لغيره صلى الله عليه وسلم بل هما من الخصائص كما قال أصحاب القول الأول واختلف
العلماء فيمن أعتق أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها فقال الجمهور لا يلزمها أن تتزوج
به ولا يصح هذا الشرط وممن قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وزفرقان الشافعي
فإن أعتقها على هذا الشرط فقبلت عتقت ولا يلزمها أن تتزوجه بل له عليها قيمتها لأنه لم يرض
بعتقها مجانا فإن رضيت وتزوجها على مهر يتفقان عليه فله عليها القيمة ولها عليه المهر المسمى
من قليل أو كثير وإن تزوجها على قيمتها فان كانت القيمة معلومة له ولها صح الصداق ولا تبقى
له عليها قيمة ولا لها عليه صداق وإن كانت مجهولة ففيه وجهان لأصحابنا أحدهما يصح الصداق
كما لو كانت معلومة لأن هذا العقد فيه ضرب من المسامحة والتخفيف وأصحهما وبه قال جمهور
221

أصحابنا لا يصح الصداق بل يصح النكاح ويجب لها مهر المثل وقال سعيد بن المسيب والحسن
والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي وأبو يوسف وأحمد وإسحاق يجوز أن يعتقها على أن
تتزوج به ويكون عتقها صداقها ويلزمها ذلك ويصح الصداق على ظاهر لفظ هذا الحديث وتأوله
الآخرون بما سبق قوله (حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل فأصبح
رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسا) وفي الرواية التي بعد هذه ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها
وتهيئها قال وأحسبه قال وتعتد في بيتها أما قوله تعتد فمعناه تستبرئ فإنها كانت مسبية يجب
استبراؤها وجعلها في مدة الاستبراء في بيت أم سليم فلما انقضى الاستبراء جهزتها أم سليم وهيأتها
أي زينتها وجملتها على عادة العروس بما ليس بمنهي عنه ومن وشم ووصل وغير ذلك من المنهي عنه
وقوله أهدتها أي زفتها يقال أهديت العروس إلى زوجها أي زففتها والعروس يطلق على
الزوج والزوجة جميعا وفي الكلام تقديم وتأخير ومعناه اعتدت أي استبرأت ثم هيأتها ثم أهدتها
والواو لا تقتضي ترتيبها وفيه الزفاف بالليل وقد سبق في حديث تزوجه صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله
عنها الزفاف نهارا وذكرنا هناك جواز الأمرين والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم (من كان عنده شئ
فليجئني به) وفي بعض النسخ فليجئ به بغير نون فيه دليل لوليمة العرس وأنها بعد الدخول وقد سبق أنها
تجوز قبله وبعده وفيه ادلال الكبير على أصحابه وطلب طعامهم في نحو هذا وفيه أنه يستحب لأصحاب
الزوج وجيرانه مساعدته في وليمته بطعام من عندهم قوله (وبسط نطعا) فيه أربع لغات مشهورات
فتح النون وكسرها مع فتح الطاء وإسكانها أفصحهن كسر النون مع فتح الطاء وجمعه نطوع وأنطاع
قوله (فجعل الرجل يجئ بالأقط وجعل الرجل يجئ بالتمر وجعل الرجل يجئ بالسمن فحاسوا حيسا)
الحيس هو الأقط والتمر والسمن يخلط ويعجن ومعناه جعلوا ذلك حيسا ثم أكلوه قوله
صلى الله عليه وسلم في الذي يعتق جاريته ثم يتزوجها له أجران هذا الحديث سبق بيانه وشرحه
222

واضحا في كتاب الايمان حيث ذكره مسلم وإنما أعاده هنا تنبيها على أن النبي
صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في صفية لهذه الفضيلة الظاهرة قوله (حين بزغت الشمس) هو بفتح الباء والزاي
ومعناه عند ابتداء طلوعها قوله (وخرجوا بفؤسهم ومكاتلهم ومرورهم) أما الفؤوس فبهمزة
223

ممدودة على وزن فعول جمع فأس بالهمز وهي معروفة والمكاتل جمع مكتل وهو القفة والزنبيل
والمرور جمع مر بفتح الميم وهو معروف نحو المجرفة وأكبر منها يقال لها المساحي هذا هو
الصحيح في معناه وحكى القاضي قولين أحدهما هذا والثاني المراد بالمرور هنا الحبال كانوا
يصعدون بها إلى النخيل قال وأحدها مر بفتح الميم وكسرها لأنه يمر حين يفتل قوله (فحصت
الأرض أفاحيص) هو بضم الفاء وكسر الحاء المهملة المخففة أي كشف التراب من أعلاها وحفرت
شيئا يسيرا ليجعل الأنطاع في المحفور ويصب فيها السمن فيثبت ولا يخرج من جوانبها وأصل
الفحص الكشف وفحص عن الأمر وفحص الطائر لبيضه والأفاحيص جمع أفحوص قوله (فعثرت
الناقة العضباء وندر رسول الله صلى الله عليه وسلم وندرت فقام فسترها) قوله عثرت بفتح
224

الثاء وندر بالنون أي سقط وأصل الندور الخروج والانفراد ومنه كلمة نادرة أي فردة عن النظائر
قوله (فجعل يمر على نسائه فيسلم على كل واحدة منهن سلام عليكم كيف أنتم يا أهل البيت فيقولون
بخير يا رسول الله كيف وجدت أهلك فيقول بخير) في هذه القطعة فوائد منها أنه يستحب
للانسان إذا أتى منزله أن يسلم على امرأته وأهله وهذا مما يتكبر عنه كثير من الجاهلين المترفعين
ومنها أنه إذا سلم على واحد قال سلام عليكم أو السلام عليكم بصيغة الجمع قالوا ليتناوله وملكيه
ومنها سؤال الرجل أهله عن حالهم فربما كانت في نفس المرأة حاجة فتستحي أن تبتدئ بها
فإذا سألها انبسطت لذكر حاجتها ومنها أنه يستحب أن يقال للرجل عقب دخوله كيف حالك
ونحو هذا قوله (فلما وضع رجله في أسكفة الباب) هي بهمزة قطع مضمومة وبإسكان
225

السين قوله فجعل الرجل يجئ بفضل التمر وفضل السويق حتى جعلوا من ذلك سوادا حيسا السواد
بفتح السين وأصل السواد الشخص ومنه في حديث الإسراء رأى آدم عن يمينه أسودة وعن
يساره أسودة أي أشخاصا والمراد هنا حتى جعلوا من ذلك كوما شاخصا مرتفعا فخلطوه وجعلوا
حيسا قوله حتى إذا رأينا جدر المدينة هشنا إليها هكذا هو في النسخ هشنا بفتح الهاء وتشديد
الشين المعجمة ثم نون وفي بعضها هششنا بشينين الأولى مكسورة مخففة ومعناهما نشطنا وخففنا
وانبعثت نفوسنا إليها يقال منه هششت بكسر الشين في الماضي وفتحها في المضارع وذكر القاضي
الروايتين السابقتين قال والرواية الأولى على الإدغام لالتقاء المثلين وهي لغة من قال هزت
226

السين وهي لغة بكر بن وائل قال ورواه بعضهم هشنا بكسر الهاء وإسكان الشين وهو من هاش
يهيش بمعنى هش قوله (فخرج جواري نسائه) أي صغيرات الأسنان من نسائه قوله (يشمتن)
هو بفتح الياء والميم قوله (قبل هذا ان حجبها فهي امرأته) استدلت به المالكية ومن وافقهم
على أن يصح النكاح بغير شهود إذا أعلن لأنه لو أشهد لم يخف عليهم وهذا مذهب جماعة من
الصحابة والتابعين وهو مذهب الزهري ومالك وأهل المدينة شرطوا الاعلان دون الشهادة
وقال جماعة من الصحابة ومن بعدهم تشترط الشهادة دون الاعلان وهو مذهب الأوزاعي
والثوري والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وكل هؤلاء يشترطون شهادة عدلين الا أبا حنيفة
فقال ينعقد بشهادة فاسقين وأجمعت الأمة على أنه لو عقد سرا بغير شهادة لم ينعقد وأما إذا عقد
سرا بشهادة عدلين فهو صحيح عند الجماهير وقال مالك لا يصح والله أعلم
زواج زينب بنت جحش ونزول الحجاب (
واثبات وليمة العرس)
قوله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد فاذكرها على) أي فاخطبها لي من نفسها
فيه دليل على أنه لا بأس أن يبعث الرجل لخطبة المرأة له من كان زوجها إذا علم أنه لا يكره ذلك
كما كان حال زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (فلما رأيتها عظمت في صدري
227

حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت
على عقبى) معناه أنه هابها واستجلها من أجل إرادة النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها فعاملها معاملة
من تزوجها صلى الله عليه وسلم في الاعظام والاجلال والمهابة وقوله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكرها) هو بفتح الهمزة من أن أي من أجل ذلك وقوله نكصت أي رجعت وكان جاء إليها
ليخطبها وهو ينظر إليها على ما كان من عادتهم وهذا قبل زول الحجاب فلما غلب عليه الاجلال
تأخر وخطبها وظهره إليها لئلا يسبقه النظر إليها قولها (ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت
إلى مسجدهم) أي موضع صلاتها من بيتها وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان
ذلك الامر ظاهر الخير أم لا وهو موافق لحديث جابر في صحيح البخاري قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها يقول إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير
الفريضة إلى آخره ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه صلى الله عليه وسلم قوله (ونزل
القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن يعني نزل قوله تعالى فلما قضى زيد
منها وطرا زوجناكها فدخل عليها بغير إذن لأن الله تعالى زوجه إياها بهذه الآية قوله (ولقد
رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حين امتد النهار) هو بفتح الهمزة
من أن وقوله حين امتد النهار أي ارتفع هكذا هو في النسخ حين بالنون قوله (يتتبع حجر نسائه
228

يسلم عليهن) إلى آخره سبق شرحه في الباب قبله قوله (أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه) يعنى
حتى شبعوا وتركوه لشبعهم قوله (ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه
أكثر أو أفضل مما أولم على زينب يحتمل أن سبب ذلك الشكر لنعمة الله في أن الله تعالى
زوجه إياها بالوحي لا بولي وشهود بخلاف غيرها ومذهبنا الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة
229

نكاحه صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم
وهذا لخلاف في غير زينب وأما زينب فمنصوص عليها والله أعلم قوله (حدثنا أبو مجلز) هو
بكسر الميم وإسكان الجيم وفتح اللام وبعدها زاي وحكى بفتح الميم والمشهور الأول واسمه
230

لاحق بن حميد قيل وليس في الصحيحين من أول اسمه لام الف غيره قوله (عن أنس قال تزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله فصنعت أمي أم سليم حيسا فجعلته في تور فقالت يا أنس
اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت بهذا إليك أمي وهي تقرئك السلام
وتقول ان هذا لكل منا قليل يا رسول الله) فيه أنه يستحب لأصدقاء المتزوج أن يبعثوا إليه بطعام
يساعدونه به على وليمته وقد سبق هذا في الباب قبله وسبق هناك بيان الحيس وفيه الاعتذار
إلى المبعوث إليه وقول الانسان نحو قول أم سليم هذا لك منا قليل وفيه استحباب بعث السلام
إلى الصاحب وإن كان أفضل من الباعث لكن هذا يحسن إذا كان بعيدا من موضعه أوله عذر
في عدم الحضور بنفسه للسلام والتور بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم واو ساكنة اناء مثل القدح
سبق بيانه في باب الوضوء قوله صلى الله عليه وسلم (اذهب فادع لي فلانا وفلانا ومن لقيت
وسمى رجالا قال فدعوت من سمى ومن لقيت قال قلت لأنس عددكم كانوا قال زهاء ثلاثمائة)
قوله زهاء بضم الزاي وفتح الهاء وبالمد ومعناه نحو ثلاثمائة وفيه أنه يجوز في الدعوة أن يأذن
231

المرسل في ناس معينين وفي مبهمين كقوله من لقيت من أردت وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكثير الطعام كما أوضحه في الكتاب قوله صلى الله عليه وسلم
يا أنس هات التور) هو بكسر التاء من هات كسرت للأمر كما تكسر الطاء من أعط قوله
(وزوجته مولية وجهها) هكذا هو في جميع النسخ وزوجته بالتاء وهي لغة قليلة تكررت
في الحديث والشعر والمشهور حذفها قوله ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه) هو بضم القاف المخففة
232

الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة
دعوة الطعام بفتح الدال ودعوة النسب بكسرها هذا قول جمهور العرب وعكسه تيم الرباب
بكسر الراء فقالوا الطعام بالكسر والنسب بالفتح وأما قول قطرب في المثلث إن دعوة الطعام
بالضم فغلطوه في قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دعى أحدكم إلى الوليمة فليأتها) فيه الأمر
233

بحضورها ولا خلاف في أنه مأمور به ولكن هل هو أمر إيجاب أو ندب فيه خلاف الأصح
في مذهبنا أنه فرض عين على كل من دعي لكن يسقط بأعذار سنذكرها إن شاء الله تعالى والثاني
أنه فرض كفاية والثالث مندوب هذا مذهبنا في وليمة العرس وأما غيرها ففيها وجهان لأصحابنا
أحدهما أنها كوليمة العرس والثاني أن الإجابة إليها ندب وإن كانت في العرس واجبة ونقل
القاضي اتفاق العلماء على وجوب الإجابة في وليمة العرس قال واختلفوا فيما سواها فقال مالك
والجمهور لا تجب الإجابة إليها وقال أهل الظاهر تجب الإجابة إلى كدعوة من عرس وغيره
وبه قال بعض السلف وأما الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها فمنها أن يكون
في الطعام شبهة أو يخص بها الأغنياء أو يكون هناك من يتأذى بحضوره معه أو لا تليق به مجالسته
أو يدعوه لخوف شره أو لطمع في جاهه أو ليعاونه على باطل وأن لا يكون هناك منكر من خمر
أو لهو أو فرش حرير أو صور حيوان غير مفروشة أو آنية ذهب أو فضة فكل هذه أعذار في ترك
الإجابة ومن الاعذار ان يعتذر إلى الداعي فيتركه ولو دعاه ذمي لم تجب اجابته على الأصح ولو
كانت الدعوة ثلاثة أيام فالأول تجب الإجابة فيه والثاني تستحب والثالث تكره قوله
صلى الله عليه وسلم (إذا دعى أحدكم إلى وليمة عرس فليجب) قد يحتج به من يخص وجوب الإجابة بوليمة
العرس ويتعلق الآخرون بالروايات المطلقة ولقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التي بعد هذه
إذا دعى أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه ويحملون هذا على الغالب أو نحوه من التأويل
والعرس بإسكان الراء وضمها لغتان مشهورتان وهي مؤنثة وفيها لغة بالتذكير قوله صلى الله عليه وسلم
234

(ان دعيتم إلى كراع فأجيبوا) والمراد به عند جماهير العلماء كراع الشاة وغلطوا من حمله على
كراع الغميم وهو موضع بين مكة والمدينة على مراحل من المدينة قوله صلى الله عليه وسلم (إذا
دعى أحدكم إلى طعام فإن شاء طعم وإن شاء ترك) وفي الرواية فليجب فإن كان صائما
235

فليصم وإن كان مفطرا فليطعم اختلفوا في معنى فليصل قال الجمهور معناه فليدع لأهل الطاعم
بالمغفرة والبركة ونحو ذلك وأصل الصلاة في اللغة الدعاء ومنه قوله تعالى وصل عليهم وقيل المراد
الصلاة الشرعية بالركوع والسجود أي يشتغل بالصلاة ليحصل له فضلها ولتبرك أهل المكان
والحاضرين وأما المفطر في الرواية الثانية أمره بالأكل وفي الأولى مخير واختلف العلماء في ذلك
والأصح في مذهبنا أنه لا يجب الأكل في وليمة العرس ولا في غيرها فمن أوجبه اعتمد الرواية
الثانية وتأول الأولى على من كان صائما ومن لم يوجبه اعتمد التصريح بالتخيير في الرواية
الأولى وحمل الأمر في الثانية على الندب وإذا قيل بوجوب الأكل فأقله لقمة ولا تلزمه
الزيادة لأنه يسمى أكلا ولهذا لو حلف لا يأكل حنث بلقمة ولأنه قد يتخيل صاحب
الطعام أن امتناعه لشبهة يعتقدها في الطعام فإذا أكل لقمة زال ذلك التخيل هكذا صرح باللقمة
جماعة من أصحابنا وأما الصائم فلا خلاف أنه لا يجب عليه الاكل لكن إن كان صومه فرضا
لم يجز له الأكل لان الفرض لا يجوز الخروج منه وإن كان نفلا جاز الفطر وتركه فإن كان يشق
على صاحب الطعام صومه فالأفضل الفطر وإلا فإتمام الصوم والله أعلم قوله (قبل هذا وكان
عبد الله يعنى ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس ويأتيها وهو صائم) فيه أن الصوم
236

ليس بعذر في الإجابة وكذا قاله أصحابنا قالوا إذا دعي وهو صائم لزمه الإجابة كما يلزم المفطر
ويحصل المقصود بحضوره وإن لم يأكل فقد يتبرك به أهل الطعام والحاضرون وقد يتجملون
به وقد ينتفعون بدعائه أو بإشارته أو ينصانون عمالا ينصانون عنه في غيبته والله أعلم قوله
(شر الطعام طعام الوليمة) ذكره مسلم موقوفا على أبي هريرة ومرفوعا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن الحديث إذا روى موقوفا ومرفوعا حكم برفعه على المذهب الصحيح لأنها
زيادة ثقة ومعنى هذا الحديث الاخبار بما يقع من الناس بعده صلى الله عليه وسلم من مراعاة
الأغنياء في الولائم ونحوها وتخصيصهم بالدعوة وإيثارهم بطيب الطعام ورفع مجالسهم وتقديمهم
وغير ذلك مما هو الغالب في الولائم والله المستعان قوله (سمعت ثابتا الأعرج يحدث عن
أبي هريرة) هو ثابت بن عياض الأعرج الأحنف القرشي العدوي مولى عبد الرحمن بن زيد بن
الخطاب وقيل مولى عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وقيل اسمه ثابت بن الأحنف بن عياض والله أعلم
237